أصول الفقه المجلد 1

هوية الکتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه-.ق

ISBN الدورة: 978-600-5213-23-2

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الأول

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

دراسة عن حياة

شيخنا الكبير آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي لله

أعدّها

العلّامة الدكتور السيد محمد بحر العلوم

ص: 5

ص: 6

مدخل البحث

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : «إنما يخشى الله من عباده العلماء» (1)

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صلی الله علیه و آله وسلم : «العلماء أمناء الله على خلقه» (2)

وقال الإمام علی علیه السلام : «من وقر عالماً فقد وقر ربِّه» (3)

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين الطيبين، وعلى أصحابه المنتجبين ، وألف شكر الله على ما تفضل وأنعم.

وبعد فإن المرحوم آية الله العظمى شيخنا الجليل وأستاذنا الكبير الشيخ حسين الحلّي من مشاهير علماء النجف الأشرف في القرن الماضي الفقه والأصول، تعترف به الحوزة العلمية في جامعة النجف الأشرف الدينية ، وتراه من الطراز الأول من أساتذة هذه الجامعة العريقة في القرن الماضي الهجري ، - والتي هي إحدى أربع جامعات علمية دينية في العالم الإسلامي - ويضاف إلى تعمقه الفقهي والأصولي ، إطلاعه الواسع في التاريخ الإسلامي ، والأدب العربي .

ومن المؤسف أن مصادر البحث عن هذه الشخصية الفذة شحيحة إلى درجة كبيرة بسبب ابتعاده عن المظاهر الإجتماعية التي تتوجه الأضواء

ص: 7


1- سورة فاطر آية : 28
2- علي المتقي بن حسام الدين الهندي - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ١٣٤/١٠ طبع بيروت مؤسسة الرسالة 1979
3- علي بن محمد الليثي الواسطي - عيون الحكم والمواعظ : ٤٣٩ طبع قم دار الحديث ١٣٧٦ .

إليها ، وتصطدم محاولات التعرف على شخصيته الفذة بقلة المصادر ، لتكون أمام الباحث عقبة كأداء ، ورغم كل هذا فسوف أسير في محاولتي الشاقة رغم كوني قريباً إلى سيدي الأستاذ ، ولم أفارقه إلا حين اضطرتني الظروف الخاصة إلى الابتعاد عن الوطن قرابة أربعة عقود بائسة استولى عليها نظام دكتاتوري شمولي فخلط الأوراق قسراً وعاث بالبلاد فساداً. وانتقل إلى رحمة ربه وأنا رهين الغربة، وحرمت من إلقاء نظرة الوداع على جثمانه الطاهر عرفاناً بأبوّته الروحية لي .

وأرى من الواجب أن أقدم جميل الشكر ومتكاثر التقدير لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله) فقد أمر بتشكيل لجنة من فضلاء الحوزة العلمية لتحقيق «التراث الأصولي» لأستاذه المرحوم آية الله العظمى الشيخ الحلي، وهذا تمام الوفاء بالنسبة لأستاذه الراحل .

كما حملني سماحته (حفظه الله) مسؤولية كتابة دراسة عن حياة شيخنا الحلي ، ورأيت خير مناسبة أن أسدي إلى سيدي الإمام الراحل الأب العطوف، والمربي العظيم بعض ما علي - وعلى أخوي الشهيدين السيدين علاء الدين وعز الدين - من واجب الوفاء والتقدير مقابل ما أولانا به من عطف أبوي ، ورعاية لا تقدر بثمن ، راجياً أن أوفق لذلك ، مستمداً منه سبحانه العون والتسديد .

محمد بحر العلوم النجف الأشرف في

20 / ربيع الثاني / ١٤٢٨ ه_

ص: 8

مواضيع البحث

مدخل البحث

الباب الأول : النجف الأشرف جامعة علمية دينية من القرن الخامس الهجري .

الفصل الأول : جامعة النجف إحدى أبرز الجامعات الإسلامية منذ تاريخها القديم .

الفصل الثاني : الجامعة العلمية النجفية بعد عهد السيد بحر العلوم حتى السيد الاصفهاني .

الباب الثاني : شيخنا الحلي وجود شاخص في الجامعة العلمية الدينية النجفية .

الفصل الأول : الأول : عصر الشيخ الحلي وموقعه فيه :

أ - مراجع عصره .

ب - جذور الشيخ الحلي ونشأته .

ت - الشيخ الحلي علم بين مراجع عصره .

ث - تأثر الشيخ بالميرزا النائيني .

ج - علاقته بالإمام الراحل السيد محسن الحكيم .

الفصل الثاني : عطاء الشيخ الحلى :

أ - حياته عطاء ثر .

ب - تركه .. الشيخ العلمية .

الأول : عطاؤه الفكري .

أولاً : في ميدان الفقه .

ص: 9

ثانياً : في مجال أصول الفقه

ثالثاً : كتب متنوعة .

رابعاً : مجاميع استفتاءات .

الثاني : ما اقتبسه تلامذته من عطاء أستاذهم

١ - تقريرات تلامذته .

٢ - المطبوع منها :

أولاً : «دليل العروة الوثقى» للمرحوم الشيخ حسن السعيد ثانياً : بحوث فقهية للشهيد السيد عز الدين بحر العلوم .

3 - مميزات بحثيه الفقهي والأصولي .

أ - الفقهي توجه في مسارين .

ب _ يحمل طابع أصول الميرزا النائيني .

ج - لمحات عن انطباعات المرحوم السيد محمد تقي الحكيم عن أصول الشيخ .

د - المرجعية المعاصرة تعتمد في نتاجها أفكار الشيخ الفقهية والأصولية .

ه_ - بعض من تلمّذ عليه .

الباب الثالث : الوجه الآخر لشيخنا الحلي .

الفصل الأول : ملامح إنسانية لها أثرها في بناء شخصية مترجمنا الحلي .

أولاً : ورعه وتقواه .

ثانياً : كرمه وعطاؤه .

ثالثاً : أصدقاؤه (الصفوة) .

ص: 10

رابعاً : وفاؤه لإخوانه وأصدقائه .

خامساً : أخلاقه وتواضعه .

الفصل الثاني : الشيخ الحلي والسياسة .

1 - مشاركة الحلي في جهاد العلماء ضد الإنكليز .

2 - الحلي في خضم المشروطة والمستبدة .

3 - مع المشروطة أو المستبدة .

٤ - أحداث العراق المعاصرة وموقفه منها .

نهاية الحديث :

أولاً : العالم المؤمن .

ثانياً : العالم المجدد .

ثالثاً : العالم المحقق .

رابعاً : العالم العارف .

خامساً : العالم الموسوعي .

سادساً : العالم الوطني الرزين .

سابعاً : العالم المربي .

الملحق

ص: 11

الباب الأول

اشارة

النجف الأشرف جامعة علمية دينية

من القرن الخامس الهجري

ص: 12

الفصل الأول

جامعة النجف إحدى أبرز الجامعات الإسلامية منذ تاريخها القديم

المجتمع المتحضّر هو الذي يملك قيادات متنوعة توجّه الأمة للطريق السوي، وترشده لما فيه المصلحة العامة، وتنوّره لكل ما به الخير والصواب لبناء المجتمع الإنساني الذي خلقه الله سبحانه ليكون ظله فيه ينور الحياة ، ويرشد العاملين في سبيل التكامل الإنساني ، ويوجههم لما فيه بقاء الإسلام حياً كما يريده الله عزّ وجل .

من هذه الصفوة المبلّغة لرسالة الإسلام، والعاملة في أداء الرسالة الإرشادية مراجع الدين «فالعلماء باقون ما دامت الدنيا باقية» (1)_ كما يقول الحديث الشريف - لما لهم من ضرورة هم المرتبط ببقاء حركة الإنسان المسلم في هذه الحياة الطويلة ، والمسددة بوجود المعصوم الحجة ابن الحسن ، حسب «قاعدة اللطف الإلهي» فليس من المعقول أن يترك الله عباده في أحكامهم الحياتية يتخبطون فيما يتعلق بدينهم ودنياهم، وخاصة المترتب عليها الحساب والجزاء والثواب والعقاب ، فالعقوبة من غیر بیان تتنافى وصفات الله الرحيمة ، فالرحمة والمغفرة وأمثالهما من الصفات الكمالية لله جل ثناؤه وعزّ اسمه .

والجهات التي تولّت هذه المسؤولية التبليغية بعد الأئمة علیهم السلام الإثني عشر

ص: 13


1- الري شهري - ميزان الحكمة ٤٨٣/٦ .

عليهم السلام ، هم هذه الطبقة من أهل العلم، والذين أطلق عليهم «الإمامة النائبة» ، فهم حملة مسؤولية الدين، والرسالة التبليغية ، والذين بدأت مسيرتهم بعد الأئمة علیهم السلام المعصومین علیهم السلام ، ونواب الإمام الثانی عشر علیه السلام الأربعة، والتي انتهت مهمتهم بغيبة الإمام المهدی علیه السلام الكبرى بعد وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري عام 329 ه_ .

بدأ مركز هذه الصفوة التي حملت الرسالة الدينية من بعد أئمتهم علیهم السلام ونوابهم في «بغداد» حيث توسعت آفاقها من الشيخ المفيد محمد بن محمد ابن النعمان (1)وبعده السيد المرتضى علي بن الحسين بن موسى الموسوي (2)وبعد وفاته عام ٤٣٦ ه_ انتقلت زعامة المرجعية الشيعية إلى تلميذهما الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (3)، وفي عهده تجددت

ص: 14


1- محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري، المنتهي نسبه إلى قحطان ، أبو عبدالله ، المعروف بالشيخ المفيد ، ولد في عكبرا على عشرة فراسخ من بغداد عام ٣٣٦ ه_ ، ونشأ في بغداد ، انتهت إليه رئاسة الشيعة في العراق ، له نحو مائتي مصنف في الأصول والكلام والفقه ، توفي في بغداد عام ٤١٣ ه_ . ت_رج_م_ه خ_ي_ر الدين الزركلي - الأعلام 21/7 / طبع بيروت دار العلم للملايين (الطبعة الخامسة عشرة 2002)
2- علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم الملقب بعلم الهدى، المولود في بغداد عام ٣٥٥ ه_ نقيب الطالبيين من أعلام الشيعة ، وأجمع على فضله العلماء والأدباء ، وعده بعض المؤرخين : انه من مجددي مذهب الإمامية في رأس المائة الرابعة الهجرية ، له مؤلفات كثيرة متنوعة ، توفّي في بغداد عام ٤٣٦ ه_ . ترجمه عباس القمي ترجمه عباس القمي - الكنى والألقاب ٤٤٥/٢ - ٤٤٨ طبع النجف المطبعة الحيدرية ١٩٥٦ ، وخير الدين الزركلي - الأعلام ٣٧٨/٤ ، طبع بيروت دار العلم للملايين (الطبعة الخامسة عشرة).
3- محمد بن الحسن بن علي الطوسي ولد عام ٣٨٥ ه_ انتقل من خراسان إلى بغداد سنة ٤٠٨ ه_ و تلمّذ على الشيخ المفيد ومن بعد وفاته تلمّذ على السيد المرتضى ، وبعد وفاته عام ٤٣٦ ه_ انتقلت إليه رئاسة الشيعة في بغداد ، وبعد الحوادث الطائفية التي حصلت في بغداد انتقل إلى النجف وأسس الحوزة العلمية فيها حتى وفاته عام ٤٦٠ ه_ . ترجمه الزركلي - الأعلام ٨٤/٦ ، والقمي - المصدر السابق ٣٦٢/٢ - ٣٦٥ .

الحوادث الطائفية التي بدأت منذ دخول طغرل بك السلجوقي (1)إلى بغداد عام ٤٤٧ ه_ بين المسلمين الشيعة والسنة ، وقتل المئات من الطرفين، مما اضطر الشيخ الطوسي على أثرها الانتقال من بغداد إلى النجف الأشرف عام ٤٤٩ ه_ ، ونقل معه حوزته العلمية إلى النجف الأشرف ، وأسس جامعة علمية دينية فيها .(2)

ومن ذلك اليوم أصبحت مدينة الإمام علي علیه السلام _ الذي قال عنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «أنا مدينة العلم وعلي بابها» مركزاً لحوزة العلم الامامية ، ومقراً

ص: 15


1- السلطان محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب ركن الدين ، طغرل بك ، أول ملوك الدولة السلجوقية ، كانوا قبل تملكهم يسكنون وراء النهر قريباً من بخارى ، وهم أتراك ، ولد طغرل عام ٣٨٥ ه_ وله مع ولاة خراسان وقائع ، ردّ ملك بني العباس بعد أن خطب للمستنصر الفاطمي على منابر بغداد والعراق ، وأبعد القائم بأمر الله العباسي من الحكم فناشده القائم العباسي بانقاذ العراق ، واستنهضه إلى المسير لبغداد وعودتها لحكم العباسيين ، وكان حينذاك بنواحي خراسان ، فعجل التوجه إلى بغداد فدخلها عام ٤٤٧ ه_ وقوّض حكم البويهيين وولي العراق من قبل القائم بأمر العباسي وأرجع الخطبة إلى العباسيين ، فزوجه القائم ابنته وزفت إلي_ه ببغداد ، توفّي عام ٤٥٥ ه_ بالري. لزيادة الاطلاع راجع : ابن الجوزي - المنتظم 231/8 طبع حیدرآباد دکن ، وابن تغرى بردي - النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة ٥٦/٥ - ٥٩ والقاهرة ، ٧٣/٥ طبع مصر ، وخير الدين الزركلي - الاعلام ١٢٠/٧ .
2- انظر محمد بحر العلوم - الدراسة وتاريخها في النجف الأشرف (بحث) منشور ضمن موسوعة العتبات المقدسة - جعفر الخليلي / قسم النجف الجزء الثاني : ٧ - ١١٢ طبع بیروت ١٩٦٦ إصدار دار التعارف بغداد (الطبعة الأولى)

لمرجعيتهم الدينية. وتوجهت أنظار المسلمين الشيعة إليها .

وبمرور الزمن أصبحت الجامعة النجفية من أبرز مراكز العلم و حوزاتها في العالم الإسلامي، وتخرّج منها علماء كبار ومراجع عظام رجعت لهم الأمة في تقليدها بصفتهم الدينية والعلمية ، وإذا كانت ظروف خاصة حكمت على الحوزة العلمية أن تنتقل إلى خارج النجف لسبب من الأسباب الاجتماعية أو الدينية أو الأمنية ، فان ذلك الانتقال لم يدم طويلاً ، بل عادت الحوزة إلى مقرها الأساس لتجدد عهداً بصاحب العتبة المقدسة «الإمام علي علیه السلام» وتستقر إلى جواره ما أتاحت لها الظروف الممكنة في عهدها المشرق .

إن المركز الذي يمر عليه عدة قرون وهو حافل وناشط بحلقات العلوم الدينية المختلفة كالتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه ، والمنطق ، وعلوم العربية، والبيان والبديع، وغيرها من العلوم التي تقتضيها دراسة طالب العلم الحوزوي ، جدير أن يكون عالمياً، له شخوصه ف_ي ع_ال_م الاختصاص، وهو بهذه الصفة يتوافد إليه طالب العلم ، والذين يرغبون بالانخراط بالصفة الحوزوية، ويعودون إلى ديارهم يحملون من سمات حوزة الإمام علي علیه السلام ما يبشر بالتوسع الفكري في العالم الإسلامي، ويؤسسون معاهداً تحمل طابع جامعة النجف العلمية، والتي عرفت في العالم بواقعها المعرفي ، والتاريخي ، والاجتماعي ، والأدبي قرابة ألف عام .

وقد تمر ظروف غير طبيعية على هذه الجامعة العلمية تعرقل مسيرتها التاريخية ، ولكن لا تؤثر على استمراريتها كمركز علمي ، وإن أثرت على مسيرتها من حيث التواصل والالتحام في فترة محددة ، كما حدثت في عهد ما بعد الشيخ المؤسس الطوسي وأعلام أسرته الذين واكبوا المسيرة من

ص: 16

بعده ، وأبقوا للجامعة العلمية النجفية شخوصها حتى وإن انتقلت إلى الحلة - على سبيل المثال - في عهد نضوجها العلمي أوائل القرن السابع الهجري ، وانتقال عدد كبير من أعلام الحلّيين ليكونوا حوزة علمية حلية .

وتوضح بعض المصادر ما أشرنا إليه إذ تقول :

«ولكن بوادر النشاط العلمي ، أو التفتح الذهني للتفاعل مع آراء الشيخ (الطوسي) بدت بأجلي مظاهرها في أوائل القرن السابع الهجري ، وخاصة على مسرح التفكير الحلّي، والذي عبر عن اتساع كبير في الذهنية العلمية التي يتمتع بها الحلّيون في تلك الفترة، ويمكن أن تكون طليعتها متجلية في عهد الشيخ ابن إدريس الحلّي (1)، وتوالت الأسر الحلية العلمية ترفد مركزها العلمي ، كآل البطريق ، وآل ،نما، وآل سعيد ، وآل طاووس ، وآل المطهر ، وآل بنو الأعرج ، وآل القزويني ، وغيرهم من الأسر العلمية العريقة التي كوّنت الحركة العلمية فيها، وبقيت إلى هذا اليوم تحتفظ بمكانة مميزة عن كثير من محافظات العراق (2)، وممن وطد مركزها العلمي بعد الشيخ ابن إدريس ، واشتهروا بالمرجعية الدينية للشيعة الإمامية ، نجم الدين أبو إبراهيم

ص: 17


1- محمد بن بن إدريس الحلى المولود عام ٥٤٣ ه_ عرّفته المصادر الرجالية : كان الشيخ فقيهاً أصولياً بحثاً ، ومجتهداً صرفاً ، وهو أول من فتح باب الطعن على آراء الشيخ الطوسي ، وقد أكثر الطعن عليه بعض العلماء لكونه خرج على آراء الشيخ ، حتى وصفه العلّامة الحلي ب_ الشاب المترف وأهم مؤلفاته «السرائر» توفّي عام ٥٩٨ ه_ ، وناقش بعض الأعلام أنه صهر الشيخ الطوسي أو أحد أحفاده ، للزمن الفاصل بينهما . للاطلاع يراجع الشيخ يوسف البحراني - لؤلؤة البحرين : ٢٧٦ - ٢٨٠ وتعليقة السيد محمد صادق بحر العلوم في هامش لؤلؤة البحرين : 277 هامش 20 .
2- للإطلاع على معلومات عن الأسر العلمية المشهورة وبعض شخصياتهم العلمية ، راجع کتاب (تاريخ الحلة لمؤلفه الشيخ يوسف كركوش الحلي : القسم الثاني : 13 - /133 طبع النجف الأشرف المطبعة الحيدرية ١٣٨٥ ه_) .

محمد بن أبي الباقر هبة الله بن نعمة الحلي المتوفى عام ٦٤٥ ه_ ، ورضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر المعروف بابن طاووس الحسيني المتوفى عام ٦٩١ ه_ ، والمحقق الحلي جعفر بن الحسن بن يحيى المتوفى عام ٦٧٦ ه_ (1)، والعلّامة الخلي جمال الدين أبو منصور ، الحسن ابن يوسف بن مطهر الحلي المتوفى عام ٧٢٦ ه_ (2)، وأمثالهم كثيرون ممن حملوا راية العلم في الحلة ، وأسسوا لها مجداً شامخاً (3). ولعلنا نستفيد مدى أهمية جامعة الحلة الدينية حينها مما ذكرته بعض المصادر : بأن مجلس بحث المحقق الحلي في الحلة كان يضم أربعمائة مجتهد .(4)

ص: 18


1- جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي الهذلي ، الملقب ب_ «المحقق الحلي» من أعلام فقهاء الإمامية ومشاهيرهم ، تقول بعض المصادر : كان يحضر مجلس درسه ما يقارب ٤٠٠ شخص من أهل الفضل في الحوزة العلمية في الحلة ، وبلغت الحركة العلمية في عصره شأواً عظيماً ، ومن مصنفاته القيمة كتاب «شرائع الإسلام» وهو ما زال مرجعاً للفقهاء والباحثين إلى هذا اليوم . راجع ترجمته : يوسف البحراني - المصدر المتقدم : 227 - 235 وهوامش الصفحات المشار إليها
2- الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر الحلي ، أبو منصور ، المعروف ب_ «العلّامة الحلي» ولد بالحلة عام ٦٤٨ ه_ وصفته المصادر : بأنه من الأعلام المشهورين ، برع المعقول والمنقول ، مصنف كبير، مؤلفاته تعدت الستين كتاباً في الفقه والأصول ، وعلم الكلام والحديث والرجال ، وسائر علوم الشريعة ، توفّي في عام ٧٢٦ ه_ ودفن في النجف إلى جوار الإمام أمير المؤمنين له . ترجمه يوسف البحراني - المصدر المتقدم : 210 - 235 ، مع هوامش الصفحات المذكورة
3- محمد بحر العلوم - الدراسة وتاريخها في النجف (بحث) ضمن موسوعة العتبات المقدسة - جعفر الخليلي / قسم النجف : 52/2 طبع بغداد دار التعارف بغداد ١٩٦٦ - ١٣٨٦ وراجع علي أحمد البهادلي - الحوزة العلمية في النجف : ٤٢٨ - ٤٣١ ملحق رقم (٥) يتضمن أسماء مراجع التقليد لدى الإمامية بعد الغيبة الكبرى / طبع بيروت دار الزهراء للطباعة والنشر 1993 (رسالة ماجستير) .
4- محمد صادق بحر العلوم - مقدمة رجال الطوسي : 19 .

واستمرت هذه الحركة العلمية الحلّية يشار إليها قرابة ثلاثة قرون ، ثم عادت إلى النجف في أواخر القرن العاشر الهجري، بعد أن زالت أغلب المعوقات التي كانت تقف أمام طلاب العلم من الابتعاد عن حوزة الأم «النجفية ، وإن كانت ثمة حركة علمية بقيت تواصل عملها الحوزوي ولم تجمد جذوتها العلمية فيها .(1)

وأيضاً انتقلت الحوزة من النجف إلى كربلاء بين عام ١١٥٠ - ١٢٠٨ ه_ بسبب تمركز مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني المتوفّى عام 1208 ه_ (2)، وباتت مدرسته الأصولية معروفة بالعمق والنضج الأصولي ، بالإضافة إلى تمركز الحركة الفقهية بشخصية علمية موسوعية هامة احتضنتها تلك الفترة ، تمثلت بالعلّامة المحدث الشيخ يوسف البحراني (3)صاحب الموسوعة الفقهية المعروفة ب_ «الحدائق الناضرة» المتوفّى عام ١١٨٦ ه_ .

واستمرت الحوزة العلمية في كربلاء تنتهل م_ن ه_ذي_ن المنبعين المهمين قرابة سبعين عاماً، واستطاعت أن «تفتح آفاقاً جديدة في الكيان

ص: 19


1- لزيادة الاطلاع على الأسباب والعوامل التي أدت إلى الانتقال يراج_ع ب_ح_ر الع_لوم البحث المتقدم ٥٣ - ٥٦ .
2- المولى محمد باقر بن محمد أكمل الاصبهاني البهبهاني ، المولود في اصفهان عام 1118 ه_ ودرس شوطه العلمي في بهبهان ، ثم انتقل إلى كربلاء واستفاد من أعلامها جولة علمية رشحته لتسنم زعامة الحركة العلمية فيها ، وباتت مدرسته الأصولية معروفة فيها حتى وفاته عام 1208 ه_ . ترجمه الخونساري - روضات الجنات : ١20 - ١٢٥ (الطبعة الأولى)
3- يوسف بن أحمد بن إبراهيم المنتهي نسبه إلى ابن عصفور البحراني ، ولد في قرية الدراز إحدى قرى البحرين عام 1107 ه_ ، وبعد الدراسة الأولية هناك انتقل إلى ، كرمان ثم شيراز ، ثم إلى كربلاء ليقيم فيها مدرساً وعالماً ومرجعاً ، وأكمل فيها موسوعته الفقهية كتابه الحدائق الناضرة حتى توفّي عام 11٨٧ ه_ . ترجمه الزركلي الاعلام 215/8 .

العلمي الكربلائي ، كان له صدى حافل بالإكبار والتقدير» .(1) وعادت جامعة النجف إلى ميدانها العلمي كمركز شاخص للحركة العلمية على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفى عام ١٢١٢ ه_ (2)تلميذ الوحيد البهبهاني ليفتح فيها آفاقاً جديدة لإدارة الجامعة العلمية النجفية ، لعلها هي الأولى من نوعها في حياة المرجعية ب_ع_د ع_ص_ر الأئمة علیهم السلام .

وتتجسد مسؤولية المرجع الديني بصفته المركز الذي يرجع إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ويتولى شؤون المسلمين بأن ينظم أعمال المرجعية بما تنسجم وطبيعة الظروف، وقد وفق السيد بحر العلوم لهذه المهمة الكبيرة حيث كانت من أولويات أعماله المرجعية تنظيم المناصب التي تخص الإنسان في حياته اليومية ، كالتقليد، والفتوى ، والقضاء ، وحل الخصومات ، وإمامة الجماعة ، وغيرها من المسؤوليات التي تخص مراجع

ص: 20


1- محمد باقر الصدر - المعالم الجديدة : ٤ - ٨٥ الطبعة الأولى / النجف
2- محمد مهدي بن مرتضى بن محمد بن عبد الكريم ، المنتهي نسبه إلى إب_راه_ي_م المعروف ب_«طباطبا» ابن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن ، المولود في كربلاء عام ١١٥٥ ه_ ونشأ فيها ، وربّاه والده المرحوم السيد مرتضى ، حيث درس أوليات مقررات الحوزة فيها على أعلام من الحوزة ، ثم حضر درس خارج الأصول على والده ، وعندما تقدم في المسيرة العلمية ، اختص بالشيخ الأستاذ الوحيد البهبهاني في بحث الأصول ، وفي الفقه بالشيخ يوسف البحراني ، وبقي فيها مفيدا ومستفيداً لعام ١١٦٩ ه_ حيث انتقل إلى النجف ، وحضر بحوث أعلام عصره في الفلسفة والحكمة ، ثم مرجعاً شاخصاً حتى وفاته عام 1212 ه_ ودفن في الساحة الخارجية لجامع الشيخ الطوسي في النجف الأشرف . انظر ترجمته مفصلاً في مقدمة كتابه «الفوائد الرجالية» بقلم العلمين السيد محمد صادق والسيد حسين بحر العلوم، الجزء الأول : ٨ - ١٢٦ / طبع النجف مطبعة الآداب ١٩٦٥ .

التقليد، وتقتضيها طبيعة العصر، حيث رأى إسناد هذه المراكز الهامة إلى شخصيات مؤهلة لهذه المناصب بجدارة .

فقد ركز الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام 1228 ه_ (1)للتقليد والفتوى حتى أجاز لأهله وذويه الرجوع إلى الشيخ كاشف الغطاء .(2)

وقدّم الشيخ حسين نجف المتوفّى ١٢٥١ ه_ (3)للإمامة والمحراب ،

ص: 21


1- جعفر بن خضر بن شلال الجناجي النجفي ، (جناجة : إحدى قرى العذار في الحلة) ، وقد لقب باسم كتابه الفقهي «كشف الغطاء». ولد في النجف عام ١٥٤ ه_ ، فقيه مشهور من شيوخ الشيعة في عصره ، وزعيم أسرته المعروفة بالعلم والأدب والفضيلة في النجف . وآل كاشف من أقطاب الجامعة العلمية النجفية ، وكان الشيخ معاصراً للسيد بحر العلوم ، وأرجع له تقليد الأمة في زمانه ، له مؤلفات عديدة من أبرزها كتابه «كشف الغطاء وله مواقف مشهورة في مجابهة الوهابية ، كما له موقف مع رئيس الأخبارية الميرزا محمد أمين الاسترآبادي الأخباري ، توفّي بالنجف ع_ام 1228 ه_ ودفن بها في مقبرتهم الخاصة . ترجمه محمد حرز الدين _ معارف الرجال ١٥٠/١ - ١٥٧ ، والزركلي - الاعلام 12٤/2 ، والقمي - المصدر المتقدم 87/3 .
2- مقدمة رجال السيد بحر العلوم ٤١/١ - ٤٢/ طبعة النجف
3- حسين بن الحاج نجف بن محمد النجفي المولود في النجف سنة ١١٤٩ ونشأ فيها ، من أعلام القرن الثالث عشر الهجري ، وقد وصفته المصادر : إن الشيخ حسين نجف كان مثلاً في التقوى والصلاح وطهارة النفس ، حتى كان اعتقاد الناس جميعاً فيه على نحو اعتقادهم في سلمان الفارسي رضوان الله عليه ، وأشارت بعض المصادر : إنه كان أخص الناس بالسيد محمد مهدي بحر العلوم ، حتى أنه كان وصياً من بعده ، كما كان إمام جماعة يصلي بمسجد الهندي في النجف بطلب من السيد بحر العلوم، وعرّفته بعض المصادر : إنه شاعر ، وله ديوان شعر في مدح اهل البيت «ومن الغريب - كما تنقل بعض المصادر - أنه كان يعجز عن النظم في غير أهل البيت ، وكانت قريحته لا تجود والقوافي لا تطيعه إذا رام النظم في غيرهم ، ولهذا لم يرث أستاذه السيد مهدي بحر العلوم مع كونه خصيصه ووصيه» وله قصيدة في مدح أمير المؤمنين تزيد على أربعمائة وخمسين بيتاً ، ومطلعها : أيا علة الإيجاد حاربك الفكر***وفي فهم معنى ذاتك التبس الأمر وقصيدة أخرى في مدح الإمام علي مطلعها : لعلي مناقب لا تضاها***لا نبي ولا وصي حواها وقصيدة أخرى في نفس الموضوع مطلعها : بأكرم خلق الله رب الشريعة***بدأت بمدحي إذ به بدء فطرتي توفّي في النجف عام 12٥١ه_ ، ودفن في إحدى غرف الصحن الحيدري . ترجمه الطهراني - الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ٤٣٢/١ - ٤٣٥ ، وحرز الدين - معارف الرجال ٢٥٨/١ - ٢٦٢ ، وكاظم عبد الأمير الفتلاوي - مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف : ١٢٤ طبع قم ٢٠٠٦ (الطبعة الأولى) .

فكان يقيم الجماعة في «جامع الهندي» ، ويؤمه المصلون على اختلاف طبقاتهم بإرشاد وتوجيه من السيد بحر العلوم .

كما خصص للقضاء وحلّ الخصومات الشيخ شريف محي الدین (1)«فكان يرشد إليه في ذلك علماً منه بمهارته في القضاء ، بتثبته في الدين ، وسعة صدره لتلقي الدعاوي والمخاصمات».

وتفرّغ هو لأعباء التدريس والزعامة الكبرى، وإدارة شؤون الخاصة والعامة.

إن هذا التقسيم من السيد بحر العلوم لإدارة شؤون الجامعة النجفية دلل على وعي كبير للقيادة الدينية ، وأبرز عصره السيد بحر العلوم بطابع جماعي في تحمل المسؤولية القيادية، وعبّر عن نضج ووعي يختلف كل الاختلاف عن العمل الفردي الذي يسود المرجعية الدينية بما يرهقها بزخم المسؤوليات الكبيرة والعديدة .

ولنا أن نسمي هذا العصر عصر النهضة العلمية ، لكثرة من نبغ فيه من

ص: 22


1- في حدود المصادر المتوفرة لدي لم أجد ترجمة للشيخ شريف محي الدين سوى ما جاء في مقدمة كتاب السيد بحر العلوم الفوائد الرجالية» عنه . الجزء الأول / ٤١ النص الذي أشرنا إليه .

الفحول الكبار والعلماء ، وكثرة تهافت طلاب العلم على الجامعة العلمية .

ومن المؤسف أن هذا التوجه الإداري لم يقدّر له البقاء في الجامعة النجفية إلا في حدود حياة السيد بحر العلوم، ومن بعد وفاته وانتقال المرجعية إلى الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام ١٢٢٨ ه_ عادت الأمور إلى الانفراد بمسؤولية المرجعية، وتحملها كل الالتزامات التابعة لشأن القيادة الدينية ، لأن الظروف لم تسمح باستمرار ذلك المنهج ، وانتقلت بعد الشيخ كاشف الغطاء إلى الشيخ محمد حسن النجفي «صاحب الجواهر المتوفى ١٢٦٦ ه_ .(1)

ص: 23


1- محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم الشريف النجفي المولود في النجف بحدود عام 1202 ه_ ونشأ فيه ، ودرس في أوليات دروسه على علماء عصره، وحضر في دروسه الخارجية على السيد محمد جواد العاملي - صاحب كتاب مفتاح الكرامة - ، والشيخ جعفر النجفي صاحب كتاب (كشف الغطاء) ، وانتهت إليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب الإمامي في سائر الأقطار ، وثنيت له وسادة المرجعية العامة زمناً طويلاً ، وصنف كتاب جواهر الكلام وهو موسوعه فقهية جمعت أبواب الفقه عرضاً وتحليلاً، ومناقشة لآراء العلماء السابقين عليه . وبقيت هذه الموسوعة الفقهية مصدراً هاماً في الفقه إلى يومنا هذا . توفّي عام ١٢٦٦ ه_ ودفن في مقبرته الخاصة الملاصقة إلى مسجده في النجف. ترجمه الطهراني - الكرام البررة ٣١٠/٢ - ٣١٤ ، ومحبوبة - ماضي النجف وحاضرها ١٢٨/٢ 128/2 وحرز الدين - المصدر السابق 137/2.

الفصل الثاني

الجامعة العلمية النجفية بعد عهد السيد بحر العلوم حتى السيد الاصفهاني

حفلت جامعة النجف الأشرف العلمية خلال القرن الثالث عشر الهجري بمركزية واسعة في الحركة الفكرية بحيث كوّنت وجودها العلمي في الميدان الفقهي و بعد فترة السيد بحر العلوم (رضوان الله عليه) .

وكانت مظاهر هذا الدور بارزة جلية في هذين المجالين ، إلى جانب بقية العلوم المتعلقة بالمجال الحوزوي ، والتي دللت على أن النجف برعت في اختصاصها بالفقه والأصول، إضافة إلى نهضتها الفكرية والمعرفية في الميادين الأخرى ، كالتفسير والفلسفة وعلم الحديث والأدب ، وخاصة في ميدان الشعر .

ولا شك أن شخصية رائد النهضة الفكرية الشيخ مرتضى الأنصاري (1)المتوفى عام 1281 ه_ والذي احتضنته الحوزة العلمية زعيماً لقيادة جامعتها، بعد انتهاء دور مؤسس المرحلة الثالثة السيد محمد مهدي بحر

ص: 24


1- مرتضى بن محمد بن أمين الأنصاري ، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ، ولد في مدينة دزفول سنة ١٢١٤ ه_ ، كان مرجعاً وإماماً ، وانتهت إليه زعامة الحوزة العلمية فى النجف ، ورجعت له الشيعة بالتقليد ، بعد أن اشتهرت مرجعيته ، حتى نقل عن العلّامة الكبير الشيخ أحمد النراقى أنه قال في حقه «لقيت خمسين مجتهداً لم يكن أحدهم مثل الشيخ مرتضى الأنصاري» . ترجمه الشاهرودي - المصدر المتقدم : 113

العلوم المتوفّى 1212 ه_ والشخصيات العلمية التي رفدت تلك الفترة، کالشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ محمد حسن النجفي «صاحب الجواهر» وأمثالهما كان له كل الأثر في تنشيط حركة جامعة النجف العلمية ، واعتبار الشيخ الأنصاري رائداً لمرحلة مهمة من مراحل الدور الثالث الذي تمثل فيه الفكر العلمي منذ أكثر من مائة عام .(1)

ولكن المواجهة الفكرية بين الأصوليين والأخباريين التي احتدمت في أوائل القرن الحادي عشر الهجري ، وتفجرت في عهد المرحوم الميرزا محمد أمين الاسترآبادي (2)والمرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء فترة طويلة (3)، أدت إلى تطور علم الأصول تطوراً هائلاً في مدرسة الشيخ الأنصاري (عطر الله مرقده) .

وقد أكسبت هذه المعركة (علم الأصول) قوة ومتانة واستحكاماً يؤهله لمثل هذا التطور الهائل الذي حدث في مدرسة الشيخ الأنصاري .(4)

ص: 25


1- الشهيد محمد الباقر الصدر - المصدر السابق 88 - 89 .
2- الميرزا محمد أمين الاسترآبادي مفجر الحركة الأخبارية، قال عنه الشيخ يوسف البحراني المتوفّى عام ١١٨٦ ه_ : كان أخبارياً صلباً ، وهو أول من فتح باب الطعن : على المجتهدين ، وتقسيم الشيعة إلى أخباري ومجتهد ، وأكثر في كتابه «الف_وائ_د المدنية المطبوع بايران سنة (1321 من التشنيع على المجتهدين ، بل ربما نسبهم على تخريب الدين ، وما أحسن وما أجاد ، ولا وافق الصواب والسداد ، لما ترتب على ذلك من عظيم «الفساد» راجع يوسف البحراني - لؤلؤة البحرين : ١١٨ تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم / طبع مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر قم / مطبعة مهر الطبعة الثانية
3- ولمزيد من الاطلاع على الحركة الأخبارية والأصولية ي_راج_ع كتاب محمد بحر العلوم - الاجتهاد أصوله واحكامه : ١٦٨ - ١٨٣ طبع بيروت دار الزهراء للطباعة والنشر 1991 (الطبعة الثالثة)
4- لمزيد من الاطلاع على هذا التطور الأصولي يراجع بحث «الشيخ محمد مهدي الاصفي تطور علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة على يد الشيخ الأنصاري وتلاميذ مدرسته ، مطبوع ضمن موسوعة النجف الأشرف - جعفر الدجيلي : 307/7 - ٣٦٥ إصدار دار الأضواء للطباعة والنشر 1997 . أُصول الفقه / ج 1

بعد وفاة رائد الجامعة العلمية النجفية الشيخ الأنصاري عام 12٨١ ه_ أسند منصب زعامة المرجعية الدينية لجامعة النجف الأشرف للسيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وعرف ب_«المجدد الشيرازي» (1)، وأنه تم ذلك بانتخاب من تلامذة الشيخ الأنصاري، الذين تدارسوا أمر المرجعية العامة بعد الشيخ الأنصاري له ، وترشيح من هو مؤهل لها ، فاتفقت كلمتهم على ترشيح السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي .(2)

والظاهر أن السيد الشيرازي (قدس سرّه) تمتع بقابلية جيدة من الذكاء والفطنة ، فقد تقبّل العلوم المقررة للحوزة في مقتبل عمره بصورة أهلته

ص: 26


1- السيد محمد حسن بن الميرزا محمود بن الميرزا إسماعيل بن مير فتح الله عائد بن لطف الله بن مير محمد مؤمن الحسيني الشيرازي ، المعروف ب_«المجدد الشيرازي» المولود في شيراز عام 1230 ه_ ونشأ فيها ، وهاجر إلى أصفهان ، وأكمل مقدمات العلوم الحوزوية بها ، ثم هاجر إلى النجف الأشرف وحضر على حلقات بحوث علماء وقته ، واختص بالشيخ مرتضى الأنصاري حتى وفاته عام ١٢٨١ ه_ فرجع المقلدون إليه بالتقليد ، واتسعت مرجعيته ، وانتقل إلى سامراء لغرض التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وتخرّج على يده جمع من الأعلام ، توفّي في سامراء عام 1312 ، ونقل إلى النجف محمولا على الرؤوس ، ودفن في مقبرته الشهيرة بجوار باب الطوسي للصحن الحيدري . راجع ترجمته: حرز الدين - المصدر المتقدم : 223/2 - 238 . ولزيادة الاطلاع على هذا الموضوع يراجع محمد بحر العلوم - الإمام المجدد الشيرازي (بحث) مقدمة لكتاب تقريرات آية الله المجدد الشيرازي : 19/1 طبع قم مطبعة مهر ١٤٠٩ تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرفة ٠١٤٠٩
2- الشيخ آغا بزرك الطهراني - نقباء البشر في القرن الرابع عشر (طبقات أعلام الشيعة) : ٤٣٦/١ طبع في خراسان إيران ، مطبعة سعيد سنة ١٤٠٤ (الطبعة الثانية : علّق عليها المرحوم المحقق السيد عبد العزيز الطباطبائي) .

الدراسة كتاب «شرح اللمعة الدمشقية» لمؤلفه الشهيد الثاني (1)وهو في حداثة عمره ، وهذا الكتاب فقهي استدلالي علمي يعتبر من أهم مصادرنا الفقهية، وقد درسه السيد الشيرازي وهو في الخامسة عشر من عمره . كما ذكر أنه حصلت له إجازة الاجتهاد من الشيخ صاحب الجواهر وهو في سن مبكرة .(2)

وأضاف الشيخ الطهراني : كان شيخ الطائفة المرتضى الأنصاري يعظمه بمحضر طلابه ، وينوّه بفضله، ويعلي سمو مرتبته في العلم ، وقد أشار إلى اجتهاده غير مرة ، فقد سمعت جمعاً من أشياخنا الأعاظم أن الشيخ قال مراراً : بأني أباحث لثلاثة : الميرزا حسن الشيرازي ، والميرزا حبيب الله الرشتي ، والآغا حسن الطهراني .(3)

وقد تمتعت مرجعية السيد الشيرازي بمميزات عديدة ومهمة وجديرة بالاقتداء في بعض خصائصها من قبل المرجعية العامة (4)، فقد مثلت تطوراً

ص: 27


1- زین الدین بن نور الدين ، علی بن أحمد بن محمد العاملي الجبعي ، المعروف ب_«الشهيد الثاني» المقتول عام ٩٦٦ ه_ .
2- الطهراني - المصدر السابق : ٤٣٧/١ - ٤٣٨ ، هامش : ١ .
3- الطهراني - المصدر المتقدم : ٤٣٨/١
4- تميزت مرجعية السيد المجدد الشيرازي بجوانب بالغة الأهمية نوجزها بالآتي أولاً : انتقال مركز المرجعية الشيعية إلى سامراء : للسيد الشيرازي نظرة شمولية للعراقيين لوحدتهم وتماسكهم ، في سبيلها خطى خطوته الرائعة من أجل الوحدة العراقية ، وخاصة بين الشيعة والسنة ، حيث قرر نقل المرجعية الدينية من مركزها في النجف الأشرف إلى سامراء التي تحتضن مرقد الإمامين : العاشر علي الهادي ، والحادي عشر الحسن العسكري أئمة الهدى من آل بيت المصطفى ، وتقع هذه المدينة شمالي بغداد على بعد ١٣٠ کیلومتر ، على الضفة اليسرى من نهر دجلة سابقاً، أسسها المعتصم بن هارون الرشيد العباسي سنة ٢٢١ ه_ ، واتخذها بعض الخلفاء العباسيين عاصمة لملكهم وهجروا بغداد وتسكن سامراء عشائر عراقية من المسلمين السنّة ، وبحكم تردد الكثير من المسلمين الشيعة وزوار العتبات المقدسة من داخل العراق وخارجه لهذه المدينة لغرض تجديد عهدهم بإمامين من أئمتهم الميامين ، فقد فكر الإمام السيد ميرزا حسن الشيرازي بتقوية أواصر وحدة المسلمين العراقيين أولا ، وترسيخ الأخوة بين الوافدين من الأقطار الإسلامية وسكان المدينة ثانياً ، لذا قرر نقل مركزه المرجعي من النجف إلى سامراء ، وإذا انتقل المرجع إلى سامراء فسوف يتبعه المسلمون الشيعة وخاصة الذين يقصدون زعيمهم الديني تعضيداً للوحدة الإسلامية بين المسلمين ، ولما في ذلك مصلحة للأمة ، وفعلاً حقق ما أراد عام ١٢٩١ ه_ من وانتقل معه جمع غفير من أعلام وطلاب الحوزة العلمية النجفية ، وتبعهم وجوه شيعة الفرات والجنوب ، وجمع من الشيعة ، وأصبحت سامراء مركز الم_رج_عي_ة الدينية الإمامية فيها حتى وفاة السيد الشيرازي ١٣١٢ ه_ . ثانياً : اعتداده برأي الآخرين من أهل الحل والعقد : قد يكون الكثير من مراجع الدين يستعينون برأي الآخرين ممن يصطفونهم لهم کمستشارين ، والسيد الشيرازي بالرغم مما عُرف عنه من حصافة الرأي وبعد النظر والتفكير بروية في الأمور العامة التي تتعلق بالبلاد سياسية كانت أو اجتماعية ، فانه كان يدعو أهل الرأي والمشورة من وجوه تلاميذه وغيرهم ، ويعرض عليهم القضية التي من أجلها دعاهم ، وبعد أن يجمع آراءهم ويناقشها يبت فيما يقتضي ذلك الأمر . ويصف الراوي ذلك حين يتحدث فيقول : «وكان زمام أموره الداخلية والخارجية بیده عدا الوقائع العرفية العامة والسياسية ، فانه يعقد لها مجلساً يحضره وجوه تلامذته الأعلام وأهل التدبر» ثالثاً : فتوى تحريم التنباك : توسعت مرجعية السيد الشيرازي في ذلك العهد إلى درجة أنها استقطبت المناطق الشيعية في العالم الإسلامي والعربي، ورجعت إليه بالتقليد ، وقد توضحت بصورة جلية في فتوى السيد بتحريم «التنباك» وقضية «التنباك» يمكن إيجازها بالآتى : تحدثنا المصادر : أن الحكومة الإيرانية القاجارية عقدت اتفاقية مع شركة إنكليزية باحتكار (التبغ الإيراني) خمسين عاماً ، بدءاً من سنة 1890 م ، وهذا الامتياز للشركة الأجنبية رأى الشعب الإيراني فيه أنه مؤثر سلبياً على الحركة التجارية الداخلية والسوق المحلية ، فطالب الإيرانيون الشاه بعدم عقد هذه الاتفاقية للضرر الكبير الذي يصيب البلاد ، فلم يستجب الشاه لذلك ، وأصر على إبرامها ، وعلى أثر عدم أخذ الشاه بمصلحة الشعب اندلعت انتفاضة شعبية بقيادة علماء الدين الايرانيين ، وطلبوا من المرجع الديني في سامراء السيد الشيرازي أن يتدخل في الأمر ، ولم ينفع تدخله مع الشاه فقرر السيد أن يصدر فتواه الشهيرة بتحريم التنباك ، ونصها : بسم الله الرحمن الرحيم «استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو ، ومن استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه محمد حسن الحسيني الشيرازي» وكانت هذه الفتوى بمثابتة القنبلة التي فجرت الواقع الديني لدى المسلمين الايرانيين ، وامتنع الأهالي من استعمال تدخين التنباك ، وسرى الإضراب عن التدخين إلى قصر الشاه وعائلته حيث امتنعوا عنه بتاتاً ، كما نقل أن زوجة الشاه امتنعت عن التدخين ، و التدخين ، وأمرت بتكسير آلات التدخين الموجودة في القصر ، وعلم الشاه بذاك ، وتيقن أن «سلطان الدين أقوى من كل سلطان» فألغى الشاه الاتفاقية وخضع لأمر الدين . رابعاً : بحثه الفقهي مبنياً على حاجة الجماهير : من إبداعات السيد الشيرازي في درسه الفقهي أنه كان يطلع على الرسائل الواردة له ولطلابه والتي تتضمن الاستفتاء عن المسائل الشرعية ، فكان يختار المهم منها ويعنونها لدرسه اليومي ، ويعتقد أنها أكثر أهمية لحاجة الناس إلى جانب درسه التقليدي، وهذه نظرة إبداعية هامة تعالج الكثير من القضايا التي تتناول حل المشاكل التي يصطدم بها المقلدون ، هذا بالإضافة إلى المواضيع الرئيسية من أبواب الفقه، والتي كانت مدار بحثه اليومي . وتحدثنا بعض المصادر في هذا الصدد فتقول : وكان مجلس بحثه مزدحماً بالعلماء والمدرسين ، وتأتيه الاستفتاءات من سائر الأقطار الإسلامية ، ويحرر المسائل المهمة منها ، ويجعلها عنواناً يدرس به تلامذته ، وكان ينصت لكل تلميذ له قابلية النقاش في الدرس ، ليستفيد بآرائهم حتى يصفو له الوجه في المسألة . لزيادة الاطلاع يراجع حرز الدين - م_عارف الرجال ١٣٤/٢ و 23٥ طبع قم مطبعة الولاية ١٤٠٥ ، ود. علي الوردي - لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث 93/3 طبع أوفسيت - طهران ، ومحمد بحر العلوم - مقدمة كتاب تقريرات آية الله المجدد الشيرازي: 38/1 - ٤0 / طبع مؤسسة آل البيت لإحياء التراث قم ١٤٠٩ ه_ .

ص: 28

ص: 29

هاماً بالنسبة للمرجعية الامامية حينذاك، وكانت نقلة تاريخية في مسيرة المرجعية الامامية .(1)

وبعده عاد مركز المرجعية إلى النجف بعد هذه الهجرة التي دامت قرابة ربع قرن بعد وفاة المرحوم الشيرازي .

والملفت أن حوزة الشيخ الأنصاري ومن بعده السيد الشيرازي حفلت بجهابذة العلم وفطاحله ، وكانوا أركان المرجعية بعد الشيرازي ، وممن برزوا في الميدان الفقهي والأصولي في الجامعة النجفية لفترة ما بين عام ١٣١٣ ه_ إلى ١٣٥٠ ه_ السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي المتوفّى عام 1337 ه_ (2) كان متبحراً في الفقه ، والشيخ ملا كاظم الخراساني المتوفى عام ١٣٢٩

ص: 30


1- لزيادة الاطلاع على مسيرة الإمام المجدد الشيرازي يراجع د. محمد بحر العلوم - مقدمة كتاب تقريرات آية الله المجدد الشيرازي : 7/1 - 81 .
2- السيد محمد كاظم بن عبد العظيم النجفي الطباطبائي اليزدي ، ولد عام ١٢٤٧ه_ في قرية قرب مدينة يزد في ايران ، باشر أوليات دروسه الحوزوية في مدينة يزد ، ثم قرأ قسطاً من الدروس في أصفهان ، وفي عام 1281 هاجر إلى النجف ودرس على أساتذة معروفين فى الحوزة ، ثم عرف بمكانته العلمية واشتهرت مرجعيته ، وألف كتابه الفقهى «العروة الوثقى» الذي أصبح مصدراً فقهياً مهماً ، شرح من قبل بعض أعلام المراجع ، ومن تلك الشروح مستمسك العروة الوثقى» للإمام الراحل السيد محسن الحكيم في ١٤ مجلداً . توفي السيد الطباطبائي اليزدي عام ١٣٣٧ ه_ ودفن في الصحن الحيدري . ترجمه نور الدين الشاهرودي - المصدر المتقدم : 125 - ١٢٦ ، والفتلاوي - المصدر المتقدم : 333

ه_ (1)، الذي فتح آفاقاً جديدة لعلم الأصول، وقدّر لهما ولمن خلفهما أن يقدّموا فكراً أصولياً معمقاً فيه من البحوث القيمة التي قدمتها المدرسة الأصولية الحديثة في تاريخ الجامعة العلمية النجفية ما يعتبر فتحاً جديداً في الميدان الأصولي ، وكان لفرسان هذا العصر الريادة فيه ، كالميرزا محمد حسين النائيني المتوفى عام ١٣٥٥ ه_ (2)، والشيخ محمد حسين الاصفهاني (الكمپاني) المتوفى عام ١٣٦١ ه_ (3)، والشيخ أغا ضياء العراقي المتوفى

ص: 31


1- ملا محمد كاظم بن ملا حسين الهروي الخراساني النجفي ، المعروف بالشيخ الآخوند المولود في طوس عام ١٢٥٥ ه_ ، ونشأ فيها وقرأ مقدمات دروسه العلمية في خراسان ، حتى إذا أكملها هاجر إلى النجف عام 1279 ، وله من العمر أربعة وعشرون عاماً، وحضر لدى أعلام الحوزة ، بعد ذلك استقل بتدريس الفقه والأصول ، وتخصص بعلم الأصول ، ووضع كتاباً أسماه «كفاية الأصول» الذي أصبح من بعده مرجعاً لطلاب العلم يدرس في الحوزات إلى هذا اليوم ، وشرحه علماء وفضلاء من أعلام الحوزة العلمية في الحوزات الدينية، توفّي عام ١٣٢٩ ه_ . ترجمه حرز الدين - المصدر السابق ٣٢٣/٢ - ٣٢٥ .
2- الشيخ الميرزا محمد حسين بن الشيخ عبد الرحيم النائيني ، من المراجع المحققين ، ولد في بلد نائين بحدود عام 1273 ه_ ودرس أوليات العلوم الحوزوية في بلده وأصفهان ، وهاجر إلى العراق عام 1302 والتحق بالسيد الم_ج_دد م_ي_رزا حسن الشيرازي في سامراء وبقي ملازماً درسه إلى أن توفي سنة 1312 ه_ وفي عام ١٣١٤ هاجر إلى مدينة كربلاء ، وبقي فيها سنين عديدة يفيد ويستفيد في حوزتها العلمية ، ثم انتقل إلى النجف الأشرف وكان حينذاك زعيمها الروحي الشيخ محمد كاظم الخراساني يحتل المنزلة الأولى في المرجعية الدينية ، وتوثقت العلاقة بين العلمين خاصة في المباحثات العلمية حتى وفاة المرحوم الخراساني عام ١٣٢٩ ه_ فاستقل بزعامة الأستاذية في النجف الأشرف حتى وفاته عام ١٣٥٥ ه_ . ترجمه الشاهرودي - المصدر المتقدم ١٣٦ - ١٣٧ .
3- محمد حسين بن الحاج معين التجار الاصفهاني الشهير ب_ الكمپاني ، المولود عام ١٢٩٦ ه_ ، كان عالماً محققاً فيلسوفاً ماهراً في علمي الكلام والحكمة ، كما كان شاعراً ، وله منظومة شعرية في أهل البيت ، وله اطلاع واسع في الشعر العربي والفارسي ، وله عدة مؤلفات في الفلسفة وأصول الفقه والعرفان ، وديوان شعر في العرفان والحكمة ، وديوان شعر فارسي ، توفّي في النجف عام ١٣٦١ ه_ . ترجمه حرز الدين - المصدر المتقدم ٢٦٣/٢ - ٢٦٧

عام ١٣٦١ ه_ (1)والسيد أبو الحسن الاصفهاني المتوفى عام ١٣٦٥ ه_ (2)والشيخ محمد كاظم الشيرازي المتوفى عام ١٣٦٧ ه_ (3)وغيرهم من

ص: 32


1- أغا ضياء الدين علي بن المولى محمد العراقي النجفي ، ولد في «سلطان آباد العراق» في ايران ، ودرس فيها أوليات دروس الحوزة العلمية ، وهاجر منها إلى النجف فحضر حلقات درس صفوة من أعلام مدرسي الحوزة العلمية النجفية حينذاك ، وبعد وفاة أستاذه المرحوم الشيخ محمد كاظم الخراساني تفرّغ للتدريس ، وعرف بالتحقيق والتدقيق الفقهي والأصولي ، واختص بصفوة من أعلام النجف الذين احتضنوا المرجعية الدينية من بعده حتى عام وفاته ١٣٦١ ه_ في النجف الأشرف . ترجمه الشاهرودي - المصدر المتقدم : 207 - 208 .
2- أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد الموسوي الاصفهاني ، المولود في قرية من قرى أصفهان سنة ١٢٨٤ ه_ ، أكمل دراساته الأولية في مسقط رأسه اصفهان على بعض أهل العلم ، وهاجر بعد ذلك إلى النجف في أوائل العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ، والتحق بحلقة درس الشيخ محمد كاظم الخراساني فقهاً وأصولاً وبعد وفاته استقل بالتدرس والتصدي للفتوى ، وبعد وفاة المرجع الديني ميرزا محمد تقي الشيرازي وخلفه المرجع الديني شيخ الشريعة الاصفهاني عام ١٣٣٩ شارك الميرزا محمد حسين النائيني بالزعامة الدينية، واستقل بها بعد وفاة الميرزا النائيني عام ١٣٥٥ ه_ إلى حين وفاته عام ١٣٦٥ ه_ حيث فجع العالم الإسلامي بوفاته . راجع ترجمة الشاهرودي آل علي - المصدر المتقدم : ١٤٢ - ١٤٤ .
3- محمد كاظم بن الحاج حيدر الشيرازي النجفي ، من فقهاء الحوزة العلمية ، تلمّذ على الميرزا محمد تقى الشيرازي ، وبقى ملازماً له في مدينة سامراء ، وحين انتقل إلى كربلاء انتقل معه ، وبعد وفاة الميرزا محمد تقي عام 1338 انتقل إلى النجف ، بدأ بالتدريس في الفقه والأصول ، وبعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني رجع الكثير إليه بالتقليد ، وله مؤلفات عديدة في الفقه والأصول ، توفّي عام ١٣٦٧ ه_ بالنجف ودفن في إحدى حجرات الصحن الحيدري ، وطبعت بعض مؤلفاته بعد وفاته . ترجمه الشاهرودي - المصدر المتقدم : 209 - 210 ، والفتلاوي - المصدر السابق : ٣٣١ .

العلماء الأعلام الذين أثروا الجامعة العلمية النجفية ببحوثهم وحلقات دروسهم سواء في الميدان الفقهي أو الأصولي، وحققوا بحق قفزة علمية في عهدهم .

إن هذه النخبة من الأعلام المجتهدين، ومراجع التقليد العظام الأقطاب الحوزة العلمية ممن أشرنا إلى ذكرهم أو لم نشر - خشية التطويل - هم في الواقع أركان الحوزة العلمية في جامعة النجف الأشرف للفترة التي حفلت بجيل القرن الثالث عشر الهجري، والذي لشيخنا آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي المتوفى عام ١٣٩٤ ه_ الله دور فيه، وسيكون محور حديث الفصل التالي عنه بأذن الله .

ص: 33

الباب الثاني

اشارة

شيخنا الحلي وجود شاخص

في الجامعة العلمية الدينية النجفية

ص: 34

الفصل الأول

عصر شيخنا الحلى وموقعه فيه

أ - مراجع عصره

بعد وفاة المرجع الديني السيد أبو الحسن الاصفهاني في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي الهجري كانت المرجعية العلمية الامامية قد توزعت بين نخبة من أعلام الجامعة العلمية النجفية وبعض المراجع الذين كانت دراستهم الأساسية في النجف وعادوا إلى ايران، وأبرزهم فيها : آية الله العظمى السيد آقا حسين بن السيد علي الطباطبائي البروجردي المتوفى عام ١٣٨٠ه_ .(1)

ص: 35


1- أغا حسين بن السيد علي الطباطبائي المنتهي نسبه إلى إبراهيم المعروف ب_ (طباطبا) الذي ينتهي إلى الإمام الحسن الله ، المولود في بروجرد - إيران ع_ام 1292 ه_ ، ونشأ في مسقط رأسه وأنهى دروسه الأولية فيها ، ثم رحل عام ١٣١٠ ه_ إلى أصفهان حيث واصل دروسه في الفقه والأصول إلى جانب علوم الفلسفة والرياضيات ، وفي عام 1319 ه_ سافر إلى النجف ليحضر بحث الملا محمد كاظم الخراساني، وداوم بالحضور في حلقة درسه فترة تصل إلى عشر سنوات ، كما حضر الفقه على شيخ الشريعة الاصفهاني ، وفي أواخر عام ١٣٢٨ عاد إلى بروجرد يؤدي رسالته الدينية فيها ، وفي سنة ١٣٦٤ ه_ انتقل إلى قم المقدسة ، وكان فيها أحد مراجع الدين ، وبمرور الزمن ثنيت له وسادة المرجعية الدينية حتى وفاته عام ١٣٨٠ ه_ ، ودفن فيها . ترجمه آل علي - المصدر السابق : ١٤٩ - ١٥٠ .

وفي الوقت نفسه كانت جامعة النجف تزخر بأعلام عظام لهم مكانتهم العلمية فيها، كما كانوا مراجع تقليد يشار إليهم عند ذكر مراجع التقليد في النجف - باستثناء آية الله العظمى السيد الحاج آقا حسين بن السيد محمود القمي 13٦٦ه_ في كربلاء (1)_ وسنشير إلى أسماء المبرزين منهم حسب سني وفياتهم - كالشيخ محمد رضا آل ياسين المتوفى عام ١٣٧٠ ه_ (2)، (2)

ص: 36


1- أغا حسين بن السيد محمود القمي ، المولود في عام ١٢٨٢ ه_ ونشأ وتلقى علومه الدينية الأولية فيها، وهاجر إلى النجف ، وحضر بحث الشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي وغيرهما من أساطين البحث العلمي في النجف ، ثم انتقل إلى سامراء وحضر بحث المجدد الشيرازي الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي ، وبعد وفاته سنة 1312 ه_ حضر بحث خلفه الميرزا محمد تقي الشيرازي لفترة تسع سنوات ، وعد من أركان بحثه ، وبعده حضر بحث الميرزا النائيني حين كان يدرس في سامراء ، وعند انتقاله إلى النجف انتقل معه إلى النجف وواصل بحثه معه حتى وفاته ، وانتقل بعد ذلك إلى مشهد الرضا ع في خراسان ، وكان ذلك عهد الشاه رضا ، وأخذ يدرس هناك ، وساءت علاقته الشاه فنفاه إلى العراق ، فسكن كربلاء ، وتصدى للمرجعية فيها حتى وفاته عام ١٣٦٦ ه_ حيث نقل إلى النجف ودفن في إحدى مقابر الصحن الحيدري . ترجمه الشاهرودي - المصدر السابق : ١٤٤ - ١٤٧ .
2- محمد رضا بن الشيخ عبد الحسين بن باقر بن الشيخ محمد حسن الكاظمي ، المولود سنة 1297 ه_ ونشأ على أبيه الجليل نشأة عالية ثم حضر في الفقه والأصول على علماء أعلام ورجع له المؤمنون بالتقليد والزعامة بعد السيد أبو الحسن الأصفهاني ، وحضر نخبة من أعلام الفضل بحثه الفقهي، توفّي في الكوفة سنة 1370 ه_ وحمل على الرؤوس إلى النجف حيث دفن في مقبرتهم في الخاصة محلة العمارة ، ثمّ نقل إلى وادي السلام بعد فتح الشوارع الحديثة في المحلة نفسها حول الصحن الحيدري فشملت مقبرته ترجمه الطهراني - نقباء البشر 7٥٧/١ - 758 ، والزركلي - الأعلام ١٢٧/٦ ، ومحمد هادي الأميني - رجال الفكر : ٤٧١ وكوركيس عواد - معجم المؤلفين العراقيين ١٦٣/٣ طبع بغداد .

والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المتوفى عام 1373 ه_ ١٣ ه_ (1)، والسيد عبد الهادي الشيرازي المتوفّى عام 1382 ه_ا ١٣٨ ه_ (2)، والسيد محسن الحكيم المتوفى عام 13٩٠ ه_ (3)والسيد محمود الشاهرودي المتوفى عام ١٣٩٤

ص: 37


1- محمد حسين بن الشيخ علي بن محمد بن رضا بن موسى بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المولود في النجف عام ١٢٩٤ ه_ ونشأ فيها ودرس سطوح العلوم الحوزوية مبكراً ، وأكملها وهو شاب فاختص ببحث الشيخ محمد كاظم الخراساني ، وحضرها ست دورات ، كما حضر بحث السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي ، وبحث الشيخ أغا رضا الهمداني، وكان محترماً عند أساتذته لغزارة فضله ، وكذلك درس الفلسفة والكلام لدى أساتذة مشهورين في المدرسة العلمية في النجف الأشرف ، وألف عدة كتب في الفقه والأصول ، والدعوة الإسلامية والدين والإسلام ، وحضر مؤتمرات عالمية وإسلامية في القدس وباكستان وإيران ، والتقى بشخصيات علمية وسياسية وثقافية عربية وإسلامية كبيرة ، وملوك بعض الدول . وسافر إلى كرند - إيران للراحة والاستجمام. وتوفي فيها عام 1373 ه_ ، ونقل إلى النجف ودفن في مقبرة خاصة أعدها لنفسه في وادي السلام . انظر ترجمته : الطهراني - نقباء البشر ٦١٢/٢ - ٦١٩ وحرز الدين - المصدر السابق ٢٧٢/٢ - ٢٧٦
2- الميرزا عبد الهادي بن الميرزا إسماعيل بن رضي الدين بن الميرزا إسماعيل الحسيني الشيرازي ، المولود في سامراء سنة ١٣٠٥ ه_، ونشأ برعاية السيد ميرزا المجدد الشيرازي ، وولد السيد المجدد الميرزا علي الشيرازي ، وبعد أن أكمل دراسة السطوح بدقة واهتمام انتقل إلى النجف سنة ١٣٢٦ ه_ والتحق بحلقة الشيخ محمد كاظم الخراساني ، وبحث شيخ الشريعة في الفقه والأصول ، وقلده الناس بعد وفاة السيد البروجردي الطباطبائي عام 1380 ه_ ، والتف حول درسه نخبة من أهل العلم والفضل في النجف. وقد وافته المنية عام ١٣٨٢ ه_ . ترجمه الطهراني - نقباء البشر ١٢٥٠/٣ - ١٢٥٥ .
3- محسن بن مهدي بن صالح المنتهي نسبه إلى إبراهيم الطباطبا بن إسماعيل الغمر بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن ، المولود في النجف عام ١٣٠٦ ه_ المعروف ب_(محسن الطباطبائي الحكيم) وبعد أن أكمل دراسته الأولية درس مراحلها العالية في بحث الشيخ محمد كاظم الخراساني ، والشيخ أغا ضياء العراقي ، والميرزا حسين النائيني . وكانت مرجعيته واسعة الآفاق في العالم الإسلامي ، مرت في أحرج الظروف التي خيمت على العالمين الإسلامي والعربي خاصة ، توفي عام ١٣٩٠ ه_ . انظر ترجمته في كتاب «الإمام الحكيم» بقلم ولده الشهيد السيد محمد باقر الحكيم / منشورات دار الحكمة طهران .

ه_ (1)والسيد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي المتوفى عام ١٤١٣ ه_ (٢) ، وهؤلاء كلهم تسلّموا مقاليد المرجعية العامة بمدد متفاوتة بعد السيد أبو الحسن الاصفهاني ، ولكن السيد محسن الحكيم ثنيت له المرجعية

ص: 38


1- محمود بن السيد علي الحسيني الشاهرودي، المولود 1301 ه_ في احدى القرى التابعة لشاهرود ، حين أكمل مقدمات الدروس الحوزوية توجه إلى النجف ، والتحق بدرس الشيخ محمد كاظم الخراساني وله من العمر ٢٨ سنة ، كما التحق بدرس الميرزا النائيني ، وبعد وفاة طبقة الميرزا النائيني رجعت إليه الأمة في التقليد في حياة مرجعية الإمام الراحل السيد محسن الحكيم، وعرفته المصادر بالورع والزهد ، وكانت له حلقة درس في الجامع الهندي ، وله تقريرات أستاذه الميرزا النائيني في بعض أبواب الفقه ، توفّي عام ١٣٩٤ ه_ . ترجمه آل علي - المصدر المتقدم : ١٥٥ (2) أبو القاسم بن السيد علي أكبر بن المير هاشم الموسوي الخوئي ، المولود في مدينة خوي عام ١٣١٧ ه_ ، ونشأ على والده في دروسه الأولية ، وفي حدود ١٣٣٠ هاجر إلى النجف ، وحضر على بحوث أساتذة العصر : الميرزا النائيني ، وأغا ضياء العراقي ، والكمپاني الشيخ محمد حسين ، وكتب تقريراتهم في الفقه والأصول وطبع معظمها ، واستقل بالتدريس ، فكانت حوزته في الفقه والأصول من أكبر حوزات العصر الدراسية ، والكثير ممن تلمذ عليه أصبح من مراجع التقليد ، وقد توسعت ساحة مقلديه بعد رحيل الإمام السيد محسن الحكيم ، وخطى خطوة هامة إذا أمر بفتح المؤسسات في العالم كلندن ونيويورك وكندا وباكستان والهند ولبنان وغيرها في بعض الدول . عاش في الفترة القاسية من عهد صدام ، ولم يخضع للنظام رغم الضغوط عليه ، توفّي عام ١٤١٣ ه_ ، وضيق النظام الحاكم المباد على الجماهير بالاحتفال بتشييع جثمانه في النجف ، منع إقامة الفاتحة عليه في النجف وبعض مدن العراق ، أما في الخارج فقد أقيمت على روحه الطاهرة مجالس التأبين في مختلف أرجاء الع_الم الإسلامي . ترجمه الطهراني - نقباء البشر 71/1 - 72 والشاهرودي - المصدر السابق : ١٦٠ - ١٦٢ .

العامة في البلاد الإسلامية والعربية مع وجود بعض هؤلاء الأعلام - المشار إليهم أعلاه - وبعد أن غيّب الآخرين الموت .

ب - نسب الشيخ الحلي ونشأته :

ومن بين هذه الصفوة المرحوم آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي الذي لا يقل وزناً علمياً ومكانة في الحوزة العلمية في النجف التي ازدهرت بهم المرجعية العليا في أوائل القرن الماضي الهجري في الجامعة العلمية النجفية ، وكان من المنتظر أن يكون له دور شاخص مع زملائه أقطاب ذلك الدور في الجامعة العلمية، والذي يمكن أن نطلق عليه دور «الازدهار المرجعي الديني» ورغم اعتراف الجميع بمنزلته المحترمة ، ولكنه ابتعد عن تحمل مسؤولية الزعامة الدينية، ولم يكن ناشئاً من تقدم الآخرين عليه بسبب علمي ، أو شخوص اجتماعي، إنما هو عزوف عن تحمل مسؤولية المرجعية الدينية ، وعدم التصدي لها لأسباب خاصة لم يفصح بها لأحد حتى لأخلص أصحابه كالسيد الوالد وبقية الصفوة التي عاشت معه كأع__ز أصدقائه (1)، وذهب هذا السر معه إلى القبر، وما ينقل في ثنايا كتابات بعض من كتب عنه فلا تتعدى التكهنات والاجتهادات ، أو التخرصات الاحتمالية .

لم يكن الشيخ حسين الحلي بعيداً عن الجو العلمي في بداية حياته ، فهو ابن الشيخ علي بن الحسين بن حمود المنتهي نسبه إلى عشيرة «العيفار» (2)من قبيلة طفيل ، والتي تقطن في أرياف الجنوب الغربي من

ص: 39


1- سيأتي الحديث عن الصفوة والإشارة إلى موجز تراجمهم .
2- إن جد الشيخ حسين الأعلى نزح إلى الحلة مع جماعة من أفراد أسرته وغيرهم وأنشأوا قرية تعرف ب_ «العيفار» وهي بين مقام النبي أيوب والحلة ، وتبعد عنها بنحو عشرين دقيقة . انظر : آغا بزرك الطهراني - طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر في القرن الرابع عشر ١/ القسم الرابع / ١٤٢٣ / طبع مشهد إيران مطبعة سعيد ١٤٠٤ تحقيق المرحوم السيد عبد العزيز الطباطبائي) ويوسف كركوش - تاريخ الحلة : القسم الثاني في الحياة الفكرية : 202/2 طبع النجف المطبعة الحيدرية ١٩٦٥

الحلة .(1)

كان والده المرحوم الشيخ علي الحلي هو رب أسرته ، وقد لمس في نفسه إحساساً عميقاً ورغبة ملحّة إلى طلب العلم ، وأن حياة «العيفار» لا تلبي طموحه ، فيمم وجهه إلى النجف الاشرف لينتمي إلى جامعتها العلمية ، تلبية منه إلى العامل الذي يمور في نفسه، ليكون كأصحاب الفضل الذين يفدون على مدينة الحلة من مدينة العلم، فيحترمهم الناس، ويلتفون حولهم للاستفادة والإفادة ، خاصة وأن النجف على مقربة من الحلة ، فلماذا يجمع أمره وينتقل إلى تحقيق هدفه رغم كونه رب أسرة ، وله ضياع في القرية التي أنشأها جده الأعلى «حسين بن حمود» لأسرته ، فقد كان من وجوه عيفار ، ورئيس فخذ من أفخاذ قبيلة طفيل .

وعلى كل حال ودّع الشيخ علي بن حسين بن حمود بيته وقريته ، وهاجر إلى النجف، وسكن أوّلاً في «مدرسة المهدية» (2)وهي واحدة من

ص: 40


1- الطهراني - المصدر المتقدم : ١/القسم الرابع / ١٤٢٣/ وكركوش - المصدر المتقدم : القسم الثاني في الحياة الفكرية : ٢٠٢/٢ .
2- هذه المدرسة تنسب إلى مؤسسها الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المولود في النجف عام ١٢٢٦ ه_ عالم فقيه وأصولي ، ومؤلف ومحقق ، من آثاره الخيرية (المدرسة المهدية) الواقعة خلف جامع الطوسي في محلة المشراق من محلات النجف الأشرف ، توفي عام 1289 ه_ ودفن في مقبرتهم المعروفة في محلة العمارة بالنجف . راجع : الطهراني - المصدر المتقدم : ١٤٢٤ وجعفر محبوبة - ماضي النجف وحاضرها 20٥/٣ طبع النجف مطبعة النعمان ١٩٥٨

عشرات المدارس المخصصة لإيواء طلاب العلوم الدينية الذين يهاجرون إلى النجف الأشرف طلباً للعلم ، ولم يكن له بيت يسكنه .(1)

ضمّت الجامعة العلمية في النجف الأب المهاجر كطالب من طلاب حوزتها ، ثم تدرج في الدراسة، وانتهى من الأوليات ، ثم حضر بحث آية الله الشيخ محمد طه نجف المتوفى عام 1323 ه_ (2)، وادعى أحد الباحثين عن حياة الشيخ الحلي أن والده الشيخ علي حضر بعد ذلك بحث المرحوم آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي، ولم أر أحداً ممن ترجمه يذكر أن الشيخ علي حضر بحث السيد الطباطبائي اليزدي إلا بعض من تصدى لترجمته، ولم يسند قوله بمصدر ما .(3)

لقد برز المرحوم الشيخ علي في المجتمع العلمي النجفي شخصية لها مكانتها بين أقرانه من أعلام الحوزة العلمية، وعرف أخيراً ب_ «أحد العلماء الأبدال ، والصلحاء الأبرار الذين أجمعت على صلاحه وجدارته كلمة الخواص والعوام، فقد اتصف بالورع والزهد والتقى والنسك» .(4)

ص: 41


1- انظر بحث المرحوم الشيخ محمد الخليلي - مدارس النجف القديمة والحديثة بحث منشور ضمن موسوعة العتبات المقدسة / قسم النجف : ج 2 ص 13 19٤.
2- الشيخ محمد طه بن الشيخ مهدي بن الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد ابن المقدس الحاج نجف المولود عام ١٢٤١ ه_ عالم جليل معاصر للسيد ميرزا حسن الشيرازي ، وتلمّذ على الشيخ مرتضى الأنصاري ، وذكرته المصادر الرجالية بالاحترام والتقدير ، توفي عام ١٣٢٣ ه_ . راجع ترجمة حرز الدين - المصدر المتقدم 300/2 - ٣٠٤
3- هاشم الحسيني - لمحات من حياة آية الله الشيخ حسين الحلي : ٨ إصدار مركز البحوث والدراسات الإسلامية الطبعة ٣ الأولى ١٤٢٣ ه_ ٢٠٠٤ م
4- آغا بزرك الطهراني - طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر في القرن الرابع عشر) : القسم الرابع / ج ١٤٢٣/١ (الطبعة الثانية) تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي / طبع مشهد - إيران مطبعة سعيد ١٤٠٤ .

ويتحدث عنه المرحوم الشيخ أغا بزرك الطهراني قائلاً :

«صحبته (الشيخ علي) مدة طويلة، واقتديت به في الصلاة مراراً ، وكان يأتم به من صلحاء الناس وثقاتهم عدد كبير ، ويميل إليه كل عارف بحقيقته وخبير بشؤونه ، كان حسن الملتقى والخلق ، دائم الذكر، شديد القناعة ، يقتات بالعبادة ، ويزهد بما يزيد على سد الرمق ، وكنت أزوره في بيته ، وأطلع على أحواله وخصوصياته فأرى التقى والصبر والقناعة والعفاف متمثلة في شخصه» .(1)

لقد كان الشيخ علي من أصحاب الفضل والفقاهة، وكان الصديق الحميم، والأخ الودود للتقي الورع الشيخ علي رفيش (2)والذي كان يقيم صلاة الجماعة في الصحن الحيدري في النجف الأشرف وملازماً له وكان بينهما إخاء تام ومودة ثابتة ، ولما توفي عام ١٣٣٤ ه_ خلفه الشيخ علي الحلّي في إقامة الجماعة في الصحن الشريف مكان الشيخ رفيش .(3)

وقد لبّى الشيخ علي نداء ربه في السابع من شعبان عام ١٣٤٤ ه_ ودفن في النجف ، وكان لفقده صدى واسع في الأوساط العلمية والاجتماعية لما له من مكانة طيبة في نفوس عارفيه ، وشيّع بتبجيل وتقدير وبما يتناسب ومنزلته لدى أهل العلم والفضل ومحبيه .(4)

ص: 42


1- الطهراني - المصدر المتقدم : ١٤٢٤ .
2- علي رفيش من علماء النجف (١٢٦٠ - ١٣٣٤) راجع (أعيان الشيعة ورسالة الشيخ الحلي : ه_ ٢) .
3- الطهراني - المصدر المتقدم : ١٤٢٤
4- محبوبة - المصدر المتقدم ٢٨٤/٣ ، والطهراني : ١٤٢٤ .

وعلى ما هو المألوف والمتعارف أن يخلف ولده شيخنا الحسين أباه في صلاة الجماعة في مكانه بالصحن الحيدري ، ولكن الشيخ أثر على نفسه أستاذه الميرزا النائيني في إقامة صلاة الجماعة، وبعد وفاته توجهت الأنظار إليه مرة أخرى إلا أنه طلب من أخصائه أن يخلف والده ، الإمام الراحل السيد محسن الحكيم ، وأصر على ذلك ، وكان له ما أراد .(1)

إن المرحوم الشيخ علي كان وجهاً نقياً من بين الوجوه التي عايشتهم النجف الأشرف وحوزتها العلمية ، «فهو أحد الأبرار والأبدال ومن الأتقياء والنساك ، وكان يأتم به خلق كثير من أهل التقوى والصلاح، ولم ير إلا ذاكراً . يقول أحد المقربين له كنت أزوره في داره في بعض الأحيان فأراه رجلاً ناسكاً متعبداً ، وكلما ازددت قرباً منه زدت وثوقاً به» .(2)

(٢)

من هذا الرجل المؤمن الورع انحدر شيخنا الجليل الشيخ حسين الحلى ، وهو أصغر ولديه .

والأكبر منه الشيخ حسن بن الشيخ علي (١٣٠٥ - ١٣٣٧ ه_) كان فاضلاً وشاعراً ، عرفته الندوات الأدبية من الشعراء اللامعين ، «فقد أجاد وأبدع وساجل وطارح حتى صقلت مواهبه وذاع صيته» .(3)

والأصغر شيخنا الجليل آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي من مواليد 1309 في النجف الأشرف ، وعاش في ظل والده الشيخ علي يتنقل

ص: 43


1- الطهراني - آيت نور : 159/1 تأليف جمع من تلامذة السيد الطهراني / ص_در بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة السيد محمد حسين الطهراني / نشر انتشارات علامة الطباطبائي - مشهد ١٤٢٧ (الطبعة الأولى)
2- جعفر محبوبة - ماضي النجف وحاضرها 28٤/٣ طبع النجف ، مطبعة النعمان 1957 .
3- الطهراني - المصدر المتقدم : ٤١٤ .

معه في مجالس العلماء والوجهاء ، ويرتاد مع أخيه الشيخ حسن الذي يكبره بأربع أو خمس سنوات مجالس الأدب والشعر، فقد عرفته بعض المصادر بأنه : «من نوابغ عصره ... شديد الملازمة لحضور نادي العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي (1)الذي كان من أزهى الأندية العلمية الأدبية التي لها تأثيرها الخاص في التوجيه والتربية ، وبث روح الفضيلة، وصقل الأفكار والقرائح» .(2)

وشبّ الشيخ مترجمنا _ من خلال ملازمة والده لمجالس أهل العلم والفضل ، وملازمته لأخيه الشيخ حسن لمجالس المعرفة والآداب _ على حب العلم والأدب والفضيلة ، فمن يوم معرفته للحياة - رغم أنه كان متجهاً في بداية حياته لخياطة الملابس - أخذ يتطلع لمستقبل يشدّه إلى الحوزة العليمة ليكون فيها وجوداً شاخصاً ، وفعلاً حقق ما يصبو إليه بجده واجتهاده .

ص: 44


1- محمد سعيد بن محمود بن قاسم بن كاظم بن الحسين الحبوبي الحسني، من كبار فقهاء وأدباء عصره ، ولد في النجف سنة ١٢٦٦ ه_ ونشأ بها على والده ، وقرأ المقدمات الأولية على خاله الشيخ عباس الأعسم ، وحضر في دراساته العليا في الفقه والأصول على أساتذة معروفين كالشيخ محمد حسين الكاظمي والفاضل الشربياني والشيح آغا رضا الهمداني والشيخ محمد طه نجف وغيرهم من علماء الحوزة العلمية ، ثم استقل بالبحث والتدريس ، وأصبح من كبار الفقهاء والمجتهدين وأعلام الفضل والتقوى والصلاح . كما قاد الجيوش الكبيرة لصدّ الإنكليز خلال احتلالهم العراق عام 19١٤ م ، كما كان من أعلام الأدب والشعر ، توفّي في محافظة ١٩١٤ الناصرية عام 1333 بعد انكسار الجيش العثماني، ونقل إلى النجف حيث دفن بالصحن الحيدري . طبع له ديوانه الشعري. ترجمه الأميني - رجال الفكر والأدب 1387/1 - 389 ، والزركلي - الأعلام ١٤٢/٦ ، والفتلاوي - المصدر السابق : 297 - 298
2- محمد علي اليعقوبي - البابليات ٣ ص / ق 29/2 طبع النجف المطبعة العلمية 1373 ه_

كانت دراسته الأولية على يد والده ، ثم تنقل إلى أساتذة في علوم الفقه والأصول المعروفين في الحوزة بالاختصاص في السطوح، وقد ساعده ذكاؤه إلى تقبل ما يمليه عليه أساتذته حتى إذا أنهى دراسة السطوح انتقل إلى بحوث الخارج التي يتلقاها طالب العلم في المرحلة الثانية من الحياة العلمية ، وهي مرحلة مهمة بالنسبة لمن يصبو إلى تسلق المجد الحوزوي ليكون من فرسان حلباتها .

ج - الشيخ الحلي عَلَم بين مراجع عصره :

وكان في فترة النصف الأول من القرن الماضي الهجري (ألف وثلاثمائة) قد عرفت المرجعية الدينية في النجف ثلاثة فرسان اشتهروا بالفقه والأصول والبحث العلمي الخارجي، وهم : الميرزا حسين النائيني ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني ، والشيخ آغا ضياء العراقي ، وقد ركز شيخنا الحلي على حضور دروس هذه النخبة من الأعلام للاستفادة منهم فقهاً وأصولاً، وإن أشتهر باختصاصه بالميرزا النائيني كما تحدثنا بعض المصادر ، فتقول :

«وكانت عمدة تتلمذه وتخرّجه على الحجة الميرزا محمد حسين النائيني ، فقد حضر دروسه سنين طوالاً». واستفاد كل منهما من الآخر ، فكانت المنفعة بينهما متبادلة ، كما وضحها أحد تلاميذ الشيخ بقوله :

اختص الشيخ (الحلي) بصحبة الحجة الكبرى الميرزا حسين النائيني فتبادلت المنفعة بينهما :

استفاد (الحلي) خبرة بأقوال العلماء ، وإحاطة بآرائهم في مسائل الفقه والأصول ، لأنه أخذها من معدنها ومصدرها، هو ذلك الأستاذ الكبيرة الذي خلدته آراؤه واستنباطاته للأحكام.

ص: 45

استفاد الشيخ النائيني رحمه الله به ، إذ وجد فيه مساعداً ومحرراً ومهذباً لفتاواه الكثيرة التي كانت ترد على. وأصبح الشيخ الحلي الباب لذلك الأب الروحي العظيم ، ومنه يؤتى» .(1)

كما نقل أحد الأعلام المتصلين بالميرزا النائيني : بأن الشيخ الحلي تأثر كثيراً بالميرزا إذ اعتبره من تلاميذه المقربين إليه لما له مكانة من في نفسه، حتى نقل عن حفيد الميرزا عن والده المرحوم حجة الإسلام المسلمين الشيخ ميرزا علي النائيني أن والده الشيخ النائيني كان يرى الشيخ الحلي أفضل تلاميذه .(2)

ونقل عن أحد تلاميذ الشيخ : أن المرحوم الميرزا علي ينقل أيضاً عن والده المرحوم المعظم أنه كان يعتمد كثيراً على الشيخ الحلي ويمدحه ويقول عنه : ما من مسألة تطرح حتى يكتب عنها رسالة مشتملة على التحقيق والتدقيق ، ونقل كافة الأقوال فيها».

كما ينقل أن الشيخ الحلي هو الذي حمل الميرزا النائيني على تأسيس «مجلس الاستفتاء» له .

د _ تأثره العلمي بالميرزا النائيني :

والغريب أن أحد الباحثين في تطور الدرس الأصولي في الحوزة العلمية النجفية تحدث عن مدرسة الميرزا النائيني وأبرز طلابه ، ولم يذكر شيخنا

ص: 46


1- محبوبة - المصدر المتقدم 283/3
2- نقلاً عن آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم عن الشيخ عباس عن المرحوم والده آية الله الشيخ ميرزا علي النائيني أنه «قال كان الميرزا النائيني يقول : إن الشيخ حسين أفضلهم قال السيد الحكيم : نقل ذلك لي في فاتحة المرحوم الشيخ حسين الحلي».

الحلي من روادها، وإنما يصنفه من طلاب مدرسة آغا ضياء العراقي (1)، وأعتقد أن الأستاذ الكاتب تجنب الحقيقة _ وقد لا يكون عن قصد .. والمعروف أن الشيخ الحلي من روّاد مدرسة الميرزا النائيني ، بل ومبرّزيها - كما تقدم - وبالإضافة إلى معلوماتي الخاصة، فقد أكد لي بعض الأعلام ممن تلمّذ على الشيخ الحلي هذا الرأي ، وقال : إن الشيخ الحلي يعترف بأن الميرزا النائيني أحد منابعه الفكرية المهمة .

ونقل بعض الباحثين عن حياة الشيخ قائلاً :

«لقد كان الشيخ حسين الحلي من أعاظم تلامذة الميرزا النائيني ، وكان هو الذي حمل الميرزا النائيني على تأسيس مجلس الاستفتاء ، كما كان الميرزا النائيني يرجع إليه في مهام أموره ، وعنه يصدر الرأي ، فكانت أغلب أجوبة المسائل الشرعية التي ترد إلى الميرزا النائيني تصدر عن الشيخ الحلي وبقلمه ، فكانت له عند أستاذه مكانة سامية للغاية» .

وهناك أمر آخر يؤكد على التزامه بالميرزا النائيني وهو ما نقله بعض الثقات :

«بعد وفاة الإمام الراحل السيد محسن الحكيم جاء بعض المؤمنين إلى الشيخ الحلي وطلبوا منه طبع رسالته العملية لأجل تقليده، فأرجعهم الشيخ إلى رسالة الميرزا النائيني» .

ويعلّق سماحة السيد محمد سعيد الحكيم - ناقل النص - فيقول : «ويستفاد من هذا أن بصمات الشيخ الحلي مركزة على رسالة الميرزا النائيني ، وهي تعبّر عن رأيه ، وإلا فما معنى قول الشيخ »ارجعوا إلى رسالة

ص: 47


1- انظر منذر الحكيم - تطور الدرس الأصولي في النجف الأشرف (بحث) منشور ضمن موسوعة النجف الأشرف 198/7 - 199 إصدار جعفر الدجيلي

الميرزا» .(1)

ولا نستغرب من هذا إذا رجعنا إلى الأقوال المتقدمة عن الميرزا النائيني في حق الشيخ ، وأهمها «أفضلهم» ويقصد أفضل طلابه ، وهي شهادة مهمة

الشيخ من الشيخ الكبير الميرزا النائيني إلى تلميذه المقرب له الشيخ الحلي .

وإن كان هناك من يرى أنه التزم بآراء استاذيه فقيهي العصر : النائيني ، والمحقق العراقي رحمهما الله ، ويغلب عليه _ فيما حضرته من أبحاثه - نهج استاذه الفقيه العراقي الشيخ ضياء الدين .(2)

ولكنّ عدداً كبيراً من جهابذة العلم والفضيلة _ الذين ازدهت بهم الحوزة العلمية النجفية ، وأشار إليهم التاريخ العلمي بكل تقدير واحترام ، واستفادوا منه ، في مجالي الفقه والأصول _ ذكروا أنه من رواد مدرسة الإمام النائيني .

ومن خلال النصوص المصدرية لأساتذة شيخنا الحلي نلحظ جلياً أنه تتملذ على ثلاثة أساتذة من أعلام الجامعة العلمية النجفية ، وجميعهم اختصوا بعلم الأصول ، وعرفوا به إلى جانب تبحرهم الفقهي ، وقد عرفت عنه أنه حضر لدى السيد الاصفهاني دورتين أصوليتين ، وحضر عند الشيخ العراقي دورة ونصف الأصول ، ثم حضر دورة كاملة في الأصول عند الميرزا النائيني ويظهر أن الفرسان الثلاثة اختصوا بالبحث الأصولي _ فتأثر بهم ، وقد نقل

إنه قال : بأني «اشتهرت بالفقه عند الناس ، وأصولي أقوى من فقهي» .

وإذا رجعنا بعد هذا كله إلى إجازة المرحوم الميرزا النائيني إلى تلميذه

ص: 48


1- مقابلة شخصية مع آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم في النجف الأشرف بتاريخ ٢ ذي الحجة ١٤٢٧ كما أكد هذا القول سماحة آية الله السيد محمد علي / الحكيم ، بأن رسالة الشيخ النائيني هي من شغل الشيخ الحلي .
2- لقاء سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي في 19 محرم ١٤٢٨ ودار الحديث عن تأثر الشيخ الحلّي بالنائيني أو العراقي ؟

الشيخ الحلي بالاجتهاد والرواية ، وما فيها من تعبير يدل على اهتمام الميرزا به وجدنا ما يدل على اعتزازه بهذا التلميذ الذي يصفه «وبعد ... فان شرف العلم لا يخفى ، وفضله لا يحصى ، قد ورثه أهله من الأنبياء ، وأدركوا به درجات الصديقين والشهداء .

وممن جدّ في الطلب والعمل به هو قرة عيني العالم العامل العلّام ، والفاضل الكامل الهمام ، صفوة المجتهدين العظام، وعماد الأعلام ، وركن الإسلام ، المؤيد المسدد، والتقي الزكي ، جناب الآغا الشيخ حسين النجفي الحلي كثر الله تعالى في أهل العلم أمثاله ، وبلغه في الدارين آماله .

فلقد بذل في هذا السبيل برهة من عمره، واشتغل ب_ه ش_ط_راً م_ن دهره . وقد حضر أبحاثي الفقهية والأصولية باحثاً فاحصاً مجتهداً ، باذلاً جهده في كتابة ما استفاده وضبطه وتنقيحه ، فأصبح وبحمد الله تعالى من المجتهدين العظام، والأفاضل الأعلام ، وحق له العمل بما يستنبطه من الأحكام على النهج الجاري بين المجتهدين الأعلام ، فليحمد الله تعالى على ما أولاه ، وليشكره على ما أنعمه به وحباه ، فلقد كثر الطالبون وقل الواصلون ، وعند الصباح يحمد القوم السرى، وينجلي عنهم غلالات الكرى ... الخ» .

وكتب في آخر الاجازة «حرره بيمناه الدائرة في يوم مولد النبي صلی الله علیه و آله وسلم ربيع الأول ،1352 ، أفقر البرية إلى رحمة ربه الغني محمد حسين

الغروي النائيني» .(1)

إن شيخنا الحلي نتيجة اتصاله بالمشايخ الثلاثة - وهم جهابذة في الفكر الأصولي - تأثر بهم إلى درجة الاعتراف منه - كما تقدم - «أن أصوله

ص: 49


1- راجع نص الاجازة في (الملحق) .

أقوى من فقهه» . ولكن هذا لا يمنع أن اختصاصه كان بالميرزا النائيني وتأثره بأفكاره. ولعل الكتاب الأصولي الذي نقدم له سيكشف مدى الحقيقة العلمية الأصولية التي يتمتع بها شيخنا المعظم ، وتأثره بآراء الميرزا النائيني العظيم .

ه_ - علاقته بالإمام الراحل السيد محسن الحكيم - والمرجعية العامة في النجف :

تقدم أن الشيخ الحلي بحكم منزلته العلمية والاجتهادية ، كان من الممكن أن يتصدى للمرجعية بعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني كما تصدى أقرانه من العلماء، خاصة أن احترام أهل العلم له في المجالس العلمية قبل الاجتماعية والاخوانية خير علامة تقدير له ، وهذه تزكية مناسبة الأهليته لتسنم مركز المرجعية، لكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً .

في الوقت نفسه دعم مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم له تأييداً مطلقاً ، وتبعه كل أصحابه من «الصفوة» (1)، ولم يكن هذا الموقف التأييدي من الشيخ الحلي للإمام الحكيم مبعثه عاطفياً لأنه كان صديقه وزميله في دروس بعض الفرسان الثلاثة (النائيني ، والعراقي والاصفهاني) ولا تعصباً عربياً لأن السيد الحكيم عربي وأغلب المتصدين كانوا من الإيرانيين ، فالقضية في التقليد عند الشيعة الإمامية ترتبط بشروط عديدة، وليس فيها شرط القومية ، أو العصبية المحلية ، إنما هي القناعة الخاصة التي انطلق منها الشيخ الحلي في هذا الدعم المطلق . واستمرار الصلة بينهما قائمة على

ص: 50


1- كان الشيخ الحلي أحد النخبة العلمية التي أطلق عليها اسم «الصفوة» ، وسوف يأتي الحديث عنها في الفصول القادمة

أساس من الأيمان بهذه الحقيقة رغم اختلاف الذوق بين العلمين ، كما صرّح بذلك سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم .

وقد لاحظت في كثير من المناسبات التي تجمعهما كان السيد الحكيم يجل الشيخ ويحترمه بما يشعر الطرف المشاهد هذا التأييد ، مضافاً إلى ما يكن له من المودة والتقدير، فضلاً عن الناحية العلمية ، فقد كان يعتمد رأيه في المسائل التي يتناقش معه فيها، ويأخذ رأيه بكل اهتمام وقبول .

إن عناية واهتمام الإمام الراحل السيد الحكيم من الناحية الشخصية ، يكشف عن مكانته العلمية لديه، وقد ذكر سماحة السيد محمد سعيد الحكيم أن سماحة جدّه الإمام الراحل الحكيم في أواخر أيامه كان كثير الاستفسار عن الشيخ ، وكان يتتبع خبره عن حاله ووحشته بعد ذهاب أصدقائه وأقرانه ، وكان يتألم كثيراً، ويوصينا به ويشيد بمنزلته العلمية .(1)

كما أني على علم واطلاع أن الشيخ كان يلتقي بالسيد ليلاً في مجلسه بالنجف إلا ما ندر، ويطلعه على الكثير مما يرده من الاستفسارات والاستفتاءات ، وحتى الفترة التي اعتكف بها السيد في منزله بالكوفة احتجاجاً على موقف النظام المباد من عملية التسفيرات التي طالت طلاب الحوزات العلمية في العراق ، وخاصة في النجف الأشرف ، وكانت الاتصالات تتم بين السيد والشيخ إما مباشرة أو بواسطة أولاد السيد أو أحد مقربيه .

وحين مرت على العراق أزمات عاصفة سياسية بعد النصف الأول من القرن الماضي، وكان السيد الحكيم في طليعة المعنيين بها والمهتمين بأحداثها نظراً لمكانة المرجعية العامة في العالم الإسلامي ، وزعامة المسلمين الشيعة في العالم خاصة ، كان رأي الشيخ الحلي مؤيداً للسيد الحكيم في كل

ص: 51


1- مقابلة شخصية مع سماحة المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم .

المواقف ، وإن اختلف معه في مبدأ جمع السلطتين الدينية والسياسية في أيام غيبة الإمام المهدي علیه السلام ، لأنه كان يرى أن تعضيد المرجعية الرشيدة تقتضيها مصلحة الإسلام والمسلمين ، ولعله هذا هو «الاختلاف الذوقي» الذي أشار إليه سماحة السيد محمد سعيد الحكيم فيما تقدم .

والشيخ الحلي وإن كان لا يرى التصدي لإقامة حكومة إسلامية في عصر الغيبة - كما أشرنا - ولكنه لا يتخلف من الوقوف إلى جانب الإمام الحكيم في ساعة محنته وما ترتب عليها من أضرار تخص المرجعية الدينية الممثلة للإسلام عامة ، والسيد الإمام الحكيم خاصة .

ويصف أحد تلاميذ الشيخ الحلي وهو آية الله المرحوم السيد محمد حسين الطهراني اللاله زاري علاقة الشيخ الحلي بالإمام السيد الحكيم بأنها كانت متينة للغاية ، والاحترام المتبادل بينهما يدل على معرفة تامة كل منهما لمكانة الآخر ، وأن الشيخ الحلي كان يحرص كل الحرص أن يسدد خطى السيد الحكيم بما يتناسب ومكانته ، حتى أنه في بعض المناسبات يتجاوز الشكليات المجلسية فيحضر في بعض مجالس السيد الحكيم مع الزوار المسؤولين كباقي الحاضرين مسدداً له (1)، قناعة منه بأن تسديد المرجعية الدينية يقتضيها الواجب الشرعي والعرفي .

كذلك لم يكن شيخنا الحلي بعيداً عن الجو السياسي العراقي أو الإيراني حين عصف بالعراق الجمهوري الشأن السياسي الحزبي المتطرف فمثل البعد الاديولوجي بينهما صراعاً عنيفاً انتهى بحرب طاحنة أكلت

ص: 52


1- آيت نور - إصدار مجموعة من تلاميذ السيد الطهراني اللاله زاري : ١٥٩/١ (فارسي) بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة السيد الطهراني / الناشر انتشارات علّامة طباطبائي مشهد الطبعة الأولى ١٤٢٧

الأخضر واليابس في الدولتين ، وكان على مراجع الدين في الدرجة الأولى - بما يتحملون من المسؤولية الاجتماعية، والسياسية - أن يحددوا الموقف الديني من القضية ، وهذا ما اصطدم به الشيخ الحلي وأمثاله ، وفي مقدمتهم المرجع الديني آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ، وأن الموقف لا يختلف بينهما من حيث الرأي الأولي ، فالسيد الخوئي (رضوان الله عليه) متصد بصفته مركز القيادة الدينية في العراق خاصة والعالم الإسلامي عامة ، وشيخنا الحلي يعيش نفس الأمر ولكن درجة المسؤولية الشرعية تختلف عما عاشها السيد الحكيم من قبل والسيد الخوئي لاحقاً ، ولهذا كان الشيخ الحلي يقف إلى جانب المرجعية في مثل هذه الظروف، ويساعدهم في الرأي ، وتحديد الموقف المقتضي ، على أساس تأييد المرجعية الدينية في أحلك ظروفها .

ومن هذا المنطلق المبدئي لم يترك الشيخ الحلي المرجعية الدينية وحيدة تغوص في اعماق السياسة ما لم يشاركها الرأي الذي يقتضيه الشرع الشريف في الميدان الخطير. فالظروف القاسية التي مرّ بها العراق بصورة عامة ، والنجف الأشرف على الخصوص، وما عانته المرجعية الدينية من نظام لم يحترم القيم الدينية، ولا يبالي في اجتثاثها ليخلو له الجو بك_ل فعالياته وليقيم على أطلاله سلطته الدكتاتورية الدنيوية . ورغم هذا فان المرجعية الدينية الشريفة في النجف الأشرف التي كانت تعاني مداهمة الأخطار لكنها كانت تقف إلى صف الشعب لم يرهبها سيف الحاكم، وشراسة الجلادين ، وسجلت موقفاً رائعاً في المحنة السوداء التي مرت على عراقنا ، مثلت الصمود والتضحية والفداء من أجل عقيدتها وقيمها العليا، وشرف الحوزة العلمية النجفية .

ص: 53

الفصل الثاني

عطاء الشيخ الحلي العلمي

أ - عطاء ثر :

في تاريخ المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة مكان الأعلام الحلة عبر منعطف علمي مهم في ميدان الجامعة العلمية الإمامية ، ومرجعيتها الدينية وقيادتها المركزية العامة، بداية من فخر الدين محمد بن إدريس الحلي والمحقق الحلي والعلّامة الحلي ، وغيرهم من جهابذة الحوزة العلمية الحلّية ، ضمن أعلام القرن السادس الهجري ، وأخيراً وليس آخراً الحسين بن علي بن حمود الحلّي من أعلام القرن الرابع عشر الهجري ، باعتراف جهابذة المعاصرين له من فحول العلمين - الفقه والأصول - المهمين في المدرسة الإمامية لمرحلة التكامل العلمي المعاصر ، والتي فتحت آفاقاً واسعة يمكن وصفها بأنها «النقلة العلمية» ذات الأبعاد الأوسع للفقه وأصوله ، حتى وصف الأخير بأنه ليس أقل منزلة علمية من العلامة الحلي .(1)

وإذا سمعنا لشيخنا الحلي الحسين بن علي مكانة علمية كبيرة في مدرسة النجف - رغم محاولاته الجادة في عدم التظاهر والبروز في ميدان المرجعية التقليدية لسبب وآخر حمل سرّه معه إلى القبر حين ودّع دنياه في

ص: 54


1- الطهراني - آيت نور ١٦٠/١

أوائل العشرة الأخيرة من القرن الماضي الهجري (١٣٩٤) - فان تاريخه العلمي ومكانته كشخصية يشار لها في عداد مراجع العلم برزت في الحوزة العلمية التي تحتضنها مدرسة النجف ذات التاريخ العريق لا يختلف عليه اثنان من أهل المعرفة والعلم .

وإلى جانب هذا الشموخ العلمي فانه سجّل له دوراً مركزياً لربط الحاضر بالماضي لتلك النخبة العالية الشأن في الاعلام المعرفي الامامي للذين كان لهم الفضل في إظهار فضل الحوزة العلمية في «الحلة» كشاخص مستقل عن المدرسة النجفية العلمية في مسيرتها التاريخية الضخمة ، وتراثها الحضاري ، وإن كانت جذورها الفكرية تغذت ونمت على أفكار علماء مدرسة الشيخ الطوسي محمد بن الحسن مؤسس مدرسة النجف الاشرف العلمية عام ٤٤٨ ه_ ، وامتداها إلى هذا اليوم، حيث مثلت تاريخاً طويلاً لعمر المرجعية الدينية ومدرستها الفكرية، وأثبتت وجودها الفكري، وعطاءها الأوفر في حقل العلوم الدينية : العقلية منها والنقلية، وخير ما نستدل به على ذلك موسوعتا العلمين : السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة والشيخ أغا بزرك الطهراني في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» إلى جانب عدد كبير من مصنفات التراجم ، وكتب فهارس المؤلفات القديمة والحديثة، ومن هذه المصادر نستطيع استبيان ما قدمه أعلام بيوتاتها العلمية الحلية من ثروة علمية ك_ السرائر لابن إدريس ، وشرائع الإسلام للمحقق الحلي ، والتذكرة للعلّامة الحلي ، وغيرها من المؤلفات لأعلام الحلة ، والتي أصبحت مصدراً لفقه آل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و علم أصوله في مدرسة أهل البيت علیهم السلام .

إن المرحوم الشيخ الحلي هو تلك النبعة الطاهرة التي مثل بعطائه

ص: 55

العلمي سواء في حقل الفقه أو الأصول ما أكد على تطور مهم في إطار هذين الحقلين ، فقد جذر فكره العلمي على فرسان الفقه والأصول في المدرسة العلمية النجفية - كما مرت الإشارة إليه - حيث كان من أبرز تلاميذ الشيخ ميرزا حسين النائيني ، والشيخ أغا ضياء العراقي ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني، والذين هم فرسان الحوزة العلمية الثلاثة في الجامعة العلمية الدينية في النجف الأشرف في الميدان الأصولي والفقهي في أوائل القرن الرابع عشر الهجري .

ب - تركة الشيخ العلمية :

لقد ترك شيخنا الحلي في المجال الفقهي والأصولي بحوثاً مهمة قيمة في ميدان الفكر العلمي، سواء أكانت من تقريرات بحوث أساتذته العظام ، أو ما خلّده تلامذته الكرام من تقريراته وبحوثه .

الأول : عطاؤه الفكري .

وقد حصلت على قائمة لمؤلفاته من مكتبة الإمام السيد الحكيم العامة في النجف تصل إلى عدة مجلدات مخطوطة ، تفضل بها الأخ الأستاذ السيد جواد الحكيم أمين المكتبة ، وبعد الاطلاع عليها يمكننا تصنيفها على الوجه التالي :

أولاً : في مجال الفقه

١ - الاجتهاد والتقليد / ٩٠ صفحة

2 - شرح العروة الوثقى الطهارة / 878 صفحة

ص: 56

٣ - شرح العروة الوثقى الإجارة / ٨٢ صفحة

٤ - شرح المكاسب / شروط العوضين - الغرر / 99 صفحة

٥ - شرح المكاسب / المعاطاة / ٤٤ صفحة

٦ - صلاة المسافر من بحث الميرزا النائيني / ٦٦ صفحة

7 - قاعدة لا تعاد من بحث النائيني / 8 صفحات

8 - قاعدة لا ضرر / ١٨ صفحة

9 - كتاب الصلاة من بحث النائيني / 180 ورقة

ثانياً : في مجال أصول الفقه .

1 - تقريرات خارج الأصول من بحث السيد الاصفهاني على كفاية الأصول في ٥٩٧ صفحة والتي استمرت من سنة ١٣٣٤ - ١٣٣٨ ه_ وهي في

مجلدين .

2 - تقريرات خارج الأصول من بحث الشيخ النائيني في خمسة مجلدات ما يقارب 837 ورقة ، والتي استغرقت ما بين ١٣٤٢ - ١٣٤٨ ه_ ، (أكثر من دورة أصولية) .

٣ - تقريرات خارج الأصول من بحث المحقق العراقي في مجلد واحد تقع في ٥١١ صفحة ابتداء من سنة 1338 ه_ .

٤ - حاشية على أجود التقريرات (وهي تقريرات الميرزا النائيني كتبها السيد الخوئي) في مباحث الألفاظ في ٧٠٦ صفحة .

5 - حاشية على فوائد الأصول (وهي تقريرات الميرزا النائيني كتبها الشيخ محمد علي الكاظمي) في مباحث الأدلة والأصول العملية في 1081

ص: 57

صفحة.

وهما في الواقع الدروس التي كان يلقيها على تلامذته في خارج الأصول طيلة الدورات الثلاثة التي درسها ابتداء من سنة ١٣٦٦ متخذاً الكتابين متناً لدرسه، كما دوّنه هو رحمه الله في هامش المخطوطة .

٦ - رسالة في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه تقع في ١٩ صفحة . 7 _ مباحث أصولية متفرقة في مواضيع شتى .

ثالثاً : كتب مشتركة .

1 - مجموعة مسائل فقهية وأصولية متعددة تزيد على 1000 صفحة .

2 - مجموعة استفتاءات السيد الاصفهاني في ٤١٨ صفحة .

3 - مجموعة استفتاءات الميرزا النائيني في ٤١٤ صفحة .

٤ - كشكول يتضمن مختارات من الطرائف والحكم والروايات التاريخية والنوادر الأدبية والعلمية المختلفة التي انتقاها أثناء مطالعاته ، ويقع فيما يزيد على 300 صفحة .

هذه مجموعة مؤلفات شيخنا الحلي المخطوطة والمصوّرة في مكتبة الإمام الراحل السيد محسن الحكيم العامة في النجف الاشرف _ كما أشرنا إليها.

للاطلاع : ورد في بعض القوائم التي وردت لنا عن مؤلفات المرحوم الشيخ «كتاب كتاب البيع تقريرات الميرزا النائيني» وعند التحقيق ظهر أن الكتاب المشار إليه هو من تقريرات بعض تلاميذ الميرزا النائيني ، وليس للمرحوم الشيخ الحلي مما دوّنه هو في أول المخطوطة ، وإنما استنسخها

ص: 58

للاستفادة منها .(1)

ولدى مؤسسة كاشف الغطاء العامة - قسم الذخائر للمخطوطات في النجف الأشرف ، والتي يديرها الأخ الفاضل الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء - مجموعة من مؤلفات شيخنا الحلي، ولكنها لم تكن بخطه ، وإنما منقولة عنه بخط تلميذه الشيخ محمد حسين الكرباسي (2)، وقد أشرنا إليها في الهامش .(3)

ص: 59


1- كتب هذا التقرير ولدنا السيد محمد علي بحر العلوم بتاريخ ٢٥ جمادى الأول ١٤٢٨
2- محمد حسين بن الشيخ محمد رضا بن محمد علي بن محمد جعفر بن محمد إبراهيم الكرباسي ، ولد سنة 1323 في اصفهان ونشأ بها ، وفي سنة أربعين من الهجرة انتقل إلى النجف ودرس على أعلام الحوزة النجفية الدروس المقررة حوزوياً وحضر بحوث أعلامها كالشيخ الحلي ، وكان حياً في حياة الشيخ جعفر محبوبة ، يقول عنه : وهو اليوم أحد الأفاضل في التحصيل ، منزو ع_ن الن_اس مكبّ ع_ل_ى العمل . راجع محبوبة - ماضى النجف وحاضرها ٢٣٦/٣ - ٢٣٧ .
3- تفضل الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء بتزويدنا صور مجموعة من تقريرات الشيخ الحلي ، وبعد الاطلاع عليها ظهر أنها بخط أحد تلاميذه على الظاهر ، ووردت أسماؤها بدليل مخطوطات مؤسسة كاشف الغطاء العامة : ٦٨ - ٦٩ ، النجف الاشرف - العراق ١٤٢٦ ه_ ٢٠٠٥ لا يوجد اسم المطبعة ، وهي : تعليقة على أبحاث النائيني - أصول فقه ، عدد صفحاتها ٢٩٦ تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٧٠ . تعليقة على أبحاث النائيني - أصول فقه ، عدد صفحاتها ٧٠ تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٧١ . تعليقة على رسالة لا ضرر للنائيني - فقه ، عدد صفحاتها ٣١ خط عام ١٣٨١ ه_ ، تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٧٩ . تقريرات أبحاث النائيني - أصول فقه ، عدد صفحاتها ٢٦٦ خط عام ١٣٧٤ ه_ تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٩٦ . تقريرات أبحاث النائيني - أصول فقه ، عدد صفحاتها ٤٩٥ تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٩٧ . تعليقة على رسالة لا ضرر للشيخ موسى - فقه ، عدد صفحاتها 21 خط عام 1381 ه_ تسلسل المخطوطة في الدليل ٦٨٠ . كما أن بعض من كتب عن حياة الشيخ ذكر من مؤلفات المرحوم شيخنا الحلي في دراسته قائمة تضم أسماء سبعة عشر مؤلفاً فى الفقه والأصول ، ومن المؤسف انه لم يذكر المصادر التي اعتمدها في ذكر هذه الكتب ، يراجع السيد هاشم فياض الحسيني - المصدر المتقدم : 38 .

إن أصول هذه الكتب والرسائل لازالت خطية ومحفوظة لدى ولده الأخ محمد جواد الحلي ، وليت الظروف تساعده على طبعها من أجل فائدة طلاب العلم والمعرفة ، وهذا ما نأمله إن شاء الله ، وإذا لم تتهيأ له ظروفه الخاصة بذلك فعسى أن يسمح بها لجهات علمية لتقوم بطبعها للاستفادة منها .

الثاني : ما تركه تلاميذه من الشيخ العلمي .

إن شيخنا الحلي ترك عطاء علمياً ثراً فقهياً وأصولياً، نستعرضهما بإيجاز وهي :

أولاً : تقريرات تلاميذه .

1 - تقريرات سماحة السيد على السيستاني في الفقه والأصول.

2 - تقريرات سماحة السيد محمد سعيد الحكيم، وتتضمن ما يلي :

أ - تقرير بحث أستاذه المحقق الحلي في علم الأصول، ويقع في مجلدين ، وقد اشتملا على مبحث الاستصحاب ولواحقه ، ومبحث التعارض .

ب - تقرير بحث أستاذه الحلي في الفقه ، ويقع في مجلدين . ٣ - تقريرات سماحة السيد محمد تقي الحكيم في الفقه والأصول .

ص: 60

٤ - تقريرات سماحة الشيخ حسن السعيد ، وقد تضمنت بعض المسائل الفقهية كالتقية والعدالة وصلاة الجمعة وغيرها .

٥ - تقريرات الشهيد السيد علاء الدين بحر العلوم في علم الأصول .

٦ - تقريرات الشهيد السيد عز الدين بحر العلوم في الفقه والأصول .

7 - تقريرات سماحة الشيخ عباس النائيني في الفقه والأصول .

8 - تقريرات سماحة الشيخ جعفر النائيني في الفقه .

9 - تقريرات الشيخ الشهيد ميرزا علي الغروي .(1)

١٠ - تقريرات المرحوم السيد محمد حسين الطهراني اللاله زاري في الفقه والأصول .(2)

وكان بودي أن أوثق كل ما مر ، سواء مما كتبه هو رحمه الله ع_ن أساتذته ، أو ما كتبه تلاميذه من دروسه وتمكنت أن أطلع على بعض تقريرات تلاميذه حيث أشرت لها بالخاتمة ، ومنها :

- تقريرات الشهيد السيد علاء الدين بحر العلوم في الفقه، وقد اطلعت على مخطوطة هذا التقرير ، وجاء في بداية الصفحة الأولى منه :

«قال شيخنا الأستاذ العم الحلي دامت بركاته : الفقه : وقد عرف بانه عبارة . . .» .

وجاء في نهاية الصفحة الثانية من هذه المخطوطة الآتي : «لقد عدل سيدنا العم دام ظله عن متن الشرائع، وأخذ في دراسة العروة الوثقى للسيد

ص: 61


1- كاظم عبد الأمير الفتلاوي - المنتخب من أعلام الفكر والأدب : ٣١٢
2- قال السيد محمد حسين الطهراني اللاله زاري في كتابه آیت نور : ج ١٦١/١ (فارسي) طبع إيران : أنه حضر بحث الشيخ في الأصول ودورة كاملة في المكاسب ، وبعض من كتاب الطهارة ، وكتب تقريراته

الطباطبائي اليزدي . كما أرخ بداية بحث الشيخ هذا في يوم السبت ٧ ذي القعدة سنة ١٣٧٥ .

و - تقريرات السيد الشهيد علاء الدين في موضوع «الاجتهاد والتقليد» وقد أشار السيد الشهيد إلى تاريخ الشروع في هذا البحث في 10 جمادى الأولى عام ١٣٧٥ .

و - تقريرات الشهيد السيد عز الدين بحر العلوم عن بحث الشيخ في كتاب الطهارة بدأ به في سنة 1377 ه_، وكان حديثه في حرمة تنجيس المشاهد المشرفة كالمساجد ، جاء فيه «وقال شيخنا الأستاذ متعنا الله ببقائه : يبحث في هذه المسالة من جهتين . . .».

ثانياً : المطبوع منها .

وقد طبع في المجال الفقهي منها - حسب اطلاعي - كتابان ، هما :

الأول : كتاب دليل العروة الوثقى للمرحوم الشيخ حسن سعيد الطهراني ، وتضمن تقريرات الشيخ الحلي لشرح كتاب «العروة الوثقى» للمرحوم آية الله السيد محمد كاظم اليزدي الطباطبائي المتوفى عام ١٣٣٧ ه_ ومتابعة كثير من مبانيه الفقهية ، ومناقشة أدلتها ، وقد عرفه الشيخ - رحمه الله - حيث قال :

وكان من نعم الله تعالى التي لا تحصى أن وفقني لإلقاء بحوث في الفقه على نخبة من طلائع أهل الفضل تعليقاً على كتاب «العروة الوثقى» لآية الله العظمى السيد الطباطبائي وكان ممن حضرها وضبط دقائقها وحررها فضيلة العلّامة المحقق الثقة قرة عين الفضل ، جناب الشيخ حسن

ص: 62

أغا سعيد نجل آية الله الشيخ الأجل الحاج الميرزا عبدالله الطهراني ... وقد أطلت النظر في الكثير مما حرر في هذا الكتاب عني فوجدته وافياً بما هو المراد ، مستوعباً لجملة ما ذكرته في مجلس الدرس بتعبير ج_زل وبيان جميل . فشكرت الله عز وجل أن كان في طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف أمثاله من العلماء الأجلاء ممن تفخر بهم الحوزة . وأن من بواعث غبطتي وسروري أن ألمس بنتاجه هذا ثمرات ما بذلته من جهد متواضع في إعداد أمثاله من أعلام الحوزة فشكراً له تعالى على ما منحني من توفيق وأساله تعالى أن يأخذ بيده ويوفقه لمواصلة اجتهاده في طلب العلم، وكسب الفضائل الإلهية ويسدده وينفع به الأمة بعلمه وينفعني بدعائه والسلام عليه وعلى إخواننا المؤمنين كافة ورحمة الله وبركاته . حسين الحلي ٩/ج 1379/2» .(1)

وجاء في نهاية الكتاب «هذا هو الجزء الأول من دليل العروة الوثقى ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين ولم أطلع على الجزء الثاني ولعله لم يطبع بعد .

وقد تضمن الكتاب مبحثي المياه والنجاسات، ويقع في 552 صفحة ، وقد أخبرني ممن له علاقة بعائلة المؤلف أن الأجزاء البقية من الكتاب لازالت خطية موجودة لديهم ، وأخبرت أن الجزء الثاني من هذا الكتاب قد طبع ، ولكني لم اطلع عليه ، أرجو أن يهيئ الله لتراث الشيخ من يطبعها للفائدة العامة .

ص: 63


1- حسن سعيد - مقدمة دلي_ل العروة الوثقى : ١/المقدمة ب - ط / طبع في النجف / مطبعة النجف 1379 .

كما ضم الجزء الأول من الكتاب مقدمة ضافية تحدث فيها عن تطور الفقه من بدو نشأته إلى يومنا هذا ، وقد مرّ بأدوار سبعة، وتحدث عن الأدوار السبعة بايجاز .(1)

الثاني : كتاب «بحوث فقهية» للشهيد السيد عز الدين بحر العلوم من تقريرات آية الله العظمى الشيخ الحلي، ضم مواضيع هامة تمس حاجة المُقلد في يومه هذا ، خاصة فيما يتعلق بالمسائل المستجدة في هذا العصر کمسائل تخص البنوك وشرعيتها، والمعاملات المصرفية، وما يتخللها من عمليات مثار إشكال شرعي ، ومسألة التأمين وأنواعه ، والذي أصبح في هذه السنوات جزءاً من المعاملات التي يتداولها سوق الإنسان في مسيرة حياته اليومية ، وكذلك اليانصيب، والتعامل بالأوراق النقدية، وتصفية الوقف الذري، وحقوق الزوجية، والسرقفلية، وقاعدة الإلزام ،وتطبيقاتها ، والبيع القهري ، وإزالة الشيوع ، وغيرها من المواضيع الهامة التي يعيشها المواطن هذا اليوم ، ويحتاج لها حكماً شرعياً في التعامل بها .

ص: 64


1- تحدث الشيخ حسن سعيد في مقدمة كتابه دليل العروة الوثقى : ١/المقدمة ب عن تطور الفقه ، وأنه : مرّ بسبعة أدوار ، هي بإيجاز : 1 - دور التشريع ، من مبعث النبي إلى يوم وفاته . 2 - دور البيان والتدوين والتسجيل والنشر من وفاته إلى يوم زمان غيبة الحجة عام ٣٢٨ ه_ . ٣ - دور التبويب من زمان الغيبة إلى زمان الشيخ المفيد له (٤٠٠ ه_ ) . ٤ - دور التنقيح من زمان الشيخ المفيد إلى زمان ابن إدريس له (٥٥٥ ه_ ) . ٥ - دور الاستدلال والاستنباط من زمن ابن إدريس إلى زمان المحقق والعلّامة (الحليين) (٦٨٠) ه_ . ٦ - دور التوسعة والتدقيق ، وهو دور المحقق والعلّامة ومن بعدهما . 7 - دور التكامل ، وهو دور الشيخ الأنصار الله ومن بعده إلى يومنا هذا .

وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب ما قاله المرحوم الشيخ نفسه :

وبعد ، فقد كثر الحديث والتساؤل عن موقف الشريعة الإسلامية المقدسة من بعض المسائل المهمة التي اقتضتها طبيعة عصورنا هذه، ولم تكن موجودة في عصر الرسالة ، وعصور حماتها من أئمة أهل البيت علیهم السلام .

وكان هذا من بواعث الرغبة في نفوس جملة من أفاضل أهل العلم ممن اعتادوا حضور دروسنا في الفقه والأصول في أن أجعل هذه المواضيع محوراً للدرس والبحث ، وإن ممن حضر تلك الدروس ووعاها ودوّن الكثير منها ولدنا الأعز العلّامة السيد عز الدين بحر العلوم وفقه الله تعالى . ثم بدا له أن يوسع في بحوثها ، ويعززها بجملة من المصادر الحديثة التي عنيت بتحديد موضوعاتها ، ويضيف إليها مواضيع لم يسبق لي تدريسها ، ولكنه استخلص رأيي فيها بالمذاكرة ، فكان له من كل ذلك هذا الكتاب الجليل .

ولقد سرحت النظر في كل ما كتبه فوجدته قد أوفى على الغاية فكرة وأسلوباً ، واستوعب كل ما يتصل بها من بحوث ، ورأيت آرائي التي استقاها في مجلس الدرس أو المذاكرة ممثلة فيه بأمانة ودقة . وهذا ما يبعث في نفسي التفاؤل والأمل الكبير في أن ما بذلته من جهد في إعداد أمثاله من أهل الفضل في النجف الأشرف لم يذهب سدى والحمد الله تعالى ، بل جاء بأطيب الثمرات .

أخذ الله تعالى بيد مؤلفه الفاضل ، وبارك في جهوده ، ونفع به إخوانه من المؤمنين ، إنه ولي التوفيق . حسين الحلي ٤ ذي الحجة الحرام 1383 ه_ .(1)

ص: 65


1- عز الدين بحر العلوم - بحوث فقهية : ص ١ طبع الديواني بغداد 1990 (الطبعة الرابعة) .

وقد طبع هذا الكتاب أكثر من مرة نظراً إلى أن المواضيع المبحوثة تلامس حاجة الناس ، والتي فرضتها مقتضيات المجتمع المتطور، والذي يرى ضرورة قبول الشريعة الإسلامية لها تيسيراً للحالة الإنسانية والاجتماعية .

ويقع الكتاب في ٣٣٦ صفحة ، وكان له وقع كبير في الأوساط العلمية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة وأن القضايا المستجدة في مسيرة الحياة اليومية بحاجة إلى تقنين شرعي يبرر قبول العمل بها ، فالدين يسر ، وليس عسر .

مميزات بحثيه الفقهي والأصولي :

ويلاحظ أن شيخنا الحلي وجّه بحثه الفقهي إلى مسارين متوازيين : الأول : أن لا يتعدى الخط التقليدي، وهو ما نهجه في بحثه حول كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي ، كبحوث الطهارة ، والنجاسات ، والصلاة والصوم، وإلى آخر العبادات ، ثم الانتقال إلى المعاملات ، وهكذا إلى آخر أبواب الفقه ، كما هو جار في المصادر الفقهية المعروفة . وكتاب الشيخ حسن السعيد يتضمن هذا الخط التقليدي ، وكذلك في كتبه الخطية .

الثاني : كشفه الشهيد الأخ عز الدين بحر العلوم في كتابه القيم «بحوث فقهية» وهو خلاصة أفكار شيخنا الحلي في كثير من قضايا ومسائل الساعة المستحدثة التي يتطلبها الإنسان في حياته العامة والخاصة ، كالتلقيح الصناعي ، ومعاملات البنوك ، والشوارع المفتوحة من قبل الحكومة، واليانصيب ، وأمثالها من المواضيع التي يصطدم بها الإنسان في مجتمعه المدني كل يوم، وخاصة في السنوات التي توسعت فيها الحضارة ،

ص: 66

وتقدمت بها المدنية الحديثة كما أشرنا إليها .

الشيخ الحلي الأصولي :

ذكر الشيخ الحلي البعض تلاميذه قائلاً: «إني مشهور عند الناس بالفقه وأصولي أقوى من فقهي» وليس بالبعيد منه هذا القول، فلقد تأثر شيخنا بفرسان علم الأصول في عصره ، وهم : الميرزا النائيني ، وأغا ضياء العراقي ، والسيد أبو الحسن الاصفهاني .

ومنهجه في بحوثه الأصولية - كما نقل عنه - يمتد إلى المدرسة الأصولية التي تصل إلى الشيخ الأنصاري وطلابه الذين تبنوا منهجه في محاولاته التجديدية، ومميزاته التي أعطت المدرسة الأصولية الحديثة حيوية ونشاطاً لم تعهد قبلا بالرغم من انحسار التيار الأخباري ، فلم يكن مثل هذا النشاط مجرد رد فعل للتيار المذكور ، بل هو انفتاح لأفاق جديدة لعلم الأصول ، وتسرب الفكر الفلسفي والدقة العلمية بالتدريج إلى الفكر الأصولي ، واجتماع خيرة القدرات العلمية من أرجاء هذه المدرسة ، انتهت إلى حدوث تطورات واسعة وسريعة جداً ، بحيث نجد الطلاب الذين ينتهون من الرسائل في هذا اليوم يشعرون بالقفزة الكبيرة بين ما درسوه في مرحلة السطوح وما يدرسونه في البحث الخارج ، حتى كأنهم يحتاجون إلى استيعاب ما دوّنته الأجيال الثلاثة من أفكار عميقة بعد الشيخ ، كي يمكنهم استيعاب ما يطرحه أساتذة الخارج في عصرنا هذا .(1)

ص: 67


1- منذر الحكيم - تطوّر الدرس الأصولي في النجف الأشرف (بحث) منشور ضمن موسوعة النجف الأشرف - إصدار جعفر الدجيلي ١٩3/7 - ١٩٤/طبع بيروت دار الأضواء 1997 .

إن الشيخ الحلي كان يهتم كثيراً ببلورة آراء أساتذته ، ثم يعطي الرأي المختار فيها ، اعتقاداً منه أن طلابه يجب أن يطلعوا على أفكار الأساتذة الذين

سبقوه في الموضوع ، التي تعبر عن تطور الفكر الأصولي تبعا لأساتذتهم.

وليس معنى هذا أن لا يكون له رأي في الموضوع ، وكمثل على ذلك انطباعات السيد محمد تقي الحكيم عن محاضرات أستاذه الأصولية ، فقد نقل استاذنا المرحوم السيد محمد تقي الحكيم عن انطباعاته لمحاضرات أستاذه الشيخ الحلي في الأصول ، وآرائه المميزة ، نذكر منها الآتي :

١ - في التعريف :

يرى أن إضافة كلمة أصول إلى الفقه تعطي أن لكل مسألة استقلالها الذاتي في القيام بوظيفتها، ولا ارتباط لها بالباقي ، ولذا لا تكون مسائل أصول الفقه علماً واحداً ، وإنما هي مجموعة مسائل لها مدخلية ما في استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العقلية ، شرعية أو عقلية . ومدخليتها في الاستنباط قد تكون مباشرة كالكبريات المنتجة لها، وقد تكون غير مباشرة كمباحث الألفاظ التي تقع صغريات - غالباً _ للقياس الشرعي .

وبناء عليه إذا لم تكن علماً قائماً بذاته استغنينا عن التماس بحث موضوع العلم وما يتعلق به من بحث الأعراض .

وكذلك لا خصوصية لما ذكر من مباحث الألفاظ دون بقية البحوث اللغوية أو النحوية ، وكل ما هنالك أن هذه البحوث لم تقع بحثاً في مضانها فحررت هذه في الأصول .(1)

2 - تحقيق مصطلح «الحكومة» و«الورود :

ص: 68


1- السيد محمد تقي الحكيم - انطباعاتي عن محاضرات الشيخ حسين الحلي في الأصول : 1 (مخطوط)

حيث إن هاتين الكلمتين مصطلح متأخر جرى على ألسنة بعض أعلام النجف منذ ما يزيد على القرن ، وتداول على ألسنة جميع الأعلام بعد ذلك ، وبحثوا كل ما يميزهما عن التخصيص والتخصص، وهما المصطلحان اللذان شاع استعمالهما على ألسنة الأصوليين قديماً وحديثاً . والمعروف أن الشيخ الأنصاري - رائد المدرسة الأصولية في عصره المتوفى 1281 ه_ _ هو أول من وضع هذا الاصطلاح وتبنى مفاهيمه ، إلا أن أستاذنا الشيخ حسين الحلي تتبع هذا المصطلح فوجده في كتاب «جواهر الكلام في أكثر من موضع ، وصاحب الجواهر (الشيخ محمد حسن) أقدم طبقة منه ، وإن كانت بينهما معاصرة .(1)

3 - الوضع :

يقول أستاذنا السيد محمد تقي الحكيم - تغمده الله برحمته _ :

«قال أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي تيل بعد أن ناقش مبدأ التوقيفية في اللغات ودعوى أن الواضع هو الله عز وجل : ثم إن الوضع وليد الحاجة بين طبقات البشر لغرض التفاهم وسير حركة الحياة ، وهو يختلف باختلاف الأمم والأزمان ومقدار الحاجة إليه» .

وأضاف سيدنا الأستاذ الحكيم : ومن رأي أستاذنا الشيخ حسين الحلي لا أن الوضع لدى البدائيين يختلف عنه لدى الأمم المتحضرة من حيث توفر عنصر الإرادة فيه ،وعدمه، فهو لدى البشر في بدأ تكوينهم لم يكن سوى تعبير لا شعوري عن حاجة من الحاجات يصدر عنه ، كما يصدر أي صوت من أي حيوان ، وكما يصدر البكاء منه عندما يحس بما

ص: 69


1- محمد تقي الحكيم - الأصول العامة : 87 ، هامش 1 من الصفحة نفسها طبع قم / مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر 1979 (الطبعة الثانية)

يدعوه إلى الألم والبكاء . فالبكاء في حقيقته تعبير عن الألم كما أن الألفاظ تعابير عن معانيها ، ومثل هذا التعبير في حقيقته تعبير عن الألم ، كما أن الألفاظ تعبير عن معانيها ، ومثل هذا التعبير لا يسبق بتصور . ثم يقول : أما بعد تبلور اللغة وتطورها فهذا الكلام ربما يتأتى فيه ، لأن الواضعين سواء في الأعلام الشخصية أم غيرها يسبقون الاستعمال باختيار اللفظة وتصورها بعد تصور المعنى الموضوع» .(1)

وينتهي أستاذنا التقي الحكيم قائلاً : ومن هنا يرى أن تقسيمات الوضع القادمة لا تتأتى من البدائيين ، وإن صح ورودها بعد مرور البشر بمراحل حضارية .(2)

المرجعية المعاصرة تعتمد آراء الشيخ الحلي :

١ - إن القارئ لكتاب «المحكم في أصول الفقه» (3)لسماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) يجد آراء الشيخ الحلي في أغلب أبواب الأصول ومواضيعه منتثرة بين سطوره نقاشاً واستشهاداً رغم أن الكتاب ليس من تقريرات الشيخ له بل هو من تأليفات السيد (حفظه الله) وعلى ما علمت منه أنه يحتفظ بتقريرات بحث الشيخ .

2 - وبأمر من سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي

ص: 70


1- محمد تقي الحكيم - من تجارب الأصوليين : ٢٦ - ٢٧/طبع بيروت المؤسسة الدولية (الطبعة الثانية) 2002 عن السيد علاء بحر العلوم - مصابيح الأصول ٣٧/١ وعن كتابه : انطباعاتي عن محاضرات الأستاذ الشيخ حسين الحلي (مخطوط) .
2- المصدر المتقدم : ٢٧
3- المحكم في أصول الفقه مطبوع في ستة مجلدات يتناول بحوث الأصول في جوانبه المتعددة ، وقد طبع مرتين ، الطبعة الثانية طبعت في مؤسسة المنار عام ١٤١٨ - ١٩٩٨ .

السيستاني (دام ظله) تألفت لجنة لإعداد طبع دورة كاملة أصولية للمرحوم الشيخ الحلي كتبها نفسه، ولا زالت اللجنة مشغولة بها، وللعلم أن هذه الدراسة الموجزة عن حياة شيخنا الأستاذ الحلي ستكون مقدمة لهذا الكتاب ، الذي سيرى النور عن قريب إن شاء الله

والخلاصة : أن الشيخ الحلي في بحوثه الفقهية والأصولية نجد فيها الرأي الدقيق والعمق الفكري ، وأنه اجتهد أن تكون بحوثه ملامسة الواقع المعاش وخاصة في البحوث الفقهية .

ويصف أحد طلاب الشيخ محاضراته وما فيها من جدة وتطور علمي ، وكان حينها يحاضر في «الوضع» وتصور أنه يتناول بحث الوضع على نهج مشايخنا في الأصول ، فلما دخل في بحث الوضع وجده أنه من ينحو في هذه المسألة نهج الدراسات الحديثة في تكوين اللغة، ويواصل المتحدث فيقول : وهي شيء جديد لم نعهده من قبل عند أساتذتنا ومشايخنا (رحمهم الله) وكان يضرب لنا مثلاً في ذلك بتكوين اللغة عند الطفل وتكاملها لديه، فكان يقول : إن اللغة أية لغة تتكون بنفس الطريقة التي تتكون فيها اللغة عند الطفل، غير أن اللغة عند الأطفال تتكون في بضع سنين ، واللغة عند الشعوب والأمم تتكون في بضع (قرون» .(1)

من تتلمذ عليه ؟

- قال أحد طلابه :

«... كان الشيخ الحلي مداراً للبحث والتحقيق ، ومحطاً لأنظار أهل

ص: 71


1- سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي ، حديث خاص في ٥ صفر ١٤٢٨ ه_ .

الفضل، يأمّونه للارتواء من مناهل ،علومه، لما عُرف به من غزارة العلم ، وعمق التجربة، وسعة الأفق، ووفرة الاطلاع . وقد تخرّج على يديه جيل من أهل العلم ، هم الطليعة اليوم في جامعة النجف» .(1)

فقد ذكر بعض من كتب عنه في حقل من تتلمذ عليه : كان عددهم ثلاثة وخمسين شخصية علمية ، بعضهم تسنم زعامة المرجعية الدينية العامة كآية الله العظمى السيد علي السيستاني ، وآية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم ، وهما من المراجع العظام اليوم . وآخر تعرض لذكر من تتلمذ عليه فعد أكثر من هذا العدد .(2)

الحقيقة التي شاهدتها - وعلى معرفة تامة بأغلب الشخصيات العلمية التي كانت تحضر بحث سيدي الأستاذ - أن وجوه الحوزة العلمية حينذاك هم من الملتزمين بالحضور في أغلب حلقات بحوث الشيخ الحلي الفقهية والأصولية لغرض التعرف على مدى عمق المحاضرين في المادة العلمية ، وسعة آفاقهم المعرفية في مدرسة النجف الأشرف العريقة، وللاستفادة من تضلعهم الفكري في مجالات الاختصاص ، ولذا نرى أن الكثير من طلاب العلم قد يحضر على أكثر من أستاذ حلقة بحث خارج للاستفادة من تنوع أفكار المحاضرين .

ص: 72


1- المرحوم الشيخ حسن السعيد - دليل العروة الوثقى : ١ المقدمة ج/طبع مطبعة النجف 1379 .
2- راجع في هذا الصدد هاشم الحسيني - لمحات من حياة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي : 20 - 21 طبع النجف إصدار مركز البحوث والدراسات الإسلامية الطبعة الأولى 200٤ ، ومحمد شریف رازي - کنجینه دانشمندان 280/7 (فارسي) طبع قم مطبعة برويز ، ومجلة الموسم إصدار محمد سعيد الطريحي العدد ١١ المجلد الثالث ص 797 .

والشيخ الحلي حين يتحدث في المادة التي يحاضر فيها فهو يعبّر عن خلاصة أفكار فرسان المادة وعرض آرائهم المتنوعة فيها، وهذا ما يروق لنخبة من أهل العلم الذين يهتمون للعمق المعرفي .

يقول أحد تلاميذه في ترجمته لأستاذه : «في أي وقت يسأل الشيخ عن رأيه في مسألة سواء كان في الدرس أو في خارجه وما هي فتواه يكون جوابه لا شأن لي بالفتوى ، إن عملنا أن نبحث حول المسألة في الكتب ونستنسخها لنناقشها مع الأصحاب .

ويتم السيد اللاله زاري حديثه عن أستاذه فيقول :

«كان الشيخ رجلاً دقيقاً في كل المسائل ، وتحقيقاً لا أستطيع أن أقول إن الشيخ حسين الحلي أقل من العلامة الحلي» .(1)

وآخر ممن تتلمذ عليه ذكر لي قائلاً :

«حضرت أبحاث شيخنا الفقيه المحقق آية الله الشيخ حسين الحلي مدرن وكان له درسان في الفقه والأصول ، وكنت أقتصر على درسه في الأصول ، وأذكر أن درسه في الأصول يومئذ كان في مباحث الألفاظ - وفي غرفة في الضلع الشرقي من الصحن الشريف - ولم أستسغ الدرس لأول وهلة بسبب أسلوبه البياني في التدريس ، غير أني وجدت أن وراء هذا الأسلوب البياني الذي لم أستسغه لأول وهلة علماً جماً، ومعرفة غزيرة بكلمات الأعلام وآرائهم ، ونضجاً وجدة في الطرح . . .

وكان متأثراً بآراء أستاذيه فقيهى العصر المحقق النائيني ، والمحقق أبحاثه نهج أستاذه الفقيه العراقي ولكن يغلب عليه فيما حضرته من

ص: 73


1- آیت نور : 158/1 (ترجم عن الفارسية) طبع ايران .

العراقي الشيخ ضياء الدين .

ومن أبرز خصاله الشخصية تحرره عن التكلف ، وبساطته في المعيشة ، وفي علاقاته الاجتماعية مع تلامذته و مع سائر الناس ، وابتعاده عن الزعامة ، وما تكتنفها من القيود والكلفات» .(1)

لقد أشرنا فيما سبق أن شيخنا الحلي تأثر بأستاذه الشيخ النائيني ، ونظرة إلى ما سجله من تقريرات أستاذه النائيني ، وما عبر عنه بأنه أفضل تلامذته ، وتوجيه من طلب منه طبع رسالته بغية تقليده فيرشده إلى رسالة الشيخ النائيني ، يتأكد بأن الشيخ تأثر بالنائيني كثيراً .

وليس معنى هذا أن الآخرين من أعلام الحلقات العلمية لم يتطرقوا إلى هذا الجانب، إنما كانوا يختصون بأفكارهم ويناقشون أفكار مخالفيهم في المسألة .

ومن هنا نرى أن حلقة بحث الشيخ الحلي تقتصر على النخبة ممن يهتم لهذا الجانب التحقيقي ، ولذا نرى أن حلقة بحث الشيخ الحلي العلمية لم تصل إلى ثلث حلقة الآخرين ممن هم بدرجته من العلم والمعرفة .

وهذا ما يرشدنا إلى التعرف على مزية مهمة للشيخ هي : إذ كان يهتم لكل طالب من طلابه الجادين الذين يكتبون بحثيه يومياً، ويهتم كثيراً على الاطلاع مما كتبه ، فإذا رأى نقصاً أو تشويشا لرأيه علّق على الصفحة بخطه .

وتصوري أن الاهتمام في الأمور العلمية يأخذ الجانب الكيفي، ، لأن الجانب الكمي لا قيمة له بالنسبة للجانب العلمي، ومن هنا نستطيع أن نفسر عدم اتساع عدد أفراد الذين يحضرون بحثي الشيخ في الفقه

ص: 74


1- الأصفي - حديث خاص تقدمت الإشارة إليه .

والأصول، كما كان في بحثي المرجعين المعاصرين له ، وهما العلمان الكبيران : السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي .

وحين أستعرض لذكر تلاميذ شيخنا الحلي فأنا أسجل أسماء من أعرف أنهم لازموا البحث ، وأسجل حضور الآخرين معتمداً على بعض المصادر ، سأشير إلى ذكرها في الهامش. وأعتقد أنه لا يمكن اعتبار جميع من ورد اسمه في هذه القائمة من طلابه الملازمين البحوثه ، فبعضهم حضر في فترات متفاوتة، ولذا يمكن اعتبارهم طبقتين . وفي مقدمة الملازمين المرجعان السيد السيستاني ، والسيد محمد سعيد الحكيم (حفظهما الله) وكذلك الأخوان العلمان السيد محمد حسين ، والسيد محمد تقي الحكيم ، والشهيدان السيدان علاء الدين، وعز الدين بحر العلوم، وغيرهم ممن لا أستحضر أسماءهم بالضبط ، وسوف أورد أسماء الجميع حسب الحروف الهجائية معتمداً على المصادر التي تشير إلى ذلك :

الشيخ إبراهيم الشيخ صفر علي المشكيني الاردبيلي (١٣٤٣ - ١٤١٦) .(1).

السيد إبراهيم الكماري بن ساجد السيد باقر الزنجاني التبريزي (..١٣٨٦) (2).

السيد إسماعيل السيد حيدر الصدر (١٣٤٠ - ١٣٨٨) .(3)

السيد تقي بن السيد حسين الطباطبائي القمي (١٣٤١) (4).

الشيخ جعفر محبوبة (131٤ - 1378) .

ص: 75


1- ذكره مجتهدي عن كتاب أصحاب الإجماع : 283 .
2- محمد هادي الاميني - معجم رجال الفكر والأدب ٦٤٣/٢ وكاظم عبد الأمير الفتلاوي - المنتخب من أعلام الفكر والأدب : ١٣
3- الفتلاوي - المصدر المتقدم : ٥٣ .
4- الاميني - المصدر المتقدم : 1018/3 ، والفتلاوي - المصدر السابق : ٧٢ .

السيد جعفر المرعشي (١٣٢٦ - ١٤٠٧) .

الشيخ جعفر ميرزا علي النائيني (١٣٦٢) .

السيد جمال الدين السيد رؤوف الملايري (1309 - 1382) (1).

الشيخ حسن سعيد الطهراني (١٣٤٣ - ١٤١٦) .

الشيخ حسن الشيخ محسن الجواهري (١٣٢٠ - ١٤٠٨) .

السيد حسن المرتضوي الشاهرودي (١٣٥١) (2).

السيد حسن موسى الشميساوي (١٣٣٩ - ١٤٠٩) .

السد حسين باقر الموسوي الهندي (1328 - 1383) (3).

السيد رضا السيد زين العابدين الخلخالي الموسوي (١٣٤٧ لم يعثر على رفاته بعد سقوط النظام الصدامي المباد الذي اعتقله) (4).

السيد رضي السيد محمد حسين الشيرازي (١٣٤٥) .(5)

الشيخ صادق الشيخ باقر القاموسي (١٣٢٨ - ١٤٢٣) (6).

السيد ضياء الدين الاشكوري النجفي (١٣٥٦ - ١٤٢١) (7).

السيد عباس الحسيني الكاشاني (١٣٥١).

ص: 76


1- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان 173/7
2- ذكره مجتهدي وذكره السيد رضي المرعشي عن أب_ي_ه ال_م_رح_وم الس_ي_د جعفر المرعشي أنه كان زميلا له في بحث الشيخ
3- الأميني - المصدر السابق ١٣٤٧/٣ ، والفتلاوي - المصدر المتقدم : ١٢٠ .
4- ذكره سماحة السيد رضي المرعشي أنه كان زميل أبيه في درس الشيخ .
5- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان : ٢٨٤/٧ ، والفتلاوي - المصدر السابق : 155 .
6- ذكره السيد الحسيني - الفيض القدسي في ترجمة العلمين من آل القاموسي : 78 منشورات مركز الحكمة للدراسات الإسلامية - النجف
7- ذكره محمد شريف رازي - كنجينهٔ دانشمندان : 280/7 .

السيد عباس المدرسي اليزدي (١٣٦٢) (1).

الشيخ عباس ميرزا علي النائيني (1358) .

الشيخ عبد الجليل الشيخ ميرزا هادي كرمانشاهي الجليلي (١٣٤٢) .

السيد عبد الرزاق السيد محمد الموسوي المقرم (1311 - 1391) (2).

الشيخ عبد الرضا الروحاني القوچاني (١٣٤٥) .

السيد عبد الرسول شريعتمداري جهرمي نزيل قم (١٣٤٧) (3).

الشيخ عبد الرسول الواعظي (١٣٥٣ - ١٣٨٦) (4).

السيد عبد العزيز السيد جواد الطباطبائي اليزدي (١٣٤٨ - ١٤١٦) (5).

السيد عبد الكريم آل علي خان (١٣١٧ - ١٤١٠) (6).

السيد عبد المجيد شمس الدين السيد عبد العظيم الحسيني الكابلي .(1343 - ...) .(7)

الشيخ عبد المهدي الشيخ عبد الحسين مطر (1318 - 1395) (8).

ص: 77


1- ذكره مجتهدي .
2- الاميني - المصدر السابق ١٢٣١/٣ .
3- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان : ١١/٥
4- ذكره الحسيني - المصدر السابق : ٢٠
5- ذكره محمد شريف رازي - کنجینه دانشمندان : 280/7 . ولم يرد اسم الشيخ الحلي في ذكر أساتذته ضمن من ذكرهم المرحوم السيد عبد العزيز نفسه في الترجمة التي كتبها بطلب من المرحوم السيد حسن الأمين ونشرت في مستدرك أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين 133/8/طبع دار التعارف بيروت ، وكذلك الفتلاوي - المصدر المتقدم : ٢٥٥ .
6- ذكره مجتهدي والفتلاوي - المصدر المتقدم : ٢٦٦ عن ذكراه المطبوعة .
7- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان : ١١٩/٦
8- ذكره الحسيني - المصدر السابق : ٢٠ ، في حين لم يشر محبوبة - المصدر السابق ٥٧/٣ إلى اسم الشيخ الحلي حين ذكر أسماء أساتذته ، وكذلك الفتلاوي - المصدر السابق : 2091

الشيخ عبد الهادي حموزي ( . . . - ١٣٩٤) (1).

السيد الشهيد عز الدين بحر العلوم (١٣٥٢ - لم يعثر على رفاته بعد سقوط النظام الصدامي عام 2003) .

السيد الشهيد علاء الدين السيد علي بحر العلوم (١٣٥٠) - لم يعثر على رفاته بعد سقوط نظام صدام عام 2003)

الشهيد الشيخ ميرزا علي بن أسد الله بن حسن التبريزي الغروي . (١٣٤٩ - ١٤١٩) .(2)

الشيخ علي حرج ( ... - ....) (3).

الشيخ علي زين الدين بن الشيخ عبد العزيز (١٣٣٩ - ١٤٠٦) .(4)

السيد علي السيستاني (١٣٤٩) .

الشيخ علي الشيخ قاسم المعروف بقسام (١٣٢٥ - ١٤٠٠) (5).

ص: 78


1- ذكره الحسيني - المصدر السابق : 20 . ولم أعثر في مصدر آخر ممن يشير إلى أساتذته من يذكر الشيخ الحلي
2- الفتلاوي - المصدر السابق : 311 عن ولده الشيخ جواد الغروي ، وله تقريرات الأصول من بحث الشيخ الحلي / مخطوط
3- نقل سماحة السيد محمد صالح الحكيم عن والده آية الله السيد محمد علي الحكيم أن الشيخ علي حرج كان ثالث زميل لهم في درس المكاسب عند الشيخ الحلي .
4- ذكره الحسيني - المصدر السابق : 20 .
5- نقل السيد محمد صالح الحكيم في لقاء مساء 25 محرم ١٤٢٧ نقلا عن والده سماحة آية الله السيد محمد علي الحكيم : أنه والمرحوم السيد يوسف الحكيم ، والشيخ علي قسام، والشيخ علي حرج كنا نحضر عند الشيخ الحلي درس المكاسب . كما ذكر السيد الحسيني - المصدر السابق : ٢٠

الشيخ علي الشيخ محمد طه الكرمي الحويزي (١٣٤٣ - ١٤٢٨) .(1)

الشيخ قربان علي بن محمد رضا الأفغاني الشهير بالمحقق التركماني الكابلي نزيل قم (١٣٤٧) (2).

الشيخ ميرزا كاظم القاروبي التبريزي النجفي (١٣٤٠ - ١٤١٦) (3).

السيد كاظم الحسيني السرابي النجفي (١٣٤٨) (4).

السيد الشهيد كاظم السيد محسن الحكيم (١٣٥٦ - ١٣٩٥) (5).

الشيخ محمد إبراهيم البروجردي (١٣٤٤ - ١٣٩٠) .

الشيخ محمد إبراهيم الجناتي (١٣٥١) (6).

السيد محمد السيد إسماعيل السدهي الموسوي (١٣٣٤ - ١٤٢١) (7).

الشيخ محمد الشيخ عبدالله آل راضي (١٣٤٥ - ١٤١٤)

السيد الشهيد محمد باقر السيد حيدر الصدر (١٣٥٠ - ١٤٠٠) .

الشيخ محمد باقر الطاهري الشاهرودي (١٣٥٠ - ١٤١٤) (8).

السيد محمد تقي السيد محمد سعيد الحكيم (١٣٤١ - ١٤٢٣ )

السيد محمد السيد جمال الهاشمي (1332 - 1397) .

السيد محمد جواد الأمين (١٣٤٦) (9).

ص: 79


1- ذكره في مجلة الموسم 123/18 .
2- ذكره مجتهدي .
3- ذكره مجتهدي .
4- ذكره مجتهدي .
5- الفتلاوي - المصدر السابق : ٣٦٦ والحسيني - المصدر السابق : ٢٠ .
6- ذكره مجتهدي عن مجلة كيهان فرهنكي / السنة ٩ ص 3
7- محمد هادي الاميني - معجم رجال الفكر والأدب في النجف ١٥٣/١ .
8- ذكره مجتهدي
9- الحسيني - المصدر السابق : 21 لم أعثر على ترجمة له في المصادر المتوفرة لدي .

الشيخ محمد جواد الشيخ عبدالرضا آل راضي (١٣٢٩ - ١٤١١) .

السيد محمد جواد السيد عبد الرؤوف فضل الله (١٣٥٧ - ١٣٩٥) .(1)

الشيخ محمد حسن الشيخ عبد اللطيف الجزائري (١٣٢٦ . . .) (2).

الشيخ محمد حسن القافي اليزدي (١٣٥٤) .(3)

السيد محمد حسين فضل الله (١٣٥٤) (4).

الشيخ محمد حسين محمد رضا الكلباسي (١٣٢٣ - ١٤١٨) (5).

السيد محمد حسين السيد محمد سعيد الحكيم (١٣٣ - ١٤١٠) .

الشيخ محمد رضا محمد علي الحويزي العامري ( ١٣٤٠ - ١٤٢٣) .(6)

السيد محمد سعيد السيد محسن الحكيم البصري (1317 - ١٣٨٦) .(7)

السيد محمد سعيد السيد محمد علي الحكيم (1353) .

السيد محمد صادق السيد باقر الحكيم (١٣٣٤ - ١٤٠٢) (8).

السيد محمد السيد علي بحر العلوم (١٣٤٧) (9). (درس فقه خاص)

السيد محمد علي السيد أحمد الحكيم (1329).

ص: 80


1- ذكره الحسيني - المصدر السابق : 21 ، والفتلاوي لم يشر إلى ذلك رغم ذكره لأساتذته - المصدر السابق : ٤٣٣ .
2- جعفر محبوبة - ماضى النجف وحاضرها ٩٥/٢ .
3- ذكره مجتهدي عن كتاب دانشنامهٔ مشاهير يزد ١١٦٥/٢ .
4- الأميني - المصدر المتقدم 9٤٣/٢ ، والفتلاوي - المصدر السابق : ٤٦٢ .
5- محبوبة - ماضي النجف وحاضرها ٢٣٦/٣ ، والفتلاوي - المصدر السابق : ٤٧٥ .
6- الفتلاوي - المصدر السابق : ٥٠٦ .
7- الفتلاوي - المصدر السابق : ٥١٢ .
8- الفتلاوي - المصدر السابق : ٥٩٥ .
9- مجتهدي عن مجلة حوزة عدد ٢٧/٥١ .

الشيخ محمد بن محمد إسماعيل القزويني الغروي (١٣٤٥) .(1)

السيد محمد علي صادقي اصفهاني (١٣٤٦ _ ١٤١٧) (2).

السيد محمد علي السيد محمد حسين العلاق (١٣١٤ - ١٣٨٣) (3).

السيد محمد علي المدرسي اليزدي (١٣٥٨ - ١٤٢٢) (4).

الشيخ محمد كاظم فقيهي مازندراني نزيل قم (١٣٤٤)

السيد محمد مفتي الشيعة الأردبيلي (١٣٤٧) (5)

الشيخ محمد مهدي الشيخ علي محمد الأصفي (١٣٥٧) (6).

السيد محمد مهدي السيد ميرزا حسن البجنوردي (1353) (7).

السيد محمد مهدي السيد فاضل الموسوي الخلخالي (١٣٤٤) (8).

الشيخ محمد الشيخ مهدي زين العابدين (١٣٤٠ - ١٤١٨) (9).

الشيخ محمد هادي معرفت الحائري (١٣٥٢ - ١٤٢٨) (10).

السيد محمود السيد حسين الحبوبي الحسني (1323 - 1389) (11).

ص: 81


1- الأمينى - المصدر السابق ٩١٥/٢ .
2- مجتهدي عن كنجينهٔ دانشمندان : ٢٤٤/٢
3- الاميني - المصدر السابق 897/2 .
4- مجتهدي عن كنجينه دانشمندان 9 : ٣٦٧ .
5- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان 7 : 280
6- أخبرني هو حضر عنده في مبحث القطع ، ومعه بعض الإخوة الواردة أسماؤهم في هذه القائمة بتاريخ مساء ٢٤ محرم ١٤٢٨ .
7- الاميني - المصدر السابق : ٢٠٢/١
8- الفتلاوي - المصدر السابق : ٦١٧
9- الأميني - المصدر السابق ٦٥٢/٢
10- ذكره مجتهدي عن مجلة حوزة عدد : ١٣٥/٣٢
11- الفتلاوي - المصدر السابق : ٦٢٩ في بداية حياته العلمية ثم انتقل إلى الحياة الأدبية

الشيخ مرتضئ الأشرفي الشاهرودي (١٣٥٢) .(1)

الشيخ مرتضى الشيخ علي محمد البروجردي (١٣٥٨ - ١٤١٨) (2).

السيد مرتضى الحائري ( . . . - . . .) .(3)

السيد مرتضى السيد محمد حسين الحكمي (١٣٤٥ - ١٤٢٤) (4).

السيد مسلم السيد حمود الحسيني الحلي (١٣٣٤ - ١٤٠١) (5).

الشيخ مصطفى الأشرفي الشاهرودي (١٣٥٤) (6).

الشيخ مصطفى النورائي الأردبيلي ( . . . - . . .) (7).

السيد موسى السيد جعفر بحر العلوم (1327 - 1397) (8).

السيد مهدي السيد محسن الحكيم (١٣٥٣ - ١٤٠٨) (9)

الشيخ نور الشيخ حسين مشكور (١٣٣٠ - ١٤٢٣) (10).

الشيخ نور الدين بن حامد الواعظی (1352 - 1391(11).

الشيخ موسى الشيخ هادي زين العابدين (١٣٥٤) (12).

ص: 82


1- ذكره مجتهدى عن كنجينهٔ دانشمندان : ٢٦٣/٥
2- الفتلاوي - المصدر السابق : ٦٤٢
3- الحسيني - المصدر السابق : 21 .
4- ذكره مجتهدي .
5- حسن الأمين - مستدرك أعيان الشيعة 251/3 ، والحسيني - المصدر السابق : ٢١ .
6- ذكره مجتهدي عن كنجينه دانشمندان : 283/5
7- ذكره مجتهدي .
8- الفتلاوي - المصدر السابق : ٦٧٦
9- حسن الامين - المصدر المتقدم : ٢٦٠
10- ذكره مجتهدي .
11- الفتلاوى - المصدر السابق : ٦٩٠ .
12- ذكره الاميني - المصدر السابق ٦٥٣/٢

السيد هاشم الطهراني (1339 - ١٤١١) (1).

السيد يوسف السيد محسن الحكيم (1327 - ١٤١١) (2).

وغيرهم من الأعلام والفضلاء الذين كان لهم دور معروف في الجامعة العلمية في النجف، والبعض من هؤلاء انتقلوا في الظروف القاسية التي فجرها صدام حسين بوجه طلاب العلم الشيعة في العتبات المقدسة في النجف الأشرف ، وكربلاء ، والكاظمية ، وسامراء ، حيث سفرهم إلى خارج العراق ، وبعضهم عادوا إلى أوطانهم في لبنان، وإيران ، وباكستان ، والهند ، والبحرين ، والأحساء ، والقطيف، وغيرها من الدول الإسلامية الشيعية التي تعارف في أجوائها أن ترسل أبناءها إلى الجامعة العلمية النجفية ليتفقهوا في الدين ، ويرجعوا إلى أوطانهم لتحمل مسؤولية إدارة حوزتها العلمية ، والإرشاد الديني فيها .(3)ونقل أن الشيخ كان في سن الشباب يحرص على مجالسة العلماء من الطبقة المتقدمة عليه ليستفيد منهم ما يمكن استفادته ، وقد نقل لي أحد الفضلاء من تلاميذه : أن السيد الطباطبائي اليزدي كان يكتب «العروة الوثقى» وكانت مسوداته تعرض على تليمذه المقرب له المرحوم آية الله الشيخ

ص: 83


1- الحسيني - المصدر السابق : ٢١ .
2- حسن الأمين - المصدر السابق ٣٣٦/٦ ، والفتلاوي - المصدر السابق : 713 .
3- لزيادة الاطلاع على أسماء تلاميذ الشيخ الحلي انظر : الشيخ محمد شريف رازي - کنجینه دانشمندان (فارسي) / طبع قم - ايران مطبعة برويز ، والشيخ محمد هادي الأميني - معجم رجال الفكر والأدب في النجف بأجزائه الثلاثة (الطبعة الثانية) عام 1922 ، وكاظم عبد الأمير الفتلاوي - المنتخب من أعلام الفكر والأدب (الطبعة الأولى) طبع بيروت مؤسسة المواهب للطباعة والنشر 1999 ، بالاضافة إلى المصادر المذكورة في الهامش

أحمد كاشف الغطاء ، وكان الشيخ الحلي يحرص على حضور مجلس الشيخ كاشف الغطاء للاستفادة من المسائل العلمية التي تعرض فيه، وخاصة تلك التي كان يثيرها بين حضار المجلس الشيخ كاشف الغطاء من خلال مسودات كتاب العروة الوثقى من المسائل القابلة للنقاش، وكان الشيخ الحلي يشارك في النقاش المثار حول بعض الآراء الطباطبائية وغيرها ، وكان الشيخ كاشف الغطاء يهتم بمناقشات الشيخ الحلي لما يتوسم فيها من عمق علمي، وحسن رأي، ويتنبأ له بمنزلة علمية مستقبلية ، وعمره حينذاك لم يتجاوز ٣١ سنة .

ص: 84

الباب الثالث

اشارة

الوجه الآخر لشيخنا الحلى

ص: 85

الفصل الأول

ملامح إنسانية لها الأثر في بناء شخصية مترجمنا الشيخ

هناك قضايا إنسانية وأخلاقية تبرز صاحبها مدرسة تعج بالفضائل الكريمة، وتميزه عن كثير من الذين عاشوا وماتوا وهم على هامش الحياة ، ويهملهم التاريخ ، والإنسان مهما كانت مكانته العلمية والاجتماعية إذا لم تكن مثمرة ومشوبة بما يخلدها فلا خير فيها .

شيخنا الحلي جم الفضائل ، وإذا أردنا اختزالها بما يتسع هذه الأوراق المعدودة فيمكن اختصارها بالنقاط التالية :

أولاً : ورعه وتقواه .

لقد عشت معه زمناً يزيد على عدة عقود لاحظت فيه عامل التقوى والورع يبعده الولوج في المظاهر الدعائية» التي يتطلبها أغلب الناس لأيام دنياه وتلوين الواجهة، بما يعشيه عن حقيقة الإنسانية الطبيعية غير المتكلفة ، وبما يرضي الله سبحانه .

وكمثل لذلك فالمعتاد إذا دخل أحد العلماء إلى مجلس الفاتحة في النجف يستعيد مقرئ القرآن الفاتحة تكريماً له ، والشيخ الحلي من العلماء الذين يستحقون استعادة الفاتحة كما هو المألوف لأقرانه ، ولكن ذلك القارئ ما كان يقوم بهذه المهمة ، فاستهجنت منه هذا الموقف ، وقررت أن أستفسر عن السبب ، فالتقيت به مرة ، فاستوقفته وسألته عن السبب ، فقال بكل صراحة : عمك ما يرضى بذلك

ص: 86

ومرة جاءه شخص من أهل المال فأعطاه مبلغاً رفضه ولم يقبل منه ، فقال له بعض الخاصة : لماذا لم تقبل منه الهدية ؟ قال : أمواله فيها شبهة ، وأنا لا أريد لنفسي أن أحترق بها .

وحصل مثل هذا الكثير ، ولا أريد أن أطيل بها ، ولو أراد الشيخ أن يقبل مثل هذه الأمور لكان حاله غير ما عرف فيه من بساطة العيش التي قضى فيها حياته .

ثانياً : كرمه وعطاؤه .

الكرم سجية إنسانية محبوبة ترفع من شأن الانسان وتحفظ مقامه في أسرته وأهله وبلده ، وشيخنا الحلي من هذا الصنف الذي حباهم الله سبحانه خصلة أحبها لنفسه، وأحب أن تكون في عباده المكرمين أيضاً ، فكان المال لا قيمة له في حساب الشيخ الحلي ، وقبل في العيش البسيط ، زاهداً في دنياه ، فلا يفرح به حين يغوص في جيبه لأنه سوف ينتقل إلى يد غيره إن أجلاً أو عاجلاً ، ولا يأسف عليه إذا أعطاه لمن يستحقه .

لقد نقل لي من أثق به من الأصدقاء أن أحد طلابه الموثوقين نقل أنه ذهب إلى بيت الشيخ الحلي ليناقشه في مسألة فقهية علقت في ذهنه ، ولما دخل عليه في غرفته الخاصة المتواضعة في أثاثها ، استقبله بكل بشاشة وترحاب ، وبعد أن استقر به المقام أتم مناقشة المسألة وخرجا سوية باتجاه الصحن الحيدري ، وفي الطريق التقى به أحد خدم الروضة العلوية ، ومعه رجل عرف نفسه للشيخ وسلّم عليه ، وقدّم له ظرفاً فيه بعض المال ، وودعه وانصرف، وبعد دقائق عاد خادم الروضة الذي صحب الرجل ، وقال للشيخ : اعطني بعض المساعدة مما وصل لكم يا مولانا فقال له الشيخ:

ص: 87

أنت محتاج ، فقال الرجل : وحق جدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إني محتاج ، فدفع الشيخ الحلي له الظرف بما فيه ، ولم يأخذ منه ديناراً واحداً. يقول الناقل : وبقيت مندهشاً ، فقبل فترة وجيزة طلب منه ولده بعض المال لشراء حاجة ضرورية للبيت اعتذر له من عدم مال لديه، وجاء له رزق فأعطاه بسخاء ولم يقدم حاجته عليه

هكذا كان كرم الشيخ ، يقدّم المحتاج ويؤثره على نفسه حتى في أضيق الأوقات .

ثالثاً : أصدقاؤه الصفوة».

وهم أصدقاؤه الأعزاء، حيث أطلق هذا اللقب على مجموعة من الأعلام كان عددهم تسعة أشخاص ، وهم :

السيد إبراهيم السيد محمد شبر توفي (1378).

الشيخ حسن البهبهاني توفي (١٣٦٢) .

الشيخ حسين الحلي (١٣٩٤) .

السيد علي بحر العلوم (١٣٨٥)

الشيخ كاظم عليبيج (... - ...)

الشيخ محمد جواد الحجامي (١٣٧٦) .

الشيخ محمد حسين الجواهري (1389).

الشيخ محمد حسين المظفر (1381) .

السيد موسى الجصاني (١٣٦٠) .

السيد مير علي أبو طبيخ (١٣٦١) .

تحدث المرحوم الأستاذ جعفر الخليلي في تعريف الصفوة الذين نشير إليهم قائلاً :

ص: 88

«وإذا بهذا الرهط من خيار الأصحاب الذين يصاحبون السيد على (بحر العلوم) ويماسونه ، ينشطون في اتجاهاتهم العلمية والأدبية فيختارون لأنفسهم اسم «الصفوة»، والحق أنهم كانوا صفوة القوم في بحوثهم وآدابهم وأخلاقهم وهزلهم ، ولم يبق من الصفوة اليوم (1)إلا الشيخ حسين الحلي ، وكانت هذه الصفوة تتخذ من بيت السيد علي (بحر العلوم) ندوة عامة وخاصة ، فهي لا تفارق «ديوانه» صباحاً ولا مساء، فإذا انصرف الناس وقضيت بعض حاجات المراجعين ممن طلب وساطة السيد علي في أمورهم لدى العلماء أو لدى الحكومة، أو حل مشاكلهم الخاصة، وفض النزاع فيما بينهم ، وانتهى المجلس فيما هو فيه من مناقشات ، وانفرط عقد الاجتماع، بقي أعضاء الصفوة في أماكنهم وتحول المجلس العام إلى مجلس خاص، وعمر هنالك بألوان شتى من جد وسمر برئ كانت تسوده النكتة والظرف والدعابة» .(2)

هذه الصفوة من أهل الفضل والعلم والأدب جمعتهم الفضيلة والمحبة والأخوّة الصادقة ، فكانوا لا يفترقون من شبابهم حتى شيخوختهم، وقد توفي الشيخ الحلي آخرهم ، وكانوا جميعاً متقاربين في السن ، وكان بينهم للعلم مكان ، وللأدب مكان ، وللفضيلة مكان ، ومن مآثرهم الوفائية أن المرحوم السيد مير علي أبو طبيخ أصيب بمرض «الروماتزم» فأقعده في البيت ، فكان من وفاء هذه الصفوة أن خصصوا لزيارته في كل أسبوع يوم «الأربعاء» بأن التزم الشيخ الحلي وباقي الصفوة أن يجمعوا غذاءهم كل يوم

ص: 89


1- حين كتابة المقال للمرحوم الخليلي .
2- جعفر الخليلي - هكذا عرفتهم 319/1 - 320 / طبع قم - إيران ١٤١٢ إيران ١٤١٢ أوفست عن نسخة طبع بغداد .

الأربعاء في بيت السيد مير علي ويقضوا نهارهم معه بعد إتمام الدورس الصباحية ، تسلية لصاحبهم الذي أقعده المرض في بيته، وكان هذا الاجتماع يعتبر ندوة علمية أدبية تثار فيه المسائل العلمية ، والمناقشات الأدبية ، والطرائف والنكات ، وبقي هذا المجلس حتى وفاة السيد مير علي ، وهذه واحدة من وفائه مع كل إخوانه يتعهدهم بما يمكنه .(1)

رابعاً : وفاؤه لإخوانه وأصدقائه .

ومن السجايا الكريمة التي يمتدح الإنسان عليها ويقدر فيها وفاؤه لإخوانه وأصدقائه، ولها من الصفات العليا والفضائل الرفيعة ما تحفز على التقدير والإكبار ، لقد بقي الشيخ الحلي وفياً لإخوانه وأصدقائه يتعهدهم، ويذكرهم بخير ويحنو عليهم ، وكان آخر من توفي من أصدقائه السيد علي بحر العلوم فرثاه بأروع رثاء أثار الحزن والألم في نفوس المستمعين (2)،

ص: 90


1- جعفر الخليلي - المصدر المتقدّم ١٢/١ - ١٤ .
2- جاء في كلمته التي ألقيت في الحفل التأبيني بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الزعيم الدينى حجة الإسلام والمسلمين السيد على بحر العلوم الله منها : ما كنت أحسب أن الزمن يمتد بي لأرى هذا اليوم الحزين ، وهو يلم علي أطرافى فأضطر لأقول كلمة في أخ رعيته ورعاني ، وكنت انتظر أن يوسدني ملحود قبري ، ويرعى أهل بيتى من بعدي ، فإذا بالمقادير تقلب هذا الظن ، وإذا بي أن__ا المعزى والمشكول ، وأنا الذي أوسده في منزله الأخير ... فياساعد الله قلبي الوجيع ، وكدت أن لا اجيب لشدة تألمي وتأثري ... عز عليّ أبا محمد أن أجر نفسي جراً إلى بيتك ، وأناديك فلا أرى شخصك الكريم ، وادخل كالمدهوش ألتفت يميناً ويساراً فأرى أولادك الأعزاء يلتفون حولي ليجددوا بي ذكرى والدهم الراحل وتمر بي الخواطر الغالية أمام ناظري تعكس علي حبك وإخلاصك ، وأكاد أغيب عن الوجود ، وأتمنى الموت ، وأنا بانتظاره ساعة بعد ساعة ، فماذا أرجو بالحياة من بعدك ... عن مجلة النجف عام ١٠٦٠ والحسني - المصدر السابق : ٢٩

ولم يقتصر هذا الوفاء لهم فحسب، بل تعدى إلى أولاد بعض أصدقائه بعد أن فقدوا آباءهم ، فتكفلهم بالرعاية والتوجيه، ولم ينقطع عن رعايتهم حتى كبروا وأصبحوا آباء ، ومن هؤلاء أولاد أصدقائه الذين أطلق عليهم لقب «الصفوة» .

وأكثر من هذا فان بعض أولاد الصفوة خاصة أشرف على تثقيفهم العلمي والأدبي ، وللوفاء أقول بكل اعتزاز وفخر فانا أولاد السيد على نعترف أن شيخنا الجليل كان نعم الموجّه لنا ، وإذا كان عندنا في ميزان الفضل والأدب بعض الشيء فالفضل له .

وأذكر أنه كان قارئاً متنوع القراءة ، وكان من عادته إذا قرأ أي كتاب ومن أي نوع كان ويرى فيه بعض الفائدة فيعمل له فهرساً خاصاً لما يعجبه مما في الكتاب ، وخاصة لكتب المصادر المهمة في التاريخ والأدب ومختلف العلوم ، وكان يتفضل عليّ بنسخة منها لاستفادتي ، ولا يبخل على أحد إذا طالبه بذلك . كما كان يرشدنا - أنا وأخوي الشهيدين السيدين علاء الدين وعز الدين - إلى قراءة الكتب التي يراها من الضروري أن نطلع عليها لغرض المعرفة العامة، وبقي معنا على مثل هذه الحالة حتى وفاته .

خامساً : أخلاقه وتواضعه .

الواقع أن المرحوم الشيخ الحلي - وأنا مطلع على واقعه الأخلاقي الرائع - كان . كان جم التواضع ، يحترم التواضع ، يحترم الصغير المستحق للاحترام كما يحترم الكبير ، وكان لا يأبه بالشكليات في حياته الاجتماعية ، ويؤكد على القاعدة

ص: 91

الشهيرة «المكان بالمكين»، وكان مقتنعاً أن شكليات المجالس لا تؤهل الإنسان للعلو والرفعة، إنما ما يحمله من فضل وعلم وأدب هي التي تبرز صاحبها، وتضفي عليه المكانة اللائقة، وهذا هو منطق السلوك الأخلاقي في المجتمع الإنساني للعظماء من العلماء والأدباء وأصحاب الشأن ، وهذا هو مبدأ شيخنا أبي الجواد الحلي .

وقد سمعت شخصياً من آية الله المرحوم الشيخ محمد علي الكاظمي أحد أبرز تلاميذ الميرزا النائيني ، وهو يتحدث إلى المرحوم والدي - السيد علي بحر العلوم - بصفته الصديق الحميم للشيخ الحلي وللشيخ الكاظمي - يقول : «أبو محمد خلّ صاحبك شيخ حسين يختار في المجالس مكانه اللائق ليجلس في صدر المجلس ، ولا يتواضع كثيراً ويجلس في آخر المجلس ، فيضطرنا إلى الإحراج لأننا لا نريد أن نتقدم عليه في الجلوس فهو من كبارنا ، وعلينا أن نحترمه، فأين يكون موضعنا إذا لم يختر المكان اللائق به .

هذا اللون من التواضع لم نألفه عند الكثير ممن تسنّموا هذه المنزلة العلمية ، وهو أسلوب الأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولين من الناس المحترمين .

ص: 92

الفصل الثاني

الشيخ الحلي والسياسة

أصبحت السياسة جزءاً من حياة غالبية مراجع الدين وعلماء الحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية في بداية القرن الماضي الثالث عشر الهجري 1300 القرن التاسع عشر الميلادي 1900 رغم المحاولات المتعاقبة من قبل بعض رجال الدين في فصل الدين عن السياسة ، وحصر مهامهم في الفتيا بما يتعلق بشأن الأمور الدينية التي لا علاقة لها بالسياسة، واقتصار دور الفقيه على العبادات والمعاملات ، والأحوال الشخصية وثبوت الهلال، وما يشابه . وهذا الرأي وإن قال ب_ه بعض علماء الشيعة على أساس أن الدولة الإسلامية لا تقوم إلا بظهور الإمام المهدي علیه السلام ، ولكن الحاجة الزمنية المتطورة أدت إلى القول بتطور الفقه الشيعي . في مقابل ذلك انتقل أغلب فقهاء الإمامية إلى معالجة القضايا الملحة التي لها لصوق بالحياة العامة كالحكومة والولاية ، والتصرف بالثروة الاقتصادية الوطنية على مختلف أوجهها ، وضرورة ممارسة حق السلطة ، التي تنظم الحياة العامة ما دام العالم تطور إلى حكومات مقننة ، وتوجهات تربط الدول بعضها ببعض، وإقرار نظرية للحكم على أساس تنسجم وقواعد الدين الإسلامي، وخاصة ما دامت حكومات غازية تحتل البلاد،

ص: 93

وتسيطر على ثرواتها الفكرية والمادية ، والضرورة تحكمت بذلك ، وخاصة بعد أن مارست إيران هذا الحق ، وشارك رجل الدين في السلطة في إدارة

الحكم .

وترى بعض المصادر أن أول رجل دين شارك في السلطة هو الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي (1)، ومنح لقب «شيخ الإسلام» ولأول مرة في إيران، وهو لقب كان معروفاً في الدولة العثمانية ، يمنحه السلطان العثماني عادة لعالم دين يترأس المشيخة (2).

الشيخ الحلي وجهاد العلماء ضد الانكليز :

وحين بدأ الإنكليز في غزو العراق لاحتلاله وإخراجه من عهد الحكم العثماني ، وأبعدت ولاية العثمانيين من البلاد الإسلامية بصفتها الحكومة الإسلامية على أساس الخلافة العثمانية، ورغم أن المسلمين الشيعة في العراق عانوا من الحكومة العثمانية معاناة طائفية مقيتة، ولكن حين توجه

ص: 94


1- الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني ، أبو الحسن ، ولد عام ٨٦٨ ه_ فى جبل عامل بلبنان، ورحل إلى سوريا ومصر فاخذ عن علمائها ، ثم انتقل إلى النجف ودرس فيها زمناً ، وانتقل إلى إيران لأداء رسالته ، والتقى بالشاه طهماسب الصفوي وأعجب بعلمه ، وجعل له الولاية في إدارة ملكه ، وكتب إلى حكام بلاده بامتثال أوامره باعتباره «ولي الأمر» وبصفته «نائب الإمام» ، فكان الشيخ يكتب إلى جميع البلدان الخاضعة لحكم الشاه الصفوي طهماسب بدستور العمل في شأن الرعية وأمر البلاد ، توفي عام ٩٤٠ ه_ . ترجمه : الزركلي - الأعلام ٢٨١/٤/ طبع دار العلم للملايين 2002 ، والقمي - الكنى والألقاب ١٤١/٣ ، وآل علي - المصدر المتقدّم : ٧٥ .
2- رشيد الخيون - المشروطة والمستبدة : ٧١ / بيروت ٢٠٠٦ عن الشيخ مرتضى مطهري - الإسلام وايران : 338 طبع دار التعارف للمطبوعات بيروت

الإنكليز لاحتلال العراق في عام 1332 ه_ - 1913 م ، وقف علماء الشيعة في العراق إلى جانب الحكومة العثمانية على أساس أنها حكومة إسلامية رغم طائفيتها ، واستناداً إلى القاعدة المعروفة «الوجود الناقص خ_ي_ر م_ن العدم فقد تنادى مراجع الدين في العراق بدعوة المسلمين العراقيين للجهاد ضد الغزاة الصليبيين ، وأفتو بالجهاد المقدس ، ووجوب الدفاع عن بيضة الإسلام.

وترى بعض المصادر : أن إفتاء معظم العلماء من الشيعة والسنة بوجوب الجهاد إلى جانب العثمانيين منشؤه دفع الضرر عن المسلمين ، ورأوا أن تعزيز موقف العثمانيين المسلمين أمر لا مناص منه حسبما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية .(1)

وقاد مراجع الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية والشخصيات الدينية المجاهدين والعشائر العراقية إلى البصرة لمقاتلة الجيش الانكليزي الغازي المتمركز في الشعيبة والقرنة وغيرهما من المناطق الواقعة ضمن محيط محافظة البصرة، فإن الجيوش الانكليزية قصدت العراق من ناحية البحر .

قال الشيخ جعفر محبوبة :

«بعد إعلان الحرب العامة واشتراك الأتراك بها وندائهم بالنفير العام اشترك العراقيون مع الأتراك فيها ، ووقفوا معهم جبناً إلى جنب ، وصفاً لصف، ونهض علماء الشيعة في النجف وأفتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام، فهاجت الشيعة لدفع الإنكليز عن العراق ، وانتظمت الجبهات

ص: 95


1- د . عبدالله فياض - المصدر السابق : ١٤٩ / طبع بغداد مطبعة دار السلام 1975 .

الحربية ، وأكثرها من عشائر العراق ، ولم يكتف العلماء بالفتيا فقط ، بل خاضوا تلك المعامع بأنفسهم ، ووقفوا وقوف الإبطال ، وأبلوا بلاء حسناً، وكان أشدهم جهاداً وأكثرهم صبراً وجلاداً المرحوم العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي (1)، فانه قاد جيشاً جرّاراً إلى جبهة الشعيبة . وإزاء هذه المقابلة من العلماء والمجاهدين العراقيين قابلت القيادة العثمانية المجاهدين مقابلة سيئة للغاية» .(2)

وبعد هذه المقدمة الموجزة عن موقف علماء الشيعة في الجهاد ضد الإنكليز لنا أن نتساءل ، هل لشيخنا الحلي مشاركة فيها ؟

قبل أن نردّ على السؤال لابد أن نحدد عمر الشيخ خلال هذا التحرك الديني والوطني ؟

أشرنا في بداية الحديث أن الشيخ حسين الحلي ولد في حدود عام 1309م (3)وثورة الجهاد ضد الإنكليز عام 1332 فمعناه أن الشيخ كان عمره .

ص: 96


1- محمد سعيد بن محمود بن القاسم بن كاظم بن الحسين الحبوبي الحسني . ولد في النجف عام ١٢٦٦ ه_ ونشأ بها ، ودرس في جامعتها الدينية وحضر في الفقه والأصول على أعلامها كالشيخ محمد حسن الكاظمي، والفاضل الشربياني ، والشيخ أغا رضا الهمداني والشيخ موسى شرارة ، والسيد مهدي الحكيم ، والشيخ محمد طه نجف ، ولازمه ، وبعد ذلك استقل بالبحث والتدريس ، وكان من كبار الفقهاء والمجتهدين وأعلام الفضل والتقوى والصلاح ، كما عرف بمكانته الشعرية في الأوساط الأدبية ، توفي في الناصرية متأثراً من خسارة المعركة ضد الانكليز ع_ام 1333 ه_ راجع ترجمته : محسن الأمين - أعيان الشيعة : ٣٤٤/٩ ، ومحمد خرز الدين - معارف الرجال : 291/2 ، وعلي الخاقاني - شعراء الغري ١٤٧/٩ ، وكاظم عبود الفتلاوي - مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف : ٢٩٧ - ٢٩٩ / طبع قم ٢٠٠٦ .
2- الطهراني - طبقات أعلام الشيعة / القسم الثاني / ٦٠٣
3- محبوبة - المصدر المتقدم ٣٤٠/١ - ٣٤٤ .

حينذاك فى أوائل العشرينات، بين الاثنين أو الثلاثة والعشرين ، وبالامكان مشاركته في الجهاد بهذا العمر ، قال الأستاذ حسن الأسدي - مؤرخ ثورة النجف -: «في ٤ صفر 1333 غادر للجهاد عن طريق بغداد جعفر الشيخ عبد الحسين (1)، والشيخ عبد الكريم الجزائري (2)والشيخ حسين الحلي ، والشيخ حسين الواسطي (3)، والشيخ منصور المحتصر (4)، ومعهم الكثير من

ص: 97


1- الشيخ جعفر الشيخ عبد الحسين آل الشيخ راضي، المنتهي نسبه إلى الشيخ خضر الجناجي النجفي ، من علماء وزعماء الأسرة البارزين الشهيرة ب_ «آل الشيخ راضي» النجفية ، والتي عرفت بالعلم والفقاهة والزعامة ، حضر في دروس الفقه والأصول على أعلام منهم : الشيخ محمد كاظم الخراساني ، والشيخ محمد طه نجف . والشيخ أغا رضا الهمداني ، وغيرهم ، توفي عام ١٣٤٤ ه_ في النجف . ت_رج_م_ه الطهراني - المصدر المتقدم : القرن الرابع عشر : 290 .
2- الشيخ عبد الكريم بن الشيخ علي بن الشيخ كاظم ، المنتهي نسبه إلى الشيخ أحمد - صاحب كتاب «آيات الأحكام عالم كبير وزعيم ديني معروف ، ولد عام ١٢٨٩ ه_ النجف ودرس على يد أعلام الحوزة النجفية ، وقد حضر في درس الأصول على الشيخ محمد كاظم الخراساني ، والشيخ حسن بن صاحب الجواهر ، وفي الفقه على الشيخ محمد طه نجف ، والسيد محمد كاظم اليزدي ، وغيرهم من العلماء ، كما عرف بالمكانة الأدبية والشعرية ، كما أنه من الشخصيات الوطنية التي عُرفت بالجهاد ضد الاستعمار ، وقائد محنك ، ومرجع لمختلف الناس ، توفي في النجف عام 1382 ه_ ترجمه الطهراني - نقباء البشر في القرن الرابع عشر : 1173 - 1179 .
3- لم أعثر على ترجمته في حدود المصادر المتوفرة لدي .
4- الشيخ منصور بن الشيخ محمد بن الشيخ على المحتصر ، ولد عام 1298 من قبيلة بني سعيد في المنتفك ، وصفته المصادر : بأنه من العلماء الفقهاء الثقاة ، حضر على أعلام الحوزة العلمية النجفية ، منهم الشيخ محمد كاظم الخراساني في الأصول ، والسيد محمد كاظم اليزدي في الفقه ، وكذلك من أساتذته الشيخ علي الشيخ باقر الجواهري ، توفي عام ١٣٥٥ ه_ ودفن في الصحن الحيدري في النجف ترجمه : الشيخ محمد حرز الدين - م_عارف الرجال ٢٥/٣ - ٢٦ ، والفتلاوي - المصدر المتقدم : ٣٥٨ - ٣٥٩ .

رجال الدين وطلبة العلم» (1).

ولم أعثر على مصدر آخر - في حدود تتبعي - يذكر الشيخ الحلي في عداد المجاهدين في حركة الجهاد ضد الإنكليز عام ١٣٣٣ ه_ ولكن لم استبعد حضوره في هذه الحركة لسببين :

أوّلاً : أن الشيخ حسن (2)الأخ الكبير للشيخ الحلي كان من حلقة المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي ، ومن الملازمين لمجلسه (3)، وكما هو معروف أن السيد الحبوبي هو بطل حركة الجهاد ضد الإنكليز ، وقاد جموع المجاهدين إلى البصرة. ومن الطبيعي أن يتأثر الأخوان _ الحسن والحسين أبناء الشيخ علي الحلي - بالأجواء المفعمة بالحماس للتحرك إلى البصرة لمقاتلة الإنكليز بالمشاركة في الحركة ، والانخراط في موكب المجاهدين ، وهذا لا يتنافى أن يكون خروج كل منهما مع جهة ما ، فكان الشيخ حسين مع الشيخ الجزائري عن طريق بغداد .

ومما يؤكد ذلك ما نقل لي أن المرحوم السيد محسن الحكيم - الذي كان ساعد السيد الحبوبي في تحركه الجهادي - قد التقى بالشيخ الحلي بالبصرة فنقله إلى صفوف المجاهدين مجموعة السيد الحبوبي

ص: 98


1- حسن الأسدي - ثورة النجف : 91 طبع دار الحرية للطباعة ١٩٧٥ / .
2- الشيخ حسن الشيخ علي الأخ الأكبر للشيخ الحلي ، ولد في النجف عام ١٣٠٥ ه_ ونشأ على أبيه العالم الجليل ، وغيره من الأجلاء ، واختلف على أندية أعلام الأدب ، وقرض الشعر وأجاد فيه وأبدع ، وكان شديد الملازمة لحضور نادي العلّامة السيد محمد سعيد الحبوبي ، توفي 1337 ه_ انظر ترجمته : الطهراني - طبقات البشر في القرن الرابع عشر ٤٠٤ ، ومحمد علي اليعقوبي - البابليات : 3/ 28/2 طبع النجف المطبعة العلمية ١٣٧٣ ه_ .
3- محمد علي اليعقوبي - البابليات : 3/ 29/2 طبع النجف المطبعة العلمية ١٣٧٣ ه_ . (٤) حدیث شخصي مع سماحة السيد محمد سعيد الحكيم .

ثانياً : والذي عرفته من بعض الإخوة الذين لهم معرفة برحلة الجهاد ، أن الشيخ الحلي كان مشاركاً في حركة الجهاد بصفته عسكرياً مشمولاً حينذاك بالجندية ، وبحكم الواجب العسكري خرج للجهاد ، وحين التقى به المرحوم السيد محسن الحكيم في البصرة طلب السيد الحكيم من قائد المجاهدين السيد محمد سعيد الحبوبي أن ينقله من معسكر الجندية إلى معسكر المجاهدين، ففي بداية الأمر تردد السيد الحبوبي لأنه جندي رسمي ، لكنه بالأخير خوّل السيد الحكيم العمل بما يراه مناسباً، وفعلاً نقله إلى معسكر المجاهدين .

وفى خضم المشروطة والمستبدة

ثانياً - كان الاستعداد للمشاركة في التحركات الوطنية عارماً في نفوس هذا البيت - الأب والولدان _ وقد ذكرهم الأستاذ حسن الأسدي في حديثه عن انقسام النجفيين حول موضوع المشروطة والمستبدة ، فعدّ الشيخ علي وولديه الحسن والحسين من جماعة المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي الذي وقف إلى جنب «المستبدة» مقابل الشيخ محمد كاظم الخراساني الذي اعتمد «المشروطة» (1).

وبمرور الزمن حكم الدور البرلماني في المنطقة، وإيران جزء من المحيط الذي اتسع فيه حكم الدولة ، وخاصة بعد أن شارك رجل الدين بالسلطة - كما تقدم - فكان السؤال الأساس لمسيرة الحكم الإسلامي في الدولة الإيرانية بعد أن تجاوز المتنازعون عن سلطة الدولة ، هل الحكم يحد

ص: 99


1- انظر حسن الأسدي - المصدر المتقدم : ١٠

بدستور يقرّه البرلمان، أو تبقى الأمور خاضعة لاستبداد الحاكم ؟

وهنا برزت نظريتان في هذا الشأن نوجزهما بالآتي :

الأولى : تلزم الحكومة بنظام دستوري تحد من تصرفات الحاكم المعتمد على رأيه ، وأطلق على هذا التوجه مصطلح «المشروطة» .

الثانية : الحاكم في إدارته للدولة لا يعتمد دستوراً محدداً ، وإنما هو حرّ في رأيه، وأطلق على هذ التوجه الاستبداد»

وعلى هذا الضوء انقسم علماء المرجعية الشيعية إلى فريق يؤيد الحياة الدستورية، ليضع حداً للاستبداد السياسي والديني في نفس الوقت ، وفريق آخر تشبث بنظام الحكم الاستبدادي خشية من انهيار التقاليد الدينية ، والتفريط بسطوتها على المجتمع ، لأن فصل الدين عن الدولة أو الحكم العلماني بالبلدان الاروبية كان طريق الحكم البرلماني والدستوري بالبلدان الأوروبية (1).

وكانت النجف من أهم المراكز الدينية الحساسة ، وبخاصة بالنسبة لإيران والعراق، بل تكاد تكون المركز الديني الحساس الوحيد ، لذلك فان جميع الحركات السياسية العنيفة في إيران والعراق كانت تنعكس آثارها في النجف انعكاساً مؤثراً نافذاً تترتب عليه كثير من النتائج والأحداث ، وما الفتاوى والبرقيات الشديدة اللهجة التي كانت تصدر عن النجف لكل من سلاطين ،تركيا، وشاهات إيران، إلا صورة واحدة من صور ذلك التأثير :

الشيخ الحلي مع المشروطة أو المستبدة ؟

وعندما تطورت المعارضة في تينيك الإمبراطوريتين إلى حركات

ص: 100


1- انظر رشيد خيون - المصدر السابق : ٥

دستورية ديمقراطية ، نشأت في النجف بحوث ودراسات عميقة في الديمقراطية والدستور، وتناولها رجال الدين الأكابر من مختلف وجهات النظر الإسلامية ، وألّفوا في تأييد الديمقراطية الدستورية مختلف التأليف . وربما كان حجة الإسلام الميرزا حسين النائيني في مقدمة من وضعوا الكتب في هذا الباب . وبنتيجة هذه الحركة الفكرية الصاخبة انشطرت النجف كل النجف بعد صدور الدستور العثماني عام (1908 م - ١٣٢٦ ه_) إلى شطرين متناحرين بلغ الخصام بينهما أقصى حدوده .

شطر يتزعمه آية الله الملا كاظم الخراساني، وتلتف حوله الأكثرية الساحقة من العلماء ، والطبقة الخاصة المثقفة من النجفيين ، جميع آل الجواهري - عدا الشيخ علي الشيخ باقر الجواهري، والشيخ حسن بن الشيخ محمد حسن -، حسن ، وآل الشبيبي وآل الشبيبي ، وآل كمال الدين _ عدا السيد حسين

كمال الدين ، الذي كان يعمل مع اليزدي إلى عام 1918 عندما اختلف اليزدي في كيفية تعامله مع الإنكليز بشأن ثورة النجف فترك صحبته ، وآل مرزة خليل الذين كانوا لواء الدعوة الدستورية قبل الخراساني ، ومن الأفراد : الشيخ علي الشرقي ، والسيد هاشم الهندي ، والشيخ حسن دخيل ، والشيخ علي مانع ، والسيد مسلم زوين، والشيخ محمد جواد الجزائري ، والشيخ محمد حسين شليلة ، وغيرهم . وهؤلاء سواء منهم الأسر أو الأشخاص عراقيون ، ولهم مكانتهم الدينية والاجتماعية في النجف وخارجه .

أما الشطر الثاني فيتزعمه السيد محمد كاظم اليزدي ، ومعه جميع أسرة آل كاشف الغطاء وبخاصة الشيخ أحمد والشيخ والشيخ محمد حسين - عدا آل الشيخ عباس الشيخ علي .. (و مع اليزدي) أيضاً معظم المعممين العرب ، أمثال : آل سميسم ، وآل مطوك ، وآل محي الدين ، وآل الدجيلي ،

ص: 101

وآل محبوبة ، وغيرهم من المعممين . وكان معه من الأفراد صالح حجي ، وجواد حجي ، والشيخ حسن الحلي والشيخ حسين الحلي ، وأبوهما ، الشيخ على الحلي المعروف بالزهد ... والشيخ عبد الحسين الحلي ...

وكان يطلق على جماعة الخراساني اسم المشروطة ، لأنهم يؤيدون الحكم المشروط بالدستور. أما جماعة اليزدي الذين كانوا يعتبرون المشروطة كفراً وإلحاداً ، فكان يطلق عليهم اسم «المستبدة» .(1)

ولكن المصدر المتقدم يشير إلى أن وفاة الشيخ الخراساني عام ١٣٣٠ ه_ وضع حداً لمظهر العنف بين التيارين ، وأن جميع رجال الدين - المرشحين للزعامة الدينية بعد السيد اليزدي - أيدوا رأي الشيخ الخراساني ، وشاركوه نفس الفكرة الدستورية المتحررة، وعملوا على تحقيقها (2).

وكان من نتاج هذا الصراع الفكري أن كتب آية الله العظمى الميرزا محمد حسين النائيني كتابه القيم «تنبيه الأمة وتنزيه الملة».

من خلال هذا النص توضح لنا بأن أسرة شيخنا الحلي بما فيها هو كانت تعيش جواً سياسياً قبل ثورة الجهاد على الإنكليز إلى جانب العثمانيين ، وكانت تتبنى رأي السيد محمد كاظم اليزدي الذي كان يقر الاستبداد السياسي - - كما جاء في النص المشار إليه _ ولكن بعد وفاة السيد كانت الحركة التثقيفية نشطة بالنسبة لتأييد المشروطة ، بجهود النخبة من المؤمنين بفكرة الدستورية التى نادى بها المرحوم الخراساني والتي أثرت على التوجه العام بعد وفاة المرحوم اليزدي .(3)(3) .

ص: 102


1- حسن الأسدي - ثورة النجف : 9 - 11 طبع بغداد دار الحرية للطباعة ١٩٧٥ .
2- الأسدي - المصدر السابق : ١١ .
3- انظر الاسدي - المصدر المتقدم : 11 - 12 .

والمهم الذي يتصل ببحثنا المتمحور حول الشيخ حسين الحلي يهمنا ن نعرف ، هل بقي على رأيه السابق بأن لا شأن لعلماء الدين في شؤون السلطة زمن الغيبة ، أم تغير مع التطور المشار إليه ؟

الإجابة على هذا التساؤل ليس بالأمر البسيط ، خاصة وأن المصادر التي تتحدث عن حياته لا تشير لهذه الخصوصيات، ولا تتحدث عن الموضوع من قريب أو بعيد، غير أننا نستطيع أن نتصيده من ثنايا أحاديثه الشخصية مع المقربين له، حيث يرى عدم جواز التصدي للسلطة الحكومية في زمن الغيبة ، ولعل اتصاله بالميرزا النائيني في أيام مرجعيته العامة أثر على أستاذه في تبديل رأيه بالمشروطة الذي ضمنه في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة ، خاصة إذا عرفنا أن الميرزا النائيني _ كما نقلت المصادر في آخر الأيام أخذ يجمع نسخ الكتاب سواء المطبوع باللغة الفارسية أو المترجم للعربية . ونقل أنه بذل على تحصيل كل نسخة منه مالاً يصل إلى ليرة ذهبية ، وقيل خمسة ليرات ذهبية. وتصفه أنه كان ذا ثراء ، ومال غزیر .(1)

ويعزز هذا الرأي أن الشيخ النائيني كان يهتم بالشيخ الحلي لعلاقته الوثيقة به ، وأنه من حضار مجلسه العلمي أكثر من ١٨ عاماً مما زاده وثوقاً به ، وقد نُقل أن سئل الميرزا النائيني عن سر اعتنائه البالغ واهتمامه الكبير بالشيخ الحلي ، فردّ بكل اعتزاز «إنه ما من مسألة تطرح حتى يكتب عنها رسالة مشتملة على التحقيق والتدقيق ونقل كافة الأقوال فيها» .

ولعل هناك سبباً آخر دفع الميرزا النائيني تغيير رأيه بالنسبة

ص: 103


1- حرز الدين - المصدر المتقدم 28٦/1 ، وراجع : الأمين - أعيان الشيعة ٥٤/٦ وخيون - المصدر المشار إليه : 212 .

للمشروطة وجمع كتابه «تنبيه الأمة» هو ما حصل في إيران من استغلال أصحاب المشروطة الاعتداءات على الناس باسم مخالفة التوجه للمشروطة ، والإعدامات التي حصلت باسم مخالفة خط المشروطة، كما حصل مع الشيخ فضل الله النوري (1)، والشيخ باقر الاصطهباناتي (2)لانهما ضدها، وغيرهما ممن نالهما الاضطهاد والقمع، وهذه من الأمور التي ترفضها الشريعة الإسلامية كل هذا دعا الميرزا النائيني لتغيير رأيه في موضوع المشروطة .

الشيخ الحلي وأحداث العراق المعاصرة

لقد تفجرت بالعراق في القرن الماضي أحداث كثيرة من انقلابات إلى ثورات ومؤامرات نجحت بعضها، وفشلت بعضها، وأدى كل ذلك إلى تعاقب حكومات تختلف في توجهاتها وايديولوجياتها . ومن أبرزها تغيير الحكم من الملكي إلى الجمهوري ، ومدى المآسي التي عاناها الشعب

ص: 104


1- الشيخ فضل الله بن عباس النوري المولود في إيران عام ١٢٥٨ ه_ هاجر إلى العراق ، وسكن في النجف ، ودرس فيها ، وعاد إلى إيران ١٣٠٠ ه_ ، وأقام في طهران ، وكان علماً من أعلام الإسلام، واستنكر أعمال رجال المشروطة وعارضهم ، فالقي القبض عليه وحاكموه فحكم بالإعدام ونفذ فيه الحكم سنة 1327 ه_ ودفن في قم . انظر. ترجمة : حرز الدين - المصدر السابق ١٥٨/٢ .
2- الشيخ باقر بن عبد المحسن الاصطهباناتي الشيرازي ، وصفته المصادر بأنه فقيه عالم ، حكيم محقق في العلوم العقلية والنقلية ، هاجر إلى النجف عام 1303 ه_ ثم انتقل إلى سامراء للالتحاق بالسيد ميرزا محمد حسن الشيرازي ، وكان من المقربين له وبعد وفاة السيد عاد إلى النجف ، وانشغل بالدرس والتدريس ، وعاد إلى موطنه شيراز ، وصادف فيها أحداث المشروطة وقتل فيها عام ١٣٢٦ ه_ انظر ترجمة حرز الدين - المصدر السابق ١٢٩/١ - ١٣٠

العراقي من هذه الأحداث ، كان أشدها وأضيقها وأمرها عهد صدام حسين الأسود ، ولما كانت المرجعية الدينية الشيعية في العراق تمثل الثقل الأكبر في المعادلة السياسية العراقية ، كان من الطبيعي أن يكون لها رأيها في التطورات السياسية العامة والخاصة التي تخص البلاد .

ولو تابعنا مسيرة المرجعية الدينية في القرن الماضي ، وما بعد سقوط النظام الشمولي لاحظنا أن المرجعية الدينية المتصدية في العراق بالأمس :

1 - تمثلت بالإمامين الراحلين السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي - ولم يكن شيخنا الحلي بعيداً ع_ن الج_و السياسي العراقي أو الإيراني، وحين عصف بالعراق الجمهوري الشأن السياسي الحزبي المتطرف فمثل البعد الايديولوجي بينهما صراعاً عنيفاً انتهى بحرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس في الدولتين، وكان على مراجع الدين في الدرجة الأولى - بما يتحملوا من المسؤولية الاجتماعية والسياسية - أن يحددوا الموقف الديني من القضية، وهذا ما اصطدم به الشيخ الحلي وأمثاله ، وفي مقدمتهم المرجعان الدينيان السيد الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي ، وأن الموقف لا يختلف بينهم من حيث الرأي، فلقد تصديا بصفتهما مركزي القيادة الدينية في العراق خاصة والعالم الإسلامي عامة ، وشيخنا الحلي يعيش الأمر نفسه، ولكن درجة المسؤولية الشرعية تختلف عما عاشها السيد الحكيم من قبل والسيد الخوئي بعده ، وكان الشيخ الحلي يقف إلى جانب المرجعية في مثل هذه الظروف ، ويساعدهم في الرأي ، وتحديد الموقف المقتضي ، على أساس تأييد المرجعية الدينية في أحلك ظروفها ضروة دينية .

ومن هذا المنطلق المبدئي لم يترك الشيخ الحلي المرجعية الدينية

ص: 105

وحيدة تغوص في أعماق السياسة ما لم يشاركها الرأي الذي يقتضيه الشرع الشريف في الميدان الخطير . فالظروف القاسية التي مرّ بها العراق بصورة عامة والنجف الأشرف على الخصوص، وما عانته المرجعية الدينية من نظام لم يحترم القيم الدينية، ولا يبالي في اجتثاثها ليخلو له الجو بكل فعالياته ، ليقيم على أطلاله سلطته الدكتاتورية الدنيوية . ورغم هذا فان المرجعية الدينية الشريفة في النجف الأشرف التي كانت تعاني مداهمة الأخطار لكنها كانت تقف إلى صف الشعب لم يرهبها سيف الحاكم، وشراسة الجلادين ، وسجلت موقفاً رائعاً في المحنة السوداء التي مرت على عراقنا مثل الصمود والتضحية والفداء من أجل عقيدتها وقيمها العليا، وشرف الحوزة العلمية النجفية .

٢ - أما اليوم والمتمثلة بالإمام السيد علي السيستاني (دامت بركاته) وبقية المراجع (أدام الله ظلهم) التي تحتفي بهم مدينة النجف الأشرف اليوم دخلت بكلها في خضم السياسة العراقية العامة، ولو على سبيل التوجيه والإرشاد ، نتيجة رجوع الجماهير إليها لتحديد الموقف المناسب والأصلح من الأحداث الجارية رغم عدم أخذها الكلي بمبدأ «ولاية الفقيه» كما هو رأي السيد الإمام الراحل السيد روح الله الخميني (عطر الله مرقده) .

إن الشيخ الحلي مع كونه انضم مع السيد اليزدي في الشأن السياسي العام ، إلا أن من خلال أبحاثه نرى أنه توسع في صلاحيات الحاكم الشرعي ، ولا يحصرها بأمور ضيّقة، ويمكن أن نتعرف عليها من خلال هذين النصين .

الأول : صلاحيات الحاكم الشرعي على الطلاق جبراً على الزوج متى طلبت الزوجة منه ذلك من غير فرق بين :

ص: 106

1 - من لم ينفق على زوجته

٢ - أو من أصيب بعنن بعد الوطء ولو مرة واحدة .

٣ - أو من ترك زوجته ولم يباشرها ولم يضاجعها مما ينطبق عليه عنوان الهجران بلا تقصير صادر منها ، أو غير ذلك من الموارد التي يعسر معها بقاء للزوجة بدون زوج، فيرى الشيخ الحلي الله التوسعة في صلاحيات الحاكم الشرعي وشمولها لهذه السلطة، وإجراء الطلاق جبراً على الزوج متى طلبت الزوجة ذلك منه.(1)

وفي موضع آخر «إنه في هذا المورد الذي يتمادى الزوج في امتناعه من القيام بشؤون الزوجية أن يجبر الزوج أولاً بأن يوقع الطلاق بنفسه ، فإن امتنع أجرى الحاكم بنفسه الطلاق جبراً عليه ، لأن الحاكم الشرعي لا يقف مكتوف اليد في مثل هذه الموارد» .(2)

الثاني : : ما جاء في بحثه الشوارع المفتوحة من قبل الدولة - أن ذكر طرقاً خمسة لعدم جواز المرور عليها ، قال شيخنا الأستاذ الح_ل_ي : ب_ع_د انسداد تلك الطرق الخمسة يحتاج إلى إثبات ولاية الحاكم الشرعي وعمومها لما يتوقف عليه النظام، وقد حققنا في محله عدم قصور أدلة ولاية الحاكم عن مثل ذلك ، وإن منعنا منها فيما لا يتوقف عليه الانتظام المشكلا كالحدود مما هو من خصائص الإمام علیه السلام .(3)

ونلاحظ من ذلك أن شيخنا الحلي لم يطلق صلاحيات الحاكم الشرعي ، فاعتبر مثل إقامة الحدود وغيرها من مختصات الإمام ، فلا تكون

ص: 107


1- عز الدين بحر العلوم - بحوث فقهية : ١٨٥ - ١٨٦
2- عز الدين بحر العلوم - المصدر المتقدم : 191
3- عز الدين بحر العلوم - المصدر المتقدم : ٢٤٦

له ولاية عامة وسلطة مطلقة، لكنه لم يضيقها في الموارد المنصوص عليها فقط ، بل سار في الجادة الوسطى حسب ما استفاده من الأدلة الشرعية .

إن شيخنا الحلي أحد الشخصيات العلمية الكبيرة في الوسط الإسلامي الشيعي لم يكن في العراق فحسب، وإنما تعرفه المجتمعات الشيعية في أغلب مدن العالم الشيعي، وعرف أكثر بقربه لكل المراجع العظمى التي حظيت بالرئاسة الكبرى في العالم الشيعي ، نظراً إلى أن الذين تسنموا هذه المكانة هم زملاؤه لدى دروسهم عند أعلام النجف السابقين ، وكان الغالب من المراجع لهم رأي في الأحداث السياسية التي حصلت في البلاد الإسلامية في مقدمتها العراق وإيران خلال تلك الحقبة ، بالإضافة إلى أن الشيخ لم يكن بعيداً عن هذه الأحداث الخطيرة التي عمت المنطقة وتعامل معها العلماء إيجاباً أو سلباً على اختلاف مواقفهم .

وبحكم صلتنا به _ وهو بمنزلة الأب الروحي لنا - لم نر منه قولاً أو كتابة بما يشير من قريب أو بعيد عن التأييد أو الرفض لتلكم الأحداث ، مع أنني شخصياً - وبحكم قربي منه _ كنت أناقشه في كثير من الأحداث ، وخاصة في وجود المرحوم والدي الذي كان بحكم مركزه الاجتماعي والسياسي في العراق لا يتباطأ في إعلان رأيه، ومن أجل تحديد الموقف الشرعي كان يتشاور مع الشيخ ، ويستنير برأيه في مثل تلكم الملمات الخطيرة ، وكان الشيخ لا يبخل عليه برأي ومشورة ، لكنه عند ما يطلب منه الادلاء برأيه الشخصي في الاعلام الخارجي كان يتوقف عن الإجابة ، بالخصوص إذا كان المقصود التصريحات الصحفية ، ولعله كان ملتزماً برأيه بفصل الدين عن السياسة، ومن هذا المنطلق كان حذراً من التدخل في القضايا السياسة خاصة الساخنة منها .

ص: 108

إن الشيخ الحلي بحكم معايشته للأحداث السياسية العراقية، وما حصل فيها من سفك دماء ، وإرعاب للناس ، وغمط لحقوق الجماهير ، واستغلال الأحزاب الظروف المواتية لصالح مراكزها ، ترك أثراً كبيراً في نفوس المتحمسين الوطنيين ودعاهم إلى الابتعاد من السياسة بل هجرها ، وهجر العراق إلى دول تتعاطف مع الديمقراطية، وتؤمن بحقوق الجماهير في التعايش السلمي، وحرية الرأي بدلاً من الاستحواذ السياسي . هذه الصورة القاتمة التي عكستها أوضاع العراق الحديثة بالإضافة إلى رواسب أحداث المشروطة والمستبدة في ايران ، وما دعا الميرزا النائيني إلى الارتداد عن رأيه الخاص بالنسبة للحرية السياسية ، ونبذ الاستبداد في السلطة وتناوب المآسي الفضيعة في العراق منذ ما يسمى بالحكم الوطني في العشرينات من القرن الماضي، تركت الشيخ للابتعاد عن الشأن السياسي : وفك الارتباط معها كمتصد ورائد لتلكم التحركات التي عاشها الإنسان العراقي من بداية القرن الماضي إلى يوم وفاته بالثمانينات .

إن هذه النظرة الفاحصة على مجمل الوضع السياسي العراقي من خلال هذه الأزمنة التي تعبّر عن نظرة عميقة لقراءة السجل التاريخي للعراق ، وحينها قد يكون من حقه الشرعي أن يبتعد عن الانزلاق في هذا الخط المثير للشبهات الشرعية ، والمشاكل الوطنية .

نهاية الحديث

بعد هذا التطواف المختصر في حياة شيخنا الحلي نستطيع أن نوجز أهم المراحل التي تؤرخ حياة شيخنا المعظم ، وتعكس للقارئ الكريم شخصيته الفذة ، إلى جانب ما تقدم نضيف الآتي :

ص: 109

أولاً : العالم المؤمن .

الإنسان الذي يحمل في دخيلته عقيدة معمقة بالله سبحانه وبمحمد صلی الله علیه و آله وسلم و أهل بيته علیهم السلام ويتكل عليهم في مهماته قطعاً ينال التوفيق من الله عز وجل، ويتبدل الضراء بالسراء من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب ، وينعكس ذلك على منظومة حياته في سلوكه وأخلاقه وأي جانب له علاقة بهذين المقوّمين : السلوك والأخلاق .

وشيخنا الحلي حين تنسجم معه في أقواله وأفعاله تراه مثلاً للايمان العميق بتوجهه السلوكي والأخلاقي ، ولعلنا نفهم ذلك من خلال ما نقل عنه أحد طلابه ، وأنه كان الشيخ في حالة عسرة وتوجه الله سبحانه ، فأبدله من حال إلى أحسن حال .

فقد نقل الشيخ إلى طلابه ذات يوم وهو يحدّثهم عن أثر المعتقد نفس الإنسان ، فقال :

«في أحد الأيام تحدث لنا الأستاذ في درسه قائلاً : كان أخي حائكاً ، وكنت أعمل في الخياطة، وكان والدنا من العلماء العظام، ويصلي في الصحن الشريف، فدخلت يوماً عليه وهو جالس في مكتبته مهموماً مغموماً ، فسألته عن سبب ذلك ؟ فقال : جمعت كل هذه الكتب ، ولكن لا أجد من يستفيد منها من بعدي . فتأثرت بكلماته ، وأظهرت له استعدادي في تحصيل العلم ، فسرّ بذلك واستبشر كثيراً ، فقام بتهيئة كافة مستلزمات وحاجيات طالب العلم من لباس وعمة وعباءة وقباء وما إلى ذلك، وقام بتوجيه الدعوة للأساتذة والأصدقاء لإجراء حفل ارتداء العمة وتاج الملائكة والانخراط بسلك الروحانيين ، وقد اختار يوم الحفل ذكرى ولادة أمير

ص: 110

مقدمة الكتاب

المؤمنين علي علیه السلام تبركاً بالمناسبة ، وفي الحفل انتابني الفرح والسرور الشديدان حيث أصبحت موضع الاحترام والتقدير من قبل الأصدقاء والأساتذة الأفاضل .

وأخذت غرفة في مدرسة القوام ، واشتغلت بالدراسة عند أساتذة الصرف والنحو ، وفي يوم دعاني والدي وسألني عن المرفوعات والمنصوبات في باب النحو ، ولم أتمكن من الإجابة ، ووجدت الأمر عسيراً عليّ، فتأثر والدي كثيراً لضياع الوقت والجهد من دون فائدة. وقال لي زاجراً : إن كنت غير قادر على الفهم فدع تحصيل العلم جانباً وارجع إلى الخياطة .

وكانت هذه بمثابة صدمة لي ، لأنني كنت مستأنساً باللباس الروحاني ، ومسروراً بما أجده من احترام وتقدير الآخرين لي، وخرجت من والدي باكياً، وتوجهت إلى غرفتي في مدرسة القوام، وخطر ببالي أن أتوضأ وأصلي صلاة الحاجة ، فدخلت الحجرة وصليت ركعتين ، وبعد الصلاة بكيت ، وخاطبت ربي قائلاً: إلهي أنت أعرف بحال والدي ، وأنا لا أريد إيذاءه ، وهو لا يتركني من دون أحد أمرين : إما تحصيل العلم، أو نزع العمة ، وأنا كلما حضرت الدرس لا أفهم شيئاً منه ، كما ليس بامكاني نزع العمة . فطلبت بدعائي : إما الفهم أو الموت، ومكثت في الغرفة باكياً متضرعاً لله حتى الصباح .

وكالعادة أخذت الكتاب في الصباح وذهبت إلى الدرس ، فوجدت نفسي أفهم كل ما يلقيه الأستاذ علي ، بل أصبحت فاهماً لما سلف من الدروس ، فحمدت الله كثيراً على ما حباني من الفهم وتقبل الدرس ، وهي نعمة بالغة .

ص: 111

ثم ختم حديثه الأستاذ الحلي قائلاً: تعجبت لسرعة استجابة الدعاء».

والظاهر أن نشوة الانفراج أنسته الآية الكريمة : «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان» (1)وإذا انقطع الإنسان إلى خالقه فلابد أن يجيب فهو الرحيم الودود ، وهكذا كانت تلك الساعة الفريدة التي انقطع فيها الشيخ إلى خالقه فألهمه الفهم والتوجه .

ثانياً : العالم المجدد .

ولعل الشيخ الحلي أول فقيه لجامعة النجف الأشرف يعيش المواضيع المستجدة المستحدثة، والتي تتطلب رأي الشريعة الغراء فيها، وحسب متطلبات العصر ، بمنهج رصين، وأسلوب متميز ، ظهرت خاصة في تقريرات تلميذه الشهيد السيد عز الدين بحر العلوم في كتابه «بحوث فقية» .

كما أبرز تصوراته الأصولية التي عبرت عن آرائه الجديدة تلميذه المرحوم آية الله السيد محمد تقي الحكيم في انطباعاته في بعض محاضراته الأصولية، خاصة فى الوضع والعرف والمعنى الحرفي وغيرها .

ثالثاً : العالم المحقق .

المطلع على مقتنيات مكتبته المتنوعة وما أجرى على أغلبها من ملاحظات وتعليقات وتصحيحات وهوامش ، يستطيع أن يحكم حينها على أن هذه الشخصية موسوعية، ملمة بالفقه والأصول والحديث والتاريخ

ص: 112


1- سورة البقرة / آية ١٨٦

والأدب. وليت الأخ ولده الفاضل الشيخ محمد جواد أن يفسح المجال الرواد الفكر بطبع هذا التراث القيم ليستفيد منها الكثير من طلاب المعرفة

رابعاً : الرجل العارف .

إن شيخنا الجليل من أولئك الأبدال الورعين الذين تركوا بهرجة الدنيا زاداً للآخرة ، ورغم أنه من لم يتظاهر بما يثير فيه الحرص على طلب هذه المظاهر التي لا علاقة بها مع الناس ، وإنما لتقربه من خالقه الذي منّ عليه بلطف المعرفة والفضل، وإذا كانت ثمة دلالة على ذلك فحياته البسيطة والعيش الكفاف، وعدم قبوله للمظاهر الدنيوية خير دليل على المدعى .

خامساً : العالم الموسوعي .

ولا شك أن شيخنا كان من الذين تبحروا في اختصاصه الفقهي والأصولي نتيجة انتمائه إلى مدرسة الفرسان الثلاثة : النائيني ، والعراقي ، والاصفهاني أقطاب الحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف، بالإضافة إلى الاطلاع الواسع على تراث العصر الذي خلفه أساتذة القرن م_ن بناة المدرسة الفقهية والأصولية في جامعة النجف بداية من عهد الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، والشيخ الطوسي، إلى جيل أجداده الحليين ، إلى عصره ، وما طرأ عليه من تطور فكري عظيم، مضافاً إلى تضلعه في التاريخ والأدب ، وما يتصل بهما من علوم، وكان ما يقرأه من الكتب المصدرية يفهرس لها فهرساً خاصاً بما يتعلق بالمذهب أو القضايا المتعلقة بالدين أو بعض النكات التاريخية أو الأدبية التي يرى فيها فائدة تاريخية أو معرفية ، وقد أكد هذا الأمر أحد تلاميذه السيد محمد حسين الطهراني اللاله زاري ،

ص: 113

حيث يقول :

هذا العالم متضلع وخبير ومنظم ، وكل كتبه سواء الشيعية أو العامة بعد مطالعتها يعمل لها فهرساً خاصاً لما يتعلق بالمواضيع التي يرى فيها خصوصية للمذهب أو غيره، وكانت هذه الفهارس موضع استفادة من يرغب للاستفادة بها .(1)

بعد هذا فان كل هذه المؤهلات الضخمة تساعدنا بدون تردد أن نقبل اللقب الذي أطلق عليه بحق «شيخ فقهاء عصره» وإن كان يعتز هو باصوليته - كما أشار إليها _ ونقل عنه «إني مشهور عند الناس بالفقه ، وأصولي أقوى من فقهي .

سادساً : العالم الوطني الرزين .

وأخيراً إلى جانب كل ذلك وطني شارك في الثورة ضد احتلال العراق في جهاد العلماء ضد الإنكليز، وعاش أحداث العراق في تطوراتها التي مرت عليه من ثورة العلماء في العشرينات إلى يوم وفاته في أشق مأساة يشهدها العراق في قرنه المتخم بالأحداث المؤلمة ، والسابحة في برك الدماء البريئة ، والقهر المبرمج ، والضيم القاتل ، والشعب هو الضحية بين تلكم الآلام التي تتمدد على حافة التاريخ لتربط الحاضر المقهور بالماضي المهزوز ، ولم يعلن رأيه ضدها، وهو _ حسب رأيي _ من الذين يرون لا شأن لعلماء الدين في السلطة زمن الغيبة ، ورغم أن خلع نفسه من ممارسة مسؤولية المرجعية المتصدية ، فان مشاعره المرهفة والحساسة لم

ص: 114


1- آيت نور محمد حسين الطهراني اللاله زاري : ١٦١/١ .

تتخل عن معايشة الكارثة وتفاعلاتها الخطيرة على الوطن والمواطن .

سابعاً : العالم المربي .

كان شيخنا الراحل الحلي يحرص كل الحرص على أن يولي غالب طلابه الاهتمام الكامل للاطلاع على ما يكتبه تلاميذه سواء أكانت من محاضراته التي يلقيها عليهم فقهاً وأصولاً، أو غيرهما من المواضيع التي تثار معه فتألف بحثاً قائماً في ذاته ، كما حدث مع الشهيد السيد عز الدين بحر العلوم في كتابه بحوث فقهية فقسم من مواضيع كتابه المذكور لم يتطرق لها المرحوم الشيخ في بحثه «التعطيلي» ، وحين رغب السيد الشهيد أن تكون ضمن بحوث الشيخ بدأ يهيئ المواضيع ويعرضها على الشيخ حتى إذا تبناها ضمها إلى كتابه المشار إليه .

وقد لاحظت أنه كان يهتم كثيراً أن يجري على بعض تقريرات دروسه التصحيحات المقتضية لشرح رأيه ، ونجدها مثبتة بعضها في صفحات

وأذكر أني جئته مستفسراً عن فقرة وردت في بعض خطب الإمام أمير المؤمنين علي علیه السلام حيث يقول فيها : «ثم يظهر صاحب القيروان الغض البض ذو النسب المحض من سلالة ذي البداء المسجى بالردى ...» (1)من هو هذا ؟ فرده بالامكان أن تبحث وتعرف من هو المقصود ، وعرفني بذلك !

راجعت كثيراً من المصادر حتى وقفت على أن المقصود بعبارة الإمام

ص: 115


1- ابن أبي الحديد - شرح النهج

هو جد الفاطميين الذين أسسوا الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر في نهاية القرن الثالث الهجري ، ولعله هو عبيد الله المهدي»، وطلب مني أن أبحث تاريخياً عنهم وأن أتابع بحثي عن الدولة الفاطمية، وهو يطلع على ما وصلت إليه ويقرأ ما أكتب ويصحح حين يرى استنتاجاتي مجافيات للواقع حتى وصل بي البحث إلى ثلاثة أجزاء ، ولازالت مخطوطة .

هكذا كان مربياً ويحرص كل الحرص على من يهتم لأمره أن يشجّعه على البحث والكتابة، ويرشده في كثير من الأحيان إلى المصادر المقتضية للبحث

ص: 116

نهاية البحث

في نهاية الحديث، يقول الأستاذ المرحوم محمد علي الحوماني الكاتب والأديب اللبناني الشهير عن الشيخ الحلي ، وكان يلتقي به في مجلس المرحوم السيد علي بحر العلوم اليومي :

كنت أجلس أحياناً إلى العلّامة المحقق الشيخ حسين الحلي فأجده منكمشاً على نفسه يسامر «نارجيلته» وهو مطرق لا يرفع رأسه إلا لسائل أو قائل ، فإذا أجاب أو وعى رجع إلى إطراقه يساجل سميرته ، ويكاد الشاعر الحساس يشرف على قلبه وهو مضغوط بين يدى اليأس من هذا المجتمع ، والنقمة على هذا النفر من الناس - عنيت النفر الذي هو منهم - وفي الطليعة من مقدمة جمهورهم الصاخب في وجه الطغيان .

الحلي كان الساعد الأيمن للمجتهد الكبير الميرزا النائيني المتوفى قبل أعوام ، ولقد كانت تثنى له الوسادة بين يدي عميده ، وكان هو المرجع الثاني إذ يرجع الناس إلى أستاذه ، وها هو اليوم معطل قابع يتلمس في ظلام هذا الأفق القاتم وجهاً يتذرع به إلى السلوى عما يرى ويسمع ، وهل هناك أشقى من عالم هجره قومه ، وفرغوا للالتفاف بمن هو دونه ، حتى انطوى على نفسه كما انطوى إمامه من قبل ، فحرم الناس من جوهر مرّ به ثلاثون وهو يصقله ليشع الأنفس القاتمة بما ينبعث عنه من نور» .(1)

لبى شيخنا الحلي نداء ربه في الرابع من شهر شوال عام ١٣٩٤ ه_ ،

ص: 117


1- محمد علي الحوماني - بين النهرين : ٩٤ - ٩٥ طبع بيروت مطبعة الكشاف ١٩٦٤

ودفن في الصحن الحيدري الشريف في مقبرة أستاذه الشيخ محمد حسین النائيني بالحجرة السادسة على يسار الداخل إلى الصحن الحيدري من الباب الكبير (باب الساعة) .

وقد أرخ وفاته المرحوم السيد محمد الحلي قال :

فجع الغري وأصبحت***تبكي القداسة والعلوم

لما قضى شيخ الفضائل***من به العليا تريم

إن (الحسين) لآي_ة***ف_يها الشريعة تستقيم

الحلة الفيحاء صارت***فيه تحسدها النجوم

وبه الغري سما مقاما***حين راح به يقيم

ساد الظلام بفقده***فوفاته خطب جسيم

فجع الوصي فأرخوا***(رزء الحسين به عظيم) (1)

139٤ه_

رحمك الله يا سيدي ، وحباك من رضاه وغفرانه في آخرتك ما آنس وحشتك ، ووفقنا لنحفظ حقك علينا ما دمنا نشعر بالحياة ، ونستضئ بالنور .

ص: 118


1- الحسيني - المصدر السابق : ٣٩ .

الصورة

ص: 119

[نص إجازة آية الله العظمى الميرزا النائيني لآية الله الشيخ الحلي في الاجتهاد والرواية]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأزكى تحياته وتسليماته على من اصطفاه من الأولين والآخرين وبعثه رحمة للعالمين محمد وآله الأئمة علیهم السلام الطيبين الطاهرين الكهف الحصين وغياث المضطر المستكين وعصمة المعتصمين وملجأ الهاربين ومنجى الخائفين واللعنة الدائمة على أعدائهم أبد الآبدين.

وبعد؛ فإن شرف العلم لا يخفى وفضله لا يحصى ، قد ورثه أهله من الأنبياء ، وأدركوا به درجات الصديقين والشهداء. وممن جد في الطلب والعمل به هو قرّة عيني العالم العامل العلّام والفاضل الكامل الهمام ، صفوة المجتهدين العظام وعماد الأعلام وركن الإسلام المؤيد المسدد التقي الزكي جناب الأغا الشيخ حسين النجفي الحلي كثر الله تعالى في أهل العلم أمثاله ، وبلّغه من الدارين آماله . فلقد بذل في هذا السبيل برهة من عمره واشتغل به شطراً من دهره ، وقد حضر أبحاثي الفقهية والأصولية باحثاً فاحصاً مجتهداً باذلاً جهده في كتابة ما استفاده وضبطه وتنقيحه ، فأصبح وهو بحمد الله تعالى من المجتهدين العظام والأفاضل الأعلام ، وحق له العمل بما يستنبطه من الأحكام على النهج الجاري بين المجتهدين الأعلام ، فليحمد الله تعالى على ما أولاه ، وليشكره على ما أنعمه به وحباه ، فلقد كثر الطالبون وق_لّ الواصلون ، وعند الصباح يحمد القوم السرى وينجلي عنهم غلالات

ص: 120

الكرى .

ولقد أجزت له أن يروي عني جميع ما صحت لي روايته من كتب الأدعية والتفسير والفقه والحديث وغير ذلك، سيما الصحيفة المباركة العلوية والسجادية ونهج البلاغة والكتب الأربعة التي عليها المدار : الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ، وكذلك الجوامع الأخيرة : الوسائل ومستدركه والوافي والبحار، وغير ذلك من كتب أصحابنا الإمامية ، وما رووه عن غيرنا بحق إجازتي من مشايخي العظام بأسانيدهم الكثيرة المفصلة في فهارست الشيوخ وكتب المشيخة والمنتهية إلى أرباب الجوامع العظام والكتب والأصول، ومنهم إلى أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي ومعدن العصمة صلوات الله عليهم أجمعين .

فمن ذلك ما أرويه عن شيخي العلّامة فقيه ده_ره ووح_ي_د ع_ص_ره حضرة الحاج الميرزا حسين الميرزا خليل الطهراني النجفي ، وكان كثير الاهتمام بتكثير طرقه ويروي عن ثلة من الأساطين الذين عاصرهم أو أدركهم ، وبعد أن أجازني أن أروي عنه عن جمعيهم قال ما يقرب من هذه العبارة (أعلاها سنداً وأقلها واسطة ما أرويه عن العلّامة الطباطبائي بحر العلوم نُوّر (ضريحه) بواسطة واحدة) وهون سمى لي الواسطة ، لكني الآن متردد في شخصه ، ولا يسعني استقصاء سائر من كان يروي عنهم فإنهم كثيرون ، ولنقتصر من ذكر مشايخه في الإجازة على ذلك ، وفيه الغنى والكفاية، والحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وتحياته على رسوله وآله الطاهرين .

وأوصيك يا ولدي وقرة عيني بملازمة التقوى والتحذر من أن تغرّك الدنيا ، فإنها بحر عميق وقد غرق فيها عالم كثير ، لا ينجو من الغرق فيها إلا

ص: 121

من ركب سفينة التقوى ، مراعياً في حشوها وقيمها وسكانها ودليلها وشراعها ما في رواية هشام المروية في الكافي في أوائل كتاب العقل والجهل ، وعليك يا ولدي بالإكثار من ذكر الموت وإقلال الغفلة عنه ، ه ، وأن تكثر التأمل والتدبر فيما رواه في النهج عن مولانا أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله الطاهرين في هذا الشأن، خصوصاً فيما رواه عنه بعد تلاوته (ألهكم التكاثر) ، فإن في كثرة التأمل والتدبر فيه شأنا من الشأن ، عصمنا الله تعالى جميعاً من مرديات الهوى، ووفقنا لما يحب ويرضى ، ورزقنا التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت بالنبي وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، وأرجوه أن لا ينساني من صالح دعواته إن شاء الله تعالى .

وحرره بيمناه الدائرة في يوم مولد النبي صلی الله علیه و آله وسلم

17 ربيع الأول ١٣٥٢

أفقر البرية إلى رحمة ربه الغني

محمد حسين الغروي النائيني

ص: 122

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين علیهم السلام .

شهد الفكر الأصولي الإمامي مراحل وأدوارا ساهمت جميعها في منحه نضجاً معرفياً كبيراً وكياناً استقلالياً واضحاً وعمقاً ذاتياً فريداً ، مما أثمر عن تكاملية نسبية مثلتها - ولا زالت - مدرسة الشيخ الأعظم الأنصاري تبين ، التي ما دمنا نقتات على مائدة مبانيها ونغرف من معين آرائها ، فهي الضاربة جذروها والشاهقة آثارها في الأفق العلمي الرحيب . وميدان الثقافة بكل جلاء وبهاء . وكان حقاً أن تستمر هذه المدرسة بنتاجها الغض الطري المتجدّد ، بفضل المراجعات الدؤوبة والمناقشات السديدة والمحاكاة الهادفة البناءة ، الأمر الذي أضفى عليها مزيداً من النضارة والإحكام .

وممّن أسهموا في تفعيل وتطوير هذه المدرسة الرائدة : العالم الجليل والمتتبع النبيل أستاذ الفقهاء والمجتهدين سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلّي ، الذي رفد المكتبة الأصولية وأتحف الأوساط العلمية بأثره القيم كتاب «أصول الفقه» ، هذا السفر الذي اكتنف آخر آراء المصنف الأصولية التي طرحها بأسلوب التعليقات المبسوطة على مباني أستاذه الكبير المحقق النائيني .

وقد كان متن تعليقاته من : كتاب «أجود التقريرات» في مباحث الألفاظ ، وكتاب «فوائد الأصول» في مباحث الحجج .

ص: 123

والجدير بالذكر أن النهوض بهذا المشروع كان بأمر من سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني - مد ظله ، وتأكيدات نجله الفاضل حجة الإسلام والمسلمين السيد محمدرضا السيستاني زيد عزه .

مراحل العمل في تحقيق الكتاب :

قد يستغرب القارئ الكريم إذا ما قيل له إنّه لما شاهدت اللجنة المخوّلة للتحقيق (مع مالها من خبرات سابقة) تلك الأوراق والدفاتر المرسلة من النجف الأشرف المتضمنة لما سجله قلمه الشريف (مع اضافات وملحقات أضافها المصنّف ، ويبدو أنها نتيجة ثلاث دورات بحث خارج في الأصول) ظهرت عليها بوادر اليأس من إمكان تحقيق هذا السفر وإعداده للطبع لولا من كان يقف وراء الأمر خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك الأنفاس القدسية لذلك الرجل العظيم صاحب هذا الكتاب القيم الذي كان دعامة كبرى في حل المشكلات التي كانت تبرز في طيات العمل ، هذا .

ونستطيع أن نلخص عملنا الدؤوب في هذا الكتاب ضمن أمور :

١ - واجهنا في بدء العمل مشكلة وهي أن تلك الدفاتر التي كانت بخط المصنف تدلى لم يمكن للطباعين (الذين نعرفهم طبعها) ، من هنا قامت اللجنة باستنساخها وإعادة كتابتها باليد بخط واضح ثمّ تقديمها لصف الحروف ، مما كان يستغرق وقتاً كبيراً ، وقد تم العمل على ذلك في المجلد الأول والثاني والثالث التي تم طبعها بيد الأخ السيد مهدي يوسف الحكيم ، ولكن بفضل جهود الأخ السيد فاضل الموسوي استغنينا في الأجزاء الأخيرة عن الاستنساخ فجزاه الله خير جزاء العاملين .

٢ - الكتاب الذي بأيدينا كان عبارة عن دفاتر كبيرة ، قسمناها إلى اثني

ص: 124

عشر جزءاً، فخرجت بحمد الله كما هي عليها الآن .

٣ - الجزء الأوّل إلى الخامس هو شرح وتعاليق المصنف تدل على قسم الألفاظ من أجود التقريرات، ولكن تعاليقه كانت على الأجود المطبوع قديماً والذي تختلف عباراته أحياناً - إن لم نقل كثيراً ما ولو بلا تغيير أساسي في المعنى - مع الأجود المطبوع حديثاً ، كما أن ذلك الأجود المطبوع قديماً - غير المتوفر في الأسواق ، ولذا كنا نتكلف بالذهاب إلى مكتبة السيد المرعشي لم يكن يشتمل على هوامش للسيد الخوئيني ، ولذا قمنا بتطبيق ومقارنة ما هو موجود في الطبعة القديمة مع ما هو الموجود في الطبعة الحديثة أعني المطبوعة مع تعاليق السيد الخوئين ، وحيث إن المتوفر في الاسواق فعلاً هو الأجود المطبوع حديثاً من هنا كان المعوّل في التخريجات عليه . إلا أننا حاولنا الاشارة إلى موضع الاختلاف في الهامش

كما أن من الجزء السادس إلى آخر الموسوعة وهي سبع مجلدات علق الماتن فيها على كتاب فوائد الأصول مباحث الحجج ، ولا تختلف نسخ الفوائد في عباراتها وإن تعددت طبعاتها، لكنا اخترنا الطبعة الحديثة طبع مؤسسة النشر الإسلامي .

٤ - قمنا بمطالعة علمية دقيقة للكتاب وتصحيح الأخطاء الإملائية ،وغيرها، وغالباً ما أشرنا إلى التصحيحات، وأشرنا إلى ما غيرناه في الهامش ، كما أن ما أضفناه جعلناه بين معقوفتين وربما أشرنا في الهامش إلى أنه لم يكن في الأصل وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ، كل ذلك بعد حرصنا على التحفظ على ما رسمه قلمه الشريف - مهما أمكن _ ولو بتكلف

ص: 125

توجيهات غير قريبة .

5 - قمنا باستخراج المصادر من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وأقوال العلماء وأهل اللغة مهما أمكن ، وإذا لم نعثر عليه فغالباً ما أشرنا إليه في

الهامش ، كما قمنا بارجاع ما تقدم أو يأتي ، كل ذلك حرصاً منا على إخراج هذا السفر بحلة قيّمة تتناسب مع مقام مؤلفه العظيم

٦ - قمنا بتقطيع النص وضبطه وتقويمه واخراجه بهذا الشكل الذي تسهل مراجعته .

7 _ هناك ملحقات واضافات ذكرها المصنف تير في دورات مختلفة من درسه لخارج الأصول حاولنا جهد الامكان درجها في المتن وإذا عصى علينا ذلكأدرجناها في الهامش وأشرنا إلى أنه منه تين

8 - قام المصنف بنفسه في موارد كثيرة بالتعرض للمجلّد وللصفحة التي ينقل المطلب منه ، ولكن بما أن استخراجه كان من الطبعات القديمة فقمنا بحذف ما ذكره في المتن من رقم المجلد والصفحة وذكرنا المصدر بتمامه في الهامش. نعم فيما ينقل مضموناً من أحد وليس نصاً وقد أعطى رقم الصفحة، حاولنا ابقاء ذلك في المتن ولكنا في الهامش استخرجناه من المصدر الجديد فمن باب المثال إذا ذكر المصنف هكذا «قال في الحاشية على الطبعة الجديدة ص ٥٠ : والتحقيق ٥٠ ه : والتحقيق ...» حذفنا رقم المتن وذكرنا المصدر في الهامش من أجود التقريرات . وأما إذا من ذكر هكذا «كما في تحريرات السيد سلّمه الله من دون 50 : » من دون أن ينقل نص عبارته ، ففي هذه الصورة أبقينا رقم الصفحة ثم أدرجنا في الهامش رقم المجلد والصفحة من الطبعة الحديثة، كل ذلك حرصاً منا على عدم

ص: 126

التصرف مهما أمكن فيما سجله قلمه الشريف تر

9 - هذا، ونتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الحجة الشيخ محمد الكلباسي حيث تفضل علينا بنسخة أخرى من هذا الكتاب بخط والده آية الله الشيخ محمد حسين الكلباسي .

10 - وأخيراً لا يمكننا أن ندعي خلو هذا الكتاب عن أخطاء زاغ عنها البصر ، إلا أننا حاولنا مهما أمكن تفادي تلك الأخطاء، ولكن العصمة لأهلها .

جواد الشيرازي

محمد تقي الغروي

محمد صادق سيبويه

علي الايرواني

ص: 127

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الأول

ص: 1

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

أصول الفقه

اُصول الفقه

اشارة

اُصول الفقه (1)

[ مرتبة علم الاصول وموضوع كل علم ]

قوله : الفصل الأول في تعريف العلم وموضوعه وفائدته ورتبته - إلى قوله : - وأما تعريفه فقد علم مما سبق إجمالا ، وتفصيله : هو العلم بالقواعد التي إذا انضمت إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية ... إلخ (2).

لا ينبغي التردد في كون الاصول ليس فنّا مستقلا ، بل هو من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ، فانّ هذه اللفظة وهي اصول الفقه كافية في الدلالة على ذلك ، وأنّه من المبادئ.

وتوضيح ذلك : هو أنّ المبادئ التصديقية عبارة عن الامور التي تبتني عليها قياسات العلم ، وتوجب الاذعان بالنسبة الحكمية في قضاياه ، وهي ثبوت محمولات المسائل لموضوعاتها ، ولو لا تلك المقدّمات لما أمكن التصديق بتلك النسب. فكان حقها أن تكون من المقدمات التمهيدية لذلك العلم المتوقف عليها ، باعتبار أنّ الكبريات لا بد أن تكون في مقام الاستدلال مسلّمة لتكون حين الدخول في ذلك الفن مفروغا عنها ، ومن الواضح أنّ الاصول من المبادئ.

ص: 5


1- كان شروعنا في هذه الدورة في شوال سنة 1375 ، وكان شروعنا في التي قبلها سنة 1366 ، وقد تمت هذه الدورة وشرعنا في دورة جديدة شوال سنة 1381 [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 1 : 5 [ لم يرد في نسخة الأصل هنا ذكر لهذا المتن من الأجود - كما هو دأب المصنف قدس سره في هذا الكتاب - وإنما هو اضافة منا رعاية للتناسب ].

وإن شئت فقل : إنه من المقدمات التمهيدية لعلم الفقه ، فانا قد ذكرنا في بحث الاجتهاد والتقليد أنّ عمل الفقيه عند إرادته معرفة الحكم في واقعة من الوقائع يدور على امور أربعة مترتبة : فالأول هو الدليل الاجتهادي. الثاني : الاصل الشرعي الاحرازي. الثالث : الأصل الشرعي غير الاحرازي. الرابع : ما ينتهي إليه حكم العقل من براءة أو احتياط أو تخيير ، وهذه الامور هي روح اصول الفقه ، وهي متشتتة متفرقة محمولا وموضوعا ، ولأجل ذلك سميت اصول الفقه ولم تسم بأصل الفقه.

ولهذه الامور امور أخر تكون كالمدخل الى هذه الامور ، خصوصا للأوّل منها أعني الدليل الاجتهادي ، فانه يتوقف على الكثير من مباحث الألفاظ ، وأهم مباحث الجزء الثاني الذي يصطلحون عليه بالأدلة العقلية.

فالنحو ونحوه من الصرف واللغة وبقية العلوم إن توقف عليها الاستنباط ، فلا مانع من عدّ ذلك الذي يتوقف عليه الاستنباط منها من الاصول ، وإدخاله فيه كما صنعه العلامة في كتابه المختصر أعني التهذيب في الاصول حيث أدرج جملة من مسائل علم النحو واللغة فيه.

ولأجل ما ذكرناه من كون الاصول من مبادئ الفقه ترى الكثير من فقهائنا يذكرون مسائله في مقدمات كتبهم الفقهية ، فلاحظ كشف الغطاء ، والحدائق ، والمعالم الذي هو مقدمة لفقه المعالم المطبوع بعضه ، ولأجل ذلك صدّر كتابه بتعريف الفقه ، فقال : الفقه هو العلم ... إلخ (1).

قوله : أما المقدمة الاولى : فتشتمل على تعريف كلي موضوع العلم ، وتمييز العوارض الذاتية من الغريبة - إلى قوله : - بيان ذلك : أن

ص: 6


1- معالم الدين : 26.

العارض تارة يعرض بلا وساطة شيء أصلا ، كادراك الكليات ... إلخ (1).

ولا يخفى (2) أنّهم قسّموا الواسطة الى الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت والواسطة في الاثبات.

وعرّفوا الاولى : بأنّها الواسطة في الحمل ، بمعنى أن العارض يحمل على الواسطة ، وبواسطة حمل الواسطة على الموضوع يكون ذلك العارض محمولا على ذلك الموضوع.

ونقلوا عن الشيخ الرئيس (3) تعريفها بأنها ما يقترن بقولنا « لأنّه » حين يقال « لأنّه كذا » كما يقال إنّ هذا الشخص متحرك الاصابع لأنه كاتب ، أو إن العالم حادث لأنّه متغيّر.

وعرّفوا الثانية : بأنها العلة في عروض العارض على المعروض.

والثالثة : بأنها ما أوجبت العلم بثبوت العارض للمعروض.

ص: 7


1- أجود التقريرات 1 : 6 - 7 [ هذا الكلام من متن الأجود لم يرد في نسخة الأصل وإنّما ذكرناه هنا للتناسب مع سائر الموارد ].
2- [ جاء في الأصل ورقة مرفقة تضمنت نقل عبارة المحقّق الاصفهاني لم يحدّد لها قدس سره موضعا ، فرأينا إيرادها هاهنا ( أول البحث ) لأنها تنبّه على المشكلة التي أدت إلى طرح هذه الأبحاث وهي ] : قال العلاّمة الاصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية [ نهاية الدراية 1 : 19 - 20 ] : مع أنّهم صرحوا أيضا بأن العارض للشيء بواسطة أمر أخص أو أعم داخليّا كان أو خارجيا عرض غريب ، والأخص والأعم واسطة في العروض ، فيشكل حينئذ بأن أغلب محمولات العلوم عارضة لانواع موضوعاتها ، فتكون أعراضا غريبة لها ، كما أن جل مباحث هذا العلم يبحث فيها عما يعرض لأمر أعم من موضوع هذا العلم كما لا يخفى. وقد ذهب القوم في التفصي عن هذه العويصة يمينا وشمالا ولم يأت أحد منهم بما يشفي العليل ويروي الغليل ، إلخ.
3- الاشارات والتنبيهات 1 : 162 ، نقل ذلك في شرح المطالع : 18.

ولازمه سقوط هذا التقسيم ، لأنّ كلا من هذه الوسائط التي عدّوها واسطة في الحمل لا تكون إلا علة في عروض محمولها على الذات ، فانّ الناطق علة في عروض الادراك على الانسان ، وهكذا الحال في الحيوان والماشي ، وهكذا الحال في الأعراض ، إذ لا يخفى أنّ العرضين لمعروضين أو لمعروض واحد ، مع فرض كون انتساب كل منهما الى معروضه نسبة حقيقية ، إن لم يكن بينهما ارتباط العلية والمعلولية مثل بياض الجسم وحرارته ، فلا يكون أحدهما واسطة في الآخر بأي معنى أخذنا الواسطة من هذه المعاني الثلاثة ، وإن كان أحدهما علة لعروض الآخر على معروضه مثل الكتابة التي هي علة في عروض حركة الاصابع على الذات ، كانت العلة واسطة في الثبوت.

قال في البدائع : وما يعرض الشيء باعتبار وسائط الثبوت كلها عرض ذاتي بالمعنى المشار إليه (1).

وقال في الحاشية : إذ لو كان الخارج واسطة في الثبوت وكانت الصفة عارضة للذات أوّلا وبالذات من دون اعتبار عروضها أوّلا لغيرها ، كانت من الاعراض الذاتية (2). وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) نقل عبارة الفصول.

ثم لا يخفى أنّه مع كون الواسطة واسطة في الثبوت يتولد من ذلك الانتقال اللّمي ، ولو كان الانتقال بالعكس كان إنّيا. وان كان العرضان معا معلولين لعلة ثالثة لم يكن أحدهما واسطة في العروض بالنسبة إلى الآخر ، ولا واسطة في الثبوت. نعم يكون أحدهما واسطة في الاثبات بالنسبة إلى

ص: 8


1- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 30.
2- هداية المسترشدين 1 : 110.
3- في صفحة : 20.

الآخر ، ويتألف من ذلك الانتقال من هذا المعلول إلى علته وهو إنّي ، ثم بعد ذلك الانتقال من العلة إلى المعلول الآخر وهو لمّي ، وليس لنا عرضان منسوبان إلى معروضهما نسبة حقيقية خارجان عن هذه الأقسام الثلاثة أعني عدم الربط بينهما ، أو كون أحدهما معلولا للآخر ، أو كونهما معلولين لعلة ثالثة ، وحينئذ فما هي الواسطة في العروض مع فرض كون نسبة العرض إلى معروضه بتلك الواسطة نسبة حقيقية ، وسيأتي (1) تحقيق ذلك عند نقل كلام صاحب الحاشية إن شاء اللّه تعالى.

أما العارض الذي يعرض عارضا آخر مثل الشدّة العارضة للبياض العارض للجسم ، والسرعة العارضة للحركة العارضة للجسم ، فليس ذلك من قبيل الواسطة في العروض ، لأنّ الشدّة ليست من عوارض الجسم وكذلك السرعة ، وإنما هي من عوارض عارضه وهو البياض في الأول والحركة في الثاني ، ولا يتصف الجسم بالشدة ولا السرعة إلاّ باعتبار التجوّز من قبيل نسبة العرض إلى الذات باعتبار ملابسها نظير نسبة الطول إلى زيد باعتبار كونه طويل الأب ونحو ذلك من النسب المجازية مثل قولهم : جرى النهر وسال الميزاب ، هذا بالنظر إلى النظر العرفي.

وأما بحسب الدقة ومحالية قيام العرض بالعرض فليس هناك عرضان يكون الثاني منهما وهو السرعة قائما بالحركة ، ويكون الأول منهما وهو الحركة قائما بالجسم ، لما عرفت من استحالة قيام العرض بالعرض ، وقد تخلّصوا من ذلك بما يفيدونه من قولهم : إن ما به الامتياز في البسائط عين ما به الاشتراك (2) ومفاد ذلك أن صفات العرض عين ذاته ، وحينئذ فلا

ص: 9


1- في صفحة : 30 - 32.
2- وهذه العبارة كسائر عبائرهم المعقّدة ، والظاهر أنّ المراد هو أنّ البسائط لمّا لم يكن لها جنس ولا فصل ، لم يكن بينها اشتراك بحسب الذات ، بل كان كل منها مباينا للآخر بالذات ، فهذا البياض الشديد وذلك البياض الضعيف متباينان بالذات. ولا يخفى أنّ هذا جار في الفصول مثل الناطق والصاهل ، وهكذا الحال في مقابلة الجنس والفصل بمعنى المادة والصورة. والحاصل : أنه لا اشتراك في أمثال ذلك إلاّ بعناوين انتزاعية ، بخلاف المركبات من جنس وفصل فانّ ما به الاشتراك فيها وهو الجنس مغاير لما به الامتياز وهو الفصل ، ولكن من لا يؤمن بالجنس والفصل يمكنه القول بأنّه لا مائز بين هذا النوع وهو الإنسان مثلا وذلك النوع الذي هو الفرس إلاّ بعوارض زائدة على الذات. [ منه قدس سره ].

يكون في البين إلاّ عرض واحد ، فتخرج المسألة أيضا عن الوسائط الثلاثة ، فلاحظ وتأمّل.

أما البياض والسطح ، وجعل الثاني واسطة في عروض البياض على الجسم وأن المعروض الحقيقي هو السطح ، فلا يخفى ما فيه ، حيث إن نفس السطح الذي هو نفس الطول والعرض المفروض كونه من عوارض الجسم لا واقعية لاتصافه بالبياض ، وإنّما المتصف بالبياض هو نفس الجسم ، وليس السطح واسطة عروضية في ذلك ولا ثبوتية.

ولعلّ الأولى هو أخذ الواسطة بمعنى العلة ، فيقال واسطة في العروض بمعنى أنها علة في عروض العارض على معروضه ، فتنطبق على الواسطة في الثبوت. ويكون معنى الواسطة في الاثبات ما يكون علة في الاثبات. فليس لنا إلا واسطتان : واسطة في العروض وهي الواسطة في الثبوت ، وواسطة في الاثبات ، وهي شاملة للعلة التي هي الواسطة في الثبوت أعني العروض ، وللمعلول ، ولأحد المعلولين بالنسبة الى الآخر ، وهذا هو المستفاد من عبارة شرح المطالع وحاشية الشريف عليها (1).

ص: 10


1- شرح المطالع : 19 ، وسيأتي ما يرتبط بالمقام في صفحة : 22.

ثم إنّهم قد ذكروا العوارض الغريبة ووسائطها العروضية ، فقال بعضهم (1) : والغريب ما يعرضه بواسطة عروضية خارجة أعم منه كالحاجة للانسان لأنّه ممكن ، والمشي للناطق لأنه حيوان ، أو أخص كالتعقل للحيوان بواسطة الناطق ، من غير فرق في جميع ذلك بين أن يفرض للعرض واسطة ثبوتية وبين عدمه ... إلخ.

ولا يخفى أن الامكان علة لعروض الحاجة على الانسان ، ولو جعلنا الحاجة والامكان من قبيل الحركة والسرعة جرى فيهما الاشكال المتقدم فيهما. وأما المشي للناطق ، فان أخذنا الناطق فصلا أعني نفس الصورة فليس المشي من عوارضه ، وإن أخذناه حاكيا عن النوع أعني نفس الانسان ، فالمشي من عوارض جزئه الأعم ، وهو في نظره من العوارض الذاتية.

ولنا أن نقول : إن الحيوانية علة في عروض المشي على النوع الخاص أعني الانسان المركب من الحيوان الناطق ، ولنا أن نقول : إن المشي لم يعرض على الانسان وإنما معروضه هو الحيوان الموجود في ضمن الانسان كعروضه للحيوان الموجود في ضمن الفرس.

وأما ذكره التعقل للحيوان بواسطة الناطق فهو عجيب ، حيث إن التعقّل لا ينسب حتى ولو مجازا إلى الحيوان ، وليس هو من عوارضه لا دقة ولا عرفا. ولو سلّمنا كونه من عوارض الحيوان فجعل الناطق واسطة في عروض التعقل على الحيوان عجيب ، لأنه يعتبر الحمل في الواسطة العروضية ، فانه قال : المراد بالواسطة في العروض ما يقترن بقولنا « لأنه »

ص: 11


1- وهو المرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في شرح منظومته في المنطق [ منه قدس سره ] راجع منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 20.

حين يقال : « لأنه كذا » كما نص عليه الرئيس ، فهي المحمول الذي يلحقه العرض أوّلا ويحمل عليه ، ثم من جهة كونه محمولا على آخر ومتحدا به يحمل العرض على ذلك الأمر الآخر (1).

ومن الواضح أن الناطق لا يحمل على الحيوان ، ولو اريد حمله على بعض أفراد الحيوان وهو الناطق لم يكن ثمة واسطة عروضية ، إذ ليس إلاّ التعقل وهو محمول على ذلك البعض وعارض عليه بلا واسطة عروضية.

واما الوسائط العروضية في الأعراض الذاتية ، فهي ما أفاده بقوله : فالذاتي يعني العرض الذاتي ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض كالامكان وقسميه ، فانّ لحوقها لمعروضاتها بلا واسطة عروضية أو بواسطة فيه داخلة في المعروض مساوية له كادراك المجرد العارض على الانسان بواسطة الناطق ، أو أعم منه كالمشي اللاحق له بواسطة الحيوان ، أو خارجة مساوية كالأطراف العارضة للجسم بتوسط عنوان المتناهي (2).

ولا يخفى جريان الاشكال السابق في السرعة والحركة في الأطراف والتناهي ، وأما المشي للانسان بواسطة الحيوان فقد عرفت أن معروض المشي إنّما هو الحيوان لا نفس الانسان ، ولو سلّمنا أنه عارض على نفس الانسان لقلنا إنه بعلة جزئه الذي هو الحيوان ، فتكون الحيوانية واسطة في ثبوت المشي للانسان لا واسطة في العروض ، وهكذا الحال في إدراك المجرّدات العارض على الانسان بواسطة الناطقية.

ومن ذلك كله يظهر لك أن العوارض للشيء ليس فيها غريب ، فانّ الفارق بين الذاتي والغريب هو الواسطة في العروض ، فان كانت داخلة في

ص: 12


1- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 21 - 22 وفيه : ويحمل عليه من جهة ...
2- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 20.

المعروض أو كانت خارجة مساوية له ، كان العرض بواسطتها ذاتيا ، وإلاّ كان العرض غريبا ، وحيث قد أنكرنا الواسطة في العروض يكون التقسيم المذكور ساقطا من أصله ، ولا يكون في عوارض الشيء ما هو غريب ، نعم بعضها يكون العلة فيه نفس الذات ، وبعضها يكون العلة فيه شيء آخر كجزء مساو أو أعم أو خارج كذلك. نعم إن العارض على الشيء تارة يكون مختصا به واخرى يكون أعم بأن يعرض غيره كما يعرضه.

والذي تلخص : أنّ الواسطة بالعروض بمعنى ما تكون هي وذوها عارضين على الذات ، ويكون ذو الواسطة عارضا على نفس الواسطة ، وهما معا عارضان على نفس الذات ، لا واقعية لها ، وأنّ حركة الأصابع وإن كانت هي والكتابة عارضين على الذات ، إلاّ أنّ حركة الأصابع لا تكون عارضة على الكتابة ، نعم إن الكتابة علة في عروض الحركة على الذات فتكون علة في ثبوت الحركة (1) فلا تكون إلاّ واسطة في الثبوت ، وبسبب ذلك تكون واسطة في الاثبات.

بل قد يقال : إنّه لا تعدّد في البين ، وأنّ حركة الأصابع عين الكتابة ، وأمّا شدة البياض فهو وإن كان عارضا على نفس البياض إلاّ أنّه لا يكون الشدة المذكورة عارضة على الذات إلاّ بنحو من التجوّز كما شرحناه.

ويبقى الكلام في صحة كون الشدة على البياض ، فانها من قبيل قيام العرض بالعرض ، وحيث إنّ العرض بسيط تكون صفته عين ذاته ، ويكون الامتياز بين البياضين من قبيل أنّ ما به الامتياز عين ما به الاشتراك كما هو الشأن في جميع البسائط ، حتى في مثل فصل الانسان وهو الناطق وفصل

ص: 13


1- [ في الأصل : الكتابة ، والصحيح ما أثبتناه ].

الفرس وهو الصاهل. ولو سوّغنا عروض العرض على العرض لم يكن ذلك موجبا لكون البياض واسطة في العروض بالنسبة إلى الشدة ، لما عرفت من أنّ الجسم لا يتصف بالشدة.

ولعلّ مرادهم هو أنّ العارض لا بد أن يكون عارضا للواسطة. نعم إنّ الواسطة تارة تكون جزء الذات واخرى تكون عارضة للذات ، وجزء الذات قسمان ، والعارض لها اثنان أيضا ، فيخرج الثالث وهو ما كانت الواسطة مباينة ، لكن إخراجه يكون بلا جهة ، فانّ ملاك التقسيم هو كون عروض العارض لذات الشيء أو لجزئه أو للخارج عنه ، وهذا عبارة اخرى عن كون المنشأ هو علة العروض ، فيرجع إلى ما في المطالع. وبالجملة لا معنى للتوسط في العروض في قبال علة العروض إلاّ ما ذكرناه من كون الواسطة وذيها عارضين على الذات مع كون ذي الواسطة عارضا على الواسطة وهو ما ذكرناه من كونه لا مصداق له.

والحاصل : أنّ المراد بالواسطة في العروض إن كان بمعنى أنّ العارض يعرض عليها ، وهي وذلك العارض عارضان على الذات عروضا حقيقيا ، ففيه : أنّ ذلك لا يتصور في كون الواسطة جزءا ذاتيا أعم أو أخص ، لأنّ الواسطة وهي الجزء ليست عارضة على الذات ، كما أنه لا يتصور في الواسطة الخارجة مثل توسط الكتابة في حركة الأصابع ومثل توسط البياض في الشدة ، فانّ الأول لا يكون العارض فيه وهو الحركة عارضا على الكتابة التي هي الواسطة ، والثاني لا يكون العارض فيه عارضا على الذات عروضا حقيقيا ، فانّ الشدة لا يتصف بها الجسم ، وهكذا في مثل سرعة الحركة ، ولا بد حينئذ من تفسير الواسطة في العروض بالواسطة

ص: 14

في الحمل ، وسيأتي (1) الكلام على إبطاله في جواب قولنا : لا يقال إنّ هذه الوسائط ... إلخ.

وأما ما نقلوه في تفسير الواسطة في العروض عن الشيخ الرئيس (2) بأنها ما يقترن بقولنا « لأنه » حين يقال : لأنه [ كذا (3)] فلعلّه تفسير للوسط في الشكل الأول كما ربما يظهر ممّا نقله عنه في شرح المطالع (4) فلا يكون إلاّ تفسيرا للوسط في الاثبات ، وهو الأوسط المتكرر في الشكل الأول ، مثل التغير في قولنا : العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث ، ويكون الانتقال لميّا.

ولو قلت : إنّ العالم حادث وكل حادث متغير فالعالم متغير ، كان الانتقال إنيّا ، لكون الأول من الانتقال من العلة التي هي التغيّر الى المعلول وكون الانتقال في الثاني من المعلول الذي هو الحدوث الى العلة التي هي التغير ، ولعل ذلك هو مراد من قال : إنّ الواسطة في العروض هي الواسطة في الحمل ، فانّ المراد بذلك هو الوسط المتكرر في الشكل ، لكونه واسطة في حمل الاكبر الذي هو الحدوث في المثال الأول على الأصغر الذي هو العالم الموضوع في الصغرى.

ولا محصّل لتفسيرهم الواسطة في العروض بالواسطة في الحمل ، لما عرفت من أنّه لا وجه للتوسط في الحمل إلاّ العلية أو المعلولية ، وأمّا مجرّد تطبيق الكلي على بعض أنواعه مثل قولنا : الانسان حيوان والحيوان جسم

ص: 15


1- في صفحة : 16 - 17.
2- الإشارات والتنبيهات 1 : 162.
3- [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
4- شرح المطالع : 18 - 19.

فالانسان جسم ، فقد حقق في محله أنّ مجرد التطبيق لا واقعية له ، وليس هو إلاّ لقلقة لسان ، فلا تدخل في البرهان ، ولا يصاغ منه الشكل الأول إلاّ صوريّا من مجرد التعبير اللفظي الذي لا أثر له ، فلا تدخل في المطالب الاستدلالية ولو لمثل إثبات ذاتية العرض أو غرابته.

ثم بعد ذلك ننقل الكلام إلى تقسيمهم العرض إلى الذاتي والغريب باعتبار كون العرض عارضا للذات ، وكونه عارضا بواسطة الجزء المساوي ، أو الجزء الأعم ، أو الخارج المساوي ، فيكون عرضا ذاتيا ، أو كونه عارضا بواسطة الخارج الأعم ، أو بواسطة الخارج الأخص ، أو بواسطة الخارج المباين ، فيكون غريبا.

ونقول : إن بعضهم قال : الواسطة في هذا التقسيم هي الواسطة في العروض. وهو ما يظهر من الفصول (1) والبدائع (2) والمرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في شرح المنظومة المنطقية (3).

لا يقال : إنّ هذه الوسائط أعني الجزء بقسميه ، والخارج بأقسامه الثلاثة أعني المساوي والأعم والأخص ، وإن كانت هي في الواقع عللا ووسائط في الثبوت ، إلاّ أنها مع ذلك وسائط في الحمل ، لأنك تقول : الانسان ناطق وكل ناطق مدرك فيكون الانسان مدركا ، وحينئذ تنطبق عليها الواسطة في العروض بناء على ما تقدم في تعريفها من أنّها الواسطة في الحمل.

لأنّا نقول : إنّ منشأ هذا الحمل هو العلّية ، وذلك هو الذي صحّح فيه

ص: 16


1- الفصول الغروية : 10.
2- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 27 وما بعدها.
3- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 20.

الشكل الأول ، إذ لو تجرّد الحمل من العلّية مثل قولك : الانسان حيوان وكل حيوان جسم ، لم يكن من الشكل الأول ، وكان من مجرّد لقلقة اللسان ولا يكون نافعا في البرهان حتى في إثبات كون الاكبر المحمول على الواسطة عرضا ذاتيا أو عرضا غريبا بالنسبة إلى الأصغر الذي حملت عليه الواسطة.

ولا يخفى أنّ صحة الحمل في مثل النطق على الانسان إنّما هي باعتبار المشتق منه وإلاّ كان مباينا للانسان ، وحينئذ يكون حاله حال النار في كونه من الواسطة المباينة.

نعم ، يمكن المناقشة في كون العلة في مثل حرارة الماء هي ذات النار بدعوى أنّ العلة في حرارته هي قربه إلى النار وهي من عوارض الماء القابلة للحمل عليه بالاشتقاق ، هذا بالنظر العرفي ، وان كان القرب بحسب الدقة من قبيل الشرط في تأثير العلة الحقيقية.

ويظهر من بعضهم وهو صاحب شرح المطالع (1) أنّ الواسطة هنا هي الواسطة في الثبوت ، قياسا على القسم الأول أعني ما يكون عارضا للذات ، فانّ الذات فيه تكون علة لعروضه عليها ، وحينئذ يكون كل من جزئها الأعم وجزئها المساوي والخارج المساوي والخارج الأعم والخارج الأخص والخارج المباين ، جميع هذه الوسائط تكون عللا في عروض العارض على معروضه.

لكن المنقول عن الملا صدرا في حاشيته على شرح حكمة الاشراق (2) والسبزواري صاحب المنظومة في شرح منظومته في المنطق (3) ،

ص: 17


1- شرح المطالع : 18.
2- شرح حكمة الإشراق : 47.
3- شرح المنظومة 1 : 179.

أنّ المراد من هذا التقسيم هو أنّ العرض إن كان عارضا للذات عروضا حقيقيا كان العرض ذاتيا ، وإن كان عروضه مجازيا بالعرض والمجاز نظير جرى النهر وسال الميزاب كان العرض عرضا غريبا ، وعلى ذلك جرى شيخنا قدس سره (1) ولعلّ ذلك هو المراد لصاحب الكفاية (2) فيكون المراد من الواسطة في العروض التي جعل عدمها معتبرا في كون العرض ذاتيا هي الواسطة الموجبة للتجوّز في نسبة العرض إلى الذات ، هذا.

ولكن الذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمد علي أنّ المراد بالواسطة بالعروض معنى آخر غير ما تقدم من الواسطة في الحمل ، فانّه قال : والمراد من الواسطة في العروض هو ما كان العرض أوّلا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه كحركة الجالس في السفينة ، فانّ الحركة أوّلا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق ، إلخ (3).

فجعل الواسطة في عروض الحركة على الراكب هو السفينة ، ومن الواضح أنّها مباينة له غير محمولة عليه ، غايته أنّه يمكن أن يقال إن حركة السفينة علة لحركة الراكب ، فلا تكون حركته من العوارض الغريبة. بل يمكن أن يقال : إن حركة الراكب عين حركة السفينة ، إذ ليس الراكب في السفينة إلاّ من قبيل أجزائها ، ومن الواضح أنّ حركة أحد أجزاء السفينة عين

ص: 18


1- سيأتي لذلك مزيد توضيح في صفحة : 23 وما بعدها.
2- كفاية الاصول : 7.
3- فوائد الاصول 1 - 2 : 20.

حركة أجزائها الآخر ، ولا يكون في البين إلاّ حركة واحدة منبسطة على الجميع. ولك أن تقول : إنّ حركة الراكب وحركة السفينة كلاهما معلولان لما هو علة حركة السفينة.

والأولى في التخلّص عن هذه المناقشات : أن يمثّل للواسطة في العروض بالمعنى المذكور بمثل جرى النهر وسال الميزاب ، ويكون الماء هو الواسطة في عروض الجريان على النهر وعلى الميزاب ، ولعلّه قدس سره يريد بذلك أنّ نسبة العرض إذا كانت غير حقيقية كما مر في شدة البياض وسرعة الحركة ، يصطلح عليه بأنه من قبيل الواسطة في العروض ، وأنّ ذلك العرض المنسوب إلى الذات نسبة مجازية لا حقيقة لها واقعا ، يكون من العوارض الغريبة ، ويكون العرض الذاتي ما عداه مما يكون نسبته إلى المعروض نسبة حقيقية ، وإن لم تكن بعليّة الذات واقتضائها بل كانت بعلة اخرى أو سبب آخر يعبّر عنه بالواسطة في الثبوت ، لم يكن ذلك العرض إلاّ عرضا ذاتيا ، وينحصر العرض الغريب بما عرفت ممّا لا تكون نسبته إلى الذات نسبة حقيقية ، بل كانت من قبيل النسبة بحال المتعلق ، وأحسن مثال لذلك حينئذ هو جرى النهر وسال الميزاب كما عرفت فيما تقدم.

وبذلك يتضح ما أفاده في الكفاية (1) من إخراج العارض بالواسطة العروضية بالمعنى المذكور عن العوارض الذاتية ، وجعل العرض الذاتي هو ما عدا العارض بالواسطة المذكورة ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنك قد عرفت أنّهم قسّموا العوارض إلى ما يكون عارضا لنفس الذات ، وما يكون عارضا لها بواسطة جزئها المساوي ،

ص: 19


1- كفاية الاصول : 7.

وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج المساوي لها ، وما يكون عارضا لها بواسطة جزئها الأعم ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج الأعم ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج الأخص ، وما يكون عارضا لها بواسطة الخارج المباين ، واتّفقوا ظاهرا على كون الأول والثاني من الأعراض الذاتية ، وعلى كون الخامس والسادس والسابع من الأعراض الغريبة ، ووقع الاختلاف بينهم في الثالث والرابع ، والمستفاد من ذلك كله أنّ المدار في كون العرض ذاتيا أو غريبا على حال تلك الواسطة ، وأنها مثلا إن كانت جزءا مساويا للذات كان العرض ذاتيا ، وان كانت خارجة أعم كان العرض غريبا ، وهكذا الحساب.

فلا بد من معرفة المراد بهذه الواسطة ، وهل المراد بها الواسطة في العروض ، أو أنّ المراد بها هو الواسطة في الثبوت ، أو أن المراد بها هو الواسطة في الاثبات ، والذي ينبغي القطع به هو عدم الاعتبار بالثالث كما صرح به الكثير منهم ، فيبقى الأمر مرددا بين الأول والثاني.

والظاهر من الكثير منهم كما صرح به شيخنا قدس سره في تحريرات المرحوم الشيخ محمد علي (1) هو عدم العبرة بالثاني ، فيكون المتعيّن هو الأول.

قال في الفصول : والمراد بالعرض الذاتي ما يعرض الشيء لذاته أي بلا واسطة في العروض ، سواء احتاج إلى واسطة في الثبوت ولو إلى مباين أعم أو لا (2). وقال في البدائع : وما يعرض الشيء باعتبار وسائط الثبوت

ص: 20


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 20.
2- الفصول الغروية : 10.

كلها عرض ذاتي بالمعنى المشار إليه (1). ويكون الحاصل أنّ الواسطة التي بها يكون العرض ذاتيا ويكون غريبا هي الواسطة في العروض.

والمتحصل من مجموع كلماتهم في تفسير الواسطة في العروض التي عليها المدار في تقسيم العرض إلى الذاتي والغريب وجوه :

الأوّل : هو ما عرفته من اعتبار الحمل فيها ، وهو ظاهر كل من أشكل على جعل العارض بواسطة المباين من العوارض الغريبة على ما عرفته من المرحوم الشيخ عبد الهادي شليلة في منظومته (2) ، وهو الذي جرى عليه في البدائع بقوله : وكيف كان فقد ظهر أنّ الواسطة في العروض لا يكون مباينا ، لأن المفروض عدم صحة حمل العارض على الذات ابتداء لعدم كونه من مقتضياتها ، فلو لم تكن الواسطة المحمول عليها محمولا على الذات بل شيئا مباينا معها ، فكيف يصح حمله بملاحظة تلك الواسطة عليها (3) ، وقد عرفت ما يلزمه.

الوجه الثاني : هو إرجاع الواسطة في العروض إلى الواسطة في الثبوت ، وهو الظاهر من قولهم في تفسير العرض الذاتي : ما يعرض لذاته أو لجزئه الأعم من المساوي والأعم ، وما يعرض له للخارج المساوي ، في قبال العرض الغريب وهو ما يعرض للخارج الأعم أو الأخص أو المباين ، فإنّ الظاهر هو كون هذه الوسائط عللا للعروض في قبال ما يكون العلة فيه هو نفس الذات. وهذا هو الظاهر من شرح المطالع (4).

ص: 21


1- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 30.
2- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 21.
3- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 29.
4- شرح المطالع : 18.

والذي ينبغي هو تقديم مقدمة لفهم ما يرومه شارح المطالع : وهي أنّك تراهم يقولون في مقام تقسيم العرض : عارض الشيء لذاته ، عارض [ الشيء ](1) لجزئه المساوي ، عارض الشيء لجزئه الأعم إلخ ، فقولهم عارض الشيء لذاته لا يريدون به إلاّ أن الذات علة في عروض ذلك العرض عليها ، والذي ينبغي هو أن البواقي على هذا النمط ، فيكون المراد من قولهم : عارض الشيء لجزئه ، أنّ الجزء يكون علة في عروض ذلك العارض على ذلك الشيء ، وهكذا البواقي ، فلا يكون الجزء والخارج المساوي أو الأعم إلاّ علة في العروض ، فلا تكون هذه الوسائط إلاّ عللا فلا تكون إلاّ وسائط في الثبوت.

وأمّا تعبير البعض بالواسطة في العروض ، فهو على حدّ قولهم واسطة في الثبوت ، وقولهم واسطة في الاثبات ، في كون الواسطة في الأول علة في الثبوت ، وفي الثاني علة في الاثبات. فالذي ينبغي أن يكون المراد بقولهم واسطة في العروض ، أنّها علة في العروض ، فلا تكون إلاّ واسطة وعلّة في الثبوت ، فلا يحسن جعلها في قبالها ، واللازم هو جعل الواسطة على قسمين : واسطة في الثبوت وواسطة في الاثبات.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّ الظاهر من شرح المطالع هو هذا المعنى ، أعني جعل قسمة الواسطة ثنائية ، وإرجاع الواسطة في العروض إلى الواسطة في الثبوت ، فإنّه قال في شرح المطالع في مقام الاشكال على من عدّ العارض بالواسطة المباينة من الأعراض الغريبة :

فإن قيل نحن نقسّم العرض هكذا : العرض إمّا أن يلحق الشيء

ص: 22


1- [ ليس في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].

لا بواسطة لحوق شيء آخر أو بتوسطه ، والوسط إمّا أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا إلى آخر القسمة ، وحينئذ لا يمكن أن يكون الوسط مباينا لأن المباين لا يلحق الشيء ، وأيضا الوسط على ما عرّفه الشيخ ما يقترن بقولنا : لأنه ، حين يقال : لأنه كذا ، فلا بد من اعتبار الحمل ، والمباين لا يكون محمولا.

وأجاب بما يظهر منه عموم الوسط للمباين ، وأنّه لا يشترط في الوسط الحمل - إلى أن قال - والشبهة إنّما نشأت من عدم الفرق بين الوسط في التصديق وبين الواسطة في الثبوت (1) ، والشيخ صرّح بذلك في كتاب البرهان من منطق الشفاء مرارا ... إلخ (2).

ثم إنّه جعل الأعراض ستة ، وجعل الثلاثة الاول ذاتيات والأخيرة غريبات ، ثمّ قال : ووجه التسمية اختصاصه بذات الشيء ، وما لا يختص بالشيء بل عرض له لأمر أعم ، أو يختص ولا يشمله بل يكون عارضا له لأمر أخص ، سمي عرضا غريبا ، لما فيه من الغرابة بالقياس الى ذات الشيء (3).

الوجه الثالث في تفسير الواسطة العروضية : هي ما كان العارض لا حقا لنفسها ، ويكون نسبة ذلك العارض الى الموضوع نسبة مجازية باعتبار كونه من عوارض ملابسه ، وهذا الوجه هو المنقول عن حاشية

ص: 23


1- قال المحقق الشريف في الحاشية : أي الاشتباه إنما نشأ من عدم الفرق بين الواسطة في التصديق وهو المفسّر بذلك التفسير ، وبين الواسطة في الثبوت بحسب نفس الأمر ، بل في العروض ، وهي المعتبرة في الحصر المذكور. [ منه قدس سره ].
2- شرح المطالع : 18 - 19.
3- شرح المطالع : 19.

الملا صدرا على شرح حكمة الاشراق (1) وهو المنقول عن السبزواري في شرح منظومته في المنطق (2).

وكأنّ قول صاحب الكفاية قدس سره « بلا واسطة في العروض » (3) ناظر إليه ، وإليه ينظر شيخنا قدس سره فيما حكاه عنه المرحوم الشيخ محمد علي فيما قدمنا نقله (4) ، وعليه فتكون جميع العوارض العارضة على الذات ذاتية سوى ما يكون نسبته إليها نسبة مجازية فإنّه في الحقيقة ليس من عوارض تلك الذات. أما ما في تحرير السيد ( سلمه اللّه تعالى ) (5) من تفسير الواسطة في العروض بالواسطة الثانية فلم أعرف له وجها ولا مأخذا ، فلاحظ وتدبر.

والذي أخاله هو أنّه قدس سره تعرّض لبحثين :

الأوّل : ما في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي (6) وهو مع الجماعة القائلين بأنّ المدار في كون العرض ذاتيا وغريبا على حال الواسطة في الثبوت ، وأنّ العرض إن كان باقتضاء الذات أو جزئها المساوي أو الأعم أو ما هو خارج عنها مساو لها فهو ذاتيّ ، لكون الجميع باقتضاء الذات حتى الأخير منها ، لأن الذات لمّا كانت مقتضية لذلك الخارج المساوي المقتضي لذلك العرض كان ذلك العرض بالأخرة باقتضاء الذات ، بخلاف ما لو كان الوسط فيه ما هو الخارج الأخص أو الأعم أو المباين فانه لا يكون باقتضاء الذات ، فلا يكون عرضا ذاتيا بل غريبا.

ص: 24


1- شرح حكمة الإشراق : 47.
2- شرح المنظومة 1 : 179.
3- كفاية الاصول : 7.
4- في صفحة : 18.
5- أجود التقريرات 1 : 12.
6- فوائد الاصول 1 - 2 : 20 - 21.

وحاصل بحث شيخنا قدس سره معهم هو أنّه ليس المدار في كون العرض ذاتيا على اقتضاء الذات أو ما يلحق بالذات ، بل المدار فيه على كون العرض لاحقا للذات محمولا عليها ابتداء ، سواء كان بعلية نفس الذات أو كان بعلية جزئها أو كان بعلية ما هو خارج عنها ، ولا يكون العرض غريبا إلاّ ما لم يكن لاحقا للذات ابتداء ، بل كان هو في الحقيقة لاحقا للواسطة ، وإنّما يلحق الذات تبعا وبالعرض والمجاز نظير الوصف بحال المتعلق ، فهذا هو العرض الغريب ، أما غيره من الأقسام الستة أو السبعة فكلها ذاتية.

نعم ، يبقى شيء ، وهو أن ما يعرض لما هو الخارج الأخص كالرفع اللاحق للفاعل الذي هو أخص من الكلمة ، وما يعرض للخارج الأعم مثل العوارض المبحوث عنها في مباحث الألفاظ ، وهي أن الألفاظ أعم من موضوع علم الاصول أعني الكتاب والسنة ، وهكذا في عوارض الجنس لما هو موضوع الفن مثل المشي الذي هو عارض الحيوان بالنسبة إلى علم يكون موضوعه الانسان ، فإن هذه وإن كانت ذاتية إلاّ أن الذي ينبغي هو جعل الأول أعني الرفع من مباحث العلم الذي يكون موضوعه الفاعل لا العلم الذي يكون موضوعه الكلمة ، وكذلك الثاني أعني العوارض المذكورة في مباحث الألفاظ ينبغي جعلها في العلم الذي يكون موضوعه مطلق الألفاظ لا العلم الذي يكون موضوعه هو خصوص الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، وهكذا البحث عن المشي ينبغي أن يكون في العلم الذي يكون موضوعه الحيوان لا العلم الذي يكون موضوعه الانسان.

وأجاب (1) عن هذا الأخير باعتبار الحيثية ، فالبحث عن عوارض

ص: 25


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 22 - 23.

الأوامر لا يكون المنظور فيه مطلق الأوامر بل الأوامر من حيث وقوعها في الكتاب والسنة ، فالحيثية تقييدية توجب تضييق دائرة العروض في تلك المسائل ، وهكذا الحال في البحث عن رفع الفاعل في النحو الذي يكون موضوعه الكلمة ، فإن المنظور إليه في ذلك البحث هو الفاعل من حيث إنه مصداق الكلمة لا من حيث نفسه خصوص عنوان الفاعل ككونه مقدّما رتبة على المفعول ، فالحيثية هنا توجب توسعة موضوع القضية القائلة الفاعل مرفوع ، فهي توجب توسعة دائرة العروض.

لكن سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى أن القائل بهذا المسلك من أن المائز بين الذاتي والغريب هو التجوز وعدمه في راحة من هذا الاشكال ، أعني دخول هذه المسائل في موضوع الفن وإن كانت داخلة في موضوع فن آخر لأجل تعدد الغاية وترتب الغايتين على تلك المسألة.

البحث الثاني : هو أنّه بعد الفراغ عن كون الميزان في العرض الذاتي هو عروضه لنفس الذات عروضا حقيقيا ، فيخرج منه ما يعرضها تجوّزا باعتبار الاتصاف بحال المتعلق ، يقع الاشكال في العوارض المترتبة مثل الضحك الذي هو بالتعجب الذي هو بالادراك الذي هو باقتضاء الذات ، فيقال إن الادراك من العوارض الذاتية وكذلك التعجب ، لكون الأول باقتضاء الذات والثاني باقتضاء ما هو خارج عنها مساو لها ، لكن الاشكال في الثالث فإنه إنّما يلحق الذات بالعرض والمجاز بواسطة التعجب ، فيكون التعجب من قبيل الواسطة في العروض وإن كان الادراك بالقياس إلى التعجب من قبيل الواسطة في الثبوت ، وهذا البحث هو الذي تعرض له في تقريرات

ص: 26


1- في صفحة : 36.

السيد ( سلمه اللّه تعالى ) بقوله : وأما عوارض الأمر الخارجي المساوي ... إلخ (1) ، إلاّ أنه أخيرا اختار كون الضحك أيضا من العوارض الذاتية وأن التعجب بالنسبة إليه لا يكون إلاّ من قبيل الواسطة في الثبوت لا في العروض ، فلاحظ التقرير المذكور - إلى قوله - لكن الحق هو الأول ... إلخ.

وحيث قد عرفت اختياره قدس سره في العوارض المترتبة من أن الجميع عوارض ذاتية ، وبعد ذلك لا موقع لما أفاده الاستاذ العراقي قدس سره في مقالته من الأشكال على شيخنا قدس سره بقوله : وأوضح إشكالا من ذلك ما عن بعض أعاظم المعاصرين على المحكي من مقرر بحثه ، حيث جعل ميزان الوساطة في العروض على احتياج عروضه إلى واسطة اخرى في الثبوت ، ومثّل لذلك بالضحك العارض للتعجب العارض لادراك الكلي ، وظاهر كلامه التزامه بعروض الضحك للانسان مع كونه من عوارض التعجب باعترافه ، ولا يخفى ما في هذا الكلام من مواقع النظر (2) ، ثم ذكر مواقع النظر. وقد نسج على هذا المنوال مقرر بحثه في كتابه بدائع الأفكار (3) فراجعه.

ولا يخفى أن جميع ذلك مبني على أن شيخنا قدس سره يرى أن الضحك من عوارض التعجب ، وقد عرفت رأيه في ذلك وأنه لا يرى التعجب بالنسبة إلى الضحك ولا الادراك بالنسبة إلى التعجب إلاّ من قبيل العلة والواسطة في الثبوت دون العروض.

وقد نسج على هذا المنوال محشي الكفاية السلطان آبادي المعروف

ص: 27


1- أجود التقريرات 1 : 12.
2- مقالات الاصول 1 : 48.
3- بدائع الأفكار : 13.

بالسلطان (1) ونقل ما في تقرير السيد عن شيخنا قدس سره - إلى قوله - فالواسطة في الثبوت وإلاّ ففي العروض.

وما أدري ما الداعي لهؤلاء إلى أن يذكروا مجرد الاشكال ولم يذكروا ما أفاده قدس سره وما اختاره في المسألة بقوله : لكن الحق هو الأوّل (2).

قلت : أما ما أفاده شيخنا قدس سره في البحث الأوّل فقد عرفت أنه خيرة أساطين الفن مثل الملا صدرا وشارح المنظومة وعليه جرى في الكفاية وتبعه من تأخر ، ولكن إذا وصلت النوبة إلى أنّ الانتساب الحقيقي والانتساب المجازي هو المائز بين العرض الذاتي والعرض الغريب يسهل الأمر ، وتخرج المسألة عن كونها من مسائل المعقول ، وتكون من مسائل علم اللغة ، أعني علم المعاني ، وهي مسألة المجاز في الاسناد وكون التجوز من قبيل المجاز العقلي ولا أهمية لها ، وفي الحقيقة يكون العارض الغريب لتلك الذات ليس عارضا لها وإنّما هو عارض لذلك الملابس لها مثل قضية نسبة عارض الحال إلى المحل في قولهم : جرى النهر وسال الميزاب ، وكأن تمثيلهم لذلك بمسألة حركة الراكب للسفينة من باب عكس هذا المثال أعني أنّه يكون من قبيل نسبة عرض المحل إلى الحال ، فالحركة عرض للسفينة التي هي المحل ، لكنها تنسب إلى الراكب الذي هو الحال.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن الحركة واحدة طارئة على كل من السفينة وراكبها ، لا أن الحركة للسفينة حقيقة وتنسب إلى الحال فيها مجازا ، بل ولا أن حركة الراكب بعلّة السفينة وحركة السفينة بعلة الموج مثلا ، ولا أنّ

ص: 28


1- حاشية على كفاية الاصول : 19 - 20.
2- أجود التقريرات 1 : 12.

حركة الراكب معلولة لحركة السفينة ، بل ليس في البين إلاّ حركة واحدة منبسطة على الجميع منتسبة نسبة حقيقية وهي معلولة للموج ، فليس ثمة تجوّز كما عرفت تفصيل ذلك فيما تقدم ، وأمّا بقية الأمثلة التي ذكروها فقد عرفت الكلام فيها مفصلا فلا نطيل بالاعادة.

وينبغي أن يعلم أن ظاهر التوجيه الثالث للواسطة في العروض ، وأنّها ما أوجبت التجوز في نسبة العرض إلى معروضه وبذلك يكون العرض غريبا ، هو أن المدار في غرابة العرض على ذلك ، أعني كون النسبة مجازية من قبيل النسبة بحال المتعلق ، سواء كانت الواسطة مباينة وغير محمولة كما في مثال توسط السفينة في نسبة الحركة إلى الراكب ، وكذلك عكسه أعني توسط الماء في نسبة الجريان إلى النهر والميزاب ، أو كانت محمولة كما في توسط الحركة في عروض السرعة ، وكما في توسط البياض في عروض الشدّة ، فإن الحركة والبياض محمولان على الجسم ، ولكن نسبة العرض إليه بواسطتهما وهو السرعة والشدة يكون بالعرض والمجاز ومن قبيل النسبة بحال المتعلق ، ويقابل ذلك العرض الذاتي وهو ما يكون نسبة العرض فيه حقيقية ، فإنّه شامل أيضا لما يكون الواسطة فيه محمولة كما في توسط الناطق والحيوان في عروض الادراك والمشي على الإنسان ، فإن نسبة الادراك والمشي إلى الإنسان حقيقية والواسطة في ذلك وهي الناطق والحيوان واسطة محمولة على الانسان ، ولما يكون الواسطة فيه غير محمولة كما في توسط النار لعروض الحرارة على الماء ، فان نسبة الحرارة إلى الماء نسبة حقيقية ، والواسطة وهي النار غير محمولة على الماء لكونها مباينة له ، ويمكن القول بأن الواسطة والعلة في حرارة الماء ليست هي النار بل العلة في ذلك هي مجاورته للنار ، وحينئذ يكون من الواسطة المحمولة

ص: 29

لأن المجاورة تحمل على الماء.

وبالجملة : فالواسطة بالعروض هي الموجبة لكون نسبة العرض مجازية ، سواء كانت الواسطة محمولة أو كانت غير محمولة ، إن تصورنا الواسطة غير المحمولة ، وهذا بخلاف الوجه الأول في تفسير الواسطة في العروض ، فإن الواسطة فيه لا بد أن تكون محمولة ، كما أنّ نسبة العرض فيه لا بد أن تكون حقيقية.

وقد صرّح باعتبار هذين القيدين المحقق صاحب الحاشية ( قده ) فإنّه قال : وتوضيح ذلك أن المراد بالعوارض كما عرفت هي المحمولات الخارجة عن حقيقة ما حملت عليه ، وحينئذ فإن كانت تلك العوارض محمولة على موضوعاتها من دون ملاحظة حمل شيء آخر عليها أصلا كانت تلك العوارض عارضة لذات الموضوع ، وإن كان عروضها بواسطة حمل شيء عليها ، فذلك الشيء إمّا أن يكون داخلا في الموضوع أو خارجا عنه حسب ما فصّلناه من الأقسام ، فلا يعقل أن يكون العروض بواسطة أمر مباين للماهيّة.

ثم أخذ في تأييد ذلك ، أعني اعتبار الحمل في الواسطة وتشييده ودفع الاعتراضات عنه ، وفي بعض أجوبته يقول : أما ما ذكره من كون المراد بالواسطة في المقام هو الواسطة في العروض دون الثبوت بالمعنى المقابل له ، فهو الذي يقتضيه التحقيق في المقام.

ثم قال : إذا تمهّد ذلك تبيّن أن عروض شيء لشيء إما أن يكون بلا واسطة أو بواسطة لا تكون إلا محمولة ، فإنّه إن صح حمل العارض على موضوعه من دون لحوق شيء آخر للموضوع وحمله عليه ، كان عارضا لذاته من دون حاجة إلى الواسطة ، وإن افتقر إلى لحوق شيء آخر له فلا بد

ص: 30

أن يكون ذلك الشيء من عوارض المحل ، إذ لولاه لم يعقل كون العارض له عارضا لذلك المحل ، سواء كان جوهرا أو عرضا قائما بغير المحل المذكور ، ولو اطلق العروض في مثله فعلى سبيل المجاز دون الحقيقة ، وهو خلاف المفروض ، إذ الكلام في العوارض الحقيقية وإن كانت غريبة بالنسبة إلى معروضاتها ، فإذا ثبت ذلك لزمه صحة حمل الواسطة على المحل حسب ما مرّ بيانه من صحة حمل العوارض على معروضاتها بالاعتبار المتقدم (1) انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس سره على طوله.

وأنت ترى تصريحه بأن الواسطة في المقام هي الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت ، وأنّها لا بد أن تكون محمولة على الموضوع ، وأن العارض للموضوع بواسطتها لا بد أن يكون عروضه عروضا حقيقيا.

وقال هذا المحقق في آخر تحقيقاته : فتحصل مما ذكرنا أن العرض الذاتي ما يكون عارضا للشيء لنفس ذاته من غير واسطة في العروض ، أو لأمر مساو للذات ، سواء كان داخلا في الذات أو خارجا عنها كما نص عليه جماعة من محققي المتأخرين ، فيكون كل من العوارض الذاتية والغريبة أقساما ثلاثة. والواسطة الملحوظة في المقام إنّما هي الواسطة في العروض دون الثبوت ، فما ذكره بعض الأجلة وحكاه عن التفتازاني في شرح الرسالة من أنّ المقصود بها الواسطة في الثبوت ، فاسد كما عرفت تفصيل الحال فيه بما قررنا.

فهو قدس سره يجعل المدار على الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت ، ولكنه يعتبر الحمل في الواسطة في العروض ، ويعتبر فيها أيضا أن

ص: 31


1- هداية المسترشدين 1 : 109 ، 111 ، 114.

تكون نسبة العرض إلى ذي الواسطة نسبة حقيقية ، ويكون العرض الذاتي عنده ما كان عارضا للذات بلا واسطة في العروض ، ويكون ما يعرضها بواسطة الجزء المساوي أو الخارج المساوي ملحقا به لكونه لأمر راجع إلى الذات مساويا لها ، والبواقي وهي كون الواسطة هي الجزء الأعم أو الخارج الأعم أو الخارج الأخص كلها غريبة ، ويكون الوجه في الغرابة هو أنّ الواسطة توسّع دائرة العارض أو تضيّقه.

ولعلّ قول صاحب الفصول (1) وصاحب الكفاية (2) في اعتبار عدم الواسطة في العروض منزّل على ذلك ، وقد أشكلنا عليه فيما تقدّم (3) بأن الواسطة العارضة إن كانت علة للعارض كانت واسطة في الثبوت ، وإن كانا معا معلولين لثالث كانت واسطة في الاثبات. ويمكن الجواب عنه بأنّه لا منافاة بين كونها واسطة في الثبوت أو الاثبات وبين كونها واسطة في العروض بالمعنى الذي شرحه ، ومن جهة وجود الواسطة في العروض يكون العرض غريبا ، وكون العارض بالواسطة في الثبوت إنّما يكون ذاتيا اذا لم يكن ما يوجب الغرابة وهو كون تلك الواسطة الثبوتية واسطة في العروض ، فلاحظ وتأمل.

والواسطة في الثبوت وان كانت مباينة لا تحمل لتكون واسطة في العروض إلاّ أنّه يصح (4) الحمل فيها بالاشتقاق ، فالتعجب علة في الضحك وواسطة في الثبوت فيه ، ولكن المتعجب واسطة في العروض وهو

ص: 32


1- الفصول الغروية : 10.
2- كفاية الاصول : 7.
3- في صفحة : 8 - 9.
4- [ في الأصل : يحمل ، والصحيح ما أثبتناه ].

محمول.

ومن ذلك يظهر لك أنّه يمكن حمل عبارة الكفاية والفصول من قولهما بلا واسطة في العروض على هذا المعنى ، ولا يلزم منه ما ذكرناه من لزوم كون جميع العوارض ذاتية ولا عدم تأتّي الواسطة في العروض فيما لو كانت الواسطة من الأعراض.

نعم ، يرد عليه : أنّ مثل الرفع العارض على الكلمة بواسطة الفاعلية في قولهم الفاعل مرفوع ، يكون خارجا عن مسائل علم النحو الذي يكون موضوعه الكلمة ، إذ ليس الرفع حينئذ من عوارضها الذاتية ، لكونه لاحقا لها بواسطة الخارج الأخص وهو الفاعلية.

ولا بد من الجواب حينئذ عن ذلك ، بأنّ ما به الامتياز في هذه المقامات عين ما به الاشتراك ، فيكون الفاعل عين الكلمة ، ونحو ذلك من الأجوبة.

على أنّه لا يخلو من خدشة في دعوى كون العارض بواسطة المساوي الداخل والخارج أنه بلا واسطة في العروض إلاّ بنحو من التسامح ، بدعوى خفاء الواسطة ، وادّعاء اختصاص الواسطة بالعروض بخصوص ما يكون توسطها موجبا لتوسعة العارض بالنسبة إلى المعروض. وهاتان المسامحتان وإن صحّتا ، إلاّ أنّ المسامحة لا تناسب التقسيم المعقولي ، نعم هو اصطلاح ولا مشاحة فيه ، لكن لا بد من ثبوت الاصطلاح من أهل الفن ولم يثبت.

وحبّذا لو قالوا العارض المبحوث عنه في الفن هو العارض المساوي لموضوعه لا الأعم ولا الأخص وأراحونا من هذه المشاكل ، ويبقى الكلام معهم في صدق ذلك وأنه لم لا يكون البحث عن العارض الأعم والعارض

ص: 33

الأخص من مباحث ذلك الفن إذا ترتبت الثمرة المطلوبة من ذلك الفن عليهما ، وإن كانا من مباحث الفن الذي يكون موضوعه الأعم أو موضوعه الأخص ، لأجل ترتب الثمرة في ذينك العلمين على البحثين ، فلاحظ وتأمل.

أما الوجه الثاني الذي هو لصاحب المطالع ومحشيها الشريف الجرجاني ، فهو أخيرا جعل الأعراض ستة : ما يعرض الشيء لذاته ، وما يعرضه للمساوي الداخل والمساوي الخارج ، وما يعرضه للأعم الداخل والخارج ، وما يعرضه للأخص الخارج. وجعل الثلاثة الاول ذاتيات والثلاثة الأخيرة غريبات ، ثم قال : ووجه التسمية اختصاصه بذات الشيء وما لا يختص بالشيء بل عرض له لأمر أعم أو يختص ولا يشمله بل يكون عارضا له لأمر أخص سمي عرضا غريبا ، لما فيه من الغرابة بالقياس إلى ذات الشيء (1).

وبالأخرة صار موافقا لما نقلناه عن صاحب الحاشية ، وصار المدار في الذاتية والغرابة على مساواة العارض للمعروض وعلى عدم المساواة ، وقد عرفت ما يرد على ذلك من كونه خلاف الواقع في مباحث الفنون ، وهذا بخلاف ما عن شيخنا قدس سره فإنّ المدار فيه على كون الانتساب حقيقة أو مجازا ، سواء كانت الواسطة محمولة أو غير محمولة.

وربما قيل بانحصار العرض الغريب بما كانت النسبة فيه إلى المعروض مجازية وكانت الواسطة فيه محمولة كما في مثل سرعة الحركة وشدّة البياض ، ومثل البياض العارض للجسم بتوسط السطح ، دون مثل

ص: 34


1- شرح المطالع : 19.

حركة الجالس في السفينة الذي يكون الواسطة فيه وهي السفينة غير محمولة ، لكونها مباينة كما في شرح الكفاية للرشتي (1) ويقابله ما في المقالة (2) من جعل السرعة العارضة للحركة والاستقامة العارضة للخط ونحو ذلك من قبيل حركة الجالس في السفينة بتوسطها ، من كون الجميع من قبيل الواسطة غير المحمولة ، وكون نسبة العرض إلى ذي الواسطة مجازية.

ولعل ما في المقالة ناظر إلى نفس العلة أعني نفس الحركة ونفس الخط ، فإنّ كلا منهما لا يحمل على الجسم كالسفينة بالنسبة إلى الراكب ، ولكن لو تم ذلك لجرى في الجزء المساوي أو الأعم ، فتجعل الواسطة هي الناطقية والحيوانية وهي غير محمولة.

ولو تمّ ذلك ، لأمكن القول بأن جميع هذه الوسائط غير محمولة وهي وسائط في الثبوت ، غير أن معلولها وهو عروض العرض على ذلك المعروض لمّا كان مجازيا صار العرض فيها غريبا ، واصطلحنا عليها بأنّها واسطة في العروض وإلاّ فهي واسطة في الثبوت ، ولك أن تقول إنها ليست سببا ولا علة في عروض العرض على المعروض لتكون واسطة في الثبوت ، بل هي جهة مصححة لنسبة العرض إلى غير من هو له ، فنحن نسمّيها واسطة في العروض لأجل ذلك ، أعني أنها مصححة لنسبة العرض إلى غير من هو له تسمية مجازية تشبيها لها بما يكون علة وسببا في عروض العرض ونسبته إلى من هو له حقيقة ، فالنار علة في عروض العرض وهو الحرارة على ما هي له وهو الماء ، والسفينة علة في عروض الحركة على الراكب ، إلاّ أن تلك لمّا كانت علّيتها حقيقية سميناها بالواسطة

ص: 35


1- شرح كفاية الاصول : 4.
2- مقالات الاصول 1 : 41.

في الثبوت ، وهذه لمّا كانت علّيتها مجازية اصطلحنا عليها بالواسطة في العروض ، ولكن هذه أبحاث لفظية لا تليق بفن المعقول.

ثم إن كل من اختار الوجه الثالث ، وجعل المدار على كون النسبة حقيقية ، يكون في راحة من الاشكال في المسائل الباحثة عن العوارض اللاحقة لموضوع الفن بواسطة الأعم أو بواسطة الخارج الأخص إذا كان انتسابها إلى الموضوع حقيقيا. نعم يحتاج إلى توجيه في اشتراك الفن الآخر مع هذا الفن في أمثال تلك المسائل ، مثل تعدد الغاية وترتب كلا الغايتين على أمثال هذه المسائل ، فلاحظ.

تكميل لا بأس به : وهو أنه يرد على القائلين بتفسير الواسطة في العروض بالواسطة في الثبوت أوّلا : أنّه ما هو الوجه في تسمية الثلاثة الاول بالذاتية ، وتسمية الثلاثة الأخيرة بالغريبة ، مع اشتراك الكل في كون العروض على الذات بواسطة ثبوتية ، وقد تقدّم (1) الوجه في ذلك عن شرح المطالع وكأنه لا يزيد على مجرد الاستحسان والاصطلاح.

وثانيا : أنه ما هو الوجه في إخراج الثلاثة الأخيرة عن البحث عن موضوع الفن ، فان العارض لموضوع الفن لو كان بعلّية الخارج الأعم أو كان بعلّية الخارج الأخص ، أو كان بعلّية الخارج المباين ، لا يكون خارجا عن عوارضه اللاحقة له ، فلا وجه لاخراجها عن عوارضه التي يبحث عنها ، غايته أنّها في الأول تكون أعم منه وفي الثاني تكون أخص منه ، وذلك لا يوجب خروجها عن عوارضه.

وهذا الاشكال بعينه يتوجّه على القائلين بتفسير الواسطة بالعروض

ص: 36


1- في الصفحة : 23.

بالواسطة في الحمل ، فانّ هذه الأعراض الأخيرة لا تخرج عن كونها عارضة ومحمولة على موضوع الفن ، فلا تكون التسمية إلاّ لمجرد الاستحسان والاصطلاح. مضافا إلى أنّه لا وجه لاخراج العوارض الأخيرة عن مباحث الفن ، مثلا إنّ المشي العارض على الانسان بتوسط أنّه حيوان يكون من عوارض الانسان كما أنّه من عوارض الحيوان ، وهذا لا يوجب إخراجه عن الفن الذي يكون موضوعه الانسان كالطب مثلا ، ولا يوجب اختصاصه بالفن الذي يكون موضوعه الحيوان كالبيطرة ، وهكذا الحال في بقية العوارض التي زعموا أنها غريبة وأنها خارجة عن الفن الذي يبحث فيه عن عوارض ذلك الموضوع.

ثم إنّ هؤلاء قد أخرجوا العارض بواسطة المباين كما عرفت ، بدعوى كون المباين لا يحمل وأنّه واسطة في الثبوت ، ولكن لا أدري في أيّ قسم أدخلوه ، والذي ينبغي لهم أن يدخلوه في القسم الأول من الذاتي أعني ما يكون عارضا لنفس الذات بلا واسطة في العروض ، لما سمعته (1) عن البدائع والفصول من أن توسط الواسطة في الثبوت لا يخرج العرض عن كونه ذاتيا وبلا واسطة في العروض.

وهذه الاشكالات لا ترد على من فسّر الواسطة بما يكون توسطها موجبا للتجوّز في النسبة ، وتفسير الذاتي بما يكون فاقدا لها ، والغريب بما يكون واجدا لها ، فإنّ التسمية بناء على هذا التفسير تكون واضحة المنشأ ، كما أنّ إخراج ما يكون غريبا بهذا المعنى من الغرابة عن البحث عن موضوع الفن أعني عوارضه الذاتية يكون أيضا واضحا لا غبار عليه ، إذ ليس ذلك حقيقة من العوارض لذلك الموضوع.

ص: 37


1- في الصفحة : 20 - 21.

[ الكلام في الوضع ]

اشارة

قوله : بل يلهم اللّه تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كل طائفة على التكلم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ... إلخ (1).

هذا هو الصحيح الذي لا ريب فيه ، إذ ليس في البين جعل لفظ لمعنى ثم يتبعه الاستعمال ليكون ذلك سببا في كون اللفظ حقيقة في المعنى ، بل إنّ سبب ذلك هو ما افيد من إلهام اللّه تعالى حسبما أودع في الانسان من فطرة التكلم المعبّر عنها في القرآن الكريم بقوله تعالى : ( علّمه البيان ) (2) وحاصلها أن الغرض الأصلي للمتكلم هو إحضار المعنى أمام السامع ليحكم عليه المتكلم بما يريد ، وحيث إنّ ذلك غير ممكن فهو بطبعه يلتجئ إلى التصويت بصوت يرى أنه مناسب لذلك المعنى بحيث يرى أنّ ذلك الصوت إيجاد لذلك المعنى كما شرحناه مفصلا في رسالة في أصل الوضع وحقيقته وتشعّب اللغات فراجعها (3) ، وعن ذلك التصويت في ذلك المقام ينشأ كون اللفظ حقيقة في المعنى.

وأمّا السبب الآخر ، وهو كثرة استعمال اللفظ في المعنى ، فهو أيضا لا أساس له ، لا لما قيل من أن الاعتماد على الشهرة لا يخرج ذلك الاستعمال عن المجازية لكون الشهرة حينئذ قرينة على التجوّز ، إذ ليس

ص: 38


1- أجود التقريرات 1 : 19 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسختين ].
2- الرحمن 55 : 4.
3- مخطوطة لم تطبع بعد.

الكلام في الاستظهار وإنما الكلام في كيفية استعمال المستعمل ، فإنّ نحو استعمال اللفظ في المعنى مجازا وبالعناية مباين لنحو استعماله فيه على نحو الحقيقة ، فالاستعمال بنحو العناية وإن كثر لا يخرج اللفظ عن المجازية فلا بد أن ينتهي الأمر بالأخرة إلى أنّ المتكلم في بعض تلك الاستعمالات قد قصد إعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى على نحو الحقيقة وعلى أنه حاق معناه ، فيكون ذلك الاستعمال هو السبب في صيرورة اللفظ حقيقة في ذلك المعنى عند ذلك المتكلم ويجري متابعوه على ذلك.

والاشكال عليه بأنّه يلزم أن يكون ذلك الاستعمال خارجا عن الحقيقة لتوقفها على الوضع ، وعن المجاز لتوقفه على العناية ، لا دخل له بما نحن بصدده من دعوى صيرورة اللفظ حقيقة في ذلك المعنى عند ذلك المتكلم بسبب ذلك الاستعمال وإن فرضنا كون ذلك الاستعمال غلطا ، على أنّه ليس بغلط بعد فرض كونه مستحسنا طبعا مقبولا عند أهل اللسان.

وأمّا ما افيد في صفحة 24 (1) من الاشكال عليه بأنّه يوجب اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في ذلك اللفظ المستعمل بذلك الاستعمال ، فيمكن دفعه بأنه لو كان ذلك المستعمل قد قصد الوضع وإنشاءه بذلك الاستعمال لكان تعدد اللحاظ لازما ، أما إذا فرضنا أنه لم يقصد إلاّ الاستعمال ، غايته أنه على أنّ ذلك اللفظ قد أعمله في حاق حقيقته لا بالعناية والتجوز ، وعن الاستعمال بذلك القصد يتحقق الوضع قهرا ويكون اللفظ حقيقة في المعنى ، فلا يلزم فيه تعدد اللحاظ.

ألا ترى أن بيان أنّ اللفظ موضوع للمعنى الفلاني مثلا يحتاج إلى

ص: 39


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 49.

النظر الاستقلالي إلى اللفظ ، ومع ذلك يحصل ذلك المطلوب الذي هو إفهام السامع أنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى باستعماله فيه بأن يقول له : ائتني بذلك الماء ، فيفهم من تلك الاشارة أنّ لفظ الماء موضوع لذلك الجسم ، من دون توقف على أن يكون المتكلم قد لاحظ لفظ الماء لحاظا استقلاليا.

وبالجملة : أن الكثرة لا توجب الانقلاب إلى الحقيقة ما لم يكن في البين استعمال على نحو الحقيقة ممّن هو متّبع في استعماله ، وإلاّ فلم لم ينقلب لفظ الأسد عن معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع مع أنه أكثر المجازات استعمالا. ومجرد عدم هجر المعنى الأول لا يدفع هذا النقض ، فانهم يلتزمون بأن الكثرة توجب الحقيقة في المعنى الجديد سواء هجر المعنى الأول أو لم يهجر ، غايته أنهم في صورة عدم هجران المعنى الأول يلتزمون بالاشتراك اللفظي ، وستأتي تتمة البحث إن شاء اللّه في مبحث الحقيقة الشرعية (1). فتلخص لك أن الوضع المبتكر والمنقول لا يكون إلاّ بالاستعمال دون الجعل الابتدائي وكثرة الاستعمال.

ثم لا يخفى أنّ هذا الذي أفاده قدس سره هنا من حصول الوضع بالاستعمال لا بالجعل المستقل لا يكاد يلتئم مع ما أفاده من إمكان كون الوضع عاما مع كون الموضوع له خاصا ، حيث إن الاستعمال الواحد لا يعقل فيه الوضع لكل فرد من أفراد العام. على أنّ فيه إشكالا آخر ، وهو أن كون الموضوع له هو كل واحد من الأفراد الخاصة يقتضي تصور كل واحد من تلك الأفراد بخصوصه ولا يكفي فيه تصور العام ، لأنه إنّما يكون تصورا للخاص بما أنه مصداق للعام لا بخصوص الخاص وشخصه ، فإن كان الموضوع له هو

ص: 40


1- في صفحة : 119 وما بعدها.

الخاص بما أنه مصداق لذلك العام كان من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، وإن كان الموضوع له هو الخاص بخصوصيته بحيث تكون الخصوصية داخلة في الموضوع له ، لم يكف فيه تصور العام ، بل لا بدّ فيه من تصور تلك الخصوصيات بشخصها ، وتصور الخصوصية وان كان ممكنا من تصور العام ، إلاّ أنه من قبيل الانتقال من تصور العام إلى تصور الخاص ، وبعد تصور الخصوصية ولو بواسطة تصور العام نضع اللفظ لتلك الخصوصية ، فيكون حينئذ من قبيل الوضع الخاص والموضوع له خاص ، فتأمل.

قوله : بخلاف الحروف فانها بنفسها ما لم تكن في ضمن كلام تركيبي لا تفيد شيئا أصلا (1).

لكن لا لمجرد القصور في لفظها عن الاستقلال بالتلفظ كلفظ الباء والهيئة ، بل لأجل القصور في معناها عن أن يخطر وحده في الذهن وإن أمكننا النطق بلفظ الحرف وحده كهل وبل وإلى وعلى ، فيكون الحجر الأساسي في هذه المقدمة هو استقلال المعنى الاسمي وعدم استقلال المعنى الحرفي ، سواء كان المنشأ في ذلك هو نفس هذه الجهة أعني عدم الاستقلال بالمفهومية ، أو كان المنشأ فيه هو كون معنى الحرف إيجاديا فلا يمكن حضوره في الذهن إلاّ مع ما يوجد فيه معناه (2). وهذا المعنى أعني

ص: 41


1- أجود التقريرات 1 : 25 ، [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- وكما أنّ قصور معناها مانع من ذلك لعدم معقولية حضوره في الذهن وحده بدون المنتسبين ، فكذلك قصور لفظها فإنّه وإن تركب من حرفين أو ثلاثة أو أزيد إلاّ أنه جزء الموضوع ، حيث إن الموضوع للاستعلاء ليس هو مطلق لفظة « على » بل إن الموضوع للاستعلاء هو لفظة « على » المتوسطة بين الصعود والسطح ، فلو جئت بها مجردة عن هذين كانت بمنزلة الاتيان بنصف لفظة الاسم في الخروج عن كونه موضوعا ودالا على معناه ، والخلاصة هي أن المانع هو قصور اللفظ والمعنى لا قصور المعنى فقط [ منه قدس سره ].

عدم استقلال المعنى الحرفي بمعنى عدم حضوره وحده في الذهن ، لا ينافي الاستدلال بالتبادر التصوري على كونه حقيقة في المعنى الفلاني ولو كان التبادر تصوريا ، كما يقال إنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب للتبادر ، وذلك بأن تؤخذ صيغة الأمر طارئة على مادة من المواد ولو الجامع بين الجميع ، كما يقال صيغة افعل حقيقة في الوجوب ، لأن المتبادر من هذا اللفظ أعني لفظ الهيئة الطارئة على تلك المادة هو الوجوب.

قوله : أما الاولى فكحروف التشبيه والنداء والتمني ... إلخ (1).

هذه الحروف ونحوها وإن كانت إيجادية إلاّ أنها لا توجد معناها إلاّ في الغير الذي هو مفاد الجملة في قولك كأنّ زيدا أسد أو لعله أسد أو ليته أسد ، أو هو مفاد المفرد مثل حرف النداء الذي مفاده إيجاد النداء مربوطا بزيد ، والغرض أنه ليس لنا من الحروف ما يكون موجدا معناه في صقعه من دون أن يكون مربوطا بالغير.

قوله : الثالثة : أن الموضوع للنسب تارة يكون في مقام لفظه مستقلا كلفظة من ... إلخ (2).

الأولى أن يقال : إن معنى « من » ليس هو نفس النسبة بين السير والبصرة ، بل هو جهة لتلك النسبة بينهما ، وأنّها على جهة الابتداء ، وإلاّ فإنّ قوام النسبة بينهما إنما هو بالهيئة المتقومة بينهما ، غايته أنّ الفعل لمّا كان قاصرا عن الاتصال بالاسم بايصال معناه إليه ، فيكون الحرف واصلا بينهما

ص: 42


1- أجود التقريرات 1 : 25.
2- أجود التقريرات 1 : 25.

على الجهة التي يتضمنها ذلك الحرف من ابتداء أو انتهاء ونحو ذلك ، والسر في ذلك هو أنّ النسبة بين ذلك الفعل وذلك الاسم لا تتقوّم بينهما من دون ما يدل على جهة النسبة بينهما ، وذلك هو معنى قصور الفعل ، وربما كان الفعل صالحا لتقوّم النسبة بينه وبين الاسم ، لكن يؤتى بالحرف بينهما ليدل على فائدة وهي أن المطلوب هو إيصاله إليه على الجهة التي يتضمّنها الحرف مثل قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) (1) ليدل على أنّ المطلوب هو الالصاق.

قوله : وأما القسم الأول فالنسبة فيه تنزيلية ، بمعنى أنّه يلاحظ الموضوع عاريا عن ذاته ، لا بمعنى كونه بشرط لا ، بل بمعنى عدم لحاظ ذاته معه ... إلخ (2).

الظاهر أنّ هذا أعني لحاظ الموضوع لا بشرط بالقياس إلى المحمول جار في جميع القضايا الحملية ، من دون فرق بين كون المحمول فيها تمام الذات أو كونه جزء الذات أو كونه عارضا لها مثل زيد إنسان أو زيد ناطق أو زيد قائم ، فإنّ الموضوع في جميع ذلك لا يكون بالقياس إلى المحمول مأخوذا بشرط شيء وإلاّ كانت القضية ضرورية الثبوت ، ولا بشرط لا وإلاّ لكانت ضرورية السلب ، بل إنّما يكون الموضوع مأخوذا فيها جميعا لا بشرط ، ولأجل ذلك يصح حمله عليه كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه في بعض مباحث المشتق (3). نعم ، أخذ زيد لا بشرط بالقياس إلى نفس ذاته يحتاج إلى نحو من العناية ، لا أنّ العناية هي نفس أخذه لا

ص: 43


1- المائدة 5 : 6.
2- أجود التقريرات 1 : 26.
3- راجع صفحة : 279 وما بعدها.

بشرط.

ثمّ إنّ المراد من قولهم يؤخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول ، ليس المراد الاطلاق من هذه الناحية ، بل المراد عدم اللحاظ من هذه الناحية ، فإنّ لحاظ الموضوع لمّا كان سابقا في الرتبة على المحمول كان من المستحيل لحاظ المحمول فيه وجودا أو عدما أو إطلاقا ، بل لا يكون في تلك الرتبة إلا عدم اللحاظ بالقياس إلى المحمول.

لكن يشكل الأمر في المحمول الذي هو تمام الذات مثل زيد إنسان ، إذ لا يمكن عدم لحاظ المحمول في مثل ذلك الموضوع ، لأنه عبارة اخرى عن عدم لحاظ نفس الموضوع ، ولعلّ ذلك من لوازم كون القضية ذاتية ، وإلاّ فلو قلنا إنّها من قبيل الحمل الشائع ، كان المحمول عليه هو ذلك الفرد أعني نفس الموجود ، وهو أعني مصداق الموجود صالح لعدم لحاظ المحمول فيه.

قوله : إيجادية ونسبية (1).

ذكر للنسبية ألفاظا مستقلة وألفاظا غير مستقلة كالهيئة ، ولم يذكر تحقق الايجادية بالهيئة ، ولا يبعد القول بأن الايجادية تتحقق بالهيئة كما في هيئة « افعل » لايجاد الطلب.

والفرق بين هذا السنخ من الحروف وبين الأسماء واضح ، فإن معنى الاسم موجود في صقعه قبل إيجاد اللفظ ويكون اللفظ حاكيا له ، بخلاف هذا السنخ فإن معناه مخلوق بايجاد لفظه واللفظ يوجده ويخلقه لا أنه يحكيه.

ص: 44


1- أجود التقريرات 1 : 25.

ثم إن النسب لا تختص بين الجواهر والأعراض كما هو ظاهر قوله : وأمّا الثانية فتوضيحها إلخ (1) ، بل كما تكون النسبة بين الجوهر والعرض فكذلك تكون بين العرضين وبين الجوهرين كما في النسبة الاضافية كغلام زيد وسرعة القيام.

ولا يخفى أن النسبة لا تخرج عن الايجاد ، فان الهيئة توجد النسبة بين الاسمين لا تحكيها ، بل هي توجد النسبة الكلامية بينهما ، ويكون مجموع هذا الاسم وذلك الاسم اللذين وقعت النسبة الكلامية بينهما حاكيا عن الواقع ، لا أن المبتدأ يحكي عن الذات والخبر يحكي عن معناه والهيئة تحكي عن النسبة ، وقولنا إن المجموع حاك ، ليس المقصود به حكاية دلالية ، بل المراد به الحكاية التقليدية كمن يحكي فعل شخص آخر بايجاد مثله ، وسيأتي منه قدس سره في المقدمة الخامسة (2) ما يوضح ذلك ويحققه بأوضح بيان وأمتن برهان ، فقد تعرض هناك لما عن صاحب الحاشية (3) من اختصاص الايجاد ببعض الحروف وأن الهيئات غير إيجادية ، بل إن الأركان الأربعة التي أفادها في بيان مختاره قدس سره راجعة إلى هذا الركن الركين أعني كون معاني الحروف بأسرها إيجادية.

وأما دعوى كون مفاد الهيئات تقييد المفاهيم الاسمية كما هو ظاهر الحاشية (4) فهو مما لا يرجع إلى محصّل خصوصا في النسب التامة الاخبارية ، وأمّا النسب التقييدية فهي إنما تكون بين القيد والمقيد وهما

ص: 45


1- أجود التقريرات 1 : 25 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 27 وما بعدها.
3- هداية المسترشدين 1 : 145 / الفائدة الثانية.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 27.

اسمان ، ومفاد الهيئة فيهما هو ربط أحدهما بالآخر على جهة التقييد ، فيكون حالها حال النسب التامة ، غير أنّ الناقصة تكون في طيّ النسبة التامة ، وإلاّ فالكل نسب بين المفاهيم الاسمية ، ولأجل ذلك قالوا إن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف.

وبالجملة : أنك إذا أخذت جسم الماء بيدك ووضعته في الكوز ، فهناك ماء وهنا كوز ، وأنت اتخذت يدك آلة في جعل الماء في الكوز ، هذا في القضية الخارجية الواقعية ، وأنت إذا قلت : الماء في الكوز ، فهناك مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وأنت بواسطة لفظة « في » جعلت المفهوم الأول مربوطا بالثاني على جهة الظرفية ، فهذه القضية اللفظية أو الذهنية هي مثال لذلك الذي وقع في الخارج ، لا أن اللفظ حاك عن الخارج ، نعم إنا نقصد بايجاد ذلك المماثل إفهام السامع أن الواقع كذلك ، كما في حركتنا التي نقلّد بها حركة شخص آخر ، وذلك هو معنى الحكاية ومعنى المطابقة إن كانت حركتك مثل حركته ، وعدم المطابقة إن كانت حركتك ليست بمثل حركته ، لكن قولك هذا يماثل ما في الخارج لا أنه يوجده ويخلقه.

وعلى كل حال ، قد عرفت أن قولك : الماء في الكوز ، لا يخلق ظرفية الكوز في الماء خارجا ، فلو قلت : ضربت في الدار ، لم يكن هذا القول منك إلاّ مماثلا لما في الخارج لا أنه يوجد الضرب في الدار خارجا ، لكن لو كان ذلك الحدث مما يمكن خلقه وإيجاده للمتكلم كما في قولك بعتك ، فانها صالحة لايجاد البيع بانشائه ، حيث إنه لو لم يكن في البين قصد إنشاء وايجاد ويعبّر عنه ببعت الخبرية ، لم يكن منك إلا إيجاد المماثل لما في الخارج بقصد أن يكون ذلك المماثل حاكيا ما في الخارج بنحو ما ذكرناه من الحكاية ، أعني المماثل لما ماثله ، لا حكاية اللفظ عن معناه ، فانه

ص: 46

حينئذ لا يزيد على ما عرفت في قولك « ضربت » ولا ينخلق به البيع كما لا ينخلق به الضرب ، لكن لو قصدت من هذه المماثلة لما توجده حال قولك « بعت » بحيث إنك لم تقصد المماثلة والمحاكاة لبيع منك سابق ، بل قصدت المماثلة والمحاكاة لبيع فعلي توجده أنت بقولك بعت ، كان إيجاد ذلك المماثل خالقا لمماثله وموجدا له ، فأنت قصدت بقولك بعت إيجاد البيع ، فيكون ذلك نظير فعلك الخارجي عند ما جعلت الماء في الكوز ، وهذا القول أيضا منك عبارة عن خلق البيع وجعله بواسطة هذه الآلة أعني قولك بعت قاصدا بها إيجاد المماثل لا الحكاية.

وإن شئت فقل : إن ربط البيع بك بواسطة هيئة بعت ، إن كان بقصد الحكاية أعني حكاية المماثل ، كان ذلك إخبارا ، وإن لم يكن بذلك القصد بل كان بقصد إيجاد نفس البيع في عالم الاعتبار كان ذلك إنشاء ، وكان ذلك منك خلقا للبيع وايجادا له في عالم الاعتبار.

ومنه يظهر لك الحال في كيفية استعمال الجملة الخبرية في إنشاء الطلب مثل يقوم ويسجد أو قام وسجد في قولك : إذا فرغ من التشهد يقوم للثالثة أو قام للثالثة بمعنى طلب القيام والسجود ، فإنّ الغرض من هذه النسبة التي أوجدها المتكلم بين الفعل والفاعل هو طلب إيجاد الفعل.

قوله : فمنها ما يدل على النسبة الأوّلية أي النسبة التي لا تزيد على قيام العرض بمعروضه كما في الفعل المبني للفاعل (1).

لا يخفى أن الحدث الذي هو العرض له ملابسات شتى ، فيلابس الفاعل والمفعول به إلى آخر متعلقات الفعل ، ولا يمكن القول بأن ملابسته

ص: 47


1- أجود التقريرات 1 : 26 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

لفاعله سابقة في الرتبة على ملابسته لمفعوله وهكذا ، بل هو ملابسها أجمع في مرتبة واحدة ، غايته أن ملحوظ المخبر تارة يكون هو ربط الفعل بفاعله ولم يكن ربطه بطرفه فعلا إلاّ تبعا ، وربما كان الأمر بالعكس.

نعم ، هناك مبحث لعله تأتي الاشارة إليه إن شاء اللّه تعالى في مباحث المشتق (1) من أن الاشتقاق على قسمين : لفظي ومعنوي ، والفعل سابق على بقية المشتقات بالاشتقاق المعنوي ، وهذا أمر آخر على الظاهر لا دخل له بما نحن فيه.

ومنه يظهر أن قولهم : إنّ الأصل في المرفوعات هو الفاعل ، لا أصل له ولا دخل له بما نحن فيه ، كما أن تأخر نفس الجملة الاسمية عن الفعل محل تأمل ، فإن المتأخر إنما هو مفاد هيئة فاعل أعني المشتق عن هيئة فعل أعني الفعل ، وهكذا الحال في تأخر الفعل المبني للمفعول عن الفعل المبني للفاعل.

قوله في المقدمة الرابعة : وأمّا الكلمات الاستقلالية ، فمنها ما هو مشترك بينهما كلفظة ، في فانها تستعمل تارة لافادة قيام العرض أعني مقولة الأين أو متى بموضوعه كزيد في الدار - إلى قوله : - واخرى لافادة النسبة الثانوية كما في ضربت في الدار فانّها تدل على نسبة الضرب إلى الدار زيادة على نسبته إلى موضوعه ... إلخ (2).

حاصله : هو أن الحروف الجارة موضوعة للنسب ، وأنّ النسبة فيها تارة تكون أوّلية وأخرى تكون ثانوية ، وأن ما يتكفل منها للنسبة الأوّلية (3)

ص: 48


1- [ لم نعثر عليه ].
2- أجود التقريرات 1 : 27 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
3- [ في الأصل : الأول ، والصحيح ما أثبتناه ].

هو المعبّر عنه بالظرف المستقر ، وما يتكفل منها للنسبة الثانوية هو المعبّر عنه بالظرف اللغو ، وأنّ لفظة « في » من بين تلك الحروف صالحة لأن تستعمل في كل من النسبتين ، فتكون صالحة لكل من الاستقرار واللغوية ، وأنّ ما عداها لا يصلح إلا للنسبة الثانوية فلا يكون إلا لغوا ، وأنه لا يوجد من الحروف ما هو مختص بالنسبة الاولى الذي هو عبارة عن الاستقرار ، هذا.

لكنك قد عرفت (1) أن الأولى أن يقال : إن الذي تتكفله الحروف الجارّة هو جهات النسب ، سواء كانت النسبة في ذلك هي نسبة الفعل إلى متعلقه الذي هو مدخول حرف الجر ، أو كانت النسبة هي النسبة بين مدخول حرف الجر وبين بعض الأسماء مثل زيد في الدار ومثل المال لزيد ، فان مفاد الأول هو أن النسبة بين زيد والدار على جهة الظرفية ، ومفاد الثاني هو أن النسبة بين زيد وبين المال هو على جهة الاختصاص أو الملكية.

وأما ما افيد من أن مفاد لفظ « في » هو الأين ، وأنه تارة يكون من قبيل النسبة الأوّلية ويكون مستقرا ، واخرى يكون من النسبة الثانوية ويكون لغوا ... إلخ ، فالأولى في هذا المقام هو نقل ما حررته فيه عنه قدس سره فنقول بعونه :

قال قدس سره فيما حررته عنه : ثم إنك بعد أن عرفت أن الأصل في النسبة هي النسبة الفاعلية أعني نسبة العرض إلى معروضه ، وأن النسبة الحملية المتضمنة لحمل المشتق من ذلك العرض على معروضه متأخرة رتبة عن

ص: 49


1- في صفحة : 42.

النسبة الاولى ، تعرف أن نسبة العرض إلى باقي متعلقاته مما وقع عليه أو فيه أو له وغير ذلك من متعلقات الفعل كلها متأخرة عن كلا النسبتين المذكورتين.

ثم اعلم أن من جملة ما هو من متعلقات الفعل ممّا ينسب إليه هو الظرف والجار والمجرور ، وقد قسّموا ذلك إلى الظرف المستقر والظرف اللغو ، وينبغي أن يكون مرادهم من المستقر ما يكون متضمنا لاحدى المقولات كالأين ومقولة متى مثل زيد في الدار المتضمن لمقولة الأين ، وهذا معنى قوله : ناوين معنى كائن أو استقر (1) ، إذ ليس المراد أن يقدّر في ذلك لفظ كائن أو استقر ، بل المراد أن ذلك أعني الاخبار بالظرف أو الجار والمجرور في مثل زيد عندك أو في الدار يتضمن الكون أو الاستقرار في الدار وهو المعبّر عنه بمقولة الأين ، ومرادهم من اللغو ما يكون متمما لاضافة اخرى مثل ضرب زيد في الدار فإنه في مثل ذلك ليس بنفسه مقولة من المقولات كي يكون مستقرا ، بل هو متمم لاضافة اخرى وهي نسبة العرض إلى معروضه ، ويبيّن أن تلك النسبة والاضافة واقعة في الدار فيكون ظرفا لغوا.

ثم إن من الحروف الجارة ما يمكن أن يكون مستقرا كما يمكن أن يكون لغوا وذلك مثل لفظة في ، ومنها ما لا يكون إلاّ لغوا مثل من وعن ونحوهما ، فإن ما هو من هذا القبيل لا يمكن أن يقع مستقرا لعدم إمكان وقوعه بنفسه إحدى المقولات والاضافات ، وإنما يكون متمما لمقولة وإضافة أخرى ، وحينئذ فلا يكون إلاّ لغوا دائما ، أما ما لا يكون إلا مستقرا

ص: 50


1- شرح ابن عقيل 1 : 209.

دائما فالظاهر أنه لا وجود له ، انتهى.

قلت : الذي جرى اصطلاح النحويين في الظرف المستقر واللغو هو أنّ ما يتعلق به الظرف أو الجار والمجرور ، إن كان محذوفا وكان عاما مثل الكون والاستقرار والحصول ونحوها كان مستقرا وإلاّ كان لغوا ، ويقولون إن حذف العامل في الظرف المستقر واجب ، لأن نفس ذلك الظرف قد تضمنه فلا داعي لذكره إلاّ لأجل تصحيح قواعدهم ، ولأجل ذلك يقولون في أمثال ما هو محذوف وجوبا تقديره كذا ، لأجل ضرورة تصحيح الكلام كما في مثل حذف الخبر وجوبا بعد « لو لا » فيما لو كان نفس ذات المبتدأ هو المانع من الجواب كما في قوله :

ولو لا اللّه والمهر المفدّى *** لرحت وأنت غربال الاهاب

وبالجملة : أن ملاك كون الظرف مستقرا أو كونه لغوا في اصطلاحهم هو هذا الذي نقلناه من تضمن الظرف للاستقرار الذي هو الفعل العام ، بخلاف الظرف اللغو فإنه عبارة عما لا يكون متضمنا للاستقرار ، ولعل هذه القيود الثلاثة أعني كون المتعلق محذوفا ، وكونه فعلا عاما ، وكونه متضمنا في الظرف متلازمة ، إذ متى كان فعلا عاما وجب حذفه وكان الظرف متضمنا له.

قال في الإظهار في مبحث حروف الجر : وقد يحذف المتعلق ، فإن كان المحذوف فعلا عاما متضمنا في الجار والمجرور يسميان ظرفا مستقرا نحو زيد في الدار أي حصل ، وإن لم يكن كذلك أو لم يحذف متعلقه يسميان ظرفا لغوا ... إلخ (1).

ص: 51


1- معرب على الإظهار : 37 - 38.

ولا يخفى أن لازم كون الفعل عاما كون الظرف متضمنا له ، ولازم كون الظرف متضمنا له كون حذفه وجوبيا ، ولأجل ذلك قال الشيخ الرضي في مبحث كون الخبر ظرفا : وينبغي أن يكون ذلك العامل من الأفعال العامة أي ممّا لا يخلو منه فعل نحو كائن وحاصل ليكون الظرف دالا عليه - إلى أن قال - ولا يجوز عند الجمهور إظهار هذا العامل أصلا ، لقيام القرينة على تعيينه وسدّ الظرف مسدّه كما يجيء في لو لا زيد لكان كذا ، فلا يقال زيد كائن في الدار.

وقال ابن جنّي بجوازه ، ولا شاهد له ، وأمّا قوله تعالى ( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ) (1) فمعناه ساكنا غير متحرك وليس بمعنى كائنا ، وكذا حال الظرف في ثلاثة مواضع أخر : الصلة والصفة والحال ، وفيما عدا المواضع الأربعة لا يتعلق الظرف والجار إلا بملفوظ ... إلخ (2).

أما كونه متضمنا لمقولة من المقولات أو كونه متمما لمقولة من المقولات فذلك أمر آخر لا أظن النحويين ناظرين إليه.

ثم إن الظاهر أن الظرف في مثل ضربت في الدار أيضا مقولة مستقلة وهي مقولة الأين ، غايته أنه وقع أينا للفعل أعني الحدث لا للجوهر ، بخلاف زيد في الدار فإنه وقع أينا للذات أعني زيد.

ثم لا يخفى أن مثل من وعن ونحوهما يقع ظرفا مستقرا باصطلاح النحويين مثل قولنا هذا من ذاك ونحو ذلك وإن لم يكن مقولة من المقولات ، وكذلك اللام تقول هذا المال لزيد ونحو ذلك.

ثم لا يخفى أن حصر الأين في مثل زيد في الدار ، وجعل مثل

ص: 52


1- النمل 27 : 40.
2- شرح الرضي على الكافية 1 : 244 - 245.

ضربت أو صليت في الدار من متمم المقولة لعله مناف لما يذكره في مسألة اجتماع الأمر والنهي (1) من أن اجتماع الصلاة والغصب من قبيل التركيب الانضمامي بين مقولة الفعل وهو الصلاة ومقولة الأين وهو المكان ، وأنّ ما هو من قبيل متمم المقولة إنما هو في مثل غسلت وجهي بالماء فيما لو كان الماء مغصوبا ، فراجع.

ثم إن مقتضى كون لفظة « في » للنسبة هو أن يكون هناك عرض منسوب ومنسوب إليه ، ليكون مفاد لفظة « في » هو النسبة بينهما ، والظاهر من التحرير أن العرض المنسوب هو نفس مقولة الأين ، وهو بنفسه مفاد لفظة « في » وحينئذ فما هو المفيد للنسبة ، إلاّ أن نقول إن المفيد لنسبة الأين إلى ذي الأين هو نفس الهيئة التركيبية.

ولا يخفى أن ما حرّره المرحوم الشيخ محمد علي عنه قدس سره في بيان الظرف المستقر والظرف اللغو لعله يخالف هذا التحرير في الكتاب ، وكذلك يخالف ما حررته عنه قدس سره في بيان الظرف المستقر وانحصاره بلفظة « في ».

قال المرحوم الشيخ محمد علي : وكذا الكلام في كلمة « في » حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته أنّها تارة تفيد نسبة قيام العرض بالمعروض ، فيكون الظرف مستقرا ، واخرى تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا - ثم قال : - وهكذا الحال في كلمة « على » حيث إنها تارة تفيد نسبة قيام العرض ، واخرى تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على

ص: 53


1- أجود التقريرات 2 : 159 ، 147.

السطح ، وكذا الكلام في كلمة « من » فانها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « حسين مني وأنا من حسين » (1) واخرى يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر : هو أن الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل (2).

وهذا التحرير لا غبار عليه ولا تكون فيه مخالفة لاصطلاح النحويين في الظرف اللغو والمستقر ، كما أنه لا يكون مخالفا لما يذكره قدس سره في باب الاجتماع (3) ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلظهور أن المراد من المتمم ما يكون متمما لنسبة اخرى ، وليس المراد ما يكون متمم المقولة كي ينافي اصطلاحه قدس سره في باب الاجتماع ، فلاحظ وتدبر.

قوله : الخامسة أن الحروف بأجمعها معانيها إيجادية نسبية كانت أو غيرها (4).

لا يخفى أن القول بكون الحروف موجدة لمعانيها ربما كان عين القول بأنها لا معنى لها ، حيث إنّه بناء على ذلك لا يكون تحت لفظ الحرف شيء أصلا ، وإنّما تكون نسبة الحرف إلى ذلك المعنى الذي يوجده كنسبة المؤثر إلى أثره والعلة إلى معلولها ، وفي الحقيقة نسبة الحرف إلى ذلك

ص: 54


1- بحار الأنوار 43 : 271 / 35 ، 45 : 314 ذيل ح 14.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 40 - 41.
3- أجود التقريرات 2 : 148.
4- أجود التقريرات 1 : 27.

المعنى هي بعينها نسبة آلة التأثير إلى الأثر ، فلا يكون الحرف في إحداث ذلك المعنى وإيجاده إلاّ من قبيل السكين في كونها آلة في إيجاد قطع الشيء ، فكما لا يصح أن يقال إن السكين معناه القطع فكذلك لا يصح أن يقال إن معنى الحرف هو المعنى الذي يوجده ، نعم لو كان المراد لأرباب القول المذكور أن الحرف لا أثر له أصلا كما أنه لا معنى له وإنما هو صرف العلامة ، لحصل الفرق بينه وبين هذا الذي أفاده قدس سره فإنّه بناء على ما أفاده قدس سره وان لم يكن للحرف معنى تحت لفظه إلاّ أنه يؤثر أثرا نسميه معنى للحرف تسامحا وتساهلا.

ثم لا يخفى أنه بعد البناء على أن الحروف بأسرها نسبية وغير نسبية كلها آلات إيجاد معانيها ، يكون الذي توجده الحروف النسبية مثل الحروف الجارة والهيئات وغير ذلك من آلات النسب هو نفس النسبة بين المنتسبين ، فلا فرق بين لفظة من ولفظ الهيئة في ضرب والهيئة في اضرب في أنّ كلا منها موجد للنسبة ، إلاّ أن الفرق بينها إنما هو في جهات النسب ، فالأول وهو لفظة « من » في قولك سرت من البصرة ، أوجدت النسبة بين السير والبصرة على جهة الابتداء ، والثاني وهو هيئة ضرب زيد ، أوجدت النسبة بين الضرب وزيد على جهة الاسناد والفاعلية ، والثالث على جهة الطلب ، وهكذا الحال في مثل هيئة « بعت » الخبرية والانشائية فإنها أيضا لايجاد النسبة بين البيع والمتكلم ، غير أن الاولى على جهة الاخبار والثانية على جهة الانشاء والايجاد أعني إيجاد البيع.

وبالجملة : أن هذه الآلات لم تعمل لايجاد الابتداء أو إيجاد الطلب أو إيجاد البيع ، وإنما اعملت ابتداء في إيجاد النسبة ، وهذه الامور هي جهات لتلك النسب المنوجدة بهذه الآلات ، وربما كانت تلك الجهات لها

ص: 55

أثر شرعي أو عرفي عقلائي يكون تابعا لوجودها في وعائها الاعتباري المنتزع من إعمال تلك الآلة في النسبة على الجهة الفلانية.

ومن ذلك كله تعرف أنه لا داعي إلى إتعاب النفس في التفرقة بين مفاد هذه الأدوات ومفاد لفظ الابتداء والطلب والبيع وغير ذلك. نعم المحتاج إليه إنما هو الفرق بين النسبة المنوجدة باحدى هذه الآلات وبين المفهوم من لفظ النسبة ، وذلك الفرق هو كون الاولى على نحو الايجاد والثانية على نحو الحكاية ، وهذا هو الحجر الأساسي في الفرق بين الحروف والاسماء (1).

ولو أنكرنا هذا الفرق وقلنا بأن كلا منها حاك وأن الفارق إنما هو في جهة الوضع كما هو مسلك صاحب الكفاية قدس سره (2) اتجه عليه الاشكال بأن شرط الواضع لا يجب الوفاء به.

ولا يمكن الجواب عنه بأن ذلك ليس من قبيل الشرط من الواضع بل هو من قبيل الاختلاف في الوضع والاستعمال ، فالاستعمال في الحروف على نحو اللحاظ الآلي وفي الأسماء على نحو اللحاظ الاستقلالي ، وهذا الاختلاف في ناحية الوضع والاستعمال هو الموجب لعدم صحة إعمال أحدهما في مقام الآخر ، لأن ذلك أعني إعمال لفظ « من » في مقام إعمال لفظ الابتداء ، مساوق لجعل اللحاظ الآلي استقلاليا ، أو جعل اللحاظ

ص: 56


1- وعلى الظاهر أنه لا فرق في ذلك بين ما أفاده قدس سره من كون مفاد الحروف هو النسب الخاصة ، وبين ما احتملناه من أن المتكفل للنسب ليس هو إلاّ الهيئات وأن الحروف هي جهات خاصة لتلك النسبة ، وأنّ الحاصل من توسط الحرف في تلك الهيئة في مثل ضربت في الدار أو سرت من البصرة هو إيجاد نسبة الضرب إلى الدار على جهة الظرفية ، وإيجاد نسبة السير إلى البصرة على جهة الابتداء. [ منه قدس سره ].
2- كفاية الاصول : 11 - 12.

الاستقلالي آليا ، فان اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي لو لم نجعله قيدا في الموضوع له ولا شرطا من الواضع على المستعملين ، بل جعلناه من قبيل تقييد دائرة الوضع ، كان من قبيل [ تقييد ](1) دائرة الملكية أو الاختصاص ، بأن نملّك الثوب لزيد فيما إذا لبسه في النهار دون ما لو لبسه في الليل ، وذلك ممتنع ما لم نجعله شرطا على زيد بأن يلبسه في النهار.

اللّهم إلا أن يجعل الشرط المذكور على نحو التعليق بأن يقول له : هذا ملك لك إن لبسته في النهار ، لكن لو لبسه في الليل انتفت الملكية من أصلها ، فلو جعلنا الشرط فيما نحن فيه بأن يقول إنّي وضعت لفظة « من » للابتداء إن استعملتها فيه في مقام لحاظه آليا ، كان مقتضاه أنه لو استعمله في الابتداء في مقام لحاظه استقلاليا انتفى الوضع من أصله ، ولو قلنا إن لازمه انحصار الوضع بصورة استعماله آليا دون استعماله استقلاليا رجع إلى ما تقدم من تقييد الاختصاص والملكية في حالة دون حالة وهو غير ممكن ، وإن قلنا بامكان تقطيع الملكية كما في الوقف على الطبقات بناء على أنّه من مقولة التمليك.

وبالجملة : الظاهر أن هذا الاشكال مما يصعب دفعه. نعم الاشكال عليه بلزوم ارتفاع النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما ، قابل للاندفاع ، فإنّه بعد البناء على كون الموضوع له والمستعمل فيه مثلا هو نفس الابتداء مجردا عن اللحاظ ، وأن اللحاظ الآلي والاستقلالي إنما يكون في مقام الاستعمال ، فان ذلك المقام هو مقام اللحاظ المنقسم إلى الآلي والاستقلالي ، فقبل الوصول إلى ذلك المقام قهرا يكون المعنى مجردا عن

ص: 57


1- [ لم يوجد في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].

كلا اللحاظين ، وليس ذلك من قبيل ارتفاع النقيضين ولا الضدين بل هو من قبيل ارتفاع اللحاظ المنقسم إليهما.

نعم ، إن المعنى لا بد أن يكون في مقام الوضع ملحوظا ، فعند وضع كل من لفظ الابتداء ولفظة « من » لا بد أن يكون معنى الابتداء ملحوظا ، بل لا بد أن يكون ملحوظا استقلالا ، لكن هذا اللحاظ لا يكون جزء الموضوع له بل هو طريق إلى الموضوع له ، لاستحالة وضع اللفظ للمعنى بدون تصور المعنى ، لكن لا يلزمه أن يكون ذلك التصور جزءا أو قيدا للموضوع له ، بل هو طريق صرف إلى المعنى الموضوع له.

لكن الاشكال المذكور إنما يندفع بالنسبة إلى الموضوع له ، أما بالنسبة إلى مقام المستعمل فيه فهو غير مندفع ، لأن المستعمل لا بد له من لحاظ المستعمل فيه إمّا آليا أو استقلاليا ، فتجريده عن كل منهما يوجب ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وكونه في مرتبة الاستعمال ملاحظا إياه آليا أو استقلاليا لا يجدي ، فان مرتبة الاستعمال متأخرة عن مرتبة المستعمل فيه ، ولا بدّ له في مرتبة المستعمل فيه من لحاظه بأحد اللحاظين ، اللّهم إلاّ أن يقال إنه يلاحظ المستعمل فيه استقلاليا ، نظير لحاظ الواضع الذي عرفت أنّ لحاظه للموضوع له استقلاليا طريق لا يوجب دخوله في الموضوع له ، أو يقال إن لحاظه المستعمل فيه في مرتبة الاستعمال آليا أو استقلاليا كاف عن لحاظ المستعمل فيه في الرتبة السابقة على الاستعمال ، ولو تمت هذه الجهة ، وتمت أيضا الجهة السابقة وهي تقييد ولو بنحو التعليق ، ولم يكن انتفاء الشرط موجبا لانتفاء أصل الوضع ، لكان مسلك الكفاية هو المتعين ، دون مسلك شيخنا قدس سره من التشبث بالفرق بين الاسم والحرف بالاخطار والايجاد ، إذ لا تخلو هذه الطريقة من تكلف ،

ص: 58

فلاحظ وتأمل.

ولا يخفى أنه قد برهن في الكفاية (1) على استحالة أخذ اللحاظ الآلي والاستقلالي في المستعمل فيه فضلا عن الموضوع له ، ببرهانين لا مدفع لهما ، الأول : لزوم تعدد اللحاظ ليكون أحدهما جزء الموضوع والمستعمل فيه ، ويكون الآخر متعلقا بما هو ملحوظ باللحاظ الأول ، لأن من شرط الاستعمال ملاحظة المستعمل فيه. الثاني : أن اللحاظ الآلي والاستقلالي من طوارئ الاستعمال ، ولا يكون إلا في مرتبة الاستعمال ، فلا يعقل أخذه في المستعمل فيه الذي هو سابق في الرتبة على الاستعمال ، ولعل قوله في مقام بيان الحال في أسماء الاشارة : فتلخص مما حققناه أن التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه (2) ، إشارة إلى الاشكال بالتقريب الثاني ، فلاحظ.

وكيف كان ، فهذان الاشكالان كما يردان على القول بأن المعنى الحرفي هو الابتداء الملحوظ باللحاظ الآلي ، فكذلك يردان على القول بأن الفرق بين المعنى الحرفي كلفظة [ من ](3) والمعنى الاسمي كلفظ [ الابتداء ](4) أن معنى الأول لا يوجد في الذهن إلا تبعا ، نظير النظر الخارجي إلى نقطة خاصة ، فأنت ترى ما حولها لكنها رؤية تبعية مغفول عنها عند نظرك إلى النقطة ، بخلاف نظرك إلى نفس النقطة.

وهذا الفرق بعينه جار في النظر إلى الحرف فإنه لا يكون إلا تبعا للحاظ المعنى الاسمي ، بخلاف المعنى الاسمي فإنه يكون مستقلا في النظر

ص: 59


1- كفاية الاصول : 11 وما بعدها.
2- كفاية الاصول : 13.
3- [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].
4- [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].

إليه لا تابعا لغيره في النظر ، فليس الفرق بينهما باللحاظ الآلي في الأول ، إذ ليس معنى الحرف آلة لمعنى الاسم ، نعم إنه منظور إليه في الذهن [ تبعا ](1) ، بخلاف الاسم.

فان مرجع هذا القول بالأخرة إلى كون المعنى الحرفي مقيدا باللحاظ التبعي في قبال المعنى الاسمي المقيد باللحاظ المستقل ، وحينئذ يكون حاله حال القول الأول في توجه الاشكالين عليه ، أعني لزوم تعدد اللحاظ ولزوم أخذ ما هو آت من الاستعمال في المرتبة السابقة عليه ، أعني المستعمل فيه.

مضافا إلى أنّه يرد عليه ما أورده على التقييد باللحاظ الآلي من إنكار كون المعنى الحرفي آلة في المعنى الاسمي ، فإنّه يتوجه عليه نظير ذلك الانكار ، لتطرق الانكار إلى دعوى كون الحرف ملحوظا تبعا ، لامكان دعوى انوجاده في الذهن بمعنى كونه منظورا إليه قصدا لا تبعا ، فإن النظر في قولك سرت من البصرة ليس مقصورا على السير كما في النظر الخارجي إلى النقطة ، بل هو متعلق بكل من معنى البصرة ومعنى « من » غايته أن معنى « من » وهو الابتداء متعلق بالبصرة ، فهو ينظر إلى البصرة وإلى متعلقها لا أنه ينظر إلى نفس البصرة وكان نظره إلى الابتداء المتعلق بها تبعا على وجه يكون مغفولا عنه في النظر.

وأمّا القول بأن مفاد الحروف هو تلك النسب والارتباطات الواقعية أعني نسبة الابتداء إلى السير والبصرة ، بتقريب أنه نحو وجود لهما في الخارج يعبّر عنه بالوجود الربطي ، أعني وجود العرض لمعروضه الذي

ص: 60


1- [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].

[ هو ](1) أمر زائد على وجود الجوهر ووجود ذات العرض ، فكما أن لفظ السير يحكي عن ذلك العرض ولفظ البصرة يحكي عن ذلك الجوهر فكذلك لفظة « من » تحكي عن ذلك الوجود الربطي بينهما.

فالفرق بين الحروف والأسماء أن الحروف حاكية عن الوجود الربطي بين الجوهر والعرض ، بخلاف الأسماء فانها إنما تحكي وجود الجوهر أو نفس العرض ، ومن الواضح أن ذلك لا يكون من الوجود الربطي.

ولا يخفى أن هذا الفرق وإن كان حاصلا لكنه بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي المتعلق به ، أمّا الفرق بين مفاد لفظة من ومفاد لفظة الابتداء فذلك مما لم يتكفله الفرق المذكور ، فلا بد لصاحب هذا القول من إبداء الفرق بينهما ، بأن معنى لفظة « من » عند ما تقول : سرت من البصرة ، لا يكون ملحوظا إلاّ بعنوان الرابطية ، بخلاف لفظ الابتداء عند ما تقول : ابتداء السير من البصرة حسن مثلا ، وحينئذ يعود الأمر إلى التقييد بالوجود الذهني الرابطي وعدم الرابطي ، فيتوجه عليه الاشكالان اللذان أفادهما صاحب الكفاية ، فلاحظ.

وبعد إبطال هذه الأقوال الثلاثة بما أفاده في الكفاية ، وبعد إبطالنا القول الرابع وهو كون المعاني الحرفية قيودا في المعاني الاسمية ، يبقى الأمر منحصرا بمسلك الكفاية ومسلك شيخنا قدس سره ، وبعد إصلاح ما في الكفاية من شرط الواضع وإرجاعه إلى التقييد في مرحلة الغرض ليكون منتجا لتقييد الوضع ، نظير قصد داعي الأمر في التعبديات كما أفاده في المقالة (2) ، أو بما عرفت من إرجاعه إلى تقييد الوضع وحصره ، ليكون محصّله هو أن الابتداء

ص: 61


1- [ لم يوجد في الأصل وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- مقالات الاصول 1 : 89 - 90.

إن قصد آليا ورابطا بين الاسمين فالموضوع له لفظة « من » ، وإن قصد في حدّ نفسه فالموضوع له هو لفظ الابتداء ، على حسب ما مرّ شرحه من معنى الشرط ، ولعل ما ذكرناه في كيفية الوضع وأنّه اختراع وإحضار للمعنى باحضار اللفظ المناسب له أظهر في التقييد من بقية الطرق.

وكيف كان ، نقول : إنه بعد إصلاح مسلك الكفاية يكون الأمر مرددا بين المسلكين ، وهذا غريب ، لأن التردد إنما يحصل فيما لا يكون راجعا إلى نفس الشخص المتردد ، كأن يتردد في الامور التكوينية مثل حركة الكواكب ومثل التردد في سائر الواقعيات ، ومثله التردد فيما أراده المتكلم بقوله افعل مثلا ، هل أراد الوجوب أو أراد الندب ، وكذلك التردد في كيفية إرادته الندب من ذلك لو أحرز أنه أراد الندب ولكن حصل لنا التردد في أنه أراده بلا عناية أو أنه أراده بالعناية ، إلى غير ذلك مما لا يكون راجعا إلى المتردد نفسه.

أما ما يعود إلى نفس الشخص ، وأنه عند قوله : سرت من البصرة إلى الكوفة ، هل قصد إيجاد ربط الابتداء بين المفهومين ليكون مماثلا للربط الواقعي بين واقع السير وواقع البصرة ، أو أنه (1) لم يقصد بذلك إلاّ الحكاية عن نفس ذلك الربط الواقعي بينهما على نحو الآلية والارتباط على وجه لم يقصد بقوله من البصرة إلاّ نفس ما يقصده بقوله الابتداء ، غير أنه قصده في الأول على نحو الارتباط والآلية وفي الثاني على نحو الاستقلالية ، فهذا التردد منه غريب ، لأنه تردد في قصده الجاري عليه في جميع كلماته ، ولو نقل لنا هذا التردد عن شخص من الأشخاص لنسبناه إلى أقصى درجات

ص: 62


1- [ في الأصل : وأنه ، والصحيح ما أثبتناه ].

الجهل ، لكنا نجهل ذلك من أنفسنا ونتردد في نفس قصدنا ، إنّ هذا لغريب بل هو أغرب من كل غريب.

وأمّا ما أشكل به الاستاذ العراقي قدس سره في مقالته على مسلك الكفاية بقوله : بل العمدة في وجه الاشكال أنه بعد الجزم بحسب الوجدان أنّ في موارد استعمال الحروف ينسبق إلى الذهن النسب المخصوصة أو الابتداء الخاص مثلا بخصوصياتها التفصيلية ، لا مجال لاستفادة ذلك من مفهوم النسبة أو الابتداء الملحوظ مرآة ، إلخ (1).

وحاصله : استفادة خصوصية للابتداء في قولك : سرت من البصرة ، فلا يمكن ادعاء كون مفاد لفظة « من » هو طبيعة الابتداء.

ولكن لا يخفى أن هذه الخصوصية إنما جاءت من الطرفين ، كما أن كل واحد من الطرفين يكتسي الخصوصية من النسبة الحاصلة بينهما المحكية بلفظة « من » وكما أن ذلك لا يخرج السير عن كون مفاده هو كلي السير ، فكذلك لا يخرج الابتداء المستفاد من لفظة « من » عن كون مفاده هو كلي الابتداء ، أما استفادة الخصوصية مما هو تحت لفظة « من » فذلك ممنوع أشد المنع ، وإلاّ لكانت هذه الخصوصية جارية في لفظ الابتداء في مثل قولك : ابتدائي من البصرة حسن ، فلاحظ وتدبر.

ولا يخفى أن هذا الاشكال لو تم فانما هو إشكال على دعوى كونه كليا ، وهو وارد على مسلك صاحب المقالة قدس سره في المعنى الحرفي فيما مرّ نقله ، فراجع (2).

والأولى بل المتعين إسقاط اللحاظ الآلي من مسلك الكفاية ، وإبداله

ص: 63


1- مقالات الاصول 1 : 90.
2- [ فيما تقدم من كلمات المحقق العراقي قدس سره لم يذكر مسلكه فلاحظ ].

بلحاظ المعنى الحرفي رابطا بين الاسمين ، لئلا ينقض بالعناوين المأخوذة معرّفات ، وهو أولى من التعبير بلحاظه حالة لغيره لانتقاضه بالمصادر ، لأن الملحوظ فيها جهة الانتساب ، وذلك ملازم لأخذها حالة للفاعل ، وإن أمكن الجواب عنه بأن أخذها مطروّة لجهة الانتساب ليس هو عبارة عن لحاظها حالة لفاعلها ولا أنه ملازم لذلك ، ولأجل ذلك نقول : إن الأولى هو التعبير بلحاظ الرابطية ، أعني لحاظها عبارة عن النسبة بما أنها نسبة متقومة في الذهن والخارج بين المنتسبين ، لا بما أنها حاصلة في الذهن بنفسها وإن كانت في الخارج متقومة بينهما.

وعلى أيّ حال ، أن هذه الملاحظة لا تكون دخيلة في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، فلا فرق بين ما يحكيه لفظ النسبة والربط وبين ما يحكيه لفظة « من » أو لفظ الهيئة ، في كون الموضوع له والمستعمل فيه هو نفس النسبة والربط ، غير أنّه عند أدائه بلفظة « من » أو لفظ الهيئة يكون ملحوظا بما أنه رابط بين المنتسبين ، وعند أدائه بلفظ الربط أو بلفظ النسبة أو بلفظ الابتداء يكون ملحوظا في حد نفسه ، وإن كان هو في الواقع رابطا بينهما ، لكن هذا اللحاظ حاصل عند الاستعمال وغير دخيل في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، ومع ذلك لا يصح استعمال أحدهما في مورد الآخر ، لعدم وضعه له في ذلك الحال على ما عرفت من مقتضى تقيد الوضع واشتراطه ، وهذا إنما يتم في الحروف المتضمنة للنسب والربط مثل حروف الجر والهيئات دون الحروف الايجادية مثل إن وأخواتها وهمزة الاستفهام وأخواتها ويا الندائية وأخواتها ، وكذلك ما تكفل الاشارة الذهنية مثل حرف التعريف والموصولات أو الاشارة الخارجية مثل لفظ هذا وأخواتها ، وكذلك ما تكفل العرض والتنبيه والردع وما يعبّر عنه بأسماء

ص: 64

الأفعال إلى غير ذلك من الأدوات الايجادية ، بل لعل ذلك جار في صيغ الأمر والنهي مثل افعل ولا تفعل ، فإن جميع ذلك لا يكون للحكاية بل للايجاد ، نعم فيما يكون مشتركا بين الاخبار والانشاء مثل قولك تقوم وتقعد ، ومثل بعت وآجرت ، ومثل أنت حر وهند طالق ، ومثل أترجى وأتمنى ، إلى غير ذلك ممّا يصح استعماله في مقام الانشاء كما يصح استعماله في مقام [ الاخبار ](1) فإن مفاد هذه الهيئات في هذه المقامات لا يكون إلاّ من قبيل حكاية الربط بين المادة وفاعلها ، غير أنّه إن كان بداعي الاعلام كان إخبارا ، وإن كان بداعي التحريك والبعث إلى نفس تلك النسب المحكية بتلك الهيئات يكون إنشاء.

ثم إن هاهنا مطلبا لا بأس بالاشارة إليه : وهو أن اسم الاشارة كهذا مثلا هل هو موضوع للذات في مقام الاشارة لها ، أو أنه موضوع للاشارة إلى الذات ، بمعنى أنه موضوع لاحداث الاشارة إليها وإيجادها كما تحدث الاشارة بفعل اليد ، من دون فرق بينهما سوى أن ذلك باللسان وهذا إشارة بفعل اليد؟

والذي يظهر من مثل قولنا : هذا زيد ، هو الثاني ، حيث إنا لا ندرك من لفظ هذا إلاّ ذلك ، أعني إيجاد الاشارة إلى الذات ، وتنبيه السامع إليها ليلتفت إليها. ودعوى كونها موضوعة للذات المشار إليها أو للذات بشرط الاستعمال في مقام الاشارة ، دعوى بلا دليل ، بل الدليل على خلافها ، حيث إنا عند استعمال هذه اللفظة لا نلتفت إلى الذات إلاّ باعتبار كونها متعلقا للاشارة التي تحدث بلفظ هذا ، ولو كانت موضوعة للذات لحصل الالتفات

ص: 65


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

إليها عند الاستعمال ، حيث إن تصور الموضوع له والمستعمل فيه شرط في الاستعمال.

والحاصل : أنا عند استعمال تلك اللفظة لا نلتفت إلى الذات ، وكذلك عند سماعها ، وإنما نلتفت إليها بواسطة حدوث الاشارة إليها لا بواسطة إعمال هذه اللفظة في نفس الذات المشار إليها ، وذلك دليل على عدم وضعها للذات وعدم استعمالها فيها أصلا ، وبالجملة هي محدثة للاشارة إلى الذات لا حاكية عن الذات المشار إليها ، وحينئذ فتكون ممحّضة للجهة الآلية ، فتكون من قبيل الحروف لا الاسماء ، ولا تكون لها جهة اسمية أصلا ، فان الملاك في كون اللفظ اسما حكايته عن معنى مستقل باللحاظ ، وكونه وجها لذلك المعنى وعنوانا وقالبا له ، وقد عرفت عدم تحقق هذه الجهة فيها.

نعم ، يكون الالتفات إلى الذات متأخرا رتبة عن إحداث الاشارة ، لا أنه بواسطة حكاية أداة الاشارة عن تلك الذات ، بل بواسطة أن الانسان إذا وجّه إليه الكلام مقرونا بالاشارة إلى شيء يكون ذلك أعني نفس الاشارة محرّكا له لأن يلتفت إلى ذلك الشيء ويشاهده لا أنه يتصوره وينظر إليه بواسطة هذا اللفظ بأن يكون هذا اللفظ بمنزلة المرآة الحاكية عن المشار إليه.

ومنه يعلم الجواب عمّا يرد على ما ذكرنا من كون أدوات الاشارة حروفا ، ما يقال لو كانت حروفا لما صح الاسناد إليها والاخبار عنها ، فانك بعد أن عرفت ما أشرنا إليه يتضح لك الجواب عن ذلك ، حيث إن الاخبار المذكور إنما هو عن نفس تلك الذات الخارجية التي يلتفت إليها السامع بعد الاشارة إليها بلفظ هذا ، فيكون ذلك نحوا من الإلقاء بلا واسطة حاك ،

ص: 66

فإنّه إذا أوجد الإشارة إلى تلك الذات إمّا بأداة الاشارة وإمّا بفعل اليد ، كان ذلك إلقاء لنفس المعنى لا بواسطة حاك ، فإذا ألقى نفس المعنى إلى السامع يلتفت إليه بنفسه بلا حاجة إلى حاك ، وحينئذ يحكم عليه بنفسه ، فلا يكون المحكوم عليه إلاّ ذلك المعنى الخارجي بلا توسط حكاية أداة الاشارة عنه كي تكون اسما ، وهكذا الكلام في بقية المبهمات بل جميع الألفاظ التي اشتهر أنها أسماء متضمنة لمعاني الحروف كأين ومتى ، فإن مثل أين موضوعة للاستفهام عن المكان لا للمكان في مقام الاستفهام عنه ، بل وهكذا الكلام في جميع ما يدعى بناؤه من الأسماء لجهات من الشبه الحرفي ، فإن جميع تلك الجهات راجعة إلى الشبه المعنوي ، فالشبه الوضعي في الضمائر والشبه الافتقاري في الموصولات والشبه الاستعمالي في أسماء الأفعال كلها تصوير محض ، وإلاّ ففي الحقيقة أن هذه كلها مشابهة للحرف في المعنى ، لتضمّن الأولين الاشارة المعنوية ، والثالث مفاد الهيئة الذي هو الطلب ، فلم يبق من المبنيّات إلاّ مثل سحر وأمس وقبل وبعد والمنادى والمحكيات ونحو ذلك ، وهذه يمكن القول بأنّها لغة خاصة بها.

لا يقال : كيف تكون مثل تلك الكلمات حروفا مع أنّها تقع مدخولة لحرف الجر.

لأنا نقول : دخول حرف الجر على مثل لفظة « هذا » لا يكون دليلا على اسميته ، حيث إنّ حرف الخفض إنما هو داخل في الحقيقة على نفس المعنى الخارجي المشار إليه ، توضيح ذلك : أنه إنّما كان مثل لفظ في مختصّا بالأسماء لأنّها تلاحظ تبعا للحاظ المدخول ، فلا بد أن يكون المدخول ملحوظا مستقلا ليكون مفاد الحرف ملحوظا تبعا له ، والمفروض

ص: 67

أن معنى لفظ في إنّما يفضي إلى ذلك المعنى الخارجي ، وحينئذ فلا يبقى أثر سوى المدخول اللفظي الصوري وهو لا إشكال فيه كما نشاهد فيما لو توسط بين الجار والمجرور حرف النفي مثلا.

والحاصل : أنّ حروف الجر إنّما اختصّت بالدخول على الأسماء من جهة أنّها تدل أو تحدث ( على الخلاف في معنى الحرف ) ربطا بين الاسمين أو بين الفعل والاسم ، وحينئذ فلا بد أن يكون مدخولها مستقلا ليكون أحد طرفي هذا الربط ، فإذا كان أحد طرفي هذا الربط هو ذلك المعنى الخارجي ، كان هو الذي يفضى إليه ويرتبط بما قبل ذلك الحرف أو بعده ، ولمّا لم يمكن ابتداء إدخال لفظ الحرف على نفس الذات المشار إليها مثلا ، جعل الواسطة في حمل معنى حرف الجر إلى تلك الذات هو أداة الاشارة ، فالمدخول الواقعي ( أعني الذي يرتبط به المعنى الحرفي ) هو ذلك الشخص الخارجي المشار إليه ، وإنما كان إدخال الحرف على أداة الاشارة لمجرد كونه واسطة في حمل معناه إلى الذات المشار إليها.

وهذا المطلب وان كان مستغربا إلاّ أنّه لا ينبغي الاعراض عنه لمجرّد ذلك بعد أن ساعده الاعتبار. ولقد وقعت هذه الشبهة في ذهني القاصر من زمان قديم ، ولكني حسبتها - لأجل مخالفتها المشهور - في مقابل البديهة ، ولم تزل تخالجني حتى الآن ، فلمّا لم أقدر على دفعها إلى الآن أحببت رسمها هنا ، فإن كانت حقيقة فنعم المطلوب ، وإلاّ ففائدة كتابتها هي أن تحلّها أنت أيها الناظر الخبير والناقد البصير ، واللّه سبحانه وتعالى هو الموفق والمستعان وهو نعم المعين ونعم النصير.

نعم ، بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من أن النسبة التي توجدها الهيئة

ص: 68


1- أجود التقريرات 1 : 27.

أو الحرف إنما هي النسبة بين مفهومي الاسمين المنتسب أحدهما إلى الآخر لا بين المحكيين بذينك الاسمين ، لا يتم ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتم ما سيأتي من إلقاء اللفظ والحكم عليه باعتبار شخص ذلك الملقى مثل زيد لفظ إذا أردت به شخص ذلك اللفظ الملقى.

ولكن يمكن التخلص من هذا الاشكال ، بأنّ ذلك أعني كون الحرف أو الهيئة موجدا للنسبة بين المفهومين إنما هو في خصوص ما لو كان كل من لفظ المنسوب والمنسوب إليه حاكيا ، أما لو كان المنسوب إليه ملقى بنفسه فالحرف أو الهيئة تكون أيضا موجدة للنسبة ، غايته أن النسبة تكون بين مفهوم المنسوب وواقع المنسوب إليه لا مفهوم المنسوب إليه.

على أنّه يمكن المناقشة فيما أفاده قدس سره من كون النسبة واقعة بين المفهومين الحاكيين وأنّها لا تسري إلى المحكيين ، لامكان أن يقال إن ما توقعه الهيئة من نسبة الضرب إلى زيد في قولك : ضرب زيد ، وما يوجد الحرف من نسبة الماء إلى الكوز على جهة الظرفية في قولك : الماء في الكوز ، لا يكون مقصورا على مفهوم الضرب ومفهوم زيد أو مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، بل إنّ تلك النسبة سارية من المفهومين إلى المحكيين ، فإنّ ما في الخارج وان كان هو مجرّد الضرب وزيد والماء والكوز ، إلاّ أنّ كون ذلك الضرب الخارجي صادرا من زيد ، وكون ذلك الماء الخارجي حاصلا في الكوز ، من الامور الواقعية المتحققة واقعا في صقعها الاعتباري ، وإن لم يكن الخارج ظرفا لوجودها ، بل هي من حدود ذلك الموجود الخارجي الذي طرأ على الضرب وزيد والماء والكوز ، ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه الامور من المقولات ، أعني مقولة الفعل ومقولة الأين ومتى ونحوها من المقولات ، ونفس النسبة والاضافة التي هي القدر الجامع بين المقولات

ص: 69

الإضافية لا بد أن تكون هي الجامع بين تلك المقولات الخاصة ، فلا بد أن يكون لها تحقق في وعائها الاعتباري (1).

قوله : ولا منافاة بين كون المعاني الحرفية إيجادية ، وأن تكون للنسبة الحقيقية واقعية وخارجية ، قد تطابق النسبة الكلامية ... إلخ (2).

كأنّ قائلا يقول : إذا كان مفاد الهيئة ونحوها من الحروف النسبيّة هو إيجاد النسبة بين المفهومين ، فلا مورد فيها حينئذ للصدق والكذب ، ويكون جعل النسبة بينهما كجعل التمني والترجّي عاريا عن الحكاية عن الواقع التي هي أعني الحكاية عن الواقع هي المناط في الصدق والكذب ، فإنّ الصدق

ص: 70


1- [ وجدنا في الأصل ورقة مرفقة وكأنها فهرسة لأبحاثه ارتأينا جعلها في الهامش وهي : ] 1 - المعاني اخطارية وغير اخطارية. 2 - المعاني غير الاخطارية كلها ايجادية سواء كانت غير نسبية أو كانت نسبية ، على خلاف ظاهر التحرير من كونها ايجادية تارة ونسبية اخرى. 3 - الموضوع للنسب يكون حروفا مثل لفظة [ من ] وهيئة مثل هيئات الافعال ، وهي نسب أولية ونسب ثانوية. 4 - تنقسم الألفاظ التي للنسب إلى المستقر واللغو. 5 - الحروف باسرها ايجادية حتى ما كان منها للنسبة. لازم كونها ايجادية أن لا واقع لها في غير التراكيب الكلامية. الهيئة في الانشاء والاخبار واحدة ، ومفادها وضعا واستعمالا واحد ، وانما الاختلاف بينهما في السياق ، وفيه التعرض لهذا النحو من الايجاد في البيع الانشائي وفي سائر الحروف. إن المعنى الحرفي مغفول عنه كالالفاظ في حال استعمالها ، ففي قولك سرت من البصرة تكون النسبة الابتدائية مغفولا عنها ، بخلاف قولك : النسبة الابتدائية كذا ، فانها تكون ملتفتا إليها.
2- أجود التقريرات 1 : 28 - 29 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

هو مطابقة الحكاية للواقع المحكي والكذب هو عدم المطابقة.

فأجاب : بأنّه لا منافاة بين كون الهيئة لايجاد النسبة وبين الاتصاف بالصدق والكذب ، فإنّ المنافي لكون الهيئة إيجادية هو كون ما تفيده مفهوما كليا منطبقا على الواقع انطباق الكلي على الفرد ، ليكون حاصل القضية مثل قولنا : الانسان كاتب ، مؤلفا من ثلاثة مفاهيم ، مفهوم الانسان المنطبق على واقعه ، ومفهوم الكاتب المنطبق على واقعه ، ومفهوم الهيئة المنطبق على واقع النسبة ، وهذا هو المراد من انطباق الكلي على الفرد يعني انطباق المفهوم الذهني على الواقع.

ولو كانت القضية كذلك لاحتاجت هذه المفاهيم الثلاثة إلى رابط بينها ، وحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك الرابط ويعود محذور الحكاية أو الايجاد ، وإنّما قلنا إنّه لا منافاة بين كون الهيئة لايجاد النسبة وبين الاتصاف بالصدق والكذب ، لأنّ هذا الذي توجده الهيئة أعني الربط الذهني بين المفهومين ، هو مثال للربط الواقعي بينها ، وهو المعبّر عنه بالوجود الظلي لواقع النسبة ، فهذا الوجود الذهني المثالي أو الظلي إن طابق النسبة الواقعية كانت القضية صادقة ، وإن لم يطابقها كانت القضية كاذبة. وهذه المطابقة ليست من مطابقة الكلي للفرد كما عرفت من مطابقة مفهوم الانسان لواقعه ، بل هي من قبيل مطابقة أحد الفردين للآخر.

قلت : وإن شئت قلت : إنّ الواقع وإن كان الموجود فيه هو السير والبصرة ، إلاّ أنّ السير قد وجد على نحو خاص ، وهو كون مبدئه البصرة ومنتهاه الكوفة ، فنحن عند ما نقول : سرت من البصرة إلى الكوفة ، نكون قد خلقنا للسير الذهني ابتداء وانتهاء على حذو ما في الواقع ، وإذا صحّ لنا ذلك لم يبق إلاّ مجرّد صحة تسمية هذا الخلق حاكيا عما في الواقع وعدم

ص: 71

تسميته ، وقد عرفت في حقيقة الوضع أنّ أصله هو هذا النحو من الخلق والايجاد ، أعني إيجاد المعنى بايجاد هذا اللفظ على وجه يتخيّل الواضع أعني المخترع الأول أنه أوجد المعنى بايجاد مثله وخلق مناسبه ، فهل يخرج ذلك الاختراع بأول وجوده عن كون اللفظ حاكيا عن المعنى حكاية المثل عن مثله.

وعلى أيّ تتم أجزاء القضية اللفظية والذهنية وهي الموضوع والمحمول والنسبة ، ويكون مجموع هذه القضية اللفظية أو هاتيك القضية الذهنية وجودا مثاليا للقضية الواقعية التي هي عبارة عن واقع السير والبصرة والنسبة الابتدائية بينهما ، فإن كان إيجاد وخلق فهو منطبق على مجموع القضية ، وإن كان حكاية ولو بالمماثل فهو أيضا منطبق على مجموعها ولا خصوصية لمفاد الهيئة في ذلك ، ولعلّ النزاع يعود لفظيا ، فلاحظ وتأمل.

قوله : فإنّه كما يمتنع حقيقة اجتماع النقيضين ، كذلك يمتنع حضور مفهومه في الذهن أيضا ، بداهة عدم إمكان تصور الوجود والعدم في آن واحد ، بل ينتزع العقل مفهوم الاجتماع من اجتماع زيد وعمرو مثلا ، ثم يتصور كلا من الوجود والعدم ويضيف مفهوم الاجتماع إليهما ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ الوجود والعدم بالقياس إلى فعل واحد كما لا يمكن اجتماعهما في الخارج فكذلك لا يمكن اجتماعهما في الذهن ، بمعنى أنّه لا يعقل أن يكون الشيء موجودا في الذهن ومعدوما فيه ، وهذا واضح لا غبار عليه.

ص: 72


1- أجود التقريرات 1 : 30 - 31.

لكن الكلام في تصور مفهوم اجتماعهما لا في واقع اجتماعهما ، وحينئذ نقول : إن كان المراد تصور مفهوم الاجتماع طارئا على الوجود والعدم الخارجيين فذلك لا ينبغي الاشكال في إمكانه ، فإنّ باب التصور واسع ، فلا مانع من أن تتصور اجتماع قيام زيد في الخارج وعدمه في الخارج ، ويكون تصور هذا المفهوم أعني مفهوم الاجتماع حاكيا عن واقع غير واقع بل هو محال ، فإنّ تصوّر المحال ليس بمحال ، ولا يتوقف ذلك على أن يتصور الاجتماع بين زيد وعمرو ثم يتصور وجود القيام ويتصور عدمه في الخارج ، ثم يضيف مفهوم الاجتماع الذي تصوره بين زيد وعمرو إلى القيام وعدمه ، بل إنّ ذلك محال ، لأن ذلك المفهوم الموجود في ذهنه من اقتران زيد وعمرو لا يعقل أن يطرأ على القيام وعدمه ، بل هو وجود آخر في الذهن لمفهوم الاجتماع. ولو سلّمنا معقوليته عاد محذور اجتماع القيام وعدمه في الذهن ، فلاحظ وتدبر.

ومن ذلك كله يظهر لك التأمل فيما نقله عن الشيخ الرئيس (1) من أنّه كما يمتنع الممتنعات بحسب الوجود الخارجي كذلك بحسب الوجود الذهني أيضا (2) لما عرفت من أن الامتناع في الخارج لا يوجب الامتناع في الذهن.

وإن كان المراد تصور مفهوم الاجتماع طارئا على الوجود والعدم الذهنيين ، بمعنى أن وجود زيد في الذهن مناقض لعدمه فيه ، ونحن نتصور الاجتماع الطارئ على هذين النقيضين ، فالظاهر أنه لا مانع منه ، إذ لا مانع من تصور هذا الاجتماع الطارئ على المتناقضين ذهنا ، فانّ تصور اجتماع

ص: 73


1- [ لم نعثر عليه في مظانّه ].
2- أجود التقريرات 1 : 31.

المتناقضين ذهنا ليس هو عين اجتماعهما في الذهن ، والمحال إنما هو نفس اجتماعهما في الذهن لا تصور اجتماعهما. نعم ما يكون وجوده في الذهن محالا يستحيل تصوره ، إذ ليس تصوره إلاّ وجوده في الذهن ، وهل يكون اجتماع المتناقضين ذهنا من هذا القبيل ، بمعنى كون وجود الاجتماع محالا في الذهن ، وحينئذ يمتنع تصوره ، إذ ليس تصوره إلا وجوده في الذهن ، والمفروض أنّ وجوده في الذهن محال. ولو كان الأمر كذلك فلا يصلحه أخذ مفهوم الاجتماع فيما بين زيد وعمرو وتصوره طارئا على المتناقضين ذهنا ، فانه لا يخرج بذلك عن وجود اجتماعهما في الذهن المفروض كونه محالا ، فتأمل.

قوله - في الركن الرابع إنّ المعنى الحرفي حاله حال الألفاظ حين استعمالها ، فكما أن المستعمل حين الاستعمال لا يرى إلاّ المعنى ، وغير ملتفت إلى الألفاظ - إلى قوله : - كذلك المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال ، بل الملتفت إليه هي المعاني الاسمية الاستقلالية ... إلخ (1).

وحاصله : أنّ النظر الى الألفاظ في مقام استعمالها في معانيها إنّما هو نظر آلي ، وانما المنظور إليه حقيقة هو المعاني ، فكذلك المعاني الحرفية بالنسبة إلى المعاني الاسمية. ولكن هل ألفاظ الحروف كذلك؟ بمعنى أنّ المنظور إليه من لفظة « من » في قولك « سرت من البصرة » هو معناها ولو النسبة الايجادية ، أو أن ألفاظ الحروف خارجة عن القاعدة في الألفاظ؟

لا سبيل إلى الثاني فيتعيّن الاول ، وحينئذ تكون لفظة « من » آلة في

ص: 74


1- أجود التقريرات 1 : 32.

إيجاد النسبة الابتدائية بين السير والبصرة ، ويكون المنظور إليه من لفظة « من » هو نفس إيجاد النسبة المذكورة ، ولا يكون النظر الى لفظة « من » إلاّ نظرا آليا ، وحينئذ فلو ضممنا إلى ذلك أنّ النظر إلى المعنى الحرفي آلي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، كان الحاصل أنّ النظر إلى لفظة « من » آلي بالنسبة إلى مفادها الذي هو إيجاد النسبة ، ومع ذلك يكون النظر إلى مفادها آليا أيضا بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، فهناك انتقال من آلة إلى آلة ثم إلى المستقل وهو المعنى الاسمي ، فهل الأمر كذلك؟

ثم إنّ كون اللفظ آلة بالنسبة إلى المعنى واضح ، لكونه آلة في إحضاره في ذهن السامع ، فيكون النظر إلى اللفظ في ذلك المقام مندكا في النظر إلى المعنى ، ويكون المنظور الحقيقي هو نفس المعنى. أما كون نفس المعنى الحرفي آلة بالنسبة إلى المعنى الاسمي (1) ، ففيه خفاء ، إذ ليس معنى لفظة « من » آلة في احضار المعنى الاسمي. نعم إنّ معناها وهو النسبة الايجادية قائم في الذهن بين مفهومي الاسمين أعني السير والبصرة ، وهو في الذهن من أطوارهما كما أنه في الواقع من أطوار وجودهما ، ويكون الحاصل أن معناها متقوم بين مفهومين لا أنه مفهوم مستقل ، فيكون معناها بمنزلة الآلة لفهم ما بين المفهومين من النسبة ، فان كان المراد من الآلية هو هذا المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح ، إلاّ أنه ليس على وتيرة آلية الألفاظ بالنسبة إلى معانيها ، بل هو طور آخر لا يولّد اندكاك النظر إلى الآلة في النظر إلى ذيها ، على وجه يكون النظر إلى الآلة مغفولا عنه وغير ملتفت إليه في جنب النظر إلى ذي الآلة والالتفات إليه.

ص: 75


1- [ في الأصل : المعنى الحرفي ، والصحيح ما أثبتناه ].

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أضافه المرحوم الشيخ محمد علي بقوله : فحيث انه لم يكن للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال - الى أن قال - ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له إلاّ بالقول ... إلخ (1).

ولئن قال قائل إن المعنى الحرفي إذا كان إيجاديا كان ذلك أدعى لأن يكون ملتفتا إليه ، لأنه حينئذ يكون من الأفعال الاختيارية للمستعمل ، لم يكن قوله بعيدا. نعم دعوى كون المعنى الحرفي منظورا إليه استقلالا ببرهان أنّه يقع موردا للسؤال والجواب كما في قولك - في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع العلم بأصل الركوب - : إنه على الدابة أو مع الأمير ، لا تخلو من مغالطة ، إذ ليس السؤال ولا الجواب متعلقا بالمعنى الحرفي بما أنه معنى حرفي ، بل هما متعلقان بالمعنى الاسمي وأخذ ذلك الربط ملحوظا استقلالا ، فهو على وتيرة قولك أيّ نسبة بين السير والبصرة ، فهل هي نسبة ابتداء أو هي نسبة انتهاء أو هي نسبة الظرفية؟ وجواب الأول سار من البصرة ، وجواب الثاني سار الى البصرة ، وجواب الثالث سار في البصرة ، أما السؤال عن محل نزوله ، فتقول في دار زيد ، فلا ربط له بما نحن فيه ، فان السؤال والجواب منصبّان على مدخول لفظة في ، ولا دخل لهما بنفس مفاد لفظة في.

وأما القول بأنّ معاني الحروف قيود المعاني الاسمية كما في حواشي التقرير عن شيخنا قدس سره (2) فان كان المراد بذلك أنّ قولنا « من البصرة » يقيّد السير بالبصرة ويربطه بها ، فيكون مفاد لفظة « من » هو النسبة التقييدية

ص: 76


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 45.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 27.

بينهما ، لم يكن مفاد الحرف قيدا بل كان القيد مدخوله ، وكان مفاد لفظة « من » هو النسبة التقييدية ، فلم يخرج عما أفاده شيخنا قدس سره.

وان كان المراد هو كون السير مقيدا بكونه من البصرة ، بمعنى أنّه مقيّد بأنّ مبدأه البصرة ومنتهاه الكوفة ، عاد الحرف اسما وكنا محتاجين إلى لفظ يدل على نسبة ذلك القيد الى ذلك المقيد ، فتعود مشكلة الحرف المتضمّن لتلك النسبة التقييدية بين السير وبين مفاد لفظة « من » الذي هو القيد أعني الابتداء.

والحاصل : أنّ دعوى كون مفاد الهيئات تقييد المفاهيم الاسمية كما يظهر من الحاشية المزبورة ، لعله ممّا لا يرجع إلى محصّل خصوصا في النسب التامة الاخبارية ، وأما النسب الناقصة التقييدية فهي إنّما تكون بين القيد والمقيد وهما اسمان ، ومفاد الهيئة فيهما هو ربط أحدهما بالآخر على جهة التقييد ، فيكون حالها حال النسب التامة ، غير أنّ الناقصة تكون في طي النسبة التامة ، وإلاّ فالكل نسب بين المفاهيم الاسمية ، ولأجل ذلك قالوا إن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم أوصاف. وأما ما مثّل به لذلك من قولك : الصلاة في المسجد حكمها كذا ... إلخ فليس قولك في المسجد متعلقا بالصلاة ليكون على نحو الظرف اللغو ، بل هو متعلق بمحذوف ويكون من الظرف المستقر ، ويكون الحاصل هو : أن الصلاة الموجودة في المسجد حكمها كذا ، فيكون القيد هو الكون في المسجد ويكون حاله حال قولك : العالم العادل حكمه كذا ، وبذلك تتكوّن هيئة بين الموصوف والصفة ، وهذه هي التي مفادها التقييد. ويبقى الكلام فيما تفيده لفظة « في » الواقعة بين الاستقرار والمسجد ، وهي من هذه [ الجهة ](1) بمنزلة

ص: 77


1- [ لم يوجد في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].

توسطها بين القيام أو الضرب والمسجد في قولك : قمت في المسجد أو ضربت في المسجد في إفادتها الظرفية بين الحدث والمكان ، ولا يكون مفادها تقييد الضرب أو القيام بكونه في المسجد.

ثم لو سلّمنا كون مفاد الهيئة والحروف قيودا كانت هناك نسبة تقييدية بين المقيد وهو المعنى الاسمي والقيد وهو مفاد الحرف أو الهيئة ، ولا بد لهذه النسبة التقييدية من دال يدل عليها ، فأين هذا الدال على هذه النسبة؟ ولو سلّم وجوده كان أيضا قيدا ومقيدا ، لأن هذا الدّال أيضا يدل على النسبة والنسبة تكون قيدا على رأي المشكل ، فتتكون نسبة تقييدية اخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.

قال الاستاذ العراقي في مقالته : وحينئذ التحقيق في حقيقة المعاني الحرفية كونها عبارة عن النسب والارتباطات القائمة بالمعاني المستقلة بالمفهومية ، على اختلاف النسب والارتباطات ، من النسب الابتدائية والاستعلائية والظرفيّة وغيرها ، فحينئذ معنى عدم استقلالها بالمفهومية عدم استقلال ذات المفهوم المجامع مع الاستقلال في عالم اللحاظ - إلى أن قال : - ومنها أنّه بعد ما ظهر سنخ المعاني الحرفية ، يبقى الكلام في أنّ الحروف هل هي دالة على مثل هذه المعاني ومنبئة عنها كانباء الأسماء عن معانيها ، أو أنّها موجدة لها وكانت من قبيل الوسائط (1) في الثبوت لها ، كي تكون كيفية استعمالها على خلاف استعمال الأسماء؟ اختار ذلك بعض الأعاظم من المعاصرين ، ولعلّ نظره - كما استفدناه من بعض تقريرات بحثه - أنّ

ص: 78


1- لا يخفى أن جعل الحروف بناء على كونها إيجادية من قبيل وسائط الثبوت لا يخلو عن تسامح ، فان فاعل الربط هو المتكلم ، والحرف يكون آلة في إيجاد المتكلم ذلك الربط. [ منه قدس سره ].

مفاهيم الأسماء بعد ما لم يوجد فيها جهة الارتباط إلى الغير ، فلا جرم كانت عارية عن الارتباط المزبور في عالم الذهن ، وحينئذ أين الارتباط في البين كي يكون اللفظ حاكيا عنه ، فلا محيص إلا من الالتزام بكون اللفظ موجدا للارتباط بين المفهومين.

أقول : ما افيد كذلك لو كانت المعاني الاسمية الموضوعة للماهيّة المهملة موجودة في الذهن بوصف عرائها عن التقييد والتجرّد المساوق للاطلاق ، وإلا فبناء على التحقيق من استحالة تحقق المعنى اللابشرط المقسمي في الذهن إلا بشكل التجرد أو بشكل التقيّد ، فعند إرادة المقيّد لا بد وأن يكون المعنى الحاضر في ذهن المتكلم واجدا للتقييد ، وبعد ذا يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيدها بالحرف كما يحكي عن تجرّدها المساوق لاطلاقها المسمّى باللابشرط القسمي بدال آخر ولو مثل مقدمات الحكمة ، وإلا فجهة الاطلاق كجهة التقييد زائدة عن ذات المعنى الاسمي ، فيلزم أن تكون مقدمات الحكمة ايضا موجدة لاطلاق المعنى لا حاكية عنه ، ولا أظن أن يلتزمه أحد. فنحن حينئذ نقول : إنّ الحاكي عن التقييد كالحاكي عن الاطلاق بدال آخر لا بأسباب موجدة اخرى كما لا يخفى (1).

والظاهر منه الالتزام بكون المعاني الحرفية قيودا في المعاني الاسمية ومع ذلك قد صدّر كلامه بأنها للنسب ، فلا بد أن يكون القيد هو مدخول الحرف لا الحرف نفسه ، وإلا لم يكن مفاد الحرف هو النسبة والارتباط.

ثم لا يخفى أن الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس هو من

ص: 79


1- مقالات الاصول 1 : 91 - 94.

اللابشرط القسمي ، بل الظاهر أنه من الماهية بشرط شيء وهو الاطلاق. وأما الماهية لا بشرط القسمي فهو ذات الماهية غير ملحوظ فيها الاطلاق ولا التقييد.

وعلى أيّ فالظاهر أنّ إشكاله مبني على استحالة وجود اللابشرط المقسمي في الذهن. ولكن لا يخفى أنّ هذا الاشكال لا ينحصر بالمعنى الحرفي ولا بكونه موجدا ، بل هو جار في جميع أنحاء التقييدات ، حتى في مثل تقييد الرجل بالعالم في مثل جاءني الرجل العالم فضلا عن التقييدات الحرفية فضلا عن كونها إيجادية.

وما دفع به الاشكال من أن الحاضر في ذهن المتكلم هو المقيد ، وبعد ذلك يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيده بالحرف ، لا يخلو عن تأمل ، إذ السؤال باق ، فانّ المتكلم وإن تصور الرجل العالم قبل النطق ، إلا أنّه عند الجري في النطق لو وصل إلى لفظة رجل هل ينطق بها بلا تصور أو أنّه تصور نفس الماهية اللابشرط المقسمي ثم يقيدها بعالم؟ لا سبيل إلى الاول والمتعيّن هو الثاني ، كما هو صريح قوله : وبعد ذا يحكي المتكلم عن ذات الماهية المحفوظة في المقيد بالاسم وعن تقيده بالحرف ، فان حكاية الاسم لذات الماهية المحفوظة في المقيد عبارة عن كون لفظ الاسم موجبا لاحضار نفس الماهية التي هي لا بشرط المقسمي بناء على ما أفاده ، أو هي الماهية اللابشرط القسمي على ما مر تقريبه.

وأما احتمال أنه عند نطقه بالرجل لا يتصور إلا الرجل المقيد بالعالم فيكون قد أعمل لفظ الرجل في الرجل العالم وجعل لفظ العالم قرينة على ذلك ، فلا ريب في بطلانه ، وأقل ما يلزم عليه هو كون لفظ الرجل مجازا

ص: 80

وكون لفظة العالم خالية من كل معنى سوى كونها علامة على ذلك ، وحاصل ذلك هو جعل القيد والمقيد من قبيل وحدة المدلول وتعدد الدّال ، وهذا غير معقول بالنسبة إلى الدلالة التصورية ، إذ لا يكون ذلك إلا من قبيل تعدد الدال والمدلول.

ثم لو صحّ ذلك في ناحية المتكلم فهو لا يصحّ بالنسبة إلى السامع ، إذ لا ريب في أنه عند سماعه هذه الجملة ووصول المتكلم إلى لفظة رجل قبل أن يلحقه بلفظة العالم ، لا يفهم من لفظ الرجل ولا يحضر في ذهنه إلا نفس معنى الرجل معرّى عن الاطلاق والتقييد ، ثم بعد سماع لفظة العالم يطرأ التقييد على ذلك الحاضر في ذهنه ، وهكذا الحال في الحروف فيما لو قال : السير من البصرة حسن ، من دون فرق في ذلك بين كون معنى لفظة « من » إيجاديا أو كونه من قبيل الحكاية. ومنه يظهر لك الجواب عمّا قرره عن درسه المقرّر (1) ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : أن القيود إنما تتصرف في الدلالة التصديقية ولا دخل لها بالدلالة التصورية. ومنه يظهر لك [ الحال ](2) في مقدمات الحكمة فانها إنما تتصرف في ذلك المقام أعني مقام الدلالة التصديقية ، وحاصل مفاد القيد أو مفاد الاطلاق ومقدمات الحكمة هو أنّ الذي يريده المتكلم من هذا المعنى الذي أحضره اللفظ في ذهن السامع هو خصوص الواجد للقيد الفلاني ، أو أن مراده هو المطلق الجامع بين الفاقد والواجد ، فلاحظ وتأمل.

ومن هذا الذي حررناه من الفرق بين الدلالة التصورية والدلالة التصديقية يظهر التأمل فيما ربما يقال من أنّ الكلام اللفظي إبراز لما في

ص: 81


1- بدائع الأفكار : 43 - 44.
2- [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

صقع النفس من المعاني الاسمية والحرفية وارتباط بعضها ببعض ، فانّ ما في صقع النفس لا ربط له بالدلالة التصورية المتدرجة في الكلام اللفظي التي هي عبارة عن كون كل لفظ يوجب تصور معناه عند سماعه ، فلاحظ.

ثم إنّه في المقالة تعرّض لما عن صاحب الحاشية (1) فقال : نعم هنا توهم آخر من التفصيل في موجدية المعنى الحرفي بين بعض الحروف عن بعض ، نظرا إلى توهم كون بعض الحروف موجدة للنسب الخاصة ك- « لام الأمر » وأداة النداء والتمني والتّرجي وأمثالها في قبال سائر الحروف الحاكية عن نسب ثابتة.

وفيه : أنه على فرض تسليم إيقاعية مفاهيم هذه الألفاظ كما سيأتي توضيحها ، لا يقتضي ذلك أيضا كون اللفظ موجدا ، بل اللفظ أيضا حاك عن ايقاع هذه النسب ، وحينئذ لنا أن ندعي أنّ الحروف بقول مطلق حاكيات عن النسب ثبوتا أم إثباتا كما صرح به في النص ... إلخ (2).

وفي تقرير درسه : فالتحقيق أن المستعمل فيه في التمني هي النسبة الخاصة بين المتمني والمتمنى ، أعني بها تشوّق المتمني إلى حصول ما لا طمع له بحصوله ... إلخ (3).

ولا يخفى أن صاحب الحاشية قدس سره حسبما هو المنقول عنه لا يرى أنّ هذه الحروف للنسب بل هي عنده لايجاد معنى التمني ، وإنّما جلّ همّ الاستاذ العراقي قدس سره هو إبطال كونها لايجاد معناها الذي هو التمني والترجي وجعلها كسائر الحروف النسبية في دلالتها على النسب الخاصة ، ولأجل

ص: 82


1- هداية المسترشدين 1 : 145 / الفائدة الثانية.
2- مقالات الاصول 1 : 94.
3- بدائع الأفكار : 66.

ذلك قال في المقالة : بل اللفظ أيضا حاك عن إيقاع هذه النسب ، وحينئذ فلا يحسن قوله في حكاية ما عن الحاشية كون بعض الحروف موجدة للنسب ، فتأمل. وفسّر النسبة مقرره بأنها عبارة عن التمني الواقع بين المتمني والمتمنى أعني بها تشوق المتمني ، إلخ ، فكأنه يدعي كونها للنسب بواسطة أنّ مفادها هو وقوع التمني وهو نسبة بين المتمني والمتمنى ، ولم أتوفق للوجه في كونه نسبة إلاّ كالوجه في كون الضرب نسبة بين الضارب والمضروب ، أو كون الاعطاء نسبة بين المعطي والمعطى ، وهكذا الحال في كل فعل متعدّ إلى مفعول به فانّه يكون نسبة بين الفاعل والمفعول به ، وإلاّ فأيّ معنى للبرهان على أنّ مفاد ليت هو النسبة بأنّ نفس التمني نسبة بين المتمني والمتمنى ، فلاحظ.

وكيف كان ، فالتمني صفة قائمة بنفس المتمني ، لكن ليس تلك الصفة هي مفاد ليت باعتبار كونها إبرازا لها كما يدّعي ذلك في باقي الانشائيات في كونها إبرازا لما هو في النفس ، والاّ لعاد الانشاء إخبارا عما في النفس.

نعم ، إن تلك الصفة القائمة بالنفس تكون داعية لايجاد التمني وإيقاعه على نسبة الحضور الى زيد في قولك : ليت زيدا حاضر ، فانّ « ليت » قد وضعت لهذه الجهة أعني إيجاد التمني وايقاعه على النسبة بين المحمول والمحمول عليه ، وليست هي موضوعة للتمني في مقام إيجاده وايقاعه على النسبة ، وإلاّ لكانت اسما لا حرفا كما شرحناه في مفاد أسماء الاشارة ونحوها من الأدوات المدعى كونها أسماء متضمّنة لمعاني الحروف. هذا كله فيما يعود الى تفصيل صاحب الحاشية في الجزء الثاني من تفصيله أعني دعوى الايجاد في بعض المعاني الحرفية في قبال مسلك

ص: 83

الاستاذ العراقي في دعوى الحكاية في جميع الحروف.

وأما ما يعود إلى الجزء الأول من تفصيله ، أعني دعوى [ كون ](1) مفاد أدوات النسب من الهيئات وحروف الجر هو الحكاية لا الايجاد ، فهو قبال مسلك شيخنا قدس سره في دعوى كونها إيجادية كغيرها من الحروف ، غايته أنها تكون لايجاد النسبة بين مفهومي الاسمين ، فقد تقدم الكلام عليه في المقدمة الثانية (2).

وحاصل ما أفاده شيخنا قدس سره في ذلك هو كون الارتباط الذي توجده أداة النسبة بين المفهومين هو مماثل لما بينهما في الواقع من الارتباط الواقعي ، وعن هذا التماثل ينتزع الصدق والكذب ، فان كان هذا الربط الايجادي بين المفهومين على وتيرة ذلك الارتباط الواقعي بين واقع الاسمين ، كانت القضية صادقة وإلاّ كانت كاذبة. هذا إذا كان الداعي من إيجاد ذلك الربط هو إيجاد مماثل ذلك الارتباط الواقعي لينتزع منه الاخبار والاتصاف بالصدق والكذب.

أما لو لم يكن الغرض من إيجاد ذلك الربط بين المفهومين إلاّ خلق الارتباط الواقعي بينهما ، لم تكن القضية خبرية ، بل كانت إنشائية لا تتصف بالصدق والكذب.

وحاصل الفرق بين بعت الاخبارية وبعت الانشائية : هو أنّ الارتباط الواقعي بين مادة البيع وبين المتكلم إن كان سابقا في الرتبة على إيجاده الربط بين نفسه وبين مفهوم البيع ، وكان الغرض من إيجاده بينهما هو إيجاد المماثل لذلك الارتباط الواقعي بينهما ، ليكون هذا الربط مماثلا لذلك

ص: 84


1- [ لم يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- في صفحة : 44 وما بعدها.

الارتباط ، ويكون الغرض من إيجاده الربط بينهما هو الاخبار عن واقع الارتباط بينهما ، كانت القضية خبرية ، وان كان الأمر بالعكس ، بأن كان الارتباط الواقعي بينهما في طول إيجاد الربط بينهما ، بأن يكون الباعث له على إيجاد الربط بين المفهومين هو إيجاد الارتباط الواقعي بينهما ، كانت الجملة إنشائية ، وكان إيجاده الربط بينهما خلقا وتكوينا لارتباط المادة به واقعا وهي البيع ، فيكون حاصل ذلك هو أنّ الغرض من إيجاد الربط بينه وبين مفهوم البيع هو إيجاد مادة البيع في صقعها على وجه يتحقّق الارتباط الواقعي بينه وبين واقع البيع الذي هو عبارة اخرى عن إيجاد البيع وخلقه في صقعه الذي هو عالم الاعتبار ، وهذا جار في كل مادة قابلة للانوجاد بالايجاد مثل قولك : بعت وآجرت ورهنت ، إلى آخر أبواب العقود والايقاعات. ويجري أيضا في مثل أترجى وأتمنى وألتمس وأطلب وآمر ، بل يجري في مثل أستفهم وأستعلم وأستخبر ، بل يجري في مثل أدعو ، كما لعله هو المراد من قوله عليه السلام « أدعوك يا رب بلسان أخرسه ذنبه وأوبقه جرمه » (1). فلاحظ وتأمل.

قوله : إلا التعريف المذكور في الرواية الشريفة التي نسبت إلى مولى الكونين أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) ... إلخ (2).

وذلك قوله عليه السلام في الرواية المذكورة : « الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره » (3). أما قوله عليه السلام في الرواية الشريفة : « الفعل ما انبأ عن حركة المسمى » فقد يقال

ص: 85


1- بحار الأنوار 98 : 83 ، مفاتيح الجنان : 187 ( نقل بالمضمون ).
2- أجود التقريرات 1 : 32.
3- بحار الأنوار 40 : 162.

إنّ المراد من المسمى هو المعنى الحدثي ، والمراد من حركته خروجه من القوة إلى الفعل أو من العدم إلى الوجود. ولكن هذا لا يلائم كون معنى الهيئة إيجاديا.

ويمكن القول بأنّ المراد من الانباء هنا الحكاية أعني حكاية المثل لمثله على ما شرحناه (1) في مفاد الحرف والهيئة ، فهيئة الفعل توجد نسبة إيقاعية بين مفهوم الحدث ومفهوم الفاعل ، وهذه النسبة الايقاعية باعتبار كونها مماثلة لما في الواقع من حركة الحدث وخروجه من العدم إلى الوجود تكون حاكية لما في الواقع ، وقد عبّر عليه السلام عن هذه الحكاية المماثلية بالانباء.

وأما ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من كون الحركة هي عبارة عن التحصل للمعنى الحدثي لفظا ومعنى ، حيث إنه قبل التلبّس بالهيئة لا تحصّل له في عالم المعاني ولا في عالم الألفاظ ، وهذه الهيئة تخرجه عن ذلك وتجعله متحصلا معنى ولفظا ، وحينئذ فيصح أن يقال إنها تنبئ عن الحركة أعني خروجه من عدم التحصل إلى التحصّل ، وذلك لا ينافي كونها إيجادية ، فلا يخفى أنّه وان كان دقيقا إلاّ أنّه بعيد الارادة في ذلك الخطاب.

فالأولى أن يقال : إن المراد بالمسمى هو الفاعل ، وحركته عبارة عن نفس الحدث ، أيّ حدث كان ، سواء كان من قبيل الحركات الخارجية مثل الضرب والقيام والقعود ، أو كان من الصفات النفسانية مثل العلم والادراك ونحوهما ممّا لا حركة فيها ، لكن اطلق الحركة هنا بالنظر إلى الغالب تسهيلا

ص: 86


1- في صفحة : 44 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 38.

على السامع ، وليس المراد من الحركة معناها الاسم المصدري ، بل المراد معناها المصدري أعني التحرك ، فهيئة الفعل مثل ضرب زيد تربط مفهوم الضرب بمفهوم زيد ، وهذا الربط يحاكي الربط الخارجي أعني صدور الضرب من زيد المعبّر عنه بحركته ، وبذلك تكون هذه الجملة منبئة عن مماثلها في الخارج وحاكية له حكاية المماثل لمماثله ، وبهذه العناية نقول إنّ قوله عليه السلام في تعريف الحرف على الرواية الاخرى أنّه « ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل » (1) يتخرج على هذه العناية ، بمعنى أنّه يوجد النسبة فيكون حاكيا لما في الخارج ، وذلك الخارج ليس باسم ولا بفعل ، وحينئذ لا يكون منافيا لما ذكرناه من كون معناه إيجاديا ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، بناء على ذلك يكون الانباء في هذين أعني الفعل والحرف مخالفا له في الاسم ، فانّه فيه إنباء اللفظ عن معناه ، وفيهما إنباء المماثل عن مماثله ، ولا بأس بذلك ، ولعل النكتة هي الجناس الذي ربما رعاه البليغ.

وعن كتاب تاسيس الشيعة لعلوم الاسلام للمرحوم السيد حسن الصدر عن الكفعمي في كتاب مختصر نزهة الالبّاء لابن الانباري ، قال أبو الأسود : دخلت على علي عليه السلام وفي يده رقعة ، فقلت : ما هذه الرقعة يا أمير المؤمنين؟ فقال : إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني العجم ، فأردت أن أضع لهم شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه ، ثم ألقى الرقعة وفيها مكتوب : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف. فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما انبئ به (2)

ص: 87


1- أمالي الزجاجي : 238 ، كنز العمال 10 : 283 / 29456.
2- كذا مرسوم في الطبعة ، وحينئذ يكون ماضيا مبنيا للمجهول من أنبأ ، فيكون مكسور الباء ، فلأجل ذلك رسم الهمزة بالياء لأجل انكسار ما قبلها ، ويكون المراد أن الفعل هو الذي قد اخبر به عن فاعله [ منه قدس سره ].

والحرف ما جاء لمعنى. واعلم يا أبا الأسود أنّ الأسماء ثلاثة : ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر ، وإنّما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر ، وأراد بذلك الاسم العلم المبهم. قال أبو الاسود : فكان ما وقع إليّ : إنّ وأخواتها ، ما خلا لكن ، فلما عرضتها على علي عليه السلام قال لي : أين « لكن » فقلت : ما حسبتها منها ، فقال : هي منها فألحقها بها. ثم قال : ما أحسن هذا انح نحوه (1).

وقال أبو الحسن : ... - الى قوله : - فألقى إليّ صحيفة فيها الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دلّ على حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل ، وجعل يزيد على ذلك زيادات ... إلخ (2).

قال في المشتقات : إنّ الفرق بين الاسم والفعل والحرف ما أشار إليه أمير المؤمنين ( صلوات اللّه وسلامه عليه ) في الرواية التي رواها في العوالم عن ابن سلام عن أبي الاسود الدئلي أنّه ( صلوات اللّه عليه ) دفع إليه رقعة وكان في الرقعة : الكلام ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره. وفي رواية اخرى : الحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ولعله نقل بالمعنى (3).

ص: 88


1- تأسيس الشيعة : 49 ، نزهة الألبّاء : 18.
2- تأسيس الشيعة : 51.
3- المشتقات : 6 / المقدمة الرابعة.

قوله : إلاّ أنّ الربط المزبور إنّما هو من جهة دلالتها على معانيها - إلى قوله : - لا يرجع إلى محصّل ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ القائل بكون معاني الحروف إيجاديّة إنّما يقول إنّها موضوعة لإيجاد ذلك المعنى الذي هو النسبة بين المفهومين ، لا أنّها موضوعة لمعنى من المعاني وذلك المعنى الذي تحكيه يكون رابطا بين المفهومين ، بل لو كانت كذلك لكان معناها أيضا محتاجا إلى رابط يربطه بذينك المفهومين. وبالجملة فليس الربط عند القائلين بالإيجاد حاصلا من المعنى الذي يحكيه الحرف ، بل الربط إنّما هو مخلوق بايجاد الحرف الذي هو آلة في إيجاد الربط بينهما.

قوله : والتحقيق أن يقال : إنّ الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ... إلخ (2).

نعم إنّما هي موضوعة للتضييق ، لكن لا من جهة أنّ معناها يضيق ، بل من جهة أنّها توجد النسبة التضييقية. وإن شئت فقل : إنّها توجد النسبة التقييدية بين السير والبصرة ، وأن السير يكون مقيدا بالبصرة على جهة الابتداء حتى على القول بأنّها حاكية عن النسبة ، فليس القيد هو نفس مفاد الحرف الذي هو النسبة ، وكيف يعقل كون النسبة منسوبة نسبة تقييدية ، بل القيد هو مدخول الحرف وما هو مفاد الحرف هو نفس التقييد ، ولأجل ذلك صح أن نقول « فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها » (3) لأنّ معناها هو النسبة وهي متعلقة بغير الحرف. أما لو قلنا إنّ المعنى الحرفي بنفسه يكون قيدا فلا بد أن يكون له مفهوم في حد نفسه مقابل للمقيد.

ص: 89


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 27.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 27.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 27.

قوله : كما في قولك الصلاة في المسجد حكمها كذا (1).

لا يخفى أنّ القيد للصلاة ليس هو مفاد لفظة « في » ، بل ليس مفاد لفظة « في » إلاّ التقييد ، أعني النسبة التقييدية ، وليس القيد إلاّ المسجد ، فيكون محصله الصلاة المقيدة بالمسجد على جهة الظرفية. هذا لو أخذنا الظرف لغوا متعلّقا بالصلاة ، وأمّا لو أخذناه مستقرا فليس القيد إلاّ ثبوتها في المسجد ، ولا بدّ حينئذ من نسبة تقييد بين الصلاة وبين ثبوتها في المسجد ، والمتكفّل لإيجاد تلك النسبة هو الهيئة المتكونة بين الموصوف أعني لفظ الصلاة وبين الصفة أعني الثابتة في المسجد ، ويكون لفظة « في » كافلة للنسبة بين الثبوت والمسجد ، ومن ذلك يظهر الحال في قوله فيما يأتي : فنقول : ثبوت القيام لزيد ممكن إلخ (2).

فانّ المخبر عنه هو الثبوت لا مفاد اللام ، واللام إن علّقناها بالثبوت فهي إنّما توجد أو تحكي النسبة بين الثبوت وبين زيد ، وهكذا الحال إن علّقناها بالقيام ، فانّها توجد أو تحكي النسبة بين القيام وبين زيد ، وعلى أيّ حال لا يكون مفادها القيد ، وانّما يكون مفادها هو التقييد ويكون القيد هو مدخولها ، وهكذا الحال لو قلنا بأنّ الجار والمجرور صفة للقيام ليكون ظرفا مستقرا ، فإنّ الهيئة المؤلّفة بين قولنا القيام وبين قولنا لزيد هي الموجدة أو الحاكية للنسبة التقييدية بينهما ، ويكون القيد هو الاستقرار ، ويكون الحاصل القيام الثابت لزيد أو المستقر أو الحاصل لزيد ، ومن ذلك يظهر لك الكلام في باقي الحاشية.

ص: 90


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 28.

وأما قوله : ثم لا يخفى ... إلخ (1).

فقد عرفت (2) الكلام عليه ، وأنّه من قبيل الخلط بين مفاد نفس الحرف بما أنّه حرف الذي هو النسبة ، وبين لحاظ ذلك المفاد لحاظا مستقلا ، كما تقول الابتداء من البصرة حسن ، فراجع وتأمّل.

قوله - في الحاشية - : ومن هذا القبيل هيئات المشتقات والإضافة والتوصيف وما يلحق به ، فإنّه لا يستفاد منها إلاّ التضييق في عالم المفاهيم ... إلخ (3).

نعم ، لكن القيد ليس هو معنى الهيئة بل مدخولها ، وليس مفاد الهيئة إلا النسبة التقييدية إيجادا أو حكاية.

قوله : وأما هيئة الجملة الاسميّة ، فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية - كما هو المعروف - لعدم وجود النسبة في كثير من الجمل الاسمية ، كما في قولنا : الإنسان ممكن أو موجود - إلى قوله : - ومن الواضح أنّ الجملة الخبريّة - بما هي كذلك - لا كاشفيّة لها عن تحقّق النسبة في الخارج ولو ظنّا ... إلخ (4).

هذا الإيراد لا يتوجّه على القول بأنّ الهيئة لإيجاد النسبة بين المفهومين ، وأمّا القول بأنّها موضوعة للنسبة بينهما وأنّها حاكية عنها ، فليس المراد بذلك أنّها أمارة على النسبة ، بل المراد أنّها تحكي عن مفهوم النسبة كما يحكي الإسم عن معناه ومفهومه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا ربط له

ص: 91


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 28.
2- في الصفحة : 76.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 35.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 35.

بتحقّق المحكي عنه واقعا. هذا مضافا إلى أنّ مثل قولنا : الإنسان ممكن إذا لم يكن متضمّنا للنسبة فأيّ شيء يتضمّنه الكلام المذكور ، حتى لو قلنا إنّ مفاد الهيئة هو التقييد للمعاني الاسمية.

قوله : نعم ، إنّ الجملة الاسميّة توجب الانتقال إلى ثبوت المحمول للموضوع بنحو التصوّر ، لكنّه لا يستفاد من الهيئة ؛ فإنّ الجملة تصديقيّة لا تصوّريّة (1).

إنّ كون الهيئة موجبة لتصوّر النسبة هو مراد القائلين بكونها حاكية عنها ؛ فانّ القضيّة التصوريّة مؤلفة عندهم من تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول وتصوّر النسبة ، والدّال على الموضوع هو لفظه ، والدّال على المحمول هو ، والدال على النسبة هو مفاد الهيئة ، حتى قيل : والدال على النسبة رابطة وقد استعير لها لفظة هو ، وإنّما قيل وقد استعير لها « هو » غفلة عن عدم الاحتياج إلى لفظة « هو » وكفاية الهيئة في الدلالة على النسبة. هذا مقام التصوّر ، وأمّا التصديق فهو الإذعان بتلك النسبة ، على كلام لهم في تأليف القضية من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة ، أو هي مع رابع وهو الحكم المعبّر عنه بالوقوع واللاّوقوع. وينبغي على الأقل مراجعة حاشية المنطق.

قوله : فالصحيح أنّ مدلول الهيئة في الجمل الاسميّة إنّما هو إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ... إلخ (2).

سلّمنا أنّ حاصل الهيئة هو إبراز ما في النفس من قصد الحكاية ، إلاّ أنّه ما لم تكن الهيئة موجدة للنسبة التي هي عبارة عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو تكن حاكية عنها كحكاية لفظ الموضوع عن ذاته ، كيف

ص: 92


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 35.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 35 - 36.

تكون الجملة مبرزة لقصد الحكاية.

قوله : فالصحيح أنّ مدلول الهيئة في الجمل الاسمية إنّما هو إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ، فهو مصداق للمبرز خارجا بالجعل والمواضعة (1).

كيف يكون إبراز قصد الحكاية مدلولا للهيئة ، فهل أنّ من جملة معاني الهيئة هو إبراز قصد الحكاية. نعم إنّ الهيئة موضوعة للنسبة أعني ثبوت المحمول للموضوع ، أو أنّها موضوعة لإيجاد النسبة المذكورة بين المفهومين ، ويكون فائدة إعمال المتكلم لها في النسبة أو إلقائها إلى السامعين هو إبراز الحكاية عن تلك النسبة وأنّه قاصد لها ، كما أنّ الغرض من وضعها للنسبة أو لإيجاد النسبة هو أنّ التابعين للواضع يعملونها في معناها ، أو أنّهم يوجدون بها النسبة في مقام إرادة إظهار ما في ضمائرهم أو ما في نفوسهم من قصد الحكاية عن النسبة.

قوله : بيان ذلك ، أنّ اللفظ بما أنّه فعل اختياري صادر من المتكلّم - إلى قوله : - فتكون الجملة بنفسها مصداقا للحكاية ... إلخ (2).

هذا كلّه مسلّم ، ولكن المعنى الذي وضعت له هيئة الجملة الاسميّة ما هو؟ هل هو نفس النسبة الواقعية ، أو أنّه وضعها لأن توجد بها النسبة بين المفهومين لتكون وجودا مثاليا عن النسبة الواقعيّة ، وعلى أيّ يكون الغرض من التكلّم بها هو قصد الحكاية عمّا في الواقع أو إظهار ما في النفس من قصد الحكاية عن الواقع ، أو أنّها موضوعة لنفس إبراز قصد الحكاية عن الواقع كما في مواضعة الإشارات ، كما يقول الشخص لخادمه : إذا رفعت

ص: 93


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 35 - 36.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 36.

عمامتي فأخرج زيدا من الدار ، من دون صلة بين رفع العمامة والأمر بإخراج زيد ، فهل ترى من نفسك أنّ واضع هيئة الجملة الاسميّة يقول جعلت هذه الهيئة علامة على أنّ المتكلّم بها يريد إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، من دون أن يضعها للنسبة أو لإيجاد النسبة أو لثبوت النسبة. والحاصل أنّه لا يجعل لها معنى أصلا ولا يجعل لها تأثيرا في ناحية إيجاد النسبة بين المفهومين ، ويقتصر من الجعل على جعل التكلّم بها علامة على أنّ الداعي للتكلّم بها هو أنّه قد أبرز قصده الحكاية عن ثبوت النسبة ، فيلزمه أن يكون الداعي على التكلّم باللفظ هو المعنى الموضوع له ذلك اللفظ كما صرّح به في قوله فيما سيأتي : وعلى كل من تقديري الصدق والكذب يكون دلالة اللفظ على معناه - وهو كون الداعي إلى إيجاده هو قصد الحكاية - على نسق واحد ، إلخ (1).

والحاصل : أنّ مرحلة الداعي إلى الكلام وإثبات أنّ داعيه على إيجاد الكلام هو إبراز مقصده ، وأنّه قاصد للحكاية عن ثبوت النسبة ، راجع إلى إثبات الدلالة التصديقيّة ولا ربط له بما هو محلّ الكلام في الموضوع له الذي هو المدلول اللفظي الذي هو مركز الدلالة التصوّريّة.

قوله : وأمّا الأفعال ، فهيئة الفعل الماضي تدلّ على قصد الحكاية - إلى قوله - كما أنّ هيئة الفعل المضارع تدلّ على تلبّس الذات بالمبدإ ... إلخ (2).

كان عليه أن يقول : إنّ هيئة المضارع تدلّ على قصد تلبّس الذات بالمبدإ ، وعلى أي حال أنّ المدلول (3) التصوّري في الماضي هو تحقّق

ص: 94


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 36.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 36.
3- [ في الأصل : زيادة « في » حذفناه للمناسبة ].

المبدأ ، وفي المضارع هو تلبّس الذات بالمبدإ ، وأما إثبات قصد المتكلّم لذلك المعنى فليس براجع إلى هذه المرحلة ، بل هو راجع إلى إثبات قصد المتكلّم ، وهو مرحلة الدلالة التصديقية ، وهي بعد الفراغ عن الدلالة التصورية. ثم تطرق إلى الإنشائيات وجعل مركز الانشاء هو ما في النفس بعد إبرازه بالألفاظ ، فلازمه أنّ كل ما يكون مظهرا لأن المتكلّم قد أوقع البيع في نفسه يكون بيعا ، ولازمه أن لو قال : إنّي قد أوقعت البيع في نفسي كان بيعا وهلمّ جرّا.

قوله : مع أنّه لو كان الأمر كذلك لصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب كالجملة الفعليّة مع أنّه لا يصحّ قطعا ... إلخ (1).

الظاهر أنّه يصحّ ذلك بمثل قولك لعبدك أنت مأمور بكذا ، ونظيره في الانشاءات في غير الطلب قولك أنت حر وهند طالق وأنا مستفهم ومتمن ومترج ، ونحو ذلك من الجمل الاسميّة في مقام الإنشاء.

أمّا استعمال المضارع في مقام طلب مادته فكثير ، لكنّه محتاج إلى نحو من العناية ، كما لعلّه يمكن استعمال الجملة الاسميّة في مقام طلب مادّة المحمول بذلك النحو من العناية كقولك في الدعاء في مقام طلب الغفران والرحمة : أنت الغفور الرحيم ، ولعلّ من هذا القبيل قول الشاعر :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

على معنى تبكيت المخاطب بأمره بالأكل واللباس.

وكيف كان ، فإنّ هذا الذي نقله عنهم بقوله : فما هو المعروف من كون المستعمل فيه فيهما واحدا وإنّما يفترقان من ناحية الدواعي للاستعمال

ص: 95


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 37.

إلى آخره ، ليس بناظر إلى جميع الإنشائيات التي يمكن تأديتها بصور الجمل الخبرية ، بل إنّما هو ناظر إلى ما لو اشترك الإنشاء والاخبار بهيئة واحدة مثل بعت ، ومثل أنت حر ، ومثل هند طالق ، ومثل تقوم في مقام الإخبار والإنشاء ، وكذلك أستفهم وأترجى وأتمنى ، بل وكذلك قوله عليه السلام : « أدعوك يا ربّ بلسان قد أخرسه ذنبه » (1) إلى غير ذلك ممّا كانت الجملة الواحدة فيه تستعمل في مقام الإخبار والإنشاء ، فالقول بأنّ ذلك من اختلاف الدواعي مع وحدة الموضوع له صحيح لا غبار عليه.

ودعوى تعدّد الوضع ، وأنّ الاختلاف في مثل بعت الخبرية والإنشائية وغير ذلك من الجمل المذكورة إنّما هو من ناحية الوضع كما هو المستفاد من قوله : ويترتب على ما ذكرناه في بيان الفرق بين الإنشاء والإخبار أنّ الاختلاف بينهما من ناحية الوضع ، إلخ (2) ولازمه تعدّد الوضع في بعت ونحوها.

ممّا لا وجه لها ولا دليل عليها ، سواء ضم إلى ذلك الاختلاف في الموضوع له أو اقتصر فيه على الاختلاف في الوضع ، ولكن ظاهره بل صريحه تحقق الاختلاف في الموضوع له كما تضمّنه قوله : فالإخبار والإنشاء يشتركان في تحقّق الإبراز بهما ، والفرق بينهما هو : أنّ المبرز في الإخبار حيث إنّه عبارة عن قصد الحكاية وهو متّصف بالصدق أو الكذب - إلى قوله - وهذا بخلاف المبرز في الإنشاء ، فإنّه اعتبار خاص لا تعلّق له بوقوع شيء ولا بعدمه. وذلك صريح في أنّ الفرق بينهما في مقام الوضع

ص: 96


1- بحار الأنوار 98 : 83 ، مفاتيح الجنان : 187 ( نقل بالمضمون ).
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 37.

والموضوع له ، بل أساس الفرق الوضعي هو الفرق بينهما في الموضوع له.

تنبيه

قد عرفت ما ذكرناه في المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من التباين بينهما بالهوية ، وأنّ معنى الحرف من مقولة الإيجاد لا الحكاية ، ومن ذلك يظهر لك امور :

الأوّل : أنّه لا محصّل لما يذكرونه من كون بعض الأسماء كأسماء الإشارة وأسماء الأفعال متضمّنا لمعنى الحرف بل لعل ذلك غير معقول ، سواء كانت الإشارة قيدا في الذات ، بأن كان الموضوع له هو الذات المشار إليها ، أو كان على نحو التضمّن ، أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّ الإشارة الحرفية لا تكون قيدا ، ومنه يتّضح الثاني لعدم معقوليّة تضمّن الإسم المستقل لمعنى الحرف غير المستقل ، بل لعلّنا نمنع ذلك أعني تضمين لفظ لمعنى لفظ آخر حتى مع كونهما معا من سنخ المستقلات ، وما ذكروه من تضمّن الفعل اللازم معنى المتعدي كلّه من باب التجوّز باللفظ الأوّل وأخذه استعارة في المعنى الثاني ، لا أنّ أحد اللفظين على ما هو عليه من المعنى يتضمّن معنى لفظ آخر. نعم ، إنّ المعنى الاسمي قابل لأن يطرأ عليه المعنى الحرفي المادوي (1) كما هو الشأن في الأسماء التي تدخلها الحروف مثل من البصرة ونحوه ، كما أنّه يكون مطروّا للمعنى الحرفي الهيئوي كما هو الشأن في المشتقات ، لكنّه مبني على كون المادة موضوعة بوضع مستقل ، كما أنّ الهيئة موضوعة أيضا بوضع مستقل يسمّونه بالوضع النوعي ، وهو ما لو كان

ص: 97


1- [ هكذا فيما يتراءى من الأصل ، ويحتمل أن يكون : الأدوي ].

الموضوع كليا تحته أنواع ، ويمكن القول بأنّ المادة أيضا كذلك ، نظرا إلى أنّ الموضوع هو مادة الضرب بأيّ صورة تلبست ، كما أنّ الهيئة هو نفس الصورة على أيّ مادة طرأت ، لكن ذلك كلّه مبني على تعدّد الوضع ، وأنّ المادة موضوعة بوضع مستقل كما أنّ الهيئة كذلك ، ويمكن تطرق المنع إليه ؛ فإنّ الواضع لا بدّ أن يأخذ اللفظ ويتصوّره ويضعه للمعنى خصوصا بناء على ما ذكرناه في شرح حقيقة الوضع أعني الاختراع ، ومن الواضح أنّ لفظ المادّة لا يمكن أن يكون عاريا عن الهيئة ، كما أنّ لفظ الهيئة لا يمكن أن يكون عاريا عن المادّة ، فلا بدّ للواضع حين وضعه المادّة من إلباسها بهيئة ما ، وكذلك في حال وضعه للهيئة لا بدّ له من إلباس مادّة بها ، وذلك محتاج إلى التفكيك في الموضوع ، يعني أنّه ينظر إلى لفظ الضرب ويقول وضعت هذا النحو من المادّة الموجودة فيه بأي صورة تلبست ، وينظر إلى لفظ الضارب أو الفاعل ويقول : وضعت هذا النحو من الهيئة الموجودة في هذه المادّة على أيّ مادة وقعت لمن تلبس بالمبدإ ، ويكون المنظور إليه في الأوّل كلّي المادّة وفي الثاني كلّي الهيئة أينما وجدا ، وفي ذلك من التكلّف ما لا يخفى ، سيّما على وتيرة ما ذكرناه من مبدأ الوضع وكيفية الاختراع.

فالأولى أن يقال : إنّ الموضوع هو المجموع المركب من المادة والهيئة ، كل بوضع على حدة ، غايته أنّ فلاسفة اللغة في مقام الضبط والتحرير انتزعوا من هذه الطائفة مادّة أعني طائفة المشتقات التسعة من مادّة واحدة ، وقالوا هي اسم الحدث ، وانتزعوا من تلك الطائفة - أعني ما تلبس بهيئة فاعل من جميع المواد مثل ضارب وقائم وقاعد إلى آخر المواد - (1)

ص: 98


1- [ في الأصل هنا زيادة « وانتزعوا منها » حذفناها للمناسبة ].

تلك الهيئة ، وقالوا إنّها موضوعة لمن تلبس بالمبدإ ، وفي الحقيقة لا يكون الموضوع إلاّ مجموع لفظ ضرب مادة وهيئة لوقوع الضرب من فاعله ، وهكذا في باقي الأفعال وباقي المشتقات ، وحينئذ لا يكون ذلك من الاسم المطرو للهيئة. نعم ذلك في مثل هيئة الجملة الاسميّة وهيئة الإضافة فإنّها بين الاسمين لكن لا على اسم واحد.

وعلى كلّ لو سلّمنا ذلك فهو لا ربط له بالمدعى في أسماء الإشارة من كونها أسماء متضمّنة لمعاني الحروف ، بل هي إمّا أن تكون اسما للذات المشار إليها ، وإمّا أن تكون حرفا وآلة في الإشارة إلى الذات ، والثاني هو المتعين كما شرحناه فيما تقدم ، ولو صح الأول لصح في لفظة « من » بأن نقول هي للابتداء في مقام كونه جهة للنسبة بين السير والبصرة.

وهكذا الحال في « لعل » بأن نقول هي موضوعة للترجي في مقام إيجاده وإيقاعه على نسبة المحمول إلى الموضوع أو على نفس المحمول إلى غير ذلك من الخيالات التي لا يمكن الالتزام بها ، وما الفرق بين الاشارة إلى الذات في قولك هذا الرجل ، وبين نداء الذات في قولك يا رجل أو يا أيها الرجل ، هذا كله.

مضافا إلى عدم معقولية تضمن الاسم لمعنى الحرف ، أما بناء على ما ذكرناه فلما عرفت من كون المعنى الحرفي إيجاديا ، فهو في صقع والمعنى الاسمي في صقع آخر ، فكيف يكون المعنى الاسمي متضمنا للمعنى الحرفي ، وكذلك الحال بناء على اتحادهما ، والفرق بينهما بالآلية والاستقلالية ، ولا يعقل أن يكون المعنى الاستقلالي متضمنا للمعنى الآلي.

الأمر الثاني : أنه بعد أن ظهرت لك المباينة بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في كون الأول قالبا لمعناه وحاكيا عنه ومحضرا له في ذهن

ص: 99

السامع ، وعدم كون الثاني كذلك بل هو خلقي إيجادي يوجده المتكلم بين مفهومي الاسمين بواسطة الحرف ، فالحرف آلة في إيجاد ذلك الربط الذي يوجده المتكلم بواسطة تلك الآلة التي هي الحرف ، وحينئذ لا يكون ذلك الذي يوجده المتكلم متصفا بالكلية والجزئية ، ولك وصفه بالجزئية باعتبار كونه منوجدا بين مفهومي الاسمين ، كما أنّ لك أن تقول إن هذه الآلة لم تجعل لهذا الربط الخاص الموجود ، بل هي آلة في إيجاد هذا النحو من الربط عند ما تدعو الحاجة إلى إيجاده ، وبهذا الاعتبار تقول إن الآلة المذكورة لم توضع لايجاد هذا الربط الخاص بخصوصه ، بل إنما وضعت لايجاد كلي هذا النحو من الربط ، وإن كان بعد وجوده لا يكون إلا جزئيا ، ولكن كل ذلك من باب التسامح والتساهل في معنى الجزئية والكلية ، وإلا فحقيقة الكلية والجزئية إنما تلحق المفهوم الذي يكون محكيا باللفظ ، وذلك من خصائص الأسماء.

الأمر الثالث : أنه بعد ما اتضح لك أن مفاد الحروف إيجاد النسبة بين المفهومين تعرف أنه غير قابل للتقييد ، فان محصل تقييد الشيء بشيء هو إحداث النسبة التقييدية بين الأول والثاني ، ونفس النسبة لا تكون طرفا للنسبة إلا إذا لوحظت الاولى في نفسها ، فتخرج حينئذ عن الحرفية والايجادية إلى الاسمية والاخطارية ، وتكون مفهوما مستقلا في عرض سائر المفهومات ، فيقال إن نسبة القيام إلى زيد في النهار أقرب من نسبته إليه في الليل.

ومن ذلك تعرف الوجه في عدم قابلية مثل الدعاء والتمني والترجي في مرتبة إيجادها بأدواتها للتقييد ، وأنها في تلك المرحلة يستحيل أن تكون طرفا للنسبة التقييدية.

وإن شئت فقل : إن القابل لأن يكون طرفا في النسبة ، سواء كانت

ص: 100

التي تقع محكية باللفظ الاسمي الحاكي عنها الموجب لاخطارها في الذهن ، دون المعاني الخلقية التي تنوجد بآلة إيجادها ، سواء كانت هي النسب بين المفهومين الاسميين ، أو كانت من الامور الاعتبارية التي تنوجد في صقعها بآلة إيجادها ، ولا ينتقض ذلك بمادة البيع في بعت الانشائية ، لما عرفت من أن هيئة بعت ليست لايجاد البيع ، بل هي لايجاد النسبة بين مفهوم البيع والمتكلم لا بداعي المماثلة للنسبة الواقعية ، بل بداعي انوجاد تلك النسبة الواقعية ، وعن ذلك ينتزع وجود البيع في صقعه الانشائي ، وذلك لا يخرج مادة البيع التي هي تحت لفظ البيع في بعت عن قابلية التقييد ، وهذا بخلاف الترجي المنوجد بلفظة « لعل » إذ لا يكون في البين إلا إيجاده ابتداء بآلته التي هي « لعل » وهو في تلك المرحلة لا يكون طرفا للنسبة ، وسيأتي إن شاء اللّه في مبحث الواجب المشروط (1) توضيح ذلك بما هو أوسع من ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله : ثم إن استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل أيضا ، بمعنى أنّ حسنه بالطبع والوجدان - إلى قوله : - غاية الأمر أنّ مصحّح الفناء في الاستعمال الحقيقي جعل الواضع ، وفي الاستعمال المجازي شدّة مناسبة المعنى المجازي مع الحقيقي ، وفيما نحن فيه كون اللفظ الملقى بنفسه متّحدا مع المفنيّ فيه خارجا ، والارتباط بينهما أشدّ من الارتباط الجعلي ... إلخ (2).

قد يقال : إنّه إذا كانت المناسبة ذاتية ، وأنّ الدلالة إنّما نشأت من تلك

ص: 101


1- راجع حواشي المصنّف قدس سره الآتية في الصفحة : 26 وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.
2- أجود التقريرات 1 : 44 - 45 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

المناسبة ، لم يعقل أن يقصد باللفظ النوع تارة والمثل اخرى ، لأنّ المناسبة إذا كانت بين اللفظ ونوعه فكيف يدلّ على مثله ، وإن كانت بينه وبين مثله فكيف يدلّ على نوعه ، وإذا كان اللفظ مناسبا لهما معا ، فمع أنّه غير معقول يلزمه أن يكون دالا عليهما معا في استعمال واحد.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ المناسبة إنّما هي بين اللفظ وبين النوع لكن يكون إرادة خصوص صنف خاص أو خصوص مثال ولفظ خاص إنّما هي بالقرينة.

ثم لا يخفى أنّ ما اريد به نوعه أو صنفه لا بد فيه أن يكون ذلك اللفظ الملقى من أفراد ذلك النوع أو ذلك الصنف ، وذلك وإن كان ممكنا في النوع كما إذا كان المحمول شاملا لذلك اللفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي ، دون مثل قولك : ضرب فعل ماض ، أمّا الصنف فانه لا يمكن فيه ذلك ، إذ لا بد في كونه صنفا من كونه محدودا بحد مثل قولك : زيد بعد ضرب فاعل ، ومن الواضح أنّ ذلك لا ينطبق على اللفظ الملقى ؛ لأنّ ذلك اللفظ الملقى ليس بفاعل ، وحينئذ فلا بد أن يكون المراد من القسم الثاني هو إطلاق لفظ مثل زيد وإرادة صنف خاص وهو خصوص ما وقع بعد ضرب ، فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ الملقى في صنفه الشامل له ، بل من باب إعماله في صنف خاص لا يشمله ، ومن الواضح أنّ ذلك يتعيّن فيه كونه من باب الاستعمال لا من باب الالقاء كما صنعه في الكفاية بقوله : فإنّه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، إلخ (1) إذ بعد فرض عدم كون هذا الملقى فردا من ذلك الصنف ، كيف يكون هذا فرده ومصداقه. نعم

ص: 102


1- كفاية الاصول : 15.

يمكن ذلك في النوع ، لكن في خصوص ما كان الحكم فيه شاملا للفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي ، دون ما إذا لم يكن شاملا مثل قولك : ضرب فعل ماض حيث إنّ ذلك اللفظ الملقى حينئذ لا يكون فعلا ماضيا ، فمثل هذا لا يكون من باب الإلقاء ، بل لا بدّ أن يكون من باب الاستعمال.

وبالجملة : أن حال الصنف وحال النوع الذي لا يكون الحكم فيه شاملا للفظ الملقى حال المثل في عدم كونه من باب الإلقاء وتعيّن كونه من باب الاستعمال ، فإنّ ملاك كونه من باب الإلقاء هو كون ذلك اللفظ الملقى فردا ومصداقا من ذلك النوع أو الصنف ، فمع عدم كونه فردا منه لا يعقل أن يكون إلقاؤه إلقاء لذلك النوع أو الصنف. نعم في النوع الذي يكون اللفظ الملقى فردا منه مثل قولك : ضرب ثلاثي ، مع قطع النظر عن الإشكال الذي ذكره شيخنا قدس سره في استعمال اللفظ وإرادة شخصه ، يمكن أن يكون من باب إلقاء الفرد والحكم على النوع الموجود فيه ، فيكون حينئذ من باب الإلقاء لا من باب الاستعمال ، لكن إشكال شيخنا قدس سره على إرادة شخص اللفظ جار فيه ، فيكون امتناع كونه من باب الإلقاء من جهة ذلك الإشكال لا من جهة عدم كونه فردا للنوع.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه في الصنف ، وأنّه لا يعقل فيه كونه شاملا للفظ الملقى إنّما هو بالنظر إلى غالب الأمثلة وإن أمكن كونه شاملا له في بعضها ، كما إذا قيل : زيد المبتدا مرفوع ، أو قيل : إن ضرب المقصود بها لفظها لا تحتاج إلى فاعل ، فان المراد من الأول والثاني هو صنف خاص من لفظ زيد ولفظ ضرب ، وذلك الصنف شامل للفظ زيد في قولك : زيد المبتدأ مرفوع في المثال الأول ، كما أنه شامل للفظ ضرب في المثال الثاني.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس سره أنّ إعمال اللفظ في نوعه

ص: 103

وإعماله في صنفه كلّه من باب الاستعمال لا من باب الإلقاء ، وأنّ ذلك النوع أو الصنف يكون نوعا أو صنفا لذلك اللفظ الملقى ، وحينئذ يتوجه عليه أن ذلك إنما يمكن فيما لو كان ذلك النوع أو ذلك الصنف شاملا لذلك اللفظ ، بحيث يكون ذلك اللفظ محكوما بذلك الحكم المذكور في تلك القضية.

ثم إنّ ما كان الحكم فيه شاملا للفظ الملقى مثل قولك : ضرب ثلاثي الذي تعين عند شيخنا كونه من باب الاستعمال ، فيه إشكال حاصله : أنّ ذلك اللفظ الملقى ( المفروض كونه من جملة أفراد النوع المحكي به ، وأنّ الحكم بأنّه ثلاثي شامل لنفس ذلك اللفظ الملقى ) يجتمع فيه اللحاظ الآلي والاستقلالي ، فمن جهة أنّه لفظ حاك عن النوع يكون منظورا إليه بالنظر الآلي ، لكونه حينئذ مرآة لما يحكيه من النوع ، ومن جهة أنّ النوع المحكي به شامل له وأنّه أيضا يكون محكوما عليه بأنّه ثلاثي ، يكون النظر إليه نظرا استقلاليا.

ويمكن الجواب عنه : بمنع كونه منظورا بالنظر الاستقلالي وإن كان الحكم شاملا له وساريا إليه ، لأنّ النظر من هذا اللفظ إلى نوعه الشامل له لا يستلزم النظر إلى أفراده التي هو منها ، وأمّا سراية الحكم إليه فهي من جهة الحكم على طبيعة ذلك النوع الشامل له سراية قهرية أو من جهة تنقيح المناط ، فتأمّل.

فقد تلخّص لك : أن إعمال اللفظ في مثله أو الصنف أو النوع الذي لا يشمله الحكم كلّها من باب الاستعمال ، أمّا إعماله في إرادة شخص نفسه فلا يكون إلاّ من باب الإلقاء لا من باب الاستعمال. وهذا هو الذي منعه شيخنا قدس سره وبيّن محاليّته.

ص: 104

ومنه يظهر لك أنّه لا بد من القول بأنّ إعمال اللفظ في نوعه الشامل له ليس من باب الإلقاء ، وأنه لا بد أن نقول بأنّه من باب الاستعمال ، والمنشأ في هذه المحالية التي أفادها قدس سره هو ما تقدّمت (1) الإشارة إليه في المعنى الحرفي وأنّ مفادها إيجاد النسبة بين المفهومين ، وقد تقدّم الكلام فيه فراجع وتأمّل.

وحيث قد تبيّن لك صحّة تحقق النسبة بين واقع المنسوب إليه وبين مفهوم المنسوب ، تعرف إمكان كون النوع الشامل والصنف الشامل من باب الإلقاء لا الاستعمال ، بل يمكن أن يقال : إنّ النوع والصنف وإن لم يكونا شاملين بل المثل أيضا كله من باب الإلقاء لا الاستعمال ، فإنّ جميع ذلك لا يكون إلاّ من قبيل تكرار الوجود ، بمعنى أنّ المحكوم عليه بقولك : ضرب لفظ ، أو ضرب فعل ماض ، هو ذلك اللفظ الموجود في جملة ضرب زيد سواء لوحظ نوع ضرب الموجود فرد منها في جملة ضرب زيد أو صنفها أو شخصها ، وليس لفظ ضرب في قولنا : ضرب ثلاثي ، أو ضرب فعل ماض إلاّ عبارة عن تكرار وجود ذلك اللفظ الموجود في قولنا : ضرب زيد ، وهو وإن كان وجودا ثانيا غير الوجود الأوّل ، إلاّ أنّه لمّا كان متّحدا معه من جميع الجهات صار بحسب نظر الذوق والطبع هو هو ، فكأنه بنفسه هو الملقى المحضر أمام السامع لا أنّه لفظ آخر ، ونظير ذلك الوجود الكتبي مثلا لو كتبت قول الشاعر : بانت سعاد إلى آخره ، فتارة ترسم على سعاد في ضمن البيت لفظ فاعل ، فيكون المخبر عنه هو تلك اللفظة المرسومة في ضمن البيت ، واخرى ترسم تحت ذلك البيت هذه الجملة ( سعاد فاعل )

ص: 105


1- راجع صفحة : 44 وما بعدها ، وقد تقدم ما يرتبط بالمقام في صفحة : 68 - 69.

فسعاد المرسومة ثانيا وإن كانت غير تلك الصورة المرسومة في ضمن البيت ، إلاّ أنّها لمّا كانت متحدة معها من جميع الجهات كانت هي هي ، وكان كتبها ورسمها كتبا ورسما لتلك الكلمة المرسومة في ضمن البيت ، وهذا الاتحاد الاعتباري هو مركز ذلك الاستحسان الطبعي المذكور في هذه المسألة ، وإلاّ فإنّ استعمال اللفظ في لفظ آخر لا وجه له أصلا ، ولا محصل لاستحسان الطبع والذوق في الامور التوقيفية. فتأمّل.

لا يقال : إنّ المقوّم للفعلية إنّما هو قصد دلالة اللفظ على نسبة الحدث إلى الذات ، وفي مثل ضرب فعل ماض لم يقصد ذلك ، لعدم كون الغرض من إلقائه حكاية معناه الفعلي به ، وحينئذ فلا بدّ أن لا يكون ذلك اللفظ فعلا في ذلك الحال ، فكيف صح الإخبار عنه بأنّه فعل ماض ، فلا بدّ من القول بأنّ هذا اللفظ في هذه الجملة حاك عن تلك الألفاظ الواقعة في ألسنة المستعملين التي قصد به فيها نسبة الحدث إلى الذات.

لأنّا نقول : فعليّة الفعل إنّما تتقوّم بنفسه لا بقصد الدلالة به على النسبة المذكورة ، وإنّما المتقوّم بذلك القصد هو الدلالة التصديقية ، وحينئذ فيكون ذلك اللفظ فعلا قصد به الحكاية عن نسبة الحدث إلى الذات أو لم يقصد ، ولذا يصحّ لنا أن نشير إلى لفظة ضرب الموجودة في كلام الساهي أو السكران بقوله ضرب زيد ، ونحكم عليها بأنّها فعل ماض ، مع أنّه لم يقصد منها الدلالة على المعنى الفعلي أعني نسبة الضرب إلى زيد ، وهذه الاجمالات هي مجمل مما حرّرناه على الكفاية في هذا المقام ، فراجعه فإنّ فيه الكفاية إن شاء اللّه تعالى.

والخلاصة : هي أنّ أمثال هذه القضايا لا بدّ فيها من النظر إلى نفس المحمول المذكور فيها ، وهل هو صالح للانطباق على اللفظ الملقى فيها أو

ص: 106

أنّه غير صالح لذلك ، كما في قولك : زيد فاعل ، تعني به الواقع في ضرب زيد ، أو مضاف إليه وتعني به الواقع بعد غلام في قولك : غلام زيد ، فإن كان المحمول من هذا القبيل امتنع كونه من باب الإلقاء ، وامتنع كونه من باب إرادة الشخص ، بل لا بدّ أن يكون من باب الاستعمال في النوع أو الصنف أو المثل ، فتقول : زيد فاعل وتقصد به نوع ما يقع بعد الفعل ، أو تقصد به صنفا خاصا وهو ما وقع بعد ضرب ، أو تقصد به مثله بأن يقول القائل ضرب زيد وأنت تقول زيد فاعل تعني به لفظة زيد التي وقعت في شخص الجملة التي ألقاها ذلك القائل ، وحينئذ يبقى الكلام في وجه صحّة هذا الاستعمال ، ونحتاج إلى دعوى كون المصحّح له والموجب لاستحسانه هو الطبع.

أمّا لو كان الحكم في القضيّة صالحا لأن يكون لاحقا للفظ الملقى فيها مثل قولك : زيد ثلاثي ، فتارة يقصد به النوع ، بأن يكون المحكوم عليه بأنّه ثلاثي هو هذا اللفظ لكن بما أنّه مصداق للنوع أو بما أنّه مصداق للصنف أو بما أنّه عبارة عن مثله أو أنّه بنفس شخصه ، ويكون الحاصل هو أنّه تارة يقصد به النوع واخرى يقصد به الصنف وثالثة يقصد به المثل ورابعة يقصد به الشخص الملقى ، ويكون الجميع من باب الإلقاء لا الحكاية والاستعمال ، على إشكال في إرادة المثل ، فإنّه لا يمكن فيه أن يكون من باب الإلقاء إلاّ بنحو من تكرار الوجود ، ولكن ربما لا يكون القصد هو الإلقاء ، بل كان القصد هو الحكاية عن النوع أو عن الصنف أو عن المثل ، ولا يتأتى فيه الحكاية عن الشخص ، وحينئذ يكون الحال فيه هو الحال فيما لم يكن الحكم فيه لاحقا للشخص الملقى.

وعلى كلّ حال ، أنّ كون المسألة من باب الإلقاء إنّما يتأتى فيما لو

ص: 107

كان الحكم المحمول صالحا لأن يكون لاحقا للفظ الملقى ، ويتأتى فيه حينئذ قصد النوع وقصد الصنف وقصد الشخص ولا يتأتى فيه قصد المثل.

ثم بعد هذا يقع الإشكال في هذه القضيّة ، وأنّ الهيئة فيها ليست لإيقاع الربط بين اللفظين على حذو قولنا : زيد قائم ، بل يكون الربط بين مفهوم المحمول وواقع الموضوع ، ويكون حاله من هذه الجهة حال قولنا : هذا قائم بناء على ما ذكرناه من تمحض لفظ الإشارة للحرفية ، وأنّ المحكوم بقائم هو الذات الواقعية التي وقعت إليها الإشارة بهذا.

ويمكن المناقشة في تحقق كون أمثال هذه الجمل أعني زيد ثلاثي من قبيل الإلقاء ، بل لا يبعد دعوى كونها من قبيل الاستعمال ، وأنّ ما ادعي فيها من إرادة الشخص الملقى قابل للمنع ، فإنّ الذوق لا يساعد على أنّ مثل قولك : زيد لفظ ، أنّ الحكم بقولك لفظ على خصوص زيد الذي ألقيته في هذه الجملة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّا يمكننا المناقشة في كون ذلك من قبيل استعمال زيد في لفظ زيد ، ولا يبعد أن يكون الجميع من باب تقدير المضاف ، بأن يكون المراد من قولنا : زيد ثلاثي ، هو أنّ لفظ زيد ثلاثي والإضافة بيانيّة ، إذ لا شكّ في أنّ لفظة زيد لفظ وأنّها صوت من الأصوات ، وهذا معنى ما يقال إنّ دلالة الألفاظ على معانيها وضعيّة لكن دلالتها على أنفسها طبيعية حتى المهملات في مثل قولك : ديز مقلوب زيد ، وهو من باب حذف المضاف ، وأنّ الأصل هو أنّ لفظة ديز هي مقلوب لفظة زيد.

ص: 108

[ الحقيقة الشرعية ]

قوله : الأمر الرابع في الحقيقة الشرعيّة ... إلخ (1).

الكلام في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمات :

الاولى : أنّ الحقيقة الشرعيّة تتوقّف على أمرين : الاختراع والتسمية ، ويتحصّل من ذلك عقلا صور أربع ، الاولى : أن يكون كلّ من الاختراع والتسمية من جانب الشارع. الثانية : أن لا يكون شيء منهما من جانبه بل يكون كلّ من الاختراع والتسمية ممن سبقه. الثالثة : أن يكون الاختراع ممن سبقه وتكون التسمية من جانب الشارع. الرابعة : أن يكون الاختراع من جانب الشارع ولا يحدث منه التسمية ، بل لا يحدث منه إلاّ استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، أو استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الجزء نفسه ، ويكون هناك قرينة متصلة على اعتبار ضمّ باقي الأجزاء إلى ذلك الجزء على حذو استعمال اللفظ الموضوع للمطلق في المقيد نظير قوله رقبة مؤمنة.

والصورة الاولى والثالثة أيضا من الحقيقة الشرعية ، والثانية والرابعة خارجتان عن الحقيقة الشرعية. وبالجملة قوام الحقيقة الشرعية بالتسمية من جانب الشارع ، سواء كان هو المخترع كما في الصورة الاولى أو كان الاختراع ممن سبقه كما في الصورة الثالثة. والمراد بكون التسمية من جانب

ص: 109


1- أجود التقريرات 1 : 48.

الشارع هو أنّ صيرورة هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى من جانبه ، سواء كان ذلك بالوضع التعييني أو كان بالوضع التعيني الناشئ ببركة استعماله اللفظ في المعنى المجازي حتى صار يفيده بلا قرينة. أمّا الصورة الثانية فهي خارجة عن الحقيقة الشرعية كالرابعة ، نعم على تقدير كلّ منهما يكون تصرّف الشارع منحصرا بالحكم إمضاء أو تأسيسا أو ردعا أو نسخا.

المقدّمة الثانية : أنّ التسمية الشرعية أعني مجرد صيرورة اللفظ حقيقة في المعنى الجديد التي بها قوام الحقيقة الشرعية يمكن في عالم الثبوت أن تكون على صور أربع ، الاولى : الوضع الابتدائي بأن يعمد إلى تلك الماهية التي اخترعها هو أو اخترعها من كان قبله ، ويقول جعلت هذه اللفظة أعني لفظة الصلاة مثلا اسما لهذه الماهيّة. الثانية : الوضع الاستعمالي بأن يستعمل فيها لفظة الصلاة على أنّها لها. الثالثة : أن يستعمل فيها اللفظ الموضوع لجزئها الذي هو الدعاء أو الميل والانعطاف مجازا ، فيكثر ذلك في لسانه حتى يكون ذلك موجبا لكونها حقيقة فيها. الرابعة : أن يستعمل اللفظ المذكور في معناه الأصلي أعني الدعاء أو الميل والانعطاف ويضمّ إليه باقي الأجزاء والشرائط بدالّ متصل ليكون على حذو قوله : اعتق رقبة مؤمنة ، ويكثر ذلك حتى يكون موجبا لكونه حقيقة.

والصورتان الأوليتان من سنخ الوضع التعييني ، والأخيرتان من سنخ الوضع التعيني.

أمّا الصورة الاولى : فقد أورد عليها بأنّه لو كان لبان لنا ونقل إلينا.

واجيب عنه : بإمكان صدوره منه صلى اللّه عليه وآله لكنّه قد اخفي علينا ولم ينقل ذلك لنا.

واعترضه بأنّه لا داعي للإخفاء ، إذ ليس ذلك مثل نصوص الخلافة

ص: 110

وما يرجع إليها ممّا توفّرت الدواعي لإخفائه.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ عدم النقل وعدم الوصول إلينا لا ينحصر بدواعي الإخفاء ، بل إنّ الكثير من أفعاله صلى اللّه عليه وآله وأقواله لم تنقل إلينا لأجل عدم الضبط وعدم العناية كما في وضوئه صلى اللّه عليه وآله وكيفيّة قراءته في صلاته ، وهل كان يبدأ في الحمد بالتسمية ، إلى غير ذلك ممّا لم يضبطه لنا الصحابة وعرّفنا به أئمّتنا ( صلوات اللّه عليه وعليهم ) ولكن أصل الوضع بمعنى الإعلان والإخبار بأني وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى ممّا يستبعد كما مرّ مشروحا في الوضع وحقيقته ، فراجع.

وأمّا الصورة الثالثة : فقد استبعدها في الكفاية (1) باعتبار عدم العلاقة المصححة للتجوّز ، من جهة أنّ الجزء وهو الدعاء ممّا لا ينتفي الكل بانتفائه ، لكنّه لو كان الجزء هو الدعاء ، أمّا لو كان الجزء هو الميل والانعطاف نحو الرّب مأخوذا من « صليت العود على النار » من لينته وعطفته الذي هو روح الصلاة ، فلا يرد عليه عدم انتفاء الكل عند انتفائه.

نعم ، يرد عليه : أنّه ليس في البين تركّب حقيقي. لكنّه يمكن القول بأنّه لا يعتبر في علاقة الكل والجزء التركب الحقيقي بل يكفي فيه التركّب الاعتباري.

نعم ، يرد على هذه الطريقة ، أعني حصول الحقيقة من كثرة الاستعمال مجازا ، ما حررناه (2) في الوضع التعيني ، من أنّ الاستعمال بالعناية وإن كثر لا ينقلب الى الاستعمال بلا عناية ، وعلى كلّ حال أنّ هذه الاشكالات إنّما تتوجّه على الصورة الثالثة.

ص: 111


1- كفاية الاصول : 21.
2- راجع صفحة : 38 ، 40.

وأمّا الصورة الرابعة : فلا ورود لها عليها ، أمّا إشكال عدم العلاقة فواضح ، لما عرفت من عدم التجوّز في استعمال المطلق في المقيد بالقرينة المتصلة ، كأن يقول : أعتق رقبة مؤمنة ، فلفظ الرقبة يحضر نفس الرقبة في الذهن وهو الدلالة التصورية ، ثم بإلحاق لفظة مؤمنة يستكشف أنّ ما هو المراد من مطلق الرقبة هو خصوص المؤمنة وهو الدلالة التصديقية ، وحينئذ نقول : إنه لو كثر الاستعمال بهذه الطريقة لربما أوجب أنّ السامع يفهم بأوّل سماعه لفظة الرقبة من المتكلّم أنّه اراد بها خصوص المؤمنة ، بل يخطر في ذهنه خصوص المؤمنة بمجرّد سماع اللفظ وهو الدلالة التصوّرية ، ثم إنّ المتكلّم بعد تلك الكثرة وبعد اطّلاعه على مسبّبها الذي هو أنّ اللفظة صارت تخطر خصوص المؤمنة في الذهن ، يعود فيتكلّم بلفظ الرقبة عارية عن إلحاق قيد الإيمان ويعتمد في بيان إرادته الخصوصية على نفس اللفظ ولا يتوقّف ذلك على انقلاب من الاستعمال مع العناية إلى الاستعمال بلا عناية.

نعم ، الإنصاف أنّه يمكن تأتّي هذا البيان في طريقة التجوّز ، فإنّ من سمع قول القائل رأيت أسدا يرمي ، عند ما سمع لفظ الأسد يحضر في ذهنه الحيوان المفترس ، ثم بعد سماعه قوله يرمي ينقلب ذلك الخطور الذهني إلى الرجل الشجاع ، والحكم بأنّ مراد المتكلّم من قوله رأيت أسدا هو الرجل الشجاع ، وأمّا المتكلّم فهو لا يريد أن يحضر الحيوان المفترس في ذهن السامع ، بل لا يريد إلاّ أن يحضر في ذهنه الرجل الشجاع وقد استعان في ذلك بأن ضمّ إلى لفظ الأسد قوله يرمي ، فيكون من قبيل تعدّد الدال ووحدة المدلول بالنسبة إلى الدلالة التصديقية. وأما الدلالة التصوريّة للفظ الأسد على الحيوان المفترس ، أعني كون اللفظ موجبا إحضار الحيوان

ص: 112

المفترس في ذهن السامع ، فذلك قهري على المتكلّم لا يمكنه التصرف فيه. هذا حال أوائل الاستعمالات ، وأما بعد الكثرة على السامع فلربّما انقلب تصوّره من مجرّد سماع لفظ الأسد الحيوان المفترس إلى تصور الرجل الشجاع ، وأمّا المتكلّم فهو بعد تلك الكثرة واطلاعه على ما صار إليه الحال في ناحية السامع من ذلك الخطور الذهني لا يحتاج إلى الاستعانة في إفهام مراده من لفظ أسد إلى إلحاق قوله يرمي ، بل يكون صدور نفس ذلك اللفظ منه كافيا في إحضار الرجل الشجاع في ذهن السامع وإفهام السامع أنّه يريد الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس.

وحينئذ ينحصر الإشكال في الصورة الثالثة بما في الكفاية من إنكار العلاقة ، ولا يتوجّه عليها إشكال الانقلاب كما لا يتوجّه على الصورة الرابعة ، وعلى كلّ حال أنّ حصول الحقيقة في الصورة الرابعة لا غبار عليه لا من ناحية عدم العلاقة ولا من ناحية إشكال عدم الانقلاب. أمّا الصورة الثالثة فهي مع قطع النظر عن إشكال الكفاية من ناحية عدم العلاقة ، ومع قطع النظر عن الوضع الاستعمالي أعني الصورة الثانية ، بمعنى أنّا نبني على عدم حصول الوضع الابتدائي (1) وعدم حصول الوضع الاستعمالي (2) ، ومع ذلك نرى الشارع قد استعمل هذه الألفاظ ، وحينئذ يكاد يحصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يكن استعماله مبنيّا على العناية والتجوّز ، بل هو على تقدير كونه غير مسبوق بوضعها ولو بأول استعمال ، لا يكون إلاّ من باب استعمال المطلق أعني الدعاء أو الانعطاف في معناه الأصلي مع الدلالة على تقييده بباقي الأجزاء والشرائط بدال آخر ، ويكون نظير قوله : اعتق رقبة مؤمنة في

ص: 113


1- [ في الأصل : الابتداء ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- [ في الأصل : الاستعمال ، والصحيح ما أثبتناه ].

عدم التجوز. نعم الشأن كل الشأن في :

الصورة الثانية : وهي الوضع بالاستعمال ، فقد أشكل عليها شيخنا قدس سره (1) بلزوم تعدد اللحاظ في اللفظ آليا من ناحية الاستعمال واستقلاليا من ناحية الوضع.

وقد أجاب عنه الاستاذ العراقي في مقالته [ في بحث حقيقة الوضع ](2) - وأشار إليه [ في بحث الحقيقة الشرعية ](3) - : وتوهّم أوله إلى اجتماع اللحاظين غلط ، إذ النظر المرآتي متوجه الى شخص اللفظ والمعنى حال الاستعمال وهما غير ملحوظين استقلالا حين الوضع ، وما هو ملحوظ كذلك فهو طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى حين وضعه ، وأحدهما غير الآخر في مقام اللحاظ كما لا يخفى. والعجب من صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم المعاصرين على ما في تقرير بعض تلامذته (4).

قلت : وهذا الجواب عجيب ، لأنّ الملحوظ آلة في مرتبة الاستعمال وإن كان هو شخص اللفظ الملقى الى السامع و (5) المقصود في مرتبة الوضع وإن كان هو طبيعة اللفظ ، إلاّ أنّ المنظور للمتكلّم في مقام الوضع ومرتبته هو هذا اللفظ ، لكن لا بشخصه بل بما أنّه مصداق لطبيعة من ذلك اللفظ ، فالنظر الى ذلك اللفظ في مرتبة الوضع بما أنّه مصداق لطبيعة اللفظ يكون استقلاليا من ناحيتين ، ناحية كونه مصداقا لطبيعة ذلك اللفظ ، وناحية كونه مقصودا وضعه ولو بما أنّه مصداق للطبيعة.

ص: 114


1- أجود التقريرات 1 : 49.
2- [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].
3- [ لم توجد في الأصل ، وإنما أضفناها للمناسبة ].
4- مقالات الاصول 1 : 67 - 68 ، وأشار إليه في صفحة 133.
5- [ في الأصل : إلاّ أن المقصود ، والصحيح ما أثبتناه ].

ولا يخفى أنّ اللفظ في حال الاستعمال لا يكون حاله إلاّ حاله حين الوضع ولو بالوضع الابتدائي (1) الجعلي ، فكما أنّ الموضوع ليس هو شخص لفظ الإنسان في قوله : وضعت لفظ الإنسان للحيوان الناطق ، وإنّما الكلّي المتحقّق في ذلك اللفظ المشتمل عليه هذا القول ، فكذلك اللفظ حين الاستعمال فإنّه إعمال اللفظ فيما وضع له ، والمفروض أنّ الموضوع هو الكلّي ، وأنّ إرادة المستعمل إنّما تتعلّق بإيجاد الكلّي الموضوع ، وإنما يوجد الكلّي ، غايته أنّه بعد وجوده يكون شخصيّا ، والنظر الآلي إنّما هو في مرتبة وجوده لا ما يكون بعد وجوده ، والمفروض أنّ تشخصه إنّما يكون بعد الوجود ، فلا فرق بين النظر في مقام الاستعمال والنظر في مقام الوضع في كون تعلقهما بالفرد بما أنّه كلّي فلاحظ. بل يمكن القول بأن العكس أقرب ، وإن كان كالأصل بعيدا من الصواب. نعم يزيدني إشكالا آخر وهو لزوم كون اللفظ منظورا إليه بشخصه وكونه منظورا إليه بما أنه مصداق للطبيعة ، والنظران متنافيان.

ولا يخفى أنّ إشكال تعدّد اللحاظ إنّما هو في استعمال اللفظ في المعنى بقصده وضعه له ليكون الوضع حاصلا بالاستعمال ، أمّا لو قلنا بأنّ الوضع هو التعهد ، أو أنّه من فعل النفس وأنّ مظهره هو الاستعمال ، فلا موقع حينئذ للإشكال بتعدد اللحاظ في اللفظ ، إذ لا يكون الوضع حاصلا بالاستعمال ، وإنّما هو حاصل بالتعهّد أو بفعل النفس وذلك سابق على الاستعمال ، ولا يكون ذلك الاستعمال إلاّ كاشفا عنه كشف المعلول عن علّته ، لكن ذلك إنّما هو لو أخذنا الوضع من مقولة التعهّد والبناء ، أمّا لو

ص: 115


1- [ في الأصل : الابتداء ، والصحيح ما أثبتناه ].

أخذناه من مقولة فعل النفس وأنّه يحتاج الى كاشف ومبرز وذلك الكاشف والمبرز هو الجعل ، فلا ريب أنّ ذلك الجعل الكاشف والمبرز يكون لازمه النظر الاستقلالي الى اللفظ ، فلو أبرزنا ذلك الفعل النفساني بالاستعمال توجّه فيه إشكال تعدّد اللحاظ.

نعم ، إنّ ذلك كلّه خلاف الفرض ، لأنّ الفرض هو حصول الوضع بالاستعمال ، وأنّه من مقولة القصد والإنشاء ، ليكون ما نحن فيه نظير التمليك فإنّه بناء عليه لا محيص من توجه الإشكال المزبور. نعم لو قلنا إنّ الوضع حاصل قهرا بذلك الاستعمال وإن لم يكن المستعمل قاصدا بذلك الاستعمال في المعنى وضع اللفظ لذلك المعنى ، لم يتوجّه الاشكال المزبور.

أمّا دعوى إمكان اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى اللفظ المستعمل في المعنى ، ببرهان أنّه ربما انضم إلى قصد المستعمل الذي جعل اللفظ آلة في إحضار المعنى قصد آخر ، بأن كان غرضه من أمر عبده بإحضار الماء هو إسماع من في خارج الحجرة صوته أو إفهام السامع أنّه حيّ لا ميت أو مستيقظ لا نائم أو أنّه مفيق لا مغمى عليه ، إلى غير ذلك من الغايات المترتبة على صدور الكلام من المتكلّم ، ومنه إفهام الحاضر أو إفهام نفس المأمور بأنّه عارف بهذه اللغة التي تكلّم بها ، وحينئذ فيجتمع في ذلك اللفظ اللحاظان.

ففيها ما لا يخفى ؛ للفرق الواضح بين المقامين ، فإنّ هذه الغايات مترتبة على إعمال اللفظ في معناه ، فلا يكون ترتبها على ذلك الاعمال موجبا لكون اللفظ منظورا إليه مستقلا ، فإن فهم السامع أنّ المتكلّم مستيقظ ، أو أنّ المتكلّم عارف باللغة العربيّة لكونه قد أعمل اللفظ العربي

ص: 116

في معناه ، إنّما يترتب على إعمال المتكلّم اللفظ آلة في معناه وقد أعمله فيه ، غايته أنّه أوجد اللفظ ليكون حاكيا عن المعنى ، وغرضه من هذه الحكاية أن يفهم السامع أنّه عارف باللغة ، فكان هناك نظران : نظر إلى اللفظ في حكايته عن المعنى وهو آلي ، ونظر إلى حكاية المعنى بهذا اللفظ وجعل هذه الحكاية تفهيمها للسامع أنّه عارف باللغة ، وهذا النظر الثاني وإن كان استقلاليا إلاّ أنّه متعلّق بحكاية المعنى باللفظ لا أنّه متعلّق باللفظ نفسه ، وهذا بخلاف مقام الوضع فإنّ إعمال اللفظ في المعنى يوجب فعلا آخر للمتكلّم وهو وضعه له وهو أعني المتكلّم في هذا الفعل ناظر إلى اللفظ استقلالا لا آلة.

وحاصل الفرق : أنّ المتكلّم في مقام تفهيم السامع أنّه عارف باللغة يكون قد قصد اللفظ ليحكي به المعنى ، وقصد من حكاية المعنى باللفظ إفهام السامع أنّه عارف باللغة ، فيكون هذا القصد الثاني مثل أن يقصد من حكاية المعنى باللفظ إفهام السامع إرادته المعنى في عدم تعلّق القصد الثاني باللفظ ، وإنّما هو أعني القصد متعلّق بنفس الحكاية ، بخلاف المتكلّم في مقام الوضع فإنه يقصد من اللفظ حكاية المعنى ويقصد من حكايته به وضعه له ، وهو أعني وضعه له فعل من أفعال المتكلّم يحتاج فيه إلى النظر إلى اللفظ نظرا ثانيا استقلاليا.

نعم ، في المقام تحقيق آخر ينبغي أن يلتفت إليه : وهو أنّ اللفظ وإن كان آلة في حكاية المعنى وإن شئت فقل : إنّه آلة في تفهيم السامع إرادة المعنى ، والآلة لا تكون منظورا إليها استقلالا ، إلاّ أنّ ذلك إذا لم تكن تلك الآلة من الأفعال الاختيارية كما في إعمال المنشار في القطع ، أمّا إذا كانت الآلة بنفسها فعلا اختياريا مثل القيام الذي آلة في التعظيم ، فهي لا بد أن

ص: 117

تكون منظورا إليها بنفسها وإلاّ لم تكن فعلا اختياريا. نعم إنّ النظر إليها بما أنّها فعل اختياري يكون استقلاليا ، وبما أنّها موجدة للتعظيم يكون النظر إليها آليا ، وهما وإن اتحدا في الزمان إلاّ أنّهما مختلفان في الرتبة ، فالنظر إليه بما أنّه فعل من أفعاله سابق في الرتبة على النظر إليه بما أنّه آلة في تحقق التعظيم ، ومن ذلك إلباسك الثوب لزيد بقصد تمليكك إيّاه.

وهكذا الحال في اللفظ الحاكي للمعنى ، فإنّه بما أنّه فعل اختياري يكون النظر إليه استقلاليا ، وبما أنّه حاك عن المعنى يكون النظر إليه آليا ، فهو في مرتبة حكاية المعنى باللفظ لا يكون ناظرا إلى اللفظ إلاّ آليا ، لكن في مرتبة صدور ذلك اللفظ عنه الذي هو فعل اختياري له يكون ذلك اللفظ منظورا إليه استقلاليا وهما مختلفان في الرتبة ، فاللفظ بما أنّه فعل اختياري سابق في الرتبة على حكاية المعنى به ، ولكن هذا لا دخل له بقصد الوضع ، فإنّه في مرتبة حكايته عن المعنى يقصد وضعه ذلك اللفظ لذلك المعنى ، وهو قاض بالنظر الاستقلالي إلى اللفظ ، فقد اجتمع النظران في رتبة واحدة وهي مرتبة حكاية المعنى باللفظ فلاحظ وتأمّل.

وأنت بالباسك الثوب لزيد بعنوان التمليك وإن كنت ناظرا إلى الثوب استقلالا لأنّك ملّكته لزيد ، إلاّ أنّه ليس في البين ما يوجب كون نظرك إلى الثوب آليا حتى في مرتبة إلباسك ايّاه ، بخلاف اللفظ فانّك في مرتبة حكايتك المعنى به تكون ناظرا إليه آليا ، فلا يصحّ منك في هذه المرتبة قصد وضعه له ، لأنّه يوجب كون نظرك إليه استقلاليا ، فيجتمع النظر الآلي والاستقلالي في مرتبة واحدة وهي مرتبة الحكاية التي تجعل تلك الحكاية وضعا ، فلاحظ وتأمّل. هذا كلّه في الإشكال الذي وجّهه شيخنا قدس سره وهو لزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي.

ص: 118

وأمّا الإشكال الثاني الذي ذكره في الكفاية (1) والتزم به ، وهو لزوم كون هذا الاستعمال خارجا عن الحقيقة والمجاز ، فهو أيضا لا يتوجّه على القول بكون الوضع تعهّدا أو كونه من أفعال النفس ، وإنّما يتوجّه على القول بكونه حاصلا بنفس الاستعمال قصدا أو قهرا ، لأنّ الوضع على كلّ من هذين الوجهين يكون متأخّرا عن الاستعمال ، ويكون حال الاستعمال المقصود به الوضع أو الذي يتحقّق به الوضع قهرا حال الفسخ من ذي الخيار بوطء الجارية المنتقلة عنه.

ولا مدفع له إلاّ بأن يقال : إنّ الفسخ من أفعال النفس وهو سابق على الوطء ، وحينئذ لا يحتاج إلى أن يقصد به الفسخ ، أو القول بأنّ الشارع قد سوّغ له الوطء الذي يقصد به إنشاء الفسخ ، والأوّل ممنوع والثاني محتاج إلى الدليل القوي الدال على جواز الوطء لغير المالك إذا كان بقصد الفسخ ، وأمّا وطء المطلقة الرجعية بعنوان الرجوع أو لا بعنوان الرجوع ، فهو خارج عن ذلك ، بناء على كون المطلقة الرجعية زوجة ، وأنّها لا تبين إلاّ بانقضاء العدّة ، وعدم الأخذ فيها بآثار الزوجية ، وحينئذ لا يكون الفسخ رجوعا ورفعا للطلاق ، بل هو دفع للبينونة التي ترتب على ذلك الطلاق بعد انقضاء العدّة وعدم الأخذ بأذيال الزوجية ، وما قصده عدم الرجوع بذلك الوطء الاّ من قبيل قصد الزنا بوطء الزوجة غير المطلقة في أنّه لا أثر له إلاّ ما هو من سنخ التجري وإن لم يكن منه حقيقة. نعم لو لم نقل بكون المطلقة الرجعية زوجة ، بل قلنا إنّها بحكم الزوجة ، كان جواز وطئها بعنوان الرجوع محتاجا إلى الدليل على جوازه وعلى تحقق الرجوع به ، وأما وطؤها لا بعنوان

ص: 119


1- كفاية الاصول : 21.

الرجوع فهو وإن كان محرما إلاّ أنه محتاج إلى الدليل في تحقق الرجوع به ، فراجع ذلك البحث وما حررناه فيه (1).

المقدمة الثالثة : في ثمرة النزاع. قال شيخنا قدس سره في التحرير في بيان ثمرة النزاع - وهو حمل الألفاظ المستعملة بلا قرينة على المعنى اللغوي بناء على عدمها ، وعلى المعنى الشرعي بناء على ثبوتها - إلاّ أنّ التحقيق أنّه ليس لنا مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي اصلا (2).

والكلام في هذه الثمرة في مقامين :

المقام الأوّل : ما تضمنته الجملة الاولى وهي الحمل على المعاني اللغوية بناء على عدم الثبوت ، وقد عرفت إشكال شيخنا قدس سره في هذا المقام بقوله : إلاّ أنّ التحقيق ، إلخ.

قال في المقالة : ولكن قد يدعى بأنّه ما من مورد من موارد استعمال هذه الألفاظ الاّ وهي مستعملة في المعاني المستحدثة ولو بالقرينة ، وحينئذ يلغو في البين نتيجة البحث ، والعهدة على المدعي ، كيف ونرى استعمال لفظ الصلاة في معناه العرفي كثيرا ، فلم لا ينتج مثل هذا البحث في مثله (3).

قلت : لعل مراده بذلك استعمالها في الصلاة على الميت فإنّها دعاء محض ، فتأمّل.

وعلى كل حال أنّ شيخنا قدس سره لم يدّع انحصار الاستعمال بالقرينة الدالة على إرادة خصوص المعاني المستحدثة ، وإنّما ادّعى أنّ المراد الاستعمالي لا شك فيه لكونه معلوما بالقرينة في جميع الاستعمالات

ص: 120


1- [ مخطوط لم يطبع بعد ].
2- أجود التقريرات 1 : 48.
3- مقالات الاصول 1 : 134.

الصادرة منه صلى اللّه عليه وآله سواء كان المراد هو المعنى الأصلي أو كان المراد هو المعاني المستحدثة ، ولم يدّع أن جميع استعمالاته صلى اللّه عليه وآله كان المراد بها هو المعاني المستحدثة بواسطة القرينة.

وبالجملة : أنّ فعلية هذه الثمرة تتوقف على ورود استعمال من الشارع لهذه الالفاظ مع التردد في كون مراده من ذلك الاستعمال هو المعنى الاصلي أو المعنى الجديد ، وليس لدينا من استعمالاته ما يكون من هذا القبيل ، بل إنّ جميع ما ورد عنه معلوم المراد ، فلا تكون الثمرة حينئذ الاّ فرضية ، فلاحظ.

نعم ، إنّ هذه الدعوى تحتاج إلى تتبع ، وهي وإن وردت في القرآن الكريم معراة عن القرائن المتصلة مثل قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) ومثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (2) وربما وردت في الحديث أيضا كذلك ، لكن المراد بذلك وهو المعاني المستحدثة معلوم لنا ولو من جهة التفسير الواصل إلينا ونحو ذلك من القرائن ولو مثل الإجماع ، وهكذا الحال فيما لو استعملت واريد منها المعنى السابق كما في صلاة الأموات.

المقام الثاني : في حاصل الجملة الثانية ، وهي أنّه على الثبوت تحمل على المعاني الجديدة.

وقد أشكلوا على ذلك بما حاصله : أنّ ثبوت الحقيقة الشرعية لا يوجب هجر المعنى الأول ، وأقصى ما فيه أنّه يوجب الاشتراك اللفظي فلا يكون أثرها إلاّ الإجمال.

واجيب عنه بما حاصله : أنّ التتبع شاهد في أنّ أرباب الاختراع

ص: 121


1- الإسراء 17 : 78.
2- البقرة 2 : 43.

عند ما يضعون لفظا لما يخترعونه ، يكون غرضهم سلخ اللفظ عن معناه الأول وجعله للمعنى الذي اخترعوه ، ولو بأن يستقرّ بناؤهم على عدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة.

قال في المقالة : فنفس هذه الجهة من القرائن العامة على إرادة المعنى الشرعي عند استعماله حتى مع فرض عدم هجر الوضع السابق (1).

قلت : بل عرفت أنّ الوضع الجديد يوجب بناءهم على سلخ اللفظ عن المعنى السابق ، فلا بد أن يكون مع هجر الاستعمال فيه إلا مع القرينة. وبالجملة يعود اللفظ عندهم مجازا فيه على وجه لو صدر اللفظ منهم لا يحمل على المعنى القديم إلاّ بالقرينة ، ومن ذلك تعرف التأمل فيما أفاده بعد ذلك بقوله :

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ما ذكرنا من طريقة أهل الصنائع إنّما هو في الألفاظ المستحدثة غير المسبوقة بوضع آخر ( قلت : هذا فرض لا واقعية له ) واما الألفاظ المتداولة بين العرف لا نسلّم كون طريقتهم في التسمية بها تفهيم المعنى بنفس اللفظ ، بل من الممكن كون الغرض إحداث الاشتراك في اللفظ بحيث يصير عند عدم القرينة مجملا إلخ (2).

ولا يخفى أنّ مثل هذه الغاية ممّا يقطع بعدمها ، فانّ الغرض من نقلهم اللفظ من معناه الأصلي إلى المعنى الجديد ليس إلاّ ليكون اللفظ في لسانهم ظاهرا في الجديد ، ولا يكون ظاهرا فيه الاّ مع سلخه عن معناه الاول ، وأنّ بناءهم قد استقر على عدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة. وهذا هو الفارق بين الاشتراك والنقل ، فإنّ الوضع الثاني في الاشتراك لا يكون إلاّ من

ص: 122


1- مقالات الاصول 1 : 134 [ أسقط قدس سره جملة قصيرة من العبارة الثانية ].
2- مقالات الاصول 1 : 134 [ أسقط قدس سره جملة قصيرة من العبارة الثانية ].

جهة عدم اطلاع الواضع الثاني على الوضع الأول أو غفلته عنه أو نسيانه له ، بخلاف النقل فانّه عبارة عن نقل اللفظ عن معناه الاول إلى المعنى الجديد ، ولا يكون ذلك إلاّ عبارة عن سلخه عن المعنى الأوّل ، ولو بأن يلتزم هذا الواضع الجديد بعدم استعماله في المعنى الأول إلاّ بنحو عناية وتجوز عن المعنى الجديد ونصب قرينة على ذلك. ومنه يظهر لك أنّ النقل إلى المعنى الجديد لا يجتمع مع عدم هجر الوضع السابق ، بل إنّ أساس النقل هو هجر المعنى السابق وعدم استعماله فيه إلاّ مع القرينة.

قوله : وأمّا ما يقال كما عن صاحب الكفاية قدس سره - إلى قوله : - فيردّه أنّ جملة من المعاني وإن كانت ثابتة في الشرائع السابقة - إلى قوله : - إلاّ أنّها لم تكن يعبّر عنها بهذه الألفاظ بل بألفاظ أخر قطعا ... إلخ (1).

وتوضيحه : أنّ هذه الماهيّات وإن كانت موجودة في الشرائع السابقة وكانت مخترعة قبل شرعنا ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي الحقيقة الشرعية ، لما عرفت في المقدمة الاولى من أنّ المدار في الحقيقة الشرعية على كون التسمية منه صلى اللّه عليه وآله وإن كان الاختراع من السابق ، لكن لا يخفى أنّ كون التسمية منه صلى اللّه عليه وآله بهذه الأسماء يتوقف على أنّ لا يجد في لغته صلى اللّه عليه وآله أسماء لهذه الماهيات ، وحينئذ هو صلى اللّه عليه وآله إمّا أن يخترع لها اسما ابتدائيا أو ينقل لها لفظا من لغته ، بأن ينقل لفظ الصلاة من معنى الدعاء في لغته صلى اللّه عليه وآله إلى هذه الماهية ، وحينئذ فمن الممكن أن يجد لهذه الماهيّات أسماء خاصة في لغته فلا يحتاج إلى النقل ولا إلى الاختراع ، بل هو صلى اللّه عليه وآله في مقام بيان مراده يجري على الأسماء التي وجدها لتلك الماهيات في لغته صلى اللّه عليه وآله الاّ أنّا مع

ص: 123


1- أجود التقريرات 1 : 50 [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

ذلك ننقل الكلام إلى نفس أهل لغته ونقول : إنّهم بعد أن اطلعوا على تلك الحقائق اضطروا إلى بيانها بالألفاظ ، فهم إمّا أن يخترعوا لها ألفاظا خاصة بها ، أو ينقلوا لها لفظا ممّا في لغتهم كما في الصلاة من الدعاء ، أو أنّهم لا يخترعون ولا ينقلون بل يتابعون ، أعني أنّهم يجرون في تسميتها على ما كانت تسمى به ، فيدخلونه في لغتهم ، فإن كان من قبلهم عربا مثلهم فهو وإلاّ كان ذلك اللفظ الذي يجرون عليه كسائر الألفاظ التي جروا عليها وأدخلوها في لغتهم من اللغات الاجنبية كما يدعى في القسطاس ونحوه ، ثم بعد أن جاء صاحب شريعتنا ( صلوات اللّه عليه وعلى آله الطاهرين ) جرى في تلك الماهيات على ما وجده من ألفاظها في لغته ، وهذا وإن لم يكن من الحقيقة الشرعيّة اصطلاحا ، بمعنى أنّ جاعل الوضع هو صاحب شريعتنا ، الاّ أنّها لا تخرج عن كونها حقيقة شرعية ولو بالنسبة إلى الشريعة السابقة ، ولو فرضنا أنّها لغوية كما لو كان الذين سمّوها هم أهل اللغة العربية فيما قبل زمانه ، إلاّ أنّه مع ذلك يترتب عليها الثمرة المترتبة على الحقيقة الشرعية الخاصة ، وهو لزوم حملها على هذه الماهيات عند ورودها في لسانه صلى اللّه عليه وآله مجردة عن القرينة.

ولا يخفى أنّ ذلك كلّه لا يخرج عن الاحتمال ، إلاّ أنّه نافع في قبال الاستدلال على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بمجرد وجود هذه الماهيات قبل زمان الشارع.

والانصاف أنّه ليس لنا دليل على الثبوت ، وإن كان الاعتبار يساعد عليه ، إلاّ أنّ مجرد مساعدة الاعتبار لا تكون دليلا على الثبوت. مع أنّ هذا الاعتبار فيما لو كان الشارع هو المخترع لهذه الماهيات ، حيث إنّ اختراعه لها يناسب اختراع اسم لها ، أمّا إذا كان المخترع لها من سبقه فلا يتأتى فيه

ص: 124

الاعتبار المذكور. ومجرد أمره بها لا يوجب اختراع اسم لها ، مع أنّ باب المجاز واسع. وعلى كلّ حال فلو وصلت النوبة إلى الشك فالأصل مع المنكرين حتى بالنسبة إلى الاستعمالات العربية قبل الشارع ، لإمكان أنّهم لم يستعملوا هذه الالفاظ في هذه الماهيات إلاّ بالعناية.

ويترتب على هذا الأصل المعبّر عنه بأصالة عدم الوضع أو عدم النقل أنّه لو وردت مجردة عن القرينة في كلام الشارع ، ولم يكن المراد معلوما لنا ، يكون اللازم هو حملها على المعاني الأصليّة ، ويكون ترتب هذا الأثر أعني لزوم حملها على المعاني الأصلية على ذلك الاستعمال المقارن لعدم النقل ، من قبيل الترتب على الموضوع المركب من جزءين : أحدهما وهو الاستعمال محرز بالوجدان والآخر وهو عدم النقل محرز بالأصل ، سواء قلنا إنّ التركب من قبيل الاقتران في وعاء الزمان أو قلنا إنّه تقييدي ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ عدم النقل وإن أخذناه في المستعمل على نحو مفاد ليس الناقصة ، فهو أعني مفاد ليس الناقصة ثابت باستصحاب حال ذلك المستعمل وأنّه لم يصدر عنه النقل المذكور.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو علم كلّ من النقل والاستعمال ولم يعلم المقدّم منهما ، فإنّ استصحاب عدم النقل إلى حين الاستعمال قاض بالحمل على المعاني الأصلية ، ولا تعارضه أصالة عدم الاستعمال قبل النقل ، إذ لا يترتب عليها الأثر إلاّ بلازمها وهو وقوع الاستعمال بعد النقل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده في الكفاية بقوله : وأصالة عدم النقل إنّما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخره ، فتأمل (1). فإنّ الشك فيما نحن فيه وإن كان في تأخّر النقل ، إلاّ أنّه لمّا كان مشكوك

ص: 125


1- كفاية الاصول : 22.

الوجود قبل الاستعمال ، كان الشك من هذه الجهة بالنسبة إلى تلك القطعة من الزمان شكا في حدوث النقل فتجري فيه أصالة العدم ، وهي بضميمة الاستعمال كافية في الحكم بإرادة المعنى الأصلي.

وأمّا ما أفاده بقوله : ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك فكأنّه تكملة لقوله : لا دليل على اعتبارها تعبدا إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فإنّ أصالة تأخّر الاستعمال إلى ما بعد النقل لا بد من إرجاعها إلى أصالة عدم الاستعمال قبل النقل ، وحينئذ لا يترتب عليها الأثر المطلوب وهو الحكم بأنّ المراد هو المعاني الجديدة إلاّ بلازمه وهو تأخّر ذلك الاستعمال عن النقل ، وليس التأخّر بنفسه من الاصول العقلائية كي يدفع به إشكال المثبتية ، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك ، وإنّما جل ما عندهم هو أصالة العدم ، وقد عرفت أنّها في طرف الاستعمال قبل النقل مثبتة ، ومقتضى ذلك أنّ الجاري هو أصالة العدم في طرف النقل فيقال : إنّ الأصل عدمه إلى ما بعد الاستعمال ، وهذا الأصل لا غبار عليه ، وقد عرفت أنّه يترتب عليه الحكم بأنّ المتكلّم أراد المعاني القديمة ، إلاّ أنّه قدس سره أشكل عليه بقوله : وأصالة عدم النقل ، إلخ. وقد عرفت اندفاع هذا الاشكال ، ولعلّه إليه أشار بقوله : فتأمل ، أو لعلّه إشارة إلى عدم جريان الاصول ولو العدمية في موارد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، نظير الاستصحاب في موت المتوارثين ، ونظيره في تعاقب الحالتين من الطهارة والحدث أو الطهارة والخبث كما شرحه في مباحث الاستصحاب في موارد الشك في التقدم والتأخر (1) ، ولعلّ هذا هو الأولى في تفسير وجه التأمل في كلامه قدس سره

ص: 126


1- كفاية الاصول : 419 - 422 / التنبيه الحادي عشر.

فتأمل. هذا كلّه فيما لو جهل التاريخان.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان تاريخ الاستعمال معلوما وكان تاريخ [ النقل ](1) مجهولا ، فإنّ الجاري فيه هو أصالة عدم النقل إلى حين الاستعمال ، أما عكسه بأن فرض العلم بتاريخ النقل والشك في تاريخ الاستعمال ، فلا يجري فيه أصالة عدم النقل للعلم بتاريخه ، كما لا يجري فيه أصالة عدم الاستعمال إلى حين النقل لكونه مثبتا ، وحينئذ يكون المتعين فيه هي الاصول العملية ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط ، لتردد الواجب بين المتباينين ، أو تكون الشبهة من قبيل الأقل والأكثر لو كان المعنى الأصلي جزءا من المعنى الجديد ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 127


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

[ الصحيح والأعم ]

قوله : وأمّا على الثاني فإنّه يقع الكلام في أنّ المعاني الشرعية التي استعمل فيها الألفاظ مجازا ، ولوحظ العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، هل هي المعاني الصحيحة أو الأعم منها ... إلخ (1).

يمكن أن يكون هذا التوجيه موافقا لما أفاده صاحب الكفاية قدس سره بقوله : وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره : إنّ النزاع وقع على هذا في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى أنّ أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل عليه كلامه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر ، إلخ (2).

وربما يتوهم من قول صاحب الكفاية : بتبعه ومناسبته ، أنّه يلزم عليه سبك مجاز عن مجاز ، فإنّ لفظ الصلاة مثلا إذا كانت موضوعة في اللغة للدعاء ، ثم استعملها الشارع في خصوص الصحيح مثلا لمناسبته لذلك المعنى اللغوي ، كان الصحيح مجازا عن المعنى اللغوي حينئذ ، فإذا استعملها في الفاسد أو الأعم لأجل مناسبته للصحيح كان استعمالها فيه مجازا عن مجاز.

ويندفع هذا التوهم بأنّ سبك المجاز عن المجاز إنّما هو فيما إذا كان

ص: 128


1- أجود التقريرات 1 : 50.
2- كفاية الاصول : 23.

المعنى الأخير غير مناسب للمعنى الحقيقي وكان مناسبا للمعنى المجازي فقط ، فحينئذ نحتاج إلى جعله مجازا عن المجاز ، وأمّا إذا كان المعنى الأخير مع كونه مناسبا للمعنى المجازي مناسبا أيضا للمعنى الحقيقي فلا حاجة إلى جعله مجازا عن المجاز بل نجعله مجازا عن المعنى الحقيقي ، غاية الأمر أنّه يكون مجازا ثانيا لا ينتقل إليه إلاّ مع القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الأول ، وقد أشار في الكفاية إلى ذلك بقوله : بمعنى أنّ أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء ، إلخ ، فإنّ الظاهر منه أنّ العلاقة موجودة بين المعاني اللغوية وبين كلا المعنيين لكنّها قد اعتبرت في أحدهما أوّلا.

إن قلت : إذا كان المعنى المجازي الأخير مناسبا للمعنى اللغوي وهو مجاز عنه كالمجاز الأوّل ، فلم يكون الانتقال بمجرّد وجود القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي إلى المجاز الأوّل ، ولا ينتقل إلى الثاني إلاّ مع وجود قرينة تدلّ على إرادته.

قلت : إنما يكون ذلك لكون المجاز الثاني تابعا للأوّل وإن كانت مجازيته عن المعنى الحقيقي. وبالجملة : أن كون المجاز الثاني تابعا للأول ومتفرعا عليه أوجب ذلك الانتقال ، وكون مجازيته عن المعنى الحقيقي يوجب عدم كونه من سبك المجاز عن مجاز ، ولا تنافي بين المطلبين.

ولكن لا يخفى أنّه إذا كان المجاز الثاني كالمجاز الأوّل مناسبا للمعنى الحقيقي ، فلا وجه لجعل أحدهما أوّلا والآخر ثانيا ، وإلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : وأنت خبير ... إلخ (1) ، مع أنّ مجرّد كون أحدهما أوّلا

ص: 129


1- كفاية الاصول : 23.

والآخر ثانيا لا يوجب الانتقال إلى الأوّل بمجرد وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي ، وإلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : وأنّ بناء الشارع ، إلخ (1).

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الصحيح لمّا كان هو المطلوب والمراد ، ففي مقام الاستعمال يكون هو المعتبر أوّلا ، فبعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي يحكم بكونه هو المراد ما لم يكن قرينة على خلافه. ولكن هذا إنّما يتمّ على القول بالصحيح فانّه هو مطلوب الشارع دون القول بالأعم.

ويمكن أن يدّعى أنّ المنشأ في كون أحد المجازين مجازا أوّلا والآخر ثانيا هو كون الأوّل أقرب إلى المعنى الحقيقي ، فالنزاع في الحقيقة يكون في أنّ أيّهما هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي والأنسب به كي ينتقل إليه بمجرد وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي. ولكن لا يخفى أنّ كلا من القائل بالصحيح والقائل بالأعم لا يمكنه إثبات القرب فيما يدعيه.

هذا حاصل ما يرد على التوجيه المذكور في الكفاية ، وهو الذي اختاره في تقريرات الشيخ قدس سره (2) وأجاب عما يلزم ذلك من سبك المجاز عن المجاز ، بأنه ليس من هذا القبيل ، بل غاية ما في ذلك أن المعنى المجازي الأول هل هو خصوص الصحيح ثم توسّع في تعميمه أو هو الأعم ثم توسع في تخصيصه ، كذا نقل عنه بعض أساتذتنا على ما في تقريراتي عنه.

ولكن لا يخفى أن هذا الجواب لا يدفع الاشكال المزبور ، حيث إنّ المجاز هو عين التوسع ، فاذا فرض أنّه وقع التوسع في المجاز فقد فرض

ص: 130


1- كفاية الاصول : 23.
2- مطارح الأنظار 1 : 33.

التجوز في المجاز وهو عبارة اخرى عن سبك المجاز عن المجاز. فالأولى في الجواب هو ما ذكرناه ، ولكن قد عرفت ما يتوجه عليه.

ثم لا يخفى أنه قد ذكر في التقريرات المذكورة على ما نقله بعض أساتذتنا وجها آخر ، ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس سره هنا راجع إليه بقرينة ما افيد بقوله : وبعبارة اخرى ، وحاصل هذا الوجه هو جعل النزاع فيما شاع في لسان الشارع واشتهر التجوز عنه بهذه الألفاظ في لسان المتشرعة حتى صارت تفيده بلا قرينة ، هل هو خصوص الصحيح أو الاعم ، وعليه فيمكن تنزيل العنوان عليه بأن يكون المراد من قولهم هل هذه الألفاظ موضوعة في لسان المتشرعة للصحيح أو الأعم ، وبذلك يستكشف ما يكون مشهورا في لسان الشارع ، حيث إنّ هذا الوضع عند المتشرعة ناش عن تلك الشهرة. كذا أفاده بعض اساتذتنا.

قلت : لكن يكون حينئذ هذا العنوان غير ملائم للقول بثبوت الحقيقة الشرعية كما لا يخفى ، اللّهم إلاّ أن يقال إنّهم أيضا يستكشفون الموضوع له في لسان الشارع بالموضوع له في لسان المتشرعة ، حيث إنّ هذه الحقيقة مناشئها ذلك الوضع الشرعي أو ذلك التجوز الشرعي.

ثم إنّه ربما اشكل على هذا التوجيه بمنع الملازمة ، إذ لا ملازمة بين كون المعنى موضوعا له في لسان المتشرعة وبين كونه هو المشهور في لسان الشارع ، لجواز حدوث الشهرة بعد الشارع إن لم تكن الشهرة في لسانه على خلاف الوضع عند المتشرعة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذه الحقيقة المتشرعية الناشئة عن كثرة المجاز المتشرعي الناشئ عن المجاز الشرعي الواقع في لسان الشارع لا بد أن تكون مطابقة لذلك المجاز الشرعي الواقع في لسانه ، وحينئذ ينحل

ص: 131

النزاع إلى أنّ المعنى الحقيقي المتشرعي هل خصوص الصحيح أو هو الأعم.

ثم إنّ هذه الطريقة إنّما تأتي لو كان استعمال الشارع ، أما لو كان من باب الاطلاق والتقييد فلا يمكن تأتّي الطريقة المذكورة ، لأن التقييد تصرف في متعلق الأمر ، فلا تكون الحقيقة المتشرعية إلاّ كاشفة عن متعلق الأمر وهو لا يتّصف بالفساد.

ثم إنّ بعض (1) من كتب على الكفاية قد زعم عدم الاحتياج إلى هذه التوجيهات ، لامكان كون الاتصاف بالصحيح والفاسد من توابع المعنى اللغوي ، ولم يكن المعنى الجديد زائدا على المعنى اللغوي إلاّ بأجزاء وشرائط.

قلت : هذا موقوف على اتصاف المعنى اللغوي بالصحة والفساد ، والظاهر عدمه ، فانّ الدعاء المطلق لا يتصف بكونه تاما وناقصا. على أنّ اتصاف الدعاء بذلك لا يستلزم أن تكون الصحة والفساد في المعنى الشرعي هي نفس ما في اللغوي ، لجواز أن يكون الشرعي صحيحا وفاسدا من جهة اخرى هي غير جهة تمامية الدعاء وعدم تماميته ، بل من جهة تمامية بقية الأجزاء وعدم تماميتها ، فان ما يكون فاسدا عند الشارع لا يلزمه أن يكون فاسدا لغة ، وكلامنا إنّما هو في الصحة والفساد عند الشارع. والحاصل أن الفساد الشرعي قد يكون من جهة فساد ما اشتمل عليه من الدعاء الذي هو المدار في اللغوي ، وقد يكون لأجل فساد بقية الأجزاء الأخر ، وكذلك الصحة ، فصحة الدعاء وفساده على تقدير تسليم اتصافه

ص: 132


1- [ لم نعثر عليه ].

بهما لا يغنيان عن الصحة والفساد الشرعيين ، فتأمل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ثمرة النزاع في مسألة الحقيقة الشرعية تختلف عنها في مسألة الصحيح والأعم ، فانّ ثمرة النزاع في الحقيقة الشرعية تتوقّف على تشخيص المجاز والحقيقة ليحمل اللفظ عند التجرد عن القرائن على المعنى الحقيقي ، وحينئذ فهل المعنى الحقيقي هو المعنى الأصلي أو هو المعنى الجديد. أما ثمرة النزاع في مسألة الصحيح والأعم فليست هي الحمل على المعنى الحقيقي عند التجرد عن القرائن ليتوقف على تشخيص المجاز والحقيقة ، بل هي إجمال الخطاب على القول بالصحيح وعدم إجماله على القول بالأعم ، حتى لو قلنا بالحقيقة الشرعية ، فانه لو قلنا بأن الموضوع له هو خصوص الصحيح لم نحتج في ترتيب ثمرة الصحيح عليه على كونه مجازا في الأعم ، وكذلك العكس ، لما هو واضح من أنّ هذه الثمرة لا تتوقف على أن يكون في البين معنى حقيقي وآخر مجازي ، بل أقصى ما في البين هو أن يقال إنّ المراد الاستعمالي سواء كان حقيقيا أو كان مجازيا ، إن كان هو خصوص الصحيح كان الخطاب مجملا ، وإن كان هو الأعم لم يكن الخطاب مجملا ، وصحّ التمسك به لو تمت شرائطه من كونه واردا في مقام البيان إلى آخر مقدمات الحكمة ، سواء كان ذلك الاستعمال حقيقيا أو كان مجازيا ، وكأنّ شيخنا قدس سره في عبارته الاولى ناظر إلى هذه الجهة ، أما عبارته الثانية اعني قوله : وبعبارة اخرى ... إلخ (1) فلعلّ النظر فيها إلى جهة اخرى وهي أنه :

ربما يقال : إنّا لا طريق لنا إلى تحصيل المراد الاستعمالي في كلام

ص: 133


1- أجود التقريرات 1 : 51.

الشارع ، وحينئذ فعلينا استكشاف مراده الاستعمالي من الحقيقة المتشرعية لكونها تابعة لما هو المراد الاستعمالي في كلام الشارع ، وحينئذ فعلينا أن ننظر في أنّ هذه الحقيقة المتشرعية هل هي خصوص الصحيح أو هي الأعم ، وإذا أثبتنا أحد هذين الوجهين استكشفنا أنه هو المراد الاستعمالي في كلام الشارع ، فان كان هو الأول كان الكلام الشرعي مجملا ، وان كان هو الثاني أمكننا التمسك باطلاقه ، ومن الواضح أنّ ذلك كله لا يتوقف على وجود مجاز للقول بالصحيح وللقول بالأعم.

لكن صاحب الكفاية قد أخذ ذلك ، أعني وجود المجاز لكل من القولين على عاتقه ، فالتزم بما التزم به ممّا لا يخرج عن سبك المجاز عن مجاز ، بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، وذلك قوله : إن النزاع وقع على هذا ( يعني القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية وأن الشارع لم يستعملها في المعاني الجديدة إلاّ مجازا ) في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى أنّ أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية ، وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر ... إلخ (1).

وقد عرفت ما في ذلك من لزوم سبك مجاز عن مجاز أو لزوم الابتدائية والأولية لأحدهما بلا موجب ، وقد عرفت أنّ صدر عبارته وهي قوله : « أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء » يلائم كون المقام من باب أقرب المجازات ، وذيلها وهو قوله « بتبعه » يلائم سبك مجاز

ص: 134


1- كفاية الاصول : 23.

عن مجاز.

والخلاصة : هي أنّا لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية ، وقلنا بأن الموضوع له هو خصوص الصحيح مثلا ، لا يلزمنا القول بأنه مجاز في الأعم كي نحتاج في طرد احتمال إرادته إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد إثبات أن المراد هو الصحيح نقول إنه يكون الدليل مجملا لا يمكن التمسك باطلاقه على نفي ما شك في مدخليته ، وهكذا الحال لو قلنا بأن الحقيقة الشرعية هي الأعم ، لا يلزمنا القول بأنّه مجاز في خصوص الصحيح كي نحتاج في طرد احتمال إرادته الصحيح إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد إثبات أن المراد هو المعنى الحقيقي أعني الأعم ، نقول إن الدليل يكون قابلا للتمسك باطلاقه على نفي ما شك في مدخليته.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنا بعد فرض قولنا بأحد الأمرين ، نعلم بأن الشارع قد استعملها مجازا في مقابله ، ويكون الحاصل هو أن الشارع قد استعملها في كل من الصحيح والأعم ، غايته أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وحينئذ نقول إنها لو وردت مجردة عن القرينة لا بد لنا من طرد احتمال الطرف المقابل إلى أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة ، ثم بعد ثبوت أن المراد هو المعنى الحقيقي نقول إنه مجمل إذا كنا قائلين بالوضع لخصوص الصحيح ، وأنه يمكن التمسك باطلاقه إذا كنا قائلين بالوضع للأعم ، هذا لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية.

ومنه يظهر لك الحال فيما لو قلنا بعدم الثبوت ، وأنّ الشارع استعملها في ذات الأركان مجازا ، كان الأمر فيه كما ذكرناه على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وذلك أن نقول : إنه قد ثبت أنّ الشارع قد استعملها مع القرينة في خصوص الصحيح تارة وفي الأعم اخرى ، ثم ورد منه استعمال لها في ذات

ص: 135

الأركان مجردة عن قرينة كونه صحيحا أو كونه هو الأعم ، فحينئذ لو كنا قائلين بخصوص الصحيح يلزمنا أوّلا إثبات أنه مجاز أول يحكم بارادته بمجرد القرينة الصارفة ، وهذه الطريقة أعني كونه مجازا أول بمنزلة أصالة الحقيقة تثبت لنا أنّ مراده المجازي هو خصوص الصحيح ، فنرتب عليه أثره وهو إجمال الخطاب. ولو كنا قائلين بالأعم لزمنا أيضا أوّلا إثبات أنه مجاز أول يحكم بارادته بمجرد القرينة الصارفة ، ثم بعد إثبات ذلك نرتّب عليه أثره وهو إمكان التمسك باطلاق الخطاب على نفي ما شك في مدخليته ، ولعلّ هذا التفصيل هو مراد صاحب الكفاية. لكن إثبات كون ما يدعيه هو مجاز أول من دون سبك مجاز عن مجاز في غاية الصعوبة ، ولعله لأجل ذلك عدل شيخنا قدس سره عن العبارة الاولى إلى العبارة الثانية أعني قوله : « وبعبارة اخرى » فنحن ننتقل من هذه الحقيقة المتشرعية إلى أنها هي ما استعمله الشارع فيه ، ولا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّ الشارع لم يستعملها إلاّ في هذه الحقيقة المتشرعية ، وإلاّ فمع العلم بأنّه استعملها في الموردين لا مجال للاستكشاف المذكور.

والخلاصة : هي أنه مع العلم بأن الشارع استعملها في الموردين لا تتم طريقة الكفاية ، لتوقفها على دعوى المجاز الأول ، كما لا تتم الطريقة الثانية التي أفادها شيخنا قدس سره بقوله : « وبعبارة اخرى ». نعم لو يكن لدينا إلاّ أنّ الشارع قد استعملها في ذات الأركان مجازا ، ولم يعلم أنه أراد الصحيح منها أو أراد الأعم ، كانت هذه الحقيقة المتشرعية كاشفة عن ذلك المستعمل فيه ، إمّا هو خصوص الصحيح أو هو الأعم ، وتمّت الطريقة الثانية لشيخنا قدس سره ولا مورد فيه لطريقة الكفاية.

نعم ، مع قطع النظر عن طريقة شيخنا قدس سره نقول : إنّ كلا ممّن يدّعي

ص: 136

الصحيح ومن يدّعي الأعم يحتاج في إثبات دعواه إلى إقامة الدليل عليها ، وهذا أمر آخر لا دخل له بامكان تأتّي النزاع. ولنضرب لذلك مثالا خارجيا ، وهو أن نقول قد علمنا أن الشارع قد استعمل هذه الألفاظ مائة مرة في خصوص الصحيح من هذه الماهيات ، كما أنا نعلم أنه استعملها مائة مرة اخرى في الأعم ، ثم عثرنا على استعمال واحد لم نعلم أنه أراد به خصوص الصحيح أو أراد به الأعم ، فهذه الصورة لا تاتي فيها طريقة شيخنا قدس سره أعني استكشاف المراد من ذلك الاستعمال الواحد من الحقيقة المتشرعية. نعم تأتي فيها طريقة الكفاية من دعوى الأولية ، لكنك قد عرفت منعها في المقام ، سواء كان المنشأ فيها هو الأقربية إلى المعاني الأصلية ، أو كان المنشأ فيها هو سبك مجاز عن مجاز ، أما إذا لم يكن لنا علم بحال تلك الاستعمالات أعني المائتين والواحد ، ولم نعلم إلاّ أنّه أراد بها المعاني الجديدة مجازا ، ولم نعلم أنها كلا للصحيح أو كلا للأعم أو هي مبعّضة ، كانت طريقة شيخنا قدس سره جارية فيها ، بل لعلّه يمكن إجراء طريقة الكفاية فيها ، بدعوى أن المتعيّن مثلا هو كون المراد في جميع تلك الاستعمالات هو الأعم ، أو كون المراد بها هو الصحيح ، بدعوى كون ذلك هو المجاز الأول ، لكنك قد عرفت المنع من هذه الأولية.

ولا يخفى أنّه لو تمت طريقة صاحب الكفاية في إجراء النزاع بين الصحيح والأعم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، يكون جريان هذا النزاع على تقدير عدم الثبوت أوضح منه على تقدير الثبوت ، إذ على تقدير عدم الثبوت يكون مدرك القول بالصحيح ومدرك القول بالأعم هو دعوى أولية المجاز ، وهي لو صحت يكون الأمر فيها سهلا ، بخلاف ما لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فانه يصعب إثبات القول بأنّه خصوص

ص: 137

[ الصحيح ](1) أو أنّه هو الأعم ، إذ لا مدرك للقولين حينئذ إلاّ دعوى التبادر وصحة السلب ، وهما في غاية الصعوبة كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى (2) في ذكر أدلة الطرفين.

نعم ، ربما يسهل الأمر على طريقة شيخنا قدس سره (3) وهو استكشاف حال الحقيقة الشرعية بحال الحقيقة المتشرعية ، إلاّ إذا كانت الحال في الحقيقة المتشرعية موقع شك من حيث الصحيح والأعم ، فنحتاج حينئذ إلى دعوى التبادر في نفس الحقيقة المتشرعية. هذا كله على طريقة التجوّز أو على ثبوت الحقيقة الشرعية.

أما على طريقة الاطلاق والتقييد ( وهي المنسوبة إلى الباقلاني ) (4) فالظاهر أنّ طريقة الكفاية غير نافعة فيها ، ولأجل ذلك صوّر تأتّي النزاع على هذا القول بصورة اخرى. والظاهر عدم تأتيها على طريقة شيخنا قدس سره فإنّا لو رجعنا إلى حقيقتنا المتشرعية ووجدنا لفظ الصلاة في عرفنا حقيقة في الصحيح من ذات الأركان ، وإن أمكننا استكشاف أن الشارع استعملها في الدعاء وقيّده بجميع الأجزاء والشرائط ، إلاّ أنّه لا يبقى لنا شيء نشك في قيديته كي نقول إنه بناء على الصحيح لا يكون لفظ الشارع مطلقا وحاكما بنفيه. ثم إنّا لو وجدنا لفظ الصلاة في عرفنا حقيقة في الأعم ، لم يمكننا أن نستكشف أن الشارع استعملها في الدعاء وقيّده ببعض القيود دون بعض.

ص: 138


1- [ لا يوجد هذا في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].
2- [ لم يذكر قدس سره أدلة الطرفين ، نعم اشير إلى بعضها إجمالا في أجود التقريرات 1 : 165 ].
3- لاحظ ما تقدم في صفحة : 131.
4- التقريب والإرشاد 1 : 395.

وعلى أيّ حال ، أن نفس هذا القول وهو أن الشارع لم يستعملها إلاّ في الدعاء وقيّده بقيود وأجزاء ، هو موافق للقول بالأعم في النتيجة ، وهي صحة التمسك باطلاق كلام الشارع عند الشك في اعتبار قيد أو جزء ، فلا معنى للقول بأنه بناء عليه يمكن تأتّي النزاع في الصحيح والأعم ، وتوجيهه بامكان النزاع في القرينة المضبوطة التي لا يمكن رفع اليد عنها إلاّ بقرينة اخرى ، وأنّ مفاد تلك القرينة هو الصحيح الجامع أو أنّ مفادها هو الأعم كما في الكفاية ، ممّا لم يتضح وجهه ، فانّ القرينة المضبوطة هي القرينة العامة مثل وقوع الأمر عقيب الحظر ، ومن الواضح أن ذلك إنما يتأتّى في المجازات دون ما نحن فيه ممّا يكون اللفظ مستعملا في أصل معناه وقد قيّد بقيود وقد شك في اعتبار قيد آخر ، إذ لا يتصور حينئذ صحيح وأعم ، بل كل دليل اشتمل على تقييد ينبغي لنا الأخذ به وننفي الزائد بالبراءة ، وحينئذ يكون الصحيح هو الواجد لذلك القيد الذي دلّ الدليل على التقييد به ، ثم لو جاء دليل آخر بقيد آخر فوق ذلك القيد ، ضممناه إليه وكان الصحيح هو الواجد لهما. وهكذا في كل دليل يثبت لنا قيدا من القيود ، وحينئذ فهذا القول إن شئت فسمّه قولا بالصحيح لهذه الجهة التي ذكرناها ، وإن شئت فسمّه قولا بالأعم نظرا إلى إمكان التمسّك بالاطلاق في نفي قيدية المشكوك ، هذا.

ولكن الأولى في توجيه النزاع هو ما أفاده الشيخ قدس سره في أول تحرير المسألة (1) وتبعه عليه شيخنا قدس سره (2) في صدر عبارته وحاصل ذلك : هو أن الشارع قد استعمل هذه الألفاظ في هذه الماهيات ، سواء كان بنحو الحقيقة

ص: 139


1- مطارح الأنظار 1 : 32.
2- أجود التقريرات 1 : 50.

أو كان بنحو التجوّز عن المعاني الأصلية ، فهل المراد من ذلك الذي استعملها الشارع فيه هو خصوص الصحيح أو هو الأعم. وأما كونه مجازا أول كما هي طريقة الكفاية ، أو كونه مستكشفا من الحقيقة المتشرعية كما هي طريقة شيخنا قدس سره فلا دخل له في أصل النزاع ، وإنما هو تصحيح لدعوى من يدعي الصحيح ودعوى من يدعي الأعم ، ولا دخل لها في تصوير النزاع ، وإنّما تصلح لبيان الوجه في كل من القولين ، وليس المقام مقام الاستدلال للقولين ، بل المقام هو مقام بيان نفس القولين ، وعلى كل حال أنّ هذين الوجهين موجودان في التقريرات (1) عن الشيخ مضافين إلى الوجه الأول ، فراجع.

قوله في الكفاية : منها أنه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال ... إلخ (2).

لا يخفى أن القول بالثبوت لم يكن بنحو الايجاب الكلي ، وإنما هو بنحو الايجاب الجزئي ، فحق العبارة أن يقال : لا شبهة في تأتّي الخلاف فيما ثبت كونه من الحقيقة الشرعية ، وأما على القول بعدم الثبوت على نحو السلب الكلي فقد عرفت أن القول بذلك يكون على وجوه ، الأول : دعوى كون هذه الألفاظ حقائق في هذه المعاني قبل شريعتنا المقدسة. الثاني : دعوى كون استعمال الشارع لها مجازا. الثالث : دعوى أنّ الشارع المقدس لم يستعملها إلاّ في المعنى اللغوي أعني الدعاء لكن بزيادة قيود وأجزاء.

ولا يخفى أنه على الأول من هذه الوجوه يجري النزاع في الصحيح

ص: 140


1- مطارح الأنظار 1 : 32 - 34.
2- كفاية الاصول : 23.

والاعم بلا شبهة كما لو قلنا بالحقيقة الشرعية ، نعم إنما يتأتّى الاشكال على القول الثاني. أما القول الثالث فالاشكال فيه أقوى ، وقد عرفت اندفاع الاشكال على القول الثاني وعدم اندفاعه على القول الثالث ، فتأمل.

قوله في الكفاية : في أنّ قضية القرينة المضبوطة ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ مثال القرينة العامة المضبوطة هي كون الأمر عقيب الحظر أو في مقام توهمه ، يكون قرينة عامة على عدم إرادة الالزام بالفعل ، وبعد ثبوت هذه القرينة العامة يقال هل مقتضاها الحكم بارادة تساوي الطرفين على وجه لا يحمل على رجحان الترك وهو الكراهة إلاّ بقرينة اخرى ، أو أنّ مقتضاها هو مجرد عدم إرادة الالزام بالفعل الشامل لتساوي الطرفين ، أو رجحان الترك أو رجحان الفعل إلاّ بقرينة اخرى ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ لنا قرينة عامة دالة على عدم إرادة الدعاء الخالص وأنّه قد قيّده الشارع بقيود ، فهل مقتضى تلك القرينة العامة الدالة على التقييد هو التقييد بجميع الأجزاء والشرائط ، ولا يحمل على مجرد التقييد في الجملة إلاّ بقرينة اخرى وهو القول بالصحيح ، أو أنّ مقتضى تلك القرينة العامة هو مجرد التقييد في الجملة ، ولا يحمل على خصوص الجامع إلاّ بقرينة اخرى وهو القول بالأعم.

لكنك قد عرفت أن القرينة العامة إنّما تتصور في المجازات ، أما بعد أن فرضنا أنّ لفظ الصلاة لم يستعمل إلاّ في الدعاء ، وأن الشارع زاد عليه أجزاء وقيودا فلا حاجة فيه إلى هذا التطويل ، بل الذي ينبغي هو الأخذ باطلاق الدعاء في كل قيد مشكوك ، ولو فرضنا بعيدا أنه أمر بالدعاء وقال

ص: 141


1- كفاية الاصول : 24.

إنّه مقيد بقيود في الجملة ، كان اللفظ مجملا ، سواء كان الدال على التقييد الاجمالي متصلا أو منفصلا ، ولا دخل في ذلك للقول بالصحيح ولا للقول بالأعم.

وإن شئت فقل : إن مقام الصحيح والأعم إنّما هو مقام التسمية أو مقام الاستعمال ، فانّه يقع الكلام في ان الموضوع له أو المستعمل فيه هل هو الصحيح أو هو الأعم. وهذان المقامان سابقان على رتبة الأمر والمأمور به. وهذه القيود التي زادها الشارع في الدعاء بناء على رأي الباقلاني (1) إنما هي في مقام الأمر والمأمور به ، بمعنى أن الشارع عند تعلق أمره بالدعاء زاد فيه قيودا وأجزاء ، وأين ذلك من مقام التسمية أو مقام المستعمل فيه.

قوله : فمعنى الصحة واحد وهي التمامية التي يعبّر عنها بالفارسية ب- « درستى » (2).

لا يخفى أنّه قدس سره يقول بأنّ الجزئية والشرطية من الامور الانتزاعية لعدم تأصلها بالجعل ، وانّما المجعول للشارع ابتداء هو الأمر المتعلق بالمركب المشتمل على الشرائط الخاصة ، وعن ذلك الأمر ينتزع الجزئية والشرطية لكل واحد من أجزاء ذلك المركب وشرائطه ، وبناء على ذلك لا يكون جزئية الجزء وشرطية الشرط إلاّ متأخرة عن تعلق الأمر بالمركب ، وهو أعني تعلق الأمر بالمركب متأخر عن مقام التسمية. فهذه التمامية التي هي عبارة عن تمامية أجزاء المأمور به وشرائطه لا تكون إلاّ متأخرة عن مقام تعلق الأمر ، فكيف يعقل القول بأنّ الصلاة اسم للتام الذي هو الجامع لتمام أجزاء المأمور به وشرائطه ، وحينئذ لا يكون القول بالوضع للصحيح بمعنى

ص: 142


1- التقريب والإرشاد 1 : 395.
2- أجود التقريرات 1 : 51.

التام معقولا فضلا عن عدم وجود الجامع. ولو كان معقولا من هذه الناحية أعني ناحية أخذ تمام أجزاء المأمور به في المسمى لم يتوجه عليه إشكال الجامع ، لأن كل واحد من المراتب المختلفة يكون مأمورا به ولو في ذلك الحال من الاضطرار أو النسيان ، والجامع هو التام الجامع للأجزاء والشرائط المأخوذة في ذلك الأمر.

ثم لا يخفى أنّ هذا الاشكال أعني إشكال عدم معقولية أخذ ما ينتزع عن الأمر في المسمى الذي هو متعلق الأمر لا يختصّ بالقول بالصحيح ، بل هو متأتّ على القول بالأعم أيضا ، لأنه عبارة عن دعوى عدم كون الموضوع له هو خصوص التام من تلك الأجزاء ، بل إنّ الموضوع له هو الأعم من التام والناقص. وعلى كل حال ، يكون الموضوع له هو الأجزاء التي لا تتحقق جزئيّتها إلاّ بعد تعلق الأمر ، سواء قلنا إن الموضوع له هو التام كما هو معنى القول بالصحيح ، أو الأعم منه ومن الناقص كما هو معنى القول بالأعم.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ المتأخر عن الأمر إنما هو جزئية أجزاء المأمور به لا أجزاء المسمى ، بمعنى أنّ جزئية جزء المسمى هي غير جزئية جزء المأمور به ، والمتأخر في الرتبة عن الأمر إنما هو الثاني ، والسابق في الرتبة على الأمر إنما هو الأول ، ومقام التسمية إنما هو الأول دون الثاني ، فتأمل.

والحاصل : أنّ جزء المسمى بلفظ الصلاة أو شرطه مثلا إنما هو باعتبار كونه دخيلا في الملاك الباعث على الأمر بها ، وان كان حصول ذلك الملاك متوقفا على الأمر بها والاتيان بها بداعيه ، ومن الواضح أن كون الجزء أو الشرط دخيلا في الملاك الباعث على الأمر لا يكون إلاّ سابقا في الرتبة

ص: 143

على الأمر ، وهذا أعني كون الجزء أو الشرط دخيلا في الملاك المذكور هو مقام التسمية ، ثم بعد الفراغ عن ذلك المقام وبعد تعلق الأمر بذلك المركب ينتزع عن ذلك الأمر جزئية الجزء للمأمور به ، فجزئية الجزء بمعنى دخله في ملاك الأمر لا تكون إلاّ واقعية منتزعة من مدخليته في الملاك ، وجزئيته للمأمور به لا تكون إلاّ شرعية منتزعة من تعلق الأمر بالمركب منه ومن غيره ، وحيث إنّ الامور الانتزاعية لا واقعية لها إلاّ بمنشإ انتزاعها ، فلا واقعية لهذه الجزئية ، ولا تحقق لها إلاّ باعتبار تحقق منشأ انتزاعها وهو تعلق الأمر بذلك الجزء في ضمن تعلقه بالكل ، أما الجزئية السابقة في الرتبة على تعلق الأمر التي قلنا إنها عبارة عن مدخلية ذلك الجزء في الملاك الباعث على الأمر ، فهي وان كانت واقعية بمعنى كون ذلك الجزء جزءا من مجموع ما يترتب عليه الملاك ، إلاّ أنها ليست بشرعية بل هي واقعية تكوينية ناشئة عن المدخلية في الملاك ، بل لو لم نقل بالملاك وبالمدخلية كانت تلك الجزئية سابقة في الرتبة على الأمر ، لأن مرتبة ما هو متعلق الأمر سابقة في الرتبة على نفس الأمر ، فلا بد أن يكون اعتبار الجزئية والتركيب سابقا على تعلق الأمر. نعم إنّ اتصاف ذلك الجزء من ذلك المركب الاعتباري بكونه جزءا من المأمور به يكون متأخرا عن تعلق الأمر بذلك المركب الاعتباري ، فيصح لك أن تقول إن جزئية الركوع مثلا لذلك المركب الاعتباري سابقة في الرتبة على تعلق الأمر ، وإن كانت جزئيته لما هو المأمور به متأخرة عن الأمر ، والاولى غير منتزعة من الأمر بخلاف الثانية.

وبالجملة : أن جزء الملاحظ حال تعلق الأمر لا يكون منتزعا من الأمر ليكون متأخرا في الرتبة عنه ، بل هو سابق في الرتبة على تعلق الأمر أو مقارن له في الرتبة ، ولكن الجزئية المنتزعة من تعلق الأمر تكون متأخرة في

ص: 144

الرتبة عن تعلق الأمر ، وهذه الرتبة أعني رتبة تعلق الأمر هي التي تجري فيها البراءة عند الشك في الجزئية ، لا الجزئية السابقة على الأمر أو المقارنة له ولا المتأخرة عنه ، وإن كان لازم نفي الأمر بذلك الجزء هو نفي الجزئية في كلا الرتبتين أعني السابقة على الأمر واللاحقة له ، فتأمل.

قوله : الثاني أن يكون الجامع هو الذي يترتب عليه النهي عن الفحشاء الذي هو علة التشريع وغرض من المأمور به ، فان وحدة الغرض تكشف عن وحدة المؤثر ... إلخ (1).

الظاهر أنّ هذا الوجه وكذا ما بعده راجع إلى ما في الكفاية من قوله : ولا إشكال في وجوده ( يعني الجامع ) بين الأفراد الصحيحة ، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره ، فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع ، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما ... إلخ (2).

والظاهر من الكفاية هو أن الجامع المسمى بلفظ الصلاة هو المؤثر الذي تترتب عليه تلك الآثار لا الآثار نفسها ، ولا العنوان المشتق منها كي يتوجه عليه الاشكالات التي أفادها شيخنا قدس سره بل إنّ عبارته الأخيرة القائلة : بأنّ الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات ، متحد معها نحو اتحاد ، وفي مثله تجري البراءة ، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب ... إلخ (3) صريحة في أنّ الجامع المسمى بلفظ الصلاة ليس هو تلك

ص: 145


1- أجود التقريرات 1 : 56.
2- كفاية الاصول : 24.
3- كفاية الاصول : 25.

الآثار أعني النهي عن الفحشاء ، بل الجامع إنما هو المؤثر لا بقيد كونه مؤثرا وانما اخذ المؤثر معرّفا له ، فالجامع المأمور به المسمى بلفظ الصلاة هو ذات المؤثر ، وهو وإن كان بسيطا إلاّ أنه لمّا كان عنوانا لتلك المركبات ، وكان متحدا معها اتحاد الكلي ومصاديقه والطبيعي وأفراده ، كان الأمر المتعلق به أمرا بتلك المركبات وفي مثله تجري البراءة ، نعم لو كان المسمى والمأمور به هو تلك الآثار ، أو كان هو المؤثر بقيد كونه مؤثرا لم يصح إجراء البراءة عند الشك في تحققه ، وذلك واضح كما شرحناه فيما علقناه على الكفاية فراجع.

والحاصل : أنّه لا ريب في أنّ في البين ماهيات مخترعة ، وإن وقع الكلام في أنّ هذه الألفاظ قد وضعها لها صاحب شريعتنا صلى اللّه عليه وآله فتكون من الحقائق الشرعية ، أو أنها موضوعة لها قبله فتكون من الحقائق اللغوية ، أو أنها لم توضع لها لا في لسانه صلى اللّه عليه وآله ولا فيما قبله وإنما استعملها هو صلى اللّه عليه وآله في تلك الماهيات مجازا. فانّ هذا الخلاف إنما هو في دلالة اللفظ على تلك الماهية ، فهو لا يضر بما ذكرناه من كونها ماهية من الماهيات غايته أنها من الماهيات الاعتبارية. كما أنه لا ريب أيضا في انقسام تلك الماهيات إلى ما هو الصحيح والفاسد ، وانما وقع الكلام في أن الموضوع له اللفظ بناء على الحقيقة الشرعية أو اللغوية ، أو المستعمل فيه اللفظ بناء على عدم ذلك ، هل هو الشامل لكل من الصحيح والفاسد أو أنه مختص بخصوص الصحيح.

وعلى كل حال ، هناك معنى وضع اللفظ له أو استعمل فيه ، وذلك المعنى لو كان له لفظ آخر يؤديه ويحكي عنه غير لفظ الصلاة لعرفناه به ، كما نقول : الغضنفر أسد ، لكن هذا المعنى سواء كان هو خصوص الصحيح

ص: 146

من تلك الماهية أو كان هو الأعم من الصحيح والفاسد ليس له لفظ آخر فاذا سألنا السائل عنه بأنه ما هو ، لزمنا في الجواب عنه تعريفه بآثاره. فبناء على القول بالصحيح نقول إنه هو المؤثر في النهي عن الفحشاء مثلا كما هو الشأن في كل ماهية ليس لها من الألفاظ ما هو موضوع لها إلاّ لفظ واحد ، فانا إذا أردنا أن نبيّن ما وضع له ذلك اللفظ لا مندوحة لنا إلاّ بأن نبيّنه بآثاره ولوازمه.

وإن شئت فقل : إنّ الجامع ليس هو إلاّ معنى الصلاة ، وأنّ الموضوع له ذلك اللفظ ليس هو إلاّ ذلك المعنى ، لكن لو سألنا سائل عن حقيقة ذلك المعنى لم يكن لنا مندوحة إلاّ أن نعرّفه بآثاره.

ومن ذلك كله تعرف الجواب عما أفاده شيخنا قدس سره (1) من الاشكال على ما في الكفاية ، بأنّ الجامع لا بد أن يكون قريبا عرفيا يعرفه العرف ، فلا يصح أن يكون ملاكيا.

وبيان الجواب : هو ما عرفت من وجود الجامع العرفي القريب وهو معنى الصلاة ، غايته أنّ ذلك المعنى ليس له لفظ آخر غير لفظ الصلاة ، فاذا سألنا عن حقيقته نعرّفه للسائل بآثاره ولوازمه كما هو الشأن في كل لفظ وضع لماهية خاصة ولم يكن لتلك الماهية لفظ آخر يدل عليها ، فانّ تلك الماهية التي وضع لها ذلك اللفظ تكون هي الجامعة بين أفراده ، ولو سألنا سائل عن تلك الماهية بأنها ما هي ، لم يكن لنا بد من الجواب عن هذا السؤال بتعريفها بآثارها ولوازمها.

نعم ، يبقى السؤال عن منشأ هذه الملازمة بين هذه الأفعال وبين

ص: 147


1- أجود التقريرات 1 : 55.

النهي عن الفحشاء ، فان كان هي العلية التامة كانت من الأسباب التوليدية وإلاّ كانت من المعدّات ، فلا ملازمة حينئذ ، اللّهم إلاّ أن يدّعى أنّ ترتب ذلك عليها نظير ترتب الثواب بوعد من صادق الوعد. وعلى كل حال أنّ ذلك اشكال آخر ، وحاصله أنه لا تلازم بين الصلاة والنهي إلاّ اقتضائيا ، فيخرج عن كونه من آثارها.

وفي تقريرات درس بعض أعاظم العصر ( سلمه اللّه تعالى ) (1) بعد نقله عبارة الكفاية في تصوير الجامع على القول بالصحيح ما هذا لفظه : أقول : أما تصوير الجامع الذاتي بين أفراد الصلاة مثلا فغير معقول ، فإنّ الصلاة ليست من الحقائق الخارجية ، بل هي عنوان اعتباري ينتزع عن امور متباينة كل واحد منها من نوع خاص وداخل تحت مقولة خاصة ، وليس صدق عنوان الصلاة على هذه الامور المتباينة صدقا ذاتيا بحيث تكون ماهية هذه المتكثرات عبارة عن الحيثية الصلاتية.

ثم إنّه تختلف أجزاؤها وشرائطها باختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والصحة والسقم والاختيار والاضطرار ونحو ذلك ، وعلى هذا فلا يعقل تصوير جامع ذاتي بين أجزائها في مرتبة واحدة فكيف بين مراتبها المتفاوتة. وأما الجامع العرضي فتصويره معقول ، حيث إنّ جميع مراتب الصلاة مثلا بما لها من الاختلاف في الأجزاء والشرائط تشترك في كونها نحو توجه خاص وتخشّع مخصوص من العبد لساحة مولاه ، يوجد هذا التوجه الخاص بايجاد أول جزء منها ويبقى إلى أن تتم ، فيكون هذا التوجه بمنزلة الصورة لتلك الأجزاء المتباينة بحسب الذات ، وتختلف كمالا

ص: 148


1- وهو السيد البروجردي سلّمه اللّه تعالى [ منه قدس سره ].

ونقصا باختلاف المراتب ... إلخ (1).

ولا يخفى أنّ ما تضمّنته الحاشية (2) راجع إلى هذا الاشكال أعني استحالة الجامع الذاتي. وعلى ذلك الاشكال جرى الآملي (3) في تقريره درس الاستاذ العراقي. وقد ذكره الاستاذ العراقي قدس سره في مقالته ، فراجعه من صفحة 39 إلى قوله : وحينئذ فلا قصور أيضا في تشبيه الصلاة بالكلمة والكلام من حيث الجامع الوجودي لا الذاتي الماهوي ... إلخ (4).

ولكن لا يخفى أنّ أجزاء الصلاة وان كانت مختلفة ، فبعضها من مقولة الوضع وبعضها من مقولة الفعل ، إلاّ أنّ الاسم المجعول لذلك المركب من الحقائق المختلفة لا يكون قدرا جامعا بين تلك الأجزاء ، ألا ترى أنّ السكنجبين ليس قدرا جامعا بين الخل والسكر.

وبالجملة : أنّ الجامع الذي نتطلبه ليس هو الجامع بين أجزائها كي يقال إن المقولات المختلفة لا جامع بينها لكون المقولات من الأجناس العالية ، بل الجامع الذي نتطلبه إنما هو بين هذه الصلاة وبين الصلاة الاخرى المخالفة لها في الجملة في الأجزاء والشرائط ، ومن الواضح أن المجموع المركب ليس من الماهيات الحقيقية ، بل هو من الماهيات الاعتبارية الناشئ عن لحاظ الوحدة الاعتبارية بين تلك الأجزاء ، وحينئذ نقول إنّ الاسم المجعول لتلك الماهية الاعتبارية أعني لفظ الصلاة مثلا هو الجامع الذاتي بين أفرادها ، أعني هذه الصلاة وتلك الصلاة بالنسبة إلى تمام

ص: 149


1- نهاية الاصول 1 : 47.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 56.
3- بدائع الأفكار : 116.
4- مقالات الاصول 1 : 142 - 143.

الأفراد المتوافقة في الأجزاء والشرائط أو المختلفة فيها في الجملة ، حتى ما كان منها مشتملا على الركعتين وما كان منها مشتملا على أربع ركعات ، ولا يكون إلاّ من قبيل الماهية لا بشرط الجامع بين الماهية بشرط لا والماهية بشرط شيء.

ثم لا يخفى أن المانع من الجامع الذاتي هو اختلاف أجزاء الصلاة بالمقولة فكيف يعقل أن يكون لها جامع عرضي ، فانّ المقولات هي الأجناس العالية للأعراض ، فكيف يعقل أن تكون معروضة لعارض آخر. بل إنّ فرض الجامع بين هذه الأجزاء - سواء كان ذاتيا أو كان عرضيا ، وسواء كانت تلك الأجزاء متحدة الهوية أو كانت مختلفة الهوية - يفسد المسألة من ناحية اخرى ، لأن مقتضى استناد الأثر إلى الجامع خروج الأجزاء عن كونها أجزاء في العلة على وجه يكون ترتب الأثر متوقفا على اجتماعها ، بل يوجب كون المسألة من باب اجتماع العلل التامة المتعددة على وجه يكون كل واحد منها كافيا في ترتب ذلك الأثر لو انفرد عن غيره ، وأين هذا مما نحن فيه ممّا تكون العلة مركبة من أجزاء متعددة على وجه يكون ترتب الأثر متوقفا على اجتماعها بحيث إنه لو انتفى جزء واحد منها ينتفي الأثر بالمرة.

والحاصل : أنّ لنا ثلاث مسائل ، الاولى : العلل التامة المتباينة المتبادلة بحسب الوجود.

الثانية : هي تلك المسألة لكن اتفق اجتماع تلك العلل التامة المتباينة. وفي هاتين المسألتين لا بد من وجود الجامع بين تلك العلل المتباينة بحسب الصورة ، ويكون المؤثر هو ذلك القدر الجامع وهو واحد لا تعدد فيه ، سواء كانت أفراده متبادلة الوجود أو اتفق اجتماعها. ولا بد أن

ص: 150

يكون ذلك القدر الجامع ذاتيا ، إذ لو كان عارضا خرجت ذوات تلك الأفراد عن العلية ، وكانت العلة هي ذلك العارض ، وهو خلاف الفرض من كون العلل هي ذوات تلك الأفراد ، غايته أن نسبة القدر الجامع إلى تلك العلل كنسبة الجنس إلى الأنواع التي هي تحته.

الثالثة : هي العلة المركبة من أجزاء متباينة ، سواء كانت متحدة الهوية أو كانت مختلفة الهوية ، وهي لا تتوقف على الجامع الذاتي أو العرضي ، بل إن فرض الجامع بينها يخرجها عن أجزاء العلة ويجعلها من قبيل أفراد العلة. وفي الحقيقة لا تكون العلة إلا تمام ذلك المركب من تلك الأجزاء ، أعني أن العلة هو اجتماع تلك الأجزاء كما هو الشأن في جميع الآثار المترتبة على المركبات ، سواء كانت الآثار شرعية أو كانت تكوينية ، وسواء كان التركب حقيقيا أو كان اعتباريا.

ثم بعد تحرير هذه الكلمات راجعت حاشية العلاّمة الاصفهاني قدس سره على الكفاية مراجعة سطحية إذ لم تكن حاضرة عندي ، والذي أظن أنّ المأخذ لهذه الاشكالات في هذه التحريرات واحد.

وحاصل الاشكال : أنّ الأفراد المركبة من مقولات متباينة لا يعقل أن يكون لها جامع ذاتي. وإن شئت فقل إن الأفراد المؤلفة من العوارض المختلفة لا يعقل الجامع الذاتي البسيط بينها ، لأن الأعراض بأسرها بسائط فلا جنس لها كي يكون هو الجامع الذاتي بين تلك الأفراد المؤلفة من تلك الأعراض المختلفة.

قلت : ولا يعقل أن يكون الجامع من الأعراض ، إذ لا أعراض للأعراض ، وحينئذ ينحصر الأمر في الجامع بكونه انتزاعيا لا حقيقيا سواء كان ذاتيا أو عرضيا.

ص: 151

قلت : ولا ريب حينئذ في أنّ العلة في ذلك الأثر الواحد ليس هو ذلك الجامع الانتزاعي ، إذ الانتزاعي لا واقعية له ، ولا بد حينئذ من الالتزام بكون العلة في ذلك الأثر الواحد هو نفس ذلك المركب ، ففي الأفراد من الصلاة المتحدة أجزاء وشرائط لا إشكال ، لأن العلة هو ذلك المركب الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، فكلما وجد ذلك المركب بتمامه ترتب عليه معلوله.

ويبقى الاشكال في الأفراد الصحيحة المتفاوتة في الأجزاء والشرائط ، ولا بد حينئذ من الالتزام بأنّ ذلك التفاوت مع فرض صحة الجميع يكون موجبا لاختلاف تلك الأفراد المتفاوتة بحسب المرتبة ، وحينئذ لا بد من الالتزام باختلاف المرتبة في الأثر على حذو تفاوت درجة الحرارة المعلولة للنار مثلا المفروض اختلافها في المرتبة من حيث القلة والكثرة.

والخلاصة : هي أنّ المركبات الخارجية ، سواء كانت من جواهر كما في المعاجين وكما في السكنجبين ، أو كانت مركبة من أعراض متحدة بحسب الهوية والمقولة ، أو كانت مختلفة بحسب المقولة ، يكون الكلام فيها في مقامين :

المقام الأوّل : مقام نفس الأجزاء ، وهذه لا يعقل أخذ الجامع فيها وإلاّ لخرجت عن كونها أجزاء وعادت أفرادا لذلك الجامع على وجه لو كان في البين أثر لم يكن متوقفا على اجتماعها.

المقام الثاني : مقام أفراد ذلك المركب مثل هذا المعجون وذلك المعجون الآخر ، وهذا السكنجبين وذلك السكنجبين الآخر ، وهذه الصلاة وتلك الصلاة الاخرى ، ولو كانتا متوافقتين من حيث الأجزاء والشرائط ، فنقول : إنّه لا يعقل وجود الجامع الذاتي البسيط بين تلك الأفراد ، لأنّه

ص: 152

منحصر بالجنس أو النوع لهاتيك الأفراد ، ولا بد أن يكون أوسع من تلك الأفراد ، إلاّ إذا كانت أجزاء ذلك المركب عبارة عن جميع ما هو مندرج تحت ذلك الجنس أو ذلك النوع ، وإلاّ لم يكن هو الجامع المطلوب في المقام ، لأنّه لا بد من كونه مانعا مضافا إلى كونه جامعا. هذا في الجامع البسيط الذاتي.

وأما الجامع العرضي ، فهو مضافا إلى عدم معقوليته في المركب من الأعراض وإنما يمكن في المركب من الجوهر ، لا يكون نفسه هو المؤثر ذلك الأثر المترتب على ذلك المركب ، بل إنّ المؤثر هو المركب نفسه لا الجامع العرضي المنطبق عليه. وهكذا الحال فيما لو فرضناه انتزاعيا.

وإذ قد انسد علينا باب الجامع البسيط كان المتعين هو الجامع المركب ، لكنه إنما يجدي في المركبات من الأجزاء المحدودة المعدودة مثل السكنجبين والمعاجين ، فان الجامع فيها ما يكون من أجزائه المحدودة المعدودة ، فيصح أن ينظر المخترع إلى ما ألّفه من تلك الأجزاء الخاصة ويجعل له اسما خاصا.

أما إذا لم تكن الأجزاء مضبوطة ومحدودة ، بل كانت متبادلة ومختلفة من حيث العدد والكيفية ، فلا يمكن الجامع المركب بين أفراده كما في الصلاة الصحيحة ليضع له لفظا مخصوصا حتى بطريق الاشارة إليه بما لو أمر به لكان مسقطا للأمر ، أو بعنوان المطلوب أو المؤثر الأثر الكذائي ، فانّ المشار إليه بهذه العناوين لمّا كان يختلف حاله من حيث الكيفية والقلة والكثرة ، لم يصح وضع اللفظ لكل واحد من تلك المركبات المختلفة إلاّ بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، وهو أيضا متوقف على وجود الجامع البسيط ليكون حاكيا عن تلك المركبات المختلفة ، هذا كله على

ص: 153

القول بالصحيح.

وأما على القول بالأعم فلا مانع منه ، بأن يكون الموضوع له هو ما يتألف من هذه الأجزاء ، قليلا كان أو كثيرا ، صحيحا كان أو فاسدا ، ويكون حال لفظ الصلاة بالنسبة إلى تلك الأجزاء التي تتألف منها حال لفظ القوم والرهط والركب والعشيرة والقبيلة ، بل حال الكلام أو الكلم بالنسبة إلى الأجزاء التي يتركب ويتألف من مجموعها لا من جميعها. وأما الآثار مثل النهي عن الفحشاء ومثل قربان كل تقي وعمود الدين ونحو ذلك ، فالظاهر أنها لا تترتب على المسمى ، وإنّما تترتب على ما يكون متعلقا للأمر ويكون مسقطا ومبرئا للذمة ومقرّبا منه تعالى بالاتيان بها بداعي [ الأمر ] وبنيّة القربة منه تعالى.

لا يقال : إنكم بعد إسقاطكم هذه الآثار عن المسمى وإلحاقها بما هو المأمور به ، أعني ما يؤتى به من تلك الأفعال بداعي الأمر والقربة منه تعالى فلا مانع لكم من الالتزام بوجود جامع بسيط انتزاعي بين هذه المركبات. نعم الجامع الذاتي لا يعقل في جميع المركبات الخارجية ، والعرضي لا يعقل في خصوص ما نحن فيه ممّا هو مركب من الأعراض ، أمّا الجامع الانتزاعي فلا مانع [ منه ].

لأنّا نقول : نعم إنّه لا مانع منه عقلا ولكن أين هو وما هو ، ولو تصورناه لم يكن هو الموضوع له لفظ الصلاة ، إذ لا ريب في أن الموضوع له لفظ الصلاة في عرفنا وفي عرف الشارع أيضا ليس إلاّ نفس تلك الأفعال دون ما يتخيل انتزاعه عنها.

ومن ذلك كله يظهر لك أنّ المتعين هو القول بالأعم ، وأنّه هو الصحيح من القولين دون القول بالصحيح ، فلا حاجة في الاستدلال عليه

ص: 154

بالتبادر ونحوه ، لما عرفت من عدم معقولية القول بالصحيح ، فيتعين القول [ بالأعم ](1) هذا لو كان في البين وضع أو استعمال في معنى جديد ، أما على قول الباقلاني (2) وما هو أعلى منه من كون الموضوع له والمستعمل فيه هو الخشوع والحضور ونحو ذلك فلا ريب أنه يسقط القولان معا.

بقي الكلام فيما أفاده في التقرير المشار إليه من كون الجامع العرضي هو التوجه الخاص ، فكأنه مبني على ما أفاده في مبحث الحقيقة الشرعية وأنّ الصلاة ليست إلاّ ذلك التوجه الخاص الذي كان عليه أهل الأديان السابقة بقوله : وكان كل واحد من الأديان الصحيحة والباطلة يوجد فيه عمل مخصوص وضع مثلا لأن يتوجه به العبد إلى مولاه ويتخضّع لديه بنحو يليق بساحة من يعتقده مولى له ، ولا محالة كان لهذا السنخ من العمل في كل لغة لفظ يخصه ، وكان في لغة العرب وعرفهم يسمى بالصلاة - إلى قوله : - فانظر إلى قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) (3) حيث سمى ما كان يصدر عنهم بقصد التوجه المخصوص إلى المولى صلاة ، غاية الأمر أنّه تعالى خطّأهم في إتيان ما يشبه اللّهو بعنوان الصلاة ... إلخ (4)

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة هي أوسع من طريقة الباقلاني ، لأنّه يخصّها بالدعاء ، وهذه الطريقة أوسع من ذلك ، لأن المدار فيها على الحضور والخشوع والخضوع ، وقد عرفت أنه بناء عليها لا يكون لنا حقيقة

ص: 155


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].
2- التقريب والإرشاد 1 : 395.
3- الأنفال 8 : 35.
4- نهاية الاصول 1 : 44.

شرعية بل ولا مجاز في ماهيات جديدة ، وحينئذ ينعدم النزاع في الصحيح والأعم ، بل يكون المستعمل فيه هو ذلك الدعاء أو ذلك الميل والانعطاف نحو الرب ، غايته بزيادة أجزاء وشرائط كما عرفت توضيح ذلك فيما مرّ عليك من المقدمات.

والحاصل : أنّ لازم ذلك هو أن تكون الصلاة عبارة عن نفس ذلك الخضوع والخشوع ، سواء كان ذلك بالتصفيق والصفير ، أو كان بالقيام والقراءة والذكر والسجود والركوع ، وعليه فلا تكون الصلاة مركبة من أجزاء وشرائط مختلفة في المقولة أو متحدة بحسبها ، وهذا خروج من الفرض فلاحظ وتدبر.

ثم إنّه أشكل على ما في الكفاية (1) بقوله : وأما ما في الكفاية من تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما ، فيرد عليه : أن المتبادر من لفظ الصلاة ليس هذا السنخ من المعاني والآثار ، كيف ولو كان لفظ الصلاة موضوعا لعنوان الناهي عن الفحشاء مثلا لصار قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) بمنزلة أن يقول : الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وهذا واضح الفساد (3).

وقد عرفت أنه ليس مراد صاحب الكفاية قدس سره هو أخذ هذه العناوين والآثار في الموضوع له ، بل هي معرّفات لما هو الموضوع أو المستعمل على ما عرفت توضيحه ، وحينئذ لا يلزمه كون الصلاة مرادفة للنهي عن

ص: 156


1- كفاية الاصول : 24.
2- العنكبوت 29 : 45.
3- نهاية الاصول 1 : 48.

الفحشاء أو الناهي عنها. ولو سلّمنا أن صاحب الكفاية يدّعي الترادف فلا يرد عليه الاشكال المزبور ، لأنّ مفاد الآية الشريفة حينئذ بمنزلة قولنا إنّ الأسد غضنفر ، فتأمل.

قوله في الحاشية : فالمستفاد من الروايات الكثيرة ... إلخ (1).

يمكن القول بأنّ ما دل على كون افتتاحها التكبير وختامها التسليم (2) مسوق لبيان الصلاة المأمور بها لا لبيان ما هو المسمى ، وكذلك قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3). وهكذا حال الركوع والسجود.

قوله : ومن هنا لو كبّر - إلى قوله : - لصح صلاته ... إلخ (4).

كأنّه ناظر إلى الجامع على الصحيح ، والمفروض هو تصوير الجامع على الأعم.

قوله : ثم إنه لا استحالة - إلى قوله : - إذا كان ما أخذ مقوّما للمركب مأخوذا فيه لا بشرط ... إلخ (5).

مقتضى أخذه لا بشرط في مقام التسمية ، أنّ وجود غيره وعدم وجوده أجنبي عن التسمية ، لا أنّه على تقدير وجوده يكون دخيلا في المسمى ، لأن معنى كون الأركان لا بشرط هي المسمى هو أنّه لو انضم إليها الأجزاء الأخر لا يكون مخلا بالتسمية بالنسبة إلى الأركان. ومحصّل كون الأركان هي المسمى لا بشرط ، أنّ الأركان التي وضعت لها لفظ الصلاة غير مقيدة بوجود باقي الأجزاء ولا بعدمها ، فلا يشترط في كون الأركان مسماة

ص: 157


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 60.
2- وسائل الشيعة 6 : 415 / أبواب التسليم ب 1 ح 1 ، 2 وغيرهما.
3- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1 وغيره.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 60.
5- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 60 - 61.

بالصلاة وجود هذه الأجزاء و، فاللابشرط بشرط في قبال أخذها بالنسبة إلى باقي الأجزاء بشرط شيء أو أخذها بالنسبة إليها بشرط لا ، فكيف يعقل حينئذ أن تكون الأجزاء عند وجودها دخيلا في المسمى ، بل أقصى ما في البين هو أنّ وجودها وكذلك عدمها لا يخل في تحقق المسمى.

ومن ذلك يتّضح لك الحال في لفظ الدار لو قلنا بأنها موضوعة لما تركّب من الساحة والغرفة والحيطان ، فانّه بناء على ذلك لا يكون وجود السرداب فيها لو اتفق وجوده فيها دخيلا بالمسمى ، بل لا يكون إلاّ أجنبيا ، غايته أنّ وجوده لا يخل بتحقق مسمى الدار ، كما أنّ عدمه لا يخل بذلك.

وعلى كل حال ، أنّ هذا التوجيه للجامع على القول بالأعم ممّا لا يرضى به القائل بالأعم ، لأنّه لو اختل أحد هذه الامور لا يكون اختلالها مضرا بالتسمية عند الأعمي ، نعم لو تم هذا الوجه لكان ذلك الجامع أوسع من القول بالصحيح وأضيق منه على القول بالأعم ، وهكذا الحال في بقية الجوامع ، فلاحظ وتدبر.

قوله : والقول بأنّ الموضوع له هو الأركان بحسب الجعل الأوّلي والبقية أبدال لها فاسد ، إذ الالتزام بالبدلية إنما يمكن في مقام الإجزاء كما على الصحيح لا في المسمى ... إلخ (1).

يمكن الجواب من قبل المحقق (2) بأنّ مقام التسمية لا بد فيه من جهة لاحظها المسمي الذي هو الواضع من الدخل في المصلحة ونحو ذلك من الأغراض المترتبة على ذلك الترتيب وهاتيك التسمية ، ومن الممكن أن

ص: 158


1- أجود التقريرات 1 : 61.
2- [ أي صاحب القوانين قدس سره حيث ذهب إلى كون الموضوع له هو الأركان ، راجع قوانين الاصول 1 : 43 - 44 ، 60 ].

تكون مراتب الركوع دخيلة في حصول ذلك الغرض ، بأن يكون الأصل في الركوع هو الأصل في حصول ذلك الغرض ، لكنه لو تعذر يقوم مقامه غيره في حصول ذلك الغرض ويكون حال التسمية حال الأمر.

قوله : وأما الدعوى الثانية ، فان التزم قدس سره بأنّ بقية الأجزاء خارجة دائما فهو ينافي الوضع للأعم ، فان المفروض صدقها على الصحيحة أيضا ... إلخ (1).

يمكن الجواب من قبل المحقّق باختيار هذا الشق الأول ، ولا يرد عليه صدقها على الصحيح بتمام أجزائه ، بل للمحقق أن يلتزم بأنّ المدار في الصدق على الأركان ، وأنّ انضمام التشهد مثلا إليها لا يدخله في المسمى بل يكون من المقارنات الاتفاقية التي لا يكون وجودها دخيلا ولا عدمها معتبرا ، لما عرفت من أنّ الأركان مأخوذة بالقياس إلى باقي الأجزاء لا بشرط ، في قبال أخذها بالقياس إليها بشرط شيء أو بشرط لا كما شرحنا فيما علقناه على الحاشية للمقرر.

نعم ، الظاهر أنه يرد على المحقق قدس سره ما أفاده في الكفاية (2) من الايراد على كون الجامع هو الأركان ، بأنّ التسمية عند القائلين بالأعم لا تدور مدار الأركان ، فانّ الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء الفاقدة لبعض الأركان يصدق عليها الصلاة عند الأعمي ، كما أنها لو كانت فاقدة لجميع الأجزاء ما عدا الأركان لا يصدق عليها الصلاة عند الأعمّي ، ومقتضى كون الجامع هو الأركان هو عدم صدق الصلاة على الأول وصدقها على الثاني.

ثم لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره أورد على المحقق قدس سره ثانيا بغير ما

ص: 159


1- أجود التقريرات 1 : 61.
2- كفاية الاصول : 25.

أورده عليه الاستاذ قدس سره لكنه من سنخه ، وذلك هو لزوم التجوز في الاستعمال بالصحيح لكونه من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء الذي هو الأركان في الكل الذي هو الأركان مع باقي الأجزاء.

ويمكن الجواب عنه : بنظير ما أجبنا به الإيراد الثاني لشيخنا قدس سره ، لامكان القول بأنّ الصلاة بعد فرض كون معناها هو الأركان لا يستعمل إلاّ في الأركان نفسها ، وإن قارنها باقي الأجزاء ، فانّها أعني باقي الأجزاء لا تكون داخلة في المستعمل فيه كما لا تكون داخلة في الموضوع له.

ثم إنه أعني صاحب الكفاية (1) ذكر الجامع الثاني على القول بالأعم وهو معظم الاجزاء التي يدور عليها التسمية ، فقد جعل الأمرين أعني المعظم والذي يدور عليه التسمية أمرا واحدا ، ولكن شيخنا قدس سره جعلهما أمرين ، وإن قال في الأخير بامكان رجوعه إلى الأول ، وملخص ما أورده صاحب الكفاية على هذا الجامع أمور ثلاثة :

الأول : لزوم المجازية لو استعمل اللفظ في الصحيح الجامع لجميع الأجزاء ، المعظم منها وغيره.

الثاني : لزوم التبادل بمعنى كون مثل التشهد داخلا في المسمى لو وجد مع الباقي وخارجا عنه لو كان مفقودا.

الثالث : لزوم التردد في المعظم عند الاستعمال في الصحيح الجامع لجميع الأجزاء.

وهذه الايرادات مبنية على أنّ المراد بالمعظم هو المعظم من الأجزاء من هذه الصلاة ، فان كل صلاة لها معظم وغير معظم. أما الايراد الأول

ص: 160


1- كفاية الاصول : 26.

والايراد الثاني ، فقد عرفت الجواب عنهما. وأما الايراد الثالث ، فقد تخلص منه شيخنا بجعل المعظم من قبيل الكلي في المعيّن نظير الصاع من الصبرة ، ونظّر ذلك بالكلام المؤلّف من حروف الهجاء. والأولى تنظيره بالكلم ، فانهم ذكروا أن تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف من تقسيم الكلي إلى أفراده وجزئياته. وتقسيم الكلم إلى هذه الثلاثة كما قاله ابن مالك : واسم وفعل ثمّ حرف الكلم (1) ، من تقسيم الكل إلى أجزائه التي يتركب من مجموعها لا من جميعها ، بمعنى أن الكلم يتكون من هذه الثلاثة ، سواء كان مركبا من الثلاثة أو من الاثنين أو من الواحد ، بأن يكون مؤلفا من ثلاثة أسماء. وإلى ذلك يرجع قولهم : إنّ الكلم اسم جنس جمعي ، بمعنى أن اسم الجنس يصدق على الواحد والكثير ، لكن خصوص هذا الجنس وهو الكلم لا يكون إلاّ عند اجتماع ثلاثة من هذه الأقسام.

إذا عرفت ذلك فقس الصلاة على الكلم ، وقل إنّ لنا أجزاء متعددة وهي التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخر الأجزاء. والصلاة تتكون من هذه الأجزاء سواء كانت واجدة للجميع أو كانت واجدة للبعض ، لكن بشرط أن يكون ذلك البعض ذا أهمية ويكون هناك تركيب معتنى به ، وعبّروا عن ذلك بمعظم الأجزاء أو بما يكون مصحّحا للتسمية.

وعلى كل حال فلا بدّ في الصلاة من اجتماع مقدار من تلك الأجزاء ويكون هناك تركيب منها ، وإن لم يكن الحاصل في ذلك المركب هو معظم تلك الأجزاء أو أغلبها ، وإنما المدار في ذلك على صحة التسمية ، وهي منوطة بالتركيب على وجه يكون فيه روح تلك العبادة الذي هو الخضوع

ص: 161


1- شرح ابن عقيل 1 : 13.

والحضور عند الرب ، وبالأخرة يكون ذلك شعبة مما ذهب إليه الباقلاني (1). فليس المعظم بالقياس إلى كل فرد من أفراد الصلاة ، وأن كل فرد فيه معظم أجزائه ، وفيه ما يزيد على المعظم ، ليترتب على ذلك إيرادات صاحب الكفاية ، فلاحظ وتأمل.

قوله : واخرى باضافة الشرائط المأخوذة في المأمور به إلى أجزاء العبادة. وثالثة باضافة عدم المزاحم ... إلخ (2).

لا ينبغي الريب في دخول الشرائط - مثل كونها مع الطهارة أو إلى القبلة - في محل النزاع ، وكون مرتبة الشرط متأخرة عن مرتبة الجزء لا يكون مانعا عن أخذه في المسمى كما سيصرح به في التذييل الذي ذكره في آخر المقام الأول (3) ، وكذلك كون بعض هذه غير متوقف على القصد لا ينافي كونه معتبرا في الصلاة المعتبر فيها القصد ، فانّ اعتبار القصد فيها لا ينافي كون شرطها غير قصدي لكونه تابعا لدليل شرطيته ، ولا دليل على أنّ الصلاة بجميع أجزائها وشرائطها قصدية. هذا مضافا إلى أنّ الشرط هو التقيّد لا القيد ، فلا يتوقف دخوله في محل النزاع على التوأمية التي افادها الاستاذ العراقي قدس سره (4).

أما عدم كونها منهيا عنها ، أو عدم مزاحمتها لواجب أو لمحرّم ، أو كونها مقيدة بداعي الأمر المتعلق بها ، ففيه إشكال الطولية بين هذه القيود وبين أصل الماهية.

ص: 162


1- التقريب والإرشاد 1 : 395.
2- أجود التقريرات 1 : 51.
3- أجود التقريرات 1 : 70.
4- مقالات الاصول 1 : 139.

والذي ينبغي في هذا المقام تقديم مقدمتين :

المقدمة الاولى : وهي أنّ الطولية تارة تكون في مقام أفراد الطبيعة الواحدة ، بأن تكون الطبيعة الواحدة شاملة لأفرادها الطوليّة كما هي شاملة لأفرادها العرضية ، سواء كانت الطولية بين الأفراد من ناحية الزمان كما في شمول الصلاة للفرد الواقع في الزمان الأول والواقع في الزمان الثاني وهكذا ، أو كانت الطولية ذاتية لما بين الأفراد من نسبة العلية والمعلولية كما في الانسان الجامع بين الآباء والأبناء ، وكما في الموجود الشامل للعلة والمعلول ، هذا حال الطولية بين الافراد.

ومنه يظهر لك الحال في الطولية بين أجزاء الطبيعة الواحدة ، فكما يمكن التركيب بين أجزاء عرضية بمعنى عدم العلية والمعلولية بين الأجزاء ، سواء تقدم بعضها على الآخر زمانا كما في الركوع والسجود ، أو كان أحدها مقارنا للآخر زمانا كما في الركوع والاستقبال والاستقرار ونحو ذلك ، فكذلك يمكن تركب الماهية من أجزاء طولية يكون بعضها سابقا في الرتبة على الآخر كما في تركب ماهية الصلاة من أجزاء وشرائط وعدم الموانع ، فانّ مرتبة الجزء سابقة على مرتبة الشرط ومرتبة الشرط سابقة على مرتبة عدم المانع ، ولم يكن هذا الترتب الطولي بين هذه الامور بمانع من أخذ الماهية مركبة منها ، سواء كان ذلك في ناحية الوضع والمسمى أو كان في ناحية المستعمل فيه أو كان في ناحية متعلق الأمر ، ومنه ما يقولون من أن العلة التامة هي المركبة من المقتضي والشرط وعدم المانع.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الاشكال في دخول هذه القيود في محل النزاع في الصحيح والأعم لو كان هو مجرد الطولية بينها وبين أصل مادة الصلاة ، وأن هذه الطولية مانعة من أخذ الصلاة مركبة من أصل المادة وهذه

ص: 163

القيود ، لأمكن الجواب عنه بأنه لا مانع من تركيب الماهية الجعلية من أجزاء وقيود طولية حتى ولو كان بعض الأجزاء علة للبعض الآخر ، فلك أن تركّب ماهية واحدة من أجزاء كثيرة يكون كل واحد منها علة لما بعده وتسمّي المجموع باسم واحد ، بل منشأ الاشكال في أخذ هذه القيود في الماهية أمر آخر كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

المقدمة الثانية : أن دخول هذه القيود في محل النزاع في الصحيح والأعم يتوقف على إمكان تقييد الماهية بها. ولا يخفى أن تقييد الماهية بقيد تارة يكون في مقام التسمية والوضع ، واخرى يكون في مقام المستعمل فيه وإن لم يكن قيدا في مقام الوضع والتسمية ، وثالثة يكون في مقام تعلق الأمر والنهي بها ، وإن لم يكن قيدا في المسمى والموضوع له ولا قيدا في المستعمل فيه.

إذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول بعونه تعالى : إنّ الذي ينبغي هو التكلم في كل واحدة من هذه القيود على حدة ، فنقول بعونه تعالى :

أما تقييدها بعدم كونها منهيا عنها ، فانّ النهي عنها وإن أوجب فسادها ، إلاّ أن عدم النهي عنها لا يمكن أخذه في تلك العبادة المتعلقة لذلك النهي ، سواء اخذ على نحو القيدية في الموضوع له أو المستعمل فيه أو في تعلق النهي بها ، لا لأنّ تقييد الموضوع له أو المستعمل فيه بذلك القيد محال ، بل لأنّ تعلق النهي بما هو مقيد بعدم ذلك النهي محال ، وهو مساو في المحالية لأخذ متعلق النهي مقيدا بوجود ذلك النهي.

وبالجملة : أن موضوع الحكم لا يعقل أن يقيد بعدم ذلك الحكم كما لا يعقل أن يقيد بوجوده ، لأن مرتبة الحكم متأخرة عن موضوعه فلا يعقل أخذه وجودا أو عدما في موضوع نفسه. ولا فرق في ذلك بين كون الماهية

ص: 164

من العبادات أو من المعاملات ، لأن منشأ المحالية إنّما هو في تعلق النهي بما يكون عدمه مأخوذا فيه ، سواء كان أخذه فيه في مرتبة الموضوع له أو في مرتبة المستعمل فيه أو في مرتبة تعلق النهي به.

أما تعلق الأمر بما يكون مقيدا بعدم كونه منهيا عنه ، فالظاهر أنه لا مانع منه إذا كان في مرحلة تعلق الأمر ، دون ما لو كان في المسمى فانه محال ، لا من جهة الأمر بل من جهة عدم تصور تعلق النهي بذلك المسمى.

ومنه يظهر الاشكال في أخذه قيدا في المستعمل فيه في كل من مورد الأمر ومورد النهي ، إلاّ إذا أخذناه في المستعمل فيه في الأمر دون النهي فتأمل.

ثم لا يخفى أن تعلق النهي باحدى هذه الماهيات المخترعة لا بد أن يكون لخصوصية اشتملت عليها تلك الماهية عبادة كانت أو معاملة ، وحينئذ فلنا في مقام التسمية أو في مقام الاستعمال أو في مقام تعلق النهي بها أو الأمر أن نأخذها مقيدة بعدم تلك الخصوصية الموجبة للنهي عنها ، فيسلم من الاشكال بحذافيره المتوجه على أخذ قيد عدم النهي في الماهية في هذه المراحل الثلاثة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ روح الاشكال إنما هي في تعلق النهي بالماهية المقيدة بعدم ذلك النهي ، فانّ ذلك محال كما عرفته.

أما التقييد في مقام التسمية وكذلك في مقام الاستعمال ، فان كان على هذا النحو بأن يجعل لفظ الصلاة مثلا اسما للماهية المقيدة بعدم النهي المتعلق بها بما أنّها مقيدة بعدمه ، كان التقييد المذكور محالا ، لأنك في مقام التقييد سواء كان في مقام الوضع أو في مقام الاستعمال لا بد أن تنظر المقيد

ص: 165

بذاته وتنظر إلى قيده وتأخذ ذلك القيد قيدا في تلك الذات باعتبار وضعك اللفظ لها.

أما لو لم تكن حالتك في مقام الوضع أو الاستعمال كذلك ، بل إنك نظرت إلى ماهية الصلاة ونظرت إلى تعلق النهي بها وجعلت لفظ الصلاة اسما لتلك الماهية المقيدة بعدم ذلك النهي ، فالظاهر أنه لا مانع منه لا في مقام الوضع ولا في مقام الاستعمال. نعم في مقام تعلق النهي لا يعقل أخذ ذلك القيد فيها ، بل يلزم في مقام تعلق النهي النظر إلى ذات الصلاة غير ملحوظ فيها القيد المذكور ، ولا يصح تعلق النهي بها مقيدة بالقيد المذكور فانه محال كما عرفت ، سواء كان القيد هو عدم تعلق هذا النهي بها أو كان هو عدم تعلق طبيعة النهي بها التي يكون أحد مصاديقها هو هذا النهي. نعم لو كان القيد هو عدم النهي السابق الذي هو غير هذا النهي فلا مانع منه.

ثم ان من هذه المحالية يتّضح لك الوجه في محالية الصورة الخامسة ، وهي أخذ داعي الأمر في متعلقه فانه محال ، سواء أخذناه في الموضوع له أو المستعمل فيه أو في مرحلة تعلق الأمر. ومحاليته من جهة أخذ ما لا يتأتى إلاّ بعد مرتبة الأمر في متعلق ذلك الأمر ، وهذه المحالية لا يرفعها إلاّ تعدد الأمر كما هو رأي الشيخ قدس سره (1) وشيخنا قدس سره (2) أو التوأمية كما هو رأي الاستاذ العراقي قدس سره (3) كما سيأتي في مبحث التعبدي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 166


1- مطارح الأنظار 1 : 303 - 305.
2- أجود التقريرات 1 : 173.
3- بدائع الأفكار للمحقق الآملي قدس سره : 228 ، وقد أوضح فكرة التوأمية في مقالات الاصول 1 : 243 ، 245.

ومع قطع النظر عن هذه المحالية المقصورة على تعلق الأمر ، لا مانع من أخذ الداعي المذكور في المسمى أو في المستعمل فيه لو كان الشخص المسمى لها بذلك الاسم أو المستعمل فيها ذلك اللفظ هو غير ذلك الآمر الذي أراد أخذ داعي أمره في متعلق أمره ، سواء كان ذلك الشخص قد أمر بها أو كان بصدد الإخبار عنها ، من دون فرق في ذلك بين اخذه داعي الأمر الشرعي في تلك العبادة في المسمى أو في المستعمل فيه أو في متعلق أمره بأن يقول الوالد لولده : أوقع الصلاة بداعي أمرها الشرعي ، بل إنّ ذلك جار حتى لو كان الآمر هو الشارع نفسه بأن يقول : صلّ بداعي أمري الذي تعلق بذات الصلاة. وهذا هو حاصل دفع الاشكال بتعدد الأمر.

وأما تقييده بعدم مزاحمة أمر آخر فهو في حد نفسه وان لم يكن موجبا للفساد بناء على الملاكية أو الترتب ، إلاّ أنه لا مانع من أخذه في المسمى والمستعمل فيه ومرتبة تعلق الأمر ، لو كان المراد من المزاحمة هو أن يكون وجود الصلاة مزاحما لأمر آخر ، بأن نقيّد ذات الصلاة في هذه المراحل الثلاث ، بأن لا تكون مفوّتة لواجب ، وأما لو كان المراد بالمزاحمة المعتبر عدمها هو أن لا يكون الأمر بها مزاحما لأمر آخر ، فلا شبهة في محاليته ، لكن لا من جهة التسمية أو الاستعمال ، بل من جهة استحالة تقيد متعلق الأمر بأن لا يكون ذلك الأمر مزاحما لأمر آخر ، فانّ مزاحمة الأمر لغيره من أطوار نفس الأمر ، فلا يعقل أخذه في نفس متعلق ذلك ، ويكون حال هذا القيد من هذه الجهة حال قيد داعي الأمر. نعم الظاهر أن المحالية في هذا القيد لا تندفع بالتوأمية التي أفادها الاستاذ العراقي قدس سره في قيد داعي الأمر ، ولا التعدد الذي أفاده شيخنا قدس سره إلاّ بان يتعلق الأمر بنفس الصلاة ثم يقول لا تزاحم بذلك الأمر غيره من الأوامر.

ص: 167

ومن ذلك يظهر لك الكلام في مزاحمة العبادة للنهي ، كما لو كانت متوقفة على مخالفة النهي أو كانت مقرونة بذلك كما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الاولى.

قوله : الرابعة - إلى قوله : - فالقول بأنّ لفظ الصلاة موضوع لمفهوم الصحيح أو فريضة الوقت غير معقول ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ الترادف هو عبارة عن اتحاد اللفظين في المعنى ، بأن يكون كلّ من اللفظين موضوعا لنفس المعنى الذي وضع له اللفظ الآخر ، ولازم ذلك هو كون المفهوم من أحدهما عين المفهوم من الآخر ، فإنّ اتحاد الموضوع له يلزمه أن يكون ما يحضره أحدهما في ذهن السامع هو عين ما يحضره الآخر. وذلك عبارة اخرى عن أنّ المفهوم من أحد اللفظين عين المفهوم من اللفظ الآخر ، وعلى كلّ حال ليس حقيقة الترادف هو كون كلّ من اللفظين موضوعا لما هو المفهوم من الآخر ، بل حقيقته هي ما عرفت من كون كل منهما موضوعا للمعنى الواقعي الذي وضع له اللفظ الآخر ، ولازم هذا الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له الاتحاد بحسب المفهوم.

ثم إنّ من هذا الذي ذكرناه من اعتبار وحدة المعنى في الترادف ، يظهر لك أنه لو اخذت في المعنى في أحد اللفظين جهة زائدة على أصل المعنى ، لم يكن ذلك من الترادف كما في مثل السيف والصارم حيث إنه قد اخذت في معنى الصارم جهة زائدة على أصل المعنى المشترك بينهما وهي جهة الصرم والقطع ، فلا يكون اللفظان مترادفين بل يكونان من قبيل

ص: 168


1- أجود التقريرات 1 : 51 - 52.

الموصوف والصفة.

وعلى هذا الأساس قد أنكر الترادف بعض المحقّقين (1) بدعوى اختلاف الجهة حتى في مثل الانسان والبشر والرقبة والجيد ، ومع اختلاف الجهة المأخوذة في المعنى في أحد اللفظين عن الجهة المأخوذة في اللفظ الآخر لا يكونان مترادفين ، بل يكون اللفظان متباينين ، وعلى هذا الأساس زعم هذا البعض استحالة اتحاد المفهوم في كل من اللفظين ، نظرا إلى تلك الدعوى الاولى ، أعني اختلاف الجهة في أحد المعنيين عن الجهة في المعنى الآخر ، ومع اختلاف الجهة يستحيل ما هو لازم الترادف أعني الاتحاد بين اللفظين في المفهوم ، بأن يكون ما يحضره أحد اللفظين في ذهن السامع عين ما يحضره فيه اللفظ الآخر.

ثم إنه لعل الوجه في الدعوى الاولى أعني اختلاف الجهة في أحد الوضعين عن الجهة في الوضع الآخر هو كون الواضع حكيما ، ومع وجود اللفظ الأول لا داعي له لوضع لفظ ثان إلاّ باعتبار لحاظه جهة اخرى في المعنى هي غير الجهة التي لاحظها في وضع اللفظ الأول ، ولكنّك قد عرفت إمكان الترادف باعتبار تعدد الواضعين ، وأن الواضع الثاني لم يكن مسبوقا بالوضع الأول ، فيضع اللفظ الآخر لنفس المعنى الذي وضع له الواضع الأول اللفظ الأول ، هذا.

مضافا إلى إمكان كون الحكمة في تعدد اللفظ مع فرض وحدة المعنى من جميع الجهات هو تكثير الألفاظ وتوسعة اللغة ، ليتسنى للمتكلم بها أن يعبّر عن المعنى الواحد بأيّ عبارة شاء ولا يتضيق بخصوص لفظ

ص: 169


1- [ لم نعثر عليه ].

واحد ، إذ ربما لا يكون ذلك اللفظ الواحد ملائما للسجع أو الوزن أو القافية أو غير ذلك مما يدعو إلى تغيير العبارة والتفنن في التعبير.

إذا عرفت ذلك كله فاعلم أنه لا ريب في أن لفظ وظيفة الوقت أو المطلوب من هذه الطبيعة إنّما هو موضوع لنفس تلك الماهية الواقعية ، وحينئذ لو كان لفظ الصلاة موضوعا لذلك المعنى الواقعي الذي وضع له لفظ وظيفة الوقت أو لفظ المطلوب ، صح الترادف بين اللفظين المذكورين وكان الموضوع له في كل منهما جامعا بين مصاديق ذلك المعنى الواقعي. أمّا دعوى كون لفظ الصلاة موضوعا للصورة الذهنية للماهية التي هي وظيفة الوقت ، ففيها أنّ ذلك ليس من الترادف ، بل إنّ لفظة وظيفة الوقت موضوعة للمعنى الواقعي من تلك الماهية ، ولفظة الصلاة موضوعة للصورة الذهنية من تلك الماهية الواقعية.

ومنه يظهر لك أنّا لو قيّدنا الصورة الذهنية بما يحضره في الذهن لفظة وظيفة الوقت كانت الحالة أردأ ، لأنّ حاصله أنّ لفظة الصلاة موضوعة للمعنى الذهني الذي تحضره لفظة وظيفة الوقت وهو المعبّر عنه بالمفهوم من لفظة وظيفة الوقت ، ولفظة وظيفة الوقت موضوعة للمعنى الواقعي من تلك الماهية ، فأين الترادف الذي هو عبارة عن كون الموضوع له واحدا في كل من اللفظين.

ولازم هاتين الدعويين هو امتناع تعلّق الأمر بالصلاة ، لأنّها حينئذ عبارة عن الوجود الذهني مطلقا أو مقيدا بما تحضره لفظة وظيفة الوقت ، ولا ريب أنّ ذلك الوجود الذهني غير قابل لتعلّق الطلب به ، هذا.

مضافا إلى امتناع الدعوى الثانية الراجعة إلى ما يشبه الطولية بين اللفظين ، فلفظة وظيفة الوقت موضوعة للماهية الواقعية ، وهي بواسطة هذا

ص: 170

الوضع تكون آلة في إحضار تلك الماهية في ذهن السامع ، ولفظة الصلاة موضوعة لذلك الذي تحضره لفظة الوظيفة في ذهن السامع ، وعلى ذلك فتكون لفظة الصلاة آلة في إحضار ما تحضره لفظة الوظيفة في ذهن السامع ، بمعنى أنّها تحضر في ذهن السامع ما تحضره فيه لفظة الوظيفة ، فيكون هناك حضوران في ذهن السامع : أحدهما هو الذي وضعت له لفظة الصلاة ، والآخر هو المستعمل فيه لفظة الصلاة ، وهذا جار في كلّ لفظ يدعى أنّه موضوع لما هو المفهوم من اللفظ الآخر ، ولعلّه هو المحالية التي أشار إليها شيخنا قدس سره ، فلاحظ وتدبر.

قال قدس سره فيما حررته : قد عرفت أن حقيقة الاستعمال من قبيل قوس الصعود والنزول ، فالمعنى الموضوع له اللفظ هو الحقيقة الواقعية بمادتها وصورتها ، وبعد هذه المرتبة مرتبة وجوده في الحس المشترك مجردا عن المادة. ولكن على ما هو عليه من الصورة التي هو عليها ، ثم مرتبة وجوده في الذاكرة مجردا عن المادة والصورة الخارجية ، ثم وجوده العقلاني وهو أبسط من مرتبة وجوده في الذاكرة وهو المعبّر عنه بالمعنى والمفهوم. ثم إن ذلك المفهوم البسيط الذي هو في أقصى درجات البساطة هو الذي يحضره المتكلم في ذهن السامع بواسطة الألفاظ فينطبق على ما في الخارج.

ومن ذلك يظهر لك أنه لا يعقل أن يكون الموضوع له هو نفس مفهوم الصحيح أو ما هو لازمه من كونه وظيفة الوقت ، لعدم صحة كون الموضوع له اللفظ والمراد الواقعي هو نفس مفهوم لفظ آخر ، انتهى.

ومن ذلك كله يظهر لك الوجه في عدم معقولية كون لفظ موضوعا لما هو المفهوم من لفظ آخر ، ولو اغضي النظر عن عدم معقوليته وسلّمنا إمكانه فليس ذلك من الترادف ، لما عرفت من أن حقيقة الترادف هو

ص: 171

الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له اللازم للاتحاد بينهما مفهوما ، وليس هو عبارة عن كون أحد اللفظين موضوعا لما هو المفهوم من اللفظ الآخر.

ومنه يظهر لك ما في الحاشية على ما في المتن من قوله : لا يعقل ، وذلك هو قوله في الحاشية : لا ينبغي الريب في إمكان وضع لفظ الصلاة مثلا لمفهوم الصحيح حتى يكون اللفظان مترادفين ، ولا استحالة في ذلك أصلا ، غاية الأمر عدم وقوع ذلك خارجا ، وأين ذلك من الاستحالة وعدم الامكان (1) ، فإنك قد عرفت محالية كون لفظ موضوعا لما هو المفهوم من لفظ آخر ، ولو سلّم إمكان ذلك فليس هو من الترادف.

وأما ما أفاده في الكفاية (2) من الاشكال على كون الجامع هو عنوان المطلوب من لزوم الترادف بين لفظ الصلاة والمطلوب ، فليس هو مبنيا على كون لفظ الصلاة موضوعا لنفس مفهوم المطلوب ، بل هو مبني على كون لفظ الصلاة موضوعا لما قد وضع له لفظ المطلوب ، فيكونان من قبيل تعدد اللفظ ووحدة المعنى الموضوع له في كل منهما ، ويكون لازمه الاتحاد بينهما بحسب المفهوم كما عرفت تفصيل ذلك ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أن وضع لفظ الصلاة لمفهوم الصحيح أو لمفهوم المطلوب أو لمفهوم لفظ الوظيفة كل ذلك غير معقول ، هذا.

مضافا إلى أنّ لفظة الوظيفة لو كانت جامعة بين الأفراد المندرجة تحت تلك الماهية فهي كافية في الجامع ، وأيّ داع لدعوى كون الجامع هو لفظة الصلاة ، ثمّ لو قلنا بأنّها هي جامعة أيضا فأيّ داع إلى ارتكاب دعوى كون لفظة الصلاة موضوعة لمفهوم لفظة الوظيفة أعني الصورة الذهنية ، ولم

ص: 172


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 52.
2- كفاية الاصول : 24 - 25.

لا نقول إنّ لفظة الصلاة موضوعة لنفس الماهية الواقعية التي وضعت لها لفظة الوظيفة ويتحقق الترادف بينهما حينئذ ، وهذا كلّه مما يكشف عن أنّ الجامع المسمى ليس هو الوظيفة ولا عنوان المطلوب ، لأنهما متأخران عن عالم التسمية. نعم لك أن تدّعي أنّه قبل الطلب أو قبل الطلب في الوقت ليس لنا عالم تسمية وإنّما التسمية بعد ذلك ، بمعنى أنّ الشارع بعد تعلق طلبه بتلك الماهية وتحقق كونها مطلوبة أو كونها وظيفة الوقت ، نقول إنّا نجعل لفظة الصلاة لتلك الماهية التي طرأ عليها الطلب في الوقت الكذائي وصارت بذلك وظيفة الوقت ، ولكن يبقى السؤال في اللفظ الذي استعمله الشارع فيها عند تعلق أمره بها وما هو ذلك اللفظ ، ثم بعد طي مرحلة الطلب أيّ فائدة في تلك التسمية التي لا يكون المسمى به فيها ولا المستعمل فيه إلاّ ما هو بعد مرتبة الطلب ، فلاحظ لتعرف أنّ هذه الطرق كلّها خيالات صرفة لا واقعية لها.

تنبيه : قال في متن الشمسية : وكلّ لفظ فهو بالنسبة إلى لفظ آخر مرادف له إن توافقا في المعنى ومباين له إن اختلفا فيه.

وقال الشارح بعد أن عرّف الترادف بما أشار إليه في المتن وهو الاتحاد في المعنى ما هذا لفظه : ومن الناس من ظن أنّ مثل الناطق والفصيح ومثل السيف والصارم من الألفاظ المترادفة لصدقهما على ذات واحدة ، وهو فاسد لأنّ الترادف هو الاتحاد في المفهوم لا الاتحاد في الذات. نعم الاتحاد في الذات من لوازم الاتحاد في المفهوم دون العكس (1).

ص: 173


1- شرح الشمسية ( للتفتازاني ) : 30.

وقوله هنا : لأنّ الترادف هو الاتحاد في المفهوم ، تعريف له بلازم تعريفه الأوّل وهو الاتحاد بحسب المعنى الموضوع له. وأما قوله : لا الاتحاد في الذات ، فليس المراد بالمنفي هو الاتحاد في المعنى ، بل المراد به هو الاتحاد بحسب المصداق الخارجي مع فرض الاختلاف في الجهة المأخوذة في المعنى الموضوع له كما في مثل السيف والصارم على ما عرفته من الاختلاف بينهما بحسب الجهة ، وأنّهما من قبيل الموصوف والصفة وإن كان المصداق فيهما واحدا.

ومن ذلك كلّه يتضح لك المراد بقوله : نعم ، الاتحاد في الذات من لوازم الاتحاد في المفهوم دون العكس ، لأنّ الاتحاد بحسب المفهوم اللازم للاتحاد بحسب المعنى الموضوع له الذي هو حقيقة الترادف تلزمه الوحدة بحسب الذات أعني المصداق ، بخلاف مجرد الاتحاد بحسب الذات أعني المصداق ، فانّه لا يلزمه الترادف الذي هو الاتحاد بحسب الموضوع له الذي يلزمه الاتحاد بحسب المفهوم ، إذ ربما اتحدت الذات والمصداق ولم يحصل الترادف كما عرفت من مثال السيف والصارم ، فلاحظ.

قوله : ويمكن دفع الإشكال عن كلا القولين بالتزام أنّ الموضوع له أوّلا هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط ، والاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها على الأعم من باب الادّعاء والتنزيل. والموضوع له على كلا القولين هي المرتبة العليا ، وبقية المراتب الصحيحة أو الأعم يستعمل فيها الألفاظ ادّعاء ومن باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة ، كما في جملة من الاستعمالات ، أو من باب اكتفاء الشارع به كما في صلاة الغرقى ؛ فإنّه لا يمكن فيه الالتزام بالتنزيل المذكور كما هو واضح.

ص: 174

ثم إنّ الاستعمال في فاسد صلاة الغرقى أيضا بتنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزّل منزلة تام الأجزاء والشرائط من باب الإجزاء والاكتفاء ، فبعد البناء على كون الصحيح فردا للطبيعة من جهة الإجزاء يصحّ تنزيل الفاقد منزلته أيضا ، ولا يلزم سبك مجاز عن مجاز. وأمّا القصر والإتمام فهما وإن كانتا في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا إلاّ أنّه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط.

وعلى ما ذكرناه فيبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا ، فإنّ ثمرة النزاع كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى هو التمسك بالإطلاق على تقدير تمامية مقدمات الحكمة على الأعمي ، وإجمال الخطاب على الصحيحي ، وهذا لا يصحّ على ما ذكرناه ، لأنّه لو بنينا على أنّ الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وإطلاقها على غيرها من باب المسامحة والتنزيل ، فعلى تقدير وجود المطلق في العبادات أيضا فحيث إنّ اللفظ لم يوضع للجهة الجامعة المشتركة حتى تكون الأجزاء والشرائط المأخوذة في المأمور به من قبيل القيود ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق ، بل اللفظ يكون مجملا لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام استعمال اللفظ حتى يتمسّك بإطلاقه ... إلخ (1).

قلت : لا يخفى أنّه ربما كان الفاقد مباينا في النظر للواجد كما في صلاة الغرقى ، فكيف يصح جعله فردا ادعائيا ، وكيف يمكن القول بالتنزيل في أمثال ذلك ، وأين المناسبة بين الصلاة التامّة وبين الصلاة التي هي عبارة عن أربع تكبيرات ، بل عبارة عن إيماء محض ، ولو التزمنا بتصحيحه

ص: 175


1- أجود التقريرات 1 : 53 - 54.

بالتنزيل الشرعي لكان ذلك مختصا بالفاقد الصحيح دون الفاسد.

ثم لا يخفى أنّ المسامحة من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من باب اكتفاء الشارع بالفاقد لا تخرج الاستعمال عن كونه مجازا ، غايته أنّه مجاز على رأي السكاكي (1) ، وذلك لا يجعل استعمال اللفظ في ذلك المقام استعمالا حقيقيا على وجه يكون توجيها للأعم أو توجيها للجامع بين الأفراد الصحيحة ، بل إنّ محصّل ذلك هو تضييق دائرة القول بالصحيح ، وأنّ الصلاة ليست حقيقة إلاّ في الصحيح الأعلائي ، وأنّ الاستعمال في غيره لا يكون إلاّ من باب التنزيل والعناية ، سواء كان ذلك الغير صحيحا أو كان فاسدا.

ثم إنّه كيف لا يلزم منه سبك المجاز عن المجاز في فاسد صلاة الغرقى مع أنّ صحيحها لا يكون صلاة إلاّ بتنزيل من الشارع ، ومجرد أنّ هذا التنزيل كان بجعل من الشارع من جهة الإجزاء أو الاكتفاء الشرعي لا يخرجه عن المجازية ، غايته أنّه من قبيل الاستعارة على رأي السكاكي ، وأنّ المصحّح لذلك التنزيل الشرعي هو الاجتزاء والاكتفاء ، وذلك لا يخرجه عن كونه مجازا ، غايته أنّه لا يكون مجازا في الكلمة كما هو الشأن في كل مجاز بناء على هذا القول ، كما أنّ استعمال اللفظ في فاسد صلاة الغرقى لكونه منزّلا منزلة صحيحها لا يكون إلاّ من هذا القبيل أيضا لكونه استعمالا مبنيا على التنزيل المذكور.

ثم إنّ الذي حررته عنه قدس سره في هذا المقام هو ما نصه : إنّ حقيقة الصلاة هي الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، وأمّا الفاقد فإن كان هناك ما

ص: 176


1- مفتاح العلوم : 156.

يدل على صحته عند الشارع كان فردا تنزيليا ، وإن لم يكن في البين ذلك الدليل ، وقلنا بصحة الاستعمال فيه ولو من جهة كونه مناسبا لذلك الفاقد فهو وإلاّ كان الاستعمال مقصورا على ما دلّ الدليل الشرعي على الاكتفاء به ، والثاني عبارة اخرى عن القول بالصحيح والأول عبارة عن القول بالأعم.

والحاصل : أنّ الفرد الحقيقي هو التام ، وأمّا الفاقد لبعض الأجزاء فإن كان لنسيان أو عجز ودلّ الدليل الشرعي على الاكتفاء به فهو فرد تنزيلي وإن كان باطلا ، فإن قلنا بصحة الاستعمال فيه ولو من جهة مناسبته لذلك الفرد التنزيلي كان محصل ذلك هو القول بالأعم ، وإن لم نقل بصحة الاستعمال المذكور كان محصل ذلك هو القول بالصحيح ، فمحصّل القول بالأعم هو تعميم المناسبة المصححة للاستعمال وعدم قصرها على الصحة ، ومحصّل القول بالصحيح هو قصرها على ذلك.

قلت : لا يخفى أنّ محصل ذلك هو الالتزام بالتجوز في غير الصحيح الأعلائي ، غايته أنّ القائل بالصحيح يقصر ذلك التجوز على التعبد الشرعي بالاجتزاء بذلك الفاقد والقائل بالأعم لا يقصره على ذلك ، فيمكن القول بأنّ هذا التوجيه لا يوافق كلا من القول بالصحيح والقول بالأعم ، لأنّهم لا يدعون الاستعمال في الفاقد الصحيح على القول بالصحيح والفاقد الفاسد على القول بالأعم إلاّ استعمالا حقيقيا ، ولأجل ذلك احتجنا إلى وجود الجامع على كل من القولين ، ومجرد المناسبة والتنزيل لا تخرج الاستعمال عن التجوز كما عرفت فيما تقدم.

ثم لا يخفى أنّ الصلاة الصحيحة قدر مشترك بين فريضة الصبح والمغرب والعشاء والآيات والجمعة والعيد وصلاة جعفر و ... ، ولا ريب في اختلاف هذه الصلوات من حيث الأجزاء كما وكيفا ، فلو أردنا أن نقول :

ص: 177

إنّ لفظ الصلاة موضوع لما هو الجامع لجميع الأجزاء ما ذا نعني من الأجزاء؟ هل هي أجزاء الصلاة اليومية وأيّ فريضة منها ، أو هي أجزاء صلاة العيد أو صلاة الآيات.

ولا يخفى أنّ هذا إشكال آخر غير ما أشكله في الكفاية على هذا التوجيه بقوله : ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت أنّ الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات ، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة اخرى (1). فإنّ هذا الاشكال يمكن دفعه بما تضمنه صدر التوجيه ، من أنّ الموضوع له أوّلا ليس هو مطلق الصحيح بل هو الصحيح التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، وهذا لا يختلف حاله. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه ربما كان فاسدا إذا كان صادرا ممن لا يتمكن من تمامية تلك الأجزاء ولو لضيق الوقت أو لعذر ملزم بترك بعض الأجزاء ونحو ذلك.

أمّا الايراد عليه بأنّ الصلاة ذات ركعتين تكون فاسدة ممن هو مأمور بالأكثر وبالعكس كما في الحاشية (2) ، فهو راجع إلى مثل القصر والإتمام ، ويمكن الجواب عنه بأنّ المقياس الأصلي هو الركعتان ، وتكون الزيادة عليها صلاة بالتنزيل ، فإنّ القيود لا تختص بالوجودية ، ولا يختص التنزيل بما هو الفاقد ، بل يتأتى فيه القيود العدمية ، ويكون التنزيل فيما هو مشتمل على الزيادة.

أمّا الإشكال المذكور ، أعني كون الصلاة قدرا مشتركا بين كل من الفرائض اليومية وصلاة العيد وصلاة الآيات وغير ذلك من الصلوات والصحيح الأعلائي في كل واحد من هذه الصلوات هو غيره في الآخر.

ص: 178


1- كفاية الاصول : 27.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 53.

فيمكن الجواب عنه : بأنّ هذه أنواع للصلاة ، وكلّ نوع منها له صحيح أعلائي وله صحيح ناقص وله فاسد ناقص ، فصلاة الصبح مثلا موضوعة أوّلا لما هو التامّ منها ، ومستعملة تنزيلا في الصحيح الفاقد لبعض الأجزاء ، وهكذا الحال في غيرها من الصلوات. ولعل هذا هو المراد مما أفيد بقوله : وأمّا القصر والاتمام فهما ، إلخ (1) ، لكن مع ذلك لا بد من الالتزام بوجود جامع بين هذه الأنواع ، فلا محيص حينئذ من جعل ذلك الجامع بين جميع تلك الأنواع هو المركب من مجموع الأجزاء الخاصة وهو ما سيأتي من الكلّي في المعيّن ، وإذا تم هذا الجامع كان هو الجامع أيضا بين التام والناقص الصحيح بناء على القول بالصحيح ، بل كان هو الجامع بين الصحيح والفاسد بناء على القول بالأعم.

ومنه يظهر تصوير الجامع على كلّ من القول بالصحيح والقول بالأعم ، أمّا على القول بالأعم فواضح ، لأنّ الجامع الذي هو المسمى يكون عبارة عمّا تركب من مجموع تلك الأجزاء على ما سيأتي شرحه (2) من كونه من قبيل الكلّي في المعيّن ، وأمّا على القول بالصحيح فكذلك أيضا ، بأن يكون الموضوع له عند القائل بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء بشرط كونه صحيحا مسقطا للأمر الذي يتعلّق به بعد التسمية ، فلا يتوجه عليه أنّ الصحة بمعنى إسقاط الأمر تكون متأخرة عن الأمر فلا يمكن أخذها في المسمى ، أو نقول : إنّ الموضوع له على القول بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء بشرط كونه بحيث يترتب عليه النهي عن الفحشاء ، وإن كان ترتب هذا الأثر عليه متوقفا على الأمر ، فيكون محصل ذلك هو أنّ الجامع

ص: 179


1- أجود التقريرات 1 : 54.
2- في صفحة : 182.

والمسمى على القول بالصحيح هو المركب من تلك الأجزاء الذي لو أمر به لترتب عليه النهي عن الفحشاء وغيره من الآثار الباعثة على الأمر به على وجه لا يكون التقييد بكونه بحيث يترتب عليه الأثر إلاّ من قبيل المعرّف لذلك الجامع لا من قبيل التقييد على ما تقدم (1) تفصيله في شرح مراد الكفاية من استكشاف الجامع بآثاره على القول بالصحيح.

ثم إنّه في الكفاية قرّب هذا التوجيه بقوله : إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء والشرائط ، إلاّ أنّ العرف يتسامحون كما هو ديدنهم ، ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد ، فلا يكون مجازا في الكلمة - على ما ذهب إليه السكاكي (2) في الاستعارة - بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة ، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في التأثير ، كما في أسامي المعاجين ... إلخ (3).

وقد أجاب عنه بما تقدم نقله ، وقد عرفت فيما تقدم (4) أنّ كونه من قبيل الاستعارة على رأي السكاكي لا يخرجه عن التجوّز. ودعوى صيرورته حقيقة بالاستعمال الواحد أو الاستعمالين لا تخلو من غرابة ، سيّما بعد ما شرحناه من امتناع الوضع التعيني الناشئ من كثرة الاستعمال.

ثم إنّ المشابهة في الصورة ممنوعة في كثير من موارد فساد العبادة ،

ص: 180


1- في الصفحة : 145 وما بعدها.
2- مفتاح العلوم : 156.
3- كفاية الاصول : 26 - 27.
4- في صفحة : 176.

كما أنّ المشاركة في التأثير أيضا ممنوعة ، مضافا إلى إمكان القول بأنّ المشاكلة في الصورة ربما كانت لا تكفي في التجوز والتنزيل وإلا لجاز استعمال زيد في عمرو مجازا للمشاركة في الصورة بين جميع أفراد الإنسان.

ثم إنّه لو سلّمنا حصول الحقيقة فذلك حاله حال المنقول الذي يكون بواسطة كثرة الاستعمال حقيقة في المعنى بعد أن كان استعماله فيه مجازا ، إمّا مع عدم هجر المعنى الأوّل فيكون مشتركا لفظيا ، أو مع هجره فيكون اللفظ حقيقة في المعنى الجديد ، وحينئذ فلو سلّمنا صيرورة اللفظ حقيقة في الفاقد كان حاله حينئذ حال المنقول في أنّ لازمه الاشتراك اللفظي بين الفاقد والواجد ، أو هجر الواجد وصيرورته حقيقة في خصوص الفاقد ، لا أنّه يكون للأعم من الواجد والفاقد بعد ما كان مختصا بخصوص الواجد.

قوله : ولكن التحقيق إمكان تصوّر الجامع من هذا الوجه ، بأن يكون الجامع هو الكلّي في المعيّن - إلى قوله : - بل المأخوذ في الموضوع له هو عدّة من الأجزاء فصاعدا المبهمة من حيث التشخص ، فيكون كليا منطبقا على القليل والكثير نظير لفظ الكلام فانّه وضع بحسب اللغة لما يتركب من حرفين من الحروف الهجائية فصاعدا ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ لازم هذا التوجيه بمقتضى صدر هذه العبارة هو التبادل فيما هو المسمى بالنسبة إلى الفرد الواحد ، فإنّه لازم أخذ المعظم من قبيل

ص: 181


1- أجود التقريرات 1 : 63 - 64.

الكلي في المعيّن ، مع أنّه لا يصحح دخول ما عدا المعظم في المسمى ، وأقصى ما فيه أن لا يكون وجوده مضرا كما هو مقتضى اللابشرطية ، لا أن يكون داخلا في المسمى.

مضافا إلى أنّه إن كان المراد من الأجزاء التي ادعى كون معظمها هو المسمى هي أجزاء المأمور به ، ففيه أنّ مرتبة التسمية قبل مرتبة الأمر ، وإن كان المراد من الأجزاء المذكورة هي أجزاء المسمى ، ففيه : أنّ كون معظمها هو المسمى خلف ، لأنّ محصله حينئذ أنّ معظم أجزاء المسمى هي المسمى ، وإن كان المراد معظم أجزاء الماهية المخترعة ، كان محصله أنّ المسمى هو معظم تمام الأجزاء ، ولا يخفى أنّه لا يصدق على أغلب الأفراد الناقصة ، إذ ليس معظم الأجزاء فيها هو معظم التام ، وإن كان المراد أنّ كل فرد أيّ فرد كان يكون معظم أجزائه هو المسمى ، ففيه إشكال التبادل فيما هو المسمى بالنسبة إلى الأفراد ، ولا يصححه أخذه من قبيل الكلي في المعيّن ، لأنّ ذلك إنّما يدفع إشكال التبادل في المسمى بالنسبة إلى فرد واحد لو سلم أنّه يندفع بذلك ، ولا يندفع به اشكال التبادل بالنسبة إلى الأفراد.

وأمّا ما افيد بقوله : بل المأخوذ في الموضوع له هو عدة من الأجزاء فصاعدا المبهمة من حيث التشخص ، فيكون كليا منطبقا على القليل والكثير نظير لفظ الكلام ... إلخ ، فكأنّه مطلب آخر يوجّه به القدر الجامع على القول بالأعم لا ربط له بالكلي في المعيّن ، وذلك الوجه هو أن يقال : إنّ الموضوع له هو طبيعة الأجزاء الصادق على القليل والكثير على وجه لو اجتمعت كلها في فرد يكون ذلك الفرد بتمامه هو المسمى ، لا أنّ المعظم من أجزائه داخلة في المسمى والزائد على ذلك المعظم يكون خارجا عنها ،

ص: 182

ومحصل كونها من قبيل الكلي في المعيّن أنّ الواضع نظر إلى مجموع الأجزاء وجعل لفظ الصلاة لما يتركب منها ، سواء تركب من اثنين منها أو من ثلاثة أو من أربعة أو تركب من المجموع ، فلو قال القائل إنّ الصلاة تكبير وقراءة وقيام وركوع وسجود إلى آخر الأجزاء ، كان ذلك نظير قول القائل إنّ الكلام اسم وفعل وحرف ، يعني أنّه من قبيل تقسيم الشيء إلى ما يتألف من مجموعه لا من جميعه ، فهو كما قال بعض الشرّاح في قول ابن مالك ( واسم وفعل ثم حرف الكلم ) أنّ هذا ليس من تقسيم الكلي إلى أفراده نظير تقسيم الكلمة إلى هذه الثلاثة ، بل هو من تقسيم الكل إلى أجزائه التي يتركب من مجموعها لا من جميعها.

ولا يخفى أنّ هذا ليس من قبيل الكلي في المعيّن ، لأنّ الكلي في المعيّن هو ما يكون مقدارا محدودا منطبقا على كل واحد من أبعاض ذلك المعيّن كالصاع من الصبرة ، وحينئذ فما هو غير محدود من تلك الصبرة على وجه يكون صالحا للانطباق على البعض القليل وعلى البعض الكثير وعلى تمام الكل لا يكون من قبيل الكلي في المعيّن ، بل هو نحو آخر محصله أن الموضوع له ما يكون مؤلفا ومركبا من هذه الأجزاء سواء تركب من بعضها أو كلّها ، فإن اعتبرنا أن يكون مشتملا على معظم تلك الأجزاء كان محصله أنه لا بد أن يكون مؤلفا من أغلبها ، إن اعتبرنا المعظمية بالنسبة إلى العدد ، أو أنّه لا بد أن يكون مؤلفا من عمدها وأركانها إن اعتبرنا المعظمية بالنسبة إلى ما هو العمدة من تلك الأجزاء ، وعلى كل حال يكون ذلك تضييقا في القول بالأعم ، لأنّهم لا يلتزمون بأنّه لا بد في المسمى من كونه مشتملا على معظم تلك الأجزاء أو كونه مشتملا على أغلبها. هذا مضافا إلى أنّ نفس تلك الأجزاء المنظور إليها في التركيب منها لها مراتب

ص: 183

وأبدال فلا بد أن يقال إنّ الموضوع له هو المركب من مجموع هذه الأجزاء وأبدالها وقد تقدم في حاشية صفحة 28 (1) تصوير الجامع على القول بالأعم بهذا النحو ، فراجع.

قوله : إلاّ أنّ الأعمّي لا يمكنه ذلك أيضا ، فإنّ المأمور به هو الصحيح قطعا ، فثبت تقييد المسمّى بقيد يشك في تحققه عند الشك في الجزئية والشرطية ... إلخ (2).

ذكر المرحوم الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه (3) هذا الإشكال وأجاب عنه ما حاصله : أنّ هذا التقييد من قبيل التقييد العقلي ، وهو لا يمنع من التمسك بالعموم في مقام الشك ، لكونه من المخصصات اللبية التي لا توجب خروج العام عن الحجيّة إلاّ فيما علم أنّه من مصاديق الخارج أعني معلوم الفساد فيما نحن فيه دون ما يشك في فساده.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ حكم العقل إذا كان واضحا يعدّ بمنزلة القيد المتصل في كونه موجبا للإجمال في مورد الشك ، على أنّ أصل المبنى محل تأمّل كما حررناه (4) في مسألة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، فراجع.

أما ما أفاده شيخنا قدس سره في الجواب عن هذا الإشكال بما هو مرسوم في هذا التحرير ، وقد حررت عنه قدس سره بعد بيان هذا المحرر هنا ما هذا لفظه : والحاصل أنّه إن كان المراد من الصحة المدعى كونها قيدا في متعلق الأمر

ص: 184


1- [ يقصد قدس سره بذلك الصفحة 28 من الطبعة القديمة من الأجود والتي تقدمت في صفحة 145 من هذا المجلد ، وقد أشار إلى تصوير الجامع في الصفحة 154 ].
2- أجود التقريرات 1 : 69.
3- كفاية الاصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني ) 1 : 24.
4- في المجلّد الخامس من هذا الكتاب صفحة : 212 وما بعدها.

هي الصحة بمعنى التمامية السابقة في الرتبة على الأمر ، ففيه : أنّه لا دليل على كونها قيدا ، وإن كان المراد منها الصحة المنتزعة عن مطابقة الأمر المأخوذة من انطباق متعلّق الأمر على ذلك الفاقد لما شك في اعتباره ، ففيه أنّ الصحة بهذا المعنى متأخرة رتبة عن الأمر فلا يعقل أخذها في متعلقه.

ولا يخفى أنّه يمكن اختيار الشق الأول ، ويكون الدليل عليه هو العقل ، فإنّا بعد أن فرضنا أنّ الصحيح هو التام الجامع لجميع الأجزاء والشرائط أعني التمامية السابقة في الرتبة على الأمر ، وهذه التمامية هي التي ادعاها القائل بالصحيح ، وأنّ حكم العقل بخروج الفاسد هو عبارة أخرى عن أن الشارع لا يأمر إلاّ بما هو التام فيعود المحذور.

وأما ما أفاده في أول الكلام وهو ما حرره في هذا التحرير ، فالظاهر أنّه في حد نفسه غير دافع للإشكال ، لأنّا بعد فرضنا أنّ الصلاة على قسمين صحيح وفاسد ، وأنّها اسم للجامع بين هذين المفهومين ، يكون محصل الحكم العقلي المذكور هو أنّ المأمور به هو خصوص مفهوم الصحيح ، وأنّ ما هو مفهوم الفاسد خارج عنه ، وحينئذ يعود الإشكال المذكور.

فالأولى إتمام الجواب بمقدمة وهي : أنّ مراد القائل بالأعم ليس هو ما ذكر من القدر الجامع بين مفهوم الصحيح ومفهوم الفاسد ، بل المراد به هو الجامع بين مصداق الصحيح أعني التام الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ومصداق الناقص أعني الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ، فإنّ القول بالأعم إنّما هو في مقابلة القول بالصحيح ، ولا ريب أنّ القائلين بالصحيح لا يريدون به الصحيح بمعنى مفهوم الصحيح ، بحيث يتساوى عندهم لفظ الصلاة ولفظ الصحيح ، بل المراد مصداق الصحيح ، وليست الصحة حينئذ إلاّ التماميّة.

ص: 185

ثم إنّه ليس المراد بالتمامية بلحاظ الأمر ، لأنّ كلامهم إنّما هو في مقام التسمية ، وهي أعني التسمية سابقة على مقام الأمر ، وحينئذ يكون مراد القائل بالصحيح هو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط التي هي دخيلة في التركيب والاختراع الذي هو قبل التسمية ، فيكون مقابله هو الأعم من الجامع لجميع تلك الأجزاء والفاقد لبعضها ، ولا دخل لذلك بعالم الأمر ومطابقة المأتي به لما هو المأمور به بحيث يكون الموضوع له هو الأعم مما هو مطابق المأمور به وما هو غير مطابق له ، بل المراد من الأعم هو الأعم من واجد الجزء والقيد بالنسبة إلى عالم الاختراع وفاقده ، فبالنسبة إلى التشهد مثلا يكون لفظ الصلاة موضوعة للأعم من واجد التشهد وفاقده ، فإذا أمرنا بالإتيان بالصلاة فقد أمرنا بالجامع بين المصداق الواجد للتشهد والمصداق الفاقد للتشهد ، فلو لم يقيد الصلاة بالتشهد المذكور لثبت أنّ المأمور به هو الأعم من الواجد له والفاقد له ، وأنّ التشهد ليس بقيد في ذلك المأمور به ، وبعد تمامية هذه المقدمات نحكم بأنّ الفاقد للتشهد مأمور به كالواجد ، وبعد ذلك ننتزع وصف الصحة للفاقد بمعنى أنّه مطابق للمأمور به.

ولا يخفى أنّ ما ذكره المرحوم الشيخ علي قدس سره لعلّه مأخوذ ممّا أفاده الشيخ قدس سره فإنّه قدس سره قال في أثناء الجواب عن الاشكال المزبور ما هذا لفظه : فإن قيل : الفاسد خارج عن العموم قطعا ، والفرد المشكوك يحتمل أن يكون فاسدا وأن يكون صحيحا ، فلا وجه للتمسك بالعام عند الشك في دخول الفرد في عنوان المخصص أو في العام كما قرر في محله. قلنا : ليس الفاسد خارجا عن العموم بل ليس الخارج إلاّ فاسدا. وبعبارة ظاهرة : الفساد ليس عنوانا للأفراد الخارجة ، وإنّما هو وصف اعتباري منتزع من

ص: 186

الأفراد بعد اتصافها بالخروج ، فكونها فاسدة موقوف على خروجها والعموم حاكم بدخولها ، فلا تتصف بالفساد بل يجب اتصافها بالصحة ، إذ لا معنى للصحة إلاّ هذا. وقد قررنا في محله جواز الرجوع بل وجوبه إلى العموم فيما إذا امتنع الوصف جعله عنوانا للعام أو للمخصص كما في وصفي الصحة والفساد ، بل قد يستكشف بالعموم دخول ما يمكن أن يؤخذ عنوانا للمخصص ، ولكنّه لم يؤخذ ، كما في قولك أضف جيراني ، مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فانّه بالعموم يستكشف أنّه في جيرانه ليس من هو عدوّه.

وأما ما زعمه المعترض من تقييد المطلوب بالصحيحة ، فيحصل الشك في حصول المكلف به في الخارج ، فيظهر النظر فيه مما ذكرناه ، وتوضيحه : أنّه ناش من عدم الفرق بين كون الصفة مأخوذة في موضوع الحكم ، وبين أن يكون لازما مساويا للموضوع ، فعلى الأوّل يجب إحرازه وعلى الثاني فما هو الموضوع بحكم اللفظ يلازم وجوده وجود لازمه ، وما ذكرناه بمكان من الظهور (1).

ولا يبعد أن لا يكون الشيخ قدس سره ناظرا في ذلك إلى التفرقة بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي ، بل هو ناظر إلى ما أشار إليه من عدم أخذ الصفة قيدا في الموضوع وإن كان نفس الموضوع ملازما لتلك الصفة ، فيثبت حينئذ بمقتضى الأصل اللفظي الحاكم بأنّ الفاقد للسورة مثلا موضوع الحكم ، أنّ الفاقد للسورة واجد للوصف المذكور ، وفي مثل أكرم جيراني موضوع الحكم هو الجار ، ولازم كونه موضوعا لوجوب الاكرام هو عدم

ص: 187


1- مطارح الأنظار 1 : 65 - 66.

كونه عدوا. وهذه الطريقة لو تمت تغنينا عن الركون إلى دعوى أن كون المخصص لبيا لا يمنع عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لكنها لو تمت في مثل وصف الصحة فهي غير تامة في وصف العداوة والصداقة ، فإنّ مثل وصف الصداقة والعداوة ليست معتبرة من جهة مجرد الملازمة بين وجوب الاكرام والصداقة أو عدم العداوة ، بل هي بحكم العقل قيد في الموضوع فلاحظ وتأمّل. ولعل نظر الشيخ قدس سره في الاستشهاد بمثل أكرم جيراني إلى مجرد التنظير لما نحن فيه من ترتيب الأثر اللازم لاجراء أصالة الاطلاق أو اصالة العموم ، لا أنّ ما نحن فيه هو عين مثل أكرم جيراني ، فتأمّل.

ثم إنّ ما نقلناه عن شيخنا قدس سره من قولنا : والحاصل ، إلخ ، أيضا مأخوذ من كلام الشيخ قدس سره فانّه في طليعة الجواب ردّد في المراد بالصحة المدعى كونها قيدا ، وأنّها إن كانت هي الصحة المنتزعة عن الماهية قبل تعلّق الطلب بها ، فهذه مما يجب استكشافها بالاطلاق ، إذ لا سبيل لاحرازها بحسب الأسباب الظاهرية إلاّ بالإطلاق ، وإن كان المراد بها هي الصحة المنتزعة من الماهية بعد تعلّق الطلب بها ، فكونها قيدا في المطلوب محال ، لأنّها منتزعة من الطلب فهي متأخرة عنه رتبة ، فيستحيل أخذها في متعلّقه ، فراجع تفصيل ما أفاده قدس سره فيما نقله عنه في التقريرات (1).

وقد عرفت أنّ من يدعي أنّه على القول بالأعم أنّه لا بد من تقييد المأمور به بالصحة ، مراده بالصحة هي الصحة التي زعم القائل بالصحيح أنّ اللفظ موضوع لما هو واجد لها ، وليس تلك الصحة المدعى دخولها في

ص: 188


1- مطارح الأنظار 1 : 64 - 65.

المسمى هي الصحة المنتزعة من مطابقة المأمور به ، بل المراد بها التمامية بالقياس إلى الأجزاء والشرائط التي اخذت في عالم الاختراع الذي هو سابق على تعلّق الطلب.

وحينئذ نقول : إن كان المراد بالصحة المزعوم كونها قيدا في المأمور به على القول بالأعم هو تلك الصحة أعني تمامية الأجزاء والشرائط في مقام الاختراع ، فهذا يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه لا دليل على هذا التقييد ، وإن كان المراد بها هو التمامية بالقياس إلى ما يكون له الدخل في الملاك الباعث على الأمر ، لأنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو واجد لملاك الأمر بناء على تبعية الأحكام للمصالح في المتعلقات ، فهذه الصحة وإن لم تكن منتزعة من الأمر لكونها دخيلة في الملاك المفروض كونه سابقا في الرتبة على الأمر ، إلاّ أنّ هذه ليست على نحو القيود في المأمور به يعتبر إحرازها قبل رتبة الأمر ، بل إنّ إحرازها يكون بتعلق الأمر ، وإلاّ لورد الإشكال في جميع المطلقات حتى في مثل اعتق رقبة ، فانّا نعلم أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو واجد للملاك والمصلحة الباعثة للأمر ، ولا طريق لنا إلاّ إثباته من ناحية الأمر كما أفاده الشيخ قدس سره.

وإن شئت فقل : إنّ واجدية المطلوب لما هو الملاك لا يكون داخلا تحت التكليف ، بل إنّ إحرازه موكول إلى الشارع ، فلا يكون قيدا في المطلوب كي يلزمنا إحرازه ، ويكون ذلك موجبا لإجمال الدليل عند الشك فيه ، بل ليس علينا إلاّ الاخذ بنفس ما تعلق به الأمر ، وبعد إثبات كون المأمور به هو نفس الرقبة نقول إنّها واجدة للملاك وأنّه لا مدخلية في ذلك الملاك لوصف الايمان.

وإن شئت التوضيح في هذا المقام فقل : إنّ الصحة وكذلك الفساد

ص: 189

في المقام ليست من الامور الواقعية ، وإنّما هي من العناوين الانتزاعية ، فانّها على القول بالصحيح منتزعة من وجود المسمى وعدم وجوده ، ويتبع ذلك وجود المأمور به وعدمه ، وعلى القول بالأعم تكون الصحّة ويقابلها الفساد منتزعة من وجود المأمور به وعدم وجوده ، مع فرض وجود المسمى وتحققه في كلا الحالتين أعني حالة وجود المأمور به وحالة عدم وجوده ، وليس الاجمال على القول بالصحيح ناشئا عن تبادل المركبات وعدم انضباط ما يكون الصحيح منها إلاّ بالجامع البسيط المجمل في أنظارنا ، بل إنّ منشأ الإجمال على القول بالصحيح أمر آخر حتى لو فرضنا انحصار الصحيح بمركب خاص لا تبادل في أجزائه ولا تغيير ، وكانت أجزاؤه منحصرة في عشرة من الأفعال الصلاتية مثلا ، فانّه عند الشك في دخول الجزء الحادي عشر يحصل الشك في انطباق المسمى على العشرة وحدها ، ومع الشك في الانطباق لا يمكن التمسك بالاطلاق.

وبيان ذلك : أنّ القائل بالصحيح لا بد له أن يلتزم فيما ذكرناه من المثال أن يكون للشارع فيه أدوار أربعة :

الدور الأول : دور اختراع الأجزاء العشرة أو انتقائها من بين الأفعال.

الدور الثاني : دور اعتبار التركيب في هذه العشرة على كيفية خاصة من تقديم وتأخير وموالاة واستقبال وغير ذلك.

الدور الثالث : دور تسمية ذلك المركب باسم خاص كالصلاة مثلا ، وهو في هذا الدور لم يجعل الصلاة اسما للصحيح ولا اسما للتام ولا غيره من المفاهيم الانتزاعية ، بل إنّما جعله لنفس تلك الأجزاء التي جمعها ورتّبها واعتبرها شيئا واحدا ، فانّ تمامية المسمى أو صحته إنّما تنتزع بعد التسمية ، فان وجدت تلك الأجزاء بجميعها كان المسمى تاما وكان

ص: 190

موجودا ، وإن فقد بعضها لم يكن المسمى تاما وفي الحقيقة لم ينوجد المسمى ، لأنّ المركب ينعدم بانعدام بعض أجزائه ، لا أنّ نفس المسمى قد وجد ناقصا.

الدور الرابع : دور الأمر بذلك المركب.

فنحن عند الامتثال لو جئنا بتلك العشرة بتمامها على الكيفية التي أخذها الشارع في تركبها ، نكون قد أوجدنا المسمى كما أنّا قد أوجدنا المأمور به أيضا ، ولو نقصنا منها جزءا أو خالفنا شرطا يكون المسمى منعدما كما أن المأمور به أيضا منعدم ، وحينئذ فلو احتملنا أن الشارع قد أدخل في مركبه المذكور جزءا حادي عشر منظما إلى العشرة المذكورة ، كان ذلك موجبا للشك في انطباق المسمى على العشرة وحدها ، وهو عبارة اخرى عن الشك في انطباق عنوان الصلاة عليها ، لتردد المسمى حينئذ بين الوجود بوجود العشرة وبين كونه منعدما في حال وجودها ، هذا على القول بالصحيح.

وأما على القول بالأعم ، فانّ صاحبه يلتزم أيضا بهذه الأدوار إلاّ الدور الثاني أعني دور التركيب والتأليف ، فانّ الشارع بعد انتقاء الأجزاء وتعدادها يكون لسان حاله : ركّبوا منها ما شئتم ، وإني قد جعلت لفظ الصلاة اسما لما تألّفونه وتركّبونه من هذه الأجزاء ، ثم يأمرنا بالصلاة المذكورة ، فنحن لو جئنا بمركب من تلك الأجزاء أيّ مركب كان ، نكون قد حصلنا على المسمى وعلى المأمور به ، إلاّ إذا قيّدنا الشارع في مقام الأمر بجزء خاص منها أو بكيفية خاصة فعلينا أن نأتي بذلك المركب على طبق أمره ، فان خالفناه نكون قد حصلنا على المسمى لكن لم نحصل على المأمور به ، ولو شككنا في اعتباره الجزء الفلاني أو الشرط الفلاني في مقام الأمر بذلك المسمى نقول إنّ المسمى حاصل بدونه ، وأما عدم حصول المأمور به فهو

ص: 191

موقوف على التقييد ، وحيث لم يقيّد يكون المأمور به حاصلا أيضا بدون ذلك المحتمل ، وعلى أيّ حال لا يكون المأمور به مقيدا بالصحة ولا بالتام ولا بذوات خاصة من الأجزاء ، ولا أنّ الفاسد خارج بحكم العقل ، كل ذلك لم يكن ، وليس في البين إلاّ وجود المأمور به وعدم وجوده ، وأنّ ما تعلق به الأمر مأمور به وما لم يتعلق به الأمر ليس بمأمور به.

ومن ذلك كله يظهر لك أنّ منشأ الاشكال في التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح ليس هو إلاّ تردد المسمى بين الأقل والأكثر الذي هو عبارة اخرى عن أنّ الفعل الفاقد للقيد أو الجزء المشكوك يكون التردد بالقياس إليه بين وجود المسمى وعدمه ، بخلافه على الأعم فانّ المسمى بناء عليه يكون معلوم الوجود وإنّما يقع الشك في وجود المأمور به وعدمه ، ومنشأ الشك في وجود المأمور به هو الشك في تقييد المسمى في مرحلة تعلق الأمر به بقيد زائد على المسمى ، والاطلاق لمّا كان نافيا لهذا القيد كان قاضيا بتحقق المأمور به مع فقد القيد المشكوك ، وليس المانع من التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح هو أنّ الموضوع له أو المستعمل فيه على هذا القول هو الذات المقارنة لوصف الصحة ، كي يقال إنّه على القول بالأعم يكون المأمور به هو تلك الحصة المقارنة لوصف الصحة ، ليكون ذلك مانعا عن التمسك بالاطلاق على القول بالأعم كما كان مانعا منه على القول بالصحيح.

ومن ذلك يظهر ما فيما حرره الآملي عن درس الاستاذ العراقي قدس سره بقوله في مقام الجواب عما اجيب به عن إشكال عدم التمسك بالاطلاق على القول بالأعم مما حاصله راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس سره مما تقدم (1) نقله

ص: 192


1- في صفحة : 184 - 185.

ما هذا لفظه :

وفيه : أنّ الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا للموضوع له أو للمستعمل فيه ، لا على نحو دخول القيد والتقيد ، ولا على نحو دخول التقيد فقط ، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة ، فالقيد والتقيد كلاهما خارجان عن الموضوع له أو المستعمل فيه كما أشرنا إليه غير مرة ، والمأمور به على الأعم أيضا هي تلك الحصة ، لاستحالة الأمر بالفاسد واستحالة الاهمال في متعلق إرادة الطالب ، وعليه لم يبق فرق في متعلق الأمر بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، إلاّ بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول وعدم الوضع لخصوصها على الثاني ، ومثل هذا الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالاطلاق وعدمه (1).

وقد عرفت أنّ وصف الصحة والفساد لا واقعية لهما ، وإنّما هما منتزعان من وجود المأمور به أو المسمى وعدمه التابعين لصدق المسمى أو المأمور به وعدمه التابعين لأخذ المشكوك قيدا في المسمى أو المأمور به وعدم أخذه.

نعم ، إنّ في المقام مطلبا آخر : وهو استحالة أخذ القيود الناشئة من الأمر في متعلق ذلك الأمر نفسه كما في مسألة داعي الأمر ، وللاستاذ العراقي قدس سره (2) في ذلك كلام حاصله : استحالة الاهمال في مقام الثبوت ، وأنّ المأمور به هو الذات التي تكون توأما مع هذا النحو من القيود ، ووصف الصحة بمعنى مطابقة الأمر تكون من هذا السنخ من القيود ، لكنّك قد عرفت حقيقة وصف الصحة وأنّها لا واقعية لها ، فلا يتوجّه الاشكال المزبور

ص: 193


1- بدائع الأفكار : 130.
2- المصدر المتقدم.

الناشئ عن أخذ الحصّة المقارنة لوصف الصحة.

نعم ، الانصاف توجّه الاشكال على ظاهر ما اشتمل عليه الجواب من أنّ وصف الصحة على القول بالأعم تكون متأخرة عن الأمر فلا يعقل أخذها في متعلقه ، إلاّ أنّه إشكال مبنائي في المسألة المعروفة في التعبدي ، فلاحظ.

ونحن اذا جرّدنا الجواب عن هذه الجملة أعني كون وصف الصحة من طوارئ الأمر ، بل أسقطنا وصف الصحة بالمرة على ما عرفت تفصيله ، تخرج المسألة عن ذلك المأزق المحتاج إلى مسلك الاستاذ العراقي قدس سره (1) من التوأمية.

ولا يخفى أنّ العمدة في المسألة هي هذه الدعوى ، وهي حكم العقل بأنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، وأنّ أمره إنّما يتعلق بالصحيح ، فانّا لو سلّمنا هذه الجملة كان حال مسألتنا حال مسألة التعبدي ، والتخلص منها بحديث التوأمية أو بما يراه شيخنا قدس سره (2) من الاحتياج إلى تعدد الأمر وأنّ الثاني متمم للجعل ، وعلى كل من المسلكين يكون القول بالأعم مشاركا للقول بالصحيح في عدم إمكان التمسك بالإطلاق.

ثم لا يخفى أني لم أعثر في المقالة على هذا الاشكال ، بل الذي يظهر منها هو الالتزام بترتب الثمرة المذكورة ، أعني أنّه على القول بالصحيح لا يمكن التمسك بالاطلاق بخلافه على القول بالأعم. قال في المقالة بعد أن أفاد أنّه لا ثمرة للنزاع في المعاملات لتنزيلها على الأفهام العرفية حتى

ص: 194


1- لمزيد الاطلاع على مسلك التوأمية راجع بحث التعبدي والتوصلي من مقالات الاصول 1 : 243 ، 245 ، وبدائع الأفكار : 228.
2- أجود التقريرات 1 : 173.

بناء على القول بالصحيح عند صدق العنوان عندهم ما هذا لفظه :

وحينئذ تنحصر الثمرة المزبورة الباعثة على النزاع المشهور في أسامي المخترعات الشرعية ، مع عدم سوق الخطاب أيضا بلحاظ الأنظار العرفية ، إذ حينئذ صح دعوى إجمال العنوان على الصحيحي وعدمه على الأعمي في غير ما هو مقوّم العنوان حتى لدى الأعمي. هذا ولكن ذلك أيضا مبني على كون الاطلاقات على الأعمي في مقام البيان ، وإلاّ فلا بيان على الأعمي أيضا ، لأنّ المهمل بمنزلة المجمل كما لا يخفى ، وحينئذ لا تبقى ثمرة مهمة في مثل هذه المسألة (1).

ولكن المقرر لما رأى ظاهر الجواب المتذرع فيه عن الاشكال بكون وصف الصحة من طوارئ الأمر ، كان مقتضى ذلك إدراج المسألة في الجهة المنظور إليها في التعبدي ، ولاجل ذلك حوّر المسألة فيما نحن فيه إلى تلك المسألة ، ولعل الاستاذ العراقي تعرض لذلك في درسه لكنّه لم يدرجه في مقالته ، فلاحظ وتأمّل.

خلاصة البحث أو توضيحه ببيان امور :

الأول : أنّ هذه العناوين أعني الصحة والفساد والتام والناقص والواجد والفاقد ، وإن قلنا فيما تقدم أنّ أحدها عين الآخر ، إلاّ أنّ الانصاف أنّها ربما اختلفت ، فرب ناقص صحيح بل رب تام فاسد ، وهكذا الحال في الواجد والفاقد.

الأمر الثاني : أنّ هذه الامور الثلاثة ، أعني كون الشيء صحيحا أو فاسدا أو كونه تاما أو ناقصا أو كونه واجدا للقيد الفلاني أعني التشهد مثلا

ص: 195


1- مقالات الاصول 1 : 155 - 156.

كلّها من قبيل مفاد كان الناقصة ، وهي لا تصدق إلاّ بعد وجود الشيء ، فانا لو سلّمنا الصدق بانتفاء الموضوع ، فانّما هو في مفاد ليس الناقصة مثل كون زيد ليس بقائم ، دون مفاد كان الناقصة مثل كون زيد قائما.

الأمر الثالث : هو أنّا لو أمرنا الشارع بعشرة أجزاء ونحن جئنا بالتسعة فقط ، فهذه التسعة لا يقال فيها إنّ المأمور به فاسد ولا أنّه ناقص ولا أنه فاقد للعاشر ، بل لا يكون ذلك إلاّ من باب العدم المحض ، بمعنى أنّ المأمور به لم يكن موجودا بمفاد ليس التامة ، فلا يكون المقام إلاّ من باب وجود المأمور به بمفاد ليس التامة لو أوجدنا العشرة بتمامها ، أو من باب عدم وجود المأمور به بمفاد ليس التامة لو تركنا العاشر ، فهو لا يتصف إلاّ بالوجود والعدم التامين ، وهكذا الحال في عالم التسمية ، فانّ المسمى لو كان هو العشرة ونحن قد جئنا بالتسعة ، لم يكن ذلك من باب وجود المسمى فاسدا ولا من باب وجوده ناقصا ولا من باب وجوده فاقدا للجزء العاشر ، بل هو من باب عدم وجود المسمى بمفاد ليس التامة في قبال ما لو جئنا بالعشرة الذي هو من باب وجود المسمى بمفاد كان التامة.

الأمر الرابع : أنّا لو شككنا في أنّ المسمى أو المأمور به مقيد بالعاشر أو أنّه غير مقيد ، لم يمكننا التمسك بالإطلاق على الاكتفاء بالتسعة ، لأنّ احتمال دخل العاشر يوجب احتمال انعدام الشيء بانعدامه فلا يمكن التمسك باطلاقه.

ومنه يظهر لك أنّ عدم إمكان التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح لم يكن منشؤه هو كون الموضوع له هو المفهوم البسيط ، بل لكون احتمال المدخلية يوجب الشك في الصدق ، حتى لو قلنا بأنّ الصلاة مثلا على القول بالصحيح موضوعة للمركب ، ولكن شككنا هل هو التسعة أو هو العشرة

ص: 196

يكون انطباقها على التسعة مشكوكا ، فتكون المسألة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من ناحية العام.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا لو شككنا في مدخلية التشهد في المسمى على القول بالصحيح لا يمكننا التمسك بالإطلاق ، لكون المسألة حينئذ من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فهو نظير ما لو وجب إكرام العادل وكان زيد تاركا للكبيرة ومرتكبا للصغيرة ، فلو شككنا في أنّه يعتبر في العادل ترك الصغيرة كترك الكبيرة ، لم يمكننا أن نتمسك باطلاق إكرام العادل على لزوم إكرام زيد المذكور ، للشك في انطباق العادل عليه ، ويكون من قبيل التمسك بالعام في مورد الشك في كون زيد مصداقا له ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالأعم على رأي الباقلاني (1) أو على رأي المحقق القمي قدس سره (2) في كون الجامع هو الأركان مثلا ولم يكن المشكوك محتمل الركنية بل كان على تقدير اعتباره أمرا زائدا على الأركان ، نظير التشهد فانّه لو كان معتبرا لكان معتبرا في متعلق الأمر لا في المسمى ، وحينئذ يمكننا التمسك باطلاق المسمى في مقام تعلق الأمر بالصلاة ، وبذلك يثبت عدم اعتبار التشهد في متعلق الأمر ، فانا وإن شككنا في انطباق المأمور به عليه بما أنّه مأمور به ، إلاّ أنّ هذا الشك باطلاق المتعلق فيه يثبت عدم اعتبار التشهد في المتعلق ، وبذلك يزول الشك في انطباق عنوان المأمور به عليه ، وتكون الصلاة الفاقدة للتشهد مصداقا للمأمور به.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ هذه الجملة ، وهو كون الفاسد خارجا عن المأمور به أو كون المأمور به مقيدا عقلا بالصحة ، لا تخلو من الغلط ،

ص: 197


1- التقريب والإرشاد 1 : 395.
2- قوانين الاصول 1 : 44 ، 60.

حيث إنّ المراد من الصحة إن كان هو الصحة من ناحية التسمية ففيه أوّلا : أنّ ذلك لا يوجب تقيد المأمور به حتى لو قلنا بأنّ الاسم موضوع للصحيح الجامع لجميع الأجزاء ، فانه للآمر أن يأمر بالصلاة ويقول إنّ المأمور به غير مقيّد بمثل التشهد ، بل يكون المأمور به حاصلا عند ترك التشهد وان لم يكن المسمى حاصلا.

وثانيا : أنّ الكلام إنّما هو على القول بالأعم ، ومن الواضح أنّ المسمى بناء على هذا القول لا يكون مقيّدا بالصحة ، فلا محصل للقول بأنّ المأمور به مقيّد بالصحة من ناحية التسمية.

ولو كان المراد بالصحة من ناحية الأمر ، بمعنى ما يكون مطابقا للمأمور به ، كان محصله هو تقيّد المأمور به بالمأمور به ، وأن غير المأمور به وهو الفاسد غير المطابق للمأمور به خارج عن المأمور به ، ولا يخفى [ ما فيه ](1) من الغلط ، وكونه من قبيل لقلقة اللسان التي لا معنى لها أصلا ، فلاحظ وتدبر.

ومن ذلك يظهر لك الخلل فيما قد يقال : إنّ المراد هو أن الشارع لا يأمر إلاّ بما له الأثر ، فانه إن كان المراد من الأثر هو الأثر المعلول للأمر كما في النهي عن الفحشاء بناء على ما تقدم منا من كونه من آثار الصلاة بعد الأمر وبعد وقوعها امتثالا له ، فذلك عبارة اخرى عن أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو مقيّد بأنّه مأمور به ، وإن كان المراد من الأثر علة الأمر أعني الملاك والمصلحة ، فقد حقق في محله (2) أنّ ذلك لا يكون عنوانا أو قيدا في المأمور به لكونه من معلولات الفعل التكوينية التي يكون الفعل منها من

ص: 198


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنّما أضفناه للمناسبة ].
2- راجع أجود التقريرات 1 : 56 - 59.

المقدمات الاعدادية ، وذلك لا يتعلق التكليف به بل أقصى ما في البين هو أنّه على الشارع الحكيم أن يعلّق أمره بما يكون إعدادا لذلك ، وليس علينا تحصيل ذلك. نعم ، من تعلق أمره بالفعل المركب نستكشف أن ذلك المركب ذو ملاك ، بناء على مسلكنا معاشر العدلية من أنّ أحكامه تعالى تابعة للمصالح في المتعلقات.

ولعل المراد مما أفاده الشيخ قدس سره في مسألة الأقل والأكثر في الرسائل في مقام دفع هذه الشبهة هو هذا الذي شرحناه ، وذلك قوله قدس سره : ودفعه يظهر مما ذكرناه من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الاجزاء ، وإنما قيّدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للامور التي دلّ الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلّما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم الصحيحة ، وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات ، إلخ (1) ومع ذلك فان عبائره قدس سره هنا لا تخلو عن تسامح مثل قوله : فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة ، انتهى ، فان ذلك عبارة اخرى عن العلم بعدم إرادة غير المأمور به وأنّ الخارج عن المأمور به هو غير المأمور به ، لكن المراد واضح ، والأولى هو إنكار هذه القضية من أصلها كما عرفت ، فلاحظ.

قوله : لا يخفى أنّ جريان النزاع في المعاملات يتوقف على كون ألفاظها أسامي للأسباب ، - إلى قوله : - وتحقيق الجواب يحتاج إلى

ص: 199


1- فرائد الاصول 2 : 345.

بسط في المقال - إلى قوله : - والتحقيق في حل الإشكال أن يقال ... إلخ (1).

قلت : لا يخفى أنّ حاصل ما في الكفاية (2) هو دعوى كون تلك الإطلاقات ناظرة ابتداء إلى مقام السبب الشرعي ، ويستكشف منه أنّ ما هو السبب عند الشرع هو السبب عند العرف ، وحينئذ يتوجه عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من منع كون تلك المطلقات واردة في مقام السبب وأنّها لم ترد إلاّ في مقام المسبب.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس سره من منع صحة الرجوع إلى العرف في تعيين المصداق بعد فرض كون تلك المطلقات واردة في مقام المسببات ، وأنّ أسماء المعاملات أسماء لتلك المسببات ، فهو متوجه على ما أفاده الشيخ قدس سره في المكاسب (3) قبل الشروع في المعاطاة.

ص: 200


1- أجود التقريرات 1 : 71 - 73.
2- كفاية الاصول : 33.
3- المكاسب 3 : 20. [ هذا وفي ورقة مرفقة في نسخة الأصل حكاية عبارة المكاسب بلفظها ، وكأنّه من جهة تكرر التأمل في مفادها في هذه التعليقة وما بعدها ، فلننقلها كما جاء فيها : ] قال الشيخ قدس سره بعد نقله عن الشهيدين قدس سرهما ما مفاده : أن البيع حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ما هذا لفظه : وظاهره إرادة الاطلاق الحقيقي. ويشكل ما ذكراه بأن وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) [ البقرة 2 : 275 ] وإطلاقات أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع أنّ سيرة علماء الاسلام على التمسك بها في هذه المقامات. نعم يمكن أن يقال : إن البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول بعت عند الانشاء ، لا يستعمل حقيقة إلاّ فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظر القائل. ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده ، وإلاّ كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف ، فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل بعت عند العرف والشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر ومجاز في غيره ، إلاّ أن الافادة وثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف والشرع. وأما وجه تمسك العلماء باطلاق أدلة البيع ونحوه ، فلأن الخطابات لمّا وردت على طبق العرف ، حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ بعت ، فيستدل باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا ، فتأمل فان للكلام محلا آخر [ المكاسب 3 : 19 - 20 ]. [ كما أن في نسخة الأصل في ورقة اخرى مرفقة حكاية عبارة الشهيدين عن المكاسب واستدراك تتمتها ، وكأنّه بملاحظة النظر إليها في هذا البحث كما سيأتي الاشارة إليها في ثنايا الكلام قال : ] ثم إن الشهيد الثاني قدس سره نصّ في كتاب اليمين من المسالك على أن عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواص الحقيقة والمجاز كالتبادر وصحة السلب ، قال : ومن ثمّ قبل الاقرار به عليه حتى لو ادعى إرادة الفاسد لم يسمع منه إجماعا ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة ، انتهى. وقال الشهيد الأول في قواعده : الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضي فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمى الصحة وهو الدخول فيهما ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث ، ويحتمل عدمه لأنه لا تسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد ، أما لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع لم يحنث. انتهى كلامه قدس سره [ القواعد والفوائد 1 : 158 ].

أما ما أفاده الشيخ في التقريرات (1) فهو كما سيأتي (2) راجع إلى دعوى كون أسماء المعاملات أسماء للأسباب ، وأنّها موضوعة للأعم من الصحيح والفاسد على ما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

ويمكن أن يقال : إنّ مراد الشيخ في المكاسب من المسبب هو عين ما أفاده شيخنا قدس سره من الفعل بالآلة الذي هو عين البيع الانشائي الذي يوجده

ص: 201


1- راجع مطارح الأنظار 1 : 40 وما بعدها.
2- في صفحة : 204.

المنشئ بقوله بعت ، وليس مراده بالمسبب هو الملكية الواقعية الحاصلة بعد تمامية العقد وصحته ، أعني بذلك الملكية الشرعية التي هي من الأحكام الوضعية ، فانّ تلك من الأحكام الشرعية التي لا تتصف بصحة ولا فساد ، وانّما تتصف بالوجود والعدم.

ثم إنّ ما افيد من تصحيح التمسك بالإطلاق بكون العقد من قبيل الآلة لا من قبيل السبب في غاية الجودة والمتانة. وقد يقال إنّه لا ينحصر هذا الوجه بكون العقد آلة بل يتأتى حتى لو قلنا إنّه سبب ، فانّه كما تكون الآلة منوّعة للفعل فكذلك يكون السبب منوعا له ، وكما أنّ حاصل الاطلاق على الأول أنه لا فرق بين ما يحصل بهذه الآلة وبتلك الآلة ، فكذلك حاصل الإطلاق على الوجه الثاني أنّه لا فرق بين ما يحصل بهذا السبب وبذلك السبب ، هذا.

ولكن لا يخفى الفرق بين المسبب والفعل بالآلة ، فانّ المسبب لا يتنوع بتنوع سببه ، بل لو تعددت أفراد أسبابه واجتمعت فانّما هي سبب واحد وهو القدر الجامع ، ولو وجد هذا تارة وذاك اخرى لم يكن الموجود بالأول مغايرا للموجود بالثاني ، بل لا يكون في البين إلاّ مسبب واحد كما لا يكون إلاّ سبب واحد ، فان كان السبب صحيحا انوجد المسبب وإلاّ كان المسبب معدوما ، فنحن إذا شككنا في صحة السبب فقد شككنا في وجود المسبب فلا معنى للتمسك بإطلاق المسبب ، وهذا بخلاف الفعل بالآلة فان العقد يكون آلة في فعل العاقد وهو إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، ويتنوع البيع الذي ينوجد في صقع الانشاء بتنوع آلته ، ولو كانت الآلة فاسدة لم تخرج عن كونها آلة في إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، غايته أنّ ذلك الإيجاد يكون فاسدا لا يترتب عليه الأثر لا أنّه يكون غير موجود ، وحينئذ

ص: 202

يمكن التمسك باطلاقه على عدم اعتبار تقيّده بآلة خاصة.

نعم إن السببية بهذا المعنى ممنوعة ، فان المسبب إن كان هو الملكية الحاصلة بعد العقد وإمضاء الشارع لها ، فلا ريب أن اسم المعاملة كالبيع مثلا ليس بموضوع لذلك المسبب ولا هو مستعمل فيه ، بل إن ذلك المسبب هو من الأحكام الوضعية الشرعية المجعولة للشارع إما إمضاء أو تأسيسا ، وذلك لا يتصف بصحة ولا بفساد ، وإنما يتصف بالوجود والعدم ، وإن كان المسبب هو الانتقال بالعوض المعبّر عنه بالمبادلة بين المالين ، أعني بذلك المبادلة الانشائية الحاصلة بالعقد أو بالمعاطاة ، فذلك ليس بمسبب للعقد بل إن ذلك فعل للعاقد ، غايته أنه فعل له بواسطة الآلة وهي العقد ، وذاك أيضا يتصف بالصحة والفساد ولو باعتبار صحة آلته وفسادها ، وحيث إنه معنى عرفي لا اختراعي للشارع ، فلا منافاة بين كون ذلك الاسم موضوعا للصحيح عند العرف والشرع وبين إمكان التمسك باطلاقه عند الشك في اعتبار الشارع فيه ما شك في اعتباره بعد فرض أنّ فاقد ذلك الشيء المشكوك يسمى عند العرف بيعا كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الاطلاق والتقييد (1).

ص: 203


1- [ في نسخة الأصل ورقة مرفقة فيها كلام فيه تكرار لبعض ما تقدّم ولفظه : ] ولكن التحقيق هو عدم تمامية هذا النقض ، وتفصيل ذلك : هو أنّ في المعاملات أسبابا ومسببات وأسماؤها للمسببات ، فلا يمكن التمسك باطلاقها ، وقول الشيخ في التقريرات [ مطارح الأنظار 1 : 41 ] بأن المسببات لمّا كانت عرفية وكانوا في مورد الشك يحكمون بوجود المسبب ينزّل كلام الشارع على ذلك مخدوش ، فانّ نظر العرف إنّما يتبع في تحديد المفاهيم لا في وجود مصداقها ، فلو كان شخص مرتفع الحرارة إلى درجة خمسين وأمرنا بتخفيض حرارته ، فان شك في مقدار التخفيض وفي وقته مثلا ونحو ذلك من حدوده ، كان المرجع في ذلك هو العرف ، أما لو كان الشك في حدوث التخفيض بشرب الدواء الفلاني فلا يرجع فيه إلى العرف ، إذ ليست المسألة حينئذ مسألة شك في حد المفهوم ، وإنّما هي شك في الوجود ، ولا يكون العرف في مثله إلاّ شاهدا على ما لا يكون محسوسا عنده ، فلا يكون قوله معتبرا في ذلك حتى من باب الشهادة بالوجود. ثم بعد ذلك نقول : إنّه يمكن دفع الاشكال بالمنع من كون المسألة من باب الأسباب والمسببات بل هي من باب الفعل بالآلة ، فالعقد يكون آلة في إيجاد البيع في صقعه الانشائي ، ويتنوع البيع الذي ينوجد في صقع الانشاء بتنوع آلته ، ويمكن التمسك بالاطلاق على عدم اعتبار تقيّده بآلة خاصة ، وهذا بخلاف باب الأسباب والمسببات فانّ المسبب لا يتنوع بتنوع سببه بل لو تعددت أفراد أسبابه يكون واحدا ، ويكون المسبب والسبب أيضا واحدا لرجوع الأسباب إلى القدر الجامع ، فان كان السبب صحيحا كان المسبب موجودا وإلاّ لم يكن موجودا ، فنحن إذا شككنا في صحة السبب فقد شككنا في وجود المسبب فلا معنى للتمسك باطلاق المسبب. وكأن الشيخ في المكاسب قد سلك هذا المسلك الذي أشار إليه شيخنا قدس سره ، وقد عرفت أنه بناء عليه يمكن التمسك بالاطلاقات بناء على كون الموضوع له هو الأعم من الصحيح والفاسد من دون حاجة إلى التشبث بما في الكفاية [ كفاية الاصول : 33 ] من تنزيل الدليل الشرعي على طريقة العرف ، لكن الشيخ قدس سره اقتصر على ذلك دون دعوى كون الموضوع له هو الأعم ، لأنه بصدد تصحيح ما عن الشهيد [ القواعد والفوائد 1 : 158 ] من كون الموضوع له هو الصحيح ، ومع ذلك يمكن التمسك بالاطلاق لأنّ الطريق حينئذ منحصر بما في الكفاية فلاحظ.

ثم لا يخفى أنّ أصل الاشكال هو أنّ المعاملات هل يشملها النزاع في الصحيح والأعم أو لا؟ وأنه بناء على كونها أسماء للمسببات لا يشملها النزاع المذكور لعدم اتصافها بالصحة والفساد ، وإنّما تتصف بالوجود والعدم على ما افيد في الكفاية (1) ، وبناء على كونها أسماء للأسباب تكون داخلة في حريم هذا النزاع ، وكان حاصل الاشكال أنّه بناء على القول بالصحيح فيها لا بد من القول بسقوط التمسك بالاطلاقات الواردة في المعاملات كما

ص: 204


1- كفاية الاصول : 32.

تقدم في العبادات ، وكان عمدة همهم في تنقيح وجه للتمسك بتلك الاطلاقات بناء على القول بالصحيح المتفرع على القول بأنّ ألفاظ المعاملات أسماء للأسباب ، ومن الواضح أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من الوجه في صحة التمسك بتلك الاطلاقات خارج عن سلسلة هذا الاشكال ، وإنّما هو توجيه للتمسك بها بناء على كونها أسماء للمسببات بالمعنى الذي أفاده قدس سره من السببية أعني الآلية ، ومن الواضح أنّ هذا وجه آخر للتمسك بتلك الاطلاقات غير ما هو مطلوب الجماعة من توجيه التمسك بها بناء على كونها أسماء للأسباب وأنّها موضوعة لخصوص الصحيح.

وهذا الاشكال أعني اشكال التمسك بتلك المطلقات بناء على ما ذكر من كونها أسماء للأسباب وأنّها موضوعة لخصوص الصحيح منها هو الذي دعا الشيخ قدس سره في التقريرات إلى الالتزام بكون ألفاظ المعاملات موضوعة للأعم ، لأنّ دعوى كونها موضوعة للصحيح منافية بنظره قدس سره لصحة التمسك بتلك الاطلاقات كما يظهر من التقريرات مما أفاده من قوله : أقول - إلى قوله - : فتأمل (1) ، المتوسط بين ما نقله عن الشهيد الثاني وبين ما نقله عن صاحب الحاشية قدس سرهما.

لكن الشيخ قدس سره في أوائل البيع من المكاسب قبل الشروع في المعاطاة له قدس سره كلام في توجيه التمسك بالاطلاقات بناء على كونها موضوعة لخصوص الصحيح ينبغي مراجعته والتأمل فيه ، وهل هو مبني على كونها أسماء للمسببات أو أنّها أسماء للأسباب ، أو هو مبني على كونها فعلا بالآلة فراجعه وتدبر ، والذي يترجّح في النظر القاصر هو أنّ مراد الشيخ هناك

ص: 205


1- مطارح الأنظار 1 : 40 - 41.

بقوله : فالبيع الذي يراد منه ما حصل عقيب ... إلخ (1) ، أنّ البيع لم يستعمل إلاّ في نفس ذلك المعنى الذي ينشئه المنشئ ، أعني بذلك البيع الانشائي ، وهذا يتصف بالصحة والفساد ، وأنّه موضوع لخصوص الصحيح وأنه يمكن التمسك باطلاقه على الصحة بعد فرض كونه عند العرف بيعا ، وأنّ الاختلاف بين العرف والشرع عند ثبوته يكون من قبيل الاختلاف في المصاديق ، فيكون حينئذ عين ما أفاده شيخنا قدس سره من كونه فعلا بالآلة ، وحينئذ يكون مسلكه في المكاسب مخالفا لمسلكه في التقريرات.

وأما ما أفاده في الكفاية (2) من التوجيه فهو راجع إلى ما أفاده صاحب الحاشية (3) فيما لخّصه عنه في التقريرات (4) ، وحيث إنّ الشيخ قدس سره في التقريرات ردّ على صاحب الحاشية ما أفاده من التوجيه المذكور لرفع المنافاة بين دعوى كون ألفاظ المعاملات أسماء للصحيح وبين التمسك بتلك الاطلاقات ، أفاد في آخر كلامه في التقريرات بقوله : وبالجملة فلا نعلم وجها لتصحيح ما أفاده الشهيد قدس سره (5) بناء على أنّ التمسك بالاطلاقات أمر مفروغ عنه كما جرى عليه الشهيد نفسه في كتبه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ الوجه فيما أفاده في التقريرات أخيرا بقوله : ومما ذكرنا يظهر أنّ النزاع لا يجري في المعاملات ، هو ما أشرنا إليه وما يظهر منه مما تقدم منه من عدم تأتّي القول بالصحيح فيها ، لمنافاته للتمسك بالإطلاقات ، لا ما ربما يتوهم من توجيه ذلك بأنها أسماء

ص: 206


1- المكاسب 3 : 20.
2- كفاية الاصول : 33.
3- هداية المسترشدين 1 : 492.
4- مطارح الأنظار 1 : 41 - 42.
5- المصدر المتقدم : 44.

للمسببات ، فتأمل.

وأما عبارة الشهيد قدس سره فحاصلها دعوى كون ألفاظ العبادات والمعاملات عند الشارع أسامي للصحيح ، ولازم ذلك أنّ من نذر ترك واحد منها لا يحنث بفعل الفاسد لو كان في أول الشروع فيه فاسدا ، وأما ما يطرؤه الفساد في الأثناء فيحتمل فيه القول بالحنث ، نظرا إلى حاله قبل طرو المفسد ، ولكن الاقوى فيه عدم الحنث أيضا لأنّه وإن لم يكن فاسدا من أول الأمر إلاّ أنّه بعد طروّ المفسد يخرج عن كونه متعلق النذر ، فيكون الحاصل توقف تحقق الحنث على إتمامه صحيحا. وأما استثناؤه الحج فهو مبني على دعوى استفادة صحة إطلاقه عند الشارع على الفاسد من الأمر باتمام فاسده. وكيف كان فيكون حاصل العبارة دعوى اختصاص تلك الألفاظ عند الشارع بخصوص الصحيح.

ويظهر من قوله : « وسائر العقود » أنّ كلامه في المعاملات ناظر إلى مقام الأسباب ، وحينئذ فيتوجه عليه الاشكال بأنّها لو كانت مختصّة بخصوص الصحيح لسقط التمسك بالاطلاقات فيها ، ولا بد حينئذ من توجيه التمسك بما أفاده صاحب الحاشية والكفاية قدس سرهما.

وحاصل التوجيه وتوضيحه : أنّ أسماء المعاملات بعد فرض كونها أسماء للأسباب لا المسببات إما أن نقول بكونها موضوعة لمفاهيم عرفية والموضوع له عندهم هو الصحيح ، وليس للشارع تصرف في أصل معانيها ومفاهيمها ، بمعنى أنها ليست من الماهيات المخترعة للشارع كما قيل في العبادات بناء على الحقيقة الشرعية ، بل إن الشارع جرى في أصل تلك الماهيات المعاملية على طبق ما عليه العرف من أصل ماهياتها ومفاهيمها ، غايته أنه يحصل الاختلاف بين الشرع والعرف في بعض المصاديق مع

ص: 207

الاتفاق على المفهوم الكلي الذي وضع اللفظ بازائه كما يحصل الاختلاف بين العرف أنفسهم في المصاديق العرفية لمفهوم واحد عرفي من جهة تخطئة بعضهم بعضا في بعض مصاديقه كما في مصاديق الضار أو النافع ، أو من جهة اختلاف أذواقهم كما في مصاديق الملاحة والجمال ، أو من جهة اختلاف عاداتهم كما في مصاديق التحية والتعارف برفع ما على الرأس أو بالسلام أو برفع اليد على الرأس ، مع اعتراف الكل بأنّ الكل مصداق لذلك المفهوم الكلي.

وإما أن نقول بأنها موضوعة عند الشارع لمعان شرعية اختراعية وماهيات جعلية مغايرة لما هو عند العرف من معانيها ومفاهيمها ، واعتبرها أن تكون صحيحة بحيث تترتب عليها آثارها ، فيكون حالها حال أسماء العبادات بناء على القول الصحيحي.

وإمّا أن نقول بأنّ التصرفات الشرعية خارجة عن جميع هذه الانحاء ، بمعنى أنها ليست من قبيل تخطئة العرف ، ولا من قبيل اختلاف الذوق أو العادة ، ولا من قبيل الاختراع الجديد لماهيات ابتدائية ، بل إنه جرى في أحكامه على طبق تلك الماهيات العرفية ، غايته أنه في مقام ترتيب الأثر عليها قيّدها بقيد خاص مثل التقابض في المجلس في باب الصرف ومثل كون العقد بالعربية مثلا ونحو ذلك من القيود ، فيكون حال هذه القيود حال التقييد بمثل الايمان في اعتق رقبة مؤمنة. فهذه وجوه أربعة في المخالفة بين الشرع والعرف في مصاديق المعاملات مثل البيع :

أولها : كون ذلك التصرف الشرعي من قبيل الاختراع الجديد والتسمية الجديدة مثل باب العبادات.

ثانيها : أنه ليس من قبيل الاختراع الجديد لكنه من قبيل التخطئة في

ص: 208

المصداق.

ثالثها : أنه من قبيل اختلاف في التباني والاصطلاح الذي يكون منشؤه فيما بين العرف أنفسهم اختلاف الذوق أو اختلاف التباني ، مع الاعتراف من الجميع بأنّ الجميع مصداق للمفهوم الكلي.

رابعها : أن يكون من قبيل التقييد والتخصيص.

أما الاول : فيمكن منعه من جهة العلم بأنه ليس للشارع اختراع جديد في باب المعاملات وإنما يمكن ذلك في باب العبادات.

وأما الثاني : فهو الذي يظهر من الكفاية (1) ، لكنه ممكن المنع أيضا ، فان ذلك إنما يمكن في الماهيات الواقعية التي تكون لها آثار واقعية مثل النافع والضار ونحوهما ، دون باب المعاملات مما تكون آثارها اعتبارية محضة ، بل ليست إلا من قبيل الأحكام الشرعية أو العرفية ، ومن الواضح أنه لا معنى للتخطئة فيها.

وأما الثالث : فيمكن تطرق المنع إليه ، حيث إن لازمه اعتراف الشارع بأن ما لدى العرف أسباب أيضا ، غايته أنه جرى على أسباب خاصة غير تلك الأسباب ، وأنه عند إرادة التمليك لا يفعل إلا الأسباب التي جرى هو عليها ، وهذا لا ينافي ترتب الأثر على الأسباب العرفية التي جروا عليها كما نراه من اعتراف كل فريق بتحقق التعظيم بما يفعله الفريق الآخر فيما لو كان الاختلاف في المصاديق عاديا أو ذوقيا ، وحينئذ فالمتعين من هذه الوجوه هو :

الوجه الرابع ، وحاصله : أنه بعد فرض كون لفظ المعاملة كالبيع اسما للعقد عند كل من العرف والشرع ، يكون ترتب الملكية عليه من قبيل

ص: 209


1- كفاية الاصول : 33.

ترتب الحكم الشرعي على ذلك الموضوع ، فلو قيّده الشارع بقيد يكون ذلك كسائر التقييدات الطارئة على المطلقات ، فلا مانع من التمسك باطلاق دليل ذلك العقد عند الشك في اعتبار شيء فيه بعد فرض صدق اسم البيع عرفا على ما هو فاقد لذلك القيد المشكوك.

ثم لا يخفى أنّا لو أغمضنا النظر عمّا أشكلنا به على بقية الوجوه لكان التمسك بالاطلاق في مقام الشك لا بأس به على كل واحد من تلك الوجوه.

أما على الوجه الثاني والثالث فواضح ، لأنه بعد فرض الاتفاق من الشرع والعرف على مفهوم البيع الذي هو العقد المتضمن للمبادلة بين المالين ، لو فرضنا أن الشارع يخطّئ العرف في عدّهم العقد بالفارسية مثلا بيعا ، أو أنه كانت مخالفاتهم في ذلك من جهة مجرد التباني والاختلاف في الاصطلاح كما هو مقتضى الوجه الثالث ، لكان عليه البيان ، فلمّا لم يبيّن وأطلق البيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) (1) مع كونه في مقام البيان استكشفنا من ذلك الاطلاق أنّ ما يصدق عليه عند العرف ذلك المفهوم الكلي العرفي فهو عند الشارع أيضا كذلك.

ومنه يظهر الوجه في التمسك بالاطلاق المذكور بناء على الوجه الأول الراجع إلى دعوى كون هذه الألفاظ لها حقائقها شرعية مجعولة للشارع وأنها مختصة بخصوص الصحيح منها ، في قبال حقائها العرفية ، فانه لو وردت منه مطلقة ولم يقيّدها بقيد زائد على ما يعتبره العرف فيها ، لزمنا تنزيل ذلك الاطلاق على معانيها العرفية ، ويستكشف من ذلك أنه ليس للشارع اختراع جديد في قبال ما عليه العرف ، أو نقول إن ذلك إمضاء

ص: 210


1- البقرة 2 : 275.

لما جرى عليه العرف فيها ، ويكون ذلك الامضاء كافيا في كونها مجعولة للشارع ، إذ المراد من الجعل هو الأعم من الجعل التأسيسي والجعل الامضائي ، وهذا بخلاف أسماء العبادات فانها لمّا لم تكن لها حقائق عرفية لم يمكن تنزيل الاطلاقات فيها على المعاني العرفية.

ولكن في النفس شيء من هذا الوجه ، فان حاصله إثبات ظهور الاطلاق وعدم البيان في إرادة المعنى العرفي ، بأن السكوت وعدم البيان مع عدم إرادة المعنى العرفي مخلّ بالحكمة ، لأن اللفظ حينئذ ينزّل على المعنى العرفي مع أنه لا يريده ، ومن الواضح أن اللفظ لا ينزّل على ذلك إلا إذا كان له ظهور فيه ، فكان ظهور الاطلاق في إرادة المعنى العرفي موقوفا على كون السكوت مع إرادة خلافه خلاف الحكمة ، وكونه خلاف الحكمة يتوقف على ظهور الاطلاق في إرادة المعنى العرفي ، فجاء الدور.

مع أن هذا الوجه لو تمّ لجرى في العبادات أيضا ، إذ لا شبهة في أنّ لها معاني عرفية ، فحيث إنه لم يقيّدها بقيد على خلاف المعنى العرفي يستكشف من ذلك أنه لم يكن له اختراع جديد في تلك العبادة ، أو أنه قد أمضى ما عليه العرف في تلك العبادة ، فتأمل.

قوله : وأما ما في كلام صاحب التقريرات من أن العرف حيث يرى حصول المسبب بسبب معيّن عندهم فامضاء المسبب يستلزم إمضاء السبب عنده ، فغير تام ، فان المتبع هو أنظار العرف في تعيين المفاهيم لا في التطبيق ... إلخ (1).

قد عرفت فيما تقدم (2) أن الشيخ قدس سره في التقريرات بنى على خروج

ص: 211


1- أجود التقريرات 1 : 72.
2- في صفحة : 204 - 206.

أسماء المعاملات عن النزاع في الصحيح والأعم ، بل بنى على أنها موضوعة للأعم لأجل توقف صحة التمسك باطلاقاتها على ذلك. وأنه لو قلنا فيها بالصحيح لسقطت الاطلاقات المزبورة ، وأنه قدس سره أطال في الردّ على صاحب الحاشية القائل بهذه المقالة أعني كون المعاملات موضوعة عند العرف والشرع لخصوص الصحيح ، وإن اختلفت الأنظار في تعيين المصداق وأنّ الاطلاقات الشرعية تنزّل على أنّ الصحيح هو ما يراه العرف.

نعم ، إن الشيخ قدس سره (1) في المكاسب قبيل الشروع في المعاطاة تصدى لتصحيح التمسك بالاطلاقات بناء على كونها موضوعة لخصوص الصحيح ، وقد وجّهه بنحو هذا التوجيه الذي عرفت الكلام فيه ، وأنه هل هو مبني على كونها موضوعة للأسباب أو للمسبّبات ، وهل المراد بالمسبّبات هي المعاني الانشائية أو هي تلك الامور الواقعية الشرعية التي تحصل بتمام العقد وواجديته لجميع الأجزاء والشرائط. وفي تقريرات المرحوم الشيخ محمد علي (2) نقل هذا التوجيه عن المكاسب ، لكنه بناه على الاخراج عن اللغوية ، وأنت بعد مراجعتك للمكاسب لا تجد فيها لدعوى لزوم الخروج عن اللغوية عينا ولا أثرا.

وأما ما ذكره المحرر في الحاشية من قوله : بل التحقيق أن يقال : إنّ المراد بالمسبّب في المعاملة ليس هو الامضاء الشرعي أو إمضاء العقلاء ، ضرورة أن البيع ونحوه اسم لفعل البائع ، وهو يصدر منه لا من غيره ، بل المراد منه هو الاعتبار الصادر من البائع المظهر باللفظ أو بغيره ، والاعتبار أمر قائم بالمعتبر بالمباشرة بلا احتياج إلى سبب أو آلة ، وقد عرفت سابقا

ص: 212


1- المكاسب 3 : 20.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 80.

أنه لا أساس لما هو المعروف من كون الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ... إلخ (1).

فلا يخفى أنه راجع إلى ما أفاده شيخنا من أن المسبب هو فعل العاقد وبعبارة [ اخرى ](2) هو ما يوجده العاقد من البيع الانشائي. وأما كون هذا الاعتبار قائما بنفس العاقد وأن اللفظ يكون مبرزا له كما هو مبنى المحشّي في باب الانشاء ، فذلك مبنى لا أساس له ولا أصل سوى دعوى الكلام النفسي ، وأنّ اللفظ يكون مبرزا لذلك الكلام النفسي في كل من الاخبار والانشاء ، وقد تعرضنا لذلك في موقعه ، وحينما كنا مشغولين بهذه التعليقة على ما أفاده شيخنا قدس سره لم تكن هذه الطبعة الجديدة حاضرة لدينا ، ولكن الآن احتجنا في درس الفقه إلى مراجعة هذه المباحث فراجعنا الحاشية المذكورة وألحقنا هذا التعليق بما حررناه سابقا.

وكيف كان ، فالذي تلخّص في نظر الأحقر في هذه النظرة الأخيرة من هذه المعامع : هو أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره راجع إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في المكاسب ، وأنّ ما أفاده الشيخ قدس سره في المكاسب هو عين ما نقله في التقريرات عن صاحب الحاشية (3) ، وأن الجميع راجع إلى دعوى كون المراد من أسماء المعاملات هو المسببات الموجودة في عالم الانشاء لا تلك التي هي مرحلة الملكية الشرعية الواقعية المتحققة بعد الامضاء ، فانّ تلك لا تتصف بصحة وفساد بل بالوجود والعدم ، بخلاف الملكية الانشائية التي سماها شيخنا قدس سره بالأفعال بالآلة فانها تتصف بالصحة والفساد ولو

ص: 213


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 73.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
3- كما تقدم في صفحة : 206.

باعتبار آلتها ، وأنّ الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيح منها ، وأنه يمكن التمسك باطلاقاتها نظرا إلى كونها بيعا بحسب النظر العرفي ، فنحن محتاجون إلى التشبث بأذيال الصدق العرفي بعد فرض أنه لا اختلاف بين الشرع والعرف في مفهوم البيع.

وهناك مطلب آخر وهو دعوى كون الاختلاف بينهما من باب التخطئة. وقد عرفت أن الاختلاف في المصاديق مع الاتفاق على المفهوم الكلي يكون على أنحاء ثلاثة : التخطئة المبنيّة على التجهيل من الشرع للعرف نظير الاختلاف في مصداق النافع والضار. والاختلاف المبني على اختلاف الذوق. والاختلاف المبني على الاختلاف في التعارف والتباني ، وأنّ كلا منها لا يناسب البيع ، وحينئذ لا بد من القول بأنّ البيع موضوع من الموضوعات العرفية قد حكم عليه الشارع بالملكية ، وأنّ هذا الحكم ربما كان مقصورا عنده على بيع خاص ، وحيث لم يقيّده بمثل العربية مثلا علمنا أنه مطلق من هذه الجهة ، فلا يكون حال البيع الإكحال سائر المطلقات التي حكم عليها الشارع نظير الرقبة. ولعلّ ذلك هو مراد الشيخ في التقريرات من الحكم بخروجها عن محل النزاع في الصحيح والأعم ، فلاحظ وتأمل.

وخلاصة البحث : أنّ هذه الأسباب التي ذكرناها أعني الدواء النافع والدواء الضار ، وأسباب التعظيم والاجلال ، وأسباب الاستحسان وانشراح النفس تكون المسبّبات فيها أمورا واقعية ، وإنما الاختلاف في سببية تلك الأسباب لهاتيك المسبّبات ، فسببية الدواء الفلاني للنفع أو الضرر واقعية ، وسببية رفع ما على الرأس للتعظيم عادية ، وسببية الصوت الفلاني للانشراح طبعيّة ذوقية ، وهذا بخلاف سببية العقد لحصول الملكية فانّ

ص: 214

المسبّب فيها وهو الملكية من سنخ الأحكام.

وتوضيح ذلك : أنّ كون العقد سببا للملكية ليس المراد به مجرد العقد ، بل المراد به العقد الذي يقصد به إنشاء الملكية ، والمسبب فيه وهو الملكية من الأحكام الوضعية التابعة لاعتبار المعتبر ، سواء كان المعتبر لها هو العرف أو الشرع ولو من باب الامضاء ، فليس المسبب فيها من الامور الواقعية كي يكون الاختلاف فيها من باب التخطئة أو من باب اختلاف العادة أو من باب اختلاف الذوق ، بل يكون الاختلاف فيها من باب اعتبار الحكم وعدم اعتباره ، ففي الحقيقة يكون العقد المقصود به إنشاء الملكية موضوعا من الموضوعات ، ويكون محكوما عليه بتحقق الملكية عند تحققه ، وهو موضوع عرفي قابل للتوسعة والتضييق وقابل للتمسك فيه باطلاق دليل ذلك الحكم المجعول عليه. ولا فرق في ذلك بين كون الموضوع هو العقد الذي قصد به الملكية الانشائية ، وبين كون الموضوع هو تلك الملكية الانشائية التي أوجدها العاقد في صقعها الانشائي. فلا فرق في ذلك بين ما أفاده في الكفاية (1) من كون أسماء المعاملات هو العقد الذي قصد به إنشاء الملكية ، وبين ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من كونها أسماء لتلك المعاني الانشائية التي هي أفعال للعاقد بالآلة التي هي العقد ، فانّ كلا منهما يتصف بالصحة والفساد ولو باعتبار تمامية آلته وعدم تماميتها. فلو قلنا بأنها للأعم فلا إشكال في التمسك بالاطلاق ، كما أنا لو قلنا بأنها أسماء لخصوص الصحيح فلا إشكال أيضا في التمسك بالاطلاق ، بعد فرض كون العقد الذي يقصد به إنشاء الملكية أو كون الملكية المنشأة من الامور

ص: 215


1- كفاية الاصول : 33.
2- أجود التقريرات 1 : 74.

العرفية ، وأن الشارع لم يعتبر فيها أمرا زائدا على ما اعتبره العرف فيها ، ولعل قول الشيخ قدس سره في المكاسب : فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ بعت ، فيستدل باطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء به على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا ... إلخ (1) إشارة إلى إمكان التمسك بالاطلاق على كل من الوجهين المذكورين ، فلاحظ وتدبر.

قوله : لا إشكال في إمكان الاشتراك والترادف ... إلخ (2).

تقدم (3) الكلام على ذلك في مباحث الوضع ، ومجرد كون الوضع هو التباني لا ينافي التباني من الآخر أو بعد النسيان للتباني الأول ، والاستشهاد بما ذكره بعض المؤرخين (4) أو فلاسفة اللغة إنما هو على الامكان لا على الوقوع. والخلاصة : هي أنه لو ثبت الاشتراك أو الترادف فهو إنما يعلل بذلك. هذا في أصل اللغة ، أما فروعها ومنها الأعلام الشخصية فلا شبهة في وقوع الاشتراك فيها ، بل لعل العلم واللقب من الترادف ، فلاحظ وتأمل.

قوله : ولازمه الجمع بين اللحاظين في آن واحد وهو ممتنع ... إلخ (5).

إنّ الاستعمال شعبة من الوضع الذي عرفت أنه إيجاد للمعنى بايجاد اللفظ ، وجعل اللفظ نفس المعنى ، وهذا لا يعقل بالنسبة إلى معنيين

ص: 216


1- المكاسب 3 : 20.
2- أجود التقريرات 1 : 76.
3- تقدم البحث عن الترادف في مبحث الصحيح والأعم صفحة : 168 وما بعدها.
4- لاحظ ما ذكره جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية 1 : 54.
5- أجود التقريرات 1 : 76.

مستقلين إلاّ بنحو الاستعمال بالقدر المشترك أو في المجموع المركب منهما ، وكل من ذلك خارج عما هو محل الكلام.

ومنه يظهر لك الخدشة فيما في الحاشية (1) من جعل الاستعمال من قبيل كون اللفظ علامة على إرادة المعنى ، حتى لو قلنا بأنّ حاصل الوضع هو التباني ، فانّه إنّما يكون من قبيل البناء على أنه إذا أراد إحضار المعنى في ذهن فانّما يحضره بذلك اللفظ على وجه يكون إحضاره اللفظ إحضارا للمعنى ، لا أنه من مجرد التباني على التلفظ بذلك اللفظ عند إرادة المعنى ليكون ذكره اللفظ علامة صرفة على أنه أراد المعنى. مضافا إلى أنه لو تمّ كون حاصل الوضع هو جعل اللفظ علامة على إرادة هذا المعنى الذي هو الذهب مثلا ، كان مقتضاه هو أنّه لو أراد كلا من الذهب والباصرة لم يكن ذلك على طبق الوضع الذي هو جعل اللفظ علامة على إرادة الذهب تارة وإرادة الباصرة اخرى ، إذ لم يكن من الواضع التباني على كون ذكر اللفظ علامة على إرادة الاثنين.

وإن شئت قلت : إنّ إرادة الاثنين بارادة واحدة ليس من قبيل استعمال المشترك في الأكثر ، بل هو من الاستعمال في المجموع ، والذي هو محل الكلام هو تعدد الارادة بحيث يكون هذا مرادا مستقلا وذلك مراد مستقل ، فلو قلنا إنّ التباني كان على جعل اللفظ علامة على الارادة الواحدة فلا يدخل فيه جعله علامة على الارادتين ، فتأمل.

وأما التورية فهي من المواراة بمعنى كون المتكلم قاصدا لمعنى بلفظ ظاهره غيره ، نظير ما يذكرونه في لزوم التورية عند الالتجاء إلى الكذب أو

ص: 217


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 76.

التكلم بكلمة الكفر. وبالجملة أنّ المورّي لا يكون قاصدا للمعنيين وإلا لم تكن فيها مندوحة عن الكذب أو الكفر ، وإنما هو قاصد لواحد منهما ساترا له في ظهور اللفظ بآخر أو باجمال اللفظ ، وإلا فكيف يقصد الفعل والاسم في قوله : « قالت صف ورد خدّي وإلاّ أجور ، فقلت جوري » وقوله : « قالت وجسيمك يوم البين صفة عسى نعوده ، فقلت يا أهل الهوى عودوا » إلى غير ذلك من أمثلته.

ص: 218

[ مبحث المشتق ]

قوله : منها : ما يكون مبدأ الاشتقاق فيه نفس الذات أو مقوّما للذات ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ الذات مركبة من المادة والصورة ، وانعدام الصورة والتبدل إلى صورة نوعية اخرى مثل تبدل الحيوان ملحا أو ترابا معقول. نعم إنه غير داخل في محل النزاع في المشتق ، أمّا انعدام المادة وحدها أو هي مع الصورة فلعل ذلك غير معقول.

قوله : كعنوان العلة والمعلول والممكن ... إلخ (2).

لا يخفى أنّ كون الشيء علة أو كونه معلولا أو كونه ممكنا لا يتصور فيه الانقضاء ، وليس الاشكال فيه مثل الاشكال في أسماء الزمان ممّا لا بقاء للذات فيه بعد انقضاء المبدأ. بل هذا ونحوه ممّا هو من لوازم الذات مثل زوجية الأربعة لا يتصور فيه الانقضاء ، فانّ العلة علة وجدت أو كانت معدومة أو انعدمت بعد الوجود ، وهكذا في إمكان الممكن وزوجية الأربعة فانّ جميع ذلك ممّا لا يتصور فيه انقضاء المبدأ يكون خارجا عن محل النزاع ، لا من جهة أنّ المبدأ غير قابل للزوال مع بقاء الذات كما في الحاشية (3) ، بل من جهة أن هذا المبدأ غير قابل للزوال عن الذات ، سواء

ص: 219


1- أجود التقريرات 1 : 78.
2- أجود التقريرات 1 : 78.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 79.

كانت الذات معدومة أو كانت موجودة أو انعدمت بعد الوجود. والحاصل : أن ما هو من لوازم الذات غير داخل في محل النزاع. نعم إنّ خروجه من جهة خصوصية المادة وإن كان هو مساويا لباقي المشتقات بحسب الهيئة.

وبالجملة : أن النزاع في هيئة المشتق إنما هو فيما تكون مادته قابلة للانقضاء ، ليتكلم في أن استعماله بعد الانقضاء مجاز أو حقيقة ، ولعله سيأتي إن شاء اللّه تعالى مزيد توضيح له في أسماء الزمان (1).

نعم يمكن أن يقال إن هذا الاشكال إنما يتأتى في لوازم الماهية مثل زوجية الأربعة وإمكان الممكن ، أما علية العلة ومعلولية المعلول فهما من لوازم الوجود ، وعند ارتفاع الوجود يرتفع العنوان وهو العلية ، وحينئذ يكون حاله حال اسم الزمان فلاحظ.

[ مسألة ](2) لو قارن عقد إحدى الاختين العقد على الاخرى بطل العقدان ، وله بعد ذلك أن يتزوج بمن شاء منهما. وكذا لو طرأت الاختية الرضاعية ، بأن كانت له زوجتان صغيرتان فرضعت إحداهما عند ام الاخرى.

والظاهر أن الأمر كذلك في البنت والأمّ ، فلو كان عقده على إحداهما مقارنا لعقده على الاخرى بطل العقدان ، وله التزوج بالبنت بعد ذلك بل بالام لعدم حرمتها عليه أبدا ، لأن المفروض بطلان زوجية كل منهما بمعنى عدم تحققها لا تحققها وارتفاعها. نعم لو كانت البنتية طارئة ، بأن كان متزوجا بهما وأرضعت الكبرى منهما صغراهما ، حرمت الصغرى جمعا والكبرى ذاتا لتحقق زوجية كل منهما قبل الارضاع ، وارتفاع الزوجية عن كل منهما بالارضاع ، وهي المحررة في مسألة المشتق.

ص: 220


1- في صفحة : 239.
2- [ هذه المسألة حررها قدس سره في ذيل هذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في المتن ].

قوله : أما في الفرض الاول ( يعني فرض عدم الدخول أصلا ) فبمجرد تحقق الرضاع تتحقّق الأميّة والبنتيّة بينهما ، فتبطل زوجيتهما معا ، لعدم إمكان الجمع بين الأمّ والبنت في الزوجية في زمان واحد ولو بقاء ، فلا محالة يرتفعان معا لعدم المرجّح في البين ... إلخ (1).

قال العلامة الخراساني قدس سره في رسالته الرضاعية : إنّ الحكم بحرمة الصغيرة جمعا بالمعنى المزبور مع الحكم بحرمة الكبيرة مؤبدا أشكل. وما ذكر من التعليل من لزوم الترجيح بلا مرجّح من الحكم بصحة نكاحها عليل لعدم لزومه ، فانّه إنّما يلزم لو لم يكن الرضاع موجبا لحرمة الكبيرة وفساد نكاحها عينا ، وأما معه فلا موجب لفساد نكاح الصغيرة لعدم الجمع بين البنت وامها ، إلى آخر ما أفاده قدس سره (2).

ويمكن الجواب عنه : بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من اختلاف الرتبة ، فانّ الكبيرة غير المدخول بها عند إرضاعها الزوجة الصغيرة يتحقق كون الكبيرة أم الزوجة وكون الصغيرة مجتمعة في الزوجية مع الكبيرة ، وحكم الأول حرمة الكبيرة ذاتا وحكم الثاني هو حرمة الجمع القاضي بانفساخ نكاح الصغيرة لعدم الترجيح في تلك المرتبة ، فيترتب الحكمان معا في رتبة واحدة ، كما أنه قد تحقق الموضوعان في رتبة واحدة ، والحكم في الكبيرة وهو حرمتها ذاتا لكونه متأخرا عن كل من العنوانين لا يرفع عنوان الصغيرة الذي هو موضوع ارتفاع العقدين أعني اجتماعهما معا في الزوجية ، فان هذا الموضوع وهو الاجتماع في رتبة موضوع حرمة الكبيرة وهو كونها ام الزوجة.

ص: 221


1- أجود التقريرات 1 : 81.
2- كتاب الرضاع ( ضمن الرسائل الفقهية ) : 150.

لا يقال : إنّ حرمتها ذاتا مرجح ، فيبطل به موضوع الثاني أعني الاجتماع وعدم المرجّح.

لأنا نقول : إنّ ذلك أيضا متأخر رتبة ، فلا يعقل كونه رافعا لعدم المرجح الذي هو في الرتبة السابقة.

وأما ما أجاب به في البلغة بقوله : إنّ المانع هو امتناع اتحاد زمان زوجية الأمّ وبنتها ، وهو كما يمنع عن تأثير العقدين ابتداء كذلك يمنع عن دوام أثرهما ، وبعد الانفساخ لا مانع عن تجديد العقد على البنت ما لم يدخل بامها (1) ، فلعلّه ناظر في قوله « هو امتناع اتحاد زمان زوجية الأمّ وبنتها ... إلخ » إلى ما عرفت من اختلاف الرتبة الذي أجاب به عن الاشكال الآخر في حرمة الكبيرة ، وإلاّ فانّ الفرق بين الابتداء والدوام واضح كما أفاده قبيل هذا بقوله « ولا يقاس المقام بالعقد على الأمّ وبنتها دفعة ، لعدم التاثير في كل من العقدين الموجب لعدم تحقق الزوجية لكل منهما ... إلخ » فانّ العقد الابتدائي على كل منهما موجب لعدم المرجح ، فانّ الكبيرة إنما تكون أم الزوجة لو تم العقد على البنت ، والمفروض عدم تماميته فعلا. وهذا بخلاف المقام فانّ الزوجية لكل منهما محققة ، وأمومة الكبيرة توجب حرمتها ، فيمكن القول بأنها تتعين لبطلان الزوجية ، ولا دافع لذلك إلا ما عرفت من اختلاف الرتبة فلاحظ. وليس اختلاف الرتبة راجعا إلى دعوى قطع النظر عن حرمة ام الزوجة مؤبدا كما في الحاشية ، فانّ حرمة الأمّ لو كان مؤثرا في رتبة الموضوع فلا وجه لقطع النظر عنه ، لأن تأثيره حينئذ قهري ولا يدفعه قطع النظر عنه ، فلاحظ وتدبر.

ص: 222


1- بلغة الفقيه 3 : 179.

قوله : والمفروض في المقام عدم التحريم من غير جهة المصاهرة لفرض أن اللبن من غيره ... إلخ (1).

لتكون حرمة الصغيرة من جهة كونها ربيبة ، وذلك إنما يكون إذا كان اللبن من غيره ، كما لو كان تزوج الكبيرة في حال كونهما مرضعتين بولادة من غيره ، ولأجل ذلك احتيج إلى التقييد بالدخول باحدى الكبيرتين. أما لو كان اللبن منه كانت الصغيرة بنتا رضاعية له ولا يحتاج في الحكم بحرمتها إلى الدخول بالمرضعة ، بل هي حرام مؤبدا سواء كان قد دخل بالمرضعة كما هو الغالب أو كانت غير مدخول بها كما لو كان قد وطئها شبهة فأولدها ثم تزوجها في حال إرضاعها لولدها وقد أرضعت زوجته الصغيرة ، وكما لو حملت منه بغير الوطء والدخول ، أو كانت قد حملت منه ثم طلقها وبعد وضعها الحمل تزوجها ، على إشكال في كون الأخيرتين ممّن لم يدخل بها.

قوله : ولكن هذا التوهم إنّما يتم إذا كان المعروض هو الشخص دون الكلي ... إلخ (2).

لا يخفى أن الكلي المتكرر فرده في كل سنة في مثل مقتل الحسين عليه السلام إنما هو يوم العاشر لا مقتله عليه السلام فانّ حقيقة المقتل هو زمان القتل وليس هو المراد باليوم العاشر ، وحينئذ فلا بد من لحاظ زمان القتل مجردا عن الخصوصية وأخذه كليا ، واعتبار أفراده المتكررة في كل سنة شيئا واحدا متصلا ، ويكون وقوع الحدث في واحد منها مصححا لاعتبار وقوعه في الجميع أعني ذلك الأمر الواحد الاعتباري ، ويكون انقضاؤه عن ذلك

ص: 223


1- أجود التقريرات 1 : 81 [ المنقول هنا مخالف مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 83.

الجزء انقضاء عن الجميع مع بقاء الذات ، وهكذا الحال فيما إذا كان الزمان متصلا كما في صدق المقتل على يوم القتل كله مع كونه واقعا في جزء منه.

وبالجملة : لا بد من لحاظ أفراد اليوم العاشر كشيء واحد متصل قد اتصف بأنّه وقع فيه القتل وقد انقضى عنه القتل ، وبقيت الذات ببقاء ذلك الامر الواحد الاعتباري وهو مجموع تلك الأيام التي يجمعها العنوان الكلي الذي هو اليوم العاشر ، وإن شئت تفصيل ذلك وتوضيحه فراجع ما علّقناه على الكفاية في هذا المقام (1).

ثم لا يخفى أنّ هذا التوهم إنّما يتم إذا كان لفظ المقتل مثلا مشتركا لفظيا بين اسم المكان والزمان ، أما [ لو ](2) قلنا كما هو غير بعيد بأنه موضوع لمحل الحدث سواء كان زمانا أو كان مكانا ، فلا يكون الاشكال المزبور متوجها أصلا.

قوله - فيما نقله عن الايضاح (3) - : لعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق ، انتهى (4).

تتمته : « فكذا هنا » ، ولعل في هذه التتمة إيماء إلى أنّ مراد الايضاح الاعتراف بعدم شمول عنوان النزاع أعني المشتق لمثل الزوجة ، إلا أنّه يريد أن يلحقه بذلك العنوان إلحاقا. وقد تعرض في البدائع (5) لهذه الجهة فراجع.

ص: 224


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- إيضاح الفوائد 3 : 52.
4- أجود التقريرات 1 : 81.
5- بدائع الافكار للمحقق الرشي قدس سره : 175 - 176.

قوله : وكذا مما اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس سره من أن انحصار الكلي ... إلخ (1).

لا يخفى أنه يرد على ما أفاده في الكفاية (2) أنه أوّلا : لا يتم به القول بأن الاستعمال فيما مضى مجاز ، فانّ اللازم منه هو عدم صحة الاستعمال في الآن الآخر ، لأنه ذات اخرى لم تتلبس بالمبدإ ، مع أن الوجدان شاهد على صحته ، فنستكشف من ذلك ما ذكرناه من لحاظ الوحدة في أجزاء الزمان أو في أفراده. وثانيا : أن لازمه عدم الثمرة لدخول اسم الزمان فيما هو محل النزاع.

قوله : ثم إن لفخر الدين قدس سره دليلين آخرين على تحريم المرضعة الثانية ، وحاصل أحدهما ... إلخ (3).

الأولى نقل عبارة العلامة قدس سره في القواعد ثم نقل عبارة الايضاح. قال العلامة قدس سره في القواعد : ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب فالأقرب تحريم الجميع ، لأنّ الأخيرة صارت أم من كانت زوجته إن كان قد دخل باحدى الكبيرتين ، وإلا حرمت الكبيرتان مؤبدا وانفسخ عقد الصغيرة ... إلخ (4) وعقّبه الفخر في الايضاح بقوله : أقول : تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول باحدى الكبيرتين بالاجماع. وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن ادريس تحريمها ، لأن

ص: 225


1- أجود التقريرات 1 : 84 [ وسيأتي في الصفحة 240 التعليق على هذه العبارة مرة اخرى ]
2- كفاية الاصول : 40.
3- أجود التقريرات 1 : 82 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
4- قواعد الأحكام 3 : 25.

هذه يصدق عليها أنها ام زوجته ، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه فكذا هنا ... إلخ (1).

ولا يخفى أنّ فرض كلامهما في المسألة إنّما هو فيما لو لم يكن اللبن للزوج وإلاّ فلو كان اللبن للزوج كانت حرمة الصغيرة من جهة كونها بنتا رضاعية له لا لكونها ربيبة ، وحينئذ يكون التقييد بالدخول لغوا ، إذ لا يتوقف حرمة البنت الرضاعية على الدخول.

ولا يخفى أنّ عبارة الفخر في نقل الكفاية (2) مشتملة على قوله « مع الدخول بالكبيرتين » باسقاط لفظة « إحدى » ، والصحيح هو وجودها كما نقلناه عن الايضاح ، وهي أعني عبارته إنما كانت تعقيبا لعبارة والده في القواعد. وعبارة القواعد ناظرة إلى ما بعد الرضاعين ، فتكون حرمة الصغيرة مؤبدا متوقفة على الدخول باحدى الكبيرتين ولا تحتاج إلى الدخول بكل منهما أو الدخول بخصوص الاولى ، هذا في التحريم الأبدي بالنسبة إلى الصغيرة بعد تمامية الرضعتين ، فانه يتوقف على الدخول باحدى الكبيرتين. وأما تحريمها جمعا القاضي بانفساخ عقد الصغيرة ، فهو يكفي فيه مجرد الرضاع منها وإن لم يكن في البين دخول كما صرّح به العلامة قدس سره بقوله : « وإلا حرمت الكبيرتان مؤبدا وانفسخ عقد الصغيرة ... ».

ولا يخفى أن تحريم الكبيرة الثانية متوقف على مسألة المشتق سواء كان لبن الاولى للزوج أو كان لغيره ، كانت مدخولا بها أو كانت غير مدخول بها. أما الأول فلأن البنت صارت بنتا للزوج ، وأما الثاني فلأنها بنت

ص: 226


1- إيضاح الفوائد 3 : 52.
2- كفاية الاصول : 39.

المدخول بها. وأما الثالث فلانفساخ عقد الصغيرة لحرمة الجمع ، وحينئذ لا يكون رضاع الثانية إلا بعد انسلاخ الزوجية عن الصغيرة ، فينحصر التمسك بمسألة المشتق ، فلاحظ.

والحاصل : أن ابتناء المسألة على المشتق إنما هو في الرضاع من الكبيرة الثانية ولا دخل فيه للدخول ، فان الثمرة تترتب وإن لم يكن دخول في الكبيرة الاولى ولا في الكبيرة الثانية.

ثم قال الفخر ما هذا لفظه : ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم ، بل لو صدق قبله كفى ، فيدخل تحت قوله ( وامهات نسائكم ) (1) ولمساواة الرضاع النسب ، وهو يحرم سابقا ولاحقا فكذا مساويه. وقال الشيخ في النهاية (2) وابن الجنيد (3) لا يحرّم لما رواه علي بن مهزيار عن ابي جعفر عليه السلام. قال : « قيل له : إن رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة اخرى - الى قوله - فقال عليه السلام : حرمت الجارية وامرأته التي أرضعتها أوّلا ، أما الأخيرة لم تحرم عليه » (4). والجواب المنع من صحة سند الرواية ... إلخ.

قلت : أما الوجه الأول فهو مبني على كون الموضوع هو الزوجة ، وحكمه هو حرمة أمها ، وكون هذا الموضوع مأخوذا على نحو يكون حدوثه علة في تحقق الحكم ولو كان متعلق هذا الحكم وهو الامية متأخرا عن ذلك الموضوع.

ص: 227


1- النساء 4 : 23.
2- النهاية : 456.
3- حكاه عنه العلامة في المختلف 7 : 44 مسألة 11.
4- وسائل الشيعة 20 : 402 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب 14 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

ولا يخفى أنه يمكن الفرق بينه وبين مثل قوله تعالى ( لا ينال عهدي الظالمين ) (1) فانّ ما ينطبق عليه الموضوع فيما نحن فيه وهو الزوجة لم يكن هو متعلق الحكم وهو الحرمة ، بل إن متعلقه هو ام تلك الزوجة المفروض أنّ أمومتها لم تتحقق إلا بعد انقضاء الزوجية ، وهذا بخلاف موضوع الحكم في الآية فانّ ما ينطبق عليه هو بنفسه متعلق الحكم فيها وهو عدم نيل العهد ، فيمكن أن يقال : إن حدوث الظلم يكون علة لحدوث ذلك الحكم ولبقائه ولو بعد زواله ، وذلك من جهة مناسبة الحكم وهو الولاية والموضوع وهو الظلم ، وهذا بخلاف حدوث الزوجية فيما نحن فيه فانّه لا دليل على كونه علة لحرمة الأمّ التي تكون امومتها بعد انقضاء الزوجية ، فتأمل.

وأما الوجه الثاني : فهو مبني على مقايسة حرمة أم الزوجة الرضاعية بحرمة بنتها النسبية بأن يقال كما أن انقضاء الزوجية عن الأمّ لا ينافي حرمة بنتها النسبية ، التي ولدتها بعد انقضاء الزوجية عنها فيما لو طلّق زوجته ثم تزوجت بآخر فأولدها بنتا ، فتحرم هذه البنت على الزوج الأول لأنها بنت زوجته ، فكذلك انقضاء الزوجية عن البنت لا ينافي حرمة امها الرضاعية التي تكون امومتها بعد انقضاء الزوجية عن البنت. فان كان تحريم تلك البنت النسبية بعد انقضاء الزوجية عن امها لأنها يصدق عليها أنها بنت من كانت زوجته بناء على كون المشتق للأعم ، فكذلك ينبغي أن يقال تحرم هذه الأمّ الرضاعية فيما نحن فيه لأنها يصدق عليها أنها ام من كانت زوجته ، غايته أن البنتية هناك نسبية ويمكن أن تكون رضاعية ، بخلاف

ص: 228


1- البقرة 2 : 124.

الامومة هنا فانها لا تكون إلا رضاعية ، وهذا المقدار غير فارق.

اللّهم إلا أن يقال : إن المسألة وإن أمكن ابتناؤها على كون المشتق للأعم ، إلا أنه يمكن أن يمنع من كون المشتق للأعم ، ونلتزم بحرمة البنت في المثال لكونها مورد النصوص والاجماع ، بخلاف حرمة الأمّ فيما نحن فيه ، لكن الالتزام بكون الحرمة في ذلك للنص بعيد.

وان شئت قلت : إن تلك المسألة داخلة في عنوان عام وهو كونها بنتا للمدخول بها ، وهو وحده موجب لتحريم البنت سواء كان الدخول باعتبار النكاح الدائم والمنقطع أو كان بوطء الشبهة أو كان من قبيل الزنا ، فانّ الدخول في جميع ذلك محرّم للبنت ، فليس هو منوطا بالزوجية بالنسبة إلى الأمّ كي يكون مبنيا على المشتق ، بخلاف ما نحن فيه فانّ تحريم الأمّ منوط بزوجية البنت المفروض انقضاؤها ، فلا يكون جاريا إلا على القول بالأعم في مسألة المشتق ، فلاحظ.

قال المرحوم الشيخ محمد علي قدس سره في تقريره : وأما الوجه الأخير فحاصله : أنّ لحمة الرضاع كلحمة النسب ، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) ، ومن المعلوم أنه لو تزوج بابنة ثم طلّقها تحرم عليه امها مع زوال زوجيتها بالطلاق ، فكذلك في الأمّ والبنت الرضاعية تحرم الأمّ الرضاعية ولو خرجت البنت عن الزوجية كما في المقام (2).

وفيه : ما لا يخفى ، فانه بمجرد العقد على البنت تحرم امها ذاتا ودواما ، فلا يؤثر فيه انسلاخ البنت عن الزوجية ، ولا يكون بقاء حرمة الأمّ مبنيا على مسألة المشتق ولا على الوجهين اللذين ذكرهما الفخر ، فانّ حرمة

ص: 229


1- وسائل الشيعة 20 : 371 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب 1.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 87.

ام الزوجة لا رافع لها ، سواء كانت قبل الزوجية كما في المثال نسبا أو رضاعا أو كانت متأخرة عن الزوجية مع مقارنتها كما لو تزوج البنت ثم أرضعتها امرأة أجنبية ثم طلقها ، وهذا إنما يتصور في الرضاع دون النسب ، ولا دخل له بما نحن فيه من تأخر الامومة الرضاعية عن انسلاخ الزوجية للبنت ، فلاحظ وتأمل.

اللّهم إلا أن يقال : إنّ العقد على البنت يوجب حرمة امها لدخولها تحت قوله تعالى ( أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) (1) سواء كانت الامومة قبل الزوجية من نسب أو رضاع أو كانت بعد الزوجية كما إذا كانت من الرضاع ، ولكنه مبني على كون الامهات في الآية شاملا للنسب والرضاع لا أنه مختص بالامهات نسبا ، وإلحاق الامهات رضاعا يكون بمقتضى « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فانّه بناء على ذلك لا دليل على حرمة الأمّ فيما نحن فيه إلاّ على القول بالأعم في مسألة المشتق ، إلا على تكلّف وهو شمول الامهات لكل ما يفرض امّا نسبية ، حتى ما لو كان محالا كما في الأمّ النسبية بعد زوجية الأم ، وحينئذ يكون قوله « يحرم من الرضاع » موجبا لتنزيل الأمّ الرضاعية منزلة تلك الأمّ النسبية المفروضة الوقوع وإن لم تقع بل كان وقوعها محالا ، فتأمل فانّه لا يتم إلا إذا فرضنا الامومة النسبية متأخرة عن انسلاخ زوجية البنت ، فلو حرمت من النسب حرمت من الرضاع ، لكن لا دليل على حرمة تلك الأمّ النسبية التي فرض ولو محالا وقوع أمومتها بعد انسلاخ زوجية البنت إلا على مسألة العموم في المشتق ، فلاحظ وتأمل.

مسألة : لو كانت له زوجة صغيرة فطلّقها فأرضعتها زوجة أخيه مثلا فهل تحرم عليه زوجة أخيه ويحل له النظر اليها باعتبار كونها ام زوجته؟

ص: 230


1- النساء 4 : 23.

ربما تبتني المسألة على المشتق ، وتقاس على ما لو طلّق زوجته بعد الدخول فتزوجت بآخر وأولدها بنتا ، فان البنت تحرم على الزوج الأول مع فرض حدوث البنتية بعد انتفاء الزوجية.

وأجاب عنه في الجواهر (1) بالفرق في صدق المشتق بين بنت الزوجة وبين ام الزوجة. هذا والظاهر عدم الفرق من ناحية المشتق كما أورد عليه في البلغة (2).

ولكن هناك فرق آخر ، وهو أن البنت المتأخرة عن الطلاق بعد الدخول لا إشكال في حرمتها لكونها بنت المدخول بها وإن لم تكن زوجة حين الدخول فضلا عن عدم كونها زوجة حين تحقق البنتية ، وهذا بخلاف مسألتنا في ام الزوجة فان حرمة الأمّ منوطة بكونها ام الزوجة ، فلا يمكن القول بالحرمة إلا بناء على مسألة المشتق ، وام المدخول بها وإن كانت حراما وإن لم تكن المدخول بها زوجة ، إلاّ أن فرض ما نحن فيه هو عدم الدخول بالبنت فينحصر الكلام بحرمة الأمّ باعتبار كونها ام الزوجة ولا دخل لذلك بام المدخول بها ، فلاحظ وتأمل.

أما لو كان الطلاق في مسألة الربيبة قبل الدخول ، بأن طلق زوجته قبل الدخول بها ثم تزوجت بآخر فأولدها بنتا ، فان هذه البنت لا تحرم على المطلّق لا ذاتا لعدم الدخول بامها ولا جمعا لأن المفروض كون الأمّ مطلّقة.

مسألة : لو أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة ، ففي المسألة صور أربع :

الاولى : كون الكبيرة مدخولا بها وكون اللبن لبنه ، فتحرم الكبيرة

ص: 231


1- جواهر الكلام 29 : 332.
2- بلغة الفقيه 3 : 183 وما بعدها.

لكونها ام زوجته ، والصغيرة لكونها بنته رضاعا ولكونها بنت زوجته المدخول بها ، والحرمة في كل من الصغيرة والكبيرة ذاتية.

الثانية : كون الكبيرة مدخولا بها وكون اللبن لغيره كما لو تزوجها وهي ذات لبن من زوج سابق أو من شبهة. والحكم في هذه كالاولى من كون الحرمة فيهما ذاتية ، غير أنها في الصغيرة من جهة واحدة وهي بنت زوجته المدخول بها.

الثالثة : عدم الدخول بالكبيرة لكنها ذات لبن منه كما لو طلّقها وهي ذات لبن منه أو وطئها شبهة ثم تزوجها ولم يدخل بها فأرضعت زوجته الصغيرة ، فيكون الحال في هذه الصورة عين الحال في الصورة الاولى غير أن حرمة الصغيرة ممحّضة لكونها بنته لا لكونها بنت زوجته المدخول بها.

الرابعة : عدم الدخول بالكبيرة وعدم كون اللبن له ، بل كان اللبن لغيره بأن أولدها الغير نكاحا أو شبهة ثم تزوجها الثاني فأرضعت زوجته الصغيرة ، وفي هذه الصورة تحرم الكبيرة لكونها ام زوجته ولا تحرم الصغيرة ذاتا لعدم كونها بنتا له ولعدم كون أمها الرضاعية مدخولا بها ، لكنها تحرم جمعا فيبطل نكاحها بالرضاع ، وله تجديد العقد عليها ، بل قد يقال لا يحتاج إلى تجديد العقد لعدم تحقق الاجتماع في الزوجية بينهما كي يبطل نكاح الصغيرة ، فلاحظ وتأمل.

ولا يخفى أن الصغيرة في الصورة الثالثة (1) والرابعة تحرم ذاتا على صاحب اللبن لكونها بالنسبة إليه بنتا رضاعية للمدخول بها.

قوله : وأما في الفرض الثاني ( يعني الدخول بالمرضعة الاولى ) فلا إشكال في تحريم الرضيعة وأمها ( المفروض كونها مدخولا بها ) وبطلان

ص: 232


1- [ هكذا فيما يتراءى من الأصل والصواب ( الثانية ) فلاحظ ].

زوجيتهما ، لكون الرضيعة بنت الزوجة المدخول بها ربيبة وكون الأمّ أم الزوجة ... إلخ (1).

قال العلامة الخراساني قدس سره في رسالته الرضاعية : قلت : لا يذهب عليك أنّ الحكم بحرمة الكبيرة مشكل ، لعدم صيرورتها أم الزوجة لو قيل باعتبار بقاء التلبس بالمبدإ في صدق المشتق ، لارتفاع زوجية الصغيرة في مرتبة صيرورة الكبيرة امّا - إلى أن قال : - اللّهم إلا أن يقال إنّ ذلك كذلك دقة ، أما عرفا فيصدق أنّها صارت أم الزوجة حقيقة ولو بناء على اعتبار بقاء التلبس بالمبدإ فتأمل ... إلخ (2).

قلت : لا يخفى أنّ الذي هو في مرتبة كون الكبيرة امّا إنما هو كون الصغيرة التي هي زوجة ، بنت الزوجة ، وهذا أعني كون الصغيرة التي هي زوجة ، بنت الزوجة يكون علة وموضوعا لارتفاع زوجية الصغيرة ، فيكون ارتفاع زوجية الصغيرة متأخرا رتبة عن كون الكبيرة امّا للزوجة ومقارنا لارتفاع زوجية الكبيرة.

وبالجملة : أنّ الرضاع علة لكون المرضعة امّا ولكون الرضيعة بنتا. والاول وهو كون المرضعة امّا علة في انسلاخ زوجيتها. والثاني وهو كون الرضيعة بنتا علة في انسلاخ زوجية الصغيرة. وهذا الحكم وهو انسلاخ زوجية الصغيرة لا يصلح لرفع موضوع الحكم في الكبيرة أعني كونها امّا لزوجته ، لأن هذا الموضوع وهو كون الكبيرة امّا لزوجته الصغيرة توأم في الرتبة لموضوع انسلاخ زوجية الصغيرة أعني كونها بنتا لزوجته الكبيرة ، وكما لا يصلح أن يكون الحكم رافعا لموضوع نفسه ، فكذلك لا يصلح

ص: 233


1- أجود التقريرات 1 : 82 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كتاب الرضاع ( ضمن الرسائل الفقهية ) : 150.

لرفع ما هو مقارن في الرتبة لموضوع نفسه.

والخلاصة : هي أنّ ما هو متأخر في الرتبة لا يصلح لرفع ما هو سابق عليه في الرتبة ، فان الرضاع قد جعل الصغيرة التي هي زوجته بنتا لزوجته كما قد جعل الكبيرة التي هي زوجته امّا لزوجته الصغيرة. ومع قطع النظر عن الحكم الشرعي أعني الحرمة وانسلاخ الزوجية في كل منهما ، يكون قد اجتمع في الصغيرة : الزوجية وبنت الزوجة ، وفي الكبيرة أيضا : الزوجية وأم الزوجة ، وبعد رتبة الاجتماع في كل منهما تأتي رتبة الحكم في كل منهما وهو الحرمة الموجبة لانسلاخ الزوجية عن كل منهما ، وهذا الانسلاخ لا ينافي تحقق الزوجية في رتبة الموضوع في كل منهما ، فلاحظ وتدبر.

ولو صحّ ما أفاده قدس سره لكان الحكم في كل منهما وهو انسلاخ الزوجية رافعا لموضوع ذلك الحكم في الاخرى ، فانّ انسلاخ زوجية البنت لو أوجب عدم كون الأمّ امّا للزوجة لكان انسلاخ زوجية الأمّ موجبا لعدم كون البنت بنتا للزوجة ، وحينئذ يكون الحكم في كل منهما وهو الانسلاخ عن الزوجية رافعا لموضوع الانسلاخ في الاخرى ، فيؤول الأمر إلى أنّ الانسلاخ في كل منهما موجب لبقاء الزوجية في كل منهما (1) وبقاؤها في كل منهما موجب لارتفاعها في الاخرى ، فيكون الانسلاخ في كل منهما موجبا لعدم ذلك الانسلاخ ، وكل هذا إنّما نشأ من إدخال الحكم في مرتبة الموضوع.

اللّهم إلا أن يقال : إنّ حرمة البنت ليست منوطة بكونها بنت الزوجة كي يرتفع بحرمة الأمّ ، بل هي منوطة بكونها بنت المدخول بها أو بنت المعقود عليها ، وذلك لا يرتفع بطروّ الحرمة على الأمّ ، وهذا بخلاف حرمة

ص: 234


1- ولعلّ ذلك هو مراده ، فانه يريد أن يبطلهما من ناحية اجتماع الزوجيتين ليكون له تجديد العقد على كل منهما [ منه قدس سره ].

الأمّ فانّها منوطة بكونها ام الزوجة وهو مرتفع بحرمة البنت.

ثم لا يخفى أنّ هذا الانقضاء ليس زمانيا كي يدخل تحت النزاع ، وإنما هو بحسب الرتبة ، حيث إنّ زوجية الصغيرة وإن انسلخت إلا أنّ انطباق ام الزوجة على المرضعة الاولى إنما هو في زمان زوجية الصغيرة وان كان في رتبة الانسلاخ. وبالجملة أنّ انسلاخ الزوجية عن الصغيرة مجتمع في الزمان مع كونها زوجة ، غايته أنه متأخر عنه رتبة ، وهذا ليس من الانقضاء الزماني فلاحظ.

وهذا الأخير هو الذي يظهر من المقالة بقوله : إنّ ما هو مركز البحث ومورد النفي والاثبات هو صور انقضاء الوصف زمانا لا رتبة ، فيخرج مثل هذا الانقضاء عن حريم النزاع وكان ملحقا بصورة عدمه (1). ولكن الذي يظهر من تقرير الآملي (2) هو الوجه الأول ، فلاحظ.

وأما قوله بعد هذا في المقالة : وذلك أيضا لو لا دعوى أنّ ما هو المسلّم في كونه حقيقة هو فرض تلبس الذات بالوصف زمانا ، ومع فقده - كما في المقام - ربما يجري فيه مناط النفي والاثبات ، فكأنّه إشارة إلى عدم تحقق الموضوع زمانا ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

قال شيخنا قدس سره فيما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي : أما الفرع الأول وهو حرمة المرضعة الاولى على كل حال ، فلصيرورتها ام الزوجة في حال إكمال الرضعة الخامسة عشرة ، بداهة أنه في ذلك الحال تكون المرتضعة الصغيرة زوجة والمرضعة الكبيرة أم الزوجة ، فيصدق عليها في

ص: 235


1- مقالات الاصول 1 : 180.
2- بدائع الأفكار : 160 - 161.

ذلك الحال ( أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) (1) فتحرم (2).

ولعله يريد ما أشرنا إليه أخيرا من أن الانقضاء الرتبي لا يوجب الانقضاء الزماني ، أو أنه يشير إلى ما ذكرناه أوّلا من الجواب باختلاف الرتبة. ويبعد كل البعد أن يكون التزاما باختلاف الزمان بين صيرورة الصغيرة التي هي زوجة بنت الزوجة وبين حكمها وهو الحرمة وحرمة الأمّ ، وإلاّ لورد عليه أنه لا تأخر زمانا للحكم عن موضوعه ، فلاحظ.

وعلى كل حال أن العمدة في الجواب هو ما عرفت من اختلاف الرتبة ، وان اجتمع في الزمان زوجية الصغيرة وكونها بنتا للزوجة وحرمتها وانسلاخ زوجيتها لكون الحرمة متأخرة عن الزوجية والبنتية.

ومنه تظهر الخدشة فيما تضمنته الحاشية وهو قوله : إذا فرض بطلان زوجية الأمّ والبنت في آن واحد ، فليس هناك زمان خارجي تتصف فيه الأمّ بأنّها ام الزوجة - إلى قوله : - إلا أنّ الأحكام الشرعية مترتبة على الموجودات الزمانية دون الرتبية ... إلخ (3) وإلاّ فكيف يكون الحال فيما لو طرأ التحريم على الزوجية كما لو أرضعت الزوجة زوجها ، إذ لا بد في مثل ذلك أن نقول : إنّ هذه المرأة في الرتبة السابقة على حرمتها قد اجتمع فيها كونها زوجة وكونها أم زوجها ، وفي الرتبة الثانية تحرم على زوجها فتنسلخ عن الزوجية ، وهذه الحرمة مقارنة في الزمان لكونها ام زوجها ، لا أنّ هذا العنوان أعني كونها ام زوجها سابق في الزمان على حرمتها ، وإلاّ ففي أيّ زمان صارت الزوجة ام زوجها ثم انسلخت عنها الزوجية؟ وهل يعقل تأخر

ص: 236


1- النساء 4 : 23.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 86.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 82.

الحكم عن موضوعه زمانا؟ وكما لا يعقل تأخره زمانا عن موضوعه فكذلك لا يعقل تأخره عما هو في رتبة موضوعه ، فلاحظ وتأمل ، هذا.

ولكن يمكن دفعه : بأنّ موضوع الحرمة في هذه المسألة ليس هو ام الزوج بعنوان كونه زوجا ، بل الموضوع هو ذات الشخص المرتضع ، فإنّه برضاعها له تكون له اما رضاعية ، فتحرم عليه لكونه ابنها الرضاعي ، وهو أعني كونه ابنا رضاعيا لها مستمر بحسب الزمان من حين رضاعها وبه تبطل زوجيتها له ، كما أنّ ما ذكرناه من أنه كما لا يعقل تأخر الحكم زمانا عن موضوعه فكذلك لا يعقل تأخره عما هو في مرتبة موضوعه ، وكما أن الحكم متأخر رتبة عن موضوعه فكذلك هو متأخر رتبة عما هو في رتبة موضوعه ، فالحرمة الطارئة على البنت لمّا كانت متأخرة رتبة عن موضوعها الذي هو كون تلك البنت بنتا للزوجة ، تكون متأخرة رتبة عما هو في مرتبة ذلك الموضوع أعني كون المرضعة اما للزوجة التي هي البنت ، محل مناقشة ذكرناها في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (1) وحاصلها : أن ما هو متأخر عن الشيء رتبة لكونه حكمه أو كونه معلولا له ، لا يلزمه أن يكون متأخرا عما هو في مرتبة ذلك الشيء إذا لم يكن بين ذلك المتأخر وذلك الواقع في مرتبة ما هو المتأخر عنه ما يقتضي تأخره عنه ، بل تكون نسبته إليه نسبة الشيء إلى ما لا ربط له به في عدم اقتضاء التقدم أو التأخر ، نعم لو تمت هذه المناقشة فهي لا تقتضي كون حرمة البنت القاضية بانفصال زوجيتها سابقة في الرتبة على حرمة الأمّ على وجه تعدم موضوع حرمة الأمّ الذي هو كونها ام الزوجة فعلا ، لأن ذلك إنّما يكون إذا كان انسلاخ زوجية البنت سابقا في الرتبة على حرمة الأمّ ، دون ما لو كان أجنبيا عنه على وجه

ص: 237


1- في المجلّد السادس من هذا الكتاب.

لا طولية بينها ، فلاحظ.

وقد يشكل على ما عرفت من أن الخروج عن الزوجية إنما كان بالتحريم المتأخر رتبة عن صدق البنتية ، فهي في رتبة صدق بنت الزوجة عليها يصدق عليها أنّها زوجة ، وإنما تخرج عنها بالتحريم الناشئ من صدق بنت الزوجة ، بأنّه يتوقف على عدم التضاد بين عنوان الزوجية وعنوان بنت الزوجة ، وهو خلاف المرتكز شرعا ، بل الظاهر أن التحريم إنما جاء من جهة ارتفاع الزوجية بطرو عنوان بنت الزوجة لا العكس ، انتهى.

وفيه : أنّ هذا التضاد المرتكز في أذهان المتشرعة إنما نشأ عما هو المرتكز في أذهانهم من حرمة بنت الزوجة وأنّها لا تكون زوجة ، ولمّا كان أساسه هو التحريم ، خرج عن التضاد القاضي بكون عدم الزوجية في عرض كونها بنت زوجة ، فلا يترتب عليه ما افيد من أن التحريم إنما جاء من جهة ارتفاع الزوجية بطرو عنوان بنت الزوجة ، بتقريب أنه لمّا كانت الزوجية مضادة لبنت الزوجة ، كان عدمها في عرض وجود ضدها الذي هو عنوان بنت الزوجة ، لأنّ عدم أحد الضدين يكون في عرض وجود الضد الآخر للمعاندة بينهما بلا طولية في البين ، ليكون الحاصل أن التحريم وإن كان معلولا لكونها بنت الزوجة إلاّ أنه ليس هو ارتفاع الزوجية ، بل إن ارتفاع الزوجية كان في رتبة كونها بنت الزوجة ، فان ذلك كله مبني على التضاد بين الزوجية وبنت الزوجة وقد عرفت المنع من ذلك.

ومن ذلك يظهر أنه لا يمكن بذلك تصحيح عبارة العلاّمة الخراساني قدس سره أعني قوله : إن ارتفاع زوجية الصغيرة في مرتبة صيرورة الكبيرة امّا ... إلخ (1) بدعوى كون الارتفاع المذكور أعني عدم الزوجية لمّا

ص: 238


1- كتاب الرضاع ( ضمن الرسائل الفقهية ) : 150.

كان في عرض كونها بنتا الذي هو في عرض كونها امّا ، يكون الارتفاع المذكور في عرض كون الكبيرة امّا ، وذلك لما عرفت من أنّ ذلك كله مبني على التضاد بين كونها زوجة وكونها بنت الزوجة ، وقد عرفت المنع من التضاد المذكور فلاحظ.

وفي حاشية منه على الدرر على قوله « تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين » ما هذا لفظه : وقد يتوهم جريان النزاع في المرضعة الاولى أيضا ، إذ بعد تحقق الرضاع الكامل كما يحدث عنوان الامومة يزول عنوان الزوجية ، فلا يتحقق عنوان أم الزوجة على القول بالأخص ، ويجاب بتعيّن القول بحرمتها على القول بالأخص أيضا ، لأن بقاء كلتا الزوجيتين مناف لأدلة حرمة أم الزوجة والربيبة ، وارتفاع إحداهما معيّنا ترجيح بلا مرجح ، فيتعين ارتفاع كليتهما ( منه دامت أيام إفاضاته ) (1). ولا يخفى أنه مع فرض الدخول بالكبيرتين يكون تحريم الاولى والصغيرة ذاتيا لا جميعا ، فلا مدخل حينئذ للترجيح بلا مرجح ، مع أنه لا يدفع إشكال الانقضاء ، فلاحظ وتأمل.

قوله : وقد عرفت أنّ بقاء الذات معتبر في محل النزاع ، ولذا بنينا على خروج المشتقات المنتزعة عن مقام الذات عن محل الكلام (2).

قد عرفت الفرق بينهما بما تقدم من أنّ في مثل الامكان والزوجية لا يعقل الانقضاء لعدم إمكان انسلاخ الممكن أو الأربعة عن الامكان أو الزوجية في أيّ صقع كان. وهذا بخلاف اسم الزمان لإمكان انقضاء الحدث عن الذات ، لكن الذات لا تبقى موجودة خارجا بعد الانقضاء.

ص: 239


1- درر الفوائد 1 : 59.
2- أجود التقريرات 1 : 83.

وقد أجاب سيدنا المرحوم السيد أبو الحسن قدس سره حسبما حررته عنه بما حاصله : أنّ الهيئة في اسم الزمان لم تكن موضوعة لخصوص الزمان ، بل هي لمطلق ظرف الحدث زمانا كان أو مكانا ، فهي مثل « الحار » الشامل للزمان وغيره. فعدم قابلية البقاء في بعض أفراده لا يضر بدخوله في محل النزاع ، هذا ولكن « الحار » صالح لاستعماله في مطلق المتلبس زمانا كان أو ماء مثلا ، فلو انقضى عنه الحرارة كان داخلا في محل النزاع ، إلاّ أنّ الهيئة في « مفعل » لا تستعمل في القدر الجامع. ومجرد أنّ لها موردا يتحقق به الانقضاء وهو المكان لا يوجب دخولها في محل النزاع بحسب المورد الآخر. مضافا إلى أنّ مجرد الاشتراك في الهيئة لا يدل على الاشتراك المعنوي لامكان الاشتراك اللفظي مع وحدة الهيئة.

والانصاف أنّ هذه الجهات لا أهمية لها ، والغرض أنّ ما لا انقضاء له مع بقاء الذات لا معنى للنزاع فيه ، سواء كان لأجل المادة كما في الامكان والزوجية ، أو كان لأجل الذات التي يصدق عليها. والحاصل أنّ هيئة « مفعل » لو تلبست بما لا انقضاء له كالامكان فلا معنى للنزاع فيها ، كما أنّ هيئة « مفعل » لو انطبقت على ما لا بقاء له أيضا لا محصل للنزاع فيها ، بل حتى أسماء الفاعلين لو انطبقت على ما لا بقاء له لا تدخل في محل النزاع ، وذلك أمر غير قابل للانكار.

قوله : وكذا ممّا اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس سره من أنّ انحصار الكلي في فرد وامتناع فرد آخر ... إلخ (1).

أفاد قدس سره في وجه ذلك حسبما حررته عنه ما حاصله : أنّ الاشكال كان

ص: 240


1- أجود التقريرات 1 : 84 [ وقد علّق قدس سره على هذه العبارة سابقا في الصفحة : 225 ].

في جريان النزاع في اسم الزمان من جهة أنه لا يتصور فيه الجري على ما انقضى عنه التلبس حتى يتكلم في أنّه حقيقة أو مجاز ، وكونه من قبيل الكلي المنحصر في فرد اعتراف بهذا الاشكال لا أنّه جواب عنه.

قلت : لو كان النزاع متوجها إلى نفس الجري على الذات التي انقضى عنها المبدأ وأنه حقيقة أو مجاز ، لتم الاشكال المذكور على الكفاية ، أما لو كان النزاع في أصل الوضع ، وأن الموضوع له هو خصوص المتلبس أو هو الأعم على وجه يكون هذا هو مركز النزاع ، ويكون الاستعمال في الذات التي انقضى عنها المبدأ حقيقة أو مجازا ، من ثمرات النزاع المذكور ، لتمّ ما أفاده في الكفاية (1).

نعم ، يتوجه على الكفاية أنه لا ثمرة على النزاع في اسم الزمان ، إذ الثمرة منحصرة بما ذكر من كون الاستعمال في الذات التي انقضى عنها حقيقة أو مجازا ، والمفروض عدم ترتبها ، وهذا بخلاف النزاع في لفظ « اللّه » وأنّه علم للذات المقدسة أو أنه كلي منحصر بفرد ، فانه يترتب عليه ثمرة أدبية في الجملة ولو مجرد ترتيب آثار العلمية وعدم ترتيبها.

ثم لا يخفى أنه يمكن إدخال اسم الزمان في محل النزاع من جهة اخرى غير ما أفاداه قدس سرهما وذلك بعد فرض أنّ الزمان لا واقعية له إلاّ هذه الاعتبارات العقلائية العرفية ، فيجعلون اليوم مثلا اسما لما بين الطلوع والغروب ، والاسبوع لما بين الجمعة والجمعة ، وهكذا في الشهر والسنة والقرن ، وحينئذ نقول إنّ المضرب مثلا إن لاحظناه بالقياس إلى ذلك الآن الذي وقع فيه ، فهو أعني ذلك الآن غير باق بعد الانقضاء ، لكن اذا قسناه

ص: 241


1- كفاية الاصول : 40.

إلى اليوم الخاص وكان قد وقع الضرب على زيد قبل الزوال من ذلك اليوم ، فنحن بعد الزوال إذا أجرينا « المضرب » على ذلك اليوم ، وقلنا ( ونحن بعد الزوال من ذلك ) : هذا اليوم مضرب زيد ، كان من قبيل بقاء الذات مع انقضاء المبدأ ، وهكذا الحال لو قسناه إلى الشهر أو إلى السنة أو إلى القرن. والغرض أنّ جميع ذلك يتصور فيه بقاء الذات أعني المسمى باليوم أو الشهر أو السنة مع فرض انقضاء المبدأ ، نعم بعد انقضاء نفس ذلك المسمى لا يكون داخلا في محل النزاع.

أما ما أفاده شيخنا قدس سره فهو يتوقف على صدق بقاء اليوم العاشر من المحرم مثلا بعد فرض انتهاء الشخص الأول منه وقبل مجيء الشخص الثاني ، وهو محل تأمل ، فان اليوم العاشر وإن أخذناه كليا شاملا لكل ما يتجدّد في كل سنة ، إلاّ أنّ ذلك الكلي يتجدّد بتجدّد أفراده ، فهو ينقضي بانقضاء كل فرد ويتجدّد بتجدّد فرد آخر. إلاّ أن يدّعى أنّ في البين وحدة اتصالية ، لكن الدعوى ممنوعة إلاّ إذا أخذنا تلك الأيام أجزاء ويكون ابتداء اليوم العاشر بابتداء الدهر وانتهاؤه بانتهائه ، فلاحظ وتأمل.

لا يقال : إنّ يوم العاشر إذا وقع القتل في أوله وكان ذلك كافيا في تحقق تلبس تمام اليوم بالقتل ، لأن الواقع على الجزء أو فيه واقع على الكل أو فيه ، فبعد الظهر لا يكون حال انقضاء عن نفس اليوم بل يكون التلبس بالنسبة إلى تمامه باقيا بحاله ، لأن تلبسه به إنّما هو تلبس جزئه ، فذلك الجزء وإن كان قد مضى إلاّ أنّ تلبس الكل الناشئ عن تلبس الجزء باق بحاله ولا يكون له حالة انقضاء.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين مقام تصحيح التلبس بالنسبة إلى اليوم باعتبار تلبس جزئه وبين بقاء تلبس تمام اليوم بعد انقضاء القتل ، إذ لا

ص: 242

شبهة في أنّ القتل الذي ورد على تمام اليوم ( ولو بوروده على جزئه ) قد انقضى عن ذلك اليوم وجدانا مع فرض بقاء نفس اليوم ، ولو تمت هذه الشبهة لجرت في الكلي ، فإنّ تلبس طبيعة اليوم العاشر إنّما هو بتلبس فردها ، وحينئذ يتوجه الاشكال بأنّ تلبس الطبيعة يعدّ باقيا ولو انقضى ذلك الفرد منها.

قوله : ويطلق اخرى ويراد منه حال التلبس. وليس المراد منه زمان التلبس كما في عبارة كثير من الأعلام ومنهم المحقق صاحب الكفاية قدس سره ... إلخ (1).

لم أعثر في الكفاية في هذا المقام على عبارة دالة على كون المراد من الحال هو زمان التلبس ، بل صرّح بأنّ المقصود من الحال هو حال التلبس لا حال النطق (2). نعم قال في آخر ذلك : ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات ... إلخ ، فلعل هذه العبارة توهم أنه في مقام تأييد ما نفاه أوّلا من أنّ المقصود ليس هو حال النطق ، فكأنه أخذ حال النطق بمعنى زمان النطق ، وجعل اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان مؤيدا لما نفاه من حال النطق ، فيكون حال النطق حينئذ بمعنى زمان النطق ، فلا بد أن يكون المراد من مقابله وهو حال التلبس هو زمان التلبس.

ولكن لا يخفى أنّ اتفاقهم على ذلك كما يكون دليلا على عدم دلالة المشتق على زمان النطق يكون أيضا دليلا على عدم دلالته على زمان التلبس ، فلا بد أن لا يكون مراده من حال التلبس هو زمان التلبس.

ص: 243


1- أجود التقريرات 1 : 85.
2- كفاية الاصول : 43 - 44.

ثم إن تفسير الحال بحال التلبس ربما لا يلائم ما ذكروه في عنوان المسألة من أنّ المشتق هل هو حقيقة في خصوص المتلبس في الحال ، لأنه يكون الحاصل حينئذ هل هو حقيقة في خصوص المتلبس في حال التلبس.

فالأولى أن يفسر الحال بحال الجري ليكون المعنى أنّ المشتق حقيقة في من كان متلبسا بالمبدإ في حال جري المشتق عليه. وبعبارة اخرى : يعتبر اتحاد حال الجري وحال التلبس ، بأن يكون المشتق قد اعتبر في جريه على الذات كون الذات متلبسة بالمبدإ في حال جريه عليها. وان شئت قلت : إنه يعتبر في صحة الجري على الذات أن يكون جريه عليها في حال تلبسها بالمبدإ ، وان كان كل من الجري والتلبس قد مضى ، مثل قولك : كان زيد ضاربا أمس ، أو كان كل منهما في المستقبل مثل سيكون زيد ضاربا غدا ، على أن يكون « الأمس » و « غدا » متعلقين بالمبدإ الملحوظ نسبته إلى الذات ، ويكون الحمل مقارنا لذلك بقرينة قوله « كان » في الأول و « يكون » في الثاني ، وهذا بخلاف ما لو جرّدت الجملة عن الكون وقيل : زيد ضارب أمس أو ضارب غدا ، فإنّ الظرف في مثل ذلك يتعلق أيضا بالحدث ملحوظا به النسبة إلى الذات ، والظاهر من القضية الحملية أنّ الحمل في الحال ، فيكون الأول ممّا انقضى عنه المبدأ في حال الحمل ، وفي الثاني ممّا لم يتحقق له التلبس بعد. ولا يمكن أن يكون الظرف متعلقا بنفس النسبة الحملية ليكون الجري والحمل واقعا بالأمس أو في غد ، ويكون المحمول هو مطلق الضارب ، لأنّها ملحوظة باللحاظ الحرفي الآلي الذي هو مفاد هيئة الجملة الاسمية ، ولا يمكن حينئذ أن تكون طرفا للنسبة الاضافية الظرفية بينها وبين الأمس أو غد ، كما أنّ هذا الظرف لا يمكن

ص: 244

تعلقه بنفس الموضوع الذي هو زيد ، لعدم إمكان كونه طرفا للنسبة الظرفية لجموده ، بل لا يمكن أن يلحقه أيّ قيد إلاّ باعتبار جهة عرضية فيه حتى في مثل زيد قائما أحسن منه قاعدا ، فإنّ « قائما » إنما يكون قيدا للضمير المرفوع المستتر في « أحسن » ، و « قاعدا » أيضا إنما يكون قيدا للضمير المجرور في « منه » ، لا أنّ المقيّد بذلك هو ذات زيد.

ولو صحّ تعلق هذا الظرف بالنسبة الحملية أو بنفس المبتدأ لصحّ لنا أن نقول : « زيد الآن غدا ضارب بالأمس » بمعنى أنّ زيدا الموجود في هذا الآن محمول عليه غدا ضارب بالأمس ، وشهادة الوجدان بعدم صحة ذلك وكونه من قبيل التناقض ، شاهد على أنّ متعلق هذه الظروف شيء واحد وهو الحدث الملحوظ منسوبا إلى الذات. ولو كان كل واحد من هذه الظروف متعلقا بواحد من هذه الامور الثلاثة غير ما تعلق به الآخر ، لم يكن ذلك من التناقض مع أنّا نراه وجدانا من التناقض ، فدلّ هذا التناقض الوجداني الارتكازي على عدم تعلق الظرف بالنسبة الحملية أو بنفس المبتدأ ، فلاحظ.

وخلاصة البحث : أنّ لنا في مسألة المشتق كالضارب بالنسبة إلى من تلبس به أعني زيدا مثلا في قولنا « زيد ضارب » أحوالا ثلاثة ، الأول : حال النطق أو حال الاستعمال ، أعني إعمال لفظ « الضارب » بجعله محضرا لمفهومه الكلي في ذهن السامع.

الثاني : حال تطبيق هذا المفهوم على زيد المذكور ، وهو المعبّر عنه بحال الجري ، أعني إجراء الضارب على زيد بجعله حاكيا عنه أو بحمله عليه.

الثالث : حال التلبس أعني حال وجود الضرب لزيد. وهذا الأخير

ص: 245

واقعي بخلاف الأوّلين ، فانهما بفعل المتكلم.

ثم إنّ الحال الأول لا يكون ماضيا ولا مستقبلا ، بل لا يكون إلاّ حاليا أعني حال التكلم ، بخلاف الأخيرين فان كل واحد منهما يمكن أن يكون سابقا على حال التكلم ، ويمكن أن يكون لاحقا له ، ويمكن أن يكون مقارنا له.

ومن هذه الجهة يتضح لك العموم من وجه بين الأول وبين كل من الأخيرين ، بمعنى إمكان مقارنة الأول لكل منهما وامكان عدم مقارنته لكل منهما ، بأن يتقدم على كل منهما أو يتأخر ، بمعنى أن يكون الاستعمال الآن ويكون الجري أو التلبس فيما مضى ، أو يكون الاستعمال الآن ويكون الجري أو التلبس فيما يأتي. ولا إشكال في أنه لا يعتبر في المشتق مقارنة حال الاستعمال لحال الجري ولا لحال التلبس ، وإنما النزاع في الأخيرين أعني حال الجري وحال التلبس ، فالمشهور اعتبار المقارنة بينهما سواء كانا سابقين على حال التكلم أو كانا مقارنين لحال التكلم أو كانا معا لاحقين لحال التكلم.

أما لو اختلف الحالان أعني حال الجري وحال التلبس ، فإن كان حال الجري سابقا على حال التلبس كان مجازا بلا إشكال ، وإن انعكس الأمر بأن كان حال التلبس سابقا على حال الجري بأن كان الجري بعد انقضاء التلبس فهذا هو محل الكلام ، فالمشهور يقولون بأنه مجاز وفي قبالهم القول بأنه حقيقة. أما عنوان النزاع فلك أن تقول إنّ المشتق حقيقة في خصوص ما لو كان الجري على الذات في حال التلبس ، أو أنه حقيقة فيها ولو كان الجري عليها بعد حال التلبس ، كما لك أن تقول إنه حقيقة فيما لو كانت الذات متلبسة بالمبدإ في حال جريه عليها ، أو أنه يكون حقيقة ولو كان تلبسها

ص: 246

بالمبدإ سابقا على جريه عليها ، مع الاتفاق على كونه مجازا فيما لو كان الجري قبل حال التلبس. وأنت بعد اطلاعك على هذا الذي فصلناه تعرف أن صاحب الكفاية قدس سره وكذلك شيخنا قدس سره (1) لمّا أخذا عنوان التلبس في طليعة النزاع فقالا : المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال ، كان عليهما أن يقولا إن المراد من الحال في هذا العنوان هو حال الجري لا حال التلبس ، فلاحظ وتأمل.

ويرد على ما أفاداه من أنّ المراد بالحال في قولهم « المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال » هو حال التلبس ، أنّ قولهم « في الحال » إن كان متعلقا بالمتلبس كان الحاصل هو أنّه حقيقة في من كان تلبسه في حال تلبسه ، ولا يخفى ما فيه. وإن كان متعلقا بقولهم « حقيقة » كان محصّله أن كونه حقيقة في المتلبس مختص بما إذا كان الاستعمال في حال تلبسه ، فكان لفظ « المتلبس » في كلامهم شاملا لما انقضى عنه التلبس ، فيحتاج إلى التقييد بكون ذلك التلبس في حال الاستعمال ، فيكون هدما لقولهم بالاختصاص ، بل يكون الحاصل أنّ المشتق حقيقة في المتلبس في خصوص ما لو كان تلبسه حاليا يعني حال الاستعمال ، وحينئذ يعود محذور تفسير الحال بحال الاستعمال ، فلاحظ.

ولكن المراد هو ما ذكرناه من اعتبار المقارنة ، وإن كانت عبارتهم قاصرة عن ذلك. فان شئت قلت : لا بد من المقارنة بين نفس التلبس وبين جري المشتق على الذات ، أو قلت : لا بدّ من المقارنة بين حال التلبس وبين حال الجري ، أو قلت : لا بدّ من المقارنة بين زمان التلبس وبين زمان

ص: 247


1- كفاية الاصول : 38 ، أجود التقريرات 1 : 77 و 84.

الجري ، كل ذلك صحيح والمقصود واحد واضح. وليس التعبير الأخير راجعا إلى دخول الزمان في دلالة المشتق كي يتأبّى عنه من جهة عدم دلالته على الزمان ، فان دلالته على المقارنة بين زمان التلبس وزمان الجري غير دلالته على زمان التلبس ، وذلك واضح.

والحاصل : أن كلا من التلبس والجري حادث من الحوادث لا بدّ له من زمان يقع فيه. ولو قلنا إنّه لا بد من المقارنة بين التلبس والجري كان لازمه أو عينه الاقتران بين الحالتين أو الاقتران بين الزمانين ، وأين هذا من دعوى كون المشتق دالا على زمان التلبس أعني زمان وقوع الحدث التي هي كدعوى دلالة الفعل على زمان وقوع الحدث وأنه الزمان الماضي أو الزمان الحالي أو الزمان المستقبل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ تحوير النزاع إلى ما ذكرناه من اعتبار المقارنة بين الجري والتلبس ، وأنه لو جرى المشتق على الذات في حال تلبسها بالمبدإ يكون الاستعمال حقيقيا ، ولو جرى عليها قبل تلبسها به يكون مجازا بلا إشكال ، وأنّ محل النزاع ما لو جرى عليها بعد انقضاء تلبسها به هل هو حقيقة أو مجاز ، ممّا لا يمكن الالتزام به ، فإنّ جري المشتق على الذات ممّا لا يتصف بالحقيقة والمجاز وإنّما يتصف بالصدق والكذب ، حيث إنّ الجري إنّما هو الحمل سواء كان صريحا كأن تقول : زيد ضارب ، أو كان ضمنيا بأن تقول : جاءني الضارب وتعني به زيدا.

والأوجه هو ما عرفت الاشارة إليه فيما تقدم (1) في مسألة اسم الزمان ، من أنّ صحة الجري وعدمه متفرع عن سعة المفهوم وضيقه كما هو الحال

ص: 248


1- في صفحة : 241.

في جميع الشبهات المفهومية ، مثلا النزاع في مفهوم العادل وأنه هل هو خصوص تارك الكبيرة والصغيرة ، أو أنّه مطلق تارك الكبيرة سواء ارتكب الصغيرة أو تركها ، تتفرّع عليه صحة الجري وعدمه في زيد الذي هو تارك الكبيرة وفاعل الصغيرة ، سواء كان الجري والحمل صريحا كأن تقول : زيد عادل ، أو كان ضمنيا كأن تقول : جاءني عادل وتعني به زيدا المذكور. وهكذا الحال في النزاع في أنّ مفهوم الصلاة هو خصوص الصحيح منها أو هو الأعم ، تتفرع عليه صحة حمل عنوان الصلاة على التي صلاها زيد فاسدة ، فتقول : هذه صلاة ، أو تقول : إنّ زيدا قد صلّى. وهكذا الحال في جميع الشبهات المفهومية فإنّ أصل النزاع إنّما هو في عالم المفهوم الكلي الذي وضع له اللفظ ، هل هو الأخص أو هو الأعم. وصحة الحمل وعدمه على غير الأخص وإن كان متفرعا على ذلك النزاع ، إلاّ أنّه لا يتّصف بالحقيقة والمجاز وإنّما يتّصف بالصدق والكذب.

نعم ، بعد الفراغ عن كون اللفظ موضوعا للأخص يكون حمله صريحا أو ضمنا على غير الأخص باطلا وكاذبا ومخالفا للواقع ، ويكون ذلك أعني صحة الحمل وعدم صحته إلاّ بالعناية ، من قبيل الأمارة على الوضع وعدمه كما تقدّم (1) في مسألة أمارات الحقيقة والمجاز من صحة السلب وعدمه فلاحظ. لكن لو قلنا بالوضع للأخص ، وكانت هناك عناية مصحّحة لتنزيله منزلة ذلك الأخص ، صحّ الحمل المذكور بالعناية المزبورة وكان من قبيل الاستعارة على مذهب السكاكي (2) لا من باب التوسعة في المفهوم كالأسد والعادل بعد البناء على وضعه لخصوص تارك الاثنين ، بل

ص: 249


1- لم يتقدم منه قدس سره بحث بعنوان أمارات الحقيقة والمجاز.
2- مفتاح العلوم : 156.

من باب تنزيل الرجل الشجاع منزلة الحيوان المفترس ، أو تنزيل تارك الكبيرة فقط منزلة تارك الاثنين. أما سلخ اللفظ عن معناه الموضوع له وهو الأخص وإعماله في الأعم من دون أن يكون في البين جري وحمل ، لا صريح ولا ضمني ، كأن تقول : أكرم الضارب وتعني به الأعم من المتلبس ومن انقضى عنه الضرب ، أو تقول : أكرم العادل وأنت تعني به مطلق تارك الكبيرة ، أو تقول : أعط للمصلّي درهما وانت تعني مطلق الصلاة ، فهذا هو التجوّز الذي ينبغي إرادته في المقام ، وهو مبني على كون العموم والخصوص من العلائق المصحّحة للتجوّز.

وفي المقام تأمل حاصله : أنّ مثل هذه الجمل لو نزّلناها على القضايا الحقيقية كان مرجعها إلى الحمل الضمني ، لأن حاصل القضية حينئذ أن كل من وجد وكان ضاربا يكون حكمه كذا ، وهو عين الحمل. نعم في القضية الطبيعية مثل قولك : العادل خير من الفاسق ، ومثل قولك : الظالم رذيل ونحو ذلك ممّا يكون الحكم ناظرا إلى نفس الطبيعة مع قطع النظر عن أفرادها ، يكون من باب الاستعمال ، وأن المستعمل فيه هو الخاص أو هو العام ولا يكون متضمنا للحمل أصلا. أما القضايا الحقيقية فهي متضمنة للحمل كما عرفت ، لكن لا بد من كون المتكلم قد أعمل ذلك اللفظ في المفهوم الكلي ، غايته أنه لاحظ تطبيقه على الأفراد ، ويقع الكلام في ذلك المفهوم الكلي الذي أعمل فيه اللفظ ، فلو كان اللفظ موضوعا للأعم وقد أعمله فيه فلا إشكال ، لكن لو كان موضوعا للخاص وقد أعمله في العام كان من المجاز الاستعمالي لا من باب الحمل والتطبيق. لكن من يدّعي رجوع المسألة إلى صحة الحمل وعدمه يقول إنه لو كان اللفظ موضوعا للخاص فهو لا يستعمل إلاّ في الخاص ، غايته أنّ تطبيقه على فاقد الخصوصية وحمله عليه

ص: 250

يكون تجوزا ، لا أنّه يستعمل في كلي الفاقد تجوزا ويكون حمله على المصداق الفاقد حملا حقيقيا.

وعلى كل حال ، نحن في مقام تحرير عنوان النزاع لا ينبغي لنا إدخال الجري والحمل ، بل لا بد من تجريده عنه بأن نقول هل المشتق موضوع لخصوص الواجد للحدث أو هو موضوع للصادر منه الحدث ، والقائل بالأول لا يلزمه القول بأنّه مجاز في الأعم ، فإنّ ذلك تابع للعلاقة المصحّحة للاستعمال بعد فرض عدم وضع اللفظ للأعم. أمّا تطبيقه على الفاقد بعد الوجدان فذلك راجع إلى صحة الحمل بالعناية والتنزيل ، وكل منهما لا دخل له بأصل المطلب وهو وضع المشتق لخصوص واجد الحدث ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، إنّ ذلك أعني صحة الحمل الصريح أو الضمني على من فقد الحدث حقيقة أو عدم صحته إلاّ بالعناية والتنزيل يكون كاشفا ، فإن كان الحمل صحيحا بلا عناية كشف عن وضع اللفظ للأعم ، وإلاّ كشف عن وضعه للأخص ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما تقدّم (1) في علائم الحقيقة والمجاز من عدم صحة الحمل وصحة السلب ، فليس النزاع هنا في صحة الحمل وعدمه ، بل النزاع هو في وضع المشتق ، والتعبير بصحة الحمل إنما هو تسامحي لكونه كاشفا عن الوضع ، فلاحظ وتدبر. هذا كله فيما نقل عن البعض من أنّ النزاع ليس في مفهوم المشتق بل في الصدق ، وأنّ القوم لم يميّزوا محل الكلام ومورد النقض والابرام.

وأما ما يعود إلى ما ينقل من إنكار المجاز في الكلمة ، فتفصيل الكلام

ص: 251


1- لم يتقدم منه قدس سره بحث بعنوان علائم الحقيقة والمجاز.

فيه : هو أنّهم قسّموا المجاز إلى قسمين ، الأول : المجاز في الاسناد وسمّوه المجاز العقلي ، وهو إسناد الفعل ونحوه إلى غير من هو له لجهة مصحّحة لذلك الاسناد. وقد ذكروا هذا القسم في الباب الأول من علم المعاني وهو باب الاسناد الخبري ، وذلك مثل جرى النهر وسال الميزاب. والقسم الثاني هو المجاز في الكلمة وذكروه في علم البيان ، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مصحّحة لذلك ، والعلائق تسع أوّلها المشابهة.

ولا يخفى أنّ المشابهة المصحّحة للتجوّز على نحوين ، الأول : أن تشبّه شيئا بشيء وتحذف المشبّه به وتذكر المشبّه وتنسب إليه شيئا من لوازم المشبّه به ، ويسمى في اصطلاحهم بالاستعارة بالكناية ، مثل قولهم « أنشبت المنية أظفارها بفلان » فشبّهوا المنية بالأسد وحذفوه وذكروا شيئا من لوازمه وهو الأظفار ، ونسبوها إلى المنيّة. وعلى هذا يمكن أن يخرج باب المجاز العقلي الذي عبّروا عنه بالمجاز في الاسناد ، بأن نقول إنّه شبّه النهر بالماء أو أنه نزّل منزلته لكونه محلا له ، ثم حذفوا المشبّه به والمنزّل عليه وهو الماء ونسبوا إلى المنزّل والمشبّه الذي هو النهر شيئا من لوازم الماء الذي هو المشبّه به وذلك هو الجريان ، وبذلك ينسد باب المجاز العقلي ويعود إلى الاستعارة بالكناية.

أما المجاز في الكلمة فقد عرفت أنه مبني على العلاقة المصحّحة للتنزيل وأوّلها المشابهة وهي الاستعارة ، وهي عكس الاستعارة بالكناية ، فانّك في هذه تحذف المشبّه وهو زيد وتذكر المشبّه به وهو الأسد ، وتنسب إليه شيئا من لوازم المشبّه وهو الرمي ، فتقول : رأيت أسدا يرمي ، وتعني به زيدا ، وهذه هي المسماة بالاستعارة ، وقد عرفت مسلك السكاكي فيها وأنّ التجوّز عنده فيها إنما هو في الحمل والتطبيق لا في الاستعمال.

ص: 252

ويمكننا إجراء هذا الطريق في جميع أنواع المجاز في الكلمة ، فإنّ مرجع العلاقة أيّ علاقة كانت إلى ما يكون مصحّحا للتنزيل ، سواء كانت هي المشابهة أو غيرها من أنواع العلاقات ، فيكون حال تلك العلائق حال المشابهة في كونها مصحّحة للتنزيل ، وحينئذ يجري فيها مسلك السكاكي ، وبذلك ينغلق باب المجاز في الكلمة ويعود الكل إلى التجوز في الحمل والتطبيق نظير قولهم عليهم السلام « الطواف بالبيت صلاة » (1) في كون المصحّح للتنزيل والحمل وإطلاق الصلاة على الطواف هو الاشتراك في الحكم وهو لزوم الطهارة.

والانصاف أن مسلك السكاكي هو الذي ينبغي أن يصار إليه ، إذ لو نزّلنا الاستعارة على المجاز في الكلمة لكان محصّله أنّا نستعمل لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، ونحمل الرجل الشجاع على زيد ، ولم يكن ذلك إلاّ عبارة عن قولنا زيد رجل شجاع في الخلو عن اللطف والمبالغة في الشجاعة ، فإنّ رتبة الاستعمال ليس فيها إلا استعمال لفظ الأسد في كلي الرجل الشجاع ، وهذا لا دخل له بزيد ، وإنما الذي يرجع إلى زيد هو حمل ذلك المستعمل فيه اللفظ أعني الرجل الشجاع على زيد ، فلا يكون حاصله إلاّ أنّ زيدا رجل شجاع ، وهذا هو ما ذكرناه من الخلو من المبالغة.

وأمّا ما أورده عليه شيخنا قدس سره ممّا حاصله : أنّ قولنا زيد أسد يشتمل على الادعاء والتنزيل ، وهو أعني الادعاء والتنزيل إمّا في الموضوع أو في المحمول أو في النسبة. ولا إشكال في عدم الادعاء والتنزيل في الموضوع وهو زيد ، فاما أن يكون في المحمول بتوسعة في المفهوم فهو المطلوب

ص: 253


1- مستدرك الوسائل 9 : 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2.

الذي هو مختار المشهور في المجازات ، وإمّا أن يكون في النسبة فيكون من الدعاوي الكاذبة الجزافية ... إلخ (1) فلا يخلو عن تأمل ، لما عرفت من أنّ التسامح والتنزيل إنما هو في النسبة ، وكونه كذبا هو الموجب لحسنه وبلاغته ولطفه الراجع في الحقيقة إلى المبالغة في شجاعة زيد وتنزيله منزلة الأسد في جعله أسدا ، وحمل الاسد بمعناه الأصلي عليه ، فلاحظ وتدبر.

قوله : وربما يشكل على ما ذكرنا - من أنّ المراد بحال التلبس هو فعليّة التلبس والزمان خارج عن مدلول المشتق - بوجهين ... إلخ (2).

لا يبعد أن يكون الذي حررته عنه قدس سره في هذا المقام أبسط من هذا التقرير ، فالأولى نقله بعين عبارته ليكون كشرح لما افيد عنه قدس سره في هذا التقرير وهذا نصه :

أنّ الحال المذكور في عنوان المسألة ليس المراد به زمان الحال المقابل للزمان الماضي والزمان المستقبل ، ولا حال التكلم ولا زمان النسبة وإن نسب الأخير (3) إلى شيخنا ( أعلى اللّه مقامه ) بل المراد به حال التلبس وهو قد يقارن زمان الحال وقد لا يقارنه. وليكن هذا هو المراد من كون النسبة بينهما هي العموم من وجه ، لا أنّ بينهما العموم من وجه على وجه

ص: 254


1- أجود التقريرات 1 : 89.
2- أجود التقريرات 1 : 86.
3- قلت : الظاهر أنّه ناظر إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في الرسالة المنسوبة إليه المطبوعة مع رسالة التسامح في أدلة السنن [ قديما والمطبوعة أخيرا مستقلا بعنوان « المشتق » ] ، وذلك قوله [ في صفحة 17 ] في المقام الثاني « والظاهر أنه لا إشكال في أنّ المتبادر - إلى قوله : - هو كون التلبس متحققا في زمان النسبة ». ولا يخفى أنّه لا دلالة لهذا الكلام على ذلك بل هو على خلافه أدل ، فراجعه وتأمل [ منه قدس سره ].

يكون أحدهما صادقا على الآخر في مورد ، إذ لا يخفى عدم استقامة ذلك ، إذ لا ربط لحال التلبس بزمان الحال ، غاية الأمر أنّه قد يتفق أن يكون التلبس في زمان الحال فيتقارنان وجودا ، لا أنّ أحدهما صادق على الآخر.

وبعد أن اتّضح لك أنّه ليس المراد بالحال هو زمان الحال وأنّ المراد به هو حال التلبس ، يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوهم من أنّ هذا النزاع مناف لما استقرت عليه كلمة أهل العربية من عدم دلالة الاسم على الزمان ، فإنّ المنافاة المذكورة إنما تتوجه إذا كان المراد من الحال في هذا النزاع هو زمان الحال. وأما ما ذكره علماء العربية (1) من عدم إعمال اسم الفاعل إذا كان للماضي وإعماله إذا كان للحال أو الاستقبال ، فليس المراد به دلالة اسم الفاعل على زمان المضي والحال والاستقبال ، بل المراد به انقضاء التلبس وفعليته واستقباله.

ولو سلّم أنّ المراد به هو زمان المضي والحال والاستقبال ، فهو أيضا غير مناف لما استقرت عليه كلمتهم من عدم دلالة الاسم على الزمان (2) لجواز أن يكون المراد ممّا ذكروه في باب الاعمال هو فهم الزمان الماضي والحال والاستقبال بالقرينة الخارجة عن لفظ اسم الفاعل.

وأمّا ما ربما يتوهم من أنّ المناسب لما قرر في هذا البحث - من الاتفاق على كونه مجازا في الاستقبال وحقيقة في الحال ومحل الخلاف في الماضي - هو عدم إعماله إذا كان للاستقبال ، وانحصار إعماله بما إذا كان للحال وأن يكون إعمال ما يكون للماضي محل الخلاف.

ففيه أوّلا : أن الاعمال لا ربط له بما ذكر في هذا البحث ، بل هو مبني

ص: 255


1- راجع شرح ابن عقيل 2 : 106.
2- شرح ابن عقيل 1 : 15 ، شرح شذور الذهب : 14.

على مناسبات لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب كسائر المطالب السماعية.

وثانيا : أنّ أصل ذلك التفصيل الذي ذكروه في باب الاعمال يمكن المناقشة فيه ، إذ لم يثبت عدم إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى المضي.

ثم قال قدس سره فيما حررته عنه : وحاصل ما تقدّم وتوضيحه : أنّ لنا جملة عناوين ومباحث ربما يتوهم اختلاط بعضها بالآخر ، العنوان الأول : هو عنوان مسألتنا هذه ، وهو أنّ المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال أو للأعم منه وممّا انقضى عنه المبدأ بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما لم يتلبس بعد. العنوان الثاني : قول النحويين أنّ اسم الفاعل يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ولا يعمل إذا كان بمعنى الماضي. العنوان الثالث : قولهم إنّ الظاهر من الجملة الاسمية مثل زيد قائم هو الحال. العنوان الرابع : ما هو محل الخلاف بين الفارابي والشيخ الرئيس ، من أنّ صدق عنوان الموضوع على ذاته هل هو بالامكان أو هو بالفعل ، سواء كان حالا أو ماضيا أو مستقبلا.

أما العنوان الأول ، فقد عرفت أنّ المراد بالحال فيه هو حال التلبس لا زمان الحال كي يناقض ما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسم على الزمان.

وأما العنوان الثاني ، فيمكن أن يكون المراد به هو المراد بالعنوان الأول. ولو سلّم إرادة الزمان منه فإنّما هو بالقرينة لا بنفسه ، مع أنّ عدم إعماله بمعنى المضي محل تأمل وإشكال يحتاج إلى التتبع فيما ورد عن أهل اللسان.

وأمّا العنوان الثالث ، فالمراد به أنّ الجملة الاسمية إذا كانت مجردة من الرابطة التي هي كان أو يكون الناقصة ، فالمستفاد منه بالدلالة الالتزامية هو الحال ، فلا يكون المشتق بمفهومه الافرادي دالاّ على الزمان كي يناقض ما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسم على الزمان. مع أنّ ما ذكروه من دلالة

ص: 256

الفعل على الزمان ، ليس المراد به أنه يدل بنفسه على الزمان ، بل المراد به كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى أنّ الدلالة المذكورة بالالتزام ، والقرينة الخارجة عن نفس اللفظ وهي كون الفعل الماضي مثلا لوقوع الحدث الزماني الملازم لانقضائه ومضيه.

وأمّا العنوان الرابع ، فقد يتوهم أنه مناقض لما تقدّم من عدم صحة استعمال العنوان الذاتي إلاّ في حال تحقق ذلك العنوان ، وأنّ استعماله في حال عدم تحقّقه غلط صرف ، بيان المناقضة : هو أنّ المتحصل من كلا القولين هو عدم اعتبار التلبس الحالي ، وأن الأول يكتفي في الصدق بمجرد الامكان ، والثاني يعتبر الفعلية التي هي الأعم من التلبس الحالي أو الماضي أو المستقبل.

والجواب عن المناقضة : أنّه لا ربط لمسألتنا بهذه المسألة المنطقية ، لأنّ مسألتنا إنما يبحث فيها عن مرحلة وضعية لفظية وهي راجعة إلى ما يقتضيه نفس المفهوم الافرادي ، وتلك المسألة إنما يبحث فيها عن جهة معنوية ، وهي أنّه هل يكتفى في ثبوت المحمول لذات الموضوع مجرد إمكان اتصاف تلك الذات بالوصف العنواني ، أو أنّه لا بد في ذلك من الفعلية ، ومن الواضح أنّ جهة هذا البحث في هذه المسألة لا ربط لها بجهة البحث في مسألتنا ، فإنّ جهة البحث في تلك المسألة إنما تكون بعد الفراغ عن أنّه لا بد في ثبوت المحمول للموضوع من حالية الوصف العنواني للموضوع ، هل يكفي في ذلك أن يكون ثبوت ذلك الوصف بالامكان أم لا بد من الفعلية. وجهة البحث في مسألتنا راجعة إلى أنه هل يعتبر في صدق الوصف التلبس بالمبدإ فعلا أم يكفي فيه مطلق التلبس ولو فيما مضى ، فتأمل.

ص: 257

قلت : لا يخفى أنّ كلام الشيخ والفارابي في تلك المسألة لم يكن بعد الفراغ عن اعتبار حالية الوصف العنواني وإلاّ لانحصر كلامهما في العرفية العامة أو المشروطة العامة دون باقي القضايا ، مع أنّه لو كان كلامهما بعد الفراغ عن ذلك لورد عليهما أنه حينئذ لا معنى للتكلم في كفاية ثبوت العنوان بالامكان أو بالفعل بمعنى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة مثلا ، فإنّ اعتبار حالية الوصف العنواني أضيق من كلا القولين. وعليك بمراجعة الأمر الرابع من الامور التي ذكرها في الرسالة الثانية في المشتق (1) المطبوعة مع رسالة التسامح في أدلة السنن تجده وافيا بالمقصود في هذا المقام إن شاء اللّه تعالى.

ولا بأس بنقل كلامه برمّته ليتّضح لك ذلك ، قال : الرابع : الظاهر أنّ هذا النزاع من الأبحاث اللفظية المتعلقة بتعيين مدلول المشتق لفظا كما يظهر من ملاحظة كلماتهم وأمثلتهم ، واستدلال الطرفين بالتبادر وصحة السلب ونحوها. فلا تنافي بين الذهاب إلى أنّ المشتق ظاهر في الفعلية بالمعنى المتقدم ، وبين ما هو المعروف من علماء الميزان من أنّ الوصف العنواني في الموضوع في القضايا المتعارفة في المحاورات هل يكفي فيه مجرد إمكان اتصاف ذات الموضوع به كما هو المنسوب إلى الفارابي أو يجب فيه تحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة التي يعبّر عنه بالفعلية التي تؤخذ جهة في قبال الامكان والضرورة والدوام كما هو المنسوب إلى الشيخ حيث إن القول بالامكان في تلك المسألة ينافي اعتبار الفعلية بالمعنى المذكور هناك ، فكيف بالمعنى المراد في المقام.

ص: 258


1- المنسوبة إلى المجدد الشيرازي قدس سره.

ووجه عدم المنافاة ، أنّ الظاهر أنّ ذلك النزاع في صحة الحكم والقضية بحسب المعنى والعقل ، إذ لا يعقل الحكم على ما لا يمكن اتصافه بعنوان الانسانية في قولك : الانسان كاتب أو ضاحك ، ولا تجري المحاورة على شيء يمتنع اتصافه بوصف الانسانية مثلا. فالامكان هو القدر المتيقن فلا حاجة إلى فرض تحقق النسبة في زمان في صحة الحكم والقضية كما أفاده الشيخ. وذلك لا ينافي أن تكون العبارة الدالة على ثبوت عنوان الموضوع أو المحمول ظاهرة في الفعلية أو في غيرها كما هو المطلوب بالنزاع في المقام كما هو ظاهر على المتأمل.

والحق في المقام أنّ النزاع المذكور أيضا من الأبحاث اللفظية المتعلقة بتعيين مدلول اللفظ الواقع موضوعا في القضية كما يظهر ممّا أورده شارح المطالع في بيان الخلاف الواقع بين الشيخ والفارابي ، وما اختاره الشيخ في تلك المسألة هو بعينه ما اختاره المحققون في المقام من توقف الصدق على التلبس الفعلي ، وإن فرض ذلك قبل زمان التلبس أو بعده لكن الاطلاق باعتبار زمان التلبس ، قال بعد ما بيّن المراد من الامكان : ثم إنّ الفارابي اقتصر على هذا الامكان ، وحيث وجده الشيخ مخالفا للعرف زاد قيد الفعل ، لا فعل الوجود في الأعيان ، بل ما يعم الفرض الذهني والوجود الخارجي ، فالذات الخالية عن العنوان يدخل في الموضوع إذا فرضه العقل موصوفا به بالفعل ، مثلا إذا قلنا كل أسود كذا ، فيدخل في الأسود ما هو أسود في الخارج أو ما لم يكون أسود ويمكن أن يكون أسود إذا فرضه العقل أسود (1) ، انتهى. وهو بعينه هذا النزاع اللفظي وإلاّ فلا وجه لقوله :

ص: 259


1- شرح المطالع : 135.

وجده الشيخ مخالفا للعرف ، فإنّ الاستدلال بالعرف دليل على ذلك. ولا يراد بالفعلية تحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة وإن لم يفرض معه التلبس في زمان الحكم كما لا يخفى.

وحينئذ فقول الفارابي مخالف للعرف جدا ، حيث إنه اكتفى في الصدق بمجرد الامكان وهو بعيد جدا.

ولم يحك في المسألة قولا لأحد من أصحاب النظر ، فلعلّ نظره إلى ما تقدّم من صحة الحكم ولو في القضية المعقولة ، وقد عرفت أنّ المتجه ما أفاده ، ولا يحتاج إلى الفعلية ، إلاّ أنه لا ينافي قول الشيخ بتوقف الصحة في القضية الملفوظة العرفية على الفعلية بالمعنى المتقدّم. فمورد النفي والاثبات في كلامهما غير متحد ، انتهى (1).

قوله : المقدمة السادسة في تعيين مبدأ المشتقات ومفاد هيئاتها ... إلخ (2).

تقدم الكلام (3) في باب الوضع وأنّه ينقسم إلى الشخصي والنوعي.

والأول هو ما كان الموضوع فيه كليا تحته أفراد وهو وضع الجوامد. والثاني ما كان الموضوع فيه كليا تحته أنواع تحتها أفراد وهو وضع الهيئات ، سواء كانت هيئات الجمل أو هيئات المشتقات ، وقد تقدم لنا أن قلنا إنّ المواد في المشتقات ينبغي القول بأنّها موضوعة بالوضع النوعي ، إذ كما نقول إنّ هيئة فاعل موضوعة لمن تلبس بالمبدإ في أي مادة وجدت فتشمل الضارب والشارب ، فكذلك لنا أن نقول إنّ مادة الضرب موضوعة لذلك الحدث

ص: 260


1- رسالة في المشتق ( ضمن مجموعة من الرسائل ) : 140 - 142.
2- أجود التقريرات 1 : 90.
3- تقدم ما يرتبط بالمقام في الصفحة : 97 وما بعدها.

الخاص بأيّ هيئة تلبّست ، فيشمل ذلك قولنا ضرب وضارب ويضرب إلى آخر جميع المشتقات في هذه المادة.

ومن ذلك تعرف أنّ الأصل في الاشتقاق هو المادة ، فإنّ الهيئات طارئة عليها فتكون هي الأصل. ولكن يمكن أن يقال : على هذا الحساب إنّ هيئة فاعل هي الأصل لجميع المواد الطارئة عليها أعني ضارب وشارب وعالم إلى غير ذلك من أسماء الفاعلين ، وهكذا الحال في أسماء المفعولين وجميع الهيئات. وهذه المعارضة تكشف عن أنّه لا أصل في البين يكون هو الذي تتفرع عنه الفروع لا في طرف المادة ولا في طرف الهيئة. وحسبما حررناه في حقيقة الوضع في بدو الأمر والاختراع الأول ، يظهر لك أنّه لا مادة موضوعة على حدة ولا هيئة موضوعة على حدة ، بل ليس هناك إلاّ وضع المجموع من المادة والهيئة ، ولكن بعد جمع اللغة وتدوينها وجمع المواد التي تتوارد عليها الهيئات المختلفة مثل الضرب والشرب وتوارد هيئة ضرب يضرب عليها إلى آخر هيئات المشتقات ، تخيل المتخيل أن هناك مادة وصورة وأن الثانية طارئة على الاولى دون العكس. ولعل هناك من يجري نفس هذا التشكيك في الأجسام والأنواع الطبيعية وتحليلها إلى جنس وفصل أو إلى مادة وصورة ، فيقال هل الأصل هو المادة والصورة طارئة ، أو الاصل هو الصورة والمادة طارئة؟ أو لا هذا ولا ذاك وما هو إلاّ خيالات يتخيلها المتخيلون في مخلوقاته ( تبارك وتعالى ) التي لا يعلم حقيقتها إلاّ خالقها ( جل وعلا )؟

ثم إنّ ما ذكرناه في الوضع ، وأنّ الواضع الأول هو في منتهى درجة البساطة ، لا ينافي كون الألفاظ الموضوعة مشتملة على خصوصيات ومزايا هي في منتهى درجة الدقة والمتانة ، فإنّ ذلك الوضع وإن كان بفعل من

ص: 261

ذلك المخترع البسيط لكنه كان بالغريزة التي أودعها فيه خالقه وخالق الكون ومدبّر الأمر على أتمّ ما يكون صنع اللّه الذي أتقن كل مكوّن وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال والشجر بيوتا ... إلخ ، فكان نظامها في تعيّشها وتناسلها وجميع شئونها ممّا تعجز عنه القوانين المجعولة من البشر لعالم الاجتماع ، ولعلّ قائلا يقول : مع قطع النظر عن مقام النبوة يمكننا تنزيل قوله تعالى ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ ) (1) على هذه الطريقة.

وعلى أيّ حال نحن بعد أن عرفنا هذه الطريقة ، نعرف أنّه لا واقعية للاشتقاق ولا للتركب من المادة والهيئة ، فيسهل القول حينئذ علينا بأنّ مفهوم المشتق بسيط وإن حللناه عقلا إلى مركب ، حتى في مثل ضرب في قولنا : زيد ضرب ، فإنّها لا تدل إلاّ على حركة الضرب وخروجه من القوة إلى الفعل ، وذلك أمر بسيط ، لكن الاصطلاح ابتدع له ضميرا مستترا وجعله مركبا من حدث ونسبة ومنسوب إليه ، وهكذا الحال في قولنا : زيد ضارب. ومن الواضح أنه لا محيص عن التركيب بعد التقييد بهذه القيود ، وأنّ المادة موضوعة بوضع مستقل للحدث ، وكذلك الهيئة موضوعة بوضع مستقل للنسبة المتقوّمة بين ذلك الحدث وتلك الذات ، فلا محيص عن القول بالتركيب.

ويمكننا القول بأنّ الالتزام بهذه الامور مع الالتزام ببساطة المشتق من التناقض الذي لا مدفع له ، وكلما كثرت الأجوبة في دفع هذا الاشكال كان ذلك تأكيدا للاشكال لا أنّه دافع له ، فلاحظ الأجوبة حتى مثل قولهم : إنّ

ص: 262


1- البقرة 2 : 31.

الهيئة اخذت فيه للدلالة على أخذ المادة عنوانا للذات ، فإنّ ذلك عبارة اخرى عن التركيب من المادة وممّا يدل على أخذها عنوانا للذات باعتبار صدورها منها ، مضافا إلى عدم إمكان كون المادة عنوانا للذات فكيف يمكننا القول بأنّ الهيئة دالة على أخذ المادة عنوانا ، وهكذا الحال فيما [ لو ](1) قلنا إن الهيئة حاكية عن الذات باعتبار تلبسها بالمادة ، فإنّ الهيئة بما أنها معنى حرفي يستحيل جعلها دالة على الذات. ولا مخلص من هذه الاشكالات إلا بما عرفت من إنكار الوضع للمادة والوضع للهيئة ، بل ليس في البين إلاّ مجموع هذا اللفظ أعني لفظ ضارب مثلا موضوعا للذات ، فيكون حاله حال لفظ الانسان ، غير أنّ ذلك عنوان لها باعتبار نفسها وهذا عنوان لها باعتبار جهة زائدة عليها وهي جهة الضرب ، فلاحظ وتدبر.

قوله : بقي الكلام في أنّ المفاهيم الاشتقاقية هل هي بسيطة - إلى قوله : - فنقول وقع الخلاف بين الاعلام في أنّها بسيطة أو مركبة ... إلخ (2).

قد يقال المركب في قبال المفرد ، وقد يقال المركب في قبال البسيط ، والأول في الألفاظ والثاني في المعاني المفهومة من اللفظ. قال التفتازاني في التهذيب : والموضوع ( يعني اللفظ الموضوع ) إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء المعنى فمركب إما تام خبرا أو انشاء ، وإما ناقص تقييدي أو غيره ، وإلاّ فمفرد ، وهو إن استقل فمع الدلالة بهيئته على أحد الأزمنة الثلاثة كلمة وبدونها اسم وإلا فأداة ، انتهى (3). فجعل الكلمة التي هي

ص: 263


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 1 : 94.
3- الحاشية على تهذيب المنطق : 24 - 26.

الفعل من أقسام المفرد مع أنّه مركب من مادة تدل على الحدث وهيئة تدل على الزمان أو النسبة.

وهكذا الحال في المشتق كاسم الفاعل فإنّه مركب من مادة تدل على الحدث وهيئة تدل على النسبة ، وحينئذ يتوجه عليه أنّهما ينطبق عليهما تعريفه المركب وهو ما قصد بجزء من لفظه الدلالة على جزء المعنى ، فينبغي عدّهما من أقسام المركب ، ولا بد حينئذ من الجواب عن ذلك بأنّ مصطلحهم في المركب اللفظي هو تعدد اللفظ وجودا ويقابله المفرد وهو ما كان اللفظ واحدا. وعند تعدد اللفظ وجودا لا بد من كون كل منهما مشتملا على مادة وصورة كما تراه في مثل غلام زيد وفي مثل « من زيد » ومثل « بزيد » وهذا بخلاف ما لو لم يكن في البين إلاّ وجود واحد غايته أنّه مشتمل على مادة وصورة ، فهذا لا يدخل في المركب بل هو من أقسام المفرد ، غايته أنّه يخالف بقية المفردات مثل « رجل » في أنّ هيئتها لا تدل على معنى بخلاف الفعل وبقية المشتقات ، فالمركب اللفظي لا بد من اشتماله على مادتين وصورتين بخلاف المفرد فإنّه لا يكون مشتملا إلا على مادة واحدة وصورة واحدة ، فهما في ذلك مثل الانسان والفرس في اشتمال كل منهما على مادة وصورة ، بخلاف الانسان وحده فإنّه لا يشتمل إلاّ على مادة واحدة وصورة واحدة ، فهو وحده مفرد يعني غير متعدد ، وعند اجتماعه مع الفرس يكون المجموع متعددا ، هذا كله في التركيب اللفظي في قبال الافراد.

وأمّا التركيب المعنوي في قبال بساطة المعنى الذي هو المفهوم من اللفظ ، أعني ما يحضر في ذهن السامع عند سماعه اللفظ ، فمعرفته تتوقف على معرفة المراد بالبساطة ، فقال في الكفاية : إرشاد : لا يخفى أنّ معنى

ص: 264

البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا وتصورا بحيث لا يتصور عند تصوره إلاّ شيء واحد لا شيئان ، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما ... إلخ (1) ويظهر منه أنّ ما يفهم من اللفظ المفرد لو كان بسيطا لم يضرّ ببساطته تحليل العقل له إلى شيئين.

ولا يخفى أنه لو كان هذا هو المراد من القول ببساطة مفهوم المشتق ، كان لازمه هو أن مراد القائل بالتركيب أن المشتق - مع فرض كونه لفظا مفردا - ذو مفهومين ، ومن الواضح أن اللفظ المفرد لا يكون ذا مفهومين أو معنيين ، وكأنه لأجل ذلك عدل شيخنا قدس سره في التحرير فأفاد أن المراد بالتركيب هو التحليل العقلي وإن كان المفهوم بسيطا ، فقال : والغرض من البساطة والتركب هي البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي ، وإلاّ فلا ريب أن مفهوم المشتق ليس مركبا من مفاهيم تفصيلية ... إلخ (2).

ولكن يتوجه على ذلك أنه ما من بسيط إلاّ ويحلله العقل إلى شيئين أو أشياء ، وحينئذ فما معنى القول ببساطة مفهوم المشتق في قبال تركبه بالمعنى المذكور أعني التحليل العقلي ، وبالنتيجة كان الحاصل هو أنه على التفسير الذي أفاده في الكفاية لا يتصور القول بالتركيب ، وعلى التفسير الذي أفاده شيخنا قدس سره لا يتصور القول بالبساطة في قبال التركيب بالمعنى المذكور.

وعلى كل حال نحن لو قلنا بأن المشتق مركب من مادة دالة على الحدث وهيئة دالة على النسبة ولو ناقصة تقييدية ، لا بد من القول بالتركيب

ص: 265


1- كفاية الاصول : 54.
2- أجود التقريرات 1 : 95.

بحسب المعنى والمفهوم بل بحسب اللفظ أيضا ، غايته أنه ليس بالتركيب اللفظي المصطلح أعني تعدد اللفظ وجودا ، لكن ذلك لا يخرجه عن كونه واقعا مركبا من اسم وهي المادة وحرف وهو الهيئة ، وحينئذ فيكون قولنا ضارب مركبا من اسم وحرف ، وكذلك قولنا ضرب. نعم لو لم نقل بذلك بل قلنا إن المشتق عنوان منتزع عن الذات باعتبار عروض المبدأ عليها من غير أن يكون في البين مادة وهيئة دالة على النسبة ، بل لا يكون وضعه إلاّ كوضع سائر الجوامد ، غايته أنها منتزعة من الذات باعتبار نفسها كالانسان والحجر ، وهو منتزع منها باعتبار تلبسها بالمبدإ وعروضه عليها ، فلا يكون إلاّ بسيطا ، إذ لا يعقل التركب فيما يفهم من اللفظ المفرد ، بل إن المفاهيم الافرادية كلها بسائط في منتهى درجة البساطة.

وأما ما أفاده (1) من أنه لا فائدة في أخذ الذات فلا يحسن من الحكيم ، ففيه أنه لو كان المشتق متضمنا للنسبة كما هو مبنى القائلين بالتركيب ، كان أخذ الذات فيه ضروريا لازما ، وكان يستحيل تمامية معناه الموضوع له بدون الذات.

وأما ما أفاده (2) من لزوم أخذ المعروض في العرض ، ففيه أن العرض هو المبدأ ولم يدّع أحد أخذ الذات فيه.

وأما ما أفاده (3) من لزوم التكرار ، ومن أن اللازم من أخذ الذات أخذ النسبة ، فيلزم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين ، فكأن الاشكالين إشكال واحد ، وعلى كل حال أن القائل بذلك يلتزم به وليس هو باللازم الباطل ، وهو موجود في قولنا : زيد يقوم ويقعد مما تضمن الاخبار بالفعل المستند

ص: 266


1- أجود التقريرات 1 : 99.
2- أجود التقريرات 1 : 99.
3- أجود التقريرات 1 : 100.

إلى ضمير المبتدأ.

قوله : والغرض من البساطة والتركب هي البساطة والتركب بحسب التحليل العقلي ، وإلاّ فلا ريب في أنّ مفهوم المشتق ليس مركبا من مفاهيم تفصيلية وهي مفهوم ذات ثبت لها المبدأ ... إلخ (1).

كأنّ هذا رد على الكفاية حيث قال : إنّ التحليل العقلي لا ينافي البساطة (2) ، فإنّه يستفاد منه أنّ القول بالتركيب هو ما يقابل البساطة التي لا ينافيها التحليل العقلي ، فيكون ذلك غير معقول ، لاستحالة دلالة اللفظ المفرد على مفهومين مع عدم تركب اللفظ. ولكن لازم ما أفاده شيخنا قدس سره هو عدم إمكان القول بالبساطة ، لأن أيّ معنى تصورنا ولو كان في منتهى درجة البساطة فهو قابل للتحليل العقلي بنحو الحد ، ولا أقل من تحليله بنحو الرسم بذكر خواصه وعوارضه الخاصة به. وفي الحقيقة أنّ المشتق مركب من مادة وهيئة دالة على أخذ المادة منسوبة إلى الذات على نحو تكون عنوانا للذات ، فإن شئت فسمّ ذلك تركبا وإن شئت فسمه بساطة على ما شرحناه في حواشينا على الكفاية.

وأما ما أفاده شيخنا قدس سره (3) من أنه إن كان المنظور إليه في المشتق هو الذات كان لازمه التركب ، وإن كان المنظور إليه هو الحدث فلازمه البساطة ، فلم أتوفق لشرحه ، إذ لم أفهم منه إلا مجرد تغيير العبارة ، فإنّ المنظور إليه لو كان هو الحدث فلا ريب أنّه لا يكون بنفسه عنوانا للذات ، وإنّما يكون كذلك باعتبار صدوره عنها ، فيكون مفاده هو الحدث الصادر عن الذات

ص: 267


1- أجود التقريرات 1 : 95.
2- كفاية الاصول : 54 ( نقل بالمضمون ).
3- أجود التقريرات 1 : 95.

المنسوب إليها على وجه يكون عنوانا لها ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى ما لو كان المنظور إليه الذات ، في أنّ النظر إليه يكون باعتبار صدور المبدأ منه ، ويكون مرجع العبارتين إلى معنى واحد ، والنسبة ملحوظة في كل منهما ، فلا فرق بين أن نقول إنّ معنى الضارب هو الذات التي ثبت لها الضرب أو أنّه هو الضرب الذي ثبت للذات ، في كون النسبة مأخوذة وملحوظة في كل منهما ، وبدون لحاظها لا يتم معنى المشتق أصلا.

وأما ما رتّبه قدس سره (1) على البساطة من اعتبار التلبس وعدم الصدق على صورة الانقضاء ، وعلى التركب من عدم ذلك فكذلك لم أتوفق لفهمه ، فإنّا كما نقول إن تلك الذات المأخوذة فيها نسبة الحدث إليها ، يمكن أن تكون النسبة عامة لصورة الانقضاء ، فكذلك نقول إنّ ذلك الحدث المأخوذ عنوانا للذات باعتبار صدوره منها يمكن أن يكون ذلك الصدور عاما لصورة الانقضاء ، ولعل الوجدان شاهد على العموم لما نراه من استعمال المشتق في مورد الانقضاء استعمالا غير مبني على علاقة وعناية وتجوّز ، بل هو استعمال للفظ فيما يقتضيه حاق معناه (2) كما أنّ دعوى إرجاعه إلى مورد التلبس الفعلي ، بدعوى أنّ الملحوظ فيه هو حاله فيما مضى ، بمعنى كون التطبيق بلحاظ ما مضى لا بلحاظ حال الانقضاء ، فهو أشكل من ارتكاب طريقة التجوّز ، بمعنى أنها عناية دقيقة بعيدة يحصل القطع بأنّ المستعملين لم يلاحظوها. نعم في المشتقات التي تكون مبادئها قابلة للدوام والبقاء يكون الظاهر هو دوام الحكم ما دام المبدأ كما هو الشأن في القضية العرفية

ص: 268


1- أجود التقريرات 1 : 110.
2- وليت شعري أيّ علاقة بين من انقضى عنه المبدأ ومن تلبس به فعلا. وعلاقة ما كان لا واقعية لها ، فلا مثال إلاّ أمثلة المشتق التي هي محل الكلام. [ منه قدس سره ].

العامة ، بخلاف المبادئ غير المستقرة فإنّ ظاهر الاستعمالات فيها هو الانقضاء.

قوله : المقدمة السابعة ، قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أنّ مفهوم المشتق مأخوذ لا بشرط ، بخلاف المصدر واسم المصدر فانهما مأخوذان بشرط لا ، وان افترقا من وجه آخر تقدم الكلام فيه ... إلخ (1).

وقال في الكفاية : الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدإ ولا يعصي عن الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك - إلى قوله : - وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا ، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه ... إلخ (2). فجعل المقابلة بين المشتق وبين مبدئه. ولعلّ مراده من المبدأ بنحو من التسامح هو المصدر أو اسم المصدر وإلاّ فإنّ المبدأ على ما هو التحقيق الذي أفاده شيخنا قدس سره وشرحناه فيما حررنا عنه قدس سره لا يكون مقابلا للمشتق ، بل المادة المنبثة فيه وفي المصدر وفي سائر المشتقات حتى اسم المصدر وان كان هو من الجوامد.

وغاية الفرق بين المصدر وبين اسم المصدر ، أن الأوّل لوحظ فيه النسبة ، والثاني لم يلاحظ فيه النسبة بل لوحظ فيه نفس الحدث مجردا عن النسبة ، ولأجل ذلك لم يعمل ، بخلاف الأول فانه لأجل لحاظ النسبة يكون عاملا عمل فعله من دون أن يكون الدال على النسبة فيه هو هيئته ، بل إن

ص: 269


1- أجود التقريرات 1 : 107.
2- كفاية الاصول : 55.

الدال على ذلك هو الهيئة التركيبية منه ومن معمولاته.

والخلاصة : هي أنّ مبدأ الاشتقاق لا وجود له استقلالا في عالم الألفاظ كي يتكلم في الفرق بينه وبين المشتق ، وإن اريد به المبدأ الموجود في المشتق فذلك قد أخذ بالنسبة إلى الحمل لا بشرط أو بشرط شيء وهو الحمل ، فكيف يصح القول بأنّ المبدأ الموجود في المشتق قد أخذ بشرط لا بالقياس إلى الحمل.

وكيف كان ، فالأولى أن يقال : إن مبدأ الاشتقاق الذي هو المادة الموجودة في ضمن جميع المشتقات وفي ضمن المصدر واسم المصدر لو لوحظ في حدّ نفسه بما أنه قدر جامع بين الجميع حتى اسم المصدر وإن لم يكن له لفظ خاص ، فذلك القدر الجامع لو لوحظ فلا بد أن يكون ملحوظا من حيث النسبة لا بشرط ، كما أن اسم المصدر ملحوظ من حيث النسبة بشرط لا ، وباقي المشتقات ومنها المصدر ملحوظ بشرط شيء ، بمعنى أنّ المبدأ بما أنّه قدر جامع بين الجميع يكون ملحوظا لا بشرط من حيث النسبة ، وما هو منه في اسم المصدر يكون ملحوظا بشرط لا ، وفي باقي المشتقات ومنها المصدر يكون ملحوظا بشرط شيء وهو النسبة على اختلاف أنحائها. فان اريد الفرق بين المشتق وبين المصدر كان المبدأ في كل منهما ملحوظا بشرط شيء وهو النسبة ، غير أنّ النسبة في المصدر صدورية وفي المشتق على نحو العنوانية. وإن اريد الفرق بينه وبين اسم المصدر كان الفرق بينهما أن المشتق لوحظ المبدأ فيه بشرط شيء وهو النسبة العنوانية ، واسم المصدر لوحظ المبدأ فيه بشرط لا. وان اريد الفرق بين المشتق ومبدئه المتحقق فيه فقد عرفت أنه لا معنى لأخذه بشرط لا ، بل لا يكون في البين إلاّ لحاظ واحد وهو أخذ المبدأ المذكور بشرط شيء

ص: 270

وهو الانتساب الخاص.

ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما افيد هنا بقوله : فحيث إن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فلا محالة يكون مرآة ومعرّفا لموضوعه ونعتا له وفانيا فيه حيث إنه من أطواره ... إلخ (1) فإنّ مجرد لحاظ معنى المبدأ أعني العرض على واقعه من حيث وجوده لمعروضه لا يكون موجبا لكونه عنوانا له ، بل أقصى ما في ذلك أن يكون ذلك العرض بذلك اللحاظ هو مفاد المصدر كما أفاده بقوله : إنّ تلك المادة الهيولائية التي عرفت أنها المبدأ للمشتقات بالحقيقة تارة لا تلاحظ فيه إلا نفس نسبته إلى محله التي هي ذاتية له ، وباقتضاء كونه عرضا فتكون مدلولة للمصدر - إلى قوله : - واخرى تلاحظ بدون النسبة بما هو شيء من الأشياء. وبعبارة اخرى نتيجة المصدر والحاصل عنه فيسمى الدال عليها باسم المصدر - إلى قوله : - وخامسة تلاحظ المادة بما هي عرضي محمول على خلاف المشتقات السابقة كما في اسم الفاعل وما يلحقه من الصفات ... إلخ (2) فإنه يستفاد من ذلك أنّ مجرد لحاظ العرض على واقعه من حيث إنّ وجوده بنفسه عين وجوده لمعروضه ، لا يتولد منه معنى المشتق مثل اسم الفاعل ، بل لا بد من لحاظ أمر آخر فوق ذلك ، وذلك هو لحاظ كون تلك النسبة على وجه العنوانية المصحّحة لكونه حاكيا عن الذات التي هي معروض ذلك العرض باعتبار صدوره عنها.

وبالجملة : أن لحاظ المبدأ لا بشرط بالقياس إلى قيامه بمعروضه في قبال لحاظه مجردا عن ذلك ، لا يكفي في صحة وتمامية عنوان المشتق ، بل

ص: 271


1- أجود التقريرات 1 : 108.
2- أجود التقريرات 1 : 91 - 93 [ مع اختلاف عمّا في النسختين ].

لا بد من لحاظ ذلك القيام على وجه العنوانية ، فلا يخرج المشتق عن كون المبدأ فيه ملحوظا بشرط شيء ، فتأمل.

وكيف كان ، فالمراد بالعرض هنا هو مطلق ما كان خارجا عن الذات ممّا يصحّ نسبته إليها ولو بنحو من الاعتبار ، فيشمل الامكان والامتناع والوجوب ، والحرمة والوجوب ، وليس هو مختصّا بالأعراض الاصطلاحية ، كما أنّ المراد من قول شيخنا قدس سره في التقرير « ونعتا له » ليس هو النعت الاصطلاحي في النحو كي يرد عليه أنه لا يصح النعتية في ملابسات الفعل كالزمان والمكان ... إلخ ، بل المراد به ما يكون عنوانا له ومعرّفا بقرينة عطفه عليه بقوله : فلا محالة يكون مرآة ومعرّفا لموضوعه ونعتا له ... إلخ ، وليس المراد بالموضوع هو فاعله بل كل ما يلابس المبدأ ، كما أنه ليس المراد من الاتحاد في المقام هو [ الاتحاد الخارجي بل ](1) ما تقدّمت (2) الاشارة إليه من جعله جاريا عليه وعنوانا له ومحمولا عليه باعتبار كونه عنوانا له منتزعا عن تلبسه بالمبدإ كما تقدّمت الاشارة إليه ، ومن ذلك كله يتّضح لك النظر في الامور الثلاثة التي ذكرها في الحاشية ص 73 (3).

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه من الفرق بين المصدر واسم المصدر ، بأنّ الحدث في الأول ملحوظ فيه الانتساب والثاني ملحوظ بشرط لا ، وأنّ كل اسم من أسماء الحدث مثل الضرب إن لوحظ باللحاظ الأول كان مصدرا وإن لوحظ باللحاظ الثاني كان اسم مصدر ، لا ينافي ما ربما ينقل عن بعض

ص: 272


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- راجع صفحة : 266.
3- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 108 - 109 من الطبعة الحديثة.

أهل اللغة من اختصاص بعض الهيئات بالمصدر وبعضها باسم المصدر ، مثل قولهم : إنّ الغسل - بالفتح - مصدر وبالضم اسم مصدر ، فإنّ ذلك إن ثبت لا ينافي ما ذكرناه بينهما من الفرق المعنوي ، فإنّ وجود الفارق اللفظي في بعض المواد لا ينافي ذلك الفارق المعنوي الذي هو أساس الفرق بينهما.

وممّا ينبغي أن يحرر في المقام : هو الفرق بين الوضع النوعي والوضع الشخصي ، وأنّ الموضوع في الأول كلي تحته أنواع مثل هيئة فاعل ، فإنّ هذه الهيئة كلي تحته أنواع وهي ضارب وناصر وعالم وغير ذلك ، وهذا بخلاف الوضع الشخصي مثل رجل فان الموضوع فيه كلي تحته أفراد وهي هذه اللفظة الموجودة بقولك « رجل جاءني » وبقول غيرك « رجل جاءني » بل إنّ اللفظة المذكورة التي تنطق بها الآن فرد والتي تنطق بها ثانيا فرد آخر ، وهكذا.

ويمكن أن يقال : كما أن هيئة المشتق موضوعة بالوضع النوعي ، فكذلك مادته أيضا موضوعة بالوضع النوعي ، فيقال : إن مادة الضرب موضوعة للحدث الخاص ، سواء كانت تلك المادة موجودة في ضمن ضرب أو في ضمن يضرب أو في ضمن ضارب ، فكما أن الهيئة كلي تحته أنواع باعتبار المواد ، فكذلك المادة كلي تحته أنواع باعتبار تلبسها بهيئات مختلفة.

وهناك اصطلاح آخر للوضع النوعي وهو في عالم المعاني دون الألفاظ ، وذلك ما يقال من أنّ المجاز موضوع بالوضع النوعي الكلي القانوني ، بأنّ يدعى أن الواضع لمّا وضع لفظة الأسد للحيوان المفترس فقد وضعها وضعا ثانيا كليا قانونيا لكل ما يناسب ذلك الحيوان المفترس بشيء

ص: 273

من جهاته كالشجاعة والبخر أو الطول أو العرض ونحو ذلك ممّا يكون من الخواص الظاهرة في الأسد. فهذا الوضع القانوني لو سلّمناه يكون وضعا نوعيا ، إذ لم يكن المعنى الموضوع له فيه إلاّ كليا تحته أنواع من المعاني ، فالمشابه للحيوان المفترس كلي تحته مشابهه في الشجاعة ومشابهه في البخر و ... إلخ ، بل إن نفس ما يشابهه في الشجاعة أيضا تحته أنواع وهي الرجل الشجاع والذئب الشجاع وغير ذلك من أنواع الحيوان ، وقد تقدم (1) الكلام في الوضع النوعي في المشتقات ، سواء كان من حيث المادة أو كان من حيث الهيئة ، وأنها كسائر الموضوعات موضوعة بوضع واحد مادة وهيئة لحاصل معناها خصوصا في المشتقات الاسمية.

ثم لا يخفى أنّ الظاهر من اللابشرطية أو بشرط لا أو بشرط شيء إنما هو بالقياس إلى الطوارئ الطارئة على الطبيعة ، وأما إن اخذ بالقياس إلى الحمل وعدمه فذلك لا محصل له في مبدأ الاشتقاق حتى لو كان المادة الموجودة في ضمن جميع المشتقات التي قلنا إنها لا وجود لها في عالم الألفاظ ولا في عالم المعنى ، فإن نفس المبدأ لا يحمل على الذات وإن اخذ لا بشرط بالقياس إلى الحمل على الذات ، بل حتى لو اخذ بشرط شيء الذي هو الحمل ، فإن نفس المبدأ لا يحمل على الذات ، وأخذه بشرط شيء أو أخذه لا بشرط مناقض لمفاده الذي هو نفس الحدث. وأمّا صحة حمل المشتق مثل الضارب على الذات أعني زيدا مثلا فذلك لا دخل لهذه الجهات [ فيه ](2) ، وإنّما مصحّح الحمل فيه هو ما عرفت من كونه عنوانا للذات باعتبار جهة زائدة على الذات على ما عرفت تفصيل الكلام فيه.

ص: 274


1- في صفحة : 260.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما اضفناه لاستقامة العبارة ].

قوله : إنّ المشتق كما عرفت سابقا ليس إلاّ ما لوحظ المبدأ فيه بحيث يتحد مع الذات وينطبق عليه ... إلخ (1).

ربما اشكل عليه كما في الحاشية ص 66 (2) بأنّ المبدأ يستحيل اتحاده مع ما يقوم به في الخارج ... إلخ. ولا يخفى أن المبدأ ليس هو المصدر ولا اسم المصدر ممّا يستحيل انطباقه على الذات ، بل هو المادة الهيولائية المنبثة في جميع المشتقات ، وكما أن تلك المادة لفظا لا وجود لها وحدها في عالم الألفاظ ، فكذلك معناها لا ينوجد في حدّ نفسه في عالم المعاني ، بل كما أنّ لفظها سار في جميع المشتقات متكيّف باحدى الكيفيات من الهيئات ، فكذلك معناها يكون متكيّفا باحدى الكيفيات المعنوية الطارئة على ذلك المعنى. ومن جملة تلك الكيفيات المعنوية لحاظه عنوانا للذات التي يقوم بها ولو بواسطة صدوره عنها أو قيامه بها.

ولا يخفى أنه ليس المراد من الاتحاد هنا هو اتحاد نفس العرض بالذات ليرد عليه المحالية ، بل المراد بالاتحاد الاتحاد الصدقي بواسطة الاشتقاق على وجه يؤخذ من ذلك المبدأ عنوانا يكون منطبقا على الذات ومتحدا معها اتحاد الحاكي والمحكي.

نعم ، يبقى الكلام في أنّ مفاد تلك الهيئة هل هو مجرد ذلك الاتحاد ، أو هو انتساب المبدأ إلى الذات ، أو هو عنوانية المبدأ للذات باعتبار انتسابه إليها ، أو لا هذا ولا ذاك ولا مادة ولا هيئة كما عرفت الاشارة إليه من أنّ المجموع من المادة والهيئة موضوع بوضع واحد لمعنى واحد كسائر

ص: 275


1- أجود التقريرات 1 : 98.
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 98 من الطبعة الحديثة.

الأسماء التي هي عناوين الذات ، غايته أنه أعني المشتق عنوان منتزع من الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ لا باعتبار نفسها كما في الحجر والانسان ، ولأجل أن منشأ انتزاع هذه العنوانية للذات هو تلبسها بالمبدإ يرى الرائي أو يتخيل المتخيل أنّها متضمنة للنسبة ، فيقال إن معنى ضارب هو ذات وقع الضرب منها أو ثبت لها الضرب ، ولكن ذلك جار في الجوامد فيقال : معنى حجر ، ذات أو شيء له الحجرية ، وغير ذلك من التعبيرات التسامحية. وينبغي مراجعة ما علّقناه (1) على الكفاية في هذه المقامات أعني مقام بساطة المشتق أو تركبه ومقام الفرق بين المشتق وبين مبدئه.

قوله : الأول من طريق الإن ، فانه لو كان المشتق دالا على النسبة التي هي معنى حرفي فلا محالة يكون ... إلخ (2).

ربما أشكل عليه كما في الحاشية على ص 66 (3) ما حاصله : أنّ الدال على النسبة هو الهيئة ، وذلك أجنبي عن كون الاسم الذي هو المادة فيما نحن فيه متضمنا لمعنى الحرف. وهذا البرهان ذكره قدس سره (4) أيضا في دلالة المصدر مادة أو هيئة على النسبة ، ويتوجه عليه هناك ما يتوجه عليه هنا.

لكن لا يبعد أنّ مراد شيخنا قدس سره الاشكال على القائلين بأنّ المشتق أو المصدر المتضمّن لمعنى النسبة اسم ، وحاصل الاشكال أنه إذا كان المشتق بمجموعه مادة وهيئة اسما ومع ذلك يتضمن النسبة ، ورد عليهم كونه كسائر الأسماء المتضمنة لمعنى الحروف ، وإن لم يكن بمجموعه اسما بل كان

ص: 276


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 1 : 98.
3- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 98 من الطبعة الحديثة.
4- أجود التقريرات 1 : 93.

الاسم هو المادة نفسها ، وكانت الهيئة دالة على النسبة ، انتقض ما قالوه من كونه اسما ، وعاد المشتق مركبا من الاسم والحرف ، ولا شك أنّهم لا يقولون بأنه مركب من الاسم والحرف ، بل هم قائلون بأنّه اسم كسائر الاسماء ، وحينئذ يتوجه على إدخالهم النسبة في معناه لزوم البناء لتضمنه معنى الحرف.

نعم ، إن عين هذا الاشكال يتوجه على شيخنا قدس سره فانه ملتزم بالمادة والهيئة ، غايته أنه قدس سره يقول بأن مفاد الهيئة هو إفادة اتحاد المبدأ مع موضوعه ، وحينئذ يرد عليه : أنّ لازمه هو تركب المشتق من اسم هو المادة وهيئة هي الحرف ، أيّ شيء كان مدلولها ، سواء كان هو النسبة أو كان هو إيجاد الاتحاد بين المبدأ وموضوعه ، حيث إن مفاد الهيئة آلي ولا يعقل كون مفادها استقلاليا ، وحينئذ يتوجه عليه من الاشكال ما توجه على القول بأنّ مفادها النسبة ، فلاحظ.

ومنه يظهر لك الاشكال فيما تضمّنه تقرير المرحوم الشيخ محمد علي قدس سره أعني قوله : فلا محيص عن القول بأنّ هيئة المشتق موضوعة بوضع استقلالي اسمي للعنوان المتولد من قيام العرض بمحلّه ... إلخ (1) فراجع. نعم إن المجموع من المادة والهيئة موضوع بوضع استقلالي اسمي للعنوان المنتزع المتولد من قيام العرض بمحله ، فتأمل.

قوله : واجيب عن الشق الأول بوجهين ، الأول : أنّ الناطق إنّما اعتبر فصلا مقوّما للانسان مع التجريد عن معناه اللغوي ... إلخ (2).

الأولى في تقريب الاشكال الأول هو أن يقال : لا شبهة في كون

ص: 277


1- فوائد الاصول : 1 - 2 : 109.
2- أجود التقريرات 1 : 101.

الناطق بسيطا سواء كان فصلا أو كان خاصة ، وحينئذ يستحيل أخذ شيء في مفهومه ، سواء كان ذلك الشيء عرضا عاما أو كان جنسا أو كان فصلا أو كان نوعا ، لاستحالة أخذ واحد من هذه الامور في كل من الفصل والخاصة.

أمّا الاشكال الثاني فالأولى في تقريبه : هو استحالة أخذ المصداق في المفهوم وإن لم يكن في البين انقلاب مادة الامكان إلى الضرورة ، فلاحظ وتدبر.

قوله : فلا محالة يكون جنسا عاليا لها. إن قلت : على ذلك يلزم تركب مفاهيم الأعراض من الجنس والفصل مع أنّه لا إشكال في بساطة مفاهيمها. قلت : ما هو المتسالم عليه في باب الأعراض هو بساطتها بمعنى أنّ ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز - ثم قال ما محصّله : - إنّ اللازم هو دخول الجنس في الفصل لا دخول العرض - إلى أن قال : - وكيف كان ، فلا إشكال في تمامية مدعى المحقق الشريف وهو خروج مفهوم الشيء عن مفاهيم المشتقات ، سواء كان محذور دخوله فيها هو أخذ العرض العام في الفصل أو الجنس فيه - إلى أن قال : - غاية الأمر أن محذور أخذ مفهوم الشيء فيها هو أخذ الجنس البعيد في الفصل ومحذور أخذ مفهوم الذات هو أخذ الجنس القريب فيه ، ولا فرق في الاستحالة بين الأمرين أصلا (1).

لا يخفى أنه قدس سره قد التزم بأنّ مفهوم الشيء جنس مشترك بين الأجناس العالية التي هي بسائط ، فلا بد أن يكون جنسا لها وللأنواع والأجناس والفصول التي هي تحت أحد تلك الأجناس العالية الذي هو

ص: 278


1- أجود التقريرات 1 : 104 - 105.

الجوهر ، وذلك عبارة اخرى عن كون الشيء جنسا للفصول ومنها الناطق.

وأجاب عن اشتراكه بين البسائط ، بأنّ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز ، فلا مانع من كون مفهوم الشيء مشتركا بين مقولة الكيف والكم مثلا ، كما أنه لا مانع من كونه مشتركا بين الكيف وبين الانسان مثلا ، وحينئذ يتوجه عليه أنه لا مانع من كون هذا الجنس الذي هو مفهوم الشيء مشتركا بين الناطق الذي هو الفصل وبين الفرس مثلا ، أو بين الناطق الذي هو فصل الانسان وبين الصاهل الذي هو فصل الفرس ، لأنّ ما به الاشتراك في الفصل الذي هو البسيط عين ما به الامتياز ، سواء كان مقابله فصلا مثله أو كان مقابله مركبا كنوع آخر.

قوله : واجيب عن الشق الثاني بأنّ ثبوت مصداق الذات ... إلخ (1).

قال في الفصول : إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا ، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف. وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة ، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا. وفيه نظر ، لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا إن كانت مقيدة به واقعا ، صدق الايجاب بالضرورة ، وإلا صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة ، لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل بالضرورة ... إلخ (2).

ملخص ما أفاده شيخنا قدس سره في الايراد على الجزء الأول من كلام

ص: 279


1- أجود التقريرات 1 : 105.
2- الفصول الغروية : 61.

صاحب الفصول : هو ما أفاده في الكفاية (1) ، وذلك هو أن القيد إن لم يكن داخلا في الحمل كانت القضية ضرورية ، وإن كان داخلا كانت القضية منحلة إلى قضيتين ، قضية حمل الذات في طرف المحمول على الذات في طرف الموضوع وهي ضرورية ، وقضية حمل القيد في طرف المحمول على الذات في طرف الموضوع وهي غير ضرورية. واكتفيا في تحقق الانقلاب بالقضية الاولى ، وفيه تأمل. ثم إنّ صاحب الكفاية قدس سره عقّب ذلك بقوله : وذلك لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار ، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فعقد الحمل ينحل إلى قضية كما أنّ عقد الوضع ينحل إلى قضية ... إلخ (2).

ولا يخفى أن انحلال عقد الحمل الذي هو مركب من الذات في طرف المحمول المقيدة بمثل قولنا « له الكتابة » إلى قضية ، لا ينتج إلا حمل القيد على الذات في طرف المحمول ، وذلك لا دخل له بصدر الكلام من كون القضية الثانية هي حمل القيد في طرف المحمول على الذات في طرف الموضوع إلاّ بتطويل المسافة ، بأن نقول إن الذات في طرف المحمول لمّا كانت هي عين الذات في طرف الموضوع ، كان البرهان القاضي بأن التوصيف في طرف المحمول راجع إلى القضية ، تكون هذه القضية المتضمنة لحمل القيد على الذات في طرف المحمول عين القضية التي تتضمّن حمل ذلك القيد على الذات في طرف الموضوع.

وأمّا ما أفاده صاحب الفصول بقول « وفيه نظر » فكأنه يريد به هو أن المحمول بواسطة اشتماله على تقييد الذات بالقيد المزبور يتضمن قضية

ص: 280


1- كفاية الاصول : 52.
2- كفاية الاصول : 53.

وهي أنّ الذات في طرف المحمول محمول عليها وصف الكتابة بالقوة أو بالفعل. وهذه القضية التي هي في طرف المحمول محمولة برمّتها موضوعا ومحمولا على الذات التي في طرف الموضوع ، فقولنا « زيد كاتب » ينحلّ بناء على التركيب إلى قولنا « زيد زيد كاتب » وهذه القضية التي هي في طرف المحمول إن كانت صادقة كان حملها برمّتها على زيد في طرف الموضوع بضرورة الايجاب ، وإلا كان حملها عليه بضرورة السلب.

ويشهد بذلك ما نقله بعض السادة من مشايخنا قدس سرهم أنّ النسخ القديمة من الفصول تشتمل على تكرار لفظ زيد في قوله زيد الكاتب ... إلخ وان كان المضمون المذكور لا يتوقف على زيادتها لكفاية الألف واللام عن تكرار زيد ، فلاحظ.

ولا يبعد الجزم بأنّ في العبارة سقطا ، وذلك الساقط إمّا هو لفظ زيد الثاني ، فيكون معنى العبارة هو ما ذكرناه ، وإما أن يكون الساقط هو لفظ كاتب بعد قوله « الكاتب » ليكون الصحيح هو بهذا اللفظ « لكن يصدق زيد الكاتب كاتب بالقوة أو بالفعل بالضرورة » وحينئذ يكون مفادها هو ما ذكروه من أخذ المحمول قيدا في الموضوع.

ولكن لا يخفى أنّ أخذ المحمول قيدا في الموضوع يوجب الانقلاب إلى الضرورة ، سواء قلنا إنّ مفهوم المشتق بسيط أو قلنا بأنه مركب ، ولا يكون ذلك مختصا بالقول بالتركيب. وأمّا قوله في آخر العبارة مما مفاده اختصاص الاشكال بالتركب من مفهوم الذات أو مصداقها ... إلخ فكأنّه يومئ إلى التركب من المادة والهيئة الدالة على النسبة الناقصة ، فذلك ممّا لا يمنعه البرهان المذكور ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال ، أن البرهان على هذه القضية في طرف المحمول هو

ص: 281

ما أفاده في الكفاية من قوله : لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار ... إلخ ، وكأن شيخنا قدس سره وكذلك صاحب الكفاية قدس سره فهما من قول صاحب الفصول « إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة » أنّ صاحب الفصول يريد أن يقيّد الذات في طرف الموضوع بكونها كاتبة ، ثم بعد هذا التقييد يحمل عليه عنوان الكاتب ، فأوردا عليه بأنّ ذلك من قبيل الضرورة بشرط المحمول. لكنك قد عرفت أنّ مراده هو أن القضية الثانية التي هي في طرف المحمول إن كانت صادقة ومطابقة للواقع كان حملها برمّتها على الذات في طرف الموضوع بالضرورة الايجابية.

نعم ، يرد على صاحب الفصول : أن تحليل التركيب التقييدي في ناحية المحمول إلى تركيب حملي لا يزيد نغمة الطنبور ولا ينقصها ، فإنّ الاشكال الذي أورده على التقييد بقوله : إن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف ... إلخ جار في انحلال ذلك التقييد إلى الجملة الحملية ، فيقال : إنا لو قلنا زيد زيد كاتب ، لم يكن زيد الثاني محمولا مطلقا على زيد الأول ، بل كان المحمول هو زيد الثاني المحمول عليه كاتب ، ولا يكون حينئذ حمله عليه ضروريا لجواز كون الكاتب غير ضروري ، وحينئذ يتوجه عليه ما أفاداه قدس سرهما فيقال : إنّ هذه القضية الحملية أعني قولنا زيد كاتب في حملها على زيد الذي طرف الموضوع إن لم يكن محمولها دخيلا في الحمل وكان المحمول هو نفس زيد كانت القضية ضرورية ، وإن كان محمولها دخيلا في الحمل انحل حملها على زيد الأول إلى قضيتين : حمل موضوعها على الموضوع وحمل محمولها على ذلك الموضوع أيضا ، والاولى ضرورية قطعا وأما الثانية فهي غير ضرورية إلاّ إذا أخذنا المحمول فيها قيدا في الموضوع ، فلاحظ وتأمل.

ص: 282

قوله : بخلاف ما إذا قلنا بالبساطة فانه عليه ليس المشتق إلاّ نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط - ثم قال بعد أسطر : - فإنّ المتّصف بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات ، وهي باقية بعد زوال التلبس ، فيصح الاستعمال مجازا ... إلخ (1).

يمكن دعوى التهافت بين هاتين الجملتين. والحق هو الجملة الأخيرة. أما الاولى وهي كون المشتق نفس المبدأ لا بشرط ، فقد عرفت الاشكال فيها ، وأن المبدأ في جميع المشتقات مأخوذ بشرط النسبة ، غاية الأمر أن النسبة فيها مختلفة ، ففي الفعل صدورية وفي المشتق تطبيقية حاصلة من أخذ المشتق عنوانا بسيطا للذات وهو منتزع عنها باعتبار تلبسها بالمبدإ. فليس النظر فيه إلى نفس الحدث بل إن النظر فيه إلى الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ. ولو كان المنظور إليه في المشتق هو نفس الحدث كان اللازم عدم صحة الاستعمال بعد انقضائه ، وكان أسوأ حالا من الجوامد بعد تبدل صورتها النوعية إلى صورة اخرى ، وكان مقتضاه أن لا يصح الاستعمال في موارد الانقضاء ولو مجازا. وما أجاب به شيخنا قدس سره بقوله : قلنا نعم إلاّ أن المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف ... إلخ كأنه خروج عن الفرض ، إذ المفروض أن المشتق هو نفس المبدأ وذلك هو التهافت ، ونظير هذه الجملة الاولى قوله : وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية فانها عين مبادئها وهي بسيطة ، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية ولا يبقى شيء أصلا (2).

وحينئذ يظهر لك أن القول ببساطة المشتق لا يوجب القول باعتبار

ص: 283


1- أجود التقريرات 1 : 110 - 111.
2- أجود التقريرات 1 : 113 [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

التلبس الفعلي ، لامكان القول بأنّ هذا العنوان المنتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ بعد فرض أن كان تمام النظر فيه إلى الذات هو منتزع عنها باعتبار مطلق التلبس ولو فيما مضى ، وإن شئت فقل : إن التلبس علة في صدق العنوان ، ويقع الكلام في كونها علة مادامية أو أنّها محدثة مبقية.

ومن ذلك يتّضح لك التأمل فيما أفاده بقوله : وتوضيح ذلك ، أنه إن قلنا بالوضع للمركب ، فلا محالة يكون الركن الوطيد هو الذات ، وانتساب المبدأ إليها كأنه جهة تعليلية لصدق المشتق عليها ، ومن المعلوم أن النسبة الناقصة التقييدية لم يؤخذ فيها زمان دون زمان ... إلخ (1) فإنّ التركيب على ما أفاده قدس سره من قوله قبيل هذه العبارة : فان قلنا بالتركب فحيث إن مفهوم المشتق اخذ فيه انتساب المبدأ إلى الذات ... إلخ (2) لا يكون إلا بأن تكون النسبة دخيلة في مفهوم المشتق ، أما كون الركن الركين هو الذات وأن النسبة علة في صدق العنوان على الذات فذلك هو عين البساطة. والذي حررته عنه هو : أنّ المنظور إليه على القول بالتركيب هو الذات ، وقد اخذ تلبسها بالحدث جهة تقييدية فيها فراجع. اللّهم إلاّ أن يكون المراد هنا أنه وإن كان جهة تقييدية إلاّ أنه كأنه جهة تعليلية ، فلاحظ وتدبر.

وأمّا قوله : ومن المعلوم أن النسبة الناقصة التقييدية لم يؤخذ فيها زمان دون زمان ... إلخ (3) فهو إنّما يصح دليلا على كون الموضوع له هو مطلق النسبة لا النسبة الحالية في الزمان الحالي ، كل ذلك بعد فرض دلالته على النسبة الذي هو عبارة اخرى عن القول بالتركيب ، فيكون

ص: 284


1- أجود التقريرات 1 : 112.
2- أجود التقريرات 1 : 110.
3- أجود التقريرات 1 : 112.

الحاصل حينئذ هو أنا لو قلنا بالتركيب بالمعنى المذكور أمكننا القول بأنه للأعم ، بل تعين علينا ذلك ، لأن الهيئة الدالة على النسبة التي هي المنشأ للقول بالتركيب لا دلالة لها على الزمان الحالي ، بل لا دلالة لها على الزمان أصلا.

ثم لا أظن أنّ القائلين بالتركيب يقولون بأنّ هيئة المشتق تتضمّن نسبة الحدث إلى الذات ، بل لا يبعد القول بأن هيئته عندهم كما هي عند القائلين بالبساطة ، لكنهم يدعون دخول الذات في مفهومه من باب كون عنوان المشتق صفة للذات ، بل لا أظن أن للقول بالتركيب أساسا سوى ذلك الجواب عن الاشكال في تعريف النظر بأنه ترتيب امور معلومة بالنقض بالتعريف بالفصل والخاصة ، فاجيب بالتركيب وأن قولنا ناطق أو ضاحك بمنزلة شيء له النطق أو له الضحك.

ولا أظن أن الجواب يحتاج إلى هذا التعمق ، بل يكفي في الجواب أن يقال : إن المقام من قبيل حذف الموصوف وبقاء الصفة. ولعلّ أصل الجواب كان كذلك لكن غيّره التعمق إلى ما صنعه المتأخرون ، وليت شعري كيف يتخيل المنطقي أنّ الفصل أو الخاصة مركبة ليرد عليه إشكالات الشريف وما هو نظيرها ممّا تقدم. وما هذا الاشكال والجواب عنه إلا كما لو قال النحوي لا بد في إعمال اسم الفاعل من كونه معتمدا على الموصوف ، ثم يشكل عليه بمثل جاءني ضارب زيدا. فيجيب بتحقق الاعتماد لأنه في قوة قولك إنسان ضارب.

ولعل من ادعى كون المشتق يتضمّن النسبة التقييدية لم ينظر إلاّ إلى هذه الجهة أعني كونه عنوانا وصفة ، ولا بدّ له من موصوف أو معنون إما ظاهر معه ، كأن تقول جاءني إنسان ضارب ، أو مقدر كأن تقول جاءني

ص: 285

ضارب ، فيكون مراده بالنسبة التقييدية هو التوصيفية ، وأن تركيب المشتق مع موصوفه تركيب وصفي إما ظاهر أو مقدر.

ثم إنه شرح المراد بالتركيب فقال : إن مفهوم المشتقات بناء على التركيب ليس مركبا من مفهوم المبدأ ونسبة ناقصة تقييدية - إلى قوله : - بل القائل بالتركب إنّما يدعي التركب من الذات والمبدأ ، غاية الأمر أن المفهوم متضمن لمعنى حرفي كأسماء الاشارة والموصولات ، إلى آخر ما أفاده (1) ، فراجعه فانه مشتمل على جمل لا تخلو من غرابة ، ولا أظن القائل بالتركيب يقصد شيئا من تلك المفادات ، فلاحظ وتأمل.

قوله : ويدل عليها - زيادة على البراهين السابقة - التبادر ، فانه لا إشكال ولا ريب في أنّ أهل كل لغة يتبادر إلى أذهانهم من الهيئات الاشتقاقية ركنية المبدأ ، ويلزمها بساطة المعنى وخروج الذات عن المفهوم ، ويتفرّع عليه كون المعنى هو خصوص المتلبس ... إلخ (2).

مراده من ركنية المبدأ في مفهوم المشتق هو كونه تمام المعنى كما أفاده فيما سبق بقوله : فانه عليها ليس المشتق إلاّ نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط ... إلخ (3) ، فلا يرد عليه ما في الحاشية من أنّ الركنية وإن كانت ظاهرة إلا أنه لا ملازمة بينها وبين بساطة المفاهيم الاشتقاقية. نعم لازمها هو الوضع لخصوص المتلبس كما هو ظاهر (4) بدعوى تحقق الركنية مع القول بالتركيب باعتبار كون الموضوع له هو الذات المتلبسة بالمبدإ ، أو باعتبار

ص: 286


1- أجود التقريرات 1 : 115 - 116.
2- أجود التقريرات 1 : 113 - 114.
3- أجود التقريرات 1 : 110.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 114.

دلالة الهيئة على نسبة المبدأ إلى الذات فيكون المبدأ جزءا من المعنى ، وذلك لما عرفت من أنّ مراده قدس سره بالركنية هي كون المبدأ تمام المعنى لا أنّه جزء المعنى. وهذا هو الحجر الأساسي في دعواه البساطة ، وفي دعواه كون الموضوع له هو خصوص المتلبس ، وهو الحجر الاساسي أيضا في دعواه عدم الجامع بين التلبس والانقضاء ، لكونه مساوقا للجامع بين وجود الحدث وعدمه. وهذه الدعوى هي الحجر الاساسي في (1) صحة السلب عن الذات التي انقضى عنها المبدأ حتى مع إطلاق السلب والمسلوب.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وهي عدم الجامع لو تمت لكانت هي وحدها كافية في كون الموضوع له هو خصوص المتلبس من دون حاجة إلى التبادر ولا إلى صحة السلب ، لكن قد عرفت أن أساس هذه الدعوى أعني عدم الجامع هو كون المبدأ هو تمام المعنى وإن اخذ لا بشرط. وقد عرفت المنع من ذلك وأن النظر في المشتق إنما هو إلى الذات ، وأن مفاده هو كون المشتق عنوانا منتزعا من الذات باعتبار تلبسها بالمبدإ ، على أن يكون التلبس علة في انتزاع ذلك العنوان عن الذات وفي انطباقه عليها ، لا أن النظر فيه إلى نفس المبدأ وأن المبدأ تمام معناه ، كما عرفت أن المبدأ لم يؤخذ في المشتق لا بشرط بل اخذ بشرط شيء وهو انتسابه إلى الذات بطريق العنوانية.

ولا يخفى أن أخذ المبدأ بشرط شيء بهذا المعنى لا يلازم كون المنظور إليه في مفهوم المشتق هو المبدأ ، بل إن تمام النظر فيه إلى الذات لكن باعتبار تلبسها بالمبدإ. وحينئذ يكون المبدأ في هذه المرحلة أعني

ص: 287


1- [ في الأصل زيادة « كون » والصحيح ما أثبتناه ].

مرحلة كون التلبس به علة في انتزاع هذا المفهوم عن الذات ملحوظا بشرط شيء ، لا أنه هو تمام المنظور إليه وأنه لوحظ بشرط شيء أو لا بشرط ، فلاحظ وتدبر.

قوله : ودعوى منافاة صحة السلب مع صحة الحمل - إلى قوله : - مدفوعة بأن صحة الحمل بالعناية لا تنافي صحة السلب بلا عناية ... إلخ (1).

قد يرد عليه : أنه مصادرة وليس ذلك بأولى من القول بأن صحة السلب بالعناية لا تنافي صحة الحمل بلا عناية ، ولا دافع لذلك إلا بما أفاده الشيخ قدس سره (2) من الرجوع إلى الوجدان وتحكيمه في أنّ أيهما المحتاج إلى العناية.

قوله : فمدفوع بأنّه بناء على البساطة كما أثبتناها لا يعقل هناك معنى جامع بين المتلبس والمنقضي ... إلخ (3).

حاصله : أنا نختار الشق الأول ، وهو كون المسلوب هو الضارب المطلق ، وقولكم إنه غير سديد غير سديد ، بناء على ما أثبتناه من البساطة ، وأن محصّلها كون المشتق عبارة عن المبدأ ملحوظا لا بشرط ، وهو قاض بصحة سلبه عمّن انقضى عنه المبدأ ، وأن التوهم إنما يتم لو أمكن وجود قدر جامع بين المتلبس والمنقضي ليقول القائل إنه لا يصح سلبه عن المنقضي ، ويستكشف من ذلك عدم كون المشتق منحصرا بالأول أعني المتلبس ، ولكن لمّا عرفت عدم معقولية الجامع تعرف أن دعوى القائل

ص: 288


1- أجود التقريرات 1 : 114.
2- المشتق : 18 - 19.
3- أجود التقريرات 1 : 114.

بعدم صحة السلب عن المنقضي لا بد أن ترجع إلى ادعاء كون اللفظ موضوعا له بخصوصه أو أنه مشترك لفظي بينهما ، وكل من ذلك ممّا لم يقل به أحد.

والخلاصة : هي أنا لا بدّ لنا من الالتزام بصحة السلب ، إذ لو قلنا بعدم صحة السلب لزمنا القول بكونه موضوعا للقدر الجامع ، أو القول بأنه موضوع لخصوص المنقضي ، أو القول بالاشتراك اللفظي بينهما ، والأول غير معقول ، والثاني والثالث لم يقل بواحد منهما أحد ، فيتعين القول حينئذ بصحة السلب هذا ، ولكنك قد عرفت معنى البساطة وأنها ليست عبارة عن كون المنظور إليه هو الحدث ليكون هو تمام المعنى ، ويكون ذلك برهانا على عدم معقولية الجامع بين الموردين.

قوله : وبيانه أن مفهوم المشتقات بناء على التركيب ليس مركبا من مفهوم المبدأ ونسبة ناقصة تقييدية حتى يكون المفهوم مركبا من مفهوم اسمي وحرفي ... إلخ (1).

لا يخفى أن هذا أعني تركب المشتق من المبدأ والنسبة الناقصة لو تم لكان موجبا لعدم معقولية الجامع ، كما كان القول بالبساطة بالمعنى الذي أفاده قدس سره موجبا لذلك ، لاشتراكهما في كون المبدأ ركنا في المفهوم ، وأنه هو المنظور إليه ، وأنه هو بنفسه تمام المعنى ، إذ بناء على ذلك يكون المبدأ هو تمام المعنى ، وأن انضمام النسبة إليه كانضمام أخذه لا بشرط الذي هو عبارة عن الحمل إليه ، فلاحظ.

قوله : إذ عليه لا يمكن الحمل على الذات أبدا ولا يمكن

ص: 289


1- أجود التقريرات 1 : 115.

استعمالاتها ... إلخ (1).

يمكن التأمل في ذلك ، فإن أقصى ما يكون هو أنّ مفهوم المشتق عبارة عن الحدث بقيد النسبة التقييدية ، وذلك غير مانع من حمله برمّته على الذات ، ولا يكون حال ضارب حينئذ إلا حال يضرب في صحة جعله برمّته خبرا عن المبتدأ ، فكما يصح أن يقال زيد يضرب مع كون يضرب مقرونا بالنسبة الخبرية ، فينبغي أن يصح قولنا زيد ضارب بناء على كونه الحدث المقرون بالنسبة التقييدية. ثم إنه تقدمت (2) الاشارة إلى ورود ذلك على ما أفاده قدس سره من البساطة حيث إنه قدس سره ملتزم بأن لفظ المشتق مركب من مادة وهيئة ، والهيئة لا بد أن يكون معناها حرفيا ، وما تضمنه تحرير المرحوم الشيخ محمد علي قدس سره (3) من دلالة الهيئة هنا على معنى اسمي ممّا لا يمكن الالتزام به ، فراجع.

قوله : ولا يمكن استعمالاتها ، لما ذكرنا سابقا من أن الحروف لا يصح استعمالها إلاّ في طي الكلام حتى تكون رابطة بين المفاهيم الاستقلالية ... إلخ (4).

يمكن التأمل فيه ، أوّلا : المنع من هذه الكلية ، فإن المنع من استعمال الحروف كذلك مختص بالحروف النسبية وإلاّ فإنّ ذلك لا يجري في الاسم المعرّف باللام.

وثانيا : أن مفاد الهيئة وإن كان هو من النسبيات إلاّ أنه لا مانع من

ص: 290


1- أجود التقريرات 1 : 115.
2- في صفحة : 277.
3- فوائد الاصول 1 - 2 : 109.
4- أجود التقريرات 1 : 115.

استعماله مع مدخوله ، ويكون هو كلاما مستقلا كما في قولك ضرب أو يضرب إذا كان المرجع معلوما ، فكما يصح ذلك في الفعل الماضي والمضارع فليصح في اسم الفاعل ، فإنه لا فرق بينهما وبينه إلاّ في أن النسبة فيه تقييدية وفيهما خبرية.

نعم ، إنّ قولنا ضارب وإن اشتمل على النسبة التقييدية ، إلاّ أنّه لا يستقل في الكلام من جهة كون نفس ضارب اسما من الأسماء ، ولا بد في ذكره في عالم الألفاظ والإفادة بها من كونه محكوما عليه أو به أو منسوبا إليه ، إلى غير ذلك من طوارئ الأسماء المفردة ، وذلك أمر آخر يمنع من استعماله منفردا ، وهو غير المدعى من كونه مركبا من اسم هو المادة وحرف هو الهيئة الدالة على النسبة التقييدية.

قوله : بل القائل بالتركب إنما يدعي تركبه من الذات والمبدأ غاية الأمر أن المفهوم متضمن لمعنى حرفي كأسماء الاشارة ... إلخ (1).

كأنه يريد أنه لا نسبة في البين ، وحينئذ يتوجه الاشكال على هذا التركيب وأيّ تركيب هو؟ وكيف كان المفهوم المركب من الحدث والذات متضمنا لمعنى الحرف؟ وأيّ حرف ذلك الحرف الذي هو قد تضمنه هذا المفهوم المركب؟ كل ذلك ممّا لم أتوفق لفهمه.

ثم إنه يرد عليه ما تقدم على الوجه السابق من دخول المعنى الحرفي المانع من الحمل والاستقلال في الاستعمال ، وعلى كل حال هو مثله ومثل القول بالبساطة بالمعنى الذي أفاده في عدم الجامع ، ولا يحتاج في إثبات عدم الجامع إلى جعل الجامع هو الزمان كي يورد عليه بما أفاده بقوله : ومن

ص: 291


1- أجود التقريرات 1 : 116.

المعلوم أن مفاهيم المشتقات عارية عن الزمان ... إلخ ، فلاحظ وتأمل.

قوله : وقلنا بوضع الهيئات للنسبة الناقصة التقييدية التي هي من المعاني الحرفية لما أمكن تصور الجامع ... إلخ (1).

هذا إشارة إلى ما تقدم في قوله : وبيانه أن مفهوم المشتقات بناء على التركيب ليس مركبا من مفهوم المبدأ ونسبة ناقصة تقييدية ... إلخ ، وقد عرفت أن ذلك لو تم يكون في عدم معقولية الجامع مشاركا لما أفاده من البساطة في كون المنظور إليه في كل من الوجهين هو المبدأ ، لكنه قدس سره هنا يريد منع الجامع من ناحية اخرى وهي عدم الجامع بين النسبة المنقضية والنسبة الفعلية.

ولا يخفى إمكان تطرق المنع إلى المنع من الجامع بين النسبتين ، إذ ليس معنى النسبة الناقصة هنا إلاّ عبارة عن كون زيد الذي هو الذات منسوبا إليها الضرب ، ومن الممكن أن يقال إن ذلك أعم من انتسابه إليه فيما مضى وانتسابه إليه في الحال.

ثم إنه قدس سره ذكر الاستدلال على الاختصاص بتضاد المبادئ مثل القيام والقعود ، فلا بد أن يتحقق هذا التضاد في المشتقات منها مثل قائم وقاعد. وذكر الجواب عنه : بأن التضاد بين المبادئ لا يوجب التضاد في المشتقات ، لجواز أن تكون في هيئة المشتق خصوصية ترفع هذا التضاد. وأجاب عنه : بقوله : وفيه أنّ هيئات المشتقات بناء على كون مفادها بسيطا لا تفيد إلاّ إخراج المبدأ عن البشرطلائية إلى اللابشرطية ، فهي هي بعينها والاختلاف بالاعتبار ، فلا محالة يكون التضاد باقيا على حاله كما في

ص: 292


1- أجود التقريرات 1 : 116.

مبادئها. وأمّا بناء على التركيب فحيث إنك قد عرفت عدم تعقل جامع بين المنقضي عنه والمتلبس ، فلا محالة يكون موضوعا لخصوص المتلبس فيبقى التضاد على حاله (1).

وإذا بقي التضاد في المشتقات بحاله في المبادئ ، وكان الوجدان حاكما بالتضاد بين قولنا زيد قائم وقولنا زيد قاعد ، كشف عن اعتبار خصوصية التلبس ، إذ لو كان للأعم لم يكن بين القولين تضاد. والحجر الأساسي في جميع ذلك هو عدم معقولية كونه للأعم لعدم معقولية القدر الجامع ، وذلك ناشئ عن بساطة المفهوم بالمعنى الذي أفاده من كون مفاد المشتق هو نفس المبدأ لا بشرط. وهذا إذا ثبت لم يحتج إلى التمسك بدعوى التناقض ، بل تكون دعوى التناقض مبنية على البساطة المذكورة ، ومن الواضح أنه إذا انهدم هذا المعنى من البساطة انهارت جميع هذه المباني ، ولم يبق بأيدينا إلاّ دعوى حكم الوجدان بالتناقض وذلك قابل للانكار ، فنحتاج إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه صحة السلب من الاستناد إلى دعوى الوجدان ، وليست دعوى الوجدان في صحة السلب إلاّ كدعوى الوجدان في تحقق التضاد المذكور ، فلا يكون إلاّ من قبيل الأدلة الانصافية ، وليس شيء من ذلك من قبيل الأدلة العقلية التي لا يتمكن الخصم من التخلص منها.

قوله : فان قلت : إنّ ما ذكرته من مضادة المعاني الاشتقاقية ينافي ما ذهب إليه علماء الميزان من أنّ نقيض المطلقة العامة الدائمة المطلقة ، وأن لا تنافي بين قضيتي زيد قائم وزيد قاعد إلاّ إذا قيّد

ص: 293


1- أجود التقريرات 1 : 117.

أحدهما بالدوام ، فينافي صدق الآخر ولو في أحد الازمنة بالضرورة (1).

لا يخفى أنّ هذا الذي ذكره علماء الميزان إنّما هو حكم التناقض الذي لا بد فيه من كون إحدى القضيتين موجبة والاخرى سالبة ، دون التضاد الذي يكون بين الوجودين المتقابلين. لكن شيخنا قدس سره تكلّف فأرجع التضاد إلى التناقض بجعل إحدى القضيتين التي أثبت فيها أحد الضدين إلى سالبة الضد الآخر ، بأن يقال إنّ قولنا زيد قائم مثلا عبارة عن قولنا زيد ليس بقاعد ، وحينئذ تكون مناقضة لقولنا زيد قاعد ، وهكذا الحال من طرف العكس.

ولا يخفى أنه لو تم هذا الارجاع لكان جاريا من الطرفين ، فيكون الحاصل حينئذ قضيتين موجبتين واخريين سالبتين ، ولا ريب في صحة السالبتين ، أعني قولنا زيد ليس بقائم وقولنا زيد ليس بقاعد ، لجواز كونه نائما. وإنّما الاشكال في القضيتين الموجبتين ، أعني قولنا زيد قائم وقولنا زيد قاعد ، لعدم إمكان اجتماعهما في الصدق ، وهذا أعني اجتماع المحمولين لكونهما ضدين هو بنفسه محال من دون حاجة إلى إرجاع إحدى الموجبتين إلى سالبة الاخرى ، بل لو فرض محالا عدم الارجاع كان اجتماع الموجبتين بنفسه محالا من دون إرجاع الموجبة إلى سالبة الاخرى ، نعم يكون هذا الارجاع مولدا لمحال آخر ، وهو أنّ مثل زيد قائم لا يجتمع مع زيد ليس بقائم لأنه تناقض ، ولا يجتمع مع زيد قاعد لانّه تضاد ، وعلى كل حال أنّ ما ذكروه من كون نقيض المطلقة العامة السالبة هو الدائمة المطلقة ، إنّما هو في التناقض لا في التضاد ، إلاّ بعد إرجاع التضاد إلى التناقض.

ص: 294


1- أجود التقريرات 1 : 117.

ثم إنّ هذا الذي ذكروه من كون الدائمة الموجبة نقيضا للسالبة المطلقة إنّما هو في خصوص الموجّهات ، أما إذا لم تكن القضية موجّهة واقتصرنا على قولنا زيد قائم وقولنا زيد ليس بقائم فهما متناقضان إلاّ بنحو من التصرف بجعل إحداهما في زمان والاخرى في زمان آخر ، أو بجعل إحداهما موجّهة بالامكان مثلا والاخرى بالفعلية.

ثم إنّ هذا التناقض الوجداني أو هذا التضاد الوجداني كاشف عن اعتبار التلبس ، إذ لو كان للأعم لصح الايجاب باعتبار ما مضى والسلب باعتبار الآن.

أمّا ما التزم به شيخنا قدس سره من إرجاع التضاد إلى التناقض ، وأنّه لا بد من اعتبار الفعلية في إحدى القضيتين والدوام في الاخرى الموجب للالتجاء إلى التفرقة بين نظريات المنطقيين ونظريات الاصوليين ، فلعلّه تكلّف لا داعي إليه ، فلاحظ ما أفاده قدس سره وتأمل فيه لعلك تتمكن من جعل كلماته ناظرة إلى هذه الجهات التي ذكرناها.

وأما مسألة الكر فالظاهر أنها غير مبنية على هذا الذي أفاده هنا من التفرقة بين النقيض المنطقي والنقيض العرفي ، بل الظاهر أنّها مبنيّة على أنّ المعلّق على الشرط الذي هو الكرية هل هو كلية السلب ، فلا يكون نقيضه الذي هو رفعه إلاّ مجرد الإيجاب الجزئي ، أو أنّ المعلق على الكرية هو آحاد السلوب ، فيكون هناك سوالب متعددة ، وكل سالبة معلّق فيها السلب على الكرية ، وعند انتفاء الكرية يثبت مكان كل سالبة موجبة ، فينحل المفهوم إلى موجبات كما كان المنطوق منحلا إلى سوالب ، والظاهر بل المتعين هو الثاني ، لأنّ الأول يحتاج إلى لحاظ كلية السلب لحاظا استقلاليا وجعل نفس الكلية معلّقة ، من دون فرق في ذلك بين استفادة العموم من

ص: 295

لفظ كل أو كونه مستفادا من النكرة في سياق النفي ، وهذا لا يتأتي في جميع العمومات فضلا عن العموم المستفاد من الحروف الدالة على السلب الكلي ، وهذا هو الاساس في المسألة ، وقد تعرض له شيخنا قدس سره في مبحث المفاهيم (1) وإن كانت جملة من عباراته هناك ظاهرة فيما ذكره هنا ، وتمام الكلام في محله في باب المفاهيم إن شاء اللّه تعالى.

وأما مثل قولك : إنّ الأمير إذا غضب لم يحترم أحدا ، أو قولك : إنّ زيدا إذا لبس سلاحه لم يخف أحدا ، فليس الأحد في ذلك مأخوذا على إطلاقه ، بل هو الأحد الذي يستحق الاحترام والأحد الذي يخاف منه العقلاء ، ولا ريب أنّ مفهومه حينئذ أنّه إذا لم يغضب احترم كل واحد يستحق الاحترام ، أو أنّه إذا لم يلبس سلاحه يخاف من كل أحد من شأن العقلاء الخوف منه ، هذا.

مضافا إلى إمكان دعوى أنّ أمثال هذه القضايا لا مفهوم لها ، لأنّ ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف على كونها مسوقة لحصر الجزاء بمورد وجود الشرط مثل قوله « إذا زالت الشمس فصلّ » (2) إذ كان بمنزلة قولك : إن وجوب الصلاة إنّما هو إذا زالت ، وهكذا قوله عليه السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء » (3) فكأنّه يقول انّ عدم التنجس في الماء إنّما هو إذا بلغ كرا ، وأما هذه الأمثلة فليست مسوقة لذلك ، لوضوح أنّه ليس المقصود هو أنّ عدم احترام الأمير لكل أحد منحصر بما إذا غضب ، بل هي

ص: 296


1- أجود التقريرات 2 : 255 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 4 : 134 / أبواب المواقيت ب 5 ح 11 وغيره ، مستدرك الوسائل 6 : 23 / أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب 13 ح 1.
3- وسائل الشيعة 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 2 ، 6. ونصّه « إذا كان الماء ... ».

مسوقة لمجرد أنّ غضبه موجب لعدم احترامه لكل أحد ، فهي من هذه الجهة أشبه شيء بالحكم المجعول على اللقب. ومن ذلك كله يظهر لك ما في الحاشية في هذا المقام (1) وفي ذلك المقام (2) فلاحظها وتدبر.

قوله : فظهر من جميع ما ذكرناه أنّ ما بنينا عليه ( سابقا ) من ملازمة القول بالتركيب للوضع للأعم غير صحيح (3).

هذا إشارة إلى ما تقدم من قوله : ويشبه أن يكون النزاع مبتنيا على البساطة والتركّب في مفهوم المشتق ، فان قلنا بالتركب فحيث إنّ مفهوم المشتق اخذ فيه انتساب المبدأ إلى الذات ، ويكفي في الانتساب التلبس في الجملة ، فلا محالة يكون موضوعا للأعم ، إلخ (4).

وقال فيما حررته عنه : بخلافه على التركيب فانه لمّا كان المنظور إليه على هذا القول هو الذات ، وكان تلبسها بالحدث جهة تقييدية لتلك الذات ، لم يكن له دلالة على أزيد من الذات المقيدة بانتساب الحدث إليها وتحققه منها ، وهذا هو القدر الجامع بين حال الانقضاء وحال التلبس ، فيكون دعوى أخذ خصوص حال التلبس فيه محتاجة إثباتها إلى عناية زائدة على ما يقتضيه حاق مفهوم المشتق.

ولا يخفى أن الأليق بالقول بالتركيب هو هذا المفاد أعني الذات المتلبسة بالمبدإ ، لا أنّ مفاده هو المبدأ المقيد بالنسبة ، ولا أن مفهومه هو المركب من المبدأ والذات كما مر ذكره (5) ، فتأمل.

ص: 297


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 118.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 255.
3- أجود التقريرات 1 : 117.
4- أجود التقريرات 1 : 110.
5- راجع صفحة : 286.

تنبيه : قال شيخنا قدس سره فيما حررته عنه في مقام إبطال احتمال كونه موضوعا لخصوص ما انقضى : وهذا أيضا لا يقول به أحد وإن ذكره بعضهم من جهة الاشكال في تصور تحقق حال التلبس بالنسبة إلى الأحداث الآنية من جهة أنّه إن كان بعد تحقق مثل هذا الحدث لا بد أن يكون الحدث منقضيا إذ لا بقاء له ، وان كان قبل تحققه يكون التلبس به استقباليا. وبالجملة أنّ مثل [ هذا ](1) الحدث ليس له وجود غير حال انقضائه وحال ما قبل تلبس الذات به.

وهذا الاشكال نظير الاشكال في معقولية وجود زمان الحال في قبال الماضي والمستقبل من جهة أنّه ليس إلاّ آخر الماضي وأول المستقبل.

والجواب عن هذا الاشكال فيما نحن فيه أن يقال : إنّ لحال التلبس بذلك الحدث تحققا واقعيا وإن لم يكن [ له ](2) دوام وبقاء ، فان اجري المشتق على الذات بلحاظ ذلك الحال كان من قبيل الاستعمال بلحاظ التلبس الفعلي ، وإن اجري على الذات بلحاظ حال انقضاء ذلك الحدث كان من قبيل الاستعمال بلحاظ حال الانقضاء ، وإن اجري عليها بلحاظ حال قبل تحقق ذلك الحدث كان من قبيل الاستعمال بلحاظ حال الاستقبال.

وبالجملة : فمتى كان حال تطبيق المشتق على الذات وجريه عليها مقرونا بحال التلبس ، كان من قبيل الاستعمال بلحاظ حال التلبس ، فان حال التلبس وإن كان آنيا لا بقاء له ولا استمرار إلاّ أنّ حال التطبيق والاجراء لا يحتاج إلى دوام واستمرار بل هو آني أيضا ، فيمكن أن يقصد جعل الحمل والتطبيق والاجراء في حال التلبس وإن كان آنيا ، بل كان من هذا القبيل وإن

ص: 298


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

كان ذلك الاجراء قبل التلبس أو بعده لكنه كان بلحاظ حال التلبس ، انتهى.

تكميل : الذي يظهر من الكفاية (1) في مقام الجواب عن إشكال صاحب الفصول (2) على صحة السلب - بأنّه إن اريد صحته مطلقا فغير سديد وإن اريد مقيدا فغير مفيد - هو التزام صاحب الكفاية قدس سره بعدم التقييد (3) وأنّه لا بد منه ، لكن لا بجعل القيد في طرف المسلوب فانّه غير مفيد كما أفاده المستشكل ، لكن بجعل القيد أعني حال الانقضاء قيدا للسلب أو قيدا للذات المسلوب عنها المشتق.

قلت : ولكنّه لا يخلو عن تأمل ، فانّه مع تقييد السلب أو الذات المسلوب عنها بأن يقال هذا ليس الآن بضارب أو هذا في هذا الحال أعني حال عدم التلبس وانقضائه ليس بضارب ، يكون السؤال باقيا بحاله ، لأنّه إن اريد من نفيه في هذا الحال أو نفيه عن الذات المقيدة بهذا الحال نفي الضارب المطلق فغير سديد ، أو نفي الضارب في هذا الحال فغير مفيد. مضافا إلى أنّه لو كان مفيدا كما أفاده في الكفاية لكان حجره الاساسي هو وضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال ، ومع فرض كونه كذلك لا تبقى حاجة في صحة السلب إلى تقييد السلب أو الذات المسلوب عنها ، بل يكون سلب المطلق صحيحا أيضا بمعنى أنّ المسلوب هو الضارب بما له من المعنى الواقعي غير مقيد بضارب الأمس ولا بضارب اليوم ، فلا يتم قول صاحب الفصول إن اريد سلبه مطلقا فغير سديد.

ثم إنّ ما أفاده من أخذ القيد في الذات لا يخلو من تأمّلات اخرى ؛

ص: 299


1- كفاية الاصول : 47.
2- الفصول الغروية : 61.
3- [ هكذا في الأصل ، والصحيح حذف لفظة العدم ].

لأنّ الذات الشخصية غير قابلة للتقييد الموجب لتضييق الدائرة ، بل أقصى ما في البين هو تقييدها بلحاظ ورود الحكم عليها الذي هو السلب ، ففي الحقيقة يكون القيد راجعا إلى السلب ، فانّ ذلك من سنخ تقييد الذات الخاصة التي هي جزئي حقيقي تقييدا أحواليا أو تقييدا أزمانيا ، بمعنى أنّ ورود الحكم عليها يكون في خصوص اتصافها بذلك الحال أو في خصوص وجودها في ذلك [ الزمان ](1) وحينئذ فلا يكون المقيد الدائرة هو ذلك الجزئي الحقيقي ، بل يكون المضيق الدائرة هو الحكم المنحصر وروده على تلك الذات في تلك الحال أو في ذلك الزمان.

نعم ، لو رجع التقييد إلى تحصيص الذات حصتين لتكونا بمنزلة الذاتين ، فذات متلبسة وذات انقضى عنها التّلبس ، اشكل الأمر من ناحية اخرى ، وهي أنّ تلك الحصة الخاصة التي حصّصها القيد لا يكون لها ربط بالحصة الفاقدة لذلك القيد أعني تلك الذات من زيد التي كانت مقارنة لوجود الحدث ، أما هذه الذات المقارنة لانقضائه فتلك كأنّها ذات جديدة لم تتلبس بعد بالمبدإ ، أما ما كان متلبسا به فتلك ذات اخرى باعتبار التحصيص المذكور ولا اتصال بين الحصتين أصلا.

قوله : واستدل القائل بالأعم بوجوه : الأول : كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء - إلى قوله : - وفيه أنّ الاستعمال في موارد الانقضاء وإن كان كثيرا إلاّ أنّه لم يعلم أنّ الاستعمال بلحاظ حال الانقضاء ... إلخ (2).

هذا المطلب وهو كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء قد وقع

ص: 300


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 1 : 119.

في الكفاية (1) في ذيل الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس ، فانه استدل عليه بالتضاد بين قولك : زيد قائم وقولك : زيد قاعد.

واجيب بأنّه مبنائي ، لأنّه لو قلنا بأنّه لخصوص المتلبس لكان التضاد متحقّقا بخلاف ما لو قلنا بأنّه للاعم.

وردّه بأنّ التناقض وجداني ارتكازي لا مبنائي ، فيكون كاشفا كشفا إنيا عن الوضع لخصوص المتلبس.

ثم نقل الاعتراض على هذا الرد بأنّ هذا الارتكاز لعلّه ناش عن الاطلاق ، فانّ المنسبق بحسب الاطلاق هو خصوص المتلبس.

ثم أجاب عن هذا الاعتراض بأنّه لا يمكن أنّ علّة التضاد هو الانسباق الاطلاقي لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء.

إلى هنا توجّه الاشكال بأنّه لا يصح أن نلتزم بهذه الكثرة لأنّه يوجب كثرة المجاز على الحقيقة وهو مناف لحكمة الوضع ، وحينئذ أوّل هذه الكثرة إلى حال التلبس ، وحيث إنّ هذا التأويل بلا دليل يكشف أنّ المستعملين لاحظوا هذا التأويل انقلب الاستدلال إلى الجدل ، بمعنى أنّ القائلين بالأعم لا داعي لهم إلى هذا التأويل ، فعلى مذهبهم ينبغي لهم الالتزام بهذه الكثرة من دون إرجاع إلى حال التلبس ، وحينئذ يقال لهم إنّه على مذهبكم لا بد من توجيه هذا التضاد الارتكازي ، ولا يصح لكم أن تقولوا بأنّ علّته الانسباق الاطلاقي ، لفرض كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء. نعم إنّ القائلين بالوضع لخصوص المتلبس يلزمهم تأويل الكثرة المذكورة ، وهي وإن أضرت بالاستدلال على مذهبهم بالتضاد الارتكازي فلا

ص: 301


1- كفاية الاصول : 46.

يصح لهم أن يستدلوا بالتضاد المذكور ، لاحتمال كون منشئه هو كثرة الاستعمال في موارد التلبس بعد فرض أنّهم أرجعوا الكثرة في موارد الانقضاء إلى حال التلبس ، هذا.

ولكن شيخنا قدس سره بدّل وضعية الاستدلال وجعل كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء من أدلة القول بالأعم ، فجعل المهاجمة بكثرة الاستعمال من جانب القائلين بالأعم على القائلين بالوضع لخصوص [ المتلبس ](1) وحينئذ حيث صار القائلون بالوضع لخصوص المتلبس في مقام الدفاع عن هذا الاستدلال ، فلهم أن يجيبوا عنه باحتمال كون المراد من تلك الكثرة هو خصوص المتلبس بالتأويل المذكور ، وهم في هذا الحال لا يحتاجون إلى إثبات هذا التأويل ، بل يكفيهم مجرد الاحتمال المذكور في ردّ هذا الاستدلال ، فهم يسلّمون الكثرة ، لكن دفعا للزوم كثرة المجاز يقولون إنّ من المحتمل أنّه ليس بمجاز وأنّه راجع إلى الحقيقة ، وحينئذ يتوجه عليهم النقض الذي أشار إليه شيخنا قدس سره بقوله : وتوهم أنّ الاستعمال لو كان بلحاظ حال التلبس حتى يكون حقيقة ، فلا يكون فرق في هذا اللحاظ بين المشتقات والجوامد ، إلخ (2).

وحاصله : أنّه بناء على ما ذكرتموه من تسليم الكثرة ودعوى التأويل ، فينبغي أن تتحقق تلك الكثرة في الجوامد مع الالتزام بالتأويل المذكور.

وأجاب عن هذا التوهم بما تقدم منه في الفرق بين الجوامد والمشتقات (3) بما حاصله : أنّه في الجوامد يكون الملحوظ هو الصورة

ص: 302


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 1 : 119.
3- أجود التقريرات 1 : 113.

النوعية لا المادة ، ومن الواضح أنّه بعد تبدل الصورة النوعية لا يبقى شيء يصح استعمال اللفظ [ فيه ](1) ولو بلحاظ ما مضى بناء على التأويل المذكور ، وهذا بخلاف المشتقات فانّ الذات باقية فيصح الاستعمال فيها بلحاظ التلبس المنقضي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الملحوظ في المشتق بناء على مسلكه قدس سره هو المبدأ وقد انعدم ، والذات أجنبية عنه ، فلا بد حينئذ من الالتزام بأنّ المنظور إليه في المشتق هو الذات ، ويكون المشتق عنوانا منتزعا منها باعتبار تلبسها بالمبدإ ، وحينئذ لو قلنا بأنّ المشتق موضوع لخصوص المتلبس ، بمعنى أنا نعتبر المقارنة بين جريه على الذات وبين وجود التلبس ، أمكننا أن نؤوّل تلك الكثرة إلى حال التلبس ، فيكون الاستعمال الآن ويكون حال التطبيق وحال التلبس فيما مضى على ما مرّ شرحه في تحرير محل النزاع ودفع توهم كون التطبيق راجعا إلى صحة الحمل وعدمه.

وحاصله : هو أنّ أصل النزاع إنّما هو في سعة المفهوم وضيقه ، ويتفرع عليه صحة الحمل على من انقضى عنه المبدأ وعدم صحته إلاّ بالعناية والتنزيل في الحمل الصريح أو الحمل الضمني ، وبناء على ضيق المفهوم أعني كون الموضوع له هو خصوص المتلبس يكون جريه وحمله ضمنا على من انقضى عنه المبدأ بالعناية والتنزيل ، لكنّا يمكننا إخراجه عن ذلك بأن نقول : إنّ ذلك الجري الضمني على تلك الذات المفروض انقضاء المبدأ عنها في حال الاستعمال يكون المنظور فيه هو حالة التلبس فيما مضى ، فلا يحتاج ذلك الحمل إلى تلك العناية وذلك التنزيل ، بل يكون

ص: 303


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

ذلك الحمل الضمني مقارنا لحال التلبس ، فلا يحتاج إلى العناية المذكورة ، فراجع ما حررناه في حاشية 47 (1) وتأمل.

ثم لا يخفى أنّ هذا الاحتمال أعني احتمال إرجاع موارد الانقضاء إلى حال التلبس وإن كان نافعا في رد استدلال القول بالأعم بكثرة الاستعمال فيما مضى ، باحتمال كون المراد في تلك الاستعمالات هو الجري في حال التلبس ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يفسد علينا الاستدلال ، لكونه موضوعا لخصوص حال التلبس بالتبادر وبالتضاد الارتكازي ، إذ للقائل بالأعم أن يردّ علينا ولو جدلا بأنّ الكثرة في موارد الانقضاء مسلّمة وأنتم ترجعونها إلى موارد التلبس ، وحينئذ لا يحصل لكم الجزم بأنّ العلّة في ذلك التبادر وذلك التضاد الارتكازي هو الوضع ، إذ لعل العلّة في ذلك هو كثرة الاستعمال بلحاظ حال التلبس ، وحينئذ لا مندوحة لنا في الجواب عن هذا الجدل إلاّ دعوى عدم كون المستند في ذلك التبادر وذلك التضاد إلاّ اللفظ نفسه دون ما هو خارج عنه من كثرة الاستعمال ، وهذه الدعوى لازمة لكل من يدعي التبادر ونحوه ، فانه لا بد له من دعوى كون المستند فيه هو اللفظ نفسه دون غيره من القرائن الخاصة أو العامة ومنها كثرة الاستعمال.

أما الانصراف الاطلاقي الذي ذكره في الكفاية بقوله : إن قلت : لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط (2) فلم يعلم المراد منه. نعم ، يمكن أن يقال إنّ اللفظ وإن كان للأعم إلاّ أنّ المنصرف منه عند الاطلاق هو خصوص حال التلبس ، بدعوى أنّ الانقضاء يحتاج إلى مئونة

ص: 304


1- حسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، راجع الصفحة : 243 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- كفاية الاصول : 46.

زائدة ، ولكن هذه الكلمات إنّما تقال فيما لم يمكن فيه إرادة الجامع ودار الأمر فيه بين كون المراد مثلا هو خصوص حال التلبس أو خصوص الانقضاء ، ومن الواضح أنّ إرادة الجامع فيما نحن فيه بناء على الأعم بمكان من الامكان ، وعلى كلّ حال أنّ ذلك لا ربط له بكثرة الاستعمال فكيف ربطه به بقوله : قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر ... إلى آخره. فانّ هذه الجملة إنّما تقال لو كان المراد من الاعتراض هو دعوى كون التضاد الارتكازي ناشئا عن كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس في الحال.

قوله : إنّ كون الاستعمال في الآية المباركة في حال الانقضاء ممنوع فضلا عن كونه بلحاظ الانقضاء ، بل هي من قبيل القضايا الحقيقية التي فعلية الحكم فيها بفعلية موضوعه ، فتدور فعلية الحكم مدار فعلية السرقة ... إلخ (1).

لا ريب في أنّ هذا النحو من القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها مجعولا على كل ما وجد وكان ينطبق عليه عنوان المشتق ، فمن يقول بالأعم يقول إنّ المشتق منطبق على الذات حتى بعد انقضاء المبدأ عنها ، ولازم ذلك بقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ عن الذات ، لأنّ مداره هو الانطباق على الذات ، وذلك أعني الانطباق متحقق حتى بعد انقضاء المبدأ ، وحينئذ تكون النتيجة هي بقاء الحكم إلاّ أن يقوم دليل على ارتفاعه بعد انقضاء المبدأ.

أما من يقول باعتبار التلبس فعلا في انطباق المشتق على الذات فهو

ص: 305


1- أجود التقريرات 1 : 120 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

في ذلك على العكس ، بمعنى أنّه يلزمه الالتزام بارتفاع الحكم عن الذات عند انقضاء المبدأ عنها ، ولا يمكنه الالتزام ببقاء الحكم بعد الانقضاء إلاّ بدليل يدل على ذلك ، من دون فرق في ذلك بين كون الحكم آنيا مثل قطع يد السارق ، وبين كونه استمراريا مثل حرمة بنت الزوجة أو امها ، أو كونه تكراريا مثل تصديق العادل في كل ما يخبرك به ، فلو قال : أطعم ضيفك فبناء على الأعم يلزمنا القول باطعامه حتى بعد انسلاخه عن الضيفية بأن خرج من داري وذهب إلى أهله أو نزل في منزل شخص آخر ، ولا بعد عن وجوب إطعامه إلاّ بدليل ، أما بناء على الاختصاص فمقتضى القاعدة ارتفاع الوجوب عند ارتفاع الضيفية حتى لو أنّ صاحب المنزل قد قصّر ولم يطعمه حينما كان في منزله ، لأنّ الحكم ينعدم بانعدام موضوعه سواء حصل امتثاله عند ما كان موضوعه متحقّقا أو أنه لم يحصل امتثاله.

نعم لو كان المبدأ مما ليس له حالة استقرار بل كان آنيا مثل السرقة والزنا والقتل في مثل اقتل القاتل ، فعلى الأعم لا إشكال في بقاء الحكم الذي هو وجوب قطع اليد أو الجلد أو الاقتصاص ، لأنّه بعد انقضاء السرقة يصدق عليه أنّه سارق ، وهذا بخلافه على الاختصاص ، إلاّ أن القائل بالاختصاص لا بد له من الالتزام ببقاء الحكم في هذا النحو من المشتقات وإلاّ كان جعله لغوا لعدم إمكان إجرائه في حال ارتكابه الجريمة قبل فراغه منها ، بل يمكن القائل بالاختصاص دعوى كون المستفاد من مثل اقطع يد السارق هو أنّ موضوع الحكم هو من ارتكب السرقة وانقضت عنه.

ومن ذلك يتضح لك الاشكال فيما أفاده ، فانّ عدم الامتثال بعد فرض انعدام الموضوع لا أثر له في بقاء الحكم ، بل تكون المسألة من قبيل سقوط الحكم بسقوط موضوعه مع فرض العصيان في ظرف وجود

ص: 306

الموضوع ، فالعمدة في ذلك هو ما عرفت من أنّ هذا النحو من المشتقات مما لا يكون لمبادئها حالة استقرار لا بدّ أن يكون الموضوع هو ما بعد انتهائها.

كما أنّه يتضح منه ما أفاده قدس سره في التنبيه الأوّل ، وتوضيح ذلك : أنّ كون المشتق موضوعا ومركبا للحكم مطلب ، وكون مبدأ الاشتقاق علة في حدوث الحكم مطلب آخر ، لا ربط لأحدهما بالآخر ، والأوّل أعني كون المشتق موضوعا ومركبا للحكم من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ مثل جواز الاقتداء يكون مركبه هو عنوان العادل ، وعنوان العادل منطبق على الذات ، لكن جواز الاقتداء لا يكون منطبقا على الذات كي تكون الذات مركبا له ، بل إنّ الذات مركب للعدالة والعدالة مركب لجواز الاقتداء ، وهذا بخلاف ما لو أخذنا المبدأ علّة في الحكم ، فانّه يكون حينئذ أجنبيا عن مركبية الحكم ، والحكم يكون راكبا على الذات ، ولا يكون توسطه إلا من قبيل الواسطة في الثبوت كما يقال إنّ التغيّر علّة في عروض النجاسة على نفس الماء ، وهذا الفرق أعني الفرق بين ما يكون مركبا للحكم وما يكون علة له واضح مقرر في مواضع متعددة ، منها باب الاستصحاب عند حدوث تبدل في ناحية الموضوع ، فراجع.

والغرض أنّ لنا في المقام حكمين لا إشكال في كل واحد منهما لأحد من القائلين بعموم المشتق والقائلين باختصاصه ، وهو أنّ مثل الحكم على عابد الصنم بأنّه لا ينال الخلافة ، والحكم على القاتل بلزوم الاقتصاص منه ، يبقى الحكم المذكور وإن انقضت عبادة الصنم أو انقضى القتل ، كما أنّ مثل الحكم بجواز الاقتداء والتصديق يزول عن العادل بعد زوال عدالته. والحكم الثاني يشكل به على القائلين بالأعم ، كما أنّ الحكم الأول يشكل به

ص: 307

على القائلين بالاختصاص ، ولا بد لكل واحد منهما من الالتزام بأنّ مورد الاشكال ليس هو من قبيل ما يكون عنوان المشتق مركبا فيه للحكم بل هو من قبيل علّة الحكم ، فالقائل بالأعم يدعي أنّ العدالة علّة في جواز الاقتداء والتصديق ، وهي علّة ماداميّة ، فلا يثبت الحكم بعد ارتفاعها ، وإن صح لنا أن نطبّق على ذلك الشخص عنوان العادل لعدم كون العادل موضوعا ومركبا للحكم ، والقائل بالاختصاص يدعي أنّ عبادة الصنم علّة في المنع من الخلافة ، وهي من قبيل العلّة في الحدوث والبقاء لا علّة ما دامية ، وحينئذ يكون معلولها وهو المنع من الخلافة باقيا وإن لم ينطبق على الشخص أنه عابد للصنم ، لعدم كون عنوان العابد له موضوعا ومركبا للحكم المذكور ، بل إن حدوث نفس العبادة يكون علّة في ورود هذا الحكم على تلك الذات وبقائه بعد انقضائها ، نظير علّية الزوجية والدخول في حرمة بنت الزوجة وإن زالت الزوجية كما لو طلقها وتزوجت من آخر وأولدها بنتا. نعم ، إنّ هذه الخصوصيات من استفادة العلية لا الموضوعية ، وكونها على نحو المادامية أو على النحو المقابل لها يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، إلاّ أنّ الغرض هو أن من يلتزم به لا يلتزم بكون المشتق موضوعا للحكم ، لما عرفت من التغاير بين الموضوع والعلة فلاحظ ، هذا.

ولكن هناك طريقة اخرى غير طريقة كون المبدأ علّة في الحكم يمكن أن يسلكها القائل بالاعم في مثل صلّ خلف العادل ، وهي أنّ العادل وإن كان بحسب الوضع شاملا لمن انقضى عنه المبدأ ولمن تلبس به فعلا ، إلاّ أنّه قامت قرينة خارجية على أنّ المراد به في مثل هذه الأحكام هو خصوص المتلبس بالمبدإ ، ولو كانت تلك القرينة هي مناسبة الحكم والموضوع ، ونحو ذلك مما يدل على أنّ المراد به هنا هو خصوص

ص: 308

المتلبس.

كما أنّ للقائل بالاختصاص طريقة يمكنه سلوكها في مثل عابد الصنم لا يلي الخلافة ، وهي أنّ المشتق وإن كان بحسب وضعه مختصا بخصوص المتلبس ، إلاّ أنّه في مثل هذه الأحكام قامت القرينة على أنّ المراد به الأعم وهي في غاية البعد ، أو يلتزم بأنّ موضوع الحكم هو من انطبق عليه أنه عابد للصنم ولو كان الانطباق فيما مضى بحيث يكون الحكم الآن والانطباق فيما مضى ، وهو أيضا خلاف ظاهر الاستدلال بظهور الآية الشريفة ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بأنّ هذا الحكم جرى في حقه عند ما كان عابدا للصنم ، وهذا الحكم له خصوصية توجب بقاءه ولو بعد انقضاء المبدأ وامتناع الانطباق بعد ذلك ، وتلك الخصوصية هو كونه أبديا كما يستفاد من النفي في قوله تعالى ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) فانّ مفاده أنّه لا يناله إلى الأبد ، فهذا الحكم وهو عدم نيل الخلافة إلى الأبد موضوعه هو المتلبس ، وقد تحقق هذا الموضوع وانطبق على ذلك الشخص ، فلحقه الحكم عند ما كان عابدا للصنم ، ففي ذلك الظرف صار محكوما عليه بأنّه لا ينال الخلافة إلى آخر الدهر أو آخر حياته ، وهذا الحكم لا يزول عن مقتضاه إلاّ بالنسخ ونحوه ، بل لا يزيله إلاّ النسخ دون حديث الجب ونحوه ، لأنّ محصل ذلك الحكم الأبدي هو أنه لا يرفعه رافع ، بل يمكن القول بانّه غير قابل حتى للنسخ ، ولعل هذا هو المراد لشيخنا قدس سره وهذه الطريقة غير محتاجة إلى التشبث بأذيال كون المقام من قبيل العلة المحدثة مبقية ، لما عرفت من أنّها تشبث بكون الحكم أبديا ، فلاحظ وتأمل.

ص: 309


1- البقرة 2 : 124.

ولا يخفى أنه لا حاجة إلى التشبث بذيل كون الحكم أبديا كي يقال من أين أحرزتم الأبدية ، بل يكفينا كون مفاده هو نفي نيل العهد في الاستقبال ، فان نيل العهد مثل دخول الجنة أو شمّ رائحتها في قولهم العاق لا يدخل الجنة أو لا يشمّ ريحها ، فاذا كان عابد الصنم مركبا لهذا النفي في الاستقبال ، وكان الشخص مركبا لعابد الصنم في وقت عبادته ، فقد ركب عليه في ذلك الوقت هذا الأمر الاستقبالي وهو أنه لا ينال العهد.

قوله : الأمر الثاني : أنّ العنوان المذكور في محل النزاع وان كان يعمّ جميع المشتقات إلا أنّه لا بد من تخصيصه بغير اسم المفعول واسم الآلة ... إلخ (1).

الظاهر أنّه لا فرق بين المشتقات ، وأنّ هذا الفرق الذي أبداه قدس سره إنّما هو لأجل أنّه قد أخذ في المبدأ جهة زائدة على أصل المعنى ، وتلك الخصوصية هي لحاظ الانقضاء والمضي في نفس المبدأ ، وحينئذ لا يتصور الانقضاء في اسم الفاعل كما لا يتصور في اسم المفعول ، ويدلك على ذلك أنّه لا يقال هذه المسألة معلومة لزيد فيما إذا علمها ثم جهلها ، وكذلك الحال في مثل قولك هذا الاناء مملوء ماء فيما إذا امتلأ ثم فرغ ، وكذلك الحال في اسم الآلة أعني المفتاح مثلا فانه قد أخذ في مبدئه التهيؤ للفتح وهو بهذا المعنى لا يكون قابلا للانقضاء في اسم الفاعل أعني الفاتح كما هو غير قابل له في اسم الآلة أعني المفتاح ، ويدلك على ذلك أنّ هذا العنوان أعني المفتاح أو الفاتح يصدق على هذه الآلة بمجرد الفراغ من صنعتها وإن لم يتحقق الفتح الفعلي فيها. ومثل ذلك يأتي في اسم المكان

ص: 310


1- أجود التقريرات 1 : 123 - 124.

مثل المصلى والمربض والمربط والمعلف ونحو ذلك مما يراد بالمبدإ فيه التهيّؤ. نعم لم أجد في اسم الآلة ما هو مجرد عن أخذ المبدأ فيه بمعنى التهيؤ ، وإن وجد في اسم المكان ما هو مجرد عن معنى التهيّؤ مثل المقتل والمضرب.

ثم لا يخفى أنّه بعد أخذ الانقضاء في مفهوم المبدأ يكون اسم المفعول قابلا لأن يكون في مورد النفي كما يكون في مورد الاثبات ، وذلك لا دخل له في واقعية الانقضاء والوقوع ، كما أنّه يصح استعماله فيما لو كان التطبيق في الاستقبال كما في قولك زيد يكون مضروبا غدا.

ومنه يظهر لك التأمل فيما تضمنته الحاشية صفحة 83 (1).

والخلاصة : هي أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام لعلّه من قبيل إدخال معنى الحرف في المادة ، فإنّ قولك ضرب زيد عمرا تتضمن الهيئة فيه نسبة الضرب إلى زيد على جهة الوقوع منه وإلى عمرو على جهة الوقوع له ، وهذه الجهة للنسبة التي [ هي ](2) معنى حرفي أدخلها في المادة فجعل المنسوب إلى عمرو هو وقوع الضرب عليه ، ومن الواضح أن الوقوع يبقى وإن انقضى الضرب ، فلا يتصور الانقضاء في لفظ المضروب.

وفيه تأمل ، أما أوّلا : فلأنّ لازم ذلك أن يكون اسم الفاعل كذلك ، فيكون معنى ضارب من وقع منه الضرب وهو باق لا ينعدم.

وثانيا : ما عرفت من أنّه إدخال جهة النسبة في المادة المنسوبة ، وهو الذي عبّرنا عنه بادخال المعنى الحرفي في المادة.

ص: 311


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 124 من الطبعة الحديثة / حاشية رقم 1.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

وثالثا : أنّه لو تمّ ذلك لكان الاشكال بأنّ الحدث لا دوام له لأنّ الوقوع آني لا بقاء له ، لا أنّه لا انقضاء له.

ورابعا : أن ذلك كله في الوقوع بمعنى الصدور ، فنقول : وقع الحدث بمعنى صدر وخرج من العدم إلى الوجود ، وذلك عبارة اخرى عن وجود الحدث ، وهذا الوقوع الذي أفاده قدس سره ليس هو بذلك المعنى بل هو بمعنى السقوط ، بمعنى أنّ عمرا في قولك ضرب زيد عمرا قد سقط عليه الضرب ووقع عليه ، فهو مما يقبل الانقضاء ، لا أنه بمعنى الخروج من العدم إلى الوجود كي لا يكون قابلا لذلك ، فتأمل.

قوله : وينبغي التنبيه على امور : الأول أن المراد من الحال ... إلخ (1).

هذا التنبيه معقود لتوضيح الرد على استدلال القائلين بالأعم بلزوم كثرة المجاز لو كان الموضوع له هو خصوص المتلبس.

ولا يخفى أن قوله قدس سره : وعلى كل تقدير فلا محالة لا ينفك الحكم عن وجوده ، فلا بد وأن يكون مستعملا في خصوص المتلبس وإلا فيلزم ما ذكرناه سابقا من تخلف الحكم عن موضوعه وهو محال (2).

لا يخلو عن تأمل ؛ فانّ ذلك إنما هو فيما لو كان الحكم متحققا قبل التلبس ، دون ما لو كان تحقق الحكم بعد التلبس والانقضاء كما في الأحكام المشروطة بشرط وقد تحقق التلبس وانقضى قبل حصول الشرط.

والخلاصة : هي أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام لعله قدس سره ناظر فيه إلى كون الأحكام الشرعية أزلية ، وإلاّ فعند تشريع الحكم على عنوان

ص: 312


1- أجود التقريرات 1 : 122.
2- أجود التقريرات 1 : 123.

المشتق لو كان بعض الموجودين قد وقع منه الحدث فيما سبق وانعدم فيه الآن ، يتصور فيه شمول الحكم له بناء على العموم ، وعدم شموله له بناء على الخصوص لخصوص المتلبس الفعلي ، وهكذا الحال فيما لو كان الحكم مشروطا بشرط وكان البعض واجدا للمبدا قبل حصول الشرط وانتفى منه مثل قولك : إذا دخلت الصحن فأكرم كل معمم تجده فيه ، فهل يشمل من كان معمما قبل دخولك ولكنه عند دخولك قد نزع العمامة وهكذا ، بل وكذلك في الأحكام الاستمرارية في من وجد له الحدث ولحقه الحكم ولكنّه بعد ذلك انتفى عنه الحدث ، إلى غير ذلك من المواقع التي يكون المشتق فيها موضوعا ويكون الحدث قد انتفى عن ذلك الموضوع ، وقد تقدم (1) مثال الرضاع ، فكيف أفاد شيخنا أن ما اخذ موضوعا لا يتصور فيه الانقضاء ، ببرهان أنّ الحكم لا يتأخر عن موضوعه ، فلاحظ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما اخذ معرّفا ومشيرا إلى ما هو الموضوع الواقعي يكون صالحا للانطباق على من انقضى عنه التلبس ، فلو فرضنا [ أنّا ](2) أخذنا عنوان المعمم معرّفا ومشيرا إلى من هو موضوع وهم زيد وعمرو وبكر إلخ ، إلاّ أنّ تلك الأفراد تختلف قلّة وكثرة باعتبار ذلك العنوان الذي اخذ معرّفا لها أعني المعمم ، فان كان هو مطلق المعمم ولو انقضى عنه المبدأ كان المشار إليه بذلك العنوان أوسع منه فيما لو أخذناه لخصوص المتلبس ، فإنّ خالدا الذي خلع العمامة مثلا يكون على الأول من جملة المشار إليهم ، بخلافه ما لو أخذناه على الثاني فإنّه حينئذ لا يكون من جملة المشار إليهم فيكون داخلا في محل النزاع وذلك واضح ، هذا.

ص: 313


1- في صفحة : 220 وما بعدها.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

والذي يظهر مما حررته عنه قدس سره هو دخول العنوان المعرّف في محل النزاع ، كما أنّا لم نضبط البرهان العقلي الذي أفاده في وجه عدم إمكان إرادة من انقضى عنه المبدأ فيما اخذ موضوعا ، فراجع ما حررته عنه قدس سره (1) في التنبيه وتأمل فيه ، كما ينبغي مراجعة ما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي خصوصا ما حرره في صفحة 65 (2).

قوله : وأما بحسب اللحاظ فقد تؤخذ لا بشرط ويصح حمل بعضها على بعض واخرى بشرط لا ... إلخ (3).

لا يخفى أن أخذ المبدأ لا بشرط أو بشرط [ لا ](4) إنّما هو بالقياس إلى الذات أو النسبة والحمل عليها ، وليس هو بالقياس إلى صفة اخرى ومبدأ آخر.

ومنه يظهر لك التأمل فيما شرحه في المثال ، فإنه إنّما يفيد في اتحاد إحدى الصفتين أعني العلم والقدرة بالاخرى ، وهو لا ينتج الاتحاد بين الصفة والذات ، وعلى كل حال أنّ كلامنا في المفاهيم اللفظية وهي لا دخل لها باتحاد واقع تلك الصفات فيه تعالى مع الذات ، وسواء قلنا بالاتحاد أو قلنا بزيادتها على الذات ، فذلك مبحث آخر لا دخل [ له ](5) بعالم مفاهيم الألفاظ.

قوله : والذي يمكن أن يقال إنّه لو بنينا على تركّب المشتق ، فحيث إنّه مشتمل على النسبة الناقصة التقييدية - إلى قوله : - وأمّا إذا

ص: 314


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- حسب الطبعة القديمة ، راجع فوائد الاصول 1 - 2 : 125 - 127 من الطبعة الحديثة.
3- أجود التقريرات 1 : 125.
4- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
5- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

قلنا ببساطته فحيث إنّه عار من النسبة فيكون حاله حال المبدأ بل هو هو ... إلخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه : وإن قلنا إنّ المشتق بسيط لم يكن التجوز في النسبة التي دلت عليها الهيئة في الفعل موجبا للتجوز في المشتق ، لأنه بناء على هذا القول لا يكون إلاّ مفهوما بسيطا منطبقا على الذات باعتبار أخذ المبدأ فيها عرضيا محمولا. نعم انطباق ذلك المفهوم البسيط وحمله على غير ما هو له كما إذا قلت النهر جار ، انطباق وحمل على غير من هو له ، فيكون هذا الحمل والانطباق مجازا عقليا ، وأين هذا من التجوز في نفس مفهوم المشتق.

وبالجملة : كون النسبة في الفعل من قبيل المجاز العقلي لكونها نسبة إلى غير ما هو له ، لا يكون مستلزما لكون استعمال مفهوم المشتق من هذا القبيل أعني المجاز العقلي ، وإن استلزم كون حمل ذلك المشتق على من لم يكن له من قبيل المجاز العقلي لكونه حملا له على غير من هو له ، فلا ربط لأحد التجوزين بالآخر ، فالمجازية المذكورة لا تسري من الفعل إلى مفهوم المشتق بناء على كونه بسيطا بل يمكن أن يقال إنّ هذا التجوز لا يسري إلى مفهوم المشتق ولو قلنا بكونه مركبا ، بأن يكون المراد من كونه مركبا هو التركيب الانحلالي من جهة انحلال مفهومه عقلا إلى ذات ثبت لها المبدأ وإن كان بحسب الصورة بسيطا ، نعم لو قلنا بالتركيب بمعنى دلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة كان التجوز في الفعل مستلزما للتجوز بالنسبة في هيئة المشتق.

ص: 315


1- أجود التقريرات 1 : 127 [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

قلت : قد يتوهم تحقق الملازمة بين التجوزين حتى لو قلنا بالبساطة التي هي مختاره قدس سره بتخيّل أنّه لا ريب في دلالة هيئة المشتق على أخذ العرض عرضيا ، ولا ريب أنّ مثل الجريان إنّما يكون عرضيا بالنسبة إلى ما هو له ، وأمّا بالنسبة إلى غير ما هو له فلا يكون عرضيا له إلاّ بنحو من ذلك التجوز العقلي.

ولكن لا يخفى أنّ مفاد هيئة المشتق إنما هو كون العرض عرضيا ، ولا ريب أن هذا المعنى متحقق في مثل النهر جار ، وإنما وقع التجوز في مفاد الجار والمجرور من قولنا عرضيا له ، ولا ربط لهذا المفاد بمفاد هيئة المشتق ، وإنما يرجع مفاد هذا الجار والمجرور إلى حمل ذلك المشتق على الذات ، فان حمل على غير ما هو له كان الحمل مجازيا ، وإلاّ كان الحمل حقيقيا بلا دخل لذلك في مفاد هيئة المشتق.

وإن شئت قلت : إنّ في حمل المشتق على الذات نظرين ، الأوّل : إلى أنّه متلبس فعلا بالمبدإ أو أنّه قد انقضى عنه المبدأ ، وهذا النظر تابع لما وضعت له هيئة المشتق ، فان قلنا إن الهيئة موضوعة لخصوص المتلبس الفعلي ، كان حمله على من انقضى عنه المبدأ مجازا.

النظر الثاني : هو النظر إلى نسبة الحدث إلى الذات ، فإن كانت النسبة حقيقية كان الحمل حقيقيا وإلاّ كان الحمل مجازيا ، وربما اجتمع التجوزان كما لو انقضى الجريان عن الماء وقيل النهر جار ، فإنّ هناك تجوزين : التجوز في النسبة الحملية والتجوز في مفاد الهيئة ، وربما ينفرد الأول عن الثاني كما في قولك الماء جار بعد انقضاء الجريان عنه ، وربما انفرد الثاني عن الاول كما في قولك النهر جار في حال جريان الماء فيه.

ص: 316

[ مبحث الأوامر ]

قوله : فيما يتعلق بمادة الأمر ، وقد ذكر لها بحسب اللغة معان متعددة ، منها الشيء والطلب والحادثة والغرض ... إلخ (1).

وزاد في الكفاية الفعل والفعل العجيب والشأن (2) ، ولكنّه قدس سره أسقط أربعة بدعوى كونها من اشتباه المفهوم بالمصداق ، وهي الحادثة والفعل العجيب والغرض والشأن ، ثم قال : ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة ، وفي بعض النسخ إلحاق الشيء بالطلب.

ولم يتعرض لما هو المستعمل فيه في الأربعة المذكورة التي أنكرها. ولا يبعد أن يكون نظره أنّ المستعمل فيه فيها هو الشيء ، كما ربما يستفاد ذلك من تسليمه أنّه حقيقة فيه وفي الطلب في الجملة بقوله : ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، انتهى على ما في بعض النسخ.

كما أنّه لم يتعرض لرد دعوى استعمالها في الفعل مثل قوله تعالى : ( وما أمر فرعون برشيد ) (3) ولعل نظره أنه مثل استعمالها في الفعل العجيب في كونه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق بناء على أنّ المستعمل فيه في الآية الشريفة هو الشيء أيضا ، لكنّه ينطبق عليه مفهوم الفعل أيضا

ص: 317


1- أجود التقريرات 1 : 131.
2- كفاية الاصول : 61.
3- هود 11 : 97.

فيكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، وتخيّل أنّها مستعملة في ذلك المفهوم المنطبق على المستعمل فيه أعني الشيء.

ومع هذا كلّه فقد قال بعد ذلك كلّه ما لفظه : وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ... إلخ ، مع أنّه بعد تقديم ما قدّمه بأنّ جميع تلك الموارد من باب الخلط بين المصداق والمفهوم وأنّها لم يثبت استعمالها إلاّ في الطلب والشيء ، كيف يصح أن يقول إنها استعملت في غير واحد من المعاني.

وكأنّه لأجل ذلك حصر شيخنا قدس سره موارد استعمالها في الطلب ، وفي الواقعة التي لها أهمية في الجملة ، بل جعل الطلب داخلا في المعنى الثاني ، فيكون المستعمل فيه في جميع تلك الموارد هو الواقعة التي لها أهمية.

ولكن يمكن أن يقال : إنّها لم تستعمل في مفهوم الواقعة ذات الأهمية ، وإنّما استعملت في الشيء ، غايته أنّ ذلك الشيء الذي استعملت فيه يكون مصداقا لما هو ذو الأهمية ، وحينئذ فلا يخرج ذلك عن كونه من باب إدخال المفهوم في مصداقه الذي استعملت فيه ، ولعل شرح موارد استعمال هذه اللفظة أعني لفظة الأمر يتضح بالقياس إلى لفظ الشيء فانّه مصدر شاء يشاء ، وأما إطلاقه على ما في الخارج من جواهر وأعراض من قبيل إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق على المخلوق واللفظ على الملفوظ والقول على المقول ، بل ورد في الروايات (1) إطلاق البيع على

ص: 318


1- على بن يقطين « عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن؟ قال : الأجل بينهما ثلاثة أيام ، فان قبّضه بيعه ، وإلاّ فلا بيع بينهما. [ الوسائل 18 : 22 / أبواب الخيار ب 9 ح 3 ] إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السلام قال « من اشترى بيعا فمضت ثلاثة أيام ولم يجيء فلا بيع له » [ المصدر المتقدم ح 4 ] هذا في خيار التأخير. وفي بيع ما لم يقبض صحيحة معاوية بن وهب « عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ... إلخ » [ الوسائل 18 : 68 / أبواب أحكام العقود ب 16 ح 11 ] ورواية منصور « عن رجل اشترى بيعا ليس فيه كيل ولا وزن أله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ... إلخ » [ المصدر المتقدم ح 18 ][ منه قدس سره ].

المبيع في كثير من روايات خيار التأخير وغيره فراجع ، فإنّ جميع تلك الموارد يصدق عليها أنّها شيء بمعنى مشاء ، فإنّها مشاءة إما بنفسها أو بما يتعلق بها بنحو من التوسع ، حتى بالنسبة إلى ذاته تعالى فإنّها شيء باعتبار ارادة معرفتها ونحو ذلك من التوسع المصحح للتعبير عنها بأنّها شيء بمعنى مشاء.

وهذا التفصيل بعينه يتأتّى في الأمر فإنّه مصدر من أمر يأمر بمعنى طلب ، وصدقه على جميع الموارد المذكورة في الكفاية وغيرها باعتبار أنّ الأمر بمعنى الطلب ، وأن كل واحد من تلك الموارد مطلوب ، فيكون استعمال الأمر فيها من قبيل استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول ، وصدق المطلوب على تلك الأشياء بنحو من التوسع على حذو ما ذكرناه في لفظ الشيء ، غير أن الشيء يطلق على كل موجود سواء كان جوهرا أو عرضا ، والأمر لم يثبت إطلاقه على الجواهر ، لكن هذا المقدار من التفاوت لا يضر بالمقايسة المذكورة.

أما جمع الأمر بمعنى الطلب على أوامر وبالمعاني الأخر على امور ، ففيه أنّه خلاف ما يظهر من القاموس (1) من كون الامور جمعا للكل. مضافا إلى أنّ الأوامر إنّما هي جمع الآمرة بمعنى الصيغة الآمرة كالنواهي جمع

ص: 319


1- القاموس المحيط 1 : 365 مادة الأمر.

الصيغة الناهية كذلك (1) جمع الصاحبة على صواحب وشاعرة على شواعر وليس هو جمع الصاحب والشاعر ، وفي تاج العروس (2) بحث مفصل في جمع الأمر بمعنى الطلب على أوامر ، فراجعه.

وعلى كل حال لا يبعد أن تكون الأوامر جمع الآمرة ، وهي إما بمعنى الأمر نظير ما ذكراه من استعمال الفاعلة بمعنى المصدر كالعاقبة ، أو هي بمعنى الصيغة الآمرة ، والثاني هو الأقرب.

وبناء على ذلك يكون أظهر تلك الموارد هو الطلب ، لأنّ انطباق الأمر عليه يكون على وفق الوضع الأولي أعني المصدرية ، وإطلاقه على غيره من تلك الموارد يحتاج إلى عناية كونه من باب (3) استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول.

ولكنّه بعد مجال النظر ؛ لأنّا إنّما نصحّح استعمال المصدر في مورد اسم المفعول في خصوص ما لو كان المفعول هو نتيجة ذلك المصدر مثل الخلق والمخلوق واللفظ والملفوظ ، دون مثل ما نحن فيه ، سيما فيما كان اسم المفعول فيه ناقصا يحتاج إلى متعلق أعني المأمور به ، لكن ينافيه استعمال البيع في المبيع.

ثم لا يخفى أنّ الأمر لا يرادف الطلب ، لأنّ الطلب يتعدى إلى المكلف المطلوب منه بمن وإلى المطلوب بنفسه ، بخلاف الأمر فإنّ مثل أمر يأمر يتعدى إلى المطلوب منه بنفسه وإلى الفعل المطلوب بالباء ، فالأشبه أن يكون قد اشرب فيه معنى الالزام.

ص: 320


1- [ في الأصل : فذلك ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- تاج العروس 3 : 17 مادة أمر.
3- [ في المصدر زيادة « إطلاق » والصحيح ما أثبتناه ].

وفيه تأمل ، لأنّ مجرد التوافق في التعدية لا يوجب الاتحاد في المفهوم كما في مادة حتمت عليه أن يفعل ، فإنّه موافق لمادة الطلب في التعدي بنفسه إلى المطلوب ، مع أنّه نص في اللزوم والوجوب ، بخلاف مادة الطلب ، فتأمل.

قوله : بأن يقال بدلالة الصيغة على الوجوب دون الأمر أو بالعكس ... إلخ (1).

قد يتأمل في العكس ، فإنّه بناء على كون الصيغة للأعم والأمر للوجوب لا ينطبق الأمر على مطلق الصيغة ، وإنما ينطبق على خصوص ما كان منها للوجوب ، وتوضيح ذلك : أن إثبات كون مادة الأمر للوجوب وكذلك إثبات كون صيغة افعل للوجوب ، إن كان كل منهما بدليله الخاص أو بدليل واحد جار في كل منهما مثل التمسك بالاطلاق أو الانصراف ، فلا وجه لكون إثبات أحدهما موجبا لاثبات الآخر ، ولكن بعد أن ثبت أنّ ما تحدثه الصيغة يكون مصداقا خارجيا لمفهوم الأمر ، لا بمعنى أن مصداق أحدهما يكون مصداقا للآخر كما تراه فيما بين مفهوم الأمر ومفهوم الطلب ، فإن الاتحاد فيهما بحسب المصداق لا يكشف عن كون أحد المفهومين عين المفهوم الآخر على وجه لو كان التحتم والوجوب داخلا في أحدهما يكون قهرا داخلا في المفهوم الآخر ، فإنّ هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع ، لأنّ الاتحاد بين المفهومين في مصداق يجتمع مع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه أو العموم المطلق ، ولا ينحصر ذلك بالتساوي بين المفهومين ، بل المراد في هذا المقام هو أنّ مفاد الصيغة لا يكون إلاّ مصداقا

ص: 321


1- أجود التقريرات 1 : 132.

خارجيا ، وبعد أن كان هذا المصداق الخارجي مما ينطبق عليه مفهوم الأمر يكون ذلك موجبا للتلازم ، بمعنى أنا لو ثبت عندنا أنّ ما تحدثه الصيغة هو الطلب الوجوبي ، يلزمنا القول بأنّ مفهوم الأمر المنطبق على ذلك المصداق الخارجي من الطلب هو عين الوجوب ، إذ لا يمكننا القول بأن ما تحدثه الصيغة هو الوجوب لكن مفهوم الأمر للأعم من الوجوب والاستحباب.

وتوضيح ذلك : أنّ هذه المصداقية إن كانت من الطرفين ، بمعنى أنّ كل ما تحدثه الصيغة ينطبق عليه مفهوم الأمر ، وكلما وجد مفهوم الأمر صح إيجاد الصيغة في مورده ، فلو ثبت كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب كان لازم ذلك هو كون مفهوم الأمر للوجوب ، كما أنه لو ثبت كون مفهوم الأمر هو الوجوب كان لازم ذلك هو كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب وذلك واضح لا غبار عليه. والظاهر أنّ ذلك هو المراد لشيخنا قدس سره كما يظهر ممّا حررته عنه ، قال : والظاهر الملازمة بين كون الظاهر هو الوجوب من مصداق مفهوم الأمر الذي هو نفس صيغة افعل ، وبين كون الظاهر من نفس هذا المفهوم هو الوجوب ، لأن حصر المصداق في شيء يكون موجبا لحصر المفهوم المنطبق على ذلك المصداق في ذلك الشيء ... إلخ.

ولعل هذه العبارة غير وافية بما هو المراد من التلازم بين الطرفين ، والأولى تحريره بنحو آخر : وهو أنّ مصداقية الصيغة لمفهوم الأمر ليست على حذو المصاديق للمفاهيم الكلية كي يقال إن اشتمال المصداق على خصوصية لا يوجب أخذ تلك الخصوصية في ذلك المفهوم ، لجواز كون المفهوم أوسع منطقة من مصداقه ، بل إن هذه المصداقية هي مصداقية المعنى الحرفي للمفهوم الاسمي الذي يكون ما يوجده الحرف مصداقا له ، نظير مصداقية ما توجده أداة الاستفهام كلفظة هل لمفهوم الاستفهام ، فان

ص: 322

صيغة افعل إنّما توجد مفهوم الطلب أو مفهوم الأمر فلا يمكن أن يكون ما توجده الصيغة من هذا المفاد مخالفا لذلك المفاد سعة وضيقا.

وإن شئت فقل : إنّ كل ما ينوجد بالصيغة ينطبق عليه مفهوم الأمر ، وكلما وجدت مادة الأمر كان من الممكن إيجاد الصيغة في مورده ، فلا يكون التخالف بينهما من حيث السعة والضيق ممكنا.

وعلى كلا التقريبين يتم ما أفاده شيخنا قدس سره من استحالة التفكيك بين مفاد الصيغة ومفاد مفهوم الأمر. نعم لو منعنا الملازمة من الطرف الثاني بأن لا يكون لدينا من البرهان إلاّ أنّ ما تحدثه الصيغة مصداق من مصاديق الأمر من دون الالتزام بأنه كلما وجد الأمر أمكن إيجاد الصيغة مكانه ، فلا إشكال في أنّه لو ثبت كون مفهوم الأمر هو الوجوب يكون لازمه كون ما تحدثه الصيغة الذي ينطبق عليه مفهوم الأمر للوجوب أيضا ، إذ لو لم يكن ما تحدثه الصيغة هو الوجوب ، فان كان ما أحدثته هو الندب فكيف ينطبق عليه مفهوم الأمر الذي هو عبارة عن الوجوب ، وان كان ما أحدثته الصيغة هو نفس الطلب معرّى عن الوجوب والندب لم يكن أيضا مصداقا لمفهوم الأمر الذي هو الوجوب. على أنّ كون ما تحدثه الصيغة هو مطلق الطلب الذي هو القدر الجامع غير معقول ، لعدم إمكان وجوده بنفسه خارجا معرّى عن جهة الوجوب والاستحباب ، هذا من طرف الأمر.

أما من طرف الصيغة بأن يكون الثابت كونه للوجوب هو الصيغة لا الأمر ، فالظاهر أنّ ذلك أعني ثبوت كون ما تحدثه الصيغة هو الوجوب لا يوجب كون مفهوم الأمر المفروض انطباقه عليه للوجوب ، لجواز كون مفهوم الأمر هو مطلق الطلب وقد انطبق على هذا الطلب الحتمي الذي أحدثته الصيغة كانطباق الجنس على النوع.

ص: 323

وربما يقال : إنّ ذلك إنّما يتجه لو كان ما تحدثه الصيغة مركبا من الطلب والمنع من الترك ، أما لو لم يكن إلا بسيطا فلا يكون الطلب جنسا له كي يصح انطباقه عليه.

ولكن لا يخفى ما فيه : فإن ما تحدثه الصيغة وإن كان بسيطا إلاّ أنّ مفهوم الأمر لمّا كان هو مطلق الطلب كان منطبقا قهرا على الطلب الوجوبي وعلى الطلب الندبي ، وهما وإن كانا عند حدوثهما بالصيغة بسيطين ، إلاّ أنّ ما به الاشتراك في كل منهما عين ما به الامتياز كما هو الشأن في البسائط إذا كان لها قدر جامع ، فلاحظ وتأمل ، وسيأتي (1) لذلك مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى عند الكلام على ظهور الصيغة في الوجوب.

قوله : بوجه يشبه الانصراف (2).

سيأتي (3) إن شاء اللّه تعالى أن الوجوب يكفي فيه الجعل الواحد وهو الطلب ، والاستحباب يحتاج إلى جعل الطلب وجعل الترخيص في الترك ، وما لم يتحقق الجعل الثاني يكون مقتضى الجعل الأول هو الايجاب.

قوله : فلا محالة تدل مادة الأمر على الوجوب أيضا بتلك الدلالة وإن لم يكن الاستعمال في غيره مجازا ... إلخ (4).

الأولى أن يقال : إنّ مادة الأمر فيها دلالة على الوجوب لما تقدّم (5) من جهة مرادفتها للالزام ، أو من جهة دلالة الأدلة الأخر مثل قولها « أتأمرني

ص: 324


1- في صفحة : 347.
2- أجود التقريرات 1 : 132 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في صفحة : 350 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 1 : 132.
5- في صفحة : 320.

يا رسول اللّه ، فقال : لا إنما أنا شافع » (1) ونحو ذلك مما ذكروه ، على وجه يكون تطبيق الأمر على صيغة الطلب دليلا على أنها للوجوب وإن لم يثبت دلالة الصيغة بنفسها على الطلب ، ولأجل ذلك جعلوا النزاع في دلالة مادة الأمر على الوجوب نزاعا آخر غير النزاع في دلالة الصيغة عليه.

قوله : ثم لا يخفى أنّ الصيغة مطلقة ليست من مصاديق الأمر ... إلخ (2).

قد يتأمل في عدم صدق الأمر على الطلب من المساوي أو السافل ، فإنّ عدم وجوب إطاعة المساوي أو العالي لا دخل له بصدق عنوان الأمر ، والأمر لا دليل على أنّه يعتبر فيه أزيد من التحتيم وإن كان صادرا من السافل. وتقسيم الطلب إلى الأمر والالتماس والدعاء ، لعل الأولى فيه تقسيم الأمر إلى إلزام والتماس ودعاء. ولو سلّم عدم صدق الأمر على الالتماس والدعاء ، فلا ينبغي الريب في صدقه على كل ما يصدر من العالي من الطلب ولو كان ارشاديا. وبالجملة : أنّ المولوية ليست معتبرة في صدق عنوان الأمر.

قوله : وقد يكون لإنشاء تحقّق المادّة في عالم التشريع (3).

مثل قوله : إذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو ونحو ذلك ، ليكون على الضد من النفي في مثل « لا رهبانية في الاسلام » (4) فإنّ ذاك [ ينفي ](5) الرهبانية في الاسلام باعتبار أنّها غير داخلة في قوانينه ، وهذا

ص: 325


1- كنز العمال 16 : 547 / 45838 ( مع اختلاف يسير ).
2- أجود التقريرات 1 : 132.
3- أجود التقريرات 1 : 133.
4- مستدرك الوسائل 14 : 155 / أبواب مقدمات النكاح ب 2 ح 2.
5- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

يثبت السجود ويحققه في الشريعة باعتبار دخوله في قانونها الذي هو الوجوب مثلا ، هذا.

ولكن مثل ذلك أعني الاثبات والنفي باعتبار الدخول في عالم التشريع إنّما يحسن في نفس الفعل ، بأن يقال لا رهبانية في الاسلام ، أو يقال : إنّ التزوج موجود في الاسلام ، بخلاف مثل قولك : إذا بلغت تزوجت ، بل الأقرب فيه أنه كناية عن الأمر ، لأن الأمر والبعث يستدعي الانبعاث ، والانبعاث يستدعي وجود المبعوث إليه ، وتحققه من الشخص المبعوث ، فجعلت هذه النتيجة كناية عن أصلها الذي هو البعث ، فلاحظ.

قوله : فإذا ظهر أنّ الموضوع له للهيئة ليس إلاّ النسبة الايقاعية الإنشائية ، ظهر لك أنّ القول بكون الموضوع له هو الطلب الانشائي لا معنى له - إلى قوله : - وكذلك الهيئة إذا استعملت في معناها تكون من مصاديق الطلب ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ مفاد الهيئة إذا كان هو النسبة الايقاعية ، يعني إيقاع المادة في عالم التشريع على عاتق المكلف الذي هو عبارة عن بعثه إليها ، فإن كان ذلك البعث بداعي انبعاث المكلف ، بحيث كان انبعاثه إليها هو العلّة الغائية من ذلك البعث الانشائي ويعبّر عنه بالغرض من ذلك البعث ، كان ذلك مصداقا لمفهوم الطلب ، وإن كان بداعي التهديد والاختبار أو التهكم ، كان مصداقا لمفهوم التهديد أو الاختبار أو التهكم. وبالجملة ليست الهيئة موضوعة لايجاد الطلب الانشائي كما يستفاد من الكفاية (2) كي يكون حالها في ذلك حال حرف الجر مثل « من » الموضوعة لايجاد الابتداء ، ويكون

ص: 326


1- أجود التقريرات 1 : 134 [ مع اختلاف عمّا في النسخة المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 69.

إعمالها فيه مصداقا لمفهوم الابتداء ، ويكون الفرق بين إعمال الصيغة في إيجاد الطلب ومفهوم الطلب هو الفرق بين ما توجد لفظة « من » وما هو مفهوم لفظ الابتداء. نعم هي بالنسبة إلى ما توجده من النسبة الايقاعية ومفهوم النسبة من قبيل لفظة « من » ولفظ الابتداء ولفظة « يا » ولفظة النداء.

والحاصل : أن لفظة الصيغة لم تكن موضوعة للطلب أو لايجاده إنشاء كي يكون الفرق بينها وبين مفاد لفظ الطلب هو الفرق بين لفظة يا ولفظ النداء ، ويكون الفرق بين الصيغة في مقام الطلب الجدي وبينها في مقام الطلب الصوري هو كون إنشاء الطلب في الأول كان بداعي الطلب النفساني القائم بالنفس ، وفي الثاني لم يكن انشاء الطلب بذلك الداعي أعني الطلب النفساني بل كان بداعي السخرية أو التهديد.

بل إنّ الفرق بينهما إنّما هو باعتبار أنّ ما توجده الصيغة من البعث في الأول كان بداعي الانبعاث وفي الثاني لم يكن بداعيه بل كان بداعي السخرية ، بمعنى أنّ الغرض والعلة الغائية من ذلك البعث هو الانبعاث في الأول والسخرية في الثاني ، ويكون الأول حينئذ مصداقا للطلب ، ويكون إعمالها بداعي الانبعاث موجبا لتحقق الطلب في عالم التشريع ، غايته أنّ البعث بداعي الانبعاث إذا كان صادرا من الحكيم فلا بد أن يكون مسبوقا بقيام الطلب أو الارادة في نفسه ، بحيث كان قيامه في نفسه علة لصدور البعث عنه بداعي الانبعاث ، وتسمية ذلك الطلب النفساني داعيا لذلك البعث لا يخلو من مسامحة ، لأنّ الداعي على الفعل إنّما هو العلّة الغائية المترتبة عليه كالانبعاث فيما نحن فيه ، فتسمية علّة صدور الفعل بالداعي لا يخلو من مسامحة ، بل إن تسمية ذلك الطلب النفساني الذي هو الارادة النفسانية علّة لذلك البعث الانشائي لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ تلك الارادة

ص: 327

النفسانية المتعلّقة بفعل المكلف إنّما تكون علّة لتعلّق إرادة الآمر بانشاء البعث ، فتكون إرادة إنشاء البعث معلولة لتلك الارادة النفسانية المتعلقة بنفس الفعل ، لا أنّ البعث بنفسه معلول ابتداء لتلك الارادة النفسانية ، فتسمية تلك الارادة النفسانية بكونها علّة لنفس البعث لا تخلو عن تسامح ، لأنّها إنّما تكون علة لارادة ذلك الانشاء ، وإرادة ذلك الانشاء تلك علّة للانشاء.

وبالجملة : أن الارادة المتعلقة بنفس الفعل لا تكون علّة لما يتوصل به إلى صدور ذلك الفعل من المقدمات ، وإنما تكون علّة لتعلق إرادة ثانية بتلك المقدمات ، وتكون هذه الارادة الثانية مترشحة من الارادة الاولى ، فلا يصح أن يقال إنّ الارادة الاولى علّة لنفس المقدمات ، لأنّ ذلك مناف لاختيارية تلك المقدمات وصدور الفعل بالارادة ، وإنّما لا ينافي اختياريته إذا كانت تلك الارادة متعلقة بنفس ذلك لا فيما إذا كانت متعلقة بفعل آخر وكان حصول ذلك الفعل الآخر متوقفا على ذلك الفعل ، فإنّ ذلك الفعل لا يكون معلولا لتلك الارادة وإنما يكون معلولا للارادة المتعلقة بنفسه ، وإن كانت تلك الارادة معلولة وناشئة عن إرادة اخرى متعلقة بما يتوقف عليه.

والحاصل : أنّ إعمال الصيغة في إيجاد البعث إن كان بداعي الانبعاث كان طلبا حقيقيا لا إنشائيا محضا ، نعم لا بد أنّ تكون العلّة في إيجاد ذلك البعث بداعي الانبعاث هو الطلب أو الارادة النفسانية ، وإن لم يكن البعث بداعي الانبعاث بل كان بداعي السخرية مثلا لم يكن من قبيل الطلب أصلا لا حقيقيا ولا إنشائيا ، إذ لا يصدق عليه أنّه طلب بقول مطلق بل يصدق عليه أنه تهكم وسخرية ، فليست الصيغة موضوعة لانشاء الطلب وإيجاده ، وأن إنشاء الطلب بها إن كان بعلّة الارادة النفسانية والطلب النفساني كان طلبا حقيقيا ، وإن لم يكن بتلك العلة كان طلبا إنشائيا كما يظهر من الكفاية في

ص: 328

هذا المقام (1).

نعم عبّر في أول مبحث الصيغة (2) عن ذلك بما محصله : هو أنّ الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، فان كان بداعي البعث والتحريك كان طلبا حقيقيا ، وإن لم يكن بذلك الداعي بل كان بداعي التهديد كان طلبا انشائيا فأخذ الداعي بمعنى العلة الغائية ، بخلاف الداعي فيما تقدم منه في مادة الأمر فإنّه أخذه بمعنى العلة الموجدة ، وكيف كان فهذا التعبير أهون من تعبيره في مادة الأمر (3) من جعل الداعي على إنشاء الطلب في الطلب الحقيقي هو الطلب النفساني. نعم يرد عليه ما تقدم مما استفدناه من شيخنا قدس سره من عدم كون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب بل هي موضوعة لايقاع المادة على المكلف أعني البعث ، وأن المائز بين الطلب الجدي والصوري هو كون البعث بداعي الانبعاث وكونه لا بهذا الداعي.

ثم إن البعث والتحريك من أفعال الباعث والمحرّك الذي هو الطالب فلا يحسن التعبير بأخذه علة غائية وغرضا لفعله الذي هو الطلب الانشائي ، فإنّ الغرض من الفعل الذي هو علّة غائية له لا بد أن لا يكون مقدورا له ابتداء ولو بواسطة كونه عنوانا ثانويا ، فان ذلك الغرض لو كان مقدورا ابتداء بلا واسطة حتى مثل العنوان الأولي لم يكن حاجة في التوصل إليه إلى فعل شيء آخر ، بل يفعله الفاعل ابتداء من دون أن يعمد إلى فعل يترتب ذلك الغرض عليه ، ومن الواضح أن البعث والتحريك مقدور للآمر بلا واسطة ، لما عرفت من أن الصيغة آلة للبعث والتحريك ، فهو بايجاده لتلك الآلة

ص: 329


1- كفاية الاصول : 67.
2- كفاية الاصول : 69.
3- كفاية الاصول : 67.

يكون موجدا للبعث والتحريك.

وبالجملة : أن العلة الغائية أعني الغرض المعبّر عنه بالداعي يخالف العلة الفاعلة بامور :

الأول : الداعي لا بد أن يكون بوجوده الواقعي معلولا للفعل وإن كان بوجوده العلمي علّة للفعل ، بخلاف العلة الفاعلة فإنّها إنّما تكون علّة بوجودها الواقعي لا العلمي.

الثاني : أنّ الداعي يكون بوجوده الواقعي متأخرا عن الفعل ولو رتبة بخلاف العلّة الفاعلة فانّها لا بد من تقدمها عليه.

الثالث : أن الغرض أعني العلّة الغائية إنّما يكون علّة في الفعل الاختياري ، دون العلّة الفاعلة فإنّها تكون علّة في الفعل غير الاختياري ، والسر في ذلك هو ما عرفت من كون الاولى أعني العلّة الغائية جزءا من مقدمات الاختيار في الفعل ، بخلاف الثانية فإنّها علّة في الفعل نفسه دون إرادته واختياره حتى في مثل إرادة الفعل بناء على كونها علّة فيه فإنّها إنّما تؤثر في الفعل نفسه لا أنّها من مقدمات اختياره وإن كانت هي عين اختياره.

الرابع : أنّ الاولى أعني العلّة الغائية لا بد أن لا تكون فعلا بلا واسطة للفاعل ، إذ لو كانت فعلا له بلا واسطة لم يكن له حاجة إلى التوصل إليها بواسطة فعل آخر ، بل لا يعقل أن يكون فعل آخر مقدمة لها ومتوصلا به إليها ، لما عرفت من كونها فعلا للفاعل وأنها مقدورة له بلا واسطة. وأنت بعد اطلاعك على هذه التفاصيل تعلم أنه بعد البناء على كون الصيغة لانشاء الطلب لا وجه للقول بأنه صادر بداعي الطلب النفساني أو أنّه صادر بداعي البعث والطلب ، سواء فسّرنا الداعي في هذا التعبير بالعلة الفاعلة أو فسّرناه بالعلة الغائية.

ص: 330

نعم يمكن أن نقول : إنّ الارادة النفسانية المتعلقة بفعل المكلف تكون علّة لارادة المولى إنشاء الطلب المتعلق بذلك ، لا أنّها تكون ابتداء علة لنفس إنشاء الطلب إلا بنحو من المسامحة ، وحينئذ يكون صدور ذلك الفعل من المكلف أو انبعاثه إليه علة غائية لذلك الانشاء ، وتكون الارادة النفسانية المتعلقة بذلك الفعل علة لارادة ذلك الانشاء ، وبناء على ما ذكرناه من كون معنى الصيغة هو انشاء البعث ، فالأولى التعبير عن الغرض حينئذ بالانبعاث والحركة ليكون صدور الطلب الانشائي منه بداعي انبعاث المأمور وحركته نحو المأمور به ، فيرجع إلى ما ذكرناه ، غير أنّه جعل الفعل الانشائي الذي هو المغيى طلبا إنشائيا ، بخلاف ما ذكرناه فان الفعل الصادر من الآمر هو البعث وغايته هو الانبعاث ، وإذا كان صادرا بتلك الغاية كان طلبا حقيقيا ، وكان لازمه ثبوت صفة الطلب وقيامها بنفس الطالب.

قال قدس سره فيما حررته عنه : ولا يخفى أنّ تسمية هذه الامور بالدواعي إنّما هو بالنظر إلى حصولها بايقاع تلك النسبة الإلقائية في مقام أحد هذه الامور ، فإنّ إيقاع تلك النسبة في مقام بعث العبد وتحريكه يكون بعثا له على المادة وتحريكا له نحوها ، وذلك عين الطلب الذي تقدم أنّه عبارة عن كون الشخص بصدد تحصيل مراده ، فتسميته بالداعي على إيجاد الصيغة نظرا إلى كونه حاصلا بذلك إذا كان إيجادها في ذلك المقام ، فتكون الغاية من إلقاء الصيغة في ذلك المقام هو تحقق الطلب ، ومن الواضح أنّ الغاية المترتبة على صدور الشيء تكون داعيا وباعثا على صدوره ، وهكذا الحال في بقية هذه الدواعي ، لا أنّ هذه الامور تكون صفات نفسانية قائمة بالنفس ويكون قيامها بالنفس داعيا إلى إلقاء الصيغة كما يستفاد من الكفاية (1).

ص: 331


1- كفاية الاصول : 69 - 70.

قلت : الأولى هو ما تقدم من أن الداعي على البعث الذي هو إلقاء الصيغة إن كان هو الانبعاث كان ذلك مصداقا للطلب الجدي. والمطلب بعد وضوح المراد سهل فتأمل ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكون تحقق الطلب في عالم التشريع غاية لايجاد البعث المفروض عدم ترتبه عليه إلاّ مع قصده منه ، فيكون الحاصل أن فعل البعث بداعي ترتيب الطلب عليه يتوقف على كونه مترتبا على ذلك البعث ، وترتبه عليه يتوقف على قصده منه الذي هو فعله بداعي الطلب.

قوله : فإنّ الارادة باتفاق الكل عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس ، وأمّا الطلب فهو موضوع لتصدي تحصيل شيء في الخارج ... إلخ (1).

قلت : قد يقال إنّها أعني الارادة من مقولة الفعل ، ولعل النزاع المذكور ، أعني كونها من مقولة الكيف أو من مقولة الفعل لفظي ، فمن يدعي أنّها من مقولة الكيف عنى بها الشوق المؤكد ، ومن يدعي أنها من مقولة الفعل عنى بها الاختيار نفسه الذي هو المقدمة الأخيرة المتوسطة بين الفعل والشوق المؤكد ، ولا ريب أنّه أعني الاختيار الذي عبّرنا عنه بالطلب من مقولة الفعل ، ولا أظن أحدا يدعي أنّ ذلك الاختيار من مقولة الكيف ، كما أني لا أظن أحدا يدعي أنّ الشوق المؤكد من مقولة الفعل.

ثم إن اندفاع الجبر بما تقدم أو سيأتي تفصيله (2) واضح إذا كان تقريبه بأن الفعل معلول للارادة وهي غير اختيارية ، لما عرفت من أنّه غير

ص: 332


1- أجود التقريرات 1 : 135 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- لم يتعرض قدس سره فيما تقدم أو ما سيأتي لشبهة الجبر بالتفصيل ، وإنما أشار إلى ذلك في طيّات هذه المباحث ، فراجع صفحة 328 ، 337 ، 343 وما بعدها.

معلول للارادة التي هي عبارة عن نفس الشوق المؤكد ، لوجود ذلك الشوق بنفسه أو بما هو آكد وأقوى منه في الشوق إلى الممتنع مثل الشوق إلى ملاقاة الحبيب الميت ، أو الشوق إلى بعض المحرمات مع وجود حاجز التقوى.

وكذلك الحال لو قرّب الجبر بالانتهاء إلى الارادة الأزلية التكوينية ، فإن الفعل الخارجي لم يستند إليها ولم يكن ذلك الفعل مخلوقا لها كما يدعيه أهل الجبر من أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، غايته أنه تعالى خلق الفاعل وأوجده لا أنه تعالى خلق فعله أيضا ، نعم كانت الارادة التكوينية التي هي العلم بصلاح النظام ، قد تعلقت بصدور ذلك الفعل من فاعله باختياره ، وقد صدر منه كذلك ، غايته أنّه لا بد من صدوره منه باختياره لا أنه مجبور على صدوره ، فإنّ التحتم غير الجبر ، هذا إذا كانت الارادة التكوينية هي مجرد العلم بالصلاح المتعلق بالنظام.

وإن كانت عبارة عن العلة الموجدة المعبّر عنها ب- « كن » ، فلا نسلّم تعلّقها بالفعل ، وإنّما أقصى ما في البين هو تعلقها بايجاد الفاعل ، غايته أنّ ذلك الفاعل يختار الفعل ويوجده باختياره.

وإن قرّب الجبر بالانتهاء إلى النفس والذات وهما غير اختياريين ، فهو أوضح فسادا ، فإنّ فعل النفس بالاختيار هو الذي يكون محط التكليف والعقاب وقد صدر الفعل منها بالاختيار ، ووجود النفس ليس علة لذلك الفعل والاختيار ، بل إن ذلك الاختيار فعلته النفس وأوجدته ولا تعاقب إلا على فعلها. وأما السؤال عن أنّه لم أوجدته النفس؟ فلنا أن نقول في جوابه إنّها أوجدته وفعلته بلا علّة وبلا سبب يوجب عليها إيجاده ، بل فعلته من تلقاء ذاتها أو بمرجح رجح لها ذلك ، وهو ذلك الشوق المؤكد ، لا أن

ص: 333

الشوق المذكور كان علّة في ذلك الاختيار لما عرفت من تعلقه بالممتنع ، فتأمل.

قوله : وأمّا صيغة الأمر فهي دالة على النسبة الانشائية الايقاعية فقط ، فما لم تصدر الصيغة لا يتصف المكلف بأنّه وقع عليه المادة في عالم التشريع ... إلخ (1).

كأنه قدس سره يرى أن مفاد الهيئة هو إلقاء المادة على عاتق المكلف ، فتكون الصيغة آلة ذلك الالقاء ، والأقرب أنها آلة بعث وتحريك نحو المادة ، وعن ذلك البعث والتحريك التشريعي ينتزع كون المادة على عاتقه أو انشغال ذمته بها ، والأمر في ذلك سهل فلاحظ.

قوله : بقي الكلام في اتحاد الطلب والإرادة وعدمه ... إلخ (2).

هذا البحث تعرض له في الكفاية (3) والتزم في إرادة المكلفين لأفعالهم الاختيارية بعدم توسط شيء بين الارادة والفعل ، كما أنه في إرادة الآمرين التزم باتحاد الطلب والارادة الواقعيين والانشائيين ، لكن شيخنا قدس سره (4) التزم بالواسطة بين إرادة الفاعل وبين فعله وسمى تلك الواسطة بالطلب النفساني الذي هو فعل النفس ، والتزم بأنّه غير الارادة التي هي صفة قائمة بالنفس وأنّها من مقولة الكيف ، وذلك الطلب الذي هو فعل من أفعال النفس من مقولة الفعل ، ولم يتعرض للارادة والطلب الانشائيين ، وإنما تعرض للارادة والطلب الواقعيين وجعل أحدهما مغايرا للآخر ، وقاس

ص: 334


1- أجود التقريرات 1 : 134.
2- أجود التقريرات 1 : 134.
3- كفاية الاصول : 64 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 1 : 136.

الارادة الشرعية الواقعية الآمرية على إرادة المأمور ، فجعل الارادة من الآمر المتعلقة بقيام زيد مثلا من الصفات النفسانية ، وجعل صدور الأمر تحريكا للمأمور ، وسمى ذلك الأمر من سنخ الطلب النفساني الذي هو فعل من أفعال النفس المحرّك لعضلات المريد ، وجعل المأمور بمنزلة عضلات نفس المريد ، إلى آخر ما أفاده في هذا المقام.

ولكن في النفس شيء من هذا القياس ، فانك لو أردت قيام عبدك عن مجلسك ، فهناك إرادة منك نفسانية تعلقت بقيام عبدك ، فلو فرضنا أنه لا يقوم إلاّ بأن تتناوم وتنطرح على فراشك فعلت ذلك ، إلاّ أن نومك على فراشك فعل اختياري لك قد صدر عنك بالارادة المنبعثة عن إرادتك القيام ، فهذه الارادة الثانية منك المتعلقة بالنوم يتعقبها طلبك النوم الذي هو طلب نفساني للنوم ، فهناك إرادة نفسانية وطلب نفساني للنوم والنوم الخارجي ، فإذا تمت هذه الامور وقع مطلوبك الأصلي الذي هو قيام العبد ، وحينئذ لا يكون منك بالنسبة إلى القيام إلاّ مجرد تعلق الارادة النفسانية به ، وليس هناك حملة نفس ولا طلب نفساني يتعلق منك بالقيام. نعم لك أن تسمي هذه الامور أعني إرادة النوم وطلب نفسك النوم والنوم نفسه أنها سعي وطلب للقيام ، لكنّه ليس هو ذلك الطلب النفساني الذي أراده شيخنا قدس سره وجعله واسطة بين إرادة القيام والقيام الخارجي ، وهذا باب واسع ضابطه هو أن كل من تعلقت إرادته بصدور الفعل الفلاني من الغير باختياره ينحصر طريقه إلى صدور ذلك الفعل من ذلك الغير باختياره وإرادته باحداث الداعي لذلك الغير بالنسبة إلى ذلك الفعل ، وإحداث الداعي له يختلف باختلاف حال ذلك الغير ، فربما كان حدوث الداعي لذلك الغير منحصرا بمثل ما ذكرناه من إظهار ذلك المريد كسله وأنه يريد النوم ، وربما كان لا

ص: 335

يحدث له الداعي إلا بايجاد ما يكرهه ذلك الغير من مثل إحداث العجاج في المحل أو إحضار من يكرهه ذلك الغير ، إلى غير ذلك من الأمثلة المختلفة الداخلة تحت جامع واحد ، وهو ما يوجب حدوث الداعي لذلك [ الغير ](1) بالنسبة إلى ذلك الفعل المراد ، ومن جملة ما يوجب حدوث الداعي هو مجرد أمره بالقيام ، وكل ذلك يتوقف على إرادة ثانية من ذلك المريد للقيام تكون متعلقة بذلك الفعل الموجب لحدوث الداعي لذلك الغير ، وتتعقب هذه الارادة المتعلقة بذلك الفعل الموجب لحدوث الداعي حملة النفس عليه وبعدهما يحصل الفعل المذكور.

والخلاصة فيما نحن فيه هي : أنّ إرادة الآمر لفعل عبده المأمور يولّد إرادة تتعلق بأمره به الذي هو فعل اختياري للآمر ، وعن هذه الارادة المتعلقة بالأمر المذكور يتولد طلب نفساني يتعلق بحركة عضلات الآمر نحو الأمر فيأمر ويصدر الأمر لعبده بذلك الفعل ، وحينئذ لم تكن إرادة الآمر مقرونة بطلب نفساني الذي هو حركة النفس نحو الفعل المأمور به. نعم إنّ مجموع هذه الامور ، أعني إرادة الآمر وطلبه النفساني وصدور الأمر هو سعي وطلب وتحصيل للفعل من المأمور ، إلاّ أن ذلك ليس هو طلب نفساني متعلق بفعل المأمور الذي تعلقت به الارادة الأولية من الآمر ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، إنّ مجموع هذه الامور سعي وطلب لذلك الفعل الذي تعلقت الارادة به ابتداء ، إلاّ أنّ توسط هذه الامور بين الارادة والفعل المراد مختص بخصوص ما لو كان الفعل المراد فعلا للغير ، فالاحتياج في حصول ذلك

ص: 336


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

المراد إلى هذه الامور التي يكون مجموعها طلبا وسعيا في حصول المراد لا يكون برهانا على جريان ذلك فيما لو كان المراد فعلا من أفعال [ المريد ](1) فإنّ هذه الجهات أعني كون الارادة التشريعية عين الطلب أو أنّها غيره لا أهمية له ، إنّما الأهمية في الارادة المتعلقة بفعل المريد وهل أنّها بنفسها علّة في حصول ذلك الفعل منه بحيث إنّه لا واسطة بينها وبين ذلك الفعل ، أو أنّ في البين واسطة وهي المسماة بطلب الفعل وحركة النفس نحوه ، وهذه المعركة هي معركة الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، ووجهة البحث هي لزوم الجبر على الأول لانتهاء الفعل إلى الارادة وهي إلى الذات ، بخلافه على الثاني ، وللجبريين شبهة اخرى وهي تعلق الارادة التكوينية منه تعالى لأفعال العباد.

وعلى كل حال ، أنّ هذه الشبهة بأيّ طريق كانت لا دخل لها بمسألة اتحاد واقع الارادة والطلب في جانب الشارع المقدس ، فإنّ المعروف هو ابتناء القول بالتغاير على الكلام النفسي وجعل الطلب من سنخ الكلام النفسي ، وابتناء القول بالاتحاد على إنكار الكلام النفسي.

وبعضهم بنى التغاير بينهما على أنّ المراد بالطلب الطلب الانشائي ، والمراد بالارادة هو الارادة الواقعية ، ولكن شيخنا قدس سره (2) مع إنكاره الكلام النفسي ، ومع التزامه بأنّ المراد من الطلب هو الطلب الواقعي لا الانشائي قال بالتغاير بينهما ، من جهة ما أفاده من أنّ الطلب من مقولة فعل النفس وأنه غير الارادة التي هي كيف للنفس ، وربما سلّمنا ذلك في إرادة الشخص المتعلقة بفعل نفسه ، أمّا إرادته فعل الغير فقد عرفت انحصار الطريق إلى

ص: 337


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- لم نعثر عليه في مظانه ، وربما نقله قدس سره عن بعض تقريراته المخطوطة.

ذلك الفعل باحداث الداعي على الفعل في حق ذلك الغير ، ومن جملة ما يحدث له الداعي هو الأمر ، وليس الأمر لذلك الغير من قبيل تحريك السيارة أو الفرس للوصول إلى الغاية المرادة أوّلا التي هي حصول المريد في المكان الفلاني ، أو فراره عن المكان الحالي ليكون الأمر من قبيل فعل النفس وحملتها نحو ذلك المراد ، بل إنّ الأمر المحدث لذلك الداعي من قبيل سائر أفعال المريد التي يتوصل بها إلى إحداث الداعي في كونه فعلا اختياريا للمريد تتعلق به إرادته لأجل الوصول إلى تلك الغاية ، بل يمكننا القول بذلك حتى في مثل تحريك السيارة أو الفرس ، نعم بينهما فرق وهو أنّ تحريك السيارة أو الفرس إنما يراد لأجل التوصل إلى حصول المريد في المكان الفلاني أو إلى بعده عن المكان الحالي وفراره عنه ، فيمكننا القول بأنّ هذا التحريك من مقولة حملة النفس وطلبها إلى ذلك الفعل أعني الحصول في المكان الفلاني أو الفرار عن المكان الحالي ، بخلاف الأمر فانه لا يتوصل به إلى فعل المريد ، وإنما يتوصل به إلى حصول الفعل من المأمور بارادته واختياره ، فلا يكون من قبيل حملة النفس ، بل يكون من قبيل ما عرفته من النوم ونحوه مما يكون فعلا مرادا غايته أنه اريد للتوصل إلى حدوث الداعي لذلك الغير.

والحاصل : أن فعل الغير باختياره لا يكون قابلا لتعلق الارادة التكوينية به ، وإنّما أقصى ما في البين هو تعلق الارادة بمقدماته الاعدادية كما ذكروه في مبحث الشروط في ضمن العقد في اشتراط صيرورة الزرع سنبلا ، فمن مال إلى صدور فعل من عبده باختياره لا وجه لتعلق إرادته التكوينية بذلك الفعل من العبد ، وأقصى ما في البين هو تعلق إرادته التكوينية بالمقدمات الاعدادية لصدور ذلك الفعل من عبده ولو بأمره به ، فان

ص: 338

الأمر من السيد يكون مقدمة إعدادية لفعل العبد باختياره ، لأنه يولّد الداعي إلى اختيار العبد ذلك الفعل.

والخلاصة : هي أنّ إرادة فعل الغير باختيار ليست من الارادة التكوينية ، وأقصى ما في البين هو الارادة التي هي من سنخ الارادة التشريعية ، وهي ليست من كيفيات النفس ولا من أفعالها ، بل هي من سنخ الأحكام التي تنجعل بالجعل ، نظير الوجوب والزوجية ونحوهما من الأحكام ، وإن شئت فسمّها طلبا وإن شئت فسمّها وجوبا أو أمرا أو إرادة تشريعية ، إذ لا مشاحة في التسمية ، بل واقع الأمر أن الارادة التشريعية عين الطلب ، وهو عين الوجوب الذي لا ريب في كونه من المجعولات الشرعية ، ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمل فيما أفاده في الكفاية بل فيما أفاده شيخنا قدس سره فلاحظ وتأمل.

وبتقريب أوضح هو أن يقال : إنّ المراد بالارادة [ في ](1) هذا التحرير أعني كون الارادة عين الطلب ، أو كونها غير الطلب ، إن كان المراد بها الارادة التكوينية ، فلا يحسن التعبير بالطلب الظاهر في أنّ هناك مطلوبا منه ، بل ينبغي تحرير النزاع هكذا ، وهو أنّه هل يتوسط بين الارادة والفعل المراد مرتبة اخرى هي فعل النفس المعبّر عنها بالاختيار أو أنّه لا واسطة في البين وأنّ الاختيار هو عين الارادة ، وإن كان المراد بالارادة الارادة التشريعية المحتاجة إلى من يراد منه ، فلا شبهة في أنّها من سنخ الأحكام الشرعية وأنّها عين الطلب ، بل هي عين الوجوب أيضا ، وليست هي من صفات النفس ولا من أفعالها ، بل هي من الأحكام الشرعية.

ص: 339


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

نعم ، هناك أمر آخر وهو أنّ الوجوب من سنخ الأحكام الوضعية وهكذا الحال في الحرمة ، فهل هو المجعول ابتداء وأنّ البعث والزجر يكون تابعا له نظير الجزئية بناء على أنّها هي المجعولة ابتداء ، ويتبعها الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالمركب ، أو أنّ الأمر بالعكس بأن يكون المجعول أوّلا هو البعث المستفاد من صيغة افعل والزجر المستفاد من صيغة لا تفعل ، ويتبعهما الحكم الوضعي الذي هو الوجوب والحرمة ، كما أنّ المجعول ابتداء هو الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالمركب وعنه تنتزع الجزئية.

وإن شئت فقل : إنّ دعوى تحقق الارادة من الآمر فيما لو أمر عبده بالفعل ، إن كان المراد بها هو الارادة التكوينية ، فقد عرفت أنه لا معنى لتعلق ارادة الشخص تكوينا بفعل غيره اختياريا إلاّ على نحو الاجبار وسلب الاختيار ، وإن كان المراد هو الارادة الشرعية ، فإن كان المراد بها الطلب والوجوب فقد عرفت أنها تنجعل بالجعل وأنّها ليست من صفات النفس ولا من أفعالها ، ففي الحقيقة لا يكون في البين إلاّ العلم بالمصلحة وجعل الوجوب أو الطلب أو الارادة التشريعية على طبقها ، وما لم يكن في البين جعل لا يكون هناك وجوب ولا طلب ولا إرادة تشريعية بالمعنى المذكور ، وذلك نظير ما إذا لم يوقع ولم ينشئ البيع أو الهبة مثلا ، لا يكون في البين بيع ولا هبة ولو أرادهما المالك بألف إرادة واشتاق إليهما بأقصى مراتب الاشتياق ، ولو اريد بالارادة الشرعية معنى غير الارادة التكوينية وغير الوجوب والطلب ، فذلك لا واقعية له ولا بد من تصوره أوّلا ثم الكلام على وجوده وعدمه.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو : أنّ المجعول أوّلا هل هو الوجوب ، ويتبعه الأمر بالصيغة الذي هو عبارة عن البعث - إمّا من باب أن الشيء إذا

ص: 340

تحتم في الشريعة على المكلف حكم عقله بلزوم الاتيان به من باب الاطاعة ، فيكون قول الشارع صلّ بعد قوله جعلت الوجوب للصلاة إرشادا إلى ذلك ، أو أنّ ذلك البعث بقوله صلّ بعث مولوي ، غايته أنّه متفرع على جعل الوجوب - أو أنّ المجعول أوّلا هو البعث والتحريك الحاصل بقوله صلّ ، وعنه ينتزع الحكم بأنّ الصلاة واجبة ، ليكون ذلك نظير ما ذكروه في مبحث الجزئية من أنّ المجعول هو الحكم الوضعي ثم يتبعه التكليف ، أو أنّ الأمر بالعكس ويمكننا القول بأنّ نفس البعث المولوي كناية عن جعل الحكم الوضعي الذي هو الوجوب فجعله عبارة اخرى عن جعل الوجوب.

والظاهر أن الأساس في الجعل هو جعل الوجوب وأمّا البعث فهو كناية عنه أو إرشاد إليه ، وهذا النزاع يثمر في مسألة التركيب والبساطة ، فعلى الأول أعني كون المجعول هو الوجوب والاستحباب يكون كل منهما حكما وضعيا بسيطا مباينا للآخر ، ولا معنى حينئذ للقول بأنّ الوجوب مركب من طلب الفعل بمعنى البعث إليه مع المنع من الترك ، لأن المفروض أن الوجوب سابق في الرتبة على البعث فكيف يكون مركبا منه. نعم لو قلنا إن المجعول أوّلا هو البعث وأنّ الوجوب منتزع منه ومتأخر عنه رتبة ، يتصور النزاع المذكور وهو أنّه هل الوجوب منتزع من البعث إلى الفعل مع المنع عن الترك ، أو أنّه يكفي في انتزاعه تحقق البعث المولوي نحو الفعل ، وعلى ذلك يتخرج تركب الاستحباب من طلب الفعل مع تجويز الترك ، وأنّه بعد تمامية الأمرين أعني البعث إلى الفعل وتجويز تركه ينتزع عنوان الاستحباب ، بخلاف الوجوب فانّه يكفي فيه تحقق البعث المولوي إذا لم يلحقه الترخيص في الترك.

ثم لا يخفى أن نفس الأمر والطلب والوجوب وغيرها من الأحكام

ص: 341

الوضعية والتكليفية هي من الأفعال الاختيارية للشارع ، فلا تصدر منه إلاّ بعد تعلق إرادته التكوينية بها كسائر أفعاله الاختيارية لا تصدر منه إلاّ بعد تعلق إرادته التكوينية بها ، وهذا جار في كل فاعل مختار ، لكن ذلك أعني تعلق الارادة التكوينية مطلب آخر غير ما نحن بصدده من كون المراد الشرعي متعلقا لارادة الشارع ، فلاحظ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمل فيما يقال من أن الانشاءات إبراز لما في صقع النفس ، فانّك قد عرفت أنه ليس في صقع نفس الآمر بالنسبة إلى الفعل المأمور به سوى العلم بالصلاح ، ولو كان في البين ميل أو حب أو شوق إلى ذلك الفعل فليس هو من سنخ الارادة ، ولو فرضنا أن هناك شيئا على طبق المنشأ ، وأنّ الانشاء الخارجي إبراز له ، كان اعتبار ذلك الانشاء طريقا صرفا إليه ، وكان ينبغي ترتيب الأثر عند العلم بما في صقع نفس الآمر وإن لم يدخل في صقع الانشاء.

أما في البيع ونحوه فليس في البين إلاّ تعلق الارادة التكوينية بجعله وخلقه في عالم الاعتبار بانشائه ، لا أن البائع يوجد البيع في صقع نفسه ثم يبرزه بالانشاء بقوله بعت ، وإلاّ لتحقق البيع بذلك وإن لم يدخل في صقع الانشاء ، إذ لا يكون الانشاء على هذا الوجه إلاّ مبرزا له وطريقا إلى تحققه في نفس البائع ، ولا يبعد أن تكون هذه الدعوى من شعب الكلام النفسي الذي تخيله الأشاعرة.

ثم إنّه يمكننا القول بأنّ تسمية الشوق المؤكد بالارادة التكوينية لا يخلو من تسامح ، إذ لا ريب في تحقق الشوق المؤكد وتعلقه بفعل الشخص نفسه أو بفعل الغير ، إلاّ أنه وحده لا يكفي في تحقق الفعل وصدوره حتى لو كان متعلقا بفعل نفسه ، بل لا بد من تحقق تلك المرتبة

ص: 342

الرابعة التي سمّاها شيخنا بالاختيار أو الطلب التي هي من أفعال النفس ، ونحن نقول : إن تلك المرتبة الرابعة هي الارادة التكوينية وليست هي عين الشوق المؤكد ، بل إنّها إنّما تتحقق بعد تحقق ذلك الشوق المؤكد فيما لو كان ذلك الشوق المؤكد من الشخص متعلقا بفعله الذي يمكنه أن يفعله ، أما ما لا يمكنه أن يفعله ولو من جهة كونه فعلا للغير صادرا عن ذلك الغير باختياره ، فلا يمكن أن يكون متعلقا لتلك المرتبة الرابعة ، إذ لا يتصور صدور تلك المرتبة التي هي اختيار الفعل ممن لا يقدر على ذلك الفعل. نعم إن الذي يمكن بالنسبة إلى فعل الغير بعد تحقق الشوق المؤكد إليه هو طلبه من ذلك الغير وأمره به وإيجابه عليه ، وهذا أعني طلبه منه الصادر بعد الشوق المؤكد إليه هو عبارة عن الارادة التشريعية ، وقد عرفت أنّها مجعولة للطالب لا أنّها هي ذلك الشوق المؤكد وإن كانت هي مسبوقة به ، كما أنّها ليست هي تلك المرتبة التي هي الاختيار ، فليست هي من صفات النفس ولا من أفعالها ، بل هي كما عرفت من المجعولات الشرعية وإن كانت مسبوقة بذلك الشوق المؤكد ، فنحن لا نقول إن الارادة التشريعية عارية من الميل والحب والشوق المؤكد ، بل نقول إنّها مسبوقة بذلك لا أنّها عينه.

وعلى أيّ حال أنّ هذه الجهة لا دخل لها بما هو محل البحث في الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ، فان هذا البحث إنما هو في إرادة العبد لفعل نفسه ، وهل تكون علة لفعله أو أنّ العلة فيه أمر آخر متوسط بين الارادة والفعل ، وذلك الأمر الآخر هو حملة النفس الذي عبّر عنه شيخنا قدس سره بالطلب ، هذا كلّه بناء على أنّ الارادة هي نفس الشوق المؤكد لتكون من مقولة الكيف.

أمّا لو قلنا بأنّ الشوق المؤكد سابق على الارادة وأن الارادة متأخرة

ص: 343

عنه ، وهي أعني الارادة المتعلقة بالفعل فعل من أفعال النفس ، فيمكننا القول بأنّه لا واسطة بينها وبين الفعل حينئذ وأنّها هي الاختيار نفسه ، فإنّ شئت فسمّها اختيارا وإن شئت فسمها طلبا أو شئت فسمّها إرادة ، كان كل ذلك صحيحا بعد فرض كونها فعلا من أفعال النفس متأخرا عن ذلك الشوق المؤكد ، ولعل ذلك هو مراد صاحب الكفاية من تسمية الارادة فيما يظهر من جملة من كلماته هنا (1) وفي مسألة التعبدي (2) وفي مبحث التجري (3) بالاختيار. وعلى كل حال أنّ الوجدان يشهد بأنّ الانسان عند ما يتصور الفعل ويصدّق بفوائده وانتفاء موانعه يشتاق ويميل إليه كمال الميل ، وبعد هذا الاشتياق والميل يختاره ويفعله ، وهذا الاختيار هو الارادة وهو الطلب ، أمّا تسمية الشوق المؤكد بالارادة فلعله لا وجه له ، إذ ربما اشتاق الانسان إلى شيء لكن لا تتعلق به إرادته.

ثم إنّه لا شك حينئذ في كون ذلك الفعل صادرا بالاختيار ، أما كونه مرادا له تعالى بالارادة التكوينية ولو بأن تتعلق باختيار العبد ذلك الفعل أو بذلك الفعل باختياره ، وكذلك كون ذلك الاختيار ناشئا عن مقدماته المنتهية إلى نفس الفاعل ، أو أنّ ذلك الاختيار ليس بالاختيار وأنّ العقاب معلول لذلك الفعل الصادر بالاختيار وأنّه ليس من قبيل التأديب ولا من قبيل التشفي وغير ذلك من المباحث ، فكل ذلك خارج عن هذا الفن وراجع إلى فن آخر.

قال المحقق الطوسي قدس سره في متن التجريد : والفعل منا يفتقر إلى

ص: 344


1- كفاية الاصول : 68.
2- كفاية الاصول : 73.
3- كفاية الاصول : 260 - 262.

تصور جزئي ليتخصص به الفعل ثم شوق ثم إرادة ثم حركة من العضلات ليقع منا الفعل ، انتهى.

قال العلاّمة قدس سره في آخر شرح هذه العبارة : فلا بد من تصور جزئي يتخصص به الفعل فيصير جزئيا ، فإذا حصل التصور بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله ، فحصلت الارادة الجازمة بعد التردد فتحركت العضلات إلى الفعل فوجد ، انتهى (1).

لكنّه في مباحث مقولة الكيف قال : ومنها الارادة والكراهة وهما نوعان من العلم ، انتهى.

قال العلاّمة قدس سره في شرحه : من الكيفيات النفسانية الارادة والكراهة وهما نوعان من العلم بالمعنى الأعم ، وذلك لأن الارادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من المصلحة - إلى أن قال : - هذا مذهب جماعة. وقال آخرون إن الارادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مترتبتان عليه ، لأنا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مترتبا على هذا العلم وهو يفارق الشهوة ، فان المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه ، انتهى (2).

ولعله أراد من الشوق في عبارته الاولى أول درجة منه ومن الارادة التي قال عنها ثم إرادة هي الدرجة الثانية وهي المعبّر عنها بالشوق المؤكد ، وحينئذ تنطبق عبارته الاولى على عبارته الثانية المتضمنة لكون الارادة نوعا من العلم الذي هو من مقولة الكيف.

قوله : وأما المقام الثاني - يعني : البحث عن الصيغة من الجهة

ص: 345


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 123.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 252.

الاصولية - ففيه مباحث : الأول : في دلالة الصيغة على الوجوب ... إلخ (1).

هذا هو المقام الثاني الذي ذكره سابقا بقوله : الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر ويقع الكلام في مقامين : الأول من جهة شرح اللفظ ، والثاني من الجهة الاصولية (2).

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره (3) رتب الفصل الثاني المتعلق بالصيغة على أبحاث ، الأول : أفاد أنّها تستعمل للطلب والتهديد وكذا وكذا ، وأفاد أنّ هذه ليست من معانيها وإنّما هي من الدواعي على ما استعملت فيه وهو إنشاء الطلب ، وقصارى ما يمكن أن يدعى أنّها موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك لا بداع آخر ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة وبداع آخر مجازا.

وليس هذا الفرق الذي أبداه بينهما في مقام الوضع فقط كما صنعه في المعنى الاسمي والحرفي ، لأنّ ذلك لا يوجب المجازية وقد التزم بها هنا ، فدل على أن مراده هو دعوى كون الموضوع له هو إنشاء الطلب الناشئ عن الطلب الحقيقي ، وإن أمكن القول بأنّها لمطلق [ إنشاء الطلب ](4) وأن المنصرف عند الاطلاق هو كونه بداعي الطلب الحقيقي ، نظير الانصراف إلى الجد دون الهزل.

ثم ذكر المبحث الثاني وأفاد أنّها للوجوب بدليل التبادر.

ولا يخفى أن كونها موضوعة لخصوص الوجوب فرع كونها موضوعة

ص: 346


1- أجود التقريرات 1 : 1. 133.
2- أجود التقريرات 1 : 1. 133.
3- كفاية الاصول : 69.
4- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

لما إذا كانت للطلب الانشائي الصادر عن الطلب الحقيقي ، وقد تقدم التردد فيه.

ثم ذكر المبحث الثالث في الجمل المستعملة في مقام الانشاء ، ثم ذكر المبحث الرابع ، وهو أنا لو سلّمنا عدم وضع الصيغة للوجوب فهل تكون ظاهرة فيه للكثرة أو للأكملية ، وبعد أن منع ذلك قال : نعم فيما كان الآمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فان الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فاطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كاف في بيانه ، فافهم (1).

وشيخنا قدس سره قدّم لهذا المبحث مقدمة ، وهي بيان الفرق بين الوجوب والاستحباب ، ومنع من كونهما مركبين كما منع من اختلافهما بالشدة والضعف.

ولكن هناك وجه ثالث يفرق به بينهما ، وهو دعوى كونهما بسيطين مختلفين بالهوية ولا قدر جامع بينهما ، نظير مقولة الكم مثلا ومقولة الكيف مع عدم الجنس المشترك بينهما وإن شملهما مفهوم العرض ، لأن ما به الاشتراك في البسائط عين ما به الامتياز ، وهكذا الحال في الوجوب والاستحباب فانهما بسيطان متباينان بالهوية وإن اشتركا بمفهوم الطلب إلاّ أنه من قبيل أن ما به الاشتراك عين ما به الامتياز ، وحيث إنّ هذا القدر المشترك الذي هو مطلق الطلب لا يمكن أن ينوجد مجردا ، يكون مفاد صيغة افعل مرددا بين الوجوب والندب ، وحيث إن الثاني محتاج إلى مئونة

ص: 347


1- كفاية الاصول : 72.

زائدة يكون الأول هو المتعين عند إطلاق الصيغة كما هو الشأن في كل ما لو تردد المطلق بين نوعين وكان أحدهما محتاجا إلى مئونة زائدة دون الآخر ، وحينئذ فيمكن تنزيل ما أفاده في الكفاية على هذا الوجه لا على القول بالتركيب ولا على القول بالاختلاف بالشدة والضعف.

ولكن شيخنا قدس سره لم يرتض هذا الوجه لما يأتي (1) من مسلكه قدس سره من عدم الاختلاف بين الطلب الوجوبي والطلب الندبي وأن الطلب فيهما واحد لا يختلف حاله ، كما أن الظاهر منه قدس سره [ أنه ](2) لم يرتض الوجه الرابع الذي شرحناه فيما سيأتي (3) إن شاء اللّه تعالى من كون المركب هو الندب دون الوجوب ، بتخريج الترخيص في الترك على متمم الجعل ، بأن يكون الاختلاف في قوة المصلحة وضعفها هو الموجب للاكتفاء في الواجبات بجعل واحد وهو الطلب بخلاف المندوبات.

وهذا الوجه هو الذي جرينا عليه فيما تقدم ، وكنا نحتمل تنزيل كلام شيخنا قدس سره عليه ، لكن تنزيل كلامه في هذا التحرير عليه بعيد جدا ، بل إن ما في هذا التحرير ظاهر بل صريح بانحصار الفرق بين الوجوب والاستحباب باختلاف المصلحة قوة وضعفا ، وأن نفس الطلب كاف في تحقق الوجوب الذي هو حكم عقلي ، وأنه لا يجوّز العقل ترك ذلك المطلوب إلاّ بقرينة الترخيص الدالة على ضعف المصلحة ، فهو لا يريد أن يجعل الترخيص في الترك حكما شرعيا بل يجعله قرينة على ضعف المصلحة ، وأن المصلحة إذا كانت ضعيفة لم يحكم العقل بلزوم ذلك الفعل المطلوب بطلب ناش

ص: 348


1- في صفحة : 354.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- في صفحة : 351.

عن تلك المصلحة الضعيفة ، ولعل هذا خلاف مسلكه قدس سره في أنّ المدار في الاطاعة الحاكم بها العقل على الالزامات الشرعية ولا شغل للعبد بالمصالح والمفاسد الواقعية.

ولو تم ذلك ، أعني كون الترخيص قرينة على ضعف المصلحة ، وأن الطلب الناشئ عن المصلحة الضعيفة لا يكون وجوبيا ينحصر الوجوب بالطلب الناشئ عن المصلحة القوية من دون حاجة إلى إخراج الوجوب عن كونه شرعيا إلى كونه عقليا من باب لزوم الاطاعة كما يظهر من قوله : إن الصيغة متى صدرت - إلى قوله : - وتوضيح ذلك - إلى قوله : - فكذلك الثبوت في عالم التشريع ، فما هو ثابت بنفسه نفس إطاعة المولى ... إلخ (1).

قوله : وقبل الخوض في بيان ما هو الحق في المقام ينبغي تقديم مقدمة ، وهي أنّ المتقدمين من الأصحاب ذهبوا إلى تركب الوجوب والاستحباب ... إلخ (2).

لا يخفى أن النظر إلى الوجوب والاستحباب تارة يكون من ناحية كونهما أحد الأحكام الخمسة ، وهما بهذا النظر ملحقان بالأحكام الوضعية القابلة للانجعال بالجعل الابتدائي ، وحينئذ يكون بينهما كمال التباين كالتباين بين أحدهما والحرمة مثلا. وهما بهذا النظر لا يكونان إلا بسيطين في أقصى درجات البساطة.

واخرى يكون النظر إليهما من ناحية استفادتهما من الصيغة أعني صيغة افعل ، وقد عرفت أنها آلة البعث والتحريك ، أو أنّها آلة إلقاء المادة

ص: 349


1- أجود التقريرات 1 : 144 - 145.
2- أجود التقريرات 1 : 143.

على عاتق المكلف ، وهي من هذه الناحية لا تكون إلاّ مصداقا للبعث والتحريك أو مصداقا لالقاء المادة على عاتق المكلف على حذو مصداقية « هل » في قولك « هل قام زيد » للاستفهام ، أعني مصداقية المعنى الحرفي للمفهوم الاسمي المنطبق عليه على ما مر (1) في المعنى الحرفي من الفرق بين مفاد لفظة « من » مثلا وبين لفظ « الابتداء ».

وعلى هذا فلا يكون ما ينوجد بالصيغة مصداقا للطلب ولا للوجوب إلاّ إذا قلنا إنها آلة إيجاد الطلب ليكون معناها الحرفي هو الطلب الآلي ، وحينئذ ينطبق عليها مفهوم الطلب انطباق المفهوم الاسمي على ما أوجده الحرف ، وحيث إنه قد تحقق أنّها آلة البعث والتحريك فلا يكون المنطبق عليها إلاّ مفهوم البعث والتحريك ، أما الطلب فهو منتزع منها نظير انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي. وهكذا الحال في انطباق مفهوم الوجوب أو مفهوم الاستحباب على ما أحدثته الصيغة من البعث والتحريك ، فيكون مفهوم الوجوب منتزعا عمّا أحدثته الصيغة انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا ريب في بساطة البعث الذي توجده الصيغة وأنه بعث واحد لا تركيب فيه ، ولا اختلاف فيه أيضا بالشدة والضعف ، كما أنها حقيقة واحدة لا تعدد فيها ليكون لنا بعث وجوبي وبعث ندبي. وهكذا الحال في الطلب المنتزع منها أو المنطبق عليها لو قلنا إنها آلة الطلب ، أما الوجوب والاستحباب فقد عرفت تباينهما وبساطة كل منهما.

ص: 350


1- في صفحة : 55 وما بعدها.

نعم إن هذا البعث أو هذا الطلب لو خلي ونفسه ولم يتعقبه أو لم يقترن به ترخيص في الترك انتزع منه الوجوب ، ولو اقترن به الترخيص في الترك أو تعقبه انتزع منه عنوان الندب. وعليه فيكون ملاك الوجوب المجعول ابتداء أو المجعول انتزاعا من صيغة افعل بناء على إفادتها البعث أو بناء على إفادتها الطلب ممّا يكفي فيه الجعل الواحد ، بأن يجعل الوجوب للفعل ابتداء أو يجعل البعث ويخلقه بقوله « افعل » أو بقوله « بعثتك إليه » أو بقوله « أطلبه » أو « طلبته منك » بخلاف الندب فانه وإن أمكن وفاء الجعل الواحد به لكن ذلك فيما لو جعله ابتداء بأن يقول جعلت الفعل الفلاني مندوبا ، أما لو كان جعله بغير ذلك مثل جعل البعث أو جعل الطلب فلا يكفي فيه الجعل الواحد ، بل لا بد فيه من الجعلين : الأول هو جعل البعث والثاني هو جعل الترخيص في الترك ، ولك أن تسمي هذا الجعل الثاني متمّما للجعل الأول على حذو ما أفاده شيخنا قدس سره في التعبدي والتوصلي (1) ، وإن كان بينهما فرق في الجملة ، فان الجعل الأول في ذلك الباب يكون أقل من المصلحة فلا يكفي فيها ، بل لا بد في استيفائها من ضم الجعل الثاني إليه ، بخلاف ما نحن فيه فان الجعل الأول فيه يكون زائدا على المصلحة الباعثة على جعل الحكم الاستحبابي المفروض كونها غير مقتضية إلاّ للحكم غير الالزامي.

فجعل الطلب وحده يكون موجبا لكون الحكم إلزاميا ، فيكون الآمر مضطرا لأن يجعل جعلا آخر يتضمن جواز الترك ، ليتم بذلك الحكم غير الالزامي الذي هو ناش عن المصلحة غير الالزامية. ومن ذلك يعلم أن هذا

ص: 351


1- أجود التقريرات 1 : 173.

التجويز غير مناقض لطلب الفعل والبعث ونحوه ، لأنه إنما يناقضه إذا بقي على إطلاقه ، فتأمل.

ويمكننا القول بأنّ المجعول الأولي في الحقيقة إنما هو نفس الوجوب والتحريم والاباحة والاستحباب والكراهة بما أنها من سنخ الأحكام الوضعية ، وهذه الأوامر والنواهي والبواعث والزواجر كلها في مقام الاثبات وفي مقام الكشف عن ذلك المجعول الأولي ، فهي أشبه شيء بالارشاد إلى ما يلزم العقل به من الانزجار والانبعاث أو الارشاد إلى ما حكم به أوّلا من الوجوب والتحريم ، أو أنها من اللوازم القهرية نظير لزوم وجوب المقدمة عند وجوب ذيها.

وعلى أيّ حال لا يكون الوجوب محتاجا إلى أزيد من البعث والتحريك أو الطلب الانشائي ، وهذا بخلاف الاستحباب فانه في ذلك المقام يحتاج إلى زيادة الترخيص في الترك ، فلاحظ وتدبر.

والظاهر أنّ هذه الطريقة هي المتعيّنة في الواجبات والمندوبات الشرعية ، ويجري مجراها المحرمات والمكروهات ، وأنّ المجعول الأولي هو الوجوب والندب والحرمة والكراهة على حذو الأحكام الوضعية ، وأن الوصول إلى مفاد الصيغة الذي هو مقام البعث والزجر إنّما هو بعد الفراغ عن جعل الحكم الواقعي ، لما قرر في محله من أنّ مرتبة البعث والزجر متأخرة عن مرتبة جعل الحكم الواقعي. فان شئت فقل : إنّ هذه المرتبة بمنزلة الارشاد إلى نفس الحكم الواقعي ، أو شئت فقل إنها لازمة للحكم الواقعي متأخرة عنه رتبة ، لكونها معلولة له نظير معلولية وجوب المقدمة عن وجوب ذيها.

نعم ، في الوجوبات الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم أو الآباء

ص: 352

بالنسبة إلى أبنائهم ، كما يمكن فيها هذه الطريقة فكذلك يمكن فيها العكس بأن يكون المجعول والصادر أوّلا هو البعث ، فان كان عن مصلحة قوية اقتصر عليه ، وان كان عن مصلحة ضعيفة أضاف إليه الترخيص في الترك ، ويكون الأول منشأ عقلائيا لاعتبار الوجوب ، والثاني منشأ عقلائيا لاعتبار الندب ، فيكونان جهتين اعتباريتين ، والمنشأ في الاعتبار الأول هو مجرد البعث والطلب ، والمنشأ في الثاني هو ذلك مع الاقتران بالترخيص المذكور.

وما هذا الاعتبار العقلائي إلاّ نظير اعتبارهم الملكية من الحيازة أو اعتبارهم الولاية من نصب من له النصب ، لا أنّ الوجوب منطبق على ذلك الطلب ومتحد معه انطباق الكلي الطبيعي على أفراده واتحاده معها. وعلى كل حال فليس الوجوب المعتبر في هذه المرحلة من باب حكم العقل بالاطاعة ، بل هو توأم مع الندب منتزع اعتبارا من ذلك البعث المجرد أو من ذلك البعث المقرون بالترخيص ، فنراهم ينسبونه إلى الباعث الذي هو السيد أو الأب لا إلى العقل. نعم حكم العقل بلزوم الاطاعة أو وجوبها إنّما هو بعد ذلك الانتزاع ، فلاحظ وتدبر.

قوله : فكما أنّ في التكوينيات يكون ثبوت شيء تارة بنفسه واخرى بغيره ، وما كان بالغير لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ... إلخ (1).

قال المرحوم الشيخ محمد علي : وبتقريب آخر : الوجوب ليس معناه لغة إلاّ الثبوت ، ومنه قولهم الواجب بالذات والواجب بالغير ، فإنّ معنى كونه واجبا بالذات هو أنّ ثبوته يكون لنفسه ... إلخ (2).

ص: 353


1- أجود التقريرات 1 : 144.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 137.

والذي يظهر أو اللازم من هذه التحارير هو إنكار الوجوب الشرعي أو الندب الشرعي ، إذ ليس لنا ممّا هو المجعول للشارع إلاّ الطلب وهو واحد لا يختلف ، وانما تختلف مصلحته شدة وضعفا ، فذو المصلحة الشديدة يحكم العقل بلزوم إطاعته بخلاف ذي المصلحة الضعيفة ، وأنّ الطلب بنفسه قاض بحكم العقل بلزوم الاطاعة ، إلاّ إذا قامت قرينة على أنه لا تلزم إطاعته ، فتكون هذه القرينة كاشفة عن كون مصلحته ضعيفة.

ويمكن التأمل في ذلك أوّلا : بأنّه خلاف ما استقر عليه الأصحاب بل الكل ، من كون الوجوب والندب من الأحكام الشرعية.

أنّ حكومة العقل بلزوم الاطاعة ليس المدار فيها على المصلحة وإنّما المدار على الطلب ، فما لم يكن الترخيص حكما شرعيا لا يسوّغ العقل الترخيص لمجرد ضعف المصلحة مع فرض تحقق الطلب من المولى (1).

ورابعا : أنا لو سلّمنا وحدة الطلب فيهما وأن الاختلاف في المصلحة ، لم يكن ذلك موجبا لانكار كون الوجوب حكما شرعيا وكذلك الندب ، بل يكونان حكمين شرعيين مجعولين بسيطين متباينين ، وعنهما ينشأ البعث المجرد في الأول والمقرون بالترخيص في الثاني. ولو كان المجعول أوّلا هو البعث وكانا منتزعين منه ، أمكن القول بأنّ البعث في الأول كاف في المصلحة ، بخلاف الثاني فانّه يحتاج البعث فيه إلى ضم الترخيص كما عرفت.

وخامسا : أنّه لو كان الأمر كما أفاده قدس سره فلا داعي لانكار شرعية الوجوب ، لامكان أن يقال إن الطلب وإن كان بسيطا وكان واحدا لا تعدد في

ص: 354


1- [ لم يذكر ثانيا وثالثا فلاحظ ].

هويته ، إلاّ أنه من الممكن أن يقال إن الطلب الناشئ عن المصلحة القوية هو الوجوب الشرعي والناشئ عن المصلحة الضعيفة هو الندب ، على تأمل في ذلك ، إذ مع وحدة الطلب وبساطته لا وجه لكون الأول وجوبا والثاني ندبا ، فتأمل.

قوله : توضيح ذلك أن الوجوب لغة بمعنى الثبوت ... إلخ (1).

يمكن التأمل في ثبوت كون الوجوب لغة بمعنى الثبوت (2) ، وأيّ داع لهذه الدعوى ، أفلا يكفينا أن نقول إن الوجوب بمعنى اللزوم ، أما نفس الفعل المأمور به كالصلاة مثلا فليس انطباق الوجوب عليها من جهة انطباق الاطاعة عليها ، لأنّ ذلك إنما هو في الوجوب العقلي بمعنى اللزوم العقلي ونحن نتكلم في الوجوب الشرعي.

والحاصل : أنّ الذي يظهر من هذه الجمل هو أنّ الوجوب المبحوث عنه هو الوجوب العقلي الذي يكون بمقتضى لزوم الاطاعة ، ولازم ذلك أنّ المندوب ما حكم العقل بجوازه بمعنى أنّ ما يدل عليه الدليل المنفصل هو جواز الترك عقلا مع فرض عدم تفاوت في الطلبين لا من حيث الشدة والضعف ولا من حيث التركب ، وأنه لا منشأ لذلك اللزوم العقلي ولا لذلك الجواز العقلي إلاّ كون المصلحة في الأول مصلحة ملزمة وفي الثاني غير ملزمة ، وواضح أنّ ذلك خلاف ما استقرت عليه كلمتهم من كون الوجوب والاستحباب من الأحكام الشرعية دون الأحكام العقلية التي هي عبارة عن وجوب الاطاعة. وكيف يمكن القول بأنّ هذا الطلب الشرعي واجب

ص: 355


1- أجود التقريرات 1 : 144.
2- لاحظ تاج العروس 1 : 500 مادة وجب ، فانه حكى ذلك عن التلويح ، ولاحظ لسان العرب 1 : 793.

الاطاعة عقلا من دون اطلاع العقل على أنّ ذلك الطلب إلزامي.

وحينئذ لا بد لنا أن نقول : إنّ الفرق بينهما وان كان بحسب قوة المصلحة وضعفها أو بحسب وجود ما يزاحمها ، إلا أنّ مصلحة الوجوب يكفي فيه مجرد الطلب بخلاف مصلحة الندب فإنّ جعل الطلب يكون أضيق منها ، فلا بد للشارع حينئذ من سلوك طريق متمم الجعل ، بأن يجعل الطلب ثم بعد ذلك يرخّص في ترك ذلك المطلوب ترخيصا شرعيا ، فتكون مصلحة الحكم الاستحبابي محتاجة إلى جعلين في مقام الطلب وإن كان يمكنه استيفاؤها بجعل واحد في غير مقام الطلب ، نظير أن يقول هذا مندوب أو مستحب أو مستحسن عندي أو ما أشبه ذلك ممّا يكون ملحقا بجعل الأحكام الوضعية.

قوله : وهو أنّ الصيغة الواحدة في استعمال واحد كيف يمكن أن يستعمل في مطلق الطلب من دون أن يتفصّل بفصل ، أو كيف يمكن أن يوجد طلب في الخارج غير محدود بحد الشدة والضعف ... إلخ (1).

الاشكال الأول وارد على القائلين بالتركيب ، وأنّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، والاستحباب مركب من طلب الفعل وجواز الترك ، فإنّه بناء على ذلك يكون كل من المنع من الترك وجواز الترك فصلا منوّعا لطلب الفعل ، ويتكون الوجوب من انضمام المنع من الترك إلى طلب الفعل ، كما أن الاستحباب يتكون من انضمام جواز الترك إلى طلب الفعل ، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون المنشأ والمجعول في مثل قوله صلى اللّه عليه وآله : اغتسل هو مطلق الطلب غير متفصل بأحد فصليه ، لاستحالة وجود الجنس

ص: 356


1- أجود التقريرات 1 : 145.

بدون فصل. وليس ذلك من قبيل استعمال المفهوم الكلي من الطلب في القدر الجامع بينهما ، بل هو إيجاد خارجي للطلب الخارجي ، ويستحيل وجود الجنس خارجا بدون واحد من فصوله.

ومنه يظهر توضيح الاشكال على القول الثاني ، أعني الاختلاف بينهما في الشدة والضعف ، لاستحالة وجود الكلي في الخارج غير محدود بأحد حديه.

وينبغي أن يعلم أن القول بتركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك لا دخل [ له ](1) بما سيأتي في مسألة دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده العام بمعنى الترك التزاما أو تضمنا أو مطابقة ، بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام ، فإنّ تلك الدلالة على النهي عن ضده العام على وتيرة طلب الفعل ، إن كانت لزوما فلزوم أو استحبابا فاستحباب. وبالجملة الغرض هناك أن الأمر بالشيء يكون له دلالة على طلب ترك تركه على وتيرة الأمر المتعلق بذلك الفعل من حيث التحتم وعدمه ، فيكون الأمر الاستحبابي داخلا في تلك الدلالة ، بخلاف القول بالتركيب هنا فإنّه مبني على شيء آخر وهو كون الوجوب مركبا من جعلين أحدهما طلب الفعل بقول مطلق والآخر حرمة ترك ذلك الفعل ، كما أن الاستحباب يكون مركبا من أمرين أحدهما ذلك الطلب والآخر الترخيص في الترك.

والحاصل : أن النظر إلى المنع من الترك في تلك المسألة باعتبار كونه من لوازم الطلب المتعلق بالفعل أو أنه عينه أو أنه جزء مدلول الأمر ، سواء كان ذلك الطلب وجوبيا أو استحبابيا ، ويكون تحتم ذلك المنع من الترك

ص: 357


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

وعدم تحتمه تابعا لذلك الطلب المتعلق بالفعل. والنظر إليه هنا باعتبار كون الوجوب مركبا من حكمين أحدهما طلب الفعل والآخر حرمة تركه ، كما أن الاستحباب مركب أيضا من طلب الفعل وجواز الترك ، فلا ربط لاحدى المسألتين بالاخرى.

ولا يخفى أنّ هذا التركيب المذكور لو بنينا عليه لا يكون مصحّحا لدعوى كون الاطلاق وعدم بيان الترخيص في الترك دليلا على إرادة الوجوب ، لما عرفت من أنه بناء عليه يكون القدر المشترك هو الطلب ، وأنّ تفصّله بأحد الفصلين المتقابلين محتاج إلى بيان ، سواء كان ذلك الفصل هو حرمة الترك أو كان هو الترخيص فيه. كما أن الأمر كذلك لو قلنا بالفرق بينهما بالشدة والضعف ، فإنّه أيضا لا وجه حينئذ لجعل الاطلاق دليلا على المرتبة الشديدة منه أعني الوجوب ، إذ ليس ذلك إلا نظير ما نقله في الكفاية (1) من دعوى ظهور الصيغة في الوجوب لكونه أكمل.

بل إن الأمر كذلك بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من الفرق بينهما بحسب كون المصلحة ملزمة أو غير ملزمة ، فانه بناء على ذلك لا وجه لحمل إطلاق الطلب على ما يكون ناشئا عن المصلحة الملزمة بعد فرض كون الطلب في حد نفسه واحدا ، وأن المصلحة على قسمين لازمة الاستيفاء وغير لازمة ، وأنّ الدليل الدال على جواز الترك لا يكون إلا من مجرد بيان أنّ هذه المصلحة غير لازمة الاستيفاء. فما افيد بقوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أن الصيغة متى صدرت من المولى فالعقل يحكم بلزوم امتثاله ... إلخ (3) لم

ص: 358


1- كفاية الاصول : 72.
2- أجود التقريرات 1 : 144.
3- أجود التقريرات 1 : 144.

يتّضح وجهه بعد فرض ذلك التقسيم للمصلحة ، وأن التي يلزم بها العقل هي المصلحة الملزمة دون غيرها.

والحاصل : أنّ هذا الحكم العقلي بعد فرض ذلك التقسيم للمصلحة إن كان من باب الموضوعية فلا وجه له ، وإن كان من باب الاحتياط لاحتمال كون المصلحة ملزمة فلم يتضح الوجه في لزوم هذا الاحتياط ، وأيضا يبقى السؤال في ذلك الدليل الدال على جواز الترك ، إن كان من قبيل الاخبار بكون تلك المصلحة غير لازمة الاستيفاء ، فلا يكون تصرفا شرعيا ، فهو خلاف ما هو المعروف من كون الاستحباب أحد الاحكام الشرعية ، وإن كان حكما شرعيا لزم كون الاستحباب مركبا كما شرحناه.

ص: 359

[ التعبدي والتوصلي ]

قوله : وقد يطلق التوصلي على معنى يعم بعض التعبديات أيضا وهو ما يسقط أمره بمطلق وجوده في الخارج ولو كان بفعل الغير ... إلخ (1).

إن السقوط بفعل الغير تارة لا يكون متوقفا على قصد النيابة كما في غسل الثوب وتطهيره ، واخرى يكون متوقفا على قصد النيابة. والنيابة في هذا تارة تكون تبرعية واخرى تكون بالاجارة والاستيناب. وهذا الذي يكون بالاستيناب لو كان نفس الاستيناب فيه كافيا في السقوط عن المكلف نظير الضامن الذي يضمن ما في ذمة الشخص في كونه موجبا لانتقال المضمون إلى ذمة الضامن وبراءة ذمة المضمون عنه ، فالظاهر لامثال له في الواجبات الشرعية. وعلى كل حال لو فرض وقوع الشك في أنّ هذا الفعل الواجب هل أنه واجب بنفسه أو أن المكلف مخير شرعا بين نفس الفعل والاستنابة فيه ، كانت المسألة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي ، والوظيفة من حيث الأصل اللفظي أو العملي في ذلك معلومة واضحة كما حرر في محله.

لكن فرض الكلام فيما نحن فيه إنما هو في القسم الثاني وهو ما لا يكفي فيه الاستنابة بل لا بد من وقوع الفعل من النائب ، فقد يتخيل أنه من قبيل الدوران بين تعيّن الفعل وبين التخيير بين الفعل نفسه والتسبيب له.

ص: 360


1- أجود التقريرات 1 : 146.

لكن المسألة أجنبية عن باب التسبيب ، لما أفاده شيخنا قدس سره (1) من أنّ التسبيب إنّما يكون فيما لو كانت إرادة الفاعل مندكة أو كانت معدومة كما في البهائم والأطفال ، بل لعل الآمر أيضا مسبّب كما في أمر الآمر البنّاء ببناء المسجد ، فإنّ ذلك الآمر هو الداخل في عمارة المسجد دون البنّاء. وليس ذلك من باب النيابة في شيء ، كما أن باب النيابة ليس من باب التسبيب بل هو باب آخر.

وربما يقال إنه من باب التنزيل ، وأن النائب ينزّل نفسه منزلة المنوب عنه ، فيكون المنوب عنه مخيرا بين أن يفعل الفعل ببدنه الحقيقي أو ببدنه التنزيلي.

ولا يخفى ما فيه ، من أن باب النيابة ليس من باب التنزيل كما حققناه في محلّه. ولو صحّ التنزيل لم يكن احتماله من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، لأن تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه ليس بفعل من أفعال المنوب عنه كي يدخله التخيير الشرعي. ودعوى أنه فعله ببدنه التنزيلي لا يخفى ما فيها ، لأن ذلك لا يدخله في اختياره على وجه يكون عدلا في الوجوب التخييري لفعله الحقيقي.

وعلى أيّ حال أنّ التنزيل غير نافع في امتثال الأمر المتوجه إلى المنوب عنه. ولو دل الدليل على صحة هذا التنزيل كان مقتضاه هو قصد النائب امتثال الأمر لنفسه بعد التنزيل ، ولا وجه لقوله في النية : أفعله عن زيد.

نعم ، غاية ما يمكن تصوره هو كون التنزيل موجبا لكون فعل النائب

ص: 361


1- أجود التقريرات 1 : 147.

فعلا للمنوب عنه ولذلك يكون رافعا للموضوع في تكليف المنوب عنه. لكن يبقى الاشكال في قصد القربة ، إذ لم تقع لا من النائب ولا من المنوب عنه ، إلاّ أن نقول إنها من النائب بمنزلتها من المنوب عنه ، فتأمل.

أما كون الاستنابة طرفا للتخيير فقد أشكل عليه شيخنا قدس سره (1) أوّلا : أن مجرّد الاستنابة لا يفرغ الذمة. وثانيا : أنّه يجوز التبرع بالنيابة في الفعل فتفرغ الذمة ولا استنابة. وثالثا : أنه لا معنى لكون فعل الغير من أطراف التخيير. وكأنه قدس سره يقول لا بد في التفريغ من فعل الغير ولا معنى لكون فعل الغير طرفا في التخيير.

ثم إن ملخص مختاره كما في هذا التقرير : هو أن النيابة هي تنزيل عمل الغير منزلة عمل المنوب عنه وكون الفعل فعله ، فيكون الواجب على المنوب عنه ذا جهات ثلاثة : الاولى : كونه من جهة المادة مع قطع النظر عن جهة الاصدار تعيينيا ، بمعنى أنّ الآمر يريد أصل وجود المادة في الخارج ولا تسقط بالاستنابة.

الثانية : التخيير في جهة الاصدار بين إصدارها بالمباشرة وإصدارها بالاستنابة.

والثالثة : كون وجوبها مشروطا بعدم فعل الغير.

وهذه الجهة إنما تنفع فيما لو كانت نيابة بلا استنابة أو صدر الفعل من الغير بلا نيابة ، فكان مفرّغا لذمة من وجب عليه. فالنحو الثاني من الواجبات المذكورة في الجهة الثانية يكون من جهة الاصدار تخييريا وإن كان من جهة المادة تعيينيا. ونفس توجه الخطاب إلى المكلف يرفع الشك

ص: 362


1- أجود التقريرات 1 : 148.

من هذه الجهة. وهذا الظهور أقوى من ظهور الصيغة في التعيين. ولعل نظره أنه لو ثبت التخيير من جهة الاصدار يسقط ظهور المادة من جهة التعيين ، وإلاّ فانّهما متوافقان لكون النتيجة في كل منهما هي تعيّن المادة عليه.

وأمّا السقوط بفعل الغير من دون الاستنابة وهو المشار إليه في الجهة الثالثة ، فينفيه إطلاق الصيغة أيضا ، فإن مرجع ذلك إلى كون فعل الغير رافعا للموضوع أو لملاكه ، فيكون التكليف مشروطا بعدم فعل الغير ، وإطلاق الخطاب ينفي الاشتراط ، والخطاب وإن كان غير متعرض للموضوع إلاّ أن الموضوع راجع إلى الشرط ، وإذا ثبت الاطلاق ثبت بقاء الموضوع وأنه لا يرتفع بفعل الغير.

ثم إنّ رافع الموضوع إنّما هو مثل إسقاط فعل الأجنبي ما على الميت وجوب القضاء عن وليه ، فان الواجب على الولي هو قضاء ما في ذمة أبيه ، فإذا فرغت ذمة أبيه بفعل الغير ارتفع موضوع الوجوب على الولي ، هذا حاصل أو تلخيص ما أفاده قدس سره.

ولا يخفى أن رافع الموضوع لا ينبغي التكلم فيه ، إذ لا ريب في ارتفاع التكليف عند حدوثه ، فلا إشكال في سقوط تكليف الولي عند حصول فراغ ذمة والده. نعم كيف يكون عمل النائب مفرّغا لذمة الوالد وهذا يدخل في الجهة الثانية ، وحيث إن المفروض كونه من قبيل النيابة بلا استنابة من المكلف فيدخل في رافع الملاك ، هذا فيما علم الموضوع وعلم أن الفعل من الغير رافع.

وأمّا إذا شك في كونه رافعا له فمرجعه إلى الشك في الموضوع ، بمعنى أن الولي يشك في أن تكليفه هو النيابة وإن لم يكن تفريغا لذمة

ص: 363

الميت ، كما لو شك الشخص في أنه مكلف باسالة الماء على ثوبه وإن لم يكن تطهيرا له من النجاسة ، فلا ينفع فيه ما لو أزال عنه النجاسة غيره ، كان المتبع هو كيفية توجه التكليف إليه لا إطلاقه من حيث اشتراط العدم. وعلى أيّ حال إن رافعية الموضوع لا تتأتى في النيابة بل هي لو صحت تكون محققة لامتثال المنوب عنه ، فلا تكون من قبيل رافع الموضوع ولا من قبيل رافع الملاك بل لا يكون إلاّ من قبيل استيفاء الملاك ، هذا.

ولكن شيخنا قدس سره (1) أفاد في توجيه الشك في بقاء الموضوع عند فعل الغير من ناحية اخرى غير راجعة إلى الشك في الموضوع ، وتلك الجهة هي الشك في اعتبار المباشرة في مثل قوله أزل النجاسة عن ثوبك ، فان الشك في اعتبار مباشرة صاحب الثوب على وجه أن النجاسة لا تزول إلا بمباشرة المكلف بازالتها عن ثوبه ، يوجب الشك في بقاء النجاسة عند غسل الغير للثوب ، سواء كان غسله بعنوان النيابة أو لا بعنوان النيابة.

وتوضيح ما أفاده قدس سره هو أن يقال : إن من كلّف بازالة النجاسة عن ثوبه لا ريب في أن نجاسة ثوبه هي موضوع لذلك التكليف ، فإن كانت المباشرة قيدا في ذلك الفعل كان محصّله أن تلك النجاسة لا تزول إلاّ بفعله ولا يزيلها فعل الغير ، وأنّ ذلك الثوب لو غسله غيره ألف مرة فنجاسته تبقى بحالها ولا تزول إلاّ بأن يكون هو المباشر لغسلها دون غيره ليكون قوله أزل النجاسة عن ثوبك أو بدنك نظير قوله أزل الحدث عن نفسك في باب الوضوء المستفاد من قوله تعالى ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) (2) بخلاف ما لو لم تكن المباشرة قيدا في ذلك

ص: 364


1- أجود التقريرات 1 : 149 - 150.
2- المائدة 5 : 6.

الفعل الواجب ، فإنّ لازم عدم التقييد بالمباشرة هو ارتفاع النجاسة لو غسله الغير ، وحينئذ تكون النتيجة هي أنه على الأول أعني التقييد بالمباشرة يكون الوجوب على صاحب الثوب مطلقا غير مشروط بعدم فعل الغير ، بل يكون صاحب الثوب مأمورا بغسله سواء غسله الغير أم لا. بخلافه على الثاني أعني عدم التقييد بالمباشرة فإنّه بناء عليه يكون ذلك الوجوب المتوجه إلى صاحب الثوب مشروطا بعدم قيام الغير بغسله ، وحينئذ يكون لازم إطلاق الوجوب وأنّه غير مشروط بعدم غسل الغير هو بقاء النجاسة بحالها عند قيام الغير بغسله ، فيكون لازم إطلاق الوجوب هو بقاء الموضوع ، لا أنّ نفس إطلاق الوجوب يكون مثبتا للموضوع ابتداء كي يشكل عليه بأنّ إطلاق الوجوب لا يمكن أن يكون مثبتا لموضوعه.

وقس على ذلك الوجوب المتوجه إلى الولي المتعلق بتفريغ ذمة والده ، فإنّ موضوعه وإن كان هو انشغال ذمة الوالد ، إلاّ أنا حيث نحتمل قيد المباشرة في حصول فراغ ذمة الوالد ، يكون ذلك موجبا للشك في حصول فراغها بفعل الغير ، وحينئذ نقول إنّه لو كانت المباشرة قيدا كان الوجوب المتوجه إلى الولي مطلقا سواء قام به الغير أو لم يقم ، بخلاف ما لو لم تكن المباشرة قيدا فان الوجوب المتوجه إلى الولي يكون مشروطا بعدم قيام الغير. وعلى الاول يكون انشغال ذمة الوالد الذي هو موضوع التكليف باقيا بحاله بعد قيام الغير بذلك الفعل ، بخلافه على الثاني فإنّه بناء عليه يكون قيام الغير به موجبا لفراغ ذمة الوالد وارتفاع موضوع التكليف المتوجه إلى الولي ، فاطلاق الوجوب يلزمه بقاء الموضوع ، فنتمسك بهذا الاطلاق على أنّ فعل الغير لا يكون رافعا للموضوع.

وبالجملة : أنّ الشك في اعتبار المباشرة في إزالة النجاسة عن الثوب

ص: 365

مثلا يلزمه الشك في بقاء النجاسة بعد فعل الغير ، كما أنه يلزمه الشك في بقاء الوجوب بعد فعل الغير ، وهذا الشك أعني الشك في بقاء الوجوب بعد فعل الغير ملازم للشك في إطلاق الوجوب وشموله لحالة فعل الغير. والاطلاق اللفظي الجاري في هذا الشك الأخير يزيل تلك الشكوك كلها ، وبمقتضى ذلك الاطلاق يحكم باعتبار المباشرة وبقاء النجاسة بحالها وبقاء الوجوب بحاله أيضا بعد فعل الغير ، والنتيجة أنه لا أثر لفعل الغير.

وهذه الطريقة تتأتى في فعل الغير سواء كان بعنوان النيابة أو لم يكن بعنوان النيابة عن ذلك الذي توجه إليه التكليف أعني الولي مثلا ، بل إنها جارية فيما [ كان ](1) الشك في رافعية فعل الغير للملاك ، بناء على أنّ بقاء التكليف منوط ببقاء ملاكه كاناطته ببقاء موضوعه ، فإنّ عين العملية في تلك الشكوك الجارية في صورة احتمال كون فعل الغير رافعا للموضوع جارية في احتمال كونه رافعا للملاك ، بل هي جارية حتى في النيابة الناشئة عن الاستنابة لو لم تكن الاستنابة نافعة في إدخاله تحت الوجوب التخييري بناء على ما سيأتي ذكره من الاشكال عليه بكون المتقرب حينئذ هو المنوب عنه ، أو الاشكال عليه بأنه راجع إلى التسبيب إلى جهة الاصدار ، أو الاشكال عليه بأنّ إدخال فعل الغير ولو بطريق الاستنابة في الاصدار يوجب عدم تأتّي الوجوب التخييري فيه.

أما الأمر الأول ، وهو إرجاع الاستنابة إلى جهة الاصدار وجعل التخيير في ناحية الاصدار بين كون إصداره بنفسه أو بنائبه ، ففيه إشكال أنّ النائب كيف يتقرب بالأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، فإنّ لازم هذا التقريب هو أنّ

ص: 366


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

الاصدار يكون منسوبا إلى المنوب عنه ، فهل يكون المتقرب هو المنوب عنه بهذا الاصدار الذي انتسب إليه بواسطة الاستنابة ، ولا يكون النائب متقربا وإنّما يأتي بذات العمل مجردا عن قصد القربة ، هذا مضافا إلى أنه لا يسلم من الاشكال على طريقة التسبيب ، وكذلك لا يسلم من الاشكال بادخال فعل الغير في الواجب التخييري.

ثم إنّ شرط الوجوب على نحوين :

الأول : ما يكون حدوثه موجبا لحدوث الوجوب ولبقائه ، مثل أن يقول : إن هذا الماء لو لاقى النجاسة فاجتنبه.

النحو الثاني : ما يكون حدوثه موجبا للحدوث ، وبقاء الوجوب الحادث منوط ببقائه ، ليكون مثل أن يقول : إن الماء إذا بلغ كرا لم ينجّسه شيء ، فإنّ بقاء الاعتصام وعدم التنجيس يكون منوطا ببقاء الكرية ، والاطلاق يكون نافيا لكل من الشرطين. وعلى هذا يكون إطلاق الوجوب في مثل اغسل ثوبك بالنسبة إلى غسل الغير له نافيا لاشتراط وجوب الغسل بعدم غسل الغير ، وإن كان هذا العدم المحتمل الشرطية لو كان شرطا تكون شرطيته من قبيل النحو الثاني لا النحو الأول.

نعم ، إن ذلك إنما هو فيما لو لم يكن ذلك المأخوذ عدمه شرطا بالنسبة إلى الوجوب من قبيل المسقط ، بل كان من مجرد كون عدمه شرطا في الوجوب ، لأن عدمه دخيل في الملاك حدوثا وبقاء ، أما إذا لم يكن الملاك متوقفا على العدم بل كان نقيضه الذي هو الوجود رافعا للملاك ، فلا يكون العدم من مقولة الشرط في ذلك التكليف ، بل يكون الوجود من قبيل رافع التكليف ، فلا يكون إلاّ من قبيل المسقط للتكليف كما فيما نحن فيه ، فإنّ فعل الغير على تقدير كونه مؤثرا فانّما يؤثر من جهة كونه مسقطا

ص: 367

للتكليف لا من جهة أنّ عدمه له المدخلية في الملاك ، وقد حقق في محلّه (1) أن ما هو من قبيل المسقط لا يعقل أخذ عدمه شرطا شرعيا في التكليف.

نعم ، إنه يرفع التكليف قهرا لكونه مسقطا له نظير فعل المكلف نفسه وقد حقق في محله (2) عدم معقولية إطلاق التكليف بالنسبة إلى ما يسقطه. وهذه الايرادات إنّما نشأت من سلوك هذا الطريق الصعب أعني التمسّك باطلاق الوجوب وعدم اشتراطه بعدم فعل الغير.

ولا يخفى أنا لو أمكننا القول بأنه لو كانت المباشرة معتبرة كان مقتضاه هو تحقق الوجوب سواء قام به الغير أو لم يقم ، ولو كانت المباشرة غير معتبرة لكان مقتضاه عدم تحقق الوجوب أو عدم بقائه عند قيام الغير به ، وبعبارة اخرى كان مقتضاه انحصار بقاء الوجوب بما إذا لم يقم به الغير ، وبعد تمامية هذه الجهات نقول : إن مقتضى إطلاق الوجوب وشموله لما إذا قام به الغير هو كون المباشرة معتبرة ، فلم لا تجري عين هذه العملية فيما لو شككنا في اعتبار التعمّم في الصلاة بأن نقول لو كان التعمم معتبرا في الصلاة لكان مقتضاه هو تحقق وجوبها وبقاءه ، سواء جاء بالصلاة فاقدة للتعمم أو أنه لم يأت بالصلاة المذكورة أعني الفاقدة للتعمم. ولو كان التعمم غير معتبر فيها لكان مقتضاه عدم تحقق الوجوب أو عدم بقائه عند الاتيان بالصلاة فاقدة للتعمم ، ليكون مقتضى ذلك هو انحصار بقاء الوجوب بما إذا لم يأت بالصلاة الفاقدة للتعمم.

وبعد تمامية هذه الجهات يكون الحاصل هو أنّ مقتضى إطلاق

ص: 368


1- راجع أجود التقريرات 2 : 67 وما بعدها ، وستأتي حواشي المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 342 وما بعدها.
2- راجع أجود التقريرات 2 : 67 وما بعدها ، وستأتي حواشي المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 342 وما بعدها.

الوجوب وشموله لما إذا أتى بها فاقدة للتعمم أو لم يأت بالفاقدة لتكون النتيجة هي عدم سقوط الوجوب عند ما ياتي بها فاقدة للتعمم ، ويكون خلاصة ذلك هو اعتبار التعمم في الصلاة ، وحيث إنّه لم يتفوه أحد بذلك كشف عن أنه لا مجال لاطلاق الوجوب في هذه المقامات الراجعة إلى مرحلة المسقط للوجوب.

وهناك طريقة اخرى هي أسهل من هذه الطريقة ، فإنّ الحجر الأساسي إنّما هو هل يعتبر المباشرة أو يكفي فعل الغير ، سواء كان بالنيابة والاستنابة ، أو كان بالنيابة التبرعية مجردا عن الاستنابة ، أو كان من مجرد فعل الغير وان لم يكن في البين استنابة ولا نيابة. ويكفينا في اعتبار المباشرة إطلاق نسبة الفعل إلى المكلف بمثل قوله اغسل ثوبك ، فإن مقتضى الاطلاق هو المباشرة وأن يكون المكلف هو الفاعل للغسل ، وأنّ توسعة الأمر إلى الاكتفاء بفعل الغير يحتاج إلى مئونة زائدة على نفس ما يقتضيه قوله اغسل ثوبك من انتساب الغسل إلى المخاطب من دون فرق في ذلك بين كون فعل [ الغير ](1) رافعا للموضوع أو رافعا للملاك.

وبناء على هذه الطريقة يكون مقتضى الأصل اللفظي هو اعتبار قيد المباشرة. وهذه المسألة إحدى ما يقال إنّه ربما كان الاطلاق مثبتا للتقييد ونافيا للاطلاق. أما من ناحية الأصل العملي فبناء على هذه الطريقة تكون المسألة من باب الشك في الأقل والأكثر مع كونه من قبيل الشك في الشرطية ، لأنّ أصل العمل مطلوب وكونه مقيدا بقيد المباشرة مشكوك ، فيكون حاله حال التعمم في الصلاة لو شك في كونه قيدا ، وجريان البراءة

ص: 369


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

فيه واضح على ما حقق في محله خصوصا فيما لو كان الواجب توصليا لا يعتبر فيه قصد القربة والامتثال ، من دون فرق في ذلك بين مصادفة الخطاب لفعل الغير أو كونه أعني الخطاب متأخرا عنه أو كونه متقدما عليه ، ولا مورد فيه للاستصحاب أصلا ولا للتمسك بقاعدة الاشتغال.

نعم ، الغالب في التكاليف تحقق الأصل اللفظي فيها القاضي باعتبار المباشرة فلا تصل النوبة فيها إلى الأصل العملي. وهذا الأصل اللفظي القاضي باعتبار المباشرة يكون مزيلا لبقية الشكوك التي قررناها في تقريب ما أفاده شيخنا قدس سره فإنّه يزيل الشك في بقاء الموضوع وبقاء التكليف ، وكذلك الشك في إطلاق نفس الوجوب.

لا يقال : مع فرض عدم إجراء الأصل اللفظي في المقام كيف قلتم إنّ المرجع هو البراءة مع أنّ إطلاق الوجوب قاض بتحققه عند فعل الغير الملازم لاعتبار المباشرة. ولو اغضي النظر عن ذلك فلا أقل من استصحاب الوجوب فيما لو فعله الغير.

لأنا نقول : أما إطلاق الوجوب لفظيا ، ففيه أوّلا : أنّ المفروض هو وصول النوبة إلى الاصول العملية وعدم الاصول اللفظية. وثانيا : ما مرّ من أن فعل الغير من قبيل المسقط فلا يكون الاطلاق جاريا فيه.

وأمّا استصحاب الوجوب بعد فعل الغير ، ففيه : أنه كاستصحاب الوجوب فيما لو صلّى بلا تحنك في ظرف الشك في اعتباره في الصلاة وإجراء أصالة البراءة ، وقد حقق في محله (1) المنع من هذا الاستصحاب لكونه من قبيل الاعتماد على استصحاب الوجوب في مقام أصالة الاشتغال ،

ص: 370


1- لاحظ ما ورد في ذيل حاشيته قدس سره على فوائد الاصول 4 : 162 - 163 في المجلّد الثامن.

يعني أنّه حينئذ لاحراز ما هو محرز بالوجدان.

فصار الحاصل فيما نحن فيه هو : أن مقتضى الأصل اللفظي هو اعتبار المباشرة بخلاف مقتضى الأصل العملي فيها. وهذا الأصل اللفظي إنّما نشأ من إطلاق النسبة البعثية وإن كان إطلاق نفس المادة قاضيا بالشمول لعدم المباشرة ، إلاّ أنّ قضية وقوع المادة في حيّز النسبة الطلبية حاكم عليه. أما إطلاق الوجوب فهو لو تمّ وسلم عن إشكال عدم جريانه في المقام لكونه من قبيل مقام الاسقاط ، يكون في النتيجة موافقا لما ذكرناه من الأصل اللفظي القاضي باعتبار المباشرة ، فلاحظ وتأمل.

تنبيه : قال في الحاشية - تعليقا على قول شيخنا قدس سره فيما حكاه عنه بقوله القسم الأول وهو السقوط بفعل الغير ينقسم إلى السقوط بفعل الغير مع الاستنابة وبدونها - ما هذا لفظه : لا وقع لهذا التقسيم ... إلخ (1).

ولا يخفى أن شيخنا قدس سره إنما قسّم هذا التقسيم أعني النيابة مع الاستنابة وبدونها ليرتّب عليه قول من قال إن المقام من باب التسبيب ، وهو قدس سره وإن ردّ هذا القول إلا أنه إنما يتصور هذا القول في الاستنابة دون مجرد النيابة ، ثم بعد ردّ هذا القول رتّب عليه مسلكه من إرجاع الاستنابة في الاصدار إلى كونه أحد طرفي الواجب التخييري لتدخل المسألة في مسألة الواجب التخييري والتمسك لنفيه باطلاق الخطاب القاضي بالتعيين ، كلّ على مسلكه في الواجب التخييري ، ومن الواضح أن هذا أعني كونه من قبيل الواجب التخييري إنما يتأتى في الاستنابة دون النيابة المجردة ، أما النيابة المجردة أو الفعل المجرد عن النيابة فطريقة التمسك لنفيه بالاطلاق ليست هي طريقة نفي

ص: 371


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 147.

الوجوب التخييري ، بل راجعة إلى التمسك باطلاق الوجوب وعدم اشتراطه بعدم فعل الغير ، نعم إن قول المحشي « فكما أن قولنا صام زيد له ظهور في صدور الصوم من نفس زيد فكذلك قولنا فليصم زيد ... » لا بأس به ، وقد شرحنا هذه الطريقة فيما تقدم (1) ، إلاّ أنه تمسك باطلاق النسبة وهي المباشرية ، ولا دخل لذلك باشتراط الوجوب ، فلا وقع لقوله : ولم ينصب قرينة على اشتراط الوجوب بعدم صوم غيره فيتمسك باطلاق كلامه في دفع احتمال الاشتراط المزبور.

ثم إن قوله : وإذا لم يكن هناك إطلاق فالمرجع هو استصحاب بقاء التكليف ... إلخ ، محل تأمل ، لأن ذلك إنما هو فيما لو تقدم عدم فعل الغير ، أما لو لم يتقدم بل قارن توجه التكليف فعل الغير أو تقدم فعل الغير فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل يكون المرجع هو البراءة كما أشار إليه شيخنا قدس سره فيما نقله عنه بقوله : إلا أن التحقيق أن الشك في الاشتراط والاطلاق إن كان من أوّل الأمر ... إلخ (2).

نعم ربما لا يتصور له مثال فيما نحن فيه كما يشعر به كلام شيخنا قدس سره ولذلك التجأ إلى التمثيل لذلك بمسألة الأقل والأكثر فلاحظ.

قوله : أو حكما فيما إذا لم يكن كذلك كما إذا شككنا في أنّ الحج الواجب على المريض غير المتمكن من المباشرة هل يسقط بفعل الغير تبرعا ... إلخ (3).

لا بد في فرض المسألة من كون الاستطاعة في حال المرض ليكون

ص: 372


1- في صفحة : 369.
2- أجود التقريرات 1 : 151.
3- أجود التقريرات 1 : 151.

الخطاب متوجها إليه باعتبار الطرف الآخر من التخيير وهو الاستنابة في الاصدار ، فإذا فعله الغير عنه بلا استنابة يكون الشك متعلقا ببقاء ذلك الوجوب ويلزمه الاستنابة. وهذا إنما يتم على مسلك شيخنا (1) من إرجاع الاستنابة إلى أحد عدلي الواجب التخييري ليكون ذلك أعني الاستنابة هو المتعين بعد فرض عدم التمكن من المباشرة للمرض أو الموت بالنسبة إلى التكاليف الحادثة بعد الموت. ونحن إذ سددنا باب الوجوب يشكل علينا الحال في هذه النيابات التي يكون التكليف فيها ساقطا عن المنوب عنه لمرض كما في الحج لو كان الاستطاعة بعد المرض أو لموت كما في النيابة عن الميت قبل سنين في مثل صلاة الظهر من هذا اليوم أو في مثل زيارة عرفة من هذه السنة ، ولا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بأنه بعد ورود الدليل على صحة هذه النيابة نستكشف منه كفاية الملاك في التقرب ، وإن لم يكن ذلك الملاك مؤثرا في توجه التكليف الى المنوب عنه لمانع من تكليفه أعني المرض أو الموت. أما إذا لم يكن في البين ذلك الدليل فلا نحكم بصحة النيابة لعدم إحراز الملاك أوّلا ، ولعدم صلاحيته للتقرب والامتثال ثانيا ، هذا كله فيما لو كان حصول الاستطاعة المالية بعد ابتلائه بالمرض.

أما لو كانت قبل ذلك ولكنه عصى وأخر حتى ابتلي بالمرض المزمن فليس الكلام فيه منحصرا بالنيابة ، بل إن محل الكلام فيه هو أنّه هل لا يصح له الاستنابة ولا النيابة ، بل يبقى مشغول الذمة حتى الموت ويقضى عنه بعد وفاته نظير الصوم الذي انشغلت ذمته به ولا يمكنه قضاؤه بنفسه لأجل المرض ، أو أنه تشرع له الاستنابة ، وحينئذ يكون حاله حال من

ص: 373


1- أجود التقريرات 1 : 150.

استطاع في حال المرض. فلو لم يستنب لكن قد تبرع بعض الناس بالنيابة عنه فهل يجزئه ذلك أو لا بد من الاستنابة من جديد.

قوله : وأمّا إذا كان الشك في عدم وجوبها لعارض بقاء ، فمقتضى القاعدة هو استصحاب وجوب الصلاة مع السورة ... إلخ (1).

كما لو شككنا في أنّ الاستعجال مسقط لوجوبها ، ولكن ليس في البين خصوصية لوجوب السورة في ضمن مسألة الأقل والأكثر ، بل كل ما هو محتمل الوجوب إذا كان أصل وجوبه مشكوكا يكون موردا للبراءة. أمّا إذا ثبت وجوبه ولكن طرأت حالة يحتمل معها سقوط ذلك الوجوب ، فإنّ الاستصحاب الجاري في بقاء الوجوب حاكم ببقائه ما لم يكن في البين شبهة تبدل الموضوع.

وعلى كل حال ، لو كان المقام أعني فعل الغير من باب كونه مسقطا للتكليف صحّ فيه الاستصحاب. أما إذا كان من باب كون عدمه شرطا في التكليف ، فالتكليف المعلوم الجعل إنّما هو في حال عدم فعل الغير ، ولم يعلم جعله في حال انتقاض ذلك العدم بالوجود ، فيشكل جريان الاستصحاب فيه ، لا من جهة كونه شكا في المقتضي ، لأن يجاب عنه بأن المراد به ما لم يحدث حادث يوجب الشك ، بل لاحتمال مدخلية العدم فيه ، فيكون من قبيل الشك في الموضوع ، إلاّ أن يجاب عنه بالاتحاد العرفي. وهكذا الحال في مسألة السورة ، فإن كان احتمال سقوطها لأجل احتمال كون وجوبها مشروطا بعدم الاستعجال يأتي فيه إشكال تبدل الموضوع ، وإن كان احتمال سقوطها من جهة كون الاستعجال رافعا لملاك

ص: 374


1- أجود التقريرات 1 : 151.

وجوبها ، كان حاله حال الشك في المسقط فيجري فيها الاستصحاب بلا مانع.

قوله : نعم تمتاز صيغة افعل عن سائر الأفعال في الدلالة على الاختيارية من وجهين ... إلخ (1).

الانصاف أن هذين الوجهين خصوصا الثاني منهما من أقوى أدلة القول بأنّ مقتضى الأصل اللفظي هو العبادية كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) ، لأنّ الغرض إذا كان هو جعل الداعي وكان ذلك موجبا لتقيد الفعل به كان ذلك عبارة اخرى عن تعلق الارادة به بداعي الأمر ويكون التقيد بذلك تقيدا قهريا. أمّا الأمر الأول فهو وإن لم يقتض إلاّ الحسن الفاعلي المتوقف على القصد إلاّ أن القصد لمّا لم يكن قابلا لتعلق الأمر به كان الوصول إلى تحققه منحصرا بايجاد الداعي ، فيرجع الأول إلى الثاني ، هذا.

ولكن الذي ينبغي هو خروج الوجوب التعبدي عن هذا البحث ، إذ لا إشكال في أنّ مقتضى عباديته هو اعتبار القصد فيه وزيادة قصد القربة أو كونه بداعي الأمر. نعم مع قطع النظر عن هذه الجهات يمكننا القول في هذا المقام بعين ما قلناه في المباشرة ، وأن الظاهر إطلاق مفاد الصيغة وتعلقها بالمادة. وإن شئت فقل : الظاهر من إطلاق النسبة البعثية والتحريكية هو دخول القصد في المبعوث إليه على وجه يكون الاكتفاء بنفس المادة العارية عن القصد محتاجا إلى مئونة زائدة على أصل النسبة البعثية إلى المادة ، وحيث لم تتحقق تلك العناية يكون اللازم في الاكتفاء وتسديد حساب الآمر هو تقيدها بالقصد ، هذا من ناحية الأصل اللفظي.

ص: 375


1- أجود التقريرات 1 : 153.
2- في صفحة : 466 وما بعدها.

وكذلك الحال من ناحية الأصل العملي ، فإنّ المرجع فيه هو البراءة من التقييد المذكور على حذو ما تقدم في مسألة المباشرة. ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده شيخنا قدس سره (1) في كون المرجع من الاصول اللفظية هو إطلاق الوجوب ، ومن العملية هو الاستصحاب على حذو ما ذكره في اعتبار المباشرة.

ويمكن أن يقال بالفرق بين المقامين : فانا وإن قلنا بأن المباشرة قيد في الفعل المأمور به يقتضيه إطلاقه ، إلاّ أنه قدس سره (2) أفاد هناك أن المسألة راجعة إلى الشك في إطلاق الوجوب ، وهذا إنما يكون له صورة في المباشرة المقابلة بفعل الغير. أما ما نحن فيه من الاختيارية والقصد في قبال فعل الشخص نفسه لكنه من دون قصد واختيار ، فإنّ المتعين فيه هو الاطلاق في ناحية المادة والنسبة البعثية ، وتكون المقابلة بين الفعل القصدي والفعل غير القصدي عين المقابلة بين الصلاة إلى القبلة والصلاة لا إلى القبلة ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل الشك في تقيد المأمور به ، فإن كان في البين إطلاق يقتضي تقيده وهو ما ذكرناه من إطلاق النسبة البعثية القاضية باعتبار القصد والارادة ، وإلاّ كان المرجع هو اصالة البراءة ، فلا تكون مسألتنا الا من قبيل مسألة الأقل والأكثر. ولا تزيد عليها إلا من ناحية وجود الأصل اللفظي القاضي باعتبار القصد.

نعم ، يمكن أن يقال : إن الأصل اللفظي من ناحية إطلاق النسبة البعثية إذا سقط ، يكون المرجع هو إطلاق المادة ، وهو قاض بعدم اعتبار القصد ، ولا يرجع إلى أصالة البراءة من لزوم القيد إلاّ بعد سقوط هذا الأصل اللفظي

ص: 376


1- أجود التقريرات 1 : 154.
2- أجود التقريرات 1 : 149.

الثاني فلاحظ.

ولا يخفى أن الحسن الفعلي أو الفاعلي إنّما هو في العباديات دون التوصليات ، إذ لا يعتبر فيها إلاّ المصلحة وليست هي متقومة بالقصد ، بل إن أصل اعتبار القصد إنما يتم في العباديات ، إذ لا إشكال في اعتباره فيها ، أما التوصليات فانما يظهر الكلام فيها فيما لم يكن مذهبا للموضوع كتطهير الثوب ونحوه على وجه لو قلنا باعتبار القصد ووقعت من المكلف بلا قصد كان اللازم عليه الاعادة ، وفعلا لا أتخطّر مثالا لذلك ليظهر الأثر فيه.

وبالجملة : لا أثر لهذا النزاع إلاّ أن يقال : إن التوصلي وإن لم يكن قابلا للاعادة إلاّ أنا لو قلنا باعتبار القصد فيه كان ترك القصد فيه نظير ترك الواجب الذي لا قضاء له في أنه لا أثر له إلاّ العصيان ، ولكن مع هذا التكلف لا يتم ، إذ لا يعقل أن يكون ترك القصد مولدا للعصيان لعدم كونه اختياريا. فالأولى إسقاط هذا الأمر الثاني كما أن الأولى إسقاط الأمر الثالث لعدم الأثر في العباديات ، أما التوصليات فلا يكون فيها ما هو مأمور به ومنهي عنه ، وفي التركيب الانضمامي لا يكون في البين ما يوجب فساد المأمور به التوصلي كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

ثم لا يخفى أن محل البحث إنما هو في اعتبار كون الفعل مرادا في قبال كونه واقعا منه سهوا أو نوما أو قهرا عليه على وجه لا تتعلق به إرادته كما لو حمل واخرج في مسألة التفرق عن مجلس البيع ، وليس هو في قبال الفعل الممتنع على المكلف أعني ما لا يكون مقدورا للمكلف ، وحينئذ فلو التزمنا بأنّ الفعل المأمور به لا بد أن يكون حسنا في نفسه ، ولا بد أن يكون

ص: 377


1- في صفحة : 385.

ذا مصلحة وذا ملاك بناء على المذهب المنصور من أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلق ، وأن ما يحكم العقل بحسنه يحكم الشرع بوجوبه ، وأن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، فلا بد لنا من الالتزام بأنه لا يتصف بذلك الحسن حتى تتعلق به الارادة ، وإلاّ فإنّ الفعل من الساهي والنائم لا يتصف بحسن ولا بقبح ، ومن الواضح أن الفعل الذي يكون حسنا في نفسه لو صدر بالارادة يكون واجدا للحسن الفاعلي كما أنه واجد للحسن الفعلي.

نعم ، يمكن مناقشة شيخنا قدس سره من جهة قوله : نعم الحسن الفعلي لا يتخلف عن الفعل سواء صدر بالاختيار أم لا ... إلخ (1) ، فإنّك قد عرفت أن الحسن الفعلي منوط بالارادة أيضا ، اللّهم إلاّ أن يريد بالحسن الفعلي هو مجرد المصلحة في الفعل في حد نفسه وإن لم يكن حسنا لكنه بعيد.

ومنه يظهر لك التأمل من جهة اخرى وهي أنّ لنا قضيتين ، وهما أن الأحكام تابعة للمصالح في المتعلقات ، وأنّ ما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه ، والناتج من ذلك هو أن ما يحكم الشرع بوجوبه لا بد فيه من وجود صلاح ، أما أنّه لا بد من كونه حسنا فعلا أو فاعليا فذلك أمر آخر يحتاج في إثباته الى دعوى أن كل ما حكم الشرع بوجوبه فهو حسن بحكم العقل وهو موجب للحسن الفعلي والفاعلي ، وهذه الدعوى غير معلومة الثبوت إلاّ إذا ادعينا أنّ كل ما فيه مصلحة من الأفعال فهو حسن بحكم العقل ، وهي غير بعيدة ، فنحن بعد علمنا بوجوب الفعل الفلاني نستكشف أن فيه مصلحة ، وكل ما فيه مصلحة هو حسن فعلا ، وكل ما هو حسن فعلا

ص: 378


1- أجود التقريرات 1 : 153 - 154 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

لا بد فيه من القصد وهو ملازم لحسنه الفاعلي.

وبناء على ذلك لا يرد عليه ما في الحاشية من قوله : لا يخفى أنه لا موجب لاعتبار الحسن الفاعلي في اتصاف الفعل الخارجي بكونه مصداقا للواجب بعد ما كان الوجوب ناشئا عن الملاك القائم بالفعل ومن حسنه في نفسه ... إلخ (1) إلا إذا أمكننا التفكيك بين المصلحة والحسن الفعلي ، أما بعد الالتزام بكون الأمر قاضيا بالملاك أعني المصلحة وبالحسن الفعلي فلا مندوحة عن الالتزام بالحسن الفاعلي ، لما عرفت من توقف الحسن الفعلي على القصد ، وهو أعني كون الفعل مقرونا بالقصد عين الحسن الفاعلي.

نعم ربما حصل التفكيك بين الحسن الفعلي والحسن الفاعلي فيما لو انضم الى الفعل فعل آخر كما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الاولى فانّه قدس سره (2) قد ادعى عدم صحة الصلاة لعدم الحسن الفاعلي وإن كانت مشتملة على الحسن الفعلي فراجع.

ثم إنّك قد عرفت أن قوام الحسن الفاعلي هو القصد الى الفعل في قبال كونه عن سهو أو عن نوم ، ولا دخل لذلك بقصد القربة الذي هو قوام العبادية الذي هو عبارة عن القصد بداعي الأمر ، فإنّه بناء على اعتبار الحسن الفاعلي المتوقف على القصد والارادة يكون ذلك قدرا مشتركا بين التعبدي والتوصلي ، ويزيد التعبدي على التوصلي أنه لا بد فيه من كون ذلك القصد واقعا بداعي الأمر ، فلا يرد عليه ما في الحاشية المذكورة من قوله : على أن لازم ذلك أن لا يتصف الفعل الخارجي إذا لم يؤت به بداعي التقرب بكونه مصداق الواجب ولو كان الوجوب توصليا ، ضرورة أن مجرد صدور الفعل

ص: 379


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 153.
2- أجود التقريرات 1 : 155 ، راجع أيضا أجود التقريرات 2 : 180 - 181.

عن الاختيار لا يكفي في اتصافه بالحسن الفاعلي مع أنّه واضح البطلان ... إلخ (1) لما عرفت من أن صدور الفعل الحسن مقرونا بالقصد والاختيار هو عين الحسن الفاعلي ، ولا دخل لذلك بقصد القربة الراجعة إلى كون ذلك القصد واقعا بداعي الأمر.

نعم ، قد يدعى أن هذا القصد لمّا كان ناشئا عن داعي الأمر باعتبار كون الأمر مولدا للداعي على قصد الفعل وإرادته يكون موجبا للعبادية ، لكنه بحث آخر هو راجع الى الوجه الثاني ولا دخل له بما تضمنته الحاشية المذكورة من توقف الحسن الفاعلي الذي قوامه الاقتران بالقصد على حصوله بداعي التقرب فلاحظ.

اللّهم إلاّ أن يكون المراد بالحسن الفاعلي هو الاتيان بالفعل بقصد الطاعة ، فإذا أتى به المكلف ولو مع القصد والشعور والارادة لا يكون ذلك محققا للحسن الفاعلي ، ولازم ذلك أن لا ينطبق الواجب التوصلي على ذلك الفعل لخلوّه عن الطاعة التي هي حينئذ عبارة عن الحسن الفاعلي.

ولكن لا يخفى ما فيه ، أمّا أوّلا : فلأن الحسن الفاعلي لا يتوقف على الطاعة ، فإنّ الملحد يلتزم بالحسن الفعلي وبالحسن الفاعلي مع أنّه لا يقول بلزوم الاطاعة.

وأمّا ثانيا : فلأنا لو سلّمنا توقف الحسن الفاعلي على قصد الطاعة ، كان القول باعتبار الحسن الفاعلي في الواجب عبارة اخرى عن اعتبار الطاعة في كل واجب ، فلا يحتاج في ردّه إلى هذا التطويل ، بل يكفي في ردّه المنع من اقتضاء كل أمر لاعتبار الطاعة في متعلقه. ولا يخفى أن الطاعة من

ص: 380


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 153.

جملة الأفعال التي يحكم العقل بحسنها ، إلاّ أنّها لمّا كانت قصدية كان حسنها الفعلي عين حسنها الفاعلي ، فلاحظ وتدبر. وقد عرفت في صدر البحث أن الواجب التعبدي خارج عن هذا البحث ، لأنّ دليل عباديته يتكفل باثبات اعتبار ما فوق القصد المجرد باتيانه بداعي التقرب أو بداعي الأمر.

ومن ذلك يظهر لك الاشكال فيما تضمنته الحاشية المذكورة من الايراد على الوجه الثاني بقوله : أوّلا إنّه ( أعني الوجه الثاني ) لا ينافي سقوط التكليف ... إلخ (1) فان سقوط التكليف فيما إذا أتى بالفعل سهوا لأجل دليل يدل على ذلك لا ينافي ما أفاده شيخنا من الوجه الثاني وانه لو خلي ونفسه يقتضي اعتبار القصد في متعلق الأمر ، إذ لا ريب في أنه مع الدليل الخاص يرفع اليد عما يقتضيه الأمر من عدم سقوطه إلا بالقصد.

وأما ما تمسك به المحشي من إطلاق المادة وأن التقييد بالقدرة عقلي ، فقد عرفت أن ظهور الأمر في القصد ينفي إطلاق المادة في شمولها لما لا قصد فيه. وأما ما اعترف به شيخنا قدس سره (2) في مسألة الضد من صدق المأمور به فيما لو حصلت المادة مع عدم القدرة فذلك أمر آخر لا دخل [ له ](3) بما لو صدرت لا عن قصد.

وأما ما ذكره المحشي في الحاشية المذكورة ثانيا بقوله : إن الدعوى المزبورة إنما تتم على مذهب من يرى أن المنشأ بالصيغة إنما هو مفهوم الطلب أو البعث أو النسبة الايقاعية أو ما يقاربها من المفاهيم ، وأما على ما حققناه من أنّه ليس إلاّ إظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ...

ص: 381


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 153.
2- أجود التقريرات 2 : 25 وما بعدها.
3- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

إلخ (1).

فيمكن الخدشة فيه أوّلا : منع ذلك المبنى وإلا لعاد الانشاء إخبارا. وأن اعتبار كون المادة في ذمة المكلف لا يكون إلاّ بجعلها في ذمته.

وثانيا : أنا لو سلّمنا صحة ذلك المبنى لتأتى فيه عين التقريب الذي أجراه شيخنا قدس سره (2) في الصيغة بناء على أنّها لانشاء الطلب والبعث من التمسك بجعل الداعي ، فكما يكون الغرض من إنشاء البعث والطلب هو جعل الداعي وبه يتم المطلوب ، فكذلك يكون الغرض من إظهار اعتبار المادة في ذمة المكلف هو جعل الداعي. وإن شئت فقل : إنّ الغرض من اعتبار المادة في ذمة المكلف ومن إظهار ذلك الاعتبار هو جعل الداعي وتوليده في ناحية المكلف على وجه يكون ذلك مولدا للداعي في ناحية المكلف. فاستوت الطريقتان في أن الغرض من التكليف هو جعل الداعي وتوليده ، وإذا وصلت النوبة إلى ذلك يتم المطلوب المدعى الذي هو كون القصد داخلا في حيّز المأمور به على وجه لو أوجد المكلف الفعل ساهيا أو نائما لم يكن المأمور به منطبقا عليه ، بل كان خارجا عن هذه السلسلة أعني إحداث الداعي والمدعو إليه على ما أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه في الوجه الثاني.

نعم ، إن الوجه الثاني وكذلك الوجه الأول لو تمّا كانا من أدلة كون الأصل اللفظي قاضيا بالعبادية على ما سيأتي بيانه فيما بعد (3) عن الحاج الكلباسي قدس سره في الاشارات.

ص: 382


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 153.
2- أجود التقريرات 1 : 154.
3- في صفحة : 481 - 482 ، 466.

قوله في الحاشية المشار إليها : وأما على ما حققناه من أنّه ليس إلاّ إظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ، فلا موجب لاشتراط التكليف بالقدرة أصلا ، غاية الأمر أن العقل يعتبرها في موضوع حكمه في مرحلة الالزام بالامتثال ... إلخ (1).

لا يخفى أن كلامه مع شيخنا قدس سره إنما هو في اعتبار القصد والاختيار في قبال الفعل الصادر سهوا ونوما ، ولا دخل لذلك بمسألة القدرة وأنها شرط في الأمر أو قيد في المأمور به أولا هذا ولا ذاك ، وإنما هي بحكم العقل بمعنى كونه شرطا في وجوب الطاعة الذي يحكم به العقل ، أو أنّها شرط في الخطاب الشرعي لا في الملاك ، هذه أبحاث أخر لا ربط لها بما هو محل البحث في هذا المقام أعني كون المأمور به منحصرا بالقصد والاختيار ، ولا يشمل ما يقع سهوا ونوما ونحو ذلك من سوالب القصد والارادة والاختيار ، فإن ذلك أعني ما يصدر سهوا أو نوما وإن كان غير مقدور ، إلا أن محل البحث فيه ليس من ناحية كونه غير مقدور وإلا كان الأمر فيه سهلا باعتبار كونه مشمولا للمأمور به لفظا وخروجه بحكم العقل كما سيأتي البحث فيه مع المحقق الثاني في أوائل الترتب (2) ، بل إن البحث فيه من ناحية كونه فاقدا للقصد ، والمدعى هو أن متعلق الوجوب والطلب مقيد بكونه صادرا عن القصد ، وأنه لو اتفق صدور الفعل الواجب في حال السهو أو النوم لم يكن مجزيا ولم ينطبق عليه المأمور به ، فلا مورد للسؤال بقوله : فان قلت : ما هي الفائدة ... إلخ ، ولا لجوابه بقوله : قلت : فائدته اجتزاء المكلف ... إلخ (3).

ص: 383


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 153.
2- بل قبله ، راجع الحاشيتين الآتيتين في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 136 و 144.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 154.

ثم إنه قال في آخر الحاشية المذكورة : فتحصل أنه لا مانع من إثبات عدم اعتبار تقيد المأمور به بالقدرة شرعا باطلاق الدليل إن كان ، وإلا فالمرجع هي أصالة البراءة للشك في اعتبار أمر زائد ... إلخ.

تقدم (1) الكلام في أنه لو تمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من الوجهين لكان مقتضاهما هو كون الفعل عباديا ، وإن لم يتم شيء منهما يمكننا إجراء عين الطريقة التي ذكرناها في مسألة اعتبار المباشرة بدعوى أن قضية النسبة البعثية هو الصدور عن قصد واختيار ، وأن الاكتفاء بنفس صدور الفعل لا عن قصد واختيار محتاج إلى المئونة الزائدة ، فيكون مقتضى الأصل اللفظي من ناحية النسبة البعثية هو التقيد بالقصد والاختيار ، وإن كان نفس المادة لا تقييد فيها بمعنى أنها غير مقيدة بالقصد لكونها في حدّ نفسها شاملة للمقصود وغيره لا أنها شاملة للمقدور وغيره ، لما عرفت من أنه ليس المقام براجع إلى اعتبار القدرة. نعم إن الاطلاق من ناحيتها من أي جهة كان يكون ساقطا بازاء إطلاق النسبة البعثية القاضية باعتبار القصد ، ومع قطع النظر عن قضية إطلاق النسبة البعثية القاضي باعتبار القصد يكون المرجع هو إطلاق المادة القاضي بعدم اعتبار القصد ، ولو سقط هذا الاطلاق أيضا كان المرجع في اعتبار القصد والاختيار هو البراءة كما ذكرناه في مسألة اعتبار المباشرة ، فلاحظ وتدبر.

قوله : وأمّا القسم الثالث وهو السقوط بفعل المحرم ... إلخ (2).

لا يخفى أن المقصود من فعل المحرم هو ما يكون متحدا معه ومنطبقا عليه. ومنه يعلم اختصاص هذا البحث بالواجب التوصلي ، أما الواجب التعبدي فلا ريب في تقيده بأن لا يكون محرما لعدم معقولية

ص: 384


1- في صفحة : 375.
2- أجود التقريرات 1 : 154.

التقرب بالمحرم ، وحينئذ نقول لو كان دليل التحريم أخص مثل اغسل ثوبك ولا تغسله بالمغصوب خرج الثاني من الأول ، وكذا لو كان العكس بأن كان دليل الأمر أخص من النهي مثل النهي عن الكذب والأمر به فيما إذا ترتب عليه إنجاء نبي. ولو كان بينهما عموم من وجه وقع بينهما التعارض مثل اغسل ثوبك ولا تغصب الماء ومثل خلّص المؤمن من القتل ولا تكذب أو مثل أصلح بين أخويك بالقياس إلى قوله لا تكذب. فإن كان في البين تقديم فهو ، وإلا كان المرجع بعد التساقط هو الأصل. أما لو كان التركب انضماميا مثل الأمر بالرياضة البدنية ولا تغصب وقد فعل ذلك في الأرض المغصوبة ، دخلت المسألة في مبحث الاجتماع. وعلى القول بالامتناع يكون حالها حال التركب الاتحادي ، وعلى الجواز من الجهة الاولى تدخل في باب التزاحم. وهنا يؤثر الحسن الفاعلي لكن في خصوص ما لو كان الواجب من العبادات ، أما التوصليات فلا يؤثر عليها عدم الحسن الفاعلي أو القبح الفاعلي ، بل يكون المورد مصداقا للواجب وإن كان من الجهة الاخرى موردا للنهي.

نعم ، لو قلنا بأن صلاح الفعل عبارة عن حسنه ، وأن اعتبار حسنه الفعلي يوجب اعتبار حسنه الفاعلي ، كان المورد خارجا عن الواجب ، لكنك قد عرفت (1) المناقشة في ذلك في مسألة اعتبار القصد فلاحظ.

أما الأول وهو موارد التركب الاتحادي فلا مورد فيه للحسن الفاعلي ، لأنّ خروج الغسل بالماء المغصوب عن عموم الأمر بغسله خروج واقعي ولا دخل فيه للقبح أو الحسن الفاعليين ، لكن لو احتملنا أن ما هو المحرّم

ص: 385


1- في صفحة : 378.

أعني الغسل بالمغصوب يكون رافعا للنجاسة التي قد علمنا أنه ليس المطلوب بهذا الأمر إلاّ رفعها ، أو أنه يكون رافعا للملاك ، لم يكن ذلك إلا من قبيل المسقط ، وكان المرجع فيه هو أصالة الاشتغال أو استصحاب الوجوب أو استصحاب موضوع ذلك الوجوب أعني النجاسة ، ولا مجال فيه للتمسك باطلاق الوجوب وشموله لما إذا غسله بالمغصوب ، لما عرفت من عدم جريان الاطلاق في أمثال هذه المقامات ممّا يرجع إلى عالم المسقط.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما في الحاشية بقوله : نعم بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي فلا مناص عن القول بعدم السقوط ... إلخ (1) فإنّ النهي وإن أخرج مورده عن المأمور به فكان المأمور به مقيدا بما عداه ، إلاّ أنّ بحال الشك في سقوطه بالمحرم باعتبار أنه وإن لم يكن من المأمور به إلاّ أنه من المحتمل إسقاطه الأمر بأحد الأنحاء التي ذكرناها ، لم يكن لنا بدّ من نفي الاعتناء بهذا الاحتمال باستصحاب الوجوب أو استصحاب موضوعه ، أو لا أقل من الرجوع إلى أصالة الاشتغال ، فلاحظ.

وأما ما ذكره من أنّ مقتضى القاعدة هو السقوط في مورد الاجتماع بناء على الجواز ، ففيه ما تقدمت الاشارة إليه من أن ذلك إنما يتم لو كان الوجوب توصليا ، أما لو كان تعبديا فانه لا بد من الالتزام بعدم السقوط للقبح الفاعلي المانع من قصد القربة كما حقق في محله في مبحث الاجتماع (2).

ومن جميع ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده شيخنا قدس سره من كون

ص: 386


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 155.
2- في الصفحة : 90 وما بعدها من المجلد الرابع من هذا الكتاب ، وراجع أجود التقريرات 2 : 180 - 181.

المرجع من الاصول اللفظية هو إطلاق الوجوب ، لما عرفت من أنه لا مورد في هذه المقامات لاطلاق دليل الوجوب بعد فرض خروج المحرم عن تحت الواجب ، وإنما يحصل الشك في كون المحرّم مسقطا للوجوب ، وحينئذ يكون المرجع في هذا الشك هو استصحاب الوجوب أو أصالة الاشتغال.

قوله : وحيث إن التعبد أمر قصدي فلا محالة يكون بأحد الدواعي القربية منها قصد الأمر ... إلخ (1).

قال في الكفاية : إنّ التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره ، كان ممّا يعتبر في الطاعة عقلا ... إلخ (2) قد شرحنا في أوائل القطع فى مبحث جواز الاحتياط في العبادات (3) ، أن الأمر بنفسه لا يعقل كونه داعيا للمكلف ، لأن الداعي عبارة عما يكون بوجوده الواقعي معلولا لفعلك ، وبوجوده العلمي التصوري علة لارادتك المتعلقة بفعلك ، بمعنى أن تصورك لتلك الثمرة المترتبة على فعلك يكون داعيا لارادتك ذلك الفعل ، ومن الواضح أن الأمر بوجوده الواقعي لا يكون معلولا لفعلك ، فلا بد أن يكون الداعي هو امتثال الأمر وجعل الداعي هو نفس الأمر مسامحة. ولأجل ذلك عطف في الكفاية قوله « بداعي الامر » على « قصد الامتثال » ومراد شيخنا قدس سره من قصد الامتثال هو هذا المعنى ، يعني كون الامتثال بوجوده التصوري داعيا ومحركا لارادة المكلف. ويشهد بذلك قوله : وحيث إنا فرضنا من جملة الأجزاء والقيود نفس قصد الامتثال

ص: 387


1- أجود التقريرات 1 : 155.
2- كفاية الاصول : 72.
3- في المجلّد السادس في الحاشية على قول الماتن قدس سره : ولا يقاس الشك ...

الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذلك الأمر ... إلخ (1).

وبالجملة : أنّ نفس الأمر ليس من الدواعي بالمعنى المذكور أعني ما يكون ترتبه على الفعل هو المقصود من ذلك الفعل بل إنّ امتثاله هو من الدواعي. ويستفاد من هذه العبائر أن قصد الأمر عبارة اخرى عن قصد امتثاله ، ومعنى قصد الامتثال هو كون الامتثال غاية من الاقدام على الفعل ، فيكون ذلك هو الداعي الذي يكون بوجوده الواقعي مولّدا عن الفعل وبوجوده التصوري موجبا لتولد الارادة المتعلقة بالفعل.

أما توهم كون المراد من كون الأمر داعيا هو المحركية والسوق الخارجي ، بمعنى أنه لمّا كان عبارة عن البعث والتحريك كان حركة العبد نحو الفعل بتحريكه ، فليس ذلك من سنخ الدواعي بل هو سنخ علل الفعل. وكذلك توهم كون الأمر يعطي الفعل عنوانا حسنا مرغوبا للمأمور وهو كونه مأمورا به ، وهذا العنوان يوجب رغبة المأمور بذلك الفعل. ويمكن إرجاع الوجهين إلى الوجه الأول أعني ما يكون بوجوده الخارجي معلولا للفعل وبوجوده العلمي علة للارادة ، فإن كون عنوان المأمور به داعيا عبارة اخرى عن كون الحصول على المأمور به في الخارج داعيا ، وكذلك كون الأمر سائقا فإنّه إنما يسوق المكلف إلى الفعل لأنّه يولد في حقه الداعي إلى الفعل الذي هو كون الفعل محصلا للاطاعة والامتثال.

والذي يظهر من تقرير درس السيد البروجردي ( سلمه اللّه تعالى ) (2) هو أخذ داعوية الأمر بهذا المعنى أعني السوق والتحريك الخارجي ، ولأجل

ص: 388


1- أجود التقريرات 1 : 162.
2- نهاية الاصول 1 : 117 وما بعدها [ لا يخفى أنه قدس سره ذكر أربعا من الملكات الخمس المذكورة في المصدر ].

ذلك جعل الملكات الخمسة أعني ملكة الشكر وملكة الميل إلى طاعة الخالق وملكة الميل إلى ثوابه وملكة الخوف من عقابه من قبيل الدواعي إلى فعل المأمور به ، وإن كان تحريكها متوقفا على وجود الأمر.

ثمّ إنّه جعل الأمر داعيا للفعل وسائقا للعبد نحوه ، وأفاد أنّ هذا السوق والتحريك غير منحصر بالسوق نحو ذات المأمور به ، بل جعله سائقا للعبد إلى كل ما يتوقف عليه وجود المأمور به من مقدمات عقلية وتكوينية وشرعية ، وبذلك أنكر ما هو المشهور من أن الأمر لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به. وبذلك جعل جميع المقدمات عبادية بالنظر إلى أنها إنما يؤتى بها بداعي الأمر ، وأنّ ذلك أعني عباديتها لا يتوقف على القول بأنّها مأمور بها شرعا ، فقال : بل لو قلنا بوجوب المقدمة وتعلق أمر غيري بها ، أمكن أن يقال أيضا بعدم كفاية قصده في عبادية متعلقه ، لعدم كونه أمرا حقيقيا بل هو نحو من الأمر يساوق وجوده العدم ... إلخ (1) وذلك لما أفاده من أن قصد الأمر المتعلق بذيها كاف في عباديتها لكونها في طريق إطاعة الأمر المتعلق بذيها.

وبذلك دفع إشكال عدم القدرة ، فان العبد يأتي بذات الصلاة بداعي أمرها الذي نالها من ناحية الأمر بالمركب أعني الصلاة بداعي أمرها ، وبذلك يكون قد حصل على الاتيان بالصلاة بداعي أمرها ، ويتحقق الجزء الأول وهو ذات الصلاة والجزء الثاني وهو كونها بداعي أمرها.

وهذا الجواب نظير ما يجاب به عن إشكال المصنّف على دخول اللحاظ الآلي في المعنى الحرفي ، من أنّه بناء عليه لا بد من لحاظ آخر

ص: 389


1- المصدر المتقدم : 118.

متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصور المستعمل فيه ممّا لا بدّ منه في استعمال الألفاظ ، فقد اجيب عنه بأنّ اللحاظ الذي هو شرط الاستعمال كاف في تحقق اللحاظ الذي هو جزء المعنى المستعمل فيه.

وبهذه الطريقة دفع الدور في مقام الامتثال ، فإنّ حاصل ذلك الدور هو : أنّ داعوية الأمر إلى الفعل المأمور به تتوقف على اتصافه بكونه مأمورا به ، واتصاف الفعل بكونه مأمورا به يتوقف على داعوية الأمر إلى الفعل المأمور به.

وأجاب عنه أوّلا : بأنّ داعوية الأمر إلى الفعل المأمور به لا تتوقف على اتصافه بكونه مأمورا به قبل الداعوية ، بل يكفي في ذلك اتصافه بذلك ولو بعد الداعوية.

ثانيا : بما قدّمه من أنّ ذات الفعل يتصف بكونه مأمورا به ولو بالأمر الضمني.

ولا يخفى ما في ذلك كله ، مع أنّه غير واف بدفع روح الاشكال الذي هو في مقام الجعل ، وأنّ ما هو في مرتبة الحكم أو متأخر عنه لا يعقل أخذه في مقام جعل الحكم في موضوع ذلك الحكم. وبعبارة اخرى : لا يعقل لحاظ الحكم في الموضوع في مرتبة جعل الحكم للموضوع. وهذا الاشكال نظير ما أشكله صاحب الكفاية قدس سره (1) على أخذ الآلية في المعنى الحرفي في المستعمل فيه ، باعتبار كون اللحاظ الآلي من شئون الاستعمال فلا يعقل أخذه في المستعمل فيه ، لأنّ مرتبة المستعمل فيه متقدمة على مرتبة الاستعمال.

ص: 390


1- كفاية الاصول : 11.

ثم لا يخفى أنّا قد قررنا مطلبه في الحصول على ذات الصلاة بداعي الأمر المتعلق بها ولو في ضمن الأمر المتعلق بالكل المركب منها ومن داعي الأمر ، وذلك مبني على كون داعي الأمر جزءا ، وأمّا بناء على كونه قيدا فله طريقة اخرى هي المتحصّل ممّا أفاده بعد نقل ما في الكفاية من أنّ الجزء التحليلي لا يكون مأمورا به ، قال ما هذا لفظه :

أقول : نحن لا نحتاج في إيجاد الصلاة بداعي الأمر إلى تعلق أمر بذات الصلاة كما هو محط نظره قدس سره بل نفس الأمر بالمقيد يدعو إليها أيضا ، ويكفي أيضا في مقربيتها وعباديتها إتيانها بداعي هذا الأمر ، وذلك لما عرفت في المقدمة الثانية من أنه يكفي في عبادية الأجزاء التحليلية والخارجية والمقدمات الوجودية والعلمية إتيانها بداعي الأمر المتعلق بالكل وبذي المقدمة. وقوله « لا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلق به لا إلى غيره » واضح الفساد ، فإن الأمر كما يكون داعيا إلى نفس متعلقه كذلك يكون داعيا إلى كل ما له دخل في تحققه من غير احتياج في مدعويتها للأمر إلى تعلق أمر بها على حدة ... إلخ (1).

فهو سلّمه اللّه تعالى يرى أنّ معنى داعوية الأمر هو كونه سائقا للمكلف على الحصول على متعلقه ، وهو أعني الأمر كما يسوق المكلف إلى نفس متعلقه فكذلك يسوقه إلى كل ما يتوقف عليه وجوده من المقدمات بأسرها. وهذه الصلاة بذاتها وإن لم يتعلق بها الأمر بذاتها إلاّ أنها يتوقف وجوده في الخارج عليها ، فهي في الحقيقة مقدمة وجودية للمأمور به ، فللمكلف أن يأتي بهذه المقدمة بداعي وسائق الأمر المتعلق بذيها ، وإذا

ص: 391


1- نهاية الأصول 1 : 120.

أتى المكلف بها بذلك الداعي يكون قد حصل على ذات المأمور به أعني الصلاة المقيدة بداعي الأمر ، وبذلك تنقلب المقدمة وتصير بعينها هي ذا المقدمة. ولازم ذلك هو كون الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة بداعي الأمر التي هي ذو المقدمة أمرا صوريا ليتمكن المكلف من الحصول على ذي المقدمة بالاتيان بالمقدمة بداعي الأمر المتعلق بذي المقدمة ، وبذلك تنقلب المقدمة إلى ذي المقدمة.

ولا يخفى أنّا وإن فسرنا الداعي في كلماته بالسائق المشابه للسائق التكويني نظير قول الحسين عليه السلام لأخيه الحسن عليه السلام : ما الذي دعاك إلى الصلح مع هذا الطاغية. وقول الحسن له عليهما السلام : دعاني الذي دعا أباك إلى التحكيم (1). إلاّ أنه يمكن أن يكون مراده به الداعي الاصطلاحي أعني الغاية المترتبة على الفعل ، ويكون المراد من كون الأمر داعيا هو كون امتثاله داعيا. وهذا الداعي أعني الحصول على امتثال الأمر كما يحرك إرادة العبد نحو نفس المأمور به ، فكذلك يحرك إرادته نحو ما يتوقف عليه المأمور به من المقدمات بأسرها ، بل لعل المراد بالداعي في كلامهما عليهما السلام هو هذا المعنى ، فلاحظ.

نعم ، إن إطلاقه الداعي على الملكات الخمس لا بد أن يكون المراد هو ما يساوق السائق التكويني ، ولا بد حينئذ من التسامح في ذلك وإلاّ فهو قد أطلق الداعي على الأمر ، وقد عرفت إمكان كونه على الاصطلاح من أخذ امتثاله في الداعوية. وحيث كان إطلاقه الداعي على الملكات من باب التسامح ، فلا يرد عليه ما أورده عليه المقرّر في حاشيته (2) فلاحظ. بل

ص: 392


1- مناقب آل أبي طالب 4 : 40 ( نقل بالمضمون ).
2- نهاية الاصول 1 : 117 - 118.

يمكن التأويل في إطلاق الداعي على هذه الملكات ، باعتبار أنّ من له ملكة الشكر يتوخى ويتطلب من فعله ما يترتب عليه من حصول شكر المنعم ، وهكذا بالنسبة إلى البواقي ، هذا.

ولكنك قد عرفت أنه لو سلّم ذلك كله فهو لا يدفع الاشكال الوارد في أصل الجعل من عدم معقولية لحاظ نفس الحكم في مرتبة لحاظ موضوع ذلك الحكم.

وأما ما تضمنته الحاشية على تحرير درس شيخنا قدس سره من قوله : فالأمر بالصلاة مثلا المقيدة بقصد الأمر يكون أمرا بالمجموع المركب من الفعل الخارجي والنفساني ، ومن الواضح أن الأمر بالمركب ينحل إلى الأمر بكل من الجزءين ، فيكون ذات الفعل متعلقا لحصته من الأمر الفعلي لا محالة ، كما أن جعل هذه الحصة من الأمر داعيا إلى الفعل متعلق للحصة الثانية من الأمر ، فاذا اتي بالفعل بداعي الأمر المتعلق به في ضمن الأمر بالمركب فقد تحقق تمام المركب في الخارج ... إلخ (1) فلعله ليس براجع إلى ما أفاده السيد البروجردي ( سلمه اللّه تعالى ) فيما نقلناه عن تحرير درسه من التشبث بذيل أن المقدمة وإن كانت جزءا تكون قابلة للاتيان بها بداعي امتثال الأمر المتعلق بذيها. بل كأنّه يريد بذلك مطلبا آخر ، وهو أن المركب هو مجموع الصلاة وقصد أمرها ، والأمر المتعلق بالمجموع المركب منهما أمر توصلي غير مقيد بالاتيان بذلك المركب بداعيه ، بل هو في حد نفسه توصلي. وحينئذ تكون لنا حصتان من الأمر ، وقد تعلقت الحصة الاولى من ذلك الأمر بذات الصلاة ، والحصة الثانية من الأمر تعلقت بالاتيان

ص: 393


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 160 - 161.

بالصلاة بداعي تلك الحصة من الأمر ، فإذا أتى المكلف بذات الصلاة التي هي جزء المأمور به بداعي تلك الحصة من الأمر المتعلقة بذاتها فقد حصل المكلف على تمام المركب ، وبذلك يكون قد امتثل تمام الأمر بالمركب.

ويظهر هذا الوجه من تحرير درس الاستاذ العراقي قدس سره للآملي فراجعه في جواب الوجه الثاني وفي جواب الوجه الثالث (1).

كما أنه يظهر ذلك من المقالة ، فانه قال : إذ الأمر المتعلق بالجميع وإن كان واحدا ، ولكن بملاحظة قابلية التحليل بقطعة متعلقة بالذات وقطعة اخرى متعلقة بالدعوة ، كان العلم بكل قطعة علما على حدة ، فأحدهما محرك لمحركية الآخر ، وحينئذ من أين يلزم محركية الأمر إلى محركية نفسه كي يجيء ما ذكرت من المحذور (2) قال ذلك في مقام الرد على ما أفاده المرحوم الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية فإنه قال : بل التحقيق في خصوص المقام أن الانشاء حيث إنه بداعي جعل الداعي ، فجعل الأمر داعيا إلى جعل الأمر داعيا يوجب عليّة الشىء لعلية نفسه ، وكون الامر محركا الى محركية نفسه ، وهو كعلية الشيء لنفسه ... إلخ (3).

ولا يخفى ما فيه ، فإنه عبارة عن كون الآمر في حال إيجاده الأمر بالكل ناظرا إلى لزوم الاتيان بأحد جزأي المأمور به المركب بداعي الحصة التي نالته من الأمر بالمركب. وبالأخرة أن هذه الحصة من الأمر يكون متعلقها معتبرا فيه الاتيان بداعي تلك الحصة من الأمر ، لأن المركب

ص: 394


1- بدائع الأفكار : 225 ، 226 - 228.
2- مقالات الاصول 1 : 236.
3- نهاية الدراية 1 : 325.

الارتباطي يكون كل جزء منه مقيدا بالجزء الآخر ، وحينئذ يعود الاشكال الذي فررنا منه ، أعني كون متعلق الأمر معتبرا فيه الاتيان بمتعلقه بداعيه ، غايته أن هذا الاشكال لم يكن بنحو التقييد محضا بل كان بنحو التركيب الارتباطي في ناحية المأمور به وفي ناحية الأمر ، مضافا إلى أنّ الآمر بالمركب في حال جعله الأمر على ذلك المركب لا ينظر إلاّ إلى نفس الأمر ونفس المجموع الذي تعلق به أمره ، ولا يعقل النظر منه في ذلك الحال إلى حصص الأمر وحصص المأمور به ، وأن الجزء الثاني من المأمور به يكون عبارة عن الاتيان بالحصة الاولى بداعي الحصة الاولى من ذلك الأمر المتعلق بالمركب ، ليكون حاصله هو أن الحصة الثانية من المأمور به والحصة الثانية من ذلك الأمر المتعلقة بالحصة الثانية من المأمور به تصرفا في الحصة الاولى من المأمور به التي تعلق بها الحصة الاولى من الأمر ، فكانت الحصة الثانية من الأمر تصرفا في الحصة الاولى من ذلك الأمر المتعلق بالمجموع.

ومن ذلك يظهر لك الخلل فيما ذكره بعد هذه العبارة وذلك قوله : فإنّه بناء على الانحلال المزبور يكون أحد الأمرين الضمنيين داعيا إلى داعوية الأمر الضمني الآخر ... إلخ (1) فان ذلك إنما يتصور في الأمرين المستقلين ، بأن يعلّق الأمر أوّلا بالصلاة ثم يأمر ثانيا بالاتيان بتلك الصلاة بداعي ذلك الأمر الأول كما أفاده شيخنا قدس سره (2). أما مع الأمر الواحد المتعلق بالكل فلا يعقل فيه أن تكون إحدى الحصتين من الأمر المتعلق بالمجموع داعية إلى داعوية الحصة الاخرى ، فإن الحصة الداعية إلى داعوية الحصة

ص: 395


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 161.
2- أجود التقريرات 1 : 173.

الاخرى تكون متأخرة رتبة عن الحصة الاولى ، فلا يعقل جعلهما بايجاب واحد.

والخلاصة : هي أن هذا الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الصلاة وداعي الأمر إن كان تعبديا بمعنى أنه يعتبر في ذلك المجموع المركب الاتيان به بداعي ذلك الأمر المتعلق بذلك المجموع ، كان الاشكال باقيا بحاله وزاد الطين بلة من ناحية دعوة الأمر إلى داعي نفسه. وإن كان توصليا فلما ذا يكون اللازم هو الاتيان بأحد جزأي ذلك المتعلق وهو الصلاة بداعي الحصة المتعلقة به من الأمر ، ولا بد أن يكون الجواب هو أنّ الحصة الثانية من الأمر المتعلقة بالجزء الثاني الذي هو قصد امتثال أمر الصلاة هي القاضية بلزوم الاتيان بالصلاة بداعي الحصة المتعلقة بها من الأمر بالمجموع ، وحينئذ تكون الحصة الثانية من الأمر متأخرة عن الحصة الاولى منه لكونها تصرفا في امتثال الأول ولا يعقل جعلهما بجعل واحد.

مضافا إلى أنّ هذا الواجب المركب من الصلاة وداعي أمرها ارتباطي وهو قاض بتقيد الجزء الأول بالجزء الثاني. فيكون الحاصل أن نفس الصلاة التي تعلقت بها حصتها من الأمر تكون مقيدة بوجود الجزء الثاني من ذلك المركب الذي هو كون الاتيان بها بداعي تلك الحصة ، فيعود الاشكال بعينه. ولا مجال للقول بأنّ هذا المركب غير ارتباطي ، لأن لازمه هو أنه لو جاء بذات الصلاة كان ذلك مسقطا لتلك الحصة من الأمر المتعلقة بها في ضمن الأمر المتعلق بالكل ، كل ذلك.

مضافا إلى جريان أصل الاشكال أيضا من ناحية اخرى ، وهي أن لازم ذلك أن تكون الصلاة في رتبة تعلق تلك الحصة من الأمر بها ملحوظا بها قصد الأمر ، لأن هذا اللحاظ جاءها من ناحية الحصة الثانية من الأمر ،

ص: 396

وهي في مرتبة الحصة الاولى لكونهما بقالب واحد. وبعبارة اخرى كون الحصتين مجعولا واحدا. ولا يقاس ذلك على مثل قوله « اركع ركوعا بعده السجود » لأن هذا المثال من باب تقييد الركوع بوجود السجود بعده ، فليس في البين أمر واحد منبسط على مجموع الاثنين كما فيما نحن فيه. على أن مثل قوله « صل بداعي الأمر » لا يكون إلاّ من قبيل التقييد وليس ذلك من قبيل التركيب ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي توجه الاشكال على هذه الحاشية وعلى ما أفاده الاستاذ العراقي في المقالة بقوله : إذ الأمر المتعلق بالجميع وإن كان واحدا ولكن بملاحظة قابلية التحليل بقطعة متعلقة بالذات وقطعة اخرى متعلقة بالدعوة كان العلم بكل قطعة علما على حدة ، فأحدهما محرك لمحركية الآخر ... إلخ (1) من وجوه أربعة :

الأول : أن القطعة الثانية من الأمر المتعلق بالمجموع لا يعقل أن تكون ناظرة إلى القطعة الاولى من ذلك الأمر أعني بها القطعة المتعلقة بذات الصلاة وحاكمة عليها مع كونهما مجعولين بجعل واحد. بل مع فرض كون المجعول واحدا وهو الوجوب الواحد ، غاية الأمر أن العقل يحلّل ذلك الوجوب إلى قطعتين ، فلا يعقل أن يكون البعض من ذلك الوجوب حاكما على البعض الآخر أو شارحا له.

الوجه الثاني : أن هذا الواجب المركب وإن كان توصليا إلاّ أنّ أجزاءه ارتباطية. ومعنى الارتباط هو كون الجزء الأول منه مقيدا بالجزء الثاني. فتكون النتيجة هي أن الجزء الأول الذي هو ذات الصلاة التي تعلق بها

ص: 397


1- مقالات الاصول 1 : 236.

الحصة الاولى من ذلك الوجوب تكون مقيدة بالجزء الثاني الذي هو قصد الأمر المتعلق بها أعني الحصة المتعلقة بالصلاة ، فيعود المحذور وهو كون متعلق تلك الحصة من الطلب أعني الحصة الاولى من الطلب مقيدا بداعي تلك الحصة.

الثالث : أنّ الحصة الثانية من الوجوب تكون في رتبة الحصة الاولى منه ، لما عرفت من كون الجعل والمجعول واحدا ، فكانت ذات الصلاة في رتبة تعلق تلك الحصة من الطلب بها مطلوبا بها قصد الأمر. وبالجملة كان طلب قصد الامتثال بالصلاة مقارنا في الرتبة لتعلق الحصة من الطلب بها ، ففي رتبة تعلق الحصة من الطلب بها يكون الآمر طالبا قصد امتثال الأمر بها ، وأهم هذه الاشكالات هو الأول والثاني ، فلاحظ وتدبر.

الرابع : أن لازم هذه الطريقة هو كون الحصة الثانية من الأمر بالمركب مشروطة بالحصة الاولى منه ، لأن الحصة الثانية متعلقة بالاتيان بالصلاة بداعي الحصة الاولى من الأمر التي هي متعلقة بذات الصلاة. فلا بد من أخذ الحصة الاولى مفروضة الحصول بالنسبة إلى الحصة الثانية ، وحينئذ يكون بعض الأمر الواحد المتعلق بالمركب الارتباطي شرطا في البعض الآخر منه ، وليس هو إلاّ أمرا واحدا جعلا ومجعولا.

وهذا حاصل الاشكال الذي ذكره المحشي بقوله ، فإن قلت : أخذ قصد الأمر في المتعلق ... إلخ (1) لكنّه صرفه إلى الاشكال في قدرة المكلف ، فأجاب عنه بقوله : قلت بما أن قصد الأمر وجعله داعيا إلى الفعل الخارجي من أفعال النفس ... إلخ ، وقد عرفت أن الاشكال متوجه إلى

ص: 398


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 160.

الجعل لا إلى قدرة المكلف.

هذا كله على تقدير كون المراد بالأمر في قولنا « إنّ المأمور به هو الصلاة المقيدة بداعي الأمر » هو نفس شخص الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة بداعي الأمر. وأمّا لو كان المراد به هو طبيعة الأمر الذي يكون أحد مصاديقه هو ذلك الأمر المتعلق بها ، بدعوى أن الصلاح إنما هو في الصلاة المأتي بها بداعي الأمر الكلي ، ويسري ذلك إلى ذلك الشخص من الأمر سراية قهرية لكونه أحد مصاديق الطبيعة ، فلا يرد عليه الاشكالات السابقة في أخذ شخص ذلك الأمر في متعلقه حتى على طريقة شيخنا قدس سره (1) من أخذ الأمر مفروض الوجود في الأمر.

وهذه الطريقة أعني كون الأمر هو طبيعة الأمر قد سلكها سيدنا الاستاذ السيد أبو الحسن قدس سره كما حررته عنه في درسه ، ونظّر ذلك بمثل قولك : كل خبري صادق ، في شموله لنفس هذا القول ، مع فرض أنه لم يصدر منه إلاّ ذلك الخبر.

وقد سلكها أيضا الاستاذ العراقي قدس سره في مقالته (2) ونظّر ذلك بشمول صدّق العادل للوسائط في باب حجيّة خبر العادل. ولعلّ التنظير الأول أولى ، لأنه عين مسألتنا ، حيث إنّ المأخوذ في الصلاة وإن كان هو داعي طبيعة الأمر ، إلاّ أنه لا أمر هناك إلا هذا الأمر الذي تعلق بما اخذ فيه ذلك القيد ، فيكون حاله حال قولك : [ كل ](3) خبري صادق في قصد طبيعة الخبر مع أنّك لم يصدر منك إلاّ هذه الجملة. وهذا بخلاف وجوب التصديق في

ص: 399


1- أجود التقريرات 1 : 161 - 162.
2- مقالات الاصول 1 : 239.
3- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

حق الشيخ بمعنى رتب الأثر ، فإنّه وإن انحصر الأثر فيه بلزوم التصديق إلاّ أنه في حق المفيد لا في حق الشيخ ، فيمكن التعدد أو التغاير بين الموضوع والحكم من هذه الناحية.

نعم ، إن في نفس المثال الذي ذكره السيد قدس سره مناقشة خاصة ، وهي أنه مع فرض أنه لم تصدر منه إلاّ تلك الجملة لا تكون تلك الجملة متصفة بصدق ولا بكذب ، إذ لا واقع لها كي تكون مطابقة له أو غير مطابقة كما حققناه فيما لو قال : « أول جملة تسمعها من زيد هي صادقة » وقال زيد : « إن ما أخبرك ذلك المخبر كاذب » إلاّ أنه إشكال في المثال ولا يتأتى فيما نحن فيه أعني طبيعة الأمر ، ولك أن تغيّر المثال إلى قولك : « كلامي عربي حسن ».

وعلى أيّ حال ، أن هذه الطريقة لو التزمنا بها لا يبقى إشكال في البين إلاّ إشكال عدم القدرة. ويندفع بالتركيب المذكور وجعل الأمر متعلقا بالمجموع المركب ، والالتزام بتقطيع الأمر إلى قطعة متعلقة بذات الصلاة وقطعة متعلقة بداعي الأمر الكلي الذي يكون مصداقه قهرا هو القطعة الاولى من الأمر المتعلقة بذات الصلاة.

نعم [ يرد ](1) على ذلك ما سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى من أنّ الداعي الذي هو عبارة عن تصور العنوان الباعث على الارادة ليس هو من أفعال النفس بل هو من انفعالاتها أو من كيفياتها. نعم إن قصد العنوان بالفعل الخارجي من أفعال النفس وليس هو عبارة عن نفس الداعي. لكن الذي يظهر من المحشي أنه جعلهما شيئا واحدا ، فعطف جعل الأمر داعيا على

ص: 400


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- في صفحة : 433 وما بعدها.

قصد الأمر. وكذلك ما يظهر من الاستاذ العراقي قدس سره في مقالته فانه ظاهر في أن متعلق الأمر الثاني هو الدعوة ، وذلك قوله « وقطعة اخرى متعلقة بالدعوة » (1) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنّ مرحلة كون عنوان الامتثال داعيا غير مرحلة كونه مقصودا من الفعل بواسطة كونه عنوانا ثانويا له ، وأن المرحلة القابلة لتعلق التكليف هي الثانية دون الاولى.

وعلى كل حال ، فنحن بناء على هذه الطريقة أعني كون المراد بالأمر في قولنا « إن المأمور به هو الصلاة بداعي الأمر » هو طبيعة الأمر التي يكون أحد مصاديقها هو نفس ذلك الأمر المتعلق بالصلاة ، نكون في راحة من إشكال أخذ نفس الحكم في موضوعه لنحتاج في دفعه إلى حديث التوأمية المستفادة من قول المقرر الآملي : فالتحقيق في الجواب أن نقول ... إلخ (3).

نعم ، نحتاج إلى حديث التوأمية في دفع اشكال القدرة ، وتقريبه أن يقال : إنّ قوله صلّ بداعي طبيعة الأمر المتعلق بذات الصلاة يتضمن إيجاد وجوبين ، أحدهما متعلق بذات الصلاة والآخر متعلق بالاتيان بها بداعي طبيعة الأمر المنطبق على الوجوب الأول المتعلق بذات الصلاة ، فكان ذات الوجوب الأول موضوعا للوجوب الثاني ، ويكون حالهما من هذه الجهة حال « رتّب الأثر » أعني وجوب التصديق في حق الشيخ ، في حين أن موضوعه الذي هو الأثر هو عين صدّق المفيد ، وقد تعرض الآملي لذلك مفصلا (4).

ص: 401


1- مقالات الاصول 1 : 236.
2- في صفحة : 437 وما بعدها.
3- بدائع الأفكار : 228.
4- بدائع الأفكار : 233 ، 234.

وبعد ذلك لا بد أن نقول : إن ذات الصلاة التي تعلقت بها الحصة الاولى من الوجوب كما ذكره (1) ليست هي مطلق الصلاة ولا الصلاة المقيدة ، بل هي الحصة من طبيعة الصلاة أعني الصلاة المقترنة بدعوة الأمر إليها ، بحيث إن المكلف لو فعل الصلاة لا بداعي أمرها لما كان ممتثلا لأمرها وإن قلنا بخروج قصد الامتثال عن حيّز ذلك الأمر ... إلخ ، وإلى ذلك يشير فيما ذكره بقوله : فتكون هذه العبارة ونحوها إنشاء لوجوبين ، أحدهما متعلق بالحصة المقارنة لدعوة الأمر أو لقصد امتثال الأمر من طبيعة الصلاة ... إلخ (2).

والظاهر أن هذه التوأمية محتاج إليها حتى لو صرفنا قيد الامتثال عن مرحلة الداعي إلى مرحلة القصد ، فإنّ أقصى ما في البين حينئذ هو تعلق الوجوب بالصلاة التي يقصد بالاتيان بها امتثال طبيعة الأمر المتعلق بها ، فإن صرف قيد الامتثال من مرحلة الداعي إلى مرحلة القصد إنما يدفع إشكال كون الداعي غير قابل لتعلق التكليف به جزءا كان أو قيدا. كما أن جعل الأمر الذي اعتبر قصد امتثاله هو طبيعة الأمر إنما يدفع إشكال أخذ الحكم موضوعا لنفسه.

وبعد هاتين المرحلتين أعني صرف الامتثال من الداعوية إلى مرحلة القصد وجعل الأمر الذي اعتبر امتثاله طبيعة الأمر لا شخص الأمر المتعلق بذات الصلاة ، يتوجه إشكال عدم القدرة ، ويندفع بالتركيب وجعل الحصة الاولى من الأمر موضوعا للحصة الثانية ، ولازم ذلك هو كون متعلق الحصة الاولى من الوجوب هو ذات الصلاة ، أعني الحصة من طبيعة الصلاة التي

ص: 402


1- بدائع الأفكار : 228.
2- بدائع الأفكار : 234.

تكون توأما مع قصد الامتثال ، فلاحظ وتدبر ، هذا.

ولكن المطلب بعد هذا كله لا يخلو عن الاشكال ، لأنا وإن قلنا بأن متعلق الأمر هو الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر ، فذات الصلاة لم تقع موردا للأمر إلاّ بتحويل التقييد إلى التركيب ، ليكون الأمر واردا على ذات الصلاة وداعي الأمر ، أو الصلاة وقصد امتثال الأمر ، فنحن ننقل الكلام إلى تلك الحصة من الأمر الواردة على ذات الصلاة التي هي أحد جزأي المأمور به ، ونقول إن ذلك الجزء وهو ذات الصلاة مقيد بالجزء الآخر الذي هو قصد الامتثال أو داعي الامتثال ، لأن الفرض هو ارتباطية الأجزاء ، فعاد الاشكال ، وهو أن ذات الصلاة لم تكن مأمورا بها ولو بتلك الحصة من الأمر ، وإنّما المأمور به في تلك الحصة هو الصلاة المقيدة بالجزء الآخر ، فلو حوّلنا متعلق تلك الحصة إلى التركيب عاد محذور الحصة ، وأنّ متعلقها ليس هو ذات الصلاة لفرض الارتباطية ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولو قلنا بأنّ ذات الصلاة مأمور بها في ضمن الأمر المتعلق بالمقيد من دون إرجاعه إلى التركيب ، لقلنا بمنع ذلك ، وأن الذات لا يناله الأمر في ضمن الأمر بالمقيد ، ولو تمّ ذلك لقلنا به من أول الأمر بلا حاجة إلى التحويل من التقييد إلى التركيب ، فلاحظ وتدبر.

قوله : كما لو فرضنا عدم التفات الآمر الجاهل إلى انقسام الجيران إلى صديق وعدو ، فلا يكون حينئذ إطلاق وتقييد في مقام الثبوت أيضا (1).

ولكن هل يتحقق الاهمال في مقام الثبوت على وجه يتوقف المأمور

ص: 403


1- أجود التقريرات 1 : 157 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

في إكرام عدوه بل يتوقف أيضا في إكرام صديقه ، إذ ليس المقام من باب القدر المتيقن ، لأن ذلك إنما هو في مقام الاثبات وكلامنا في مقام الثبوت ، أو يكون الاطلاق ذاتيا وتكون السراية قهرية على الآمر وإن لم يقصدها ، فيكون اللازم على المأمور إكرام صديقه كما يلزمه إكرام عدوه؟ محل تأمل وإشكال.

ونظير ذلك ما لو أوصى بمال أو وقف للعلماء أو على العلماء ولكن الواقف أو الموصي كان جاهلا بانقسامهم إلى أخباريين واصوليين ، لأنه لا يعرف هذا التقسيم ، أو كان غافلا عنه على وجه لو نبّهه على ذلك منبّه فلربما أطلق أو ربما قيّد بأحد القسمين فلا يكون في البين قدر متيقن. ولا يقال إن القدر المتيقن من كان الموصي أو الواقف منهم. لأنا نقول : إن الأخذ بالقدر المتيقن إنما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت ، ويتضح ذلك بما لو كان هو أعني الموصي أو الواقف خارجا عن القسمين مثل الانقسام إلى القائلين بالانفتاح والقائلين بالانسداد.

قوله : ومن الطرف الآخر جعلي ، وهو توقف فعلية الحكم على وجود العلم ، لأخذه في الموضوع شرعا (1).

وحاصل ذلك : هو أنا لو أخذنا العلم بالحرمة جزءا من موضوعها ليكون مركب الحرمة هو الخمر المعلوم الحرمة ، يكون تحقق الحرمة متوقفا على تحقق جزء موضوعها الذي هو العلم بالحرمة ، والعلم بالحرمة يتوقف على تحقق الحرمة ، أمّا الأول فلكونه جزءا من موضوعها ، وأمّا الثاني فلأن العلم بالشيء يتوقف على تحقق الشيء ، لأن المفروض هو كون العلم جزء الموضوع ، نعم لو اخذ العلم تمام الموضوع لم يكن متوقفا على الواقع

ص: 404


1- أجود التقريرات 1 : 158.

وتكون النتيجة هي أن تحقق الحرمة متوقف على تحقق الحرمة.

ويمكن الجواب عن هذا الدور : بأن يقال إن تحقق الحرمة عبارة عن فعليتها ، لكن العلم بالحرمة لا يتوقف على فعليتها بل على وجودها واقعا ، وحينئذ تكون النتيجة هي أن فعلية الحرمة تتوقف على تحقق العلم بها وتحقق العلم بها لا يتوقف على فعليتها بل على وجودها واقعا أو إنشاء ، ويكون الحاصل أنك إذا علمت بوجود الحرمة إنشاء صارت فعلية في حقك ، وحاصله ما في الكفاية من أخذ العلم بالحكم في مرتبة موضوعا له في مرتبة اخرى ، ولكن ذلك مبني على المغايرة بين الحكم الانشائي والفعلي على تأمل في ذلك.

ولا يخفى أن هذه المغايرة لو تمت كان المورد خارجا عن مورد الدور ، لأن الدور إنّما هو فيما لو كان الحكم المعلوم هو عين الحكم الذي اخذ العلم به موضوعا له كما قال في الكفاية : الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولا ضده للزوم اجتماع الضدين ، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى منه أو مثله أو ضده (1).

وفي المقام إشكال آخر : وهو أنّه لو ثبت في بعض الأحكام تقيدها بالعلم كما يقال في مسألة الجهر والاخفات ، فهل يجري فيه الدور المذكور أو أنّ ذلك لأجل أنه ليس من التقييد اللحاظي بل من باب نتيجة التقييد بطريقة متمم الجعل أو بطريقة اخرى ، فلا يتأتى فيه الدور المذكور ، وإن شئت التفصيل فراجع ما علّقناه (2) في أوائل مباحث القطع ، وراجع ما

ص: 405


1- كفاية الاصول : 266 - 267.
2- في أوائل المجلّد السادس في الحاشية على قوله : فلا بدّ من جعل آخر ...

حررناه في هذا المقام أعني مسألة التعبدي والتوصلي من درس شيخنا قدس سره وما علّقنا عليه هناك (1).

ثم لا يخفى أن العلم بالحرمة إذا اخذ قيدا في الموضوع ، كأن يقول الخمر المعلوم الحرمة حرام ، لا يلزم منه الدور ولا إشكال التقدم والتأخر ، بل يلزم منه اجتماع المثلين مع اختلاف الرتبة ، والأول هو الحرمة الطارئة على نفس الخمر والثاني هو الطارئة بعد العلم بالاولى ، فان كان اختلاف الرتبة مسوّغا لسوّغه في الضدين أو النقيضين كما لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب شربها ، وهذا التفصيل بعينه جار فيما لو اخذ العلم بالحرمة قيدا في المكلف ، كأن يقول أيّها العالم بحرمة الخمر يحرم عليك شربها ، وهكذا الحال في ناحية المتعلق مثل أيّها العالم بوجوب الصلاة يجب عليك الاتيان بها.

وعلى أيّ حال ، ليس محل الكلام في هذا النحو من أخذ العلم بالحكم قيدا في الموضوع أو المكلف أو المتعلق ، بل إنّما محل الكلام هو أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع نفس ذلك الحكم أو المكلف أو المتعلق ، بحيث تكون الحرمة المجعولة مقيدة موضوعا أو مكلفا أو متعلقا بالعلم بنفسها ، وذلك كما يقال إن وجوب الجهر في القراءة مختص بالعالم بذلك الوجوب ، وهذا هو الذي يقولون إنه يمتنع فيه الاطلاق اللحاظي والتقييد اللحاظي ، لكنهم لم يمنعوا فيه الاطلاق الذاتي والتقييد الذاتي المعبّر عنه في كلمات شيخنا بنتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد (2). ومثال

ص: 406


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- عبّر بذلك في موارد ، منها : ما في بحث التعبدي والتوصلي ، أجود التقريرات 1 : 174.

الأول أغلب الأحكام فانّها شاملة للعالمين بها كشمولها للجاهلين بها ، ومثال الثاني مسألة القصر والاتمام والجهر والاخفات ، وهل يكون ذلك بطريقة متمم الجعل أو بطريقة اخرى ، في ذلك أبحاث شرحناها في أوائل مباحث القطع. وعلى أيّ حال إن الدور اللازم في التقييد اللحاظي غير جار فيما هو نتيجة التقييد ، وهكذا إشكال التقدم والتأخر.

ثم إنّ الحجر الأساسي هو هذا الأخير ، أعني إشكال التقدم والتأخر في مقام الجعل كما شرحناه غير مرّة وإليه الاشارة في الكفاية بقوله : لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر (1) وقد شرحه شيخنا قدس سره (2) بما لا مزيد عليه ، وحيث كان أصل الجعل ممتنعا لا تصل النوبة إلى مقام فعلية الحكم التي هي مركز الاشكال بالدور ، فإن الدور وعدم القدرة التي ربما كان قوله في الكفاية : فما لم تكن الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي ذلك الأمر ... (3) إشارة إليه ، كل هذه الاشكالات متفرعة على ذلك الاشكال في مقام الجعل ، وهو المانع من كل من الاطلاق والتقييد اللحاظيين. ولا يرد على القول بسقوطهما لزوم الاهمال في الواقع ، لما حققه شيخنا قدس سره (4) وشرحناه من كون التقابل بينهما من قبيل العدم والملكة ، فلا يمتنع سقوطهما في المورد غير القابل لهما كسقوط العمى والبصر عن الجدار.

ويمكن الجواب عنه بطريق آخر : وهو أن سقوط الاطلاق والتقييد

ص: 407


1- كفاية الاصول : 72.
2- أجود التقريرات 1 : 160 وما بعدها.
3- كفاية الاصول : 72 ( باختلاف يسير ).
4- راجع أجود التقريرات 1 : 156 ، وسيأتي في الصفحة : 411 من هذا المجلّد.

اللحاظيين لا يلزمه الاهمال في الواقع ، بل يكون الثابت في الواقع هو نتيجة الاطلاق كما عرفت في أغلب الأحكام بالنسبة إلى العلم والجهل المتعلقين بها ، إلاّ أنه محتاج إلى عملية متمم الجعل ونحوه ، إلاّ أن تلك العمليات لا تسلم من الاهمال في مقام الثبوت بأول درجة الجعل ، إلاّ أن ذلك الاهمال الثبوتي لا بد من الالتزام به في أول درجة الجعل ، لمحالية الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، إلاّ أن هذا الاهمال الثبوتي هو عين الاطلاق الذاتي ، والغرض إنّما هو نفي الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، فانهما يتوقفان على النظر إلى القيد وجودا وعدما أو وجودا فقط أو عدما فقط ، وذلك أعني النظر إلى مثل تلك القيود محال في مقام جعل الحكم ، وإلاّ فما الذي نصنعه في القيود المتأخرة عن التكليف. ولا يجري كل من التقييد اللحاظي والذاتي مثل وجود المأمور به والاطاعة والعصيان ونحو ذلك مما يستحيل فيه حتى الاطلاق والتقييد الذاتيين ، فإن المكلف بالصلاة لا إشكال في انقسامه إلى المطيع لذلك الأمر والعاصي له ، فهل يتأتى في مقام أمر الآمر بالصلاة المتوجه إلى المكلفين بالنسبة إلى من يطيع ذلك الأمر ومن يعصيه إلاّ الاهمال في مقام الثبوت وعدم كل من اللحاظي والذاتي ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أن المتعين في ذلك هو الاكتفاء بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية ، غير أنه عند العلم بالحكم يكون الحكم متحققا كما أن العلم به متحقق أيضا ، ويكون الأول أعني الحكم متقدما رتبة على الثاني أعني العلم كما في اجتماع العلة والمعلول في الزمان ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الجهل ، وعلى هذه الطريقة ينبغي الجريان في داعي الأمر فانه وإن امتنع التقييد به لحاظا إلاّ أن ذلك إنّما يوجب سدّ باب الاطلاق اللحاظي ، ويبقى الاطلاق الذاتي القاضي بانطباق الطبيعة المأمور بها على كل من المأتي به

ص: 408

بداعي الأمر والمأتي به لا بهذا الداعي ما لم يكن قد تحقق الجعل الثاني.

قوله : وأمّا الانقسامات الثانوية - سواء كانت لموضوعات التكاليف أو لمتعلقاتها - فلا يعقل فيها التقييد ، فلا يتصور فيها الاطلاق أيضا ... إلخ (1).

أورد عليه في الحاشية : بأن متعلق الشوق لا بد وأن يكون متعينا في ظرف تعلقه به ولو بعنوانه الإجمالي ، ويستحيل فرض الاهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعين له في مرحلة تعلقه به ... إلخ (2).

أمّا الشوق في حقه تعالى فلا أعرف حقيقته ، وعلى كل حال هو من مقدمات الارادة أو هو عينها ، وقد بنى شيخنا قدس سره (3) على أن الطلب متأخر عنها وهو مغاير لها ، وحينئذ لا يكون الشوق إلاّ ناشئا عن الصلاح في الفعل المشتاق إليه ، وهو لا شك في كونه متعلقا بنفس الفعل الواجد للمصلحة ، فلو كانت المصلحة مختصة بالفعل المقيد بداعي الأمر والطلب أو كانت شاملة لما هو بداعي الأمر ولما لم يكن بداعيه ، يكون ذلك الشوق المزعوم تابعا لها ، ويستحيل أن يكون متعلقه مهملا في الواقع من هذه الجهة ، لكن ذلك لا دخل له بمقام الطلب والأمر بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره من كون الطلب غير الشوق وغير الارادة.

ولو سلّمنا وحدة الجميع ، بمعنى أن الشوق والارادة هما نفس الطلب والأمر ، لقلنا إنه في صورة كون المصلحة مختصة بخصوص الفعل الصادر بداعي الأمر والطلب يكون الشوق المفروض كونه عين الطلب

ص: 409


1- أجود التقريرات 1 : 158.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 156.
3- أجود التقريرات 1 : 135.

والارادة متعلقا بالفعل الذي تعلق به الشوق ، فهل تجد من وجدانك إمكان تعلق شوقك بالفعل المقيد بكونه متعلقا لشوقك ولو كانت المصلحة شاملة للفعل - سواء كان بداعي الشوق أو لم يكن - يكون متعلق الشوق المذكور هو الفعل الشامل لما تعلق به الشوق وما لم يتعلق ، فهل تجد من نفسك إمكان تعلق شوقك بالفعل ، سواء كان متعلقا لشوقك أو لم يكن متعلقا له ، بحيث إنّك تجد أنّ كلا من هذين القسمين من الفعل واقعا تحت شوقك المذكور ، أو أنّك لا تجد إلاّ أن نفس الفعل تحت شوقك ، ولا تجد في مرتبة تعلق شوقك بذلك الفعل أنّ ما هو متعلق شوقك كان قابلا لأن يتقيد بكونه متعلقا لشوقك أو قابلا لأن يكون هو الأعم مما تعلق به شوقك وما لم يتعلق به ، ومن الواضح أن صدور الفعل بداعي شوقك هو عبارة عن كونه مقيدا بكونه بشوقك ، وصدور الفعل بالأعم من داعي شوقك أو بداع آخر هو عبارة عن كونه مطلقا من ناحية تعلق شوقك به.

ثم بعد هذا كله نقول : إن الكلام إنّما هو في الانقسام المتأخر رتبة عن نفس الحكم ، والحكم لا يختص بما يكون راجعا إلى الشوق كما في مثل الاباحة ومثل الأحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة والصحة والفساد والملكية والرقية والزوجية إلى غير ذلك من الأحكام الوضعية ، فهل يمكن أن تكون تلك الأحكام مقيدة بالعلم بها أو تكون مطلقة من ناحية العلم ، وهل يصحح إطلاقها من هذه الناحية أخذ الحكم بمعنى الشوق ، وهل ينطبق مسلك الشوق على مثل هذه الأحكام.

أما أنا الحقير القاصر النظر فلا أعرف للشوق في حقه تعالى معنى محصلا في الأحكام التكليفية الاقتضائية فضلا عن مثل الإباحة والطهارة والنجاسة ، وما هو الذي يجعلونه في هذه الأحكام قائما مقام الشوق في

ص: 410

كون متعلقه يستحيل فيه الاهمال ، نظري قاصر عن ذلك ، ولا بد أن أكون معذورا في جهلي بذلك الشوق و (1) بما هو قائم مقامه في تلك الأحكام.

لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده

ولا الصبابة إلاّ من يعانيها

قوله - في الحاشية المشار إليها في مقام الجواب عن كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة ، وأنه لا بد في العدم المقابل للملكة من قابلية المحل للوجود - : إن القابلية المعتبرة فيه لا يلزم أن تكون شخصية دائما ، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ألا ترى أنّه يصدق على الانسان أنّه جاهل بحقيقة ذات الواجب وصفاته مع أنّه يستحيل أن يكون عالما بها ، فلو كان استحالة أحد المتقابلين تقابل العدم والملكة مستلزمة لاستحالة الآخر ، لزم استحالة الجهل في مفروض المثال ، مع أنّه ضروري وجدانا (2).

هذا أيضا ممّا لم أتوفق لفهمه ، فان التقابل بين العدم والملكة لا بد أن يكون له مورد يتقابلان فيه ، فذلك المورد الذي تقابلا فيه لا بد فيه من القابلية سواء كان شخصا أو كان صنفا أو كان نوعا ، ولا معنى لأن يكون التقابل في نوع مثلا وهو في حد نفسه غير واجد للقابلية لكن جنسه مثلا يكون واجدا للقابلية مع فرض كونهما أعني الوجود والعدم غير متقابلين في الجنس وإنّما تقابلا في النوع.

والحاصل : أن المعتبر فيه القابلية هو مركز التقابل ، ويستحيل تحقق التقابل بين العدم والملكة في شيء هو غير واجد للقابلية بل كان جنسه مثلا واجدا للقابلية ، فإنّه عند ذاك يكون مركز التقابل هو الجنس ، هذا.

ص: 411


1- [ يوجد في الأصل زيادة « لا » والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 156.

مضافا إلى أن تحقق القابلية في الجنس موجب لتحققها في النوع وإلاّ لم يكن نوعا من ذلك الجنس ، أما مسألة جهل الانسان بحقيقة الواجب تعالى وعلمه بعد فرض كون تقابلهما تقابل العدم والملكة ، بمعنى كون الجهل عبارة عن عدم العلم ممن يكون من شأنه العلم ، بمعنى عدم العلم ممن يتصور في حقه العلم ، أي عدم العلم ممن يمكن أن يكون عالما بحيث إنه لا يصدق على الجدار مثلا ، فلا ريب في امتناع كل من العلم والجهل بالمعنى المذكور في حق الانسان بالنسبة إليه ، وكيف يمكن أن يقال إن الجهل في حقه ضروري مع فرض كونه بمعنى عدم العلم ممن يمكن في حقه العلم به تعالى.

نعم ، لو أخذنا الجهل بمعنى العدم المحض ، وقلنا إن مقابلته بالعلم من قبيل السلب والايجاب ، لكان نسبته إلى الانسان بالمعنى المذكور أعني السلب المطلق بمكان من الامكان (1) لكن أين هذا من الجهل المأخوذ بمعنى عدم العلم ممن يكون من شأنه عالما ، وكيف يعقل أن يكون الانسان من شأنه أن يكون عالما بذاته تبارك وتعالى ، وهل هذا إلاّ خلف لما قلناه من استحالة كونه عالما بذاته تعالى.

وبعد فرض عدم تحقق القابلية في الانسان تقابل العلم والجهل فيه فمن هو الذي يراه المحشي واجدا لهذه القابلية من الصنف أو النوع أو الجنس كي يكون هذا المثال مصدّقا لقوله : إن القابلية المعتبرة فيه لا يلزم أن

ص: 412


1- ولا يخفى أنّ هذا لو تم في تقابل العلم والجهل فهو غير جار في محل الكلام الذي هو تقابل الاطلاق والتقييد ، إذ لا مورد يفرض فيه تقابلهما تقابل الإيجاب والسلب بعد فرض كون أصل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، إلاّ أن يكون ذلك هو العلم بالحكم في قبال باقي القيود التي يكون التقابل فيها بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة [ منه قدس سره ].

تكون شخصية دائما ، بل يجوز أن تكون صنفية أو نوعية أو جنسية ، ألا ترى أنّه يصدق على الانسان ... إلخ (1).

ولعل المراد من الصنف أو النوع إنّما هو بالنسبة إلى نوع المعلوم وصنفه بالنسبة إلى هذا المعلوم الخاص وهو واجب الوجود تعالى وتقدس. ولكن لا يخفى أن التقابل بين العلم [ والجهل ](2) إنما هو بالنسبة إلى ذاته تعالى وتقدس لا بالنسبة إلى غيره من المجهولات أو المعلومات فلاحظ. وكيف يمكن أن يتقابل المعلومية والمجهولية في نوع الشيء أو جنسه مع عدم تقابلهما في نفس ذلك الشيء ، هذا. مضافا إلى أنّه تعالى لا نوع له ولا جنس له.

والذي أخاله أن النزاع بين شيخنا قدس سره وبين من يورد عليه ممّن تأخر عنه ينتهي إلى ما يشابه النزاع اللفظي ، حيث إن شيخنا قدس سره ينفي التقييد اللحاظي في أمثال هذه المقامات ، ولا ينكر التقييد الذاتي الذي يعبّر عنه بنتيجة التقييد ، وحينئذ فطريقة توأمية الذات مع داعي الأمر لو صحت لا يكون الناتج منها إلاّ نتيجة التقييد لا التقييد اللحاظي.

ثم إنّه قدس سره (3) بعد أن أثبت امتناع التقييد اللحاظي انتقل إلى امتناع الاطلاق اللحاظي ، ومراده بذلك لحاظ الآمر وجود القيد وعدمه ، وجعل الحكم على الطبيعة التي لاحظها سارية في كل منهما ، لا أن كلا من القيد وعدمه يكون تحت الحكم ، بل إن الذي هو تحت الحكم هو نفس الطبيعة الموجودة في كل من الموردين ، ومن الواضح أن استحالة هذا المعنى من

ص: 413


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 156.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
3- أجود التقريرات 1 : 168 - 169.

الاطلاق اللحاظي لازم قهري لاستحالة التقييد اللحاظي الناشئ عن استحالة النظر إلى القيد المتأخر عن الحكم في حال إصدار الحكم ، ولا أظن أنّ أحدا يسوّغ الاطلاق اللحاظي في هذا النحو من الطوارئ التي لا يمكن النظر إليها في مقام جعل الحكم.

نعم ، يمكن القول بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية المعبّر عنها في كلماته بنتيجة الاطلاق ، وهذا المقدار لا يمنعه شيخنا قدس سره بل هو يصرّح بأن الممكن في ذلك هو نتيجة الاطلاق دون التقييد ودون الإطلاق اللحاظي ، والشاهد على ذلك هو مسلكه قدس سره في هذه المسألة ، فانه بعد أن أثبت استحالة التقييد اللحاظي بداعي الأمر ، التزم باثباته بجعل آخر سمّاه متمم الجعل ، وجعل النتيجة هي نتيجة التقييد.

وحينئذ نقول : إنه لو لم يثبت الجعل الثاني فهل نلتزم بسقوط الأمر وعدم العمل به لكونه في مقام الثبوت مهملا ، أو نعمل به في خصوص التعبد ونلتزم بقصد القربة من باب القدر المتيقن أو من باب الاحتياط؟

كل ذلك لم يلتزم به. أما الأول أعني عدم العمل بالأمر فواضح. وكذلك الثاني لما عرفت من أنه إنما يجري في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت. وأمّا الثالث أعني الاحتياط فهو قائل بعدمه وأن المرجع هو البراءة ، وحينئذ يكون المتعين هو البناء على الاكتفاء بالفعل سواء كان مجردا عن التعبد أو مقرونا به ، وما ذلك إلاّ من جهة الاكتفاء بالاطلاق الذاتي والسراية القهرية ، وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى فيما علّقناه (1) على ما أفاده في صفحة 100 (2) من الجواب عن إشكال الكفاية.

ص: 414


1- في صفحة : 485 وما بعدها.
2- من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

ثم لا يخفى أنا عند وصول بحثنا إلى هذه المقامات وما بعدها لم تكن هذه الحاشية موجودة لدينا بل لم تكن مطبوعة ، ولمّا طبعت تفضّل صاحبها ( سلّمه اللّه ) على الحقير بنسخة منها وله الفضل ، ولكن بعد وصولنا في بحث الترتب إلى ما فيه شاهد لهذه المسألة وإليه أشار المحشي هناك ، علّقنا هناك ما مضمونه التأمل والاشكال على هذه الحاشية ، ثم لمّا وصلنا إلى أوائل مبحث الاطلاق والتقييد أيضا أشار المحشي إلى ما تقدم منه في مبحث التعبدي والتوصلي ، وفعلا (1) حررنا هذه التعليقة هنا لئلا يفوت محلها ، وينبغي ملاحظة ما علّقنا على مبحث الترتب (2) وضمّه إلى ما حررناه هنا إن شاء اللّه تعالى ، فإنه مشتمل على زوائد على هذا الذي حررناه هنا فراجعه وتأمل.

قوله : وبيانه أن العلم بشخص الحكم تارة يؤخذ في الموضوع بنحو القضايا غير المعقولة كأنياب الأغوال - إلى قوله : - واخرى على نحو القضايا الحقيقية - إلى قوله : - وحينئذ فلا بدّ من فرض الموضوع في مقام الانشاء والحكم على المفروض - إلى قوله : - ومن الواضح أن فرض وجود العلم بالحكم فرض وجود الحكم ، فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية ... إلخ (3).

إشكال التقدم والتأخر هو عبارة عن أن الحاكم في مقام جعله الحكم على الموضوع يرى الحكم ممتازا عن الموضوع كما أنه يرى الموضوع ممتازا عن الحكم ، فلو كان نفس ذلك الحكم الذي رآه ممتازا عن

ص: 415


1- 20 ذي القعدة 1369 ه ق [ منه قدس سره ].
2- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 363 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 1 : 159 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

الموضوع ولاحظه متأخرا عنه رتبة مأخوذا في ذلك الموضوع ، كان الحكم بنفسه متقدما على نفسه باللحاظ.

وهذا الاشكال لا يفرق فيه بين كون القضية حقيقية أو كونها طبيعية أو كونها خيالية ، فإنّها ولو كانت خيالية يكون ذلك الخيال محالا.

كما أن هذا الاشكال لا يفرق فيه بين كون العلم تمام الموضوع أو كونه جزء الموضوع ، لجريان إشكال التقدم والتأخر في مقام اللحاظ في الحكم حتى لو كان العلم تمام الموضوع لينطبق على القطع المخطئ ، بأن يقول جعلت الحكم على القاطع به سواء أصاب أو أخطأ ، وإن كان التحقيق أنه لا يتصور فيه الخطأ بعد فرض جعل الحكم على القاطع به ، وهذا بخلاف إشكال الدور في مقام الفعلية فانك قد عرفت ابتناءه على كون العلم جزء موضوع يعني خصوص المصيب منه ، لأن العلم بالحكم إذا كان خطأ لا يتوقف على تحقق الحكم ، لكن لو اخذ العلم بالحكم جزء موضوع لذلك الحكم كان الحال فيه أسوأ من الدور ، لأنّ محصّله هو توقف الحكم على موضوعه المركب الذي هو نفس الحكم والعلم به ، ومن ناحية الجزء الثاني وهو العلم يحصل الدور وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ، لكن من ناحية الجزء الأول يكون عين توقف الشيء على نفسه.

أما ما شرحه شيخنا قدس سره فكأنه راجع إلى الدور في المرحلة الفعلية وأنه موجب لمحالية الجعل ، فيكون الوجه الثاني الذي أفاد أنه ليس من قبيل الدور عين الوجه الأول الذي أفاد أنه راجع إلى الدور ، وأنه إذا كان المجعول محالا كان الجعل محالا ، فتأمّل.

ثم لا يخفى أن قوله : فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية وهو ما ذكرناه من محذور الدور ، إلخ ، يمكن أن

ص: 416

يتأمل فيه ، فإنّه لا مانع من أن الحاكم في مقام جعله الحكم يفرضه موجودا ثم يجعله ، ونعني بأنه يفرضه موجودا أنه يتصور وجوده والعلم به ثم يجعله ، ولا إشكال فيه سوى إشكال التقدم والتأخر في لحاظ الحكم ، نعم لو فرض وجود الحكم ويجعل الحكم على تقدير وجوده ، كان لازم ذلك تحقق الحكم قبل تحققه وهو الدور السالف الذكر ، فلاحظ وتأمل.

ولكن الذي حررته عنه قدس سره في هذا المقام لعله يريد به مطلبا آخر غير الدور وغير إشكال التقدم والتأخر في اللحاظ ، وهاك نص ما حررته عنه : هذا كله بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأمّا بالنسبة إلى ذلك الحكم الانشائي المجعول (1) فلا يلزم فيه من أخذ العلم قيدا في موضوع الحكم ذلك الدور المصطلح ، بل يلزم عليه تقدم الشيء على مرتبة نفسه ، حيث إن الموضوع بالنسبة إلى حكمه نظير العلة بالنسبة إلى معلولها في تقدمها عليه رتبة ، والعلم بالحكم بالنسبة إلى ذلك الحكم يكون نظير المعلول بالنسبة إلى علته في تأخره عنها رتبة ، فلا يمكن أن يؤخذ العلم بذلك الحكم قيدا في موضوع ذلك الحكم ، بمعنى أن نفس جعل الحكم واردا على موضوعه المقيد بالعلم به يكون محالا وإن لم يلزم منه الدور المصطلح ، إذ لا يكون في هذه المرحلة أعني مرحلة جعل الحكم تحقق حكم ولا تحقق موضوع كي يقال إن تحقق أحدهما يكون متوقفا على تحقق الآخر الذي هو الدور المصطلح ، إلاّ أنه يكون محالا من جهة كونه مستلزما لتقدم العلم بالحكم رتبة على رتبة نفسه ، فمن جهة كونه علما متعلقا بالحكم يكون متأخرا عنه رتبة ، ومن جهة كونه مأخوذا قيدا في

ص: 417


1- يعني أن ما تقدّم من الدور كان بالنسبة إلى تحقق الحكم المجعول وأمّا بالنسبة إلى أصل الجعل ... [ منه قدس سره ].

موضوعه يكون متقدما عليه رتبة ، إلخ.

وتوضيحه : أن العلم وإن لم يكن معلولا حقيقيا للمعلوم إلاّ أنه متأخر رتبة عنه تأخر العارض عن معروضه ، وفي الحقيقة يكون المعلوم موضوعا تكوينيا للعلم كموضوعية العالم للاكرام ، فإذا أخذ الشارع العلم بالحكم موضوعا لذلك الحكم فقد صيّر ما هو المتأخر رتبة عن الحكم مقدما عليه رتبة ، فيكون لازم ذلك هو كون كل من نفس الحكم ومن العلم به متقدما على نفسه ، وهو عين اشكال الدور وإن لم يكن بالدور المصطلح.

قوله : الأول أن المجعول في مقام الانشاء كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ليس إلاّ الأحكام الفعلية لموضوعاتها الخارجية ، وبعبارة اخرى الأحكام الفعلية هي الأحكام الموجودة بنفس الانشاء لموضوعاتها المقدر وجودها ... إلخ (1).

والحاصل : أن المنشأ ليس هو إلاّ الأحكام الفعلية على تقدير تحقق موضوعاتها ، وإذا كانت تلك الأحكام الفعلية محالا كان إنشاؤها محالا لأنه إنشاء ما لم يكن. ولا يرد عليه أن ذلك من قبيل إنشاء حكم لا يمكن أن تعرضه الفعلية فلا يكون الانشاء محالا ، نعم يكون محالا على الحكيم لعدم ترتب ثمرة عملية على إنشائه.

ويمكن تقريب المطلب بطريق آخر : وهو أن محصل القضية الحقيقية هو جعل الحكم على فرض وجود موضوعه ، وإذا كان الموضوع هو العلم بذلك الحكم المجعول كان فرض وجود ذلك الموضوع من قبيل فرض المحال ، لمحالية تحقق العلم بالحكم الذي يكون موضوعه العلم به ،

ص: 418


1- أجود التقريرات 1 : 158.

فيرجع الأمر بالأخرة إلى جعل الحكم على تقدير هو محال في نفسه ، ولعل هذا الأخير راجع إلى ما أفاده في الوجه الثاني بقوله : ومن الواضح أن فرض وجود العلم بالحكم فرض وجود الحكم ، فلا بد وأن يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده ولو بالقبلية الرتبية ، إلخ (1).

ولعل المراد به وجه آخر : حاصله أنه لو حكم بالحرمة على تقدير وجود العلم بتلك الحرمة كان فرض العلم بالحرمة عبارة اخرى عن فرض تلك الحرمة ، فيكون المتحصل أنه لو وجدت الحرمة ووجد العلم بتلك الحرمة تحققت تلك الحرمة ، فكان الحاصل هو الحكم بالحرمة على تقدير تحقق تلك الحرمة ، ولا ريب أن الحكم بالحرمة هو عين وجودها أو أنه عين إيجادها ، ويكون المتحصل هو فرض وجودها قبل وجودها ، وروح هذه المحالية هي جعل الحكم واردا على العلم الوارد على نفس ذلك الحكم. فإن شئت فقل إن ذلك موجب لفرض وجود الحكم قبل وجوده ، وإن شئت فقل إن ذلك موجب لكون وجود الحكم سابقا على وجوده ، وإن شئت فقل إن ذلك موجب لكون نسبة الحكم إلى نفسه نسبة العلة إلى المعلول ونسبة المعلول إلى العلة ، وإن شئت فقل إنه موجب لدخول الحكم في موضوعه وهو موجب للحاظه قبل لحاظه ، فإن لحاظ الموضوع قبل لحاظ الحكم ، وكل هذه المحاليات ناشئة من أخذ الحكم في موضوعه.

قوله : وأمّا تقييد متعلق التكليف بقصد امتثال الأمر ، فقد يقال بامكانه من ناحية الأمر - إلى قوله : - لكن التحقيق ... إلخ (2).

هذا تعريض بما في الكفاية ، فإنّ ظاهرها الالتزام بامكان تصور الآمر

ص: 419


1- أجود التقريرات 1 : 159.
2- أجود التقريرات 1 : 159 - 160.

الصلاة مقيدة بداعي الأمر ، وتعلق أمرها بها مقيدة بهذا الداعي ، حيث يقول في مقام دفع التوهم : ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ( وكأن جلّ المنع عنده إنّما هو من ناحية قدرة المكلف حيث قال ) إلاّ أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها ، فان الأمر حسب الفرض ( لم يتعلق بذات الصلاة وإنما ) تعلق بها مقيدة بداعي الأمر ، ( فذات الصلاة لم تكن مدعوا لها بالأمر وإنما المدعو له بالأمر هو الصلاة المقيدة ) ولا يكاد يدعو الأمر ( لغير متعلقه بل هو لا يدعو ) إلاّ إلى ما تعلق به ( الذي هو الصلاة المقيدة ) لا إلى غيره ( الذي هو ذات الصلاة ) (1).

وشيخنا قدس سره وإن التزم بعدم القدرة إلاّ أنه ركّز الاشكال بعدم القدرة على الجزء الثاني الذي هو قصد الامتثال ، وجعل ذلك موجبا لسدّ باب الامتثال ، لأن مرجعه إلى تحقق قصد الامتثال بقصد الامتثال ، ولكن جلّ نظر صاحب الكفاية هو إلى سدّ باب قدرة المكلف على الاتيان بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، لأنّ المفروض هو عدم تعلق الأمر بها بذاتها كي يتمكن المكلف من الاتيان بها بدعوة الأمر المتعلق بها ، فكان جلّ همّه في تلك الانقلتات (2) المتأخرة هو سدّ باب الأمر بذاتها ، وكأنه لأجل ذلك أورد عليه بعض أعاظم العصر ( سلّمه اللّه تعالى ) (3) بامكان الاتيان بذات الصلاة بداعي الأمر ولو الأمر المتعلق بالمقيد الذي صارت ذات الصلاة مقدمة له على ما شرحه مقرر بحثه من صفحة 107 إلى صفحة 109 فراجعه ، وراجع

ص: 420


1- كفاية الاصول : 73 [ ولا يخفى أن المجعول بين قوسين هو شرح المصنّف قدس سره لكلام صاحب الكفاية قدس سره ].
2- [ يعني : إن قلت قلت ].
3- وهو السيد البروجردي قدس سره في نهاية الاصول 1 : 120 - 122.

ما حررناه عليه (1).

أمّا ما أفاده في الكفاية من تسليم تصور الآمر الصلاة مقيدة بداعي الأمر ، وتعليق الأمر بها مقيدة بذلك القيد ، ففيه : أن الآمر وإن تصور ما شاء أن يتصور واشتاق إلى ما شاء أن يشتاق إليه ، لكنه عند تعليق أمره بالصلاة ما ذا قد تصور في هذه المرتبة أعني مرتبة تعليق أمره بالصلاة ، هل تصور ذات الصلاة ولم يتصور تقيدها بذلك القيد ، فهذا خلف لما هو المراد من أن المأمور به مقيد بداعي الأمر ، وإن تصورها في تلك المرتبة مقيدة بذلك القيد ، كان اللازم أخذ الحكم في متعلقه وتصوره في مرتبة متعلقة وهو عين المحالية التي أشار إليها بقوله : لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلق ذلك الأمر (2) ، وهو عين المحالية التي ذكرها في المعاني الحرفية (3) من استحالة أخذ ما هو من طوارئ الاستعمال في المستعمل فيه ، لأن مرتبة المستعمل فيه سابقة على مرتبة الاستعمال.

ومن ذلك يظهر لك الاشكال في الحاشية صفحة 103 (4) ، فان الشوق إن كان هو غير الارادة والطلب والوجوب فذلك هو ما ذكرناه من التصور قبل جعل الحكم الذي قلنا إنه لا حرج فيه ، وإن كان هو عين الطلب والارادة والوجوب كان اللازم هو تعلق الشوق بالفعل المقيد بذلك الشوق وهو المحال الذي لا مخلص منه على تقدير تقييد متعلق الحكم بذلك الحكم نفسه.

ص: 421


1- في الصفحة : 391.
2- كفاية الاصول : 72.
3- كفاية الاصول : 11.
4- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 156 من الطبعة الحديثة.

قوله : أما في مقام الانشاء فلما عرفت من أن الموضوع في القضايا الحقيقية دون الفرضية غير المعقولة لا بد وأن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعا - إلى قوله : - فلو اخذ قصد امتثال الأمر قيدا للمأمور به ، فلا محالة يكون الأمر موضوعا للتكليف ومفروض الوجود في مقام الانشاء - إلى قوله : - فيلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده ، وهو بعينه محذور الدور (1).

والخلاصة : هي أن مرجع القضية الحقيقية إلى قضية شرطية يكون الشرط فيها هو وجود الموضوع والجزاء فيها هو نفس الحكم ، فإذا كان نفس الأمر موضوعا ، كان محصل القضية الشرطية هو أنه لو وجد الأمر تحقق الأمر ، فكان الأمر شرطا لنفسه ، وذلك هو بؤرة الاشكالات ، وكان لازم ذلك كون وجود الأمر متوقفا على وجود نفسه ، ضرورة توقف وجود الحكم على وجود موضوعه وهي المحالية في مقام الفعلية.

وهذه الاشكالات إنما نشأت عن جعل الأمر متعلقا بالصلاة المقيدة بداعي الأمر ، إذ لا ريب حينئذ في أن متعلق الأمر قد اخذ مربوطا به الأمر ، ومن الواضح عدم دخول الأمر المذكور تحت الأمر بحيث يكون الواجب على المكلف الاتيان به ، نظير [ الأمر ](2) بالصلاة المقيدة بالطهارة من الحدث القاضي بلزوم تحصيل تلك الطهارة ، فلا بد أن يكون ذلك الأمر المربوط به المتعلق خارجا عن إيجاب الاتيان ، ولازم ذلك هو أخذه مفروض الوجود كما هو الشأن في كل ما هو مربوط بالمتعلق سواء كان

ص: 422


1- أجود التقريرات 1 : 160 - 162 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للاستقامة العبارة ].

داخلا تحت قدرة المكلف كما في العقد في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) أو كان خارجا عن قدرته كما في الوقت في قوله صلّ في الوقت. والأمر فيما نحن فيه من قبيل الثاني لعدم كونه داخلا تحت قدرة المكلف.

والخلاصة : هي أن الموجب لأخذ الأمر المذكور مفروض الوجود كلتا الجهتين ، الاولى : الظهور العرفي ، إذ لا فرق بين قوله صلّ بداعي الأمر وبين قوله أوف بالعقد ، في الظهور في كون الأمر والعقد قد اخذا مفروضي الوجود. والثانية : هي عدم دخوله تحت قدرة المكلف ، فيكون حاله حال الوقت في قوله صل في الوقت في كون أخذه على نحو مفروضية الوجود ، لعدم القدرة عليه المصححة لدخوله تحت التكليف.

والخلاصة : هي أن كل ما كان مربوطا بمتعلق التكليف الذي هو الفعل المأمور به ، إن قام الدليل على عدم دخوله تحت ذلك التكليف ، كان ذلك عبارة اخرى عن أخذه في المتعلق مفروض الوجود ، وأن ذلك التكليف إنما يثبت على فرض وجود ذلك الشيء ، وذلك هو بمعنى كونه موضوعا لذلك التكليف ، سواء كان ذلك الشيء مما يدخل تحت قدرة المكلف أو كان غير داخل تحت قدرته.

ومن ذلك كله يظهر لك الاشكال فيما في الحاشية (2) من المناقشة في أخذ الأمر مفروض الوجود ، وليت شعري إذا لم يكن الأمر قد اخذ مفروض الوجود ولم يكن داخلا تحت الطلب لعدم كونه مقدورا للمكلف فما هو كيفية أخذه في قوله صلّ بداعي [ الأمر ](3).

ص: 423


1- المائدة 5 : 1.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 160.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

وكأن المحشي يتخيل أن هذا الأمر متحقق عند قوله صل بداعي الأمر فلا يكون الأمر الوارد مشروطا بوجوده.

وفيه : ما لا يخفى ، أما أوّلا : فلأن الأمر وإن وجد بقوله صل إلاّ أنه قد وجد متأخرا رتبة عن الأمر المربوط بالداعي المربوط بالمأمور به.

وأمّا ثانيا : فلأن الشرط وإن وجد وتحقق لا يكون تحققه موجبا لانقلاب الحكم المشروط به من المشروطية إلى الاطلاق في القضايا الحقيقية وإنما ذلك في القضايا الخارجية.

وأمّا ثالثا : فلأن دعوى الانقلاب بوجود الشرط إنما هو فيما لو وجد الشرط ثم بعد تحقق وجوده ورد الحكم على ذلك الشخص الواجد للشرط كما لو فرضنا أن وجوب العتق مشروط بواجدية الرقبة ، واتفق أن شخصا كان مالكا للرقبة ثم حدث منه ما يوجب كفارة العتق ، فلا حاجة حينئذ في توجيه الأمر بالعتق إليه إلى اشتراط واجدية الرقبة ، نعم يتوجه إليه قوله اعتق مجردا عن الشرط ، لكن بنحو القضية الخارجية ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن واجدية الأمر لم تكن سابقة عليه بل هي أعني الواجدية للأمر متأخرة عن تعلق الأمر رتبة ، بل يمكن القول بالتأخر الزماني.

ومن الغريب قوله في الحاشية المشار إليها : ومن ثم التزمنا بفعلية الخطابات التحريمية قبل وجود موضوعاتها أيضا ، وذلك لتمكن المكلف من امتثالها ولو بعدم إيجاد موضوعاتها ... إلخ (1).

ويا ليت شعري هل يمكن أن يلتزم أحد بفعلية النهي عن شرب الخمر إذا لم يكن خمر في الدنيا ، وإنما نقول إن النهي فعلي لوجود موضوعه في عالم الوجود ، نعم لو لم يتمكن المكلف من الوصول إليه كان

ص: 424


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 160.

سقوط النهي لأجل عدم القدرة لا لأجل عدم الموضوع ، أما إذا فرض انعدام الخمر من الوجود فلا أظن أن أحدا يلتزم بفعلية النهي ، نعم نلتزم بفعليته على تقدير وجود موضوعه ، وهذا هو محصل القضية الحقيقية وهو محصل الفعلية التقديرية.

وبالجملة : أن انعدام الفعلية إنما هو لانعدام الموضوع ، لا لأجل عدم التمكن كي يدفع ذلك بقوله : وذلك لتمكن المكلف من امتثالها ولو بعدم إيجاد موضوعاتها ، انتهى. ومع قطع النظر عن ذلك يكون اللازم عند المحشي هو [ أن ](1) النهي عن شرب الخمر يقضي بالنهي عن إيجاد الخمر ، فقد أدخل الموضوع الذي هو الخمر تحت التكليف ، والمفروض أن محل الكلام إنما هو في الموضوع الخارج عن حيّز التكليف ، فلاحظ وتأمل أو انظر وتعجب.

قوله : وأمّا في مقام الامتثال ، فلأن قصد الامتثال متأخر عن إتيان تمام أجزاء المأمور به وقيوده طبعا - إلى قوله : - فلا بد وأن يكون المكلف في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله ... إلخ (2).

لعله قدس سره ناظر إلى أن الأمر المتعلق بالمركب من ذات الصلاة وقصد الامتثال ، أو المتعلق بذات الصلاة المقيدة بقصد الامتثال تعبدي يحتاج في حدّ نفسه إلى قصد الامتثال ، وحينئذ يكون قصد الامتثال واقعا بقصد الامتثال ، فيتأتى المحذور وهو لزوم تحقق قصد الامتثال بقصد الامتثال ، فيلزم منه تقدم قصد الامتثال على قصد الامتثال ، أما لو لم نلتزم بكون ذلك الأمر المتعلق بالمركب أو بالمقيد تعبديا يتوقف في حد نفسه على قصد

ص: 425


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 1 : 162.

الامتثال بما تعلق به فلا يلزم المحذور المذكور ، إذ لا يتكرر حينئذ قصد الامتثال ، نعم يتأتى الاشكال في نفس ذلك الأمر وهو أنه كيف يتعلق الأمر بقصد امتثال نفس ذلك الأمر ، أو إشكال عدم القدرة بالنسبة إلى الجزء الأول من ذلك المركب ، فان ذات الصلاة إذا لم تكن متعلقة للأمر كيف يمكن الاتيان بها بقصد امتثال أمرها ، وهو إشكال الكفاية (1) الراجع إلى عدم القدرة ، لكن لا عدم القدرة على نفس الصلاة بل عدم القدرة على قصد امتثال الأمر المتعلق بها ، لأن الفرض عدم تعلق الأمر بها.

قوله : وأما بناء على ما ذهب إليه استاذ الأساطين الشيخ الأنصاري قدس سره (2) من كون قصد الجهة وهي المصلحة موجبا للتقرب في عرض قصد الأمر ، فيلزم من أخذه في المأمور به ذاك المحذور عينا ... إلخ (3).

لعل نظر الشيخ قدس سره إلى أن كلا من التعبدي والتوصلي مشتمل على المصلحة ، غير أن المصلحة في التوصلي قائمة بنفس الفعل من دون توقف على إتيانه بعنوان التعبد ، بخلاف التعبدي فان مصلحته موقوفة على كونه عباديا ، وكونه كذلك يحصل عليه المكلف إما باتيانه به بداعي الامتثال أو باتيانه به بداعي المصلحة وإن لم يكن بداعي الامتثال كما في العبادة المزاحمة بالأهم فيما لو لم يتم الترتب ، وحينئذ لا يتوجه عليه إشكال أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الأمر في متعلق ذلك الأمر.

نعم ، يتوجه عليه الدور الذي أفاده شيخنا قدس سره من أن الاتيان به بداعي

ص: 426


1- كفاية الاصول : 72 ، 73.
2- كتاب الطهارة 2 : 48.
3- أجود التقريرات 1 : 163 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

المصلحة يتوقف على تحقق المصلحة فيه ، وتحققها فيه متوقف على الاتيان به بداعي المصلحة لكونه محققا لعباديته التي هي حسب الفرض قيد المأمور به الموجب لتوقف المصلحة على حصوله.

ولكن يمكن أن يوجّه نظره قدس سره على وجه لا يتوجه عليه الدور المذكور بأن يقال : إن التوصلي وإن شارك التعبدي في كون الأمر في كل منهما عن مصلحة فيه ، ولكن ربما كانت تلك المصلحة متوقفة على القصد بأن تكون من العناوين القصدية المحتاجة في تحققها إلى قصد ، وربما كانت غير متوقفة على ذلك ، فالأول هو التعبدي والثاني هو التوصلي ، مثال ذلك النهوض فانه ربما كان مرادا للآمر من جهة كونه رياضة بدنية بأن تكون مصلحته مقصورة على ذلك ، وربما كان مرادا للآمر من جهة كونه تعظيما للوارد ، فالأول نقول إنه توصلي لتحقق المصلحة الباعثة على الأمر به بمجرد تحققه ، بخلاف الثاني لتوقف المصلحة فيه على إتيانه بداعي التعظيم أعني بقصد التعظيم ، وحينئذ يكون الدور المذكور غير وارد ، لأن هذا النحو من المصالح لم يكن من الامور المترتبة على الفعل على نحو المسببات المباينة لأسبابها التي تكون أسبابها بالنسبة إليها من قبيل المقدمات الاعدادية كما في مثل الثواب والعقاب ، بل هي من قبيل العناوين الثانوية لفعل الفاعل ، غايته أنها تارة تكون متوقفة على قصد كما في مثل التعظيم بالنسبة إلى القيام ، واخرى لا تكون متوقفة على ذلك كما في مثل الرياضة البدنية بالنسبة إلى القيام أيضا ، والذي ينبغي هو أن لا يسمى مثل التعظيم بالنسبة إلى القيام بالداعي ، لما عرفت في بعض المباحث السابقة (1)

ص: 427


1- لاحظ الصفحة : 329 - 330.

من أن الداعي بمعنى العلة الغائية لا يكون اختياريا للفاعل ، بل يكون فعله بالنسبة إليه من المقدمات الاعدادية ، فالتعظيم لا يكون غاية للقيام فلا يكون داعيا اصطلاحيا ، لكن يمكن إطلاق الداعي عليه بنحو من التسامح وإلاّ فانه بنفسه يكون مفعولا للفاعل ، غايته أنه عنوان ثانوي لفعله لا عنوان أوّلي ، وذلك لا يخرجه عن كونه فعلا له ، غايته أنه يتوقف على القصد فيقال قمت بقصد التعظيم أو بداعي التعظيم ، ولا فرق في المؤدى بين التعبيرين.

وكيف كان ، نقول إنه لو كانت المصلحة الباعثة على الأمر الموجودة في المتعلق نظير التعظيم بالنسبة إلى القيام ، بحيث يكون الأمر متعلقا بالقيام وتكون المصلحة الباعثة عليه هي التعظيم ، كان قصد تلك المصلحة كافيا في تحققها ، ثم بعد ذلك نقول : إن تلك المصلحة وبعبارة أجدر إن ذلك العنوان الثانوي الذي هو الصلاح في الفعل المأمور به المفروض كونه متوقفا على القصد ، ربما كان قصد امتثال الأمر كافيا عن قصده بنفسه ، لأن قصد الامتثال قصد إجمالي لذلك العنوان الثانوي ، لأن الفرض أن الأمر الواقعي قد تعلق بالقيام الذي يقصد به التعظيم ، فكان قصد امتثال ذلك الأمر كافيا في تحقق ذلك العنوان القصدي الذي هو المصلحة أو العنوان الثانوي ، فيكون قصد امتثال الأمر وقصد ترتب المصلحة المذكورة كل منهما في عرض الآخر في كونه محققا لما هو المطلوب من ذلك الصلاح الواقعي المنوط بقصد ذلك العنوان.

ومن ذلك يظهر لك أنه يمكن سلوك طريقة في تصوير التعبدي خالية من إشكال أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلقه ، بأن نفرض أن المكلف كان جاهلا بحقيقة التعظيم وبترتبه على القيام لكن المولى كان عالما بذلك ، فلا ريب أن ذلك الآمر إنّما يعلّق أمره واقعا وفي مقام الثبوت

ص: 428

بالقيام المشتمل على التعظيم المتوقف حسب الفرض على القصد ، لكن في مقام الحصول على ذلك واستحصاله من المكلف الجاهل المذكور الذي هو عبارة عن مقام الكشف والاراءة الذي نعبّر عنه بمقام الاثبات والدلالة لا بد لذلك الآمر من أن يعلّق أمره أوّلا بنفس الفعل ( وفي الواقع مراده الفعل الذي هو بقصد ذلك العنوان ) ثم يأمره بقصد امتثال ذلك الأمر ، لكون هذا العنوان الثانوي أعني عنوان الامتثال ملازما في الخارج للعنوان الثانوي الآخر الذي هو عنوان التعظيم المفروض كونه قصديا ، وكونه مجهولا للمكلف على وجه لا يمكنه اطلاعه عليه ، وكونه يكفي فيه القصد الاجمالي ولو بقصد ما يلازمه الذي هو قصد الامتثال ، ويكون هذا القصد المتعلق بالامتثال محققا لذلك العنوان الآخر أعني عنوان التعظيم.

ثم لا يخفى أن قصد تلك العناوين الثانوية القصدية ليس من قبيل الارادة ولا من قبيل الدواعي الاصطلاحية التي عرفت أنها غير قابلة لتعلق إرادة المكلف بها كي يتوجه عليه الاشكال المتوجه على الأمر الثاني الذي هو متمم الجعل كما تقدّم تفصيله (1).

بل إن تلك العناوين الثانوية هي من أفعال المكلف غايتها أنّها تتوقف على القصد ، ومن الواضح أن نفس القصد فعل اختياري قابل لتعلق إرادة المكلف ، وحينئذ يصح تعلق أمر الآمر به وطلبه من العبد ، فالعبادية عبارة عن القصد إلى ذلك العنوان الثانوي الذي فرضنا كونه مجهولا للمكلف ، وأنه يمكن تحصيله من ذلك المكلف بأن يقصد العنوان الثانوي الآخر الملازم قصده لتحقق ذلك العنوان المطلوب ، وذلك العنوان الثانوي

ص: 429


1- [ لم نعثر عليه ].

الآخر هو الامتثال ، وهو أيضا فعل اختياري للمكلف ، غايته أنه عنوان ثانوي لفعله المذكور ، لا أنه من المسببات التوليدية التي لا تكون إلاّ داعيا محضا.

ثم لا يخفى أن ذلك العنوان الثانوي الذي هو مناط العبادة الذي قلنا إنه ملازم في القصد لعنوان الامتثال ، لا بد من فرض كونه قصديا وإلاّ لكان نفس الفعل محققا له بلا حاجة إلى توسط قصد الامتثال.

قوله : فيلزم من أخذه في المأمور به ذاك المحذور عينا ... إلخ (1).

لا يخفى أنه لو كان مراد الشيخ قدس سره أنّ ذات الواجب التعبدي فيه مصلحة كما في التوصلي ، لكن التعبدي يزيد على التوصلي أن الشارع قيّد الاتيان بذلك الفعل بكونه بقصد المصلحة المترتبة على نفس [ الفعل ](2) بخلاف التوصلي ، لم يرد عليه شيء ممّا أفاده شيخنا قدس سره.

نعم ، إن ذلك التقييد لا بد أن يكون لمصلحة اخرى لا دخل لها بمصلحة أصل الفعل ، بنحو لا يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل تكون المصلحة في نفس التقييد لا في مجرد الاتيان بأصل الفعل ذي المصلحة بداعي مصلحة نفسه.

لكن ذلك وإن اندفع به المحذور الذي أفاده شيخنا قدس سره إلاّ أن التخلص عن كونه من قبيل الواجب في واجب في غاية الصعوبة ، لأن المصلحة الاولى الراجعة إلى ذات الفعل إن كانت غير متوقفة على استيفاء المصلحة الثانية القائمة بالاتيان به بداعي مصلحة نفسه ، كان من قبيل الواجب في واجب ، وكان لازمه سقوط التكليف لو لم يأت به بداعي

ص: 430


1- أجود التقريرات 1 : 163.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

مصلحة نفسه.

وإن كانت المصلحة الاولى متوقفة على استيفاء المصلحة الثانية ، توجّه المحذور الذي أفاده شيخنا قدس سره لأن مصلحة ذات الفعل حينئذ متوقفة على قصد مصلحة ذاته ، وحينئذ لا فرق بين ذلك وبين أن لا يكون في ذات الفعل مصلحة أصلا ، وإنما كانت المصلحة منحصرة بالتعبد به الذي هو الاتيان به بداعي المصلحة في تأتّي المحذور الذي أفاده شيخنا قدس سره.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أن تلك المصلحة المتوقفة على القصد المذكور إن كانت نسبتها إلى الفعل المذكور كنسبة العناوين الثانوية المتقومة بالقصد إلى العناوين الأولية نظير نسبة عنوان التعظيم إلى القيام في كونه عنوانا ثانويا متولدا من كونه مقصودا بالقيام ، فلربما قلنا إنه لا يتوجه عليه المحذور المذكور ، لأنّ هذا العنوان الثانوي القصدي الذي هو التعظيم وإن توقف على قصده من القيام إلاّ أن قصده منه كاف في حصوله ، ولا يتوقف على اتصاف القيام بكونه في حد نفسه تعظيما.

وهكذا الحال في المصلحة فيما نحن فيه فانها وان توقفت على قصدها من الفعل ، إلاّ أن قصدها من الفعل كاف في حصولها ، ولا يتوقف قصدها على اتصاف الفعل بها في حدّ نفسه.

لكن الظاهر أن المصلحة المترتبة على الأفعال ليست من العناوين الثانوية التي تكون مقدورة للمكلف بواسطة القدرة على الفعل بعنوانه الأولي ، غايته أنها متوقفة على القصد ، بل إن المصلحة معلولة للفعل وهي مباينة له ، فلا يعقل أن يكون حصولها من الفعل متوقفا على قصدها ، لأن قصدها متوقف على حصولها بالفعل وحصولها بالفعل يتوقف على قصدها.

ص: 431

أمّا ما ذكره في الحاشية صفحة 108 (1) فلعله راجع إلى دعوى انبساط المصلحة على كل من الفعل وقصد المصلحة ليكون حالها حال الأمر فيما تقدم منه في حاشية صفحة 106 و 107 (2) ، وقد عرفت ما فيه ، مضافا إلى أن المصلحة ليست قابلة للتبعيض المدعى في الأمر. أو لعله راجع إلى الوجه الأول مما ذكرناه ، أعني كون المصلحة من سنخ العناوين الثانوية ، وقد عرفت ما فيه ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك يتضح لك الاشكال فيما تضمنه تحرير الآملي لدروس الاستاذ العراقي قدس سره (3) فراجعه فانه عين ما في الحاشية المذكورة.

قوله : وأمّا على المختار من كون جميع الدواعي القربية في عرض واحد ، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله تعالى كما يستفاد من قوله عليه السلام « وكان عمله بنية صالحة يقصد بها ربه » (4) فوجه امتناع أخذ الجامع المنطبق على جميع الدواعي ... إلخ (5).

لا بد أن يكون المراد من كون العمل لله تعالى هو رضوانه ، وبقية الدواعي كلها مصاديق لكونها محققات لرضاه ، أما لو اخذ الرضوان بمعنى آخر وهو المشار إليه بقوله تعالى ( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) (6) فلا أظن إلاّ

ص: 432


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 163 من الطبعة الحديثة.
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 160 - 161 من الطبعة الحديثة.
3- بدائع الأفكار : 235.
4- [ لم نعثر على لفظه ، نعم روي ما يستفاد ذلك منه ، راجع وسائل الشيعة 1 : 59 / أبواب مقدمة العبادات ب 8 ].
5- أجود التقريرات 1 : 163 - 164 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
6- التوبة 9 : 72.

أنه معنى آخر أعلى من الجميع نظير قوله عليه السلام « بل وجدتك أهلا للعبادة » (1) وعلى أيّ حال فان في كون الداعي أيّ داع كان متعلقا للأمر إشكالا من جهتين :

الاولى : أنه عبارة عما يكون تصوره باعثا على الارادة الموجدة للفعل ، فهو أعني ذلك التصور يطرأ على النفس قهرا ولا تدخله الارادة والاختيار ، نعم يكون الفعل المنبعث عن الارادة المنبعثة عن ذلك التصور اختياريا.

الثانية : ما أشار إليه شيخنا قدس سره من كونه سابقا على الارادة المتعلقة بالفعل فلا تتعلق به إرادة المكلف ، وإذا لم تتعلق به إرادة المكلف لم يكن قابلا لتعلق الارادة الشرعية ، لأنّها تحدث في ناحية المكلف نفس الداعي على الارادة المتعلقة بالفعل ، فإذا فرضنا استحالة كون الداعي تحت إرادة المكلف كان لازمه استحالة تعلق الارادة الشرعية به ، فان كان مراده قدس سره استحالة كون الداعي متعلقا لارادة المكلف بالمرة الموجب لاستحالة تعلق الارادة الشرعية ، ورد عليه ما في الحاشية صفحة 109 (2) وكما تضمنه تحرير الآملي (3) لدرس الاستاذ العراقي قدس سره أوّلا : النقض بالأمر الثاني الذي صحح به المسألة الذي سمّاه متمم الجعل فانه متعلق بالداعي. وثانيا : أن الارادة التي يستحيل تعلقها بالداعي هي الارادة المنبعثة عنه ، أعني الارادة المتعلقة بالفعل الصادرة عن ذلك الداعي ، أما تعلق إرادة اخرى به هي فوق تلك الارادة فلا مانع من تعلقها بالداعي بعد فرض كونه اختياريا ، وغض النظر

ص: 433


1- بحار الأنوار 70 : 186 / 7 ( باختلاف يسير ).
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 164 من الطبعة الحديثة.
3- بدائع الأفكار : 236.

عن الاشكال فيه من الجهة الاولى ، وتكون تلك الارادة المتعلقة بالداعي صادرة عن داع آخر ، فهناك داع يدعو إلى تعلق الارادة بايجاد الداعي ، وهذا الداعي الثاني يدعو إلى إرادة ثانية تتعلق بالفعل الخارجي.

ولا يبعد أن يكون نظر شيخنا قدس سره في هذا الاشكال مقصورا على ما إذا كان الأمر الشرعي واحدا متعلّقا بالفعل الصادر عن الارادة الصادرة عن الداعي ، فيكون ذلك الأمر الواحد محدثا للداعي في نفس المكلف أعني به الداعي المحرك لارادة المكلف ذلك الفعل ، ومن الواضح أن نفس ذلك الداعي على تلك الارادة المتعلقة بالفعل لا يعقل دخوله تحت تلك الارادة ، ليكون ذلك الأمر المتعلق بذلك الفعل متعلقا أيضا بذلك الداعي.

قال قدس سره فيما حررته عنه بعد أن ذكر الاشكال في الجميع وأوضحه بعض الايضاح ما هذا لفظه : وبالجملة فلا يمكن أن تكون الارادة الواحدة من المولى جامعة لنفس الفعل وللداعي إليه ، وهذا مطلب سيّال في جميع الدواعي على الأفعال ، فانّها بأسرها لا يمكن أن تكون قيدا لما تعلّقت به إرادة المولى بحيث تكون الارادة الواحدة من المولى متعلقة بنفس الفعل وبالداعي للعبد على الاتيان به ، انتهى.

وقال قدس سره في رسالته في التعبدي والتوصلي ما هذا لفظه : فحيث إن متعلق الارادة والداعي الباعث لها طوليّان ليس أحدهما في رتبة الآخر ولا صالحا لأن يتركب معه أو يكون من كيفياته وحالاته ، ولا يعقل وقوعهما تحت إرادة واحدة فاعلية بشيء من الوجهين ، فلا يعقل أن تتعلق بهما إرادة واحدة آمرية ويتكفلهما بعث واحد كذلك ، وليس متعلق الارادة الآمرية إلاّ عين ما تتعلق به الارادة الفاعلية بتوسيطها دون نفسها كي يمكن تقييدها بالمنبعثة عن داع كذائي ، وإلاّ لزم أن تكون بارادة اخرى كما لا يخفى ...

ص: 434

إلخ (1).

نعم ، يمكن ذلك بأمر آخر يتعلق بذلك الداعي ويكون باعثا للمكلف وداعيا له إلى تعلق إرادة اخرى تتعلق بذلك الداعي ، فيكون ذلك الأمر الثاني محدثا لداع ثان في نفس المكلف يحمله على تعلق إرادته بالداعي الباعث على الارادة المتعلقة بالفعل ، فلا يرد عليه الاشكال الثاني لأنه قدس سره لم يمنعه فيما إذا كان بأمر ثان ، ولا النقض بالأمر الثاني الذي هو متمم الجعل ، نعم يبقى إشكال الجهة الاولى وهو كون الداعي غير قابل لتعلق الارادة به أصلا لكونه يحدث قهرا في نفس الفاعل.

ولا يخفى أن ذلك ( أعني كون هناك داع يدعو المكلف إلى تعلق إرادته بايجاد الداعي الثاني الموجب لتعلق إرادته ثانيا بنفس العمل الذي هو الصلاة ليكون هناك داعيان وإرادتان وأمران شرعيان يتعلق أحدهما بالفعل والآخر بالداعي على الارادة المتعلقة بذلك الفعل ) ممّا يكاد يحصل القطع بعدمه ، وهو خلاف ما نجده وجدانا في أعمالنا العبادية ، فان كل مسلم حينما يقدم على الصلاة لا يرى من نفسه أنه قد حدثت عنده إرادتان تعلقت إحداهما بنفس العمل والاخرى بالداعي على تلك الارادة ، وأن له داعيين داعيا على إرادة العمل وداعيا على إرادة ذلك الداعي ، وشيخنا قدس سره وإن قال بتعدد الأمر إلاّ أنه لا يبعد أن يكون مراده أن متعلق الثاني هو القصد القائم بالعمل ، بمعنى أن الأمر الثاني يتعلق بقصده الامتثال بالاتيان بالفعل ، لا أن متعلقه هو نفس الداعي كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (2).

ص: 435


1- رسالة في التعبدي والتوصلي ( مخطوطة ) : 12.
2- في صفحة : 437 وما بعدها.

ثم لا يخفى أنه بناء على ذلك لا يمكن التركيب بين المتعلقين ليكتفى في ذلك بأمر واحد متعلق بالمجموع ، إذ لا تركيب بين نفس الفعل وبين الداعي على إرادته. مضافا إلى ما عرفت من عدم اختيارية الداعي ، نعم يمكن جعل الأمر الثاني متعلقا بالقصد ، وحينئذ يصح التركيب من الفعل وقصد عنوان الامتثال به ، ويكتفى بالأمر بالمجموع أو المقيد ، لكن لو كان على نحو التركيب توجه عليه الاشكالات الأربعة التي عرفتها (1) ، ولو كان على نحو التقييد بأن يكون الأمر متعلقا بالفعل المقصود به امتثال ذلك الأمر لزم أخذ الأمر في متعلق نفسه ، فيكون من قبيل كون الأمر شرطا في نفس الأمر.

ولكن المحشي (2) لم يظهر من كلامه في دعوى الأمر الواحد الفرق بين كون متعلق الأمر الثاني هو الداعي أو كونه هو القصد ، بل إنه مع تصريحه بكون المتعلق للأمر الثاني هو الداعي جعل المتعلق فعلا نفسانيا ، وقد عرفت أن الداعي انفعال نفساني وهو غير قابل لتعلق الأمر به ، وأن الذي هو فعل نفساني هو قصد العنوان الثانوي للفعل وهو عنوان الامتثال الذي هو فعل ثانوي للفاعل ، وأنه لكون قوامه القصد يكون فعلا نفسانيا.

ثم لا يخفى أن المستفاد من تحرير الآملي (3) أن إشكاله ثانيا منصب على الداعي إلى الداعي ، فانه وإن صوّر المقام بوجود داع آخر يتعلق به الأمر ليكون الأمر داعيا إلى الداعي ولازمه توسط الارادة بين الداعيين ، إلاّ أنه مع ذلك جعل المقام من قبيل الداعي إلى الداعي ، ومن الواضح أن

ص: 436


1- في صفحة : 397 - 398.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 164.
3- بدائع الأفكار : 236.

مسألة الداعي إلى الداعي لا دخل لها بتوسط الارادة بين الداعيين ، بل إن مسألة الداعي إلى الداعي هي كون الفعل له فائدتان طوليتان ، ففائدة الفعل هي الامتثال وفائدة الامتثال هي الثواب ، وفي الحقيقة يكون الداعي الحقيقي هو الثواب.

ولأجل ذلك أفاد شيخنا قدس سره في حاشيته على العروة فيما أفاده الماتن في الصلاة الاستيجارية بقوله : لكن التحقيق أن أخذ الاجرة داع لداعي القربة ... إلخ ، ما هذا لفظه : الظاهر أن إيراده تقريبا للاشكال أولى من أن يذكر دفعا له (1) ، وتوضيحه هو ما عرفت من أنه عند اجتماع الدواعي الطولية يكون الداعي الحقيقي على الفعل هو الأخير ، فإن الأجير يفعل الفعل بداعي القربة ليترتب عليه أخذ الاجرة ، فكان الداعي الحقيقي هو أخذ الاجرة ، لكن الذي يريده المحشي فيما نحن فيه هو توسط الارادة بين الداعيين وإمكان تعلق الارادة المتوسطة بالداعي.

والتحقيق أن الداعي لا يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل أصلا سواء كانت هي الارادة التي كان ذلك الداعي باعثا عليها أو كانت هناك إرادة اخرى تتعلق بايجاد ذلك الداعي. أما الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أن الداعي ليس من أفعال النفس بل هو من انفعالاتها أو من كيفياتها فلا تدخله الارادة والاختيار ، وإن شئت توضيح ذلك فنقول بعونه تعالى :

إن كون الشيء داعيا أعني كون تصور ترتبه على الفعل باعثا على الارادة المتعلقة بذلك [ الفعل ](2) مرحلة وهي مرحلة انفعال النفس ، وكون

ص: 437


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام ) 3 : 79 مسألة 2 من صلاة الاستئجار.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

الفعل واقعا بقصد العنوان الفلاني مرحلة اخرى وهي مرحلة الفعل النفساني. إذ ربما اتحد مورد المرحلتين كما في الامتثال فان تصور ترتبه على فعل المأمور به يكون داعيا ، وهو أيضا يكون مقصودا بالفعل ، بمعنى أن المكلف عند ما يقدم على الفعل المأمور به يكون قد قصد به امتثال الأمر ، ولعل هذا جار في جميع العناوين الثانوية التي قوامها القصد مثل التعظيم الحاصل بالقيام.

وربما كان الداعي مقصورا على المرحلة الاولى كما في الثواب والفرار من العقاب ، فان تصور ترتبه على الفعل يكون داعيا للمكلف وباعثا لارادته نحو الفعل المأمور به ، لكن ترتبه على الفعل لا يتوقف على قصده لعدم كونه من العناوين الثانوية فضلا عن كونه متقوما بالقصد ، نعم ربما قصد المكلف بذلك الفعل ترتب الثواب عليه ، لكن ذلك غير دخيل في ترتب الثواب عليه إلاّ إذا دل الدليل على تقييد المأمور به بأن يفعل بقصد ترتب الثواب عليه ، ولازم ذلك هو أن ذلك الثواب لا يترتب على ذات الفعل بل إنما يترتب على فعله بقصد الثواب ، وحينئذ يتوجه الاشكال الذي شرحناه في المصلحة.

وربما كان العنوان مقصورا على المرحلة الثانية كما في العبادة والخضوع فانها عنوان ثانوي للفعل متوقف على القصد ، لكن ليست من الدواعي ، فان الداعي لإيقاع الانحناء بقصد الركوع أو إيقاع وضع الجبهة على الأرض بقصد السجود أو بقصد العبادة والخضوع مطلب آخر وهو الثواب أو الفرار من العقاب أو مجرد الامتثال ، إلى غير ذلك من الدواعي.

ولا يخفى أن المهم لنا هو التباين بين المرحلتين ، فإن مرحلة الداعي إنما هي قبل إرادة الفعل ، ومرحلة قصد العنوان من الفعل إنما هي متأخرة

ص: 438

عن الارادة ، بمعنى تعلق الارادة بالفعل وقصد العنوان به ، ولا يهمنا تحقيق التلازم موردا بين المرحلتين ، بمعنى أن كل ما يكون تصور ترتبه على الفعل داعيا على إرادته يكون هو عنوانا مقصودا بالفعل ، أو التفكيك بين المرحلتين موردا ، ليكونا نظير العموم من وجه ، فإن تحقيق ذلك لا يهمنا ، وإنما المهم لنا هو ما عرفت من التباين بين المرحلتين ، أعني مرحلة كون الشيء داعيا ومرحلة كونه مقصودا بالفعل.

لا يقال : إن القصد عبارة عن الارادة فلا يقع موردا للتكليف ، لأنه لا تتعلق به إرادة الفاعل ، حيث إن الارادة لا تكون بارادة اخرى وإلا لزم التسلسل ، وهو ما أشار إليه في الكفاية (1) في جواب إن قلت الأخيرة.

لأنا نقول : إن القصد فعل نفساني وليس هو عين الارادة ، بل بعد البناء على كونه فعلا من أفعال النفس أعني كونه فعلا قلبيا لا مانع من تعلق الارادة به ، ولو سلّمنا كونه عين الارادة لقلنا إن المأمور به هو القيام المقيد بالتعظيم ، وهذا المقيد يقع متعلقا لارادة واحدة من المكلف ، غايته أن ذات الفعل الذي هو ذات القيام لا يتوقف على الارادة بل ربما وجد من فاعله سهوا أو غفلة ، لكن القيد الذي هو كونه تعظيما يتوقف على الارادة ، فتلك الارادة المتعلقة بالقيام المقيد بالتعظيم تكوّن نفس القيام وقيده الذي هو التعظيم ، ويكون الحاصل هو تعلق إرادة المكلف بالقيام والتعظيم ، ويكون ذلك أعني القيام والتعظيم الذي هو قيده متعلقا لأمر المولى الموجب لتعلق إرادة المكلف بهما ، فلا حاجة إلى الالتزام بأن المأمور به هو القيام وقصد التعظيم ، وإن كان المتعين هو ما ذكرناه من كون قصد التعظيم بالقيام ليس

ص: 439


1- كفاية الاصول : 73 [ وهي « إن قلت » ما قبل الأخيرة في كلام صاحب الكفاية قدس سره ].

هو من مقولة الارادة النفسانية الباعثة على الفعل ، بل هو من أفعال النفس وهو من سنخ قصد المعنى من اللفظ ، فإنه وإن عبّر عنه بارادة المعنى من اللفظ ، إلاّ أن المراد بالارادة ليس هو تلك الارادة النفسانية الباعثة على الفعل ، بل المراد بها ما عرفت من القصد الذي هو فعل جناني.

نعم ، في العنوان الثانوي غير المتوقف على القصد مثل الاحراق بالنسبة إلى الالقاء في النار ، يكون قصد الاحراق من الالقاء من مقولة الارادة النفسانية ، حيث إن نفس فعل الالقاء هو إحراق وإن لم يكن الملقي عالما بوجود النار ، غايته أنه قد أحرقه بلا إرادة وقصد ، بخلاف ما لو كان عالما وأراد إحراقه فألقاه في النار فانه حينئذ يكون قد أحرقه بالارادة ، وحينئذ يكون قصد الاحراق عبارة اخرى عن إرادة الاحراق ، بخلاف مثل التعظيم الذي يكون قوامه القصد ، فان هذا القصد ليس هو نفس الارادة بل ذلك القصد الذي هو فعل قلبي حاصل بالارادة ، فلاحظ.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن المرحلة الاولى أعني كون الشيء داعيا لا يدخلها الاختيار ولا يتعلق بها الأمر ، بخلاف المرحلة الثانية التي هي مرحلة القصد ، وحينئذ نقول إن هذه الدواعي التي عددها شيخنا قدس سره إن كان المنظور بها هو المرحلة الاولى ، استحال تعلق الارادة بها تكوينية من العبد أو تشريعية من جانب الشارع ، وإن كان المنظور بها هو المرحلة الثانية دخلت تحت الاختيار وأمكن تعلق الأمر بها ، وهذا هو ما نسمّيه بأفعال النفس أو أفعال القلب أو أفعال الجوانح في قبال أفعال الجوارح.

نعم ، إن بعض هذه العناوين القصدية لا يمكن أخذها قيدا في متعلق الأمر بأمر واحد ، وذلك مثل قصد امتثال الأمر المتعلق بذلك العمل ، بأن

ص: 440

يقول صلّ قاصدا بالصلاة امتثال هذا الأمر المتعلق بها ، وذلك للمحاذير السالفة الذكر ، وحينئذ يتوصل الآمر إلى ذلك بجعل أمر متعلق بذات الفعل ثم يأمره ثانيا بأن يقصد بذلك الفعل عند الاتيان به امتثال ذلك الأمر المتعلق به ، وليس هذا الأمر الثاني متعلقا بالداعي.

ومثله في الاشكال اعتبار قصد مصلحة ذلك الفعل مع فرض كونها متوقفة على القصد المذكور. والظاهر أن هذا الاشكال في المصلحة لا يدفعه تعدد الأمر ، لأن منشأه محالية قصد مصلحة الفعل مع فرض كونها متوقفة على القصد ، وهذه المحالية لا تندفع بتعدد الأمر.

ومن ذلك يظهر لك أنه لو جعلنا القيد هو قصد العبادية والخضوع ونحوهما ، فالظاهر أنه لا مانع من أخذ قصدها قيدا في المأمور به ، وحينئذ يمكننا القول بأن قصد امتثال الأمر أو قصد التوصل إلى الثواب أو الفرار من العقاب محقق لذلك العنوان أعني عنوان التعبد والخضوع الذي كان قصده قيدا في المأمور به ، فتأمل.

وبالجملة : يمكن أن يقال إنه لا دليل على اعتبار قصد الامتثال أو داعي الأمر أو قصد المصلحة على وجه يكون أحد هذه الامور قيدا في المطلوب ، بل ليس لنا إلاّ أدلة خاصة في موارد خاصة دالة على اعتبار التعبد والخضوع والعبادية في تلك الواجبات ، وهذا المقدار لا مانع من اعتباره في متعلق الأمر في مقام الثبوت والاثبات ، سواء كان إثباته بدليل منفصل أو كان بالتقييد المتصل ، نعم إن قصد الامتثال وكذلك الاتيان بداعي الأمر مما يحكم العقل بأنّها محققات لما هو القيد الأصلي أعني العبادية والخضوع ، فيرتفع الاشكال بحذافيره وبجميع أطواره وجهاته.

ص: 441

قوله : فيستحيل كونه في عرض العمل الصادر عن الارادة التكوينية ، فان المفروض سبقه على الارادة ... إلخ (1).

قال شيخنا قدس سره في رسالته في التعبدي والتوصلي ما هذا لفظه : فحيث إن متعلق الارادة والداعي الباعث لها طوليان ليس أحدهما في رتبة الآخر ، ولا صالحا لأن يتركب معه أو يكون من كيفياته وحالاته ، ولا يعقل وقوعهما تحت إرادة واحدة فاعلية بشيء من الوجهين ، فلا يعقل أن تتعلق بهما إرادة واحدة آمرية ويتكفلهما بعث واحد كذلك ، وليس متعلق الارادة الآمرية إلاّ عين ما تتعلق به الارادة الفاعلية بتوسيطها دون نفسها كي يمكن تقييدها بالمنبعثة عن داع كذائي وإلاّ لزم أن تكون بارادة اخرى كما لا يخفى ، انتهى (2).

وتوضيح ذلك : أنه بعد فرض كون الداعي هو الباعث على الارادة المتعلقة بالفعل ، واستحالة كونه في عرض الفعل متعلقا لتلك الارادة ، لم يعقل التركيب بين الداعي والفعل ، أو تقييد الفعل بذلك الداعي وجعل نفس تلك الارادة متعلقة بذلك المركب من الفعل والداعي أو بذلك الفعل المقيد بذلك الداعي ، نعم مع قطع النظر عن كون الداعي من انفعالات النفس أو من كيفياتها التي لا تكون بالارادة ، يمكن القول بوقوع الداعي الباعث على إرادة الفعل متعلقا لارادة اخرى تتعلق بايجاد ذلك الداعي بداع آخر يبعث على تلك الارادة الاخرى ، وحينئذ تكون هناك إرادتان بداعيين ، فالداعي الأول باعث على الارادة الاولى المتعلقة بايجاد الداعي الثاني ، والداعي الثاني باعث على الارادة الثانية المتعلقة بالفعل ، ومع هذا التكلف فلم يكن

ص: 442


1- أجود التقريرات 1 : 164 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- رسالة في التعبدي والتوصلي ( مخطوطة ) : 12.

متعلق الارادة الثانية مركبا من الفعل مع الداعي عليها ولا مقيدا به ، بل كان متعلقها هو نفس الفعل وذاته ، كما هو (1) الحال في متعلق الارادة الاولى فانّه نفس إيجاد الداعي ولا تركيب فيه ولا تقييد ، وحينئذ لو كانت هذه السلسلة مطلوبة للمولى لم يمكن استيفاؤها إلاّ بأمرين ، أمر يتعلق بايجاد الفعل وأمر يتعلق بايجاد الداعي الباعث على إرادة ذلك الفعل ، ليكون الغرض من الأمر الأول هو إحداث الداعي الأول في ناحية المكلف على إرادته الفعل ، ويكون الغرض من الأمر الثاني هو إحداث الداعي الثاني في ناحية المكلف على إرادة إيجاد الداعي الأول ، ولا يمكن أن يتكفل الأمر الواحد بهذين الغرضين إلاّ على التركيب أو التقييد الذي قد عرفت عدم معقوليته لعدم معقولية التركيب بين الفعل وداعيه أو تقييده به.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة فيما تضمنته الحاشية ، فانه مع التزامه بهذه السلسلة بقوله : والتحقيق أن المستحيل إنما هو تعلق شخص الاختيار الناشئ عن داع بذلك الداعي بعينه ، وأمّا تعلق اختيار آخر به غير الاختيار الناشئ منه فهو بمكان من الامكان ، قال : ولكنه بما أن المفروض ترتب الغرض الواحد على الفعلين معا ، فلا مناص عن كون الشوق أو الأمر المتعلق بهما واحدا أيضا (2).

نعم ، لو حولنا العنوان من مرحلة الداعي إلى مرحلة القصد بالفعل ، الغيت تلك السلسلة وصار المطلوب هو الفعل المقيد بقصد العنوان ، وهذا لا يحتاج إلى تعدد الاختيار والارادة ، بل لا يكون في ناحية المكلف إلاّ اختيار واحد متعلق بالفعل المقيد بالقصد الذي هو فعل نفساني - سواء

ص: 443


1- [ في الأصل : كما أن ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 164.

أخذناه جزءا أو أخذناه قيدا - أما نفس الداعي فقد عرفت أنه ليس بفعل نفساني بل هو انفعال نفساني أو كيف نفساني ، والذي يظهر من المحشي هو الخلط بين المرحلتين أعني مرحلة الداعوية ومرحلة القصد فلاحظ وتدبر.

قوله : وحاصله ، أن نفس الداعي القربي وإن لم يمكن أخذه في المتعلق بوجه من الوجوه ، إلاّ أنه يمكن أخذ عنوان في المأمور به يكون ملازما لأحد الدواعي القربية وجودا وعدما ، فالفرق بالأخرة إنما يكون باختلاف المتعلق ، والدواعي ملازمة لذلك العنوان المقيد به متعلق الأمر ... إلخ (1).

وقال المرحوم الشيخ محمد علي قدس سره ما هذا لفظه : وحاصله أنّ العبادية إنّما هي كيفية في المأمور به وعنوان له ، ويكون قصد الأمر أو الوجه أو غير ذلك من المحققات لذلك العنوان ومحصّلا له ، من دون أن يكون ذلك متعلقا للأمر ولا مأخوذا في المأمور به.

ثم شرح العنوان المأخوذ حقيقة في المأمور به بقوله : إنّ العبادة هي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل أن يتعبد العبد بها ، فالصلاة المأتي بها بعنوان التعبد وإظهارا للعبودية هي المأمور بها ، والأمر بها على هذا الوجه بمكان من الإمكان ... إلخ (2).

وظاهر هذا التحرير هو أنّ أصل العبادية هو الإتيان بالفعل بعنوان العبودية والخضوع ، وأما قصد داعي الأمر ونحوه من قصد المصلحة أو قصد الثواب أو الفرار من العقاب فغير معتبر فيها ، نعم قصد هذه الدواعي محقق للمطلوب الأصلي الذي هو العبودية والخضوع. لكن الذي يظهر من

ص: 444


1- أجود التقريرات 1 : 166 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 152 - 153.

تحرير السيد ( سلّمه اللّه ) هو العكس من ذلك ، وأنّ المطلوب الأصلي هو الإتيان بداعي [ الأمر ](1) ، لكنه لمّا لم يمكن التقييد به فللشارع أن يقيد الفعل بعنوان آخر يكون ملازما لذلك الداعي ، وإن كان قوله : والدواعي ملازمة لذلك العنوان المقيد به ... إلخ ، ظاهر في أنّ العنوان المطلوب هو غير الدواعي وأنّ الدواعي ملازمة لذلك العنوان.

ولعل ما في الدرر (2) من جعل القيد هو الإتيان به لا بالدواعي النفسانية مأخوذ من هذا التوجيه ، بناء على أنّ اعتبار عدم الدواعي النفسانية ملازم لكونه بأحد الدواعي الالهية ، بعد فرض صدور الفعل عنه بالاختيار ليخرج منه السهو والنسيان والإكراه والاجبار.

وعلى كل حال ، فلو كان المراد هو هذا الأخير فلا ريب في بطلانه ، إذ لم يقع الأمر في عبارة الشارع لا بالدليل المتصل ولا بالدليل المنفصل على العنوان المزعوم أنّه ملازم لداعي الأمر.

وإن كان المراد هو ما في تحرير الشيخ محمد علي رحمه اللّه فالظاهر أنه لا مانع منه كما تقدم ، بأن يكون المأمور به هو الفعل بعنوان الخضوع والتعبد ، وتكون هذه الدواعي محققات للعبادية. وليس المقصود من المحققية أنّها أسباب للعبادية ، ليرد عليه أنّها حينئذ من قبيل العناوين الأولية والثانوية ، فيكون الأمر بأحدهما عين الأمر بالآخر كما نقلته في تحريراتي عنه قدس سره بل المراد أنّها أحد مصاديق التعبد والخضوع ، كما أنّه ربما كان مصداقه هو مجرد قصد التعبد والخضوع ، بل ربما يدعى المنع من كونه مصداقا بل هو مقرون بالخضوع ، فإنّ مجرد الإتيان بالفعل بداعي الأمر

ص: 445


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- درر الفوائد 1 - 2 : 94 وما بعدها.

أو لأجل الفرار من العقاب لا يكون محققا للعبادية ، إلاّ إذا اقترن بالخضوع والخشوع ونحوهما ممّا يحقق العبادية.

أمّا ما نقلته عنه في تحريراتي من كون تعلق الأمر بالفعل بداعي الأمر إنّما هو لأجل أنّ الإتيان به بهذا الداعي يكون محققا لما هو ملاك العبادية الذي هو العنوان الواقعي ، فالقيد الحقيقي الذي هو المطلوب هو ذلك العنوان الواقعي ، وكون الفعل بداعي [ الأمر ](1) أو غيره من الدواعي ليس هو المطلوب والقيد الحقيقي ، بل إنّ هذه الدواعي محققات لذلك القيد الحقيقي.

فقد أورد عليه شيخنا قدس سره بأنّ ذلك العنوان الواقعي إن كان بالنسبة إلى داعي الامتثال من قبيل العناوين الثانوية ، كان الأمر بأحدهما عين الأمر بالآخر.

وإن كان داعي الامتثال بالنسبة إلى ذلك العنوان من قبيل المقدمة الإعدادية ، تعيّن تعلق الأمر بداعي الامتثال الذي هو مقدمة إعدادية لذلك العنوان الواقعي.

ولو لم يكن بينهما سببية ولا علّية ، بل كانا من محض التلازم ، وكان الوجه في التجاء الشارع إلى عنوان الامتثال هو جهل المكلفين بذلك العنوان الواقعي ، فهو وإن كان أخف مئونة من الوجه الأول أعني السببية والمسببية ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه الإشكال في أخذ داعي الأمر في المأمور به فإنّه وإن كان الأخذ صوريا وكان القيد هو ذلك العنوان الواقعي ، لكن يكون لازم أخذ داعي الأمر في المأمور به ولو صوريا هو تصوّر الأمر في مرتبة متعلقه ، بمعنى أنّه عند إيراده الوجوب على الصلاة يكون قد تصوّر الوجوب في مرتبة إيراده ، فيكون من قبيل تصوّر الحكم في مرتبة تصوّر موضوعه عند إيراد الحكم عليه.

ص: 446


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

وهذا الإشكال جار في الوجه الأول ، أعني دعوى كون داعي الأمر بالنسبة إلى المطلوب الحقيقي أعني العنوان الواقعي من قبيل السبب التوليدي أو كونه من قبيل المقدمة الإعدادية ، فلاحظ وتأمل.

نعم ، إنّ هذا الإشكال أعني تصوّر الحكم في مرتبة موضوعه إنّما يتوجّه فيما لو كان التقييد متصلا ، أما إذا كان منفصلا وكان القيد الحقيقي هو ذلك العنوان الملازم المجهول عند المكلفين ، وكان التقييد المنفصل بداعي الأمر لكونه طريقا للحصول على ذلك القيد الواقعي ، فالظاهر أنّه لا مانع منه ، سواء كان من مجرد البيان المنفصل أو كان بطريق الأمر الثاني ، ويكون ذلك من قبيل التقييد اللحاظي في مقام الثبوت وفي مقام الإثبات أيضا كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1) في توجيه ما أفاده الشيخ قدس سره من إمكان التمسك بالاطلاق اللفظي على أصالة التوصلية.

قوله : إلاّ أنه يرد عليه : أنّه لو فرضنا ولو محالا انفكاك ذاك العنوان عن أحد الدواعي وبالعكس ، فلا بد وأن تكون العبادة صحيحة على الأول دون الثاني ... إلخ (2).

لم يتضح الوجه في هذا الإيراد ، فإنّ بطلان اللازم وإن كان مسلّما إلاّ أنّ الشأن في الملزوم ، وهل يكون متحققا واقعا أو أنّه محال كما هو المفروض. وهذه الطريقة التي يسلكها الشارع في الحصول على غرضه إنّما هي من جهة تحقق الملازمة بين العنوانين ، ففرض انفكاك الملازمة وحصول أحد العنوانين دون الآخر الذي هو فرض المحال لا يضر بذلك الطريق الذي هو مرتب على الملازمة التي يكون فرض خلافها من فرض

ص: 447


1- في صفحة : 458.
2- أجود التقريرات 1 : 166.

المحال ، وهل تكون النتيجة من ذلك الفرض المحال إلاّ فرض محالية بطلان ذلك الطريق.

ولعل المراد من الإيراد المذكور مطلب آخر ، فإنّي في تحريراتي لم أضبط ذلك حق الضبط ، حيث إنّه قدس سره تعرض للإيراد المذكور في ليلتين ، والذي حررته عنه في الليلة الاولى في تقريب هذا الوجه والايراد ما هذا نصّه :

إنّه من الممكن أن تكون عبادية الفعل التي هي معتبرة قيدا فيه عبارة عن عنوان منطبق على نفس ذلك الفعل ، ويكون ذلك العنوان متحققا باتيان ذلك الفعل بأحد هذه الدواعي ، ولا يلزم على أخذ ذلك العنوان قيدا في متعلق الأمر شيء من تلك الإشكالات السابقة ، إذ ليس هو عبارة عن نفس تلك الدواعي بل هو أمر مغاير لها ، غاية الأمر أنّ تحقق أحد تلك الدواعي يكون محققا لذلك العنوان ، فإنّما يؤتى بالفعل بأحد تلك الدواعي لأجل أن ذلك محقق للعنوان المعتبر قيدا في الفعل المأمور به ، لا لأجل أنّ الاتيان بأحد تلك الدواعي معتبر في نفسه في متعلق الأمر كي تتوجه عليه تلك الإشكالات السابقة.

وهو من التحقيقات الدقيقة ، إلاّ أنّه يرد عليه أنّ ذلك العنوان إن كان ممّا يمكن للمكلف قصده ويدخل تحت إرادته واختياره ، كان قصده كافيا في حصول ما هو المطلوب من دون حاجة إلى أحد هذه الدواعي. وإن لم يكن العنوان المذكور كذلك لم يصح أن يقع متعلقا للأمر ، بل يكون متعلق الأمر هو المحصّل لذلك العنوان والمحقق له ممّا يدخل تحت قدرة المكلف ، فيكون المأمور به هو المحصّل والمحقق ، انتهى.

وقد علّقت عليه في وقته ما هذا لفظه : هذا إشكال سيّال يذكره ( دام

ص: 448

ظله ) في كل ما يكون من هذا القبيل وحاصله : أنّ ما هو من أمثال هذه العناوين بالنسبة إلى ما تتحقق به ، إن كان من قبيل العناوين التوليدية كان الأمر في الحقيقة متعلقا بنفس العنوان ، وكان داخلا تحت القصد والاختيار وكان هو وما يتحقق به شيئا واحدا خارجا وإن اختلفا مفهوما ، ويكون الأمر المتعلق بأحدهما عين الأمر المتعلق بالآخر في كون كل من الأمرين متعلقا بالفعل الخارجي الذي هو صادر من المكلف ، فلو كان قصد أحد الدواعي من الأسباب التوليدية بالنسبة إلى ذلك العنوان ، يكون الأمر المتعلق بذلك العنوان متعلقا بذلك القصد فيعود المحذور.

وإن كان المحقق للعنوان من قبيل المقدمات الإعدادية له ، لم يتعلق الأمر إلاّ بما يتحقق به ، ولا يصح تعلقه بذلك العنوان لعدم دخوله تحت القصد والاختيار ، وإنّما المقدور له هو تلك المقدمة الإعدادية أعني قصد أحد الدواعي.

والذي حرّرته عنه في الليلة الثانية هو هذا التالي : في هذه الليلة كرّر ( دام ظله ) ما نقله عن السيد قدس سره وذكر أنه لم يسمعه منه وإنّما نقل له ذلك عن تقريرات الاندرباني (1) لدرسه ، وأفاد أنّه قدس سره لعلّه ذكره وجها في جملة الوجوه لمدخلية التعبد في المأمور به لا أنّه مختاره.

ثم إنّه ( دام ظله ) أورد عليه بأنّه لا يمكن الالتزام به فقها ، لأنّ مقتضاه صحة العبادة لو قصد ذلك العنوان ، ولم يكن الداعي على الفعل هو التقرب بل كان الداعي مثل الرياء ونحوه ، وفسادها لو لم يقصد ذلك العنوان وكان الداعي هو التقرب ، انتهى.

ص: 449


1- [ كذا فيما يتراءى من الأصل ، ولم نطّلع على كتابه ].

قلت : تمامية هذا الإيراد تتوقف على كون ذلك العنوان داخلا تحت القصد والاختيار ، وإمكان التفكيك بين قصده وداعي التقرب ، ولعل غرض السيد قدس سره هو دعوى الملازمة بينه وبين قصد التقرب المدعى كونه محققا له ، وأنّ ذلك العنوان غير داخل تحت القصد والاختيار ، وأنّه يكفي في تعلق الخطاب به كون ما يحققه من الاتيان بالفعل بداعي التقرب مقدورا من دون حاجة إلى كون العنوان المذكور مقدورا بنفسه ومقصودا للمكلف.

وحينئذ ينحصر الإيراد عليه بما نقلناه عنه ( دام ظله ) فيما تقدم (1) من أنّه إن كان ذلك العنوان من قبيل المسببات التوليدية ... إلخ ولم يذكره ( دام ظله ) في مجلس البحث ، وإنّما أفاده ( دام ظله ) بعد الفراغ من البحث عند ما عرضت بخدمته ما حاصله ما تقدم من أنّه لعل غرض السيد قدس سره هو دعوى الملازمة وعدم دخول العنوان تحت القصد والاختيار وأنّه لا يعرفه المكلف ، وإنّما هو عنوان واقعي يعلمه اللّه ولا يعرفه المكلف ، وإنّما يمكنه إيجاده بايجاد ما يلازمه ويحققه من الإتيان بالفعل بداعي الأمر والتقرب ، انتهى.

ثم لا يخفى أنّه يمكن أن يكون مراد السيد قدس سره ما سيأتي في الحاشية الآتية (2) من أنّ ملاك العبادية الذي يكون قيدا فيها هو عنوان ثانوي منطبق على تلك الأفعال ، ويكون ذلك العنوان الثانوي ملازما في القصد لأحد الدواعي ، أعني الامتثال أو غيره من الدواعي القربية ، ولمّا كان ذلك العنوان الثانوي مجهولا للمكلف ومع جهله به لا يمكن التكليف به وأخذه قيدا في المأمور به ، التجأ الآمر إلى الأمر ثانيا بالإتيان بتلك الأفعال بقصد الامتثال

ص: 450


1- في صفحة : 446.
2- [ لعل المقصود بها الحاشية الآتية في صفحة : 462 - 463 ].

ليكون قصد الامتثال قصدا إجماليا لذلك العنوان لكونه ملازما له في القصد.

وبذلك يندفع إشكال أخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلق ذلك الطلب ، أعني به إشكال أخذ الحكم موضوعا لنفسه الذي يلزم عليه المحالية في مقام الإنشاء ومقام الفعلية ومقام الامتثال ، لكن يرد عليه ما هو نظيره من لزوم تصوّر الحكم في مرتبة تصوّر موضوعه عند إيراد الحكم عليه كما شرحناه غير مرّة.

كما أنّه يندفع به الإشكال الثاني الذي أشار إليه قدس سره هنا أعني قوله : مع أنّه لا يلتزم به فقيه ... إلخ (1) فإنّا بعد أن فرضنا أنّ ذلك العنوان مجهول للمكلف لا يمكن فرض الإتيان بالعمل بقصد ذلك العنوان مع عدم قصد الامتثال.

كما أنّه يندفع به الإشكال الآخر الذي نقلناه عنه قدس سره أعني إشكال كون قصد الامتثال من قبيل المحقق أو من قبيل المقدمة الاعدادية.

كما أنّه يندفع به الإشكال الذي توجّه على الأمر الثاني الذي صحّح به الشيخ قدس سره (2) عبادية العبادة والذي سمّاه شيخنا قدس سره بمتمم الجعل.

قوله : الثاني أنّ الفرق بينهما من ناحية الأمر ، وأنّ حقيقة الأمر التعبدي مع حقيقة الأمر التوصلي متباينان ، فالأول يقتضي بنفسه أن يكون باعثا فعليا دون الثاني ، فإنّه لا يقتضي إلاّ نفس وجود المأمور به ... إلخ (3).

ولعل هذا الوجه هو المراد بما قيل من الفرق بينهما ، بكون النظر في

ص: 451


1- أجود التقريرات 1 : 166.
2- مطارح الأنظار 1 : 303 - 305.
3- أجود التقريرات 1 : 166 [ مع اختلاف عما في النسخة القديمة غير المحشاة ].

الأمر التعبدي إلى الأمر نفسه وفي التوصلي بكون النظر إلى متعلقه ، وإلا فلا وجه ولا معنى لكون النظر إلى نفس الأمر إلاّ بمعنى قصد الآمر التأمر الذي يلزمه عدم اعتبار المصلحة في المتعلق الذي هو على الظاهر خلاف مذهب العدلية ، فإنّ أقصى ما في البين هو أنّ متعلق الأمر في التعبديات لا يلزم فيه المصلحة وإنّما المصلحة في إطاعة الأمر وفي العبادية التي يحدثها الأمر بواسطة امتثاله ، نعم يمكن إخراجه عن خلاف مذهب العدلية ، بأن يكون اختيار هذا الفعل دون غيره لأجل مصلحة في نفسه مضافا إلى ما هو العمدة من المصلحة في امتثال الأمر.

وعلى كل حال ، أنّ هذا الوجه ملحق بالوجوه السابقة في وجه الضعف ، ويتأتى فيه إشكال أخذ الإطاعة في مرتبة الأمر ، إلاّ إذا رجع إلى بعض ما تقدم من أخذ عنوان التعبد والخضوع في المأمور به ، فلاحظ وتدبر.

وأمّا ما في الحاشية من : أن اللوازم الذاتية لا بد وأن تكون موجودة بايجاد ملزوماتها ، والتأخر الطبعي لا ينافي التقارن الزماني كما هو ظاهر (1) ، ففيه (2) أنّ العبارة التي نقلها عن شيخنا قدس سره وإن كان ظاهرها الإشكال بعدم وجود داعوية الأمر في مرتبة الأمر ، إلاّ أن المراد هو استحالة لحاظها في مرتبة جعل الأمر ، والمفروض هو أنّ الفرق مبني على أنّ الداعوية قيد في الأمر التعبدي ، ومن الواضح أن تقيد الأمر بالداعوية متوقف على لحاظها في مرتبة الأمر على وجه تؤخذ لونا للأمر التعبدي ، ليكون ذلك هو الفارق الذاتي بين الأمر التعبدي والأمر التوصلي.

ص: 452


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 167.
2- [ في الأصل : ففي ، والصحيح ما أثبتناه ].

قوله : الثالث كون الفرق بينهما بحسب الغرض ، وأنّ الغرض لا يحصل من الأمر التعبدي إلاّ بقصد القربة ، وأمّا الأمر التوصلي فيترتب الغرض منه على مطلق وجود المأمور به قصد به التقرب أم لا (1).

هذا إشارة إلى ما في الكفاية من قوله : الوجوب التوصلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد في سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى (2).

ولا يخفى أنّه بعد فرض كون المراد من الغرض هو المصلحة ، يكون هذا الفرق بينهما مما لا غبار عليه لو قلنا بامكان التقييد بالتقرب ، لأنّه حينئذ يكون كسائر القيود في الواجبات - توصلية كانت أو تعبدية - ممّا يتوقف عليه المصلحة ، إذ مع فرض عدم مدخليته في المصلحة الباعثة على الأمر لا وجه لأخذه قيدا في متعلقه ، وبعد البناء على إمكان التقييد يكون المأمور به هو الفعل المقيد ، ويكون الغرض مساويا للمتعلق ، نعم بعد البناء على عدم إمكان التقييد به مع فرض مدخليته في المصلحة وتوقفها عليه يكون الغرض أخص من متعلق الأمر ، وحينئذ يقع الاختلاف بين طريقة صاحب الكفاية (3) وبين طريقة شيخنا قدس سرهما فصاحب الكفاية قدس سره يقول إنّه بعد فرض مدخليته في المصلحة وأنّ الشارع لا يمكنه التقييد ، يكون اللازم علينا بحكم العقل الإتيان به تحصيلا للغرض ، وعن ذلك ينتج لزوم الاحتياط

ص: 453


1- أجود التقريرات 1 : 167.
2- كفاية الاصول : 72.
3- كفاية الاصول : 72 ، 74.

عند الشك في كون الواجب الفلاني تعبديا.

أما طريقة شيخنا قدس سره فهي المنع من حكم العقل علينا بلزوم تحصيل المصالح ، وإنّما الواجب علينا بحكم العقل هو الإتيان بما يتعلق به الوجوب ، وأمّا المصالح واستيفاؤها فهي من وظيفة الشارع ، وحيث إنّه لا يمكنه التقييد يتعين استيفاؤها بتعدد الأمر ، ويكون الأمر الثاني متمّما للأمر الأول في استيفاء المصلحة ، ولازم ذلك أنّه يكون المرجع عند الشك هو البراءة.

والحاصل : أنّه بعد البناء على عدم إمكان التقييد لا ينبغي الريب في كون المصلحة حينئذ أخص من متعلق الأمر ، وهذا المقدار أعني أخصية الغرض مسلّم على كل من طريقة صاحب الكفاية وطريقة شيخنا قدس سرهما وإنّما الخلاف بينهما بعد مسلمية الأخصية ، أمّا لو قلنا بامكان التقييد فلا محصّل حينئذ للأخصية ، بل يكون المأمور به هو المقيد ويكون الغرض مطابقا للمتعلق.

ومن ذلك يظهر التأمل فيما تضمنته الحاشية صفحة 112 (1) من دعوى إمكان التقييد وكون الغرض متوقفا على القيد ، إذ لو كان التقييد ممكنا خرجت المسألة عن أخصية الغرض ، وكان هذا القيد كسائر القيود في الواجبات في مدخليته في الغرض ، ويكون حاصل الفرق بين الواجبات التوصلية والتعبدية بالإطلاق والتقييد.

وإنما الخلاف بين طريقة صاحب الكفاية وطريقة شيخنا قدس سرهما إنّما هو بعد عدم إمكان التقييد ، وبعد فرض كون الغرض أخص من المتعلق ، وقد

ص: 454


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 167 من الطبعة الحديثة.

عرفت أنّ ذلك ممّا يسلّمه شيخنا قدس سره ، فهو قدس سره لا ينكر أخصية الغرض وإنّما ينكر ما رتّبه صاحب الكفاية على ذلك من حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض ، وحينئذ فلا مورد لهذا الإنكار في أصل التفرقة بين التعبدي والتوصلي بأخصية الغرض ، وإنّما هو متوجه على ما رتبه صاحب الكفاية على ذلك من حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض ، وذلك هو ما أفاده بقوله في هذا التحرير : فحصولها وعدمها أجنبي عن المكلف ... إلخ (1).

وأمّا قوله قبل هذه العبارة : فيرد عليه أنّ الأفعال بالاضافة إلى المصالح كما ذكرناه في مبحث الصحيح والأعم من قبيل العلل المعدّة لا من قبيل الأسباب بالإضافة إلى مسبباتها ، فيستحيل أن تقع تحت التكليف والإلزام انتهى ، فهو إنّما يتوجّه على من يتوهم أنّ المصالح داخلة تحت التكليف الشرعي ، وصاحب الكفاية لا يقول بذلك وإنّما يقول بلزوم تحصيلها عقلا.

وبالجملة : أنّ هذه الجملة لا تتوجّه على التفرقة بينهما بحسب أخصية الغرض ، لأنّ هذا الفرق مسلّم عند شيخنا قدس سره ولا على ما رتبه صاحب الكفاية على ذلك من لزوم تحصيل الغرض ، لأنّه إنّما يقول بلزومه عقلا ، ولم يقل إنّه واجب شرعا ليتوجّه عليه أنّه خارج عن الاختيار ، لكون الفعل منّا بالنسبة إليه من المقدمات الاعدادية لا الأسباب التوليدية ، نعم يتوجّه على طريقة الكفاية ما أفاده بقوله : فحصولها وعدمها أجنبي عن المكلف ، من جهة أنّ حفظ المصالح ممّا يعود إلى الشارع لا إلى المكلفين ، فلاحظ وتأمل.

ص: 455


1- أجود التقريرات 1 : 167.

قوله : واستدل العلامة الأنصاري قدس سره (1) على مختاره : بعدم إمكان التقييد فيثبت الإطلاق - إلى قوله : - ولا يخفى عدم صحة الاستدلال المذكور في شيء من المقامات المذكورة ، فإنّه يبتني على أن يكون الإطلاق مقابلا للتقييد تقابل الإيجاب والسلب ، بأن يكون معنى الإطلاق هو مطلق عدم التقييد ولو بالعدم الأزلي ، وهذا المعنى فاسد حتى عنده قدس سره ... إلخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ هذا الاستدلال لا يتم حتى بناء على ما ذكر من كون التقابل بينهما تقابل الايجاب والسلب ، وأن الإطلاق هو عدم التقييد ولو بالعدم الأزلي ، فإنّا لو بنينا على ذلك وقلنا إن الإطلاق ليس من قبيل العدم والملكة ولا من تقابل الضدين ، وأغضينا النظر عن أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكنا في مقام الثبوت حيث يكون ورود الحكم على المقسم ممكنا ، إلاّ أنّه في مقام الإثبات لا بد في كون عدم التقييد كاشفا عن إرادة عدمه أو كاشفا عن عدم إرادته من كون التقييد ممكنا ، فإنّ عدم التقييد في مورد لا يكون التقييد ممكنا لا يكون كاشفا عن إرادة عدم التقييد ولا عن عدم إرادة التقييد.

وبالجملة : سواء قلنا إنّ عدم التقييد كاشف عن عدم إرادته أو أنّه كاشف عن إرادة عدمه لا بد في هذه الكاشفية من إمكان التقييد ، سواء كان الإطلاق في مقام الثبوت ممكنا أو كان غير ممكن ، إذ لا تكون إرادة الإطلاق في توقفها على عدم التقييد أعظم من الأخذ بالمعنى الحقيقي في توقفه على عدم القرينة على الخلاف ، ومن الواضح أن ذلك أعني الحكم

ص: 456


1- مطارح الأنظار 1 : 302 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 168 - 169.

بارادة الحقيقة أو إرادة عدم المجاز أو عدم إرادة المجاز ، كل ذلك إنّما نأخذ به في مورد يكون نصب القرينة ممكنا للمتكلم ، أمّا إذا فرضنا أن نصبه للقرينة لم يكن ممكنا فلا يكون عدم ذكرها كاشفا عن شيء أصلا.

والحاصل : أنّ عدم الفعل المفروض عدم التمكن منه لا يكون كاشفا عن شيء أصلا من عدم إرادته أو إرادة عدمه أو إرادة ضده. قال الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة بعد أن استدل على عدم اعتبار النية في إزالة النجاسات ببعض الأخبار : هذا كلّه مضافا إلى إطلاقات الأمر بالغسل عن النجاسات ، فإنّ ظاهر الأمر سقوط التكليف باتيان المأمور به بأيّ وجه كان (1).

ولكن الذي يظهر من التقريرات المنسوبة إلى الشيخ قدس سره أنّ تمسكه بالإطلاق المذكور إنّما هو بعد الفراغ عمّا أفاده في التعبديات من الاحتياج إلى أمرين ، فإنّه بعد أن بيّن بما لا مزيد عليه عدم إمكان التمسك بالإطلاق في هذا النحو من القيود ، وبيّن أنّ التعبدي يحتاج إلى أمرين ، قال ما هذا لفظه : وأما الشك في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنّه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب ، لا بد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب والأصل عدمه ، واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان كما هو المحرر في أصالة البراءة (2) ، فيكون مراده من الإطلاق هو عدم الدليل على الأمر الثاني.

ثم لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره أفاد في عدم إمكان التمسك بالإطلاق بما هذا لفظه ، قال : ثالثتها أنّه إذا عرفت بما لا مزيد عليه عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال باطلاقه

ص: 457


1- كتاب الطهارة 2 : 91.
2- مطارح الأنظار 1 : 304.

ولو كان مسوقا في مقام البيان على عدم اعتباره كما هو أوضح من أن يخفى فلا يكاد يصح التمسك به إلاّ فيما يمكن اعتباره فيه ... إلخ (1).

وأنت بعد ما عرفت الوجه في عدم إمكان كل من التقييد والإطلاق اللحاظيين فيما نحن فيه ، تعرف أنّ المانع من التمسك بالاطلاق فيما نحن فيه ليس هو مجرد عدم إمكان التقييد ، بل إن المانع منه هو عدم إمكان الإطلاق. ومنه يظهر أنّه بعد أن كان كل من التقييد والإطلاق ممتنعا بالنسبة إلى هذا القيد ، تعرف أنّه لا محصّل لكون المتكلم في مقام البيان من ناحية هذا القيد فإن ذلك محال.

والحاصل : أن الملاك في عدم إمكان التقييد هو بعينه جار في عدم إمكان الإطلاق ، فلا حاجة إلى التمسك لعدم إمكان الإطلاق بعدم إمكان التقييد ، وإنّما يكون ذلك في مورد يكون الإطلاق في نفسه وفي مقام الثبوت ممكنا ، لكن كان التقييد غير ممكن ، ففي ذلك يقال إنّ الإطلاق وعدم ذكر القيد لا يكون دليلا على إرادة المطلق ، لاحتمال أن يكون مراده هو التقييد ، لكنه ترك ذكر القيد لعدم إمكان التقييد لا لأجل إرادة المطلق ، هذا. ولكن لم يحضرني لذلك مثال.

نعم ، بناء على ما شرحناه ممّا أفاده قدس سره نقلا عن العلامة السيد الشيرازي قدس سره (2) يكون كل من التقييد والإطلاق في مقام الثبوت ممكنا ، لكن لمّا كان القيد وهو ذلك العنوان المجهول للمكلفين الذي فرضنا أنّه ملازم لعنوان قصد الامتثال ممّا لا يمكن أخذه بنفسه قيدا في مقام الإثبات لفرض جهل المكلفين به وعدم إمكان تفهيمهم إيّاه ، وكان ملازمه وهو عنوان قصد

ص: 458


1- كفاية الاصول : 75.
2- راجع صفحة : 450 - 451.

الامتثال ممّا لا يمكن التقييد به متصلا ، كانت المسألة داخلة في الجملة فيما نحن فيه ، أعني فيما كان الإطلاق فيه ممكنا في مقام الثبوت ، نظرا إلى أنّه يمكن أن يعلّق الآمر أمره بالفعل ، ويأخذ ذلك الفعل في مقام الثبوت مطلقا من جهة ذلك القيد ، كما أنّه في مقام الثبوت أيضا يمكنه أن يقيّد متعلق أمره بذلك القيد ، إلاّ أنّه في مقام الإثبات لا يمكنه التقييد به لجهل المكلفين به ، وحينئذ ينحصر التقييد به في مقام الإثبات بأخذ ملازمه الذي هو عنوان قصد الامتثال ، وقد عرفت أنه غير ممكن إلا بنحو التقييد المنفصل ، ففي مثل ذلك لا يكون الإطلاق أعني عدم التقييد المتصل كاشفا عن إرادة المطلق ، لما عرفت من أنّه لا يمكنه التقييد المتصل ، فيكون الاطلاق ساقطا في مقام الإثبات ، ولا بد في ذلك من الفحص عن التقييد المنفصل ، فان عثر عليه فهو وإلاّ كان محكوما بالعدم ، ولك أن تسمّي ذلك إطلاقا كما صنعه الشيخ قدس سره فليس غرضه من الإطلاق هو الأخذ بالدليل اللفظي كي يتجه عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من عدم كونه ملائما لما حققه هو قدس سره في تقابل الإطلاق والتقييد ، بل المراد به ما عرفت من الأخذ بمقتضى تعلق الطلب بالفعل وعدم الدليل على الأمر الثاني.

بل يمكن أن يقال : إنّه لا يحتاج إلى الأمر الثاني ، بل يكفي في ذلك مجرد البيان المنفصل الدال على أن المراد والمقصود هو الامتثال بالأمر ، ويكون المراد بالامتثال في هذا البيان المنفصل هو ملازمه وهو ذلك العنوان المجهول ، ويكون حاصل ذلك البيان المنفصل هو أنّي عند ما أمرتكم بالصلاة لم أرد بها مطلق الصلاة ، بل أردت بها الصلاة الواجدة للعنوان الذي يكون ملازما لعنوان الامتثال ، ولعل هذا هو الأظهر من كلمات الشيخ قدس سره خصوصا قوله : ومن هنا قلنا في بعض المباحث المتقدمة إن الطالب لو

ص: 459

حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بد له من أن يحتال في ذلك ، بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أوّلا ثم ينبّه على أنّ المقصود هو الامتثال بالأمر (1) فلم يجعل التصرف الثاني أمرا مولويا بل جعله تنبيها وبيانا كما في بقية عبائره في هذا المقام ، فإنّه قدس سره قال فيما حكاه عنه في التقريرات :

ذهب جماعة من أصحابنا ومنهم بعض الأفاضل إلى أنّ ظاهر الأمر قاض بالتعبدية. ويظهر من جماعة اخرى أن الأمر ظاهر في التوصلية ، ولعلّه الأقرب. واحتجوا في ذلك بامور أقواها أن العقل قاض بوجوب الامتثال بعد العلم بالأمر ، ولا يتحقق إلاّ بقصد القربة والإطاعة.

وفيه : أنّه مصادرة محضة - إلى أن قال : - واحتج بعض موافقينا على التوصلية بأنّ إطلاق الأمر قاض بالتوصلية ، إذ الشك إنّما هو في تقييد الأمر والإطلاق يدفعه ، نعم لو كان الدليل الدال على الوجوب إجماعا أو نحوه من الأدلة اللبية لا وجه للاستناد إلى الإطلاق ، فيكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرر في محله من الشك في الشرطية والجزئية ، فإن قلنا بالاشتغال لا بد من القول بالتعبدية وإلاّ فلا ، وهو أيضا ليس في محله ، إذ الاستناد إلى إطلاق الأمر في دفع مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد مما لا يتحقق إلاّ بعد الأمر (2).

ثم أخذ في توضيح ذلك بتقسيم القيود إلى ما يكون سابقا على الطلب وما يكون لاحقا له ، وأنّ ما نحن فيه من قبيل الثاني فلا يصح دفعه بالإطلاق ، ثم بيّن الصغرى أعني كون ما نحن فيه من قبيل الثاني ، وبيّن

ص: 460


1- مطارح الأنظار 1 : 303.
2- مطارح الأنظار 1 : 301 - 302.

الكبرى أعني عدم إمكان التمسك فيه بالإطلاق.

ثم قال : ومن هنا قلنا في بعض المباحث المتقدمة إنّ الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال ، لا بد له من أن يحتال في ذلك بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أوّلا ثم ينبّه على أن المقصود هو الامتثال بالأمر ، ولا يجوز أن يكون الكلام الملقى لإفادة نفس المطلوبية مفيدا للوجه المذكور.

وقد أطال الكلام في توضيح هذه الجهات ، إلى أن قال ما هذا لفظه : فالحق الحقيق بالتصديق هو أنّ ظاهر الأمر يقتضي التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الأمر إلاّ تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة ، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب لامتناع طلب الحاصل ، وذلك في الأدلة اللفظية ظاهر. وأمّا فيما إذا كان الدليل هو الإجماع ، ففيه أيضا يقتصر على ما هو المعلوم استكشافه منه ، والمفروض أنّه ليس إلاّ مطلوبية الفعل فقط وبعد حصوله لا بد من سقوطه.

وأمّا الشك في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب ، لا بد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب والأصل عدمه ، واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان كما هو المحرر في أصالة البراءة ، من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظية أو غيرها ، ومن غير ابتناء له على ما قرر في محله من الخلاف المشهور بينهم في البراءة والاشتغال عند الشك في الجزئية والشرطية ، إذ لا ينبغي للقائل بالاشتغال - فيما إذا كان المكلف به مجملا كالصلاة على الصحيح مع الشك في اعتبار شيء فيه - القول به فيما إذا

ص: 461

كان المطلوب أمرا معلوما مع الشك في اعتبار أمر آخر فيه كما فيما نحن فيه ، هذا.

ولكن قوله في آخر البحث : كما أنّه يمكن القول بالاشتغال أيضا - إلى قوله : - حيث إنّ المقصود في الواقع هو أمر واحد وإن احتاج بيانه على تقدير التعبدية إلى أمر زائد على بيان نفس مطلوبية الفعل ظاهرا كما لا يخفى فتأمل. ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتياج التعبد إلى بيان زائد غير ما دل على الطلب لا يلازم أن يكون للفعل ثوابان أحدهما لنفس الفعل وثانيهما للامتثال ، لتعدد الأمر الملحوظ فيهما كما توهمه بعض من لا دراية له ، لما عرفت من أنّ المقصود حقيقة واحدة فلا يعقل تعدد الثواب والعقاب ، انتهى.

فانّ هذه العبائر الأخيرة تدل على أن نظره في ذلك إلى كون البيان الثاني أمرا ثانيا غايته متحد مع الاول ، وهو محصل كونه متمّم الجعل الذي شرحه شيخنا قدس سره (1) ولكن مع ذلك لا تكون النتيجة في مقام الثبوت نتيجة الإطلاق ، بل يكون الناتج هو الإطلاق في مقام الثبوت وإن لم يكن في مقام الإثبات إلا الإهمال المنتج نتيجة الإطلاق.

تنبيه : قال في الحاشية : قد عرفت فيما تقدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ... إلخ (2).

ولا يخفى أنّه بعد فرض إمكان قصد القربة بمعنى داعوية الأمر في متعلقه ، يكون حال هذا القيد حال بقية القيود في التمسك على نفيه بالإطلاق ، ولا يتوقف على كون تقابل الإطلاق والتقييد من تقابل العدم

ص: 462


1- أجود التقريرات 1 : 173.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 168.

والملكة ، قاضيا بأن استحالة أحدهما يكون موجبا لاستحالة الآخر ، إذ مع إمكان التقييد لا يكون أحدهما الذي هو التقييد مستحيلا كي يتوجّه عليه أنّ استحالته يستلزم استحالة الإطلاق لنحتاج إلى دعوى إنكار هذه الملازمة.

على أنّا لو سلّمنا هذه الدعوى ، أعني عدم سراية المحالية من التقييد إلى الإطلاق ، وسلّمنا محالية التقييد وقلنا بامكان الإطلاق في مقام الثبوت ، إلاّ أنه لا طريق لنا إلى إثباته ، إذ ليس بأيدينا إلا عدم التقييد المفروض كونه محالا ، وهو لا يدل على أن المتكلم أراد المطلق ، لأن عدم التقييد وكذلك عدم القرينة بل وكذلك عدم الردع إنّما نجعله كاشفا عن الإطلاق أو إرادة الحقيقة أو الإمضاء إذا كان وقوع ذلك ممكنا ، أما إذا فرضنا امتناعه فلا يكون عدمه دالا على شيء ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أنّه بعد البناء على أن العبادية منوطة بعنوان خاص لم يعرفه المكلفون ولكن الشارع لمّا اطلع على مدخلية ذلك العنوان في تحقق المصلحة الباعثة على الأمر بالفعل الواجد لذلك ، لا بد أن يكون أمره الواقعي وفي مقام الثبوت متعلقا بالفعل الواجد لذلك العنوان ، هذا في التعبدي.

وأما التوصلي ، فهو لمّا اطلع الشارع على عدم مدخلية ذلك العنوان في وفائه بالمصلحة ، فلا جرم يكون أمره متعلقا بذلك الفعل المطلق من حيث وجود ذلك العنوان وعدمه ، فكان كل من التقييد والإطلاق اللحاظيين في مقام الثبوت ممكنا ، وأما في مقام الإثبات فحيث إن المفروض هو جهل المكلفين بذلك العنوان فالشارع لا يمكنه إفهامهم التقييد به ولا الإطلاق من ناحيته ، لكن لمّا كان عنوان قصد داعي الأمر ملازما لذلك العنوان بحيث كان قصد داعي الأمر قصدا إجماليا لذلك العنوان ، انحصر طريق إفهامهم

ص: 463

بتقييد متعلق الأمر بقصد داعي الأمر ، ولمّا كان التقييد المتصل غير ممكن لما يلزم عليه من تصور الأمر في مرتبة متعلقه ، انحصر الطريق ببيانه بالدليل المنفصل ، من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الدليل المنفصل من باب مجرد البيان المنفصل أو كونه بطريق الأمر الثاني ، إذ لا يكون الأمر [ إلا ](1) أمرا صوريا لأجل الحصول على ذلك العنوان المجهول عند المكلفين ، وفي الحقيقة لا يكون القيد ولا الأمر المتعلق به إلا نفس ذلك العنوان المفروض كونه مجهولا للمكلفين.

وحينئذ فهؤلاء المكلفون إن عثروا على ذلك الدليل المنفصل حكموا بمقتضاه ، ولزمهم الإتيان بذلك الفعل بقصد داعي الأمر ، فكان المقام من قبيل التقييد اللحاظي في مقام الإثبات وفي مقام الثبوت أيضا ، لكن بالنظر إلى حالة المكلفين يكون القيد هو داعي الأمر ، وربما علموا بأنّه ليس بالقيد الحقيقي وإنّما القيد هو العنوان الواقعي الذي لا يعرفونه ، وبالنظر إلى ما عند الشارع يكون القيد هو ذلك العنوان الملازم لقصد داعي الأمر.

وإن لم يعثروا على ذلك القيد المنفصل أجروا أصالة العدم فيه ، وحكموا بعدم اعتبار داعي الأمر ولو وصلة إلى العنوان ، وحاصله الحكم بأن متعلق الأمر واقعا هو نفس الفعل ، سواء كان واجدا لذلك العنوان الواقعي الذي لا يعرفونه وإنّما يعرفون ملازمه الذي هو داعي الأمر ، أو كان فاقدا لذلك العنوان ، والحاصل أنّهم يحكمون باطلاق المتعلق من ناحية ذلك العنوان الذي يكون داعي الأمر ملازما [ له ](2) ، وحينئذ يتحقق الإطلاق اللحاظي في مقام الإثبات وفي مقام الثبوت.

ص: 464


1- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

وبالجملة : أنّ هذا العنوان الذي يجهله المكلفون ولا يعرفونه يكون حاله من ناحية إمكان التقييد والإطلاق اللحاظيين في مقام الإثبات والثبوت حال بقية القيود الطارئة على الصلاة مثل الطهارة والاستقبال ونحوهما من الانقسامات الأولية غير المنوطة بالأمر ، غايته أن ذلك العنوان مجهول للمكلفين ، ولا بد في تحصيل الشارع له من المكلفين من أخذ ملازمه ، لكن كان ذلك الملازم منحصرا بقصد داعي الأمر ولو من جهة ما أفاده الشيخ قدس سره (1) في المقدمات العبادية من أن قصد الأمر يكون قصدا إجماليا لذلك العنوان الذي هو القيد الحقيقي ، وهذا الملازم أعني قصد الأمر وإن اخذ طريقا ووصلة إلى ما هو القيد الواقعي إلا أنه لا يمكن أخذه متصلا بالأمر ، لما ذكرناه من استلزامه لحاظ نفس الأمر في مرتبة متعلقه ، فلا بد حينئذ من أخذه بدليل منفصل إما بمحض القرينية نظير القرينة المنفصلة ، أو بنحو الأمر الثاني المتعلق به صورة وهو واقعا متعلق بملازمه أعني ذلك العنوان الواقعي.

وعلى أيّ حال ، يكون وجوده كاشفا عن تقيد المأمور به في مقام الثبوت بذلك العنوان ، ويكون عدمه كاشفا عن إطلاق المأمور به في مقام الثبوت من ناحية ذلك العنوان ، وحينئذ لا حاجة إلى الالتزام في الصورة [ الاولى ](2) بنتيجة التقييد ، وفي الثانية بنتيجة الإطلاق ، بل يكون التقييد في الاولى والإطلاق في الثانية لحاظيا كسائر القيود ، ولعل هذا الطريق هو المراد ممّا أفاده المحقق الشيرازي قدس سره فيما نقله عنه شيخنا قدس سره (3).

ص: 465


1- مطارح الأنظار 1 : 350 - 351.
2- [ لا يوجد في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].
3- أجود التقريرات 1 : 165 - 166.

قوله : واستدل الكلباسي قدس سره في الإشارات (1) على أصالة التعبدية بوجوه نذكر المهم منها ، الأول : أن المولى - إلى قوله : - وهو خلف محال (2).

ينبغي نقل ما حررته عنه قدس سره فلعلّه أوضح أو أخصر ، وهذا نصّه :

استدل صاحب الإشارات على ما اختاره من أصالة التعبد بوجهين :

أحدهما : أن الأمر حقيقته بعث إرادة العبد وتحريكها نحو الفعل ، فلا بد أن تكون إرادة العبد منبعثة عن الأمر وهو معنى كونه بداعي الأمر.

وفيه أوّلا : أنه لو تمّ هذا الاستدلال لكان مقتضاه انحصار الداعي في العبادات بداعي الأمر كما هو مسلك صاحب الجواهر قدس سره (3) وقد عرفت ما فيه.

وثانيا : أن الأمر وإن كان محركا لارادة العبد نحو الفعل المأمور به إلا أن نظر الآمر في هذه المرحلة إلى الإرادة نظر آلي ، وإنّما تمام المنظور إليه هو الفعل نفسه ، فليس للآمر نظر استقلالي إلى تلك الإرادة كي يكون انبعاثها عن الأمر معتبرا ، وإذا لم يكن للآمر نظر استقلالي للإرادة وكان النظر إليها نظرا آليا ، وكان المنظور إليه بالاستقلال هو الفعل نفسه ، كان مجرد إرادة العبد للفعل وصدوره عنه بارادته كافيا في موافقة ذلك الأمر وإن لم تكن الإرادة المذكورة منبعثة عن الأمر بل كانت منبعثة عن شيء آخر غير الأمر.

والحاصل : أن الأمر وإن كان محركا للإرادة نحو الفعل وكان من قبيل

ص: 466


1- إشارات الاصول 1 : 56 - 57.
2- أجود التقريرات 1 : 169 - 171.
3- جواهر الكلام 9 : 155 وما بعدها.

خلق الداعي إلى المكلف ، إلا أنّ اعتبار كون الإرادة منبعثة عن الأمر يحتاج إلى عناية اخرى ونظر استقلالي إلى تلك الإرادة ، ومن الواضح أنه لا يمكن للآمر أن ينظر في رتبة جعل أمره إلى كونه محركا للإرادة ، لما عرفت فيما تقدم من أن ذلك موجب لتقدم الشيء على نفسه ، فلا يمكن للآمر أن ينظر في رتبة جعل أمره إلى كون ذلك الأمر محركا للإرادة فضلا عن نظره إلى نفس تلك الإرادة وانبعاثها عن الأمر.

وإن شئت فقل : إن الأمر وإن كان محركا للإرادة إلا أن ذلك التحريك تحريك تشريعي نظير التحريك التكويني في أنه لا يكون منظورا إليه استقلالا كي يكون التحريك المذكور معتبرا فيه ، كما أن الإرادة التي كان هذا الأمر محركا لها نحو المراد لا تكون منظورا إليها استقلالا ، وإنّما المنظور الاستقلالي في جعل الأمر هو نفس ذلك المراد ، انتهى.

قلت : قد يقال إن صاحب الإشارات لم يدّع أن في لفظ الأمر دلالة على التقييد بكون انبعاث إرادة العبد عن الأمر ، كي يقال في ردّه إن التقييد المذكور يحتاج إلى النظر الاستقلالي إلى إرادة العبد وتحريك الأمر لها نحو المراد ، والمفروض أن النظر إلى ذلك آلي ، والغرض منه هو التوصل إلى حصول المراد وهو نفس الفعل ، بل إن ما يدعيه صاحب الإشارات هو أن الأمر لمّا كان محركا لإرادة العبد نحو الفعل ، كان مقتضى إطلاق هذا الأمر اعتبار كون الارادة منبعثة عن الأمر ، لأن كفاية تعلق الإرادة بالفعل وإن لم تكن منبعثة عن الأمر يحتاج إلى عناية زائدة.

وليس المراد من الإطلاق في هذا المقام الإطلاق القصدي ، بل المراد به أنّ طبع الأمر يقتضي التحرك عنه ، أمّا التحرك عن داع آخر فليس ذلك ممّا يقتضيه طبع الأمر ، فلا يكون ذلك الفعل الذي تحرك إليه المأمور بداعٍ

ص: 467

آخر تحت حيّز ذلك الأمر بما أنه تحريك نحو الفعل.

وبالجملة : أن الأمر باعتبار كون العلة الغائية فيه هي تحريك المأمور وانبعاثه عن ذلك الأمر إلى الفعل ، يكون موجبا طبعا لتقيد ذلك الفعل بكونه صادرا بذلك البعث ، لأن ذلك أعني الانبعاث هو المراد للآمر من أمره بالإرادة القانونية المنبعثة عن شوقه إلى ذلك الفعل المعبّر عنه بالإرادة الواقعية التي هي عبارة عن العلم بالصلاح.

وبالجملة : أن ذلك الفعل الصادر بداع آخر غير داعي الأمر وإن كان على طبق الإرادة الواقعية ، لكنه لا من طريق الأمر الذي هو عبارة عن الإرادة التشريعية التي عليها المدار ، دون تلك الإرادة الواقعية التي انبعث عنها الأمر التشريعي التي قلنا إنها عين العلم بالصلاح ، وما مثال ذلك إلا كمن نادى زيدا فاتفق أنّ زيدا لم يسمع النداء لكنه خرج من الدار لبعض أشغاله ، فان هذا الخروج لم يكن محصّلا لما هو المراد بذلك النداء وإن حصل به المراد الأصلي بايجاد النداء.

وهذا نظير ما تقدم من الاستاذ قدس سره (1) من الاستدلال على اعتبار كون المتعلق صادرا بالإرادة ، وعدم الاكتفاء بما يصدر عنه سهوا أو غفلة أو في حال النوم ، بأن الأمر لمّا كان محرّكا لارادة العبد نحو المأمور به كان مقتضى ذلك اعتبار كون الفعل صادرا بالإرادة ، وعدم الاكتفاء بما يصدر سهوا أو غفلة.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال : بأنه بعد فرض كون النظر إلى التحريك وإلى إرادة العبد نظرا آليا ، وأنّ المنظور إليه استقلالا إنّما هو نفس

ص: 468


1- أجود التقريرات 1 : 153 - 154 ، وقد تقدمت الحاشية على ذلك في صفحة : 375.

الفعل ، لا يكون التوصلي وحده محتاجا إلى العناية الزائدة ، بل كما يكون ذلك محتاجا إلى العناية الزائدة يكون اعتبار التعبد أيضا محتاجا إلى العناية الزائدة ، لأنّ كلا منهما جهة زائدة على ما تضمنه الأمر من النظر الاستقلالي إلى حصول الفعل ، وأما اعتبار كون الفعل صادرا بالإرادة في قبال كونه عن سهو أو غفلة ، فانّما قلنا به من جهة كون الأمر تحريكا للإرادة ، فلا يشمل ما كان مجردا عن الإرادة ، وأين هذا من اعتبار كون تلك الإرادة منبعثة عن الأمر.

وبالجملة : أنّ اعتبار نفس الإرادة إنّما يكون من جهة أنّ الأمر بعث وتحريك لها نحو الفعل ، وهذا المقدار لا يحتاج في اعتباره إلى أزيد ممّا يتكفله الأمر بطبعه أعني كونه تحريكا للإرادة نحو الفعل ، بلا حاجة فيه إلى النظر الاستقلالي إلى الإرادة ، وهذا بخلاف اعتبار كون تلك الإرادة منبعثة عن الأمر فانه يحتاج إلى عناية زائدة على أصل ما يتكفله الأمر بصرف طبعه ولا بد فيه من النظر الاستقلالي إلى الارادة.

ولكن قد يقال : إن المنظور إليه استقلالا في الأمر إنّما هو حصول الفعل من العبد ، وقد حرّك إرادة العبد نحوه توصلا إلى حصوله ، فلا يكون النظر إلى تحريك الإرادة ولا إلى الإرادة نفسها نظرا استقلاليا ، وإنّما يكون النظر إليها نظرا عبوريا لأجل التوصل بها إلى ما هو المنظور اليه بالاستقلال أعني نفس الفعل ، وحينئذ فكما أنّ اعتبار كون الإرادة منبعثة عن الأمر يحتاج إلى العناية الزائدة والنظر الاستقلالي إليها ، فكذلك اعتبار نفس الإرادة يحتاج إلى العناية الزائدة ، والفرق بينهما في غاية الإشكال.

والإنصاف : أنّ كلا من الإرادة وكونها منبعثة عن الأمر لا يحتاج إلى عناية زائدة ، بل يكفي في اعتبار كل منهما نفس الأمر ، فانه بصرف طبعه

ص: 469

يقتضي تحريك العبد نحو إرادة الفعل ، ومقتضى ذلك طبعا هو تحرك العبد نحو إرادة الفعل المذكور ، وصيرورة إرادته ناشئة عن تحريك ذلك الأمر ، كل ذلك يقتضيه السير الطبعي في هذه السلسلة ، وأن الارادة غير المنبعثة عن تحريك الأمر والفعل الصادر عن غير إرادة كل منهما خارج عن هذه السلسلة ، ويكون تقيد المطلوب بكونه صادرا عن الإرادة وكون الإرادة صادرة وناشئة عن تحريك الأمر من باب التقيد الطبعي الذي يقتضيه طبع الأمر وإن لم يلحظه الآمر ، فلا يتوجه عليه حينئذ أن النظر إلى التحريك والإرادة نظر آلي ، لأنّ ذلك إنّما يرد لو كان المدعى هو التقييد اللحاظي دون التقيد الطبعي الذي اقتضاه سير الأمر بصرف طبعه.

وبالجملة : أنّ الأمر لمّا كان باعثا ومحرّكا إلى الفعل ، كان الفعل بالطبع متقيدا بكونه منبعثا عنه ، لأنّ ذلك هو الواقع في سلسلة الأمر ، وأمّا غيره فخارج عن هذه السلسلة لا يكتفى به إلا بدليل خارج ، وحينئذ ينقلب الأصل اللفظي بل الأصل العملي أيضا ، فتأمل.

وما نحن فيه نظير باب العلة والمعلول في اختصاص المعلول بما يكون صادرا عن تلك العلة من دون أن يكون ذلك موجبا لتقيده بالصدور عن العلة على وجه تكون العلة علة للمقيد بأنه صادر عنها.

وإن شئت فقل : إنّه نظير الفعل المراد بالارادة التكوينية ، فانّك ترى أنّك عند تعلق [ إرادتك ](1) بفعل يكون ذلك الفعل منك مختصا بكونه معلولا لتلك الإرادة منك ، مع أن هذا القيد لم يكن داخلا تحت إرادتك ، كما أنّ ذلك الفعل الذي انوجد بارادتك ليس مطلقا من ناحية تلك الإرادة ،

ص: 470


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

فهو كما أنه ليس بمطلق من ناحية الاتصاف بتلك الإرادة لم تكن إرادتك قيدا في متعلقها فتأمل ، ولكن سيأتي إن شاء اللّه (1) الإشكال في هذا البرهان وأنه مغالطة صرفة.

وبهذا البيان يظهر الفرق بين التعبدي والتوصلي ، بلا حاجة إلى الالتزام بكون داعي الأمر قيدا في متعلقه كي يكون موردا للايرادات (2) المذكورة.

وربما يشهد بذلك أو يؤيده : عدم الدليل الوافي على عبادية شيء من العبادات بما هو أزيد من ذلك المقدار ، كما أنّه لا يحتاج إلى تعدد الأمر كي يتوجه عليه الإشكالات في كل من الأمر الأول والأمر الثاني كما حررناه. نعم لازم ذلك هو كون جميع الأوامر معتبرا فيها الإتيان بمتعلقاتها بداعي الأمر إلا ما أخرجه الدليل ، وهذا لا بعد فيه ولا غرابة ، فانّ الإطاعة التي يحكم بها العقل هي عبارة عن الانبعاث عن الأمر بالإتيان بمتعلقه ، وأما نفس الفعل بداع آخر أو الواقع سهوا أو نسيانا فليس هو إلا من قبيل الاكتفاء بغير المأمور به ، لما عرفت من أن البعث إلى الفعل موجب قهري لتقيد ذلك الفعل بالانبعاث عن ذلك ، ففي جميع تلك الموارد لا يكون الاكتفاء به من باب أنه ينطبق عليه الفعل المأمور به ، بل إن الفعل بما أنه مأمور به لا ينطبق على تلك الأفعال ، غايته أنها تكون مسقطة للأمر باعتبار كونها وافية بمصلحة المأمور به ، أو رافعة لموضوع الأمر ونحو ذلك من موجبات السقوط.

ص: 471


1- في صفحة : 505 - 506.
2- [ في الأصل : للارادات ، والصحيح ما أثبتناه ].

وللشيخ قدس سره (1) في أخذ الاجرة على المستحبات عبارة لا يمكن تفسيرها إلا بما ذكرناه من أن الفعل المستحب المأتي به بداعي الاجرة لا يكون مصداقا للمستحب ، فان كان عباديا بطلت الإجارة عليه وإلا كانت الإجارة عليه صحيحة ، غايته أنّه لا يكون الفعل مصداقا للمأمور به بما أنه مستحب فراجعه.

ثم إنّ لازم ذلك هو عدم الاكتفاء في صحة العبادة بالإتيان بها للمصلحة أو لغير ذلك من الدواعي الالهية غير الراجعة إلى داعي الأمر كما هو مذهب صاحب الجواهر قدس سره (2) ، ولا بعد فيه فانّ الداعي هو الغاية المترتبة على الفعل ، فالعبد ينبعث عن الأمر لأجل ما يترتب على ذلك من الامتثال ، وإنّما يريد الامتثال لأجل ما يترتب عليه من الثواب أو الفرار من العقاب إلى غير ذلك من الدواعي ، أمّا لو كان قصده نفس الثواب أو نفس المصلحة بلا توسط الامتثال فلا يبعد الحكم ببطلان عمله ، ولو دل الدليل على صحته لزم الحكم بذلك ، لكنه خارج عن مقتضى نفس الأمر من الانبعاث عن الأمر ، وكونه هو الداعي بمعنى ما يترتب عليه من الحصول على عنوان الامتثال ، إذ لا معنى للداعي إلا العلة الغائية ، ويستحيل كون الأمر نفسه هو العلة الغائية وإنّما العلة الغائية هي امتثاله ، ولأجل ذلك نقول إن الأمر محدث للداعي لا أنه بنفسه هو الداعي إلا بنحو من التسامح ، كما أن المصلحة أو الثواب أو الفرار من العقاب لو كانت مترتبة على الامتثال لا على نفس الفعل كان من المحال قصدها وجعلها غاية للفعل نفسه بلا توسط الامتثال.

ص: 472


1- المكاسب 2 : 143 وما بعدها.
2- جواهر الكلام 9 : 155 وما بعدها.

وإن شئت فقرّب المطلب بتقريب آخر : وهو أنّ الطاعة التي يحكم العقل بحسنها ولزومها ليست هي إلا عبارة عن الانبعاث عن الأمر ، فليس في البين اعتبار الداعوية ، نعم لازم الانبعاث عن الأمر هو كون العبد شاعرا بأنّ الفعل الذي يأتي به إنّما هو انبعاث عن الأمر ، ولازم ذلك قهرا كون الامتثال علة غائية لذلك الفعل ، أما الإتيان بالفعل بداعي غاية اخرى فهو خارج عن موضوع الإطاعة التي حكم بها العقل ولا يكتفى به إلا بدليل (1) خارج عن الأمر ، لأن ذلك لم يكن انبعاثا عن الأمر وإن كان المأتي به مطابقا للمأمور به ، إلا أنّ العقل لا يجتزئ به ما لم يكن مصداقا للاطاعة التي حكم بلزومها ، أما النواهي فلا حكم للعقل فيها إلا بالمنع عمّا منع عنه الشارع الذي نعبّر عنه بالمنع من العصيان ، فالاكتفاء فيها بمجرد الترك إنّما هو لأجل أنّ ذلك محقق لعدم المعصية لا من باب الإطاعة للنهي الشرعي ، فتأمل.

لا يقال : إذا فرضنا كون الفعل الصادر بغير داعي الامتثال غير منطبق عليه المأمور به وأنه لا يكون بنظر العقل طاعة ، وأنّ سقوط الأمر به إنّما هو من قبيل ارتفاع الموضوع ، لم يخرج المكلف بذلك عن استحقاق العقاب كما حرر في مسألة الجهر والإخفات.

لأنّا نقول : يمكن أن لا يكون موجبا لاستحقاق العقاب ، بأن يكون الأمر مشروطا حدوثا وبقاء بعدم حصول الفعل بغير داعي الأمر ، فيكون حصول ذلك الفعل موجبا لارتفاع شرط الأمر ، فلا يكون موجبا لتحقق العصيان واستحقاق العقاب.

ص: 473


1- [ في الأصل : بذلك ، والصحيح ما أثبتناه ].

ومن ذلك يظهر لك طريقة اخرى في أصالة التعبد بمعنى عدم سقوط الأمر بمجرد الفعل وهي استصحاب بقاء التكليف. بل قد يقال إنّ مقتضى الأصل اللفظي هو ذلك ، لأن مرجع هذا الشك حينئذ إلى الشك في إطلاق الوجوب أو اشتراطه بعدم حصول الفعل بداع آخر ، ومقتضى الإطلاق هو كون ذلك الفعل واجبا بقول مطلق ، سواء وجد ذلك الفعل بداع آخر أو لم يوجد.

وحاصل ما ندعيه على أصالة التعبدية هو أمران :

أولهما : أنّ طبع الأمر يقتضي أن يكون ما هو واقع بداع آخر خارجا عن دائرته.

ثانيهما : أنّ حكم العقل بلزوم الإطاعة لا يفرق فيه بين التعبدي والتوصلي ، ومن الواضح أنه مع الإتيان بالفعل بداع آخر لا يكون العقل حاكما بأن ذلك إطاعة.

وهناك أمر ثالث وهو التمسك بأصالة إطلاق الوجوب لما إذا حصل الفعل بداع آخر ، فتأمل فانّ هذا متفرع على تمامية أحد الأمرين الأولين أو كليهما ، نعم بعد تمامية أحد ذينك الوجهين أو كليهما لو حصل الشك في سقوط التكليف بمجرد الفعل لاحتمال كونه من قبيل ما دل الدليل عليه من التوصليات ، كان هذا الوجه الثالث نافعا في إزالة الشك المذكور.

وهاهنا أمر لا بد من بيانه والتنبيه عليه ، وهو أنّ هذا المقدار أعني الاتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر ربما لا يوجب عبادية ذلك الفعل أو عبادة ذلك الآمر كما يشاهد في الأوامر العرفية فيما لو أمر الوالد ولده بالإتيان بالماء فجاء به امتثالا لأمر والده ، لم يكن ذلك الفعل بذلك القصد عباديا ولا يكون ذلك الولد عابدا لوالده في امتثال أمره ، بل أقصى ما فيه أن يعدّ

ص: 474

مطيعا ، فالعبادة بمعنى ما يعبّر عنه بالفارسية ب- ( پرستش ) تحتاج إلى جهة اخرى زائدة على الإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر ، وذلك عبارة عن الخضوع والتذلل والاستكانة نحو المعبود. أو بعبارة أوسع عبارة عن الحضور القلبي نحو المعبود حتى بمثل الذكر والدعاء والمناجاة الذي هو عبارة عن العروج القلبي الذي هو روح العبادة ، ولعل القدر الجامع هو التقرب بالفعل إليه تعالى أو التملق له.

وكيف كان ، أنّ للعبادة معنى فوق الإتيان بالعمل بقصد الامتثال ، فذلك المعنى ربما كان الفعل المأمور به واجدا له مع قطع النظر عن تعلق الأمر به كالسجود والركوع ونحو ذلك من مظاهر الخضوع والتذلل أو من مظاهر الميل القلبي والعروج الروحي كما في الأدعية ، ففي مثل ذلك يكون ذلك المعنى دخيلا في أصل الفعل المأمور به بل هو روح ذلك الفعل ، ولا يلزم من أخذه في الفعل المأمور به شيء من المحاذير المتقدمة ، ففي أمثال ذلك يعتبر التعبد بالمعنى المذكور لكونه مقوّما للمأمور به ، كما أنه يعتبر فيه قصد الامتثال ، لأن الفعل الفاقد لذلك القصد لا ينطبق عليه الطاعة ولا المأمور به على ما عرفت شرحه.

نعم ، ربما لم يكن الفعل بذاته عباديا بالمعنى الذي شرحناه ، لكن لا مانع من أن يقوم دليل من نص أو إجماع على اعتبار كونه عباديا ، وحينئذ يلزم الإتيان به بذلك العنوان أعني عنوان التقرب والخضوع ، مضافا إلى قصد الامتثال كما في مثل غسل الجنابة ونحوه مما ادعي الإجماع على كونه عباديا ، وإن كان ذلك قابلا للمناقشة بأن الإجماع القائم على كونه عباديا لم يكن المراد به العبادية بالمعنى المزبور ، بل لعل المراد به كونه معتبرا فيه قصد الامتثال بناء على ما يظهر من إطلاق كلماتهم من أن اعتبار قصد

ص: 475

الامتثال والاتيان بالفعل بداعي الأمر هو الملاك في كونه عباديا.

وعلى كل حال ، أنّ هذا البرهان الذي ذكرناه وسيأتي إن شاء اللّه (1) إبطاله لو سلّمناه وأغضينا النظر عمّا سيأتي في إبطاله ، فهو وإن أنتج اختصاص المتعلق بما يؤتى به بداعي الامتثال أو بقصد الامتثال اختصاصا قهريا من دون تقييد قصدي أو لحاظي ، لكنه لا ينتج العبادية ، لما عرفت من أنّ مجرد الإتيان بداعي الأمر أو بقصد امتثال الأمر لا يوجب العبادية حتى لو ضممنا إليه قصد ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، لما نشاهده من امتثال المقهورين أوامر القاهرين في عدم كونها عبادة لهم حتى لو ضممنا إليه قصد التقرب إليهم ، ما لم يتوسط في ذلك ذلك العنوان أعني عنوان العبادة والخشوع والخضوع المعبّر عنه بالفارسية ب- ( پرستش ).

والخلاصة : هي أنّ اعتبار داعي الأمر أو قصد الامتثال وإن ترتب عليه الثواب والتخلص من العقاب حسب وعده تعالى ووعيده ، إلا أنه وحده لا يحقق العبادية ، بل هو قدر مشترك بين التعبديات والتوصليات ، فلو تم ما أفاده صاحب الإشارات (2) والعناوين (3) وتم ما حررناه (4) من البرهان على ذلك من انحصار المعلول قهرا بمورد العلة ، لكان أقصى ما ينتجه هو انحصار المأمور به قهرا بما يكون صادرا عن داعي الأمر ، وذلك وحده لا ينتج التعبدية.

ومنه يظهر لك أنّ الأمر الثاني ممّا أفاده شيخنا قدس سره (5) المعبّر عنه

ص: 476


1- في صفحة : 505 - 506.
2- إشارات الاصول 1 : 56 - 57.
3- العناوين 1 : 378 وما بعدها.
4- في صفحة : 470.
5- أجود التقريرات 1 : 173.

بمتمم الجعل المتعلق بالإتيان بالفعل بداعي أمره الأول لا ينتج التعبدية ، وكذلك ما أفاده الاستاذ العراقي (1) الراجع إلى تعلق الأمر بالذات التي هي توأم مع قصد الأمر ، بل وكذلك ما أفاده في الكفاية (2) من حكم العقل به بعد فرض انحصار المصلحة بما يؤتى به بداعي الأمر.

والحاصل : أنّ كل طريقة يحاول بها إثبات اعتبار داعي الأمر لا تكون منتجة لاعتبار التعبدية ، بل أقصى ما فيها أن تكون براهين على اعتبار داعي الأمر ، فان تمت تلك البراهين وأوجبت تقيد الفعل ولو تقيدا قهريا بداعي الأمر ، لم يكن الشك في الاكتفاء بغيره إلا من قبيل الشك في كون ذلك الغير مسقطا للأمر ومقتضاه الاشتغال ، وإن لم يتم شيء من البراهين المذكورة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى كان المقام من قبيل الشك في اعتبار أمر زائد على أصل الفعل الذي تعلق به الطلب ، والمرجع فيه هو البراءة إلا على برهان الكفاية من كونه بحكم العقل ، فانا لو سلّمنا أصل هذا البرهان وهو حكم العقل بلزوم تحصيل ما يكون وافيا بالمصلحة الباعثة للشارع على إصدار الأمر وجعل الوجوب ، يكون اللازم هو الاحتياط عند الشك.

نعم ، لو منعنا البرهان المذكور ، وأنّ العقل لا يحكم على المكلفين بتحصيل المصالح وتطبيق أفعالهم عليها كما أفاده شيخنا قدس سره (3) لم يبق مجال لحكم العقل بأصالة العبادية في مورد الشك المذكور.

ذكر في البدائع استدلال القائلين باصالة التعبد بوجهين ، الأول : أنه

ص: 477


1- بدائع الأفكار للآملي قدس سره : 228.
2- كفاية الاصول : 74 ، 72.
3- أجود التقريرات 1 : 167.

مقتضى الظهور اللفظي. والثاني : ذم العقلاء للعبد الآتي بالفعل لا بداعي الأمر. وأشكل على كل من الأول والثاني ، ثم أفاد أنه إن كان المراد من الثاني أن العبد وإن لم يكن عاصيا في الحقيقة إلا أن ذم العقلاء له يجعله بحكم العاصي ، وأشكل عليه أوّلا : بمنع الذم. وثانيا : بأنّ الذم لا يقتضي المنع اللزومي ، بل أقصى ما فيه هو التنزيه. وثالثا : بأنه لو سلّمنا الذم فانما هو للفاعل لسوء السريرة لا على نفس الفعل. ورابعا : بعد الغض عن جميع ذلك وتسليم كون الذم على الفعل دون الفاعل ، فغير منتج ما هو المقصود من إثبات الوجوب التعبدي ، إذ غايته وجوب تحصيل الامتثال والانقياد على العبد مضافا على وجوب أصل الفعل ، وهو أمر آخر وراء اشتراط سقوط التكليف بقصد القربة وبعد تسليم عدم مساعدة اللفظ عليه.

وهذا الجواب سار في جميع أدلتهم من العقل والنقل ، وقد أخذه بعض المحققين في الهداية جوابا عن أدلتهم السمعية ، وسيأتي تمام الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. فتلخص من جميع ما ذكر : أنّه لا محصّل لدعوى اقتضاء الأصل اللفظي للوجوب التعبدي (1) ، انتهى ملخصا.

والظاهر أن مراده هو أن أقصى ما تدل عليه الأدلة المذكورة هو لزوم الطاعة والامتثال والانقياد وجوبا مستقلا ، وذلك أمر آخر غير التقييد واشتراط المأمور به بذلك ، وأما ما أشار إليه فيما سيأتي فهو ما نقله عن صاحب الحاشية (2) ، ونحن نذكر كلام صاحب الحاشية ليتضح لك مراده وأنه يفرق بين داعي الأمر وبين العبادية.

ص: 478


1- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 285.
2- في صفحة : 291 من البدائع [ منه قدس سره ].

قال في الحاشية بعد أن أجاب عن الاستدلال بآية وجوب الاطاعة (1) بأنها عامة للأوامر والنواهي ، ولا ريب في عدم اعتبار العبادية في النواهي قال ما هذا لفظه : ومع الغض عن ذلك لو اخذ بظواهر تلك الأوامر فلا يقضي ذلك بتقييد المطلوب في سائر الأوامر ، إذ غاية ما تفيده هذه الأوامر وجوب تحصيل معنى الامتثال والانقياد ، وهو أمر آخر وراء وجوب الاتيان بالمأمور به (2) الذي هو مدلول الأمر على الوجه المذكور ، فأقصى ما يلزم حينئذ أنه مع إتيانه بالمأمور به لا على وجه الامتثال أن لا يكون آتيا بالمأمور به بهذه الأوامر ، ولا يستلزم ذلك عدم إتيانه بما امر به في تلك مع إطلاقها وعدم قيام دليل على تقييدها - إلى أن قال ما هذا لفظه : - وأما وجوب الإتيان بالفعل على سبيل الانقياد والإطاعة فممّا لا دلالة في الأمر ولو بعد ملاحظة حال الآمر عليه ، وإن قلنا بكونه ممن يجب الإتيان بمطلوبه من حيث إنه أمر به ، ليجب قصد الطاعة والانقياد في جميع ما يوجبه ، فان ذلك لو ثبت فانما هو مطلوب آخر وتكليف مستقل لا وجه لتقييد مدلول الأمر به إلا أن يدل دليل على التقييد أيضا ... إلخ (3).

وقوله : « عليه » متعلق بقوله فمما لا دلالة في الأمر ، وكان اللازم تقديمه على قوله : « ولو ».

وقوله : ليجب قصد الطاعة ... إلخ متفرع على المنفي أعني الدلالة.

وقوله : وإن قلنا بكونه ممن يجب الإتيان بمطلوبه من حيث إنه أمر

ص: 479


1- النساء 4 : 59.
2- كذا ما وجدته في الحاشية ، ولكن صاحب البدائع نقله [ في بدائع الأفكار : 291 ] بصورة اخرى وهي : بالمأمور به على وجه الامتثال ، فالآتي بالمأمور به لا على وجه الامتثال [ منه قدس سره ].
3- هداية المسترشدين 1 : 684.

به ، ظاهر في أنه يسلّم لزوم الإتيان بالمطلوب من حيث إنه قد أمر به ، بمعنى أن اللازم بحكم العقل بعد ملاحظة حال الآمر أن يؤتى بمطلوبه مقيدا بكونه مأمورا به ومطلوبا لذلك الآمر العظيم ، وذلك لا دخل له بكون الفعل عباديا ، وأنه لا بد فيه من الاتيان بقصد الطاعة والامتثال والانقياد ، فهو يفرّق بين الإتيان بالمأمور به بما أنه مأمور به وبين الإتيان به بداعي الطاعة والانقياد والامتثال ، ويقول إنّا وإن قلنا إنه لا بد من قصد الأمر إلا أنّه لا دليل على التقييد بقصد الامتثال والانقياد والطاعة ، وهذه الأدلة وإن أوجبت الثاني إلا أنّه تكليف مستقل لا ربط له بما أفادته الأوامر الأصلية ولا يكون موجبا لتقييدها به.

ثم لا يخفى أنّ صاحب البدائع قدس سره (1) أورد على صاحب الحاشية فيما أفاده من أن الآية إنما تتكفل وجوب الطاعة وجوبا مستقلا فلا دلالة فيها على التقييد ، وحاصل إيراد البدائع هو كونها ظاهرة في الحكومة على الأوامر فتدل على التقييد ، بخلاف ما ذكرناه في رد الاستدلال بذم العقلاء فان المتعيّن فيه هو الاستقلال لا التقييد.

ولا يخفى أن ذلك من الشواهد على أن الانقياد وكذلك الطاعة هو عبارة عن العبادية كما يرومه المستدل بالآية على التعبدية ، وليس هو اعتبار داعوية الأمر ، وإلا لكان التقييد به ممتنعا ، فكيف يستظهر التقييد صاحب البدائع قدس سره مع أنه قد أثبت أن التقييد به ممتنع كما فصّله وأوضحه (2) ، اللّهم إلا أن يكون مراده من كون أوامر الإطاعة موجبة للتقييد في بقية الأوامر كون

ص: 480


1- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 291 - 292.
2- المصدر المتقدم : 286.

ذلك من قبيل نتيجة التقييد الذي شرحه شيخنا قدس سره (1) ، ولكن حمل كلامه على ذلك بعيد جدا ، فلاحظ وتأمل.

وملخص ما فى الإشارات في الاستدلال على أصالة التعبدية : صدق الامتثال عرفا لا يحصل إلا بقصد الامتثال ، فيخرج المتشهي وناسي الأمر والمتخيل أن ما فعله هو موجب لقتل سيده فتبين أنه مأمور به ، ومع قطع النظر عن ذلك يكون مقتضى التوقيفية الاكتفاء بمورد اليقين للزوم تحصيل البراءة بعد ثبوت الاشتغال ، وما ذكرناه أظهر الأفراد ومتبادرها عند الإطلاق كتبادر النقد الرائج فيلزم حمل اللفظ عليه وبدونه يشك في الامتثال.

ثم قال ما محصله : أن الأفعال وإن صدقت مع عدم النية ، إلا أن الامتثال يتوقف عليه وإلا لتساوى فعل الغافل والناسي مع غيرهما في مقام الامتثال وهو واضح البطلان. ثم اعترض على نفسه بعدم تعرض الجماعة إلى التشبث بهذه الأدلة وركونهم إلى التشبث بالآيات والروايات. وأجاب عن ذلك الاعتراض بما حاصله أنه يحتمل أن يكون لأجل أن ما أرادوا إثباته لا يثبت بأصل اللفظ قطعا.

ثم إنه نقل عن بعضهم التشبث بذلك ، فقال بعضهم ما محصله أن الأمر يقتضي الإطاعة والإطاعة في اللغة والعرف امتثال الأمر.

وقال آخر : امتثال الأمر لا يحصل إلا بقصد إطاعته عرفا وعادة والموافقة الاتفاقية لا تكفي.

وقال ثالث : الأصل في كل عمل مأمور به أن يكون عبادة مشروطة بها لرجوع المقام إلى الجهل بالجزئية.

ص: 481


1- أجود التقريرات 1 : 173 - 174.

وقال رابع : الأصل فيما يتعلق به الطلب أن يكون عبادة بالأصل ما لم يثبت خلافه تحقيقا لمقتضى الإطاعة والامتثال ، انتهى ملخصا عن الإشارات (1).

وليس فيها تعرض للاستدلال بالآية الشريفة ولا بالحديث المبارك ، وهذا نص عبارته في بيان الاعتراض المذكور وبيان جوابه :

ولو قيل يؤذن كلام الأصحاب بكون ما ذكرت مخالفا لاتفاقهم ، حيث استندوا في إثبات النية بالآيات والأخبار ، ولو كان الأمر عندهم على ما قلت لتشبثوا بما ذكر.

قلنا : أوّلا عدم التعرض لأمر النية من القدماء والأوائل معروف ، ومع ذلك الاحتجاج من المتعرض له قليل ، ومع ذلك يحتمل أن يكون عدم التشبث لأجل أن ما أرادوا إثباته لا يثبت بأصل اللفظ قطعا ، ومع ذلك لا حجة فيه ، مع أنّ منهم من اعترف بما ذكرناه من غير نقل خلاف فيه ، فقال بعضهم : إنه تعالى أمرنا ونهانا وخاطبنا بأحكام كثيرة وكل ذلك يقتضي وجوب الإطاعة ، والإطاعة في اللغة والعرف امتثال الأمر مثلا ، والامتثال العرفي واللغوي لا يتحقق إلا بأن يكون ذلك الفعل الذي يفعله بقصد أنه تعالى أراد منه ولذا فعله ، وقال آخر ... إلخ.

قال في العناوين (2) : الأصل في كل مأمور به أن يكون عبادة مفتقرة إلى قصد التقرب صادرة عن مباشر بعينه غير ساقطة بفعل غيره ، نظرا إلى أن تعلق الوجوب يقتضي لزوم الامتثال والخروج عن العهدة حذرا من العقاب - إلى أن قال : - مضافا إلى أن المتبادر من اللفظ في العرف أيضا

ص: 482


1- إشارات الاصول 1 : 56 - 57.
2- العناوين 1 : 378 - 386.

ذلك ، فان ظاهر قوله « اغسل » لزوم صدور الغسل عن المخاطب لأنه المأمور بالإتيان به فيكون قيدا ومنه يعلم المباشرة ، ونرى أن أهل العرف يذمون من أتى بغير قصد أمر المولى ، بل لا يفهمون من الخطاب بالفعل إلا الإتيان امتثالا للامر - إلى أن قال : - والآتي به لا على قصد الإطاعة وإن لم يكن تاركا حقيقة ، لكن يعدّ تاركا حكما ويذمّه العقلاء باعتبار فهم العقل أن الذم في الترك الحقيقي لعدم الإطاعة فكذلك في الترك الحكمي ، والقاعدة الشرعية أيضا تقضي بذلك ، مضافا إلى الأصل اللفظي والعقلي وهو من وجوه : منها قوله تعالى ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) ثم أطال الكلام فيها ثم قال ومنها : قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) - إلى أن قال : - ومنها الأخبار نحو « لا عمل إلاّ بنية » (3) و « لكل امرئ ما نوى » (4) و « إنّما الأعمال بالنيات » (5).

ولعل الأقرب هو أن الجامع بين الأصل اللفظي وبين الأدلة السمعية إنما هو صاحب العناوين دون صاحب الإشارات.

قوله : وثانيا : أن مفاد الآية الشريفة بقرينة سابقتها - إلى قوله : - هو أن المؤمنين في مقام العبادة لم يؤمروا إلاّ بعبادة اللّه تعالى دون غيره ... إلخ (6).

وقال في الحاشية : الظاهر أن الضمير في قوله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا

ص: 483


1- البينة 98 : 5.
2- النساء 4 : 59.
3- وسائل الشيعة 1 : 46 / أبواب مقدمة العبادات ب 5 ح 1 ، 3 ، 9 ، وغيرها.
4- وسائل الشيعة 1 : 49 / أبواب مقدمة العبادات ب 5 ح 10.
5- وسائل الشيعة 1 : 49 / أبواب مقدمة العبادات ب 5 ح 10.
6- أجود التقريرات 1 : 171.

لِيَعْبُدُوا اللَّهَ ) يرجع إلى أهل الكتاب المذكورين قبل هذه الآية ، فحاصل المراد أن أهل الكتاب لم يكونوا مأمورين إلاّ بعبادة اللّه ... إلخ (1).

ما أدري من أقام هذا الظاهر وهو لفظ المؤمنين مقام الضمير وهو الواو في ( امروا ) والذي حررته عنه قدس سره هو هذا :

وثانيا : أن هذه الآية ليست في مقام حصر أوامره تعالى بالتعبديات ، بل هي في مقابل عبادة المشركين أو الكافرين كما يدل عليه ما قبلها ، فيكون الغرض منها نفي عبادة غير اللّه تعالى لا أن أوامره منحصرة في العبادات ، وحاصل مضمونها أنهم ما امروا لأن يعبدوا غير اللّه تعالى وإنما امروا ليعبدوه وحده مخلصين له الدين ، فأين هذا مما نحن فيه.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي قدس سره في تقريراته : ومعنى الآية أن الكفار لم يؤمروا بالتوحيد إلاّ ليعبدوا (2) اللّه ويعرفوه ، ويكونوا مخلصين له غير مشركين. وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، انتهى (3) فمن بدّل الكافرين بالمؤمنين ، وما هذا الحاصل الذي ذكره المحشي بقوله : فحاصل المراد ، إلاّ هو عين حاصل ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس سره.

قوله : فظهر أن توهم سقوط الأمر الأوّل مع عصيان الأمر الثاني لا معنى له ... إلخ (4).

وذلك كما لو جاء بمتعلق الأمر الأوّل لا بداعيه بل بداع آخر ، أو أنه جاء به عن جهل بالأمر الأوّل ، وحاصل الايراد تعريض بما في الكفاية (5)

ص: 484


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 171.
2- لم يؤمروا إلا بالتوحيد ليعبدوا [ منه قدس سره ].
3- فوائد الاصول 1 - 2 : 157.
4- أجود التقريرات 1 : 174.
5- كفاية الاصول : 74.

في إشكاله على التوجيه بتعدد الأمر ، فانه أشكل عليه أوّلا : بأنه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد كغيرها من الواجبات. وثانيا : بأن الأمر الأوّل إن سقط بالاتيان بمتعلقه لم يبق مجال للأمر الثاني ، فلا يحصل ما رامه الآمر من التوسل إلى حصول غرضه في تعدد الأمر ، وإن لم يسقط فلا وجه لعدم سقوطه إلاّ عدم حصول غرض الأمر ( يعني المصلحة الباعثة على الأمر ) فلا حاجة حينئذ إلى الأمر الثاني لحكم العقل بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره ، هذا حاصل ما في الكفاية. وكان عليه أن يشكل على الأمر الثاني ما تقدم منه (1) في الاشكال على أخذ الداعي جزءا ، بأن الارادة غير قابلة لتعلق الأمر بها لكونها غير اختيارية ، إلاّ أن يكون قد تركه إيكالا على ذكره سابقا. وكيف كان فان الغرض من نقل كلامه قدس سره هو الجواب عما وجهه على الشيخ قدس سره.

فنقول بعونه تعالى : لا يخفى أن إنكار تعدد الأمر لأنا لم نجد في صريح الكتاب أو في السنة فيما يتعلق بالعبادات سوى أمر واحد غير متجه ، فان للشيخ القائل بالتعدد (2) أن يقول إنا نستكشف وجود الأمر الثاني مما ذكرناه من محالية كون الداعي قيدا ومن عدم حكم العقل وإلزامه به ، لأن العقل غير مشرّع مع فرض أنه معتبر في الصحة إجماعا ، فيكون هذا الإجماع إجماعا على أن الاتيان بالعمل بالداعي المذكور واجب شرعا وهو الأمر الثاني الذي ندعيه.

مضافا إلى أن صاحب الكفاية قدس سره يعترف بأن المصلحة متوقفة على ذلك الداعي فيكون العقل حاكما بحسنه ، وعن هذا الحكم العقلي

ص: 485


1- كفاية الاصول : 73.
2- مطارح الأنظار 1 : 303.

نستكشف الحكم الشرعي كما هو الشأن في قاعدة الملازمة.

ومن ذلك يظهر لك أن ما أفاده في صدر المبحث من قوله : إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره ، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا (1) يتوجه عليه أن هذا الحكم العقلي إن كان عبارة عن حسن ذلك ، لكون المصلحة قائمة به ، وعن ذلك الحكم العقلي نستكشف الحكم الشرعي لقاعدة الملازمة فنعم الوفاق ، وإن كان عبارة عن كون العقل حاكما وملزما بوجوب الاتيان بالداعي المذكور على نحو الحكم الشرعي ، فذلك ممنوع أشد المنع كما أوضحه شيخنا قدس سره (2).

على أنا لو سلّمنا أن للعقل هذه الحكومة فهو قدس سره إنما يقول بها فيما لو كانت في الشيء مصلحة أدركها العقل ولم يمكن للشارع أن يأمر به لجهة من الجهات المانعة من تصدي الشارع للالزام بذلك كما فيما نحن فيه إذا فرضنا عدم إمكان أخذه شرعا في متعلق الأمر الأوّل وعدم إمكان الأمر به مستقلا ، أما مع فرض إمكان الامر به ثانيا أمرا مستقلا شرعيا فالظاهر أنه لا وجه في ذلك للقول بأن العقل حاكم به فلا حاجة إلى الأمر الثاني الشرعي ، وهل ذلك إلاّ عبارة أخرى عن القول بانعزال الشارع والاكتفاء بما يحكم به العقل وسدّ باب الملازمة بل سدّ باب التشريع إلاّ فيما لا يدرك العقل حسنه.

وبالجملة : فالذي تلخص هو أن ما أفاده في الكفاية لا يتوجه على ما أفاده الشيخ قدس سره من تعدد الأمر ، ولكن هل يكون هذا التعدد ممكنا أو لا؟

قد يقال : إنه غير ممكن. أما الأمر الأوّل ، فلأن متعلقه هو ذات

ص: 486


1- كفاية الاصول : 72.
2- أجود التقريرات 1 : 173.

الفعل ولا ريب في خلوّه بذاته عن المصلحة ، فلا يكون قابلا لتعلق الأمر به ، ولا يكون الأمر به إلاّ صوريا لمجرد فتح الطريق للأمر الثاني ، ومع فرض كون الأمر الأوّل صوريا لا يكون قابلا للتقرب فكيف يأمر ثانيا بأن يؤتى بمتعلقه بداعي التقرب. وأما الأمر الثاني فلأن متعلقه من مقولة الارادة وهي غير اختيارية.

ولا يخفى أن القائل بأن اعتبار الداعي والتقرب إنما هو بالحكم العقلي لا بالحكم الشرعي مثل صاحب الكفاية قدس سره يتوجه عليه الاشكالان المذكوران. أما الأوّل فلأن متعلق الأمر عنده هو ذات الفعل أيضا مع خلوّه من المصلحة ، فكيف يأمر العقل بلزوم إطاعته والاتيان بمتعلقه بداعيه ، فلا يكون الأمر عنده إلاّ صوريا كما هو عند شيخنا قدس سره ، بل إن الصورية عنده أشكل مما عند شيخنا ، لأنها عند شيخنا متداركة بالأمر الثاني بخلافه على مسلك صاحب الكفاية إذ لا يتداركها عنده إلاّ حكم العقل فتأمل. وأما الثاني فلأنا إذا فرضنا أن الداعي غير اختياري ، فكما لا يكون صالحا للالزام الشرعي فكذلك لا يكون صالحا أيضا للالزام العقلي ، بل إن هذا الاشكال على الأمر الثاني وارد على جميع الأوامر حتى الأوامر التوصلية ، إذ لا ريب في توقف متعلقاتها على الارادة ، فإذا قلنا إن الارادة غير اختيارية بطلت جميع تلك الأوامر لتوقف متعلقاتها على ما هو خارج عن الاختيار ، بل لازم ذلك سلب الاختيار عن كل فعل وإن لم يكن مأمورا به ، وليست هذه الشبهة إلاّ عين ما تقدم (1) من شبهة الجبر.

وكيف كان ، لا بدّ لنا من التصدي لرفع هذين الاشكالين ، فنقول بعونه

ص: 487


1- [ لم نعثر عليه ].

تعالى أما الاشكال الأوّل فتوضيح الجواب عنه يتوقف على تمهيد مقدمات :

المقدمة الاولى : أن كون الصلاة مثلا واقعة بداعي الأمر حاله حال كونها واقعة مع الساتر أو إلى القبلة ونحو ذلك مما هو قيد فيها وشرط في صحتها ، غير أن هذا الشرط والقيد لا يمكن أخذه في متعلق الأمر بها ، لما تقدم من لزوم تقدم الشيء على نفسه في مقام الجعل والفعلية ومقام الامتثال ، ولا فرق في هذه المحالية بين القول بأن القيدية والشرطية في مثل الساتر والقبلة مجعولة ابتداء ويكون التكليف منتزعا عنها ، والقول بأن القيدية المذكورة منتزعة من التكليف الوارد على الصلاة المقيدة بالساتر ، لتوجه الاشكال المذكور في داعي الأمر على كل من هذين القولين. أما على القول الثاني فواضح لما عرفت من عدم إمكان أخذ الداعي في متعلق الأمر. وأما على القول الأوّل فلأن المجعول ابتداء وإن كان هو الشرطية أو القيدية بأن يجعل الشارع داعي الأمر قيدا وشرطا في الصلاة ، إلاّ أنه بعد جعل تلك القيدية لا بدّ له من إيراد الأمر على الصلاة المقيدة بذلك القيد ، وحينئذ يعود المحذور المذكور.

المقدمة الثانية : أنه بناء على المختار من كون القيدية منتزعة من التكليف ، ليس المراد به التكليف الغيري الوارد على القيد ، بل المراد به التكليف النفسي الوارد على الفعل المقيد بذلك القيد. نعم بعد ورود ذلك التكليف النفسي على الفعل المقيد بذلك القيد يكون ذلك التكليف النفسي علة لترشح تكليف غيري وارد على القيد ، فلو قال صلّ ثم قال تستّر للصلاة أو استقبل القبلة فيها ، كان ذلك الأمر الغيري الوارد على التستر أو الاستقبال معلولا لورود الأمر النفسي على الصلاة المقيدة بالتستر أو الاستقبال ، ومن هذه الجهة يكون هذا الأمر الغيري كاشفا كشفا إنيّا عن أن

ص: 488

متعلق ذلك الأمر الأوّل الذي تعلق بالصلاة هو الصلاة المقيدة بالتستر أو الاستقبال ، وعن كون متعلق الأمر مقيدا تنتزع الشرطية والقيدية للتستر أو الاستقبال ، فليس ذلك الأمر الغيري المتعلق بالتستر أو الاستقبال إخبارا عن كون الصلاة المأمور بها الأمر الأوّل مقيدة بالتستر أو الاستقبال ، بل هو إنشائي صرف ، لكنه حيث كان معلولا للأمر النفسي المتعلق بالصلاة المقيدة بذلك القيد يكون كاشفا عن أن تلك الصلاة التي سبق الأمر بها كانت مقيدة بالقيد المزبور.

المقدمة الثالثة : أنّ كلا من الاطلاق والتقييد تارة يكونان لحاظيين وأخرى يكونان ذاتيين ، ومورد الأوّل ما يكون من الانقسامات اللاحقة للفعل مع قطع النظر عن الأمر به كما في مثل التستر والاستقبال ونحوهما ، ومورد الثاني الانقسامات اللاحقة بعد الحكم كالعلم بالحكم أو الجهل به ونحو ذلك مما يكون طارئا بعد الحكم وناشئا عنه ، ومن ذلك الاتيان بالفعل بداعي أمره المتعلق به الذي أفاد فيه شيخنا قدس سره (1) أن الاطلاق والتقييد اللحاظيين فيه غير معقول ، وأنه إنما يمكن ذلك فيه على نحو أخذ نتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد من متمم الجعل بالتفصيل الذي أفاده قدس سره (2) في بيان كيفية متمم الجعل في أمثال هذه المقامات.

ومحصل تطبيق التقييد الذاتي فيما نحن فيه بمتمم الجعل : هو أنّ ذات الصلاة تكون في الخارج على قسمين ، قسم يكون بداعي الأمر وقسم يكون بداع آخر ، ومورد الأمر الأوّل الوارد على ذات الصلاة هو القسم الأوّل من أفرادها دون القسم الثاني ، لكن لمّا لم يمكن في مقام الأمر الأوّل

ص: 489


1- أجود التقريرات 1 : 158.
2- أجود التقريرات 1 : 173.

تقييد الصلاة بقيد كونها بداعي [ الأمر ](1) احتاج الشارع إلى جعل ثان يتكفل الأمر بذلك القيد على نحو الأمر الغيري ، لا أنه عين الأمر الغيري حقيقة ، بل هو أمر نفسي لكنه نفسي بالغير على ما شرحه قدس سره (2) في وجوب الغسل ليلا لمن وجب عليه صوم الغد ، ويكون حال هذا الأمر الثاني حال الأمر الثاني الذي تقدم (3) في مثل قوله تستر للصلاة بعد قوله صلّ ، غير أن ذلك الأمر أعني قوله تستر للصلاة ، يكون كاشفا عن أن متعلق الأمر الأوّل أعني قوله صلّ كان مقيدا تقييدا لحاظيا بالتستر ، بخلاف الأمر الثاني فيما نحن فيه ، فانه لا يكون كاشفا عن تقيد متعلق الأمر الأوّل أعني قوله صلّ تقييدا لحاظيا بداعي الأمر ، بل أقصى ما فيه أنه يكشف عن أن الأمر الأوّل وارد على الذوات من القسم الأوّل من الصلاة أعني ما كان منها في الخارج بداعي الأمر ، من دون أن يكون الآمر قد لاحظ بأمره الأوّل تقيد الصلاة بالداعي المذكور ، بل إنه أورد الأمر على تلك الذوات ملاحظا نفسها بذاتها وإن كانت هي في واقعها واجدة لذلك القيد ، وهذا هو المراد بالتقييد الذاتي الناشئ عن متمم الجعل ، وحينئذ يكون متعلق الأوّل واجدا للمصلحة فيكون الأمر حقيقيا.

لا يقال : إن تلك الذات التي تكون بداعي الأمر تكون بمنزلة المعلول للأمر فكيف يمكن للآمر لحاظها في مقام تعلق الأمر بها ، فانه في مقام تعلق الأمر لا بدّ أن يكون لحاظ ذات المتعلق سابقا على الأمر.

لأنا نقول : إن الملحوظ في مقام الأمر هو الذات التي تكون بداعي

ص: 490


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 1 : 173 ، 207.
3- في صفحة : 488 - 489.

الأمر عند تعلق الأمر بها ، غايته أن هذا القيد لم يكن ملحوظا في مقام تعلق الأمر ، بل لم يكن الملحوظ إلاّ نفس تلك الذات مجردة عن لحاظ ذلك القيد وإن كانت واجدة له.

وبعبارة أخرى : يمكن للآمر أن ينظر إلى نفس الذات الخاصة غير ناظر إلى خصوصيتها فيطلبها ، غايته أنه في مقام الاثبات وإعلام المكلف بأن أمره وارد في الواقع على تلك الذات يأمر أمرا ثانيا بالاتيان بها بداعي الأمر ، فتأمل لئلا تتوهم أن ذلك من باب الاهمال واقعا الذي هو محال ، بل لا إهمال في الواقع ، وأن الأمر إنما ورد واقعا وفي اللوح المحفوظ على تلك الذوات الخاصة مع خروج نفس القيد عن حيّز الطلب لحاظا.

وبالجملة : ليس الاشكال في ذلك إلاّ عين الاشكال في صورة كون الحكم مختصا بالعالمين به أو أنه شامل لكل من العالم به والجاهل.

ولكن مع هذا كله فان في النفس شيئا من ذلك ، فان تلك الذات الصادرة عن الأمر لا يراها الآمر إلاّ متأخرة عن [ الأمر ](1) وإن جرّدها في مقام أمره عن قيدها المذكور أعني كونها بداعي الأمر ، مع أن إيراد أمره على تلك الذات الخارجية يخرج القضية عن كونها حقيقية إلى كونها خارجية ، وأما باب العلم والجهل بالحكم فقد تعرضنا له في مبحث القطع (2) وأوضحنا فيه أن أقصى ما يمكن فيه هو الاطلاق الذاتي دون التقييد الذاتي فراجع وتأمل. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) توضيح الاشكال على هذه الطريقة أعني طريقة أخذ الذات متعلقا للأمر وإن لم يكن القيد داخلا.

ص: 491


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- لاحظ أوائل المجلّد السادس ، الحاشية على قوله : فلا بدّ من جعل آخر ...
3- في صفحة : 504 - 505 ، راجع أيضا صفحة : 496 ، 528.

وأما الاشكال الثاني المتوجه على التكليف الثاني من ناحية عدم القدرة على متعلقه الذي هو من سنخ الارادة ، فقد عرفت (1) انتقاضه بما ينتهي إلى الجبر بل هو إحدى شبهات الجبر.

ولكن مع ذلك فقد تعرض شيخنا قدس سره للجواب عنه حسبما حررته عنه ، بامكان الجواب عنه بأنه داخل تحت الاختيار ولو بالرياضة النفسية ... إلخ.

والأولى نقل ما حررته عنه قدس سره في هذا المقام برمّته وهذا نصّه : وما يقال على تصوير التعبدية بما أفاده الشيخ قدس سره (2) من الجعلين ، بأن الأمر الأوّل إن سقط بمجرد الاتيان بمتعلقه بقي الأمر الثاني لغوا لا موضوع له ، وإن لم يسقط بذلك كان عدم سقوطه من جهة عدم حصول الغرض وأن العقل حاكم بأنه ما لم يحصل الغرض لم يسقط الأمر ، وإذا كان العقل حاكما بذلك فلا حاجة إلى الجعل الثاني (3).

ففيه : ما عرفت من أن الأمر الأوّل لا يسقط بمجرد الاتيان بمتعلقه ، ولكن لا من جهة حكم العقل بأنه يلزم تحصيل الغرض ، بل من جهة الأمر الثاني الذي يكون بضميمة الأمر الأوّل منتجا نتيجة التقييد ، فان ذلك الأمر الثاني هو الملزم للمكلف بأن لا يكتفي في امتثال الأمر الأوّل بالاتيان بمتعلقه بل لا بدّ من الاتيان به بداعي أمره أو بداع قربي.

ولكن بقي إشكال وحاصله : أنا قد تقدم منا أن الداعي لا يعقل أن يكون متعلقا لارادة المكلف ، لأنه عبارة عن المحرّك للارادة نحو المراد ،

ص: 492


1- في صفحة : 488.
2- مطارح الأنظار 1 : 303.
3- هذا المطلب مضمون ما ذكره المحقّق الخراساني قدس سره في كفاية الاصول : 74.

فهو سابق في الرتبة على الارادة فكيف يعقل أن يكون متعلقا لها ، وإذا لم يكن متعلقا لارادة المكلف لم يصح أن يتعلق به الأمر ، لأن الأمر إنما يتعلق بما تتعلق به إرادة المأمور وحينئذ نقول : إن الأمر الأوّل فيما نحن فيه تعلق حسب الفرض بنفس الفعل ، والأمر الثاني تعلق بأن يكون ذلك الاتيان بداعي التقرب ، فيكون الأمر الثاني متعلقا بداعي التقرب ، وقد عرفت أنه غير داخل تحت الارادة فكيف صح تعلق الأمر به.

ويمكن الجواب عنه : بأنه داخل تحت الاختيار والارادة ولو بواسطة الرياضة النفسية بتصور ما يترتب على وجوده من الطاعة والانقياد وعلى تركه من العصيان ، وما ذكرناه من أنه غير داخل تحت الارادة المراد منه أنه غير داخل تحت الارادة التي يكون هو الداعي إليها لكونها معلولة له ، لا أنه لا يكون داخلا تحت الارادة بقول مطلق بمعنى أنه ليس من الامور الاختيارية.

قلت : لا يخفى أنه بناء على ذلك يكون في الامتثال في العبادات إرادتان للعبد ، إحداهما متعلقة بنفس الفعل والاخرى متعلقة بالداعي ، كما أن هناك إرادتين تشريعيتين إحداهما متعلقة بنفس الفعل والاخرى متعلقة بأن يكون الأمر المذكور داعيا للاتيان به ، ومن الواضح أنه ليس في ناحية العبد إلاّ إرادة واحدة متعلقة بنفس الفعل غايته أنها كانت بداعي الأمر.

فالأولى أن يجاب عن هذا الاشكال : بأنه إن كان المراد من هذا الاشكال هو كون الداعي على إرادة الفعل غير مقدور للعبد ، كان الجواب عنه بمنع كونه غير اختياري ، بل هو اختياري ولو بواسطة ما أفاده قدس سره من الرياضة النفسية ، ولو التزمنا بخروج ذلك عن الاختيار لا نسدّ باب الأوامر العبادية بالمرة حتى لو قلنا إن لزوم الاتيان بداعي الأمر كان بحكم العقل ، إذ

ص: 493

العقل لا يكلف بغير المقدور ، بل ينسدّ باب التكليف ، إذ ما من فعل كلّفنا به إلاّ وهو صادر عنّا بداع من الدواعي ، لخروج أفعال الغفلة عن حيّز التكاليف بل ينسدّ باب الاختيار بالمرّة ، وليست هذه الشبهة إلاّ إحدى شبه الجبر.

وإن كان المراد من الاشكال المزبور أنه لا بدّ في الأمر من كونه داعيا على إرادة متعلقه ، والمفروض أن الأمر الثاني ليس كذلك ، كان الجواب عنه أن ذلك إنما هو في الأوامر المتعلقة بنفس الفعل ، أما ما يتعلق بنفس الارادة أو بأحد دواعيها فلا يكون الأمر في مثل ذلك داعيا إلى إرادة العبد نحو متعلقه ، فتأمل فان صحة مثل هذا الأمر التشريعي المولوي في غاية الاشكال ، فان من شأن الأمر المولوي التشريعي هو أن يكون من دواعي إرادة المكلف على متعلقه فكيف يعقل أن يكون متعلقا بنفس إرادة العبد أو أحد دواعيها ، إذ لا يعقل في مثل هذا الأمر أن يكون داعيا لارادة العبد نحو متعلقه ، إذ المفروض أن متعلقه هو الارادة أو داعي الارادة.

اللّهمّ إلاّ أن يكون الارادة أو الداعي قابلا لتعلق الارادة ، وهو ما تقدم من أن لازم ذلك أن يكون للعبد في باب العبادات إرادتان ، ولكن هذا كله على تقدير كون امتثال الأمر داعيا على الارادة الذي عرفت أنه من قبيل انفعال النفس أو أنه من كيفياتها.

أما على تقدير كونه قيدا قصديا ، فالظاهر أنه لا مانع من كونه مطلوبا للشارع كما أوضحناه فيما تقدم من تحويل الامتثال من مرحلة الداعوية إلى مرحلة القصد ، فيكون المأمور به هو الفعل الواقع بقصد الامتثال ، وحينئذ لم يبق إلاّ دعوى كون القصد عبارة عن الارادة وهي أيضا غير اختيارية ، وقد عرفت المنع من ذلك ، وأن هذه الارادة ليست هي المتعلقة للفعل التي

ص: 494

ينوجد عنها الفعل ، بل هي من مقولة القصد نظير قصد المعنى من اللفظ فلا تكون إلاّ من أفعال الجوانح كما مرّ تفصيل الكلام في ذلك فراجع (1) ، هذا كله في دفع الاشكال الثاني.

وأما الاشكال الأوّل ، فقد عرفت أنه لا يندفع على طريقة شيخنا قدس سره إلاّ بالالتزام بأن متعلق الأمر الأوّل هو الذات الخاصة بخصوصية كونها بداعي الأمر ، من دون أن تكون الخصوصية المذكورة داخلة تحت الأمر ، وذلك هو محصّل التوأمية التي شرحها الاستاذ العراقي (2) ، وكذلك مسلك الكفاية (3) فان الأمر المتعلق بالصلاة مثلا إن كانت الصلاة فيه مطلقة كان محصل ذلك هو حكومة العقل بالتقييد ، فيكون العقل مشرّعا للتقييد ومصلحا لذلك الاطلاق في جعل الشارع ، ومن الواضح أن هذا لا يريده صاحب الكفاية ، فلا بدّ أن يلتزم بأن الصلاة التي وقعت متعلقة للأمر الشرعي هي الذات الخاصة من غير أن تدخل الخصوصية في متعلق [ الأمر ](4) ، وحينئذ يكون ذلك عين التوأمية ، وبناء على ذلك لا نحتاج إلى متمم الجعل الذي أفاده شيخنا قدس سره (5) ولا إلى حكومة العقل بالتقييد الذي أفاده صاحب الكفاية ، بل لا يكون المأمور به إلاّ نفس تلك الذات ، ولا يحكم العقل إلاّ بلزوم الاتيان بتلك الذات الخاصة كسائر أحكامه بلزوم الاطاعة بالاتيان بما تعلق به الأمر ، ولا نحتاج إلى تشريع من ناحية العقل ، بل ولا إلى أمر شرعي ثان أعني ما سمّاه شيخنا قدس سره بمتمم الجعل ، بل لا يحتاج إلاّ إلى بيان يكون كالقرينة

ص: 495


1- صفحة : 437 وما بعدها.
2- بدائع الأفكار للآملي قدس سره : 228.
3- كفاية الاصول : 72.
4- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].
5- أجود التقريرات 1 : 173.

المنفصلة متكفل بأن المأمور به هو نفس تلك الذات الخاصة كما أفاده الشيخ قدس سره (1) من تسميته بيانا ثانيا.

ثم إن في النفس شيئا من حديث التوأمية ، لأن مرجعه إلى أن الشارع لاحظ نفس تلك الذات من غير إدخال الخصوصية فيها ، فان رجع إلى كون القيد خارجا وكون التقييد داخلا عاد المحذور ، وإن رجع إلى إخراج كل من القيد والتقييد عن حيّز الأمر ففي تعقله تأمل وإشكال ، بل لا يخلو من إشكال ، فان الذات التي هي توأم مع داعي الأمر تكون معلولة للأمر فتكون متأخرة عن نفس الأمر ، فلا يعقل تعلق الأمر بها.

وحينئذ ينحصر الحل بالطريقة التي شرحناها فيما أفاده الكلباسي وصاحب العناوين قدس سرهما من كون التقيد قهريا لا قصديا لحاظيا على ما مرّ بيانه مفصلا (2) وأنه بمجرده لا تثبت العبادية ، وأن هذا التقيد يكون حاله حال كون الفعل مقصودا في قبال السهو والنسيان وحال اعتبار المباشرة ، وقد عرفت الكلام في إثباته وفي بيان مقتضى الأصل اللفظي والعملي عند الشك في اعتباره فراجع.

ولكن سيأتي (3) الاشكال في ذلك وأنه مغالطة لا واقعية لها ، فان ما يقع في سلسلة الداعي وإن اختص به إلاّ أن ذلك لا يوجب تقيد متعلق الأمر.

ولكن لا يبعد أن يكون مراد صاحب الاشارات (4) مطلبا آخر غير

ص: 496


1- مطارح الأنظار 1 : 303 - 305.
2- في صفحة : 467 وما بعدها.
3- في صفحة : 505 - 506.
4- إشارات الاصول 1 : 56 - 57.

التمسك بمقتضى كون الأمر داعيا ، بل صريح كلامه هو التمسك بمقتضى حكم العقل بلزوم الاطاعة ، وهي لا تحصل إلاّ بالاتيان بداعي الأمر ، ولو أتى به بداع آخر لم يكن مطيعا للأمر ولا ممتثلا له.

نعم ، في بعض الموارد يكون ذلك الحاصل بلا داعي الأمر ولا بعنوان الاطاعة والامتثال رافعا لموضوع التكليف كما لو وصل الماء إلى الثوب فطهّره ، وكما لو أدى الدين ووفّاه ، أو قام بنفقة زوجته لا بداعي الأمر ، فان ذلك وأمثاله يكون من باب ذهاب الموضوع المسقط للتكليف لا من باب الإطاعة والامتثال ، فلا يلزمه الإعادة بل ولا يترتب عليه العقاب ، فان إسقاط التكليف باذهاب موضوعه لا يكون عصيانا لذلك التكليف فلا يكون موجبا للعقاب.

واعلم أن متمم الجعل الذي يقول به شيخنا قدس سره (1) في وجوب الاحتياط كلية ، أو في خصوص باب الدماء والفروج ، وفي وجوب الفحص عن القدرة ، وفي وجوب الفحص في الشبهات الحكمية أو في بعض الشبهات الموضوعية ، بل في أصل وجوب التعلم بالنسبة إلى الأحكام الشرعية ، كل ذلك لا مانع منه عقلا بعد فرض قوة المصلحة الواقعية على وجه تؤثر في مقام الجهل البسيط أو في الجهل المركب بالأحكام الشرعية أو بعض الموضوعات ، فان جعل أصل الحكم لا يحصّل تلك المصالح في أمثال هذه المقامات إلاّ بمعونة ذلك الجعل الثاني الذي يكون جعله سدا لباب اعتذار المكلف على ما فصّله في محله.

أما وجوب الغسل لمن وجب عليه الصوم نهارا فقد تخلّصوا منه

ص: 497


1- ذكر قدس سره ذلك في موارد ، منها : ما في أجود التقريرات 3 : 143 وما بعدها ، 137.

بالتعلق بالواجب المعلّق ، وحيث إن شيخنا قدس سره يرى محالية الوجوب المعلّق (1) فقد جعل وجوب الغسل من باب متمم الجعل ، ويكون ضمّه إلى الجعل الأوّل منتجا لنتيجة التقييد (2).

ولا بدّ من شرح ذلك فنقول بعونه تعالى : إن الوجوب الذي أورده الشارع على الصوم إن أورده على الصوم المقيد بالطهارة فذلك تضييع للواجب ولمصلحته ، لأنه عند الفجر لو كان المكلف مجنبا نقول إنه لا يتمكن من الصوم مع الطهارة ، وقبل الفجر لا وجوب للغسل لفرض عدم وجوب ذي المقدمة ، وحينئذ ينفتح باب متمم الجعل ، بأن يوجب الغسل في الليل ليتمكن من الاتيان بالصوم عن طهارة من أول الفجر ، لكن ذلك لا يكون منتجا للتقييد ، بل يكون هذا الوجوب حافظا للقدرة على القيد ، فهو من باب وجوب تحصيل القدرة قبل الوقت لا من باب إنتاج التقييد.

نعم ، لو كان الشارع قد أورد أمره على الصوم نفسه غير مقيد بالطهارة ولكنه أوجب على المكلف أن يغتسل قبل الفجر ، يكون الشارع قد استوفى مطلوبه الأصلي ومصلحته في الصوم عن طهارة بذلك الجعل الثاني ، لأن المكلف إذا امتثل الأمر بالغسل ليلا فصار على طهارة ثم عند الفجر يمتثل الأمر بالصوم ، وحينئذ يكون صومه مقارنا للطهارة ، فقد حصل للشارع صوم عن طهارة ، لكن لا بالتقييد وإدخال القيد تحت قوله صم ، بل بما هو نتيجة التقييد ، لأن الذي يتوخاه الشارع من إدخال القيد تحت الأمر المتعلق بالصوم هو الحصول على صوم مقرون بالطهارة ، وقد حصل له ذلك بواسطة الأمر الثاني المتعلق بالاغتسال ليلا ، وحينئذ يكون هذا الأمر

ص: 498


1- أجود التقريرات 1 : 201 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 173.

المتعلق بالاغتسال متمما للجعل الأوّل ، ويكون نتيجته نتيجة التقييد ، لا أنه موجب للتقييد ويكون حاله حال ما نحن فيه.

ولكن على هذا الوجه الثاني يتجه إشكال الكفاية (1) أو نظيره بأن يقال : لو أن المكلف عصى الأمر بالاغتسال لم يبق عنده إلاّ الأمر بالصوم المفروض كونه غير مقيد بالطهارة ، فيصوم بلا طهارة ، ولا يكون عاصيا إلاّ أمر الاغتسال ، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

إذا عرفت ذلك فنقول فيما نحن فيه : إن الأمر الأوّل المتعلق بذات الصلاة إن كانت الصلاة فيه هي الصلاة الخاصة التي قلنا إنها عين التوأمية مع القيد ، لم يحتج إلى جعل ثان ، بل يكفي البيان المتأخر على ذلك ليكون من قبيل القرينة المنفصلة ، وإن كانت تلك الصلاة التي تعلق بها الأمر الأوّل مطلقة ، بمعنى الاطلاق الذاتي لا اللحاظي الذي هو محال ، ثم تممه بالجعل الثاني المتمم للجعل الأوّل ، ويكون الجعل الثاني منتجا نتيجة التقييد في متعلق الجعل الأوّل ، لأن المكلف إذا امتثل كلا من الأمرين يحصل المولى على صلاة مقارنة لداعي الأمر ، من غير أن يدخل هذا القيد تحت أمره الأوّل ، اتجه إشكال صاحب الكفاية من أنه لو عصى الأمر الثاني كفاه في امتثال الأمر الأوّل الاتيان بذات الصلاة بلا داعي الأمر ، وإذا كان المراد هو الأوّل أعني كون متعلق الأمر الأوّل هو الذات الخاصة من الصلاة من دون دخول القيد تحت الأمر ، فقد عرفت أنه حينئذ لا يحتاج إلى الجعل الثاني ، وإنما يحتاج إلى البيان المتأخر والقرينة المنفصلة ، وقد عرفت (2) أن مسلك الكفاية لا بدّ من أن ينتهي إلى هذا الوجه ، وحينئذ يكون المسلكان متوافقين

ص: 499


1- كفاية الاصول : 74.
2- في صفحة : 495 - 496.

مع مسلك التوأمية.

ولكن على هذا الحساب لا يكون الشك في التعبدية من قبيل الأقل والأكثر بل من باب التردد بين العام والخاص ، لتردد المأمور به بين الذات الخاصة والذات العامة الشاملة لكل من الذاتين ، أعني الذات المقارنة مع داعي الأمر والذات غير المقارنة ، وقد حقق في محله (1) أنه لا يرجع في مثله إلى البراءة ، بل المرجع هو الاشتغال لعدم كونه من قبيل الأقل والأكثر ، ولكن الذي يظهر من طريقة شيخنا قدس سره (2) هو الوجه الأوّل أعني كون الأمر الأوّل متعلقا بذات الصلاة أعني به الاطلاق الذاتي ، وأن الأمر الثاني يكون منتجا نتيجة التقييد ، لا أنه يقيد الأمر الأوّل ولو بمفاد نتيجة التقييد ، وحينئذ يكون الأمر الثاني بمنزلة الأمر المستقل ، وعند الشك فيه يكون المرجع هو البراءة ، لأن متعلق الأمر الأوّل مطلق ذاتي على كل من وجود الأمر الثاني وعدمه.

كما أن الظاهر من طريقة الكفاية هو نظير ذلك ، أعني كون متعلق الأمر في كل من التعبدي والتوصلي هو المطلق الذاتي ، وأن العقل بعد اطلاعه على أخصية الغرض يحكم بلزوم الاتيان به بداعي الأمر ، فلا يكون بين التعبدي والتوصلي اختلاف في المتعلق ولو بالاطلاق والتقييد الذاتيين بل الاختلاف في أخصية الغرض ، وحينئذ يكون المرجع هو الشك في السقوط.

ومنه يظهر لك الكلام بناء على مسلك صاحبي الاشارات والعناوين ، فانه لو تم إقامة البرهان عليه فهو ، وإلاّ فان وصلت المسألة إلى الشك

ص: 500


1- فوائد الاصول 4 : 205 / الفصل السابع. وستأتي حواشي المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثامن.
2- أجود التقريرات 1 : 176.

امتنعت البراءة لكون التردد حينئذ من قبيل التردد بين الخاص والعام ، مضافا إلى أنه لو كان من قبيل التقييد فليس هو من التقييد الاختياري للشارع ، بل هو من قبيل التقيد القهري ولا تجري البراءة الشرعية في مثله ، هذا كله من ناحية داعي الأمر.

وأما من ناحية العبادية والتقرب والخضوع ونحو ذلك مما قلنا إنه لا ربط له بداعي الأمر ، فلا ريب في كونه قيدا كسائر القيود ، فيمكن التمسك على نفيه بالاطلاق ، ولو لم يتم الاطلاق يكون داخلا في مسألة الأقل والأكثر نظير احتمال تقييد الصلاة بالتحنك والمرجع فيه هو البراءة ، ولا اختصاص لهذا القيد من بين سائر القيود ، هذا كله من ناحية الأصل العملي.

أما من ناحية الأصل اللفظي فقد حصره في الكفاية (1) بالاطلاق المقامي المتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام ما له الدخل في غرضه وإن لم يكن له الدخل في المأمور به ، وهو قدس سره معذور من هذه الجهة ، لأنه بعد أن التزم بكون هذا القيد من حكومة العقل تحصيلا لما هو الغرض من الأمر أعني المصلحة مع فرض عدم إمكان التقييد به شرعا ، فتكون الاطلاقات الشرعية بمعزل عن هذا القيد ، إلاّ إذا أحرزنا التوسعة في بيان الشارع ، وأنه بصدد بيان كل ما يتوقف عليه الغرض وإن لم يكن دخيلا في المأمور به ، وذلك هو الاطلاق المقامي.

نعم ، يرد عليه ما تقدم (2) ذكره من أنه في صورة كون المصلحة أخص ، لا وجه لأن يجعل الشارع الوجوب على الذات المطلقة ولو إطلاقا

ص: 501


1- كفاية الاصول : 75.
2- [ لم نعثر عليه ].

ذاتيا ، بل لا بدّ له من جعل الوجوب على الذات الخاصة أعني الذات المقيدة تقييدا ذاتيا ، وحينئذ ففي صورة كون المصلحة مساوية لنفس الفعل يكون الوجوب المجعول واردا على نفس الذات المطلقة إطلاقا ذاتيا ، وحينئذ ففي مقام الشك في العبادية يكون التردد بين التقييد الذاتي والاطلاق الذاتي ، فمع عدم القرينة المستقلة المتصلة بالجملة يكون اللازم هو الحكم بالاطلاق الذاتي ، وبالأخرة نكون في غنى عن الاطلاق المقامي.

أما شيخنا قدس سره فالذي ينبغي على مسلكه أن يكون في غنى عن الاطلاق المقامي ، بل له أن يتمسك بالاطلاق اللفظي ، فانه وإن أحال التقييد والاطلاق اللحاظيين إلاّ أن باب التقييد الذاتي والاطلاق الذاتي منفتح عنده ، فللشارع أن يوصل قوله صلّ بالتقييد بداعي الأمر ، إما بنحو الأمر الثاني بأن يقول صلّ لكن صلّ بداعي هذا الأمر ، أو بنحو البيان المستقل الموصول بالأمر المذكور ، بأن ينصب قرينة مستقلة متصلة بذلك الأمر لتكون كاشفة عن أنّ متعلق أمره هو الذات الخاصة وإن لم تكن الخصوصية داخلة تحت الأمر.

وبالجملة : إذا لم يكن في البين ما يدل على إرادة الذات الخاصة كشف ذلك عن إرادة نفس ذات الصلاة الجامعة بين الذاتين ، وهو المعبّر عنه بالاطلاق الذاتي الناشئ عن تعلق الأمر بذات الصلاة الموجب للسراية القهرية إلى الذات الواجدة للقيد المذكور والفاقدة له ، هذا.

ولكن الانصاف أنا قد شرحنا طريقتهما قدس سرهما بما لا يرضى به كل منهما ، لأنهما لا يلتزمان باختصاص الذات في الواجب التعبدي بل يلتزمان بالاهمال ، غايته أنّ شيخنا قدس سره يصلحه بالأمر الثاني الذي تكون نتيجته نتيجة التقييد ، وصاحب الكفاية يصلحه بحكومة العقل بلزوم إلحاق قيد الداعي ،

ص: 502

ولكن الحساب معهما على هذا الاهمال الواقعي ، فانه لا محصّل له إلاّ دعوى إيراد الشارع الأمر على طبيعة الصلاة غير ملاحظ فيها وجود قيد الداعي ولا عدمه ، ومن الواضح أن ذلك وإن لم يكن إطلاقا لحاظيا إلاّ أنه إطلاق ذاتي يوجب السراية القهرية ، ويكون ذلك الحكم الشرعي الثاني أو حكم العقل منتجا نتيجة التقييد ، وقد عرفت أن الأوّل وهو الجعل الثاني لا يوجب التقيد الذاتي ، بل يكون أمرا مستقلا لو امتثله المكلف يكون الشارع قد حصل على ما هو غرضه المطابق لمصلحته من الفعل مع قصد الداعي ، لكن المكلف لو عصاه وامتثل الأمر الأوّل ينبغي أن يلتزم شيخنا قدس سره بصحة ذلك الامتثال ، كما أنه قد عرفت أن الثاني وهو حكومة العقل لا توجب التقيد ، مضافا إلى عدم صلاحية للعقل في هذا التشريع.

ولكن لو تم ما أفاداه يكون المرجع من الاصول العملية على مسلك شيخنا قدس سره في مقام الشك هو البراءة من ذلك التكليف الثاني ، بل لا تدخل المسألة في مسألة الأقل والأكثر ، فمن يقول بالاحتياط في مسألة الأقل والأكثر لا يلزمه القول به في مسألتنا ، لأن المشكوك فيها تكليف مستقل كما أفاده الشيخ قدس سره فيما قدّمنا نقله (1) عن التقريرات.

وأما على مسلك الكفاية فحيث إن المدخلية ليست شرعية يكون المرجع فيها هو الاشتغال ، وأما الاصول اللفظية فهي منحصرة على مسلك صاحب الكفاية قدس سره بالاطلاق المقامي الذي عرفت شرحه ، وأما على مسلك شيخنا فالمحكّم هو الاطلاق الذاتي ما لم يقم في قباله الجعل الثاني ، ولكنه قدس سره لا يعتني بالاطلاق الذاتي في المقام ، بل المقام عنده من قبيل

ص: 503


1- في صفحة : 461 - 462.

الاهمال الواقعي الذي لا يمكن التمسك به ، من دون فرق عنده بين التعبديات والتوصليات ، فكما أنّ ما تعلق به الوجوب في التعبديات هو الطبيعة المهملة لا الذات الخاصة مع فرض عدم دخل الخصوصية ، فكذلك المتعلق عنده في التوصليات هو الطبيعة المهملة لا الطبيعة المطلقة إطلاقا ذاتيا ، وحينئذ ينحصر الأصل اللفظي بالاطلاق المقامي المذكور.

ونحن وإن قلنا بأن الاهمال الواقعي هو عين الاطلاق الذاتي الموجب للسراية القهرية ، إلاّ أن لنا تأملا فيما نسمّيه بالتقييد الذاتي المعبّر عنه بالذات التي هي توأم مع قصد الداعي ، فانه مضافا إلى عدم خلوّه من إشكال التقدم والتأخر ، حيث إن الذات التي هي توأم مع داعي الأمر عبارة عن الذات الصادرة عن داعي الأمر ، فالآمر عند ما يعلّق أمره بالذات يلاحظ ذاتا صادرة بداعي أمره فيعلّق أمره بها ، ومن الواضح أنها متأخرة رتبة عن الأمر فكيف يصح أخذها متعلقة له ، في حين أن المتعلق سابق في الرتبة على الأمر ، هذا.

مضافا إلى أن القضية فيما نحن فيه ليست بخارجية ليكون المحكوم عليه فيها هو نفس تلك الذات الخارجية وإن كانت واجدة لقيود وصفات وخصوصيات كثيرة ، بل المحكوم عليه هو كلي الذات المأخوذة مرآة لما في الخارج من موضوعات الأحكام ، أو نفس طبيعة الذات في متعلق الوجوب الذي هو عبارة عن طلب إيجادها وإخراجها من كتم العدم إلى الوجود ، فهذه الطبيعة الكلية عند تعلق الأمر بها لا بدّ أن تكون ملحوظة للآمر ، فلو كان الموافق لغرضه هو ما يكون منها بداعي الأمر لم يمكنه تقييدها بذلك ، سواء كان من قبيل كون كل من القيد والتقييد داخلا أو كان من قبيل كون التقييد داخلا وكون القيد خارجا ، ومع فرض خروج كل من

ص: 504

القيد والتقييد لا يكون إيجابه متعلقا إلاّ بصرف الذات لا الذات الخاصة المعبّر عنها بكونها توأما مع القيد مع فرض خروج كل من القيد والتقييد عنها في نظره إليها في حال إيراده الأمر عليها.

وحينئذ فلا محيص عن الالتزام بالاهمال أو الاطلاق الذاتي ، ويتدارك ذلك بالجعل الثاني ، ولا بدّ أن نقول إن هذا الجعل الثاني يتكفل ببيان أن ذلك الأمر الأوّل لا يكون متعلقه وافيا بالمصلحة ، وأنه لا يسقط إلاّ بامتثال الأمر الثاني وإن لم يكن الأمر الثاني موجبا للتقييد في متعلق الأمر الأوّل مع فرض كونه أمرا حقيقيا لا صوريا وإن لم يكن مطابقا للمصلحة ، لأنا نقول يكفي في مصلحته إعانة الأمر الثاني ، وأن مجموعهما ناش عن المصلحة فيما ينتج من مجموعهما ، ولكن كل هذه الويلات والتكلفات إنما نشأت عن دعوى أن المعتبر هو قصد داعي الأمر ، بدعوى كونه عين العبادية التي قام الدليل على اعتبارها ، وإلاّ فهو في نفسه لا دليل على اعتباره.

والانصاف : أنه يمكن القطع بعدمه ، لما عرفت من عدم مدخليته في العبادة ، فلم يبق إلاّ دعوى التقيد القهري الذي أفاده صاحب الاشارات (1) وصاحب العناوين قدس سرهما (2) وذلك على تقديره لا دخل له بقصد من الشارع كي يتكلف له هذه التكلفات.

على أنّا وإن أقمنا البرهان عليه باعتبار تقيد المعلول بعلته تقيدا قهريا ، وأن المأمور به معلول لارادة الفاعل وهي معلولة للداعي وهو معلول لأمر الشارع ، إلاّ أن ذلك لا يوجب إلاّ تقيد الفعل الواقع عن الارادة الناشئة عن داعي الأمر بما يكون صادرا عن ذلك الداعي ، إلاّ أن ذلك لا يوجب

ص: 505


1- إشارات الاصول 1 : 56 - 57.
2- العناوين 1 : 378 وما بعدها.

تقيد متعلق إرادة الشارع بما يكون صادرا عن إرادة المكلف الصادرة عن داعي إرادة الشارع ، لامكان أن يكون الفعل الصادر عن إرادة المكلف لا بداعي إرادة الشارع متعلقا لارادة الشارع ، وإن كان نفس ما يصدر عن إرادة المكلف الناشئة عن داعي إرادة الشارع منحصرا قهرا بما يكون بذلك الداعي.

والحاصل : هو الفرق الواضح بين متعلق إرادة الشارع وبين متعلق إرادة المكلف الصادرة بداعي إرادة الشارع ، وكون الثاني منحصرا قهرا بما يكون بداعي إرادة الشارع لا يوجب انحصار الأوّل به.

ولو شككنا في الانحصار المذكور كان الاطلاق الذاتي في متعلق إرادة الشارع كافيا في نفيه. أما الانحصار القصدي فهو مما يقطع بعدمه ، لأنه مساوق لقصد الآمر تقييد متعلق أمره بما يكون صادرا عن داعي أمره ، وقد عرفت أنه محال سواء كان من قبيل التقييد اللحاظي أو كان من قبيل التقييد الذاتي ، أعني نفس الذات التي هي توأم مع القيد المذكور ، أمّا الأوّل فلما حرروه في امتناع التقييد المذكور. وأما الثاني فلما عرفت من عدم إمكانه بعد فرض خروج كل من القيد والتقييد عمّا هو تحت الأمر ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أنا لو سلّمنا أن إرادة المولى إذا تعلقت بفعل تكون علة في حدوث الداعي عند العبد ، وحدوث الداعي عند العبد يكون علة في إرادته لذلك الفعل ، وإرادته لذلك الفعل تكون علة في وجود الفعل ، إلاّ أن ذلك لا يوجب تقيد ذلك الفعل في مرحلة تعلق إرادة المولى به بكونه صادرا عن ذلك الداعي. وإن كان ذلك الفعل الذي انتهت إليه السلسلة المذكورة منحصرا بكونه صادرا عن ذلك الداعي.

ثم بعد بطلان هذه الطريقة ، وبعد بطلان طريقة الذات الخاصة

ص: 506

وحديث التوأمية ، وبعد بطلان طريقة الكفاية من تعليق الأمر بالمطلق الذاتي وتكميله بحكم العقل ، يتعين في الخروج عن هذا المأزق في أخذ داعي الأمر بما أفاده شيخنا قدس سره ولا يرد عليه سوى إشكال السقوط ، ولكنه هو قدس سره يلتزم بعدم السقوط لأجل عدم الوفاء بالمصلحة ، ويقول إن الموجب للاتيان به بداعي الأمر ليكون وافيا بالمصلحة هو الشارع بالأمر الثاني لا العقل الصرف ، وعند الشك يكون مرجعه من الاصول العملية هو البراءة ، ومن الاصول اللفظية هو الاطلاق المقامي لا الاطلاق اللفظي ، لأن اللحاظي من الاطلاق اللفظي محال كمحالية التقييد اللفظي ، والاطلاق الذاتي عنده عين الاهمال الواقعي الذي لا يمكن التمسك به واتخاذه كاشفا عن مراد المتكلم.

أما الذي نحن نتخيله في مسألة اعتبار داعوية الأمر فهو دعوى الانكار ، وأنه لا دليل يوجب الجزم باعتباره لا في العباديات ولا في التوصليات ، وأنّ أقصى ما في البين هو أن لنا واجبات عبادية والمعتبر فيها أمر آخر غير داعي الأمر ، نعم لو اجتمع ذلك الأمر الآخر أو تحقق في داعي الأمر لم يكن انضمام داعي الأمر إليه مضرا ، والغالب هو هذا أعني تحقق العبادية التي هي الانقياد القلبي والخضوع بداعي الأمر ، وعن هذه الغلبة نشأ القول باعتبار داعوية الأمر أو احتمال اعتباره.

وعلى كل حال لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتباره فقد عرفت أنه لا يمكن فيه التقيد اللحاظي ، بل قد عرفت أنه لا يمكن فيه التقيد الذاتي بمعنى قصد الذات الخاصة التي هي توأم مع داعي الأمر ، أو بمعنى التقيد القهري الناشئ عن انحصار المعلول بمورد العلة ، وأن الممكن هو الاطلاق الذاتي مع إلحاق الأمر الثاني الذي هو متمم الجعل ، وليس ذلك من الاهمال

ص: 507

الواقعي ، بل لا معنى للاطلاق في مقام الثبوت إلاّ ذلك الاطلاق الذاتي ، وأما الاطلاق اللحاظي الذي هو عبارة عن قوله سواء كان كذا أو كان كذا ، فذلك لحاظ آخر فوق الاطلاق ، والممتنع عند امتناع التقييد اللحاظي هو هذه المرتبة أعني قوله سواء كان كذا أو كان كذا ، أما الاطلاق الذاتي الواقعي فلا يكون ممتنعا ، وتقابله مع كل من التقييد اللحاظي والذاتي بل مع الاطلاق اللحاظي تقابل الايجاب والسلب ، وتقابل الاطلاق اللحاظي مع التقييد اللحاظي تقابل الضدين ، لكون كل منهما مشتملا على لحاظ للطبيعة في قبال اللحاظ في الآخر ، فهذا يلاحظها فيه واجدة لقيد الكتابة مثلا ، وهذا يلاحظها فيه واجدة للقيد المذكور وفاقدة له ، وليس امتناع الاطلاق اللحاظي فيما نحن فيه لأجل مجرد امتناع التقييد اللحاظي ، بل إن العلة التي أوجبت محالية التقييد اللحاظي هي أوجبت امتناع الاطلاق اللحاظي.

وعلى كل حال فلو امتنع الاطلاق اللحاظي وكل من التقييد اللحاظي والذاتي كما فيما نحن فيه ، فهو وإن امتنع فيه الاطلاق اللحاظي بالمعنى المذكور ، إلاّ أن الاطلاق الذاتي فيه يكون ممكنا بل يكون قهريا ، وحيث إن المتكلم لا يريده بل كان يريد اعتبار داعي الأمر ، فعليه أن يلحقه بمتمم الجعل ولو بنحو إلحاق جملة الأمر الثاني بجملة الأمر الأوّل وجعل الثانية المتضمنة للأمر الثاني متصلة بالاولى المتضمنة للأمر الأوّل ، فلو كان في مقام البيان ولم يلحق الثانية بالاولى ، دل ذلك على أنه لا يعتبر داعي الأمر ويكون ذلك من قبيل التمسك بالاطلاق اللفظي ، ولا يتوقف على الاطلاق المقامي بالمعنى الذي ذكره صاحب الكفاية (1) ووافقه عليه شيخنا قدس سره (2).

ص: 508


1- كفاية الاصول : 75.
2- أجود التقريرات 1 : 175.

ولو ادعى مدع أن جميع موارد التمسك بالاطلاقات اللفظية من هذا القبيل ، أعني الأخذ بمقتضى الاطلاق الذاتي (1) حتى في مثل صلّ أو اعتق رقبة التي يكون القيد فيها وهو التحنك مثلا أو الايمان قابلا للتقييد اللحاظي وأخذه في متعلق الأمر أو في موضوعه ، ولا يتوقف على إحراز أن الآمر لاحظ طوري الصلاة في قوله صلّ ، يعني سواء كانت مع التحنك أو بدون التحنك ، أو لاحظ الرقبة بطوريها من الايمان وعدمه وعلّق العتق بها سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة المعبّر عنه بالاطلاق اللحاظي ، بل يكفي فيه تعليق الأمر على نفس الطبيعة غير ملاحظ فيها خصوصية التحنك أو عدمه أو خصوصية الايمان أو عدمه. هذا حال التمسك بالأصل اللفظي في قبال احتمال اعتبار داعي الأمر ولو بنحو متمم الجعل.

أما الأصل العملي فهو البراءة كما أفاده شيخنا قدس سره (2) وهي فيه أسهل من البراءة في مسألة الأقل والأكثر ، لأن الشك فيما نحن فيه متعلق بمجعول شرعي مستقل ، فلا تأتي فيه شبهة العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ليكون جريانها متوقفا على الانحلال لينسدّ فيه باب البراءة العقلية وينحصر بباب البراءة الشرعية ، ويتكلف الوجه في كونها موجبة لانحلال العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر مع فرض الارتباطية ، وبناء على ذلك يكون ما نحن فيه قابلا لجريان البراءة العقلية كقابليته للبراءة الشرعية ، وهذا بخلاف تلك المسألة فانها عنده لا تجري فيها إلاّ البراءة الشرعية.

ص: 509


1- [ لا يخفى أنه لم يذكر الجواب عن قوله « ولو ادعى مدع ... » فالأنسب إضافة : « لكان صحيحا » ونحو ذلك ].
2- أجود التقريرات 1 : 176.

ومن ذلك يتضح لك ما في قوله : فالشك في دخله شك في الجعل الثاني ، فيكون حاله حال بقية الأجزاء في جريان البراءة عند الشك في دخلها في المأمور به (1) من التسامح.

قوله : هذا على المختار من كون دخل قصد القربة شرعيا ، وأما إذا كان عقليا ، فربما يقال بأن مقتضى القاعدة في المقام هو الاشتغال وإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر ... إلخ (2).

هذا تعريض بما في الكفاية (3) ، وحاصل مطلب الكفاية هو الاعتراف بأن الغرض الذي هو المصلحة الباعثة على الأمر ليس بمجعول شرعي ولا مأمورا به شرعا ، وأن مدخلية كل من الأجزاء والشرائط ومن قصد داعي الأمر في المصلحة وتأثيره فيها مدخلية واقعية وليست بجعل الشارع ، وغاية الفرق بينهما هو أن الأجزاء والشرائط المفروض توقف المصلحة عليها قابلة لتعلق الأمر الشرعي بها بخلاف قصد الداعي ، وهذا الفرق هو الذي أوجب عنده إمكان جريان البراءة الشرعية في الأوّل ، لأن أمر وضعه ورفعه راجع إلى الشارع بخلاف الثاني ، وليس هو بصدد بيان الفرق بينهما في المحصلية الشرعية والمحصلية العقلية أو العادية ، كما أنه ليس هو بصدد بيان الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية ، ليرد عليه بأنه لا فرق بينهما في مسألة الأقل والأكثر ، بل إن كلامه في هذا المقام بعد الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في موارد الشك في حصول الغرض الذي هو

ص: 510


1- أجود التقريرات 1 : 176.
2- أجود التقريرات 1 : 176 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
3- كفاية الاصول : 76.

المصلحة ، وأن العقل حاكم بلزوم إحراز حصول الغرض فيما نحن فيه وفي مسألة الأقل والأكثر ، وأن خلاصة الفرق بينهما في جريان البراءة الشرعية ، ففي مسألة الأقل والأكثر تجري البراءة الشرعية لكون المشكوك هناك قابلا للوضع الشرعي فيكون قابلا للرفع الشرعي ، وعنه يستكشف أنه لا أمر بالمركب ولازمه ارتفاع الشك في حصول الغرض ، بخلاف المشكوك هنا فانه لمّا لم يكن قابلا للوضع الشرعي فلا يكون قابلا للرفع الشرعي ، فلا تجري فيه البراءة الشرعية لتكون مزيلة للشك في ناحية الغرض.

نعم ، يرد عليه أن جريان البراءة الشرعية لا يرفع الشك في حصول الغرض إلاّ باللازم ، وليس ذلك شأن البراءة الشرعية كما سيأتي بيانه في كلمات شيخنا قدس سره (1).

كما أنه يرد عليه المنع من حكومة العقل بلزوم إحراز حصول المصلحة لما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أن المصلحة غير واجبة التحصيل على المكلف ، أما بعد فرض تسليم لزوم تحصيلها عقلا على المكلف فلا محيص عن لزوم الاحتياط عند الشك في حصولها وانسداد باب البراءة العقلية في مورد الشك في حصول الغرض والمصلحة ، أما أن الشارع يمكنه البيان ولو بنحو الاخبار ، فذلك كما أنه لا يفتح باب البراءة الشرعية لأن الاخبار ليس بتكليف كي ترفعه البراءة عند الشك فيه ، فكذلك لا يفتح باب البراءة العقلية ، لأن المراد من البيان في قبح العقاب بلا بيان هو مطلق قيام الحجة ولو الحجة العقلية من جهة الاحتياط العقلي عند الشك في

ص: 511


1- أجود التقريرات 1 : 182.
2- أجود التقريرات 1 : 167 ، 180.

حصول الغرض.

وبالجملة : يكون هذا الاحتياط العقلي رافعا لموضوع البراءة العقلية فلا مجال لها معه. والخلاصة : هي أنا لو قلنا بمقالة شيخنا قدس سره من عدم لزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، فلا أثر للعلم بعدم حصولها فضلا عن الشك في حصولها من جهة الشك في توقفها على قصد داعي الأمر ، ومعه لا مورد في ذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان حتى لو قلنا بأن البيان فيها هو البيان الشرعي ولو بطريق الجملة الخبرية ، فان ذلك الاخبار لا يزيد على علمنا الوجداني بعدم حصول المصلحة الذي عرفت أنه لا يلزمنا شيء بعد أن التزمنا بأن المصلحة لا يلزمنا تحصيلها.

وإن قلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس سره (1) من لزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، وأنه لا بدّ لهم من إحراز حصولها ، وأن العقل حاكم بلزوم الاحتياط ، كان ذلك واردا على قاعدة قبح العقاب بلا حجة وبيان ، ومجرد أن الشارع يمكنه البيان بطريق الجمل الخبرية وأنه لم يصدر منه ذلك لا يصحح إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بعد فرض قيام الحجة العقلية التي هي حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الباعث على الأمر.

أما دعوى حكم العقل بلزوم تحصيل المصالح على المكلفين ، لكن ذلك منحصر بالمصالح الواصلة إليهم أو المصالح التي تصدى الشارع لبيانها دون المصالح التي لم يعلموا بها ولم يبينها الشارع لهم ، فذلك إنما هو لو كانت المصالح واجبة شرعا ، أما مع الوجوب العقلي الذي مدركه هو بقاء التكليف مع فرض بقاء الغرض ، فلا ريب أن لازمه حينئذ السعي إلى إسقاط

ص: 512


1- كفاية الاصول : 72 ، 76.

التكليف باسقاط الغرض الباعث عليه ، وأنه مع الشك في حصول الغرض يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بذلك التكليف ، ولا مورد فيه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى المصلحة.

على أن المصالح لو كانت واجبة شرعا فلا يكفي في الأمن من العقاب على مخالفتها مجرد عدم وصولها إلى المكلف وعدم تصدي الشارع لبيانها ، بل لا بدّ في الأمن من عقابها من عدم قيام الحجة على ذلك حتى مثل الاحتياط العقلي في موارده ، ومن جملته موارد الشك في السقوط التي هي العمدة فيما نحن فيه.

ومن ذلك كله يتضح وجوه التأمل في الحاشية (1) ما عدا ما يرجع إلى ما أشكله شيخنا قدس سره من لزوم كون البراءة الشرعية في مسألة الأقل والأكثر من الأصول المثبتة ، ومن إنكار لزوم تحصيل المصالح التي هي الأغراض الباعثة على الأمر فلاحظ.

قوله - في الحاشية المذكورة - : فالعقاب على ترك ما يحتمل دخله في غرض المولى واقعا مع عدم قيام الحجة عليه لا يكون محتملا من جهة استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ... إلخ.

لا يخفى أن العقاب إنما هو على ترك إسقاط الوجوب المتعلق بالصلاة مع فرض توقف سقوطه على حصول المصلحة المتوقف حصولها على داعي الأمر ، وتعلق التكليف بالصلاة مع الشك في سقوطه ولو من جهة الشك في حصول مصلحته كاف في قيام الحجة على ذلك العقاب ، فلا يكون العقاب على عدم إسقاطه عقابا بلا بيان ، وكان المحشي يتخيل أن

ص: 513


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 176 - 177.

حكم العقل بلزوم إحراز سقوط الواجب نظير حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بمعنى العقاب في الشبهة الوجوبية البدوية في كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان موجبة للقطع بعدم الضرر بمعنى العقاب ، فتكون واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ورافعة لاحتمال العقاب.

ولكنك خبير بأن هذه القاعدة فيما نحن فيه إنما هي قاعدة شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، حيث إن المكلف قد اشتغلت ذمته يقينا بالصلاة ، ومع الشك في حصول مصلحتها يكون الفراغ منها مشكوكا فيحكم العقل حينئذ بلزوم الفراغ اليقيني المتوقف على داعي الأمر ، وإذا وصلت النوبة إلى الشك في فراغ الذمة بعد اشتغالها فلا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل يكون العقاب عقابا بالبيان الذي هو قيام الحجة العقلية ، وهي أن شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والخلاصة : هي أن صاحب الكفاية قد سدّ باب البراءة العقلية في ذلك المقام وفي هذا المقام ، من جهة كون الشك في المقامين راجعا إلى الشك في السقوط ، ومع الشك في السقوط يكون العقل حاكما بالاحتياط. لكنه قدس سره قد فتح باب البراءة الشرعية بدعوى حكومتها على الاحتياط العقلي ، لكنها لا مجال لها في هذا المقام ، لعدم كون الوضع فيها راجعا إلى الشارع لعدم إمكان أمره بداعي الأمر ، فلا يكون فيه مجال للرفع الشرعي ، ومن الواضح أن انسداد باب البراءة العقلية هناك وهنا لا يوجب انسداد باب البراءة الشرعية هناك بعد أن كان الجعل هناك ممكنا وكان الجعل هنا غير ممكن.

وهذه الجهة هي العمدة في نظر صاحب الكفاية في الفرق بين المقامين ، فلا يرد عليه ما في الحقائق من قوله : لكنه لا يصلح فارقا في

ص: 514

وجوب الاحتياط وعدمه في نظر العقل ... إلخ (1) فلاحظه بما تقدمه من شرح عبارة المصنف قدس سره بقوله : فالشك في الحقيقة يرجع إلى الشك في التكليف بالسورة ، والشك في التكليف موضوع للبراءة عقلا بخلاف الشك في المقام ... إلخ (2) مما ظاهره أن المصنف قائل بالبراءة العقلية هناك ، اللّهم إلاّ أن يكون قوله عقلا قيدا لقوله موضوع ، لا أنه قيد للبراءة ، فلاحظ.

نعم ، يرد على المصنف : أن البراءة الشرعية هناك لا تنفع في إزالة الشك في السقوط إلاّ على الأصل المثبت ، لكن هذا مطلب آخر لا ربط له بما افيد من الايراد هنا ، وحاصله : أنه يرد على صاحب الكفاية قدس سره أن الأمر بواجد الجزء المشكوك الجزئية وإن لم يكن معلوما ، إلاّ أن الأمر بما عداه من الأجزاء معلوم ، وبواسطة الشك في حصول الغرض به أو توقفه على الجزء المشكوك يكون سقوط ذلك الغرض بدون المشكوك مشكوكا ، فيجري فيه الاشكال الذي جرى في قصد القربة ، وهذا الايراد هو الذي أفاده شيخنا قدس سره في صفحة 106 (3) فلاحظ.

ولا يخفى أن شيخنا قدس سره (4) وإن منع من جريان البراءة العقلية في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، إلاّ أنه لم يمنعه من جهة كون المسألة من قبيل الشك في حصول الغرض والمصلحة ، لعدم لزوم تحصيل المصلحة والغرض عنده فيما لو كان التوقف معلوما فضلا عمّا لو كان مشكوكا ، بل إنما منعه من جهة العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا

ص: 515


1- حقائق الاصول 1 : 177.
2- حقائق الاصول 1 : 176.
3- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 182 من الطبعة الحديثة.
4- أجود التقريرات 3 : 492 - 494.

ينحل بالبراءة العقلية ، وإنما ينحل بالبراءة الشرعية ، ولأجل ذلك قال بجريانها في تلك المسألة دون البراءة العقلية.

وبالجملة : فالذي ينبغي أن يقول فيما نحن فيه بجريان البراءة العقلية كالشرعية ، أما ما أفاده قدس سره هنا وهناك أيضا من المناقشة مع صاحب الكفاية قدس سره فعمدته هو هذه الجهة ، أعني عدم لزوم تحصيل المصالح وأنه لو قلنا بلزوم ذلك فالبراءة الشرعية لا تنفع.

ولكنه قدس سره هنا (1) وهناك أيضا (2) قد ناقش صاحب الكفاية بشيء آخر زائدا على ما تقدم ، وهو أنا لو لم نقل بكون اعتبار داعوية الأمر شرعيا لكونه بالجعل الشرعي يعني الأمر الثاني المتمم للجعل الأوّل ، بل قلنا بكون اعتباره عقليا ناشئا عن حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الذي هو المصلحة الباعثة على الأمر الناشئ عن تلك المصلحة ، يكون اللازم هو الاحتياط في مسألتنا وفي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لاشتراكهما في الشك في حصول الغرض والمصلحة بدون الجزء المشكوك أو بدون داعي الأمر ، وأنه لا وجه للتفرقة التي أفادها صاحب الكفاية قدس سره بجريان البراءة الشرعية في الأوّل دون الثاني ، إلاّ من جهة التفرقة بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي أو العادي ، ثم أطال الكلام في بيان هذا التفصيل والايراد عليه ، هذا.

ولكنك قد عرفت أن مطلب صاحب الكفاية قدس سره ليس مبنيا على هذه الجهة من التفرقة بين الأسباب ، بل هو مبني على ما عرفت وحاصله : أن المصلحة ليست هي مورد الوجوب الشرعي ، وأن كلا من الجزء والشرط

ص: 516


1- أجود التقريرات 1 : 180.
2- أجود التقريرات 3 : 500.

ومن داعي الأمر لا تكون مدخليته شرعية ليكون شيء منهما من قبيل الأسباب الشرعية ، بل هذه الامور أعني الجزء والشرط وداعي الأمر كلها أسباب عادية للمصلحة ، غير أن الأوّل أعني الجزء والشرط لمّا كان للشارع أن يأمر به ، فمع الشك في أمره به يكون المرجع فيه هو البراءة الشرعية ، وبها يندفع الشك في حصول المصلحة ، والثاني وهو داعي الأمر لمّا لم يكن أمره به ممكنا لم تجر فيه البراءة الشرعية ، فيبقى الشك فيه في حصول المصلحة بحاله ، وحينئذ يكون الحكم العقلي بعد العلم باشتغال الذمة بالصلاة بواسطة الأمر بها باقيا بحاله بلا حاكم عليه أعني البراءة الشرعية ، ومقتضاه لزوم الفراغ اليقيني عن ذلك الأمر ، وذلك لا يكون إلاّ مع إحراز الحصول على مصلحته والغرض الباعث عليه ، وهو أعني الاحراز لا يتأتى إلاّ بالاتيان بما يحتمل دخله فيها وهو داعي الأمر ، وحينئذ تنحصر المناقشة معه في هذه الجهة من الحكومة العقلية ، وأن العقل لا يحكم على المكلفين بلزوم تحصيل الغرض والمصالح فضلا عن الالزام باحراز حصولها في مقام الشك ، ولو كان ذلك لازما بحكم العقل لا نسدّ باب البراءة الشرعية في مسألة الأقل والأكثر ، فان حديث الرفع لا يثبت إحراز المصلحة في الأقل إلاّ بالأصل المثبت ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال أن شيخنا قدس سره قد أخرج كلام صاحب الكفاية قدس سره إلى ساحة الأسباب والمسببات ، وأن المسبب هو المصلحة والسبب هو الأجزاء والشرائط وداعوية الأمر ، وأن الفرق بين الأولين والثالث هو كون سببيتهما شرعية وكون سببيته واقعية تكوينية ، فاحتاج أوّلا إلى بيان الأسباب الشرعية وهل تجري البراءة في مواردها ، وثانيا إلى بيان أن ما نحن فيه ليس من قبيل الأسباب والمسببات ، ولو كانت فهي من الأسباب العادية ، من دون

ص: 517

فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط وبين داعوية الأمر ، ولأجل بيان عدم جريان البراءة في الأسباب والمسببات الشرعية ذكر مقدمة ، وهي أنه لا بدّ فيما يجري فيه حديث الرفع من كونه مجعولا شرعيا ، وكونه مجهولا للمكلف ، وكون رفعه فيه المنة على المكلفين ، ثم مثّل لذلك بالطهارة من الحدث أو من الخبث التي هي عنوان متولد من أفعال الوضوء أو من أفعال إزالة النجاسة بالغسلتين مثلا ، وذكر الخلاف في كون المجعول هو نفس المسبب أو أن المجعول هو السببية ، وأن المختار هو الأوّل.

وعلى كل حال أن الطهارة عند اجتماع تلك الأفعال مع جميع ما يحتمل اعتباره أعني عند اجتماع الغسلتين والمسحتين مع المضمضة مثلا تكون معلومة الحصول ، وعند الاقتصار على الغسلتين والمسحتين يكون حصولها مشكوكا ، ومن الواضح أن البراءة لا تجري في الأوّل لكون الطهارة حينئذ معلومة ، وإنما يمكن توهم جريانها في الثاني ، لكن جريانها فيه خلاف المنة ( قلت : بل هو خلاف قوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن امتي ما لا يعلمون » (1) فان ذلك الرفع لا يكون عنهم ).

وهكذا الحال فيما لو قلنا بجعل السببية ، فان سببية الخمسة معلومة لكن سببية الأربعة مجهولة ، إلاّ أنه لا منة في رفعها ، إلاّ أن نوجّه الرفع إلى جزء السبب وهو المضمضة ، ونقول إن جزئيته مرفوعة ، لكنه محال في محال ، لأن جعل السببية لتلك الأفعال محال ، وبعد تسليم جعلها تكون جزئية المضمضة لذلك السبب محالا ، لما حقق في محله (2) من أن جزئية جزء الواجب منتزعة من التكليف المتعلق بالمركب لا أن الجزئية مجعولة ،

ص: 518


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1 ( مع اختلاف ).
2- فوائد الاصول 4 : 392 وما بعدها ، وستأتي حواشيه قدس سره عليه في المجلّد التاسع.

هذا كله في أصل المبنى.

ثم لو أغضينا النظر عمّا ذكرناه من الاشكال فيه ، وقلنا إن جزئية السبب مجعولة ، يكون الرفع متوجها إلى جزئية المشكوك الذي هو المضمضة.

ثم بعد هذا ننقل الكلام في ابتناء ما نحن فيه على ذلك فنقول : لا ريب أن المصلحة ليست بمجعولة شرعا كي يندرج المقام في السببية الشرعية ، بل هي أمر واقعي ، ومدخلية الأجزاء والشرائط فيها واقعية صرفة كمدخلية داعوية الأمر ، فليس في البين مسبب شرعي ولا سببية شرعية ، ولا تكون هذه السببية إلاّ كحال سببية الالقاء في النار للاحراق في كونها واقعية ، غايته تعلق الأمر بالأجزاء والشرائط دون داعوية الأمر.

مضافا إلى ما عرفت في مبحث الصحيح والأعم (1) من كون الصلاة بالنسبة إلى المصالح من قبيل المعدّات لا من قبيل الأسباب فضلا عن كونها توليدية فضلا عن كونها شرعية. وعلى كل حال فلو كان الأمر متوجها إلى نفس المصالح فلا ينبغي الريب في لزوم الاحتياط فيها لعدم الشك فيها وإنما الشك في معدّها أو في أسبابها ، ولا مجال فيه للبراءة ، سواء كان المشكوك جزءا أو كان شرطا أو كان هو داعوية الأمر.

فان قلت : نلتزم بأن الأمر وارد على الأسباب أعني الأفعال ، لكن العقل حاكم بلزوم تحصيل الغرض من الأمر ، فان كان المشكوك مثل قصد داعي الأمر فلا مجال للبراءة فيه لعدم إمكان الأمر به ، بخلاف مثل الجزء والشرط فانه لمّا كان باب الوضع فيه منفتحا كان باب الرفع فيه أيضا

ص: 519


1- أجود التقريرات 1 : 56 - 59.

منفتحا.

قلت : قد عرفت أن المصلحة ليست باختيار المكلف ، وإنما القابل لاختياره هو الأفعال المعدّة لها ، فلا يجب على المكلف تحصيلها ولو بحكم العقل. ولو سلّمنا أنها قابلة لاختيار المكلف وأن نسبة الأفعال إليها نسبة الأسباب التوليدية ، لم يحصل الفرق بين تعلق الأمر بها أو تعلقه بتلك الأفعال كما هو الشأن في المسببات التوليدية.

فان قلت : نلتزم بأن الأفعال معدّات للمصلحة ، ولكن يحكم العقل بلزوم تحصيلها من جهة كونها هي العلة في الأمر ، وحينئذ فلو كان المشكوك جزءا كانت له جهتان ، إحداهما كونه مأمورا به والاخرى كونه له المدخلية في الملاك ، ونفي الجهة الاولى يوجب اكتفاء الشارع بما عداه فيكون ذلك عبارة اخرى عن نفي الثانية.

قلت : ترتب نفي الجهة الثانية من اللوازم العقلية والبراءة لا تثبتها. هذا ملخص ما في التحرير من الاعتراضين وجوابهما ، وقد لخصناه وحذفنا منه ما ربما يكون من قبيل عدم مطابقة الجواب للسؤال.

وعلى أيّ حال رجع الأمر بالأخرة إلى أن دعوى صاحب الكفاية ليست بمبنية على كون المقام من الأسباب الشرعية والعقلية ، ولا على تعلق الأمر بالمصالح ، ولا على كونها من قبيل المسببات التوليدية ، وإنما كان محصل دعواه هو حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى ، ولو كان المشكوك مما يدخله الأمر كانت البراءة فيه رافعة للشك في ناحية المدخلية ، بخلاف ما لو لم يكن مما يدخله الأمر ، فلا مورد فيه للبراءة ويبقى فيه الشك في السقوط بحاله.

والجواب عنه منحصر بما عرفت من منع حكم العقل بلزوم تحصيل

ص: 520

الأغراض ، ولو سلّم لم تكن البراءة نافعة في إزالة الشك إلاّ على الأصل المثبت.

هذه خلاصة ما أفاده شيخنا قدس سره ولكن يمكن التأمل فيما أفاده في أفعال الطهارة من الحدث وأفعال الطهارة من الخبث ، بناء على ما افيد من كون المجعول الشرعي هو المسبب ، فانه حينئذ غير قابل لتعلق الوجوب لعدم كونه من أفعال المكلفين ، فان كان هناك وجوب فلا بدّ أن يكون متعلقه هو الأسباب ، ولا بدّ أن تكون تلك الأسباب من قبيل المعدّ ، وحينئذ يكون حالها حال أفعال الصلاة بالنسبة إلى المصالح الواقعية في جريان البراءة الشرعية في جزئها المشكوك حتى عند شيخنا قدس سره.

ومنه يظهر الحال على القول الثاني في الأسباب الشرعية أعني جعل السببية ، فانه لا بدّ أن يكون مركب الوجوب الشرعي هو تلك الأسباب ، فمع الشك في جزء منها يكون حالها حال الصلاة بالنسبة إلى مصلحتها المترتبة عليها. والحاصل أنه لا يكون حال المسببات في باب الطهارة من الحدث والخبث إلاّ حال المصالح في الصلاة في عدم تعلق الوجوب الشرعي بها ، وإنما يتعلق الوجوب بنفس الأفعال المحصّلة لها أو المعدّة لها ، بل هي في ذلك أسوأ حالا من المصالح ، لامكان أن يتوهم متوهم أن المصالح قابلة لتعلق التكليف بتخيل كونها بالنسبة إلى الأفعال من قبيل المسببات التوليدية ، بخلاف الطهارة بناء على كونها حكما شرعيا وضعيا مجعولا للشارع عند وجود سببه ، وبعبارة أجدر عند وجود موضوعه الذي هو عبارة عن الغسلتين والمسحتين ، وحيث قد تحقق أنها لا يمكن أن تكون موردا للتكليف وأن حالها حال المصالح في كون الأفعال معدّا لها ، فلا يبقى في البين إلاّ النزاع بين شيخنا وصاحب الكفاية قدس سرهما فشيخنا يدعي

ص: 521

عدم حكومة العقل بلزوم تحصيلها ، فلا مانع عنده من جريان البراءة الشرعية في الأجزاء المشكوكة ، بل لا مانع عنده من البراءة العقلية إلاّ العلم الاجمالي ، وهو مختص بما لو كان المشكوك من الأجزاء دون داعي الأمر ، والبراءة الشرعية توجب انحلال العلم الاجمالي في مسألة الأقل والأكثر ، أما فيما نحن فيه فجريانها لا يتوقف على دعوى الانحلال ، إذ ليس المقام من ذلك القبيل ، بل ليس الأولي (1) وهو معلوم ، والأمر الثاني الذي هو متمم الجعل ، وهذا هو المجهول وهو الذي تجري فيه البراءة الشرعية بل البراءة العقلية أيضا.

أما صاحب الكفاية فالمانع عنده من جريان البراءة العقلية هو كون المسألة من قبيل الشك في المسقط ، وذلك جار في المسألتين ، أما البراءة الشرعية فانما تجري عنده في خصوص الأجزاء والشرائط وبها يرتفع الشك في حصول الغرض ، ولا تجري في داعي الأمر ، لأنه لو كان معتبرا لم يكن بأمر من الشارع ، وحينئذ ينحصر الايراد عليه بما تقدمت الاشارة إليه من عدم حكم العقل بلزوم تحصيل المصالح ، ولو حكم بها لم تنفع البراءة الشرعية في إثبات حصول المصلحة إلاّ على الأصل المثبت.

وينبغي مراجعة ما حررناه عن شيخنا قدس سره (2) في هذه المسألة أعني مسألة التفرقة بين المحصّلات الشرعية والمحصّلات العادية ، وأنّ ما نحن فيه ليس من قبيل المحصلات الشرعية بل ولا المحصلات العقلية ، فانه قدس سره قد أطال الكلام في توضيح هذه الجهات في ست ليال متعاقبة فراجعه بما علّقناه هناك.

ص: 522


1- [ كذا في الأصل ، والصحيح : بل ليس إلاّ الأمر الأولي ].
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.

تكميل : قد تعرضنا في شرح العروة على ما يتعلق بوضوء الجبيرة وبيان إمكان إجراء قاعدة الميسور فيها ، وشرحنا هناك أنه بناء على كون الطهارة من الحدث هي من الأحكام الوضعية ، وسببها أو شرطها أو موضوعها الأفعال الخاصة ، يكون الأمر بتلك الأفعال لكونها موضوعا للحكم الشرعي بالطهارة ، فيكون الحاصل من مثل قوله تعالى : ( إذا قمتم ... ) (1) هو أنه يجب عليكم هذه الأفعال لتكونوا داخلين في حكمي بالطهارة التي تكون واجديتها شرطا في الصلاة ، ومقتضى ذلك كله هو عدم جريان البراءة عند الشك في بعض أجزائها ، فراجع (2).

قوله : ومبنى الفرق المذكور على التفرقة بين المحصّلات الشرعية والأسباب العادية ... إلخ (3).

لا يخفى أن حاصل ما أفاده في الكفاية (4) بين الشك في اعتبار داعي الأمر لو كان الفعل عباديا ، وبين الشك في اعتبار مثل الاستعاذة لو كانت جزءا من الصلاة ، هو أن الأوّل لا مورد فيه لحديث الرفع ، فان تعلق الأمر بما عدا داعي الأمر معلوم ، وأما نفس الغرض ولزوم تحصيله وتوقف حصوله على داعي الأمر ، وكذلك اعتبار داعي الأمر في العبادة ، كلها أمور واقعية لا مدخلية فيها للتصرف الشرعي كي يكون إجراء البراءة في شيء منها ممكنا ، وهذا بخلاف الثاني وهو اعتبار الاستعاذة فان نفس الغرض وتوقفه عليها وحكم العقل بلزوم تحصيل الغرض وإن كانت كلها واقعية لا

ص: 523


1- المائدة 5 : 6.
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.
3- أجود التقريرات 1 : 176 - 177 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
4- كفاية الاصول : 76.

مورد فيها لحديث الرفع ، إلاّ أن اعتبار الاستعاذة ولزوم الاتيان بها لمّا كان شرعيا كان للبراءة الشرعية فيها مجال من هذه الجهة ، وكان جريانها في هذه الجهة موجبا لعدم فعلية الأمر الضمني المتعلق بها ، وذلك عبارة عن عدم فعلية الأمر المتعلق بالمجموع المركب من أجزاء الصلاة والاستعاذة ، وهذا كاف في الخروج عن العهدة فعلا.

وأقصى ما يمكن المناقشة فيه إنما هو في هذه الجهة ، أعني كفاية عدم فعلية الأمر بالمجموع في الخروج عن العهدة مع فرض الشك في حصول الغرض بفاقد الاستعاذة وقد حكم العقل بلزوم إحراز حصوله ، فان أصالة البراءة لا تحرز حصول الغرض إلاّ بلازمها ، نعم لو كانت لنا أمارة دالة على عدم الوجوب المتعلق بالمركب لكانت حجة في لازمها وهو حصول الغرض بالفاقد ، ومن الواضح أن هذه الجهة من تقريب مطلب صاحب الكفاية والاشكال عليه بالمثبتية لا دخل له بما فصّله شيخنا قدس سره من الأسباب والمسببات الشرعية ودعوى انفتاح باب البراءة الشرعية فيها ، والأسباب والمسببات العقلية الواقعية ودعوى انسداد باب البراءة فيها ، فانه على الظاهر لا يبتني عليه مطلب صاحب الكفاية ، فان الغرض وأسباب حصوله وإن كانت واقعية فلا ينفتح فيها باب البراءة الشرعية فلا يكون لنا مجال لاعمال البراءة في مورد احتمال اعتبار داعي الأمر ، إلاّ أن المسوّغ للبراءة في مسألة الاستعاذة ليس هو كون المسبب الذي هو حصول الغرض شرعيا أو كون سببه وهو الاستعاذة شرعيا ، ليكون حاله حال الطهارة من الحدث الأصغر بالنسبة إلى أفعال الوضوء ، بل المسوّغ للبراءة في الاستعاذة هو ما عرفت من الوجوب الشرعي الضمني المنبسط عليها في ضمن تعلق الأمر بالمجموع ، فصاحب الكفاية يدعي أن جريان البراءة في ذلك

ص: 524

الوجوب الضمني كاف في الاستراحة من الشك في حصول الغرض ولا دخل لذلك بالمسببات والأسباب الشرعية ، فلاحظ وتأمل.

ثم إن ما أفاده شيخنا قدس سره في المسببات الشرعية - وأنه لا مورد فيها للبراءة على القول بكون المجعول هو المسبب ، وكذا على القول بجعل السببية ، بحجة أنه عند اجتماع كل ما يحتمل دخله في السبب يكون حصول المسبب معلوما فلا مورد فيه للبراءة ، وعند فقد بعض ما يحتمل فيه مدخليته لا تجري البراءة لأن جريانها خلاف الامتنان. نعم لو قلنا بجعل السببية وجعل جزئية أجزاء السبب وحصل الشك في كون الاستنشاق والمضمضة جزءا من أفعال الوضوء لأمكن جريان البراءة في جزئيتها - إنما يتم في مثل أفعال الوضوء بالنسبة إلى مسببها الذي هو من قبيل الحكم الوضعي أعني الطهارة من الحدث ، أما لو كان المسبب هو الحكم التكليفي أعني الوجوب فيما لو شكت المرأة أن إذن الزوج دخيل في الاستطاعة ، فالأمر فيه على العكس ، فانها عند فقد إذن الزوج تجري البراءة في وجوب الحج ويكون فيه الامتنان.

نعم ، لو كان الحكم التكليفي هو الجواز ، مثل أن يكون المرض والتداوي مسوّغا ومبيحا لشرب الخمر ، لكان عند الشك في مدخلية كون المرض مهلكا مثلا مع فرض عدم كون المرض الفعلي كذلك ، حاله حال ما أفاده شيخنا في الوضوء.

وهكذا الحال فيما لو كان الحكم الوضعي الذي هو المسبب من قبيل ما يوجب التضييق كما في سببية الملاقاة للنجاسة لو شككنا في اعتبار ملاقاة خاصة ككونها مع الرطوبة المنتقلة من أحد المتلاقيين إلى الآخر ، كان حاله حال الوجوب ، فان الملاقاة بدون القيد المزبور توجب الشك في

ص: 525

حصول النجاسة فيمكن الرجوع في ذلك إلى أصالة البراءة.

وبالجملة : أن المسببات الشرعية تختلف ، وليس كل منها على وتيرة الطهارة من الحدث بالنسبة إلى أفعال الوضوء.

أما باب الوضوء فالوجوه فيه ثلاثة ، الأول : كون الواجب هو نفس الأفعال التي تضمنتها الآية الشريفة ، فيكون حاله حال سائر الواجبات المركبة ، وتجري فيه قاعدة الميسور كما يجري في مشكوكاته حديث الرفع.

الثاني : كون تلك الأفعال علة لأمر تكويني وهو صفاء النفس ، ويكون المأمور به هو ذلك المعنى النفساني المعلول للأفعال الوضوئية ، وحينئذ لا تجري في أفعال الوضوء قاعدة الميسور ، ويكون المرجع عند الشك في اعتبار المضمضة مثلا هو الاحتياط.

والظاهر (1) أن الحال كذلك لو قلنا بأن المسبب هو ذلك الأمر الشرعي الاعتباري أعني الطهارة من الحدث ، إذ أنه حينئذ لا مورد فيه لقاعدة الميسور ، كما أنه لا مورد فيه للبراءة الشرعية عند الشك ، فراجع ما حررناه في التعليق على العروة في مباحث وضوء الجبيرة وتأمل.

قوله - فيما حكاه عن الشيخ قدس سره - : فأجاب قدس سره : بأنه لا إشكال في وجود الغرض في الأمر إلاّ أن الشك في كونه بحيث يسقط من دون التعبد أو لا ، فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين فلا بدّ من الاحتياط. والتحقيق - إلى قوله : - فالمرجع هي البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك بين الأقل والأكثر ... إلخ (2).

لا يخفى أن الكلام في الوجه الثاني وهو الاختلاف بين الأمر التعبدي

ص: 526


1- [ لعل هذا هو ثالث الوجوه وان لم يذكره بعنوان الثالث ].
2- أجود التقريرات 1 : 185.

والتوصلي بالهوية لأجل اختلافهما في الغرض. وهذا الوجه يمكن إرجاعه إلى ما عن الكلباسي وصاحب العناوين قدس سرهما على ما شرحناه (1) من التقيد القهري بداعي الأمر ، ويمكن إرجاعه إلى وجه آخر وهو كون مقصود الآمر من الأمر التعبدي هو إطاعته ، بخلاف التوصلي فانه ليس المقصود منه إلاّ مجرد وجود المأمور به ، فيكون النظر إلى الأمر في الأوّل استقلاليا وإلى الثاني توصليا باتخاذه آلة لحصول المأمور به على ما مرّ شرحه (2).

وعلى الأوّل يكون لون التعبدية قهريا على الآمر بخلافه على الثاني. وحينئذ نقول في مقام الشك إنه على الاول لا مورد فيه للبراءة الشرعية ، إذ لم تكن التعبدية بقصد وجعل من الآمر ، وبه يتم ما عن الشيخ قدس سره من التباين بين الأمرين.

وعلى الثاني يكون لون التعبدية بقصد وجعل من الآمر ، ففيه مورد للبراءة الشرعية ، لكونهما حينئذ من قبيل الأقل والأكثر ، لاشتراكهما في كون المتعلق منظورا مرادا ومطلوبا للآمر ، وزيادة التعبدي أنّ فيه نظرا وقصدا إلى نفس الأمر ، وهذه الزيادة لمّا كانت موجبة للكلفة الزائدة على المكلف وكانت تلك الكلفة آتية من ناحية نظر الآمر إلى نفس الأمر ، وكان ذلك النظر بقصد من الآمر وبجعل منه ، كان ذلك النظر موردا للبراءة الشرعية. ثم بعد ثبوت أصل التعبدية ننقل الكلام إلى تلك الزيادة الثابتة وهل هي مجرد داعوية الأمر أو أنها عبارة عن إطاعته والتعبد به ، وعلى الأوّل يكون ما زاد على ذلك من الجزم ونية الوجه موردا للبراءة ، بخلافه على الثاني للشك في حصول الاطاعة والعبادية بدونهما ، فيكون المرجع فيهما هو الاشتغال ، هذا

ص: 527


1- في صفحة : 466 وما بعدها.
2- [ لم نعثر عليه ].

على الوجه الثاني من تفسير الاختلاف في الغرض.

وأما على الاول وهو التقيد القهري بداعي الأمر ، فان ثبت التقيد بالبرهان الذي ذكرناه ومع ذلك احتملنا السقوط بغير القيد ، فالمرجع فيه هو الاشتغال للشك في السقوط ، وإن لم يثبت البرهان المذكور وتردد في التقيد وعدمه على نحو الشبهة الحكمية كان الحال كذلك من عدم الرجوع إلى البراءة ، لما عرفت من أن هذا التقيد على تقدير ثبوته فانما هو قهري وليس بقصد من الآمر ليكون مجعولا شرعا لتجري فيه البراءة الشرعية. نعم لو ثبت التقيد القهري أعني تقيد المأمور به بداعي الأمر تقيدا قهريا ، وشككنا في الزائد على ذلك من الجزم والتمييز والوجه ونحوها ، فالمرجع فيه هو البراءة الشرعية ، لكونها على تقدير اعتبارها مجعولة شرعية قابلة للوضع والرفع الشرعي.

خلاصة البحث في أصالة التعبد أو التوصل : هي أن جلّ الاعتماد في الفرق بين التعبدي والتوصلي على حكم العقل بلزوم الاطاعة والامتثال ، وأن ذلك لا يحصل في الاتيان بالفعل لا بداعي الأمر. نعم ربما حصل بالفعل العاري عن الداعي المذكور ما يكون من قبيل ذهاب الموضوع ، وهذا هو الذي يسمى بالتوصلي ، وهو يحتاج إلى دليل ، ومع عدمه فالمحكّم هو حكم العقل بالاطاعة والامتثال المتوقفين في نظر العقل على الاتيان بالفعل بداعي الأمر ، وهذا هو عبارة أخرى عن أصالة التعبدية ولعله هو المراد لصاحب الاشارات.

وأما حديث التوأمية فيرد عليه أوّلا : أن تجريد المتعلق من القيد والتقييد وجعل الأمر واردا على نفس الذات التي هي توأم مع القيد لعله غير معقول ، فان التوأمية عبارة أخرى عن التقييد بنحو يكون التقيد داخلا والقيد

ص: 528

خارجا ، إذ لا محصل لها إلاّ ذلك.

وثانيا : ما عرفت من أن الذات التي هي توأم مع القيد المذكور تكون معلولة للأمر فلا يعقل لحاظها متعلقة للأمر.

وأما مسلك الكفاية (1) فيرد عليه أوّلا : ما عرفت من عدم لزوم تحصيل الغرض.

وثانيا : ما عرفت من أن داعوية الأمر لارادة المكلف المتعلقة بالفعل لا يعقل كونها موردا للأمر ، سواء كان الأمر شرعيا كما في الأمر الثاني في مسلك الشيخ (2) الذي اصطلح عليه شيخنا قدس سره بمتمم الجعل (3) ، أو كان الأمر عقليا كما في مسلك الكفاية (4) من كون العقل حاكما بلزوم الداعوية ، إذ لا يعقل أن يتوجه أمر للمكلف سواء كان من قبل الشارع أو من قبل العقل بأن يجعل داعيه على الفعل المأمور به هو الأمر ، لأن هذا الأمر قد تعلق بأن يريد المكلف أن يجعل داعيه على الفعل هو أمر الشارع ، فتكون للمكلف إرادة متعلقة بنفس الفعل المأمور به ، ولهذه الارادة داع وهو الأمر الشرعي ، وله إرادة تتعلق بهذه الداعوية ، وهذه الارادة تكون عن داعي ذلك الأمر الثاني الشرعي بنظر الشيخ ، أو العقلي بنظر صاحب الكفاية.

وهذا الايراد الثاني لا يتوجه على ما شرحناه (5) من مسلك صاحب الاشارات من حكومة العقل بلزوم الاطاعة والامتثال ، فان الاطاعة التي أمر بها العقل ليست هي عين الأمر بالداعوية وإن كانت لا تحصل إلاّ بالاتيان

ص: 529


1- كفاية الاصول : 72 ، 74 ، 76.
2- مطارح الأنظار 1 : 303 - 305.
3- أجود التقريرات 1 : 173.
4- كفاية الاصول : 74.
5- في صفحة : 473 - 474 ، وراجع أيضا صفحة : 497.

بداعي الأمر ، فتأمل.

ولكن لك أن تقول : إن العقل ليس بحاكم ، وأن أقصى ما عنده هو إدراك الحسن والقبح ، فهو يستحسن الاطاعة ويقبّح المعصية وليس لديه أمر ولا نهي ، وحينئذ يندفع الاشكال الثاني عن مسلك صاحب الكفاية.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما هو مسلك الشيخ قدس سره من الأمر الثاني الذي اصطلح عليه شيخنا قدس سره بمتمم الجعل ، مضافا إلى التأمل فيه من ناحية اخرى ، وهي أنه لا مورد للتصرف الشرعي أو الأمر الشرعي في مقام الامتثال.

ثم إن التفرقة التي أفادها في الكفاية (1) بين الشك في الجزئية وبين ما نحن فيه في الرجوع إلى البراءة في الأوّل دون الثاني ، مخدوشة بأن الأمر بواجد الجزء المشكوك وإن لم يكن معلوما إلاّ أن الأمر بما عداه معلوم ، وبواسطة الشك في حصول الغرض بفاقد ذلك الجزء يكون سقوط الأمر مشكوكا فيجري فيه إشكال قصد القربة ، ولا تكون البراءة الشرعية نافعة إلاّ بالأصل المثبت كما قرره شيخنا قدس سره في صفحة 106 (2) فراجع ، وراجع ما حررناه من صفحة 197 (3) إلى هنا وتأمل.

ص: 530


1- كفاية الاصول : 76.
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 182 - 183 من الطبعة الحديثة.
3- أي من الصفحة : 516.

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

مقدمة الكتاب ... 0

مقدمة التحقيق ... 0

مرتبة علم الاصول ... 5

علم الاصول من المبادئ التصديقية لعلم الفقه ... 5

ما هي المبادئ التصديقية؟ ... 5

موضوع كل علم ... 6

تفسير الواسطة في العروض والثبوت والاثبات ... 7

تحقيق مفصّل حول أقسام العرض وما يكون ذاتيا وما يكون غريبا وجهات اخرى مرتبطة بالعوارض 8

الكلام في الوضع ... 38

سبب الوضع هل هو إلهي أو بشري؟ ... 38

عدم حصول الوضع بكثرة الاستعمال المجازي ... 38

حصول الوضع بالاستعمال ودفع الاشكال عنه ... 39

هل الوضع العام والموضوع له الخاص ممكن أم لا؟ ... 40

المعنى الحرفي ... 41

معاني الأسماء إخطارية دون الحروف ... 41

انقسام المعاني غير الاخطارية إلى إيجادية ونسبية ... 42

ص: 531

كون الحروف النسبية موضوعة لجهة النسبة ... 42

كيفية تصوير حمل الذات على الموضوع ... 43

معنى أخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول ... 44

تحقق الايجادية بالهيئة ... 44

وجود النسبة بين عرضين وجوهرين ... 45

عدم خروج النسبة عن كونها إيجادية كسائر المعاني الحرفية ... 45

نقد كلام السيد الخوئي قدس سره في المعنى الحرفي ... 45

كون العرض مع ملابساته كالفاعل والمفعول به في مرتبة واحدة ... 47

تقسيم الحروف المستقلة في الوجود من حيث وضعها للنسبة الأولية والثانوية ... 48

معنى الظرف المستقر والظرف اللغو ... 50

معاني الحروف كلها إيجادية نسبية كانت أو غيرها ... 54

مناقشة ما اختاره صاحب الكفاية في المعنى الحرفي ... 56

أدلة صاحب الكفاية على استحالة أخذ اللحاظ في المستعمل فيه ... 59

نقد القول بأن المعنى الحرفي ما لا يوجد في الذهن إلا تبعا بخلاف الأسماء ... 59

نقد القول بأن معاني الحروف النسب والارتباطات الواقعية ... 60

ما أشكل به المحقق العراقي قدس سره على مسلك الكفاية قدس سره ... 63

هل أسماء الاشارة موضوعة للذات في مقام الاشارة أو للاشارة إلى الذات ... 65

دفع الاشكال على كون أدوات الاشارة حروفا ... 66

دفع المنافاة بين إيجادية الحروف للنسبة واتصافها بالصدق والكذب ... 70

الكلام في إمكان اجتماع النقيضين في الذهن ... 72

ص: 532

كون المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال بخلاف المعنى الاسمي ... 74

كون النظر إلى اللفظ - حتى لفظ الحروف - آليا ... 74

المناقشة في كون المعنى الحرفي آلة بالنسبة إلى معنى الاسمي ... 75

البرهان على كون المعنى الحرفي منظورا إليه استقلالا والمناقشة فيه ... 76

نقد كلام السيد الخوئي قدس سره في المعنى الحرفي ... 76

مقالة المحقق العراقي في حقيقة المعنى الحرفي ونقده ... 78

نقل كلام صاحب الحاشية قدس سره في المعنى الحرفي ... 82

تفسير وتوضيح للرواية المنسوبة إلى علي عليه السلام في الحروف ... 85

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في المعنى الحرفي ... 89

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في وضع هيئة الجملة الاسمية ... 91

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في وضع هيئة الأفعال ... 94

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في الفرق بين الانشاء والاخبار ... 95

تنبيهات ثلاثة في نهاية بحث المعنى الحرفي :

1 - عدم تضمن أسماء الاشارة وأسماء الأفعال لمعنى الحرف ... 97

2 - عدم اتصاف معاني الحروف بالكلية والجزئية ... 99

3 - عدم قابلية المعاني الحرفية للتقييد ... 100

استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله ... 101

الكلام في الحقيقة الشرعية ... 109

تقديم مقدمات في المقام :

1 - توقف الحقيقة الشرعية على الاختراع والتسمية وذكر صور في المقام ... 109

2 - صور الحقيقة الشرعية من الوضع التعييني والتعيني ... 110

استبعاد حصول الوضع الابتدائي ... 111

ص: 533

حصول الوضع بكثرة الاستعمال مجازا والمناقشة فيه ... 111

حصول الوضع بالاستعمال وبيان كلمات الأعلام قدس سرهم فيه ... 114

3 - ثمرة النزاع ... 120

نقد كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 123

الكلام في الصحيح والأعم ... 128

توجيه جريان النزاع مع إنكار الحقيقة الشرعية ... 128

توجيه آخر في المقام والاشكال عليه ... 131

إشكال بعض محشي الكفاية على هذه التوجيهات ... 132

اختلاف ثمرة النزاع في مسألة الحقيقة الشرعية عن مسألة الصحيح والأعم ... 133

نقل ما في الكفاية من تأتّي النزاع على القول بالحقيقة الشرعية وإنكارها ... 140

تفسير الصحة بالتمامية والمناقشة فيه ... 142

تصوير الجامع على القول بالوضع للصحيح ... 145

انتفاء النزاع بناء على ما ذكره السيد البروجردي قدس سره ... 155

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في تصوير الجامع على الأعم ... 157

التعرض لكلام المحقق القمي قدس سره في تصوير الجامع ... 158

دخول الشرائط في محل النزاع ... 162

اعتبار قصد التقرب وعدم النهي وعدم المزاحم ... 162

القول بوضع لفظ الصلاة لمفهوم الصحيح أو فريضة الوقت ونقده ... 168

نقل كلام المحقق النائيني قدس سره في المقام ونقده ... 174

الكلام في تصوير الجامع بمعنى معظم الأجزاء ... 181

هل الأعمي يمكنه التمسك بالاطلاقات ... 184

تلخيص البحث وتوضيحه ضمن امور ... 195

ص: 534

جريان النزاع في المعاملات ... 199

الاشتراك والترادف ... 216

استعمال اللفظ في أكثر من معنى ... 216

مبحث المشتق ... 219

المراد بالمشتق في محل النزاع ... 219

ابتناء تحريم المرضعة على بحث المشتق ... 220

توهم خروج أسماء الزمان عن محل النزاع ... 223

نقد كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 225

نقل عبارة العلاّمة وفخر الدين في مسألة الرضاع ... 225

مسألتان في الرضاع ... 231

نقد ما ذكره الآخوند قدس سره في رسالته الرضاعية ... 233

مناقشة المصنف للسيد الخوئي قدس سرهما في الرضاع ... 236

نقل كلام صاحب الدرر في الرضاع ... 239

توهم خروج أسماء الزمان عن محل النزاع ... 239

نقد كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 241

إدخال اسم الزمان في محل النزاع من جهة اخرى ... 241

نقد كلام المحقق النائيني في المقام ... 242

المراد ب- « الحال » في عنوان النزاع ... 243

تفصيل الكلام فيما ينقل من إنكار المجاز في الكلمة ... 251

الاشكال على تفسير الحال بفعلية التلبس ... 254

الكلام في مبدأ المشتقات ومفاد هيئاتها ... 260

بساطة المشتق وتركبه ... 263

الفرق بين المشتق والمصدر واسم المصدر ... 269

ص: 535

البرهان على بساطة المشتق ... 275

برهان السيد الشريف على استحالة التركب ... 278

الأقوال في وضع المشتق والمختار فيه ... 283

الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس ... 286

الاستدلال على المختار بتضاد المعاني الاشتقاقية ... 293

تنبيه وتكميل لا بأس بالاشارة إليهما ... 298

الاستدلال على القول بالأعم ... 300

المناقشة في خروج اسم المفعول واسم الآلة عن محل النزاع ... 310

الرد على استدلال القائلين بالأعم بلزوم كثرة المجاز لو كان الموضوع له هو المتلبس 312

أخذ المشتقات لا بشرط ، والكلام في صفاته تعالى ... 314

عدم توقف استعمال المشتق حقيقة على كون الاسناد حقيقيا ... 314

مبحث الأوامر ... 317

فيما يتعلق بمادة الأمر ... 317

معاني الأمر ... 317

دلالة الأمر على الوجوب ... 321

التأمل في عدم صدق الأمر على الطلب من المساوي أو السافل ... 325

فيما يتعلق بصيغة الأمر ... 325

في الكلام عن هيئة الماضي وأنها قد تأتي لانشاء تحقق المادة في عالم التشريع... 325

الكلام في مفاد صيغة الأمر ... 326

الكلام في اتحاد الطلب مع الارادة ... 332

دلالة الصيغة على الوجوب ... 346

ص: 536

الفرق بين الوجوب والاستحباب ... 347

مبحث التعبدي والتوصلي ... 360

الكلام في التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بفعل الغير ... 360

مناقشة المصنف قدس سره للسيد الخوئي قدس سره في المقام ... 371

المناقشة في فرع فقهي تعرض له المحقق النائيني قدس سره ... 372

دلالة صيغة افعل على الاختيارية من وجهين ... 375

مناقشات المصنف قدس سره مع السيد الخوئي قدس سره في المقام ... 379

سقوط الواجب بفعل المحرّم ... 384

عدم معقولية كون الأمر بنفسه داعيا للمكلف ... 387

توهم كون المراد من داعوية الأمر هي المحركية والسوق الخارجي ... 388

توهم كون الأمر يعطي الفعل عنوانا حسنا يكون داعيا للمأمور ... 388

ما يظهر من كلام السيد البروجردي قدس سره في المقام ونقده ... 388

دعوى انحلال الأمر إلى حصة متعلقة بالذات واخرى متعلقة بداعوية الحصة الاولى ونقدها 393

دعوى كون القيد داعوية الأمر الكلي ونقدها ... 399

هل يمكن الاهمال في مقام الثبوت بالنسبة للآمر الجاهل بالانقسام ... 403

استحالة تقييد موضوع الحكم بحال العلم بالحكم للزوم الدور ... 404

نقد ما ذكره السيد الخوئي قدس سره تعليقا على كلام الماتن من استحالة الاهمال في الواقع 409

نقد ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في الجواب عن التقابل بين الاطلاق والتقييد ... 411

استحالة تقييد موضوع الحكم بحال العلم به للزوم التقدم والتأخر ... 415

وجه آخر للاستحالة ذكره المحقق النائيني ... 418

استحالة تقييد متعلق التكليف بقصد امتثال الأمر ... 419

ص: 537

نقد مناقشة السيد الخوئي قدس سره في أخذ الأمر مفروض الوجود ... 423

هل تأتي المحاذير في أخذ قصد القربة بمعنى قصد المصلحة؟ ... 426

وجه امتناع أخذ الجامع المنطبق على جميع الدواعي في المأمور به ... 432

وجوه تصوير عبادية العمل :

1 - ما ذكره العلاّمة الشيرازي ... 444

2 - اقتضاء الأمر بذاته للعبادية ... 451

3 - كون الفرق بين التعبدي والتوصلي من ناحية الغرض ... 453

استدلال الشيخ الأنصاري قدس سره على أصالة التوصلية ... 456

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق ... 462

استدلال الكلباسي قدس سره على أصالة التعبدية ... 466

تقريب آخر لما ذكره الكلباسي قدس سره ... 473

عدم تحقق العبادية بمجرد قصد الامتثال ... 475

ما ذكره في البدائع من استدلال القائلين بأصالة التعبد بوجهين ... 477

نقل كلام صاحب الحاشية في المقام ... 479

ملخص ما في الاشارات في الاستدلال على أصالة التعبدية ... 481

ما ذكره صاحب العناوين في المقام ... 482

توجيه متمم الجعل ودفع الاشكالات عنه ... 485

مقتضى الأصل العملي واللفظي في المقام ... 500

التأمل في نظرية الذات التوأمة ... 504

إبطال دعوى التقيد القهري الذي أفاده صاحب الاشارات وصاحب العناوين قدس سرهما 505

حاصل مطلب الكفاية في مقتضى الأصل العملي ... 510

المختار في مسألة اعتبار داعوية الأمر ... 512

ص: 538

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في المقام ... 513

مناقشة ما أفاده السيد الحكيم قدس سره في الحقائق ... 515

مطلب صاحب الكفاية قدس سره ليس مبنيا على التفرقة بين الأسباب والمسببات ... 516

مقتضى الأصل العملي بناء على الاختلاف بين الأمر التعبدي والتوصلي بالهوية... 527

خلاصة البحث في أصالة التعبد أو التوصل ... 528

ص: 539

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.