التنقیح المجلد 3

هویة الکتاب

التنقیح

تلخيص: طباطبایي الحکیم، محمد سعید

تتميم: طباطبایي الحکیم، محمد سعید

مؤلفين آخرين

كاتب: انصاری، مرتضی بن محمدامین

عدد المجلدات: 6

لسان: العربية

الناشر: موسسة الحکمة الثقافة الاسلامية - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1431 هجری قمری|2010 میلادی

رمز الكونغرس: BP 159 /الف 9 ف 4026

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الجزء الثالث

المقصد الثالث

اشارة

من مقاصد هذا الكتاب

في الشك

المكلف الملتفت إلى الحكم الشرعي

قد قسمنا في صدر هذا الكتاب المكلف الملتفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام،لأنه إما أن يحصل له القطع بالحكم الشرعي،و إما أن يحصل له الظن،و إما أن يحصل له الشك (1) .

و قد عرفت:أن القطع حجة في نفسه لا بجعل جاعل،و الظن يمكن بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

اللهم وفق و اعن و سدد و أرشد.أنت حسبنا و نعم الوكيل.

(1)سبق الكلام في التقسيم المذكور في أول الكتاب،و ذكرنا أن الأنسب التقسيم بوجه آخر.فراجع.

ص: 7

أن يعتبر في متعلقه (1) ،لأنه كاشف عنه ظنا (2) ،لكن العمل به و الاعتماد عليه في الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به شرعا،و هو غير واقع إلا في الجملة،و قد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعية (3) في الجزء الأول من هذا الكتاب.

عدم إمكان اعتبار الشك

و أن ما لم يرد اعتباره في الشرع فهو داخل في الشك (4) .فالمقصود هنا بيان حكم الشك بالمعنى الأعم من ظن غير ثابت الاعتبار (5) و أما الشك،فلما لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل أن يعتبر (6) ،فلو ورد في (1)يعني:بنحو يكون حجة عليه.

(2)سيأتي أن ذلك ليس معيارا في اعتبار الظن و حجيته.

(3)و أما في موضوعاتها فلم يتعرض له هناك،لخروجه عن المسائل الأصولية.

(4)لا معنى لدخوله في الشك،بل كالشك في عدم الحجية.

(5)كما أنه يخرج منه الشك الذي قام الدليل في مورده فما هو محل الكلام هنا مورد عدم قيام الحجة،و بينه و بين الشك-الذي هو بمعنى تساوي الطرفين-عموم من وجه موردي.

(6)يعني:بنحو يكون حجة على المشكوك.لكن الظاهر أن المعيار في الأمارية و الحجية و الطريقية ليس هو الكشف الذاتي في الأمارة،ليختص بالظن و لا يجري في الشك،بل المعيار فيها لسان الجعل و التعبد.

فإن كان مبنيا على اعتبار الشيء كان أمارة و لو كان شكا بل وهما،فلو كان الغالب في ظن المكلف خطأ الواقع و اعتمد الشارع الغلبة المذكورة فقال:كلما ظننت بشيء فاعمل على خلافه،فإنه هو الواقع،كان الظن المذكور أمارة على الخلاف، و كان الوهم حجة في الوصول إلى متعلقة و طريقا إليه.و لذا أمكن كون القرعة من

ص: 8

مورده حكم شرعي-كأن يقول:الواقعة المشكوكة حكمها كذا-كان حكما ظاهريا،لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض (1) .

و يطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا،لأنه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها (2) ،و ثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه (3) ،لأن موضوع هذا الحكم الظاهري-و هي الواقعة المشكوك في حكمها-لا يتحقق إلا بعد تصور حكم نفس الواقعة و الشك فيه.

مثلا:شرب التتن في نفسه له حكم فرضنا في ما نحن فيه شك المكلف فيه،فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم،كان هذا الحكم الوارد متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك،فذلك الحكم واقعي بقول الأمارات و إن لم تفد الظن.

و إن كان مبنى لسان دليل الجعل و التعبد على محض التعبد ظاهرا و الإلزام بالعمل من دون نظر إلى الكشف و الطريقية كان أصلا و إن كان ظنا كاشفا في نفسه، كما اعترف بالثاني المصنف قدس سره في الأمر الثالث من خاتمة الاستصحاب.

نعم لما كان مبنى الظن على الكاشفية ذاتا،و مبنى الشك على عدمها كان المساق من أدلة التعبد بالأول إمضاء طريقته،و بالثاني محض التعبد،و إرادة خلاف ذلك محتاجة إلى عناية لا مجال لحمل دليل التعبد عليها من دون قرينة.

(1)بعد فرض عدم كون دليل التعبد ناظرا إلى احراز الحكم الواقعي،فلا بد أن يكون مفاده مجعولا مع قطع النظر عنه.و ربما يطلق الحكم الظاهري و يراد منه الحكم الذي يعمل عليه فعلا،إما لكونه حكما واقعيا و أصلا للمكلف متنجزا في حقه،أو لكونه حكما ظاهريا بالمعنى الذي ذكره المصنف قدس سره.

(2)يعني:من حيثية كونها مشكوكا في حكمها.

(3)و هو الحكم الواقعي الأصلي.

ص: 9

مطلق،و هذا الوارد ظاهري،لكونه المعمول به في الظاهر،و واقعي ثانوي، لأنه متأخر عن ذلك الحكم،لتأخر موضوعه عنه.

و يسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهري(أصلا) (1) ،و أما ما دل على الحكم الأول-علما أو ظنا معتبرا-فيختص باسم«الدليل»، و قد يقيد ب(الاجتهادي)،كما أن الأول قد يسمى ب(الدليل)مقيدا ب(الفقاهتي).و هذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني (2) ، لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه و الاجتهاد.

ثم إن الظن الغير المعتبر حكمه حكم الشك (3) كما لا يخفى.

وجه تقديم الأدلة على الأصول

و مما ذكرنا:من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي- لأجل تقييد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي-يظهر لك وجه تقديم الأدلة على الأصول،لأن موضوع الأصول يرتفع بوجود الدليل،فلا (1)الظاهر أن الأصل عندهم نفس الحكم الظاهري المستفاد من دليل التعبد،لا نفس دليل التعبد،فالأصل مثلا هو لزوم البناء على الحل عند الشك فيه، لا ما تضمن من الأخبار أن كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام.

(2)قال بعض أعاظم المحشّين قدس سره:«و هذان اصطلاحان على ما وقفنا عليه من الفاضل المازندراني في شرح الزبدة،و شايعه الأستاذ الأكمل الفريد البهبهاني في فوائده...»ثم تعرض لتوجيه الاصطلاحين و الإشكال عليه،ثم قال:«و الخطب في ذلك سهل».

(3)لأن موضوع الأصول ليس هو الشك بمعني تساوي الطرفين،بل هو الجهل المقابل للعلم الحاصل مع الظن غير المعتبر،بل حتى المعتبر لو لا ما سيأتي من وجه تقديم الأدلة على الأصول.

ص: 10

معارضة بينهما،لا لعدم اتحاد الموضوع (1) ،بل لارتفاع موضوع الأصل -و هو الشك-بوجود الدليل.

أ لا ترى:أنه لا معارضة و لا تنافي بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الإباحة و بين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة (2) ،فإذا علمنا بالثاني-لكونه (1)كأنه اشارة إلى دعوى اختلاف موضوعي الدليلين المانع من التنافي بينهما بتقريب بأن موضوع الدليل الاجتهادي ذات الشيء كشرب التتن،و موضوع الأصل هو الشيء بقيد كونه مشكوك الحكم،و مع اختلاف الموضوع لا تنافي بين الحكمين،و لا تعارض بين دليليهما.لكنه يندفع بأن اختلاف الموضوعين بالإطلاق و التقييد لا يرفع التنافي بين حكميهما الموجب لتكاذب دليليهما و تعارضهما.

نعم لو كان موضوع كل منهما مقيدا بقيد مباين لقيد الآخر ارتفع التنافي و التعارض،و لذا كان مقتضى الجمع بين المطلق و المقيد حمل المطلق على المقيد لا إبقاؤه على إطلاقه.إلا أنه خلاف المفروض هنا،لفرض إطلاق موضوع الحكم الواقعي،و لذا كان مشتركا بين العالم و الجاهل إجماعا.فلا بد من رفع التنافي بينهما بوجه آخر.و يأتي بعض الكلام في ذلك.

(2)إن كان المراد بعدم التنافي هو عدم التنافي بين الحكمين ثبوتا،فمن الظاهر أن هذا الوجه لا يصلح لرفعه،لما عرفت من أن اختلاف موضوعي الحكمين بالإطلاق و التقييد لا يرفع التنافي بينهما،إذ في صورة وجود القيد-كما في صورة الشك في مثل المقام-يلزم اجتماع الحكمين المتضادين.

نعم قد أشرنا إلى وجه عدم التنافي بين الحكم الواقعي و الظاهري في أول مبحث الظن عند الكلام في دليل ابن قبة،و هو راجع في الحقيقة إلى إنكار الحكم الظاهرى.و تمام الكلام في المطولات.و إن كان المراد بعدم التنافي هو عدم التنافي بين دليلي الحكمين إثباتا-بعد فرض عدم التنافي بينهما ثبوتا لما سبق أو لغيره-فهو

ص: 11

علميا،و المفروض سلامته عن معارضة الأول (1) -خرج شرب التتن عن موضوع دليل الأول و هو كونه مشكوك الحكم،لا عن حكمه حتى يلزم فيه تخصيص و طرح لظاهره.

أخصية الأدلة غير العلمية من الأصول

و من هنا كان إطلاق (2) التقديم و الترجيح في المقام تسامحا،لأن الترجيح فرع المعارضة.و كذلك إطلاق الخاص على الدليل و العام على الأصل (3) ،فيقال:يخصص الأصل بالدليل،أو يخرج عن الأصل بالدليل.

و يمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الأدلة الغير العلمية (4) ،بأن يقال:إن مؤدى أصل البراءة-مثلا:أنه إذا لم يعلم حرمة في محله بناء على ما ذكره من أن دليل الحكم الواقعي رافع للشك الذي هو موضوع دليل الحكم الظاهري.لكنه البناء المذكور في غير محله،كما سيتعرض له.

(1)لما كان منشأ الفرض المذكور ارتفاع موضوع الأول بسبب الثاني كان اللازم جعله مترتبا عليه،لا مقدمة له و شرطا فيه،بأن يقول مثلا:فإذا علمنا بالثاني لكونه علميا خرج شرب التتن عن موضوع الدليل الأول،فلا يكون الدليل الأول معارضا للثاني،لعدم جريانه معه.اللهم إلا أن يكون منشأ فرض عدم المعارضة دعوى عدم التنافي بين الحكمين ثبوتا،لا إثباتا فقط،الذي سبق احتماله في كلامه، و سبق الإشكال فيه.

(2)تعريض بما يوجد في كلمات كثير من أهل الاستدلال من هذه التعابير و نحوها.

(3)لأن الخاص لا يرفع موضوع العام،بل يرفع حجيته في مورده مع شموله له،بخلاف المقام بناء على ما ذكره من ارتفاع الشك بالدليل.

(4)و هي الأدلة التي لا توجب العلم،كخبر الواحد،في مقابل العلمية،

ص: 12

شرب التتن فهو غير محرم،و هذا عام،و مفاد الدليل الدال على اعتبار تلك الأمارة الغير العلمية المقابلة للأصل:أنه إذا قام تلك الأمارة الغير العلمية على حرمة الشيء الفلاني فهو حرام،و هذا أخص من دليل أصل البراءة مثلا،فيخرج به عنه.

و كون دليل تلك الأمارة أعم من وجه-باعتبار شموله لغير مورد أصل البراءة (1) -لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة بين مواردها (2) .

الدليل العلمي رافع لموضوع الأصل

توضيح ذلك:أن كون الدليل رافعا لموضوع الأصل-و هو الشك- كالخبر المتواتر.

(1)كما لو قامت الأمارة على عدم التكليف،أو على بعض الأحكام التي لا تكون مجرى للأصول كسببية بعض الأسباب لبعض الأحكام الوضعية،فان الأصول لا تجري في السببية،أو قامت للأمارة في مورد تعارض الأصول و تساقطها و حينئذ قد يدعى حمل دليل الأمارة على الموارد المذكورة جمعا بينه و بين دليل الأصل، لا بتخصيص دليل الأصل به،كما ذكره المصنف قدس سره أو يتوقف،كما هو مقتضى الأصل في العامين من وجه.

(2)فإن هذا موجب لرجحان دليل الأمارة بسبب القرينة الخارجية على عدم التفكيك بين موارده و صغرياته،و يتعين حينئذ ترجيح دليل الأمارة في مورد الأصل و تخصيص دليل الأصل به.

و بعبارة أخرى:إنما يتوقف في العامين من وجه إذا أمكن تخصيص كل منهما بالآخر،أما إذا دار الأمر بين تخصيص أحدهما بالآخر و إلغاء الآخر بالمرة،لعدم إمكان تخصيصه بصاحبه،لامتناع التفكيك بين أفراده-و لو لدليل خارجي-فإنه يتعين البناء على تخصيص ما يقبل التخصيص،لأنه أهون من إلغاء الآخر بالمرة.

ص: 13

إنما يصح في الدليل العلمي،حيث إن وجوده يخرج حكم الواقعة عن كونه مشكوكا فيه.

و أما الدليل الغير العلمي فهو بنفسه غير رافع لموضوع الأصل و هو عدم العلم،و أما الدليل الدال على اعتباره فهو و إن كان علميا (1) ،إلا أنه لا يفيد إلا حكما ظاهريا (2) نظير مفاد الأصل،إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخلية العلم و الجهل،فكما أن مفاد قوله عليه السّلام:«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»يفيد الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه،فكذلك ما دلّ على حجية الشهرة الدالة مثلا على وجوب شيء،يفيد وجوب ذلك الشيء من حيث إنه مظنون مطلقا (3) أو بهذه الأمارة (4) -و لذا اشتهر:

أن علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانية،و هي:«هذا ما أدى إليه ظني»،و كبرى برهانية،و هي:«كل ما أدى إليه ظني فهو حكم اللّه في حقي»،فإن الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري.فإذا كان مفاد (1)الظاهر أن مراده أنه قد يكون علميا،إذ لا يلزم في دليل الحجية أن يوجب العلم.

(2)و إن شئت قلت:الدليل الدال على اعتبار الأمارة أو الطريق إنما يوجب العلم باعتبارهما و حجيتهما،و لا يوجب العلم بمطابقة مضمونهما للواقع،حتى يكون قيامهما رافعا لموضوع الأصل،و هو الجهل بالواقع.

(3)كما هو الحال لو قيل بأن حجية الشهرة من حيث حجية مطلق الظن لدليل الانسداد أو غيره.

(4)كما هو الحال لو قيل بحجية الشهرة بالخصوص.

ص: 14

الأصل ثبوت الإباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة و مفاد دليل تلك الأمارة ثبوت الحرمة للفعل المظنون الحرمة،كانا متعارضين لا محالة،فإذا بني على العمل بتلك الأمارة كان فيه خروج عن عموم الأصل و تخصيص له لا محالة.

هذا،و لكن التحقيق:أن دليل تلك الأمارة و إن لم يكن كالدليل العلمي رافعا لموضوع الأصل،إلا أنه نزل شرعا منزلة الرافع،فهو حاكم على الأصل لا مخصص له،كما سيتضح (1) إن شاء اللّه تعالى.

على:أن ذلك إنما يتم بالنسبة إلى الأدلة الشرعية (2) ،و أما الأدلة العقلية القائمة على البراءة و الاشتغال (3) فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلة الظنية واضح،لجواز الاقتناع بها في مقام البيان و انتهاضها رافعا لاحتمال العقاب (4) كما هو ظاهر.و أما التخيير فهو أصل عقلي لا غير (5) .

(1)يأتي الكلام في ذلك في خاتمة الاستصحاب و في مبحث التعارض،و يأتي ما هو الحق إن شاء اللّه تعالى.

(2)يعني:الدالة على الأصول،كحديث الرفع و الحجب و غيرهما.

(3)كقاعدتي:قبح العقاب بلا بيان،و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

(4)لأن المراد بالبيان و اليقين في الأدلة العقلية المشار إليها ليس خصوص القطعيين منهما،بل مطلق الحجة التي يصح الاعتماد عليها في مقام التخيير و المعذرية، بخلاف الأدلة الشرعية،فإن المأخوذ في أدلتها عنوان العلم أو اليقين الذي لا يكفي فيه قيام الحجة.

(5)يعني:و موضوعه عدم الحجة أيضا كسائر الأصول العقلية.ثم إن

ص: 15

كما سيتضح إن شاء اللّه (1) .

انحصار الأصول في أربعة

و اعلم:أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة الأصول المتضمنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي (2) و إن تضمنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا،و هي منحصرة في أربعة:(أصل البراءة)،و(أصل الاحتياط)، و(التخيير)،و(الاستصحاب)بناء على كونه ظاهريا ثبت التعبد به من الأخبار،إذ بناء على كونه مفيدا للظن يدخل في الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعي.

و أما الأصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع-كأصالة الصحة، و أصالة الوقوع فيما شك فيه بعد تجاوز المحل-فلا يقع الكلام فيها إلا الأصول الأربعة المشار إليها تختلف،فبعضها لا يكون إلا عقليا،و هو التخيير-كما ذكره المصنف قدس سره-و أصل الاحتياط الجاري في الشبهة المحصورة تحريمية أو وجوبية،و الجاري في الشك في الامتثال بعد إحراز التكليف في الشبهة الموضوعية.

و بعضها شرعي و عقلي،كأصل البراءة الذي يدل عليه مثل حديث الرفع،و قاعدة قبح العقاب بلا بيان.و بعضها شرعي لا غير،كالاستصحاب،و الاحتياط في الشبهة التحريمية البدوية عند الأخباريين.بناء على ما هو الظاهر من أن الدليل عليه أخبار التثليث و نحوها،و أن بقية الأدلة المذكورة من سنخ المؤيد.

(1)يأتي الكلام في ذلك في مبحث الدوران بين الوجوب و الحرمة.

(2)لأن همّ الأصولي البحث عن الكبريات التي يرجع إليها الفقيه في معرفة الوظيفة العملية في الشبهات الحكمية،لأن المسألة الأصولية هي التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية.و أما ما يرجع إليه في الشبهات الموضوعية فهو مما يبحث عنه الفقيه و يرجع إليه العامي في مقام العمل على طبق الحكم الشرعي، و لا يبحث عنه الأصولي إلا استطرادا.

ص: 16

لمناسبة يقتضيها المقام (1) .

ثم إن انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي (2) ،لأن حكم الشك إما أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه،و إما أن لا يكون،سواء لم يكن يقين سابق عليه (3) أم كان و لم يلحظ (4) ،و الأول هو مورد الاستصحاب،و الثاني إما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا، و الثاني مورد التخيير (5) ،و الأول إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت (1)كما يأتي في خاتمة مبحث الاستصحاب التعرض لبعضها،لتحقق المناسبة المذكورة،و يأتي في البحث عن الأصول الثلاثة الأخر التعرض لحكم الشبهة الموضوعية تبعا للمناسبة أيضا.

(2)تقدم في أول الكتاب الكلام في حصر مجاري الأصول بهذه الأربعة عقلا و ذكرنا هناك أنه لا فائدة من إطالة الكلام في مثل هذه المواضع،بل يوكل ذلك عند الكلام في مفاد أدلة الأصول حتى تتضح النسبة بينها في مقام العمل،و يتضح المتقدم منها من المتأخر،و المناسب هنا الاكتفاء بالإشارة الإجمالية لموضوعاتها.و عليه فلا موجب للنظر في تمامية ما ذكره قدس سره في المقام.

(3)كما لو جهلت الحالة السابقة.

(4)كما في مورد العلم بالحالة السابقة و عدم جواز الاعتماد عليها،مثل ما لو كان الشك قيل استكمال الفحص عن الأدلة،على ما يأتي في خاتمة أصل البراءة و الاشتغال.

(5)لازمه كون الدوران بين الوجوب و الحرمة و الإباحة من موارد التخيير، لعدم إمكان الاحتياط فيه.و هو في غير محله،بل بناء على مذهب الإخباريين من وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية دون الوجوبية يتجه وجوب الاحتياط فيه عندهم بالترك،و بناء على مذهب المجتهدين من عدم وجوب الاحتياط

ص: 17

العقاب بمخالفة الواقع المجهول و إما أن لا يدل،و الأول مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة.

و قد ظهر مما ذكرنا:أن موارد الأصول قد تتداخل،لأن المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة،و مدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها و إن كانت موجودة (1) .

ثم إن تمام الكلام في الأصول الأربعة يحصل بإشباعه في مقامين:

أحدهما:حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة، الراجع إلى الأصول الثلاثة (2) .

الثاني:حكمه بملاحظة الحالة السابقة و هو الاستصحاب.

مع الشك في التكليف مطلقا يتعين الرجوع فيه عندهم للبراءة.فهو ملحق بدوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب،و ليس المرجع فيه التخيير.

(1)هذا لا يقتضي التداخل،ضرورة أنه مع ملاحظة الحالة السابقة يجري الاستصحاب لا غير،و إلا يجري غيره دونه،و لا يتصور التداخل.إلا أن يكون المراد به تحقق موضوع أكثر من أصل واحد شأنا،و إن كان بعضها ملغيا فعلا،لعدم تحقق شرط العمل به.و تمام الكلام في ذلك يظهر عند الكلام في النسبة بين الأصول في خاتمة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

(2)و هي البراءة و التخيير و الاشتغال.

ص: 18

المقام الأوّل في البراءة و الاشتغال و التخيير

ص: 19

ص: 20

المقام الأول

[حكم الشك من دون ملاحظة الحالة السابقة]

أما المقام الأول فيقع الكلام فيه في موضعين:

لأن الشك إما في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الإلزام (1) و إن علم جنسه،كالتكليف المردد بين الوجوب و التحريم.

و إما في متعلق التكليف مع العلم بنفسه،كما إذا علم وجوب شيء و شك بين تعلقه (2) بالظهر و الجمعة،أو علم وجوب فائتة و تردد بين الظهر و المغرب.

الموضع الأول

اشارة

[الشك فى نفس التكليف]

و الموضع الأول يقع الكلام فيه في مطالب،لأن التكليف المشكوك (1)كخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة.

(2)يعني:تعلق الوجوب.

ص: 21

فيه إما تحريم مشتبه بغير الوجوب (1) ،و إما وجوب مشتبه بغير التحريم، و إما تحريم مشتبه بالوجوب،و صور الاشتباه كثيرة (2) .

و هذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام،أو اختصاص الخلاف في البراءة و الاحتياط به،و لو فرض شموله للمستحب و المكروه يظهر حالهما من الواجب و الحرام (3) ،فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثم إن متعلق التكليف المشكوك:

متعلق التكليف المشكوك إما فعل كلي أو فعل جزئي

إما أن يكون فعلا كليا متعلقا للحكم الشرعي الكلي،كشرب التتن المشكوك في حرمته،و الدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.

و إما أن يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئي،كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا (4) .

(1)و يلحق به التحريم المشتبه بالوجوب و غيره،كما في الدوران بين التحريم و الوجوب و الإباحة،على ذكرناه قريبا.

(2)إذ دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب قد يكون مع كون الاحتمال ثنائي الأطراف-كالاشتباه بين الحرمة و الاستحباب أو الحرمة و الكراهة-أو ثلاثي الأطراف-كالاشتباه بين الحرمة و الاستحباب و الإباحة-أو رباعي الأطراف، و كذا الدوران بين الوجوب و غير الحرمة.لكن لما لم يكن لاختلاف الصور المشار إليها أثر شمول الأدلة لها أو قصورها عنها،و لا في الخلاف و الوفاق،اكتفى بالصور الثلاث الجامعة لشتاتها التي تختلف فيما بينها من حيث الأدلة و الخلاف و الوفاق.

(3)و يأتي الكلام في ذلك في آخر الكلام في المطلب الثالث في الدوران بين وجوب شيء و حرمته.

(4)عرفت أن الكلام في الشبهة الموضوعية ليس من وظيفة الأصولي،بل

ص: 22

منشأ الشك في الشبهة الموضوعية و الحكمية

و منشأ الشك في القسم الثاني:اشتباه الأمور الخارجية.

و منشؤه في الأول:إما أن يكون عدم النص في المسألة،كمسألة شرب التتن،و إما أن يكون إجمال النص،كدوران الأمر في قوله تعالى:

حتى يطهرن بين التشديد و التخفيف مثلا،و إما أن يكون تعارض النصين،و منه الآية المذكورة (1) بناء على تواتر القراءات (2) .

و توضيح أحكام هذه الأقسام في ضمن مطالب:

الأول:دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية.

الثاني:دورانه بين الوجوب و غير التحريم.

الثالث:دورانه بين الوجوب و التحريم.

الفقيه،فالتعرض له هنا استطراد لمناسبة لمحل الكلام.

(1)و هي قوله تعالى: حتى يطهرن الذي قرئ بالتشديد و التخفيف.

(2)إذ عليه يكون كل منها دليلا مستقلا.

ص: 23

فالمطلب الأول

اشارة

فيما دار الأمر فيه بين الحرمة و غير الوجوب

و قد عرفت:أن متعلق الشك تارة:الواقعة الكلية كشرب التتن، و منشأ الشك فيه عدم النص،أو إجماله،أو تعارضه،و أخرى:الواقعة الجزئية

فهنا أربع مسائل:

ص: 24

الأولى:ما لا نص فيه
المسألة الأولى:الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص
اشارة

و قد اختلف فيه على ما يرجع إلى قولين:

أحدهما:إباحة الفعل شرعا و عدم وجوب الاحتياط بالترك.

و الثاني:وجوب الترك،و يعبر عنه بالاحتياط.

و الأول منسوب إلى المجتهدين،و الثاني إلى معظم الأخباريين.و ربما نسب إليهم أقوال أربعة (1) :التحريم ظاهرا،و التحريم واقعا،و التوقف، و الاحتياط.و لا يبعد أن يكون تغايرها باعتبار العنوان (2) ،و يحتمل الفرق بينها أو بين بعضها من وجوه أخر تأتي بعد ذكر أدلة الأخباريين (3) .

أدلة القول بالإباحة و عدم وجوب الاحتياط:

احتج للقول الأول بالأدلة الأربعة:

فمن الكتاب آيات:

(1)حكي عن الوحيد البهبهاني قدس سرّه أنه نسب إليهم الأقوال الأربعة المذكورة.

(2)يعني:تغاير العبارة التي يعبر بها كل فريق عن مذهبه من جهة اختلاف التعبير في النصوص المستدل بها على الدعوى،مع كون مراد الجميع واحدا لبا،كما ذكره بعض أعاظم المحشّين قدس سرّه.

(3)يأتي الكلام في ذلك في التنبيه الرابع.

ص: 25

الاستدلال بآية لا يكلف اللّه نفسا... و المناقشة فيه

منها:قوله تعالى: لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها .

قيل:دلالتها واضحة.

و فيه:أنها غير ظاهرة،فإن حقيقة الإيتاء الإعطاء،فإما أن يراد بالموصول المال-بقرينة قوله تعالى قبل ذلك: و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللّه -فالمعنى:أن اللّه سبحانه لا يكلف العبد إلا دفع ما أعطي من المال.

و إما أن يراد نفس فعل الشيء أو تركه-بقرينة إيقاع التكليف عليه-فإعطاؤه كناية عن الإقدار عليه،فتدل على نفي التكليف بغير المقدور-كما ذكره الطبرسي قدس سرّه-و هذا المعنى أظهر (1) و أشمل،لأن (1)لم يتضح وجه أظهريته،فإن التكليف و إن كان لا يتعلق بالمال إلا أنه يمكن حمل التكليف به على التكليف بإعطائه.و لعله من حمل الموصول على الفعل و تفسير الإيتاء بالإقدار مجازا،و لا سيما بملاحظة السياق.نعم من المرتكز أن عدم التكليف بإعطاء المال مع عدم إيتائه لعدم القدرة.لا لخصوصية فيه،كما هو المناسب لكون التعليل ارتكازيا،فيكون ذلك مستفادا بتنقيح المناط،لا من حاق اللفظ.

و إن قلت:ظاهر الآية الشريفة كون قوله تعالى: لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها مسوقا لتعليل قوله تعالى: و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللّه و المناسب كون التعليل أعم من الحكم المعلل،و مع حمله على المعنى الأول لا يكون كذلك.

قلت:الحكم المعلل ليس هو عدم وجوب الإنفاق مع عدم الوجدان مطلقا، بل عدم وجوب الإنفاق في المورد الخاص الذي اقتضاه سياق الآية،فيكون أخص من العلة مطلقا،و تكون العلة مسوقة لبيان امتناع التكليف المذكور.

ص: 26

الإنفاق من الميسور داخل في(ما آتاه اللّه).

و كيف كان:فمن المعلوم أن ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور (1) ،و إلا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين،و إن نازعت الأشاعرة في إمكانه.

نعم،لو اريد من الموصول نفس الحكم و التكليف،كان إيتاؤه عبارة عن الإعلام به.لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية،و إرادة الأعم منه و من المورد يستلزم استعمال الموصول في معنيين،إذ لا جامع بين تعلق التكليف بنفس الحكم و بالفعل المحكوم عليه (2) ،فافهم.

(1)خصوصا مع الالتفات إلى احتمال حرمته،كما هو محل الكلام،إذ الكلام في الشبهة التحريمية لا في الغفلة عن التحريم.

(2)لا يخفى أنه لا معنى لتعليق التكليف بنفس الحكم،لأنه عينه،فلو أريد من الموصول الحكم و التكليف فلا يكون مفعولا به،بل مفعولا مطلقا،نظير قولك لا أضرب زيدا إلا ما يطيق.و هذا بخلاف ما لو أريد من الموصول المال،فإنه يكون متعلقا للتكليف.و لو بلحاظ التكليف بدفعه،فيكون مفعولا به،فكان الأولى توجيه المحذور بأنه لا جامع بين كون الموصول مفعولا به و كونه مفعولا مطلقا،لاختلاف نحو النسبة فيهما،فيمتنع حمل الهيئة الكلامية التركيبية الواحدة عليهما معا.

اللهم إلا أن يقال:يمكن حمل النسبة الكلامية على نسبة المفعول المطلق، و يكون المراد بالموصول هو التكليف،فيشمل التكليف،بما لا يعلم و التكليف بالمال غير المقدور،فيرتفع المحذور.

فالعمدة:أن الإيتاء الواقع صلة للموصول إن أريد منه الإيصال اختص الموصول بالتكليف المجهول،و إن أريد منه الإقدار و الإعطاء اختص بالمال،فيراد عدم التكليف بإعطائه،و لا جامع بين الأمرين.

ص: 27

نعم،في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«قال:قلت له:هل كلف الناس بالمعرفة؟قال:لا،على اللّه البيان، لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ،و لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها .

لكنه لا ينفع في المطلب،لأن نفس المعرفة باللّه غير مقدور قبل تعريف اللّه سبحانه (1) ،فلا يحتاج دخولها في الآية إلى إرادة الإعلام من الإيتاء في الآية،و سيجيء زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء اللّه تعالى.

و مما ذكرنا يظهر حال التمسك بقوله تعالى: لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها (2) .

الاستدلال بآية و ما كنا معذبين...

و منها:قوله تعالى: و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

بناء على أن بعث الرسول كناية عن بيان التكليف (3) ، (1)فالمراد بالبيان هو بيان وجوب المعرفة،بل بيان ما يراد معرفته بنصب الأدلة الكافية و الأمور المنبهة عن الغفلة التي تيسر للناس المعرفة و تجعلها مقدورة حتى يصح التكليف بها،فمراد السائل أنه تعالى هل كلف بالمعرفة من دون أن ينصب الأدلة الكافية الموجبة لإمكانها؟لا أنه هل كلف بها من دون أن يبين وجوبها،ليكون مما نحن فيه،و يصلح لتفسير الآية بنحو يمكن الاحتجاج به للمقام.فإن المعنى المذكور مع بعده في نفسه لا يناسب الجواب.

(2)فإن التكليف بالاحتياط ليس خارجا عن وسع المكلف و قدرته،لتدل الآية على منعه.

(3)يعني:البيان الواصل للمكلف الذي هو الحجة الفعلية،لا الواقعي الذي من شأنه الوصول لو لا الموانع،الذي يجب على المولى من باب اللطف للحظ

ص: 28

لأنه يكون به غالبا،كما في قولك:«لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذن المؤذن»كناية عن دخول الوقت (1) ،أو عبارة (2) عن البيان النقلي-و يخصص العموم بغير المستقلات،أو يلتزم (3) بوجوب الملاكات الواقعية،إذ الحمل على البيان الواقعي لا ينفع فيما نحن فيه،لأن احتمال التكليف ملازم لاحتمال البيان الواقعي المذكور و لو للأوصياء و الحجج عليهم السّلام، و يحتمل اختفاؤه للأسباب الخارجية و لو مثل إقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه تعالى فيها.ثم إن الحمل على خصوص البيان الواصل هو المناسب لترتب العقاب عرفا و ارتكازا،فيتعين حمل الآية عليه.و أما البيان الواقعي فهو إنما يناسب الوظيفة الإلهية التي هي مقتضي الكمال و اللطف و الحكمة،و من البعيد أن تكون الآية بصدد ذلك.

(1)المناسب لما نحن فيه أن يكون كناية عن قيام الحجة على الوقت،لا عن دخول الوقت واقعا،كما أن بعث الرسول في الآية كناية عن بيان التكليف لا عن ثبوته واقعا.

(2)عطف على قوله:«كناية عن بيان التكليف».

(3)عطف على قوله:«و يخصص العموم...»و قد أشار بذلك إلى ما ربما يورد على حمل الآية على خصوص البيان النقلي من أن ذلك ينافي ما ذهب إليه العدلية من كفاية البيان العقلي في ثبوت التكليف الشرعي الراجع إلى دعوى الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع،و لا حاجة معه إلى بيان شرعي نقلي.

و حاصل الجواب:أنه إما يلتزم بتخصيص عموم الآية في نفي العقاب من غير بيان بغير المستقلات العقلية،أو يلتزم في المستقلات بوجوب تأييد العقل بالنقل بحيث لا يحسن العقاب إذا بقي الحكم العقلي وحده،فالحكم العقلي و إن كان صالحا لبيان التكليف،إلا أنه لا يكون بنفسه منشأ لاستحقاق العقاب.

هذا إذا قيل بأن مفاد الآية نفي استحقاق العقاب مع عدم البيان،أما إذا قيل

ص: 29

التأكيد (1) و عدم حسن العقاب إلا مع اللطف (2) بتأييد العقل بالنقل و إن حسن الذم،بناء على أن منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذم، كما صرح به البعض-و على أي تقدير فيدل على نفي العقاب قبل البيان.

و فيه:أن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث (3) ، بأن مفادها نفي فعليته و إن كان مستحقا-كما سيأتي الكلام فيه-فالأمر أظهر،إذ لا مانع حينئذ من الالتزام بحسن العقاب في المستقلات العقلية نظرا لكفاية حكم العقل في المنجزية،إلا أن العقاب لا يقع لطفا منه تعالى إلا بعد تأييد العقل بالنقل.

قال في مجمع البيان:«على أن المحققين منهم يقولون:إنه و إن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول،فإنه سبحانه لا يفعل ذلك مبالغة في الكرم و الفضل و الإحسان و الطول».

(1)يعني:في المستقلات العقلية.

(2)يعني:بعدم البيان النقلي الشرعي.

(3)يعني:فيكون المراد بها الإخبار عن قضية خارجية سابقة،و يكون المراد من العذاب هو العذاب الدنيوي بالاستئصال و نحوه.و لعل الوجه في الحمل على ذلك ظهور«كان»في المضي.لكن هذا خلاف ظاهر الآية الشريفة،فإن ظاهر هذا التركيب الإشارة إلى قضية لزومية استمرارية،كما في قوله تعالى: و ما كنت متخذ المضلين عضدا و قوله سبحانه: و ما كان اللّه ليعذبهم و أنت فيهم ،و ما كان اللّه معذبهم و هم يستغفرون و قوله عزّ و جل: ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ،ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ،و ما كان اللّه ليطلعكم على الغيب و قوله تعالى:

ما كان لكم أن تنبتوا شجرها إلى غير ذلك.

فإنه و إن كان مقتضى إطلاق(كان)الدلالة على المضي،إلا أنها قد تخرج عنه و يراد بها محض النسبة،كما في الأمثلة المذكورة و غيرهما مما سلط فيه النفي على«كان» و أريد من متعلقها الاستقبال كما في مدخول لام الجحود و أن المصدرية و متعلق

ص: 30

(حتى)الناصبة للمضارع-و منه المقام-فان ذلك يوجب تمحض(كان)للدلالة على النسبة،فيكون مقتضى تسليط النفي عليها نفي النسبة مطلقا،لا في خصوص الماضي.

نعم لو سلطت هي على النفي بقيت على ظهورها في قوله: انهم كانوا لا يرجون حسابا و قوله: بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ....إلى غير ذلك.

خصوص المضي،كما في قوله تعالى: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه و مثله لو قيل في المقام:و كنا لا نعذب حتى نبعث رسولا.على أن إرادة العذاب الأخروي هو المناسب لقرينة السياق.قال تعالى: و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا.اقرأ كتابك كفى بك اليوم عليك حسيبا،من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها،و لا تزر وازرة وزر أخرى و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا .

و دعوى:أن ظاهر الآية الأخيرة إرادة عذاب الاستئصال.

مدفوعة:بأن الظاهر كونها في مقام استئناف حكم جديد لا يرتبط بما سبق، و ليس متمما له.

و الحاصل:أن حمل الآية على إرادة مطلق العذاب أو خصوص الأخروي منه هو المطابق للظاهر.و لا سيما مع كون العذاب الأخروي هو المنصرف من لفظ العذاب على أنه لو سلم ظهورها في الإخبار عن حال الأمم السابقة،إلا أن المنسبق منها عدم ورودها لمحض الإخبار،بل لبيان جريان عقابه تعالى على طبق الموازين العقلائية المناسبة لمقام اللطف اللازم أو الراجح،فيدل بتنقيح المناط على توقف العذاب الأخروي أيضا على قيام الحجة.و لا سيما مع أولويته،بلحاظ شدة هوله، و تمحضه في الجزاء و عدم احتماله لغيره من الامتحان أو نحوه.

ص: 31

فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة.

ثم إنه ربما يورد التناقض (1) على من جمع (2) بين التمسك بالآية في و بالجملة:الظاهر أن الاستدلال بالآية لما نحن فيه في محله،كما يظهر من مجمع البيان و الكشاف،و لا مجال لما ذكره المصنف قدس سرّه و غير واحد من الأعاظم و بعض المفسرين.و اللّه سبحانه و تعالى العالم.

(1)المورد هو المحقق القمي قدس سرّه و حاصل المطلب:إنه استدل القائلون بعدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع بالآية الشريفة،من حيث أن مقتضي إطلاقها عدم ثبوت العقاب مع عدم البيان الشرعي حتى في المستقلات العقلية،كما سبقت الإشارة إليه.و عن الفاضل التوني قدس سرّه أنه ردهم بأن الآية تدل على نفي العقاب لا نفي استحقاقه،فلا مانع من ثبوت التكليف الشرعي في المستقلات و استحقاق العقاب بتبعه،و إن كان معفوا عنه مع عدم البيان الشرعي كما هو مقتضي إطلاق الآية.كما أنه قدس سرّه استدل بالآية الشريفة على البراءة في المقام.

فأورد عليه المحقق القمي قدس سرّه بلزوم التناقض،لأن نفي العقاب إن كان ملازما لنفي الاستحقاق و التكليف كانت الآية دليلا على نفي الملازمة،و لم يتجه منه رد الاستدلال بها بما سبق و ان لم يكن ملازما لنفي الاستحقاق و التكليف لم يصح له الاستدلال بها على البراءة لأن مرجع القول بالبراءة إلى نفي استحقاق العقاب،لا مجرد نفي فعليته.

و أجاب عنه في الفصول بأنه يكفي في الاستدلال بالآية على البراءة دلالتها على نفي فعلية العقاب و إن لم يثبت نفي الاستحقاق،لأن الاستدلال هنا في قبال الأخباريين،لعدم التزامهم بأن ارتكاب الحرام في مورد الشبهة ذنب موعود بالعفو عنه،و إنما يلتزمون بأنه كسائر الذنوب في معرض العقاب،كما هو مقتضي حديث التثليث و نحوه من أدلتهم،فتكفي الآية المتضمنة لنفي فعلية العقاب لردهم.

(2)و هو الفاضل التوني قدس سرّه كما عرفت.

ص: 32

المقام و بين رد من استدل بها لعدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع:

بأن (1) نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق،فإن الإخبار (2) بنفي التعذيب إن دل على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني (3) ،و إن لم يدل فلا وجه للأول (4) .

و يمكن دفعه (5) :بأن عدم الفعلية يكفي في هذا المقام،لأن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع في العقاب و الهلاك فعلا من حيث لا يعلم-كما هو مقتضى رواية التثليث و نحوها التي هي عمدة أدلتهم- و يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية،فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية (6) ،بخلاف مقام التكلم في الملازمة،فإن المقصود فيه إثبات الحكم الشرعي في مورد حكم العقل،و عدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته،كما في الظهار حيث قيل:إنه محرم معفو عنه،و كما في العزم على المعصية على احتمال.

(1)متعلق بقوله:«رد من استدل...»فهو بيان لوجه الرد.

(2)بيان لوجه ايراد المحقق القمي قدس سرّه على الفاضل التوني قدس سرّه بلزوم التناقض.

(3)و هو رد الاستدلال بالآية على عدم الملازمة،الذي تقدم من الفاضل التوني قدس سرّه.

(4)و هو الاستدلال بالآية على البراءة في المقام الذي تقدم من الفاضل التوني أيضا.

(5)إشارة إلى ما سبق من الفصول في الجواب عن إشكال التناقض.

(6)لاعتراف الأخباريين بأن مقتضي حكم العقل هو البراءة لو لا مثل حديث التثليث،كما سيأتي.

ص: 33

نعم،لو فرض هناك-أيضا-إجماع على أنه لو انتفت الفعلية انتفى الاستحقاق-كما يظهر من بعض ما فرعوا على تلك المسألة (1) -لجاز التمسك بها هناك (2) .

و الإنصاف:أن الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين (3) .

(1)قال بعض أعاظم المحشّين قدس سرّه:«كما يظهر من جعلهم ثمرة النزاع ترتب الثواب و العقاب على حكم العقل و عدمه،و زوال العدالة بمجرد المخالفة و الإصرار عليها و عدمه إلى غير ذلك.و استدلال النافين.بأن العقاب و الثواب إنما يترتبان على إطاعة الشارع و معصيته...».

(2)يعني:لجاز التمسك بنفي الفعلية-الذي هو مقتضى الآية الكريمة-على نفي الملازمة،و لا يتم ما أورده التوني قدس سرّه.

(3)يعني:لا على نفي الملازمة،و لا على أفعل البراءة.أما الأول فلأن الملازمة بين حكمي الشرع و العقل لا تقتضي استحقاق العقاب فضلا عن فعليته،لإمكان دعوى توقفهما على تأييد العقل بالنقل،كما سبق.فتأمل.

و دعوى:أنه مع عدم فعلية العقاب-فضلا عن عدم استحقاقه-لا تكون الملازمة موردا للأثر العملي،لعدم صلوح التكليف للداعوية مع فرض عدم العقاب،فلا غرض للفقيه.باستنباطه،كما لا غرض للاصولي في تنقيح القاعدة التي يتوصل بها إلى ذلك.مدفوعة بأنه يكفي في الأثر العملي عدم لزوم التشريع من نسبة الحكم للشارع في المستقلات العقلية لو فرض عدم البيان الشرعي.مع أنه بناء على الملازمة يتعين رد الأدلة النقلية لو دلت على خلاف الحكم العقلي،للعلم بكذبها حينئذ،بخلاف ما لو لم نقل بالملازمة،كما لا يخفى.

هذا كله بناء على أن الرسول في الآية كناية عن البيان النقلي،و أما بناء على أنه كناية عن مطلق البيان الواصل-كما سبق تقريبه-فالأمر أوضح.مع أن الملازمة لما كانت قطعية فلا مجال لردها باطلاق الآية و نحوه من الأدلة الظنية،لو كانت مناقبة

ص: 34

الاستدلال بآية و ما كان اللّه ليضل...

و منها:قوله تعالى: و ما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ،أي:ما يجتنبونه من الأفعال و التروك.

و ظاهرها:أنه تعالى لا يخذلهم (1) بعد هدايتهم إلى الإسلام إلا بعد ما لها بل يتعين رفع اليد عن عموم الآية و تقييدها بغير المستقلات،كما سبق أيضا.

نعم لو كانت الآية نصا في بطلان الملازمة أمكن دعوى كشفها عن خطأ دليلها،و أنه كالشبهة في مقابل البديهية و أما الثاني فواضح بناء على ما ذكره المصنف قدس سرّه من اختصاص الآية بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة.

لكن عرفت الإشكال في ذلك.فالاستدلال بها على البراءة في محله،من دون فرق بين دلالتها على نفي الاستحقاق و نفي الفعلية،لأن هم الأصولي من مسألتي البراءة و الاحتياط تنقيح الوظيفة العملية التابعة لخوف الضرر و الأمان منه،بسبب خوف العقاب و الأمان منه الذي يكفي فيه نفي الفعلية،حتى أن الأدلة المتضمنة لنفي الاستحقاق-كقاعدة قبح العقاب بلا بيان-لا تهم الأصولي إلا بلحاظ كونها مؤمنة من العقاب و كاشفة عن عدم فعليته،كما سيظهر من ملاحظة طرف استدلالاتهم في المقام.

و أما صحة النسبة و لزوم التشريع و نحوهما فلاتهم الأصولي و لا الفقيه في المقام،لعدم الفرق فيها بين القول بالبراءة و القول بالاحتياط،كما لا يخفى.

و منه يظهر أنه لا حاجة لما ذكره في الفصول في تقريب الاستدلال بالآية و دفع إشكال المحقق القمي قدس سرّه على الفاضل التوني قدس سرّه من أنها تكفي في مقابل الأخباريين المستدلين بمثل حديث التثليث،حيث يظهر منه أن الاستدلال بالآية جدلي لإلزام الخصم.فتأمل جيدا.

(1)هذا هو المنصرف بعد معلومية عدم إضلاله تعالى للناس إلاّ بخذلانهم و عدم توفيقهم،فيكون الخذلان من سنخ العقاب،فتوقفه على المخالفة بعد البيان ظاهر-بضميمة ظهور كون القضية ارتكازية-في عدم العقاب على مخالفة التكليف

ص: 35

يبين لهم (1) .

و عن الكافي و تفسير العياشي و كتاب التوحيد:«حتى يعرفهم ما يرضيه و ما يسخطه».

و فيه:ما تقدم في الآية السابقة (2) .مع أن دلالتها أضعف،من حيث الذي لم يبين.

لكن هذا لا يوجب إلا الاشعار،لعدم قرينة من الكلام على كون الخذلان من سنخ العقاب،بل لعل المراد أن الخذلان بما هو أمر تكويني خاص لا يقع إلا بعد البيان.مع عدم القرينة على الاشارة للقضية الارتكازية التي لا يفرق فيها بين الخذلان و غيره من أنواع العقاب.و سيأتي تمام الكلام في ذلك.

(1)الاستدلال موقوف-بالاضافة إلى ما سبق-على كون المراد من البيان وصول التشريع بعد ثبوته،كما هو الظاهر،و يقتضيه ما في مجمع البيان من أنه قيل:

أنها نزلت فيمن مات بعد نسخ بعض الشرائع قبل أن يعمل عليها لجهله و عدم وصول النسخ له.

و أما دعوى:أن المراد به نفس التشريع،كما قد يقتضيه ما في المجمع أيضا من أنه قيل إنها نزلت فيمن مات قبل التشريع،و حينئذ فهي أجنبية عما نحن فيه، لاحتمال التشريع في المقام،فالتمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام الذي لا إشكال في بطلانه.فمندفعة بأن ذلك خلاف ظاهر قوله:«حتى يبين لهم...»جدا.و لا سيما مع عدم مناسبته لترتيب العقاب عرفا و لا ارتكازا،كما أشرنا إليه في تقريب الاستدلال بالآية الثانية.

(2)يعني:من كونها من مقام الإخبار عن حال الأمم السابقة.و كأنه ناش من ظهور(كان)في إرادة الزمان الماضي كما سبق.لكن سبق هناك أن ذلك خلاف الظاهر جدا في أمثال هذه التراكيب،و إن(كان)بعد النفي ظاهرة في التجرد عن خصوصية الزمان الماضي،و تمحضها في النسبة.خصوصا في مثل الآية مما اشتمل

ص: 36

إن توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب (1) ،اللهم إلا بالفحوى.

الاستدلال بآية ليهلك من هلك... و المناقشة فيه

و منها:قوله تعالى: ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة.

و في دلالتها تأمل ظاهر (2) .

على لام الجحود،إذ قد يدعى ظهور لام الجحود في الامتناع،فذكر كان لبيان سبق الامتناع،لا لبيان نفي الوقوع في الزمان خصوص الماضي،فالنفي و إن كان مستقلا، إلا أن الامتناع سابق.

و لعله يرجع إليه ما عن البصريين من تقدير الإرادة،و أن معنى ما كان زيد ليقوم،ما كان زيد مريدا ليقوم.ان كان الظاهر أن الوجه الأول هو العمدة في المقام و غيره.

(1)لما أشرنا إليه من أن الخذلان لو كان من سنخ العقاب فالقضية لا تقتضي العموم لكل عقاب إلا بنحو الإشعار.و أما دعوى الدلالة بالفحوى فهى و إن كانت قرينة إلاّ أنّها لم تبلغ حد الظهور هذا كله بناء على أن المراد من الإضلال الخذلان الذي عرفت أنه المنصرف.

لكن لم يذكره في مجمع البيان،بل ذكر معنيين آخرين:

الأول:إن المراد الحكم بضلالهم،و هو ظاهر في أن الضلال لا يكون إلا بالمخالفة بعد البيان،فيدل على عدم استحقاق العقاب مع عدمه.

الثاني:إن المراد الضلال عن الثواب و الجنة،و هو ظاهر في عدم فعلية العقاب مع عدم البيان،و قد عرفت عند الكلام في الآية الأولى أن ذلك كاف في المقام.نعم لا قرينة على تعيين أحد هذين المعنيين.

(2)فإن غاية ما تدل عليه أن الفرض عن الفعل الخاص-و هو جمع المسلمين مع الكفار في بدر،كما يقتضيه سياق الآية على ما يتضح بملاحظة مجمع البيان-قيام

ص: 37

و يرد على الكل:أن غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلف لو فرض وجوده واقعا،فلا ينافي ورود الدليل العام على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم،و معلوم أن القائل بالاحتياط و وجوب الاجتناب لا يقول به إلا عن دليل علمي،و هذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل،بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه (1) ،كما لا يخفى.

البينة،و هو لا يدل على توقف العقاب على البينة،خصوصا بعد معلومية أن المراد بالبينة هنا زيادة البيان و تأكيد الحجة،لسبق قيام الحجة قبل ذلك قطعا،لما ظهر من دلائل صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم:بنحو كاف في قيام الحجة على صدقه و من الظاهر أن العقاب لا يتوقف على زيادة البيان و لا على تأكيد الحجة،فهي أجنبية عما نحن فيه.

(1)كأنه من جهة أن دليل الاحتياط لما كان علميا كان رافعا لموضوع الآيات و نحوها مما دل على عدم العقاب مع الجهل.

أقول:دليل وجوب الاحتياط إنما يكون علميا بالاضافة إلى وجوب الاحتياط،لا بالإضافة إلى الواقع المجهول،فهو و إن كان منجزا للواقع لا يكون بيانا له،و من الظاهر أن وجوب الاحتياط لما كان طريقيا راجعا إلى تنجز الواقع فدليله يقتضي العقاب على الواقع في ظرف الجهل به،لا على الاحتياط المعلوم وجوبه.

و حينئذ فأدلة البراءة إن اقتضت توقف العقاب و المؤاخذة بالواقع على العلم به -كما في مثل حديث الرفع-كانت معارضة لأدلة الاحتياط لا محكومة و لا مورودة لها.و إن اقتضت توقف العقاب على تنجيز الواقع من قبل الشارع و إن بقي مجهولا كانت محكومة،بل مورودة لأدلة الاحتياط.و الظاهر أن أكثر الآيات من القسم الثاني،إذ مع بيان وجوب الاحتياط بصدق بعث الرسول و الهلاك عن بينة و نحوهما مما تضمنته الآيات،إذ لا تختص وظيفة الرسول بيان الحكم الواقعي،و كذا إقامة البينة،و لا ظهور لها في لزوم بيان الرسول لخصوص التكليف الواقعي الذي هو

ص: 38

الاستدلال بآية قل لا أجد...

و منها:قوله تعالى مخاطبا لنبيه:،ملقنا إياه طريق الرد على اليهود (1) حيث حرموا بعض ما رزقهم اللّه افتراء عليه: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا .

فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرموه في جملة المحرمات التي أوحى اللّه إليه،و عدم وجدانه:ذلك فيما أوحي إليه و إن كان دليلا قطعيا على عدم الوجود،إلا أن في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة.

لكن الإنصاف:أن غاية الأمر أن يكون في العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب،و أما الدلالة فلا،و لذا قال في الوافية:و في الآية إشعار بأن إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع.

موضوع العقاب،و لا لزوم قيام البينة عليه،فمفادها مطابق لحكم العقل،الذي يأتي أنه يختص بفقد البيان الواقعي و الظاهري معا،و يكفي في رفعه بيان وجوب الاحتياط بأدلته.

نعم الآية الثالثة بناء على تفسيرها في الكافي و غيره تكون من القسم الأول، فتعارض أدلة الاحتياط.و إن كان لا يبعد تقديم أدلة الاحتياط-لو تمت في أنفسها- على الآية جمعا عرفيا،لكونها أخص،لاختصاصها بالشبهة-مطلقا أو خصوص التحريمية منها-و عموم الآيات لمطلق الجهل و لو مع الغفلة.بل لما كانت الشبهة أمرا زائدا على الجهل كانت من سنخ العنوان الثانوي الذي يكون لدليله نحو حكومة على دليل العنوان الأولي.

(1)لم يتضح من الآية الشريفة رد اليهود،بل ظاهرها رد الجاهلية،بقرينة السياق فراجع مجمع البيان.

ص: 39

مع أنه لو سلم دلالتها،فغاية مدلولها كون عدم وجدان التحريم فيما صدر عن اللّه تعالى من الأحكام يوجب عدم التحريم،لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من أحكام اللّه تعالى بعد العلم باختفاء كثير منها عنا (2) ، و سيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالإجماع العملي على هذا المطلب.

الاستدلال بآية و ما لكم أن لا تأكلوا...

و منها:قوله تعالى: و ما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه و قد فصل لكم ما حرم عليكم .

يعني مع خلو ما فصل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

و لعل هذه الآية أظهر من سابقتها،لأن السابقة دلت على أنه لا يجوز الحكم (3) بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى اللّه سبحانه إلى النبي:،و هذه تدل على أنه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما (2)لكن العلم بالاختفاء يوجب الشك بعد الفحص و عدم الوجدان،فإذا فرض دلالة الآية على أن الجهل و عدم الوجدان كاف في الحكم بالإجابة كانت دالة على البراءة معه.و لو اختصت بما إذا لم يختف شيء من الأحكام كان عدم الوجدان موجبا للعلم بعدم التكليف،كعدم وجدان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم،و رجع هذا إلى الإشكال في أصل الدلالة الذي أشار قدس سرّه إليه في بيان كيفية الاستدلال،و لم يجتمع مع التنزل و التسليم المفروضين في كلامه.

(3)لا يظهر من الآية السابقة كونها في مقام النهي عن الحكم بالتحريم عن محض الاجتناب.نعم لا يبعد ظهور سياقها في ذلك،بلحاظ ظهورها في الرد على أهل الجاهلية،حيث حرموا بعض ما أحل اللّه تعالى،و إن كان المنصرف من النهي عن الحكم بالتحريم كونه واردا في مقام الحث على الأكل و استنكار التوقف عنه أيضا فتنفع في المقام.فتأمل.

ص: 40

فصل و إن لم يحكم بحرمته،فيبطل وجوب الاحتياط أيضا.

إلا أن دلالتها موهونة من جهة أخرى،و هي:أن ظاهر الموصول (1) العموم،فالتوبيخ على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية و عدم كون المتروك منها،و لا ريب أن اللازم من ذلك،العلم بعدم كون المتروك محرما واقعيا،فالتوبيخ في محله.

عدم نهوض الآيات المذكورة لإبطال وجوب الاحتياط

و الإنصاف ما ذكرنا (2) :من أن الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط،لأن غاية مدلول الدال منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل،و هذا مما لا نزاع فيه لأحد،و إنما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه،فاللازم على منكره رد ذلك الدليل أو معارضته بما يدل على الرخصة و عدم وجوب الاحتياط في ما لا نص فيه،و أما الآيات المذكورة فهي-كبعض الأخبار الآتية-لا تنهض لذلك،ضرورة أنه إذا فرض أنه ورد بطريق معتبر في نفسه أنه يجب الاحتياط في كل ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة،لم يكن يعارضه شيء من الآيات المذكورة.

(1)يعني:في قوله تعالى: و قد فصل لكم ما حرم فإنه ظاهر و صريح في أنه فصل جميع المحرمات لا بعضها،بل لعله لا يصدق التفصيل مع بيان البعض.

(2)يعني:عند الكلام في الآية الرابعة.و قد عرفت ما ينبغي أن يقال.كما أن الظاهر أن الآيتين الاخيرتين-لو تمت دلالتهما في نفسيهما-من سنخ المعارض لادلة الاحتياط.

ص: 41

الاستدلال على البراءة بالسنّة:

و أما السنة:

فيذكر منها في المقام أخبار كثيرة:

الاستدلال بحديث(الرفع)42

منها:المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم:بسند صحيح في الخصال،كما عن التوحيد:«رفع عن امتي تسعة:الخطأ،و النسيان،و ما استكرهوا عليه، و ما لا يعلمون،و ما لا يطيقون،و ما اضطروا إليه...الخبر».

فإن حرمة شرب التتن-مثلا-مما لا يعلمون،فهي مرفوعة عنهم،و معنى رفعها-كرفع الخطأ و النسيان-رفع آثارها أو خصوص المؤاخذة (1) ،فهو نظير قوله عليه السّلام:«ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

و يمكن أن يورد عليه:بأن الظاهر من الموصول في«ما لا يعلمون» -بقرينة أخواتها (2) -هو الموضوع،أعني فعل المكلف الغير المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل و غير ذلك من الشبهات الموضوعية،فلا يشمل الحكم الغير المعلوم (3) .

(1)على ما سيأتي الكلام فيه،و على كلا التقديرين ينفع فيما نحن فيه.

(2)و هي العناوين الواردة على الموصولات،أعني:ما استكرهوا عليه، و ما لا يطيقون و ما اضطروا إليه،دون الخطأ و النسيان،إذا كما يمكن إرادة تعلقهما بعناوين الموضوعات،كذلك يمكن تعلقهما بالأحكام الشرعية،كما لا يخفى.

(3)لكن من الظاهر أن تعلق الاضطرار و عدم الطاقة بالموضوع ليس كتعلق الجهل و عدم العلم به،فإن تعلق الأولين بالموضوع من حيث هو بذاته من دون دخل للعنوان أصلا،بخلاف الجهل،فإنه إنما يتعلق به من حيث عنوان خاص من عناوينه،كالوجود و الحمرة و الخمرية و الإسكار و الحرمة و نحو ذلك،لأنه كالعلم

ص: 42

مع أن تقدير المؤاخذة (1) في الرواية لا يلائم عموم الموصول للموضوع و الحكم،لأن المقدر المؤاخذة على نفس هذه المذكورات،و لا لا يتعلق إلا بمفاد قضية،فمرجع الجهل بالموضوع إلى الجهل بخمريته أو حرمته أو إسكاره أو نحوها.

و حينئذ فاللازم ملاحظة العنوان المناسب للرفع في المقام،و هو خصوص عنوان الحرمة او التكليف أو نحوهما،لأنها هي منشأ الثقل و الكلفة و المناسبة لعموم القضية،دون مثل عنوان الخمرية لأنه عنوان خاص لا رجحان له على غيره، و تقدير جميع العناوين لا يخلو عن تكلف،يغني عنه تقدير عنوان التكليف.مع أن مناسبته مثل الخمرية للرفع إنما بلحاظ ملازمتها للتكليف،لا لنفسها،فتقدير عنوان التكليف أنسب و أشمل.و حينئذ يكون شاملا للشبهة الحكمية إذ كما يصدق مجهول الحرمة على السائل الخاص المحتمل الخمرية،كذلك يصدق على الكلي،كالتتن و لحم الأرنب،بل على أفراده الجزئية أيضا،و إن اختلف منشأ الشك هنا عنه في مثل حسية محتمل الخمرية،فهو هنا ناش عن اشتباه الحكم الشرعي و هناك عن اشتباه الأمر الخارجي،إلا أن اختلاف السبب لا يوجب اختلاف جهة الصدق.

هذا مع قرب دعوى:أن المراد بالموصول هو خصوص الحكم خروجا عن مقتضي السياق المدعي،لما عرفت من الإشكال في السياق بأن تعلق الجهل بالموضوع ليس كتعلق الاضطرار به مثلا،فالحمل عليه ليس مقتضى السياق،بل ليس المراد بالموصول إلا الحكم،لأنه الذي يصح أن يسند إليه العلم و الجهل عرفا-و إن كان تعلقهما حقيقة بمفاد القضية،كما عرفت-و لا سيما مع كونه مقتضى اسناد الرفع،فإن الرفع حقيقة يتعلق بالأحكام،و تعلقه بالموضوعات ليس حقيقيا قطعا إلا بعناية ملاحظة شيء قابل له متعلق بها،كالآثار أو المؤاخذة و نحوها،كما لا يخفى.فتأمل جيدا.

(1)يعني:بناء على أن المقدر هو خصوص المؤاخذة،كما سيأتي الكلام فيه.

ص: 43

معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة (1) .

نعم،هي من آثارها (2) ،فلو جعل المقدر في كل من هذه التسعة ما هو المناسب من أثره،أمكن أن يقال:إن أثر حرمة شرب التتن-مثلا- المؤاخذة على فعله،فهي مرفوعة عنهم.

لكن الظاهر-بناء على تقدير المؤاخذة-نسبة المؤاخذة إلى نفس المذكورات (3) .

(1)هذا-لو تم-إنما يمنع من كون المراد بالموصول الحكم،إذ لا معنى للمؤاخذة عليه،و لا يمنع من كون المراد به الموضوع من حيثية كونه ذا حكم -كما ذكرناه أولا،و ذكرنا أنه يشمل الشبهة الحكمية أيضا-ضرورة أنه حينئذ يمكن إضمار المؤاخذة،كما في بقية الفقرات،فالمراد رفع المؤاخذة على ما لم يعلم حرمته، كرفعها على ما يضطر إليه.

مع أنه إنما يتم لو كانت إرادة المؤاخذة لنحو تستلزم إضمارها،و هو خلاف الظاهر لتوقفه على عناية خاصة لا تناسب مساق الكلام،بل الظاهر أن إرادتها-لو تمت-بنحو يصحح نسبة الرفع إلى هذه الامور،نظير العلاقة المجازية المصححة للإطلاق،فالمرفوع هذه الأمور بنفسها بلحاظ عدم ترتب المؤاخذة المسببة عنها.

و حينئذ لا يفرق بين إرادة الموضوع و الحكم من الموصولات،إذ كما يكون الموضوع علة للمؤاخذة بارتكابه،كذلك التكليف علة لها بمخالفته.

(2)يعني:المؤاخذة من آثار الحرمة.

(3)يعني:بنحو يكون المقدر هو المؤاخذة عليها،و ذلك إنما يصدق في الموضوعات دون الأحكام،لعدم المؤاخذة عليها،و إن كانت المؤاخذة بسببها.لكن هذا-مع ابتنائه على تقدير خصوص المؤاخذة لا الأثر المناسب فلا وجه لاستدراكه من قوله:«نعم،هي...»-مدفوع بما عرفت من الوجهين السابقين.

ص: 44

و الحاصل:أن المقدر في الرواية-باعتبار دلالة الاقتضاء (1) -يحتمل أن يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة،و هو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي (2) .

و أن يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه.

و أن يقدر المؤاخذة في الكل،و هذا أقرب عرفا من الأول (3) و أظهر من الثاني أيضا،لأن الظاهر (4) أن نسبة الرفع إلى مجموع التسعة (1)يعني:بلحاظ عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي،إذ لا معنى لرفع ما اضطروا إليه أو الخطأ أو نحوها،مع أنها أمور تكوينية لا تقبل الرفع الشرعي،فلا بد من تقدير شيء يصح رفعه.لكن عرفت أنه لا موجب للتقدير و الإضمار،بل يمكن إسناد الرفع إلى هذه الأمور بأنفسها،و يكون رفع المؤاخذة عليها مصححا للإسناد و النسبة،و حينئذ يمكن حمل«ما لا يعلمون»على إرادة الحكم،من دون حاجة إلى إرادة شيء مصحح للرفع،لإمكان رفعه بنفسه ظاهرا،فلا يكون احتماله منجزا و لا يترتب عليه العمل،فيكون الرفع بالإضافة إليه حقيقيا لا ادعائيا،و إن كان ظاهريا، و بالإضافة إلى غيره ادعائيا،لأن المراد به الموضوع الذي لا يقبل الرفع إلا ادعاء بلحاظ أثره من المؤاخذة أو غيرها.

(2)لما هو ظاهر من أن آثار الشيء من مظاهر وجوده فعدم ترتبها جميعها أقرب إلى عدمه من ترتب بعضها.

(3)لم يتضح الوجه فيه مع ما ذكره من أقربية المعنى الأول للمعنى الحقيقي.

(4)هذا إنما يصلح وجها لكيفية تقدير المؤاخذة و نحو نسبتها إلى الأمور المذكورة-كما تقدم و تقدم الكلام فيه-و لا يصلح وجها لتعيين تقدير المؤاخذة من بين غيرها من الآثار،كما هو المدعى.فالأولى تعليل ذلك بأن المؤاخذة هي الأثر

ص: 45

على نسق واحد،فإذا أريد من«الخطأ»و«النسيان»و«ما اكرهوا عليه» و«ما اضطروا»المؤاخذة على أنفسها،كان الظاهر في«ما لا يعلمون»ذلك أيضا.

ظاهر بعض الأخبار أن المرفوع جميع الآثار و الجواب عنه 46

نعم،يظهر من بعض الأخبار الصحيحة:عدم اختصاص المرفوع عن الأمة بخصوص المؤاخذة،فعن المحاسن،عن أبيه،عن صفوان بن يحيى و البزنطي جميعا،عن أبي الحسن عليه السّلام:

«في الرجل يستكره على اليمين فحلف بالطلاق و العتاق و صدقة الظاهر غالبا،فيبتني تقديرها على الوجه الثاني،و ليست هي في مقابله و أظهر منه، كما ذكره قدس سرّه كما لا يبقي مجال لقوله:«لان الظاهر أن نسبة الرفع..»فإنه يبتني على تقدير المؤاخذة بخصوصيتها،لا بما أنها الأثر الظاهر،أما لو قدرت بما أنها الأثر الظاهر فيصح نسبتها للحكم أيضا لأنها الأثر الظاهر له.مع أن ذلك لا يتأتى فيما لو فرض للفعل أثر ظاهر غير المؤاخذة،إما لعدم المؤاخذة عليه بذاته فينحصر الأثر الظاهر بغيرها أو لكونهما معا من الآثار الظاهرة للشيء،حيث لا موجب لتعيين المؤاخذة.

و الحاصل:أن الأمر دائر بين تقدير جميع الآثار،و خصوص الأثر الظاهر، و الأول هو الأنسب بإطلاق الرفع،فيكون هو المتعين.نعم لما لم يكن الرفع عبارة عن مجرد الإعدام و النفي،بل المنصرف منه إرادة التخفيف و التوسعة،و لذا كان الحديث واردا مورد الامتنان،فلا بد من تخصيص الآثار المرفوعة بخصوص ما كان فيه نحو من الثقل و الكلفة و الضيق.كالحرمة التكليفية المستتبعة للعقاب و اللزوم في العقد و الإيقاع و الإلزام في الاقرار و نحو ذلك،و لم يشمل الآثار الاخرى غير المبنية على ذلك،كما لا يشمل الآثار التي يكون رفعها،منافيا للامتنان في حق الشخص أو الغير كما سيأتي من المصنف قدس سرّه.

ص: 46

ما يملك،أ يلزمه ذلك؟فقال عليه السّلام:لا،قال رسول اللّه:رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه،و ما لا يطيقون،و ما أخطئوا...الخبر».

فإن الحلف بالطلاق و العتاق و الصدقة و إن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا،إلا أن استشهاد الإمام عليه السّلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع،شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة (1) .

لكن النبوي المحكي في كلام الإمام عليه السّلام مختص بثلاثة من التسعة، فلعل نفي جميع الآثار مختص بها،فتأمل (2) .

مما يؤيد إرادة العموم 47

و مما يؤيد إرادة العموم:ظهور كون رفع كل واحد من التسعة من خواص أمة النبي:،إذ لو اختص الرفع بالمؤاخذة أشكل الأمر في كثير من تلك الأمور،من حيث إن العقل مستقل بقبح المؤاخذة عليها،فلا اختصاص له بأمة النبي:على ما يظهر من الرواية (3) .

و القول بأن الاختصاص باعتبار رفع المجموع و إن لم يكن رفع كل (1)يعني:فالاستدلال بالكبرى المستفادة من النبوي الشريف و إن كان لا يحتاج إليه،إلا انه يكشف عن أن الكبرى المذكورة لا تختص برفع المؤاخذة.و هذا مؤيد لما ذكرناه في معنى الحديث.

(2)لعله إشارة إلى بعد ذلك مع وحدة اللسان و التعبير في الحديثين.

(3)يعني:بها النبوي.لأن التعبير فيه بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم:«عن أمتي»ظاهر في تميز الأمة بذلك،لكن في بلوغ ذلك حد الظهور إشكال و لا بأس بدعوى الإشعار.

فلعل الأولى تأييده بوجه آخر،و هو أن ظاهر الحديث الشريف كون رفع هذه الأمور مما يتوقف على رفع الشارع و امتنانه،و ذلك ينافي كون رفعها لازما بحكم العقل.

ص: 47

واحد من الخواص،شطط من الكلام (1) .

لكن الذي يهون الأمر في الرواية:جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا،فإن موارد الإشكال فيها-و هي الخطأ و النسيان و ما لا يطاق و ما اضطروا إليه-هي بعينها ما استوهبها النبي-من ربه جل ذكره ليلة المعراج،على ما حكاه اللّه تعالى عنه:في القرآن بقوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا،ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا،ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

و الذي يحسم أصل الإشكال:منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الامور بقول مطلق،فإن الخطأ و النسيان الصادرين من ترك التحفظ لا يقبح المؤاخذة عليهما،و كذا المؤاخذة على ما لا يعلمون مع إمكان الاحتياط،و كذا التكليف الشاق (2) الناشئ عن اختيار المكلف (3) .

و المراد ب(ما لا يطاق)في الرواية هو ما لا يتحمل في العادة،لا ما لا يقدر (1)لظهور الحديث في كون كل منها موردا للامتنان على هذه الأمة المرحومة، و ليس الامتنان منوطا بالمجموع من حيث هو مجموع.لكن هذا يبتني على ذكرناه في وجه التأييد،أما بناء على ما ذكره المصنف قدس سرّه فلا دافع لهذا الاحتمال،إذ لا مانع من كون المختص بهذه الأمة هو رفع التسعة بمجموعها لا رفع كل واحد منها.فتأمل جيدا.

(2)المستفاد رفعه برفع ما لا يطاق،فإن الظاهر أن المراد بالطاقة هنا الوسع و القدرة،كما سيذكره المصنف قدس سرّه.

(3)بل مطلقا،فإنه لا قبح في التكليف بالأمور الشاقة أصلا،و ليس رفعه، إلا تفضل من الشارع الأقدس و ليس هو كالتكليف بغير المقدور.

ص: 48

عليه أصلا كالطيران في الهواء.و أما في الآية فلا يبعد أن يراد به العذاب و العقوبة (1) ،فمعنى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به: لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة.

و بالجملة:فتأييد إرادة رفع جميع الآثار بلزوم الإشكال على تقدير الاختصاص برفع المؤاخذة ضعيف جدا.

و أضعف منه:وهن إرادة العموم بلزوم كثرة الإضمار،و قلة الإضمار أولى (2) .و هو كما ترى (3) و إن ذكره بعض الفحول،و لعله أراد بذلك أن المتيقن رفع المؤاخذة،و رفع ما عداه يحتاج إلى دليل (4) .

(1)و يمكن أن يراد به الابتلاء الدنيوي،أو التكاليف الشاقة،كما حدث في الأمم السابقة،كما أشار إليه قوله تعالى: و يضع عنهم اصرهم و الأغلال التي كانت عليهم .

(2)يعني:إنه كما استدل على إرادة رفع جميع الآثار بما سبق،كذلك استدل على عدم إرادته بأن الحمل على عموم الرفع لجميع الآثار مستلزم لكثرة الإضمار، بخلاف الحمل على خصوص المؤاخذة.فإنه لا يستلزم إلا إضمار المؤاخذة وحدها، و قلة الإضمار أولى من كثرته.

(3)لأنه لا يلزم من إرادة جميع الآثار إضمار كل منها،بل إضمار أمر واحد عام يشملها فلا يلزم إلا عموم المضمر لا كثرته،و ليس فيه مخالفة للأصل.بل لعله أقرب عرفا لو فرض عدم الترجيح لبعض الآثار.

هذا بناء على ابتناء المقام على الإضمار،و قد عرفت إمكان الاستغناء عنه بأن يكون الأثر الملحوظ رفعه مصححا لإسناد الرفع إلى ذي الأثر،لا أنه مضمر و مقدر بنفسه و حينئذ لا موضوع لهذا الترجيح.

(4)و مع عدمه يرجع إلى أصالة عدم رفعه،لا إلى أصالة عدم إضماره.

ص: 49

و فيه:أنه إنما يحسن الرجوع إليه بعد الاعتراف بإجمال الرواية،لا لإثبات ظهورها في رفع المؤاخذة.

إلا أن يراد إثبات ظهورها،من حيث إن حملها على خصوص المؤاخذة يوجب عدم التخصيص في عموم الأدلة المثبتة لآثار تلك الأمور، و حملها على العموم يوجب التخصيص فيها،فعموم تلك الأدلة مبين لتلك الرواية،فإن المخصص إذا كان مجملا من جهة تردده بين ما يوجب كثرة الخارج و بين ما يوجب قلته،كان عموم العام بالنسبة إلى التخصيص المشكوك فيه مبينا لإجماله (1) ،فتأمل.

و أضعف من الوهن المذكور:وهن العموم بلزوم تخصيص كثير من الآثار بل أكثرها،حيث إنها لا ترتفع بالخطإ و النسيان و أخواتهما.و هو ناش عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقه.

ليس المراد رفع الآثار المترتبة على هذه العناوين 50

فاعلم:أنه إذا بنينا على رفع عموم الآثار (2) ،فليس المراد بها الآثار (1)فإن مقتضى أصالة عموم العام في مورد الشك في انطباق عنوان المخصص إرادته من الدليل العام و بضميمة العلم بعدم إرادة مورد الخاص من الدليل العام يستكشف عدم كونه مرادا من الخاص و قصور الخاص عنه،فيكون بيانا للخاص المفروض إجماله.لكن الانصاف أن هذا لا يكفي في كون العام بيانا للخاص عرفا، فإن أصالة العموم و إن كانت موجبة للظن النوعي فهي من سنخ الأمارات،إلا أنها لا تصلح لبيان حال الخاص،لعدم تعرضها له بوجه،فالعام و الخاص كالأصل مع الدليل،فكما أن جريان الأصل في مورد لا يصلح لشرح حال الدليل المجمل،كذلك العام لا يصلح لشرح الخاص المجمل.فتأمل جيدا.

(2)لا يخفى أن ظاهر الحديث أن العناوين المذكورة من سنخ الرافع للأثر،

ص: 50

المترتبة على هذه العنوانات من حيث هي،إذ لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ و السهو من حيث هذين العنوانين،كوجوب الكفارة المترتب على قتل الخطأ (1) ،و وجوب سجدتي السهو المترتب على نسيان بعض الأجزاء.

فلا بد من فرض تحقق المقتضي لثبوت الأثر في نفسه،كى يكون طروء أحد العناوين رافعا لتأثيره و مانعا من فعليته.فلو فرض أن المقتضي للأثر هو أحد العناوين المذكورة أو كان شرطا في تأثير مقتضيه لم يقتض الحديث رفع ذلك الأثر،لعدم المقتضي له لولاه،بل يمتنع ارتفاع مثل ذلك به،لاستحالة كون الشيء رافعا لما يقتضيه كما أنه لو فرض قصور المقتضي للأثر عن حالة وجود أحد العناوين بأن أخذ العمد مثلا في موضوع الأثر،فمع الخطأ و إن كان لا يترتب الأثر،إلا أنه ليس لكون الخطأ رافعا،بل لعدم المقتضي للأثر المذكور،فلا يكون الحديث شاملا له.و كأن ما ذكره المصنف قدس سرّه راجع إلى ذلك.

(1)لما كانت الكفارة تثبت مع قتل العمد أيضا امتنع كون الخطأ شرطا في تمامية المقتضي أيضا،إذ لا معنى لكون كل من العمد و الخطأ شرطا بعد عدم خلوّ الأمر عن أحدهما،كما يمتنع أن يكون الخطأ بنفسه هو تمام المقتضي،لوضوح أن القتل هو سبب الكفارة،و هذا بخلاف سجود السهو،فانه لما كان مختصا بحال السهو أمكن كون السهو تمام المقتضي أو شرطا له،و حينئذ لا بد من الالتزام بأن القتل هو العلة التامة للكفارة،و أن الخطأ لا يصلح لرفعها.فيكون هذا من موارد تخصيص الحديث الشريف،و ليس كسجود السهو.

نعم لما كانت كفارة الخطأ مرتبة و كفارة العمد كفارة الجمع فما ذكرنا يتم بالإضافة إلى القدر المشترك بين الأمرين أما بالإضافة إلى ما زاد بالجمع فهو إما يكون مرفوعا بالخطإ كما لو فرض عدم دخل العمد في تمامية مقتضية،أو مرتفع بنفسه مع الخطأ،كما لو فرض دخل العمد في تمامية مقتضية،كما يأتي في كفارة الإفطار.

ص: 51

و ليس المراد أيضا رفع الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم الخطأ، مثل قوله:«من تعمد الافطار فعليه كذا» (1) ،لأن (2) هذا الأثر يرتفع بنفسه في صورة الخطأ.

بل (3) المراد:أن الآثار المترتبة على نفس الفعل (4) لا بشرط الخطأ و العمد قد رفعها الشارع عن ذلك الفعل إذا صدر عن خطأ.

المرفوع هو الآثار الشرعية دون العقلية و العادية 52

ثم المراد بالآثار:هي الآثار المجعولة الشرعية التي وضعها الشارع، لأنها هي القابلة للارتفاع برفعه،و أما ما لم يكن بجعله-من الآثار العقلية و العادية-فلا تدل الرواية على رفعها (5) و لا رفع الآثار المجعولة المترتبة عليها (6) .

(1)بناء على أن التخصيص بالعمد لتمامية المقتضي للكفارة به-كما هو مقتضي الجمود على العبارة المذكورة-بل قد يدعى أنه المناسب لعنوان الكفارة، لا لكون الخطأ مانعا منها و رافعا لها مع كون الإفطار بنفسه تمام المقتضي لها،كما هو محتمل أيضا.

(2)تعليل لقوله:«و ليس المراد أيضا..».

(3)عطف على قوله:«فليس المراد بها الآثار المترتبة...».

(4)لا بد من رجوع هذا إلى ما ذكرنا من كون الفعل تمام المقتضي،و أن الخطأ مثلا من سنخ الرافع أو المانع،و إلا فلو فرض ترتب الأثر على الفعل لا بشرط الخطأ و العمد امتنع رفعه بالخطإ إلا من باب النسخ غير المفروض في المقام.

(5)لعدم سلطان الشارع بما هو شارع على رفعها بعد كون ترتبها مستندا إلى أمر آخر غيره.

(6)لأنها تابعة لموضوعاتها،فمع فرض عدم ارتفاع موضوعاتها لكونها أمورا

ص: 52

ثم المراد بالرفع:ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له (1) ، فيعم الدفع و لو بأن يوجه التكليف على وجه يختص بالعامد،و سيجيء بيانه.

فإن قلت:على ما ذكرت يخرج أثر التكليف في«ما لا يعلمون» (2) عن مورد الرواية،لأن استحقاق العقاب أثر عقلي له،مع أنه متفرع على غير شرعية لا وجه لارتفاعها.نعم يمكن للشارع رفعها مع تحقق موضوعاتها،لأنها تابعة له،إلا أنه يحتاج إلى عناية خاصة لا دليل عليها.و لا مجال للتمسك بإطلاق دليل الرفع بالإضافة إلى أسبابها العقلية،لأنه منصرف إلى رفع الشيء و بلحاظ أثره، فمع فرض كون أثره عقليا لا يقبل الرفع لا وجه لصرفه إلى أثر الأثر و إن كان شرعيا يقبل الرفع،فإنه يحتاج إلى عناية خاصة لا يقتضيها إطلاق الدليل،على ما يذكر في مبحث الأصل المثبت من الاستصحاب.و من ثم لا يحكم بسقوط الإعادة بالخطإ في الامتثال،لأن وجوب الإعادة عبارة أخرى عن بقاء الواجب شرعا المسبب عن عدم مطابقة المأتي به للمأمور به،و ليس ذلك شرعيا،بل عقليا.

(1)بل ليس المراد إلا هذا،لما عرفت من أن رفع التكليف بعد ثبوته نسخ خارج عما نحن فيه،فالمراد رفع فعليته مع ثبوت مقتضيه،بمعنى كون الخطأ مثلا مانعا من فعليته.

نعم قد يكون لدليل الحكم المرفوع إطلاق يشمل حال الخطأ و نحوه،و قد لا يكون له إطلاق بالنحو المذكور،بل يختص دليله بحال العمد-كما احتملناه في مثل:

من تعمد الإفطار فعليه كذا على ما سبق-و هما و إن اختلفا إثباتا،إلا أنهما لا يختلفان ثبوتا و واقعا.و لعل مراد المصنف قدس سرّه ذلك،كما قد يظهر من كلامه الآتي.

(2)الإشكال لا يختص بما لا يعلمون،بل يجري في سائر العناوين الرافعة التي تعرض لها الحديث الشريف،إذ المتيقن منها،رفع استحقاق العقاب و ليس هو أثرا شرعيا،بل عقليا.

ص: 53

المخالفة بقيد العمد،إذ مناطه-أعني المعصية-لا يتحقق إلا بذلك.

و أما (3) نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية.

و الحاصل:أنه ليس في«ما لا يعلمون»أثر مجعول من الشارع مترتب على الفعل لا بقيد العلم و لا الجهل،حتى يحكم الشارع بارتفاعه مع الجهل.

قلت:قد عرفت:أن المراد ب«رفع التكليف»عدم توجيهه إلى المكلف مع قيام المقتضي له،سواء كان هنا دليل يثبته لو لا الرفع أم لا،فالرفع هنا نظير رفع الحرج في الشريعة،و حينئذ:فإذا فرضنا أنه لا يقبح في العقل أن يوجه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشك فيه،فلم يفعل ذلك و لم يوجب تحصيل العلم و لو بالاحتياط،و وجه التكليف على وجه يختص بالعالم تسهيلا على المكلف،كفى في صدق الرفع.و هكذا الكلام في الخطأ و النسيان.

فلا يشترط في تحقق الرفع وجود دليل يثبت التكليف في حال العمد و غيره.

نعم،لو قبح عقلا المؤاخذة على الترك،كما في الغافل الغير المتمكن من الاحتياط (4) ،لم يكن في حقه رفع أصلا،إذ ليس من شأنه أن يوجه (3)تتمة للإشكال،فإن ما سبق وارد في استحقاق المؤاخذة،و هذا راجع إلى نفس المؤاخذة.

(4)يعني:و وجوب الاحتياط حكم شرعي قابل للرفع و الوضع،فمرجع رفع المؤاخذة أو استحقاقها إلى رفع وجوب الاحتياط إما وحده أو في ضمن جميع

ص: 54

إليه التكليف.

و حينئذ فنقول:معنى رفع أثر التحريم في«ما لا يعلمون»عدم إيجاب الاحتياط و التحفظ فيه حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي.

و كذلك الكلام في رفع أثر النسيان و الخطأ،فإن مرجعه إلى عدم إيجاب التحفظ عليه،و إلا فليس في التكاليف ما يعم صورة النسيان،لقبح تكليف الغافل (1) .

الآثار.لكن وجوب الاحتياط ليس من آثار التكليف المجهول حتى يكون هو المراد برفعه،بل هو مجعول مستقل فلا يمكن أن يراد من رفع التكليف حتى بناء على أن المراد به رفع جميع الآثار.

فالأولى أن يقال:إن استحقاق العقاب لما كان من آثار التكليف العقلية فرفع التكليف ظاهرا موجب لارتفاع موضوع استحقاق العقاب،فيرتفع الاستحقاق بتبعه فليس المرفوع هو المؤاخذة ابتداء و لا استحقاقها و لا بقية آثار التكليف،بل المرفوع هو التكليف بنفسه،و هو أمر شرعي قابل للرفع.

نعم رفعه في«ما لا يعلمون»و في النسيان و الخطأ ليس واقعيا،لما هو المعلوم من ثبوت التكليف في حق الجاهل،فلا بد أن يراد رفعه ظاهرا،الراجع إلى التعبد بعدمه عملا،و حينئذ يرتفع موضوع استحقاق العقاب،و كما يرتفع واقعا مع النسخ.و كذا حال بقية العناوين و هي الاستكراه و الاضطرار و غيرهما،غايته أن الرفع فيها واقعي ثانوي.و لا حاجة إلى ما سيذكره المصنف قدس سرّه من حمله على عدم وجوب التحفظ،فإنه بلا شاهد.فتأمل جيدا.و اللّه سبحانه و تعالى العالم.

(1)كأنه من جهة لغوية التكليف معه لعدم صلوحه للداعوية.ثم إنه قد يدعى أنه لا مانع من تسليط الرفع على المؤاخذة و لو بلحاظ كون ارتفاعها مصححا

ص: 55

المرتفع هو إيجاب التحفظ و الاحتياط 56

و الحاصل:أن المرتفع في«ما لا يعلمون»و أشباهه مما لا يشمله أدلة التكليف،هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي، و يلزمه ارتفاع العقاب و استحقاقه،فالمرتفع أولا و بالذات أمر مجعول يترتب عليه ارتفاع أمر غير مجعول.

و نظير ذلك:ما ربما يقال في رد من تمسك على عدم وجوب الإعادة على من صلى في النجاسة ناسيا بعموم حديث الرفع:من (1) أن وجوب الإعادة و إن كان حكما شرعيا،إلا أنه مترتب على مخالفة المأتي به للمأمور به الموجبة لبقاء الأمر الأول،و هي (2) ليست من الآثار الشرعية للنسيان، و قد تقدم أن الرواية لا تدل على رفع الآثار الغير المجعولة و لا الآثار الشرعية المترتبة عليها،كوجوب الإعادة فيما نحن فيه (3) .

و يرده:ما تقدم في نظيره:من أن الرفع راجع إلى شرطية (4) طهارة لنسبة الرفع للتكليف فإنها و إن لم تكن من الآثار المجعولة شرعا،إلا أنها من الأمور الراجعة إلى الشارع الأقدس لتبعيتها للتشريع و لأن بيده رفعها و لو تفضلا،و ليست من الأحكام العقلية الخارجة عن سلطانه،فلا مانع من حمل الحديث عليها و لو بقرينة وروده مورد الامتنان.

(1)بيان للموصول في قوله:«ما ربما يقال...»فهو بيان لوجه الرد.

(2)يعني:مخالفة المأتي به للمأمور به،التي هي من الأمور الواقعية.

(3)حيث أنه مترتب على مخالفة المأتي به للمأمور به التي هي غير مجعولة.

(4)بناء على أن الشرطية من الأحكام المجعولة لكنه ممنوع،على ما يذكر في محله من مباحث الشك في الشرطية و الجزئية،و في مبحث الاستصحاب.على أن رفع النسيان لما كان ظاهريا،كما ذكرناه قريبا فهو لا يقتضي إلا المعذورية ما دام

ص: 56

اللباس بالنسبة إلى الناسي،فيقال-بحكم حديث الرفع-:إن شرطية الطهارة شرعا مختصة بحال الذكر،فيصير صلاة الناسي في النجاسة مطابقة للمأمور به،فلا يجب الإعادة.و كذلك الكلام في الجزء المنسي،فتأمل.

اختصاص الرفع بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان 57

و اعلم-أيضا-:أنه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار،فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الأمة (1) ،كما إذا استلزم إضرار المسلم،فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان.و كذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم«ما اضطروا إليه»،إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير،فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرمات الإلهية (2) المسوغة لدفع الضرر.

و أما ورود الصحيحة المتقدمة عن المحاسن في مورد حق الناس-أعني العتق و الصدقة-فرفع أثر الإكراه عن الحالف يوجب فوات نفع على المعتق و الفقراء (3) ،لا إضرارا بهم.

و كذلك رفع أثر الإكراه عن المكره في ما إذا تعلق بإضرار مسلم،من النسيان من دون تبدل في الحكم الواقعي،بل يبقي الواقع على ما هو عليه،و يجب العمل عليه بعد ارتفاع النسيان.

(1)لسوق الرواية مساق الامتنان الحاصل بالتسهيل و التخفيف،و لا إطلاق لها يتناول ما يكون رفعه منافيا للامتنان.

(2)كحرمة الكذب و الميتة و نحو ذلك من ما لا تعلق له بحق الغير.

(3)فلا يكون منافيا للامتنان في حقهم حتى يزاحم الامتنان في حق المكره فتأمل.

ص: 57

باب عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير و لا ينافي الامتنان، و ليس من باب الإضرار على الغير لدفع الضرر عن النفس لينافي ترخيصه الامتنان على العباد،فإن الضرر أولا و بالذات متوجه على الغير بمقتضى إرادة المكره-بالكسر-،لا على المكره (1) -بالفتح-،فافهم.

بقي في المقام شيء و ان لم يكن مربوطا به،و هو:

المراد من رفع الحسد 58

أن النبوي المذكور مشتمل على ذكر(الطيرة)و(الحسد)و(التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفته).و ظاهره رفع المؤاخذة على الحسد مع مخالفته لظاهر الأخبار الكثيرة.و يمكن حمله على ما لم يظهر الحاسد أثره باللسان أو غيره،بجعل عدم النطق باللسان قيدا له أيضا (2) .

و يؤيده:تأخير الحسد عن الكل في مرفوعة النهدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،المروية في آخر أبواب الكفر و الإيمان من أصول الكافي:

«قال:قال رسول اللّه:وضع عن أمتي تسعة أشياء:الخطأ،و النسيان، (1)إرادة المكره وحدها لا تقتضي ورود الضرر على الغير ما لم يكن قادرا على التنفيذ مع قطع النظر عن المكره.و حينئذ يلزم التفصيل بين ما إذا كان امتناع المكره مانعا من ورود الضرر على الغير فيجب و يحرم عليه إضرار الغير.لأن اعمال دليل رفع الإكراه مناف للامتنان في حق المضرور و ما إذا لم يكن كذلك بل كان للمكره طريق آخر للأضرار بالغير غير طريق المكره بحيث يكون الضرر واقعا على الغير على كل حال،ففي مثله لا يجب تحمل الضرر المتوعد به عملا لعموم رفع الإكراه بعد عدم منافاته للامتنان في حق المضرور.

(2)يعني:لا لخصوص الفقرة الأخيرة،و هي التفكر.

ص: 58

و ما لا يعلمون،و ما لا يطيقون،و ما اضطروا إليه،و ما استكرهوا عليه، و الطيرة،و الوسوسة في التفكر في الخلق،و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد...الحديث».

و لعل الاقتصار في النبوي الأول على قوله:«ما لم ينطق»،لكونه أدنى مراتب الإظهار (1) .

و روي:«ثلاثة لا يسلم منها أحد:الطيرة،و الحسد،و الظن.قيل:

فما نصنع؟قال:إذا تطيرت فامض،و إذا حسدت فلا تبغ،و إذا ظننت فلا تحقق».

و البغي:عبارة عن استعمال الحسد (2) ،و سيأتي في رواية الخصال:

«إن المؤمن لا يستعمل حسده»،و لأجل ذلك عد في الدروس من الكبائر -في باب الشهادات-إظهار الحسد (3) ،لا نفسه،و في الشرائع (4) :إن (1)يعني:مع ثبوت الحرمة بالإظهار بغير اللسان من الجوارح.و ربما يحمل على أن ذكر النطق من حيث كونه ترتيبا للأثر،لا من حيث كونه إظهارا،فيحرم مع ترتيب الأثر بغيره و لو كان خفيا غير ظاهر،و يناسبه الرواية الآتية.

(2)الظاهر أن المراد به الخروج عن الميزان الشرعي مع المحسود،كما يناسبه لفظ البغي،فمثل استيفاء الحق لا يحرم و إن كان ناشئا عن الحسد،و إنما يحرم مثل الشتم و الانتقاص و الإيذاء و نحوها مما يشتمل على التعدي عن الحدود المشروعة معه.

(3)إظهار الحسد غير استعماله،فقد يكون استعمال الحسد و الجري على مقتضاه ببعض الأعمال التي لا تكون مظهرة للحسد كما أشرنا إليه.إلا أن يراد بالإظهار مطلق الفعل الخارجي،لا ما يقابل الكتمان و الإخفاء.

(4)قال في الشرائع في مباحث صفات الشاهد من كتاب الشهادات:

ص: 59

الحسد معصية و كذا الظن بالمؤمن،و التظاهر بذلك قادح في العدالة.

و الإنصاف:أن في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك.

المراد من رفع الطيرة 60

و أما(الطيرة)-بفتح الياء،و قد يسكن:و هي في الأصل التشؤم بالطير،لأن أكثر تشؤم العرب كان به،خصوصا الغراب.

و المراد:إما رفع المؤاخذة عليها،و يؤيده ما روي من:«أن الطيرة شرك (1) و إنما يذهبه التوكل»،و إما رفع أثرها (2) ،لأن التطير كان يصدهم عن مقاصدهم،فنفاه الشرع.

المراد من الوسوسة في الخلق 60

و أما(الوسوسة في التفكر في الخلق)كما في النبوي الثاني،أو(التفكر في الوسوسة فيه)كما في الأول،فهما واحد،و الأول أنسب،و لعل الثاني «الحسد معصية.و كذا بغضة المؤمن.و التظاهر بذلك قادح في العدالة».و ظاهرة كون الحسد بنفسه محرما و لو مع عدم الإظهار،و إن كانه إسقاط العدالة منوطا بالإظهار،و هو غير ما ذكره المصنف قدس سرّه.نعم لا يبعد كون ما ذكره المصنف قدس سرّه أقرب لمفاد النصوص.

(1)فهو ظاهر في أن من شأنها استحقاق العقاب.نعم ظاهره اختصاص ارتفاعها بما إذا لم يرتب الأثر عليها،و هو خلاف إطلاق حديث الرفع بناء على حمله على رفع المؤاخذة عليها.إلا أن يلتزم بإرجاع ما تضمنه من القيد،و هو:«ما لم ينطق الإنسان....»إليها أيضا.بعد حمله على ترتيب الأثر و الاستعمال،لا مجرد الإظهار.

(2)يعني:تكوينا،بمعنى أن اللّه سبحانه و تعالى قد تفضل على هذه الأمة فرفع تأثير الطيرة للمضار المتوهمة بعد كونها مقتضية لها بحسب طبعها،أو لا مع اقتضائها لذلك،فيكون الرفع صوريا جاريا على طبق ما سبق من اعتقاد الناس للتأثير.و كيف كان فالرفع حينئذ لا يكون تشريعيا بل تكوينيا،و هو و إن كان خلاف الظاهر في رفع الشارع إلا أنه قد يتعين لو تم عدم حرمة الطيرة في نفسها.فتأمل.

ص: 60

اشتباه من الراوي.

و المراد به-كما قيل:وسوسة الشيطان للإنسان عند تفكره في أمر الخلقة،و قد استفاضت الأخبار بالعفو عنه.

ففي صحيحة جميل بن دراج،قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:«إنه يقع في قلبي أمر عظيم،فقال عليه السّلام:قل:لا إله إلا اللّه،قال جميل:فكلما وقع في قلبي شيء قلت:لا إله إلا اللّه،فذهب عني».

و في رواية حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،عن الوسوسة و إن كثرت، قال:«لا شيء فيها،تقول:لا إله إلا اللّه».

و في صحيحة محمد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم،فقال:يا رسول اللّه،إني هلكت،فقال له:أتاك الخبيث فقال لك:من خلقك؟فقلت:اللّه تعالى،فقال:اللّه من خلقه؟فقال:إي و الذي بعثك بالحق قال كذا،فقال:ذاك و اللّه محض الإيمان».

قال ابن أبي عمير:«فحدثت بذلك عبد الرحمن بن الحجاج،فقال:

حدثني أبي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنما عنى بقوله:هذا محض الإيمان.خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض في قلبه ذلك» (1) .

و في رواية اخرى عنه:«و الذي بعثني بالحق إن هذا لصريح الإيمان، (1)لعل المراد أن جزمه بالهلكة المستفاد من قوله:«هلكت»إنما يناسب صحة العقيدة،و لو كان التفكر المذكور راجعا إلى الشك الحقيقي المنافي للعقيدة المطلوبة لكان مستلزما للشك في مطابقة الدين للواقع،المستلزم لاحتمال الهلكة لا الجزم بها، فلا بد أن يحمل التفكر على الوسوسة التي لا تنافي صحة العقيدة و استكمال الإيمان.

ص: 61

فإذا وجدتموه فقولوا:آمنا باللّه و رسوله،و لا حول و لا قوة إلا باللّه».

و في رواية اخرى عنه:«إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم،فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم،فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم اللّه تعالى وحده».

و يحتمل أن يراد بالوسوسة في الخلق:الوسوسة في أمور الناس و سوء الظن بهم،و هذا أنسب بقوله:«ما لم ينطق بشفة» (1) .

ثم هذا الذي ذكرنا هو الظاهر المعروف في معنى الثلاثة الأخيرة المذكورة في الصحيحة.

و في الخصال بسند فيه رفع،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«قال:ثلاث لم يعر منها نبي فمن دونه:الطيرة،و الحسد،و التفكر في الوسوسة في الخلق».

ما ذكره الصدوق في تفسير الطيرة و الحسد و الوسوسة 62

و ذكر الصدوق رحمه اللّه في تفسيرها:أن المراد بالطيرة التطير بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو المؤمن،لا تطيره،كما حكى اللّه عزّ و جل عن الكفار: قالوا اطيرنا بك و بمن معك .

و المراد ب(الحسد)أن يحسد،لا أن يحسد،كما قال اللّه تعالى:

(1)لم يتضح وجه أنسبيته بالمعنى الثاني،فإنه كما يحرم إعلان التهمة للناس كذلك قد يحرم بيان الشك في العقائد الحقة و إعلان مفاد الوساوس فيها،بل يخرج به الإنسان ظاهرا عن الدين،لتوقفه على التسليم و الإذعان.فإرادة المعنى الأول غير بعيدة.و لا سيما مع عدم معهودية إطلاق الوسوسة في النصوص على سوء الظن بالناس،فإن المعروف فيها إطلاق الظن و التهمة عليه،بل لا يبعد ظهور إطلاق الوسوسة في خصوص الوسوسة في العقائد،كما يناسبه رواية حمران المتقدمة.

ص: 62

أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه .

و المراد ب(التفكر)ابتلاء الأنبياء عليهم السّلام بأهل الوسوسة،لا غير ذلك، كما حكى اللّه عن الوليد بن مغيرة: إنه فكر و قدر فقتل كيف قدر ، فافهم (1) .

و قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عما يقتضيه وضع الرسالة.

الاستدلال بحديث(الحجب)و المناقشة فيه 63

و منها:قوله عليه السّلام:«ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

فإن المحجوب حرمة شرب التتن،فهي موضوعة عن العباد.

و فيه:أن الظاهر مما حجب اللّه علمه ما لم يبينه للعباد (2) ،لا ما بينه و اختفى عليهم بمعصية من عصى اللّه في كتمان الحق أو ستره،فالرواية (1)لعله إشارة إلى أن التفسير المذكور إنما يتم لو اختص الأمر بالأنبياء عليهم السّلام، لابتلائهم جميعا بذلك،و لا يناسب التعميم لجميع الناس-كما تضمنه الحديث-لما هو المعلوم من عدم ابتلاء الناس العاديين بذلك،فالتعميم يناسب المعنى الأول الذي ذكره المصنف قدس سرّه لا الثاني الذي ذكره الصدوق قدس سرّه.و كأن الصدوق رضوان اللّه تعالى عليه حاول بهذا التفسير تنزيه مقام الأنبياء عليهم السّلام بدعوى أن المعنى الذي ذكره المصنف قدس سرّه لا يناسب مقامهم و قدسيتهم.لكن في منافاته لمقامهم إشكال أو منع.

(2)إذ لم يبين اللّه سبحانه الحكم للعباد حتى النبي فالحكم غير فعلي و لا تام الملاك،و هو خلاف ظاهر الحديث،لظهوره في صلوحه للمحركية لو لا الحجب، فحمله على عدم وصول الحكم بعد تماميته و فعليته هو الظاهر من الكلام،و لا موجب للخروج عنه.و أما ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في الرواية الآتية فهو بلسان آخر،فإن التعبير بالسكوت ظاهر في عدم جعل الحكم،و ليس كالتعبير بالحجب و الوضع،فقياس أحدهما على الآخر و تنزيله عليه في غير محله.

ص: 63

مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام:«إن اللّه تعالى حد حدودا فلا تعتدوها،و فرض فرائض فلا تعصوها،و سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها،رحمة من اللّه لكم».

الاستدلال بحديث(السعة)و المناقشة فيه 64

و منها:قوله عليه السّلام:«الناس في سعة ما لم يعلموا».

فإن كلمة(ما)إما موصولة أضيف إليه السعة و إما مصدرية ظرفية (1) ،و على التقديرين يثبت المطلوب.

و فيه:ما تقدم في الآيات:من أن الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط (2) من العقل و النقل بعد (1)لعل هذا أظهر من الأول.نعم في بعض النسخ رواية الحديث هكذا:

«الناس في سعة ما لا يعلمون».و عليها قد يترجح الأول،لعدم معهودية دخول (ما)المصدرية الظرفية على الفعل المضارع.

(2)هذا يتم بناء على النسخة المثبتة في المتن،لإطلاق العلم فيها الشامل للعلم بالواقع و العلم بوجوب الاحتياط،فمع العلم بوجوب الاحتياط لو تم الدليل عليه يرتفع موضوع السعة التي تضمنها الحديث أما بناء على النسخة الأخرى التي ذكرناها،فظاهرها ثبوت السعة بالإضافة للأمر المجهول و هو الحكم الواقعي،و لا يرتفع موضوعها إلا بمعرفة الحكم الواقعي،دون معرفة وجوب الاحتياط الذي هو حكم طريقي لا يكون موضوعا للمسئولية بنفسه،بل هو راجع إلى ثبوت المسئولية بالإضافة للحكم الواقعي المجهول،بل يكون وجوب الاحتياط منافيا للحديث و نحوه مما يتضمن السعة بالإضافة إلى الواقع المجهول و عدم المسئولية بالإضافة له.

نعم سبق أن أدلة الاحتياط أخص مطلقا من الأدلة المذكورة،لأن موضوعها الشبهة مطلقا أو خصوص التحريمية منها،و هو أخص من الجهل و عدم العلم الذي هو موضوع هذه الأدلة،فيتعين حمل هذه الأدلة على غير صورة الشبهة من

ص: 64

التأمل و التتبع.

الاستدلال برواية(عبد الأعلى)و المناقشة فيه 65

و منها:رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه السّلام:«قال:سألته عمن لم يعرف شيئا،هل عليه شيء؟قال:لا».

بناء على أن المراد بالشيء الأول فرد معين مفروض في الخارج حتى لا يفيد العموم في النفي،فيكون المراد:هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟و أما بناء على إرادة العموم فظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا (1) .

صور الجهل،أعني صورتي الغفلة،و اعتقاد الحل خطأ،فتقديم أدلة الاحتياط بالتخصيص،لا بالحكومة و لا بالورود.

إلا أن هذا لا مجال له في هذا الحديث،لعدم الاقتصار فيه على نفي العقاب و المؤاخذة و الرفع-كما هو مفاد أكثر أدلة المقام-بل هو ظاهر في السعة في مقام العمل،فهو يتضمن قاعدة عملية مضروبة لحال الجهل شرعت ليرجع إليها المتحير.

و من الظاهر أنها لو اختصت بحال الغفلة أو اعتقاد الحل خطأ و لم تشمل حالة الشك و الشبهة لم تكن قاعدة عملية،لأن الغافل و المعتقد بالحل خطأ يعمل بمقتضى طبعه جريا على غفلته أو اعتقاده،و لا يعتمد على قاعدة ظاهرية عملية،و الرجوع للقواعد العملية مختص بالشاك المتردد المتحير.فظهور الحديث في ضرب القاعدة العملية مانع من تخصصه بأدلة الاحتياط و حمله على غير صورة الشك و التردد،لأن الصورة المذكورة هي المتيقن منه.

نعم قد يخصص بأدلة الاحتياط بناء على اختصاص أدلة الاحتياط بالشبهة التحريمية الحكمية فيحتمل هو على بقية أفراد الشبهة كالوجوبية و الموضوعية، و هذا أمر آخر لسنا بصدده الآن.

(1)ظاهر الحديث السؤال عن من لم تتحقق له المعرفة،لا عن من لا قابلية له

ص: 65

الاستدلال برواية(أيما امرئ...)و المناقشة فيه 66

و منها:قوله:«أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه».

و فيه:أن الظاهر من الرواية و نظائرها من قولك:«فلان عمل هكذا بجهالة»هو اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع،فلا يعم صورة التردد في كون فعله صوابا أو خطأ (1) .

و يؤيده:أن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك الغير المقصر (2) ،و سياقه يأبى عن التخصيص،فتأمل (3) .

للمعرفة.نعم من لم تتحقق له المعرفة بشيء أصلا قاصر غالبا،إلا أن ظاهر السؤال أن الجهة المسئول عنها هي جهة عدم معرفته لا جهة قصوره،فهي ظاهرة في أن عدم ثبوت شيء عليه لأنه لا يعرف،لا لأنه لا قابلية له للمعرفة.نعم الظاهر أن مقتضي إطلاق المعرفة لشمول المعرفة وجوب الاحتياط فهي لا تدل إلا على السعة في حال الجهل بوجوب الاحتياط فلا تصلح لمعارضة أدلته.

(1)كأنه لظهور أن الباء في قوله:«بجهالة»للسببية،لا لمحض المصاحبة، فالتعبير المذكور ظاهر في كون الجهالة هي السبب و العلة للعمل،و ذلك لا يكون مع الشك و التردد،فإن التردد لا يكون علة للإقدام و الارتكاب،و إنما يستند الإقدام معه إلى أمر آخر من أصل أو نحوه مما يعتمد عليه الشاك في مقام العمل،بخلاف الغفلة و اعتقاد الحل خطأ،فإن الإقدام يستند إليهما عرفا.فتأمل جيدا.

(2)إذ الشاك المقصر و إن كان جاهلا غير معذور قطعا.لكن الغافل و لعله إشارة إلى أن الغافل و المعتقد بخلاف الواقع خطأ أيضا غير معذور إذا كان مقصرا، فلا بد من التخصيص بغير المقصر على كل حال،سواء كانت الرواية شاملة للشاك أم لا،فلا يصلح ذلك لتأييد المدعى.

(3)عرفت غير مرة الإشكال فيه.نعم لا يبعد تماميته هنا-كما تم في بعض الآيات و الروايات-لأن الرواية لم تتضمن تخصيص العقاب بالمعلوم كي يتأتى ما

ص: 66

الاستدلال برواية(إن اللّه تعالى يحتج...)و المناقشة فيه 67

و منها:قوله عليه السّلام:«إن اللّه يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم».

و فيه:أن مدلوله-كما عرفت في الآيات و غير واحد من الأخبار-مما لا ينكره الأخباريون.

الاستدلال بمرسلة الفقيه 67

و منها:قوله عليه السّلام في مرسلة الفقيه:«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (1) .

استدل به الصدوق على جواز القنوت بالفارسية،و استند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية.

و دلالته على المطلب أوضح من الكل،و ظاهره عدم وجوب الاحتياط،لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو،لا من حيث كونه مجهول الحكم (2) ،فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة سبق من أن قيام الدليل على وجوب الاحتياط لا يجعل التكليف بالواقع المعاقب عليه معلوما،بل تضمنت تخصيص الاحتجاج بالأمور المعلومة،و من الظاهر أن وجوب الاحتياط مما يصح الاحتجاج به لصلوحه لتنجيز الواقع المحتمل،فقيام الدليل عليه موجب لكونه معلوما أو بمنزلة المعلوم-و إن كان حكما طريقيا-فيكون واردا على الرواية المذكورة أو حاكما عليها.

(1)عن أمالي الشيخ الطوسي قدس سرّه:عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر و نهي»و عن عوالي اللآلي:«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص»فيعم الشبهة الوجوبية.

(2)و أما دعوى:أن المراد من ورود النهي صدوره من الشارع و لو لم يصل للمكلف،فمع احتمال صدور النهي واقعا و وروده و لو لمثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السّلام لا يحرز موضوع الحديث،نظير ما سبق من المصنف قدس سرّه في رواية الحجب.فهي

ص: 67

و سندا وجب ملاحظة التعارض بينها و بين هذه الرواية و أمثالها مما (1) يدل على عدم وجوب الاحتياط،ثم الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض.

الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج 68

و قد يحتج بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج،في من تزوج امرأة في عدتها:«قال:أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك.قلت:بأي الجهالتين أعذر،بجهالته أن ذلك محرم عليه،أم بجهالته أنها في عدة؟قال:إحدى الجهالتين أهون من الأخرى،الجهالة بأن اللّه حرم عليه ذلك،و ذلك لأنه لا يقدر معها على الاحتياط،قلت:فهو في الأخرى معذور؟قال:نعم،إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها».

و فيه:أن الجهل بكونها في العدة إن كان مع العلم بالعدة في الجملة مندفعة بظهور الحديث في الإطلاق و السعة في مقام العمل،لا مجرد عدم العقاب و المؤاخذة،فهو ظاهر في ضرب القاعدة العملية،نظير ما سبق في حديث السعة، و إذا كان المراد بورود النهي صدوره واقعا لم تصلح للعمل،لعدم تيسر الاطلاع على موضوعها للمكلف،بخلاف ما لو كان المراد وصوله للمكلف،فإنه يتيسر له معرفته فيمكن العمل بالقاعدة و الرجوع إليها.و منه يظهر أنه لا مجال لتخصيصها بأدلة الاحتياط بحملها على غير صورة الشبهة و التردد،من الغفلة أو اعتقاد الحل خطأ،لعدم مناسبته لضرب القاعدة العملية،كما سبق في حديث السعة أيضا.

(1)الظاهر أن حديث الرفع كذلك،لظهوره في ارتفاع نفس المجهول.

و هو الحكم الواقعي،فلا يبقى معه موضوع للاحتياط،و يعارض أدلة الاحتياط المقتضية لعدم كفاية الجهل في رفعه.نعم يمكن تخصيصه بها بحمله على غير صورة الشبهة كصورة الغفلة أو اعتقاد الحل خطأ.هذا و قد تقدم الكلام في حديث السعة.

و الظاهر أن حديث الحجب نظير الحديث الأخير،كما قد يظهر بالتأمل.

ص: 68

و الشك في انقضائها:فان كان الشك في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها فهو شبهة في الموضوع خارج عما نحن فيه،مع أن مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز (1) .

و منه يعلم:أنه لو كان الشك في مقدار العدة فهي شبهة حكمية قصر في السؤال عنها،و هو ليس معذورا فيها اتفاقا،و لأصالة بقاء العدة (2) و أحكامها (3) ،بل في رواية اخرى أنه:«إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة»،فالمراد من المعذورية عدم حرمتها عليه مؤبدا،لا من حيث المؤاخذة (4) .

(1)و حينئذ يشكل حمل الرواية على ذلك،لعدم مناسبته للحكم فيها بالمعذورية.

(2)لا مجال له،لأنه من استصحاب المفهوم المردد،الذي لا يجري على التحقيق.نعم لا إشكال في وجوب الاحتياط قبل الفحص لكنه لا ينافي جواز التزويج بها لو قصر.

(3)كحرمة التزويج بها.لكن جريان استصحاب الأحكام التكليفية لا يخلو عن أشكال في أمثال المقام على ما قد يتضح في مبحث الاستصحاب.

(4)لكن تعليل الحكم بجواز تزويجها بقوله:«فقد يعذر الناس في الجهالة...» ظاهر في إرادة المعذورية مطلقا حتى من حيث العقاب،و أن المعذورية من حيث التحريم المؤبد من فروع ذلك و صغرياته،لا لاختصاص المراد به.فالأولى الحمل على الجهالة بأصل ابتلائها بالعدة،كما هو المنسبق من الكلام.و المعذورية حينئذ على القاعدة،لأنها شبهة موضوعية بدوية غير مسبوقة باليقين،كي يجري استصحاب العدة.فتجري فيها البراءة بلا إشكال،و نخرج عن محل الكلام.

هذا مع غض النظر عن قرب كون المراد بالجهالة الغفلة أو اعتقاد العدم

ص: 69

و يشهد له أيضا:قوله عليه السّلام-بعد قوله:«نعم،أنه إذا انقضت عدتها فهو معذور»-:«جاز له أن يتزوجها».

و كذا مع الجهل بأصل العدة (1) ،لوجوب الفحص،و أصالة عدم تأثير العقد،خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل.

هذا إن كان الجاهل ملتفتا شاكا،و إن كان غافلا أو معتقدا للجواز فهو خارج عن مسألة البراءة،لعدم قدرته على الاحتياط.

و عليه يحمل تعليل معذورية الجاهل بالتحريم بقوله عليه السّلام:«لأنه لا يقدر...الخ»،و إن كان تخصيص (2) الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدل خطأ،لما سبق في قوله عليه السّلام:«أيما امرئ ركب أمرا بجهالة...»و لأجله أيضا لا يبعد حمل الجهالة بحرمة التزويج في العدة على صورة الغفلة أو اعتقاد الحل خطأ،لا على صورة التردد حتى بشكل بعدم جواز الرجوع للبراءة في الشبهة الحكمية قبل الفحص،بل يجب الاحتياط اتفاقا،و هو المناسب للتعليل بقوله:«لا يقدر معها على الاحتياط»لعدم تعذر الاحتياط على المتردد،كما سيأتي من المصنف قدس سرّه و حينئذ تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام،و هو الشبهة الحكمية.و كلام المصنف قدس سرّه لا يخلو عن قصور في تعقيب الرواية،كما لا يخفى.

(1)يعني:بوجوب العدة عليها،فإن ذلك هو الذي يجب فيه الفحص، لكونه شبهة حكمية.و أما أصل الشك في ثبوت العدة للشك في تحقق سببها خارجا فهو شبهة موضوعية لا يجب فيها الفحص.بل مقتضى أصالة عدم ثبوتها أو عدم ثبوت سببها جواز التزويج.

(2)يعني:أنه لو حملت الجهالة على الغفلة أو الاعتقاد خطأ بأنها ليست في العدة،و بأن المعتدة يحل تزويجها لكان التعليل بعدم القدرة على الاحتياط واردا في

ص: 70

على قدرة الجاهل بالعدة على الاحتياط،فلا يجوز حمله على الغافل،إلا أنه إشكال يرد على الرواية على كل تقدير،و محصله لزوم التفكيك بين الجهالتين،فتدبر فيه و في دفعه (1) .

الاستدلال برواية(كل شيء فيه حلال و حرام...)71

و قد يستدل على المطلب-أخذا من الشهيد في الذكرى-بقوله عليه السّلام:

«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

ما ذكره السيد الصدر قدس سرّه في تقريب الاستدلال 71

و تقريب الاستدلال كما في شرح الوافية،أن معنى الحديث:أن كل فعل من جملة الأفعال التي تتصف بالحل و الحرمة،و كذا كل عين مما يتعلق به فعل المكلف و يتصف بالحل و الحرمة (2) ،إذا لم يعلم الحكم الخاص به الموردين،و لا وجه لتخصيصه بخصوص الثاني،كما تضمنته الرواية.

و فيه:أن الرواية لم تتضمن تخصيص التعليل بالثاني،بل مجرد ذكره فيه و عدم ذكره في الأول،و هو لا يدل على عدم وروده فيه.بل لعل التنبيه على التعليل في الثاني لكون المعذورية فيه أخفى لما هو المرتكز من أهمية الشبهة الحكمية فيكون ذكر التعليل لذلك و تأكيدا لقوله عليه السّلام:«إحدى الجهالتين أهون من الأخرى»الظاهر في أنهما معا غير مهمتين فلا إشكال في الرواية بل يتعين ما ذكرنا من لزوم حمل الجهالة في الموردين على الغفلة أو اعتقاد الخلاف خطأ،ليناسب التعليل مع،ظهور كون الجهالة في الموردين بمعنى واحد،كما هو مقتضي السياق.مع ما عرفت من أنه الظاهر في نفسه.فتأمل جيدا.

(1)عرفت عدم توجه الإشكال من أصله حتى يحتاج إلى الدفع.

(2)لا يخفى أن نسبة الحل و الحرمة إلى الأعيان مجاز من جهة اتصاف الأفعال المتعلقة بها بهما،فوصف الأعيان بالحرمة و الحل من باب الوصف بحال المتعلق، و الرواية ظاهرة في ذلك،لا في وصف الأفعال ابتداء.

ص: 71

من الحل و الحرمة،فهو حلال،فخرج ما لا يتصف بهما جميعا:من الأفعال الاضطرارية (1) ،و الأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلف،و ما علم أنه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه.و ليس الغرض من ذكر الوصف مجرد الاحتراز،بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه (2) .

فصار الحاصل:أن ما اشتبه حكمه و كان محتملا لأن يكون حلالا و لأن يكون حراما فهو حلال،سواء علم حكم كلي فوقه (3) أو تحته (4) (1)الافعال الاضطرارية من الحلال الذي لا حرام فيه،كما هو مقتضى قوله عليه السّلام:«ما من شيء إلا و قد أحله اللّه لمن اضطر إليه».إلا أن يكون المراد من الاضطرار ما يسلب معه الاختيار،كحركة المرتعش.لكن في صدق كونه فعلا للمكلف إشكال.

(2)يعني:أن قوله:«فيه حلال و حرام»ليس لمجرد الاحتراز عن الأمور المذكورة،بل للاشارة إلى أن موضوع الحكم هو المشتبه بالحلال و الحرام و إن ذكر انقسام الشيء للحلال و الحرام لبيان منشأ الاشتباه،فهو من باب الكفاية بالسبب عن المسبب.و كأن كما هو مقتضي جعل غاية الحكم قوله:«حتى تعرف...»منشأ الحمل على ذلك ظهور كون القاعدة ظاهرية عملية،فتختص بالاشتباه و الشك.

نعم موضوع الحديث الشك في حال الشيء و تردده بين الأمرين بسبب انقسامه لهما،فتعميمه لكل مشتبه يبتني على الغاء خصوصية السبب المذكور،و فهم أن الموضوع مطلق الشبهة.و كأنه بلحاظ ذلك قال قدس سرّه:«فصار الحاصل أن...».

(3)كحرمة استعمال المتنجس و جواز استعمال الطاهر،فإن موضوعهما أعم من اللبن الذي يعلم أن فيه طاهرا حلالا و متنجسا حراما و يشتبه حاله بسبب ذلك.

(4)كحرمة استعمال الميتة و جواز استعمال المذكى،فإن كلا منهما أخص موضوعا من اللحم المشتبه الحال المعلوم وجود القسمين فيه.

ص: 72

بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه-أم لا (1) .

و بعبارة أخرى (2) :أن كل شيء فيه الحلال و الحرام عندك-بمعنى أنك تقسمه إلى هذين و تحكم عليه بأحدهما لا على التعيين و لا تدري المعين منهما-فهو لك حلال.

فيقال حينئذ:إن الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل للمذكى و الميتة،و على شرب التتن،و على لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه و شككنا فيه،لأنه يصدق على كل منها أنه شيء فيه حلال و حرام عندنا،بمعنى أنه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين،فنقول:هو إما حلال و إما حرام،و أنه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا و بعضها حراما،و اشتركت في أن الحكم الشرعي المتعلق بها غير معلوم،انتهى.

المناقشة في الاستدلال 73

أقول:الظاهر (3) أن المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه، (1)كما في مورد الشبهة الحكمية كاستعمال التتن الذي هو مشتبه الحكم بخلاف الأول،فإنه في الشبهة الموضوعية،و إن كان قد يتوهم جريانه في بعض أفراد الشبهة الحكمية على ما يأتي من المصنف قدس سرّه عند التعرض لكلام بعض معاصريه.

(2)لا يخفى أن هذا ليس تعبيرا آخر عما سبق من كون التقسيم لبيان منشأ الاشتباه الذي هو موضوع الحكم،بل هو تقريب آخر يبتني على أن المراد بالتقسيم الترديد،و أن المراد بكون الشيء فيه حلال و حرام أنه مردد بينهما محتمل لهما،لا أنه مشتمل عليهما و منقسم إليهما.

(3)عرفت أن كلام المستدل مبني على أن المراد بانقسام الشيء إلى الحرام

ص: 73

كاللحم المشترى و لحم الحمير على ما مثله بهما،إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في(منه)إليهما (1) ،لكن لفظة(منه)ليس في بعض النسخ (2) .

و أيضا:الظاهر أن المراد بقوله عليه السّلام:«فيه حلال و حرام»كونه منقسما إليهما،و وجود القسمين فيه بالفعل،لا مرددا بينهما،إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا،لا ذهنا و لا خارجا.و كون الشيء مقسما لحكمين-كما ذكره المستدل-لم يعلم له معنى محصل (3) ،خصوصا مع قوله قدس سرّه:إنه يجوز ذلك،لأن التقسيم إلى الحكمين الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم، أمر لازم قهري لا جائز لنا (4) .

و الحلال كونه مرددا بينهما،كما هو مفاد الشرطية المنفصلة في قولنا:هو إما حرام أو حلال.و عليه يكون المراد بالشيء في صدر الحديث مشتبه الحكم،لا العنوان المنقسم للحلال و الحرام.و حينئذ يتجه ما ذكره المصنف قدس سرّه أن ظاهر الحديث إرادة الأمر المنقسم إلى الحرام و الحلال لا المردد بينهما،كما هو مقتضى قوله عليه السّلام:«فيه حلال و حرام»مع مناسبته للضمير في«منه»لأنه ظاهر في أن الحرام بعض من الشيء،لا أنه تمامه.مضافا إلى أن تعريف«الحرام»في قوله:«حتى تعرف الحرام منه...»ظاهر في المفروغية عن وجوده فيه،و هو إنما يتم بناء على انقسام الشيء إلى الحرام و الحلال، لا تردده بينهما.

(1)فإنهما مرددان بين الحرام و الحلال،لا أن الحرام بعض منهما.

(2)يكفي تعريف(الحرام)بلام العهد الذي اتفقت عليه النسخ.

(3)إذ ليس مراده به إلا الترديد الذي هو مفاد الشرطية المنفصلة الكلية،و هو مباين للتقسيم،الذي هو الحمليتين الجزئية من المتعاطفتين،و التعبير عنه بالتقسيم لا يجعله منه.

(4)لأنه تابع لواقع الشيء،لا لاختيار المكلف.لكن هذا إشكال على تعبير

ص: 74

و على ما ذكرنا،فالمعنى-و اللّه العالم:أن كل كلي فيه قسم حلال و قسم حرام-كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى و الميتة-فهذا الكلي لك حلال (1) إلى أن تعرف القسم الحرام معينا في الخارج فتدعه.

و على الاستخدام (2) يكون المراد:أن كل جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران،فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلي في الخارج فتدعه.

و على أي تقدير فالرواية مختصة بالشبهة في الموضوع.

و أما ما ذكره المستدل من أن المراد من وجود الحلال و الحرام فيه احتماله و صلاحيته لهما،فهو مخالف لظاهر القضية (3) ،و لضمير(منه) (4) و لو على الاستخدام.

ثم الظاهر:أن ذكر هذا القيد (5) مع تمام الكلام بدونه المستدل لا على مطلبه.فالعمدة ما سبق.

(1)يعني:باعتبار أفراده المشتبهة بين القسمين.

(2)كأن منشأ ملاحظة الاستخدام هو أن الحلية من أحكام الفرد المشتبه لا من أحكام الكلي،فلا بد من كون توصيفه بأن فيه حلال و حرام بلحاظ على نحو الاستخدام كون كليه منقسما إليهما.لكن لا مانع من جعل الحلية الظاهرية من أحكام الكلي بنفسه،على أن يرجع إلى القضية الكلية الصالحة للانطباق على أفرادها،مع كونها مغياة بالعلم بالحرام بعينه،بحيث لا يبقي للقضية الكلية المذكورة مجال معه.

(3)يعني:من جهة قوله:«فيه حلال و حرام».

(4)و لتعريف(الحرام)بلام العهد.

(5)و هو قوله:«فيه حلال و حرام».

ص: 75

كما (1) في قوله عليه السّلام في رواية أخرى:«كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»-بيان (2) منشأ الاشتباه الذي (3) يعلم من قوله عليه السّلام:«حتى تعرف»،كما أن الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدل (4) أيضا يحصل بذلك (5) .

ما ذكره الفاضل النراقي قدس سرّه انتصارا للمستدل 76

و منه يظهر:فساد ما انتصر بعض المعاصرين للمستدل،بعد الاعتراف بما ذكرنا،من ظهور القضية في الانقسام الفعلي،فلا يشمل مثل شرب التتن:من أنا نفرض شيئا له قسمان حلال و حرام،و اشتبه قسم ثالث منه كاللحم،فإنه شيء فيه حلال و هو لحم الغنم و حرام و هو لحم الخنزير،فهذا الكلي المنقسم حلال (6) ،فيكون لحم الحمار حلالا حتى (1)بيان لوجه تمامية الكلام بدون القيد المذكور.

(2)خبر(أن)في قوله:«ثم الظاهر أن...»و كأنه بتقدير لام الغاية،و المعنى:

لبيان...

(3)صفة لقوله:«الاشتباه»يعني:أن إرادة صورة الاشتباه تعلم من جعل الغاية للحكم هو العلم،فإنه مستلزم لاختصاص الحكم بصورة الجهل و الاشتباه، و قوله:«فيه حلال و حرام»بيان لمنشا الاشتباه المذكور،كما تقدم التعرض لذلك في تقريب الاستدلال بالحديث.

(4)و هي ما لا يتصف بالحل و الحرمة،و ما يكون حلالا لا حرام فيه،أو حراما لا حلال فيه،فإنه قد تقدم أن الاحتراز عن هذه الأقسام يكون بقوله:«فيه حلال و حرام».

(5)يعني:بذلك القيد.

(6)يعني:بلحاظ أفراده المشتبهة.

ص: 76

تعرف حرمته.

المناقشة فيما أفاده الفاضل النراقي قدس سرّه 77

وجه الفساد:أن وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار (1) ،و لا دخل له (2) في هذا الحكم أصلا (3) ،و لا في تحقق الموضوع (4) ،و تقييد الموضوع بقيد أجنبي لا دخل له في الحكم و لا في تحقق الموضوع،مع خروج بعض الأفراد منه (5) مثل شرب التتن (6) -حتى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار و شبهه مما يوجد في نوعه قسمان معلومان،بالإجماع المركب (7) -مستهجن (8) جدا لا ينبغي (1)لخروجه عن كلا القسمين،فلا يقاس بالشبهة الموضوعية التي قد يكون لوجود القسمين دخل فيها.

(2)يعني:لوجود القسمين.

(3)لأن موضوع الحكم هو اشتباه الحكم الواقعي.

(4)و هو الاشتباه.

(5)يعني:بسبب القيد المذكور.

(6)فإنه ليس داخلا في كلي منقسم إلى حلال و حرام،جاء على ما اعترف به هذا المنتصر،و إن كان سيأتي من المصنف قدس سرّه الإشكال فيه.

(7)متعلق بقوله:«إلحاق»في قوله:«حتى احتاج هذا المنتصر إلى الحاق فإن المنتصر المذكور بعد أن قرب عموم الحديث لبعض أفراد الشبهة الحكمية-مثل لحم الحمار-بالتقريب المتقدم ذكر أنه يستدل على عموم جريان الأصل لبقية أفراد الشبهة الحكمية-كالتتن و نحوه مما لا يجري فيه التقريب المتقدم-بالإجماع المركب.

(8)خبر لقوله:«تقييد الموضوع...»و هو مسوق لبيان فساد كلام هذا المنتصر و لبيان أن قوله:«فيه حلال و حرام»وارد لبيان منشأ الاشتباه فلا يشمل مثل لحم الحمار و إن امكن إدراجه في كلي منقسم إلى الحرام و الحلال،كما سبق من المنتصر

ص: 77

صدوره من متكلم فضلا عن الإمام عليه السّلام.

هذا،مع أن اللازم مما ذكر عدم الحاجة إلى الإجماع المركب (1) ،فإن الشرب فيه قسمان:شرب الماء و شرب البنج،فشرب التتن كلحم الحمار بعينه،و هكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم (2) .

و أما الفرق بين الشرب و اللحم بأن الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم،فمما لا ينبغي أن يصغى إليه (3) .

هذا كله،مضافا إلى أن الظاهر من قوله:«حتى تعرف الحرام منه» معرفة ذلك الحرام (4) الذي فرض وجوده في الشيء،و معلوم أن معرفة لحم الخنزير و حرمته لا يكون غاية لحلية لحم الحمار (5) .

و قد أورد على الاستدلال:

ما أورده المحقق القمي قدس سرّه على الاستدلال 78

بلزوم استعمال قوله عليه السّلام:«فيه حلال و حرام»في معنيين:

المذكور.

(1)يعني:لإلحاق مثل شرب التتن بمثل لحم الحمار،الذي تقدمت الإشارة إليه عن المستدل.

(2)لإمكان إدراجها في عناوين كلية منقسمة إلى القسمين:الحلال و الحرام.

(3)إذ ذلك لا يصلح لتقييد الاطلاق لو تم.

(4)كما هو مقتضى لام العهد،على ما ذكرناه آنفا.

(5)للتباين بينهما،بخلاف معرفة الميتة كما في الشبهة الموضوعية،فانه قد يكون غاية للحكم الظاهري بحلية اللحم المشتبه،بأن ينكشف أنه ميتة.

ص: 78

أحدهما:أنه قابل للاتصاف بهما-و بعبارة اخرى:يمكن (1) تعلق الحكم الشرعي به-ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما.

و الثاني:أنه ينقسم إليهما و يوجد النوعان فيه إما في نفس الأمر أو عندنا،و هو (2) غير جائز.

و بلزوم استعمال قوله عليه السّلام:«حتى تعرف الحرام منه بعينه»في المعنيين أيضا،لأن المراد حتى تعرف من الأدلة الشرعية(الحرمة)،إذا أريد معرفة الحكم المشتبه،و حتى تعرف من الخارج-من بينة أو غيرها-«الحرمة»،إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمل،انتهى.

و ليته أمر بالتأمل في الإيراد الأول أيضا،و يمكن إرجاعه إليهما معا، و هو الأولى (3) .

هذه جملة ما استدل به من الأخبار.

المحصل من الأخبار المستدل بها على البراءة 79

و الإنصاف:ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط في ما لا نص فيه في الشبهة،بحيث لو فرض تمامية الأخبار الآتية للاحتياط (1)يعني:إمكانا احتماليا.

(2)يعني:استعمال اللفظ في معنيين.

(3)لاندفاع كلا الإيرادين.أما الأول فلأنه لا موجب للالتزام بالاستعمال في كلا المعنيين المذكورين،لأن المعنى الأول هو مقتضي حمل التقسيم على الترديد، و قد عرفت،أنه يقتضي الشمول لجميع أنواع الشبهة بلا حاجة إلى المعنى الثاني.

نعم عرفت بطلان المعنى الأول،فيتعين المعنى الثاني و يختص الحديث بالشبهة الموضوعية،و كيف كان فلا يلزم إلا الاستعمال في أحد المعنيين لا غير.و أما الإيراد الثاني فلأن تعدد سبب المعرفة لا يستلزم استعمال المعرفة في معنيين.

ص: 79

وقعت المعارضة بينها،لكن بعضها غير دال (1) إلا على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عام به،فلا يعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجية سندا و دلالة.

و أما الإجماع:
الاستدلال على البراءة بالإجماع من وجهين:
اشارة

فتقريره من وجهين:

الوجه الأول:دعوى الإجماع فيما لم يرد دليل على تحريمه مطلقا

الأول:دعوى إجماع العلماء كلهم-من المجتهدين و الأخباريين- على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو و لا على تحريمه من حيث إنه مجهول الحكم،هي البراءة و عدم العقاب على الفعل.

و هذا الوجه لا ينفع إلا بعد عدم تمامية ما ذكر من الدليل العقلي و النقلي للحظر و الاحتياط،فهو نظير حكم العقل الآتي.

الثاني:دعوى الإجماع على أن الحكم في ما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو،هو عدم وجوب الاحتياط و جواز الارتكاب (2) .

و تحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه:

الأول:ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه:

(1)عرفت تفصيل:ذلك عند الكلام في الأخبار كما تقدم أيضا في الآيات.

فراجع.

(2)و تقرير الإجماع بهذا الوجه-لو تم-صالح لرد أدلة الاحتياط-لو تمت- لأنه دليل قطعي،و هي ظنية قابلة للتأويل و لا تكون الأدلة المذكورة واردة على الإجماع حينئذ،بخلاف الوجه الأول.

ص: 80

فإنك لا تكاد تجد من زمان المحدثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط.نعم،ربما يذكرونه في طي الاستدلال في جميع الموارد،حتى في الشبهة الوجوبية التي اعترف القائلون بالاحتياط هنا بعدم وجوبه فيها.و لا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول.

فمنهم:كلام ثقة الإسلام الكليني قدس سرّه،حيث صرح في ديباجة الكافي:

بأن الحكم في ما اختلف فيه الأخبار التخيير،و لم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط في ما تعارض فيه النصان و ما لم يرد فيه نص بوجوبه في خصوص ما لا نص فيه.

فالظاهر:أن كل من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا (1) .

و منهم:الصدوق،فإنه قال:اعتقادنا أن الأشياء على الإباحة حتى يرد النهي.

(1)هذا موقوف على استقصاء كلماتهم،و لا مجال للكلام فيه قبله.و مجرد ورود النصوص بالاحتياط في خصوص تعارض النصين و عدم ورودها في خصوص فقد النص-الذي هو محل الكلام-لا يكشف عن ذلك،لا مكان أن يكون وجه تخصيص وجوب الاحتياط بمورد فقد النص دون تعارض النصين هو إطلاق بعض أدلة الاحتياط بعد تخصيصها أو تقييدها بأدلة التخيير في تعارض النصين،تقديما لأدلة التخيير على أدلة الاحتياط في تعارض النصين،لأنها أرجح منها،فتصلح لتقييد إطلاقات أدلة الاحتياط.فتبقي إطلاقات الاحتياط حجة في غير مورد تعارض النصين كفقد النص و إجماله.

ص: 81

و يظهر من هذا موافقة والده و مشايخه،لأنه لا يعبر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم،بل ربما يقول:«الذي أعتقده و افتي به»،و استظهر من عبارته هذه:أنه من دين الإمامية.

و أما كلام السيدين:فقد صرحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة،و صرحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد:أنه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل (1) .

و أما الشيخ قدس سرّه:فإنه و إن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس سرّه إلى أن الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف،إلا أنه صرح في العدة:بأن حكم الأشياء من طريق العقل و إن كان هو الوقف،لكنه لا يمتنع أن يدل دليل سمعي على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف،بل عندنا الأمر كذلك و إليه نذهب،انتهى.

و أما من تأخر عن الشيخ قدس سرّه،كالحلي و المحقق و العلامة و الشهيدين و غيرهم:فحكمهم بالبراءة يعلم من مراجعة كتبهم.

و بالجملة:فلا نعرف قائلا معروفا بالاحتياط و إن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة.

ثم إنه ربما نسب إلى المحقق قدس سرّه رجوعه عما في المعارج إلى ما في المعتبر:

من التفصيل بين ما يعم به البلوى و غيره و أنه لا يقول بالبراءة في الثاني.

و سيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلة إن شاء اللّه (2) .

(1)و هو البراءة لما سبق منهما في الكلام الأول.

(2)يأتي في التنبيه الأول من تنبيهات هذه المسألة.

ص: 82

و مما ذكرنا يظهر:أن تخصيص بعض القول بالبراءة بمتأخري الإمامية مخالف للواقع،و كأنه ناش عما رأى من السيد و الشيخ من التمسك بالاحتياط في كثير من الموارد،و يؤيده (1) ما في المعارج:من نسبة القول برفع الاحتياط على الإطلاق إلى جماعة.

الوجه الثاني:الإجماعات المنقولة و الشهرة المحققة

الثاني:الإجماعات المنقولة و الشهرة المحققة،فإنها قد تفيد القطع بالاتفاق.

و ممن استظهر منه دعوى ذلك:الصدوق رحمه اللّه في عبارته المتقدمة عن اعتقاداته.

و ممن ادعى اتفاق المحصلين عليه:الحلي في أول السرائر،حيث قال بعد ذكر الكتاب و السنة و الإجماع:إنه إذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة،التمسك بدليل العقل، انتهى.و مراده بدليل العقل-كما يظهر من تتبع كتابه-هو أصل البراءة.

و ممن ادعى إطباق العلماء:المحقق في المعارج في باب الاستصحاب، و عنه في المسائل المصرية أيضا في توجيه نسبة السيد إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نص فيه:أن من أصلنا العمل بالأصل حتى يثبت الناقل،و لم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمائعات.

فلولا كون الأصل إجماعيا لم يحسن من المحقق قدس سرّه جعله وجها لنسبة (1)يعني:يؤيد بطلان تخصيص القول بالبراءة بمتأخري الإمامية.و وجه التأييد أن صريح المحقق وجود القائل بالبراءة في العصر السابق عليه،و هو عصر القدماء.

ص: 83

مقتضاه إلى مذهبنا.

و أما الشهرة:فإنها تتحقق بعد التتبع في كلمات الأصحاب خصوصا في الكتب الفقهية،و يكفي في تحققها ذهاب من ذكرنا من القدماء و المتأخرين.

الوجه الثالث:الإجماع العملي

الثالث:الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم عليه السّلام.

فإن سيرة المسلمين من أول الشريعة بل في كل شريعة على عدم الالتزام و الإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص و عدم الوجدان (1) ،و أن طريقة الشارع كانت تبليغ المحرمات دون المباحات،و ليس ذلك إلا لعدم احتياج الرخصة في الفعل إلى البيان و كفاية عدم النهي فيها.

قال المحقق قدس سرّه-على ما حكى عنه-:إن أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم،و لا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول و المشروب أن يعلم التنصيص على إباحته،و يعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم (2) ،و لو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم (1)كما قد يشهد به تحقق المخالفة للأحكام الشرعية غفلة عنها،إذ المرء في حال الغفلة يعمل على مقتضي طبعه،فلو كان من شأن المسلمين الاحتياط لكان ذلك موجبا لتبدل طبعهم و انقلاب حالهم من الإقدام إلى الإحجام.فتأمل.

(2)لا يخفى أن هذا مختص بحال الغفلة،أما مع الشك فاللازم الفحص عندهم،و لا عذر بدونه.و من الظاهر أن عدم وجوب الاحتياط مع الغفلة مما لا ينكره الأخباريون فلا وجه للاستشهاد بذلك في ردهم.إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا

ص: 84

الإذن،انتهى.

أقول:إن كان (1) الغرض مما ذكر-من عدم التخطئة-بيان قبح مؤاخذة الجاهل بالتحريم،فهو حسن مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع،لكنه راجع إلى الدليل العقلي الآتي (2) ،و لا ينبغي الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع،بل بناء كافة العقلاء و إن لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك.

و إن كان الغرض منه أن بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل،حتى لو فرض عدم قبحه -لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام (3) -لم يزل (4) بناؤهم على ذلك،فهو (5) مبني على عدم وجوب دفع الضرر المحتمل،و سيجيء الكلام فيه إن شاء اللّه.

من أن الغفلة المذكورة كاشفة عن كون مقتضى طبع المسلم الإقدام مع عدم العلم لا الإحجام.

(1)هذا الترديد إنما يتم في سيرة العقلاء بما هم عقلاء.أما سيرة المسلمين -أو غيرهم من أهل الشرائع-فلو فرض إحرازها كشفت عن عدم تمامية الدليل على الاحتياط في الشريعة،فتصلح لرد دليل الاحتياط،و لا تكون محكومة له.و منه يظهر الوجه في التخصيص بسيرة أهل الشرائع.

(2)يعني:و هو لا يصلح لمعارضة دليل الاحتياط،بل هو محكوم له.

(3)بأن يكون ممن ألزم بالاحتياط.

(4)جواب(لو)في قوله:«حتى لو فرض عدم قبحه...».

(5)جواب(إن)في قوله:«و إن كان الفرض منه أن بناء العقلاء...».

ص: 85

الرابع من الأدلة:حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف.

و يشهد له:حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه (1) .

و دعوى:أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة،مدفوعة:بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه،و إنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية (2) و إن لم يكن في مورده تكليف في الواقع،فلو تمت عوقب على (1)الاعتراف بعدم الإعلام لا دخل له إلا من حيث استلزامه للغفلة،أو من حيث كشفه عن عدم بلوغ الحكم إلى مرتبة الفعلية،أو رجوعه إلى تقصير المولى في بيان التكليف.

و الأولان يقبح العقاب معهما قطعا حتى عند القائل بوجوب الاحتياط في ما نحن فيه،فلو لم يستلزم عدم الاعلام أحد الأمرين المذكورين فهو كسائر موارد الجهل،و ليس أوضح من غيره حتى يتسنى الاحتجاج به.

و الثالث-مع أنه غير مطرد لإمكان تعذر البيان على المولى-لا دخل له بقبح العقاب،فإن تقصير المولى في حفظ غرضه و قبح ذلك منه لا ينافي وجوب الاحتياط على العبد و حسن عقابه على المخالفة.فالعمدة أن دعوى قبح العقاب بلا بيان قطعية اتفاقية لا تحتاج إلى استدلال و إيضاح.

(2)فإن قاعدة دفع الضرر المحتمل لا يكون بيانا و أمارة على وجود الضرر و ثبوت التكليف،حتى يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان،و إنما هي قاعدة ظاهرية تقتضي الحذر من الضرر بعد فرض عدم البيان،فلا يرتفع بها موضوع القاعدة.

ص: 86

مخالفتها (1) و إن لم يكن تكليف في الواقع،لا على التكليف المحتمل على لكن هذا موقوف على أن المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب خصوص بيان التكليف الواقعي الذي يكون العقاب عليه،نظير البيان الحاصل بالأمارات و الطرق الاجتهادية،و ليس الأمر كذلك،بل لا إشكال في أن موضوع قاعدة قبح العقاب هو الأعم من البيان الظاهري الصالح لتنجيز الواقع و إن لم يصلح للكشف عنه.

و لذا لا إشكال في أن أدلة الاحتياط-لو تمت-تكون رافعة لموضوع القاعدة، مع أنها لا تصلح لبيان الأحكام الواقعية التي هي موضوع العقاب،و إنما هي متعرضة لقاعدة ظاهرية منجزه للأحكام الواقعية،و ليست إلا بيانا لوجوب الاحتياط الذي هو من الأحكام الطريقية التي لا تكون موضوعا للعقاب.

فالذي ينبغي أن يقال:إن قاعدة دفع الضرر المحتمل لو جرت فهي نفسها ليست من القواعد المنجزة لموضوعها،لأن التنجيز إنما يكون مع ثبوت المسئولية و استحقاق الجزاء و لو بالذم من العقلاء و للاستنكار عندهم،و من الظاهر أن احتمال الضرر لا يقتضي بنفسه مسئولية في ارتكابه،بل لا يترتب إلا الضرر نفسه، لو صادف تحقق موضوعه،فالإقدام مع الشبهة المحصورة على بعض الأطراف لا يقتضي إلا ترتب العقاب المحتمل لو صادف الحرام الواقعي،و لا يقتضي مسئولية زائدة عليه،فالتنجز ليس مستندا إلى القاعدة،بل إلى أمر آخر كالعلم الإجمالي أو نحوه،و ليست قاعدة دفع الضرر إلا قاعدة عقلائية لا يكون مخالفها إلا سفيها،لا أنه يكون مسئولا و مورد للذم و الاستنكار و العقاب،كما هو حال المنجز.و لعله إليه يرجع ما قيل من أنها قاعدة فطرية.و قد سبق منا ما يتعلق بذلك في الدليل الأول عن للأدلة العقلية على حجية مطلق الظن.و إذا لم تكن قاعدة دفع الضرر قاعدة منجزة لم ترفع موضوع قاعدة قبح العقاب.فتأمل جيدا.

(1)لا مجال للعقاب على مخالفتها،لأنها قاعدة ظاهرية عقلية لا ملاك لها في قبال الواقع.

ص: 87

فرض وجوده (1) ،فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة، بل قاعدة القبح واردة عليها،لأنها فرع احتمال الضرر أعني العقاب،و لا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف (2) فتردد المكلف به بين أمرين،كما في الشبهة المحصورة و ما يشبهها.

هذا كله إن اريد ب(الضرر)العقاب،و إن أريد به مضرة أخرى غير العقاب-التي لا يتوقف ترتبها على العلم-،فهو و إن كان محتملا (3) لا (1)لأن العقاب عليه بلا بيان بناء على عدم صلوح قاعدة دفع الضرر للبيان.

(2)بل بتنجيز التكليف،و لذا تجري مع إيجاب الاحتياط مع أنه حكم طريقي لا عقاب عليه و ليس بيانا للتكليف الواقعي،بل ليس هو إلا منجز للتكليف الواقعي لا غير،كما سبق.

(3)كأنه من جهة ملازمة احتمال الحرمة لاحتمال المفسدة.لكن المفسدة غالبا ليست من سنخ الأضرار التي يهتم أشخاص الناس بدفعها بحسب فطرتهم بل يغلب كونها من سنخ الأضرار العامة التي لا تهم الناس بأشخاصهم.مع أنّها لو أهمتهم لوقعوا فيها لا مسئولية عليهم و مثل ذلك لا يقتضي تنجزا،لما عرفت من أن قاعدة دفع الضرر ليست من القواعد المنجزة نعم يجب شرعا دفع الضرر الخاص بالنفس،أو الطرف-على ما قيل و تقدم في الدليل الأول من أدلة حجيه مطلق الظن -و الضرر المذكور يتنجز شرعا بالاحتمال إذا كان عقلائيا يصدق معه الخوف-إلا أن الضرر المذكور لا يحتمل في المقام.بهذا النحو،بل احتماله-لو فرض-ليس عقلائيا فلا يكون مجرى للقاعدة.نعم لو فرض احتماله بنحو يصدق معه الخوف

ص: 88

يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان،إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية (1) لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين،فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة لكان هذا مشترك الورود،فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب الدفع،و إما من دعوى ترخيص الشارع و إذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر،و سيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعية إن شاء اللّه.

ثم إنه ذكر السيد أبو المكارم قدس سرّه في الغنية:أن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.و تبعه بعض من تأخر عنه،فاستدل به في مسألة البراءة.

و الظاهر:أن المراد به ما لا يطاق الامتثال به و إتيانه بقصد الطاعة (2) ، تعيّن وجوب الاحتياط شرعا و لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بيان حينئذ لكنه مجرد فرض لا واقع له أو يندر وقوعه،و هو خارج عن محل الكلام.

(1)ظاهرة التسليم بكبرى وجوب دفع الضرر الدنيوي شرعا،و قد عرفت المنع من ذلك،و أنه إنما يسلم في ضرر النفس و نحوه،و الشبهة فيه و إن كانت موضوعية إلا أنها منجزة لو صدق معها الخوف لا مجال للرجوع فيها للبراءة.

فالعمدة عدم احتمال الضرر المذكور بنحو يصدق معه الخوف و محل الكلام غالبا أو دائما،كما سبق.

(2)يعني:مع الجزم بالنية.لكن هذا مختص بالتعبديات و لا يشمل التوصليات،مع أن التكاليف التحريمية توصلية غالبا أو دائما و من ثم كان حمل كلام السيد في الغنية على ذلك بعيدا.و لعله لأجل هذا قال بعض أعاظم المحشّين قدس سرّه بعد الإشكال في الحمل المذكور:«فيغلب على الظن كون مراد السيد قدس سرّه مما ذكره نفي التكليف عن الغافل بقرينة ذكر ذلك في دليل اشتراط العلم للتكليف في قبال الغفلة

ص: 89

كما صرح به جماعة من الخاصة و العامة في دليل اشتراط التكليف بالعلم، و إلا فنفس الفعل لا يصير مما لا يطاق بمجرد عدم العلم بالتكليف به.

و احتمال كون الغرض من التكليف مطلق صدور الفعل و لو مع عدم قصد الإطاعة (1) ،أو كون الغرض من التكليف مع الشك فيه إتيان الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الإتيان بمجرد احتمال كونه مطلوبا للأمر،و هذا ممكن من الشاك و إن لم يكن من الغافل،مدفوع:بأنه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاك في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبية (2) ، أغنى ذلك عن التكليف بنفس الفعل (3) ،و إلا لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور (4) .

عن التكليف رأسا.فتأمل».

و إن كان قد يشكل ما ذكره أيضا بأن عقاب الغافل و إن كان قبيحا-مع عدم تقصيره-إلا أنه ليس بملاك قبح التكليف بما لا يطاق،بل بملاك امتناع تنجيز التكليف في حق الغافل غير المقصر.

(1)لا يخفى أن هذا مقطوع به في التوصليات.

(2)الذي هو راجع إلى إيجاب الاحتياط الذي هو محل الكلام في المقام.

(3)كأنه من جهة كفاية التكليف بالاحتياط في تحصيل الفرض المذكور.و إن لم يكن هناك تكليف واقعي.لكن من الظاهر أن التكليف بالاحتياط على احتمال التكليف الواقعي،فكيف يكون مغنيا عنه بحيث يوجب العلم بعدمه لعدم الفائدة فيه؟!.

(4)كأنه لعدم وصول التكليف المشكوك و عدم منجزيته،فلا يكفي تحصيل غرضه،و يكون بلا فائدة.لكن عرفت أن فائدته فتح باب تشريع الاحتياط.

ص: 90

و الحاصل:أن التكليف المجهول لا يصلح لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا (1) ،و صدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف لا يمكن أن يكون غرضا للتكليف.

و اعلم:أن هذا الدليل العقلي-كبعض ما تقدم من الأدلة النقلية- معلق على عدم تمامية أدلة الاحتياط (2) ،فلا يثبت به إلا الأصل في مسألة البراءة،و لا يعد من أدلتها بحيث يعارض أخبار الاحتياط.

الاستدلال على البراءة بوجوه غير ناهضة

و قد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة:

(1)يعني:و لو مع عدم قصد الطاعة.و كأنه لما اشتهر من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي في نفس المكلف.لكن لازم ذلك امتناع الواجبات التوصلية،و كون جميع الواجبات تعبدية،كما قد يذهب إليه بعضهم بدعوى إن مرجع الواجبات التوصلية إلى إسقاط الموضوع،لا إلى موافقة الأمر:و أن الأمر منحصر بالتعبدي لا غير.و هو في غاية الوهن و العمدة في دفع الشبهة المذكورة أن إحداث الداعي و إن كان غرضا من التكليف إلا أنه مترتب عليه بالمباشرة من دون توسط الامتثال و لا دخل للمكلف به بل هو من لوازمه غير المنفكة عنه و أما المكلف فليس عليه إلا تحقيق متعلق الأمر و ما يدعو إليه،و هو كما يكون خصوص الفعل عن تعبد الطاعة-كما في التعبديات-يكون مطلق الفعل،كما في التوصليات بل مقتضي الاطلاق الثاني،كما حقق في محله.

و بالجملة:فداعوية الأمر التي هي فرض منه و أثر غير منفك عنه غير داعويته المأخوذة في متعلقه التابعة لكيفية جعله التي تكون معتبرة تارة و غير معتبرة أخرى، و الخلط بينهما في غير محله.و تمام الكلام في مبحث التعبدي التوصلي.

(2)لما عرفت من أن المراد من البيان مطلق الرافع لقبح العقاب المنجز للتكليف،و أدلة وجوب الاحتياط لو تمت كافية في تنجيزه.

ص: 91

استصحاب البراءة المتيقنة

منها:استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر أو الجنون.

و فيه:أن الاستدلال مبني على اعتبار الاستصحاب من باب الظن، فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالة على الحكم الواقعي (1) ،دون الأصول المثبتة للأحكام الظاهرية.و سيجيء عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظن إن شاء اللّه.

و أما لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك،فلا ينفع في المقام،لأن الثابت بها (2) ترتب اللوازم المجعولة الشرعية على المستصحب،و المستصحب هنا ليس إلا براءة الذمة من التكليف و عدم المنع من الفعل و عدم استحقاق العقاب عليه (3) ، و المطلوب في الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل أو ما يستلزم ذلك-إذ لو لم يقطع بالعدم و احتمل العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه حتى يأمن العقل من العقاب، (1)إذ حينئذ يكون كسائر الأمارات صالحا لإثبات اللوازم غير الشرعية و أحكامها.لكن هذا مبني على حجية الأمارات في لازم مؤدياتها مطلقا،و هو خلاف التحقيق،بل يختص بخصوص ما كان مقتضى سيرة العقلاء حجيته في اللوازم،و لعل الاستصحاب ليس منها.

(2)يعني:بالأخبار المذكورة التي مفادها أصل تعبدي.

(3)لا يخفى أن الأمور الثلاثة مختلفة،فالأخير عقلي صرف،و الثاني شرعي كذلك.و أما الأول فهو كالثاني إن أريد منه عدم انشغال الذمة بالتكليف و عدم تنجزه على المكلف و كالأخير إن أريد منه المعذورية عقلا و لو مع ثبوت التكليف.

ص: 92

و معه (1) لا حاجة إلى الاستصحاب و ملاحظة الحالة السابقة-،و من المعلوم أن المطلوب المذكور (2) لا يترتب على المستصحبات المذكورة، لأن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة حتى يحكم به الشارع في الظاهر (3) .

و أما الإذن و الترخيص في الفعل،فهو و إن كان أمرا قابلا للجعل و يستلزم انتفاء العقاب واقعا،إلا أن الإذن الشرعي ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة،بل هو من المقارنات،حيث إن عدم المنع عن الفعل-بعد العلم إجمالا بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام الخمسة-لا ينفك عن كونه مرخصا فيه،فهو نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم (4) .

(1)يعني:مع الاحتياج إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

(2)و هو القطع بعدم ترتب العقاب.

(3)يعني:فيمتنع جريان استصحاب عدم الاستحقاق،مع أنه لو جرى لم يوجب القطع بعدم العقاب،فإن القطع بعدم العقاب و إن كان ملازما للقطع بعدم استحقاقه،لما هو المعلوم من عدم عقاب الشارع مع عدم الاستحقاق،إلا أن استصحاب عدم الاستحقاق لا يوجب القطع بعدم الاستحقاق حتى يوجب القطع بعدم العقاب،فإن التعبد بشيء لا يستلزمه واقعا،بل يبقي محتملا و إن صح التعبد به بلحاظ المعذرية و المنجزية و بلحاظ ترتب المسئولية،و من الظاهر أن استحقاق العقاب ليس موضوعا للمسئولية،بخلاف التكاليف الشرعية،فإن التعبد بعدمها و إن كان لا يوجب القطع بعدمها إلا أنه موجب لارتفاع المسئولية عنها بالإضافة إليها و ذلك كاف في القطع بعدم العقاب.

(4)قوله:«بأصالة»متعلق بقوله:«بنفي»و قوله:«بنفي»متعلق بقوله:

ص: 93

و من هنا تبين:أن استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا-من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظن و عدم إثباته إلا اللوازم الشرعية- في (1) هذا المقام باستصحاب البراءة،منظور فيه (2) .

نعم،من قال باعتباره من باب الظن،أو أنه يثبت بالاستصحاب من باب التعبد كل ما لا ينفك عن المستصحب لو كان معلوم البقاء و لو لم يكن من اللوازم الشرعية،فلا بأس بتمسكه به (3) .

«إثبات».و هذا منه قدس سرّه راجع إلى دعوى أن أصالة عدم المنع لا تثبت الترخيص و الإذن إلا بناء على الأصل المثبت.و هو مبني على أن عدم العقاب من لوازم الإذن و الترخيص،لا من لوازم عدم المنع،و الظاهر خلافه،و أن عدم المنع كاف في عدم استحقاق العقاب بلا حاجة إلى احراز الإذن و الترخيص،لأن الاستحقاق من لوازم المنع،فمع عدمه لا موجب للاستحقاق،و حينئذ يكون استصحاب عدم المنع بنفسه كافيا في ترتب الأثر المطلوب،بلا حاجة إلى إثبات لازمه،و هو الإذن و الترخيص.

هذا مع أنه لو فرض ملازمة عدم المنع للإذن كان الإذن متيقنا سابقا أيضا بتبعه،فيمكن استصحابه بنفسه.إلا أن يدعى عدم قابلية الموضوع للإذن حين اليقين بعدم المنع.و هو مسلم في المجنون دون الطفل.

ثم إن المصنف قدس سرّه تعرض لحال استصحاب عدم استحقاق العقاب، و استصحاب عدم المنع،و لم يتعرض لاستصحاب البراءة،و حيث عرفت رجوعه إلى أحدهما يظهر حاله مما ذكر فيهما.

(1)متعلق بقوله:«استدلال...»و كذا قوله:«باستصحاب البراءة».

(2)خبر(أن)في قوله:«و من هنا تبين أن استدلال...».

(3)فإن البراءة بعد فرض البلوغ و الالتفات بأي معنى كانت تستلزم الإذن و الترخيص الذي يكون به موجبا للقطع بعدم العقاب.لكن هذا إنما ينفع بناء على

ص: 94

مع أنه يمكن النظر فيه،بناء على ما سيجيء:من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب،و موضوع البراءة في السابق و مناطها هو الصغير الغير القابل للتكليف،فانسحابها في القابل أشبه بالقياس من الاستصحاب،فتأمل (1) .

و بالجملة:فأصل البراءة أظهر عند القائلين بها و المنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب.

كون الاحتياط عسرا

و منها:أن الاحتياط عسر منفي وجوبه.

و فيه:أن تعسره ليس إلا من حيث كثرة موارده،و هي ممنوعة،لأن مجراها عند الأخباريين موارد فقد النص على الحرمة و تعارض النصوص من غير مرجح منصوص،و هي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج،و عند المجتهدين موارد فقد الظنون الخاصة (2) ،و هي عند الأكثر ليست بحيث يؤدي الاقتصار عليها و العمل فيما عداها على الاحتياط إلى إثبات الاستصحاب اللازم مجراه،و قد عرفت أنه لا يكفي فيه كونه من الأمارات المفيدة للظن.

(1)لعله إشارة إلى أن الكبر و الصغر لا يوجب تبدل الموضوع عرفا،و احتمال اختصاص الملاك بحال الصغر لا يمنع من الاستصحاب،و تمام الكلام في تحديد الموضوع في مبحث الاستصحاب.

(2)لم يتضح بناء المجتهدين على الرجوع إلى الاحتياط عند فقد الظنون الخاصة إلا مع العلم الإجمالي،أو مع التقصير في الفحص في الشبهة الحكمية،أما مع عدمها فالمرجع البراءة.و لكن رأى المجتهدين لا دخل له في المقام.إذ الكلام في النزاع مع الأخباريين.

ص: 95

الحرج.

و لو فرض لبعضهم قلة الظنون الخاصة فلا بد له من العمل بالظن الغير المنصوص على حجيته،حذرا عن لزوم محذور الحرج،و يتضح ذلك بها ذكروه في دليل الانسداد الذي أقاموه على وجوب التعدي عن الظنون المخصوصة المنصوصة،فراجع.

كون الاحتياط متعذرا أحيانا

و منها:أن الاحتياط قد يتعذر،كما لو دار الأمر بين الوجوب و الحرمة.

و فيه:ما لا يخفى (1) ،و لم أر ذكره إلا في كلام شاذ لا يعبأ به.

(1)إذ تعذر الاحتياط في مورده لا يقتضي سقوطه في غيره مع أن مورد الدوران بين الوجوب و الحرمة خارج عن محل الكلام،إذ الكلام في الدوران بين الحرمة و غير الوجوب.

ص: 96

أدلة القول بالاحتياط
اشارة

احتج للقول الثاني-و هو وجوب الكف عما يحتمل الحرمة-بالأدلة الثلاثة:

الاستدلال بالكتاب:

فمن الكتاب طائفتان:

الاستدلال بالآيات الناهية عن القول بغير علم

إحداهما:ما دلّ على النهي عن القول بغير علم،فإن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة (1) قول عليه بغير علم و افتراء،حيث إنه لم يؤذن فيه.

و لا يرد ذلك على أهل الاحتياط،لأنهم لا يحكمون بالحرمة،و إنما يتركون لاحتمال الحرمة (2) ،و هذا بخلاف الارتكاب،فإنه لا يكون إلا (1)إن كان المراد الحكم بترخيص الشارع فيه واقعا بعنوانه الأولى.فهو ممنوع و لا يدعيه القائل بالبراءة،بل هو مناف لفرض الشك في الحكم الواقعي.

و إن كان المراد الحكم بترخيص الشارع فيه ظاهرا بعنوان كونه محتمل الحرمة، فهو ليس قولا بغير علم بعد دلالة الأدلة المتقدمة عليه.على أنه قد يتمسك بحكم العقل فلا يلزم نسبة حكم للشارع أصلا لا واقعي و لا ظاهري.

(2)الترك لاحتمال الحرمة إن كان من جهة دعوى حكم الشارع بوجوب الاحتياط فهو يتضمن نسبة حكم الشارع كدعوى حكمه بالبراءة و الإباحة

ص: 97

بعد الحكم بالرخصة و العمل على الإباحة (1) .

الاستدلال بالآيات الدالة على لزوم الاحتياط و الاتقاء

و الأخرى:ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط و الاتقاء و التورع، مثل ما ذكره الشهيد رحمه اللّه في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت-للدلالة على مشروعية الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد-و هي قوله تعالى: اتقوا اللّه حق تقاته و جاهدوا في اللّه حق جهاده (2) .

أقول:و نحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط:

الظاهرية.و إن كان بمقتضى الحكم العقلي بدعوى:أن الأصل في الأشياء التوقف حتى تثبت الرخصة فهو-مع عدم تماميته في نفسه،لما سبق حكم العقل بالبراءة- رجوع إلى الاستدلال بحكم العقل لا بالآيات،نظير استدلال القائلين بالبراءة يقاعده قبح العقاب بلا بيان.فتأمل.

(1)إن أريد بها الإباحة الشرعية فهو ممنوع بعد ما عرفت من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان،إذ معه لا يتوقف الإقدام على إحراز الأدلة الشرعية،و إن أريد بهما ما يعم الإباحة العقلية،فهي محرزة بعد ما عرفت مع أن القول بالاحتياط كذلك أيضا يتوقف على تنجز التكليف و لو بحكم العقل.

(2)أما الآية الأولى فقد يتوجه الاستدلال بها مع فرض احتمال التكليف،لأن التقوى مأخوذة من التوقي،و هو لا يتوقف على العلم بالضرر،بل يكفي احتماله.

و أما الآية الثانية فيشكل الاستدلال بها مع عدم العلم بالتكليف،إذ الجهاد في اللّه تعالى إنما هو بالقيام و الامتثال لتكليفه،فيكون التمسك بها مع الشك في التكليف من التمسك،بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام،الذي لا شبهة في عدم صحته.

ص: 98

فاتقوا اللّه ما استطعتم (1) ،و قوله تعالى: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (2) ، و قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه و الرسول (3) .

و الجواب:

أما عن الآيات الناهية عن القول بغير علم-مضافا إلى النقض بشبهة الوجوب و الشبهة في الموضوع (4) -:فبأن فعل الشيء المشتبه حكمه اتكالا على قبح العقاب من غير بيان المتفق عليه بين المجتهدين و الأخباريين،ليس من ذلك (5) .

(1)الكلام فيها هو الكلام في الآية الأولى.

(2)الاستدلال بها مع احتمال التكليف مبني على كون المراد من الإلقاء في التهلكة التعرض لها،لا مباشرتها،أو كون المراد من الهلكة الضياع و التفريط،لا التلفت و الوقوع في الضرر.و إلا كان التمسك بها مع احتمال التكليف المستلزم لاحتمال الضرر من التمسك.بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام نظير ما تقدم في الآية الثانية.

(3)الاستدلال بها مبني على أن المراد من التنازع الاختلاف في أمور الدين، لا التخاصم في الحقوق،و إلا كانت أجنبية عما نحن فيه،على أن في الرد إلى اللّه و الرسول كفاية من عدم القول في الدين بالرأي و التوقف على البيان الشرعي، و هو لا يقتضي وجوب الاحتياط في مقام العمل.كما لا ينافي الإقدام على العقل لقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو دلالة البراءة الشرعية المتقدمة،فتكون هذه الآية نظير الطائفة الأولى.

(4)هذا النقض وارد على الاستدلال بالطائفة الأخرى أيضا.

(5)و كذا لو كان اتكالا على الأدلة الشرعية الدالة على البراءة الظاهرية المتقدمة،كما ذكرناه قريبا.

ص: 99

و أما عما عدا آية التهلكة:فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى و المجاهدة (1) ،مع أن غايتها الدلالة على الرجحان (2) على ما استشهد به الشهيد رحمه اللّه (3) .

و أما عن آية التهلكة:فبأن الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم (4) ،و بمعنى غيره يكون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاجتناب بالاتفاق (5) .

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنة:

و من السنة طوائف:

(1)عرفت أن التقوى يتحقق موضوعها باحتمال التكليف،إلا أنها لما كانت راجعة إلى الحذر كانت مختصة بما إذا كان احتمال التكليف منشأ لاحتمال الضرر، كما لو كان التكليف منجزا،فلا تصلح لبيان تنجز التكليف المحتمل.بل مقتضى ما عرفت من أدلة البراءة العقلية و النقلية عدم تنجزه فلا موضوع للحذر و التقوى.و لا يكون الإقدام منافيا للتقوى و أما آية المجاهدة فقد عرفت الإشكال في الاستدلال بها مع الاحتمال و عدم اليقين بالتكليف.

(2)لا يخفى أن ظاهر الأمر الإلزام لا محض الرجحان،نعم هو ظاهر في الإرشاد جريا على مقتضى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل،لا المولوية.

و استشهاد الشهيد قدس سرّه في غير محله.ثم إن ما ذكره المصنف قدس سرّه لا تعرض فيه للجواب عن الآية الأخيرة و قد عرفت الجواب عنها.

(3)كأنه لأن موضوع كلامه إعادة الصلاة مع كون مقتضي أصالة الصحة تماميتها فلا تكون واجبة.

(4)يعني:بمقتضى أدلة البراءة المتقدمة.

(5)تقدم منه نظيره في الاستدلال على البراءة بحكم العقل،و تقدم الكلام فيه.فراجع.

ص: 100

الاستدلال بالأخبار الدالة على حرمة القول و العمل بغير علم و الجواب عنها

إحداها:ما دل على حرمة القول و العمل بغير العلم.

و قد ظهر جوابها مما ذكر في الآيات.

و الثانية:ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة و عدم العلم،و هي لا تحصى كثرة.

الاستدلال ب لأخبار الدالة على وجوب التوقف:

و ظاهر التوقف المطلق السكون و عدم المضي،فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل (1) ،و هو محصل قوله عليه السّلام في بعض تلك الأخبار:

«الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

فلا يرد على الاستدلال:أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين،و الإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك، و التوقف في العمل لا معنى له (2) .

فنذكر بعض تلك الأخبار تيمنا:

مقبولة ابن حنظلة

منها:مقبولة عمر بن حنظلة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و فيها بعد ذكر المرجحات:«إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك،فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (3) .

(1)هذا بناء على أن المراد من الشبهة اشتباه الحكم الواقعي.أما لو كان المراد منها الأمور المشبهة التي لا توجب البصيرة،فالوقوف عبارة عن عدم متابعة تلك الأمور،فلا تنافي ارتكاب الفعل اعتمادا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو غيرها من الطرق النقلية،فإنها من الأمور الرافعة للشبهة الموجبة للبصيرة المصححة للعمل.

و سيأتي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

(2)اذ لا بد من العمل فعلا أو تركا.

(3)لا يخفى أن الرواية الشريفة لا ظهور لها في الحكم بمنجزية الشبهة بنحو

ص: 101

صحيحة جميل ابن درّاج

و نحوها صحيحة جميل بن دراج،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و زاد فيها:

تصلح لبيان وجوب الاحتياط تأسيسا و مولويا،بل هي ظاهرة في الحث على اجتناب الشبهة بعد فرض منجزيتها فإن التعليل بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ظاهر في المفروغية عن كون الإقدام على الشبهة في معرض الخطر و الهلكة، و الحث على توقي الخطر المحتمل،و لا ظهور له في تنجيز الشبهة غير المنجزة في نفسها،فهي مسوقة مساق الإرشاد إلى دفع الضرر المحتمل،لا مساق التنبيه إلى احتمال الضرر.

مثلا:إذا كان المريض ممن لا يعلم بإضرار الحامض له،فالمناسب للطبيب أن يقول له:لا تستعمل الحامض أو يضرك الحامض و لا يحسن منه أن يقول:لا تستعمل الحامض لأن ترك الحامض شهرا خير من مرض سنة،إلا إذا كان يعلم بإضرار الحامض له و يتسامح في استعماله لالتذاذه به.

و الحاصل:أن التأمل في الرواية و أمثالها شاهد بورودها في مقام الإرشاد و الردع عن التفريط بالتورط في الشبهات الخطرة،لا بيان تحقق الخطر في الشبهة ردعا عن الرجوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لتنفع فيما نحن فيه،بل لا بد من حملها على خصوص الشبهة المنجزة في نفسها مع قطع النظر عن هذه الأدلة كما في موارد العلم الإجمالي أو أصول الدين و نحوها مما سيذكره المصنف قدس سرّه.

بل لا يبعد بعد التأمل فيما ذكرنا و في الروايات الكثيرة التي ذكرها في الوسائل حمل الشبهة على فقد موارد الحجة عند الحاجة إليها و توقف العمل عليها،لا مطلق الشك في الحكم الشرعي الذي هو محل الكلام و الذي عرفت أن الارتكاب فيه بعد الفحص لا يتوقف على قيام الحجة،بل يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل قد يكون الحكم المذكور موجبا لارتفاع الشبهة،حيث يكون الإقدام معه عن بصيرة،فهو وارد على هذه الروايات كوروده على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.فتأمل جيدا.

ص: 102

«إن على كل حق حقيقة و على كل صواب نورا،فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» (1) .

روايات الزهري و السكوني و عبد الأعلى

و في روايات الزهري،و السكوني،و عبد الأعلى:«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،و تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» (2) ،و رواية أبي شيبة عن أحدهما عليهما السّلام،و موثقة سعد بن زياد (3) ،عن جعفر،عن أبيه،عن آبائه،عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم،أنه قال:«لا تجامعوا في النكاح على الشبهة،و قفوا عند الشبهة»-إلى أن قال-:فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (4) .

(1)هذا المضمون يناسب ما ذكرنا في توجيه الرواية السابقة،كما قد يظهر بالتأمل.

(2)لا يخفى عدم جواز الرواية إلا مع العلم،لما فيها من النسبة الموقوفة على الحجة،فالشبهة منجزة بالذات مع قطع النظر عن الحديث،و ليست نظيرا لما نحن فيه.

(3)راوي الرواية مسعدة بن زياد،و السند صحيح لا موثق.

(4)الرواية الشريفة ظاهرة في منجزية الشبهة البدوية في النكاح و لا سيما بضميمة التفسير الوارد فيها من الصادق عليه السّلام بقوله:«إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها أو أنها لك محرمة و ما أشبه ذلك،فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».إلا أنّها-مع ورودها في الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة حتى عند الأخباريين.و أن مقتضى الاستصحاب الموضوعي فيه الحل-بمعارضته بموثقة مسعدة بن صدقة التي تأتي في الشبهة الموضوعية.فلا بد أن يحمل على الإرشاد بلحاظ الشدة و الحيرة التي تترتب على تقدير انكشاف الحال.أو الكراهة لاهتمام الشارع في باب النكاح بالملاك الواقعي و إن لم يبلغ حد التحريم،فيكون فوته من سنخ الأضرار التي لا يلزم دفعها شرعا و إن كان الحذر منها حسنا.

ص: 103

و توهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب (1) ،مدفوع بملاحظة:أن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا،مع أن جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة و تمهيدا لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة،قرينة على المطلوب (2) .

فمساقه مساق قول القائل:«أترك الأكل يوما خير من أن أمنع منه سنة»،و قوله عليه السّلام في مقام وجوب الصبر حتى يتيقن الوقت:«لأن اصلي بعد الوقت أحب إلي من أن اصلي قبل الوقت»،و قوله عليه السّلام في مقام التقية:

«لأن أفطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحب إلي من أن يضرب عنقي».

وصية الإمام علي عليه السّلام لابنه

و نظيره في أخبار الشبهة قول علي عليه السّلام في وصيته لابنه:«أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته،فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال» (3) .

نعم يبعد أن يكون مقتضي الجمع العرفي بين الروايتين حمل رواية ابن زياد على ما إذا اقترنت الشبهة بالخبر-كما هو مقتضى البلوغ-و حمل موثقة ابن صدقة على ما إذا لم تقترن به إلا أن الظاهر عدم بناء الأصحاب على ذلك مع فرض عدم حجية الخبر و كيف كان فلا مجال للتعدي بها لما نحن فيه.فتأمل جيدا.

(1)كأنه من جهة أن«خير»التفضيل،فتدل على أن الاقتحام في الشبهة فيه الخير أيضا و إن كان الوقوف أكثر خيرا.

(2)و هو ظهوره في الالزام.و قوله:«قرينة»خبر(أن)في قوله:«مع أن جعله...».

(3)لا يخفى أنه إنما يقتضي لزوم الاحتياط في الطريق و عدم سلوك ما يحتمل ضلاله و لا إشكال في وجوب الاحتياط عند خوف ضلال الطريق.لأصالة عدم

ص: 104

موثقة حمزة ابن الطيار و رواية جميل و رواية جابر

و منها:موثقة حمزة بن الطيار:«أنه عرض على أبي عبد اللّه عليه السّلام بعض خطب أبيه عليه السّلام،حتى إذا بلغ موضعا منها قال له:كف و اسكت،ثم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه، و التثبت،و الرد إلى أئمة الهدى عليهم السّلام حتى يحملوكم فيه على القصد و يجلوا عنكم فيه العمى و يعرفوكم فيه الحق،قال اللّه تعالى: فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) ».

و منها:رواية جميل،عن الصادق،عن آبائه عليهم السّلام:«أنه قال رسول اللّه:الأمور ثلاثة:أمر بين لك رشده فاتبعه،و أمر بين لك غيه فاجتنبه، و أمر اختلف فيه فرده إلى اللّه عزّ و جل (2) ».

و منها:رواية جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام في وصيته لأصحابه:«إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده و ردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما حجيته،و لا دخل لذلك بما نحن فيه مع كون حكم العقل بالبراءة قطعيا.

(1)مع الظاهر أن هذه الرواية أجنبية عما نحن فيه ظاهرة في وجوب الرجوع إليهم عليهم السّلام و عدم القول في الدين بغير العلم،و هذا لا يمنع من الرجوع إلى البراءة بعد قيام ما عرفت من الأدلة العقلية و النقلية عليها.

(2)هذه الرواية كسابقاتها أجنبية عما نحن فيه،فإن اتباع الرشد ليس بمعنى فعل المباح.كما أن اجتناب الغي ليس بمعنى ترك الحرام،كما أن الرد إلى اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليس بمعنى التوقف العملي،بل هي ظاهرة في الإرشاد إلى أنه لا بد أن يكون الانسان على بصيرة من أموره،فالطريق الظاهر الرشد يتبع،و الطريق الظاهر الغي يجتنب و مع الاختلاف يرد الأمر للّه تعالى و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم:و لا يعمل فيه على غير بصيرة.و ذلك لا ينافي ارتكاب مشكوك الحرمة اعتمادا على الأدلة السابقة.

ص: 105

شرح اللّه لنا» (1) .

رواية زرارة

و منها:رواية زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام:«ما حق اللّه على العباد؟ (1)هذه الرواية ظاهرة في النهي عن القول في المشكلات الدينية بدون بصيرة،و أنه لا بد في ذلك من الرجوع لأئمة الهدى عليهم السّلام و مثلها ما بعدها و كثير من روايات الباب.و إن اختلفت في بعض الخصوصيات التي أشرنا إليها و لم نكتف بإجمال الكلام فيها كما جري عليه المصنف قدس سرّه.

و بالتأمل فيما ذكرنا يظهر حال كثير من الروايات التي سطرها في الوسائل في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي و غيرها،فإن التأمل فيها شاهد بأنها تشير إلى أمر ارتكازي واحد،و هو الإرشاد إلى لزوم الاعتماد على الحجة الواضحة و كون الانسان على بصيرة من أمره و عدم الركون في الشبهة إلى ما لا ينبغي الركون إليه من الاستحسانات و نحوها مما لم ينزل اللّه بها من سلطان كما قد يشهد به ما ورد عنهم عليهم السّلام من أنه إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق.و ذلك لا ينافي الإقدام على محتمل الحرمة استنادا إلى ما دل من العقل و النقل على عدم تنجز التكليف مع الجهل و صحة الاعتذار عنه بعدم العلم.و لذا لا يرى المنصف أي تناف بين مضمون هذه الروايات و مضمون روايات البراءة مثل«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» فكأنها تشير إلى ما يشير إليه المرسل عن أبى عبد اللّه عليه السّلام:«العامل على غير بصيرة كالسائر على سراب بقيعة لا يزيده سرعة السير إلا بعدا»بل يرى أن أدلة البراءة واردة على هذه الأدلة لأنها رافعة لموضوعها-و هو الشبهة-و موجبة لكون الإقدام عن بينه و بصيرة.

و أما ما تقدم من المصنف قدس سرّه عند الكلام في أدلة كثير من البراءة من أن أدلة الاحتياط واردة عليها فهو مبني على فرض تمامية أدلة الاحتياط،و غض النظر عن ما سبق في ردها و كذا ما تقدم منا من أنها قد تكون معارضة لها.فتأمل جيدا.و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم.

ص: 106

قال:أن يقولوا ما يعلمون،و يقفوا عند ما لا يعلمون».

و قوله عليه السّلام في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين:«و ما لم تجدوا في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك،و لا تقولوا فيه بآرائكم،و عليكم الكف و التثبت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا»،إلى غير ذلك مما ظاهره وجوب التوقف.

الجواب عن الاستدلال بأخبار التوقف

و الجواب:

أن بعض هذه الأخبار مختص بما إذا كان المضي في الشبهة اقتحاما في الهلكة (1) ،و لا يكون ذلك إلا مع عدم معذورية الفاعل،لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السّلام أو إلى الطرق المنصوبة منه عليه السّلام، كما هو ظاهر المقبولة،و موثقة حمزة بن الطيار،و رواية جابر،و رواية المسمعي (2) .

و بعضها وارد في مقام النهي عن ذلك،لاتكاله في الأمور العملية على الاستنباطات العقلية الظنية (3) ،أو لكون المسألة من الاعتقاديات كصفات (1)كما هو مفاد الروايات الأول على ما ذكرنا في توجيهها.و سيأتي بعض الكلام عند التعرض لقوله:«فان قلت...».

(2)هذه الروايات الثلاث و إن تضمنت التوقف و وجوب الرجوع للأئمة عليهم السّلام،إلا أنها لم تتضمن أن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة نعم المقبولة قد تضمنت ذلك.

(3)لم يتقدم شيء من ذلك.إلا أن يكون إشارة إلى مثل رواية المسمعي الناهية عن القول بالرأي.نعم ذكر في الوسائل كثيرا من الروايات المتضمنة لذلك.

ص: 107

اللّه تعالى و رسوله و الأئمة صلوات اللّه عليهم،كما يظهر من قوله عليه السّلام في رواية زرارة:«أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا»، و التوقف في هذه المقامات واجب (1) .

و بعضها ظاهر في الاستحباب،مثل قوله عليه السّلام:«أورع الناس من وقف عند الشبهة» (2) ،و قوله عليه السّلام:«لا ورع كالوقوف عند الشبهة»، و قول أمير المؤمنين عليه السّلام:«من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك.و المعاصي حمى اللّه،فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (3) ، (1)لحرمة القول بغير علم.على أن الحديث لا يتضمن الردع،بل مجرد بيان معيار الكفر.

(2)كأن الأورعية من الصفات الراجحة لا اللازمة التحصيل.فتأمل.

اللهم إلا أن يقال:مقتضى سياق الرواية إرادة بيان ما يلزم،و أنه يعني عما لا يلزم تعريضا بمن يتكلف بعض الأمور غير اللازمة و يفرط فيما هو لازم كبعض العوام أو الزهاد و المتزهدين،كما هو مقتضى قوله عليه السّلام:«أورع الناس من وقف عند الشبهة،و أعبد الناس من أقام الفرائض،و أزهد الناس من ترك الحرام،و أشد الناس اجتهادا من ترك الذنوب».

أو أن المراد الحث على الأمور اللازمة و أنها تغني عن غيرها،و تكفي في رفع الخطر و جلب الخير الاخرويين،لدفع توهم أن من ترك ما زاد على ذلك معرض للخطر.

و كيف كان فسياق الحديث ظاهر في إرادة بيان الأمور اللازمة التي لا مجال للتهاون بها،و لا ظهور له في استحبابها.و حينئذ يتعين حمل الشبهة فيها على ما عرفت، من موارد تنجز الواقع لا على ما نحن فيه.و لعل مثلها في ذلك الرواية الثانية.

(3)الوجه في ظهور هذه الرواية في الاستحباب هو التعليل فيها بأن ارتكاب

ص: 108

و في رواية النعمان بن بشير قال:«سمعت رسول اللّه:يقول:لكل ملك حمى،و حمى اللّه حلاله و حرامه،و المشتبهات بين ذلك.لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه،فدعوا المشتبهات» (1) ، و قوله:«من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه» (2) .

و ملخص الجواب عن تلك الأخبار:أنه لا ينبغي الشك في كون الأمر فيها للإرشاد (3) ،من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها عدم الوقوع في المضار،إذ قد تبين فيها حكمة طلب التوقف،و لا يترتب على مخالفته عقاب غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا،من الهلاك المحتمل (4) .

الشبهة موجب لقرب الانسان من الحرام و تساهله فيه،إذ من الظاهر أنه لا يجب على الانسان البعد عن الحرام،بل يحسن لا غير،و إنما الواجب عليه ترك الحرام لا غير.

مع إمكان حمل الشبهة فيها على المعنى المتقدم،الذي هو أجنبي عما نحن فيه.

(1)الكلام فيها هو الكلام في الرواية السابقة.

(2)لا يبعد جريان الكلام السابق في الرواية السابقة في هذه الرواية،إذ لا يبعد البناء على عدم وجوب الاستبراء للدين،إذ المراد به شدة الورع.فتأمل.

(3)بقرينة التعليل الذي في بعضها هو أمر ارتكازي عقلي مرجعه إلى وجوب دفع الضرر المحتمل،و بعضها قد تضمن الأمر الارتكازي لا بلسان التعليل مثل:«فان الوقوف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال»و غيره.

(4)هذا وحده لا يكفى في الحمل على الإرشاد،لأن الأمر بالاحتياط شرعا راجع إلى التحذير عن العقاب على الواقع المحتمل أيضا،لا على ترك الاحتياط، لأنه حكم طريقي لا عقاب عليه،كما تقدم سابقا.مع أنه قد يكون مولويا راجعا إلى وجوب التحفظ على الواقع المستلزم لتنجزه و ان لم يكن متنجزا بنفسه عقلا.

ص: 109

فالمطلوب في تلك الأخبار ترك التعرض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة،فإن كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاخروي،كما لو كان التكليف متحققا فعلا في موارد الشبهة نظير الشبهة المحصورة و نحوها،أو كان المكلف قادرا على الفحص و إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السّلام أو الطرق المنصوبة،أو كانت الشبهة من العقائد و الغوامض التي لم يرد الشارع التدين به بغير علم و بصيرة،بل نهى عن ذلك بقوله عليه السّلام:

«إن اللّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا،فلا تتكلفوها،رحمة من اللّه لكم» (1) ،فربما يوقع تكلف التدين فيه بالاعتبارات العقلية أو الشواذ النقلية،في العقاب بل في الخلود فيه إذا وقع التقصير في مقدمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة،ففي (2) هذه المقامات و نحوها يكون التوقف لازما عقلا و شرعا من باب الإرشاد،كأوامر الطبيب بترك المضار.

و إن كان (3) الهلاك المحتمل مفسدة اخرى غير العقاب-سواء كانت دينية كصيرورة المكلف بارتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية، فالعمدة في الحمل على الإرشاد ما عرفت من ظهور هذه الأخبار في المفروغية عن احتمال العقاب مع الشبهة،فلا بد من فرض منجزية الشبهة في مرتبة سابقة على هذه الأخبار من دون أن تكون هذه الأخبار مسوقة لتنجيزها.

(1)الظاهر أن هذا أجنبي عما ذكره المصنف قدس سرّه من القول و التدين بغير علم، بل هو وارد للردع عن التكلف العملي لما لم يكلف به الشارع الأقدس.

(2)هذا بمنزلة الجواب عن الشرط في قوله:«فان كان ذلك الهلاك المحتمل...».

(3)عطف على قوله:«فان كان الهلاك المحتمل من قبيل العقاب...».

ص: 110

كما دل عليه غير واحد من الأخبار المتقدمة (1) ،أم دنيوية كالاحتراز عن أموال الظلمة (2) -فمجرد احتماله (3) لا يوجب العقاب على فعله لو فرض حرمته واقعا،و المفروض أن الأمر بالتوقف في هذه الشبهة لا يفيد استحقاق العقاب على مخالفته،لأن المفروض كونه للإرشاد (4) ، فيكون المقصود منه التخويف عن لحوق غير العقاب من المضار المحتملة، فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجبا شرعيا بمعنى ترتب العقاب على ارتكابه.

و ما نحن فيه و هي الشبهة الحكمية التحريمية من هذا القبيل،لأن الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الأخروية باتفاق الأخباريين، (1)لكن هذا التعليل لا يناسب التعليل السابق بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،فإن ظاهر ذلك التعليل،إرادة الهلكة المتوقعة الحصول في موارد الشبهة بمصادفة الواقع،و ظاهر هذا التعليل أنه دائم الحصول ملازم لارتكاب الشبهة و إن لم يصادف الواقع،فهذا التعليل ليس من صغريات التعليل السابق،بل هو تعليل آخر في مقابله.

(2)كأنه بلحاظ آثارها الوضعية.

(3)محذور القرب من المعصية ملازم للشبهة-كما عرفت-لا محتمل.لكن عرفت أنه لا يوجب العقاب لحمل التعليل به على الاستحباب.

(4)أو للاستحباب كما عرفت من التعليل في بعض النصوص بأن الأخذ بالشبهة يوجب القرب من المعصية.و كيف كان فهو لا يصلح لبيان حرمة الوقوع في المفسدة المذكورة مولويا،و لا لبيان منجزية احتمالها و ترتب العقاب معه ليجب الحذر منه بالاحتياط.

ص: 111

لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرد مخالفة الحرمة الواقعية المجهولة (1) و إن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقف و الاحتياط،فإذا لم يكن المحتمل فيها هو العقاب الأخروي كان حالها حال الشبهة الموضوعية-كأموال الظلمة و الشبهة الوجوبية-في أنه لا يحتمل فيها إلا غير العقاب من المضار،و المفروض كون الأمر بالتوقف فيها للإرشاد و التخويف عن تلك المضرة المحتملة.

مفاد الأخبار المذكورة

و بالجملة:فمفاد هذه الأخبار بأسرها التحذير عن الهلكة المحتملة، فلا بد من إحراز احتمال التهلكة (2) عقابا كانت أو غيره،و على تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكال و لا خلاف في وجوب التحرز عنه إذا كان المحتمل عقابا،و استحبابه إذا كان غيره،فهذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال و لا في حكمه (3) .

فإن قلت:إن المستفاد منها احتمال التهلكة في كل محتمل التكليف (4) ، و المتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعية الدينية هي الأخروية،فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل الجهل، (1)فهي غير متنجزة في نفسها مع قطع النظر عن هذه الأخبار.و سيأتي توضيح ذلك.

(2)يعني:في مرتبة سابقة عن شمول هذه الأخبار.

(3)و هو وجوب الاحتياط أو استحبابه.

(4)كما هو مقتضى إطلاق الشبهة،بناء على كون المراد بها الجهل بالتكليف.

لكن عرفت قرب كون المراد بها معنى آخر،و هو ما يقابل الحجة من التشبيهات و التلبيسات و الاستحسانات و نحوها مما لم ينزّل اللّه بها من سلطان.

ص: 112

و لازم ذلك إيجاب الشارع للاحتياط،إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح.

قلت:إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول،و هو قبيح (1) كما (1)إنما يكون قبيحا مع عدم إيجاب الشارع الاحتياط و عدم أمره بالتوقف أما معه فلا يكون قبيحا و ايجاب الاحتياط لما كان طريقيا لإحراز الواقع فهو لا يستقبح العقاب بالمخالفة إلا مع الإفضاء لمخالفة الواقع و تفويته.فالعقاب معه على الواقع الفائت لا على مخالفة الاحتياط و حينئذ قد يتجه ما ذكره المستشكل من أنه بعد ظهور النصوص في كون الهلكة هي العقاب الأخروي تكون دالة على عدم سقوط العقاب بالجملة و على وجوب الاحتياط.و أما ما اعترف به من قبيح العقاب على التكاليف المنخفية فلعله مبني ما إذا لم يتنجز احتمالها بايجاب الاحتياط المستكشف بهذه الأخبار.

و الحاصل:أن إيجاب الاحتياط يصحح العقاب على التكاليف الواقعية المجهولة لا على ترك الاحتياط نفسه،كما ذكرنا نظير ذلك في رد ما ذكره المصنف قدس سرّه في توجيه ورود أدلة الاحتياط على أدلة البراءة في الآية الرابعة و غيرها من أدلة البراءة.فراجع.و سيأتي بعض الكلام في ذلك.

فالعمدة في الجواب عن ما ذكره المستشكل ما ذكرنا في الجواب عن الحديث الأول من أحاديث المقام من ظهور ألسنة هذه الأدلة في المفروغية عن احتمال الهلكة في الحكم بمنجزية الشبهة،فتختص بالشبهة المنجزة في نفسها،و لا تصلح لبيان منجزية الشبهة مولويا حتى تصلح لبيان وجوب الاحتياط فيها.و بذلك يخرج عن إطلاق الشبهة لو سلم كون المراد بها الجهل و الشك بالواقع.أما بناء على ما ذكرنا من قرب كون المراد به العمل من غير بصيرة و لا بينة لفقد الحجة في مورد الحاجة إليها،فالأمر أظهر،كما عرفت.

ص: 113

اعترف به،و إن كان حكما ظاهريا نفسيا (1) فالهلكة الأخروية مترتبة على (1)الأحكام الظاهرية كلها طريقية لا تكون موردا للعقاب و الثواب إلا بلحاظ مصادفة الواقع و عدمها فهي لا تقتضي إلا تنجز الواقع و صحة العقاب و الثواب عليه.

إن قلت:تنجيز الواقع من الأحكام العقلية التابعة لقيام الحجة،و ليس من وظيفة الشارع الأقدس،و ليس وظيفته إلا جعل الأحكام الواقعية أو الظاهرية أو جعل الحجج على الأحكام و حيث أنه لا مجال لاحتمال كون جعل الاحتياط راجعا إلى جعل الحجة على الحكم الواقعي فلا مجال لإرجاعه إلى الحكم بتنجيز الواقع، لعدم تنجزه بالاحتمال مع عدم قيام الحجة،لحكم العقل بقبح العقاب على التكاليف المجهولة،و ذلك لا يقبل الردع الشرعي،بل لا بد من رجوعه إلى وجوب الاحتياط نفسيا بحيث يكون بنفسه موردا للإطاعة و المعصية و العقاب و الثواب.

قلت:حكم العقل بمعذرية الجهل مشروط بعدم اطلاعه باهتمام الشارع-أو غيره من الموالي-بالواقع،بحيث يريد حفظه في ظرف الجهل،فلو اطلع على ذلك يرى عدم معذرية الجهل و تنجز الواقع معه،فإيجاب الشارع الاحتياط لما كان كاشفا عن اهتمامه بالواقع النحو المذكور كان موجبا لتنجز الواقع بالاحتمال.

و إن شئت قلت:الشك ليس كالغفلة المطلقة علة تامة للمعذرية،بل هو مقتض لها،قابل لطروء المانع كالعلم باهتمام الشارع بالنحو المذكور،فالجهل معه كالجهل مع التقصير لا يكون عذرا عقلا،و يكون احتمال التكليف معه منجزا.

و يكفي فيما ذكرنا الرجوع إلى المرتكزات العقلية المحكمة في أمثال المقام،و إن كان قد يظهر من بعض كلمات المصنف قدس سرّه هنا و في مبحث البراءة و من كلمات غيره في هذا المقام و نظائره امتناع جعل الشارع الاحتياط إلا نفسيا.

و عليه فإن كان مراد الإخباريين من وجوب الاحتياط هذا المعنى فهو ممكن في نفسه لو لا ما عرفت من الإشكال في دلالة الأخبار عليه.

ص: 114

مخالفته لا مخالفة الواقع،و صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية.

هذا كله،مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على ما ذكرنا،و بين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبية و الموضوعية (1) .و ما ذكرنا أولى (2) .

و إن كان مرادهم منه إيجابه نفسيا بنحو يكون موردا للعقاب و الثواب و الإطاعة و المعصية،فهو مما لا مجال لدعوى دلالة النصوص عليه جدا،لما ذكره المصنف قدس سرّه من ظهورها في ترتب الهلكة من جهة الحرمة الواقعية لا غير.

مع الإشكال فيه باستلزامه اجتماع الضدين أو المثلين،لفعلية الحكم الواقعي المجهول إباحة و حرمة على ما يذكره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

فلاحظ.

(1)حيث تجري البراءة فيها و لا يجب الاحتياط حتى عند الإخباريين،فلو فرض حمل النصوص على إيجاب الاحتياط تعين ارتكاب التخصيص فيها.نعم ربما يستشكل في شمولها للشبهة الوجوبية،إما لما سبق من المصنف قدس سرّه في توجيه الاستدلال بها من أن ظاهر التوقف السكون المطلق و عدم المضي،فإن الاحتياط بذلك إنما يناسب الشبهة التحريمية لا الوجوبية.أو لما تضمنه كثير من هذه النصوص من أن اقتحام الشبهة في معرض الوقوع في الحرام الواقعي.إلا أن يدفع بعموم التعليل في النصوص بلزوم الهلكة فلا بد أن يراد بالوقوف في الشبهة عدم اقتحامها،و إن كان ذلك يختلف باختلاف الشبه،فاقتحام الشبهة التحريمية بالفعل و اقتحام الشبهة الوجوبية بالترك.فتأمل.

(2)بل هو المتعين بلحاظ إباء مضمون هذه النصوص عن التخصيص لكونه أمرا ارتكازيا عقليا لا يفرق فيه بين أنواع الشبه.اللهم إلا أن يقال:هذا إنما يتم على ظهورها في الإرشاد،و عليه لا يصح الاستشهاد بها على وجوب الاحتياط،أما على

ص: 115

استعمال خبرية الوقوف عند الشبهة في مقامين:
اشارة

و حينئذ:فخيرية الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعم من الرجحان المانع من النقيض و من غير المانع منه (1) ،فهي قضية تستعمل في المقامين،و قد استعملها الأئمة عليهم السّلام كذلك.

المقام الأول:استعمالها في مقام لزوم التوقف

فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقف:مقبولة عمر بن حنظلة التي جعلت هذه القضية فيها علة لوجوب التوقف في الخبرين المتعارضين القول بسوقها لبيان وجوب الاحتياط فهي تدل على أمر تعبدي قابل للتخصيص لا ارتكازي.

فالعمدة أن مورد بعض النصوص هو الشبهة الموضوعية،كالشبهة في النكاح و الشبهة في صدور الخبر فلا مجال مع ذلك للتخصيص بإخراج الشبهة الموضوعية.

(1)يعني:فهي تقتضي رجحان الاحتياط بلحاظ ما يترتب على تركه من فوت مصلحة أو وقوع مفسدة عقابا كانت أو غيره،فتشمل موارد رجحان الاحتياط،كما في الشبهة الموضوعية.

لكن مما سبق يظهر أن المراد به الإشارة إلى رجحان الحذر من الشبهة بلحاظ خصوص الضرر المحتمل في موردها،كما يناسبه التعبير بالهلكة،سواء كانت الشبهة متنجزة العقاب،كالشبهة المحصورة أم لغيره من الأضرار التي يهتم بدفعها كالشبهة في النكاح بناء على ما حملنا عليه موثقة سعد بن زياد.

و منه يظهر أن الرواية لا تنهض برجحان الاحتياط في الشبهة الوجوبية أو التحريمية البدوية-بناء على عدم منجزيتهما-من باب حسن الانقياد،لعدم كونه من سنخ دفع الضرر،بل من سنخ تحصيل نفع،فلا تشمله الروايات،بل هو أمر آخر ثابت بحكم العقل لا غير.و لا سيما بناء على ما ذكرنا من عدم كون المراد بالشبهة الشك في الواقع،بل اشتباه الطريق و فقد الحجة في مورد الحاجة إليها،لخروج الشبهة غير المنجزة عن ذلك تخصصا.فلاحظ.

ص: 116

عند فقد المرجح،و صحيحة جميل-المتقدمة-التي جعلت القضية فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب اللّه.

المقام الثاني:استعمالها في غير اللازم

و من موارد استعمالها في غير اللازم:رواية الزهري المتقدمة التي جعل القضية فيها تمهيدا لترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو دلالته،فإن من المعلوم رجحان ذلك (1) لا لزومه،و موثقة سعد بن زياد المتقدمة التي فيها قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم:«لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة»، فإن مولانا الصادق عليه السّلام فسره في تلك الموثقة بقوله عليه السّلام:«إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها أو أنها لك محرم و ما أشبه ذلك،فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة...الخبر»،و من المعلوم أن الاحتراز عن نكاح ما في الرواية من النسوة المشتبهة،غير لازم باتفاق الإخباريين (2) ،لكونها شبهة موضوعية،و لأصالة عدم تحقق مانع النكاح (3) .

(1)لم يتضح وجه رجحان ذلك،بل لعل الراجح روايته ليستأنس به غيره ممن تتضح له دلالته أو سنده،أو يكون عاضدا أو قرينة على شرح حال بعض الروايات في الجملة.فالظاهر أن الرواية المذكورة غير واردة في ذلك،بل في رواية الحديث الذي لم يحص و لم يحفظ،و أنه لا ينبغي روايته اعتمادا على التوهمات و الظنون.و من الظاهر لزوم ترك ذلك لا مجرد رجحانه.فلاحظ متن الرواية.

(2)بل غاية ما يدعى أنه راجح،إما من جهة حسن الاحتياط ذاتا لكونه انقيادا،أو حذرا من المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحرمة الواقعية،أو حذرا من فوت الملاك الواقعي و إن لم يكن لازم الدفع شرعا مع الجهل،على ما سبق في توجيه الجمع بين الرواية و غيرها.لكن عرفت قريبا أن هذه الرواية و نحوها من روايات الباب لا تنهض بإثبات رجحان الاحتياط من الجهة الأولى.

(3)الحاكمة على أصالة الاحتياط لو فرض جريانها في الشبهة الموضوعية.

ص: 117

الجواب عن أخبار التوقف بوجوه غير تامة:

و قد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر:

منها:أن ظاهر أخبار التوقف حرمة الحكم و الفتوى من غير علم، و نحن نقول بمقتضاها،و لكنا ندعي علمنا بالحكم الظاهري و هي الإباحة،لأدلة البراءة.

و فيه:أن المراد بالتوقف-كما يشهد سياق تلك الأخبار و موارد أكثرها-هو التوقف في العمل في مقابل المضي فيه على حسب الإرادة (1) الذي هو الاقتحام في الهلكة،لا التوقف في الحكم.نعم،قد يشمله من حيث كون الحكم عملا مشتبها،لا من حيث كونه حكما في شبهة، فوجوب التوقف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم.

و منها:أنها ضعيفة السند.

و منها:أنها في مقام المنع من العمل بالقياس،و أنه يجب التوقف عن القول إذا لم يكن هنا نص عن أهل بيت الوحي عليهم السّلام.

و في كلا الجوابين ما لا يخفى على من راجع تلك الأخبار (2) .

و منها:أنها معارضة بأخبار البراءة،و هي أقوى سندا و دلالة و اعتضادا بالكتاب و السنة و العقل،و غاية الأمر التكافؤ،فيرجع إلى ما تعارض فيه النصان،و المختار فيه التخيير،فيرجع إلى أصل البراءة.

(1)تقدم الكلام في ذلك في أول الكلام في الاستدلال بهذه الروايات.

(2)أما الأول فلاعتبار سند بعض النصوص،و كثرتها بحيث لا يخل بها ضعف السند و أما الثاني فلعدم القرينة عليه.نعم بناء على ما ذكرنا في معنى الروايات يكون العمل بالقياس من أفراد الأخذ بالشبهة.

ص: 118

و فيه:أن مقتضى أكثر أدلة البراءة المتقدمة-و هي جميع آيات الكتاب،و العقل،و أكثر السنة،و بعض تقريرات الإجماع-عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلف،و من المعلوم أن هذا من مستقلات العقل الذي لا يدل أخبار التوقف و لا غيرها من الأدلة النقلية على خلافه،و إنما يثبت أخبار التوقف-بعد الاعتراف بتماميتها على ما هو المفروض-تكليفا ظاهريا بوجوب الكف و ترك المضي عند الشبهة (1) ، و الأدلة المذكورة لا تنفي هذا المطلب،فتلك الأدلة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل،فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما.

و ما يبقى من السنة من قبيل قوله عليه السّلام:«كل شيء مطلق»لا يكافئ أخبار التوقف،لكونها أكثر و أصح سندا.

و أما قوة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم (2) .

و ظهر أن الكتاب و العقل لا ينافي وجوب التوقف (3) .

(1)تقدم أن التكليف الظاهري المذكور كسائر الأحكام الظاهرية لما كانت طريقية لم تكن موردا للعقاب و الثواب،و إنما يكونان بلحاظ التكاليف الواقعية الحاصل في مواردها،و تلك التكاليف لا تكون معلومة بأدلة الأحكام الظاهرية، بل تبقي مجهولة،و لا تخرج عن مفاد كثير من أدلة البراءة بذلك،بل تتعارض تلك الأدلة مع أدلة الاحتياط لو تمت.فراجع ما سبق في الآية الرابعة من أدلة البراءة و في حديث السعة و غيرهما.

(2)لعل المراد به الإشارة إلى بعض المناقشات السابقة في أخبار الاحتياط.

(3)يعني:فلا مجال للترجيح بهما لو فرض استحكام المتعارض.و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في الآية الرابعة و في حكم العقل.و في مناقشة المصنف قدس سرّه

ص: 119

و أما ما ذكره:من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ،فيمكن للخصم منع التكافؤ،لأن أخبار الاحتياط مخالفة للعامة،لاتفاقهم-كما قيل- على البراءة،و منع التخيير على تقدير التكافؤ،لأن الحكم في تعارض النصين الاحتياط (1) ،مع أن التخيير لا يضره (2) ،لأنه يختار أدلة وجوب الاحتراز عن الشبهات.

و منها:أن أخبار البراءة أخص،لاختصاصها بمجهول الحلية و الحرمة (3) ،و أخبار التوقف تشمل كل شبهة (4) ،فتخصص بأخبار البراءة (5) .

و فيه:ما تقدم (6) ،من أن أكثر أدلة البراءة بالإضافة إلى هذه الأخبار لأدلة الاحتياط.

(1)يعني:عند الإخباريين.

(2)يعني:لا يضر الخصم.

(3)و هو مورد الشبهة التحريمية.لكن دعوى ذلك في غير محلها بعد إطلاق مثل حديث الرفع و السعة و الحجب و غيرها،بل إطلاق بعض الآيات لو فرض تمامية دلالتها بل تقدم منا أن بعض أدلة البراءة أعم،لأن موضوعها الجهل و عدم العلم الشامل للغفلة و اختصاص أخبار الاحتياط بالشبهة.فراجع ما تقدم في الاستدلال بالآية الرابعة للبراءة.

(4)لكن الشبهة التحريمية هي المتيقن من كثير من نصوص الاحتياط،فلا مجال لتخصيصها بالإضافة إليها لو فرض عمومها لغيرها.

(5)لكن لازمه وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية دون التحريمية.

و لعله خلاف الإجماع.

(6)و تقدم الكلام فيه.

ص: 120

من قبيل الأصل و الدليل (1) ،و ما يبقى و إن كان ظاهره الاختصاص بالشبهة الحكمية التحريمية،مثل قوله عليه السّلام:«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2) ،لكن يوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعم منه (3) ،فإن ما ورد فيه نهي معارض بما دل على الإباحة غير داخل في هذا الخبر (4) و يشمله أخبار التوقف (5) ،فإذا وجب التوقف هنا وجب فيما لا نص فيه بالإجماع المركب (6) ،فتأمل.

(1)يعني:و لا مجال لرفع اليد عن الدليل بالأصل و إن كان أخص لارتفاع موضوع الأصل بالدليل.

(2)لكن سبق أن بعض طرق الحديث مشتمل على الأمر فيشمل الشبهة الوجوبية.

(3)ما سيأتي من التعليل لو تم لا ينهض بنفي كون أخبار التوقف أعم، و إنما يمنع من تخصيصها بأخبار البراءة.و إن كانت أعم فكان المراد من نفي كونه أعم نفي أثر العموم و هو لزوم التخصيص كما حمله عليه بعض أعاظم المحشّين قدس سرّه.

نعم ظاهره اختصاص ذلك ببعض أخبار التوقف و عدم جريانه في جميعها،و هو غير ظاهر كما نبه له المحشي المذكور.

(4)كأنه لإطلاق الخبر المذكور الشامل للنهي المعارض بدليل الإباحة، فيقتضي عدم جريان البراءة في مورده لأنه مما ورد فيه نهي و إن كان معارضا.لكن قد يدعى اختصاص هذا الخبر بما ورد فيه نهي فلا غير معارض،إذ النهي المعارض لما لم يصلح للعمل و لم يكن حجة كان هذا الخبر منصرفا عنه.فتأمل.

(5)لبقائه تحت عموم أخبار التوقف بعد عدم شمول دليل البراءة له.

(6)كأنه لاتفاق الأصوليين و الإخباريين على أن ما لا نص فيه و ما تعارض فيه النصان بحكم واحد،فالأصوليون على جريان البراءة فيهما معا و الأخباريون على

ص: 121

مع أن جميع موارد الشبهة التي أمر فيها بالتوقف،لا تخلو من أن يكون شيئا محتمل الحرمة،سواء كان عملا أم حكما أم اعتقادا (1) ، فتأمل (2) .

و التحقيق في الجواب ما ذكرنا.

الاستدلال بالأخبار الدالة على وجوب الاحتياط:

الثالثة (3) :ما دل على وجوب الاحتياط،و هي كثيرة:

لزوم التوقف فيهما معا.لكن هذا راجع إلى عدم القول بالفصل و هو لا ينفع ما لم يرجع إلى القول بعدم الفصل،و لم يثبت من المجمعين ذلك.مع أنه لو تم الاحتجاج به فيمكن رفع التعارض بين الخبرين بإلحاق ما تعارض فيه النصان بما لم يرد فيه نص في جريان البراءة لأجل الإجماع المذكور،فإنه أهون من البناء على استحكام تعارض الخبرين.على أنه لو أريد الاعتماد على الإجماع لكان الأولى الاعتماد على ما أشرنا إليه من أن البناء على البراءة في الشبهة التحريمية دون الوجوبية خلاف الإجماع.فإن الإجماع المذكور أوضح و أظهر.و لعل قوله:«فتأمل»إشارة إلى بعض ما ذكرنا.

(1)يعني:فتدخل الشبهة الوجوبية في الشبهة التحريمية و لو من حيث حرمة الاعتقاد أو الحكم،فتشملها أخبار البراءة أيضا فلا تكون أخص من أخبار التوقف بل تكون مباينة أو معارضة لها.

(2)لعله إشارة إلى أن الحكم و الاعتقاد في الشبهة الوجوبية معلوم التحريم لا مشتبه الحكم لحرمة القول و الاعتقاد بغير علم.مع أن رجوع الشبهة الوجوبية إلى الشبهة التحريمية من حيث الاعتقاد أو الحكم فتشملها أخبار البراءة من هذه الجهة لا ينافي عدم شمولها لها من حيث مجرد العمل،فإذا فرض شمول أخبار التوقف لها من هذه الجهة أيضا كانت أخبار البراءة أخص لا مبانية لأخبار التوقف.

(3)يعني:الطائفة الثالثة من السنة التي احتج بها للقول بوجوب الاحتياط.

ص: 122

صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج

منها:صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج:«قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا و هما محرمان،الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟قال:بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد،قلت:إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه،قال:إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه و تعلموا».

موثقة عبد اللّه ابن وضاح

و منها:موثقة عبد اللّه بن وضاح-على الأقوى (1) :«قال:كتبت إلى العبد الصالح:يتوارى القرص و يقبل الليل و يزيد الليل ارتفاعا و تستتر عنا الشمس و ترتفع فوق الجبل حمرة و يؤذن عندنا المؤذنون،فأصلي حينئذ و أفطر إن كنت صائما،أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟

فكتب عليه السّلام إلي:أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك».

فإن الظاهر أن قوله عليه السّلام:«و تأخذ»بيان لمناط الحكم،كما في قولك للمخاطب:«أرى لك أن توفي دينك و تخلص نفسك»،فيدل على لزوم الاحتياط مطلقا.

رواية الأمالي

و منها:ما عن أمالي المفيد الثاني-ولد الشيخ قدس سرّهما-بسند كالصحيح، عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام:«قال:قال أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل بن زياد:أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت».و ليس في السند إلا علي بن محمد الكاتب الذي يروي عنه المفيد.

(1)الظاهر أنه متعلق بقوله:«موثقة...»يعني:أن كون الرواية موثقة هو الأقوى.

ص: 123

رواية عنوان البصري

و منها:ما عن خط الشهيد-في حديث طويل-عن عنوان البصري، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام يقول فيه:«سل العلماء ما جهلت،و إياك أن تسألهم تعنتا و تجربة،و إياك أن تعمل برأيك شيئا،و خذ الاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا،و اهرب من الفتيا هربك من الأسد،و لا تجعل رقبتك عتبة للناس».

ما أرسله الشهيد قدس سرّه

و منها:ما أرسله الشهيد و حكي عن الفريقين،من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك،فإنك لن تجد فقد شيء تركته للّه عزّ و جل».

و منها:ما أرسله الشهيد رحمه اللّه-أيضا-من قوله عليه السّلام:«لك أن تنظر الحزم و تأخذ بالحائطة لدينك».

ما أرسل عنهم عليهم السّلام

و منها:ما أرسل أيضا عنهم عليهم السّلام:«ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط».

و الجواب:

أما عن الصحيحة:فبعدم الدلالة،لأن المشار إليه في قوله عليه السّلام:«بمثل هذا»إما نفس واقعة الصيد (1) ،و إما أن يكون السؤال عن حكمها (2) .

و على الأول:فإن جعلنا المورد من قبيل الشك في التكليف، بمعنى أن وجوب نصف الجزاء على كل واحد متيقن و يشك في وجوب (1)فيكون الإمام عليه السّلام في مقام بيان وظيفة الصائد و نحوه عند جهلهم بالحكم.

(2)فيكون الإمام عليه السّلام في مقام بيان وظيفة الراوي و نحوه من يسأل عن حكم لا يعلمه.

ص: 124

النصف الآخر عليه (1) ،فيكون من قبيل وجوب أداء الدين المردد بين الأقل و الأكثر و قضاء الفوائت المرددة،و الاحتياط في مثل هذا غير لازم بالاتفاق،لأنه شك في الوجوب.

و على تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية و أمثاله مما ثبت التكليف فيه في الجملة (2) -لأجل هذه الصحيحة و غيرها-لم يكن ما نحن فيه من الشبهة مماثلا له،لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا.

و إن جعلنا المورد من قبيل الشك في متعلق التكليف و هو المكلف به-لكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال (3) ، نظير وجوب التسليم في الصلاة-فالاحتياط هنا و إن كان مذهب جماعة من المجتهدين (4) أيضا،إلا أن ما نحن فيه من الشبهة الحكمية التحريمية (1)يعني:بنحو لا يكون وجوبا ارتباطيا،بل انحلاليا بحيث لو اشتركا في جزاء واحد يكون كل قد أطاع في بعض الواجب،فيجزيه نصف جزاء آخر.

(2)يعني:علم فيه التكليف بنوع الواجب،كالفائتة لمن عليه فوائت لا يعلم عددها و الدين لمن تردد دينه بين الاقل و الأكثر،و منه كفارة الصيد في المقام بناء على كونها انحلالية.و يقابل ذلك ما لو لم يعلم بالتكليف بأصل الواجب،كما لو شك في فوت شيء من الفرائض منه،أو في انشغال ذمته بالدين،فإنه لا إشكال هنا في البراءة،بخلاف النوع الأول فإنه قد يدعي وجوب الاحتياط فيه،كما يأتي في الشبهة الموضوعية الوجوبية.

(3)فوجوب الأكثر ارتباطي لا انحلالي،بحيث لو اشتركا في جزاء واحد لم يجز عن شيء و وجب على كل منهما الاستقلال بجزاء آخر.

(4)كما يأتي الكلام فيه في مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين إن شاء اللّه تعالى.

ص: 125

ليس مثلا لمورد الرواية،لأن الشك فيه في أصل التكليف.

هذا،مع أن ظاهر الرواية التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسؤال و التعلم فيما بعد،و لا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصية حتى يتعلم المسألة لما يستقبل من الوقائع.

و منه يظهر:أنه إن كان المشار إليه ب(هذا)هو السؤال عن حكم الواقعة،كما هو الثاني من شقي الترديد:فإن أريد بالاحتياط فيه الإفتاء بالاحتياط لم ينفع فيما نحن فيه (1) ،و إن أريد من الاحتياط الاحتراز عن الفتوى فيها أصلا حتى بالاحتياط،فكذلك (2) .

و أما عن الموثقة:فبأن ظاهرها الاستحباب (3) ،و الظاهر أن (1)كأنه من جهة ما عرفت من ظهوره في التمكن من استعلام حكم الواقعة، أو من جهة احتمال كونه من الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين،و المفروض في المقام عدم كلا الأمرين.

(2)يعني:لعدم كون الواقعة نظيرا لما نحن فيه،لفرض عدم التمكن من العلم في المقام بخلاف مورد الرواية.مع أن ذلك لا ينفع الإخباريين،لأنهم يلتزمون بالاحتياط و يفتون به.و كذا الحال لو أريد به الفتوى بالاحتياط،لفرض التمكن من الاستعلام أو لكون المقام من الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.

(3)يعني:بالنظر إلى حاق اللفظ،فلا ينافي البناء على الإلزام لبعض الجهات الخاصة التي سيذكرها قدس سرّه.لكن لم يتضح الوجه في ظهور الكلام في نفسه في الاستحباب و مجرد التعبير بمثل:«أرى لك»من دون أمر لا يقتضيه-و إن ذكره قدس سرّه فيما يأتي-فإن وقوعه بعد السؤال عن التكليف الإلزامي ظاهر في الإلزام،و بعد السؤال عن غير الإلزامي ظاهر في الاستحباب،و من الظاهر أن السؤال في الرواية عن التكليف الإلزامي،و إلا فلا إشكال ظاهرا في رجحان التأخير احتياطا حتى لو

ص: 126

مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية (1) -لاحتمال عدم استتار القرص و كون الحمرة المرتفعة أمارة عليها-لأن إرادة الاحتياط في الشبهة الحكمية بعيدة عن منصب الإمام عليه السّلام،لأنه لا يقرر الجاهل بالحكم على جهله (2) ،و لا ريب أن الانتظار مع الشك في الاستتار كان الأذان أو تواري القرص أمارة شرعا على دخول الليل،و لا يحتاج إلى سؤال.

(1)لا يخفى أن سؤال السائل يحتمل بدوا وجهين:

الأول:أن يكون من جهة الشبهة الموضوعية،فيكون سؤاله عن حكم الشك،في غروب القرص مع الأمارات المذكورة من تواري القرص عن النظر و أذان المؤذنين و غيرهما بعد الفراغ عن جواز الإفطار و الصلاة بغروبه.

الثاني:أن يكون من جهة الشبهة الحكمية بأن يرجع إلى السؤال عن المناط في تحقق الليل و أنه هل يدخل بمجرد غروب القرص أو لا بل لا بد من غياب الحمرة.

و قد قرب المصنف قدس سرّه الأول،لما سيذكره من الوجه.

(2)التقرير على الجهل إنما يكون مع الجهل المركب،حيث أن الجاهل يعمل على طبق اعتقاده الخاطئ،فيكون السكوت عنه تقريرا له على جهله،لا في المقام مما كان الجهل بسيطا،فإنه لا عمل للجاهل على طبق جهله حتى يكون عدم رفع جهله تقريرا له عليه،خصوصا مع أمره بالاحتياط.

نعم إبقاء الجاهل على جهله و أمره بالاحتياط خلاف وظيفة الإمام عليه السّلام، و ذلك مما يبعد حمل الرواية على الشبهة الحكمية.و لعل هذا هو مراد المصنف قدس سرّه مضافا إلى ظهور السؤال في كون المسئول عنه حكم الشبهة الموضوعية،كما هو مقتضى ذكر استتار الشمس و أذان المؤذنين الذين يحتمل بسببهما غروب القرص،إذ لا موجب لذكرهما لو كان السؤال من جهة الشبهة الحكمية بعد الفراغ عن غروب القرص،لعدم أمارية استتار الشمس عليه،و كذا أذان المؤذنين،لاحتمال استنادهم إلى مجرد استتارها فكان الأولى للسائل أن يترك ذلك و يصرح بالسؤال عن حكم

ص: 127

واجب،لأنه مقتضى استصحاب عدم الليل،و الاشتغال بالصوم،و قاعدة الاشتغال بالصلاة.

فالمخاطب بالأخذ بالحائطة هو الشاك في براءة ذمته عن الصوم و الصلاة،و يتعدى منه إلى كل شاك في براءة ذمته عما يجب عليه يقينا (1) ، لا مطلق الشاك،لأن الشاك في الموضوع الخارجي مع عدم تيقن التكليف لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الأخباريين أيضا.

هذا كله على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب (2) ،و كون الحمرة غير الحمرة المشرقية،و يحتمل بعيدا أن يراد من الحمرة الحمرة المشرقية (3) التي لا بد من زوالها في تحقق غروب القرص.

(1)متعلق بقوله:«يجب عليه».

(2)كون السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية لا يتوقف على ذلك لإمكان السؤال عن الشبهة الموضوعية.مع فرض توقف الليل على ذهاب الحمرة المشرقية، للشك في ذهابها.نعم لا بد من فرض كون الحمرة المذكورة في الرواية غير الحمرة المشرقية كما ذكر قدس سرّه.

(3)كما قد يناسبه فرض الحمرة فوق الجبل،لظهوره في قربهم من الجبل،فلو كان الجبل جانب المشرق كان حائلا دون الحمرة الشرقية مانعا من رؤيتها،بخلاف ما لو كان في جانب المغرب لأن الحمرة المشرقية قد تستند إلى وجود قرص الشمس فتكون شديدة تستوعب جانب المغرب و تظهر فوق الجبل القرص و من ثم عبر بتواري القرص و ستر الشمس الظاهران في عدم العلم بغيبوبتها في الأفق.

بل ربما يراد من ظهور الحمرة فوق الجبل ظهور الحمرة على الجبل نفسه بأن تنعكس من الأفق على الجبل فهي أجنبية عن الحمرة المشرقية،و إن كان الأمر لا يخلو

ص: 128

المغرب (1) .

و تعليله حينئذ بالاحتياط و إن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه السّلام كما لا يخفى،إلا أنه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقية،لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص و زوال احتمال عدمه،لا أن المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار.

كما أن قوله عليه السّلام:«أرى لك»يستشم منه رائحة الاستحباب (2) ، فلعل التعبير به مع وجوب التأخير من جهة التقية،و حينئذ:فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدل إلا على رجحانه (3) .

عن إشكال.

(1)كما نسب إلى المشهور.و عليه يكون السؤال عن الحكم مع الشبهة الحكمية الذي عرفت أنه خلاف ظاهر الرواية بدوا.

(2)عرفت الإشكال في ذلك.

(3)إذ كون الحكم واقعا هو الوجوب لا يقتضي الاستدلال بعموم التعليل بعد فرض ظهوره في الاستحباب.بل لو فرض ظهور الكلام في الوجوب-كما هو غير بعيد،لما تقدم-فلا مجال للاستدلال بعموم التعليل،لأن السؤال إن كان عن الشبهة الموضوعية فالمرجع في مثله استصحاب بقاء النهار،أو أصالة الاشتغال بالصوم و الصلاة،و إن كان عن الشبهة الحكمية فالمقام من موارد الشك في تحقق شرط مشروعية صلاة المغرب،فإن حرمة تقديمها على ذهاب الحمرة-لو تمت- ليست تكليفا مستقلا زائدا عن التكليف بالصلاة،بل هو عبارة أخرى عن عدم تحقق الوقت الذي هو شرط مشروعية الصلاة،و هو مقتضي الأصل.

و دعوى عموم التعليل لكل احتياط لا شاهد عليها من الرواية،فإنها إنما تضمنت الحث على الاحتياط لا التعليل به ليكون من ما نحن فيه،غايته أنها تشعر

ص: 129

و أما عن رواية الأمالي:فبعدم دلالتها على الوجوب،للزوم إخراج أكثر موارد الشبهة و هي الشبهة الموضوعية مطلقا و الحكمية الوجوبية، و الحمل على الاستحباب أيضا مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط، فتحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب و الندب، و حينئذ:فلا ينافي وجوبه في بعض الموارد و عدم لزومه في بعض آخر، لأن تأكد الطلب الإرشادي و عدمه بحسب المصلحة.الموجودة في الفعل، لأن الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرة،فيختلف رضا المرشد بتركه و عدم رضاه بحسب مراتب المضرة،كما أن الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة اللّه و رسوله للإرشاد المشترك بين فعل الواجبات و فعل المندوبات.

هذا،و الذي يقتضيه دقيق النظر:أن الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير الإلزامي (1) ،لأن المقصود منه بيان أعلى مراتب بكونه علة في الجملة.

(1)فهو مشير إلى حسن الاحتياط ذاتا بلحاظ إدراك الواقع به و لو لم يكن منجزا و لا ينافيه لزومه لو تنجز الواقع.هذا و لكن الظاهر من الاحتياط للدين هو الاحتياط الذي يستلزم تركه تعريض الدين للخطر،و هو مختص بما إذا تنجز الواقع و لا يشمل صورة عدم تنجزه.كما لا ظهور له في الحكم بتنجيز الواقع بالاحتمال، لعدم سوقه لذلك،بل للإرشاد إلى الاحتياط في مورده.فهو نظيرا أخبار التوقف المتقدمة،و نظير قوله تعالى: فاتقو اللّه ما استطعتم ،فإن التقوى مختصة بصورة الخوف المتوقف على التنجز،و لا مورد لها مع عدمه،و إن حسن الاحتياط بملاك آخر كالانقياد و نحوه.

ص: 130

الاحتياط،لا جميع مراتبه (1) و لا المقدار الواجب (2) .

و المراد من قوله:«بما شئت»ليس التعميم من حيث القلة و الكثرة و التفويض إلى مشيئة الشخص،لأن هذا كله مناف لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد:أن أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلها،و ليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين،لأنه بمنزلة الأخ الذي هو كذلك،و ليس بمنزلة سائر الأمور لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط،كالمال و ما عدا الأخ من الرجال،فهو بمنزلة قوله تعالى:

فاتقوا اللّه ما استطعتم .

و مما ذكرنا يظهر الجواب عن سائر الأخبار المتقدمة،مع ضعف السند في الجميع.

نعم،يظهر من المحقق في المعارج:اعتبار إسناد النبوي:«دع ما يريبك»،حيث اقتصر في رده على:أنه خبر واحد لا يعول عليه في الأصول، و أن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة.

و ما ذكره قدس سرّه محل تأمل،لمنع كون المسألة أصولية (3) ،ثم منع كون (1)يعني:بنحو العموم الانحلالي الاستغراقي،ليشمل موارد الوجوب و الاستحباب.

(2)مما سبق يظهر اختصاصها بخصوص المقدار الواجب،و هو الذي يكون مع التنجز.

(3)كأنه لأن موضوعها عمل المكلف،كما هو حال المسائل الفرعية، و ليست كمسألة حجية الخبر مثلا،حيث كان موضوعها الخبر،فهي لا تتعرض لعمل المكلف و إن أمكن بها استنباط حكم فرعي لعمل المكلف.و للكلام في ضابط

ص: 131

النبوي من أخبار الآحاد المجردة (1) ،لأن مضمونه-و هو ترك الشبهة- يمكن دعوى تواتره،ثم منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الأصولية (2) .

و ما ذكره:من أن إلزام المكلف بالأثقل...الخ،فيه:أن الإلزام من هذا الأمر،فلا ريبة فيه (3) .

الاستدلال بأخبار التثليث

الرابعة:أخبار التثليث المروية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الوصي و بعض الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين:

مقبولة ابن حنظلة

ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين-بعد الأمر بأخذ المشهور منهما و ترك الشاذ النادر،معللا بقوله عليه السّلام:«فإن المجمع عليه لا ريب فيه»-قوله:«و إنما الأمور ثلاثة:أمر بيّن رشده فيتبع،و أمر بين غيه فيجتنب،و أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله،قال رسول اللّه:حلال المسألة الأصولية محل آخر.

(1)يعني:ما أشتهر من عدم الرجوع في المسألة الأصولية لخبر الواحد،إنما يراد به الخبر الظني غير المحفوف بالقرائن القطعية و ليس منه الخبر في المقام.

(2)لإطلاق بعض أدلتها.و قد سبق نظير ذلك في بعض الوجوه التي أوردت على الاستدلال على حجية خبر الواحد بآية النبأ.

(3)يعني:بعد فرض تمامية دلالة الخبر و سنده.نعم قد يدفع الاستدلال بالخبر بأن الرجوع إلى البراءة فيما لو شك في التحريم اعتمادا على الأدلة المتقدمة ليس موردا للريب.و دعوى:أنه يكفى الريب في الحكم الواقعي.ممنوعة بل الظاهر أن المراد من الريب ما يقبح العمل معه،عند العقلاء فمع دلالة الأدلة على جواز البناء على البراءة لا ريب مانع من العمل.

ص: 132

بين و حرام بين و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم».

وجه الدلالة:أن الإمام عليه السّلام أوجب طرح الشاذ معللا:بأن المجمع عليه لا ريب فيه،و المراد أن الشاذ فيه ريب،لا أن الشهرة تجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه (1) ،و إلا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية و الأصدقية و الأورعية (2) ،و لا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين (3) ،و لا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد بتثليث (1)كما تقدم التعرض لذلك في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد و ذكرنا أن ذلك هو مقتضي المقابلة في الرواية مع قطع النظر عن القرائن التي ذكرها المصنف قدس سرّه.

(2)كأنه لدعوى أن مقتضي إطلاق التعليل عدم الفرق بين كون راوي المشهور أعدل و عدمه،فلو كان مخالف المشهور مطلقا لا ريب في بطلانه لم يكن معنى لتقديم الترجيح بالأعدلية و نحوها لاستلزامه العمل برواية الأعدل و إن كان لا ريب في بطلانها.لكنه كما ترى إذ لا شاهد لعموم التعليل بل يمكن اختصاصه بالمشهور الذي هو محل الكلام في الرواية و هو المشهور مع تساوي الروايتين في العدالة.

نعم ذكرنا في دليل الانسداد أنه من البعيد أن يكون الشاذ مما لا ريب في بطلانه إذا كان الراويان متساويين مع أنه مقدم على المجمع عليه إذا كان راويه أعدل،بل ذلك إنما يناسب كونه مما فيه الريب و أن الريب فيه ينتفي مع فرض أعدلية راويه.

(3)هذا لا دخل بالمطلب إذ لا مانع من كون الخبرين معا مما لا ريب في صدورهما لكونهما معا مشهورين.

و دعوى:أنه إذا استفيد من الرواية كون مخالف المشهور مما لا ريب في بطلانه

ص: 133

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم (1) .

و الحاصل:أن الناظر في الرواية يقطع بأن الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه،و هو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام رده إلى اللّه و رسوله.

فيعلم من ذلك كله:أن الاستشهاد بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في التثليث لا يستقيم إلا مع وجوب الاحتياط و الاجتناب عن الشبهات (2) .

مضافا إلى دلالة قوله:«نجا من المحرمات»،بناء على أن تخليص النفس من المحرمات واجب،و قوله:«وقع في المحرمات،و هلك من حيث لا يعلم».

و دون هذا النبوي في الظهور:النبوي المروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام -في كلام طويل-و قد تقدم في أخبار التوقف،و كذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

و الجواب عنه:ما ذكرنا سابقا،من أن الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشادي للتحرز عن المضرة المحتملة فيها،فقد تكون المضرة عقابا و حينئذ امتنع كون الخبرين معا مشهورين.

مدفوعة:بأن الخصم لا يدعى استفادة ذلك،من الرواية بل يدعي أن المستفاد منها أن الشاذ لا ريب في بطلانه،و لا موضوع لذلك مع كون الخبرين معا مشهورين.

(1)إذ الحث على ترك الشبهات ظاهر في كون محل الكلام هو المشتبهات، دون ما لا ريب في بطلانه.

(2)إذ لو كان ذلك مستحبا لم يصلح لتعليل الحكم بالتوقف عن الخبر الشاذ الذي يراد به الوجوب.

ص: 134

فالاجتناب لازم،و قد تكون مضرة أخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة (1) ،كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا،لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضا،كما تقدم (2) .

و إذا تبين لك:أن المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوص الإلزام،فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم المسوق للإرشاد:

أنه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا-تفصيا عن الوقوع في مفسدة الحرام،فكذلك (3) طرح الخبر الشاذ واجب،لوجوب التحري (1)أشرنا سابقا إلى أن ظاهر التعبير بالهلكة إرادة الضرر المهم الذي يهتم كثيرا بدفعه،و الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي مع عدم العقاب ليس منه.

و بعبارة أخرى:لا مجال للحمل على عدم الإلزام.فالعمدة في جواب ما سبق من أن هذه الروايات ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بدفع الضرر المحتمل لا في التعبد بمنجزية الشبهة تأسيسا،فتختص بالشبهات المتنجزة في نفسها التي تفقد فيها الحجة مع الحاجة إليها،كما هو الحال في العمل بالخبر المشكوك الصدور الذي فرض فيه الريب،فإن الاعتماد على مشكوك الحجية خلاف الاحتياط اللازم،و هو المناسب للتعبير بالرشد و الغي و الاتباع و الاجتناب،إذ هو إنما يناسب مقام الحجج و الطرق لا نفس الأفعال المجهولة الحكم.

(2)لكن تقدم أنه لا مانع من العقاب عليه إذا تم الدليل على وجوب الاحتياط،لأنه حكم طريقي لأجل تحصيل الحكم الواقعي المجهول الذي يقتضي تنجزه.فالعمدة ما عرفت من عدم نهوض الأخبار ببيان وجوب الاحتياط تأسيسا.

(3)لا يخفى ما فيه،فإن الاستشهاد للإلزام بكبرى غير إلزامية موهون

ص: 135

عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الريب و أقرب إلى الحق، إذ لو قصر في ذلك و أخذ بالخبر الذي فيه الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجة له،فيكون الحكم به حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع،فتأمل.

و يؤيد ما ذكرنا:من أن النبوي ليس واردا في مقام الإلزام بترك الشبهات،أمور:

المؤيد لما ذكرنا امور:
عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية

أحدها:عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية التي اعترف الأخباريون بعدم وجوب الاجتناب عنها (1) .

و تخصيصه بالشبهة الحكمية-مع أنه إخراج لأكثر الأفراد (2) - مناف للسياق،فإن سياق الرواية آب عن التخصيص،لأنه ظاهر في الحصر (3) ،و ليس الشبهة الموضوعية من الحلال البين (4) ،و لو بني على كونها منه-لأجل أدلة جواز ارتكابها (5) -قلنا بمثله في الشبهة جدا.

(1)هذا كما يصلح لأن يكون قرينة على عدم سوق الرواية للإلزام كذلك يصلح لأن يكون قرينة على ما ذكرنا من اختصاصها بالشبهات المتنجزة في أنفسها، إذ هي حينئذ لا تعم الشبهة الموضوعية البدوية،بل تختص بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي و نحوها.

(2)كأنه لكثرة أفراد الشبهات الموضوعية بخلاف الشبهات الحكمية.

(3)يعني:في الأمور الثلاثة.

(4)يعني:بلحاظ الحكم الواقعي.

(5)كما هو الظاهر،لظهور الرواية في أن كون الحلال بينا ليس بلحاظ

ص: 136

الحكمية.

كون المراد جنس الشبهة

الثاني:أنه رتب على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرمات و الهلاك من حيث لا يعلم،و المراد جنس الشبهة-لأنه في مقام بيان ما تردد بين الحلال و الحرام،لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع (1) ،مع أنه ينافي استشهاد الإمام عليه السّلام-و من المعلوم أن ارتكاب جنس الشبهة لا يوجب الوقوع في الحرام و لا الهلاك من حيث لا يعلم (2) إلا على مجاز المشارفة، الواقع،بل بلحاظ الأمان من العقاب و عدم الوقوع في الهلكة،فمع فرض الأمان من العقاب لأدلة البراءة يكون المورد من الحلال البين و إن احتمل اتصافه بالتحريم الواقعي.

(1)فعموم الشبهات فيها إفرادي انحلالي.يعني:أن كل شبهة يكون الارتكاب فيها موجبا للهلاك و الوقوع في الحرام،لا أن ارتكاب مجموع الشبه موجب لذلك بنحو العموم المجموعي،و إلا لم يصلح للتطبيق و الاستشهاد به على لزوم اجتناب الحرام المشتبه.و لا على لزوم طرح الخبر الشاذ الذي فيه الريب،لوضوح عدم كون الأخذ بهما أخذا بكل شبهة،بل ببعض الشبه،فلا يتم الاستدلال عليهما إلا بأن يكون المراد من عموم ترك الشبهات العموم الأفرادي كما هو ظاهر.

(2)كأنه من جهة أن مورد الشبهة قد يكون حلالا واقعيا،فلا يكون الاقتحام فيها موجبا للوقوع في المحرمات.نعم لو كان عموم الشبهات مجموعيا تمّ ذلك،فإن الأخذ بمجموع الشبهة و تمامها يوجب عادة الوقوع في الحرام،لمصادفة بعضها لذلك إجمالا إلا أن عرفت عدم سوقه للعموم المجموعي بل الأفرادي.

فلا بد أن يراد من الوقوع في المحرمات المشارفة لها و القرب من ساحتها، الذي هو لازم الإقدام في كل شبهة نظير ما ورد في بعض الأخبار السابقة من

ص: 137

كما يدل عليه بعض ما مضى و ما يأتي من الأخبار،فالاستدلال موقوف على إثبات كبرى،و هي:أن الإشراف على الوقوع في الحرام و الهلاك من حيث لا يعلم محرم (1) ،من دون سبق علم به أصلا.

الأخبار الكثيرة

الثالث:الأخبار الكثيرة المساوقة لهذا الخبر الشريف،الظاهرة في قولهم عليهم السّلام:«لكل ملك حمى،و حمى اللّه حلاله و حرامه،و المشتبهات بين ذلك،لو أن راعيا دعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه فدعوا المشتبهات» و من الظاهر أن البعد عن المحرمات بالمعنى المذكور ليس واجبا،بل مستحبا،فيكون ذلك قرينة على حمل الروايات على الاستحباب.

لكن حمل الروايات على المعنى المذكور-مع أنه خلاف الظاهر-ينافي ما تقدم منه قدس سرّه من حملها على الإرشاد للحذر من الضرر الواقعي المحتمل من الشبهة،لأن ذلك المعنى مبني على كون المراد بالهلكة هو مخالفة الملاك الواقعي المحتمل في نفس مورد الشبهة،و هذا المعنى مبني على كون المراد بها المحرمات الأخر التي يلزم من الإقدام في الشبهة القرب منها.كما لا يخفى.

فالظاهر أن المراد من الوقوع في المحرمات و الهلكات في هذه الروايات ليس هو مقاربتها بالمعنى المذكور و لا الوقوع فيها قطعا،بل احتمال الوقوع فيها و التعرض لذلك هو لازم في كل شبهة،كما يشهد له ما تضمنته من الوقوع في الحرام و هو لا يعلم،إذ المعنى الذي ذكره المصنف قدس سرّه يقتضي الوقوع في الحرام و هو يعلم و من ثم قلنا إنها تشير إلى الإرشاد إلى دفع الضرر المحتمل و عليه يتعين حملها على الإلزام إرشادا و لا يتم حملها على الاستحباب.

و أما قوله عليه السّلام:«لكل ملك حمى...»فسيأتي الكلام فيه.

(1)يعني:و حيث كانت الكبرى المذكورة غير تامة،تعين حمل الروايات على الاستحباب.لكن عرفت الجواب عن ذلك.

ص: 138

الاستحباب بقرائن مذكورة فيها (1) :

منها:قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في رواية النعمان،و قد تقدم في أخبار التوقف.

و منها:قول أمير المؤمنين عليه السّلام في مرسلة الصدوق،أنه خطب و قال:

«حلال بين و حرام بين و شبهات بين ذلك،فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك،و المعاصي حمى اللّه،فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».

و منها:رواية أبي جعفر الباقر عليه السّلام:«قال:قال جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال و الحرام:من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى،ألا:و إن لكل ملك حمى،و إن حمى اللّه محارمه،فاتقوا حمى اللّه و محارمه».

و منها:ما ورد من:«أن في حلال الدنيا حسابا و في حرامها عقابا و في الشبهات عتابا (2) .

(1)عمدتها التعليل بأن الاخذ بالشبهة يوجب القرب من المعصية و توقع الاقدام عليها.و قد عرفت في أخبار التوقف أن المعنى المذكور مبني على الاستحباب لا الإلزام.لكن هذا ملاك آخر لاجتناب الشبهة تضمنته بعض النصوص غير الملاك المشار إليه في الأخبار التي نحن بصددها كخبر التثليث و نحوه من ما تضمن أن الأخذ بالشبهات يوجب الوقوع في المحرمات و الهلكة من حيث لا يعلم.فلا تصلح النصوص المذكورة قرينة على حمل مثل خبر التثليث على غير الإلزام و لا تصلح لتفسيره كما يحاوله المصنف قدس سرّه لاختلاف ملاك الحكم فيها.

(2)هذا لا يخلو عن إجمال،و لا يلائم مضمون أخبار الهلكة،فهو يقتضي

ص: 139

و منها:رواية فضيل بن عياض:«قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:من الورع من الناس؟قال:الذي يتورع عن محارم اللّه و يجتنب هؤلاء،فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه» (1) .

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط من وجهين:
اشارة

و أما العقل،فتقريره بوجهين:

الوجه الأول:العلم الإجمالي بوجود محرمات كثيرة

أحدهما:أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب-بمقتضى (2) قوله تعالى: و ما نهاكم عنه فانتهوا و نحوه- رجحان اجتناب الشبهة بملاك آخر غير ملاك الهلكة،و لا يصلح لتفسير أخبار الهلكة،و لا يكون قرينة عليها،نظير ما ذكرناه في الأخبار السابقة.

(1)كأنه من جهة أن الورع من الصفات الراجحة لا اللازمة،فتدل على عدم لزوم الاجتناب عن الشبهة.و حيث أن ملاك ترك الشبهة فيه هو ملاكه في الأخبار التي نحن بصددها و هو توقع الوقوع في الحرام.كان صالحا لتفسيرها و حملها على الاستحباب.لكن،يدفعه أن الجواب في هذه الأخبار يناسب المسئول عنه و هو الورع اللازم الذي يقبح التسامح فيه،و هو الورع عن المحارم و عن الاتصال بالظلمة،نظير ما سبق في أخبار التوقف عن الشبهة مما يشابه الخبر المذكور.و عليه لا يكون الخبر المذكور صالحا لحمل أخبار المقام على عدم الإلزام،بل قد يكون مؤيدا لإرادة الإلزام منها.

و الذي تحصل من جميع ما تقدم أنه لا مجال لحمل الأخبار المستدل بها على عدم الإلزام و لا يناسبه التعليل فيها.و المتعين الجواب عنها بما تقدم من أنها واردة للإرشاد إلى لزوم ترك الشبهات المفروغ عن كونها منجزة،و لا تصلح لبيان منجزية الشبهة شرعا.لعدم سوقها إلا للإرشاد بعد المفروغية عن تنجز الشبهة.على ما أوضحنا في أخبار التوقف،فإن الجميع من باب واحد.

(2)لا حاجة إلى الاستدلال بالآية بعد فرض العلم الإجمالي بوجود

ص: 140

الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب (1) ،لأن الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتفاق المجتهدين و الأخباريين،و بعد مراجعة الأدلة و العمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية،فلا بد من اجتناب كل ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعي يدل على حليته،إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.

فإن قلت:بعد مراجعة الأدلة نعلم تفصيلا بحرمة أمور كثيرة، و لا نعلم إجمالا بوجود ما عداها،فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقن حتى يجب الاحتياط.و بعبارة أخرى:العلم الإجمالي قبل (2) الرجوع إلى الأدلة،و أما بعده فليس هنا علم إجمالي.

قلت:إن اريد من الأدلة ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأولي،فكل مراجع في الفقه يعلم أن ذلك غير ميسر،لأن سند الأخبار لو فرض قطعيا لكن دلالتها ظنية.و إن أريد منها ما يعم الدليل الظني المعتبر من الشارع فمراجعتها لا توجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالا،إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظني إلا وجوب الأخذ بمضمونه،فإن كان تحريما صار ذلك كأنه أحد المحرمات الواقعية،و إن كان تحليلا كان اللازم منه عدم التكاليف الشرعية،لما هو المعلوم من منجزية العلم الإجمالي المذكور.بل دلالة الآية على المطلوب لا تخلو عن إشكال.

(1)يعني:و لو بسبب قيام الطرق غير العلمية المعتبرة و الصالحة للمعذرية و المؤمنة من العقاب على الواقع المتنجز بالعلم الإجمالي المفروض.

(2)يعني:إنما يحصل قبل الرجوع للأدلة.

ص: 141

العقاب على فعله و إن كان في الواقع من المحرمات،و هذا المعنى لا يوجب انحصار المحرمات الواقعية في مضامين تلك الأدلة (1) حتى يحصل (1)لا يخفى أن الظن بالوجه المذكور و إن لم يوجب العلم بانحصار المحرمات الواقعية بمضامين تلك الأدلة بناء على عدم التصويب و فرض عدم إفادتها القطع، إلا أنه قد يوجب انحصارها بها تعبدا،بحيث تكون صالحة لتمييز المعلوم بالإجمال شرعا،فتوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.و من هنا لا فرق بين الأدلة القطعية و الظنية المعتبرة في ذلك،لأن دليل اعتبارها موجب لصيرورتها بمنزلة القطع.

و الذي ينبغي أن يقال:أن الدليل التفصيلي علميا كان أو ظنيا إن كان مبنيا على شرح المعلوم بالإجمال و تمييزه بحيث يكون ناظرا للمعلوم الإجمالي و حاصرا له بموارده فهو يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية،لارتفاع الإجمال معه تعبدا.

و احتمال وجود التكليف في غير مورد الدليل التفصيلي إن كان راجعا إلى احتمال خطأ الطريق فلا يعتنى به بمقتضى دليل الحجّية.

و إن كان راجعا إلى احتمال زيادة موارد التكليف الواقعي عن المقدار المعلوم بالإجمال فهو احتمال بدوي لا يتنجز.بمقتضى العلم الإجمالي المفروض.

و إن لم يكن الدليل التفصيلي مبنيا على شرح المعلوم بالإجمال و تمييزه بل هو ناظر للواقع مع قطع النظر عن المعلوم بالإجمال،فهو في نفسه لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية،لعدم ارتفاع الإجمال به لا واقعا و لا تعبدا،سواء كان علميا أم ظنيا.كما لو علم تفصيلا أو إجمالا بأن عشرة شياه من قطيع غنم موطوءة لزيد،ثم علم من الخارج أو قامت البينة على أن عشرة شياه بعينها موطوءة،و لم يعلم أنها موطوءة لزيد أو لغيره،فإن العلم أو الظن التفصيلي لا يوجب ارتفاع الإجمال بوجه،فلا وجه معه لسقوط منجزية العلم الإجمالي.و لذا لا ريب في عدم سقوط منجزية العلم الإجمالي المذكور لو فرض تجدد وط ء عشرة معينة،كما لا يخفى.

ص: 142

العلم بالبراءة بموافقتها،بل و لا يحصل الظن بالبراءة عن جميع المحرمات المعلومة إجمالا (1) .

و ليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيلي بها، لأن العلم التفصيلي بنفسه مناف لذلك العلم الإجمالي (2) ،و الظن غير مناف له،لا بنفسه و لا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور.

نعم قد يكون العلم أو الظن التفصيلي مانعا من تنجز العلم الإجمالي،كما لو كان مقارنا له أو سابقا عليه،لعدم الأثر للمعلوم بالإجمال لو فرض انطباقه على المعلوم أو المظنون بالتفصيل فلا يكون العلم به منجزا على كل حال.كما قد ينحل العلم الإجمالي بعلم إجمالي أصغر منه في ضمنه سابق عليه أو مقارن له،على ما يذكر في مباحث العلم الإجمالي.

أما لو كان العلم التفصيلي أو الإجمالي الصغير أو الظن متأخرا عن العلم الإجمالي الكبير فلا يسقط عن المنجزية بعد ثبوتها له لترتب الأثر عليه حين حدوثه على كل حال فتنشغل الذمة بمضمونه و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و هذا بخلاف ما لو كان العلم أو الظن التفصيلي أو الإجمالي شارحا للعلم الإجمالي الكبير و مفسرا للمعلوم به،فإنه يسقطه عن المنجزية مطلقا لارتفاع الإجمال معه حقيقة أو تعبدا.و احتمال التكليف في غير مورد العلم أو الظن الشارح و المفسر للعلم الإجمالي مدفوع بالأصل أو بدليل الحجية.كما ذكرنا.

(1)مما سبق يظهر أن الظن التفصيلي يستلزم الظن بالبراءة إن كان مبنيا على تعيين المعلوم بالإجمال و تمييزه،و إلا فلا يستلزمه كالعلم التفصيلي.

(2)إنما يكون منافيا له إذا كان مبنيا على تمييز المعلوم بالإجمال،و قد ذكرنا أن الظن المعتبر إذا كان مبنيا على ذلك يكون مسقطا للعلم الإجمالي عن المنجزية كالعلم،لأن الظن و إن لم يكن بنفسه منافيا للعلم الإجمالي،إلا أن دليل اعتباره يمنع من منجزية العلم الإجمالي في غير مورده.

ص: 143

نعم،لو اعتبر الشارع هذه الأدلة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤداها بحيث يكون هو المكلف به،كان ما عدا ما تضمنه الأدلة من محتملات التحريم خارجا عن المكلف به،فلا يجب الاحتياط فيها.

و بالجملة:فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالا بوجود محرمات فيها،ثم قامت البينة على تحريم جملة منها و تحليل جملة و بقي الشك في جملة ثالثة،فإن مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب العلم و لا الظن بالبراءة من جميع المحرمات (1) .

نعم،لو اعتبر الشارع البينة في المقام،بمعنى أنه أمر بتشخيص المحرمات المعلومة وجودا و عدما بهذا الطريق،رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قامت عليه البينة،لا الحرام الواقعي (2) .

و الجواب:

أولا:منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى إليه الطرق الغير العلمية المنصوبة له،فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق،لا بالواقع من حيث هو،و لا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو حتى (3) يلزم التصويب أو ما يشبهه،لأن ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم و غيره و ثبوت التكليف بالعمل بالطرق، (1)المتعين التفصيل بين كون البينة شارحة للمعلوم بالإجمال و عدمه،على ما ذكرنا.

(2)و حينئذ يكون قيام البينة موجبا لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية،بل لارتفاعه للعلم بعدم فعلية التكليف في غير مواردها.

(3)متعلق بقوله:«و لا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو».

ص: 144

و توضيحه في محله (1) ،و حينئذ:فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو مكلف (1)لا يظهر لى عاجلا محل توضيحه في كلامه قدس سرّه.و كيف كان فهو خلاف ظاهر الأدلة بل هو مستلزم للتصويب،و لا يفترق عنه إلا بأن مرجع التصويب إلى التكليف بجميع موارد الطرق و لو لم تصب الواقع،و مرجع هذا الوجه إلى التكليف بموارد الطرق المصيبة للواقع،و يشتركان في عدم التكليف بالواقع الذي لا تصيبه الطرق،و هو خلاف الإجماع،على اشتراك العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل في الأحكام،بل هو مما قامت عليه الضرورة كيف و لازمه عدم تنجز العلم الإجمالي بالتكليف في المتباينين لعدم كون كل منهما موردا للطريق،كما أشار إليه بعض أعاظم المحشّين قدس سرّه.

و دعوى:أن من حصل له العلم الإجمالي قادر على تحصيل العلم و تقييد الواقع بالطرق إنما هو في حق العاجز عن تحصيل العلم.

مدفوعة:بأن العلم الإجمالي مفروض في المقام و إن كان كثير الأطراف فلا وجه لعدم منجزيته.

اللهم إلا أن يفرق بين هذا العلم الإجمالي الكبير و غيره من العلوم الإجمالية في الموارد الخاصة بانصراف أدلة التقييد بالعاجز عن تحصيل العلم عن مثله،لأنه عرفا لا ينافي العجز عن تحصيل العلم فافهم هذا مع أن ما ذكره المصنف قدس سرّه لو تم لم يحتج في الاستدلال على البراءة بالأدلة السابقة،إذ بعد فرض كون التكليف الواقعي الذي لم يقم عليه الطريق غير فعلي لا وجه لاحتمال التكليف حتى يحتاج إلى الأدلة المتقدمة المقتضية للعذر عنه و الأمان من العقاب عليه.

و الأولى الاستدلال على البراءة حينئذ بأدلة الطرق بعد فرض حملها على المعنى الذي ذكره قدس سرّه كما لعله ظاهر.و بالجملة:ما ذكر قدس سرّه مما لا مجال لبناء عليه.

هذا و قد ذكر بعض أعاظم المحشين قدس سرّه و سيدنا الأعظم مد ظله أن هذا الوجه راجع إلى الوجه الأول للاستدلال على حجية الظن بالطريق دون الواقع الذي حكي

ص: 145

به فعلا على تقدير حرمته واقعا.

و ثانيا:سلمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية،إلا أن من المقرر في الشبهة المحصورة-كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى-أنه إذا ثبت في المشتبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الإجمالي،اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر،لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا،فأصالة الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل،سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي-كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول،فإنه لا يجب الاجتناب عن الآخر،لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلا-أم كان لاحقا،كما في مثال الغنم المذكور،فإن العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة (1) ،و سيجيء توضيحه إن شاء اللّه تعالى،و ما نحن فيه من عن الفصول،و أجاب عنه المصنف قدس سرّه في التنبيه الأول من تنبيهات دليل الانسداد.

فراجع و تأمل جيدا.

(1)ذكرنا أن العلم المتأخر إنما يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية إذا كان شارحا للمعلوم بالإجمال و راجعا إلى تمييز موارده،و بدون ذلك فلا بد في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية من تقدم العلم التفصيلي أو مقارنته،و إلا لم يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية.

نعم قد يقع الكلام في أن المدار في التقدم و التأخر و التقارن على المعلوم أو العلم نفسه،و على الأول لو تأخر المعلوم التفصيلي عن المعلوم الإجمالي امتنع الانحلال و إن كان العلم التفصيلي متقدما بنفسه على العلم الإجمالي و على الثاني لو تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي امتنع الانحلال و ان كان المعلوم التفصيلي

ص: 146

هذا القبيل.

الوجه الثاني:أصالة الحظر في الأفعال

الوجه الثاني:

إن الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر،كما نسب إلى طائفة من الإمامية،فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة،و لم يرد الإباحة في متقدما على المعلوم الإجمالي.و الأمر لا يخلو عن إشكال و للكلام مقام آخر.و منه يظهر الحال في مقام فان الأدلة و الطرق القائمة على التكليف ليست في مقام تمييز المعلوم بالإجمال و حصره في مواردها.كما أن العلم بمواردها تفصيلا متأخر عن العلم الإجمالي بوجود الأحكام و إن كانت التكاليف المعلومة بها منطبقة على التكاليف المعلومة بالإجمال غير متأخرة عنها فصلوحها لحل العلم الإجمالي مبني على كفاية التقارن في المعلوم و عدم اعتبار التقارن في العلم نفسه،كما هو غير بعيد و إن كان محل الإشكال كما عرفت.

و لعل الأولى الجواب عن ذلك بأن العلم الإجمالي لا ينحل بالعلم أو الظن التفصيلي الحاصل بعد النظر في الأدلة و الطرق،بل العلم الإجمالي بجعل الشارع الطرق على الأحكام الموجب لتنجز خصوص موارد الطرق قبل الفحص عنها، فيمنع من تنجز العلم الإجمالي الكبير لمقارنته له بنفسه و بمعلومه.هذا و قد تقدم ما له دخل في المقام في الدليل العقلي الذي استدل به لعدم حجية ظواهر الكتاب، و الدليل العقلي الأول الذي استدل به لحجية أخبار الآحاد.و يأتي بعض الكلام في ذلك في خاتمة البراءة عند الكلام في اشتراط الرجوع للبراءة بالفحص.فراجع، و تأمل جيدا.

هذا و كان المناسب للمصنف قدس سرّه التعرض للجواب عما ذكره المستدل من الفرق بين الظن.

ثم إنه يمكن الجواب عن الدليل العقلي المذكور بالنقض بالشبهة الوجوبية، فإن العلم الإجمالي لا يختص بالمحرمات،كما أشار إليه بعض أعاظم المحشين قدس سرّه.

ص: 147

ما لا نص فيه.و ما ورد-على تقدير تسليم دلالته-معارض بما ورد من الأمر بالتوقف و الاحتياط،فالمرجع إلى الأصل (1) .

و لو تنزلنا عن ذلك فالوقف كما عليه الشيخان قدس سرّهما.و احتج عليه في العدة:بأن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة.

و قد جزم بهذه القضية السيد أبو المكارم في الغنية،و إن قال بالإباحة كالسيد المرتضى رحمه اللّه،تعويلا على قاعدة«اللطف»،و أنه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه.

لكن ردها في العدة:بأنه قد يكون المفسدة في الإعلام و يكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.

و الجواب:

بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر (2) ،أنه:إن أريد ما يتعلق (1)و هو الحظر المدعى في كلام المستدل.

(2)ظاهره التوقف في ذلك،و هو خلاف ما سبق منه في غير مقام،و سبق توضيحه.مع أن ذلك و ما بعده إنما ينفع في الجواب عن قول المستدل:«و لو تنزلنا عن ذلك فالوقف...»فإن ظاهر استدلال العدة عليه أن المراد بالوقف وجوب التوقف لدفع الضرر المحتمل.و لأجله يتعين كون المراد بالحظر حكم العقل بلزوم التوقف مع قطع النظر عن احتمال الضرر.و الإنصاف أن الدليل المذكور بنفسه لا يخلو عن غموض،لعدم وضوح المراد بالحظر في كلماتهم و أنه الحظر الواقعي أو الظاهري و لا يسعني عاجلا تفصيل الكلام في ذلك.و قد أطال في تقريرات درس المصنّف قدس سرّه فيه، كما أطال فيه بعض أعاظم المحشين قدس سرّه.فراجع.و كيف كان فلا ينبغي الخروج بذلك عما عرفته من الأدلة على البراءة.

ص: 148

بأمر الآخرة من العقاب،فيجب على الحكيم تعالى بيانه،فهو مع عدم البيان مأمون.

و إن أريد غيره مما لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا،فوجوب دفعها غير لازم عقلا،إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانية، و قد جوز الشارع بل أمر به في بعض الموارد.و على تقدير الاستقلال فليس مما يترتب عليه العقاب،لكونه من باب الشبهة الموضوعية (1) -لأن المحرم (2) هو مفهوم الإضرار،و صدقه في هذا المقام مشكوك،كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص-و الشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضا،و سيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعية إن شاء اللّه.

(1)تقدم منه ذلك عند الاستدلال على البراءة بحكم العقل.و تقدم الكلام فيه لكن هذا مبني على كون دفع الضرر واجبا شرعا لا عقلا،أما لو فرض وجوبه عقلا-كما هو مبني الاستدلال-فقاعدة الملازمة تقتضي وجوب دفع الضرر المحتمل شرعا أيضا.و كلام المصنف قدس سرّه لا يخلو عن اضطراب،كما أشار إليه بعض أعاظم المحشين قدس سرّه.

(2)يعني:شرعا.و قد تقدم الكلام في ذلك عند الاستدلال على البراءة.

ص: 149

ص: 150

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول
اشارة

[التفصيل المحكي عن المحقق قدس سرّه بين ما يعم به البلوى و غيره]

أن المحكي عن المحقق التفصيل في اعتبار أصل البراءة بين ما يعم به البلوى و غيره،فيعتبر في الأول دون الثاني،و لا بد من حكاية كلامه قدس سرّه في المعتبر و المعارج حتى يتضح حال النسبة،قال في المعتبر (1) :

(1)لا بأس بنقل عبارة المعتبر بتمامها،لاختصار المصنف قدس سرّه لها.قال في مقدمة المعتبر:

«الفصل الثالث في مستند الأحكام،و هي عندنا خمسة:الكتاب و السنة و الإجماع و دليل العقل و الاستصحاب...و أما الاستصحاب فأقسامه ثلاثة:

استصحاب حال العقل،و هو التمسك بالبراءة الأصلية،كما نقول:الوتر ليس واجبا.لأن الأصل براءة العهدة.و منه أن يختلف الفقهاء في حكم بالأقل و الأكثر، فيقتصر على الأقل،كما يقول بعض الأصحاب:في عين الدابة نصف قيمها،فيقول المستدل:ثبت الربع إجماعا،فينتفي الزائد نظرا إلى البراءة الأصلية.

الثاني:أن يقال:عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه.و هذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به.أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف،و لا يكون ذلك الاستدلال حجة.و منه القول بالإباحة،لعدم دليل الوجوب و الحظر.

الثالث:استصحاب حال الشرع،كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة،فيقول

ص: 151

كلام المحقق قدس سرّه في المعتبر

الثالث-يعني من أدلة العقل-:الاستصحاب،و أقسامه ثلاثة:

الأول:استصحاب حال العقل،و هو التمسك بالبراءة الأصلية، كما يقال:الوتر ليس واجبا،لأن الأصل براءة العهدة.و منه:أن يختلف العلماء في حكم الدية المترددة بين الأقل و الأكثر،كما في دية عين الدابة المترددة بين النصف و الربع.

إلى أن قال:

الثاني:أن يقال:عدم الدليل على كذا،فيجب انتفاؤه.و هذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هنا دليل لظفرنا به،أما لا مع ذلك فيجب التوقف، و لا يكون ذلك الاستدلال حجة.و منه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب و الحظر.

الثالث:استصحاب حال الشرع.فاختار أنه ليس بحجة،انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سرّه.

كلام المحقق قدس سرّه في المعارج

و ذكر في المعارج،على ما حكي عنه:

أن الأصل:خلو الذمة عن الشواغل الشرعية،فإذا ادعى مدع حكما شرعيا جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الأصلية،فيقول:لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية،لكن ليس كذلك،فيجب نفيه.

و هذا الدليل لا يتم إلا ببيان مقدمتين:إحداهما:أنه لا دلالة عليه شرعا،بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعية و يبين عدم دلالتها عليه.

المستدل على الاستمرار:صلاة مشروعة قبل وجود الماء،فيكون كذلك بعده.و ليس هذا حجة،لأن شرعيتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه...».

ص: 152

و الثانية:أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك الدلائل،لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به،و هو تكليف بما لا يطاق (1) ،و لو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلة لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها،لكنا بينا انحصار الأحكام في تلك الطرق،و عند ذلك:يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم،انتهى.

و حكي عن المحدث الأسترابادي في فوائده:

أن تحقيق هذا الكلام هو:أن المحدث الماهر إذا تتبع الأحاديث المروية عنهم عليهم السّلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها،فإذا لم يظفر بحديث دل على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعا عاديا بعدمه،لأن جما غفيرا من أفاضل علمائنا«أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه السّلام-كما في المعتبر-كانوا ملازمين لأئمتنا عليهم السّلام في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة،و كان همهم و هم الأئمة عليهم السّلام إظهار الدين عندهم و تأليفهم كل ما يسمعون منهم في الأصول،لئلا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامة (2) ،و لتعمل بما في تلك الأصول في زمان الغيبة الكبرى، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة عليهم السّلام لم يضيعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم،كما في الروايات المتقدمة،ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسك بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع.

(1)التكليف بما لا طريق إلى العلم به ليس تكليفا بما لا يطاق.و سيأتي بعض الكلام في هذا التعليل.

(2)يعني:بالرجوع إلى القياس و الاستحسان و نحوهما.

ص: 153

إلى أن قال:

و لا يجوز التمسك به في غير المسألة المفروضة،إلا عند العامة القائلين بأنه أظهر عند أصحابه كل ما جاء به،و توفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره،و ما خص أحدا بتعليم شيء لم يظهره عند غيره،و لم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به،انتهى.

المناقشة فيما أفاده المحقق قدس سرّه

أقول (1) :المراد بالدليل المصحح للتكليف-حتى لا يلزم التكليف (1)حاصل ما أفاده قدس سرّه في بيان مراد المحقق قدس سرّه أن ما ذكره المحقق في المعارج و في القسم الثاني من أقسام الاستصحاب في المعتبر من قاعدة أن عدم الدليل دليل العدم يراد به أن عدم الدليل الذي من شأنه أن يصل دليل على عدم الحكم الفعلي الظاهري،و هذا لا يختص بما تعم به البلوى،بل ما لا تعم به البلوى أيضا إذا فقد فيه الدليل الذي من شأنه أن يصل يتعين الرجوع فيه إلى البراءة و عدم البناء على التكليف الفعلي.

نعم لو كان المراد من عدم الدليل عدم الطريق الواقعي على الحكم الواقعي كان الاستدلال به على عدم الحكم الواقعي محتاجا إلى العلم بعدم الدليل و إلى الملازمة بينه و بين عدم الحكم،و هو إنما يتم فيما تعم به البلوى بشرط يأتي التعرض له في كلام المصنف قدس سرّه.

إلا إنه لا مجال لحمل كلامه على ذلك،لأنه قدس سرّه علل عدم التكليف مع عدم الدليل بأن التكليف مع عدم الدلالة راجع إلى التكليف مما لا طريق إلى العلم به، و هو تكليف بما لا يطاق.

و من الظاهر أن هذا إنما يناسب إرادة الطريق الذي من شأنه أن يصل على الحكم الفعلي الظاهري الذي هو المدار في العقاب و الثواب،لا الطريق الواقعي للحكم الواقعي،إذ وجود الدليل الواقعي غير الواصل لا يرفع قبح التكليف.

ص: 154

هذا حاصل ما يمكن به توضيح كلام المصنف قدس سرّه في شرح مراد المحقق لكن ظاهر كلام المحقق في المعتبر و المعارج أن عدم الدليل كاشف عن عدم التكليف من باب كشف عدم اللازم عن عدم الملزوم لا أن عدم الدليل بنفسه مقتض لعدم التكليف،و من الظاهر أن هذا إنما يتم في الطريق الواقعي الصادر من الشارع الأقدس بالإضافة إلى التكليف الواقعي.و أما عدم الحكم الفعلي فهو ليس منكشفا بعدم الطريق الذي من شأنه أن يصل،بل هو مسبب عنه،ضرورة أن عدم قيام الحجة موضوع لحكم العقل و الشرع بعدم العقاب الذي هو مرجع عدم التكليف الفعلي،كما لا يخفى.

مضافا إلى أنه ذكر في المعتبر أنه لا بد في ذلك من أن يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به،و ظاهره بل صريحه أن الدليل قد يكون موجودا و لا يظفر به المكلف و هو لا يتم مع إرادة الدليل الذي من شأنه أن يصل،ضرورة أنه مع وجوده لا بد من الظفر به و كيف كان فلا مجال لحمل كلام المحقق قدس سرّه على ما ذكره المصنف قدس سرّه، بل لا بد من حمله على أن عدم وجود الدليل واقعا كاشف عن عدم التكليف الواقعي،فيختص بما إذا انحصرت الأدلة الشرعية،و علم بعدم قيام شيء منها على التكليف و كانت هناك ملازمة بين عدم الدليل و عدم التكليف،كما ذكره المحقق قدس سرّه،و هو يختص بما تعم به البلوى،كما ذكره المحدث الاسترآبادي قدس سرّه و نحوه مما من شأنه أن يعلم حكمه.

و أما التعليل المذكور في كلام المحقق قدس سرّه فهو و إن كان لا يخلو عن إجمال و إشكال،إلا أنه قد يوجه بأن قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به ليس من جهة منافاته للعدل كي يختص بالحكم الفعلي الذي هو المدار في العقاب و الثواب بل من جهة منافاته للحكمة،بلحاظ أن الحكم لما كان تابعا للملاك كان مقتضى الحكمة سعي المولى في إيصاله،ليتهيأ امتثاله حفاظا على الملاك،و جعله مع عدم جعل طريق لإيصاله لغو لا فائدة فيه.و هذا يناسب إرادة الحكم الواقعي الذي يكفى في حفظه

ص: 155

بما لا طريق للمكلف إلى العلم به-هو ما تيسر للمكلف الوصول إليه و الاستفادة منه (1) ،فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني[ن.ل] أصلا،أو كان و لم يتمكن المكلف من الوصول إليه،أو تمكن لكن بمشقة رافعة للتكليف،أو تيسر و لم يتم دلالته في نظر المستدل،فإن الحكم الفعلي من جانب المولى نصب الطريق عليه و إن لم يصل لدواعي الإخفاء و الموانع الطارئة من الوصول،فالعلم بعدم نصب الطريق عليه موجب للعلم بعدم الحكم،و هو إنما يتم فيما تعم به البلوى و نحوه،كما سبق.فما فهمه المحدث الاسترآبادي قريب جدا.

بعد التأمل في كلام المحقق قدس سرّه.

نعم هذا لا دخل له بأصل البراءة،و لا يستلزم التفصيل فيه،و إنما هو تحقيق لمورد قاعدة عدم الدليل دليل العدم،التي هي كقاعدة عدم الوجدان يدل على عدم الوجود من الأمارات التي تكشف عن الواقع،لا من الأصول التي نحن بصددها.

نعم القسم الاول الذي ذكره في المعتبر لا يبعد كون المراد به أصل البراءة الذي نحن بصدده و ليس في كلامه قدس سرّه إشارة إلى التفصيل المذكور فيه،بل ظاهر أن المراد بالحكم فيه الحكم الفعلي،و أن المدار فيه على عدم الدليل القاطع الواصل مطلقا.و لذا استدل على عدم وجوب الزائد على الربع في الدية بمجرد عدم قيام الإجماع عليه.و مثل له بدية عين الدابة التي هي ليست محل الابتلاء،و لا مجال للعلم بعدم التكليف فيها واقعا من مجرد عدم الظفر بالدليل،كما هو ظاهر.

و بالجملة:ما ذكره قدس سرّه في القسم الأول كالصريح في عموم جريان البراءة و ما ذكره في القسم الثاني أجنبي عنه بالمرة وارد في قاعدة عدم الدليل دليل العدم التي هي من الأدلة القطعية لا الأصول.

(1)الذي هو مستلزم للحكم الفعلي الذي هو المدار في الثواب و العقاب.

ص: 156

في جميع هذه الصور قبيح على ما صرح به المحقق قدس سرّه في كلامه السابق (1) ، سواء قلنا بأن وراء الحكم الفعلي حكما آخر-يسمى حكما واقعيا و حكما شأنيا-على ما هو مقتضى مذهب المخطئة،أم قلنا بأنه ليس وراءه حكم آخر،للاتفاق على أن مناط الثواب و العقاب و مدار التكليف هو الحكم الفعلي.

و حينئذ:فكل ما تتبع المستنبط في الأدلة الشرعية في نظره إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبع،و لم يجد فيها ما يدل على حكم مخالف للأصل،صح له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعلي.

و لا فرق في ذلك بين العام البلوى و غيره،و لا بين العامة و الخاصة، و لا بين المخطئة و المصوبة،و لا بين المجتهدين و الأخباريين،و لا بين أحكام الشرع و غيرها من أحكام سائر الشرائع و سائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي،و أما بالنسبة إلى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم-لو سميناه حكما بالنسبة إلى الكل (2) - فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقق قدس سرّه:من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به،لأن المفروض عدم إناطة التكليف به (3) .

(1)كأنه من جهة التعليل الذي عرفت الكلام فيه.

(2)كما هو الظاهر المناسب لمذهب المخطئة.

(3)يعني:بنحو يستتبع العقاب و الثواب،و إنما كان المفروض ذلك لما ذكره قدس سرّه سابقا من قبح التكليف من دون بيان،فمع فرض وجود الحكم الواقعي لا عقاب عليه.لكن حمل مراد المحقق من التكليف على الظاهري قد عرفت الإشكال فيه.كما

ص: 157

نعم،قد يظن (1) من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه،بعموم البلوى به لا بمجرده (2) ،بل مع ظن عدم المانع عن نشره في أول الأمر من الشارع أو خلفائه أو من وصل إليه.

لكن هذا الظن لا دليل على اعتباره،و لا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلة العقلية،و لا بمسألة التكليف بما لا يطاق،و لا بكلام المحقق (3) .

فما تخيله المحدث تحقيقا لكلام المحقق-مع أنه غير تام في نفسه (4) - أجنبي عنه بالمرة.

نعم،قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة:الظن بها فيما بعد الشرع-كما سيجيء عن بعضهم (5) -لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق (6) الذي ذكره المحقق.

عرفت تمام الكلام في ذلك.

(1)بل قد يقطع بذلك،كما فيما فرضه...المحقق قدس سرّه من الشروط.

(2)الضمير يعود إلى قوله:«لعموم البلوى».

(3)عرفت أن ظاهر كلام المحقق أنه ناظر إلى هذا.كما عرفت حال الاستدلال بلزوم التكليف بما لا يطاق.

(4)كأنه من جهة عدم حجية الظن المذكور.لكن عرفت أنه قد يلزم القطع منه.

(5)يأتي في التنبيه الثاني.و كأنه مبني على إفادة الاستصحاب الظن،كما سيجيء أيضا.

(6)لا يخفى أن التكليف بما لا يطاق لا يتوجه حتى بناء على ما ذكره المصنف قدس سرّه في بيان مراد المحقق قدس سرّه،إذ الجهل بالتكليف لا يوجب العجز عن موافقته.

ص: 158

و من هنا يعلم:أن تغاير القسمين الأولين من الاستصحاب (1) باعتبار كيفية الاستدلال،حيث إن مناط الاستدلال في هذا القسم الملازمة بين عدم الدليل و عدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة السابقة،فجعله من أقسام الاستصحاب مبني على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشك و لو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة (2) ،فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة (3) ،و مناط الاستدلال في القسم الأول ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم (4) .

(1)يعني:القسمين الأولين من الأقسام التي ذكرها في المعتبر،و هما استصحاب البراءة الأصلية و عدم الدليل دليل العدم.

(2)كما أنه مبني أيضا على إطلاق الاستصحاب في مورد يستكشف فيه الحكم الواقعي قطعا،بناء على ما ذكرنا في تفسير كلام المحقق قدس سرّه.

(3)تبعا لعموم دليله و هو الملازمة بين عدم الدليل و عدم الحكم.

(4)إن كان المراد من عدم الدليل على الحكم عدم الدليل الذي من شأنه أن يصل فمن الظاهر أنه لا مجال للتمسك باستصحاب البراءة الأصلية و لا غيره من الأصول مع الشك فيه،إذ لا يعقل الشك فيه إلا قبل الفحص،و لا مجال للأصول قبله قطعا.و إن كان المراد من عدم الدليل على الحكم عدم الدليل الواقعي و لو فرض ضياعه فهو و إن كان يمكن الشك فيه بعد الفحص أيضا،إلا أنه ليس مقابلا للقسم الثاني بناء على ما فسره المصنف قدس سرّه به،و إنما يقابله بناء على ما ذكرنا.

كما أن ما ذكره من كون المراد بالقسم الأول الاستصحاب المصطلح،و أن مبنى الاستدلال فيه على ملاحظة الحالة السابقة،و إن كان قد يشعر به التعبير في المعتبر عن البراءة بالأصلية،بدعوى إشعاره بكون منشأ الحكم بالبراءة سبقها،إلا

ص: 159

و يشهد لما ذكرنا،من المغايرة الاعتبارية (1) :أن الشيخ لم يقل أن ظاهر كلام المحقق قدس سرّه أن المراد به مجرد الحكم بالبراءة لعدم الدليل على التكليف لتوقف تنجز التكليف على البيان و قبح العقاب بدونه،لا لأجل الحالة السابقة،كما قد يظهر مما ذكره في وجه جريان البراءة من وجوب الزائد على ربع الدية في عين الدابة،لظهوره في أن الموجب له عدم قيام الإجماع لا غير.و لذا يختص ذلك بالبراءة و لا يجري في التكليف أو غيره من الأحكام الشرعية لو كان ثابتا سابقا،كما صرح به في القسم الثالث إذ لو كان للحالة السابقة دخل في نظر المحقق لما كان المناسب له اعتبار القسم الثالث و هو استصحاب حال الشرع،فاعتباره للقسم الأول دون الثالث ظاهر في خصوصية البراءة دون الحالة السابقة.

و أما التعبير عنه بالاستصحاب فلعله من جهة الحكم فيه على طبق الحالة السابقة و إن لم يكن بملاحظتها،كما هو الحال في القسم الثاني أيضا إذا اختصاص الاستصحاب بما يكون الملحوظ فيه الحالة السابقة اصطلاح متأخر نشأ من الاستدلال عليه بالأخبار الملحوظ فيها ذلك.و لأجل هذا ذكرنا آنفا أنه لا يبعد أن يكون مراد المحقق قدس سرّه بالقسم الأول أصل البراءة الذي نحن بصدده.

و الذي تحصل من جميع ما ذكرنا:أن مراد المحقق قدس سرّه من القسم الأول أصل البراءة،و من الثاني قاعدة عدم الدليل دليل العدم التي هي من الأمارات،بل الأدلة العلمية على نفي الحكم واقعا،و من الثالث الاستصحاب المصطلح عند المتأخرين.

و هي و إن اشتركت في الحكم على طبق الحالة السابقة،إلا أن سنخ الحكم و ملاكه فيها مختلف جدا،فهو في الأول و الثالث ظاهري فعلي،و في الثاني واقعي.و ملاكه في الأول عدم الدليل الذي من شأنه أن يصل،بضميمة قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و في الثاني عدم الدليل واقعا مطلقا،و في الثالث ملاحظة الحالة السابقة فتأمل جيدا.

و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم.

(1)بناء على ما ذكرنا في معنى القسمين لا يكون الاختلاف بينها اعتباريا، بل حقيقيا،من حيث أن مفاد الأول نفي التكليف ظاهرا،و مفاد الثاني نفيه واقعا.

ص: 160

بوجوب مضي المتيمم الواجد للماء في أثناء صلاته لأجل الاستصحاب، و قال به لأجل أن عدم الدليل دليل العدم.

نعم،هذا القسم الثاني أعم موردا من الأول،لجريانه في الأحكام العقلية (1) و غيرها،كما ذكره جماعة من الأصوليين.

و الحاصل:أنه لا ينبغي الشك في أن بناء المحقق قدس سرّه على التمسك بالبراءة الأصلية مع الشك في الحرمة،كما يظهر من تتبع فتاويه في المعتبر (2) .

كما أن ما نقله قدس سرّه عن الشيخ قدس سرّه لا يشهد بالتغاير الاعتباري بين القسمين الأولين بل بين القسمين الاخيرين،كما يظهر بمراجعه كلام المعتبر الذي تقدم منا نقله.

(1)لا يخفى أن الأحكام العقلية لا تقبل الشك حتى يمكن جريان أصالة عدم الدليل دليل العدم فيها،خصوصا بناء على ما ذكره المصنف قدس سرّه من أن المراد بالقاعدة النفي الظاهري،نعم يظهر من بعض أعاظم المحشين قدس سرّه أن المراد الأمور الاعتقادية، و حينئذ يمكن نفيها بأصالة عدم الدليل دليل العدم.فتأمل.ثم إن الظاهر أن القسم الثاني إنما يكون أعم من وجه لا مطلقا،عموم القسم الأول للشبهة الموضوعية،كما نبه له بعض أعاظم المحشين قدس سرّه و ادعى أن ذلك هو مراد المصنف قدس سرّه.

(2)بل يكفى فيه ما ذكره في القسم الأول،لما ذكرنا من رجوعه إلى أصل البراءة.و الظاهر رجوع ما يظهر من فتاواه في المعتبر إلى ذلك،سواء حمل على ما ذكرنا أم على الاستصحاب،كما ذكره المصنف قدس سرّه.

ص: 161

الثاني

[هل أن أصالة الإباحة من الأدلة الظنية أو من الأصول؟]

مقتضى الأدلة المتقدمة:كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم هي الإباحة من غير ملاحظة الظن بعدم تحريمه في الواقع (1) ، فهذا الأصل يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة،لا الظن بعدم الحكم واقعا، و لو أفاده (2) لم يكن معتبرا.

(1)فيكون من الأصول المعذرة لا الأمارات الظنية.فإن الأدلة الشرعية لم تتضمن إلا الرفع و الإطلاق و السعة و نحوها،و ظاهر الحكم فيها بذلك هو الحكم القطعي،فيتعين حمله على الظاهري الفعلي بعد فرض الشك في الواقع،و لا قرينة على كون الحكم بالأمور المذكورة كفاية عن حجية احتمال العدم،راجعا إلى أماريته.

بل هو أمر قطعي بعد ملاحظة الارتكازيات في فهم أدلة المقام.و أما حكم العقل فالحال فيه أظهر،لعدم ابتنائه على حجية شيء على الواقع و كشفه عنه بلا إشكال.

و منه يظهر أن مرجع الإباحة عد في المقام إلى فحص السعة و رفع الحرج عملا،لا الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة.

(2)لا يتصور كون الأصل المذكور مفيدا للظن.نعم قد يحصل الظن من أمارات أخر شخصية أو نوعية،و دليل الأصل لا يصلح لإثبات حجيتها،لعدم نظره إليها.

ص: 162

إلا أن الذي يظهر من جماعة كونه من الأدلة الظنية،منهم صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجية خبر الواحد (1) ،و منهم شيخنا البهائي قدس سرّه،و لعل هذا هو المشهور بين الأصوليين،حيث لا يتمسكون فيه إلا باستصحاب البراءة السابقة (2) ،بل ظاهر المحقق رحمه اللّه في المعارج الإطباق على التمسك بالبراءة الأصلية حتى يثبت الناقل،و ظاهره أن اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصلية (3) .

و التحقيق:أنه لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة فلا يعتبر (4) ،و الإجماع (5) ليس على اعتبار هذا الظن،و إنما هو على العمل على طبق الحالة السابقة،و لا يحتاج إليه (6) بعد قيام الأخبار المتقدمة و حكم العقل.

(1)تقدم التعرض لذلك في أواخر المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد.

(2)بناء على ما قد يظهر منهم عن إفادة الاستصحاب الظن.

(3)تقدم في أواخر التنبيه السابق التعرض لتحقيق مراد المحقق من التمسك بالبراءة الأصلية.

(4)لعدم الدليل على حجيته.

(5)الذي قد يظهر من المحقق قدس سرّه في المعارج،في الكلام المتقدم حكايته عنه.

(6)يعني:إلى الإجماع المدعى في كلام المحقق على العمل على طبق الحالة السابقة.

ص: 163

الثالث
اشارة

[هل أن أوامر الاحتياط للاستحباب أو للإرشاد؟]

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا و نقلا،كما يستفاد من الأخبار المذكورة (1) و غيرها.

(1)لا يخفى أن أكثر الأخبار الآمرة بالاحتياط و باجتناب الشبهة ظاهرة في أن ملاك ذلك هو الحذر من الهلكة الواقعية المحتملة على تقدير إصابة الحرام الواقعي فهي مختصة بالشبهة المنجزة و لا تعم غيرها،فلا مجال لاستفادة رجحان الاحتياط في الشبهة غير المنجزة بعد فرض عدم لزومه،بل يتعين حملها على الاحتياط اللازم لا غير،كما ذكرنا ذلك في أخبار التوقف و الاحتياط.

نعم قد يتمسك لرجحان الاحتياط حينئذ بما أمر فيه بترك الشبهات بملاك البعد عن الحرام أو لأن فيها عتابا،بدعوى ظهوره في رجحان الاحتياط مطلقا مولويا.اللهم إلا أن يستشكل فيه بظهوره في خصوص الشبهة المنجزة لسوقه مساق أدلة التوقف و الاحتياط و إن اختلف ملاك الحكم فيه عنها.

و لا سيما مع ما تقدم من قرب كون المراد من الشبهة فقد الحجة في مورد الحاجة اليها،لا مطلق الشك في الحكم الواقعي،فإن ذلك لو تم لم يفرق فيه بين جميع الأخبار.مع أنه لا يبعد حملها على الإرشاد أيضا لأن الفائدة المشار اليها مما يحكم العقل بحسن تحصيله،نعم لا مجال لذلك فيما تضمن أن في الشبهات عتابا،كما لا

ص: 164

و هل الأوامر الشرعية للاستحباب (1) ،فيثاب عليه و إن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي (2) ،أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرز عن الهلكة المحتملة و الاطمئنان بعدم وقوعه فيها (3) ،فيكون الأمر به إرشاديا (4) لا يترتب على موافقته و مخالفته سوى الخاصية المترتبة على الفعل أو الترك،نظير أوامر الطبيب،و نظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع (5) ؟ وجهان:

يخفى.فتأمل.

فالعمدة في حسن الاحتياط ما هو المعلوم من تمامية ملاك الحكم الواقعي المقتضي لرجحان تحصيله عقلا،لما فيه من الانقياد للمولى الاعظم،الذي هو من سنخ الإطاعة و إن لم يكن لازما مثلها.و مجرد رفعه ظاهرا تخفيفا منه تعالى لا ينافي ذلك و لا يصلح للردع عنه.و إن كان قد يشهد بالردع ما تضمن إنه تعالى يجب أن يعبد في رخصه كما يجب أن يعبد في عزائمه و أنه يحب اليسر و نحو ذلك.و لا بد من التأمل.

(1)يعني:المولوي.

(2)بل إن حصل الاجتناب به يثاب أيضا ثوابا آخر غير ثواب الانقياد الذي يستحقه بحكم العقل.

(3)هذا راجع إلى كون الأمر طريقيا لا غيريا.و لعله مراد المصنف قدس سرّه.

(4)لأن الوقوع في الهلكة المعلومة ليس حراما شرعا و إنما يحسن تجنب ذلك عقلا استحبابا.

(5)لا يبعد أن يكون هذا حكمة مع كون الأمر الشرعي بالإشهاد مولويا، لا أنه كاشف عن كون الأمر به إرشاديا،فإنه خلاف ظاهر الأمر الصادر من الشارع.

ص: 165

من ظاهر الأمر (1) بعد فرض عدم إرادة الوجوب (2) .

و من (3) سياق جل الأخبار الواردة في ذلك،فإن الظاهر كونها مؤكدة لحكم العقل بالاحتياط.

الظاهر كونها للإرشاد

و الظاهر أن حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط-على تقدير كونه إلزاميا-لمحض الاطمئنان و دفع احتمال العقاب،و كما أنه إذا تيقن بالضرر يكون إلزام العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن، فكذلك طلبه الغير الإلزامي إذا احتمل الضرر (4) .

بل،و كما أن أمر الشارع بالإطاعة في قوله تعالى: أطيعوا اللّه و رسوله لمحض الإرشاد،لئلا يقع العبد في عقاب المعصية و يفوته ثواب (1)فإن الأمر الشرعي بنفسه ظاهر في المولوية،و حمله على الإرشاد يحتاج إلى القرينة.

(2)ليس هذا لدفع الحمل على الإرشاد،بل لبيان وجه الحمل على الرجحان مع أن الأمر في نفسه ظاهر في الوجوب و الإلزام.

(3)بيان لوجه الحمل على الإرشاد.

(4)لا يخفى أنه إذا احتمل الضرر يكون طلب العقل إلزاميا أيضا.و لأجله لا مجال لدعوى كون الأمر بالاحتياط إرشادا إليه مع فرض كون الأمر المذكور غير إلزامي.فلو فرض الحمل على الإرشاد تعين حمله على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط من باب الانقياد الراجح لا بملاك دفع الضرر المحتمل.

إلا أن يكون مراد المصنف قدس سرّه من الضرر الأثر الواقعي للفعل الذي يعم فوت الملاك الواقعي غير اللازم الدفع.نعم أشرنا إلى أنه لا مجال لحمل النصوص على ذلك بعد تضمنها الهلكة الظاهرة في الأثر اللازم الدفع.و من ثم قلنا باختصاصها بالشبهة المنجزة.

ص: 166

الطاعة،و لا يترتب على مخالفته سوى ذلك،فكذلك أمره بالأخذ بما يأمن معه من الضرر،و لا يترتب على موافقته سوى الأمان المذكور،و لا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير تحققه.

ما يشهد لكونها من الإرشاد

و يشهد لما ذكرنا:أن ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصي عن الهلكة الواقعية لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم.

و اقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا،و من المعلوم أن الأمر باجتناب المحرمات في هذه الأخبار ليس إلا للإرشاد (1) ،لا يترتب على موافقتها و مخالفتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به-و هو الاجتناب عن الحرام-أو فوتها،فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع،بل فعله المكلف حذرا من الوقوع في الحرام.

ترتب الثواب على اجتناب الشبهة

و لا يبعد التزام ترتب الثواب عليه،من حيث إنه انقياد (2) و إطاعة (1)لكن ذلك يختص بالشبهة المنجزة التي يخشى فيها من ضرر الحرام،كما هو المناسب للتعبير بالهلكة،فلا مجال للاستدلال بها في المقام،كما عرفت.

(2)لا إشكال في رجحانه عقلا بملاك الانقياد،كما ذكرنا.و أما ترتب الثواب عليه،فان كان المراد به استحقاقه مطلقا و لو مع عدم الإصابة فهو لا يخلو عن إشكال و إن قلنا باستحقاق المطيع للثواب،و أن ثوابه ليس لمحض التفضل، لفرض عدم تحقق الإطاعة.

و إن كان المراد ترتبه و لو بدون استحقاق فهو قريب جدا بلحاظ لطفه تعالى و تفضله و كرمه على أهل ولايته.نعم لا بد من فرض عدم ثبوت الردع عنه من الشارع على ما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 167

حكمية (1) ،فيكون حينئذ حال الاحتياط و الأمر به حال نفس الإطاعة الحقيقة و الأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لو لا الأمر.

ظاهر بعض الأخبار كونها للاستحباب

هذا،و لكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدمة،مثل قوله عليه السّلام:

«من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات»، و قوله:«من ترك الشبهات كان لما استبان له من الإثم أترك»،و قوله:«من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»:هو كون الأمر به للاستحباب (2) ، و حكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرمات المعلومة،و لازم ذلك استحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط،مضافا (3) إلى الخاصية المترتبة على نفسه (4) .

حسن الاحتياط مطلقا

ثم لا فرق فيما ذكرنا-من حسن الاحتياط بالترك-بين أفراد المسألة حتى مورد دوران الأمر بين الاستحباب و التحريم،بناء على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة،و ظهور الأخبار المتقدمة في ذلك أيضا (5) .

(1)لعل المراد به أنه كالإطاعة.

(2)عرفت الاشكال في الاستدلال بالنصوص المذكورة في أول هذا التنبيه.

(3)حال من قوله:«استحقاق الثواب...».

(4)و هي الانقياد التى عرفت قرب كونها مقتضية للثواب أيضا في الجملة.

(5)لم يظهر الوجه في دلالتها على الأولوية المذكورة بناء على شمولها للشبهة غير المنجزة،ضرورة أنها حينئذ واردة للإرشاد بلحاظ ترتب الخاصية المحتملة على تقدير موافقة الاحتمال للواقع،و لا تعرض فيها للترجيح بين الخاصيتين.إلا أن

ص: 168

و لا يتوهم:أنه يلزم من ذلك (1) عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة بل حسن الاحتياط بتركه،إذ لا ينفك ذلك (2) عن احتمال كون فعله تشريعا محرما.

لأن (3) حرمة التشريع تابعة لتحققه،و مع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع (4) ،و لذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال،كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في الثوبين المشتبهين و غيرهما،و سيجيء زيادة توضيح لذلك (5) إن شاء اللّه.

يكون مراده التمسك باطلاق الأخبار المذكورة لإثبات عموم رجحان الاحتياط للمورد بالاجتناب،لا للأولوية.و حينئذ لا يخلو عن إشكال،لقرب انصرافها عن صورة تزاحم الاحتياطين.

(1)يعني:من تقديم احتمال التحريم على احتمال الاستحباب.

(2)يعني:احتمال الاستحباب.

(3)تعليل لقوله:«و لا يتوهم...».

(4)لتوقف التشريع على نسبة الحكم للمولى،و مع فرض كون الداعي هو الاحتمال لا تتحقق النسبة.

(5)في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الأولى للشبهة الوجوبية.

ص: 169

الرابع
اشارة

[المذاهب الأربعة المنسوبة إلى الأخباريين فيما لا نص فيه]

نسب الوحيد البهبهاني قدس سرّه إلى الأخباريين مذاهب أربعة في ما لا نص فيه:التوقف،و الاحتياط،و الحرمة الظاهرية،و الحرمة الواقعية.

فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد،و كون اختلافها في التعبير لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلة القول بوجوب اجتناب الشبهة.فبعضهم ركن إلى أخبار التوقف (1) ،و آخر إلى أخبار الاحتياط،و ثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدمة لتجنب المحرمات (2) ،كحديث التثليث،و رابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث إنها مشتبهات (3) ،فإن هذا الموضوع في (1)كموثقة حمزة بن الطيار و رواية جابر المتقدمتين في الطائفة الثانية.و أما ما تضمن الأمر بالوقوف عند الشبهة معللا بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فالظاهر أنه من القسم الثالث،لأن ظاهر الهلكة فيها هي الهلكة الواقعية الناشئة من الحرمة المحتملة.

(2)فانها ظاهرة في عدم محذور في الشبهة،بما هى لتكون محرمة واقعا،بل من حيث احتمال افضائها للحرام الواقعي،فلا تكون إلا محرمة حرمة ظاهرية طريقية.

(3)لعل المراد بها ما تضمن أن من ترك الشبهة كان لما استبان له من الإثم

ص: 170

نفسه حكمه الواقعي الحرمة (1) .

التوقف أعم من الاحتياط بحسب المورد

و الأظهر (2) :أن التوقف أعم بحسب المورد من الاحتياط،لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال و الأعراض و النفوس مما يجب فيها الصلح أو القرعة (3) ،فمن عبر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن النص العام و الخاص.

الاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم

و الاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم،فمن عبر به أراد الأعم من محتمل التحريم و محتمل الوجوب (4) ،مثل وجوب السورة أو وجوب أترك،و نحوه.

(1)يعني:بناء على ظهور هذه الأخبار في الحرمة.

(2)يعني:في توجيه الفرق بين الأقوال الأربعة.

(3)و ذلك في موارد تشابه الحقوق،لعدم تحقق وجه متيقن الجواز فيها في حق الكل حتى يكون مقتضى الاحتياط اختياره.لكن الاحتياط ممكن في حق كل طرف بنفسه إذ له إسقاط حقه المحتمل أو عدم المطالبة به،أو أداء الحق المحتمل لصاحبه احتياطا،و إن امتنع الاحتياط في حق الحاكم.

فدعوى:أن التوقف أعم من الاحتياط غير ظاهرة.نعم في مورد الدوران بين محذورين يتعذر الاحتياط مع إمكان التوقف بناء على أن المراد بالتوقف عن الشبهة الاجتناب بالترك الذي هو ممكن في المقام.لكن ذلك خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في الدوران بين الحرمة و غير الوجوب من الأحكام.

(4)يعني:بخلاف من عبّر بالتوقف،فإن التوقف مختص بالشبهة التحريمية، لأن الاحتياط في الشبهة الوجوبية بالفعل لا بالتوقف.

لكن تقدم احتمال عموم الشبهة في أخبار التوقف للشبهة الوجوبية.فراجع الجواب الثاني عن الطائفة الثانية من الأخبار التي استدل بها الأخباريون مع أن

ص: 171

الجزاء المردد بين نصف الصيد و كله.

الفرق بين الحرمة الظاهرية و الواقعية

و أما الحرمة الظاهرية و الواقعية،فيحتمل الفرق بينهما (1) :بأن المعبر بالأولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي (2) ،فالحرمة ظاهرية (3) و المعبر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم،و هو موضوع من الموضوعات الواقعية،فالحرمة واقعية.أو بملاحظة أنه إذا منع الشارع المكلف-من حيث إنه جاهل بالحكم-من الفعل (4) ،فلا يعقل إباحته له واقعا (5) ،لأن معنى الإباحة الفرق المذكور بين الاحتياط و التوقف إنما يتم في حق من أطلق وجوب الاحتياط في الشبهة،و لا يتم في حق من خصه بالشبهة التحريمية إذ لا يكون وجوب الاحتياط حينئذ أعم من وجوب التوقف،كما لا يخفى.

(1)هذا إنما يصلح وجها للفرق بين القول بالحرمة الواقعية و القول بالحرمة الظاهرية.لا بينهما و بين القولين الأولين.و كان المناسب التعرض لذلك و هو لا يخلو عن غموض.

(2)و هو الحكم الأولى المشكوك فيه.

(3)كأنه من جهة كونها طريقية لأجل المحافظة على الواقع المحتمل،لا أنها مع قطع النظر عنه.

(4)متعلق بقوله:«منع الشارع».

(5)يعني:ليس هناك حكم واقعي في مقابل الحرمة المفروضة،فلا بد من كون الحرمة واقعية لا ظاهرية.

لكن هذا لا يخلو عن إشكال،إذ حرمة الشيء بعنوان كونه مجهول الحكم إنما تنافى إباحته بعنوان كونه مجهول الحكم،و لا يلتزم بذلك أحد من الأخباريين في المقام،و أما إباحته بعنوانه الواقعي-كالتتن-فهي لا تنافي حرمته بعنوان كونه

ص: 172

الإذن و الترخيص،فتأمل.

احتمال آخر في الفرق

و يحتمل الفرق:بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الإباحة،إلا أن أدلة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا، و القائل بالحرمة الواقعية إنما يتمسك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء،من باب قبح التصرف في ما يختص بالغير (1) بغير إذنه.

مشكوك الحكم.بل هي مأخوذة في موضوعها،كيف و ظاهر أكثر الأخبار التي يستدل بها للحكم الظاهري في المقام أن العقاب على الحرمة الواقعية المحتملة و أن الاحتمال كاف في تنجزها.

فالبناء على ارتفاع الحكم الواقعي لمنافاته للحرمة المذكورة في غير محله جدا.

و عليه يبتني الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري في سائر المقامات،و تمام الكلام فيه في محله.

هذا و لا يبعد الفرق بين الحرمة الواقعية و الظاهرية بأن الأولى تقتضي العقاب على مخالفتها مع قطع النظر عن الواقع سواء كان الشيء و بعنوانه الأولى محكوما بالإباحة أم الحرمة،و الثانية طريقية لا غير و لا تقتضى العقاب على مخالفتها،بل على مخالفة الحرمة الواقعية لو كانت حاصلة،و دليل الأولى هو القسم الرابع من الأخبار المشار إليها في أول هذا التنبيه،و دليل الثانية هو القسم الثالث منها.

(1)هو الشارع الأقدس.لكن المراد من القبح إن كان هو القبح الواقعي المستلزم للحرمة الواقعية،فمن الظاهر أن موضوعه عدم الإذن واقعا لا الشك في الإذن،و لا طريق إلى إحراز عدم الإذن من الشارع بعد فرض احتمال الإباحة،و إن كان هو القبح الظاهري الراجع إلى منجزية احتمال عدم الإذن فهو عبارة أخرى عن الحرمة الظاهرية،و لا يكون وجها مقابلا لها.

نعم إذ كانت أصالة الحظر قاعدة اجتهادية من سنخ العموم الذي هو دليل على الحكم الواقعي كان الاستناد إليها راجعا إلى دعوى الحرمة الواقعية،و يكون

ص: 173

احتمال ثالث في الفرق

و يحتمل الفرق (1) :بأن معنى الحرمة الظاهرية حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا و إن كان مباحا في الواقع،و القائل بالحرمة الواقعية يقول:بأنه لا حرمة ظاهرا أصلا،فإن كان في الواقع حراما استحق المؤاخذة عليه و إلا فلا،و ليس معناها أن المشتبه حرام واقعا،بل معناه أنه ليس فيه إلا الحرمة الواقعية على تقدير ثبوتها (2) ،فإن هذا أحد الأقوال للأخباريين في المسألة على ما ذكره العلامة الوحيد-المتقدم-في موضع آخر،حيث قال-بعد رد خبر التثليث المتقدم:بأنه لا يدل على الحظر أو وجوب التوقف،بل مقتضاه أن من ارتكب الشبهة و اتفق كونها حراما في الواقع يهلك لا مطلقا (3) -:و يخطر بخاطري أن من الأخباريين من يقول بهذا المعنى،انتهى.

و لعل هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا:من أن الأمر العقلي و النقلي بالاحتياط للإرشاد (4) ،من قبيل أوامر الطبيب لا يترتب الفرق بينه و بين الحرمة الظاهرية واضحا،لوضوح الفرق بين مؤدى الأمارة، و الأصل و لعل هذا هو مراد المصنف قدس سرّه.فتأمل.

(1)هذا عكس ما ذكرناه من الفرق.و هو خلاف الظاهر،كما سيأتي.

(2)لكن هذا خلاف ظاهر التعبير بالحرمة الواقعية،لظهوره في ثبوتها على كل حال.

(3)هذا مفعول لقوله:«حيث قال»و هو مقول القول.

(4)إذا كان للإرشاد لم يصلح لإيجاب الاحتياط مع فرض حكم العقل بالبراءة،بل يختص بالشبهات المنجزة في نفسها و التي يلزم العقل فيها بالاحتياط مع قطع النظر عن الأمر المذكور.كما تقدم عند الكلام في مفاد الأخبار.و إنما يتجه

ص: 174

على موافقتها و مخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر.

أوامر الاحتياط إرشادية

نعم،الإرشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم-كما في بعض أوامر الطبيب-لا للأولوية كما اختاره القائلون بالبراءة (1) .

و أما ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلا التخلص عن الهلاك المحتمل في الفعل (2) .

نعم،فاعله يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى،ففيه نوع من الانقياد،و يستحق عليه المدح و الثواب (3) .

و أما تركه فليس فيه إلا التجري بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى،و لا دليل على حرمة التجري على هذا الوجه و استحقاق العقاب عليه.بل عرفت في مسألة حجية العلم:المناقشة في حرمة التجري بما هو أعظم من ذلك،كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركب،و لا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط،استحقاق استفادة ايجاب الاحتياط شرعا من الأوامر المذكورة إذا كانت مولوية طريقية لإحراز الواقع و الاحتياط له أو تعبدية مع قطع النظر عن الواقع.

(1)تقدم أن القائلين بالبراءة ليس لهم الاستدلال على رجحان الاحتياط بالأخبار المذكورة بعد حملها على مجرد الرجحان و الأولوية،لظهورها في الإلزام بقرينة ذكر الهلكة،فراجع ما سبق عند التعرض للأخبار و في التنبيه الثالث.

(2)و هو العقاب التابع للحرمة الواقعية المنجزة عند الأخباريين.

(3)استحقاق الثواب مع عدم إصابة الواقع لا يخلو عن إشكال أشرنا إليه في التنبيه الثالث.

ص: 175

العقاب بترك الاحتياط و التجري بالإقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا (1) .

و سيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء اللّه تعالى.

(1)لا يبعد أن يكون الانقياد و التجري من سنخ واحد،كما تشهد به المرتكزات.

ص: 176

الخامس
اشارة

[أصل الإباحة إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليه]

أن أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها (1) ،فلو شك في حل أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية (2) جرى أصالة الحل (3) ،و إن شك فيه من جهة الشك في قبوله (1)لا إشكال في تقديم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.و في كونه للحكومة أو لوجه آخر كلام يأتي في خاتمة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

(2)كالأرنب.

(3)لكن قد يدعي أنه محكوم لاستصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة بناء على حرمة الحيوان قبل التذكية حال الحياة،لبقاء الموضوع عرفا،و هو اللحم، و تبدل حاله من الحياة للموت لا يوجب تعدده حتى يمتنع الاستصحاب.و لو قيل بعدم حرمته حال الحياة و أن غير المذكى إنما لا يحل إذا كان ميتة فيجوز ابتلاع مثل العصفور حيا،أمكن استصحاب حرمته الثابتة قبل أن يشعر أو يوبر التي هي ثابتة حتى في الحيوان المحلل كما نبّه عليه سيدنا الأعظم مد ظله.

لكن يشكل جريان الاستصحاب بأن موضوع الحرمة هو الأكل لا اللحم، و من الظاهر اختلاف الأكل باختلاف قيوده من الحياة و الموت و غيرهما،لأنه أمر كلي و من هنا يشكل استصحاب الأحكام التكليفية،بخلاف الأحكام الوضعية

ص: 177

للتذكية (1) فالحكم الحرمة،لأصالة عدم التذكية (2) ،لأن من شرائطها قابلية المحل،و هي مشكوكة،فيحكم بعدمها و كون الحيوان ميتة.

ما يظهر من المحقق و الشهيد الثانيين في حيوان متولد من طاهر و نجس

و يظهر من المحقق و الشهيد الثانيين قدس سرّهما فيما إذا شك في حيوان متولد من طاهر و نجس لا يتبعهما في الاسم (3) و ليس له مماثل (4) :أن الأصل (5) فيه الطهارة و الحرمة.

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية،فإنما يحسن (6) مع الشك كالطهارة و النجاسة و غيرهما-فإن موضوعها الموجود الشخصي الخارجي كاللحم الذي لا يتبدل باختلاف العوارض المذكورة.و تمام الكلام في مبحث الاستصحاب.

فراجع.و عليه لا مانع من جريان أصالة الحل،كما ذكره المصنف قدس سرّه.لكنها محكومة لإطلاقات الحل لو تمت،كقوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه ... على ما سيأتي الكلام فيه.

(1)كالمتولد بين الشاة و الخنزير لو لم يلحق بأحدهما عرفا.

(2)فان التذكية أمر حادث للحيوان حين الذبح،و مقتضي الاستصحاب عدمه.نعم الرجوع للأصل المذكور موقوف على عدم ثبوت عموم يقتضي قبول كل حيوان للتذكية إلا ما خرج،كما سينبه قدس سرّه له.

(3)أما لو تبع أحدهما في الاسم دخل في إطلاق أدلته الحاكمة بحرمته أو حليته.

(4)وجود المماثل لا أثر له في المقام،إلا أن يكون ذا عنوان خاص قد تعرضت الأدلة إلى حليته أو حرمته.و لعل ذلك مراد المصنف قدس سرّه.

(5)فاعل«يظهر»في قوله:«و يظهر من المحقق...».

(6)مع أنه يقتضي النجاسة بعد الذبح بناء على أن موضوع النجاسة غير المذكى.و ربما يكون مراد الشهيدين قدس سرّهما من الحكم بطهارته طهارته قبل الذبح في

ص: 178

في قبول التذكية و عدم عموم (1) يدل على جواز تذكية كل حيوان إلا ما خرج،كما ادعاه بعض.

و إن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية،ففيه:

أن الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة،فإذا فرض إثبات جواز تذكيته (2) خرج عن الميتة،فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر (3) .و لو شك في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق (4) ،و كيف كان:فلا يعرف قبال نجس العين،لا بعد الذبح.فلا يتوجه عليهما الإشكال بذلك.

(1)إذ مع العموم المذكور لا يبقى مجال لجريان أصالة عدم التذكية،فيتعين البناء على حليته لإطلاقات الحل،مثل قوله: قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على ما سبق و يأتي الكلام فيه.

(2)يعني بمقتضى عموم قبول كل حيوان للتذكية الذي سبق عن بعض دعواه في المقام.

(3)لا يخفى أنه قبل التذكية ليس ميتة،بل حي فلو فرض حرمته فليس لأن موضوعها الميتة،بل لأن موضوعها الحي قبل التذكية،و حينئذ يجري ما عرفت من الكلام في بقاء الموضوع و عدمه.

نعم قد يدعي ثبوت الحرمة حال الحياة معلقة على الموت،فيقال:هو حرام إن مات،و حينئذ فيتوجه ما ذكره المصنف قدس سرّه من تبدل الموضوع لأن شرط القضية التعليقية الموت،و المفروض إحراز التذكية له بمقتضى العموم المدعى،فلا ينفع استصحاب القضية التعليقية لو جرى في نفسه.مع أنه محكوم...لإطلاقات الحل المتقدم اليها الإشارة لو تمت،على ما سيأتي الكلام فيه.

(4)حيث تقدم أن الأصل عدم التذكية لو لم يكن هناك عموم يقتضي بقبول كل حيوان للتذكية،كما تقدم أنه يقتضي النجاسة بعد الذبح.

ص: 179

وجه لرفع اليد عن أصالة الحل و الإباحة.

نعم،ذكر شارح الروضة-هنا-وجها آخر،و نقله بعض محشيها عن الشهيد في تمهيد القواعد.

قال شارح الروضة:إن كلا من النجاسات و المحللات محصورة، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته و حرمة لحمه،و هو ظاهر،انتهى.

و يمكن منع حصر المحللات،بل المحرمات محصورة،و العقل و النقل دل على إباحة ما لم يعلم حرمته،و لذا يتمسكون كثيرا بأصالة الحل في باب الأطعمة و الأشربة.

و لو قيل:إن الحل إنما علق بالطيبات في قوله تعالى: قل أحل لكم الطيبات المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام (1) ،فكل ما شك في كونه طيبا فالأصل عدم إحلال الشارع له (2) .

(1)فإن الآية هكذا: يسئلونك ما ذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات و ظاهر الجواب انحصار مورد السؤال و هو الحلال به.

(2)كأنه لأصالة عدم كون المشكوك من الطيبات و لو من باب استصحاب العدم الأزلي لكن من القريب كون الطيبة في لحم الحيوان من لوازم ذاته غير المنفكة عنه حتى قبل وجوده،فلا مجال لليقين بعدمه الأزلي،لا أنها من لوازم وجوده حتى يمكن إحراز انفكاكها عنه قبل وجوده،و تستصحب حينئذ لا لأصالة عدم كون المشكوك من الطيبات،بل اللازم الرجوع إلى أصالة الحل أو عمومها الذي سيأتي الكلام فيه.

ص: 180

قلنا:إن التحريم محمول في القرآن على(الخبائث) (1) و(الفواحش) (2) ،فإذا شك فيه فالأصل عدم التحريم (3) ،و مع تعارض الأصلين (4) يرجع إلى أصالة الإباحة،و عموم قوله تعالى:

(1)في قوله تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث... لكن لا ظهور له في الحصر حتى يعارض الآية السابقة الظاهرة فيه،فضلا عن أن يكون مقدما عليها.

(2)في مثل قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش... لكن لا يبعد كون الحصر فيه إضافيا،و إلا فمن المعلوم كثرة المحرمات غير الفواحش العرفية.

و لا سيما بعد ظهورها في بيان جميع المحرمات لا خصوص المأكولات.

بخلاف قوله تعالى: قل أحل لكم الطيبات فإن المنسبق منها إرادة الحلال من الطعام.و للكلام مقام آخر.

(3)كأنه لأصالة عدم كون الحيوان من الخبائث و الفواحش و لو من باب العدم الأزلي،و ما سبق في أصالة عدم كون الحيوان من الطيبات جار هنا.

(4)يعني:أصالة عدم كونه من الطيبات و أصالة عدم كونه من الخبائث و الفواحش هذا و قد عرفت الأشكال في جريان الأصلين ذاتا،لعدم سبق العدم الأزلي في موردها،فلا معنى لفرض التعارض.مضافا إلى الإشكال في الثاني بعدم كونه مورد الأثر،لعدم ثبوت كون موضوع التحريم هو الخبائث و الفواحش بنحو الحصر حتى ينفع أصالة عدمهما في اثبات الحل.

بل يشكل ترتب الأثر عليه حتى لو كان واردا مورد الحصر،لقرب كونه عنوانا تعليليا،كما يأتي عند الكلام في المسألة الرابعة في الشبهة التحريمية إن شاء اللّه تعالى.

ص: 181

قل لا أجد فيما أوحي إلي (1) ،و قوله عليه السّلام:«ليس الحرام إلا ما حرم اللّه» (2) .

مع أنه يمكن فرض كون الحيوان مما ثبت كونه طيبا (3) .

بل الطيب ما لا يستقذر (4) ،فهو أمر عدمي يمكن إحرازه بالأصل عند الشك (5) ،فتدبر.

(1)إلا العموم المذكور لو تم يكون هو المرجع حتى بناء على حصر المحللات في الطيبات،لأن مقتضي الجمع بين العمومين انحصار الأمور غير الطيبة بالميتة و غيرها مما ذكر في هذه الآية و أن غيرها من الطيبات،فيكون عموم هذه الآية حاكما على أصالة عدم كون الشيء من الطيبات.كما أنه لو تم يكون حاكما على أصالة الاباحة و مغنيا عنها.

نعم قد يشكل الاستدلال بالعموم المذكور لكثرة التخصيص فيه.لما هو المعلوم من كثرة المحرمات التي لم يتعرض لها في هذه الآية الشريفة،فإن ذلك قد يوجب إجماله و سقوطه عن مقام الاستدلال.

(2)قد يدعى عدم إمكان التمسك به،لأنه إذا فرض أن الخبائث مما حرمه اللّه تعالى فاحتمال كون الحيوان من الخبائث لا يدفعه هذا الخبر.فتأمل.

مضافا إلى ما عرفت في الآية السابقة من الإشكال بكثرة التخصيص.

(3)لكن لا يبعد خروجه عن محل الكلام،و أن المفروض هنا ليس كذلك.

(4)هذا لا يخلو عن إشكال أو منع.

(5)بناء على ذلك يكون أمرا وجدانيا لا يقبل الشك حتى يرجع فيه إلى الأصل.فتأمل.

ص: 182

السادس
اشارة

[اعتراض بعض الأخباريين على الأصوليين]

حكي عن بعض الأخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة،و هو:

أنه هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد اللّه تعالى،فيقال له:بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية؟فيقول:كنت أعمل بقول المعصوم و أقتفي أثره و ما يثبت من المعلوم (1) ،فإن اشتبه علي شيء عملت بالاحتياط، أ فيزل قدم هذا العبد عن الصراط،و يقابل بالإهانة و الإحباط،فيؤمر به إلى النار و يحرم مرافقة الأبرار؟هيهات هيهات!أن يكون أهل التسامح و التساهل في الدين في الجنة خالدين،و أهل الاحتياط في النار معذبين، انتهى كلامه.

المناقشة فيما أفاده بعض الأخباريين

أقول:لا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم:أن أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط و لا ينكر حسنه و أنه سبيل النجاة (2) .

(1)يعني:من الأمور المعلومة.

(2)الذي هو سبيل النجاة الاحتياط مع تنجز الشبهة الذي هو لازم،و أما غيره فليس سبيل النجاة لتحقق النجاة من العقاب بدونه،و إنما هو حسن من باب الانقياد.

ص: 183

و أما الإفتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنه غير مطابق للاحتياط (1) ،لاحتمال حرمته،فإن ثبت وجوب الإفتاء فالأمر يدور بين الوجوب و التحريم (2) ،و إلا (3) فالاحتياط في ترك الفتوى (4) ،و حينئذ:

فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله،فإن التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه،و إن لم يلتفت إليه و احتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه (5) ،كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

و على كل تقدير:فلا ينفع قول الأخباريين له:إن العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل (6) ،و لا قول (1)بل هو حرام بنظر الأصولي،لعدم الدليل عليه.

(2)يمتنع ثبوت وجوب الإفتاء بعد فرض عدم العلم بالحكم-و هو وجوب الاحتياط و عدمه-و حرمة الفتوى من غير علم.و مع فرض العلم الحكم تجوز بل قد يجب الفتوى على طبقه و لا يدور الأمر بين الوجوب و التحريم.نعم لو فرض وجوب الفتوى بالحكم الواقعي مطلقا و حرمة الفتوى بغيره كذلك دار الأمر بين الوجوب و التحريم.لكن لا مجال لتوهم ذلك.

(3)يعني:و إن لم يثبت وجوب الإفتاء.

(4)بل عرفت حرمتها مع عدم وضوح الأدلة و أما مع وضوحها فيجوز لكل عالم الفتوى بما علم،كما يجوز ترك الفتوى تورعا إذا لم يعرض ما يقتضي وجوبها.

(5)من باب وجوب دفع الضرر المحتمل الذي تقدم أنه فطري.

(6)كأنه لأن حكم العقل وجداني لا يقبل الشك و التقليد.لكن لا يخفى انه لم يتقدم من الأخباريين الاستدلال بوجوب دفع الضرر المحتمل،كيف و قد سبق من المصنف قدس سرّه دعوى اتفاق الأخباريين و الأصوليين على أن مقتضى حكم العقل

ص: 184

الأصولي له:إن العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.

و بالجملة:فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط.و الإفتاء بوجوبه من الأخباريين نظير الإفتاء بالبراءة من المجتهدين،و لا متيقن من الأمرين في البين (1) ،و مفاسد الالتزام بالاحتياط (2) ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه،كما لا يخفى.فما ذكره هذا الأخباري من الإنكار لم يعلم توجهه إلى أحد،و اللّه العالم و هو الحاكم.

هو البراءة بل لعل الأدلة النقلية الدالة على أن مقتضي الأصل الأولي هو البراءة متواترة.و إنما يستند الأخباريون في وجوب الاحتياط إلى الأدلة الخاصة فان تمت كان لهم الفتوى بالاحتياط.و إلا كان عليهم الرجوع لمقتضى الأصل الأولى العقلي و النقلي.و منه يظهر أن الذي عليه إقامة الدليل هو الأخباري لا الأصولي.

(1)عرفت أن البناء على البراءة هو المتيقن،و لا بد في الخروج عنه من الدليل.

(2)مثل الضيق على المكلفين و نحو ذلك،إلا أن في صلوح ذلك الاستدلال في المقام منعا ظاهرا.

ص: 185

المسألة الثانية

ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة و غير الوجوب

من جهة إجمال النص

إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم مجملا،كالنهي المجرد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه لفظا بين الحرمة و الكراهة.

و إما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك،سواء كان الإجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله،فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة،أم كان الإجمال في المراد منه،كما إذا شك في شمول الخمر للخمر الغير المسكر و لم يكن هناك إطلاق يؤخذ به (1) .و الحكم في ذلك كله كما في المسألة الاولى،و الأدلة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

و ربما يتوهم:أن الإجمال إذا كان في متعلق الحكم-كالغناء و شرب الخمر الغير المسكر-كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم (2) .و هو (1)بأن يرد النهي عن الخمر في غير مقام البيان فلا تتم مقدمات الحكمة المنقحة لإطلاقه،و إن علم شموله لغير المسكر لو تم إطلاقه.و بهذا يفترق عن الغناء.

(2)و هي الشبهة الموضوعية،فإنه يطلق عليها في كلام بعض الأخباريين

ص: 186

فاسد (1) .

الشبهة في طريق الحكم،كما صرح به بعض أعاظم المحشين قدس سرّه و سيأتي في كلام الحر العاملي في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة الرابعة.

و كأن هذا من المصنف قدس سرّه تعريض بتوهم لزوم التزام الأخباريين بالبراءة هنا من جهة التزامهم بها في الشبهة في طريق الحكم،فإذا فرض كون الشبهة في المقام في طريق الحكم لزم بناؤهم فيه على البراءة.

(1)إذ لا يراد بالشبهة الموضوعية إلا ما كان منشأ الاشتباه فيه اشتباه حال الموضوع خارجا بعد العلم بالحكم الشرعي،بجميع خصوصياته التي يرجع فيها للشارع.

ص: 187

المسألة الثالثة
اشارة

أن يدور حكم الفعل بين الحرمة و غير الوجوب من جهة تعارض

النصين و عدم ثبوت ما يكون مرجحا لأحدهما

الأقوى عدم وجوب الاحتياط

و الأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط،لعدم الدليل عليه (1) عدا ما تقدم:من الوجوه المذكورة التي عرفت حالها،و بعض ما ورد في خصوص تعارض النصين،مثل ما في عوالي اللآلي:من مرفوعة العلامة رحمه اللّه إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه السّلام:

ظاهر مرفوعة زرارة وجوب الاحتياط

«قال:قلت:جعلت فداك،يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟

فقال:يا زرارة،خذ بما اشتهر بين أصحابك،ودع الشاذ النادر.

فقلت:يا سيدي،إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم.

فقال عليه السّلام:خذ بما يقوله أعدلهما عندك و أوثقهما في نفسك.

فقلت:إنهما معا عدلان مرضيان موثقان عندي.

فقال:انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه و خذ بما خالفهم، فإن الحق فيما خالفهم.

(1)لأن النص المطابق للاحتياط قد سقط عن الحجية بالمعارضة.

ص: 188

قلت:ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين،فكيف نصنع؟قال:فخذ بما فيه الحائطة لدينك،و اترك ما خالف الاحتياط.

فقلت:إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان،فكيف أصنع؟

قال:إذن فتخير أحدهما فتأخذ به و تدع الآخر...الحديث».

الجواب عن المرفوعة

و هذه الرواية و إن كانت أخص من أخبار التخيير (1) ،إلا أنها ضعيفة السند،و قد طعن صاحب الحدائق فيها و في كتاب الغوالي و صاحبه،فقال:

إن الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي،مع ما هي عليها من الإرسال،و ما عليه الكتاب المذكور:من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار و الإهمال،و خلط غثها بسمينها و صحيحها بسقيمها،كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور،انتهى (2) .

(1)لعموم أخبار التخيير للخبرين الموافقين للاحتياط و المخالفين له و المختلفين و اختصاص هذه الرواية بالمختلفين.ثم إن الذي يظهر من بعض أعاظم المحشين قدس سرّه و غيره أن المراد...بموافقتهما للاحتياط و مخالفتهما له تعذر الاحتياط في موردهما للدوران بين المحذورين و هو غير ظاهر من الرواية و لا بدّ من التأمل و التدبر في معناها.

(2)لم يتعرض المصنف قدس سرّه لأخبار التوقف في المتعارضين،و هي مختلفة المضمون فبعضها ظاهر في التوقف مطلقا مع إمكانه،و بعضها ظاهر في التوقف بعد فقد المرجحات،و الأول معارض لإخبار التخيير و الترجيح معا،فلا مجال للعمل به و تقييده بإخبار الترجيح ليس أولى من حمله على الاستحباب.فتأمل.

و الثاني-و هو مقبولة ابن حنظلة-لا يبعد حمله عن الترجيح بالرأي،فلا ينافي الأخبار الدالة على التخيير،في مقام العمل من باب التسليم.مضافا في كلا القسمين

ص: 189

ثم إذا لم نقل بوجوب الاحتياط،ففي كون أصل البراءة مرجحا لما يوافقه،أو كون الحكم الوقف (1) ،أو التساقط و الرجوع إلى الأصل، أو التخيير بين الخبرين في أول الأمر (2) أو دائما،وجوه (3) ليس هنا محل ذكرها (4) ،فإن المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط،و اللّه العالم.

بقي هنا شيء،و هو:

تعارض(المقرر و الناقل)،و(المبيح و الحاظر)

أن الأصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف،و نسب تقديم المخالف-و هو المسمى بالناقل (5) -إلى أكثر الأصوليين بل إلى جمهورهم،منهم العلامة قدس سرّه.

و عنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدال على الإباحة على الدال على الحظر و الخلاف فيه،و نسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور،بل يظهر من إلى ظهورهما في إمكان الرجوع للمعصوم عليه السّلام:فلا ينفع فيما نحن فيه.و تمام الكلام في مبحث التعارض.و قد ذكرنا بعض الكلام في شرح كفاية الأصول.فراجع.

(1)إن أريد من الوقف عدم العمل بكلا الخبرين فهو عبارة أخرى عن التساقط.و إن أريد منه الوقف في مقام العمل الراجع إلى الاحتياط لم يتجه جعله مبنيا على عدم وجوب الاحتياط.فلاحظ.

(2)بحيث لو اختار أحدهما لم يجز العدول إلى الآخر في واقعة أخرى،و هو المعبر عنه بالتخيير الابتدائي،و يقابله التخيير الاستمراري.

(3)مبتدأ مؤخر خبره قوله فيما سبق:«ففي كون أصل البراءة مرجحا...»

(4)بل محلها في مبحث التعادل و التراجيح.

(5)يعني:الناقل عن حكم الأصل المخالف له،و يقابله المقرر،الذي يراد به المقرر لحكم الأصل الموافق له.

ص: 190

المحكي عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك.و الخلاف في المسألة الأولى ينافي الوفاق في الثانية.

كما أن قول الأكثر فيها مخالف لما يشاهد:من عمل علمائنا (1) على عدم تقديم المخالف للأصل،بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريين و البراءة عند المجتهدين حتى العلامة، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا (2) في المسألتين إلى التخيير (3) .

الفرق بين المسألتين

و يمكن أن يقال:إن مرادهم من الأصل في مسألة الناقل و المقرر (4) أصالة البراءة من الوجوب (5) لا أصالة الإباحة،فيفارق مسألة تعارض المبيح و الحاظر (6) .

و إن حكم (7) أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الأخبار (1)يعني:في الفقه.

(2)يعني:الأصوليين منهم.

(3)هذا لم يتضح وجه كونه إشكالا في المقام،إذ غاية ما يقتضيه ثبوت الخلاف في المسألتين هو عدم كون الحكم فيهما إجماعيا.نعم هو ينافي ما يظهر من بعضهم من الوفاق في المسألة الثانية.

(4)و هي المسألة الاولى.

(5)فتختص بالشبهة الوجوبية.

(6)لاختصاصها بأصالة الإباحة في الشبهة التحريمية.

(7)الوجه الأول يرفع التنافي بين الوفاق في المسألة الثانية و الخلاف في الأولى،و هذا يرفع التنافي بين حكمهم في الأصول في المسألتين و عملهم في الفقه،

ص: 191

الواردة،لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما،فيفارق المسألتين.

لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم،فلاحظ و تأمل.

لو فرض اختلافهما من شخص واحد،إذ لو كان من شخصين فلا تنافي حتى يحتاج إلى التوجيه.

ص: 192

المسألة الرابعة
اشارة

دوران الحكم بين الحرمة و غير الوجوب،مع كون الشك في الواقعة

الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الأمور الخارجية

كما إذا شك في حرمة شرب مائع و إباحته للتردد في أنه خل أو خمر، و في حرمة لحم للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب (1) .

عدم الخلاف في الإباحة

و الظاهر:عدم الخلاف (2) في أن مقتضى الأصل فيه الإباحة، للأخبار الكثيرة في ذلك (3) ،مثل قوله عليه السّلام:«كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» (4) ،و«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال» (5) .

(1)بناء على عدم الرجوع فيه إلى استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة قبل التذكية أو قبل أن يشعر أو يوبر،كما تقدم في التنبيه الخامس من تنبيهات المسألة الأولى.

(2)يعني:حتى من الأخباريين.و سيأتي في التنبيه الثاني التعرض لكلام الحر العاملي في توجيه الفرق بين الشبهة الموضوعية و غيرها.

(3)يكفى فيه إطلاقات أدلة البراءة المتقدمة في المسألة الأولى.

(4)هذا لا قرينة على اختصاصه بالشبهة الموضوعية،بل إطلاقه شامل للحكمية.

(5)تقدم في آخر روايات البراءة في المسألة الأولى تقريب اختصاصه بالشبهة

ص: 193

استدلال العلامة قدس سرّه برواية مسعدة

و استدل العلامة رحمه اللّه في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة:

«كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب يكون عليك و لعله سرقة،أو العبد يكون عندك و لعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع،أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك،و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة».

و تبعه عليه جماعة من المتأخرين.

الإشكال في الأمثلة المذكورة في الرواية

و لا إشكال في ظهور صدرها في المدعى،إلا أن الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستندا إلى أصالة الحلية،فإن الثوب و العبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما (1) حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد (2) ،و إن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرف،لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير و أصالة الحرية في الإنسان المشكوك في رقيته (3) ،و كذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع (4) فالحلية مستندة (5) إليه،و إن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد الموضوعية.

(1)حيث أنها أمارة على ملكية البائع لهما فيصح شراؤهما منه.

(2)يعني:لا لأجل أصالة الإباحة.لأن اليد حاكمة على أصالة الإباحة.

(3)و هما مقدمان على أصالة الإباحة،فلا مجال للعمل بها معهما.

(4)الذي هو عبارة عن استصحاب عدمهما من الازل،فيترتب عليه حلية المرأة.

(5)يعني:لا لأصالة الإباحة،لأن الاستصحاب مقدم عليها.

ص: 194

فيها،فيحرم وطؤها (1) .

و بالجملة:فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأولي (2) محكومة بالحرمة،و الحكم بحليتها إنما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانوي (3) ، فالحل غير مستند إلى أصالة الإباحة في شيء منها.

هذا،و لكن في الأخبار المتقدمة بل جميع الأدلة المتقدمة (4) من الكتاب و العقل كفاية،مع أن صدرها و ذيلها ظاهران في المدعى (5) .

توهم عدم جريان قبح التكليف من غير بيان في المسألة و الجواب عنه

و توهم:عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا،نظرا إلى أن الشارع بين حكم الخمر-مثلا-فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمرا- من باب المقدمة العلمية،فالعقل لا يقبح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام.

مدفوع:بأن النهي عن الخمر يوجب حرمة (6) الأفراد المعلومة (1)و لا مجال معه لأصالة الإباحة،لأنها محكومة للأصل المذكور.

(2)و هو استصحاب عدم ترتب الأثر على العقد في الأمور المذكورة.

(3)كأصالة عدم تحقق النسب،أو كذا الأمارة كاليد.

(4)يعني:في المسألة الأولى.

(5)يعني:فلا يهم عدم انطباق الأمثلة،لعدم كونها موجبة للخدش في ظهور الصدر و الذيل.لكنه لا يخلو عن إشكال.فالعمدة ما يأتي في آخر مبحث الاستصحاب عند الكلام في معارضة الاستصحاب السببي و المسببي،حيث يأتي منا توجيه الرواية بما يناسب محل الكلام.فراجع.

(6)يعني:يكون حجة على حرمة خصوص تلك الأفراد،فيخرج به عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان،لا أنه يكون موجبا لحرمة خصوص الأفراد المذكورة

ص: 195

تفصيلا و المعلومة إجمالا المترددة بين محصورين،و الأول لا يحتاج إلى مقدمة علمية،و الثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير،و أما ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه،و ليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم (1) يحسن العقاب عليه.

فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته و لا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه،بين (2) هذا الفرد المشتبه و بين الموضوع الكلي المشتبه حكمه-كشرب التتن-في قبح العقاب عليه (3) .

و ما ذكر من التوهم جار فيه (4) أيضا،لأن العمومات الدالة على حرمة الخبائث و الفواحش و ما نهاكم عنه فانتهوا (5) تدل على حرمة ثبوتا،بل هو لا يوجب ثبوتا إلا حرمة الخمر الواقعي و إن لم يعلم خمريته دون غيره و إن قطع بخمريته،كما لعله ظاهر.

(1)يعني:علمت حرمته و تنجز التكليف بها ببيان شرعي.

(2)خبر«لا»في قوله:«فلا فرق...».

(3)و العمدة في دفع التوهم في المذكور أن المقدمة العلمية إنما تجب من باب وجوب الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني،فلا بد من فرض العلم بالاشتغال بشيء يتوقف العلم بالفراغ عنه على المقدمة العلمية،و في المقام بيان حرمة الفرد يتوقف على العلم بالكبرى و الصغرى معا،عدم العلم بالكبرى-كما في الشبهة الحكمية-أو بالصغرى-كما في المقام-أو بهما معا،لا يعلم بالتكليف حتى تجب المقدمة العلمية بل المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا غير.

(4)يعني:في الموضوع الكلى المشتبه حكمه كشرب التتن.

(5)لا يخلو الاستدلال بهذه الآية عن إشكال،فإنها إما أن يكون واردا لبيان وجوب إطاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في الأمور الخاصة غير الواجبة شرعا بالذات من أمور

ص: 196

أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.

و منشأ التوهم المذكور:ملاحظة تعلق الحكم بكلي مردد بين مقدار معلوم و بين أكثر منه (1) ،فيتخيل أن الترديد في المكلف به مع العلم السياسات و الإدارات و نحوها من الوقائع الشخصية،فتكون أجنبية عما نحن فيه،إذ المفروض احتمال حرمة الشيء شرعا.و إما أن يكون واردا لبيان مطابقة نهيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم،للتكليف الشرعي،و أنه يكشف عن نهيه تعالى،نظير قوله تعالى: و ما ينطق عن الهوى .و حينئذ لا يكون عنوان نهيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم،دخيلا في وجوب الانتهاء شرعا،بل الأمر بالانتهاء عما نهى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بلحاظ كونه كاشفا عما هو محرم شرعا بعنوانه الخاص،فالشك في كون الشيء مما نهى عنه النبي؛لا يكون من أفراد الشبهة الموضوعية.

كما أنه قد يشكل الأولان أيضا بأن عنوان الفواحش أو الخبائث لم يعلم كونهما عنوانا تقييديا مأخوذا في موضوع التكليف الشرعي،بنفسه،بل لعلهما عنوانان تعليليان لا دخل لهما في موضوع التكليف،بل المأخوذ في موضوعه هو العناوين الخاصة،كالزنا،و أكل الميتة و شرب الخمر التي يعلم بعدم انطباقها في مورد الشبهة الحكمية،فان الجمع بين تحريم العناوين العامة-كالفواحش-و تحريم العناوين الخاصة-كالزنا-إما أن يكون بحمل الأولى على كونها تعليلية و الثانية على كونها تقييدية،أو بحمل الأولى على أنها تقييديه و أن الثانية إنما ذكرت للتمثيل بلحاظ كونها أحد أفراد المحرم،لا لخصوصيتها في التحريم.

و لا ينبغي الاشكال في أن الأول أولى.و حينئذ لا يكون لاحتمال انطباق العناوين العامة في موارد الشبهة الحكمية أثر،و لا يتم ما ذكره المصنف قدس سرّه من النقض بها.كيف و إلاّ لزم انقلاب الشبهات الحكمية إلى شبهات موضوعية،و لا يظن بأحد الالتزام به.فتأمل جيدا.

(1)و هو ما يشمل مشكوك الفردية.

ص: 197

بالتكليف (1) ،فيجب الاحتياط (2) .

و نظير هذا التوهم قد وقع في الشبهة الوجوبية،حيث تخيل بعض:

أن دوران ما فات من الصلوات بين الأقل و الأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية.

و قد عرفت،و سيأتي (3) اندفاعه.

فإن قلت:إن الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه-لاحتمال كونه محرما-فيجب دفعه (4) .

قلنا:إن أريد بالضرر العقاب و ما يجري مجراه من الأمور الأخروية، فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

و إن أريد ما لا يدفع العقل ترتبه من غير بيان-كما في المضار الدنيوية-فوجوب دفعه عقلا لو سلم،كما تقدم من الشيخ و جماعة (5) ، (1)مع أن التحقيق أن التردد في التكليف نفسه لا في المكلف به،لأن التكليف بالعنوان العام ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد أفراده،كل منها مستقل عن الآخر إطاعة و عصيانا و ثبوتا و سقوطا،و كل منها موقوف على العلم بالكبرى و الصغرى معا،كما تقدم.ففي الشبهة الموضوعية يشك في ثبوت التكليف لا في موضوعه مع العلم بثبوته،و في مثله تجري البراءة،كما سبق.

(2)يعني:بناء على وجوبه مع دوران المكلف به بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.لكن يأتي في محله عدم وجوب الاحتياط فيه أيضا.

(3)في المسألة الرابعة من المطلب الثاني.

(4)يعني:دفع الضرر المحتمل باجتناب الفرد المشتبه.

(5)تقدم في الاستدلال للأخباريين بأصالة الحظر من الأدلة العقلية في

ص: 198

لم يسلم وجوبه شرعا،لأن الشارع صرح بحلية ما لم يعلم حرمته،فلا عقاب عليه (1) ،كيف و قد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعي الغير المتعلق بأمر المعاد (2) ،كما هو المفروض في الضرر المحتمل في الكلام على الاحتياط.

(1)لكن لا إشكال عندهم في منجزية احتمال الضرر إذا بلغ حدّ الخوف، بحيث كان من الاحتمالات العقلائية.فالعمدة أن وجوب دفع الضرر شرعا مختص بالنفس و الطرف-على ما قيل-و لا يحتمل شيء منهما باحتمال التكليف في المقام.

و لو فرض احتماله كان بعيدا،لا يوجب الخوف غالبا حتى يتنجز،لأن غالب المفاسد من سنخ الاضرار العامة البعيدة الأمد،التي لا دليل على وجوب دفعها.

كما أنه لا يحكم العقل بوجوب دفعها بنحو يكشف عن حكم الشرع،لما عرفت من أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر راجع إلى أمر غريزي فطري من محافظة الإنسان على نفسه و شئونه و ليس من سنخ الأحكام الراجعة إلى التحسين و التقبيح المستتبعة للمدح و الذم و حينئذ فالغريزة و الفطرة لا تقتضي دفع المفاسد و نحوها من الأضرار المذكورة.فراجع ما سبق في الاستدلال على البراءة بحكم العقل،و في الدليل العقلي الأول على حجية مطلق الظن.

(2)كما في باب الجهاد،حيث يقدم الإنسان فيه على خطر الموت و نحوه.

لكن هذا إنما يدل على إمكان انفكاك حكم الشرع عن حكم العقل بوجوب دفع الضرر الواقعي لو سلم،و المدعى فيما نحن فيه انفكاكهما ظاهرا،بمعنى:أن العقل قد يلزم بوجوب دفع الضرر المحتمل و لا يلزم به الشرع،كما هو مقتضي الاستدلال بما دل على حلية كل ما لم يعلم حرمته.إلا أن يستدل بما ذكره المصنف قدس سرّه على ما نحن فيه من باب تنقيح المناط و نحوه.

نعم قد يشكل بأن تجويز الشارع الوقوع في الضرر في مثل الجهاد إنما هو مع التعويض في الآخرة بعظيم الثواب،و لا ينفع فيما نحن فيه،مما كان الوقوع فيه في

ص: 199

المقام (1) ؟

تقرير التوهم بوجه آخر

فإن قيل:نختار-أولا-احتمال الضرر المتعلق بأمور الآخرة،و العقل لا يدفع ترتبه من دون بيان،لاحتمال المصلحة في عدم البيان و وكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل،كما صرح في العدة (2) في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الإباحة:من أنه لو كان هناك في الفعل مضرة آجلة لبينها.

و ثانيا:نختار المضرة الدنيوية،و تحريمه ثابت شرعا،لقوله تعالى:

و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ،كما استدل به الشيخ أيضا في العدة على دفع أصالة الإباحة،و هذا الدليل و مثله رافع للحلية الثابتة بقولهم عليهم السّلام:

«كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام».

قلت:لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الأخروي،إلا أن قولهم عليهم السّلام:«كل شيء لك حلال»بيان لعدم الضرر الأخروي (3) .

الضرر المحتمل بدون تعويض.

(1)لأن المفروض الأمن من العقاب و أن الضرر المحتمل من سنخ الضرر الدنيوي.

(2)تقدم في الاستدلال للأخباريين بأصالة الحظر.و هذا لو تم يقتضي في الشبهة الموضوعية كون البيان فيها وظيفة الشارع الأقدس.

(3)بلحاظ أن الحكم بالحلية ظاهرا راجع إلى الحكم بعدم العقاب من الشارع.لكن هذا رجوع عن حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان الذي استدل به أولا إلى دعوى حكم الشرع بعدم العقاب.فالأولى أن يقال:إن المصلحة في عدم البيان إنما تصحح للشارع تفويت الواقع،و لا تصحح له العقاب عليه مع عدم بيانه.

ص: 200

و أما الضرر الغير الأخروي،فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع (1) ، و آية«التهلكة»مختصة بمظنة الهلاك (2) ،و قد صرح الفقهاء في باب المسافر:بأن سلوك الطريق الذي يظن معه العطب معصية،دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك.و كذا في باب التيمم و الإفطار لم يرخصوا إلا مع ظن الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشك.

نعم،ذكر قليل من متأخري المتأخرين انسحاب حكم الإفطار و التيمم مع الشك أيضا (3) ،لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر،بل لدعوى تعلق الحكم في الأدلة بخوف الضرر (4) الصادق،مع الشك،بل مع بعض أفراد الوهم أيضا.

لكن الإنصاف:إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه كالحكم و بعبارة أخرى:حكم العقل بوجوب البيان على الشارع تارة:يكون بملاك وجوب حفظ الملاكات الواقعية و حرمة تفويتها.و أخرى:يكون بملاك قبح العقاب بدونه و وجود المصلحة في عدم البيان أو المفسدة المانعة من البيان إنما يزاحم الملاك الأول و يرفع تأثيره،لا الثاني.

(1)عرفت أنه يكفي فيه الخوف الحاصل مع الشك،بل مطلق الاحتمال المعتد به،إلا أنه يختص بضرر النفس أو الطرف.

(2)سبق الكلام في الآية الشريفة في الدليل العقلي الأول على حجية مطلق الظن.و على كل حال لا وجه لتخصيصها بمظنة الهلاك،و أن تعم احتمال أن تختص بصورة اليقين به.

(3)قال سيدنا الأعظم قدس سرّه في فصل شرائط صحة الصوم من مستمسكه:«كما يقتضيه إطلاق الأكثر للخوف».

(4)كما أشرنا إليه.و يقتضيه النظر في النصوص و الفتاوى.

ص: 201

بدفع الضرر المتيقن،كما يعلم بالوجدان عند وجود مائع محتمل السمية إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.

عدم حكم العقل بوجوب دفع الضرر إذا ترتب عليه نفع أخروي

لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو،كما يحكم بوجوب دفع الضرر الأخروي كذلك،إلا أنه قد يتحد مع الضرر الدنيوي عنوان يترتب عليه نفع أخروي،فلا يستقل العقل بوجوب دفعه (1) ،و لذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود و القصاص،و تعريضها في الجهاد و الإكراه (2) على القتل أو على الارتداد.

(1)لكن هذا مع العلم بوجود المزاحم،أما مع العلم به فالعقل يلزم بدفع الضرر.و حينئذ فأدلة رفع ما لا يعلمون و حليته إنما ترفع الضرر الأخروي،و لا تكشف عن وجود المزاحم الرافع لأثر الضرر الدنيوي،و لذا لا إشكال في مشروعية الاحتياط محافظة على الملاكات الواقعية.نعم لا بد من وجود جهة مصححة لإباحة الشارع الأقدس و تفويته الواقع،كالتسهيل على المكلفين،إلا أن المصلحة المذكورة إنما تقتضي الترخيص في الإقدام و عدم العقاب على الواقع معه من قبل الشارع،و لا تكشف عن وجود المزاحم الرافع لأثر الضرر بنظر العقل بنحو تصحح الإقدام من الإنسان المحب لنفسه الذي يريد دفع الخطر عنها.

و لذا لإشكال في أنه لو كان الضرر المحتمل مما يهتم الإنسان بدفعه فأدلة الإباحة لا توجب عدوله عن اهتمامه،و لذا لا تنافى مشروعية الاحتياط كما ذكرنا.

فالعمدة ما عرفت من عدم ملازمة المناسب الموجبة للحرمة للأضرار الدنيوية التي يهتم الإنسان بدفعها مع فرض العلم بها فضلا عما لو كانت محتملة.

(2)يعني:للقتل و تلف النفس.الظاهر أنه عطف على(الجهاد)و أن المراد

ص: 202

و حينئذ:فالضرر الدنيوي المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة الترخيص فإباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح،أولى بالجواز.

هذا تمام الكلام في المقام.و قد تقدم في الاستدلال على حجية الظن بلزوم دفع الضرر المظنون ما ينفع فيه نقضا و إبراما.فراجع.

به الإشارة إلى ما لو أكره على الارتداد و هدد بالقتل،حيث أنه يجوز تعريض النفس للقتل حينئذ.فتأمل.

ص: 203

ص: 204

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول

[محل الكلام في الشبهة الموضوعية ما إذا لم يكن أصل موضوعي يقضي بالحرمة]

أن محل الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة (1) ،فمثل المرأة المرددة بين الزوجة و الأجنبية خارج عن محل الكلام،لأن أصالة عدم علاقة الزوجية- المقتضية (2) للحرمة-بل استصحاب الحرمة (3) ،حاكمة على أصالة الإباحة.

و نحوها:المال المردد بين مال نفسه و ملك الغير مع سبق ملك الغير له (4) ،و أما مع عدم سبق ملك أحد عليه (5) ،فلا ينبغي الإشكال في (1)لما تقدم في التنبيه الخامس من تنبيهات المسألة الأولى.

(2)صفة لقوله:«أصالة عدم...».

(3)لا يخفى أنه ليس أصلا موضوعيا،بل حكميا،فليس من محل الكلام، و إن كان ما ذكره من تقديمه على أصالة الإباحة في محله،إما للحكومة-كما ذكره- أو لغيرها.نعم ذلك موقوف على جريانه في نفسه لوحدة الموضوع،و تمام الكلام في مبحث الاستصحاب.

(4)فإن استصحاب ملك الغير له قاض بحرمة التصرف فيه بغير إذنه.

(5)لا يخفى أنه مع فرض العلم بعدم سبق ملك أحد عليه كالمباح الأصلي

ص: 205

عدم ترتب أحكام ملكه عليه:من جواز بيعه و نحوه مما يعتبر فيه تحقق المالية (1) .

و أما إباحة التصرفات الغير المترتبة في الأدلة على ماله و ملكه (2) ، فيمكن القول بها،للأصل (3) .و يمكن عدمه،لأن الحلية في الأملاك لا بدلها من سبب محلل (4) ،بالاستقراء،و لقوله عليه السّلام:«لا يحل مال إلا من لا مجال لاحتمال حرمة التصرفات غير المتوقفة على الملك.و لعل مراده ما إذا لم يعلم بسبق ملك أحد عليه و إن كان محتملا،كما لو دار أمر البيضة بين أن تكون نماء حيوان مباح أصلي و نماء حيوانه و نماء حيوان مملوك للغير.

و مثله في الحكم ما لو تردد المال بين شخصين و لم يعلم بسبق ملكية أحدهما، كما لو دار أمر البيضة بين أن تكون نماء لحيوانه أو نماء حيوان مملوك للغير،من دون أن يحتمل كونها نماء حيوان مباح أصلي.و إن كان ربما يفترق عن المثال الأول.كما سيأتي.

(1)الأولى أن يقول:مما يعتبر فيه تحقق الملكية و إلاّ فالمالية مفروضة في المقام و هي غير متوقفة على تملك الشخص للمال.

(2)كالأكل و نحوه من التصرفات الخارجية التي يكفي فيها كون المال مباحا أصليا أو مملوكا للغير مأذونا فيه من قبل المالك.

(3)يعني:أصل البراءة و الإباحة في التصرفات المذكورة.

(4)مثل كون الشيء ملكا للتصرف،أو مأذونا فيه من المالك،أو غير مملوك لأحد بل مباحا أصليا.لكن هذا كاف فيما احتمل كونه مباحا أصليا،كما في المثال الأول فإن أصالة عدم ملكية أحد له،أو عدم حصول سبب الملكية-كأصالة عدم كونه نماء ملك أحد-كاف في جواز التصرف،إذ به يحرز كونه مباحا أصليا يجوز لكل أحد التصرف فيه.

ص: 206

حيث أحله اللّه» (1) .

نعم لا يتم ذلك فيما علم بكونه ملكا للمتصرف أو غيره-كما في المثال الثاني المتقدم-كما أن أصالة عدم كونه ملك الغير لا تحرز كونه ملكا للمتصرف بل الأصل عدمه،فيحرم التصرف فيه.

إلا أن يستشكل في أصل ما ذكره قدس سرّه من أن الحلية في الأملاك لا بد لها من سبب محلل،إذ لم يتضح الوجه في كون موضوع التحليل أمرا وجوديا يمكن إحراز عدمه بالأصل،بل لا مانع من العكس بدعوى أن موضوع التحريم واقعا أمر وجودي،و هو كون المال ملكا للغير،أو نحوه فأصالة عدمه كافية في التحليل ظاهرا.و الاستقراء المدعى لو تم لا يشهد بذلك لإمكان كون سببية الأمور المذكورة للتحليل غير مستفادة من الأدلة الشرعية،بل هي راجعة إلى كونها لازمة لنقيض سبب التحريم.و هو ملك الغير و نحوه.

(1)كأنه لظهوره في أن التحليل مستند إلى سبب مجعول منه تعالى،و ليس هو مقتضى طبع المال،بل هو بطبعه محرم،و حينئذ فمع إحراز عدم تحقق السبب المحلل كالملكية بالأصل يحرز موضوع التحريم.

لكن الحديث المذكور ورد في جواب طلب تحليل الخمس،فقد ذكره في الباب الثالث من أبواب الأنفال من الوسائل.

و فيه:«كتب رجل من تجار فارس عن بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله الإذن في الخمس.فكتب إليه:بسم اللّه الرحمن الرحيم إن اللّه واسع كريم ضمن على العمل الثواب و على الضيق الهم و على الخلاف العقاب العذاب خ ل»لا يحل مال إلا من وجه أحله اللّه.إن الخمس عوننا على ديننا و على عيالنا و على موالينا[أموالنا خ.ل]و ما نبذله و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته،فلا تزووه عنا...».

و حيث أن الخمس من المال المستحق للغير فمن القريب جدا أن تختص الرواية بخصوص المال المملوك للغير فإنه لا يحل إلا بالوجه الذي أحل اللّه،و هو أجنبي عما

ص: 207

و مبنى الوجهين:أن إباحة التصرف (1) هي المحتاجة إلى السبب، فيحرم مع عدمه و لو بالأصل.و أن حرمة (2) التصرف محمولة في الأدلة على ملك الغير،فمع عدم تملك الغير-و لو بالأصل-ينتفي الحرمة (3) .

و من قبيل ما يجري فيه أصالة الإباحة:اللحم المردد بين المذكى نحن فيه،إذ لا دلالة لها حينئذ على كون التحريم مقتضي طبع المال و أنه الأصل فيه.

مع أن المراد بالتحليل المطلوب للمسائل هو التحليل الوضعي الراجع إلى الإذن في تملك الخمس،لا إلى مجرد التصرف الخارجي الذي يكون تحليله تكليفيا،فهو أجنبي عما نحن فيه.

ثم إنه لو تم الاستدلال بالرواية على ما ذكره المصنف قدس سرّه أمكن البناء على الحل في ما احتمل كونه غير مملوك لأحد-كما في المثال الأول المتقدم-لأصالة عدم ملك أحد له،فيكون مما أحله اللّه.بل لا يبعد كون مقتضى الأصل جواز تملكه-كما هو الحال في المباحات الأصلية-ثم إجراء أحكام الملك عليه من بيع و غيره.فلاحظ.

(1)يعني:حل التصرف،و هذا مبنى الوجه الأول الراجع إلى أن مقتضى الأصل الحرمة.

(2)هذا هو مبنى الوجه الثاني.و قد عرفت أنه الأقرب.و إن كان لا بد من التأمل في الأدلة.

(3)و لو فرض إجمال الأدلة و عدم استفادة أحد الوجهين منها امتنع الرجوع إلى الأصول الموضوعية،لعدم تنقيح موضوع الحرمة و الوجوب،و حينئذ يتعين الرجوع إلى الأصول الحكمية،و حيث لا مجال للاستصحاب،لعدم العلم بالحالة السابقة تعين الرجوع إلى أصالة البراءة و الحل.

نعم بناء على انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال يتعين الرجوع إلى أصالة الاحتياط.إلا أنه لم يتضح وجه ذلك حتى الآن.و لا بد من التأمل في كلماتهم.

ص: 208

و الميتة،فإن أصالة عدم التذكية-المقتضية للحرمة و النجاسة-حاكمة على أصالتي الإباحة و الطهارة.

و ربما يتخيل خلاف ذلك:تارة لعدم حجية استصحاب عدم التذكية (1) ،و أخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت، و الحرمة و النجاسة من أحكام الميتة (2) .

و الأول مبني على عدم حجية الاستصحاب و لو في الأمور العدمية (3) .

و الثاني مدفوع:

أولا:بأنه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية و لو بالأصل،و لا يتوقف على ثبوت الموت حتى ينتفي بانتفائه و لو بحكم الأصل،و الدليل عليه:استثناء ما ذكيتم من قوله و ما أكل السبع ،فلم يبح الشارع (1)كما عن المدارك.

(2)الأولى حينئذ الإشكال في أصالة عدم التذكية بعدم الأثر.و لو أريد بها إحراز الموت كانت من الأصل المثبت.

(3)يعني:و هو خلاف التحقيق.قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:«مضافا إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار من كون أصالة الحرمة في اللحوم مسلما عند الأئمة عليهم السّلام،كما يظهر من ما ورد في حكم الصيد المرمي الذي لم يعلم استناد موته إلى الرمي.

و كذا فيما أرسل إليه الكلب و لم يعلم استناد موته إليه»و ما ذكره قريب جدا، و إن كان محتاجا إلى فحص أخبار المسألة بنحو لا يسعه الوقت.و اللّه سبحانه ولي التوفيق.

ص: 209

إلا ما ذكي،و إناطة (1) إباحة الأكل بما ذكر اسم اللّه عليه و غيره من الأمور الوجودية المعتبرة في التذكية،فإذا انتفى بعضها-و لو بحكم الأصل- انتفت الإباحة.

و ثانيا:أن الميتة عبارة عن غير المذكى،إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه،بل كل زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا.و تمام الكلام في الفقه.

(1)عطف على(استثناء)في قوله:«و يدل عليه استثناء ما ذكيتم».

ص: 210

الثاني

[كلمات المحدث العاملي قدس سرّه في الفرق بين الشبهة في نفس الحكم و بين الشبهة في طريقه و المناقشة فيها]

أن الشيخ الحر أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الأخباريين، و حاصله:أنه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم و بين الشبهة في طريقه (1) ، حيث أوجبتم الاحتياط في الأول دون الثاني؟

و أجاب بما لفظه:أن حد الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعي أعني الإباحة و التحريم،كمن شك في أكل الميتة أنه حلال أو حرام،و حد الشبهة في طريق الحكم الشرعي ما اشتبه فيه موضوع الحكم مع كون محموله معلوما،كما في اشتباه اللحم الذي يشترى من السوق لا يعلم أنه مذكى أو ميتة،مع العلم بأن المذكى حلال و الميتة حرام.

و يستفاد هذا التقسيم من أحاديث الأئمة عليهم السّلام و من وجوه عقلية مؤيدة لتلك الأحاديث،و يأتي بعضها إن شاء اللّه.

و قسم متردد بين القسمين،و هي الأفراد التي ليست بظاهرة الفردية لبعض الأنواع،و ليس اشتباهها بسبب شيء من الأمور الدنيوية (1)المراد بها الشبهة الموضوعية.كما تقدم في المسألة الثانية.

ص: 211

كاختلاط (1) الحلال بالحرام،بل اشتباهها بسبب أمر ذاتي أعني اشتباه صنفها في نفسها (2) ،كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه و اشتبه أنواعه في أفراد يسيرة،و بعض أفراد الخبائث الذي قد ثبت تحريم نوعه (3) و اشتبه بعض أفراده حتى اختلف العقلاء فيها،و منها (4) شرب التتن.و هذا النوع يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها.

و هذه التفاصيل تستفاد من مجموع الأحاديث،و نذكر مما يدل على ذلك وجوها:

منها:قوله عليه السّلام:«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال»،فهذا و أشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم.

(1)تمثيل للمنفي،و هو ما يكون اشتباهه بسب شيء من الأمور الدنيوية.

(2)الظاهر أن يريد بذلك الشبهة المفهومية الراجعة إلى إجمال المفهوم و تردده بين الأقل و الأكثر.و قد تقدم الكلام فيها في المسألة الثانية.

(3)تقدم في الاستدلال بحكم العقل على البراءة في الشبهة الموضوعية الإشكال في كون الخبائث بعنوانها موضوعا للتحريم.

(4)يعني:من الأفراد التي يشتبه كونها من الخبائث التتن.لكن لا يبعد أن يكون مفهوم الخبائث بينا لا إجمال فيه،و اشتباه التتن به من الشبهة الموضوعية الصرفة كاختلاط المال الحلال بالحرام.

نعم بناء على عدم كون الخبائث بعنوانها موضوعا للتحريم-كما أشرنا إليه- آنفا يكون التتن مما اشتبه حكمه الشرعي لعدم النص،فيدخل في المسألة الأولى،كما مثل به المصنف قدس سرّه.

ص: 212

إلى أن قال:

و إذا حصل الشك في تحريم الميتة لم يصدق عليها أن فيها حلالا و لا حراما (1) .

أقول:كأن مطلبه أن هذه الرواية و أمثالها مخصصة لعموم ما دل على وجوب التوقف و الاحتياط في مطلق الشبهة (2) ،و إلا فجريان أصالة الإباحة في الشبهة الموضوعية لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.

مع (3) أن سياق أخبار التوقف و الاحتياط يأبى عن التخصيص (4) ، من حيث اشتمالها على العلة العقلية لحسن التوقف و الاحتياط-أعني الحذر من الوقوع في الحرام و الهلكة-فحملها على الاستحباب أولى (5) .

ثم قال:

و منها:قوله:«حلال بين و حرام بين و شبهات»،و هذا إنما ينطبق على الشبهة في نفس الحكم،و إلا لم يكن الحلال البين و لا الحرام البين،و لا (1)الظاهر أن هذا راجع إلى ما ذكره المصنف قدس سرّه من أنه لا مجال للاستدلال بالرواية المذكورة على البراءة في المسألة الأولى،و أنها مختصة بالشبهة الموضوعية.

(2)لا يظهر من مجموع كلامه ذلك،بل الذي يظهر منه دعوى اختصاص أخبار التوقف بالشبهة الحكمية،لا أنها تعم الشبهات الموضوعية و تختص بأخبار الحل المذكورة في كلامه،فلا يتوجه ما أورده المصنف قدس سرّه عليه.

(3)بأن لوجه بطلان دعوى تخصيص أخبار التوقف و الاحتياط بأدلة الحل، التي استظهرها من كلام الحر قدس سرّه.

(4)كما سبق في المسألة الأولى.

(5)تقدم الإشكال في ذلك،و تقدم ما ينبغي حمل الأخبار عليه.

ص: 213

يعلم أحدهما من الآخر إلا علاّم الغيوب (1) ،و هذا ظاهر واضح.

أقول:فيه-مضافا إلى ما ذكرنا،من إباء سياق الخبر عن التخصيص (2) -:أن رواية التثليث-التي هي العمدة من أدلتهم-ظاهرة في حصر (3) ما يبتلي به المكلف من الأفعال في ثلاثة،فإن كانت عامة (1)عن شرح الوافية للسيد الصدر أن عبارة الحر قدس سرّه هكذا:«و إلا لم يكن الحلال البيّن و لا الحرام البيّن موجودا،لوجود الاختلاط و الاشتباه في النوعين من زمان آدم عليه السّلام إلى الآن بحيث لا يوجد الحلال البين و لا الحرام البين،و لا يعلم أحدهما من آخر إلا علاّم الغيوب.و ذلك ظاهر واضح».

و كأن وجه دعوى الاختلاط و الاشتباه في الموضوعات ملاحظة الاحتمالات الكثيرة للحرمة مثل احتمال السرقة و بطلان المعاملات الجارية على المال و غير ذلك، و إن كانت على خلاف الأمارات و الطرق الشرعية كاليد و البينة و أصالة الصحة و غيرها.لكن هذا قد يجري في الشبهة الحكمية،لأن كثيرا من الحلال و الحرام قد ثبت بأدلة ظنية دلالة أو سندا.و سيأتي من المصنف قدس سرّه ما يتعلق بذلك.

(2)لا يخفى أن كلام الحر المتقدم لا يظهر منه دعوى التخصيص في أخبار التوقف،ليتوجه عليه ما ذكره المصنف قدس سرّه،بل كلامه صريح في دعوى اختصاص أخبار التوقف بالشبهة الحكمية،فلا يلزم من جريان أصالة البراءة و الحل في الشبهة الموضوعية تخصيص الأخبار المذكورة.فالأولى الإيراد عليه بأنه لو فرض اختصاص الأخبار المذكورة بالشبهة الحكمية لفظا،إلا أن عموم التعليل فيها شامل للشبهة الموضوعية،و لا مجال لتخصيصه لآبائه عن التخصيص.

(3)غايته أن جهة الموضوع تكون من الشبهة لا غير،و هذا لا ينافي عموم الحصر للشبهة الموضوعية،إذ لا يعتبر فيه اشتمالها على جميع الأقسام،فإذا قيل:الإنسان إما كافل أو مكفول فاختصاص الصبي بكونه مكفولا لا يوجب خروجه عن موضوع التقسيم و الحصر،بحيث يراد من الإنسان الكبير البالغ فقط.

ص: 214

للشبهة الموضوعية أيضا صح الحصر،و إن اختصت بالشبهة الحكمية كان الفرد الخارجي المردد بين الحلال و الحرام قسما رابعا،لأنه ليس حلالا بينا و لا حراما بينا و لا مشتبه الحكم (1) .

و لو استشهد بما قبل النبوي،من قول الصادق عليه السّلام:«إنما الأمور ثلاثة»،كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية،إذ المحصور في هذه الفقرة الأمور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع (2) ،فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمرا رابعا للثلاثة (3) .

و أما ما ذكره من المانع لشمول النبوي للشبهة الموضوعية:من أنه لا يعلم الحلال من الحرام إلا علاّم الغيوب،ففيه:

أنه إن أريد عدم وجودهما،ففيه ما لا يخفى.و إن أريد ندرتهما، ففيه:أن الندرة تمنع من اختصاص النبوي بالنادر لا من شموله له.مع أن دعوى كون الحلال البين من حيث الحكم أكثر من الحلال البين من حيث الموضوع قابلة للمنع،بل المحرمات الخارجية المعلومة أكثر بمراتب من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها (4) .

فلاحظ.

(1)يعني:بل مشتبه الموضوع و ذلك ينافي الحصر الذي يظهر من الرواية.

(2)كما يشهد به قوله عليه السّلام في المقبولة:«و أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله».

(3)لخروجه عن موضوع الحصر،لاختصاص الحصر بما يرجع فيه إلى الشارع.

(4)سواء أريد بذلك العلم الحقيقي بالواقع.أم ما يعم قيام الطرق و الأمارات

ص: 215

ثم قال:

و منها:ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة و الإباحة بسبب تعارض الأدلة و عدم النص،و ذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعي.

أقول:ما دل على التخيير و التوسعة مع التعارض و على الإباحة مع عدم ورود النهي و إن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف و الاحتياط، إلا أن الإنصاف أن دلالتها على الإباحة و الرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب (1) .

ثم قال:

و منها:أن ذلك وجه للجمع بين الأخبار لا يكاد يوجد وجه أقرب منه.

أقول:مقتضى الإنصاف أن حمل أدلة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب مما ذكره (2) .

ثم قال ما حاصله:

و منها:أن الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام عليه السّلام،بخلاف و الأصول الشرعية التي يصح الرجوع إليها مع احتمال الخلاف،و توجب العلم بالحكم الظاهري.

(1)كما تقدم الكلام فيه في المسألة الأولى و الثالثة.و حينئذ يتجه تقديمها في الشبهة الحكمية على أدلة التوقف و الاجتناب.و لا يتم التفصيل الذي اختاره المحدث الحرّ قدس سرّه.

(2)عرفت الإشكال في ذلك و عرفت الوجه الأقرب.

ص: 216

الشبهة في طريق الحكم،لعدم وجوب السؤال عنه،بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم،لأنه من علم الغيب فلا يعلمه إلا اللّه، و إن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه و إذا شاءوا أن يعلموا شيئا علموه، انتهى.

أقول:ما ذكره من الفرق لا مدخل له،فإن طريق الحكم لا يجب الفحص عنه و إزالة الشبهة (1) فيه،لا من الإمام عليه السّلام و لا من غيره من الطرق المتمكن منها،و الرجوع إلى الإمام عليه السّلام إنما يجب في ما تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكن من العلم (2) .

و أما مسألة مقدار معلومات الإمام عليه السّلام من حيث العموم و الخصوص،و كيفية علمه بها من حيث توقفه على مشيتهم أو على التفاتهم إلى نفس الشيء أو عدم توقفه على ذلك،فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئن به النفس،فالأولى وكول علم ذلك إليهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.

(1)يعني:بناء على جريان البراءة فيه.

(2)و ذلك إنما يقتضي وجوب الفحص،لا امتناع الرجوع للبراءة بعد اليأس عن الظفر بالدليل و العجز عن العلم بالتكليف على تقدير ثبوته واقعا.

هذا و كأن مراد الحر قدس سرّه أن امتناع الرجوع للإمام عليه السّلام في الشبهة الموضوعية موجب لقصور أخبار التوقف عنها،لاشتمال بعضها على وجوب الرجوع عليهم مثل قوله عليه السّلام:«إذا كان كذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك»و قوله عليه السّلام:«و أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله»لكن ذلك لو تم فإنما يتم في الأخبار المشتملة على ذلك، دون الأخبار التي أطلق فيها الأمر بالوقوف و الاحتياط و نحوها.

ص: 217

ثم قال:و منها:أن اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور، لأن أنواعه محصورة،بخلاف الشبهة في طريق الحكم فاجتنابها غير ممكن، لما أشرنا إليه:من عدم وجود الحلال البين،و لزوم تكليف ما لا يطاق.

و الاجتناب عما يزيد على قدر الضرورة (1) حرج عظيم و عسر شديد،لاستلزامه الاقتصار في اليوم و الليلة على لقمة واحدة و ترك جميع الانتفاعات،انتهى.

أقول:لا ريب أن أكثر الشبهات الموضوعية لا يخلو عن أمارات الحل و الحرمة،(كيد المسلم)،و(السوق)،و(أصالة الطهارة)،و(قول المدعي بلا معارض)،و الأصول العدمية المجمع عليها عند المجتهدين و الأخباريين،على ما صرح به المحدث الاسترآبادي كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب،و بالجملة:فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات،لقلتها.

ثم قال:

و منها:أن اجتناب الحرام واجب عقلا و نقلا،و لا يتم إلا باجتناب ما يحتمل التحريم مما اشتبه حكمه الشرعي (2) و من الأفراد الغير الظاهرة الفردية (3) ،و ما لا يتم (4) الواجب إلا به و كان مقدورا فهو واجب.

(1)أما قدر الضرورة فيسوغ ارتكابه قطعا و لو لأجل الضرورة.

(2)كلحم الارنب.

(3)كبعض الأفراد التي يحتمل دخولها في الغناء،و نحو ذلك من موارد الشبهة المفهومية.

(4)هذه المقدمة الثالثة للاستدلال،و المقدمة الأولى هي قوله:«ان اجتناب

ص: 218

إلى غير ذلك من الوجوه.و إن أمكن المناقشة في بعضها،فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام،و اللّه أعلم بحقائق الأحكام،انتهى.

أقول:الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب عن الشبهة في طريق الحكم،بل لو تم لم يتم إلا فيه،لأن (1) وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلا بدليل حرمة ذلك الشيء أو أمر وجوب إطاعة الأوامر و النواهي مما ورد في الشرع و حكم به العقل،فهي كلها تابعة لتحقق الموضوع أعني الأمر و النهي،و المفروض الشك في تحقق النهي، و حينئذ:فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة،فأين وجوب ذي المقدمة حتى يثبت وجوبها؟.

نعم (2) ،يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم بعد ما قام الدليل على حرمة الخمر:يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية،و لا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام إلا بالاجتناب عن كل ما احتمل حرمته (3) .

الحرام واجب...»و المقدمة الثانية هي قوله:«و لا يتم إلا باجتناب...».

(1)تعليل لعدم تمامية الدليل المذكور في الشبهة الحكمية.

(2)بيان لجريان الدليل المذكور-لو تم في نفسه-في الشبهة الموضوعية،التي هي الشبهة في طريق الحكم.

(3)و دعوى:أن هذا لو تم جرى في الشبهة الحكمية بلحاظ الأوامر الواردة بإطاعة الأوامر و النواهي الشرعية،لأنها تقتضي لزوم إطاعة جميع الأوامر و النواهي الواقعية و لا يحرز ذلك إلا بإطاعة الأوامر و النواهي المحتملة بموافقتها احتياطا، فيجب مقدمة.

ص: 219

لكنك عرفت الجواب عنه سابقا،و أن التكليف بذي المقدمة غير محرز إلا بالعلم التفصيلي أو الإجمالي (1) ،فالاجتناب عما يحتمل الحرمة احتمالا مجردا عن العلم الإجمالي لا يجب،لا نفسا و لا مقدمة،و اللّه العالم.

مدفوعة بأن أوامر الإطاعة إرشادية لا شرعية حتى يجب اليقين بالفراغ عنها،فليس في المقام إلا أدلة الأحكام الأولية،فمع الشك في التكليف بنحو الشبهة الحكمية لا يحرز التكليف بشيء حتى يجب الفراغ عنه بالإتيان بالأفراد المحتملة.

نعم قد يجري ذلك في الشبهة المفهومية لإجمال الموضوع.

(1)يعني:بالموضوع،و لا يكفي فيه العلم بالحكم الكلي مع عدم إحراز الموضوع.

ص: 220

الثالث
اشارة

[الاحتياط التام موجب لاختلال النظام]

أنه لا شك في حكم العقل و النقل برجحان الاحتياط مطلقا (1) ، حتى فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الإباحة،إلا أنه لا ريب في أن الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام كما ذكره المحدث المتقدم ذكره (2) ،بل يلزم أزيد مما ذكره،فلا يجوز الأمر به من الحكيم، لمنافاته للغرض (3) .

(1)تقدم في التنبيه الثالث من تنبيهات المسألة الأولى التعرض لذلك مع الكلام فيه.فراجع.

(2)و هو المحدث الحر العاملي قدس سرّه حيث ذكر ذلك في كلامه السابق.

(3)لا يبعد أن يكون المراد بالغرض الفرض في-حفظ النظام.لكن هذا إنما يمنع من الأمر بالاحتياط التام بنحو العموم المجموعي و لا يقتضي المنع عن الأمر به بنحو الانحلال في كل واقعة بنفسها في طرف عدم الانشغال بغيرها نظير الأمر الترتيبي الذي التزمنا به في مبحث الضد،و إن افترق عنه بأن الأمر بالأهم هناك مطلق و المقيد هو الأمر بالمهم لا غير،أما هنا فكل منهما مقيد بعدم امتثال الآخر، لأن ملاك الأهم لا يقتضي الإلزام به بنحو لا يسوغ تفويته بالمهم،بل يجوز تفويته، لفرض عدم كونه إلزاميا في نفسه.و بهذا يتعين الجمع بين المستحبات الواقعية الكثيرة

ص: 221

التبعيض بحسب الاحتمالات

و التبعيض بحسب الموارد،و استحباب (1) الاحتياط حتى يلزم الاختلال-أيضا-مشكل،لأن تحديده في غاية العسر (2) ،فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات،فيحتاط في المظنونات،و أما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها،فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام، و يدل على هذا:العقل بعد ملاحظة حسن الاحتياط مطلقا و استلزام كليته الاختلال (3) .

التي وردت في الشريعة المقدسة التي تستغرق أوقات الإنسان.

هذا كله بناء على أن الاحتياط مستحب شرعا و لو ظاهرا.أما بناء على كونه مستحبا عقلا فالحال كذلك كما يظهر بالتأمل.ثم إن هذا لا ينافي حكم العقل بأولوية اختيار الأرجح.و سيأتي الكلام في وجوه الترجيح في المقام،إلا أنه من باب الترجيح في مقام العمل،لا من باب اختصاص الأمر به.

(1)عطف تفسير على قوله:«و التبعيض بحسب الموارد».

(2)كأنه من جهة اشتباه بين المراتب المختلفة التي ليس لها حدود تفصيلية.

لكن يأتي في آخر هذا التنبيه الجواب عن ذلك.

(3)هذا مبني على ما تقدم في دليل الانسداد من الترجيح بالظن.لكن تقدم أنه مبني على عموم نتيجة الانسداد بحسب الموارد،و قد تقدم الإشكال فيه،و أنه لا دليل عليه إلا الإجماع،و هو لو تم هناك لا يتضح ثبوته هنا.و لا سيما مع الاختلاف بين المقامين بكون التكليف هناك في جميع الوقائع منجزا بالعلم الإجمالي،بخلافه هنا،فملاك،حسن الاحتياط ليس إلا الانقياد،و لا ريب في أن الانقياد بالاحتياط لتحصيل التكليف بالوارد على طبق الملاك الأهم أرجح عقلا،و لو كان احتماله ضعيفا،إلا أن يكون احتمالا غير معتد به عند العقلاء لضعفه.

اللهم إلا أن يقال:كما تكون أهمية الملاك موجبة لترجيح الانقياد كذلك

ص: 222

التبعيض بحسب المحتملات

و يحتمل التبعيض بحسب المحتملات،فالحرام المحتمل إذا كان من الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء و الفروج،بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق اللّه تعالى (1) ،يحتاط فيه،و إلا فلا.

و يدل على هذا:جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح،و أنه شديد، و أنه يكون منه الولد (2) ،منها:ما تقدم من قوله عليه السّلام:«لا تجامعوا على تكون قوة الاحتمال موجبة له،فتكون كلتا الجهتين صالحة للترجيح،و مع المزاحمة بينهما و عدم الأهمية يتعين التخيير.

(1)في عموم أهمية حقوق الناس من حقوق اللّه تعالى إشكال.

نعم أشرنا في التنبيه الأول إلى دعوى لزوم الاحتياط و انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال،و هي تقتضي لزوم ترجيحها لا أولويته لكن ذلك-مع عدم وضوح الدليل عليه كما تقدم-مختص بما إذ لم تقم أمارة أو أصل موضوعي أو حكمي على طبق البراءة،و الكلام هنا أعم من ذلك.

(2) ففي معتبر شعيب الحداد:عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من أراد أن يتزوج امرأة طلقت على غير السنة،حيث قال عليه السّلام:«هو الفرج و أمر الفرج شديد و منه يكون الولد و نحن نحتاط فلا يتزوجها» (1).

و في معتبر العلاء بن سيابة عنه عليه السّلام.فيما لو وكلت المرأة من يزوجها ثم عزلته و زوجها قبل أن تعلمه بالعزل،حيث حكم العامة بنفوذ عقد الوكيل قبل أن يعلم في غير النكاح و عدم نفوذه في النكاح،فأنكر عليه السّلام ذلك عليهم و حكم بنفوذه في النكاح و قال عليه السّلام:«إن النكاح أحرى و أحرى أن يحتاط فيه و هو فرج و منه يكون الولد...»(2) .لكنهما إنما يدلان على أن أهمية النكاح تقتضي احتياط الشارع له

ص: 223


1- وسائل الشيعة ج:14 باب:157 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه حديث:1.
2- وسائل الشيعة ج:13 باب:2 من كتاب الوكالة حديث:2.

النكاح بالشبهة»،قال عليه السّلام:«فإذا بلغك أن امرأة أرضعتك»-إلى أن قال-:«إن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

و قد تعارض هذه بما دل على عدم وجوب السؤال و التوبيخ عليه، و عدم قبول قول من يدعي حرمة المعقودة مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقة، و غير ذلك.

و فيه:أن مساقها التسهيل و عدم وجوب الاحتياط،فلا ينافي الاستحباب (1) .

التبعيض بين مورد الأمارة على الإباحة و بين غيره

و يحتمل التبعيض بين موارد الأمارة على الإباحة و موارد لا يوجد فيها إلا أصالة الإباحة،فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات و الوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأول،لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعية على الإباحة،فإن الأمارات في الموضوعات بمنزلة الأدلة تشريعا،لا على أهمية احتياط المكلف له في مقام الشك الذي هو محل الكلام.

نعم قد يدل عليه الرواية التي ذكرها المصنف قدس سرّه بلحاظ أن التنبيه على الاحتياط في النكاح و التشديد عليه و إغفاله في غيره من الشبهات الموضوعية قد يدل على أهميته و رجحانه على غيره.و قد تقدم في أدلة الأخباريين أن لسان الرواية لا يناسب الاستحباب،بل غاية ما يمكن أن تحمل عليه هو كراهة ترك الاحتياط.

(1)لكن الاستحباب لا يناسب ما دل على التوبيخ على السؤال،إذ لا معنى للتوبيخ على فعل المستحب،و لا سيما مع ما أشرنا إليه قريبا من أن لسان الرواية المتقدمة لا يناسب استحباب الاحتياط،بل كراهة تركه.

هذا و قد بجمع بين الروايات المشار إليها و الرواية المتقدمة بحمل الرواية المتقدمة على النهي عن إحداث النكاح مع الشبهة،و حمل الروايات المذكورة على النهي عن الفحص بعد إيقاع النكاح،تجنبا لمشاكل الواقع المحتمل.فتأمل جيدا.

ص: 224

في الأحكام مزيلة للشبهة (1) ،خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحير في حكمه و لا بيان من الشارع لا عموما و لا خصوصا بالنسبة إليه،دون مطلق ما فيه الاحتمال،و هذا بخلاف أصالة الإباحة،فإنها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها.

هذا،و لكن أدلة الاحتياط لا تنحصر في ما ذكر فيه لفظ«الشبهة»، بل العقل مستقل بحسن الاحتياط مطلقا».

فالأولى:الحكم برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه الحرام.

و ما ذكر من أن تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر، فهو إنما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه (2) .

(1)زوال الشبهة بالأمارات مبني على أن المراد بالشبهة اشتباه الحكم الواقعي الموجب للتحير فيه لعدم البيان الشرعي،إذ لو أريد بها مطلق الاحتمال و الشك في الحكم الواقعي لم تكن الأمارة مزيلة للشبهة.و عليه فلا وجه لقوله:«خصوصا إذا كان...»فإن الكلام لا يتم إلا بناء على ذلك.هذا و قد تقدم هنا عند الكلام في استدلال الأخباريين على الاحتياط بالأخبار حمل الشبهة على معنى لا يناسب ذلك.

فراجع.

(2)لأن أدلة العسر و الحرج لا تجري في الأحكام غير الإلزامية بعد عدم تضمنها التكليف و المسئولية و الضيق.فتأمل.

ص: 225

الرابع

[عدم اختصاص الإباحة بالعاجز عن الاستعلام]

إباحة ما يحتمل الحرمة (1) غير مختصة بالعاجز عن الاستعلام، بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع،لعموم أدلته من العقل (2) و النقل (3) ،و قوله عليه السّلام في ذيل رواية مسعدة بن صدقة:«و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البينة»،فإن ظاهره (1)يعني:في الشبهة الموضوعية.أما الشبهة الحكمية فيأتي في الخاتمة اختصاص جريان البراءة فيها باليأس عن الدليل بعد الفحص.

(2)لم يتضح حكم العقل بقبح العقاب مع التقصير في الفحص.و لذا يأتي منه قدس سرّه في الخاتمة دعوى وجوب الفحص في الشبهة الحكمية و عدم جواز الرجوع قبله إلى البراءة لأن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام.

اللهم إلا أن يدعى الفرق بين الشبهة الموضوعية و الحكمية بأن وصول الأحكام من قبل الشارع مبني على الفحص و لولاه يلزم ضياع غالبها.و مع إدراك العقل ذلك لا يحكم بالمعذرية و جواز البناء على البراءة قبل الفحص،بخلاف الموضوعات.لكنه لا يخلو عن إشكال.فتأمل جيدا.

(3)المراد به الإطلاقات العامة لمثل حديث الرفع و السعة و غيرهما.

ص: 226

حصول (1) الاستبانة و قيام البينة لا التحصيل،و قوله:«هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان».

لكن هذا (2) و أشباهه مثل قوله عليه السّلام في اللحم المشترى من السوق:

«كل و لا تسأل»،و قوله عليه السّلام:«ليس عليكم المسألة،إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم»،و قوله عليه السّلام في حكاية المنقطعة التي تبين لها زوج:«لم سألت» واردة في موارد وجود الأمارة الشرعية على الحلية (3) ،فلا تشمل ما نحن فيه.

إلا أن المسألة غير خلافية،مع كفاية الإطلاقات.

(1)يعني:ظاهره أن الغاية حصول الاستبانة و قيام البينة،لا وجوب تحصيلهما.

(2)يعني:الحديث الثاني و هو قوله:«هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان».

و أما الحديث الأول،و هو رواية مسعدة بن صدقة فقد تقدم في أول هذه المسألة صحة الاستدلال بها لأصالة الحل،و لا ينافيه اشتمالها على الأمثلة المذكورة.

(3)كاليد و سوق المسلمين و قول من يقبل قوله:فلتلحظ الروايات.

نعم ورد في بعض نصوص قاعدة الطهارة و استصحابها عدم وجوب الفحص من دون أمارة على الطهارة.

ص: 227

المطلب الثاني

اشارة

في دوران حكم الفعل بين الوجوب و غير الحرمة من الأحكام.

و فيه-أيضا-مسائل:

الأولى
اشارة

فيما اشتبه حكمه الشرعي الكلي من جهة عدم النص المعتبر

كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل،كالدعاء عند رؤية الهلال،و كالاستهلال في رمضان،و غير ذلك.

و المعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة و عدم وجوب الاحتياط،قال المحدث الحر العاملي-في باب القضاء من الوسائل-:إنه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في الوجوب،إلا

كلام المحدث العاملي قدس سرّه

إذا علمنا اشتغال الذمة بعبادة معينة و حصل الشك بين فردين،كالقصر و التمام و الظهر و الجمعة و جزاء واحد للصيد أو اثنين و نحو ذلك،فإنه يجب الجمع بين العبادتين،لتحريم تركهما معا،للنص (1) ،و تحريم الجزم (1)كأن المراد به النص الدال على وجوب أحدهما المردد.لكنه إنما يقتضي

ص: 228

بوجوب أحدهما بعينه،عملا بأحاديث الاحتياط،انتهى موضع الحاجة.

كلام المحدث البحراني قدس سرّه في الحدائق في عدم وجوب الاحتياط

و قال المحدث البحراني في مقدمات كتابه،بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين:أحدهما:أنها عبارة عن نفي وجوب فعل وجودي،بمعنى:

أن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب:و هذا القسم لا خلاف في صحة الاستدلال به،إذ لم يقل أحد:إن الأصل الوجوب.

كلامه قدس سرّه في الدرر النجفية في عدم وجوب الاحتياط أيضا

و قال في محكي كتابه-المسمى بالدرر النجفية-:إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب،فلا خلاف و لا إشكال في انتفائه حتى يظهر دليل،لاستلزام التكليف به بدون الدليل الحرج و التكليف بما لا يطاق (1) ، انتهى.

لكنه قدس سرّه في مسألة وجوب الاحتياط،قال بعد القطع برجحان الاحتياط:

إن منه ما يكون واجبا،و منه ما يكون مستحبا:

فالأول:كما إذا تردد المكلف في الحكم،إما لتعارض الأدلة،أو لتشابهها و عدم وضوح دلالتها،أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي وجوب أحدهما واقعا،لا امتناع ترك كل منهما لأنه غير معلوم تفصيلا.فالعمدة في ذلك منجزية العلم الإجمالي الذاتية،كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

(1)لا يخفى أن امتناع التكليف بما لا يطاق عقلي لا يقبل التخصيص، و حينئذ لا مجال للفرق بين الشبهة الوجوبية و التحريمية،مع أنهم التزموا بعدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية،فالاستدلال بذلك هنا لا يناسب هذا و الظاهر أن الاستدلال في غير محله،كما تقدم عند الكلام في الاستدلال على البراءة بحكم العقل في الشبهة التحريمية.

ص: 229

البراءة الأصلية (1) ،أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكليات المعلومة الحكم (2) ،أو نحو ذلك.

و الثاني (3) :كما إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوزة،كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي إباحة شيء و حليته لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنه مما حرمه الشارع و إن لم يعلم به المكلف.و منه جوائز الجائر،و نكاح امرأة بلغك أنها أرضعتك أو ارتضعت معك الرضاع المحرم إلا أنه لم يثبت ذلك شرعا،و منه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه.

أما إذا لم يحصل ما يوجب الشك و الريبة،فإنه يعمل على ما ظهر له من الأدلة و إن احتمل النقيض باعتبار الواقع،و لا يستحب له الاحتياط هنا،بل ربما كان مرجوحا،لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين (4) .

ثم ذكر الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط،أعني اشتباه الدليل و تردده (5) بين الوجوب و الاستحباب،و تعارض الدليلين،و عدم (1)لا يظهر منه الجزم بنفي البراءة الأصلية.

(2)كأن المراد به الشبهة المفهومية.

(3)و هو الاحتياط المستحب.

(4)لعل النهي منزل على التأكيد على رفع الحجر الراجع إلى عدم وجوب الاحتياط،لا إلى مرجوحيته.و قد تقدم في التنبيه الثالث من تنبيهات المسألة الأولى من المطلب الأول الإشارة لاحتمال ثبوت الردع شرعا عن الاحتياط.فراجع.

(5)عطف تفسير على قوله:«اشتباه الدليل».

ص: 230

النص (1) ،قال:

و من هذا القسم:ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا يعم بها البلوى (2) عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية،فإن الحكم فيه ما ذكر، كما سلف،انتهى.

كلام المحدث الاسترآبادي قدس سرّه في وجوب الاحتياط أيضا

و ممن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا:المحدث الاسترآبادي،حيث حكي عنه في الفوائد المدنية،أنه قال:

إن التمسك بالبراءة الأصلية من حيث هي هي إنما يجوز قبل إكمال الدين،و أما بعد أن كمل الدين و تواتر الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام بأن كل واقعة تحتاج إليها الأمة إلى يوم القيامة و كل واقعة تقع الخصومة بين اثنين ورد فيها خطاب قطعي من قبل اللّه تعالى حتى أرش الخدش، فلا (3) يجوز قطعا،و كيف يجوز؟و قد تواتر عنهم عليهم السّلام وجوب التوقف في ما لم يعلم حكمها،معللين (4) :بأنه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم شرعي قطعي وارد من اللّه تعالى،و بأن من حكم بغير ما أنزل اللّه تعالى فأولئك هم الكافرون.

(1)فقد جزم في كلامه بوجوب الاحتياط فيهما و صرح بعدم الاعتماد على البراءة الأصلية.لكنهما خارجان عما نحن فيه،إذ الكلام في صورة فقد النص.

(2)لا يخفى أن إطلاق كلامه شامل للشبهة الوجوبية التي هي محل الكلام، إلا أن بناءه للمسألة على عدم القول بالبراءة الأصلية يقتضي التفصيل بين الشبهة الوجوبية و التحريمية،لأن ذلك مختاره فيها.

(3)جواب(أما)في قوله:«و أما بعد أن كمل الدين...».

(4)لا يحضر في خبر يتضمن التعليل المذكور.

ص: 231

ثم أقول:هذا المقام مما زلت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء،فحري بنا أن نحقق المقام و نوضحه بتوفيق الملك العلام و دلالة أهل الذكر عليهم السّلام، فنقول:التمسك بالبراءة الأصلية إنما يتم عند الأشاعرة المنكرين للحسن و القبح الذاتيين،و كذلك عند من يقول بهما و لا يقول بالحرمة و الوجوب الذاتيين (1) ،كما هو المستفاد من كلامهم عليهم السّلام،و هو الحق عندي.

ثم على هذين المذهبين إنما يتم قبل إكمال الدين لا بعده،إلا على مذهب من جوز من العامة خلو الواقعة عن حكم وارد من اللّه تعالى.

لا يقال:بقي هنا أصل آخر،و هو أن يكون الخطاب الذي ورد من اللّه تعالى موافقا للبراءة الأصلية.

لأنا نقول:هذا الكلام مما لا يرضى به لبيب،لأن خطابه تعالى تابع للحكم و المصالح،و مقتضيات الحكم و المصالح مختلفة.إلى أن قال:

هذا الكلام مما لا يرتاب في قبحه،نظير أن يقال:الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل و العلو،و من المعلوم بطلان هذا المقال.

(1)كأنه من جهة أنه على القول بكون الوجوب و الحرمة ذاتيين لا يعلم بسبق البراءة و عدم الوجوب،بخلاف ما لو قيل بأنهما غير ذاتيين،بل حادثين بجعل الشارع الأقدس إما تبعا للحسن و القبح،أو ابتداء،فإنه يعلم بالبراءة حينئذ فيمكن استصحابها.

و فيه:أن استصحاب البراءة ليس بلحاظ ما قبل الشريعة،بل بلحاظ حال ما قبل التكليف،كحال الصغر للعلم بعدم التكليف معه مطلقا قيل يكون الأحكام ذاتية أولا.اللهم إلا أن يستشكل في الاستصحاب حينئذ بعدم بقاء الموضوع.و هو مبني على مسألة تحديد موضوع الاستصحاب.

ص: 232

ثم أقول:الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الأمور في ثلاثة:أمر بيّن رشده،و أمر بيّن غيّه،و شبهات بين ذلك،و حديث:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»و نظائرهما،أخرج كل واقعة لم يكن حكمها بينا عن البراءة الأصلية،و أوجب التوقف فيها.

ثم قال-بعد أن الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب،و قد يكون في محتمل الحرمة-:إن عادة العامة و المتأخرين من الخاصة جرت بالتمسك بالبراءة الأصلية،و لما أبطلنا جواز التمسك بها في المقامين-لعلمنا بأن اللّه تعالى أكمل لنا ديننا،و علمنا بأن كل واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعي من اللّه تعالى خال عن المعارض،و لعلمنا بأن كل ما جاء به نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلم مخزون عند العترة الطاهرة عليهم السّلام،و لم يرخصوا لنا في التمسك بالبراءة الأصلية فيما لم نعلم الحكم الذي ورد فيه بعينه،بل أوجبوا التوقف في كل ما لم يعلم حكمه،و أوجبوا الاحتياط في بعض صوره-فعلينا:أن نبين ما يجب أن يفعل في المقامين،و سنحققه فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ذكر هناك ما حاصله:وجوب الاحتياط عند تساوي احتمال الأمر الوارد بين الوجوب و الاستحباب،و لو كان ظاهرا في الندب بني على جواز الترك.و كذا لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء،و تمسك في ذلك بحديث:«ما حجب اللّه علمه»،و حديث:«رفع التسعة»-قال-:و خرج عن تحتهما كل فعل وجودي لم يقطع بجوازه (1) ،لحديث التثليث.

(1)ظاهره اختصاص الاحتياط بالشبهة التحريمية اقتصارا على مورد حديث التثليث و رجوعا في غيرها إلى إطلاق حديثي الحجب و الرفع،فيوافق المشهور في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية،و لا يكون مخالفا.نعم هذا لا يناسب

ص: 233

المناقشة فيما أفاده المحدث الاسترآبادي قدس سرّه

أقول:قد عرفت فيما تقدم في نقل كلام المحقق قدس سرّه (1) :أن التمسك بأصل البراءة منوط بدليل عقلي هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به، و هذا لا دخل لإكمال الدين و عدمه و لا لكون الحسن و القبح أو الوجوب و التحريم عقليين أو شرعيين،في ذلك.

و العمدة في ما ذكره هذا المحدث من أوله إلى آخره:تخيله أن مذهب المجتهدين التمسك بالبراءة الأصلية لنفي الحكم الواقعي (2) ،و لم أجد أحدا يستدل بها على ذلك.نعم،قد عرفت سابقا أن ظاهر جماعة من مساق كلامه لتصريحه بوجوب الاحتياط عند الدوران بين الاستحباب و الوجوب لإجمال النص،إلا أن يجمع بينهما بدعوى عدم شمول حديثي الرفع و الحجب لمثل ذلك،للعلم بورود شيء فيه و إن كان مجملا.

(1)تقدم في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الأولى من المطلب الأول.

و تقدم منا أن ما فهمه المصنف قدس سرّه من كلام المحقق في غير محله.

نعم لا يبعد كون ما فهمه المصنف قدس سرّه هو مراد غير المحقق من تمسك بالبراءة الأصلية.لكن ظاهر بعضهم كون التمسك بها من باب الاستصحاب لا من جهة حكم العقل المذكور.كما أشار له المحقق في كلام له نقلناه هناك.فراجع.

(2)هذا لا يناسب اعترافه بجواز التمسك بالبراءة الأصلية على القول بعدم إكمال الدين،إذ عدم إكمال الدين لا ينافي احتمال التكليف في الواقعة الشخصية، كما لا يخفى.بل هذا لا يناسب تمسكه بحديث التوقف عن الشبهة و حديث دع ما يريبك،فإنه صريح في إرادة التوقف ظاهرا في قبال البناء على البراءة ظاهرا،كما يشهد به قوله:«و لم يرخصوا لنا في التمسك بالبراءة الأصلية فيما لم نعلم الحكم..».

و بالجملة:التأمل في كلامه شاهد بإرادة البراءة الظاهرية و ذكر إكمال الدين إنما هو للتمهيد،أو لاستيفاء مباني المسألة لا لتوقف الاستدلال عليه.

ص: 234

الإمامية جعل أصل البراءة من الأدلة الظنية،كما تقدم في المطلب الأول استظهار ذلك من صاحبي المعالم و الزبدة.

لكن ما ذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظن،لجواز دعوى أن المظنون بالاستصحاب أو غيره موافقة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم للبراءة.

و ما ذكره من تبعية خطاب اللّه تعالى للحكم و المصالح لا ينافي ذلك (1) .

لكن الإنصاف:أن الاستصحاب لا يفيد الظن،خصوصا في المقام -كما سيجيء في محله-و لا أمارة غير يفيد الظن.

فالاعتراض على مثل هؤلاء إنما هو منع حصول الظن،و منع اعتباره على تقدير الحصول،و لا دخل لإكمال الدين و عدمه و لا للحسن و القبح العقليين (2) في هذا المنع.

و كيف كان:فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة، حيث قال:العمل بالاحتياط غير لازم،و صار آخرون إلى لزومه،و فصل آخرون،انتهى.و حكي عن المعالم نسبته إلى جماعة.

المسألة خلافية و الأقوى البراءة
اشارة

فالظاهر أن المسألة خلافية،لكن لم يعرف القائل به بعينه،و إن كان يظهر من الشيخ و السيدين التمسك به أحيانا (3) ،لكن يعلم مذهبهم (1)بل قد ينافيه،لعدم الوجه في دعوى أن الصالح على طبق البراءة،كما تقدم منه.

(2)إذ لو فرض عدم إكمال الدين فالظن بالبراءة لا وجه له،لاحتمال كون الواقعة الخاصة مما جعل لها الحكم الشرعي،لا مما أهمل فيها جعل الحكم شرعا.

(3)حيث قد يستدلون على وجوب بعض الأمور بأن الإتيان بها مقتضي الاحتياط إذ يظهر من ذلك المفروغية عن وجوبه.

ص: 235

من أكثر المسائل (1) .

و الأقوى فيه:جريان أصالة البراءة للأدلة الأربعة المتقدمة،مضافا إلى الإجماع المركب (2) .

(1)كما تقدم منه نظيره في الشبهة التحريمية.

(2)فإن كل من قال بالبراءة في الشبهة التحريمية قال بها في الشبهة الوجوبية.

ص: 236

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأول

[محل الكلام في المسألة]

أن محل الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسي المستقل، و أما إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر،فهو داخل في الشك في المكلف به (1) ،و إن كان المختار جريان أصل البراءة فيه أيضا،كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى،لكنه خارج عن هذه المسألة الاتفاقية (2) .

(1)كما يأتي منه قدس سرّه عده فيه.و يأتي إن شاء اللّه الكلام في ذلك.

(2)كيف يدعى الاتفاق فيها مع اعترافه بأن الظاهر ثبوت الخلاف في المسألة؟!نعم الخلاف فيها أقل من الخلاف في الشبهة التحريمية.

ص: 237

الثاني
اشارة

[رجحان الاحتياط و ترتب الثواب عليه]

أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتى في ما احتمل كراهته (1) .و الظاهر ترتب الثواب عليه إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبية،لأنه انقياد و إطاعة حكمية،و الحكم بالثواب هنا أولى (2) من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم،بناء على أنه في حكم المعصية و إن لم يفعل محرما واقعيا (3) .

(1)بناء على أن الملاك الملزم أولى بالمراعاة من غيره.و قد سبقت الإشارة إليه في آخر التنبيه الثالث من تنبيهات المسألة الأولى في الشبهة التحريمية.و هو غير بعيد.

لكن قد يزاحمه قوة الاحتمال في الكراهة،فقد سبق في التنبيه الثالث من تنبيهات المسألة الرابعة في الشبهة التحريمية أن ذلك من المرجحات أيضا.

(2)لم يتضح وجه الأولوية،و الظاهر أنهما من سنخ واحد،كما أشرنا إليه في آخر التنبيه الرابع من تنبيهات المسألة الأولى من الشبهة التحريمية.

(3)أما بناء على أن استحقاق العقاب بترك الاحتياط مشروط بمصادفة المخالفة للتكليف الواقعي كما هو مبنى المصنف قدس سرّه في التجري فاستحقاق الثواب بالانقياد يكون أولى قطعا،لأنه غير مشروط بالمصادفة عند المصنف قدس سرّه و قد تقدم بعض الكلام فيه في التنبيه الرابع و الثالث من تنبيهات المسألة الأولى في الشبهة

ص: 238

و في جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب (1) وجهان:

الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب

أقواهما العدم،لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب المتوقفة على العلم (2) بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا أو الظن المعتبر كما (3) في كل من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة.

و ما ذكرنا (4) من ترتب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلق التحريمية.

(1)و كذا عند الدوران بين الاستحباب و غير الوجوب و إن كان خارجا عن محل الكلام.و أما مع الدوران بين الاستحباب و الوجوب فلا إشكال،لليقين بالأمر فيمكن قصد التقرب بامتثاله بلا إشكال.

نعم بناء على اعتبار تعيين الوجه في العبادة يتجه الإشكال فيه.إلا أن يدعى سقوطه بالعجز.و قد تقدم بعض الكلام في ذلك في مباحث القطع.فراجع.

(2)الظاهر إنه يكفى التقرب بالعبادة الإتيان بالفعل برجاء المطلوبية، كما تقتضيه المرتكزات العرفية و المتشرعية.و إلا أشكل الاحتياط مع الجزم بالأمر إجمالا،كما في موارد اشتباه القبلة،فإن العلم بالأمر إجمالا لا يصحح التقرب بكل من المحتملات بخصوصه لو لا الاكتفاء بالرجاء،لعدم إحراز انطباق المأمور به عليه،و الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.و يأتي بعض الكلام في ذلك عند الاستدلال لوجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية المحصورة.

(3)تمثيل للعلم بالأمر إجمالا.

(4)كأنه إشارة إلى دعوى:أنه يمكن إحراز الأمر الشرعي بالفعل في المقام من طريق ما ذكر من ترتب الثواب عليه،فإن ترتب الثواب على فعل ملازم لاستحبابه و لذا كان ما دل على ترتب الثواب على بعض الأمور دليلا على استحبابه

ص: 239

الأمر به،بل هو لأجل كونه انقيادا للشارع و العبد معه في حكم المطيع،بل لا يسمى ذلك ثوابا (1) .

و دعوى:أن العقل إذا استقل بحسن هذا الإتيان ثبت(بحكم الملازمة)الأمر به شرعا.

مدفوعة،لما تقدم في المطلب الأول:من أن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد-كأمره بالانقياد الحقيقي و الإطاعة الواقعية في معلوم التكليف-إرشادي محض،لا يترتب على موافقته و مخالفته أزيد مما يترتب على نفس وجود المأمور به أو عدمه،كما هو شأن الأوامر الإرشادية، فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي،و لا ينفع في جعل الشيء عبادة،كما أن إطاعة الأوامر المتحققة لم تصر عبادة بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى:

أطيعوا اللّه و رسوله.

احتمال الجريان

و يحتمل الجريان (2) ،بناء على أن هذا المقدار من الحسن العقلي شرعا.و قد أشار قدس سرّه إلى دفع الدعوى المذكورة بأن ترتب الثواب إنما يستفاد منه عرفا الأمر فيما إذا لم يكن له منشأ عقلي،أما إذا كان له منشأ عقلي-كالانقياد في المقام-فلا وجه لاستفادة الأمر منه.

(1)لم يتضح الوجه في ذلك،فإن الثواب-في ما يظهر من اللغة و العرف-هو الجزاء و العوض.و سيأتي منه قدس سرّه الاعتراف بصدق العوض و الجزاء في محل الكلام.

نعم لو كان المراد به مجرد المدح تمّ ما ذكره قدس سرّه.لكنه خلاف ظاهره.

(2)يعني:جريان الاحتياط في العبادات التي يدور الأمر فيها بين الوجوب و غير الاستحباب.

ص: 240

يكفي في العبادة (1) و منع توقفها على ورود أمر بها،بل يكفي الإتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا (2) ،و لذا استقرت سيرة العلماء و الصلحاء-فتوى و عملا-على إعادة العبادات لمجرد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة و الفتاوى النادرة.

و استدل في الذكرى-في خاتمة قضاء الفوائت-على شرعية قضاء الصلوات لمجرد احتمال خلل فيها موهوم،بقوله تعالى: فاتقوا اللّه ما استطعتم ،و اتقوا اللّه حق تقاته (3) ،و قوله تعالى: و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (4) .

التحقيق في المسألة

و التحقيق:أنه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة (1)لا أثر للحسن العقلي في ذلك بعد الاعتراف بأنه مبني على محض الإرشاد،و لا دخل له بالشارع ليس من سنخ الحسن و القبح الذاتيين الكاشفين عن الملاك المستلزم للحكم الشرعي.

و يأتي منه قدس سرّه في الشبهة الوجوبية المحصورة أن مثل ذلك لا يكفي في المقربية.

فالعمدة ما أشرنا إليه من كفاية احتمال الأمر في المقربية المعتبرة في العبادة.

(2)لا يبعد رجوعه لما ذكرنا.

(3)تقدم من المصنف قدس سرّه عند الاستدلال للأخباريين على وجوب الاحتياط بالكتاب.نقل الاستدلال عن الشهيد قدس سرّه بالآية الثانية دون الأولى.و قد تقدم منا هناك أن ظاهر الآية المذكورة و نحوها لزوم الاحتياط في الشبهة المنجزة.لا رجحانه ليعم الشبهات غير المنجزة التي هي محل الكلام.

(4)لم يتضح وجه للاستدلال بهذه الآية،لظهورها في استحباب الانفاق.

ص: 241

فيما لا يعلم المطلوبية و لو إجمالا (1) ،فهو،و إلا فما أورده قدس سرّه في الذكرى-كأوامر الاحتياط-لا يجدي في صحتها،لأن موضوع التقوى و الاحتياط-الذي تتوقف عليه هذه الأوامر-لا يتحقق إلا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتى نية التقرب (2) ، و إلا لم يكن احتياطا،فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة المنوية فيها (3) .

اللهم إلا أن يقال-بعد النقض بورود هذا الإيراد في الأوامر الواقعية بالعبادات مثل قوله تعالى: أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة ،حيث إن قصد القربة مما يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا،و المفروض ثبوت مشروعيتها بهذا الأمر الوارد فيها (4) -:إن المراد من الاحتياط و الاتقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات (1)و عليه يكفى في رجحان الاحتياط حكم العقل،و لا حاجة إلى الاستدلال بالآيات السابقة،بل لا يتم كما عرفت.

(2)فإذا فرض امتناع نية التقرب لعدم العلم بالتكليف كان الاحتياط متعذرا.

(3)لأن تلك الأوامر لا تشملها إلا بعد فرض كونها عبادة،فشمولها لها في رتبة متأخرة عن عباديتها فلا يكون منشأ لعباديتها.

(4)لا بد مع ذلك من التزام أن الأوامر الواقعية لا تصلح لتشريع هذه العبادات إلا في الجملة فهي مسوقة لبيان ذات الواجب أو بعض أجزائه لإتمام الواجب و يكون اعتبار قصد القربة مستفادا من دليل آخر،فلا يتم النقض بذلك.

و تمام الكلام في مبحث التعبدي و التوصلي.

ص: 242

عدا نية القربة (1) ،فمعنى الاحتياط بالصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة،فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل (2) ،و حينئذ:فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر.

و من هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل و إن لم يعلم المقلد (3) (1)لا مجال لذلك جدا بعد ما عرفت في معنى الاحتياط،خصوصا مع ما عرفت منه قدس سرّه من ظهور هذه الأوامر في الإرشاد،كأوامر الاحتياط،فان الإرشاد إنما يكون لما هو الوافي بالغرض و هو المشتمل على قصد القربة لا لمطلق المأمور به، و حتى لو فرض أن المأمور به،بأوامر التشريع الواقعية خصوص الذات مع قطع النظر عن قصد القربة-بناء على شبهة امتناع أخذ القيد-فالذي يحكم العقل بحسنه أو لزومه خصوص الواجد له الوافي بالغرض،فلا بد من كون الأوامر الإرشادية ناظرة له لا لمطلق الذات،و من هنا فلا بد من فرض إمكان قصد القربة مع قطع النظر عنها حتى تكون شاملة له.

و بالجملة:لا مجال لقياس الأوامر الإرشادية بأوامر التشريع المولوية لو تم ما ذكر في أوامر التشريع.

(2)يعني:مع قطع النظر عن قصد القربة فيه.

(3)لو فرض شمول الأوامر المذكورة لذات الفعل فهي لا تصلح للمقربية، لاختصاص التقرب بالأوامر المولوية.

بل قد يقال:إن العبادية في الأمر تقتضي قصده بنفسه داعيا للفعل،و لا يكفى قصد غيره من الأوامر المتعلقة بالفعل و إن كانت مولوية،كأمر النذر و الإجارة و نحوها.

و بعبارة أخرى:الأمر العبادي يقتضي وقوع الفعل بوجه عبادي من جهة قصده،لا وقوعه بوجه عبادي و لو بقصد أمر غيره،و المفروض حيث كان في المقام أن الأوامر الواقعية بالعبادات عبادية،فلا بد من قصدها،و لا يكفى قصد غيرها،

ص: 243

كون هذا الفعل مما شك في كونها عبادة و لم يأت به بداعي احتمال المطلوبية، و لو أريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي و هو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية،لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلا مع التقييد (1) بإتيانه بداعي الاحتمال حتى يصدق عليه عنوان الاحتياط،مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه (2) .

فعلم:أن المقصود (3) إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نية الداعي.

كأوامر الاحتياط و نحوها.

(1)لأن الأوامر المذكورة تجعله معلوم العبادية بناء على ما تقدم منه قدس سرّه.

و عرفت الإشكال فيه.

(2)بناء على ما عرفت من أن أوامر الاحتياط إرشادية لا يصح الفتوى بالاستحباب حتى مع التقييد المذكور،لعدم نهوضها بالاستحباب الشرعي حينئذ بل يتعين الإتيان بها برجاء المطلوبية الشرعية من أجل حكم العقل برجحان الاحتياط لا غير.

(3)لعله لبنائهم على قاعدة التسامح في أدلة السنن التي سيأتي الكلام فيها و لولاها لم يكن للفتوى بالاستحباب وجه أصلا.

يعني:من أوامر الاحتياط.لكن عرفت الإشكال في ذلك.بل عرفت ظهور الأوامر المذكورة في الإلزام،فتختص بالشبهات المنجزة،و لا تجري في المقام.

ص: 244

قاعدة التسامح في أدلة السنن
اشارة

ثم إن منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا،فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط و كلفة إثبات أن الأمر فيها للاستحباب الشرعي دون الإرشاد العقلي،لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه الثواب:

الاستدلال على القاعدة ب(أخبار من بلغ)

كصحيحة هشام بن سالم-المحكية عن المحاسن-عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:«من بلغه عن النبي شيء من الثواب فعمله،كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يقله».

و عن البحار بعد ذكرها:أن هذا الخبر من المشهورات،رواه العامة و الخاصة بأسانيد.

و الظاهر:أن المراد من(شيء من الثواب)-بقرينة ضمير(فعمله)، و إضافة الأجر إليه-هو الفعل المشتمل على الثواب (1) .

و في عدة الداعي عن الكليني قدس سرّه:أنه روى بطرقه عن الأئمة عليهم السّلام أنه:«من بلغه شيء من الخير فعمل به،كان له من الثواب ما بلغه و إن لم (1)و ربما يحمل على نفس الثواب بمعناه الحقيقي،و يحمل الضمير على الاستخدام.

ص: 245

يكن الأمر كما بلغه» (1) .

و أرسل نحوه السيد في الإقبال عن الصادق عليه السّلام،إلا أن فيه:«كان له ذلك».

ما يورد على الاستدلال

و الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة (2) ،إلا أن ما ذكرناها أوضح دلالة على ما نحن فيه،و إن كان يورد عليه أيضا (3) :

تارة:بأن ثبوت الأجر لا يدل على الاستحباب الشرعي (4) .

و أخرى:بما تقدم في أوامر الاحتياط:من أن قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار (5) ،فلا يجوز أن تكون هي المصححة (1)ذكر في الكافي في كتاب الإيمان و الكفر في الباب السادس و الأربعين، روايتين:

الأولى:صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:«من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له و إن لم يكن على ما بلغه».

الثانية:رواية محمد بن مروان:«سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك التماس ذلك الثواب أوتيه و إن لم يكن الحديث كما بلغه».

(2)فقد ذكر في الوسائل في الباب الثامن عشر من أبواب مقدمة العبادات سبعة أحاديث دالة على المطلوب.

(3)يعني:على ما سبق منه قدس سرّه في قوله:«ثم إن منشأ احتمال الوجوب».

(4)لإمكان ثبوت الثواب بدونه،كما تقدم في الانقياد أو لمحض التفضل.

(5)لأن هذه الأخبار قد تضمنت الأمر بالإتيان بالفعل الذي بلغ عليه الثواب،فإذا فرض كونه عبادة قد اعتبر فيه قصد القربة تعين اختصاص هذه الأخبار بالواجد للقصد المذكور مع قطع النظر عنها.

ص: 246

لفعله (1) ،فيختص موردها بصورة تحقق الاستحباب (2) ،و كون البالغ هو الثواب الخاص،فهو المتسامح فيه دون أصل شرعية الفعل.

و ثالثة:بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض،لا العقاب محضا أو مع الثواب (3) .

لكن يردّ هذا:منع الظهور مع إطلاق الخبر (4) .

و يردّ ما قبله ما تقدم في أوامر الاحتياط (5) .

(1)بأن تكون هي المنشأ للتقرب،بل لا بد من تحقق التقرب مع قطع النظر عنها.

(2)ليتسنى قصد القربة بناء على توقفه على العلم بالأمر.

(3)فتخرج الأخبار الظاهرة في الوجوب-كما هو محل الكلام-لأنها تدل على العقاب بالترك فقط أو مع الثواب على الفعل،و لا تتمحض في الدلالة على الثواب،بخلاف الأخبار الظاهرة في الاستحباب،فإنها متمحضة في نقل الثواب.

(4)لا يخفى أن الإطلاق و إن شمل ما إذا كان الخبر دالا على العقاب و الثواب معا إلا أنه لا يشمل ما إذا كان دالا على العقاب محضا،نعم الخبر الدال على الوجوب و إن كان مدلوله المطابقي قد يختص ببيان العقاب على الترك،إلا أنه يدل على ترتب الثواب على الفعل بالالتزام،بناء على ما هو المفروغ عند تبينهم ظاهرا من ترتب الثواب على الفرائض إذا أتي بها بداعي الامتثال،و تشهد به بعض النصوص في الجملة و مثل ذلك كاف في صدق البلوغ،الذي هو موضوع هذه الأخبار.

(5)يعني:من أن المراد به خصوص الذات مع قطع النظر عن قصد القربة لا خصوص المقيد بها،قياسا على الأوامر الشرعية بالعبادات.لكن عرفت الإشكال فيه،و ما ذكرناه هناك جار هنا،لأن الثواب لا يترتب على الذات مطلقا،بل على خصوص ما قصد به القربة.

ص: 247

نعم الأخبار المذكورة صريحة في ترتب الثواب مع الاحتمال لا مكان إصابة الواقع به،و حيث لا مجال لتخصيصها بالتوصليات بعد كون العبادات أظهر أفراد الخير الذي يرد عليه الثواب،كانت كاشفة عن أنه يكفي في التقرب المعتبر في العبادة الإتيان بالفعل برجاء المطلوبية،فيشرع الاحتياط فيها لذلك،لا لكون الأخبار المذكورة صالحة لتشريع الفعل،كما يظهر منه قدس سرّه مع أن قصد التقرب كما يعتبر في صحة العبادات يعتبر في ترتب الثواب على الأمور التوصلية،فكما تدل هذه الأخبار على كفاية الاحتمال في ترتب الثواب في التوصليات تدل على كفايته في تحقيق ما هو المعتبر في العبادة،لعدم الفرق بينهما ظاهرا.فتأمل.

و من هنا لا ملزم بالحمل على خصوص ما إذا علمت مشروعية الفعل و كان البلوغ لخصوص مرتبة الثواب.

نعم قد يدعى قصور هذه الأخبار عن إفادة الإطلاق المذكور،لظهور التعبير بمثل:«شيء من الثواب»في كون الواصل ليس هو أصل الثواب،بل خصوصية منه كما هو مفاد النكرة فإنها تقتضي الفرد الشائع،لا أصل الماهية،و إلا كان المناسب أن يقول:من بلغه ترتب الثواب على عمل،و مع وصول أصل التشريع مع عدم التعرض لخصوصية في الثواب،لا يصدق أنه وصل شيء من الثواب بل ترتب أصل الثواب.

لكن هذا-مع ابتنائه على عدم تمامية ما سبق من المصنف قدس سرّه من أن المراد من شيء من الثواب،نفس العمل الذي عليه الثواب-خلاف ظاهر بعض نصوص المقام،كقوله عليه السّلام في رواية محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المروية في الوسائل:

«ففعل ذلك طلب قول للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم...»لظهوره في أن الداعي إلى الفعل ليس لخصوصية الثواب،بل الرغبة في إصابة قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و طلب سنته،فهو ظاهر في الشك في تحقق الأمر و السنة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا في العلم به.مع أن إطلاق هذه الروايات

ص: 248

شامل لما إذا كان البلوغ لخصوصية الثواب و مرتبة منه مع عدم العلم بثبوت أصله، و لا وجه لتقييدها بثبوت أصل الثواب و المفروغية عنه،و حينئذ فالفرق بينهما و بين ما إذا كان الواصل ثبوت أصل الثواب من دون تعرض لمرتبته بعيد جدا.

و لا سيما مع وضوح ورود الروايات مورد الامتنان و الحث على فعل الخير و التأسي بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و طلب قوله،و من الظاهر أن التحديد بالمرتبة الواصلة مع كون أصل الثواب مفروغا عنه لا يكون امتنانيا دائما،إذ قد يكون الواصل أقل مرتبة من الثواب المجعول للعمل،فالظاهر أن الامتنان بلحاظ ترتب الثواب مع عدم ثبوته واقعا للفعل.فتأمل.

ثم إنه قد يدعى لزوم حمل الروايات على خصوص صورة العلم بأصل الثواب و بلوغ مرتبة بعينها بقرينة ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من قوله:«لا قول إلا بعمل،و لا قول و لا عمل إلا بنية،و لا قول و لا عمل و لا نية إلا باصابة السنة»كما في هامش الكافي المطبوع جديدا.

و كأنه لدعوى ظهوره في عدم ترتب الثواب و عدم حسن العمل مع كون الشيء مسنونا واقعا،و مع عدمه لا ثواب للعمل و لا يكون العمل حسنا.و يندفع بأن الظاهر منه النهي عن الأخذ بالبدع و الاجتهادات غير المبنية على السنة أو المخالفة لها،فلا يعم الإتيان بالفعل برجاء إدراك السنة.كيف و هو ظاهر في النهي عن العمل بغير السنة،و لا إشكال في رجحان الانقياد و الاحتياط.بل مقتضاه عدم ترتب الثواب مع قيام الحجة لو فرض خطؤها،بل عدم حسن الفعل حينئذ،و هو مما لا مجال للالتزام به.فلعل الأولى أن يقال:إن مقتضى الأخبار التي هي محل الكلام أن العمل برجاء إدراك السنة من السنة،فتكون واردة على الخبر المذكور،لا مخصصة به.فتأمل جيدا و اللّه سبحانه و تعالى العالم.

ص: 249

و أما الإيراد الأول،فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه،لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ و كونه الداعي على العمل-و يؤيده:تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و التماس الثواب الموعود،و من المعلوم أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح و الثواب،و حينئذ:

فإن كان الثابت بهذه الأخبار أصل الثواب،كانت مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق (1) ،و أما طلب الشارع لهذا الفعل:

دلالة(أخبار من بلغ)على الأمر الإرشادي

فإن كان على وجه الإرشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود فهو لازم للاستحقاق المذكور (2) ،و هو عين الأمر بالاحتياط.

و إن كان على وجه الطلب الشرعي المعبر عنه بالاستحباب،فهو غير لازم للحكم بتنجز الثواب (3) ،لأن هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجزه فيشبه قوله تعالى: و من يطع اللّه و رسوله يدخله جنات تجري .

إلا أن هذا وعد على الإطاعة الحقيقة،و ما نحن فيه وعد على الإطاعة الحكمية،و هو الفعل الذي يعد معه العبد في حكم المطيع،فهو (1)تقدم الإشكال في استحقاق الثواب عقلا بالانقياد مع عدم إصابة الواقع، خصوصا الثواب المجعول على الواقع،فلا يتمحض مفاد الأخبار في تأكيد حكم العقل بحسن الانقياد.نعم مجرد الحكم بترتب الثواب لا يستلزم الأمر المولوي،بل غاية ما يدل عليه هو الحث على العمل و لا طريق لا ثبات أن الحث المذكور لملاك آخر غير ملاك حكم العقل بحسن الاحتياط،ليكشف عن الأمر المولوي.

(2)يعني:الذي يحكم به العقل.

(3)يعني:ليكون الحكم بتنجز الثواب دليلا عليه.

ص: 250

من باب وعد الثواب على نية الخير (1) التي يعد معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد.

و أما ما يتوهم:من أن استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه نظير استفادة الاستحباب الشرعي من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل،مثل قوله عليه السّلام:«من سرح لحيته فله كذا».

فمدفوع:بأن الاستفادة هناك باعتبار أن ترتب الثواب لا يكون إلا مع الإطاعة حقيقة أو حكما،فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل (2) ،فهي تكشف عن تعلق الأمر بها من الشارع،فالثواب هناك لازم للأمر يستدل به عليه استدلالا إنيا (3) .

و مثل ذلك استفادة الوجوب و التحريم مما اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل.

و أما الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الإطاعة (1)لم يتضح حكم العقل باستحقاق الثواب بنية الخير.و الكلام فيها كما سبق في الانقياد.

(2)فيكون الإخبار بالثواب لبيان أن الفعل مأمور به من باب الكفاية عن الملزوم باللازم،لفرض عدم المصحح له سوى ذلك.و أما احتمال إلا طاعة الحكمية فلا مجال له بعد توقفها على احتمال الأمر،و ليس بيانه من وظيفة الشارع.

(3)و هو الاستدلال بالمعلول على العلة،و يقابله الاستدلال اللمي،و هو الاستدلال بالعلة على المعلول.و العلة في المقام هي تحقق إلا طاعة المبنية على صدور الأمر،و المعلول هو الثواب.

ص: 251

الحكمية (1) ،فهو لازم لنفس عمله المتفرع على السماع و احتمال الصدق و لو لم يرد به أمر آخر أصلا،فلا يدل على طلب شرعي آخر له.نعم،يلزم من الوعد على الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود.

فالغرض من هذه الأوامر-كأوامر الاحتياط-تأييد حكم العقل، و الترغيب في تحصيل ما وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.

و إن كان (2) الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها (3) ،فهو و إن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل-بناء على أن العقل لا يحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلى الفعل،بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرد احتمال الأمر ثوابا (4) و إن كان نوعا من الجزاء و العوض،إلا أن مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع،و هو أيضا ليس لازما لأمر شرعي هو الموجب لهذا الثواب،بل هو نظير قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (5) ملزوم لأمر (1)بناء على أن الإطاعة الحكمية تقتضي عقلا استحقاق الثواب.و قد سبق الكلام في ذلك.

(2)عطف على قوله:«فان كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب...».

(3)بل هو ظاهر كل ما عثرت عليه من أخبار الباب.فراجع الوسائل الباب الثامن عشر من أبواب مقدمة العبادات،و حاشية بعض أعاظم المحشين قدس سرّه.

(4)كما تقدم منه قدس سرّه في أوائل هذا التنبيه،و تقدم الإشكال فيه.

(5)في كونه بيانا لمقدار الثواب المستحق من دون أن يكشف عن منشأ

ص: 252

إرشادي-يستقل به العقل-بتحصيل ذلك (1) الثواب المضاعف.

و الحاصل:أنه كان ينبغي للمتوهم أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نية الخير،لا على ما ورد من الثواب في بيان المستحبات.

الثمرة بين الأمر الإرشادي و الاستحباب الشرعي

ثم إن الثمرة بين ما ذكرنا و بين الاستحباب الشرعي تظهر في ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبات الشرعية،مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعا،فإن مجرد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجب إلا استحقاق الثواب عليه،و لا يترتب عليه رفع الحدث (2) ، فتأمل (3) .و كذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء للاستحقاق زائد على منشأ استحقاق أصل الثواب.

(1)متعلق بقوله:«لأمر إرشادي».لكن الظاهر أن ذلك لا يوجب أمرا إرشاديا غير الأمر بتحصيل أصل الثواب،بل هو موجب لتحديد مرتبة داعوية الأمر المذكور.

(2)يعني:لا طريق للجزم بترتب رفع الحدث عليه،بل هو تابع لتشريعه واقعا.

(3)لعله إشارة إلى عدم ترتب الثمرة المذكورة بناء على أن الوضوء دائما للكون على الطهارة،و هو دائما راجح شرعا.و الأمر به في الموارد الخاصة-كالوضوء للنوم و نحوه-مبني على الخصوصية،و تعدد المطلوب فلو فرض عدم بغية ورد الأمر بالخصوصية واقعا فأتت الخصوصية مع بقاء أصل المشروعية بمقتضى عموم مشروعية الكون على الطهارة.

نعم لو جيء به مع التقييد بالخصوصية بحيث لا يقصد الامتثال بدونها تعين عدم إحراز ترتيب الأثر،لعدم إحراز الخصوصية بناء على عدم وفاء أخبار المقام باثبات استحباب ما بلغ عليه الثواب.فتأمل جيدا.

ص: 253

من باب مجرد الاحتياط،لا يسوغ جواز المسح ببلله،بل يحتمل قويا أن يمنع من المسح ببلله و إن قلنا بصيرورته مستحبا شرعيا (1) ،فافهم.

(1)يعني:بسبب أخبار«من بلغه ثواب...»و كأنه لظهور أدلة جواز أخذ البلل و المسح به في جواز أخذه من مواضع الوضوء الأصلية،لا مما يستحب غسله بعنوان ثانوي،مثل كونه مما بلغ عليه الثواب.

لكن الإنصاف أن عدم التنبيه في نصوص أخذ البلل من اللحية على خصوص ما دخل في الحد مع غفلة العرف عن التحديد به موجب لظهور النصوص في إطلاق جواز الأخذ بنحو يشمل المسترسل و إن لم يثبت استحباب غسله حتى بعنوان ثانوي.

و لعل قوله«فافهم»إشارة إلى ذلك.ثم إن تحقيق الثمرة يحتاج إلى كلام طويل لا يسعه المقام.و نكتفي بما ذكره المصنف قدس سرّه.

ص: 254

الثالث
اشارة

[اختصاص أدلة البراءة بالشك في الوجوب التعييني]

أن الظاهر اختصاص أدلة البراءة بصورة الشك في الوجوب التعييني،سواء كان أصليا أو عرضيا كالواجب المخير المتعين لأجل الانحصار (1) ،أما لو شك في الوجوب التخييري و الإباحة (2) فلا تجري فيه أدلة البراءة،لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف بحيث يلتزم به و يعاقب عليه (3) .

(1)كما لو ترددت الكفارة المعلوم أو المحتمل وجوبها بين خصوص العتق و أن تكون مخيرة بينه و بين الصيام و كان عاجزا عن العتق قادرا على الصيام.

(2)كما لو كان قادرا على جميع خصال الكفارة الثلاث و ترددت الكفارة الواجبة بين المخيرة و المرتبة،فيقع الكلام في أنه هل تجري البراءة لنفي وجوب المرتبة الاخيرة-كإطعام ستين مسكينا-تخييرا،فلا يجتزأ بها؟.

(3)كما هو مقتضي الرفع و السعة و الوضع و نفي العقاب و الحل و غيرها مما اشتملت عليه أدلة البراءة.و لا سيما مع ظهور ورودها في مقام التخفيف و الامتنان، فلا تشمل مثل المقام لأن رفع الوجوب التخييري مستلزم للضيق،إذ لا أثر له إلا عدم الاجتزاء بها في مقام الامتثال،و لزوم الاقتصار على بقية الأطراف و هو ضيق على المكلف.

ص: 255

و في جريان أصالة عدم الوجوب (1) تفصيل:

لأنه إن كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك (2) بينه و بين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص،فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب، إذ ليس هنا إلا وجوب واحد مردد بين الكلي و الفرد (3) ،فتعين هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب (4) بفعل هذا المشكوك (5) .

(1)يعني:استصحاب عدم وجوبه التخييري.

(2)الدوران بين الوجوب التخييري و الإباحة تارة:يكون مع وجود قدر جامع عرفي بين الأطراف،كما لو دار الأمر بين وجوب عتق مطلق الرقبة و وجوب عتق خصوص المؤمنة،فالرقبة غير المؤمنة تكون مرددة بين الوجوب التخييري و الإباحة،أما المؤمنة فهي مرددة بين الوجوب التعييني و التخييري.

و أخرى:يكون مع عدم الجامع العرفي،كما في خصال الكفارة المعروفة لو دار الأمر بين كون الكفارة مخيرة و كونها مرتبة.

و التخيير في الأول عقلي،و في الثاني شرعي.و ظاهر كلام المصنف قدس سرّه هذا الإشارة إلى القسم الأول،و ظاهر قوله فيما بعد:«و أما إذا كان الشك في ايجابه بالخصوص...»الإشارة إلى الثاني لكن يأتي منه التعرض للقسمين معا في آخر الكلام في الأقل و الأكثر الارتباطيين عند الكلام في الشك في قيد المأمور به.و ظاهره هناك خلاف ما ذكره هنا.فراجع.

(3)فأصالة عدم وجوب الفرد الآخر بخصوصه-كالمؤمنة-معارضة بأصالة عدم وجوب الكلي.إلا أن يستشكل في جريان الثاني،للعلم بوجوب الكلي في الجملة إما مطلقا أو مقيدا.و تمام الكلام في مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين.

(4)كالرقبة المؤمنة المرددة بين الوجوب التعييني و التخييري.

(5)و مرجع ذلك إلى أصالة الاشتغال،التي هي عبارة عن أن الاشتغال

ص: 256

و أما إذا كان الشك في وجوبه بالخصوص (1) ،جرى أصالة عدم الوجوب (2) و أصالة عدم لازمه الوضعي،و هو سقوط الواجب المعلوم به إذا شك في إسقاطه له،أما إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم، و شك في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه -نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم-فلا مجرى للأصل إلا بالنسبة اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.لكن الفرد المتيقن الوجوب-كالرقبة المؤمنة-إنما يحرز الاشتغال به بخصوصه إذا كان وجوبه تعيينا و هو أول الكلام،إذ لو كان وجوبه تخييريا فلا يحرز الاشتغال إلا بالكلي الحاصل به و بالفرد المشكوك،فالشك في الحقيقة في كيفية الاشتغال،لا في الفراغ بعد اليقين بالاشتغال.و من ثم فقد يتمسك بالبراءة من وجوب الخصوصية الزائدة الملازم للتعيين.و تمام الكلام في مسألة الأقل و الأكثر الارتباطيين.

(1)بحيث لو فرض كون الوجوب تخييريا يكون كل طرف واجبا بخصوصيته لا بلحاظ القدر الجامع بينه و بين بقية الأفراد،لفرض عدم الجامع العرفي الصالح لأن يجعل موردا للتكليف،و هو مورد التخيير الشرعي،كما تقدم.

(2)لأن وجوبه تخييرا أمر حادث مسبوق بالعدم و لو بلحاظ ما قبل الشريعة.لكن هذا مبني على أن الوجوب التخييري سنخ آخر غير سنخ الوجوب التعييني،متعلق بكل طرف بخصوصه أما بناء أنهما سنخ واحد،و أن الوجوب أن تعلق بالشيء بخصوصه كان تعيينيا،و إن تعلق بأحد الشيئين أو الأكثر كان تخييريا، فليس في المقام إلا وجوب واحد مردد بين الحالين،و لا أصل يحرز أحد الوجهين، بل يتعين البناء على تساقط الأصول و عدم جريان الاستصحاب في المقام.و عليه يتعين الرجوع للبراءة من وجوب خصوصية الملازم للتعيين،أو لقاعدة الاشتغال المقتضية للفراغ،عن التكليف المتيقن بالإتيان بما يوجب اليقين بسقوطه،على ما سبق في القسم الأول.

ص: 257

إلى طلبه (1) ،و تجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض تعذر ذلك الواجب الآخر (2) .

هل يجب الائتمام على من عجز عن القراءة و تعلمها؟

و ربما يتخيل من هذا القبيل:ما لو شك في وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة و تعلمها،بناء على رجوع المسألة إلى الشك في كون الائتمام مستحبا مسقطا أو واجبا مخيرا بينه و بين الصلاة مع القراءة،فيدفع وجوبه (3) التخييري (4) بالأصل.

لكن الظاهر أن المسألة ليست من هذا القبيل،لأن صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة،فتتصف بالوجوب لا محالة،و اتصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب،فيختص بما إذا تمكن المكلف من غيره، فإذا عجز تعين و خرج عن الاستحباب (5) ،كما إذا منعه مانع آخر عن (1)يعني:فيبني على عدم وجوبه-على ما تقدم و تقدم الكلام فيه-و أما سقوط التكليف به فبعد فرض كونه معلوما لا مجال لجريان الأصل فيه.

(2)لما فيه من الضيق،فيكون رفعه مبنيا على السعة و مناسبا للامتنان و مشمولا لأدلة البراءة.

(3)يعني:وجوب الائتمام.

(4)يعني بالأصل،و إلا فهو بسبب العجز عن القراءة يحتمل وجوبه تعيينا.

(5)لا يخرج بذلك عن الاستحباب الثابت له قبل العجز الذي هو بمعني كونه أفضل الأفراد.

نعم يتعين بسبب العجز عن غيره من أفراد الواجب.ثم إن ما ذكره قدس سرّه أن الائتمام أحد فردي الواجب فيتعين عند تعذر الصلاة فرادى و إن كان مسلما،بل لا ينبغي الإشكال فيه،إلا أنه لا ينافي كون المسألة نظيرا لما نحن فيه.و ذلك لأن،

ص: 258

الصلاة منفردا (1) .

لكن يمكن منع تحقق العجز (2) فيما نحن فيه،فإنه يتمكن من الصلاة منفردا بلا قراءة،لسقوطها عنه بالتعذر كسقوطها بالائتمام،فتعيين أحد المسقطين يحتاج إلى دليل (3) .

قال فخر المحققين في الايضاح في شرح قول والده قدس سرّهما:و الأقرب وجوب الائتمام على الأمي العاجز (4) :

و وجه القرب تمكنه من صلاة صحيحة القراءة.

سقوط القراءة عن المأموم إن كان من باب تنزيل قراءة الإمام منزلة قراءته و إجزائها عنها بحيث تكون صلاة الجماعة واحدة القراءة تنزيلا تعين وجوبها عند تعذر صلاة الفرادى التامة،للتمكن معها من الصلاة التامة،فلا وجه لاختيار صلاة الفرادى الناقصة و إن لم يكن كذلك بل كان من باب محض سقوط القراءة عن المأموم فلا وجه لوجوب الائتمام،لأن التعذر أيضا مسقط للقراءة في الفرادى،فلا وجه لترجيح الائتمام عليها كما سيأتي من المصنف قدس سرّه.

اللهمّ إلا أن يكون الوجه في ترجح الائتمام أن سقوط القراءة في الفرادى اضطراري مع فوت الملاك،و في الائتمام اختياري كاشف عن ارتفاع الملاك،و إلا لم يجز الائتمام مع التمكن من صلاة الفرادى التامة و ذلك كان في الترجيح.بل لا يصدق الاضطرار مع التمكن من الفرد الاختياري.نعم قد يستفاد من إطلاق بعض النصوص وجوب الائتمام حينئذ كما سيأتي و تمام الكلام في الفقه.

(1)حيث أنه لا إشكال ظاهرا في وجوب الائتمام لأنه أحد فردي التخيير.

(2)يعني:عن الصلاة فرادى.

(3)عرفت ما يقتضي تعيين الائتمام لو لا النصوص الخاصة.

(4)مبدأ كلام فخر المحققين قدس سرّه.

ص: 259

و يحتمل عدمه،لعموم نصين:أحدهما:الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكن من التعلم (1) .و الثاني:ندبية الجماعة (2) .

و الأول أقوى،لأنه (3) يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعين عند الضرورة،لأن كل بدل اختياري يجب عينا عند تعذر مبدله (4) ،و قد بين (1)كخبر مسعدة:«سمعت جعفر بن محمد عليه السّلام يقول:إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح،و كذلك الأخرس في القراءة في الصلاة و التشهد و ما أشبه ذلك،فهذا بمنزلة العجم،و المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح».

و خبر السكوني عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم:«إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن...فترفعه الملائكة على عربيته».

و النبوي:«سين بلال شين عند اللّه تعالى».

و صحيح عبد اللّه بن سنان:«قال ابو عبد اللّه عليه السّلام:إن اللّه فرض من الصلاة الركوع و السجود أ لا ترى لو أن رجلا دخل في الإسلام لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبر و يسبح و يصلي»فإن إطلاقها شامل لما لو تمكن من الائتمام و حملها على خصوص من تعذر عليه الائتمام بعيد جدا،بل لا يناسب النبويين،لظهورهما في أن سقوط القراءة الصحيحة ملاكي بمعني أن الناقص في ظرف العجز واف بالملاك.بل لعل ذلك مقتضى السيرة العملية و الارتكازية،و إلا لزم الهرج و المرج -كثيرا-في حق من لا يحسن القراءة الفصيحة.و بهذا يخرج عن مقتضي الأصل الأولي المقتضي لتعين الائتمام كما أشرنا إليه.

(2)يعني:فلا تكون واجبة.و هذا إشارة إلى ما ذكره المصنف قدس سرّه من الوجه، و ذكر الإشكال فيه.

(3)يعني:الائتمام.

(4)إشارة إلى ما ذكرناه في وجه ابتناء المسألة على ما نحن فيه.و عرفت

ص: 260

ذلك في الأصول.

و يحتمل العدم،لأن قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم،و التعذر أيضا مسقط،فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر،إذ التقدير أن كلا منهما سبب تام.و المنشأ:أن (1) قراءة الإمام بدل أو مسقط؟انتهى.

و المسألة محتاجة إلى التأمل.

الشك في الوجوب الكفائي

ثم إن الكلام في الشك في الوجوب الكفائي-كوجوب رد السلام على المصلي إذا سلم على جماعة و هو منهم-يظهر مما ذكرنا (2) ،فافهم.

الإشكال فيه.

(1)لكن عرفت أنها حتى لو كانت مسقطه فالائتمام هو المتعين لو لا النصوص المتقدمة.

(2)فإن الظاهر جريان أصل البراءة منه في حق الشخص الشاك فيه،لأن تكليفه به و إن كان كفائيا موجب للضيق عليه.

نعم لو دار الأمر بين كون تكليفه به تعيينا فلا يجزئ عنه فعل غيره و كونه كفائيا فيجزئ عنه فعل غيره فالظاهر الثاني بناء على الرجوع للبراءة مع الشك في قيد المأمور به،لرجوعه إليه بناء على ما هو الظاهر في حقيقة الواجب الكفائي من أن المكلف به جميع الأفراد هو الماهية بنحو صرف الوجود الحاصل،بفعل كل منهم، في مقابل العيني الراجع لتكليف كل منهم بفعل يختص به.حيث يشك حينئذ في أن الواجب على المكلف هو الماهية المطلقة الحاصلة بفعل غيره،و فرد منها يختص به و الأصل البراءة من القيد المذكور.

ص: 261

المسألة الثانية

فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ

كما إذا قلنا باشتراك لفظ(الأمر)بين الوجوب و الاستحباب أو الإباحة.

و المعروف هنا عدم وجوب الاحتياط،و قد تقدم عن المحدث العاملي في الوسائل:أنه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في الوجوب، و يشمله أيضا معقد إجماع المعارج (1) .

لكن تقدم من المعارج-أيضا-عند ذكر الخلاف في وجوب الاحتياط وجود القائل بوجوبه هنا،و قد صرح صاحب الحدائق-تبعا للمحدث الاسترآبادي-بوجوب التوقف و الاحتياط هنا،قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقف:

إن من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.

و فيه:

(1)كأنه يشير بذلك إلى ما حكاه عن المعارج من إطباق العلماء على البراءة.

و قد تقدم منه حكاية ذلك عنه في الوجه الأول لتقرير الإجماع على البراءة في المسألة الأولى من المطلب الأول.

ص: 262

أولا:منع جواز الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية.

و ثانيا:أن مرجع ذلك إلى أن اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة،و من المعلوم أن أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح و الحكم الخفية.

و لا يمكن أن يقال:إن مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية،فإنه رجم بالغيب و جرأة بلا ريب،انتهى.

و فيه ما لا يخفى،فإن القائل بالبراءة الأصلية إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجع ذلك إلى دعوى كون حكم اللّه هو الاستحباب،فضلا عن تعليل ذلك بالبراءة الأصلية (1) .

و إن رجع إليها بدعوى حصول الظن فحديث تبعية الأحكام للمصالح و عدم تبعيتها-كما عليه الأشاعرة،أجنبي عن ذلك،إذ الواجب عليه (2) إقامة الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم اللّه الواقعي، (1)تقدم نظير هذا في المسألة الأولى في رد كلام الاسترآبادي.نعم قد يدعى عدم توجه ذلك على المحدث البحراني قدس سرّه،لأنه في مقام رد القول بترجح الاستحباب بأصل البراءة،و من الظاهر أن ترجح احتمال الاستحباب بأصل البراءة موقوف على ما ذكره المحدث المذكور،و ردّه،بخلاف ما ذكره الاسترآبادي في المسألة الأولى، حيث أنه ذكر ذلك لرد القول بالبراءة.

إلا أن يكون مراد القائل بترجح الاستحباب ليس هو ترجحه واقعا بل ظاهرا،بمعنى أن أصل الطلب واقعا يثبت بالدليل المفروض إجماله و تردده بين الوجوب و الاستحباب،و عدم المنع من الترك ظاهرا يثبت بالأصل.و عليه يكون أصل البراءة دليلا ظاهريا على عدم الوجوب،لا مرجحا لاحتمال الاستحباب واقعا،فيتم ما ذكره المصنف قدس سرّه.

(2)يعني:على القائل بالبراءة لأجل الظن المذكور.

ص: 263

الصادر عن المصلحة أولا عنها على الخلاف.

و بالجملة:فلا أرى وجها للفرق بين ما لا نص فيه و بين ما أجمل فيه النص،سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظن،حتى لو جعل مناط الظن عموم البلوى (1) ،فإن عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظن بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور، و إلا لنقل مع توفر الدواعي (2) ،بخلاف الاستحباب،لعدم توفر الدواعي على نقله.

ثم إن ما ذكرنا من حسن الاحتياط جار هنا،و الكلام في استحبابه شرعا كما تقدم.نعم،الأخبار المتقدمة في من بلغه الثواب لا يجري هنا،لأن الأمر لو دار بين الوجوب و الإباحة لم يدخل في مواردها،لأن المفروض احتمال الإباحة فلا يعلم بلوغ الثواب (3) .و كذا لو دار بين الوجوب (1)الذي تقدم في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الاولى من المطلب الأول أن عموم البلوى قد ينفع من حيث إفادته القطع بعدم التكليف لا الظن.فراجع.

(2)للاهتمام بنقل دليل الوجوب لاستتباعه العقاب بخلاف الاستحباب، حيث قد يهمل التعرض لدليله،كما قد يكتفى فيه بالاحتمال لرجاء إدراك الثواب.

(3)بل يعلم بعدمه.لأن البلوغ موقوف على تمامية دلالة الدليل و لا يتم مع إجماله.نعم يحتمل ترتب الثواب واقعا من باب احتمال كون الفعل طاعة واقعا ثم إن هذا المعنى لا يفرق فيه بين عدم النص المعتبر و إجماله،إذ مع عدم النص بنفسه لا يقتضي بلوغ الثواب،و انما يتوقف بلوغ الثواب معه على وجود نص تام الدلالة و لو كان غير معتبر،و معه يصدق البلوغ مع إجمال النص المعتبر أيضا،و بالجملة:

عدم النص المعتبر كإجماله لا يصدق معه بلوغ الثواب إلا بضميمة نص تام الدلالة غير معتبر،فما يظهر من المصنف قدس سرّه من الفرق بين هذه المسألة و ما قبلها في ذلك غير

ص: 264

و الكراهة (1) .و لو دار بين الوجوب و الاستحباب لم يحتج إليها (2) ،و اللّه العالم.

ظاهر.

(1)رجحان الاحتياط هنا مبني على أولوية احتمال الوجوب من احتمال الكراهة في حسن الاحتياط،و هو مبني على أن أهمية الملاك تقتضي ترجيح الاحتياط عند التزاحم.و قد تقدم الكلام فيه في التنبيه الثالث من تنبيهات المسألة الرابعة من مسائل المطلب الأول.

(2)للعلم بمشروعية الفعل و ترتب الثواب عليه.كما أنه لو دار الأمر بين عموم الأمر للمورد و قصوره عنه لم يجز موضوعها،و هو بلوغ الثواب،كما لو ورد الأمر باكرام علماء البلد العدول و شك في صدق العادل على مرتكب الصغيرة دون الكبيرة،حين لا يحرز بلوغ الثواب بإكرامه.

ص: 265

المسألة الثالثة
اشارة

فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصين

و هنا مقامات (1) ،لكن المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقف و الاحتياط.و المعروف عدم وجوبه هنا،و ما تقدم في المسألة الثانية:من نقل الوفاق و الخلاف،آت هنا.

و قد صرح المحدثان المتقدمان (2) بوجوب التوقف و الاحتياط هنا، و لا مدرك له سوى أخبار التوقف،التي قد عرفت (3) ما فيها:من قصور الدلالة على الوجوب في ما نحن فيه.مع أنها أعم مما دل على التوسعة (4) (1)حيث إن الكلام يقع تارة:في وجوب الترجيح و عدمه.و أخرى:في بيان المرجحات.و ثالثة:في أنه على تقدير عدم المرجح أو عدم وجوب الترجيح فهل اللازم البناء على التساقط أو التخيير أو الاحتياط-و يأتي الكلام في جميع ذلك في مبحث التعارض.

(2)و هما الاسترآبادي و البحراني قدس سرّهما.

(3)يعني:في المسألة الأولى من المطلب الأول،كما تقدم نظير هذا منه قدس سرّه في المسألة الثالثة من المطلب المذكور.

(4)ليس المراد به ما دل على التوسعة مطلقا مثل حديث السعة و الحجب،بل ما دل على السعة في خصوص المتعارضين و التخيير بينهما.و منه يظهر الوجه في كونه

ص: 266

و التخيير.

و ما دلّ على التوقف في خصوص المتعارضين (1) و عدم العمل بواحد منهما،مختص-أيضا-بصورة التمكن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السّلام (2) .

الجواب عن مرفوعة زرارة الآمرة بالاحتياط

و أما رواية عوالي اللآلي المتقدمة (3) الآمرة بالاحتياط و إن كانت أخص منها (4) ،إلا أنك قد عرفت ما فيها (5) ،مع إمكان حملها على صورة التمكن من الاستعلام (6) .

أخص من أخبار التوقف،لعمومها لجميع أقسام الشبهة.

(1)كمقبولة ابن حنظلة،فإنها تصلح لمعارضة أخبار التخيير التي أشار إليها.

(2)تقدمت الإشارة منا إلى ذلك في المسألة الثالثة من المطلب الأول.

(3)يعنى:في المسألة الثالثة من المطلب الأول.

(4)يعني:من أخبار التخيير،لعموم أخبار التخيير لصورة كون الخبرين موافقين للاحتياط و كونهما مخالفين له و كونهما مختلفين،و اختصاص المرفوعة بالصورة الأخيرة.و قد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من المطلب الأول.

(5)يعني:من ضعف السند.

(6)قد يوجه ذلك بأن إطلاقات التخيير بعد تخصيصها بالمقبولة الدالة على وجوب التوقف مع إمكان استعلام حكم الواقعة بالرجوع للإمام عليه السّلام لا تبقى حجة على التخيير إلا مع تعذر الاستعلام،فتنقلب النسبة بينها و بين المرفوعة إلى العموم من وجه،لأن المرفوعة تمنع من التخيير مع موافقة أحد الخبرين للاحتياط و تخصصه بصورة موافقتهما له أو مخالفتهما له.و حينئذ يمكن حمل المرفوعة على صورة التمكن من الاستعلام ترجيحا لإطلاق أخبار التخيير.

و فيه-مع توقفه على رجحان أخبار التخيير-:أنه مبني على انقلاب النسبة

ص: 267

و منه (1) يظهر:عدم جواز التمسك هنا بصحيحة ابن الحجاج المتقدمة الواردة في جزاء الصيد،بناء على استظهار شمولها-باعتبار المناط (2) -لما نحن فيه.

مما يدلّ على التخيير في المسألة

و مما يدل على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة:التوقيع المروي في الاحتجاج عن الحميري،حيث كتب إلى الصاحب عجل اللّه فرجه:

«يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة،هل يجب عليه أن يكبر؟فإن بعض أصحابنا قال:لا يجب الذي هو خلاف التحقيق.مع أنه لا مجال لحمل المرفوعة على صورة التمكن من استعلام الواقعة،للحكم فيها بالتخيير مع موافقته للخبرين أو مخالفتهما للاحتياط، و مقتضي إطلاق المقبولة عدم التخيير حينئذ،بل لزوم التوقف مع إمكان استعلام حكم الواقعة مطلقا.فتأمل جيدا.فالإنصاف أن مقتضي الجمع العرفي تخصيص إطلاق أخبار التخيير بالمرفوعة كتخصيصها بالمقبولة لو لا ما ذكره المصنف قدس سرّه من ضعف سند المرفوعة.مضافا إلى قرب كون تخصيص إطلاق أخبار التخيير بما إذا كان الخبران موافقين او مخالفين للاحتياط معا تخصيصا له بالفرد النادر.

(1)يعني:تقدم من الحمل على صورة إمكان الرجوع للإمام عليه السّلام و معرفة حكم الواقعة منه.فإن الصحيحة ظاهرة في إمكان الاستعلام لقوله عليه السّلام:«إذا أصبتم بمثل هذا و لم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا و تعلموا».فتأمل.

(2)فإنها في نفسها ظاهرة في عدم النص،فلا بد في تعميمها لصورة تعارض النصين من فرض تنقيح المناط.لكن الإنصاف أنها حتى لو كانت مطلقة لا تصلح لمعارضة أخبار التخيير،لحكومة أخبار التخيير عليها،بلحاظ ظهورها في تعيين الحجة من الخبرين الذي هو بمنزلة العلم الرافع لموضوع الاحتياط في الصحيحة.

ص: 268

عليه تكبيرة،و يجوز أن يقول بحول اللّه و قوته أقوم و أقعد.

الجواب:في ذلك حديثان،أما أحدهما،فإنه إذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير،و أما الحديث الآخر،فإنه روي:أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية و كبر ثم جلس ثم قام،فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير،و التشهد الأول يجري هذا المجرى،و بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا...الخبر».

فإن الحديث الثاني (1) و إن كان أخص من الأول (2) ،و كان اللازم تخصيص الأول به و الحكم بعدم وجوب التكبير،إلا أن جوابه صلوات اللّه و سلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدل على أن الحديث الأول نقله الإمام عليه السّلام بالمعنى،و أراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن إرادة ما عدا هذا الفرد منه (3) ،فأجاب عليه السّلام بالتخيير.

(1)و هو ما تضمن عدم التكبير إن قام بعد الجلوس من السجدة الثانية.

(2)و هو ما تضمن التكبير عند الانتقال من حالة إلى أخرى.

(3)يعني:فيستحكم التعارض بين الخبرين و لا يمكن الجمع بينهما بحمل العام على الخاص.لكن لا يبعد حمل الحديث الثاني على إرادة عدم تاكد استحباب التكبير بعد الجلوس من السجدة الثانية لا على نفي مشروعيته ليعارض الخبر الأول فيكون حاصل جواب الامام عليه السّلام في التوقيع أن سقوط التكبير رخصة لا عزيمة فيجوز الأخذ بها و يجوز التكبير لمشروعيته في نفسه لإطلاق ما دل على استحبابه للانتقال من حالة إلى أخرى،و عليه لا يكون المراد من التخيير فيه التخيير في المسألة الأصولية بين الأخبار المستحكمة التعارض،بل التخيير عملا بعد حجية كلا الخبرين للجمع بينهما بما يقتضي الرخصة.

و قد يظهر من بعض الأخبار إرادة هذا المعنى من التخيير.و بهذا يندفع

ص: 269

ثم إن وظيفة الإمام عليه السّلام و إن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعي، إلا أن هذا الجواب لعله تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع (1) ،و ليس فيه الإغراء بالجهل من حيث (2) قصد الوجوب في ما ليس بواجب،و لعله (3) من جهة كفاية قصد القربة في العمل (4) .

الاشكال الآتي من حيث لزوم الاغراء بالجهل.و تمام الكلام في مبحث التعارض.

ثم إن التوقيع أجنبي عما نحن فيه لعدم دوران الأمر في التكبير بين الوجوب و غير الحرمة.إذ لا إشكال في عدم وجوبه،و غاية ما يحتمل استحبابه فالأمر دائر بين الاستحباب و الاباحة بمعنى عدم المشروعية،و المراد من الوجوب في السؤال و الجواب هو الثبوت بمعني المشروعية لا الوجوب بالمصطلح الذي هو أحد الأحكام الخمسة.و عليه لا وجه للاستشهاد به لما نحن فيه.إلا أن يتمسك به بتنقيح المناط.لكنه غير ظاهر.

(1)إذ لو كان واجبا عنده في الواقع لزم تعريضه عليه السّلام للمكلف لفوت الواقع عليه لأنه قد يختار الخبر الدال على عدم الوجوب،فلا يأتي بالتكبير و يفوته ملاكه.

(2)بيان لوجه لزوم الإغراء بالجهل.

(3)تعليل لقوله:«و ليس فيه الإغراء...».

(4)يعني:فإذا أتى المكلف بالتكبير بقصد القربة لا يلزم شيء من المحذور.

لكن كفاية قصد القربة المطلقة لا تمنع من قصد خصوص الوجوب لمن اختار دليله، فيلزم المحذور.إلا أن يدعى أن أهمية تعليم طريق العمل مع التعارض تسوغ الاغراء بالجهل.أو يكون هناك مانع من رفع الجهل في الحكم الواقعي من تقية أو نحوها.

أو يدعى أن الأخذ بالخبر الدال على الوجوب من جهة التخيير لا يقتضي إلا نية الوجوب ظاهرا من جهة التخيير لا نية الوجوب واقعا ليكون محذورا.فتأمل.

ص: 270

و كيف كان:فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئية و عدمه (1) ،ثبت في ما نحن فيه-من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقل-بالإجماع و الأولوية القطعية (2) .

ما ذكره الأصوليون في باب التراجيح

ثم إن جماعة (3) من الأصوليين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل أو المقرر،و حكي عن الأكثر ترجيح الناقل.و ذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب و المفيد للإباحة،و ذهب جماعة إلى ترجيح الأول.

و ذكروا تعارض الخبر المفيد للإباحة و المفيد للحظر،و حكي عن الأكثر-بل الكل-تقديم الحاظر،و لعل هذا كله مع قطع النظر عن الأخبار.

و لعل الأولى في دفع المحذور ما ذكرنا من خروج ذلك عما نحن فيه من التخيير في المسألة الأصولية.

(1)الذي هو مورد التوقيع الشريف و فيه تنبيه إلى أن التوقيع خارج عما نحن فيه من الشك في التكليف الاستقلالي لوروده في الأجزاء الصلاتية التي هي مورد للتكليف الضمني.

(2)لأن شبهة الاحتياط في التكليف الضمني أقوى من شبهته في التكليف المستقل.و لكن عرفت اختصاص التوقيع باحتمال الاستحباب،و لا وجه للاستشهاد به في احتمال الوجوب الذي هو محل الكلام.

(3)تقدم نظير ذلك في المسألة الثالثة من المطلب الأول.

ص: 271

المسألة الرابعة
اشارة

دوران الأمر بين الوجوب و غيره،من جهة الاشتباه

في موضوع الحكم

و الحكم فيه البراءة،و يدل عليه جميع ما تقدم في الشبهة الموضوعية التحريمية:من أدلة البراءة عند الشك في التكليف (1) .

و تقدم فيها-أيضا-:اندفاع توهم أن التكليف إذا تعلق بمفهوم وجب-مقدمة لامتثال التكليف في جميع أفراده-موافقته في كل ما يحتمل أن يكون فردا (2) له.

(1)لا يخفى أن بعض تلك الأدلة مختص بالشبهة التحريمية و لا يعم الشبهة الوجوبية،مثل:«كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه»و نحوه، فالاستدلال به للمقام مبني إما على إرجاع الشبهة الوجوبية للتحريمية،بلحاظ أن وجوب الشيء يقتضي حرمة تركه أو على تنقيح المناط،أو الأولوية أو للإجماع المركب.و الأمر سهل بعد عدم الإشكال ظاهرا في الرجوع للبراءة في المقام و وفاء بقية الأدلة به بلا كلام.

(2)لا يخفى أن الشبهة المذكورة لو تمت فهي لا تقتضي الاحتياط في المقام إلا مع الابتلاء بالتكليف ببعض أفراد العنوان الواجب و انشغال الذمة به مع التردد بين الأقل و الأكثر،كما سيأتي في الشك في عدد الفائتة.دون ما لو شك في الابتلاء بأصل

ص: 272

و من ذلك يعلم:أنه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال (1) في ما إذا ترددت الفائتة بين الأقل و الأكثر،كصلاتين و صلاة واحدة،بناء (2) على أن الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزوم الإتيان بالأكثر من باب المقدمة.

توضيح ذلك-مضافا إلى (3) ما تقدم في الشبهة التحريمية-:أن قوله:«اقض ما فات»يوجب العلم التفصيلي بوجوب قضاء ما علم فوته و هو الأقل،و لا يدل أصلا على وجوب ما شك في فوته (4) و ليس في فعله مقدمة لواجب حتى يجب من باب المقدمة،فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلا وجوب المعلوم فواته،لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم العنوان الواجب،كما لو شك في فوت فريضة عليه،أو في كونه مقصودا بالسلام، فإنه لا يقين بالانشغال بالعنوان حتى يتوهم لزوم إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

فتأمل جيدا.

(1)سيتضح مما يأتي أن المرجع في المقام أصل الاشتغال،لكن لا بالإضافة إلى التكليف بقضاء ما فات،بل بالإضافة إلى التكليف بأصل الواجب المتيقن حين الوقت.و لو غض النظر عن ذلك كفت أصالة عدم الإتيان.بالواجب في وقته.

نعم لا بد من الخروج عن مقتضى الأصلين بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت.و على كل حال لا مجال للرجوع للبراءة.

(2)توجيه لجريان قاعدة الاشتغال.

(3)هذه الإضافة ليست في أصل المطلب،بل في التوضيح مع وحدة المطلب.

(4)لما تقدم من أنه لا يكفي في البيان و الدليل العلم بالكبرى،بل لا بد معه من العلم بالصغرى أيضا.

ص: 273

حتى يقال:إن اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم-بل من جهة:

أن الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعد دليلا إلا على ما علم صدق الفائت عليه،و هذا (1) لا يحتاج إلى مقدمة،و لا يعلم منه وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدمة العلمية.

و الحاصل:أن المقدمة العلمية المتصفة بالوجوب لا تكون إلا مع العلم الإجمالي.

نعم،لو أجري في المقام أصالة عدم الإتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه،فله وجه،و سيجيء الكلام عليه.

المشهور وجوب القضاء حتى يظن الفراغ

هذا،و لكن المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم،بل المقطوع به من المفيد قدس سرّه إلى الشهيد الثاني:أنه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها.

و ظاهر ذلك-خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم،من كون الاكتفاء بالظن رخصة،و أن القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ-:

كون الحكم على القاعدة (2) .

كلام العلامة قدس سرّه في التذكرة

قال في التذكرة:لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد، صلى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنه الوفاء،لاشتغال الذمة بالفائت،فلا يحصل البراءة قطعا إلا بذلك.و لو كانت واحدة و لم يعلم العدد،صلى تلك الصلاة مكررا حتى يظن الوفاء.

(1)يعني:ما علم صدق الفائت عليه.

(2)يعني:من جهة جريان قاعدة الاشتغال.

ص: 274

ثم احتمل في المسألة احتمالين آخرين:أحدهما:تحصيل العلم،لعدم البراءة إلا باليقين،و الثاني:الأخذ بالقدر المعلوم،لأن الظاهر أن المسلم لا يفوت الصلاة (1) .ثم نسب كلا الوجهين إلى الشافعية،انتهى.

و حكي هذا الكلام-بعينه-عن النهاية،و صرح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الإمكان،و صرح في الرياض بأن مقتضى الأصل القضاء حتى يحصل العلم بالوفاء،تحصيلا للبراءة اليقينية.و قد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس سرّه في التهذيب،حيث قال:

كلام الشيخ قدس سرّه في التهذيب

أما ما يدل على أنه يجب أن يكثر منها،فهو ما ثبت أن قضاء الفرائض واجب،و إذا ثبت وجوبها و لا يمكنه أن يتخلص من ذلك إلا بأن يستكثر منها،وجب.انتهى.

و قد عرفت:أن المورد من موارد جريان أصالة البراءة و الأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه و بين الأكثر،كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه،أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر،فإن الظاهر عدم إفتائهم (2) بلزوم قضاء الظهر،و كذا لو تردد في ما فات عن (1)ظاهره أن الوجه في الاكتفاء بالأقل ليس هو الأصل،بل الأمارة الواردة على قاعدة الاشتغال مع التسليم بجريانها لو لا الأمارة المذكورة.

(2)قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:«لم أقف على الفرق عندهم بعد التتبع و بحسب و سعي و بضاعتي لكنه قدس سرّه مصدق جدا في حكايته.و إن كان استدلالهم لوجوب الاحتياط في المسألة...يقتضي عدم الفرق جدا.و يكفي في ذلك ما حكماء شيخنا الأعظم قدس سرّه عنهم قدس سرّه في الكتاب،سيما ما حكي عن الشيخ في التهذيب،فإنه ينادي بأعلى صوته بعدم الفرق،كما هو ظاهر.فيغلب على الظن كون مراد شيخنا قدس سرّه

ص: 275

أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل و الأكثر.

و ربما يظهر عن بعض المحققين (1) :الفرق بين هذه الأمثلة و بين عدم وقوفه على حكمهم بوجوب الاحتياط في استباء[اشتباه ظ]المسألة بعد الفحص في كلماتهم...».

(1)قال بعض المحشين قدس سرّه:«الظاهر أن المراد به هو المولى البهبهاني«رحمه اللّه».

و قد حكي عنه قدس سرّه التمسك لوجوب الاحتياط بقاعدة الاشتغال بتقريب أن التكليف إنما تعلق بعنوان المنسي،و العلم بتحققه لا يحصل إلا بإتيان الأكثر.

أقول:هذا الوجه راجع إلى ما سبق،و لا ينهض ببيان الفرق بين المقام و الأمثلة التي أشار إليها المصنف قدس سرّه.و استظهر المحقق الخراساني قدس سرّه في حاشيته على المتن من كلام بعض المحققين في الفرق:أن طروء النسيان بعد العلم التفصيلي بالفائت لا يكون عذرا في تركه،و حينئذ فالفرق بين الأمثلة المذكورة و بين ما نحن فيه أن المفروض فيما نحن فيه انقلاب العلم التفصيلي للإجمالي بسبب النسيان و عدم سبق الإجمال من أول و استمراره،بل يعلم بفوت الفريضة في أول الأمر،بخلاف الأمثلة المذكورة فإن الاشتباه فيها من أول الأمر.و ربما يوجه مانعية ما سبق العلم من معذرية الجهل اللاحق بسبب النسيان بأن غاية الأصول الشرعية و العقلية هي حصول العلم بالتكليف،و مع سبق العلم بالحال و طروء النسيان يحتمل كون السابق هو العلم بالتكليف لا بعدمه،فلا مجال للرجوع للأصل،لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،و لعدم إحراز عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية.

و فيه:أن العلم إنما يمنع من جريان الأصول حين وجوده لا بعد ارتفاعه بطروء النسيان،بل حديث رفع النسيان كاف في المعذرية لو فرض عدم جريان الأصول حينئذ.على أن ذلك لو تم لم يصلح فرقا بين ما نحن فيه و الأمثلة المتقدمة إذ لا منشأ لفرض سبق العلم التفصيلي فيما نحن فيه دونها».

هذا و الكلام الذي نقله المصنف قدس سرّه عن بعض المحققين لا تعرض فيه للفرق

ص: 276

ما نحن فيه،حيث حكي عنه-في رد صاحب الذخيرة القائل بأن مقتضى القاعدة في المقام الرجوع إلى البراءة-أنه قال:

كلام السيد بحر العلوم قدس سرّه في عدم جريان أصالة البراءة في المسألة

إن المكلف حين علم بالفوائت صار مكلفا بقضاء هذه الفائتة قطعا، و كذلك الحال في الفائتة الثانية و الثالثة و هكذا،و مجرد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات و الاستصحاب،بل الإجماع أيضا؟و أي شخص يحصل منه التأمل في أنه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلفا،و بمجرد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت (1) و إن أنكر حجية الاستصحاب فهو يسلم أن الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية (2) .

إلى أن قال:

نعم،في الصورة التي يحصل للمكلف علم إجمالي باشتغال ذمته بين ما نحن فيه و الأمثلة المذكورة،و إنما هو يتضمن الفرق بين ما إذا كان الالتباس و الاشتباه مع تشوش الأطراف و كثرتها و عدم الحصر فيها بحيث لا يمكن تحديد مقدار معلوم بالتفصيل،و ما إذا كان بنحو يمكن تحديد المقدار المحتمل من المقدار المعلوم،و أن الوجه في الفرق بينهما هو شمول أدلة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت الثاني دون الأول.فإن هذا هو الذي يظهر من ذيل كلامه.و هو مع-مع عدم تماميته في نفسه-أجنبي عما ذكره المصنف قدس سرّه.فلاحظ.

(1)إن أريد بارتفاع التكليف بسبب النسيان ارتفاعه واقعا فلا قائل به كما ذكره.إلاّ أن جريان البراءة لا يتوقف على ذلك،بل يكفى فيه ارتفاع التكليف ظاهرا.و إن أريد به ارتفاعه ظاهرا فقد عرفت أنه مقتضى حديث رفع النسيان، و عموم أدلة البراءة،و لا بأس بالالتزام به.

(2)لا شغل يقيني في المقام بالمشكوك،بل الشغل اليقيني إنما هو بالأقل.

ص: 277

بفوائت متعددة يعلم قطعا تعددها لكن لا يعلم مقدارها،فإنه يمكن حينئذ أن يقال:لا نسلم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقنه.

إلى أن قال:

و الحاصل:أن المكلف إذا حصل له القطع باشتغال ذمته بمتعدد و التبس عليه ذلك كما،و أمكنه الخروج عن عهدته،فالأمر كما أفتى به الأصحاب (1) ،و إن لم يحصل ذلك،بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث و أما أزيد من ذلك فلا،بل احتمال احتمله،فالأمر كما ذكره في الذخيرة (2) .و من هنا:لو لم يعلم أصلا بمتعدد في فائتة و علم أن صلاة صبح يومه فاتت،و أما غيرها فلا يعلم و لا يظن فوته أصلا،فليس عليه إلا الفريضة الواحدة دون المحتمل،لكونه شكا بعد خروج الوقت، و المنصوص أنه ليس عليه قضاؤها (3) ،بل لعله المفتى به،انتهى كلامه رفع مقامه.

و يظهر النظر فيه مما ذكرناه سابقا (4) ،و لا يحضرني الآن حكم لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام،بل الظاهر منهم إجراء أصل (1)يعني:من لزوم الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

(2)هذا ظاهر في التفصيل الذي أشرنا إليه.

(3)ظاهره أن عدم وجوب قضاء المحتمل ليس للأصل،بل للأخبار المذكورة،فلا ينافي كون مقتضي الأصل الاحتياط فيلزم الرجوع إليه في الصورة الأولى لو فرض قصور الأخبار المذكورة عن شمولها.

(4)لم يظهر منه قدس سرّه سابقا تعرض لبطلان الفرق المذكور،و إنما تعرض لبطلان استدلاله لوجوب الاحتياط في الشق الأول من التفصيل.

ص: 278

البراءة في أمثال ما نحن فيه مما لا يحصى.

توجيه فتوى المشهور

و ربما يوجه الحكم فيما نحن فيه:بأن الأصل عدم الإتيان بالصلاة الواجبة (1) ،فيترتب عليه وجوب القضاء إلا في صلاة علم الإتيان بها في وقتها.

و دعوى:ترتب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل (2) ،لا مجرد عدم الإتيان الثابت بالأصل،ممنوعة،لما يظهر من الأخبار و كلمات الأصحاب:من أن المراد بالفوت مجرد الترك (3) كما بيناه في الفقه.

و أما ما دلّ على أن الشك في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتد به،فلا يشمل ما نحن فيه (4) .

و إن شئت تطبيق ذلك على قاعدة الاحتياط اللازم،فتوضيحه (5) :

(1)لا يخفى أن هذا راجع إلى التمسك بالأصل في كل صلاة بنفسها،لا في عنوان الفائت الشامل لجميع الأفراد،الذي هو مبنى الوجه الأول الذي يظهر من الأصحاب.

(2)لأنه أمر وجودي منتزع من عدم حصول الشيء في وقته الذي يتم فيه ملاكه.

(3)فإن أغلب النصوص لم يشتمل على عنوان الفوت،و ما اشتمل عليه إما ضعيف السند أو وارد لبيان أحكام أخر غير وجوب القضاء.و لا بد من سبر النصوص و التأمل فيها.

(4)يأتي الكلام في ذلك،و أنه ممنوع.

(5)إنما أحتاج إلى هذه التوضيح لدفع ما سبق من أن المقام الشك في أصل التكليف الذي يكون المرجع فيه البراءة،للشك في توجه أمر القضاء بالإضافة إلى المشكوك،و ليس شكا في الفراغ عن التكليف حتى يرجع فيه إلى الاشتغال.

ص: 279

و حاصل ما ذكره هنا أنه يمكن التمسك بقاعدة الاشتغال بالإضافة إلى التكليف بالفريضة الوارد في الوقت بلحاظ أن مرجع التكليف بالقضاء إلى استمرار التكليف بأصل الواجب الثابت في الوقت،و ليس هو تكليفا آخر يحدث بعد الوقت بعد سقوط الأمر الأدائي،و غاية ما يسقط هو بخروج الوقت التكليف بالقيد و هو الوقت.

و بالجملة:مقتضى الجمع بين الأمر الأدائي و القضائي هو أن التقييد بالوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب،و بخروج الوقت يسقط أحد المطلوبين الناشئ من التقييد بالوقت،و يبقى الآخر،و هو أصل الواجب بحاله و يستمر التكليف به.

و عليه يكون الشك في تحقق الأداء شكا في الفراغ عن التكليف بأصل الواجب المعلوم الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال،لا أنه ملازم للشك في حدوث أمر جديد بالقضاء بعد الوقت حتى يكون المرجع فيه البراءة.

ثم إنه إنما يحتاج إلى هذا التوجيه لو لم نقل بأن أصالة عدم الإتيان بالواجب في الوقت محرزة لموضوع القضاء،لعدم كون موضوعه الفوت الذي هو أمر وجودي بل مجرد عدم فعل الواجب في وقته.إذ لو قيل بذلك لم يضر دعوى أن الأمر القضاء حادث بعد الوقت لا استمرار لأمر الأداء،فيكون المرجع فيه البراءة،لأن أصالة عدم الإتيان بالواجب في الوقت أصل موضوعي حاكم على أصالة البراءة.و عليه فاللازم جعل هذا وجها آخر لا توضيحا للوجه السابق،كما قد يظهر من المصنف قدس سرّه.

هذا و لا يخفى أن هذين الوجهين لو تما يجريان في جميع موارد الشك في فوت الفريضة من دون فرق بين الشك في أصل الفوت و الشك في عدد الفائت مع تعيين نوعه،و كذا مع الشك في فوت بعض الأنواع،كما لو شك في فوت الظهر مع العلم بفوت الصبح.بل الوجه الأول-و هو التمسك بأصالة،عدم الإتيان-قد يجري حتى مع شك ولي الميت في مقدار ما فات الميت،فيقتضي وجوب الاحتياط عليه بالإتيان بالأكثر.

ص: 280

أن القضاء و إن كان بأمر جديد،إلا أن ذلك الأمر كاشف عن استمرار مطلوبية الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكن من المكلف، غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدد المطلوب (1) ،بأن يكون الكلي المشترك بين ما في الوقت و خارجه مطلوبا و كون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر،كما أن أداء الدين و رد السلام واجب في أول أوقات الإمكان،و لو لم يفعل ففي الآن الثاني،و هكذا.

و حينئذ:فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذمة عن ذلك الكلي،فإذا شك في براءة ذمته بعد الوقت،فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقيني للبراءة اليقينية وجوب الإتيان،كما لو شك في البراءة قبل خروج الوقت (2) ،و كما لو شك في أداء الدين الفوري،فلا يقال:إن الطلب في نعم لا يجري فيه الوجه الثاني-أعني التمسك بقاعدة الاشتغال-لعدم الإشكال في حدوث تكليف الولي بعد موت الميت و ليس هو استمرار لتكليف الميت الثابت قبل موته كما لا يجري الوجهان معا مع الشك في مقدار ما تحمله بالإجارة أو في مقدار الدين،بل أصالة عدم تعلق الإجارة و الدين تقتضي عدم وجوب المشكوك و الاقتصار على المتيقن،و هو لا يحتاج معه إلى التمسك بالبراءة.

(1)كما هو الحال في جميع القيود التي تسقط بالتعذر و لا يسقط معها أصل الواجب كالقيام في الصلاة و الطمأنينة و غيرهما.فإن المستفاد عرفا بعد الجمع بين الأدلة أن للقيد مصلحتين مصلحة قائمة بأصل الذات مع قطع النظر عن القيد، و أخرى قائمة بالقيد.أو أن له مصلحة تحصل مع التمكن من القيد بالمقيد،و مع العجز عنه بأصل الذات.و لازم الأول عدم جواز تعجيز النفس عن القيد،كما في الوقت،و لازم الثاني جوازه.

(2)إذ لا فرق بينهما إلا في كون الواجب في الوقت هو القيد في ما بعده أصل

ص: 281

الزمان الأول قد ارتفع بالعصيان،و وجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه، و كذلك جواب السلام (1) .

و الحاصل:أن التكليف المتعدد بالمطلق و المقيد لا ينافي جريان الاستصحاب و قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق،فلا يكون المقام مجرى البراءة.

هذا،و لكن الإنصاف:ضعف هذا التوجيه لو سلم استناد الأصحاب إليه في المقام (2) .

أما أولا:فلأن من المحتمل-بل الظاهر-على القول بكون القضاء بأمر جديد،كون كل من الأداء و القضاء تكليفا مغاير للآخر (3) ،فهو من الذات،مع اشتراكهما في وحدة الأمر،و الشك في استمراره بسبب عدم الامتثال،لا في حدوث أمر جديد.

(1)يأتي الكلام فيه.

(2)الظاهر من كلماتهم المتقدمة عدم استنادهم إليه،بل إلى إجراء قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى أصل العنوان.لكن عدم استناد الأصحاب قدس سرّهم إلى هذا الوجه لا دخل له في ضعفه،بل في ضعف استدلالهم،لأنه أقوى من الوجه السابق.

(3)هذا خلاف الظاهر جدا بعد الرجوع للمرتكزات في الأوامر العرفية المتعلقة بالقيود التي تسقط بالعجز عنها،فإن الظاهر أن اعتبارها من باب تعدد المطلوب،و ليس التكليف بأصل الواجب بعد تعذر القيد من باب تبدل المطلوب.

كيف و قضاء الشيء عرفا و لغة اداؤه و توقيته و انجازه و القيام به،و منه قضاء الدين.

نعم يتم ما ذكره قدس سرّه في مثل الكفارة فإن المفهوم عرفا كونها من سنخ آخر غير سنخ الواجب عند صح!ما ذكره كما أوضحناه في مبحث الواجب الموقن من شرح الكفاية و عليه فلا بد أن يكون المراد من كون القضاء بأمر جديد أنه لا مجال لإحراز

ص: 282

قبيل وجوب الشيء و وجوب تداركه بعد فوته (1) -كما يكشف عن ذلك تعلق أمر الأداء بنفس الفعل و أمر القضاء به بوصف الفوت (2) ،و يؤيده:

وجوب القضاء من الأمر بالوقت،لظهوره في كون التقييد بالوقت-كسائر موارد التقييد-بنحو وحدة المطلوب لا تعدده و عدم وجوب أصل الذات مع قطع النظر عن القيد.

و لو فرض إجماله كفى في نفي وجوب القضاء أصالة البراءة بعد كون المتيقن الوجوب هو المقيد بالوقت،و عدم جريان استصحاب الوجوب بعد الوقت،لعدم إحراز الموضوع على ما هو التحقيق،فلا بد في وجوب القضاء من أمر جديد يستكشف به حال الأمر الأول و أنه مبني على تعدد المطلوب لا وحدته،فالأمر بالقضاء يكون شارحا لحال الأمر الأول.لا أنه يكون أمر آخر بواجب آخر.و لو فرض أن مرادهم بقاعدة أن القضاء بامر جديد ما ذكره المصنف قدس سرّه لا ما ذكرنا كفى في اثبات ما ذكرنا ما عرفت.و لا أهمية للقاعدة المذكورة،لأنها ليست مضمون دليل الشرعي،بل هي قاعدة يذكرها الأصحاب بعد اجتهادهم في مضمون الأدلة الشرعية.

ثم إنه لو تم ما ذكره المصنف قدس سرّه فهو إنما يمنع من التمسك في المقام بقاعدة الاشتغال،و لا يمنع من التمسك بأصالة عدم الإتيان الحاكمة على أصالة البراءة من وجوب القضاء،كما عرفت.

(1)الظاهر أن المراد بالقضاء في عرف المتشرعة-بل العرف العام-هو الإتيان بالشيء في غير وقته،لإمكان تحصيل شيء من مصلحته،فان كان المراد هذا المعنى فهو،و إن كان المراد به سد النقص الحاصل بسبب فوت الشيء في وقته بما ليس من سنخه،نظير ضمان الحارس المفرط لما سرق منه فهو أجنبي عن القضاء عرفا.

(2)هذا ينافي ما تقدم منه عدم كون موضوع القضاء هو الفوت،بل مجرد عدم الإتيان:على أنه قد يصح إطلاق الفوت على القضاء بلحاظ فوت مصلحة الوقت،لا فوت تمام الواجب.و هو و إن كان خلاف الظاهر بدوا من لفظ الفوت،

ص: 283

بعض ما دل على أن لكل من الفرائض بدلا و هو قضاؤه (1) ،عدا الولاية- لا من باب الأمر بالكلي و الأمر بفرد خاص منه،كقوله:صم،و صم يوم الخميس (2) ،أو الأمر بالكلي و الأمر بتعجيله (3) ،كرد السلام (4) إلا أن المتعين تنزيله على ذلك ليناسب التعبير بالقضاء الذي عرفت أنه لا يصدق إلا فيما كان المأتي به من سنخ المقتضى.

(1)فان البدل يباين المبدل لكن ربما يكون التباين بلحاظ أن المبدل لما كان هو المقيد بالوقت-و إن كان تقييده بنحو تعدد المطلوب-فهو يباين المأتي به في خارج الوقت و إن كانا مشتركين في جامع واحد مشتمل على بعض مصلحة المقيد.

على أن البدلية الحقيقية ممتنعة في بعض الفرائض كالزكاة،لوضوح عدم كونها من سنخ الوقت و إن وجب تعجيلها،فلا بد من نحو من التسامح في إطلاق البدلية.

(2)إن كان مرجع الأمر بصوم الخميس إلى تقييد الأمر بمطلق الصوم به بحيث يقتضي المبادرة فيه فهو من سنخ التوقيت.فيجري فيه ما تقدم و إن كان مرجعه إلى أمرين مستقلين أحدهما بالكلي و الآخر بفرد منه،لكل منهما إطاعته و معصيته بحيث يجوز تأخير امتثال الأمر الأول فهو أجنبي عما نحن فيه.فتأمل.

(3)وجوب التعجيل إن رجع إلى حرمة التأخير أو الحبس-كما في وجوب تعجيل أداء الحق-فهو منحل إلى تكاليف متعددة انحلالية مترتبة بالواجب الواحد يكون امتثال التقدم منها رافعا لموضوع التأخر.و إن رجع إلى وجود مصلحة في التعجيل غير مصلحة أصل الواجب فهو من سنخ التوقيت فيجري فيه الكلام السابق.و إن افترقا في أنه ليس في الوقت إلا تقييد واحد،و مرجع وجوب التعجيل إلى تقييدات مترتبة بعدد الآنات.

(4)لم يتضح الوجه في وجوب التعجيل بالسلام إلا دعوى أن مفهوم رد السلام وجوب التحية موقوف على التعجيل و حينئذ لا يكون لوجوب الكلي الجامع بين الفور و التراخي دليل حتى يقال:إن وجوب التعجيل مبني على تعدد المطلوب.

ص: 284

و قضاء الدين،فلا مجرى لقاعدة الاشتغال و استصحابها.

و أما ثانيا:فلأن منع عموم ما دل على أن الشك في الإتيان بعد خروج الوقت لا يعتد به للمقام (1) ،خال (2) عن السند (3) .خصوصا مع اعتضاده بما دل على أن الشك في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه،مثل قوله عليه السّلام:

«إنما الشك في شيء لم تجزه» (4) ،و مع اعتضاده في بعض المقامات (5) بظاهر حال المسلم في عدم ترك الصلاة.

و أما ثالثا:فلأنه لو تم ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شك في كما أنه ليس في المقام أمر بالقضاء حتى يستكشف منه أن التعجيل مأخوذ بنحو تعدد المطلوب،بخلاف قضاء الفوائت.و لذا لم ينقل-فيما عثرت عليه عاجلا- القول بوجوب القضاء في السلام إلا عن الأردبيلي قدس سرّه و واقفه السيد الطباطبائي قدس سرّه في العروة الوثقى.و لعله مبني على الاستصحاب الذي عرفت الإشكال فيه بعدم إحراز الموضوع.و تمام الكلام في الفقه.

(1)متعلق بقوله:«عموم...»و لا يبعد زيادة«لا يعتد به».

(2)خبر«أن»في قوله:«فلأن منع عموم...».

(3)إذ لا وجه له إلا دعوى الانصراف عن صورة العلم بأصل الفوت و الشك في مقدار الفائت.و هي-كما ترى-مردودة على مدعيها.و منه يظهر الإشكال في الفرق الذي تقدم عن بعض المحققين بناء على ما استظهرناه منه.

(4)لا يبعد أن تكون قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت من صغريات قاعدة التجاوز التي تضمنتها هذه الأخبار،كما لعله يأتي التعرض له في خاتمة الاستصحاب.

(5)بأن لم يعلم من المسلم أنه في مقام التسامح في أداء الفرائض،أو أنه جاهل بها.

ص: 285

مقدار ما فات منهما (1) ،و لا أظنهم يلتزمون بذلك،و إن التزموا بأنه إذا وجب على الميت-لجهله بما فاته-مقدار معين يعلم أو يظن معه البراءة، وجب على الولي قضاء ذلك المقدار،لوجوبه ظاهرا على الميت (2) ،بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه.

و كيف كان:فالتوجيه المذكور ضعيف (3) .

و أضعف منه:التمسك في ما نحن فيه بالنص الوارد في:«أن من عليه من النافلة ما لا يحصيه من كثرته،قضى حتى لا يدري كم صلى من كثرته» (4) ، (1)لا يخفى أنه لا مجال لجريان قاعدة الاشتغال بالتقريب المتقدم في ذلك، إذ لا إشكال في أن تكليف الولي ليس استمرارا لتكليف الميت،بل هو حادث بعد موت الميت و سقوط التكليف في حقه.فالمرجع فيه البراءة.نعم لو فرض التمسك فيما تقدم بأصالة عدم الإتيان بالفريضة في وقتها لجرى في قضاء الولي عن الميت،كما تقدم و تقدم حال بقية الأمثلة المتقدمة من المصنف قدس سرّه.

(2)هذا مبني على أن الولي مكلف واقعا أو ظاهرا بقضاء ما وجب على الميت ظاهرا.و لا يظن التزامهم به على عمومه.مع عدم الدليل عليه في نفسه،بل مقتضى القاعدة أن الواجب عليه واقعا قضاء ما فات الميت واقعا،و يرجع في مورد الشك إلى مقتضي الطرق و الأصول الظاهرية الجارية في حقه،و لا أهمية لثبوتها في حق الميت.

فلاحظ.و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم.

(3)العمدة في ذلك ما دل على عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت،و به ترفع اليد عن أصالة عدم الإتيان بالفريضة في وقتها،و قاعدة الاشتغال بها اللتين تقدم تقريب جريانهما في نفسهما.

(4)و هو صحيح عبد اللّه بن سنان:«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع يصلي في...؟

ص: 286

بناء على أن ذلك طريق لتدارك ما فات و لم يحص (1) ،لا أنه مختص بالنافلة.

مع أن الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى،فتأمل (2) .

قال:فليصل حتى لا يدري كم صلى من كثرتها،فيكون قد قضي بقدر علمه من ذلك».و هذا كما ترى لو تم لا يطابق ما هو المشهور من وجوب الاحتياط حتى يظن أو يعلم بالفراغ.

نعم قد يستدل عليه بخير علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام:

«سألته عن رجل نسي ما عليه من النافلة و هو يريد أن يقضي كيف يقضي؟قال:

يقضي حتى يرى أنه قد زاد على ما يرى عليه و أتم»بناء على عدم الخصوصية للنافلة، و هو إن كان في غير محله كما يأتي.

(1)إما لفهم عدم الخصوصية للنافلة،أو لأن قوله عليه السّلام في ذيل الصحيح:

«فيكون قد قضى بقدر علمه من ذلك»بمنزلة التعليل الشامل للفريضة،كما في الجواهر.لكن الأول ممنوع و لا سيما مع كثرة اختلاف الفريضة و النافلة في الأحكام و مثله الثاني،لعدم ظهوره في التعليل بل في تنزيل الوجه المذكور منزلة قضاء تمام الفائت.مع أن تعليل استحباب القضاء بالوجه المذكور في النافلة بذلك لا يقتضي وجوبه في الفريضة.

(2)لعله إشارة إلى أن الأولوية المذكورة لو تمت تقتضي استحباب القضاء بالوجه المذكور في الفريضة،لا وجوبه،كما هو المدعى.و لعله ظاهر.و الحمد للّه رب العالمين.

ص: 287

المطلب الثالث

اشارة

فيما دار الأمر فيه بين الوجوب و الحرمة

و فيه مسائل:

المسألة الأولى
اشارة

في حكم دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة من جهة

عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما (1)

كما إذا اختلفت الامة على القولين بحيث علم عدم الثالث.

و لا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كل من الوجوب و الحرمة (2) -بمعنى نفي الآثار المتعلقة بكل واحد منهما بالخصوص-إذا (1)يعني:لا بعينه.

(2)ذكر بعض أعاظم المحشين قدس سرّه أن المراد بذلك استصحاب عدم كل منهما.

و أنه ليس محل الكلام هنا،بل يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب،و إنما الكلام هنا في أصل البراءة.

ص: 288

لم يلزم مخالفة علم تفصيلي (1) ،بل و لو استلزم ذلك على وجه تقدم في أول الكتاب في فروع اعتبار العلم الإجمالي (2) .

هل الحكم في المسألة الإباحة أو التوقف أو التخيير؟

و إنما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة و عدمه،فإن في المسألة وجوها ثلاثة:

الحكم بالإباحة (3) ظاهرا،نظير ما يحتمل التحريم و غير الوجوب (4) أقول:جريان الاستصحاب بالوجه المذكور مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي.و يظهر من المصنف قدس سرّه في مبحث الاستصحاب منعه على غموض في كلامه.

(1)و مثله ما لو استلزم مخالفة علم إجمالي،لما هو المعلوم من منجزيته -كالتفصيلي-المانعة من الرجوع للأصول الترخيصية.

(2)كأنه إشارة إلى ما تقدم من الموارد التي يتولد من العلم الإجمالي فيها علم تفصيلي بالمخالفة.

(3)التي هي أحد الأحكام الخمسة.أو ما يعم الأحكام الثلاثة المقابلة للوجوب و الحرمة.

(4)لا يخفى أنه في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب لا مجال للبناء على الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة،أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير الإلزامية، بل ليس مفاد الأدلة عقلية كانت أو شرعية إلا رفع الحرمة و عدم تنجز احتمالها و عدم المؤاخذة عليها لو فرض وجودها واقعا،و هو غير إثبات الإباحة،بأحد المعنيين المذكورين و التعبد بها.

نعم بعد فرض اليقين بعدم الوجوب يلزم نتيجة الإباحة بالمعنى الثاني عملا و هو غير التعبد بها شرعا.و أما قوله عليه السّلام:«كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام»بناء على عمومه للشبهة الحكمية-كما أشرنا إليه في المسألة الرابعة من المطلب

ص: 289

بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا و لا واقعا و مرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين (1) ،فلا حرج في الفعل و لا في الترك بحكم العقل،و إلا لزم الترجيح بلا مرجح.و وجوب الأخذ بأحدهما بعينه أو لا بعينه (2) .

الأول-فالظاهر أن المراد بالحل فيه ليس هو الإباحة بأحد المعنيين المتقدمين،بل مجرد الإذن في الشيء الحاصل برفع الحرمة،كما يناسبه المقابلة بين الحل و الحرمة،و ظهور كون القضية ارتكازية.و كذا الحال في دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة.

(1)لا معنى لتفسير التوقف الذي هو عبارة عن عدم الحكم شرعا بشيء بإلغاء الشارع لكلا الاحتمالين،فإن الإلغاء المذكور حكم أيضا.و لعله لذا كان في بعض النسخ جعل قوله:«و مرجعه إلى إلغاء...»إلى قوله:«بلا مرجح»تفسيرا للوجه الأول و هو الحكم بالإباحة ظاهرا.

لكن عليه لا يتجه التفريع بقوله:«فلا حرج في الفعل و لا في الترك...»إذ على الوجه المذكور يكون الترخيص شرعيا،و لا ينحصر الأمر بترخيص العقل، فضلا عن تعليله بلزوم الترجيح بلا مرجح،فإن ذلك إنما يتم مع عدم بيان الشارع، لا مع حكمه بالإباحة و بعدم تنجز أحد الاحتمالين،بل تفريع ذلك يناسب الوجه الثاني،و هو التوقف و عدم حكم الشارع بشيء ظاهرا.

فالأنسب رجوع قوله:«و مرجعه إلى...»إلى الوجه الأول،و رجوع قوله:

«فلا حرج في العقل...»إلى الوجه الثاني،فيكون حق العبارة هكذا:«الحكم بالإباحة ظاهرا نظير ما يحتمل التحريم و غير الوجوب،و مرجعه إلى الغاء الشارع لكلا الاحتمالين.و التوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا و لا واقعا،فلا حرج في الفعل و لا في الترك بحكم العقل،و إلا لزم الترجيح بلا مرجح.و لعل اضطراب العبارة بسبب خطأ النسخ.

(2)و هو مفاد للتخيير.و الفرق بينه و بين التوقف الذي يلزمه عقلا التخيير في مقام العمل أيضا إن التخيير هناك في مقام العمل دون أن يبتني العمل على البناء

ص: 290

و محل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب و التحريم توصليا بحيث يسقط بمجرد الموافقة،إذ لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعين كذلك،لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلى الإباحة،لأنه مخالفة قطعية عملية (1) .

على أحد الحكمين أما التخيير هنا فهو بين نفس الحكمين فلا بد من البناء على أحدهما ثم ترتيب العمل عليه.

(1)فإنه في الصورة الأولى لو فرض موافقة أحدهما بلا قصد الامتثال لزم المخالفة القطعية،كما لو فرض أن تردد الأمر بين وجوب الفعل بقصد القربة، و وجوب الترك بقصد القربة،فلو فعل أو ترك لا بقصد القربة يعلم بالمخالفة.و في الصورة الثانية لو فرض موافقة التكليف المعين لا بقصد القربة علم بالمخالفة،كما لو علم تردد الأمر بين وجوب الصوم و وجوب الأكل،فأمسك عن الأكل لا بقصد القربة و قد سبق منه قدس سرّه في حكم العلم الإجمالي من مباحث الاقتصار على الصورة الثانية و ترك الصورة الأولى،و ظاهره عدم إمكان المخالفة القطعية فيها.

و لا بد من حمله هناك على ما لو كان محتمل التحريم هو الفعل بقصد القربة و الواجب كذلك.كما لو دار الصوم بين الوجوب و الحرمة،كما في يوم الشك،فيكون قصد القربة قيدا في الفعل المحتمل الوجوب و الحرمة.

أما هنا فلا بد من حمله على ما إذا كان مقتضى التحريم الترك بقصد القربة للفعل الخاص،فيكون قصد القربة قيدا للترك الذي هو مقتضى التحريم،كحرمة الأكل في نهار شهر رمضان،لا الفعل المتروك بمقتضاه،كحرمة الصوم يوم العيد.

كل ذلك لتصحيح عبارة المصنف قدس سرّه في المقامين.

ثم إنه ربما يقال:بأن هذا مبني على تنجز التكليف في المقام بسبب العلم الإجمالي،كما هو مذهب المصنف قدس سرّه و عليه جرى في دليل الانسداد،حيث التزم بأن تعذر الموافقة القطعية للتكاليف المعلومة بالإجمال و تعذر الاحتياط التام لا يوجب

ص: 291

الحكم بالإباحة ظاهرا و دليله

و كيف كان:فقد يقال في محل الكلام بالإباحة ظاهرا (1) ،لعموم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية،بل يبقي منجزا بنحو تجب الموافقة الظنية أو الاحتمالية المعبر عنها بالتبعيض في الاحتياط.

و قد عرفت الإشكال في المبني المذكور و أن تعذر الموافقة القطعية للعلم الإجمالي يوجب سقوطه عن المنجزية حتى بالإضافة إلى الموافقة الاحتمالية،و أن المنجز للتكاليف مع انسداد باب العلم هو العلم باهتمام الشارع بالأحكام،بنحو يعلم منه الاكتفاء بسلوك الظن في تحصيل الواقع.

و حينئذ فلا موجب للمنع عن المخالفة القطعية في المقام لسقوط العلم الإجمالي،و عدم منجز آخر من اهتمام الشارع و نحوه،لأن الحكم الواحد ليس كمعظم الأحكام في باب الانسداد،كي يعلم باهتمام الشارع بحفظه و لو احتمالا.

و الأمر لا يخلو عن إشكال.فتأمل.

(1)عرفت أنه لا مجال لإثبات الإباحة،لعدم وفاء الأدلة بها على أنه لو فرض وفاؤها بها بحسب إطلاقها فلا مجال لها هنا،لقصور أدلة التعبد الظاهري عن صورة العلم بالخلاف.و لأجله قد يقال:إنه لا مجال لتطبيق الأدلة في المقام لرفع كلا الحكمين الإلزاميين لمنافاته للعلم الإجمالي.بثبوت أحدهما الموجب للعلم التفصيلي بخطإ الأصل.

و هذا الخلاف ما إذا أريد التمسك بأصالة عدم الوجوب و أصالة عدم الحرمة من باب الاستصحاب فإن كل واحد من الأصلين لما كان له أثر خاص به فرضا فلا مانع من التمسك به بلحاظ أثره.لعدم العلم لكذب كل منهما.و العلم إجمالا بكذب أحدهما لا أثر له بعد عدم رفعه لموضوع كلا الأصلين و عدم اقتضائه لزوم المخالفة العملية القطعية من إجرائها فرضا.على ما يأتي في مبحث الاستصحاب.لكن ما ذكر إنما يتم لو كان اجراء أصالة البراءة من الحكمين في المقام بلحاظ أثر واحد و هو أثر ارتفاع الحكمين و ثبوت الحكم الثالث.و هو الإباحة.للعلم بعدم تحقق موضوع

ص: 292

أدلة الإباحة الظاهرية،مثل قولهم:«كل شيء لك حلال» (1) ،و قولهم:

«ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»،فإن كلا من الوجوب و الحرمة قد حجب عن العباد علمه،و غير ذلك من أدلته،حتى قوله عليه السّلام:

«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر»على رواية الشيخ (2) ،إذ الظاهر ورود أحدهما بحيث يعلم تفصيلا،فيصدق هنا أنه لم يرد أمر و لا نهي (3) .

هذا كله،مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل الأثر المذكور،و لا يتم لو كان اجراء الأصل في كل حكم بلحاظ أثره المختص به، و هو الالتزام عملا بمقتضاه فإجراؤه بالاضافة إلى الوجوب لأجل عدم الالتزام بالفعل،و بالاضافة إلى الحرمة لأجل عدم الالتزام بالترك،فتطبيق أصل البراءة بلحاظ أحدهما غير تطبيقه بلحاظ الآخر،و لا يعلم الكذب في كل تطبيق بنفسه.

و الحاصل:إنه إن أريد الرجوع للبراءة من الحكمين بتطبيق واحد و بلحاظ أثر واحد كان ممتنعا،و كان كالرجوع إلى استصحاب عدم الحكمين بلحاظ أثر ارتفاعهما معا.و إن أريد الرجوع له بتطبيقين لكل منهما أثر فلا مانع منه،و كان كاستصحاب عدم الوجوب بلحاظ أثره و استصحاب عدم الحرمة بلحاظ أثره.اللذين عرفت منا و من المصنف قدس سرّه أنه لا مانع منهما.و منه يظهر الفرق بين ذلك و بين الإباحة،فإن التخيير عملا من آثار الإباحة المعلوم عدمها في المقام.فتأمل جيدا.

(1)عرفت أنه وارد لنفي احتمال الحرمة،و لا ينهض لإثبات الإباحة في سائر الموارد فضلا عن المقام،حيث يعلم بعدمها.

(2)إذ على الرواية الأخرى التي اقتصر فيها على النهي لا ينهض برفع الوجوب.

(3)لكن لا بدّ من قصوره عما نحن فيه،لامتناع جعل الحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للحكم الواقعي.كما عرفت.

ص: 293

و الترك،فإن الجهل بأصل الوجوب علة تامة عقلا لقبح (1) العقاب على الترك من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه،و كذا الجهل بأصل الحرمة.و ليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب و الحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلق بأمر مردد (2) ،حتى يقال:إن التكليف في المقام معلوم إجمالا (3) .

دعوى وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى و الجواب عنها

و أما دعوى وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى،لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع،ففيها:

أن المراد بوجوب الالتزام:إن أريد وجوب موافقة حكم اللّه (4) فهو حاصل فيما نحن فيه (5) ،فإن في الفعل موافقة للوجوب و في الترك موافقة للحرمة،إذ المفروض عدم توقف الموافقة في المقام على قصد الامتثال.

و إن أريد وجوب الانقياد و التدين بحكم اللّه (6) فهو تابع للعلم بالحكم،فإن علم تفصيلا وجب التدين به كذلك،و إن علم إجمالا وجب (1)عرفت منه و منا في مبحث البراءة إمكان ردع الشارع عنه بايجاب الاحتياط.فالتعبير بالعلة التامة لا يخلو عن تسامح.و مراده بذلك مجرد بيان عدم مانعية أحد الحكمين من قبح العقاب على الآخر مع الجهل به.

(2)نظير العلم بوجوب إحدى الصلاتين أو حرمة إحدى المرأتين.

(3)يعني:ليرتفع بذلك موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(4)يعني:عملا.

(5)الأولى أن يقال:فالموافقة القطعية متعذرة،و الموافقة الاحتمالية حاصلة فيما نحن فيه،فإن في الفعل...الخ.

(6)الذي هو عبارة عن الموافقة الالتزامية القلبية.

ص: 294

التدين بثبوته في الواقع (1) ،و لا ينافي ذلك التدين حينئذ بإباحته ظاهرا،إذ الحكم الظاهري لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعي من حيث العمل،لا من حيث التدين به (2) .

دعوى أن الحكم بالإباحة طرح لحكم اللّه الواقعي و الجواب عنها

و منه يظهر اندفاع ما يقال:من أن الالتزام و إن لم يكن واجبا بأحدهما، إلا أن طرحهما و الحكم بالإباحة طرح لحكم اللّه الواقعي،و هو محرم.

و عليه يبنى عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الأمة على قولين يعلم دخول الإمام عليه السّلام في أحدهما.

توضيح الاندفاع:أن المحرم و هو الطرح في مقام العمل غير متحقق، و الواجب في مقام التدين الالتزام بحكم اللّه على ما هو عليه في الواقع،و هو أيضا متحقق في الواقع (3) ،فلم يبق إلا وجوب تعبد المكلف و تدينه (4) و التزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي،و هذا مما لا دليل على وجوبه (1)لأن الدليل على وجوب الموافقة الالتزامية ليس إلا توقف التصديق بالشريعة و التسليم لها على الالتزام بأحكامها،و ذلك لا يقتضي إلا الموافقة بالوجه المذكور.

(2)لكن الإباحة ظاهرا يعلم مخالفتها تفصيلا للحكم الواقعي في المقام.نعم التعبد بعدم كل من الحكمين بتطبيق خاص به ليس معلوم المخالفة تفصيلا للحكم الواقعي،و إنما يحتمل مخالفة أحدهما له إجمالا.

(3)مبني الإشكال إن الالتزام بالحكم الظاهري المباين للحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ينافي الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالا،و لم يظهر من المصنف قدس سرّه في دفعه ما يدفع المنافاة المذكورة،و قد عرفت حقيقة الحال.

(4)يعني:تعبده بحكم خاص بنحو التعيين يحتمل الموافقة للحكم الواقعي المعلوم إجمالا.

ص: 295

أصلا (1) .

و الحاصل:أن الواجب شرعا هو الالتزام و التدين بما علم أنه حكم اللّه الواقعي،و وجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها، من اللوازم العقلية (2) للعلم التفصيلي يحصل من ضم صغرى معلومة تفصيلا إلى تلك الكبرى،فلا يعقل وجوده مع انتفائه،و ليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع (3) حتى يجب مراعاته و لو مع الجهل التفصيلي.

عدم صحة قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين

و من هنا (4) يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية الدالّ أحدهما على الأمر و الآخر على النهي،كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين.

و لا يمكن أن يقال (5) :إن المستفاد منه-بتنقيح المناط هو-وجوب (1)بل هو محرم إذا كان راجعا إلى الالتزام بالحكم الخاص على أنه الحكم الواقعي،لأنه تشريع.

(2)لعل الوجه في كونه من اللوازم العقلية دعوى ملازمة العلم للاعتقاد و التدين،و هو مورد الإشكال،فالظاهر أنه من اللوازم الشرعية،فإن الالتزام بأحكام الشريعة لازم للالتزام بها و الاعتقاد بصدقها.

(3)يعني:من غير أن يناط بعلم المكلف بالحكم تفصيلا،كوجوب اجتناب النجس.

(4)لم يتضح استفادة وجه البطلان الذي سيذكره مما تقدم.

(5)يعني:في توجيه القياس المذكور،حاصل الوجه المذكور:أن ملاك التخيير بين الخبرين هو لزوم الالتزام ظاهرا بما يحتمل كونه الحكم الواقعي المعلوم إجمالا من دون خصوصية لقيام الخبر عليه.

ص: 296

الأخذ بأحد الحكمين و إن لم يكن على كل واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.

فإنه (1) يمكن أن يقال:إن الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما،هو أن الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجية (2) ،فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بد من الأخذ بأحدهما (3) ،و هذا تكليف شرعي في المسألة الأصولية (4) غير التكليف المعلوم تعلقه إجمالا في المسألة الفرعية بواحد من الفعل و الترك، بل و لو لا (5) النص الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة، بخلاف ما نحن فيه،إذ لا تكليف إلا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة، و الالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.

(1)تعليل لقوله:«لا يمكن أن يقال...».

(2)على أن يكون وجوب الالتزام بالخبر و الأخذ به تكليفا آخر ناشئا من ملاك قائم به مع قطع النظر عن الوصول به للواقع و كشفه عنه.

(3)كما هو الحال في كل تكليفين لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، فإنهما يتزاحمان و يتعين التخيير بينهما.

(4)بل هو حكم فرعي جزئي،كسائر الأحكام الفرعية المتزاحمة في مقام الامتثال،نظير حرمة تكذيب الخبر و ردّه،و أما المسألة الأصولية فهي عبارة عما يبحث فيه عن الحجية و شئونها،و لا دخل للحجية بالالتزام المذكور،بل هي متمحضة لمقام العمل.

(5)يعني:لو فرض عدم النص الحاكم بالتخيير أمكن القول بالتخيير من هذه الجهة.

ص: 297

و يشير إلى ما ذكرنا من الوجه:قوله عليه السّلام في بعض تلك الأخبار:

«بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك».و قوله عليه السّلام:«من باب التسليم» إشارة إلى أنه لما وجب على المكلف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة عليهم السّلام-كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة عليهم السّلام (1) ،منها قوله:«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا» (2) ،و كان (3) التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا،وجب (4) التسليم لأحدهما مخيرا في تعيينه (5) .

ثم إن هذا الوجه و إن لم يخل عن مناقشة أو منع (6) ،إلا أن مجرد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من (1)الظاهر من التسليم في تلك الأخبار ليس هو متابعة ظواهر الأخبار، بل الاعتقاد بصدقها إجمالا على ما أريد منها واقعا لو فرض عدم إمكان العمل بها لمعارض و نحوه.و هذا بخلاف التسليم في قوله عليه السّلام:«بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»فإن الظاهر منه متابعة النص عملا.

(2)الظاهر أن الحديث الشريف سوق لبيان حجية رواية الثقات المذكورين و وجوب متابعتها عملا،لا محض التسليم بها قلبا.و لذا سبق منه قدس سرّه ذكره في أدلة حجية خبر الواحد.

(3)عطف على(وجب)في قوله:«إشارة إلى أنه لما وجب على المكلف».

(4)جواب(لما)في قوله:«إشارة إلى أنه لما وجب...».

(5)كما هو مقتضي القاعدة في التكليفين المتزاحمين مع عدم أهمية أحدهما.

(6)يأتي منه الكلام فيه في مبحث التعادل و التراجيح.

ص: 298

حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض (1) ،فافهم (2) .

و بما ذكرنا (3) ،يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب و الحرمة.

و ما ذكروه (4) في مسألة اختلاف الأمة لا يعلم شموله لما نحن فيه مما كان الرجوع إلى الثالث (5) غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه السّلام، مع أن عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتفاقيا.

على:أن ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير-كما سيجيء-هو إرادة التخيير الواقعي (6) المخالف لقول الإمام عليه السّلام في المسألة،و لذا اعترض (1)لأن تنقيح المناط موقوف على القطع به،و لا مجال له مع الاحتمال المذكور.

(2)لعله إشارة إلى أنه لو فرض اليقين ببطلان الوجه المذكور فالتعدي عن مورد النصوص و هو تعارض الخبرين لا مجال،له لعدم اليقين بمناط الحكم.

(3)لم يتضح الوجه في ظهور حال ذلك مما سبق،فإنه لا مجال لتوهم وجوب التسليم للمجتهد حتى يرد فيه ما سبق.فالعمدة أن التخيير بين المجتهدين ليس على طبق القاعدة،و إنما يستفاد من الإجماع و نحوه من الأدلة الخاصة التي لا مجال للتعدي عن موردها.

(4)تعريض بما سبق من قوله:«و عليه يبتني عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الأمة...».

(5)ظاهره أن المقصود إثبات القول الثالث،و هو الإباحة،و قد عرفت أنه لا مجال له في المقام للعلم بعدم ثبوته،و لا مجال معه للتعبد به ظاهرا.

(6)كأن المراد بالتخيير الواقعي هو التخيير العملي بين مفاد الحكمين،ففي الدوران بين الوجوب و الحرمة يكون هو عبارة عن الحكم بالتخيير بين الفعل

ص: 299

عليه المحقق:بأنه لا ينفع التخيير فرارا عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل،لأن التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السّلام.

و إن انتصر للشيخ بعض:بأن التخيير بين الحكمين ظاهرا و أخذ أحدهما،هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام.لكن ظاهر كلام الشيخ قدس سرّه يأبى عن ذلك (1) ،قال في العدة:

و الترك،الذي هو مساوق للإباحة.و أما التخيير بين الحكمين بنفسيهما فإن كان بمعنى أنه يجوز للمكلف أن يختار أحد الحكمين فيلتزم به عملا فهو عبارة عن التخيير الظاهري الذي منع المصنف قدس سرّه من حمل كلام الشيخ قدس سرّه عليه.

و إن كان بمعنى التخيير بين نفس الحكمين فلا معنى له،لأن الحكمين ليسا فعلا للمكلف حتى يتخير بينهما.فحمل التخيير الواقعي على ما ذكرناه هو المتعين.

إلا أن توصيفه بالواقعي لا يخلو عن إشكال،لأن ظاهره أن المراد هو الالتزام بأن التخيير بالوجه المذكور هو الحكم الواقعي في المسألة،و من البعيد جدا التزام الشيخ قدس سرّه به مع اليقين بعدمه و أن الواقع على أحد الحكمين الآخرين.

و أما حمله على أن الحكم بالتخيير المذكور ظاهري،نظير التزام المصنف قدس سرّه بالإباحة الظاهرية،فهو و إن كان قريبا إلا أنه لا يناسب توصيفه بأنه واقعي،إلا أن يكون محض اصطلاح.

هذا مع أن الوجه المذكور لا يجري في جميع الأحكام،و إنما يختص بالأحكام المتبانية عملا أعني الوجوب و الحرمة،أما غيرهما فلا معنى للتخيير العملي بين مفادهما فلو دار الأمر بين الوجوب و الإباحة فالإباحة تقتضي التخيير عملا بين الفعل و الترك فلا معنى للتخيير بينها و بين الوجوب المقتضي للفعل.و الأمر لا يخلو عن إشكال.

(1)يعني:عن الحمل على التخيير الظاهري.

ص: 300

كلام الشيخ قدس سرّه في العدة

إذا اختلفت الأمة على قولين فلا يكون إجماعا،و لأصحابنا في ذلك مذهبان:منهم من يقول:إذا تكافأ الفريقان و لم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم أو يدل على أن قول المعصوم عليه السّلام داخل فيه،سقطا و وجب التمسك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم،و هذا القول ليس بقوي.

ثم علله بإطراح قول الإمام عليه السّلام،قال:و لو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه السّلام تركه و العمل بما في العقل.

و منهم من يقول:نحن مخيرون في العمل بأي القولين،و ذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا،انتهى.

ثم فرع على القول الأول جواز اتفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد (1) ،و على القول الثاني عدم جواز ذلك (2) ،معللا بأنه يلزم من ذلك بطلان القول الآخر،و قد قلنا:إنهم مخيرون في العمل،و لو كان إجماعهم على أحدهما انتقض ذلك،انتهى.

و ما ذكره من التفريع أقوى شاهد على إرادة التخيير الواقعي (3) ، (1)بل مقتضاه لزوم الاتفاق،لعدم اختلاف مقتضى الأصل،إلا أن يفرض الاختلاف بينهم في مفاد الأصل،أو يفرض الاختلاف بينهم في وجود الدليل على أحد القولين الذي لا مجال معه للرجوع للأصل.

(2)يعني:مع فرض الاتفاق على عدم الدليل على تعيين أحد الحكمين،أما لو فرض إمكان قيام الدليل عند بعضهم على تعيينه أمكن الاتفاق بعد الخلاف.

(3)إذ لو أريد التخيير الظاهري أمكن منهم الاتفاق على اختيار قول معين حتى ينعقد الإجماع عليه.نعم عدم إمكان انعقاد الإجماع على تقدير القول التخيير

ص: 301

و إن كان القول به لا يخلو عن الإشكال (1) .

هذا،و قد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأول من الكتاب،عند التكلم في فروع اعتبار القطع (2) ،فراجع.

الواقعي مبني على أن المراد به التخيير بين الحكمين-الذي عرفت أنه لا معنى له- أو أن المراد به التخيير بين مفاد الحكمين عملا الذي يرجع في المقام إلى الإباحة إذا قلنا بعدم حجية الإجماع في مثل ذلك مما لا يرجع إلى الحكم الشرعي،بل إلى الوظيفة الظاهرية في مقام الامتثال،و إلا فاللازم إمكان فرض انعقاد الإجماع في ذلك.فتأمل.

هذا و قد يحمل كلام الشيخ قدس سرّه على التخيير الظاهري الراجع إلى جواز اختيار أحد القولين و الالتزام به،و يكون منعه من انعقاد الإجماع لدعوى أن اتفاقهم على اختيار أحد القولين لما كان بملاك التخيير لم يكن مانعا منه و موجبا لتعيين ذلك القول،لا أن مراده التخيير الواقعي الذي هو قول ثالث في قبالهما،فإنه لا يناسب التنظير بتعارض الخبرين جدا،كما لا فرار فيه من طرح قول الإمام عليه السّلام.

(1)كأنه لأنه التزام بحكم واقعي على خلاف قول الإمام عليه السّلام و أشد من الالتزام بحكم ظاهري على خلاف قوله.هذا و التأمل في كلام الشيخ قدس سرّه حق التأمل يشهد بأن مراده بالتخيير ليس هو التخيير الظاهري الراجع إلى التزام أحد الحكمين و العمل عليه،و لا الواقعي الراجع إلى الالتزام بأن الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري يقتضي التخيير بين مفاد القولين عملا بل هو التخيير عملا بين القولين بحكم العقل من دون التزام بحكم شرعي أصلا الراجع إلى القول بالتوقف هنا على ما تقدم تفسيره.فإن هذا هو الظاهر من عبارته،و هو الذي يمتنع انعقاد الإجماع معه،إذ الإجماع إنما ينعقد على الحكم الشرعي،و هو الذي لا يكون فيه طرح لقول الإمام،لأن الطرح إنما يكون باختيار قول مباين لقوله،لا بالتوقف.كما لا يخفى.

(2)في مبحث العلم الإجمالي.

ص: 302

و كيف كان:فالظاهر بعد التأمل في كلماتهم في باب الإجماع إرادتهم ب(طرح قول الإمام عليه السّلام)الطرح من حيث العمل (1) ،فتأمل.

شمول أدلة الإباحة لما نحن فيه

و لكن الإنصاف:أن أدلة الإباحة في محتمل الحرمة (2) تنصرف إلى محتمل الحرمة و غير الوجوب (3) ،و أدلة نفي التكليف عما لم يعلم نوع التكليف (4) لا تفيد إلا عدم المؤاخذة على الترك و الفعل،و عدم تعيين الحرمة أو الوجوب،و هذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما (5) (1)يعني:فلا بأس بطرح قول الإمام في مقام الالتزام إذا لم يستلزم مخالفة عملية و كأنه لأن الالتزام به على أنّ الحكم الظاهري لا ينافي الالتزام بالحكم الواقعي على إجماله الذي هو مقتضى التدين بالدين و التسليم لهم عليهم السّلام.لكن عرفت الإشكال في التعبد بالحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للواقع.

(2)مثل:«كل شيء لك حلال...»و قد عرفت الكلام في مفاده.

(3)لازمه قصور هذه النصوص...عما إذا تردد الأمر بين حرمة الشيء و وجوبه و إباحته،و لا يظن من أحد البناء على ذلك.نعم سبق أن هذه النصوص لا تدل على الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة،أو بالمعنى المقابل للحرمة و الوجوب،بل مجرد الترخيص الذي يجتمع مع الوجوب.

(4)مثل حديث الحجب و الرفع.

(5)كيف لا ينافيه و مقتضاه عدم رفع التكليفين و المؤاخذة على مخالفة ما يختاره منهما،فلو تم الدليل على ذلك كان مخصصا للأدلة المذكورة.اللهم إلا أن يقال:إن الأدلة المذكورة إنما تقتضي رفع المؤاخذة على أحد الحكمين من حيثية الشك فيه،فلا تنافي لزوم الاختيار من حيثية العلم الإجمالي بأحد الحكمين.نظير ما يذكره في الجواب عن الاستدلال على عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بأدلة البراءة.

ص: 303

مخيرا فيه.نعم،هذا الوجوب يحتاج إلى دليل و هو مفقود،فاللازم هو التوقف،و عدم الالتزام إلا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع،و لا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن حكم ظاهري (1) إذا لم يحتج إليه في العمل (2) ،نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب و الاستحباب (3) .

ثم على تقدير وجوب الأخذ،هل يتعين الأخذ بالحرمة،أو يتخير بينه و بين الأخذ بالوجوب؟ وجهان،بل قولان:

يستدل على الأول-بعد قاعدة الاحتياط،حيث يدور الأمر بين التخيير و التعيين-:

بظاهر ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة،فإن الظاهر من التوقف ترك الدخول في الشبهة (4) .

و بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة،لما عن النهاية:من أن الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل،و في الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل،و اهتمام الشارع و العقلاء بدفع المفسدة أتم.

(1)يعني:شرعي.

(2)كما في المقام،للاكتفاء بحكم العقل بالتخيير عملا.

(3)حيث إن أصل البراءة إنما يقتضي رفع الوجوب و عدم المؤاخذة عليه،لا تعيين الاستحباب.

(4)تقدم في أخبار من المصنف قدس سرّه عند الكلام في أخبار التوقف تقريب دلالتها على الاحتياط في الشبهة التحريمية بلحاظ أن ظاهر الوقوف في الشبهة السكون و عدم المضي،و هو إنما يكون بترك العمل،كما هو مقتضي الاحتياط في الشبهة التحريمية،لا بالعمل الذي هو مقتضى الاحتياط في الشبهة الوجوبية.فراجع.

ص: 304

و يشهد له:ما أرسل عن أمير المؤمنين عليه السّلام:من أن«اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات»،و قوله عليه السّلام:«أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات».

و لأن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده،لأن (1) مقصود الحرمة يتأتى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة،بخلاف فعل الواجب،انتهى.

المناقشة في الأدلة

و بالاستقراء (2) ،بناء على أن الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب و الحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة،و مثل له بأيام الاستظهار (3) ،و تحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس (4) .

و يضعف الأخير (5) :بمنع الغلبة.و ما ذكر من الأمثلة-مع عدم ثبوت الغلبة (6) بها-خارج عن محل الكلام،فإن ترك العبادة في أيام (1)هذا التعليل راجع إلى أن موافقة الحرمة أسهل و أيسر من موافقة الوجوب،و في كون هذا من المرجحات ما لا يخفى كما أن جعل ذلك تعليلا لأتمية إفضاء الحرمة إلى مقصودها من إفضاء الوجوب إلى مقصوده لا يخلو عن تسامح أو اشكال.على أن التعليل المذكور إنما يتم فيما إذا كان الوجوب تعبديا.

(2)عطف على قوله:«بظاهر ما دل على وجوب التوقف...».

(3)حيث يشرع للمرأة ترك الصلاة تغلبيا لاحتمال حرمتها الملازم لاحتمال الحيض على احتمال وجوبها الملازم لاحتمال الطهر.

(4)يعني:في الوضوء و نحوه مما يحرم مع نجاسة الماء و يجب مع طهارته.

(5)و هو الاستقراء.

(6)لقلتها.مع أن الغلبة ليست حجة،لأنها لا توجب اليقين،بل قد لا

ص: 305

الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور.و لو قيل بالوجوب فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض و حرمة (1) العبادة.و أما ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرد الرؤية (2) ،فهو للإطلاقات و قاعدة«كل ما أمكن» (3) ،و إلا فأصالة الطهارة و عدم الحيض (4) هي المرجع.

توجب الظن.

(1)ربما يراد بأصالة حرمة العبادة استصحاب حرمتها لليقين بها سابقا تبعا لليقين بالحيض و ربما يراد بها أصالة الحرمة في العبادة بلحاظ توقفها على قصد الأمر الذي يحرم مع عدم اليقين به للزوم التشريع.لكن الأخير-مع عدم اطراده في غير العبادات من الواجبات،كتمكين الزوج من الاستمتاعات-لا يمنع من الإتيان بالعبادة برجاء المطلوبية.

(2)يعني:بمجرد رؤية الدم مع احتمال أن لا يكون الدم حيضا،و لو لعدم استمراره ثلاثة أيام فيكون هذا شاهدا آخر على تغليب جانب الحرمة.

(3)لا يخفى أن الإطلاقات و قاعدة الإمكان تكونان شاهدتين على المدعى، و هو تغليب الشارع جانب الحرمة،فلا وجه لجعلهما وجها في قبال الاستقراء المدعى.نعم لو كان المدعى أن الدليل في أيام الاستظهار هو الغلبة المذكورة اتجه رده بأن الدليل هو الإطلاقات و القاعدة،لا الغلبة.

فالعمدة في رده أن الحكم في المقام على خلاف القاعدة،لأن مقتضى القاعدة استصحاب عدم الحيض المقدم على الغلبة،كما سيأتي مع أنه من المحتمل أن تكون حرمة العبادة على الحائض تشريعية،لا ذاتية،فلا تحرم لو جيء بها برجاء المطلوبية، فالأمر فيها دائر بين الوجوب و غير الحرمة،كما سيأتي في الوضوء بالماء النجس.

(4)يعني:استصحاب الطهارة من الحدث،و استصحاب عدم الحيض، و معهما لا مجال لتغليب جانب الحرمة،فإن الرجوع للغلبة إنما يكون مع عدم الأصل الشرعي.

ص: 306

و أما ترك الإناءين المشتبهين في الطهارة،فليس من دوران الأمر بين الواجب و الحرام،لأن الظاهر-كما ثبت في محله-أن حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعية (1) لا ذاتية،و إنما منع عن الطهارة مع الاشتباه لأجل النص (2) .

مع أنها لو كانت ذاتية،فوجه ترك الواجب و هو الوضوء ثبوت البدل له (3) و هو التيمم،كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين،و بالجملة:فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرما.مع أن القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعية في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعية في الحرام (4) ،لأن (1)فلو أتى به مع الشك في النجاسة برجاء المطلوبية لاحتمال الطهارة فلا حرمة لعدم التشريع.فالأمر من دوران الواجب بين أمرين المقتضي لوجوب الاحتياط مع الإمكان.

(2)يعني:فهو مخالف للقاعدة.و لعله مبني على الامتنان و التخفيف فرارا عن محذور الابتلاء بالنجاسة في الجملة.

(3)لم يتضح الوجه في كون ذلك مرجحا،فإن البدل لما كان اضطراريا كان ظاهر أدلة البدلية قصور البدل في المصلحة عن المبدل،و حينئذ فالمرتبة التامة من المصلحة يجب تحصيلها كسائر الواجبات،فالحكم بجواز تفويتها لأجل احتمال الحرمة قد يستكشف منه تغليب جانب الحرمة.

و مثله ما لو اشتبه إناء الذهب بغيره.نعم قد يستفاد من خصوص أدلة بدلية الطهارة الترابية عن المائية بثبوت البدلية في الكل ما لو لزم من الطهارة المائية محذور، و هي استفادة خاصة لا يقاس عليها.

(4)تارة:يراد من تغليب جانب الحرمة أهميتها من الوجوب مع ثبوتهما

ص: 307

العلماء و العقلاء متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفظا عن الوقوع في الحرام،فهذا المثال أجنبي عما نحن فيه قطعا.

و يضعف ما قبله (1) :بأنه يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب (2) ، لا لنفي التخيير.

و أما أولوية دفع المفسدة فهي مسلمة،لكن المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة،و إلا لم يصلح للإلزام،إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص و كون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت،لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدا يكون في فواته مفسدة (3) ،و إلا و تحقق التزاحم بينهما،أو بين ملاكيهما.و أخرى:يراد به تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب مع الدوران بينهما.

و محل الكلام هنا الثاني،و الوضوء بالماء المشتبه بالنجس-لو تم التمثيل به- من الأول،لأن المراد به الوضوء بكلا الإناءين المعلوم معه وقوع الوضوء بالنجس المفروض حرمته.هذا و الظاهر أن دعوى التغليب ممكنة في المقامين و منه يظهر الإشكال في قول المصنف قدس سرّه:«لأن العلماء و العقلاء متفقون...».

(1)و هو ترجيح احتمال الحرمة،لأن إفضاءها إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده.

(2)كأنه لأن الوجه المذكور لما كان راجعا إلى كون امتثال الحرمة أيسر فهو قد يناسب عدم تعيين الوجوب،لما هو المعلوم من كون التسهيل من سليقة الشارع الأقدس لكنه لا يناسب الإلزام بالحرمة،بل غايته التخيير بينها و بين الوجوب.

(3)و عليه لا بدّ من الفرق بين الواجب و الحرام بعد اشتراكهما في الإلزام بأن الواجب ما يكون له دخل في تحقق المرتبة اللازمة من الكمال-التي يكون تخلفها فسادا بنظر الآمر-أو في حفظ المرتبة المذكورة،و الحرام ما يكون له دخل في منع

ص: 308

لكان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهم الفرائض،مع أنه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر.

و بما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيوية و ترتب المضرة الدنيوية (1) ،فإن فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا (2) .

و أما الأخبار الدالة على التوقف،فظاهرة في ما لا يحتمل الضرر في تحقق المرتبة المذكورة أو رفعها،فمثلا لو فرض أن مرتبة ما من الصحة لازمة الحفظ، فكل ما كان محققا لها من دواء أو مبقيا لها من غذاء فهو واجب الاستعمال،و كلما كان مانعا منها أو رافعا لها فهو محرم.و ما لا دخل له في المرتبة المذكورة،وجودا أو عدما،بل هو دخيل في مرتبة زائدة عليها يكون مستحبا أو مكروها.و لعله هو المراد بالحسنات،و بالنفع في كلام المصنف قدس سرّه.و قد أطلنا الكلام في ذلك في مبحث اجتماع الأمر و النهي من حاشية الكفاية.

(1)يعني:حيث لا إشكال في أولوية دفع المضرة من تحصيل المنفعة.لكنه ممنوع،بل يختلف باختلاف مراتب الأهمية في الطرفين.

(2)يعني:فلا يقاس بالواجب.نعم لو كان المراد بالنفع ما يساوق الواجب الذي يكون فوته مستلزما للمفسدة اتجه منع أولوية دفع الضرر منه كما يتضح بما تقدم التمثيل به من الدواء و الغذاء.

ثم إنه لو فرض تمامية القاعدة فلا مجال ظاهرا للاستدلال بها في المقام، لاختصاصها بما إذا دار الأمر بين امتثال الوجوب و امتثال الحرمة مع ثبوتهما معا أو ثبوت ملاكيهما-كما في باب التزاحم-لا في مثل المقام مما تردد الأمر بينهما و علم بثبوت أحدهما لا غير.كما أوضحناه في مبحث اجتماع الأمر و النهي من حاشية الكفاية.

ص: 309

تركه (1) ،كما لا يخفى.

و ظاهر كلام السيد الشارح للوافية:جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام،و هو بعيد (2) .

و أما قاعدة«الاحتياط عند الشك في التخيير و التعيين»فغير جار في أمثال المقام مما يكون الحاكم فيه العقل (3) ،فإن العقل إما أن يستقل (1)لظهورها في كون الموقوف مقتضى الاحتياط،و لا مجال لذلك مع احتمال الوجوب المستلزم لترتب الضرر بترك المشتبه.لكن المفروض عند الأخباريين عدم احتمال الضرر كما سبق.

(2)إذ الاحتياط من جميع الجهات متعذر،و من بعضها و إن كان ممكنا،إلا أنه كما يكون باختيار الحرمة يكون باختيار الوجوب،لأن في كل منهما موافقة لاحتمال التكليف في الواقعة.لكن حيث كان مذهبهم الرجوع للبراءة في احتمال الوجوب كان الاحتياط بلحاظ احتمال الحرمة هو المتعين كما سبق من جهة الوجوب عملا بأدلة البراءة،فالاحتياط بلحاظ احتمال الحرمة هو المتعين على مذهبهم.و أما على مذهب الأصوليين فالنصوص المذكورة لا تصلح لإثبات منجزية الشبهة التحريمية، بل لا تشمل الشبهة إلا بعد فرض تنجزها،و لا مجال لتنجزها في المقام بسبب تعذر الموافقة و المخالفة القطعيتين،كما سبق.

(3)هذا مختص بما إذا كان لزوم اختيار أحد الحكمين عقليا أما لو كان شرعيا فهو حكم توقيفي قابل للشك،من دون فرق بين كون مدركه الأدلة النقلية أم العقل، إذ لو فرض عدم إدراك العقل لجهة تقتضي الترجيح أمكن وجودها واقعا و ترجيح الشارع لأجلها.و لم يتضح الوجه في كون لزوم اختيار أحد الحكمين في المقام -لو قيل به-عقليا لا شرعيا،بل مقتضي الاستدلال عليه بوجوب الالتزام بالحكم الشرعي أنه شرعي.

غاية الأمر أن المقام لا يكون من صغريات الدوران بين التعيين و التخيير

ص: 310

بالتخيير و إما أن يستقل بالتعيين،فليس في المقام شك على كل تقدير،و إنما الشك في الأحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل.

إلا أن يقال:إن احتمال أن يرد من الشارع حكم توقيفي في ترجيح جانب الحرمة-و لو لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه-كاف في الاحتياط و الأخذ بالحرمة (1) .

هل التخيير على القول به ابتدائي أو استمراري؟

ثم لو قلنا بالتخيير،فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عما اختار،أو مستمر فله العدول مطلقا،أو بشرط البناء على الاستمرار؟ وجوه.

يستدل للأول:بقاعدة الاحتياط،و استصحاب الحكم المختار، و استلزام العدول للمخالفة القطعية المانعة عن الرجوع إلى الإباحة من أول الأمر (2) .

بل من صغريات الدوران بين المطلق و المقيد للدوران بين وجوب الالتزام بأحد الأحكام الشرعية مطلقا و بخصوص الحرمة.نعم لو قيل بالتوقف شرعا،مع الإيكال إلى حكم العقل كان تخيير العقل بين الفعل و الترك عملا مختصا به لا غير، فلا يتصور فيه التردد،لما ذكره المصنف قدس سرّه.

(1)كأنه لدعوى متنجز العلم الإجمالي بنحو يجب الفراغ عنه إما واقعا أو تعبدا،و لا مجال لإحراز الفراغ الواقعي مع فرض الجهل،و لا لإحراز الفراغ التعبدي مع اختيار الوجوب لفرض الشك في جوازه فيتعين الاحتياط باختيار الحرمة.لكن الإشكال في منجزية العلم الإجمالي في مثل المقام مما يتعذر فيه المخالفة القطعية و الموافقة كذلك،بل الظاهر عدم منجزيته،فليس في المقام إلا الشك في تعبد الشارع باحتمال الحرمة،و هو غير منجز مع فرض عدم الدليل.

(2)لم يتقدم هنا أن المخالفة القطعية هي المانع من البناء على الإباحة،بل

ص: 311

و يضعف الأخير:بأن المخالفة القطعية في مثل ذلك لا دليل على حرمتها (1) ،كما لو بدا للمجتهد (2) في رأيه،أو عدل المقلد عن مجتهده لعذر-من موت،أو جنون،أو فسق-أو اختيارا (3) على القول بجوازه (4) .

و يضعف الاستصحاب:بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه (5) .

تقدم أن المانع انصراف الأدلة أو قصورها بسبب العلم بالخطإ،و لا أثر للمخالفة المذكورة.نعم تقدم من المصنف قدس سرّه عند الكلام في العلم الإجمالي من مباحث القطع جعل ذلك هو المانع من الرجوع للإباحة و تقدم الكلام فيه.

(1)لأن المخالفة القطعية في إحدى الواقعتين إجمالا مشفوعة بالموافقة القطعية في الأخرى،أما مع التخيير الابتدائي فاللازم الموافقة الاحتمالية في كلا الواقعتين المشفوعة بالمخالفة الاحتمالية فيهما،و لا موجب لأولوية الثاني،كما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع،و إن سبق من المصنف قدس سرّه المنع من المخالفة القطعية المذكورة.فراجع.

(2)هذا و ما بعده ليس نظيرا للمقام،لأن مقتضى الحجة اللاحقة خطأ الحجة السابقة فالمخالفة الحاصلة من جهة العمل بها ليست متعمدة،فهو نظير انكشاف الخطأ للقاطع بالحكم العامل بقطعه.نعم يصح التنظير بما ذكره أخيرا من العدول من أحد المجتهدين للآخر اختيارا بناء على جوازه.لكن تقدم منه قدس سرّه في مبحث القطع الفرق بينه و بين المقام،و تقدم الكلام في ذلك.

(3)عطف على قوله:«لعذر».

(4)يعني:جواز العدول اختيارا من أحد المجتهدين للآخر.

(5)لم يتضح الوجه في الحكومة،فإنه إذا فرض أن اختيار أحد الحكمين موجب لثبوته في حق المكلف و لو حين الاختيار كان استصحابه مقتضيا لتعينه في

ص: 312

و يضعف قاعدة الاحتياط:بما تقدم،من أن حكم العقل بالتخيير عقلي لا احتمال فيه حتى يجري فيه الاحتياط.

و من ذلك يظهر:عدم جريان استصحاب التخيير،إذ لا إهمال في حكم العقل حتى يشك في بقائه في الزمان الثاني.

فالأقوى:هو التخيير الاستمراري،لا للاستصحاب بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزمان الأول.

الواقعة الثانية،فيعارض استصحاب التخيير.

و دعوى:أن الشك في بقاء الحكم الأول مسبب عن الشك في بقاء عدم التخيير.

ممنوعة،بل هما متلازمان خارجا،و لا سببية بينهما شرعية.

مضافا إلى الإشكال في استصحاب التخيير إذا كان عقليا بما سبق و سيأتي من المصنف قدس سرّه.باختصاص الاستصحاب الشرعي بالأحكام الشرعية و موضوعاتها نعم يشكل استصحاب الحكم المختار في الواقعة الأولى بأن الاختيار لا يوجب اليقين بالحكم الواقعي،و لا قيام الحجة عليه حتى يمكن استصحابه،و إنما يوجب الحكم ظاهرا بمقتضى الحكم المختار،و حيث كان المتيقن من موضوع الحكم الظاهري هو الاختيار فلا مجال لاستصحابه بعده بحيث يلزم به قهرا عليه.

بل لو كان التخيير بحكم العقل كان الحكم الظاهري التابع له عقليا،و هو عبارة عن محض تنجز احتمال الحكم المختار،فلا يمكن استصحابه.فتأمل جيدا.

ص: 313

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب و الحرمة من جهة إجمال الدليل

إما حكما (1) ،كالأمر المردد بين الايجاب و التهديد،أو موضوعا، كما لو أمر بالتحرز عن أمر مردد بين فعل الشيء و تركه.فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

(1)يعني:أن الإجمال تارة:يكون فيما يدل على الحكم،كما في صيغة(افعل) إذا ترددت بين الإيجاب و التهديد.

و أخرى:يكون فيما يدل على معروض الحكم هو و موضوعه،كما لو تردد الموضوع للوجوب بين الفعل و الترك،كما لو قال:يجب ترك الأكل و الشرب،و تردد (الشرب)بين أن يكون معطوفا على الترك،فيكون واجبا،و أن يكون معطوفا على الأكل،فيكون محرما.

ص: 314

المسألة الثالثة

لو دار الأمر بين الوجوب و التحريم من جهة تعارض الأدلة

فالحكم هنا:التخيير،لإطلاق أدلته،و خصوص بعض منها الوارد في خبرين أحدهما أمر و الآخر نهي.

خلافا للعلامة رحمه اللّه في النهاية و شارح المختصر و الآمدي،فرجحوا ما دل على النهي،لما ذكرنا سابقا (1) ،و لما هو أضعف منه.

و في كون التخيير هنا بدويا،أو استمراريا مطلقا أو مع البناء من أول الأمر على الاستمرار،وجوه تقدمت،إلا أنه قد يتمسك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار.

و يشكل:بأنها مسوقة لبيان حكم المتحير في أول الأمر (2) ،فلا تعرض لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما.

(1)من أن الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل،و في الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل،و اهتمام الشارع و العقلاء بدفع المفسدة أتم.لكن ذلك لو تم لا مجال له في قبال الأدلة الشرعية على التخيير لو تمت.

(2)هذا خلاف إطلاق الأدلة المسوقة للتخيير،كما ذكرناه في مبحث التعادل.

ص: 315

نعم،يمكن هنا استصحاب التخيير،حيث إنه ثبت بحكم الشارع القابل للاستمرار (1) .

إلا أن يدعى:أن موضوع المستصحب أو المتيقن من موضوعه هو المتحير،و بعد الأخذ بأحدهما لا تحير.فتأمل (2) .و سيتضح هذا في بحث الاستصحاب،و عليه:فاللازم الاستمرار على ما اختار (3) ،لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني (4) .

(1)قد يشكل بأن مرجع التخيير إلى حجية الخبر الذي يختار،فرجع استصحابه إلى استصحاب الحجية التعليقية و التحقيق عدم جريان الاستصحاب التعليقي.

(2)لعله إشارة إلى أن ارتفاع التحير في الواقعة الأولى لا ينافي بقاء التحير في الوقائع اللاحقة.و تمام الكلام في مبحث التعادل.

(3)و هو الضابط في موضوع الاستصحاب.

(4)لأنه متيقن الحجية،دون الآخر.و بذلك تختلف هذه المسألة عن المسألة الأولى،حيث لم يكن التخيير حكما شرعيا و لا مستفادا من دليل شرعي،ليكون ما يختاره أولا متيقن الحجية-نعم هذا مبني على قصور إطلاقات التخيير عن الوقائع اللاحقة،و قد عرفت المنع من ذلك.

ص: 316

المسألة الرابعة

لو دار الأمر بين الوجوب و الحرمة من جهة اشتباه الموضوع و قد مثل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطؤها-بالأصالة،أو لعارض من نذر أو غيره-بالأجنبية،و بالخل المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

و يرد على الأول:أن الحكم في ذلك هو تحريم الوط ء،لأصالة عدم الزوجية بينهما (1) ،و أصالة عدم وجوب الوط ء (2) .

(1)للعلم بسبق عدم زوجيتها حتى لو كانت هي الزوجة.

(2)و لا مجال لمعارضته بأصالة عدم حرمة الوط ء،لحكومة أصالة عدم الزوجية عليها.

و أما دعوى:أن أصالة عدم الزوجية حاكمة على أصالة عدم الوجوب فلا مجال لذكرها معها.فهي مندفعة بأن الوجوب ليس من أحكام الزوجية،بل من أحكام الحلف،و الزوجية ليست موضوعا للحلف،بل هما عارضان على الذات الخاصة كهند،فأصالة عدم الزوجية لا تحرز عدم الحلف إلا بناء على الأصل المثبت، فهي تحرز عدم الوجوب كي تكون حاكمة على أصالة عدم الوجوب.نعم قد يدعى حكومة أصالة عدم الحلف على أصالة عدم الوجوب،فيكون الأولى ذكرها.

فتأمل.

ص: 317

و على الثاني:أن الحكم عدم وجوب الشرب و عدم حرمته،جمعا بين أصالتي الإباحة (1) و عدم الحلف على شربه.

و الأولى:فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول و حرم إكرام الفساق و اشتبه حال زيد من حيث الفسق و العدالة (2) .

و الحكم فيه كما في المسألة الاولى:من عدم وجوب الأخذ بأحدهما في الظاهر،بل هنا أولى،إذ ليس فيه اطراح لقول الإمام عليه السّلام (3) ،إذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلي الذي بينه الإمام عليه السّلام،و ليس فيه أيضا مخالفة عملية (4) معلومة و لو إجمالا،مع أن مخالفة المعلوم إجمالا في العمل (1)عرفت الإشكال في الرجوع إلى أصالة الإباحة في أمثال المقام،للعلم بكذبها.إلا أن يراد بالإباحة ما يقابل الحرمة،فيساوق عدم الحرمة،و تدل عليه أدلة البراءة.هذا و قد يتمسك باستصحاب عدم الحرمة،و استصحاب عدم الحلف.إلا أنه يعلم اجمالا بكذب أحدهما،فهو مبني على عدم منع ذلك من جريان الأصل إذا لم يلزم منه مخالفة عملية.نعم يمتاز المثال عما نحن فيه بجريان الأصل الموضوعي- و هو أصالة عدم الحلف-في أحد الطرفين فقط.فتأمل.

(2)هذا إنما يتم فيما إذا لم يكن استصحاب عدم الفسق و عدم العدالة،لتوارد الحالين مع الجهل بالتاريخ و إلا كان الأصل الموضوعي مغنيا عن الكلام في جريان البراءة،نظير ما تقدم في المثال السابق.

(3)يعني:فلا مجال للشبهة السابقة في المسألة الأولى من وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى.و قد تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع التعرض لذلك.فراجع.

(4)هذا مشترك بين الشبهة الموضوعية و الحكمية.

ص: 318

فوق حد الإحصاء في الشبهات الموضوعية (1) .

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة،أعني دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة،و عكسه،و دوران الأمر بينهما.

و أما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب و الحرمة من الأحكام (2) ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا.

و ملخصه:أن دوران الأمر بين طلب الفعل أو الترك و بين الإباحة نظير المقامين الأولين،و دوران الأمر بين الاستحباب و الكراهة نظير المقام الثالث.و لا إشكال في أصل هذا الحكم (3) إلا أن إجراء أدلة البراءة في (1)كأنه لكثرة الخطأ في الأصول و الأمارات الجارية فيها بسبب كثرة موارد الاحتياج إليها.أو لأجل الشبهة غير المحصورة.لكن كثرة الخطأ لا توجب القطع بالمخالفة-و لو إجمالا-إلا بعد وقوعها مع العذر حينها،لفرض قيام الأصل و الأمارة.و ملاك جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة أجنبي عما نحن فيه جدا.فلا مجال للتنظير بذلك للمقام.

(2)و هو دوران الأمر بين الاستحباب و غير الكراهة،و عكسه،و دوران الأمر بين الاستحباب و الكراهة.و هذا لم يتعرض المصنف قدس سرّه لصورة دوران الأمر بين الحرمة و الوجوب و غيرهما من الأحكام غير الإلزامية.و اللازم الرجوع في نفي الحكم الإلزامي لما تقدم في الدوران بين الحرمة و غير الوجوب.كما تقدم في أول الكلام في نفي هذا الموضع و في الكراهة أو الاستحباب إلى ما سيذكره المصنف قدس سرّه.

فتأمل جيدا.

(3)لم يتضح وجه الجمع بين عدم الإشكال في ذلك مع ما ذكره بقوله:

«إلا أن أجراء أدلة البراءة...».إلا أن يكون مراده من أدلة البراءة خصوص أدلة الرفع و السعة و نحوهما،دون مثل أدلة قاعدة الحل،كقوله قدس سرّه:«كل شيء لك حلال

ص: 319

صورة الشك في الطلب الغير الإلزامي-فعلا أو تركا-قد يستشكل فيه، لأن ظاهر تلك الأدلة نفي المؤاخذة و العقاب،و المفروض انتفاؤهما في غير الواجب و الحرام (1) .فتدبر.

حتى...».

لكن سبق في المسألة الأولى من المطلب الثالث الإشكال في دلالة مثل ذلك على الحل بمعنى الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة،بل الظاهر دلالتها على الحل بمعنى الإذن المقابل للتحريم.و لا سيما مع كون الغاية فيها هي العلم بالحرمة، فلا تنفع فيما نحن فيه.

و كذا الحال في أدلة الاحتياط كما إن الأدلة لا تجري هنا أيضا،لاختصاص حكم العقل بنفي العقاب.و اختصاص الإجماع ينفي التكليف،لعدم ثبوت بنائهم على النفي في الأحكام غير الإلزامية.

بل لعل المشهور على البناء على الاستحباب مع بلوغه،لروايات من بلغه ثواب على عمل.التي تقدم الكلام فيها،فالجزم منه قدس سرّه بإلحاق الكلام هنا بما تقدم في غير محله،بل هو لا يناسب ما تقدم منه في تبويب المسائل عند الكلام في مبحث البراءة.

حيث أنه بعد أن قسم الكلام إلى المطالب الثلاثة المتقدمة قال:«و هذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام و اختصاص الخلاف في البراءة و الاحتياط به،فلو فرض شموله للمستحب و المكروه يظهر حاله من الواجب و الحرام فإن ظاهره التردد في الإلحاق.فلاحظ.و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم.

(1)يعني:لعدم المقتضي مع قطع النظر عن تلك الأدلة.

و الحمد للّه رب العالمين.انتهى الكلام في الموضع الأول ليلة الأحد(18) ربيع الأول سنة(1390)للهجرة.محمد سعيد الطباطبائي الحكيم عفي عنه.

و انتهى تبيضه ليلة الثلاثاء(12)صفر الخير سنة(1392)هجرية.

ص: 320

الموضع الثاني

اشارة

في الشك في المكلف به مع العلم بنوع التكليف

بأن يعلم الحرمة أو الوجوب و يشتبه الحرام أو الواجب.

و مطالبه-أيضا-ثلاثة:

ص: 321

ص: 322

المطلب الأول

اشارة

في دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب (1)

و مسائله أربع:

الأولى
اشارة

لو علم التحريم و شك في الحرام من جهة

اشتباه الموضوع الخارجي

و إنما قدمنا الشبهة الموضوعية هنا،لاشتهار عنوانها في كلام العلماء، بخلاف عنوان الشبهة الحكمية.ثم الحرام المشتبه بغيره إما مشتبه في أمور محصورة،كما لو دار بين أمرين أو أمور محصورة،و يسمى بالشبهة المحصورة،و إما مشتبه في أمور غير محصورة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين.و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

(1)يكفي في ذلك عدم العلم بالوجوب،إذ لا أثر لاحتمال الوجوب في المنع من وجوب إطاعة الحرمة المعلومة.

ص: 323

أماالمقامالأول
اشارة

[في الشبهة المحصورة]

فالكلام فيه يقع في مقامين:

أحدهما:جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور و طرح العلم الإجمالي و عدمه (1) ،و بعبارة أخرى:حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم و عدمها.

الثاني:وجوب اجتناب الكل و عدمه،و بعبارة أخرى:وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم و عدمه.

أما المقام الأول:

هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات؟

فالحق فيه:عدم الجواز و حرمة المخالفة القطعية،و حكي عن ظاهر بعض جوازها.

لنا على ذلك:وجود المقتضي للحرمة و عدم المانع عنها.

أما ثبوت المقتضي:فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه،فإن قول الشارع:«اجتنب عن الخمر»،يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين أو أزيد،و لا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا.

(1)عطف على قوله:«جواز ارتكاب...».

ص: 324

مع أنه لو اختص الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن كونه حراما (1) واقعيا و كان حلالا واقعيا،و لا أظن أحدا يلتزم بذلك،حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة،فإن الظاهر إرادتهم الأعم من المعلوم إجمالا.

(1)يظهر من هذا أن المانع من جهة المخالفة القطعية لا يمنع من ثبوت التكليف واقعا بالمعلوم إجمالا،كما لا يمنعه مع الجهل،و إنما يمنع من تنجزه بالعلم الإجمالي،كما يتنجز مع الجهل،لدعوى اختصاص منجزية العلم التفصيلي منه.

و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال في المقام بإطلاق أدلة الأحكام الواقعية الشامل للمعلوم بالإجمال،فإنه إنما يقتضي ثبوت الحرمة واقعا لا تنجزها.بل لما كانت منجزية العلم ذاتية فعمومها للإجمالي منه و خصوصها تابع لما يدرك بطريق العقل وجدانا.و لا مجال لإقامة البرهان عليه و الاستدلال بالإطلاق أو غيره إذ هو إنما يتجه في الأمور الواقعية التي لها واقع محفوظ وراء الوجدان.

نعم مدعي إدراك العقل منجزية العلم الإجمالي تارة:يدعي أنه علة تامة للتنجز،بنحو غير قابل للرفع الشرعي،كالعلم التفصيلي،نظير معذرية الغفلة عن قصور.

و أخرى:يدعى أنه مقتض للتنجز بنحو يقبل الرفع الشرعي،نظير معذرية الجهل مع الشك و التردد حيث إنه قابل للرفع الشرعي بجعل الاحتياط،كما تقدم.

و الثاني لا بد له من دفع توهم صلوح أدلة الأصول الشرعية للرفع المذكور.أما الأول فهو في غنى عن ذلك.ضرورة أن ظهور الأدلة الشرعية لا ينهض برفع اليد عن المدارك العقلية.

هذا و الحق هو الأول،و هو منجزية العلم الإجمالي بنحو لا يقبل الرفع المتشرعي و لا بد من رفع اليد عن ظهور الأدلة الشرعية لو تم لأجل ذلك إما بالتخصيص أو بالتأويل بنحو لا ينافي ذلك.

ص: 325

و أما عدم المانع:فلأن العقل لا يمنع من التكليف (1) -عموما أو خصوصا (2) -بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور، و العقاب (3) على مخالفة هذا التكليف.

و أما الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد،من قولهم عليهم السّلام:«كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه»،و«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه»،و غير ذلك، بناء على أن هذه الأخبار كما دلت على حلية المشتبه (4) مع عدم العلم الإجمالي و إن كان محرما في علم اللّه سبحانه،كذلك دلت على حلية المشتبه مع العلم الإجمالي.

و يؤيده:إطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات (5) ، مثل الثوب المحتمل للسرقة و المملوك المحتمل للحرية و المرأة المحتملة للرضيعة،فإن إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجمالي،بل الغالب (1)عرفت أن التكليف الواقعي مع الإجمال ليس محلا للكلام،و إنما الكلام في تنجزه معه،و هو يناسب ما ذكره بقوله:«و العقاب على مخالفة...»،إذ العقاب ليس من شئون التكليف،بل من شئون تنجزه.

(2)بيان التكليف،و أنه قد يكون واردا على عنوان عام متحقق في مورد العلم الإجمالي كالخمر و قد يكون واردا على خصوص مورد العلم الإجمالي،كزيد المشتبه بين رجلين.

(3)عطف على(التكليف)في قوله:«لا يمنع من التكليف...».

(4)يعني:الحلية الظاهرية الملازمة لعدم تنجز التكليف الواقعي.

(5)و هو موثق مسعدة بن صدقة.و مثله في ذلك النصوص الواردة في الجبن.

ص: 326

ثبوت العلم الإجمالي،لكن مع كون الشبهة غير محصورة.

عدم صلاحية أخبار(الحلّ)للمنع عن الحرمة

و لكن هذه الأخبار و أمثالها لا تصلح للمنع،لأنها كما تدل على حلية كل واحد من المشتبهين،كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا،لأنه أيضا شيء علم حرمته (1) .

(1)يعني:فيلزم من شمولها لأطراف المعلوم بالإجمال التناقض،لأن مقتضي صدرها عدم الاجتناب عن كلا المشتبهين،و مقتضي ذيلها الاجتناب عن المعلوم الإجمالي المتحد مع أحدهما،فلا بد من دعوى قصورها عنه و اختصاصها بالشبهة البدوية،و سيأتي منه قدس سرّه نظير ذلك في تعارض الاستصحابين.

لكن الظاهر أنه لا يلزم التناقض مع اختلاف الحيثية المأخوذ في موضوع الحكم،فكل من الإنائين لا يجب الاجتناب عنه بشخصه من حيثية كونه مشكوك الحكم،و إن وجب الاجتناب عنه لو صادف أنه إناء زيد المعلوم الحرمة،و مع اجتماع الحيثيتين يتعين العمل على مقتضي الحيثية الثانية،لأنها من سنخ المقتضي و الحيثية الأولى من سنخ اللامقتضي الذي لا يزاحم المقتضي مع اجتماعهما.

نعم هذا إنما يتم في القسم الأول من الروايات،و هو ما كان بلسان:«كل شيء لك حلال حتى تعلم...»أما القسم الثاني و هو ما كان بلسان:«كل شيء فيه حلال و حرام...»فلا مجال لذلك فيه،لما سيأتي من عدم انطباقه إلا على المعلوم بالإجمال، فلا يلزم من تطبيقه على أطراف العلم الإجمالي التناقض،و لا اجتماع الجهتين بالوجه الذي ذكرنا.

نعم قد يقال:لما كان مقتضي تطبيق القسم الأول على أطراف المعلوم بالإجمال اجتماع جهتين تقتضي إحداهما عدم الاجتناب و الأخرى الاجتناب،و كان العمل على الثانية لأنها من سنخ المقتضي،كان اللازم تحكيمه،على القسم الثاني لو فرض شموله له للأطراف،لعدم تعرضه للجهة الأولى المفروض كونها من سنخ اللامقتضي،فلا تزاحم الجهة الثانية التي هي من سنخ المقتضي المستفادة من القسم الأول.

ص: 327

فإن قلت:إن غاية الحل معرفة الحرام بشخصه و لم يتحقق في المعلوم الإجمالي.

قلت:أما قوله عليه السّلام:«كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فلا يدل على ما ذكرت،لأن قوله عليه السّلام:«بعينه»تأكيد للضمير (1) و بالجملة:كما كان مقتضى الجمع بين الصدر و الذيل في القسم الأول العمل على الذيل،فكذلك مقتضى الجمع بين ذيل القسم الأول و القسم الثاني العمل على الأول،لعين تلك الجهة.

و فيه:أنه إنما يتم في مثل حديث الرفع مما تضمن عدم المؤاخذة مع الجهل، فإنه و إن كان خاليا عن الذيل إلا أن مفاده مطابق لمفاد الصدر في القسم الأول،و لا يتم في مثل القسم الثاني،فإنه بلسان آخر من حيث المفروغية فيه عن وجود الحرام في محل الاشتباه الظاهر في خصوص صورة العلم الإجمالي،فلو بني على تحكيم القسم الأول عليه لزم حمل الحكم بالحل فيه على الاقتضائي لا غير و لا يكون فعليا،و هو مما يأباه جدا،بل هو ظاهر في عدم منجزية العلم الإجمالي بنفسه ما لم يتميز الحرام المعلوم بالإجمال بشخصه،فيكون أخص من مفاد الذيل في القسم الأول،فيخصص الذيل به و يحمل على خصوص العلم التفصيلي،و يكون العمل على هذا القسم في العلم الإجمالي المقتضي لعدم منجزيته،فيتم مدعى الخصم.

هذا ما يقتضيه الجمع العرفي بين هذه النصوص.إلا أنه لا بد من الخروج عن مقتضاه بما يأتي إن شاء اللّه تعالى.فتأمل جيدا.

(1)يعني:ضمير(أن)في قوله:«أنه حرام»فيكون تأكيدا لثبوت الحرمة للشيء،لا لثبوت المعرفة له،و تأكيد ثبوت الحرمة إنما هو لبيان عدم احتمال الخطأ أو التسامح فيها.

و توضيح ذلك:إن مفاد التأكيد بالنفس و العين و نحوهما دفع توهم عدم ثبوت الحكم للموضوع حقيقة بحيث يكون إثباته أولا مبنيا على الخطأ أو التسامح

ص: 328

جيء به للاهتمام في اعتبار العلم،كما يقال:«رأيت زيدا نفسه بعينه»لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية،و إلا فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمته بعينه (1) ،فإذا علم نجاسة إناء زيد و طهارة إناء عمرو فاشتبه الإناءان، فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم،يتصف هذا المعلوم المعين بكونه لا بعينه إذا أطلق عليه عنوان (أحدهما)فيقال:أحدهما لا بعينه،في مقابل أحدهما المعين عند القائل.

و أما قوله عليه السّلام:«فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه»، فله ظهور في ما ذكر،حيث إن قوله:«بعينه»قيد للمعرفة (2) ،فمؤداه لتنزيل غيره منزلته،فإذا قيل:جاء الأمير بنفسه،كان مفاد التأكيد دفع توهم مجيء غير الأمير ممن يشتبه به أو ينزل منزلته.

و حينئذ فالحديث الشريف قد تضمن حكمين:

الأول:الحكم بالعلم و موضوعه مفاد الجملة المعبر عنه ب(أنه حرام).

الثاني:الحكم بالحرمة،و موضوعه ضمير(أنه)الراجع إلى(شيء)و حيث كان ضمير(بعينه)راجعا لضمير(أنه)الراجع إلى(شيء)كان تأكيدا للحكم الثاني بالحرمة الوارد على الضمير المذكور،لا للحكم الأول بالعلم الوارد على مفاد الجملة:بل لعله لا يصح تأكيد الحكم الوارد على مفاد الجملة على أنه لو صح لم ينفع في دعوى الخصم،فإن العلم بالحكم بعينه لا يتوقف على تمييز موضوعه تفصيلا،بل يتحقق مع العلم الإجمالي به.

(1)يعني:فكلمة(بعينه)لا تفيد تقييد ما قبلها بقيد لا ينهض ببيانه لتفيد في المقام اعتبار المعرفة التفصيلية،بل هي لتأكيد الحكم الذي تضمنه و دل عليه من دون زيادة شيء عليه.

(2)إذ ليس هنا إلاّ حكم واحد و هو المعرفة المتعلقة بالحرام،بخلاف الحديث

ص: 329

اعتبار معرفة الحرام بشخصه (1) ،و لا يتحقق ذلك إلا إذا أمكنت الإشارة الحسية إليه،و إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال و إن كان معلوما بهذا العنوان (2) إلا أنه مجهول باعتبار الأمور المميزة له في الخارج عن إناء الأول على ما سبق.

(1)هذا يتوقف على أن يكون الظاهر من معرفة الشيء بعينه معرفته بمشخصاته الخارجية،و لا يكفى معرفته بعنوانه المختص به،فلا يصح أن تقول عرفت كما لو قيل،علمت أن أحدهما نجس لا بعينه.و حينئذ لا تكون(لا بعينه)تأكيدا لما قبلها،بل إجمالا منه،لبيان نحو المعرفة و قيدا فيها،و هو نحو آخر من التركيب لا يناسب تركيب الحديث الذي هو محل الكلام القائل بعينه،إذا عرفت أنه أكبر الإخوة و لم تعرف من هو الأكبر و لم تميزه بمشخصاته الخارجية،و هو لا يخلو عن قرب بل هو المتعين في الحديث الشريف؟لظهوره في اختصاص الاجتناب بالحرام المعروف بسبب معرفته، و ذلك إنما يتم في خصوص المعرفة الشخصية التفصيلية،إذ مع المعرفة الإجمالية بسبب معرفة العنوان-كعنوان إناء زيد-لا مجال لاجتناب خصوص المعروف بسبب العلم المذكور،بل لا بد من اجتناب كلا الطرفين،و لو فرض اجتناب خصوص الحرام صدفة فالاجتناب المذكور ليس مسببا عن معرفة الحرام،بل عن سبب آخر صادف ذلك.

(2)و هو كونه إناء زيد.إن الحديث المذكور غير ناظر لمقام الجعل و التشريع بل لمقام التنجز و المعذرية الذي عرفت أنه محل الكلام في المقام.و حينئذ لا منافاة بينهما بل المنافاة إنما هي بين اطلاق الحديث الشريف و حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي،كما عرفت،حيث يكون الحكم بالمعذرية في ترك امتثال المعلوم بالإجمال منافيا لحكم العقل بتنجزه بالعلم الإجمالي فلا بد من تنزيل الظهور المذكور على ما لا ينافيه كما ذكرنا و سيأتي،و لعل ذلك هو مراد المصنف قدس سرّه في المقام و اليه يرجع ما سيأتي في قوله:«إن قلت».

ص: 330

عمرو،فليس معروفا بشخصه.

إلا أن إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دل على حرمة ذلك العنوان المشتبه،مثل قوله:«اجتنب عن الخمر»،لأن الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردد بينهما (1) ،و يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع،و هو مما يشهد الاتفاق و النص على خلافه،حتى نفس هذه الأخبار،حيث إن مؤداها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.

فإن قلت:مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعي،كما في الشبهة المجردة عن العلم الإجمالي،مثلا قول الشارع:«اجتنب عن الخمر»شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلف و لو إجمالا،و حليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لا يكون حراما واقعيا،فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم إجمالا.

قبح جعل الحكم الظاهري مع علم المكلف بمخالفته للحكم الواقعي

قلت:الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة،لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل كما في أصالة البراءة،و إلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولا إليه،على الوجهين في الطرق الظاهرية المجعولة (2) .و أما مع (1)إنما ينافيه إذا كان كل منهما ناظرا لمقام جعل الحكم الواقعي و تشريعه لمنافاة الموجبة الكلية للسالبة الجزئية و من الظاهر.

(2)الكلام في مفاد الطرق الظاهرية موكول إلى محله،إلا أن الظاهر أن مفاد أدلة اعتبارها جعل حجيتها و لعله اليه يرجع الوجه الثاني الذي أشار اليه بقوله«أو

ص: 331

علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين،لأن العلم بالتحريم (1) يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرم (2) ، فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة (3) .

فإن قلت:إذن الشارع في فعل المحرم مع علم المكلف بتحريمه إنما ينافي حكم العقل من حيث إنه إذن في المعصية و المخالفة (4) ،و هو إنما يقبح مع علم المكلف بتحقق المعصية حين ارتكابها،و الإذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك إذا كان على التدريج،بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلف بها إلا بعدها،و ليس في العقل ما يقبح ذلك،و إلا لقبح الإذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة الغير المحصورة،أو في ارتكاب مقدار يعلم (5) عادة بكون الحرام فيه،و في ارتكاب الشبهة المجردة التي يعلم المولى اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية،و في الحكم بالتخيير كونه طريقا مجعولا اليه».

(1)و لو كان إجماليا.

(2)لما عرفت من حكم العقل بمنجزية العلم مطلقا.

(3)بل ينافي منجزية العلم التي بها يكون وجوب الاطاعة فعليا.

(4)منشأ المنافاة ليس ذلك.بل لأن الترخيص ينافي منجزية العلم و بعبارة أخرى:ليس المعيار في قبح الترخيص.العلم بالمعصية حين المعصية الذي هو غير حاصل مع الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي تدريجيا.بل منجز الواقع حين الترخيص الحاصل في المقام كما عرفت فلا يصلح قياس المقام بالأمثلة المذكورة لعدم تنجز الواقع فيها حين الترخيص،بخلاف المقام.

(5)يعني:يعلم بعد الارتكاب باشتمال ما ارتكب على الحرام

ص: 332

الاستمراري بين الخبرين أو فتوى المجتهدين.

قلت:إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي-أيضا-حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلق بالمصداق المشتبه،لإيجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين (1) .

نعم،لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا (2) عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز،فإذن الشارع في أحدهما لا يحسن إلا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهريا عن الحرام (1)هذا مبني على ما يأتي في المقام الثاني من وجوب الموافقة القطعية و هو متفرع على البناء في هذا المقام على حرمة المخالفة القطعية فلا وجه للجواب بذلك هنا اما ما يناسب المقام فهو دعوى منافاة إذن الشارع في كلا المشتبهين و لو تدريجيا لتنجز المعلوم بالاجمال المستلزم لحكم العقل بعدم ارتكابه.

(2)لا يبعد أن يكون المراد بجعل البدل هو التعبد بكون الواقع المعلوم بالاجمال في خصوص أحد الأطراف،فيكون رافعا لإجمال المعلوم تعبدا،و لا إشكال في إمكان ذلك،فإن للشارع التصرف في إمكانه إثباتا،كما له التصرف فيها ثبوتا و إليه يرجع جعل الأصول الاحترازية و الأمارات في الأحكام و موضوعاتها بل حتى في الامتثال،كما في مثل قاعدة الفراغ و التجاوز و الصحة في عمل الغير و نحو ذلك مما يرجع إلى احراز امتثال التكليف و الخروج عن عهدته بعد فرض ثبوته،و إليه يرجع ما ورد من الإرجاع للقرعة في بعض موارد العلم الإجمالي هذا و لو أريد بجعل البدل تبديل موضوع التكليف بغيره من دون أن يبتني على التعبد به.فهو إنما يتم مع تبدل الحكم الواقعي،لا في مقام الظاهر مع بقاء الواقع على ما هو عليه لاستحالة مخالفة الحكم الظاهري للواقع يقينا.

ص: 333

الواقعي،فيكون المحرم الظاهري هو أحدهما على التخيير (1) و كذا المحلل الظاهري،و يثبت المطلوب و هو حرمة المخالفة القطعية بفعل كلا المشتبهين.

و حاصل معنى تلك الصحيحة:أن كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال،حتى تعرف أن في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام،و الأول في العلم التفصيلي و الثاني في العلم الإجمالي (2) .

(1)جعل البدل-بالمعنى الذي سبق-لا ينحصر بنحو التخيير،بل قد يكون بنحو التعيين،كما في موارد القرعة،فلا بد من النظر في مفاد دليل جعل البدل.

(2)عرفت أن الحديث مختص بالعلم الإجمالي و ظاهر في عدم منجزيته،فلا مجال لحمله على منجزية العلم الإجمالي و تنزيله على ما يعم المعرفة الإجمالية.و مجرد منافاة الإطلاق لحكم العقل لا يصحح حمله على ذلك.نعم لا بأس بتنزيله على العلم الإجمالي غير المنجز،كما في موارد عدم الابتلاء ببعض الأطراف و نحوها مما يأتي في بعض التنبيهات الآتية.

و يناسبه ورود المضمون المذكور في بعض طرقه في الجبن،الذي قد يجعل فيه الميتة،و من المعلوم عدم الابتلاء بأكثر أفراد الجبن.بل لعل ذلك هو مقتضى الجمع بين النصوص المذكورة و النصوص الكثيرة الواردة في الإنائين المشتبهين و الثوبين المشتبهين و الغنم الموطوءة الصريحة في منجزية العلم الإجمالي مع الابتلاء بتمام اطرافه.و يأتي في المقام الثاني التعرض لبعض النصوص الأخر التي قد تنافي ما سبق.

إلا أن هذا لا يناسب رواية سماعة:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني أمية و هو يتصدق منه و يصل منه قرابته و يحج ليغفر له ما اكتسب

ص: 334

فإن قلت:إذا فرضنا المشتبهين مما لا يمكن ارتكابهما إلا تدريجا، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا،فالمقصود من التخيير و هو ترك أحدهما حاصل مع الإذن في ارتكاب كليهما،إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد،فضلا عن قصد الامتثال.

وجوب الاحتياط فيما لا يرتكب إلا تدريجا أيضا

قلت:الإذن في فعلهما في هذه الصورة-أيضا-ينافي الأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرم،لما تقدم:من أنه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين لا يصح الإذن في أحدهما إلا بعد المنع عن الآخر بدلا عن المحرم الواقعي (1) ،و معناه المنع عن فعله بعده (2) ، لأن هذا هو الذي يمكن أن يجعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعي حتى لا ينافي أمره بالاجتناب عنه،إذ تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن و يقول:إن الحسنات يذهبن السيئات.فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة،و إن الحسنة تحط الخطيئة.ثم قال:إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس»و نحوه ما ورد في أكل المال المختلط بالربا.

لكن حيث لا مجال للخروج بهذه النصوص عن ما عرفت من القاعدة العقلية المعتضدة بما عرفت من الأدلة النقلية،فلا بد من الاقتصار فيها على مواردها مع حملها على تبدل الحكم واقعا،أو تنزيلها على جعل البدل الظاهري بدفع الخمس، كما تعرضت له بعض النصوص،و تفصيل الكلام في الفقه.

(1)عرفت أنه لا بد من رجوعه إلى التعبد بأنه هو الحرام،فيرتفع به الإجمال تعبدا.

(2)لأن ذلك هو مقتضى التعبد بأنه الحرام الواقعي،الذي عرفت لزوم رجوع جعل البدل إليه.

ص: 335

يكون بدلا عن حرمته (1) و حينئذ:فإن منع في هذه الصورة عن واحد من الأمرين المتدرجين في الوجود لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأول، و إلا لغى المنع المذكور.

فإن قلت:الإذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة بأن لا يرتكبهما دفعة،و المفروض امتناع ذلك في ما نحن فيه من غير حاجة إلى المنع،و لا يتوقف على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأول، كما في التخيير الظاهري الاستمراري.

قلت:تجويز ارتكابهما من أول الأمر-و لو تدريجا-طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي،و التخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع،و المسلم منه ما إذا لم يسبق التكليف بمعين (2) أو سبق التكليف بالفعل (3) حتى يكون (1)لأنه حاصل على كل حال و إن لم يجعل بدلا،و لأن الحرام الواقعي يجب الاجتناب عنه أبدا.

(2)ظاهره إرادة ما إذا شك في أصل التكليف،كما يظهر من بعض المحشين قدس سرّه.

لكنه يشكل بأنه لا موضوع معه للتخيير الاستمراري،بل المرجع فيه أصل البراءة أو الاحتياط على الكلام المتقدم.إلا أن يريد بالتخيير الاستمراري فيه هو التخيير.

بين دليلي البراءة و الاحتياط.لكنه بعيد جدا.و لا سيما مع ما سبق منه من التخيير الاستمراري عند الدوران بين الوجوب و الحرمة.

فلا يبعد أن يكون المراد به أن لا يسبق التكليف بمعين من الفعل و الترك،بل سبق التكليف بالمردد بينهما،كما في الدوران بين الوجوب و الحرمة.و يناسبه ما في بعض النسخ من إبدال ذلك بقوله:«ما إذا لم يسبق بالتكليف المعين».و يستفاد ذلك من بعض شراح كلام المصنف قدس سرّه.و على هذا سنجزي في توجيه كلامه.

(3)يعني:كما في الشبهة الوجوبية.

ص: 336

المأتي به في كل دفعة بدلا عن المتروك على تقدير وجوبه،دون العكس (1) (1)يعني:إذا سبق بالتكليف المعين و لم يكن ذلك التكليف فعلا،بل كان تركا،كما في الشبهة التحريمية التي هي محل الكلام في المقام.

هذا ما يستفاد من كلمات بعض شراح كلام المصنف قدس سرّه إلا أن الكلام أن في توجيه ما ذكره قدس سرّه في الفرق.

و لا يبعد أن يكون الوجه فيه:أنه في الصورتين الأوليين لا مجال لفرض التخيير الاستمراري إلا مع تعدد الواقعة،إذ في الدوران بين الوجوب و الحرمة لو اتحدت الواقعة امتنع التخيير الاستمراري،لعدم الموضوع للتخيير إلاّ في الواقعة الواحدة.و كذا في الشبهة الوجوبية.

أما الشبهة التحريمية فيمكن فرض التخيير الاستمراري بلحاظ آنات الزمان فإذا علم بحرمة أحد الإناءين أمكن فرض التخيير الاستمراري،فيختار الخزف للحرمة و يتركه في الزمان الأول و يرتكب الزجاج،ثم بعد ذلك يختار الزجاج للحرمة و بيني عليه حلية الخزف فيستعمله،فيرتكب كلا الطرفين بسبب التخيير الاستمراري مع عدم تعدد الواقعة،و حينئذ فالوجه في إمكان التخيير الاستمراري مع تعدد الواقعة أنه في كل واقعة يحتمل الموافقة و يحتمل كون ما اختاره هو موضوع التكليف،فيمكن تعبد الشارع و به لا يلزم منه المخالفة القطعية للتكليف المنجز، لتعدد التكليف بتعدد الوقائع،و كل تكليف منها لا يعلم بمخالفته،بل تحتمل موافقته.نعم يعلم بالمخالفة في أحد التكليفين في واقعتين.لكنه مقرون أيضا بالعلم بالموافقة في أحدهما.

أما في الشبهة التحريمية مع وحدة الواقعة-كما مثلنا له-فلا مجال للتخيير الاستمراري بالنحو الذي أشرنا إليه،لأنه مستلزم للمخالفة القطعية بلا موافقة أصلا،و أما ترك الحرام في بعض الأزمنة فليس فيه موافقة أصلا،إذ موافقة الحرمة بالترك في تمام الأزمنة،لا في بعضها،ضرورة عدم إمكان استيعاب الزمان بحرام

ص: 337

بأن يكون المتروك في زمان الإتيان بالآخر بدلا عن المأتي به على تقدير حرمته،و سيأتي تتمة ذلك في الشبهة الغير المحصورة.

توهم وجود المخالفة القطعية للعلم الإجمالي في الشرعيات

فإن قلت:إن المخالفة القطعية للعلم الإجمالي فوق حد الإحصاء في الشرعيات،كما في الشبهة الغير المحصورة،و كما لو قال القائل في مقام الإقرار:هذا لزيد بل لعمرو،فإن الحاكم يأخذ المال لزيد و قيمته لعمرو، مع أن أحدهما أخذ المال بالباطل،و كذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد و قيمته من يد عمرو،مع علمه بأن أحد الأخذين تصرف في مال الغير بغير إذنه.و لو قال:هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد،حيث إنه يغرم لكل من عمرو و خالد تمام القيمة،مع أن حكم الحاكم باشتغال ذمته بقيمتين واحد،بل لا بد من تركه في بعض الأزمنة.

إذا عرفت هذا ظهر أنه لا مجال للمنع من التخيير الاستمراري في الشبهة التحريمية مطلقا،بل لا بد من تخصيصه بما إذا اتحدت الواقعة،كما هو محل الكلام في المقام.أما مع تعدد الواقعة فيجري فيه الكلام في الشبهة الوجوبية،كما لو علم بحرمة أحد شيئين في يوم الجمعة،فاختار ترك أحدهما في جمعة و ترك آخر في جمعة أخرى.و الظاهر أن هذا خارج عن مورد كلام المصنف قدس سرّه.

ثم إن الظاهر أن التخيير الاستمراري في الدوران بين الوجوب و الحرمة هو مقتضى القاعدة،لعدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال،لامتناع الموافقة القطعية و المخالفة كذلك.أما في الشبهة الوجوبية او التحريمية مع تعدد الواقعة فالتخيير مطلقا خلاف الأصل،لتنجز التكليف بالإجمال الموجب للموافقة القطعية على ما يأتي في المقام الثاني،فالاكتفاء بأحد الأطراف تخييرا يحتاج إلى دليل رافع للإجمال تعبدا حاكم بتعيين موضوع التكليف في أحد الأطراف الذي عرفت رجوع جعل البدل إليه.فتأمل جيدا.

ص: 338

مخالف للواقع قطعا (1) .

و أي فرق بين قوله عليه السّلام:«إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»،و بين أدلة حل ما لم يعرف كونه حراما،حتى أن الأول يعم الإقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع،و الثاني لا يعم الشيئين المعلوم حرمة أحدهما؟

و كذلك لو تداعيا عينا في موضع يحكم بتنصيفها بينهما،مع العلم بأنها ليست إلا لأحدهما.

و ذكروا-أيضا-في باب الصلح:أنه لو كان لأحد المودعين درهم و للآخر درهمان،فتلف عند الودعي أحد الدراهم،فإنه يقسم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين،مع العلم الإجمالي بأن دفع أحد النصفين دفع للمال إلى غير صاحبه.

و كذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن و حكم بالتحالف و انفساخ البيع،فإنه يلزم مخالفة العلم الإجمالي (2) بل التفصيلي (3) في (1)لأن أحد الرجلين غير مالك قطعا،فلا يكون تفويت المعين عليه بالإقرار للأول مضمنا،و هذا بخلاف ما لو أقر لشخصين،فإنه يحتمل أن يكون أخذ القيمة للثاني بحق،لاحتمال كونه مالكا،فيكون تفويت ملكه عليه بالإقرار الأول مقتضيا للضمان.نعم يعلم إجمالا بالمخالفة إما في دفع العين للأول أو في دفع القيمة للثاني.

(2)للعلم بعدم تملك المشتري لأحد الثمنين لو اختلفا في الثمن،و عدم تملك البائع لإحدى العينين لو اختلفا في المبيع.

(3)للعلم بعدم تملك البائع للمبيع لو كان الاختلاف في الثمن،و عدم تملك المشتري للثمن لو كان الاختلاف في المبيع.لكن ذلك يتم في جميع الفروض لا في بعضها.

ص: 339

بعض الفروض،كما لا يخفى.

قلت:أما الشبهة الغير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها.

و أما الحاكم فوظيفته أخذ ما يستحقه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهرية،كالإقرار و الحلف و البينة و غيرها،فهو قائم مقام المستحق في أخذ حقه (1) ،و لا عبرة بعلمه الإجمالي (2) .

نظير ذلك:ما إذا أذن المفتي لكل واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد،فإنه إنما يأذن كلا منهما بملاحظة تكليفه في نفسه،فلا يقال:إنه يلزم من ذلك إذن الجنب في دخول المسجد و هو حرام.

نعم لو فرض كون نزاع البائع في المبيع أو المشتري في الثمن ظلما،لأنه مبطل في دعواه أمكن لصاحبه استرجاع ما دفعه إليه و أخذه منه و تملكه من باب المقاصة لو كان بقدر حقه أو دونه و لا يكون قد فعل محرما و إن كانت المعاملة صحيحة.

(1)و حيث إن كل مستحق له الاعتماد على الطرق المنصوبة في حقه،لعدم علمه و لو إجمالا بخطئها فلا مانع من قيام الحاكم مقامه في ذلك.

نعم لو فرض أخذ الحكم لكلا المالين-و لو لامتناع المحكوم عليه بتنفيذ الحكم-كان مقتضى ضمان اليد علمه الإجمالي بضمانه لأحدهما،و هو تكليف في حق نفسه فيتنجز عليه و لو ثبت جواز أخذه حينئذ فلا بد من الالتزام بعدم كون يد الحاكم مضمنة له،تخصيصا لعموم ضمان اليد.و لذا لو فرض انكشاف خطأ الحكم لا يلتزم بضمان الحاكم في سائر الموارد.

(2)لعدم حجيته في حق كل منهما،فلا يمنع من الحكم لكل منهما بمقتضى الوظيفة في دعواه مع صاحبه.

ص: 340

و أما غير الحاكم ممن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقر لهما في مسألة الإقرار،فلا نسلم جواز أخذه لهما،بل و لا لشيء منهما،إلا إذا قلنا بأن ما يأخذه كل منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي،نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد مخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر،بناء على أن العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة-كالملكية و الزوجية و غيرهما-بصحتها عند المتلبس بها-كالمالك و الزوجين-ما لم يعلم تفصيلا من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك،و لذا قيل بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المني في صلاة واحدة (1) ،بناء على أن المناط في صحة الاقتداء الصحة عند المصلي ما لم يعلم تفصيلا فساده.

و أما مسألة الصلح (2) ،فالحكم فيها تعبدي (3) ،و كأنه صلح (1)قد يشكل ذلك في صلاة واحدة بأن الاقتداء في صلاة واحدة بشخصين إنما يشرع مع اقتداء أحدهما بالآخر و عروض البطلان على صلاة الإمام أو فراغه قبل المأموم لسفر و نحوه.و حينئذ يعلم ببطلان صلاة الإمام الثاني تفصيلا،للعلم بجنابته أو جنابة إمامه،فهو نظير اقتداء أحدهما بالآخر.

نعم لو فرض عدم حصول العلم الإجمالي لهما بجنابة أحدهما و حصوله لثالث لم يتوجه الإشكال المذكور في ائتمام الثالث بهما في صلاة واحدة،لأن جنابة الإمام مع جهل المأموم لا يوجب بطلان صلاة المأموم فلا يعلم ببطلان صلاة الإمام الثاني تفصيلا كي يمتنع به بناء على ما فرضه المصنف قدس سرّه.

(2)يعني:في درهمي الودعي.

(3)قد يوجه بأن وظيفة الودعي بالإضافة إلى المستودعين كوظيفة الحاكم بالإضافة إلى المتداعيين،فإنه مثله في عدم كون يده مضمنة،فيجري فيه ما سبق في مسألة الإقرار.

ص: 341

قهري بين المالكين،أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط (1) ،و قد ذكر بعض الأصحاب أن مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة (2) .

و بالجملة:فلا بد من التوجيه في جميع ما توهم جواز المخالفة القطعية الراجعة إلى طرح دليل شرعي،لأنها كما عرفت مما يمنع عنها العقل و النقل،خصوصا إذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصل إلى الحرام (3) .هذا مما لا تأمل فيه،و من يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر نعم لا مجال لذلك في مسألة اختلاف المتبايعين في تعيين المبيع أو الثمن، للعلم تفصيلا بعدم ملك الثمن أو المثمن لمن يرجع إليه عليه ما سبق في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع،فيتعين فيه أحد الوجوه التي ذكرها المصنف قدس سرّه و نحوها.

(1)هذا مع توقفه على كون الاختلاط موجبا للشركة الواقعية لا الظاهرية -يستلزم البناء على التثليث لا التنصيف فيكون لمالك الدرهم ثلثا درهم و لمالك الدرهمين درهم و ثلث،كما نبه إليه بعض أعاظم المحشين قدس سرّه.

(2)عملا بعموماتها و طرحا للرواية الخاصة.

(3)لم يتضح الوجه في خصوصية قصد التوصل للحرام في القبح،إذا القصد إلى الحرام إنما يقبح مع تنجزه،و مع عدم تنجزه حين الارتكاب لا وجه لقبحه.لو ارتكب المشتبه رغبة في مخالفة المولى،لا اعتمادا على أصل البراءة دخل في المعصية أو التجري على ما سبق في مبحث التجري.لكنه لا يفرق بين الخلط بقصد ارتكاب الحرام و عدمه،و لا خصوصية للخلط بالقصد المذكور في ذلك.

و دعوى:أن الخلط في المقام مع ارتكاب كلا المشتبهين مخالفة عند العقلاء للخطاب التفصيلي المتعلق بالحرام المعلوم قبل الخلط-كما قد يظهر من بعض أعاظم المحشين قدس سرّه-مدفوعة بأن الخلط بنفسه لا مخالفة فيه لخطاب أصلا،لا تفصيلا و لا

ص: 342

أنه قصد غير هذه الصورة.

و منه يظهر:أن إلزام القائل بالجواز:بأن تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرمات على وجه مباح-بأن يجمع بين الحلال و الحرام المعلومين تفصيلا كالخمر و الخل على وجه (1) يوجب الاشتباه فيرتكبهما،محل نظر (2) ،خصوصا على ما مثل به من الجمع بين الأجنبية و الزوجة (3) .

هذا كله فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين أمرين، إجمالا.و الارتكاب بعده ليس فيه مخالفة تفصيلية،بل إجمالية.و بالجملة:لم يتضح وجه الخصوصية في المقام.

(1)متعلق بقوله:«يجمع...».

(2)خبر(أن)في قوله:«و منه يظهر أن إلزام...».

(3)لم يتضح وجه الخصوصية في المثال المذكور.

نعم بناء على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي يتعين الرجوع إلى أصالة عدم زوجية كل منهما،المقتضي لحرمتها ظاهرا،و المانع من الرجوع إلى أصالة الإباحة.كما أنه بناء على انقلاب الأصل في الدماء و الفروج و الأموال و عدم جريان أصالة الحل و البراءة فيها يتعين الاحتياط من غير جهة العلم الإجمالي.

لكن الأول خلاف مذهب المصنف قدس سرّه كما يأتي في خاتمة الاستصحاب.على أنه لا يتم في اشتباه المطلقة بالزوجة و الثاني لا مأخذ له ظاهرا،و لا يظهر من المصنف قدس سرّه البناء عليه.و قد تقدم بعض الكلام فيه في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الرابعة من الشبهة التحريمية.على أنه لو تم أحد الوجهين لزم حرمة ارتكاب أطراف الشبهة مطلقا و أن لم يستند الاشتباه للمكلف،أو لم يكن بقصد ارتكاب الحرام.

ص: 343

و أما إذا كان مرددا بين عنوانين،كما مثلنا سابقا (1) بالعلم الإجمالي بأن أحد المائعين خمر أو الآخر مغصوب،فالظاهر أن حكمه كذلك،إذ لا فرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي (2) بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل و كونه معلوما بالإجمال،فإن من ارتكب الإناءين في المثال يعلم بأنه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب،و لذا لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر و المغصوب لم يجز ارتكابه،مع أنه لا يلزم منه إلا مخالفة أحد الدليلين لا بعينه،و ليس ذلك إلا من جهة أن مخالفة الدليل الشرعي محرم عقلا و شرعا،سواء تعين للمكلف أو تردد بين دليلين.

تفصيل صاحب الحدائق في الشبهة المحصورة

و يظهر من صاحب الحدائق (3) :التفصيل في باب الشبهة المحصورة (1)قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:«التمثيل بالمثال الذي ذكره لم يسبق منه دام ظله في هذا الجزء من الكتاب فلعله أراد سبقه في الجزء الأول منه»أقول:تقدم من المصنف قدس سرّه التعرض لهذه المسألة في أواخر مباحث القطع إلا أنه مثل للمقام بمثال آخر،و لا يحضر في الموضع الذي ذكره فيه المثال المذكور هنا.فراجع.

(2)لا يخفى أن موضوع القبح هو مخالفة التكليف المدلول للدليل،و لا دخل للدليل إلا من حيثية طريقته و كاشفيته عن ما تضمنه من التكليف.و حيث كان قبح مخالفة التكليف مشروطا بتنجزه فالأولى أن يعلل عدم الجواز في المقام أنه لا فرق في منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي بين تعيين التكليف مع تردد موضوعه و التردد في أصل التكليف،و مع التنجز تمتنع المخالفة القطعية،كما يمتنع الترخيص بنحو يؤدي إليها.و منه يظهر أنه لا وجه للتنظير للمقام.بما لو كان هناك إناء واحد مردد بين الخمر و المغصوب،إذ التنظير مبني على منجزية العلم التفصيلي لا الإجمالي.

فلاحظ.

(3)كأنه قدس سرّه أشار إلى ما يأتي في التنفيذ الأول نقله عن صاحب الحدائق قدس سرّه.

ص: 344

بين كون المردد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه،و بين كونه مرددا بين عنوانين فلا يجب.

فإن أراد عدم وجوب الاجتناب عن شيء منهما في الثاني و جواز ارتكابهما معا،فظهر ضعفه بما ذكرنا،و إن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه، فسيجيء ما فيه.

هل يجب اجتناب جميع المشتبهات؟

و أما المقام الثاني:

فالحق فيه:وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور، و في المدارك:أنه مقطوع به في كلام الأصحاب،و نسبه المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب،و عن المحقق المقدس الكاظمي في شرح الوافية:

دعوى الإجماع صريحا،و ذهب جماعة إلى عدم وجوبه،و حكي عن بعض القرعة (1) .

لنا على ما ذكرنا:أنه إذا ثبت كون أدلة تحريم المحرمات شاملة للمعلوم إجمالا (2) و لم يكن هنا مانع عقلي أو شرعي من تنجز التكليف به،لزم بحكم العقل التحرز عن ارتكاب ذلك المحرم بالاجتناب عن كلا المشتبهين (3) .

(1)يأتي الإشارة إلى دليله في آخر الكلام في هذا المقام.

(2)كما سبق التعرض له في المقام الأول و سبق أنه ليس محلا للكلام و لا دخل له بالمقام،و أن المهم في المقام منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي إذ معها يلزم إحراز الفراغ عنه بالاحتياط التام،لأن التكليف اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

و كان الأولى للمصنف قدس سرّه التعرض لذلك.

(3)لا وجه له إلا ما أشرنا إليه من أن التكليف اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

ص: 345

و بعبارة أخرى:التكليف بذلك المعلوم إجمالا إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعية،و المفروض في هذا المقام التسالم على حرمتها (1) ،و إن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل،إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي،فيعاقب عليه،لأن (2) المفروض لما كان ثبوت (3) التكليف بذلك المحرم لم يقبح العقاب عليه إذا اتفق ارتكابه و لو لم يعلم به حين الارتكاب (4) .

و اختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى:«اجتنب و تحرز عن الخمر المردد بين هذين الإناءين» (5) ،فإنك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط،و لا فرق بين هذا الخطاب و بين أدلة المحرمات الثابتة في الشريعة (1)لما تقدم في المقام الأول.

(2)تعليل لقوله:«فيعاقب عليه».

(3)المدار على ثبوت التكليف بمعنى وصوله،لا بمعنى حصوله و تحققه،إذ المعنى الأول هو المصحح للعقاب الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.و هو موقوف على فرض منجزية العلم الإجمالي،كما ذكرنا.أما المعنى الثاني فهو لا يستلزم العقاب كما تقدم.

(4)إذ لا دخل للعلم حين الارتكاب في قبح مخالفة التكليف بعد فرض تنجزه.

(5)لا يخفى أن فرض المولى تردد الخمر المنهي عنه بين الإناءين مستلزم لفرض إيجاب المولى الاحتياط مع الإجمالي،فلا يدل ذلك على وجوبه عقلا،نظير ما لو أمر المولى بالاحتياط في الشبهة البدوية،فلا ينفع فيما نحن فيه.و كان الأولى للمصنف قدس سرّه التمثيل بما إذا قال المولى لا تذبح هذه الشاة،ثم ترددت تلك الشاة بين شاتين عند العبد،من دون فرض ذلك عند المولى.

ص: 346

إلا العموم و الخصوص.

توهم جريان أصالة الحلّ في كلا المشتبهين و التخيير بينهما و دفعه

فإن قلت:أصالة الحل في كلا المشتبهين جارية في نفسها و معتبرة لو لا المعارض،و غاية ما يلزم في المقام تعارض الأصلين،فيتخير في العمل في أحد المشتبهين،و لا وجه لطرح كليهما.

قلت:أصالة الحل غير جارية هنا (1) بعد فرض كون المحرم الواقعي (1)لعل الأولى أن يقال:إن موضوع أصالة الحل و أدلة البراءة و إن كان متحققا في كلا الطرفين،لفرض عدم العلم بالتكليف به بخصوصه،إلا أنه إنما يقتضي الترخيص في كل منهما من حيث كونه مشكوك الحكم،و هو لا ينافي لزوم الاجتناب عنهما عقلا من حيث احتمال انطباق الحرام المنجز-و هو المعلوم بالإجمال- على كل منهما المقتضي للزوم الاحتياط بتركه،لأن الحيثية المقتضية للترخيص من سنخ اللامقتضي و الحيثية المقتضية للاحتياط من سنخ المقتضي،فيلزم العمل بالثانية و عدم مزاحمتها بالأولى.و لعل المصنّف قدس سرّه قد أراد هذا فيما يأتي منه في المسألة الأول من الدوران بين المتباينين في الشبهة الوجوبية،كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.

و بهذا التقريب يظهر أنه لا حاجة إلى دعوى تخصيص أدلة الأصول في أطراف العلم الإجمالي بحكم العقل،لأن عمومها لها يستلزم الترخيص في محتمل المعصية الذي هو قبيح عقلا،بل لا مانع من دعوى العموم،إلا أنه لا أثر له بعد فرض وجود مقتضي التنجز بحيثية أخرى،فالأصل في كل منهما إنما لا يجري لعدم الأثر، لا لقصور في الموضوع الذي هو مرجع التخصيص اصطلاحا.

و كلام المصنف قدس سرّه هنا لا ينافي ما ذكرنا،فإن حكمه بعدم جريان الأصل قد يكون لما ذكرنا لا للتخصيص.بل ربما يحمل كلام من قال بلزوم التخصيص للوجه المتقدم على عدم إرادة التخصيص المصطلح الراجع إلى قصور الموضوع،بل على مجرد عدم جريان الأصل و لو لعدم الأثر.

و كيف كان فما ذكرنا يختص بمثل قولهم عليهم السّلام:«كل شيء لك حلال حتى

ص: 347

مكلفا بالاجتناب عنه منجزا-على ما هو مقتضى الخطاب بالاجتناب عنه- لأن مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط و التحرز عن كلا المشتبهين حتى لا يقع في محذور فعل الحرام،و هو معنى المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى:«اترك ما لا بأس به حذرا عما به البأس» (1) ،فلا يبقى مجال للإذن في فعل أحدهما.و سيجيء في باب الاستصحاب-أيضا-:أن الحكم في تعارض كل أصلين لم يكن أحدهما حاكما على الآخر،هو التساقط لا التخيير.

فإن قلت:قوله:«كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»و نحوه، يستفاد منه حلية المشتبهات بالشبهة المجردة عن العلم الإجمالي جميعا، و حلية الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي على البدل (2) ،لأن الرخصة في كل شبهة مجردة لا تنافي الرخصة في غيرها،لاحتمال كون الجميع حلالا في الواقع،فالبناء على كون هذا المشتبه بالخمر خلا (3) ،لا ينافي البناء على تعلم انه حرام»لا يجري في مثل قولهم عليهم السّلام:«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال...»لظهوره في عدم منجزية العلم الإجمالي.فلا بد من الجواب عنه بما سبق في المقام الأول.فراجع.

(1)الظاهر عمومه لما نحن فيه،لا اختصاصه به.

(2)بمعنى البناء على حلية بعضها و كون الآخر بدلا ظاهريا عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال،نظير مفاد القرعة.و قد تقدم أن هذا ممكن في أطراف العلم الإجمالي،لعدم منافاته للحكم المعلوم بوجه.

(3)لا يخفى أن مفاد أدلة البراءة و الحل هو البناء على حلية المشتبه بالخمر،لا البناء على كونه خلا،إلا بناء على الأصل المثبت.لملازمة الحلية للخلية و سيأتي من

ص: 348

كون المشتبه الآخر خلا.

و أما الرخصة في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي و البناء على كونه خلا لما تستلزم وجوب البناء على كون المحرم هو المشتبه الآخر (1) ،فلا المصنف التعرض لذلك.

(1)يمكن توجيه مراد المصنف قدس سرّه بوجهين:

الأول:أنه لما كان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ممتنعا إلا بضميمة وجوب البناء على أن المحرم هو بعض الأطراف و الحلال بعضها الآخر بنحو جعل البل كان مقتضى عموم أدلة أصالة الحل و البراءة للأطراف ثبوت اللازم المذكور شرعا.و لعل هذا الوجه هو المستفاد من صدر كلامه قدس سرّه.

و فيه:أنه إذا توقف عموم العام لفرد على إعمال عناية زائدة على حكم العام فلا تنهض أصالة العموم بإثبات عمومه له و إثبات تلك العناية.خصوصا مع كون مقتضي ذلك في المقام هو الترخيص في كلا الطرفين بنحو البدل،و ظاهر العام هو الشمول لتمام الأفراد بنحو الاستغراق.

مضافا إلى أن ظاهر أدلة أصالة الحل هو التعبد بالحل في ظرف الشك فيه ابتداء،و ليس ذلك هو مقتضى جعل البدل،بل مقتضاه تعيين المعلوم بالإجمال من بين الأطراف،و الفرق بينهما هو الفرق بين الحكم بالحلية ابتداء و الحكم بتعيين الحلال و الحرام بعد الفراغ عن وجودهما في رتبة سابقة.

الثاني:أن احتمالات الحلية في أطراف العلم الإجمالى لما لم تكن في عرض واحد،بل كان احتمالها في بعضها راجعا إلى احتمال الحرمة في الآخر،و كان مقتضي أصالة الحل البناء على مقتضى احتمال الحل و العمل به كان مقتضى إجرائها في بعض الأطراف البناء على الحرمة في الآخر.و قد يستفاد هذا الوجه من ذيل كلامه قدس سرّه في قوله:«و الحاصل:أن...»و لا يخفى اختلاف هذا الوجه عن الأول بأن المدعى فيه التعبد بالحل و الحرمة في الأطراف ابتداء،و المدعي في الأول التعبد بتعيين الحلال

ص: 349

يجوز الرخصة فيه جميعا،نعم يجوز الرخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه و البناء على أن المحرم غيره،مثل:الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا،فإنه لما علم من الأدلة تحريم الخمر الواقعي و لو و الحرام المفروضين.

و فيه:أولا:إنه إن أريد بذلك التلازم بين احتمال الحل في بعض الأطراف و احتمال الحرمة في بعضها الآخر،فهو مسلم،للتلازم بين المحتملين،إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل المثبت.و إن أريد به وحدة الاحتمال،فيدفعه أن المعيار في وحدة الاحتمال وحدة المحتمل،و من الظاهر تعدد المحتملين،و هما الحل و الحرمة،و تعدد موضوعيهما،و هما طرفا العلم الإجمالي.

مضافا إلى أن وحدة الاحتمال لا تكفى في إثبات حرمة الطرف الآخر بعد أن كان مفاد أصالة الحل البناء على الحل لا غير،فإن اللازم الاقتصار على مفاد دليل التعبد و لا إطلاق له في التعبد بالاحتمال المذكور من جميع الجهات حتى جهة الحرمة في الطرف الآخر.

و ثانيا:إن ظاهر أدلة الحل البناء على احتمال الحلية في جميع موارده بنحو العموم الاستغراقي،و هو يقتضي في المقام التعبد بالضدين-أعني الحل و الحرمة-في كل طرف،المانع منهما معا.و حمله في المقام على التخيير و العموم البدلي لا دليل عليه، و لا يناسبه لسان الجعل.و مجرد امتناع العموم الاستغراقي لا يقتضيه بل يقتضي سقوط عموم الأدلة عن الحجية.

هذا كله بناء على قصور أدلة أصالة الحل عن شمول جميع الأطراف، لاستلزامه الترخيص في المعصية.أما بناء على ما ذكرنا من أن مفادها الترخيص في كل طرف من حيثية كونه مشكوك الحكم،و إن كان يجب الاجتناب عنه من حيثية توقف امتثال التكليف المعلوم بالإجمال عليه فلا موقع لهذا الكلام،و لا يتوجه شيء من الوجهين حتى يحتاج إلى الجواب عنه بما سبق.فتأمل جيدا.

ص: 350

تردد بين الأمرين،كان معنى الرخصة في ارتكاب أحدهما الإذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرم عليه و أن المحرم غيره،فكل منهما حلال، بمعنى جواز البناء على كون المحرم غيره.

و الحاصل:أن مقصود الشارع من هذه الأخبار أن يلغي عن طرفي الشك في حرمة الشيء و حليته احتمال الحرمة و يجعل محتمل الحلية في حكم متيقنها،و لما كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شك واحد و لم يكن فيه إلا احتمال كون هذا حلالا و ذاك حراما و احتمال العكس،كان إلغاء احتمال الحرمة في أحدهما إعمالا له في الآخر و بالعكس،و كان الحكم الظاهري في أحدهما بالحل حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر،و ليس معنى حلية كل منهما إلا الإذن في ارتكابه و إلغاء احتمال الحرمة فيه المستلزم لإعماله في الآخر.

فتأمل حتى لا تتوهم:أن استعمال قوله عليه السّلام:«كل شيء لك حلال» بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي و الشبهات المجردة استعمال في معنيين (1) .

قلت:الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلية محتمل التحريم (1)كأن منشأ التوهم المذكور بناء على الوجه الأول هو أن جعل البدل في أطراف العلم الإجمالي مضمون زائد على مفاد أصالة الحل،و بناء على الوجه الثاني هو أن الالتزام بجهة الطرف الآخر أيضا مضمون زائد على مفاد أصالة الحل.و لكن التأمل في تقريب الوجهين يقتضي اندفاع ذلك،فإن جعل البدل على الأول من لوازم عموم العام،و ليس داخلا في مضمونه المطابقي حتى تكون إرادته منه مستلزمة لاستعماله في معنيين.كما أن التعبد بالحرمة على الثاني لخصوصية الاحتمال الخاص، فهي خصوصية مصداقية غير مرادة من اللفظ،و ليست راجعة إلى مفهوم الكلام.

ص: 351

و الرخصة فيه،لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل (1) .

و لو سلم،فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك،و ليس الأمر بالبناء على كون أحد المشتبهين هو الخل أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر (2) ،فليس في الروايات من البدلية عين و لا أثر،فتدبر.

أدلة القول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام:
اشارة

احتج من جوز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام و منع عنه بوجهين:

ما دلّ على حلّ ما لم يعلم حرمته

الأول:الأخبار الدالة على حل ما لم يعلم حرمته التي تقدم بعضها، و إنما منع من ارتكاب مقدار الحرام،إما لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام و هو حرام،و إما لما ذكره بعضهم (3) :من أن ارتكاب مجموع المشتبهين حرام،لاشتماله على الحرام،قال في توضيح ذلك:

إن الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم و جوز استعمال ما لم يعلم حرمته،و المجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة و لو باعتبار جزئه و كذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر،فيجب اجتنابه،و كل منهما (1)هذا مسلم،كما أشرنا إليه،و ذكرنا أن مفاد أصالة الحل في محتمل الخمرية حليته،لا أنه هو الحلال المفروض الوجود و إن كان لازما لحليته،إلا أنه قد سبق منافي تقريب الوجه الأول دعوى:أن التعبد بتعيين الحلال من الحرام من لوازم شمول الأدلة للأطراف،لا أنه داخل في مضمونها المطابقي.فالعمدة ما ذكرنا في الجواب عنه.

(2)عرفت في تقريب الوجه الثاني دعوى:أن البناء على حرمة الآخر مقتضي العمل باحتمال الحلية في الطرف الأول،لوحدة الاحتمال.نعم عرفت الجواب عنه بما قد يرجع بعضه إلى ما ذكره المصنف قدس سرّه.

(3)قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:«لا يخفى عليك أن هذا البعض الفاضل النراقي في مناهجه».

ص: 352

بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا.

و الجواب عن ذلك:أن الأخبار المتقدمة-على ما عرفت-إما أن لا تشمل شيئا من المشتبهين،و إما أن تشملهما جميعا (1) ،و ما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأول،فغير صالح للمنع.

أما الأول،فلأنه:إن أريد أن مجرد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام،فلم يدل دليل عليه (2) ،نعم تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام من حيث التجسس (3) المنهي عنه و إن لم يحصل له (1)فإن كان المراد من الغاية حصول العلم مطلقا و لو كان إجماليا لم تشمل الأخبار كلا المشتبهين،و إن كان المراد منها خصوص العلم التفصيلي كانت شاملة لهما معا.

هذا و قد عرفت قرب دعوى شمولها لهما معا،إلا أنها لا تقتضي الترخيص من جميع الجهات،بل من حيثية كون الطرف المشكوك التكليف،فلا مانع من لزوم الاجتناب عنه لتوقف امتثال التكليف المعلوم بالإجمال عليه.

(2)و لذا لا إشكال في جواز الفحص عن الشبهة الموضوعية بعد الارتكاب، و في جواز ارتكاب بقية أطراف الشبهة المحصورة لو فرض عدم تنجزها،كما لو فرض الالتفات إلى العلم الإجمالي بعد ارتكاب بعض الأطراف،فيجوز الرجوع إلى أصل البراءة في بقية الأطراف و ارتكابها و إن لزم منه العلم بارتكاب الحرام.

(3)لا يبعد اختصاص حرمة التجسس بما إذا كان الاطلاع على الأمر المستور موجبا لنقص المتصف به في دينه أو عرضه أو نحوهما،فلا يشمل الفحص عن ارتكاب الغير للحرام إذا كان عن عذر منه-كالجهل-و لم يكن الحرام مما يقتضي نقصه في غير جهة الدين،كما في شرب المتنجس جهلا خصوصا إذا لم يحتج الاطلاع

ص: 353

العلم (1) .

و إن أريد:أن الممنوع عنه عقلا من مخالفة أحكام الشارع-بل مطلق الموالي-هي المخالفة العلمية (2) دون الاحتمالية،فإنها لا تعد عصيانا في العرف،فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو ارتكاب المجموع دون المحرم الواقعي و إن لم يعرف حين الارتكاب،و حاصله:منع وجوب المقدمة العلمية،ففيه:

مع إطباق العلماء بل العقلاء-كما حكي-على وجوب المقدمة العلمية (3) ،أنه:إن أريد من حرمة المخالفة العلمية حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة،فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا،إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا.

و إن أريد منها حرمة المخالفة التي تعلق العلم بها و لو بعدها، فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة،و قد إلى مئونة لكون الأمر المجهول ظاهرا في نفسه و لم يطلع المكلف عليه لعدم توجهه لذلك بل لا يبعد عدم صدق التجسس حينئذ.

(1)فالحرام في الحقيقة هو التجسس،لا نفس تحصيل العلم.

(2)بحيث يكون الممنوع عنه هو المخالفة عن علم،لا نفس العلم بالمخالفة، كما هو مقتضي الوجه الأول.

و هذا راجع إلى منجزية العلم الإجمالي بنحو يقتضي المنع من المخالفة، غاية الأمر دعوى أن تنجزه لا يقتضي إلا المنع من المخالفة القطعية دون المخالفة الاحتمالية،و لذا كان مرجعه إلى عدم وجوب المقدمة العلمية.

(3)لأن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ص: 354

عرفت منع حرمتها جدا (1) .

و مما ذكرنا يظهر:فساد الوجه الثاني،فإن حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه الغير المعين (2) ،فضم الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته.

نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقق،فهي مقدمة للعلم بارتكاب الحرام،لا لنفسه،فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام (3) .

و من ذلك يظهر:فساد جعل الحرام كلا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر (4) ،فإن حرمته و إن كانت معلومة،إلا أن الشرط (5) شرط لوصف كونه معلوم التحقق لا لذات الحرام (6) ،فلا يحرم إيجاد الاجتماع، إلا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق،و مرجعه إلى حرمة تحصيل (1)حيث تقدم أنه لا يحرم تحصيل العلم بارتكاب الحرام.لكن إرجاع كلامه إلى ذلك لا وجه له،فإنه بعد فرض رجوعه إلى عدم وجوب المقدمة العلمية عقلا، لا معنى لإرجاعه إلى حرمة تحصيل العلم شرعا،بل يتعيّن الجواب عنه بما تقدم من الإطباق على وجوب المقدمة العلمية.

(2)يعني:غير المعين عندنا و إن كان معينا في الواقع،و هو الحرام الواقعي.

(3)إلا أن يرجع الحكم بحرمتها إلى أن العقل يستقل بحرمة المعصية اليقينية دون الاحتمالية،فيرجع إلى ما سبق من عدم وجوب المقدمة العلمية.و سبق الكلام فيه.

(4)كما تقدم في كلام النراقي.

(5)و هو الاجتماع.

(6)فإن ذات الحرام هو أحدهما المعين في نفسه المجهول للمكلف و إن لم ينضم للآخر.

ص: 355

العلم بالحرام (1) .

ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة:

الثاني:ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة،فيجمع بينه-على تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع-و بين ما دل على تحريم العنوان الواقعي،بأن الشارع جعل بعض المحتملات (2) بدلا عن الحرام (1)و قد عرفت منه حرمة ذلك في نفسه.هذا و كلام المصنف قدس سرّه لا يخلو عن اضطراب،بسبب اختلاط الحرمة الشرعية بالعقلية في كلامه.

و الذي ينبغي أن يقال تلخيصا لما تقدم:إنه بعد فرض كون المحرم الشرعي أمرا واحدا معينا في الواقع فان كان المدعى عدم تنجزه بالعلم الإجمالي،و إنما يحرم تحصيل العلم بايقاعه شرعا أو عقلا.فيدفعه-مع ما عرفت من منجزية العلم الإجمالي- أنه لا دليل على حرمة تحصيل العلم بإيقاع الحرام غير المنجز،بل لا يحرم تحصيل العلم بايقاع الحرام حتى المنجز،و إنما الممنوع منه عقلا نفس إيقاع الحرام من باب المنع عن المعصية.و إن كان المدعى تنجزه بالعلم الإجمالي إلا أنه لا يجب تحصيل إلا طاعة العلمية،بل يكفي الإطاعة الاحتمالية،و مرجعه إلى عدم وجوب المقدمة العلمية.فقد عرفت أن وجوب الإطاعة العلمية للتكاليف الشرعية مما أطبق عليه الكل.

(2)لا يخفى أن هذا لا يناسب فرض ظهور الأخبار المذكورة في جواز ارتكاب تمام أطراف الشبهة فلا بدّ في تمامية الجمع المذكور من فرض رفع اليد عن الظهور المذكور،و حمله على جواز ارتكاب البعض لا غير.

و في بعض النسخ أبدل قوله:«على جواز تناول الشبهة...»بقوله:«على جواز تناول بعض الشبهة المحصورة فيجمع بينه و بين ما دل على تحريم العنوان الواقعي بأن الشارع...»فلا إشكال فيه من هذه الجهة.و في النسخ اختلاف من بعض الجهات الأخر أعرضنا عنها.

ص: 356

الواقعي (1) ،فيكفي تركه في الامتثال الظاهري،كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة و رخص في ترك الصلاة إلى بعضها (2) .و هذه الأخبار كثيرة:

منها:موثقة سماعة.قال:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمال بني أمية،و هو يتصدق منه و يصل قرابته و يحج،ليغفر له ما اكتسب،و يقول:إن الحسنات يذهبن السيئات،فقال عليه السّلام:إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة،و إن الحسنة تحط الخطيئة.ثم قال:إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال،فلا بأس».

فإن ظاهره:نفي البأس عن التصدق و الصلة و الحج من المال المختلط و حصول الأجر في ذلك،و ليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع (3) .و لو فرض ظهوره فيه صرف عنه،بما دل على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي،و هو مقتض بنفسه لحرمة التصرف في (1)لما تقدم من امتناع الترخيص في بعض الأطراف إلا بجعل البدل.

(2)الاكتفاء بذلك كما يمكن أن يكون من باب جعل البدل يمكن أن يكون من جهة سقوط شرطية القبلة في حال الجهل،أو من جهة التصرف في كيفية الاستقبال المعتبر في هذا الحال.و يتردد الأمر بين الأولين لو اكتفى بصلاة واحدة إلى جهة واحدة،و يتردد الأمر بين الأول و الأخير فيما لو وجب أكثر من صلاة واحدة.

كصلاتين.فلاحظ.

(3)فإن مقتضي قوله:«و هو يتصدق منه...»كون الصدقة و غيرها و بعض المال و لا دلالة فيه على الاستيعاب إن لم يكن دالا على عدمه،كما هو مفاد:«من».

ص: 357

الكل (1) ،فلا يجوز ورود الدليل على خلافها (2) ،من جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرف في البعض المحتمل أيضا،لكن عرفت أنه يجوز الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريا عن ذي المقدمة (3) .

و الجواب عن هذا الخبر:أن ظاهره جواز التصرف في الجميع،لأنه يتصدق و يصل و يحج بالبعض و يمسك الباقي،فقد تصرف في الجميع بصرف البعض و إمساك الباقي (4) ،فلا بد إما من لزوم الأخذ به و تجويز (1)لما تقدم من وجوب الفراغ اليقيني عن التكليف اليقيني.

(2)تعليل قوله:«و هو مقتض بنفسه لحرمة التصرف في الكل».

(3)يعني:فيتعين حمل الخبر عليه تصحيحا له لئلا ينافي حكم العقل.و حاصل معنى العبارة:أن ما دل على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يقتضي الاحتياط بترك الجميع عقلا و عدم جواز التصرف في البعض إلا بجعل البدل،و حينئذ لو فرض ظهور الموثقة في جواز التصرف في الجميع تعين رفع اليد عنه و حملها على إرادة التصرف في البعض و أنه مبني على جعل البدل لتلائم حكم العقل المذكور.

(4)لا يخفى أن الخبر ليس واردا لتحليل التصرف بالمال بوجه مطلق،بنحو يعم الحبس و الإمساك،و إنما هو وارد لتصحيح التصرف بالحج و الصدقة وصلة الرحم و تحليله،حتى تكون هذه العبادات حسنات تحط السيئات،كما أشرنا إليه في كلام المسائل.

و لا أقل من كون ذلك هو المتيقن من الجواب،فلا دلالة له على جواز بقية التصرفات المستوعبة للمال حتى يتم ما ذكره المصنف قدس سرّه و أما ما ذكره بعض أعاظم المحشين قدس سرّه من أن القول بأن الرواية مسوقة لبيان التصرف التقلبي لا الحسبي و إن كان من لوازم الأول مما لا يصغى إليه قطعا،فلم يتضح وجهه،بل التأمل الصادق

ص: 358

المخالفة القطعية،و إما من صرفه عن ظاهره،و حينئذ:فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرف في البعض و إن حرم عليه إمساك مقدار الحرام، ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاص يعذر فيه الجاهل،كالربا بناء على ما ورد في عدة أخبار:من حلية الربا الذي أخذ جهلا ثم لم يعرف بعينه في المال المخلوط (1) .

في الرواية يدفعه و الإنصاف أن الرواية قاصرة عن إثبات جواز التصرف في الجميع، بل المتيقن منها جوازه في بعض.

نعم مقتضى إطلاقها جواز الحج و أخويه من المال و إن كانت آخر التصرفات، بحيث لا يبقى من المال المختلط شيء يحتمل كونه هو الحرام،و هذا مما لا يجتمع مع جعل البدل،فإن لازم جعل البدل حرمة التصرف ظاهرا في القسم الأخير الباقي من المال المختلط،كما لا يخفى.و حمله على خصوص ما إذا كان التصرف بالحج و أخويه أول التصرفات و إن كان ممكنا عقلا،إلا أنه لا شاهد له بنحو يكون من الجمع العرفي الملحق بالظهور،فلا يخرج الرواية عن الإجمال المانع من الاستدلال على تشريع جعل البدل.و لا سيما مع إمكان حملها على الحلية الواقعية بسبب الخلط و لو بانتقال حق الغير إلى الذمة.

مع أنه لو سلم استفادة جعل البدل من الرواية فهي خاصة بموردها و لا عموم فيها لجميع موارد الشبهة المحصورة حتى يتعدى عن موردها مع كون الحكم فيها على خلاف الأصل.

(1)لا يخفى أن الأخبار المذكورة ظاهرة في أن أخذ مال الربا جهلا مع عدم العلم إلا بعد اختلاطه موجب لحله.و هو أجنبي عن مضمون رواية سماعة، لظهورها في أن الجهل بعين المال الحرام ناش من الخلط لا سابق عليه.

و إن شئت قلت:ظاهر الرواية المفروغية عن حرمة المال المأخوذ حين أخذه و أن الجهل بعينه بسبب اختلاطه،لا أنه أخذ عن جهل بحرمته و لم يعلم حرمته إلا

ص: 359

و بالجملة:فالأخبار الواردة في حلية ما لم يعلم حرمته على أصناف.

الأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته:
أخبار الحلّ و الجواب عنها

منها:ما كان من قبيل قوله عليه السّلام:«كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام».

و هذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لا يرى جواز ارتكاب المشتبهين،لأن حمل تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة و الآحاد المعينة في الشبهة المجردة من العلم الإجمالي و الشبهة الغير المحصورة،متعسر بل متعذر (1) ،فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي.

ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة و الجواب عنه

و منها:ما دل على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة بعد الاختلاط،كما هو مفاد روايات الربا،فلا مجال لحمله على مضمونها.

هذا و ربما احتمل كون المراد من الخلط الخلط من العامل،لا من المكتسب، فتكون الرواية مساوقة لما دل على حل المأخوذ من العمال مع عدم العلم بحرمته بعينه الذي يأتي الكلام فيه.

لكنه خلاف الظاهر كما يشهد به التأمل في فقرات الرواية.فالعمدة في ردّ الاستدلال بالرواية ما عرفت.

و الإنصاف أن الرواية من المجملات بعد صعوبة الالتزام بمضمونها الظاهر منها بدوا.

فالأولى إيكال المراد منها لهم عليهم السّلام و الوقوف عنها.و لا مجال للاستدلال بها في المقام.فلاحظ.و اللّه سبحانه تعالى العالم العاصم.

(1)تقدم الكلام في وجه عدم إمكان الرجوع للروايات المذكورة في إثبات جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام.فراجع.

ص: 360

المحصورة،مثل الخبر المتقدم (1) .

و هذا أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه،و لا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة-لأن مورده فيها-فيجب حمله على أقرب المحتملين:من ارتكاب البعض مع إبقاء مقدار الحرام،و من وروده في مورد خاص،كالربا و نحوه مما يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة (2) .

و من ذلك يعلم:حال ما ورد في الربا من حل جميع المال المختلط به (3) .

أخبار جواز الأخذ من العامل و السارق و السلطان و الجواب عنها

و منها:ما دلّ على جواز أخذ ما علم فيه الحرام (4) إجمالا،كأخبار جواز الأخذ من العامل و السارق و السلطان.

(1)و هو موثقة سماعة،لكن تقدم الكلام في دلالتها على جواز ارتكاب جميع الأطراف.

(2)بدعوى أن الجهل،بالحرمة في الربا موجبة لحله واقعا بعد العلم مع عدم العلم التفصيلي به،فالعلم التفصيلي مأخوذ في موضوع التحريم،لا طريق اليه كي يكون العلم الإجمالي أيضا طريقا،و يلحقه حكم الشبهة المحصورة.

(3)لعله تعريض بمن استدل به على ما نحن فيه من جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام،كما حكاه بعض أعاظم المحشين عن بعض من قارب عصره لعل هذا هو المراد بالأخبار الكثيرة التي أشار إليها المصنف قدس سرّه في تقريب الوجه الثاني لدعوى المستدل.

(4)لا يبعد وقوع التصحيف في العبارة،و أن المراد جواز الأخذ مما علم أن فيه الحرام،من دون أن يعلم بوجود الحرام في نفس المأخوذ،لأن هذا هو الذي دلت عليه النصوص المشار إليها،و هو الذي يمكن فرض حجية يد المسلم فيه.

ص: 361

و سيجيء (1) :حمل جلها أو كلها على كون الحكم بالحل مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم (2) ،و متفرعا على تصرفه المحمول على الصحة عند الشك (3) .

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار عن القاعدة العقلية الناشئة عما دلّ من الأدلة القطعية على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة الواقعية -و هي (4) وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين،و وجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين-مشكل جدا (5) ،خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين هما كالدليل على (1)لم يتضح أين ذكر ذلك.

(2)التي لا مجال لدعوى سقوطها عن الحجية بسبب العلم الإجمالي بحرمة بعض ما تحت يد المأخوذ منه و عدم ملكيته له،لعدم كون بعض الأطراف مورد الابتلاء للآخذ أو عدم كونه تحت قدرته،فلا يتنجز معه العلم الإجمالي،كما يأتي في التنبيه الثالث و الخامس،فلا يمنع العلم الإجمالي من حجية اليد.

نعم لو فرض العلم الإجمالي بحرمة ما هو تحت القدرة و الابتلاء-كما لو علم إجمالا بحرمة أحد المالين المأخوذين من السلطان-تعين سقوط اليد عن الحجية، و لزم الخروج عن إطلاق الأدلة المذكورة.

(3)يظهر منه الرجوع إلى أصالة الصحة في تصرف المسلم المقتضية لترتب الأثر عليه و هو تملك الآخذ.لكنه لا يخلو عن إشكال،لعدم الدليل على أصالة الصحة في التصرف مع الشك في سلطان المتصرف و ولايته على التصرف،كما يأتي في خاتمة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

(4)الضمير يرجع إلى قوله:«القاعدة العقلية».

(5)خبر لقوله:«فالخروج بهذه الاصناف...».

ص: 362

المطلب.

اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين:
اشارة

أحدهما:الأخبار الدالة على هذا المعنى:

منها:قوله:«ما اجتمع الحلال و الحرام إلا غلب الحرام الحلال» (1) ، و المرسل المتقدم:«اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس» (2) ،و ضعفها ينجبر بالشهرة المحققة و الإجماع المدعى في كلام من تقدم (3) .

و منها:رواية ضريس،عن السمن و الجبن في أرض المشركين؟قال:

«أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكل،و أما ما لم تعلم فكل»،فإن (1)هذا الحديث لا يخلو عن إجمال،فإن الاجتماع يصدق مع التمييز و عدم الاشتباه،و لا يتوقف على الاشتباه،و لا قرينة على حمله عليه.خصوصا مع أن ظاهر غلبة الحرام صيرورة الحلال حراما واقعا،لا كونه بحكمه من حيث لزوم الاجتناب عنه عقلا مع بقائه على الحلية واقعا.

و لعل المراد به أنه إذا اجتمع السبب المقتضي للتحريم مع السبب المقتضي للتحليل كان التأثير للأول،كما لو استند الموت إلى السبب المحلل كالتذكية،و الى السبب المحرم كالمتردي.أو المراد أنه إذا فتحت باب الحرام بين الناس غلب الحلال و ترك الناس الحلال إلى الحرام لأنه أسهل عليهم،أو نحو ذلك مما هو أجنبي عما نحن فيه.و بالجملة:لا مجال للاستدلال بالحديث على ما نحن فيه بعد عدم ظهوره فيه بدوا و عدم القرينة المعينة له.

(2)تقدم في أول الكلام في وجوب الموافقة القطعية استشهاد المصنف قدّس سرّه بالحديث المذكور و تقدم الإشكال فيه.

(3)الانجبار لو تم مشروط باعتمادهم عليه في الفتوى،و لا قرينة عليه في المقام بعد ما عرفت من الوجه العقلي المقتضي لوجوب الاحتياط،لقرب اعتمادهم عليه لا على الخبرين.

ص: 363

الخلط يصدق مع الاشتباه (1) .و رواية ابن سنان:«كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان أن فيه الميتة»،فإنه يصدق على مجموع قطعات اللحم أن فيه الميتة (2) .

و منها:قوله في حديث التثليث:«وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم»بناء (3) على أن المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام،فإن كان الحرام لم يتنجز التكليف به فالهلاك المترتب عليه منقصته الذاتية،و إن كان مما يتنجز (1)هذا خلاف الظاهر جدا.

(2)لكن يصدق على كل منها أنه لم يعلم أن فيه الميتة،فلا بد من الرجوع فيه إلى ما سبق في دفع الاستدلال على جواز الارتكاب بنصوص قاعدة الحل.فراجع.

مضافا إلى قرب أن يكون المراد به خصوص صورة الخلط،كما يشهد به أنه وارد في الجبن في رواية عبد اللّه بن سليمان المروية عن التهذيب و الكافي،و لم أعثر عاجلا على رواية لابن سنان بهذا اللسان.و لعله غلط من النساخ.

(3)تقدم منه قدس سرّه التعرض لذلك في المسألة الأولى من مسائل الشبهة التحريمية البدوية،و رتب عليه دلالتها على استحباب الاحتياط في الشبهة البدوية،و تقدم منا الإشكال في ذلك،حيث ذكرنا ظهور الأدلة المذكورة في الإرشاد إلى لزوم الاحتياط، فهي مختصة بالشبهة المنجزة في نفسها،و حينئذ فهي تدل على لزوم الاحتياط في الشبهة المنجزة،و لا تصلح لبيان منجزية الشبهة،كما نحن بصدده هنا.

كما أنه بناء على ما ذكره فلا بد في صحة الاستدلال بهما من الفراغ عن منجزية الشبهة و كونها موردا للعقاب،و معه لا حاجة للاستدلال بهذه الأوامر،كما هو الحال في سائر الأوامر الإرشادية،فإنها لا تقتضي أمرا زائدا على ما هو ثابت بدونها.

و من ثم تعرض المصنف قدس سرّه في ذيل هذا الكلام إلى الفائدة في الاستدلال المذكور، و يأتي الكلام فيها.

ص: 364

التكليف به-كما في ما نحن فيه-كان المترتب عليه هو العقاب الأخروي، و حيث إن دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة،و لما كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم إجماعا كان الاجتناب عن الشبهة المجردة غير واجب،بل مستحبا.

و فائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر:معارضته لما يفرض من الدليل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيرا،و جعل الآخر بدلا عن الحرام الواقعي،فإن مثل هذا الدليل (1) -لو فرض وجوده-حاكم على الأدلة الدالة على الاجتناب عن عنوان المحرم الواقعي (2) ،لكنه معارض بمثل خبر التثليث و بالنبويين (3) ،بل مخصص بها لو فرض عمومه للشبهة (1)و هو دليل جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيرا،و جعل الآخر بدلا.

(2)لأنه يقتضي تعيين الحرام الواقعي في خصوص ما يختاره ظاهرا،فيكون شارحا لموضوع الأدلة المذكورة،و لا يبقي معه موضوع لوجوب الاحتياط.

(3)الظاهر أن دليل جعل البدل حاكم بل وارد على الأدلة المذكورة،لأنه يقتضي رفع الشبهة تعبدا و تمييز المعلوم بالإجمال،نظير أدلة القرعة،فيخرج مورده عن موضوع الأدلة المذكورة.

كما أنه لو كان مفاده مجرد الحكم بحلّ بعض الأطراف و حرمة بعضها الآخر من دون تمييز للمعلوم بالإجمال-كما هو مقتضي ثاني الوجهين الذين أشرنا إليهما في تقريب كلام المصنف قدس سرّه في جعل البدل-فهو لا يقتضي رفع الشبهة تعبدا،إلا أنه يقتضي انحلال العلم الإجمالي الموجب لعدم منجزية الشبهة،فتخرج أيضا عن موضوع الأدلة المذكورة،لاختصاصها بالشبهة المنجزة في نفسها،بقرينة ذكر الهلكة في روايات التثليث و ذكر الحذر في النبوي الثاني.

نعم قد بشكل الحال في النبوي الأول،إذ لم يفرض في موضوعه إلاّ اجتماع

ص: 365

الابتدائية،فيسلم تلك الأدلة،فتأمل.

ما يستفاد من الأخبار الكثيرة:من كون الاجتناب عن كل واحد من المشتبهين أمرا مسلما

الثاني:ما يستفاد من أخبار كثيرة:من كون الاجتناب عن كل واحد من المشتبهين أمرا مسلما مفروغا عنه بين الأئمة عليهم السّلام و الشيعة،بل العامة أيضا،بل استدل صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة.

لكن الإنصاف:عدم بلوغ ذلك حدا يمكن الاعتماد عليه مستقلا، و إن كان ما يستشم منها قولا و تقريرا-من الروايات-كثيرة:

منها:ما ورد في الماءين المشتبهين (1) ،خصوصا مع فتوى الأصحاب -بلا خلاف بينهم-على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا.

و منها:ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين (2) .

و منها:ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معللا بقوله عليه السّلام:«حتى يكون على يقين من طهارته».

الحلال مع الحرام بناء على أن المراد به الاختلاط و الاشتباه الحاصل مع جعل البدل، فلو كانت أدلة جعل البدل حاكمة عليه لم يبق له مورد معتد به،فتأمل جيدا.

(1)و هو الموثق:«عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو و ليس هو يقدر على ماء غيره.قال:يهريقهما و يتيمّم»و هو يدل على منجزية العلم الإجمالي بالنجاسة و عدم جريان قاعدة الطهارة في أحد الماءين،مع أنها بلسان قاعدة الحل.

(2)و هو صحيح صفوان بن يحيى:«أنه كتب إلى أبي الحسن عليه السّلام يسأله عن الرجل معه ثوبان فاصاب أحدهما بول،و لم يدر أيهما هو،و حضرت الصلاة،و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع؟.قال:يصلي فيهما جميعا».

ص: 366

فإن وجوب تحصيل اليقين بالطهارة-على ما يستفاد من التعليل- يدل على عدم جريان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة (1) ، و هو الذي بنينا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة و عدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحل،فإنه لو جرت أصالة الطهارة و أصالة حل الطهارة (2) و الصلاة (3) في بعض المشتبهين،لم يكن للأحكام المذكورة وجه،و لا للتعليل في الحكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد (1)لكن هذا لا يدل على منجزية العلم الإجمالي،لرجوعه في الفرض إلى علم تفصيلي بنجاسة الثوب الذي أصيب بالنجاسة،و الذي يراد الصلاة فيه،فعدم جريان أصالة الطهارة لكونها محكومة لاستصحاب النجاسة،بخلاف ما إذا كان النجس أحد الثوبين أو الإناءين،لعدم الأثر لنجاسة أحدهما مع إمكان الطهارة أو الصلاة بأحدهما.فالمرجع فيه أصالة الطهارة لو لا العلم الإجمالي،فالمنع من الرجوع لأصالة الطهارة ظاهر في منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى كلا الطرفين.

(2)يعني:بأحد الإناءين.و سيأتي الكلام فيه.

(3)يعني:بأحد الثوبين.لكن لا يخفى أن أصالة الحل إنما تقتضي التعبد بالحلّ التكليفي في مقابل الحرمة التكليفية عند احتمالها،لا بالحل الوضعي الراجع إلى تمامية العمل و صحته عند الشك في تمامية أجزائه أو وجود شرائطه أو فقد موانعه،بل المرجع حينئذ قاعدة الاشتغال بالعلم و استصحاب عدم ترتب الأثر،ما لم يرجع إلى أصل موضوعي حاكم بصحة العمل،كأصالة الطهارة في المقام.

و حينئذ فمن الظاهر أن الشك في حلّ الصلاة بالثوب و الطهارة بالماء مع الشك في نجاستهما ليس راجعا إلى الشك في حلها تكليفا حتى يرجع فيه إلى أصالة الحل،بل إلى الشك في صحتهما.فليس المرجع في المقام إلا أصالة الطهارة لو لا العلم الإجمالي.

ص: 367

اليقين بالنجاسة (1) .

و منها:ما دل على بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكاها من أهل الكتاب (2) ،بناء على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة (3) ، بأن يقصد بيع المذكى خاصة أو مع ما لا تحله الحياة من الميتة.

و قد يستأنس له:بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها (4) ،و هي الرواية المحكية في جواب الإمام الجواد عليه السّلام لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم؟حيث قال عليه السّلام:

«يقسم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما،فكل ما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين،و هكذا حتى يبقى واحد و نجا الباقي».

(1)عرفت أنه يمكن أن يكون وجه التعليل جريان استصحاب النجاسة في الثوب الحاكم على أصالة الحل و الطهارة.

(2)لظهوره في انحصار الانتفاع المالي بذلك،و لو لا منجزية الشبهة لتمام الأطراف أمكن بيع بعض الأطراف من المسلم أو أكله.

اللهم إلا أن يفترق المقام عن ما نحن فيه بأن أصالة الحل محكومة بأصالة عدم التذكية في كل مشتبه بنفسه.

(3)كأنه لقوة العمومات المذكورة بنحو لا مجال لتخصيصها بالأدلة المشار إليها.لكنه غير ظاهر،كما تعرضنا لذلك في شرح ما ذكره المصنّف قدس سرّه في المكاسب المحرمة.

(4)وجه الاستئناس أنه لو لم يجب الاحتياط لزم جواز الاكتفاء بترك شاة واحدة مخيرا من دون حاجة للقرعة.و إنما لم يجعله دليلا لاحتمال كونه حكما تعبديا خاصا بمورده،فلا ينافي كون مقتضى القاعدة الجواز.

ص: 368

و هي حجة القول بوجوب القرعة،لكنها لا تنهض لإثبات حكم مخالف للأصول (1) .

نعم،هي دالة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة،فإن التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعية واجب بالاجتناب عن الكل حتى يتميز الحلال و لو بطريق شرعي.

هذا،و لكن الإنصاف:أن الرواية أدل على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب (2) ،إذ على قول المشهور لا بد من طرح (1)لم يتضح الوجه في مخالفته للأصول بعد اعتراف المصنف قدس سرّه بإمكان جعل البدل في أطراف العلم الإجمالي،و كون أدلة القرعة صريحة في جعل البدل،فيرتفع معها الإجمال تعبدا،كما هو ظاهر.فينحصر وجه طرح الرواية-لو تم-بضعف سندها،أو إعراض الأصحاب عنها أو نحوهما من ما يقتضي سقوط الحديث عن الحجية،و تمام الكلام في ذلك في الفقه.

نعم لا إطلاق للرواية يقتضي عموم الرجوع للقرعة،بل يتعين الاقتصار على موردها.و دعوى فهم عدم الخصوصية مردودة على مدعيها.و لا سيما مع قرب الخصوصية لموردها،بلحاظ استلزام الاحتياط للضرر المالي المعتد به،بل لتلف المال الحلال أو تعطيله،و لا يبعد على الشارع الأقدس الاهتمام بذلك بتشريع مثل القرعة لحل مثل هذا المشكل.

نعم قد يتمسك بإطلاقات القرعة غير هذا الخبر و قد أشرنا إلى بعض الكلام في ذلك في مبحث القرعة في أواخر مبحث الاستصحاب من هذا الشرح.فراجع.

(2)لم يتضح الوجه في المبني المذكور مع ظهور الرواية في الوجوب.على أن دليل مطلب الخصم حينئذ ليس هو الرواية،بل الوجه الملزم بحملها على الاستحباب.

ص: 369

الرواية (1) أو العمل بها في خصوص موردها (2) .

نعم الرواية حينئذ لا تصلح للاستئناس بها لمذهب المشهور،لفرض قيام الدليل على عدم إرادة ظاهرها.

(1)يعني:لما سبق منه من عدم نهوضها لإثبات حكم مخالف للأصول،و قد عرفت الكلام فيه.

(2)يعني:و لا تحمل على الاستحباب.لكن حملها على الاستحباب لا يجعلها دليلا للخصم و إنما يمنع من الاستئناس بها لمذهب المشهور،كما ذكرنا.

ص: 370

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول أنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون

المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة]

أنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة (1) و غير ذلك (2) ،لعموم ما تقدم من الأدلة (3) .

و يظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل،فإنه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قواه (4) ،من عدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين، و هو:أن (5) المستفاد من قواعد الأصحاب:أنه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الإناء و خارجه لم يمنع من استعماله،و هو مؤيد لما ذكرناه.

(1)كما لو علم بنجاسة أحد الماءين.

(2)كما لو علم بنجاسة الثوب و الماء.

(3)و عمدتها حكم العقل بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بالوجه الذي سبق الكلام فيه،فإنه لا يفرق فيه بين العلم بحقيقته لتردده بين فردين من حقيقة واحدة،و الجهل بها لتردده بين فردين من حقيقتين.

(4)يعني:ما قواه صاحب المدارك قدس سرّه.

(5)بيان لكلام صاحب المدارك قدس سرّه.

ص: 371

قال (1) ،مجيبا عن ذلك:

أولا:أنه من باب الشبهة الغير المحصورة (2) .

و ثانيا:أن القاعدة المذكورة إنما تتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة و الجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها و حلالها بحرامها،فيفرق فيها بين المحصور و غير المحصور بما تضمنته تلك الأخبار،لا وقوع الاشتباه كيف اتفق،انتهى كلامه رفع مقامه.

و فيه-بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصا بغير المحصور،بل لو شك في وقوع النجاسة في الإناء أو ظهر الإناء، فظاهرهم الحكم بطهارة الماء أيضا (3) ،كما يدل عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم الغير المستبين في الماء بذلك (4) -:أنه لا (1)يعني:صاحب الحدائق قدس سرّه.

(2)كأنه من جهة أن خارج الإناء محتمل لمواضع كثيرة،لاحتمال وقوعها على ظهر الإناء أو في الارض على سعتها،أو على الثوب أو الفراش أو غير ذلك مما لا حصر له.

(3)مع أن الشبهة فيه محصورة،لترددها بين طرفين فقط.نعم هي ملحقة بغير المحصورة لعدم منجزية العلم الإجمالي،لعدم ترتب التكليف على تنجس ظهر الإناء.و يأتي في بعض التنبيهات الآتية التعرض لنظيره.

(4)ففي صحيحة علي بن جعفر عليه السّلام عن أخيه:«عن رجل رعف فامتخط، فصار ذلك الدم قطعا صغارا،فأصاب إناءه،هل يصلح الوضوء منه؟فقال عليه السّلام:إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا باس،و إن كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه»و قد استدل بها على عدم انفعال الماء بما لا يدركه الطرف من الدم،كرءوس الأبر.

و أجيب عنه-كما أشار إليه المصنف قدس سرّه-بأن إصابة الإناء لا تستلزم إصابة الماء،لإمكان تردده بين الماء و ظهر الإناء.و قد ذكر المصنف قدس سرّه أن التأويل المذكور

ص: 372

وجه (1) لما ذكره (2) من اختصاص القاعدة (3) .

أما أولا:فلعموم الأدلة المذكورة،خصوصا عمدتها و هي أدلة الاجتناب عن العناوين المحرمة الواقعية (4) -كالنجس و الخمر و مال الغير و غير ذلك-بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

و أما ثانيا:فلأنه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهية واحدة (5) ،و لم يعلم الفرق بين تردد النجس بين ظاهر الإناء و باطنه،أو بين الماء و قطعة من الأرض،أو بين الماء و مائع آخر،أو بين مائعين مختلفي الحقيقة،و بين تردده ما بين ماءين أو ثوبين أو مائعين متحدي الحقيقة.

نعم،هنا شيء آخر:و هو أنه هل يشترط في العنوان المحرم الواقعي أو النجس الواقعي المردد بين المشتبهين،أن يكون على كل تقدير متعلقا لحكم واحد أم لا؟مثلا:إذا كان أحد المشتبهين ثوبا و الآخر مسجدا،حيث ظاهر في بنائهم على عدم منجزية الشبهة في مثل ذلك،حتى لو كانت محصورة إذ لو كانت منجزة لم ينفع التأويل المذكور في جواز الوضوء.

(1)مبتدأ خبره قوله آنفا:«و فيه...».

(2)يعني:صاحب الحدائق قدس سرّه.

(3)يعني:اختصاصها بما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي ذات حقيقة واحدة.

(4)ذكرنا أن العمدة منجزية العلم الإجمالي،لا الأدلة المذكورة.فراجع ما تقدم في أول الكلام في المقام الأول.

(5)لا خفاء في الضابط المذكور غالبا،لأن الظاهر أن مراد صاحب الحدائق الاتحاد في الحقيقة عرفا،و العرف لا يتردد في وحدة الحقيقة و تعددها غالبا.فالعمدة ما ذكره أولا من عموم دليل المنع بنحو لا يناسب الفرق المذكور.

ص: 373

إن المحرم في أحدهما اللبس و في الآخر السجدة،فليس هنا خطاب جامع للنجس الواقعي،بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع:

«لا تلبس النجس في الصلاة»،و«لا تسجد على النجس».

و أولى من ذلك بالإشكال:ما لو كان المحرم على كل تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر،كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا و كون الآخر مال الغير،لإمكان (1) تكلف إدراج الفرض الأول تحت خطاب«الاجتناب عن النجس» (2) بخلاف الثاني.

و أولى (3) من ذلك (4) :ما لو تردد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو كون هذا المائع خمرا.

و توهم إدراج ذلك كله في وجوب الاجتناب عن الحرام،مدفوع:بأن الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلة المتعلقة بالعناوين الواقعية (5) ، (1)تعليل لكون الفرض الثاني أولى بالإشكال من الأول،و أن الأول أخف إشكالا.

(2)بل لما كان الخطاب باجتناب النجس في المقام غيريا ناشئا من مانعية الأمرين المذكورين في الصلاة فمرجع التكليف في المقام إلى أمر واحد،و هو التكليف بالصلاة باللباس الطاهر ذات السجود على الموضع الطاهر،فالذي يلزم مخالفته هو الخطاب الواحد بالتكليف المذكور.

(3)يعني:بالإشكال.و لم يتضح وجه الأولوية بعد فرض أن منشأ الإشكال تعدد الخطاب.

(4)يعني:من الفرض الثاني.

(5)الأولى أن يقول:مدفوع بأن الاجتناب عن الحرام الواقعي حكم منتزع

ص: 374

فالاعتبار بها لا به (1) ،كما لا يخفى.

و الأقوى:أن المخالفة القطعية في جميع ذلك غير جائزة،و لا فرق عقلا و عرفا في مخالفة نواهي الشارع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه و بين العلم الإجمالي بمخالفة أحد النهيين،أ لا ترى أنه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم أنه مال الغير أو نجس،لم يعذر (2) لجهله (3) التفصيلي بما خالفه،فكذا حال من ارتكب النظر إلى المرأة و شرب المائع في المثال الأخير (4) .

و الحاصل:أن النواهي الشرعية بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدة أمور (5) ،فكما تقدم أنه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد كالخمر مع الإذن في ارتكاب المائعين المردد بينهما الخمر، فكذا لا يجتمع النهي عن عدة أمور مع الإذن في ارتكاب كلا الأمرين من الأحكام الشرعية الواقعية الواردة على العناوين المختلفة.

(1)فمع فرض تعددها لا تنفع وحدته.

(2)للعلم التفصيلي بحرمة ما يستعمله،و إن تردد وجهه،و لا إشكال في منجزية العلم التفصيلي على كل حال.

(3)تعليل للمنفي،و هو العذر.

(4)لعدم الفرق بينه و بين المثال المتقدم في تردد الخطاب الذي يخالف.

(5)لا حاجة للتنزيل المذكور في الاستدلال على المطلب،كما لا دليل عليه.

و العمدة في المقام تنجز التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي به و إن لم يعلم نوعه أو عنوان موضوعه تفصيلا.و قد تقدم الكلام في ذلك في آخر الكلام في المقام الأول في حرمة المخالفة القطعية.

ص: 375

المعلوم وجود أحد تلك الأمور فيهما.

و أما الموافقة القطعية:فالأقوى أيضا وجوبها،لعدم جريان أدلة الحلية و لا أدلة البراءة عقليها و نقليّها.

أما النقلية:فلما تقدم من استوائها بالنسبة إلى كل من المشتبهين، و إبقاؤهما يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعية،و إبقاء واحد على سبيل البدل غير جائز،إذ بعد خروج كل منهما بالخصوص ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم (1) .

و أما العقل،فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام المردد بين الأمرين،بل الظاهر استقلال العقل في المقام-بعد عدم القبح المذكور-بوجوب دفع الضرر،أعني العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما.

و بالجملة:فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعية و المخالفة الاحتمالية،فإما أن تجوز الأولى و إما أن تمنع الثانية.

(1)ما تقدم في المقام الثاني جار هنا،بلا فرق بعد فرض منجزية العلم الإجمالي.

ص: 376

الثانى هل تختص المؤاخذة بصورة الوقوع في الحرام،أم لا؟

أن وجوب الاجتناب عن كل من المشتبهين،هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي،فلا مؤاخذة إلا على تقدير الوقوع في الحرام،أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث إنه مشتبه،فيستحق المؤاخذة بارتكاب أحدهما و لو لم يصادف الحرام،و لو ارتكبهما استحق عقابين؟

فيه وجهان،بل قولان.

أقواهما:الأول،لأن حكم العقل بوجوب دفع الضرر-بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع-حكم إرشادي (1) ،و كذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله:«تحرز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا»،لم يكن إلا إرشاديا،و لم يترتب على موافقته (1)يعني:لا يستوجب ذما نظير الذم الحاصل بالتعدي و الظلم حتى يكون منشأ لاستحقاق العقاب،لكونه كاشفا عن حكم شرعي بناء على الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع،بل غاية ما يلزم من مخالفته كون الشخص مفرطا في حق نفسه، كما أشرنا إليه في الدليل العقلي الأول من أدلة حجية الظن مطلقا.

ص: 377

و مخالفته سوى خاصية نفس المأمور به و تركه،كما هو شأن الطلب الإرشادي.

و إلى هذا المعنى أشار صلوات اللّه عليه بقوله:«اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس» (1) ،و قوله:«من ارتكب الشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم».

و من هنا ظهر:أنه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب إلى حكم العقل و بين الاستناد فيه إلى حكم الشرع بوجوب الاحتياط (2) .

و أما حكمهم بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا و استحقاق العقاب على تركه و إن لم يصادف الواقع،فهو خارج عما نحن فيه،لأن الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا،و المفروض أن الظن في باب الضرر طريق شرعي إليه (3) ،فالمقدم مع الظن كالمقدم مع القطع مستحق للعقاب،كما لو ظن سائر المحرمات بالظن المعتبر (4) .

(1)بناء على كونه دليلا في المقام،و قد أشرنا إلى ذلك في أول الكلام في المقام الأول.

(2)لا تخلو العبارة عن تسامح،إذ لا حكم للشرع بوجوب الاحتياط في المقام،و إنما وردت منه نصوص تضمنت أوامر إرشادية لا تستتبع حكما شرعيا.

(3)ربما يقال بكفاية الخوف في منجزية الضرر على تفصيل في مقدار الضرر الدنيوي الذي يجب دفعه،و قد تقدم بعض الكلام في دليل العقل على البراءة.

(4)لا يخفى أن القاطع و الظان بالظن المعتبر إنما يستحقان العقاب مع الخطأ بناء على استحقاق العقاب بالتجري،لا من حيث المعصية.و تقدم منه قدس سرّه في مبحث

ص: 378

نعم،لو شك في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الإباحة و عدم الضرر، لعدم استحالة ترخيص الشارع في الإقدام على الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان في الترخيص مصلحة أخروية،فيجوز ترخيصه في الإقدام على المحتمل لمصلحة و لو كانت تسهيل الأمر على المكلف بوكول الإقدام على إرادته.و هذا بخلاف الضرر الأخروي،فإنه على تقدير ثبوته واقعا يقبح من الشارع الترخيص فيه (1) .

نعم،وجوب دفعه عقلي و لو مع الشك،لكن لا يترتب على ترك دفعه إلا نفسه على تقدير ثبوته واقعا،حتى أنه لو قطع به ثم لم يدفعه و اتفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلا من باب التجري،و قد تقدم في المقصد الأول -المتكفل لبيان مسائل حجية القطع-الكلام فيه،و سيجيء أيضا.

فإن قلت:قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم:أن في تركه احتمال المضرة،و جعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم و عدم وجوبه:

استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه (2) ، القطع الإشكال في استحقاق العقاب بالتجري،كما سيشير إليه هنا أيضا.فلو تم استحقاق العقاب مع مخالفة الظن بالضرر للواقع من حيثية المعصية تعين البناء على أخذ الظن في موضوع التحريم،لا أنه طريق محض للضرر الحرام.

(1)لا قبح في الترخيص إلا من حيث كونه لغوا بعد إلزام العقل بدفع الضرر المذكور،بل هو مقتضى الفطرة،لأهمية الضرر الموجبة للاهتمام به و لو مع ضعف الاحتمال.

(2)لا يبعد أن يكون المراد بذلك ما إذا لم تبلغه بنحو يعلم بصدقها و إن بلغته بنحو يشك فيه،كما يناسبه ما في بعض شروح الكتاب،إذ لو أريد به صورة عدم

ص: 379

فيدل ذلك على استحقاق العقاب بمجرد ترك دفع الضرر الأخروي المحتمل (1) .

قلت:حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرد احتمال الضرر في تركه،لأجل مصادفة الاحتمال للواقع (2) ،فإن الشكر لما علمنا بوجوبه عند الشارع و ترتب العقاب على تركه،فإذا احتمل العاقل العقاب على تركه،فإن قلنا بحكومة العقل في مسألة«دفع الضرر المحتمل»صح عقاب تارك الشكر،من أجل إتمام الحجة عليه بمخالفة عقله،و إلا فلا، فغرضهم:أن ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنما يظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع،لا أن الشخص يعاقب بمخالفة العقل و إن لم يكن ضرر في الواقع،و قد تقدم في بعض مسائل الشبهة التحريمية شطر من الكلام في ذلك (3) .

البلوغ أصلا لم يكن منشأ للاحتمال حتى يتنجز و يكون من صغريات ما نحن فيه، و هو وجوب دفع الضرر المحتمل.فلاحظ.

(1)يعني:و لو لم يكن هناك ضرر واقعي لعدم صدق مدعي النبوة،بحيث لم يقيدوا استحقاق العقاب بصورة الصدق.

(2)يعني:فمصادفة احتمال الضرر للواقع شرط في ترتبه و إنما لم يقيدوا بذلك في مسألة الشكر لمفروغيتهم عن مطابقة الاحتمال للواقع،و تحقق الشرط المذكور- كما لعله مقتضي فرضهم المدعي نبيا-لا لبنائهم على عدم اعتبار ذلك.

(3)راجع كلام المصنف قدس سرّه حول الاستدلال لوجوب الاحتياط بأخبار النهي عن ارتكاب الشبهة،و ما ذكره في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة التحريمية الحكمية.

ص: 380

و قد يتمسك لإثبات الحرمة في المقام بكونه تجريا،فيكون قبيحا عقلا،فيحرم شرعا.

و قد تقدم في فروع حجية العلم:الكلام على حرمة التجري حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع (1) ،كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخر و انكشف بقاء الوقت،و إن تردد في النهاية.

و أضعف من ذلك:التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط، لما تقدم (2) :من أن الظاهر من مادة«الاحتياط»التحرز عن الوقوع في الحرام،كما يوضح ذلك النبويان السابقان (3) ،و قولهم صلوات اللّه عليهم:«إن الوقوف عند الشبهة أولى من الاقتحام في الهلكة».

(1)فقد تقدم منه قدس سرّه إنكار ذلك.و عرفت منا أن إنكار الحرمة في محله جدا.

نعم لا يبعد استحقاق العقاب بنظر العقل محرما شرعا لكن أشرنا في تلك المسألة إلى أن التجري مختص بما إذا كان الإقدام ناشئا عن عدم المبالاة بالمعصية في مقام التمرد، و لا يتحقق مع مجرد احتمال الحرمة إذا كان الإقدام بدواع أخر غير العصيان و برجاء عدم إصابة الحرام.

نعم الإقدام حينئذ مع منجزية الاحتمال تغرير بالنفس مناف لقاعدة وجوب دفع الضرر عقلا،التي عرفت أنها لا تقتضي ترتب العقاب و الضرر إلا في ظرف المصادفة.

و عليه فمع عدم المصادفة لا وجه لاستحقاق العقاب،لعدم المعصية الواقعية و لا التجري.

(2)تعليل لقوله:«و أضعف...».

(3)و هما قوله:«من ارتكب الشبهات وقع في الحرمات و هلك من حيث لا يعلم».و قوله:«اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس».

ص: 381

الثالث وجوب الاجتناب إنما هو مع تنجز التكليف على كل تقدير
اشارة

أن وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنما هو مع تنجز التكليف بالحرام الواقعي على كل تقدير،بأن يكون كل منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف بالاجتناب منجزا،فلو لم يكن كذلك بأن لم يكلف به أصلا،كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجس بالبول أو كثير لا ينفعل بالنجاسة،أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه (1) ،لم يجب الاجتناب عن الآخر،لعدم (1)فلو كان النجس بعضه و علم بوقوع قطرة البول في غير محل النجاسة السابقة على تقدير إصابتها للثوب،فإصابة القطرة للثوب تكون منشأ للتكليف الفعلي بتطهيره.

اللهم إلا أن يقال:وجوب تطهير الثوب ليس نفسيا،بل غيريا راجعا إلى اعتبار طهارة الثوب في الصلاة أو الطواف،و حيث كان وجود النجاسة السابقة في الثوب مانعا من الصلاة و الطواف فيه،فلا أثر فعلي للنجاسة الجديدة التي يحتمل حدوثها بسبب وقوع قطرة البول عليه.

نعم لها أثر تعليقي بمعنى أنه لو طهر الثوب من النجاسة السابقة لظهر أثر

ص: 382

العلم (1) بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة،إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا،فالشك في التكليف بالاجتناب عن الآخر شك في أصل التكليف لا المكلف به.

و كذا:لو كان التكليف في أحدهما معلوما لكن لا على وجه التنجز، بل معلقا على تمكن المكلف منه،فإن ما لا يتمكن المكلف من ارتكابه لا يكلف منجزا بالاجتناب عنه،كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلف من ارتكاب واحد معين منهما،فلا يجب الاجتناب عن الآخر،لأن الشك في أصل تنجز التكليف (2) ،لا في المكلف به تكليفا (3) منجزا.

و كذا:لو كان ارتكاب الواحد المعين ممكنا عقلا،لكن المكلف النجاسة الجديدة.و كما أنه لو فرض إمكان الصلاة ببعض الثوب و لم يكن خارجا عن محل الابتلاء و لكان أثرها فعليا.فلاحظ.

(1)حتى يكون العلم المذكور منجزا للتكليف الواقعي لو فرض حصوله في الطرف الآخر،بل يرجع ذلك إلى الشبهة البدوية في التكليف بالاضافة إلى الطرف الآخر فتجري فيه أدلة البراءة و الحل بلا إشكال.

(2)نعم لو علم من نفسه التمكن من الطرف الآخر في وقته كان العلم الإجمالي منجزا،لتنجز التكليف المعلوم على كل حال،بناء على ما هو التحقيق من تنجز التكليف المشروط قبل وجود شرطه إذا علم بوجود شرطه،و لذا لا يجوز عقلا تعجيز المكلف نفسه عن امتثاله في وقته بإحداث الموانع منه.و عليه يبتني تنجيز العلم الإجمالي إذا كانت أطرافه تدريجية،كما يأتي في التنبيه السادس.

(3)مفعول مطلق لقوله:«المكلف به».

ص: 383

أجنبي عنه و غير مبتلى به بحسب حاله (1) ،كما إذا تردد النجس بين إنائه (1)عدم الابتلاء تارة:يكون لمانع شرعي،مثل كون أحد الطرفين ملكا للغير مع عدم إذنه.و أخرى:يكون لظروف خاصة محيطة بالمكلف،مثل بعد أحد الطرفين أو إعراضه عنه.

أما الأول فلا ينبغي الإشكال في الحاقة بعدم القدرة على أحد الطرفين في عدم تنجز التكليف به بسبب العلم الإجمالي،لسبق تنجزه بمقتضى المنع الشرعي من التصرف فيه الموجب لكون الشبهة في الطرف الآخر بدوية مجرى لأصل البراءة.

و منه يظهر أنه لا يكفي في التنجز فيه احتمال الابتلاء بارتفاع المانع الشرعي، بل لا بد من القطع بارتفاع المانع الشرعي،إذ مع الشك فيه لا يعلم بترتيب الأثر العملي على التكليف المعلوم بالإجمال الذي هو المعتبر في التنجز،بل لا مانع معه من الرجوع في الطرف الآخر للأصل.

نعم مع العلم بارتفاع المانع يتعين التنجز،لما سبق في صورة العلم بتجدد القدرة على الطرف الآخر.

و أما الثاني فيشكل حاله،لفرض القدرة معه على تمام الأطراف شرعا و عقلا، و مجرد عدم الابتلاء به النحو المذكور لا ينافيها قطعا.

نعم لا يبعد كون الابتلاء الفعلي الخارجي شرطا في توجه التكليف و تنجزه عقلا،لأن من شأن التكليف إحداث الداعي في نفس المكلف على طبقه،فإذا كان المكلف بحسب وضعه الخاص جاريا على مقتضى التكليف من دون حاجة إلى جعل الداعي له بسبب التكليف كان توجيه التكليف له عبثا و لغوا بنظر العقلاء بل قد لا يكون الخطاب منشأ لانتزاع التكليف،لتقومه بالكلفة و الضيق،و هما غير حاصلين مع جري الإنسان بحسب طبعه على مقتضى التكليف.فمن يأبى طبعه الخمر لا يكون الخطاب بحرمتها في حقه منشأ لانتزاع التكليف إلا بنحو القضية التعليقية الراجعة إلى بيان تحقق ملاك التكليف لا غير،و لا يكون فعليا إلا بتحقق الابتلاء

ص: 384

و إناء آخر لا دخل للمكلف فيه أصلا،فإن التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكن عقلا غير منجز عرفا،و لهذا لا يحسن التكليف المنجز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلف الابتلاء به (1) .

نعم،يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيدا بقوله:إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك أو إباحة فاجتنب عنه (2) .

اختصاص النواهي بمن يعد مبتليا بالواقعة المنهي عنها و السر في ذلك

و الحاصل:أن النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة الذي يحتاج معه إلى احداث الداعي بسبب التكليف.

و عليه فمع كون بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن الابتلاء لا مجال لتنجز العلم الإجمالي،لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على ما لا يكون الخطاب به منشأ لانتزاع التكليف،و يجري الأصل المرخص في الآخر.و لا يعارض بالأصل في الطرف الخارج عن الابتلاء،إذ يكون الخروج عن الابتلاء مانعا من فعلية التكليف و تنجزه لعدم الأثر،كذلك يكون مانعا من جريان الأصل المرخص الأثر فيلغو معه التعبد بالأصل.

ثم إنه لا يفرق في ذلك بين التكليف التحريمي و الوجوبي،ففي الثاني إذا كان أحد الأطراف بنحو لا يتركه المكلف لدواعيه النفسية الخاصة من عاطفة ملزمة أو حاجة شديدة أو نحوهما لا يتنجز العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين،لعين ما ذكر في الشبهة التحريمية المنجزة.فلاحظ.و اللّه سبحانه تعالى العالم و العاصم.

(1)الظاهر أن شأنية الابتلاء لا أثر لها في المقام،بل لا بد من فعلية الابتلاء بالنحو المتقدم.

(2)لكنه لا يكون سببا لتنجز العلم الإجمالي،لعدم إحراز التكليف الفعلي.

إلا أن يعلم بتحقق الابتلاء المصحح للتكليف فيما بعد فيتنجز،لما أشرنا إليه عند الكلام في اعتبار القدرة في المنجزية.

ص: 385

بحكم العقل و العرف-بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها،و لذا يعد خطاب غيره بالترك مستهجنا إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

و لعل السر في ذلك:أن غير المبتلي تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه،فلا حاجة إلى نهيه،فعند الاشتباه لا يعلم المكلف بتنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

حلّ الإشكال بما ذكرنا عن كثير من مواقع عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة

و هذا باب واسع (1) ينحل به الإشكال عما علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع،مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلف عادة،أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير (2) ،فإن الثوبين لكل منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما،فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحل و الطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره،إذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عملية للمكلف يلزم من ترتبها مع العمل بذلك (1)قيل:إن أول من نبه إلى ذلك المصنف قدس سرّه:قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:

«كان بعض مشايخنا كثيرا ما يطعن على شيخنا الاستاذ العلامة بكونه منفردا في تأسيس هذا الأصل و الشرط...».

نعم لا يبعد جريان الأصحاب عليه بحسب مرتكزاتهم من دون تنبيه على عنوان عدم الابتلاء،و لا يبعد كون حكمهم في الشبهة غير المحصورة راجعا إليه، كما سبق احتمال بعض نصوص قاعدة الحل عليه.

(2)هذا من موارد عدم الابتلاء بسبب المانع الشرعي-الذي عرفت عدم الإشكال في كونه مسقطا للعلم الإجمالي عن المنجزية-لحرمة التصرف في ثوب الغير بغير إذنه.نعم لو فرض الإذن فيه من قبله توقف سقوط العلم عن المنجزية على عدم الابتلاء بثوب الغير من حيث الصوارف النفسية.

ص: 386

الأصل طرح تكليف متنجز بالأمر المعلوم إجمالا.

أ لا ترى:أن زوجة شخص لو شكت في أنها هي المطلقة أو غيرها من ضراتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجية على نفسها،و لو شك الزوج هذا الشك لم يجز له النظر إلى إحداهما،و ليس ذلك إلا لأن أصالة عدم تطليقه كلا منهما متعارضان في حق الزوج،بخلاف الزوجة،فإن أصالة عدم تطلّق ضرتها لا تثمر لها ثمرة عملية.

نعم،لو اتفق ترتب تكليف على زوجية ضرتها (1) دخلت في الشبهة المحصورة،و مثل ذلك كثير في الغاية.

اندفاع ما أفاده صاحب المدارك فيما تقدم بما ذكرنا

و مما ذكرنا يندفع ما تقدم من صاحب المدارك رحمه اللّه:من الاستنهاض على ما اختاره-من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة-بما يستفاد من الأصحاب:من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه،إذ لا يخفى أن خارج الإناء-سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه-ليس مما يبتلي به المكلف عادة،و لو فرض كون الخارج مما يسجد عليه المكلف التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما، للعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين حرمة الوضوء بالماء النجس و حرمة السجدة على الأرض النجسة.

و يؤيد ما ذكرنا:صحيحة علي بن جعفر (2) ،عن أخيه عليه السّلام،الواردة (1)كما لو بذلت لها ما دفعه الزوج لها من النفقة،حيث تعلم حينئذ إجمالا أما بحرمة تمكينها من نفسها للزوج أو بحرمة نفقة الضرة التي بذلتها لها.

(2)لعله إنما جعلها مؤيدة لا دليلا لأن ظاهرها عدم تنجيس الدم القليل للماء إذا لم يستبن فيه و لم يكن له ظهور فيه لقلته.و حمل المشهور لها على العلم الإجمالي

ص: 387

في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،هل يصلح الوضوء منه؟فقال عليه السّلام:«إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به،و إن كان شيئا بينا فلا».

حيث استدل به الشيخ قدس سرّه على العفو عما لا يدركه الطرف من الدم، و حملها المشهور على أن إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء،فالمراد (1) أنه مع عدم تبين شيء في الماء يحكم بطهارته،و معلوم أن ظهر الإناء و باطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة (2) .

و ما ذكرنا،واضح لمن تدبر.

إلا أن الإنصاف:أن تشخيص موارد الابتلاء لكل من المشتبهين

إلا أن الإنصاف:أن تشخيص موارد الابتلاء لكل من المشتبهين و عدم الابتلاء بواحد معين منهما كثيرا ما يخفى.

أ لا ترى:أنه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب و وقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه (3) لا يتفق عادة ابتلاؤه بالموضع بوقوع الدم في داخل الإناء أو خارجه خلاف الظاهر جدا،كما يقتضيه التدبر الصادق في الرواية سؤالا و جوابا،فلا تكون من ما نحن فيه،بل لأجل ذلك لا يبعد عدم صلوحها للتأييد،أيضا.نعم لا بأس بجعل بناء المشهور على ذلك مؤيدا في المقام.

(1)يعني:بناء على ما حملها عليه المشهور.

(2)يعني:فالحكم بعدم الاجتناب عن الماء لا وجه له إلا ما تقدم من اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف في منجزية العلم الإجمالي.

(3)ظهر الحيوان إما أن لا يتنجس أصلا،أو يتنجس ما دامت عين النجاسة فيه فلا أثر لتنجسه في حدوث التكليف جزما و لا دخل له بعدم الابتلاء.نعم لا ينبغي إطالة الكلام في المثال.

ص: 388

النجس منه،لم يشك أحد في عدم وجوب الاجتناب عن ثوبه،و أما لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلف به في السجود و التيمم و إن لم يحتج إلى ذلك فعلا،ففيه تأمل.

و المعيار في ذلك و إن كان صحة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته و حسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء و اتفاق صيرورته واقعة له،إلا أن تشخيص ذلك مشكل جدا (1) .

نعم،يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب و عدم حسنه إلا معلقا:الأصل البراءة من التكليف المنجز، كما هو المقرر في كل ما شك فيه في كون التكليف منجزا أو معلقا على أمر محقق العدم (2) ،أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه (3) أو كون المتحقق من أفراده (4) كما في المقام (5) .

(1)كما هو الحال في كثير من الأمور الوجدانية المبنية على التشكيك في الأفراد و تدرجها من الخفاء للوضوح.

(2)كما لو علم بنذر الصدقة و شك في تعليقه على شفاء الولد المعلوم عدم تحققه.

(3)كما لو علم بتعليق المنذور على شفاء الولد و شك في تحققه.

(4)كما لو علم بوجوب الصدقة عند دخول العالم للدار و دخلها زيد و شك في كونه عالما.

(5)حيث يعلم بتعليق التكليف على الابتلاء،و يشك في كون علاقة المكلف ببعض الأطراف ابتلاء أولا.

لكن هذا مبني على أن الابتلاء شرط في ثبوت التكليف كالقدرة،كما يظهر

ص: 389

من المصنف قدس سرّه و لعله في غير محله،بل هو شرط عقلي لمنجزية التكليف و صلوحه لإحداث الداعي في نفس المكلف الذي هو المعيار في منجزية التكليف كل ذلك و إن كان يستلزم و إن كان عدم فعلية التكليف من حيث كونه لغوا،إلا أن عدم منجزية العلم الإجمالي لعدم منجزية التكليف و صلوحه للداعوية،لا لعدم فعليته حتى يمكن الرجوع في ذلك للأصول الشرعية أو العقلية المقتضية لوجود التكليف و عدمه.

و بالجملة:ليس الأثر في المقام لسعة التكليف و ضيقه الذي هو أمر شرعي حتى ينفع فيه الأصل،بل لمنجزيته و هي بحكم العقل،و لا تكون مجري الأصل.

بل قد يدعى امتناع الشك فيه لكونه من الأمور الوجدانية التي ليس لها واقع محفوظ قابل للشك،بل المكلف إذا رجع إلى ارتكازاته الوجدانية فأما أن يرى حسن التكليف و احداثه الداعي في نفسه أولا.

إلا أن الإنصاف أن كثيرا من الأمور الوجدانية قد يتعذر تشخيصها على الإنسان بسبب اضطراب نفسه.و لذا فرض الفقهاء في مباحث الخلل في الصلاة الشك في كون ما عرض للمكلف شكا أو ظنا مع أن الظن و الشك من الأمور الوجدانية التي ليس لها واقع محفوظ وراء الوجدان.

فالذي ينبغي أن يقال:لما كان التنجيز من الأحكام العقلية المشروطة-كما ذكرنا-بصلوح التكليف لإحداث الداعي في نفس المكلف،فمع اضطراب النفس و ترددها فيه لا وجه لترتيب أثره،بل بناء العقل في أمثال ذلك على عدمه،فلا مانع من الرجوع في الطرف المبتلى به للأصول الشرعية لعدم إحراز المانع،و هو تنجز التكليف المعلوم بالإجمال.

و أما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرّه من وجوب الاحتياط في المقام،لتمامية الملاك و الشك إنما هو في المسقط،الذي هو مجرى الاحتياط،نظير الشك في القدرة.

ص: 390

الأولى الرجوع إلى الإطلاقات

إلا أن هذا ليس بأولى من أن يقال:إن الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة،و المعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء،كما لو قال:«اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدام أمير البلد»مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلف به،أو:«لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك و جعلها من خواص نسوانه»،مع عدم استحالة ابتلاء المكلف بذلك كله عقلا و لا عادة،إلا أنه بعيد الاتفاق، و أما إذا شك في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.

هل يجوز التمسك بالمطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق لتعذر ضبط مفهومه،أم لا؟

فمرجع المسألة إلى:أن المطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد-لتعذر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه،كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية-هل يجوز التمسك به أو لا؟و الأقوى:

الجواز (1) ،فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب،إلا ما علم عدم إذا قصد أن الشك في المقام ليس في المسقط،فإن عدم الابتلاء لا يقتضي سقوط التكليف كعدم القدرة،بل يقتضي عدم الأثر له و عدم صلوحه للداعوية المانع من تنجزه بالعلم الإجمالي عقلا،فهو موجب لعدم تمامية اقتضاء التكليف، و ليس هو كالعجز الموجب لسقوطه مع تمامية اقتضائه،فقياس أحدهما بالآخر في غير محله جدا.

(1)فقد تحقق في محله حجية العام مع إجماله و دورانه بين الأقل و الأكثر في مورد الشك،و المفروض في المقام إجمال عدم الابتلاء الموجب للخروج عن إطلاق التكليف.

و فيه:أولا:أن ذلك مختص بالتخصص المنفصل،أما المتصل فإجماله يسري إلى العام و يسقطه عن الحجية،و حينئذ فتوقف التنجيز على الابتلاء لما كان بحكم

ص: 391

العقل الجلي الذي يصح اتكال المتكلم عليه في مقام البيان فهو بحكم المخصص المتصل.

و دعوى:اختصاص ذلك بما إذا كان الخارج عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب تردد مفهومه بين الأقل و الأكثر،لا ما إذا كان ذا مراتب مختلفة و علم بخروج بعض مراتبه عن العام و شك في خروج بعض آخر،لأن الشك في مثل هذا يرجع إلى الشك في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به كما ذكر ذلك بعض الأعاظم قدس سرّه.

مدفوعة:بعدم الفرق،إذ مع فرض الشك حين ورود العام لوضوح ثبوت التخصيص في الجملة و اتكال المتكلم عليه،لا ينعقد ظهور العام كي يرجع إلى أصالة العموم.فتأمل.

و ثانيا:أن ذلك مختص بالشبهة الحكمية كما لو تردد المراد من الفاسق بين مرتكب مطلق الذنب و مرتكب خصوص الكبيرة،و لا يجري في الشبهة الموضوعية كما في المقام،إذا التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية من طرف المخصص خلاف التحقيق.

و وجه كون المقام من ذلك:أن الشك في المقام ليس في حكم العقل بالمنجزية في بعض مراتب الابتلاء،لاستحالة الشك في حكم العقل،بل في أن ما يحكم العقل بامتناع التنجز معه حاصل في المقام الخاص أولا،بسبب خفاء الارتكاز النفسي و التباسه.

و ثالثا:أن الشك في المقام ليس في إجمال المخصص و لا في التخصيص لا من جهة الشبهة الموضوعية و لا المفهومية الحكمية،لأن التنجز و إحداث الداعي لما كان من آثار التكليف المتأخرة عنه رتبة فإطلاق التكليف لا ينهض باثباته،و لا يتعرض له بوجه بل المرجع فيه العقل،و لذا سبق عدم جريان الأصول العملية مع الشك

ص: 392

تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام.

إلا أن يقال:إن المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدمة كون الماء و ظاهر الإناء من قبيل عدم تنجز التكليف،فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء و عدمه (1) ،إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة فيه،و حينئذ فلا وجه للرجوع إلى إطلاق التكليف و لا يتم ما ذكره المصنف قدس سرّه.

فليس عدم التنجز مع عدم الابتلاء من سنخ التقييد لدليل التكليف حتى يرجع فيه للإطلاق،و يأتي فيهما ما ذكره المصنف قدس سرّه.

نعم هو يستلزم تقييد الإطلاق للغوية التكليف مع عدم صلوحه للتنجيز، إلا أن المهم في المقام ليس هو ارتفاع التكليف حتى يرجع في ذلك للإطلاق،بل عدم منجزيته،التي لا يتعرض لها الإطلاق و إن كان ملازما لها.

و عليه فلا بد من الرجوع في الشك المذكور إلى مقتضى ما أشرنا إليه عند الكلام في مقتضى الأصول العملية.

نعم قد يكون ظاهر الخطاب صلوح التكليف للمنجزية و إحداث الداعي فعلا،فيكشف عن تحقق الابتلاء المعتبر في ذلك و يرتفع الشك حينئذ،إلا أنه ليس من الإطلاق المصطلح،بل هو ظهور آخر خاص،يرجع إليه بملاك آخر.

على أنه مختص بالخطابات الشخصية،و لا يجري في الخطابات الشرعية المبنية على بيان القضايا العامة التي هي من سنخ القضايا الحقيقة.و لذا لا إشكال في عدم منافاة ظهورها للعلم بعدم الابتلاء في بعض الموارد.فلاحظ.

و تأمل جيدا.

(1)هذا لو تم كشف عن أن ذلك فما فوقه من المراتب من موارد عدم الابتلاء، و لا يدل على أن جميع ما دونه من موارد الابتلاء.

على أنه سبق الإشكال في التأييد بالصحيحة المذكورة لما نحن فيه فضلا عن

ص: 393

المحصورة لأجل النص.فافهم.

الاستدلال،لظهورها في أمر لا دخل له بالشبهة المحصورة.

ص: 394

الرابع الثابت في المشتبهين وجوب الاجتناب دون سائر الآثار الشرعية
اشارة

أن الثابت في كل من المشتبهين-لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما-هو وجوب الاجتناب،لأنه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي،أما سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام فلا تترتب عليهما،لعدم جريان باب المقدمة فيها (1) ، فيرجع فيها إلى الأصول الجارية في كل من المشتبهين بالخصوص،فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حد الخمر على المرتكب،بل يجري أصالة عدم موجب الحد و وجوبه (2) .

(1)فإن ملاك الاحتياط لما كان هو الخروج عن مقتضى التكليف المعلوم بالإجمال المفروض تنجزه،فلا وجه لجريانه في الآثار التي لم تتنجز لعدم العلم بها، كحد الخمر،لعدم فعليته حين العلم إجمالا بالخمرية،و لا حين الاستعمال،لاحتمال استعمال غير الخمر،فلا يحرز موضوع الحد حتى تسوغ إقامته.

(2)يعني:و أصالة عدم وجوب الحدّ،و هو أصل حكمي يرجع إليه لو فرض عدم جريان الأصل الموضوعي.

ص: 395

هل يحكم بتنجس ملاقي أحد المشتبهين؟

و هل يحكم بتنجس ملاقيه (1) ؟ وجهان،بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس،بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه و لو بوسائط (2) ، و لذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة (1)يظهر من المصنف قدس سرّه أن الكلام في تنجس الملاقي و عدمه.

و ربما يدعى وجوب الاجتناب عن الملاقي من دون حكم بتنجسه،كما سيظهر عند الكلام في أدلة المسألة.

(2)لا يخفى أن هذا تارة:يراد منه أن التكليف باجتناب النجس ينحل إلى تكاليف متعددة بالاجتناب عنه و عن ملاقيه.و أخرى:يراد منه أن التكليف باجتناب النجس تكليف واحد لا يتحقق امتثاله إلا بالاجتناب عن ملاقيه.

فإن كان المراد الأول فهو لا يقتضي الاجتناب عن الملاقي في المقام،لأن المعلوم بالإجمال ليس إلا وجوب الاجتناب عن أحد النجسين من الملاقى و صاحبه، و أما وجوب الاجتناب عن الملاقي فهو غير محرز و لا متنجز،بل هو أمر زائد على المعلوم بالإجمال مدفوع بالأصل.

و إن كان المراد الثاني تعين البناء على وجوب اجتناب الملاقي عقلا لعدم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال إلا به.لكنه لا يقتضي نجاسته.مع أن بناءهم عليه بعيد جدا.

كيف و لازمه لزوم اجتناب ما يحتمل ملاقاته للنجاسة في غير المقام،لعدم إحراز الفراغ عن التكليف باجتناب النجس المعلوم إلاّ به.و هو كما ترى.

هذا كله بناء على أن وجوب الاجتناب عن كل منهما عقلي بملاك لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال،كما هو المفروض في المقام أما بناء على كونه شرعيا.فسيأتي الكلام فيه.

ص: 396

النجاسة،بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى: و الرجز فاهجر ،و يدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار،من استدلاله عليه السّلام على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة ب:«أن اللّه سبحانه حرم الميتة» (1) ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين (2) فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه.و هذا معنى ما استدل به العلامة قدس سرّه في المنتهى على ذلك (3) :بأن الشارع أعطاهما حكم النجس،و إلا فلم يقل أحد:إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره (4) .

(1)فإنه يدل بظاهره على أن تحريم الميتة يقتضي اجتناب ملاقيها.لكن ما تقدم جار في هذا أيضا،كما يظهر بالتأمل.و سيأتي في التنبيه عليه.

(2)ليس المفروض فيما تقدم حكم الشارع بوجوب اجتناب كلا المشتبهين، بل وجوب اجتنابهما بحكم العقل احتياطا للفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال، و عليه يبتني ما تقدم منا.

أما لو فرض كون وجوب الاجتناب شرعيا فإن كان المدعى ملازمة وجوب الاجتناب عن الشيء و لو لم يكن نجسا،لوجوب الاجتناب عن ملاقيه أمكن في المقام إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي.

لكن لا مجال لإثبات نجاسته،و إن كان المدعى ملازمة وجوب الاجتناب عن النجس لوجوب الاجتناب عن ملاقيه،فلا مجال لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي إلا أن يثبت نجاسة الملاقى أو كونه بحكم النجس،كما هو ظاهر ما يأتي من المنتهى.فحمله على ما سيذكره المصنف قدس سرّه-مع أنه خلاف الظاهر-لا ينفع في الاستدلال فلاحظ.

(3)يعني:لزوم الاجتناب عن الملاقي.

(4)معطوف على:«أن تنجس الملاقي...»في قوله:«قولان مبنيان على أن

ص: 397

أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين، و تنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات نظير وجوب الحد للخمر،فإذا شك في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة و أصل الإباحة.

الأقوى عدم الحكم بالتنجس و عدم تمامية الأدلة المذكورة

و الأقوى:هو الثاني.

أما أولا (1) :فلما ذكر،و حاصله:منع ما في الغنية،من دلالة وجوب هجر الرجز على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز (2) ،فتجنبه حينئذ ليس إلا لمجرد تعبد خاص،فإذا حكم الشارع (3) بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة،فلا يدل على وجوب هجر ما يلاقيه.

تنجس الملاقي...»و هذا وجه القول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

(1)ليس هنا جواب آخر حتى يصح مثل هذا التعبير.

نعم كلام المستدل يرجع إلى أمرين:

الأول:إن ظاهر الأمر بالاجتناب عن النجس الاجتناب عن ملاقيه.

الثاني:الاستشهاد له بالرواية الواردة في الطعام الذي ماتت فيه فأرة.

و هذا جواب عن الوجه الأول،و يأتي الجواب عن الوجه الثاني بقوله:«و أما الرواية...».

(2)أما لو كان عليه أثر من ذلك الرجز فيجب الاجتناب عنه لأجل الأثر الذي عليه.

(3)عرفت أن وجوب هجر المشتبه ليس شرعيا،بل عقليا بملاك لزوم الفراغ اليقيني عن التكليف المعلوم بالإجمال.و عرفت أنه عليه لا يتم الاستدلال.

ص: 398

نعم،قد يدل بواسطة بعض الأمارات الخارجية،كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة (1) عقيبه، من جهة استظهار أن الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل (2) ،فحكم بكون الخارج بولا،لا أنه أوجب خصوص الوضوء بخروجه.

و به يندفع تعجب صاحب الحدائق من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه و حكمهم بها في البلل،مع كون كل منهما مشتبها،حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

و أما الرواية،فهي رواية عمرو بن شمر،عن جابر الجعفي،عن (1)لم يتضح الوجه في كون هذا نظيرا للمقام،فإن الأمر عقيب البلل المشتبه بالطهارة ليس راجعا إلى وجوب هجره و لزوم الاجتناب عنه،و لا دلالة له بنفسه على وجوب هجر الملاقي له،بل يستفاد ذلك بمقدمات أخر،كما هو ظاهر.

و منه يظهر أن ما في الحدائق لا يبتني على ما في الغنية،بل هو راجع إلى أمر آخر،و حاصله:أن الحكم ببعض أحكام النجاسة كوجوب الاجتناب في المقام و وجوب الوضوء في البلل المشتبه يكشف عن الحكم بالنجاسة،فيلزم ترتب آثارها، و منها الحكم بتنجس الملاقي،كما حكموا به في البلل المشتبه.

و يتعين الجواب عنه بأن الحكم بالوضوء بعد البلل المشتبه شرعي،و قد استظهر منه بقرائن خاصة إنه متفرع على الحكم بنجاسته،فلا وجه لقياسه على الحكم بالاجتناب في المقام مع كونه حكما عقليا بملاك لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال،و لا تعرض فيه للحكم بالنجاسة.

(2)المراد من الظاهر هو ظهور عدم الاستبراء في كون الخارج بولا،و من الأصل هو أصل الطهارة.

ص: 399

أبي جعفر عليه السّلام:«أنه أتاه رجل فقال له:وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت،فما ترى في أكله؟فقال أبو جعفر عليه السّلام:لا تأكله،فقال الرجل:

الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها،فقال له أبو جعفر عليه السّلام:

إنك لم تستخف بالفأرة و إنما استخففت بدينك،إن اللّه حرم الميتة من كل شيء».

وجه الدلالة:أنه عليه السّلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة،و لو لا استلزامه لتحريم (1) ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة،فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

لكن الرواية ضعيفة سندا.مع أن الظاهر من الحرمة فيها النجاسة، لأن مجرد التحريم لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس الملاقي (2) ، (1)لا يخفى أن التلازم بين تحريم الميتة و تحريم ملاقيها لا ينفع فيما نحن فيه بعد عدم إحراز كون الملاقي ملاقيا للنجس.

نعم لو كان المستفاد من الرواية أن التكليف في المقام واحد و هو تحريم الميتة، إلا أن امتثاله لا يتحقق إلا باجتناب ملاقيه لتم الاستدلال على وجوب اجتناب الملاقي في المقام،كما تقدم الكلام فيه.فراجع.

(2)هذا إنما يتم لو كان المدعى للخصم هو تنجس الملاقي،أما لو كان المدعى هو وجوب الاجتناب عن الملاقي من دون حكم بنجاسته،فهو يبتني على ما تقدم.

نعم الالتزام بأن حرمة الشيء تستلزم حرمة ملاقيه بعيد جدا،و تخصيص الرواية بخصوص النجاسات ليس بأولى من حمل الحرمة فيها على النجاسة.فتأمل جيدا.

ص: 400

و ارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج ما عدا النجاسات من المحرمات، كما ترى،فالملازمة (1) بين نجاسة الشيء و تنجس ملاقيه،لا حرمة الشيء و حرمة ملاقيه.

فإن قلت:وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه و إن لم يكن من حيث ملاقاته له،إلا أنه يصير كملاقيه في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر،فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة،فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين و جعل كل قسم في إناء.

أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقي سليمة عن المعارض

قلت:ليس الأمر كذلك،لأن أصالة الطهارة و الحل في الملاقي -بالكسر-سليم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر (2) ،بخلاف (1)يعني:المستفادة من الرواية.

(2)هذا مبني على أن المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو سقوطها بالمعارضة،و هو خلاف التحقيق،لما يأتي في مبحث الاستصحاب من أن العلم الإجمالي بكذب أحد الأصلين لا يمنع من جريانهما مع تحقق موضوعيهما، بل المانع من العمل بالأصول إما لزوم الترخيص في المعصية،و هي مخالفة التكليف المنجز بسبب العلم الإجمالي-كما قد يظهر من المصنف قدس سرّه في مبحث لزوم الموافقة القطعية-و إما لزوم لغوية جعل الحكم الواقعي لعدم العمل به بعد فرض العلم به و لو إجمالا.

و أما ما ذكرناه قريبا من أن جريان الأصول إنما يقتضي الترخيص في الأطراف من حيثية موضوع الأصل-و هو الجهل بالتكليف-و لا يقتضي الترخيص من جميع الحيثيات،و حينئذ فلا ينافي تنجز الأطراف بسبب العلم الإجمالي بل يلزم العمل على مقتضى العلم الإجمالي.

ص: 401

أصالة الطهارة و الحل في الملاقى-بالفتح-فإنها معارضة بها في المشتبه الآخر.

و السر في ذلك:أن الشك في الملاقي-بالكسر-ناش عن الشبهة المتقومة بالمشتبهين (1) ،فالأصل فيهما أصل في الشك السببي (2) ،و الأصل فيه أصل في الشك المسببي،و قد تقرر في محله:أن الأصل في الشك السببي و تشترك الوجوه الثلاثة في عدم جريان الأصول الترخيصية في الأطراف مع تنجز العلم الإجمالي،و لا بد في العمل على الأصول من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بسبب انحلاله،أو خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء،أو غير ذلك.

و حينئذ فاللازم النظر في حال العلم الإجمالي المذكور في المقام،و من الظاهر انحلال العلم الإجمالي الذي طرفه الملاقي فيما لو كانت الملاقاة بعد العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر،لتنجز الطرف الآخر بالعلم المذكور،فيخرج عن الابتلاء بالإضافة إلى العلم الإجمالي الآخر الذي طرفه الملاقي،فلا يكون منجزا، و لا يمنع من الرجوع للأصل في الملاقي.

نعم لو كان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر سابقا على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر أو مقارنا له توجه الاجتناب عن الملاقي لعدم سقوط العلم الإجمالي الذي يكون هو طرفا له عن المنجزية،على كلام و تفصيل لا تسعه هذه العجالة.و عسى اللّه سبحانه و تعالى أن يوفق لتحقيق ذلك في فرصة أخرى،إنه خير مسئول.

(1)إذ منشأ الشك فيه أن النجاسة المعلومة بالإجمال هل هي في الملاقى أو في الطرف الآخر؟

(2)لا يخفى أن السببي هو الأصل الجاري في الملاقي و أما الجاري في الطرف الآخر فهو أجنبي عن الملاقي،و التمسك به فيه مبني على الأصل المثبت.

ص: 402

حاكم و وارد على الأصل في الشك المسببي-سواء كان مخالفا له، (1) كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به،أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب، فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم،لأن الأول رافع شرعي للشك المسبب بمنزلة الدليل بالنسبة إليه،و إذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله (2) زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبب و وجب الرجوع إليه،لأنه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين (3) .

أ لا ترى:أنه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة و النجاسة-عند تتميم الماء النجس كرا بطاهر (4) ،و عند غسل المحل (1)يعني:في مقام العمل.

(2)كما في المقام حيث يسقط الأصلان الجاريان في المشتبهين بالمعارضة.

(3)يعني:الدليلين المتعارضين،فانه لو فرض تساقطهما يرجع إلى الأصل الجاري في الواقعة.

(4)فإن مقتضى الاستصحاب بقاء نجاسة النجس و طهارة الطاهر،إلا أن الإجماع على اتحاد حكم الماءين بعد اتصالهما موجب لتعارض الأصلين و تساقطهما الموجب للرجوع إلى أصل الطهارة المتأخر رتبة عن الاستصحابين،فهو و إن لم يكن مسببا عنهما،إلا أنه كالأصل المسبب محكوم لهما و لا يرجع إليه في فرض جريانهما،لما تقرر من حكومة الاستصحاب على قاعدة الطهارة.

و فيه-مع أنه مبني على أن مقتضي الإجماع اتحاد حكم الماءين واقعا و ظاهرا، الكاشف عن خروج أحد الأصلين عن عموم دليل الاستصحاب تخصيصا،أما لو كان مقتضاه اتحاد حكمهما واقعا لا غير فهو لا يوجب سقوطهما عن الحجية،

ص: 403

النجس بماءين مشتبهين بالنجس (1) -إلى قاعدة (2) الطهارة،و لا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين؟

نعم،ربما تجعل معاضدا لأحدهما (3) الموافق لها بزعم كونهما في مرتبة واحدة.

لكنه توهم فاسد،و لذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى-بالفتح-لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي (4) ،بالكسر.

كما حقق في محله-:إن استصحاب نجاسة النجس حاكم على استصحاب طهارة الطاهر،لأنه يقتضي انفعاله و تنجسه به بناء على انفعال الماء القليل بالنجاسة،و ليسا من سنخ المتعارضين حتى يتساقطان و يرجع إلى أصالة الطهارة.على ما يأتي عند الكلام في تعارض الاستصحابين من خاتمة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

(1)فإن استصحاب طهارته من حين غسله بالطاهر الواقعي و استصحاب نجاسته من حين غسله بالنجس الواقعي يتعارضان،و يتعين الرجوع إلى أصالة الطهارة.

نعم لما كان المقام من موارد تعاقب الحالتين المتضادتين فجريان الاستصحاب، فيه ثم التساقط مبني على جريان الأصل ذاتا في تعاقب الحالتين المتضادتين،لا أنه قاصر عنهما موضوعا.مع أنه قد يتمسك في المقام باستصحاب النجاسة حين ملاقاة الماء الثاني قبل انفصال ماء الغسالة،فإنه يعلم حينئذ نجاسة المحل،إما لكون الماء الثاني نجسا أو لكون المحل نجسا لم يكمل غسله،فتستصحب نجاسته.فتأمل.

(2)متعلق ب(الرجوع)في قوله:«أ لا ترى أنه يجب الرجوع عند...».

(3)كما يوجد التعبير بذلك في كلمات كثير من الأصحاب.

(4)لا يخلو الاستشهاد بذلك من إشكال،لاختلاف موضوع الأصلين

ص: 404

التحقيق في تعارض الأصلين الرجوع إلى ما وراءهما من الأصول

فالتحقيق في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما لاتحاد الشبهة الموجبة لهما:الرجوع إلى ما وراءهما من الأصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض لم يرجع إليه،سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما (1) أو من غير جنسهما كقاعدة الطهارة في المثالين (2) .فافهم و اغتنم.

و تمام الكلام في تعارض الاستصحابين إن شاء اللّه تعالى.

نعم،لو حصل للأصل في هذا الملاقي-بالكسر-أصل آخر في مرتبته كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر،كانا من الشبهة المحصورة (3) .

و لو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي و فقد الملاقى -بالفتح-ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود،قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه و عن الباقي،لأن أصالة الطهارة في الملاقي-بالكسر-معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر،لعدم جريان للتباين بين الملاقى و الملاقي،المانع من اعتقاد الأصل الجاري في الملاقى بالأصل الجاري في الملاقي،فلا يقاس بالأصلين المترتبين الجاريين في موضوع واحد.نعم قد يصح الاستشهاد لو كان الأصل المثبت حجة،لأن الأصل الجاري في الملاقي يكون مرجعا في الملاقى حينئذ لتلازم حكيمها.على أن الاستشهاد مبني على بنيان الترجيح في الأصلين المتعارضين و عدم اختصاصه بالدليلين المتعارضين.و هو محل إشكال أو منع.

(1)حيث كان الرجوع إليها بعد سقوط الاستصحابين بالمعارضة،و ليست هي من جنسهما.

(2)فيجرى فيهما ما تقدم في وجه المنع عن الرجوع للأصول.

(3)كما في مورد الرجوع إلى الاستصحاب المحكوم بعد سقوط الاستصحاب الحاكم-الذي هو من نفسه-بالمعارضة.

ص: 405

الأصل في المفقود حتى يعارضه،لما أشرنا إليه في الأمر الثالث:من عدم جريان الأصل في ما لا يبتلي به المكلف و لا أثر له بالنسبة إليه (1) .

فمحصل ما ذكرنا:أن العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة.

(1)لا يخفى أن عدم الأثر بالنسبة إليه لا يمنع من جريان الأصل إذا كان له أثر بالنسبة إلى ملاقيه،فإنه يكفي في جريان الأصول ثبوت الأثر و لو بالواسطة إذا كانت شرعية،كما في المقام.و لذا لو لم تكن نجاسة الشيء مورد أثر بالإضافة إليه،لعدم كونه مما يؤكل حتى يحرم أو يحمل أو يلبس حتى يمنع من الصلاة فيه أو أرضا حتى يمكن السجود عليه جريان الأصل فيه بلحاظ ملاقيه،و يكون حاكما على الأصل الجاري في الملاقي.

و حينئذ فاللازم في المقام سقوط الأصل الجاري في الطرف الآخر بمعارضته للأصل الجاري في الملاقى فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

هذا بناء على أن المانع من جريان الأصول المعارضة،أما بناء على ما ذكرنا من كون المانع من العمل بالأصل منجزية العلم الإجمالي توجه لزوم الاجتناب عن الملاقي في المقام،للعلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر.الذي هو منجز على كل حال،لعدم تنجز الطرف الآخر بالعلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الملاقى لخروج الملاقى عن الابتلاء الموجب لعدم منجزية العلم الإجمالي الذي يكون هو طرفا له.

و منه يظهر الحال فيما لو كان الملاقى باقيا إلا أنه لا أثر لنجاسته،لعدم كونه مما يؤكل أو يشرب أو يلبس أو يحمل أو يسجد عليه أو يتيمم به،و كان الطرف الآخر موردا للاثر،فان العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لا يكون منجزا،و حينئذ فان كان الملاقي مما له الأثر كان العلم بالملاقاة موجبا لتنجز العلم بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر.

ص: 406

و لو كان العلم الإجمالي قبل فقد الملاقى و الملاقاة ففقد،فالظاهر طهارة الملاقي و وجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى (1) ،و لا يخفى وجهه.فتأمل جيدا.

(1)لتنجزه بالعلم الإجمالي السابق،و بقاء تنجزه حتى بعد فقد طرفه-و هو الملاقى-لما هو المعلوم من عدم سقوط العلم الإجمالي من المنجزية بتلف بعض أطرافه أو خروجه عن الابتلاء و نحوهما و انما يكون ذلك مانعا من تنجزه لو حصل قبل العلم.و حينئذ فإذا كان صاحب الملاقي منجزا بالعلم الإجمالي السابق فلا يتنجز العلم الإجمالي الآخر بنجاسته أو نجاسة الملاقي،لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء،فلا منجز للملاقي،بل يرجع فيه لمقتضى الأصل.

ص: 407

الخامس الاضطرار إلى بعض المحتملات

لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات:فإن كان بعضا معينا، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه،لرجوعه إلى عدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي، لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه (1) ،و قد عرفت توضيحه في الأمر المتقدم.

و إن كان بعده فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر،لأن الإذن في (1)فلا أثر لحرمته لارتفاعها بسبب الاضطرار إليه،و إذا لم يتنجز العلم الإجمالي فلا مانع من الرجوع للأصل في الطرف الآخر.و لا مجال لدعوى معارضته بالأصل الجاري في الطرف المضطر اليه-بناء على أن الوجه في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو سقوطها بالمعارضة-لعدم الأثر للأصل المرخص فيه بعد العلم بعدم وجوب الاجتناب عنه واقعا بسبب الاضطرار،فلا يجري الأصل إلا في الطرف الآخر،لاختصاص الشك به.

و لعل هذا هو مراد المصنف قدس سرّه بقوله:«و قد عرفت توضيحه في الأمر المتقدم».فلاحظ.

ص: 408

ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي (1) ،يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات (2) .

و لو كان المضطر إليه بعضا غير معين،وجب الاجتناب عن الباقي و إن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي،لأن العلم حاصل بحرمة واحد من أمور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه،و ترخيص بعضها (1)وجوب اجتناب الحرام الواقعي قد يتم فيما لو أمكن دفع الاضطرار بغير الحرام،كما هو الحال في الاضطرار إلى غير معين على كلام يأتي،أما لو انحصر دفع الاضطرار بارتكاب الحرام كان الاضطرار موجبا لارتفاع حرمته،و حينئذ فلا يحرز في المقام وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي،لاحتمال انطباقه على ما هو مضطر إليه فلا يحرز وجوب المقدمة العلمية حتى يتوجه الكلام الآتي.

و أما استصحاب بقاء التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار،فلا أثر له بالإضافة إلى المضطر إليه،لعدم وجوب الاجتناب عنه قطعا،و لا بالإضافة إلى الطرف الآخر،لعدم إحراز انطباقه عليه،فلا ينفع الاستصحاب في وجوب الاجتناب عنه إلا بناء على الأصل المثبت.

نعم قد يقال:إن الاضطرار لما كان بعد العلم الإجمالي المنجز للتكليف الواقعي المعلوم بالإجمالي،فلا يحرز به سقوط التكليف،بل المرجع فيه قاعدة الاشتغال، فالفرق بينه و بين ما إذا كان الاضطرار سابقا على العلم أنه مع سبق الاضطرار يشك في حدوث التكليف،و مع حدوثه يشك في سقوطه،و الأول مجرى البراءة،و الثاني مجرى الاشتغال،نظير الفرق بين إراقة أحد الإنائين قبل العلم و إراقته بعده.فتأمل جيدا.

(2)يأتي الكلام في هذا قريبا.

ص: 409

على البدل (1) موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

فإن قلت:ترخيص ترك بعض المقدمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي و لا تكليف بما عداه،فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي.

قلت:المقدمة العلمية مقدمة للعلم،و اللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم (2) ،لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا،و حيث إن الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل-بملاحظة تعلق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل،كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من العقاب على المخالفة الحاصلة من (1)كما هو مقتضي الاضطرار،فإنه حسب الفرض يندفع بكل منهما على البدل،فهو لا يقتضي الترخيص إلا كذلك.

(2)لكن لما كان وجوب تحصيل العلم من الأحكام العقلية-كما سيذكره- لكونه من شمول امتثال التكليف الذي هو من مختصات العقل فلا مجال لتصرف دليل الاضطرار فيه.لوضوح أن رفع الاضطرار شرعي لا عقلي،فانه و إن سلم حكم العقل بقبح التكليف العاجز،إلا أنه راجع إلى وجوب رفع الشارع لتكاليف حال الاضطرار لا رفع العقل لها و ليس للشارع التصرف في الأحكام العقلية،بل مع بقاء التكليف الشرعي يتعين الاحتياط التام بحكم العقل لتحصيل الفراغ منه فلا بد من تسليط الرفع بسبب الاضطرار على الحكم الشرعي الموجب للاضطرار بسبب اشتباه موضعه.و مع ارتفاعه لا موجب لتنجز الطرف الآخر،و قد تقدم التعرض لذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات دليل الانسداد.

ثم إنه بناء على ذلك فلا يفرق بين كون الاضطرار قبل تنجز العلم و كونه بعده،بل كما يكون مانعا من منجزيته للأول يكون مانعا له في الثاني،كما يظهر بالتأمل.

ص: 410

ترك هذا الذي رخص في تركه،فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا و ثبوته متعلقا بالواقع على ما هو عليه.

و حاصله:ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخص الشارع في امتثاله منه،و هو ترك باقي المحتملات.و هذا نظير جميع الطرق الشرعية المجعولة للتكاليف الواقعية (1) ،و مرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معينا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب،أو مخيرا كما (1)لكن الطرق المذكورة إن كانت من سنخ الأمارات و الأدلة كانت رافعة للإجمال،فهي لا تنافى العلم الإجمالي بوجه،بل تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال، فيكون التصرف الشرعي،راجعا إلى مقام الإثبات الذي لا إشكال في جوازه.

و إليه يرجع ما سبق من إمكان جعل البدل في أطراف العلم الإجمالي،كما أشرنا إليه عند الكلام في حرمة المخالفة القطعية،و إلا فلا معنى لجعل البدل،إلا أن يرجع إلى تبدل الحكم الواقعي،و هو خارج عن محل الكلام.

و إن كانت من سنخ الأصول كاستصحاب الحرمة في بعض الأطراف فهي و إن لم ترفع الإجمال في الحكم الواقعي،لعدم تعرضها له بل للحكم الظاهري الثابت حين الشك،إلا أنها لما كانت مقتضية لتنجز مجراها على كل حال و موجبة لخروجه عن الابتلاء مع قطع النظر عن العلم الإجمالي كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي،فعدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لعدم منجزية العلم الإجمالي لا بجعل البدل.

و منه يظهر حال التخيير،فإنه إن أريد به التخيير في تعيين المعلوم بالإجمال لحقه ما عرفت في الطرق و الأمارات،و إن أريد به التخيير في إجراء الأصل الإلزامي لحقه ما عرفت في الأصول.و من ثم ذكرنا أنه لا مجال للرجوع للأصول الترخيصية في بعض الأطراف ما لم يخل العلم الإجمالي أو يسقط عن المنجزية،و ليس للشارع الاكتفاء بالطرق الاحتمالية.فتأمل جيدا.

ص: 411

في موارد التخيير.

و مما ذكرنا تبين:أن مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعية و عدم وجوب تحصيل العلم الإجمالي فيها بالاحتياط -لمكان الحرج أو قيام الإجماع على عدم وجوبه-:أن (1) يرجع في ما عدا البعض المرخص في ترك الاحتياط فيه أعني موارد الظن مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط (2) ،مع أن بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد إبطال الاحتياط و وجوب العمل بالظن مطلقا أو في الجملة-على الخلاف بينهم- على (3) الرجوع في غير موارد الظن المعتبر إلى الأصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط.

نعم،لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط (4) دليل عقلي أو إجماع على وجوب كون الظن-مطلقا أو في الجملة-حجة و طريقا في الأحكام الشرعية،أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلف به، صح (5) ما جروا عليه من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق إلى الأصول الجارية في مواردها.

لكنك خبير:بأنه لم يقم و لم يقيموا على وجوب اتباع المظنونات (1)خبر(أن)في قوله:«و مما ذكرنا تبين أن مقتضى القاعدة».

(2)متعلق بقوله:«أن يرجع...»هذا و قد عرفت الإشكال في الرجوع حينئذ إلى الاحتياط،لما ذكرناه هنا.

(3)خبر(أن)في قوله:«مع أن بناء أهل الاستدلال...».

(4)يعني:بعد بطلان وجوب الاحتياط التام بسبب العسر.

(5)جواب(لو)في قوله:«نعم لو قام...».

ص: 412

إلا بطلان الاحتياط،مع اعتراف أكثرهم بأنه (1) لأصل في المسألة و عدم (2) جواز ترجيح المرجوح،و من المعلوم أن هذا (3) لا يفيد إلا جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم (4) ، و مقتضى هذا لزوم الاحتياط في غير المظنونات.

(1)يعني:الاحتياط.

(2)عطف على(بطلان)في قوله:«إلا بطلان الاحتياط».

(3)يعني:بطلان الاحتياط المقام و عدم جواز ترجيح المرجوح.

(4)و مرجعه إلى تبعيض الاحتياط و لزومه في خصوص المظنونات على ما سبق الكلام فيه في دليل الانسداد.

ص: 413

السادس لو كانت المشتبهات مما توجد تدريجا

لو كان المشتبهات مما يوجد تدريجا،كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها و إن حفظت عددها،فيعلم إجمالا أنها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا،فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر،و يجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد و قراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟و كما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية،فهل يجب عليه الإمساك عما لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا (1) ؟

(1)الظاهر وجوب الإمساك عن المعاملة المجهول حكمها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي إذ لا يجوز الرجوع للبراءة في الشبهة الحكمية قبل الفحص.

نعم لو كان الجهل مستندا للشبهة الموضوعية،كما لو علم بابتلائه بشراء السرقة في جملة معاملاته اتجه الرجوع لليد التي هي أمارة على الملكية.و لا يرفع اليد عنها إلا بمنجز من علم إجمالي أو غيره.و كذا لو علم إجمالا بتحقق التفاضل في بعض الأجناس الربوية التي يبتلي بها.

و محل الكلام في هذه المسألة و إن كان هو الشبهة الموضوعية إلا أن قوله:«يجب

ص: 414

التحقيق أن يقال:إنه لا فرق بين الموجودات فعلا و الموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة، و عدمه (1) ،لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب (2) .

الإمساك عما لا يعرف حكمه من المعاملات»ظاهر في إرادة الشبهة الحكمية.

(1)عطف على(وجوب)في قوله:«في وجوب الاجتناب».

(2)التحقيق في ذلك أن يقال:أما بناء على كون الوقت شرطا للواجب مع فعلية الوجوب-كما هو مختار صاحب الفصول قدس سرّه في الواجب المعلق،و مختار المصنف قدس سرّه في جميع القيود،لرجوعها عنده إلى المادة لا الهيئة-فالوجه في منجزية العلم الإجمالي حينئذ واضح،ضرورة فعلية الخطاب حينئذ بالحرام سواء كان حالا أم مستقبلا.

و لذا يجب تهيئة مقدماته لو كان مستقبلا.

و أما بناء على كون الوقت شرطا للوجوب فقد يشكل من حيث عدم إحراز التكليف الفعلي في كل وقت،بل التكليف مردد بين الفعلي و غيره مما يأتي أو مما مضى و سقط بذهاب وقته،فلا مانع من الرجوع للأصل المرخص في كل طرف يحضر وقته.

لكنه مندفع بما تقرر في محله من إلزام العقل بموافقة غرض المولى و المحافظة عليه و لو بطريق إعداد المقدمات التي يتوقف عليها الواجب في وقته إذا كان التفريط فيها قبل الوقت موجبا لتعذر الواجب في وقته،كما فصل الكلام فيه في مبحث المقدمات المفوتة.و إذا كان التكليف الاستقبالي صالحا للمحركية نحو المقدمات كان صالحا للتنجز بالعلم الإجمالى،لوحدة الملاك فيهما بنظر العقل.

و عليه فلا يفرق في منجزية العلم الإجمالي بين أن تكون دفعية و تدريجية.

نعم لا بد من العلم بالابتلاء بتمام الأطراف في وقتها،فلو احتمل عدم الابتلاء ببعضها فلا وجه لمنجزية العلم الإجمالي،كما لو علم زوج المتمتع بها بحيضها إما في المدة أو بعدها،و احتمل من نفسه أنه يزيد في المدة.

ص: 415

نعم،قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات،كما في مثال الحيض، فإن تنجز تكليف الزوج بترك وط ء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع،فإن قول الشارع: فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن، ظاهر في وجوب الكف عند الابتلاء بالحائض،إذا الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء،فلا يطلب،فهذا الخطاب كما أنه مختص بذوي الأزواج و لا يشمل العزاب (1) إلا على وجه التعليق،فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض.

و يشكل الفرق بين هذا و بين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوط ء في ليلة خاصة،ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد (2) .

و مما ذكرنا يظهر أنه لا وجه لاعتبار الابتلاء بدفعه،بنحو يكون تمام الاطراف في وقت واحد تحت قدرة المكلف و موردا لابتلائه،و أن ملاك المنجزية فعلية الابتلاء و لو تدريجا.

نعم لا يبعد عدم الأثر في الابتلاء التدريجي إذا كان مستندا لاختيار المكلف في منجزية العلم الإجمالي لأنه لو كان منجزا للعلم الإجمالي لكان مانعا من العزم على اختيار ما يوجب الابتلاء،فإذا لم يعزم لا يعلم الابتلاء فلا يتنجز العلم الإجمالي و يرتفع المانع من العزم المذكور،فيلزم من منجزية العلم الإجمالي عدمها.فتأمل جيدا.

(1)الفرق بين الأعزب و ما نحن فيه أن الأعزب لا يعلم بالابتلاء،و لو علم به فهو يستند لاختياره،بخلاف الزوج،فإنه يعلم بابتلائه بالحائض ابتلاء غير مستند لاختياره

(2)لم يتضح وجه التنظير به،فإن وجه الإشكال في مثال الحيض جار فيه، و القائل بالرجوع للبراءة في الحيض يلزمه القول به هنا.إلا أن يفرق بينهما فيتوجه

ص: 416

و لكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط،و كذا في المثال الثاني من المثالين المتقدمين (1) .

و حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية،فالظاهر جواز المخالفة القطعية،لأن المفروض عدم تنجز التكليف الواقعي بالنسبة إليه،فالواجب الرجوع في كل مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة و تحريما.

فيرجع في المثال الأول إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض،فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة،لعدم جريان استصحاب الطهر (2) .

و في المثال الثاني إلى أصالة الإباحة و الفساد،فيحكم في كل معاملة عليه الإشكال.و هو الذي قد يظهر من المصنف قدس سرّه في قوله:«لكن الأظهر...».

(1)و هو ما لو علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهر بمعاملة ربوية.و قد عرفت لزوم الاحتياط فيه مع قطع النظر عن العلم الإجمالى.

و لو لا ذلك أشكل منجزية العلم الإجمالي في المقام،كما هو الحال لو كانت الشبهة موضوعية،كما لو علم بابتلائه باستئجار الجنب لكنس المسجد في مدة ابتلائه بادارة شئون المسجد،فهو نظير ما لو علم بابتلائه بشرب النجس في مدة معينة لا يكون العلم فيه منجزا،لأن الابتلاء التدريجي يستند لاختيار المكلف،كما تقدم.

فلاحظ.

(2)للقطع بانتقاض الطهر السابق و انتهاء أمده.نعم قد يرجع فيه لاستصحاب الحيض المقدم على أصالة الإباحة.و هو مبني على جريان الاستصحاب في تعاقب الحالتين المتضادتين،مع الجعل بتاريخهما،كالحدث و الوضوء،و الكلام فيه موكول إلى محله.

ص: 417

يشك في كونها ربوية بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها (1) و عدم ترتب الأثر عليها (2) ،لأن فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي (3) ، و لذا يفسد في حق القاصر بالجهل و النسيان و الصغر على وجه (4) .

و ليس هنا مورد التمسك بعموم صحة العقود و إن قلنا بالرجوع إلى العام عند الشك في مصداق ما خرج عنه (5) ،للعلم بخروج بعض المشتبهات التدريجية عن العموم،لفرض العلم بفساد بعضها،فيسقط العام عن الظهور بالنسبة إليها،و يجب الرجوع إلى أصالة الفساد.

اللهم إلا أن يقال:إن العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجية كما لا (1)عرفت أنه لا مجال له في حق العامي إذا كانت الشبهة حكمية نعم لا بأس بالرجوع إليه إذا كانت الشبهة موضوعية.

(2)لأنه الأصل في المعاملات

(3)كي يكون أصل البراءة من الحرمة التكليفية حاكما أو واردا على أصالة عدم ترتب الاثر.

(4)لم يتضح الوجه في التردد في ذلك اللهم إلا أن يكون إشارة إلى بطلان معاملة الصبي،إذ عليه لا طريق لإثبات أن بطلان المعاملة منه من جهة الربا.

أو يكون إشارة إلى ما قد يقال من صحة المعاملة الربوية مع قصور الفاعل و هو-لو تم-لا يدل على تبعية الصحة للحل-ليكون أصل الحل و البراءة في المقام مقدما على أصالة عدم ترتب الأثر-بل يكون تقييدا في دليل بطلان الربا،فلا ينافي كون موضوع البطلان في حق غير الصبي هو الربا الواقعي،لا عنوان الحرام،كى يكون إحراز عدم الحرمة بالأصل رافعا لموضوع البطلان.

(5)الراجع إلى جواز التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية من طرف الخاص، لكن هذا إنما يتوجه في المقام لو كانت الشبهة موضوعية لا حكمية.

ص: 418

يقدح في إجراء الأصول العملية فيها،كذلك لا يقدح في إجراء الأصول اللفظية (1) ،فيمكن التمسك فيما نحن فيه لصحة كل واحد من المشتبهات بأصالة العموم،لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية و العملية (2) ، فتأمل.

(1)مثل أصالة العموم في المقام.

(2)من حيث الأصول القطعية حجة ببناء العقلاء،و لا بناءهم على العمل بها مع العلم الإجمالي و لو لم يكن منجزا،بخلاف الأصول العملية،فإنها حيث كانت تعبدية و كان موضوعها الشك الحاصل في أطراف العلم الإجمالي غير المنجز أمكن الرجوع إليها.لكنه لا يخلو عن إشكال.فلاحظ.

ص: 419

السابع العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة قد ينشأ عن اشتباه المكلف به و قد يكون من جهة اشتباه المكلف

قد عرفت:أن المانع من إجراء الأصل في كل من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الإجمالي المتعلق بالمكلف به،و هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلف به،كما في المشتبه بالخمر أو النجس أو غيرهما،و قد يكون من جهة اشتباه المكلف،كما في الخنثى العالم إجمالا بحرمة إحدى لباسي الرجل و المرأة عليه (1) ،و هذا من قبيل (2) ما إذا علم أن هذا الإناء خمر أو أن هذا الثوب مغصوب.

و قد عرفت في الأمر الأول:أنه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم وجود موضوعه بين المشتبهين و بين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين.

(1)لكن لا يبعد كون الموضوع في حرمة لباس كل من الرجل و المرأة هو التشبه،لا خصوصية اللباس،و حينئذ فلا يحرم لباس النوعين معا على الخنثى،لعدم رجوعه إلى التشبه،كما أشرنا إليه في أواخر مباحث القطع.

(2)يعني:من حيث عدم دخول كلا الطرفين في حقيقة واحدة و لا خطاب واحد.

ص: 420

و على هذا فيحرم على الخنثى كشف كل من قبليه،لأن أحدهما عورة قطعا،و التكلم مع الرجال و النساء إلا لضرورة (1) ،و كذا استماع صوتهما (2) و إن جاز للرجال و النساء استماع صوتها بل النظر إليها، لأصالة الحل،بناء على عدم العموم في آية(الغض)للرجال (3) و عدم جواز التمسك بعموم آية (4) (حرمة إبداء الزينة على النساء)،لاشتباه (1)بناء على حرمة تكلم الرجل مع المرأة و المرأة مع الرجل إلا لضرورة.

و هو ممنوع.

(2)بناء على حرمة استماع صوت غير المماثل في الجنس على الرجل و المرأة، و هو ممنوع.

(3)يعني:آية وجوب الغض على الرجل،و هي قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ... فإنه إن كان موضوع الوجوب الغض عن النساء فلا يحرز عمومه للخنثى.للشك في كونها امرأة،فيرجع فيه لأصالة الحل.أما لو كان موضوعه الغض عن مطلق الإنسان و إن خرج عنه الرجال تخصيصا فأصالة عدم كون الخنثى رجلا تحرز دخوله تحت حكم العام،بناء على أن إحراز عدم عنوان المخصص كاف في إجراء حكم العام كما هو التحقيق.و يمتنع مع ذلك الرجوع إلى أصالة الحل.

نعم هو مبني على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي و قد تقدم التعرض لذلك في أواخر مبحث القطع.

(4)العموم المذكور يقتضي وجوب التستر على المرأة منه،لا حرمة نظرها إليه الذي هو محل الكلام،بل المدار فيه على عموم وجوب الغض على النساء المستفاد من قوله تعالى: و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن... و الكلام فيه نظير ما تقدم في عموم وجوب الغض على الرجل.

ص: 421

مصداق المخصص (1) .

و كذا يحرم عليه التزويج و التزوج،لوجوب إحراز الرجولية في الزوج و الأنوثية في الزوجة،و إلا فالأصل عدم تأثير العقد و وجوب حفظ الفرج (2) .

و يمكن أن يقال:بعدم توجه الخطابات التكليفية المختصة إليها،إما لانصرافها إلى غيرها،خصوصا في حكم اللباس المستنبط مما دل على حرمة تشبه كل من الرجل و المرأة بالآخر (3) ،و إما لاشتراط التكليف بعلم المكلف بتوجه الخطاب إليه تفصيلا و إن كان مرددا بين خطابين موجهين إليه تفصيلا،لأن الخطابين بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد لشيئين، إذ لا فرق بين قوله:«اجتنب عن الخمر»و«اجتنب عن مال الغير»،و بين (1)كأنه لأن عمومه للرجال و النساء المستفاد من استثناء«نسائهن»مخصص بالنساء،فمع الشك في كون الخنثى امرأة لا مجال للرجوع للعموم المذكور،لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

لكن ذكرنا في آخر مبحث القطع أنه يمكن الرجوع إلى أصالة عدم كونه امرأة لإحراز دخوله في حكم العام بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي نظير ما تقدم في آيتي الغض.و قد تقدم هناك من المصنف قدس سرّه بما يخالف ما هنا في الجملة.

(2)لكن هذا لا يتوقف على منجزية العلم الإجمالي،بل يجري مع الشك البدوي.و لذا لا يجوز ترتيب آثار الزوجية في حق الطرف الآخر مع عدم تحقق العلم الإجمالي في حقه.

(3)يعني:و لا يشمل لباس الخنثى لكلا اللباسين،لعدم ابتنائه على التشبه، كما تقدم.لكن ذلك يقتضي خروجه عن موضوع الحرمة لفظا،لا أنه داخل فيه لفظا مع انصرافه عنه،كما هو المدعى.

ص: 422

قوله:«اجتنب عن كليهما»،بخلاف الخطابين الموجهين إلى صنفين يعلم المكلف دخوله تحت أحدهما.

لكن كل من الدعويين خصوصا الأخيرة ضعيفة (1) ،فإن دعوى (2) عدم شمول ما دل على وجوب حفظ الفرج عن الزنا أو العورة عن النظر (3) للخنثى،كما ترى (4)

و كذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجه خطاب تفصيلي،فإن المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الإباحة في المشتبهين،و هو ثابت في ما نحن فيه،ضرورة عدم جريان أصالة الحل في كشف كل من قبلي الخنثى (5) ،للعلم بوجوب حفظ الفرج من (1)عرفت أن ما ذكر في حكم اللباس في محله.لكن عرفت خروجه عن الدعوى الأولى.

(2)بيان لبطلان الدعوى الأولى،و هي دعوى الانصراف

(3)متعلق بقوله:«شمول...»و في التعبير تسامح ظاهر.

(4)لكن قد يدعى أن الحكمين المذكورين ليسا من الأحكام التي تكون الخطابات بها مختصة بأحد الصنفين،بل كلا الصنفين داخل في خطاب واحد و مشمول له لوجود الجامع العرفي بينهما،فيقال:إن الزنا محرم على الناس و يجب حفظ العورة عن الناظر المحترم،بخلاف مثل:وجوب الغض على الرجال، و وجوب الغض على النساء،فإن كلا منهما مختص بأحد الصنفين،فتأمل فلا مجال لإبطال دعوى الانصراف بذلك،فالعمدة منع الانصراف،لعدم المنشأ المعتد به له، بحيث يلزم الخروج عن مقتضى الإطلاقات.

(5)لكن هذا مختص بحرمة كشف قبلية للعلم التفصيلي بتوجه الخطاب بأن عورة المؤمن على المؤمن حرام إليه،و قد عرفت أن هذا قد يكون من الخطابات

ص: 423

النظر و الزنا على كل أحد،فمسألة الخنثى نظير المكلف المردد بين كونه مسافرا أو حاضرا (1) لبعض الاشتباهات،فلا يجوز له ترك العمل بخطابهما.

المشتركة.و لا يتم في مثل وجوب الغض مما يفرض فيه تعدد المخاطب بكل منهما، و لا يعلم الخنثى بدخوله في أحد الصنفين فلو تمت الدعوى المذكورة للزم عدم وجوب اجتناب كلا الطرفين عليه،لا لجريان الأصل في كل منهما،بل للقطع بعدم وجوب أحدهما بعد فرض عدم تحقق شرطه و هو العلم التفصيلي المذكور.

فالعمدة:منع الدعوى المذكورة،لعدم المأخذ لها،بل إطلاق أدلة الأحكام بنفيها بل التقييد بالوجه المذكور محال إلا بتوجيه و تكلف محتاج إلى عناية خاصة لا دليل عليها.

هذا كله لو أريد من الدعوى تقييد التكليف واقعا بالعلم التفصيلي المذكور.

أما لو أريد اعتبار العلم المذكور في تنجز التكليف و إن كان التكليف مطلقا في نفسه و ثابتا واقعا في حق غير العالم،بحيث يرجع ذلك إلى عدم منجزية العلم هنا،ثم ما ذكره المصنف قدس سرّه من جريان جميع ما تقدم في الشبهة المحصورة هنا.فلاحظ.

(1)قد يفرق بينهما بأنه يمكن خطاب الشخص الواحد بتكليفي المسافر و الحاضر مطلقا على حدوث صفة السفر أو الحضر كما في قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر بخلاف التكليفين المختصين بالرجل و المرأة،لعدم تبادل العنوانين على شخص واحد،بل لا يحسن إلا خطاب الشخص بأحدهما لا غير.

ص: 424

الثامن التسوية بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين هو الحل أو الحرمة

أن ظاهر كلام الأصحاب التسوية بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه هو الحل (1) ،أو الحرمة (2) لأن المفروض (3) عدم جريان الأصل فيهما-لأجل معارضته بالمثل-فوجوده كعدمه.

و يمكن الفرق من المجوزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام، و تخصيص الجواز بالصورة الأولى،و يحكمون في الثانية بعدم جواز الارتكاب،بناء على العمل بالأصل فيهما (4) ،و لا يلزم هنا مخالفة قطعية (1)كما في الإناءين المسبوقين بالطهارة المعلوم طروء النجاسة على أحدهما.

(2)كما في الإناءين المسبوقين بالنجاسة المعلوم تطهير أحدهما،فان الأصل في كل منهما في نفسه بقاء نجاسته.

(3)هذا بناء على أن المانع من العمل بالأصول في أطراف العلم الإجمالي هو التعارض،أما بناء على ما عرفت فلا موجب لعدم العمل بالأصل المقتضي للاجتناب المطابق لمقتضى الاحتياط،لعموم أدلتها،كما يأتي الكلام فيه في تعارض الاستصحابين إن شاء اللّه تعالى.

(4)فإن مبني القول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام جريان الأصل في

ص: 425

في العمل،و لا دليل على حرمتها إذا لم تتعلق بالعمل،خصوصا إذا وافق الاحتياط.

إلا أن استدلال بعض المجوزين للارتكاب بالأخبار الدالة على حلية المال المختلط بالحرام،ربما يظهر منه التعميم (1) ،و على التخصيص فيخرج عن محل النزاع،كما (2) لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبية (3) ، أو إحدى الذبيحتين ميتة (4) ،أو أحد المالين مال الغير (5) ،أو أحد الأسيرين محقون الدم (6) ،أو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا فعلم طهارة أحدهما (7) :

كلا الطرفين و لزوم الخروج عنه بالمقدار الذي يلزم منه العلم بارتكاب الحرام.

(1)هذا مبني على أن الأصل في المال في نفسه الحرمة،خصوصا في مثل المقام مما علم بسبق ملك الغير له،و على عدم إمكان الخروج في مثل ذلك الأصل بظهور حال اليد في ملكية صاحبها للمال.و قد تقدم في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة الشبهة التحريمية الموضوعية البدوية بعض ما يتعلق بمقتضى الأصل في الأموال.

فراجع.

(2)الظاهر زيادة الكاف و أن الصحيح:ما لو علم...

(3)لاستصحاب عدم زوجية كل منهما.

(4)لأصالة عدم التذكية في كل منهما،بناء على أن موضوع الأحكام هو غير المذكى،لا الميتة بما هي عنوان وجودي.

(5)لاستصحاب ملك الغير له،أو عدم ملكية المكلف الشاك له،لو فرض عدم أمارة حاكمة بملكيته كاليد.

(6)بناء على لزوم الاحتياط في الدماء و عدم الرجوع فيها للبراءة.

(7)لاستصحاب نجاستهما،كما تقدم.

ص: 426

و ربما يقال: (1) إن الظاهر أن محل الكلام في المحرمات المالية و نحوها كالنجس،لا في الأنفس و الأعراض،فيستظهر أنه لم يقل أحد فيها بجواز الارتكاب،لأن المنع في مثل ذلك ضروري.و فيه نظر (2) .

(1)كما عن المحقق القمي قدس سرّه.

(2)قال بعض أعاظم المحشين قدس سرّه:«لأن الضرورة قضت بحرمة نفس العنوانات المشتبهة فيهما،بل في كثير من غيرهما،و أما المنع عند الاشتباه،فليس بضروري مطلقا».

ص: 427

التاسع

أن المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما،لأن مقدمة المقدمة مقدمة (1) ،و هو ظاهر.

(1)فمنشأ وجوب الاجتناب عن المقدمة-و هو لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز،للزوم دفع الضرر المحتمل-موجود في كل منهما بعد الاشتباه كما كان موجودا في الموضوع المشتبه بينهما قبل اشتباهه.

ص: 428

المقام الثاني
اشارة

في الشبهة غير المحصورة

المعروف عدم وجوب الاجتناب و الاستدلال عليه من وجوه:
اشارة

و المعروف فيها:عدم وجوب الاجتناب.

و يدل عليه وجوه:

الأول:

الأول:الإجماع

الإجماع الظاهر المصرح به في الروض و عن جامع المقاصد،و ادعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده-و زاد عليه نفي الريب فيه،و أن مدار المسلمين في الأعصار و الأمصار عليه-و تبعه في دعوى الإجماع غير واحد ممن تأخر عنه،و زاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة،و بالجملة:

فنقل الإجماع مستفيض،و هو كاف في المسألة (1) .

الثاني:

الثاني:لزوم المشقة في الاجتناب

ما استدل به جماعة:من لزوم المشقة في الاجتناب.و لعل المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلفين،فيشمله عموم (1)إلا أنه لا يحرز كون موضوع الحكم هو عدم الانحصار،لإمكان كونه أمرا آخر مقارنا له،كعدم الابتلاء و نحوه.على ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في ضابط الشبهة غير المحصورة.

ص: 429

قوله تعالى: يريد اللّه بكم اليسر و لا يريد بكم العسر ،و قوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج ،بناء على أن المراد أن ما كان الغالب فيه الحرج على الغالب فهو مرتفع عن جميع المكلفين حتى من لا حرج بالنسبة إليه.

و هذا المعنى و إن كان خلاف الظاهر،إلا أنه يتعين الحمل عليه، بمعونة ما ورد:من إناطة الأحكام الشرعية الكلية-وجودا و عدما- بالعسر و اليسر الغالبين.

و في هذا الاستدلال نظر،لأن أدلة نفي العسر و الحرج من الآيات و الروايات لا تدل إلا على أن ما كان فيه ضيق على مكلف فهو مرتفع عنه،و أما ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمن هو عليه في غاية السهولة، فليس فيه امتنان على أحد (1) بل فيه تفويت مصلحة التكليف من غير تداركها بالتسهيل.

و أما ما ورد:من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب،فلا ينفع فيما نحن فيه،لأن الشبهة (2) الغير المحصورة ليست واقعة واحدة (1)لا إشكال في أن رفع التكليف مطلقا،و لو لم يكن حرجيا فيه من الامتنان.

فالعمدة:أن ظاهر أدلة رفع الحرج دوران الرفع مدار الحرج الشخصي،و لا تنهض بالرفع في موارد الحرج النوعي في حق من لا حرج في حقه.

(2)حاصله:أن الأخبار المذكورة دالة على عدم تشريع حكم عام يلزم منه الحرج نوعا،فهي مختصة بالعناوين التي يحتمل أخذها في كبرى شرعية متضمنة لحكم يلزم منه الحرج نوعا،كالغسل عند الحدث الأصغر لو فرض احتمال وجوبه

ص: 430

حكم فيها بحكم حتى يدعى أن الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسر على أغلب الناس،فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا،بل هي عنوان لموضوعات متعددة لأحكام متعددة،و المقتضي للاحتياط في كل موضوع هو نفس الدليل الخاص (1) التحريمي الموجود في ذلك الموضوع، و المفروض أن ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلم،و لا يرد منه حرج على الأغلب،و أن الاجتناب في صورة اشتباهه أيضا في غاية اليسر (2) ، شرعا فإن النصوص المذكورة صالحة لدفع الاحتمال المذكور،و لا تشمل مثل عنوان الشبهة غير المحصورة مما علم بعدم كونه بنفسه مأخوذا في كبرى شرعية تقتضي الحرج نوعا،و إنما هو حاك عن عناوين متفرقة موضوعة لأحكام شرعية متعددة- مثل عنوان النجس و الميتة و مال الغير و نحوها-و قد انتزع منها بلحاظ خصوص حال يلزم منه الحرج نوعا،و هو حال الاشتباه بوجه غير محصور و الوجه في عدم شمول مثل ذلك:أنه ليس المدعى أنه بنفسه موضوعا لحكم شرعي حتى ينظر إلى حاله و أنه يلزم منه الحرج نوعا أو لا.

كما أن العناوين المحكية به قد أخذت في كبريات شرعية لا يلزم من كل منها الحرج النوعي،لأن كثيرا من أفرادها أو أكثرها لا اشتباه فيه بالوجه المذكور.

فالمتعين العمل بتلك الكبريات و الرجوع إليها،لعدم منافاة الأخبار المذكورة لها إلا في مورد يلزم الحرج الشخصي الفعلي،فيرتفع حكمها،لا من جهة الأخبار المذكورة -لاختصاصها بالحكم الذي يلزم منه الحرج نوعا-بل بمقتضى الأدلة العامة الدالة على قاعدة رفع الحرج التي عرفت أن المراد بها الحرج الشخصي.فلاحظ.

(1)يعني:بضميمة حكم العقل بوجوب الفراغ اليقيني عن التكليف اليقيني.

(2)إذ المفروض أن الحرج من اجتناب الشبهة غير المحصورة نوعي،و هو لا ينافي السهولة في خصوص بعض الموارد،أو لخصوص بعض الأشخاص.

ص: 431

فأي مدخل للأخبار الواردة في أن الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليسر و العسر.

و كأن المستدل بذلك،جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لو لا العسر،لكن لما تعسر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلية.

و فيه:أن دليل الاحتياط في كل فرد من الشبهة ليس إلا دليل حرمة ذلك الموضوع.

نعم،لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرم الواقعي في خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على (1) أغلب المكلفين في أغلب الأوقات-كأن يدعى:أن الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس الواقعي مع اشتباهه في أمور غير محصورة،يوجب الحرج الغالبي-أمكن (2) التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة (3) .

(1)متعلق بقوله:«لو لزم الحرج..».

(2)جواب(لو)في قوله:«نعم لو لزم الحرج...».

(3)لكنه يشكل أيضا بان العنوان المذكور ليس شرعيا،فان العنوان الشرعي المأخوذ في الكبرى الشرعية هو النجس،و وجوب الاجتناب عنه لا يستلزم الحرج النوعي،و إنما يلزم الحرج النوعي من الاجتناب عن خصوص موارد الشبهة غير المحصورة منه،و ليست هي مورد تشريع مستقل،و إنما هي داخلة في اطلاق وجوب الاجتناب عن النجس،فلا وجه لملاحظة الحرج النوعي فيها،بل يتعين الاقتصار في الخروج عن اطلاق وجوب الاجتناب عن النجس على خصوص موارد الحرج الشخصي الفعلي،الذي هو مقتضى اطلاقات رفع الحرج،كما سبق.

ص: 432

لكن لا يتوهم من ذلك:اطراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مائعات غير محصورة،و المرأة المحرمة المشتبهة في ناحية مخصوصة،إلى غير ذلك من المحرمات (1) .

و لعل كثيرا ممن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة أراد المورد الخاص، كما ذكروا ذلك في الطهارة و النجاسة.

هذا كله،مع أن لزوم الحرج (2) في الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة التي يقتضي الدليل المتقدم وجوب الاحتياط فيها،ممنوع.

و وجهه:أن كثيرا من الشبهات الغير المحصورة لا يكون جميع المحتملات فيها مورد ابتلاء المكلف،و لا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة و إن كانت محصورة كما أوضحناه سابقا،و بعد إخراج هذا عن محل الكلام فالإنصاف:منع غلبة التعسر في الاجتناب (3) .

فالمقام نظير ما لو لزم الحرج نوعا من الصوم في الحر،فانه لا مجال لتوهم كونه موجبا لسقوط الصوم حتى في حق من لا يلزم في حقه منه الحرج الفعلي،لعدم كون الصوم في الحر موضوعا لحكم شرعي،بل الموضوع له مطلق الصوم،و لا يلزم منه الحرج نوعا،فيلزم الرجوع إلى عموم وجوبه ما لم يلزم الحرج الشخصي الفعلي.

(1)يعني:مع عدم لزوم الحرج النوعي من الاحتياط في موارد الشبهة غير المحصورة في كل منها.

(2)يعني:و لو كان نوعيا.

(3)لقلة الشبهة غير المحصورة الواجدة لشروط التنجز،فلا يلزم العسر من الاجتناب عنها نوعا.نعم قد يلزم في حق خصوص بعض الأشخاص،فيقتصر جواز الارتكاب عليهم.

ص: 433

الثالث:

الثالث:أخبار الحلّ

الأخبار الدالة على حلّية كل ما لم يعلم حرمته،فإنها بظاهرها و إن عمت الشبهة المحصورة،إلا أن مقتضى الجمع بينها و بين ما دل على وجوب الاجتناب بقول مطلق (1) هو حمل أخبار الرخصة على غير المحصور و حمل أخبار المنع على المحصور.

و فيه:

أولا:أن المستند في وجوب الاجتناب في المحصور هو اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل (2) ،و قد تقدم بما لا مزيد عليه:أن أخبار حل الشبهة لا تشمل صورة العلم الإجمالي بالحرام (3) .

و ثانيا:لو سلمنا شمولها لصورة العلم الإجمالي حتى تشمل الشبهة الغير المحصورة،لكنها تشمل المحصورة أيضا،و أخبار وجوب الاجتناب مختصة بغير الشبهة الابتدائية إجماعا (4) فهي على عمومها للشبهة الغير (1)لعل المراد به الأخبار التي تقدم الاستدلال بها من الأخباريين على وجوب الاجتناب عن الشبهة البدوية،مثل أخبار التثليث و ترك الشبهات و الأمر بالاحتياط و نحوها.

(2)و هذا يقتضي وجوب الاجتناب في غير المحصورة أيضا مع اجتماع شروط التنجز من الابتلاء بتمام الأطراف و نحوه.

(3)يعني:فلا تشمل الشبهة غير المحصورة أيضا.لكن عرفت أنه لا مجال لذلك في خصوص قولهم عليهم السّلام:«كل شيء فيه حلال و حرام...»و أنه مختص بالعلم الإجمالى و ظاهر في عدم منجزيته.فراجع.

(4)اختصاصها بما عدا الشبهة الابتدائية إجماعا لا يجعلها أخص عن أخبار

ص: 434

المحصورة أيضا أخص مطلقا من أخبار الرخصة (1) .

و الحاصل:أن (2) أخبار الحل نص (3) في الشبهة الابتدائية و أخبار الاجتناب نص في الشبهة المحصورة،و كلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة،فإخراجها عن أحدهما و إدخالها في الآخر ليس جمعا،بل الحل،لأن المدار في النسبة بين الدليلين على حالهما مع قطع النظر عن الأدلة الخارجية، و حينئذ لو فرض شمول كلا الطائفتين لجميع أنواع الشبهة لكانتا متعارضتين.

نعم يمكن كون الإجماع شاهد جمع بينهما بعد فرض التعارض.إلا أن يريد من قوله:«و أخبار وجوب الاجتناب...»الاتفاق على عدم شمولها للشبهة الابتدائية بحسب مدلولها اللفظي و ظهورها الكلامي،لا أنها مخصصة بها بالإجماع مع شمولها لها لفظا.فلاحظ.

(1)فيجب حينئذ تخصيص أخبار الرخصة بأخبار وجوب الاجتناب،و إبقاء الشبهة غير المحصورة تحت عموم الثانية،لا كما ادعاه المستدل.

(2)هذا ليس حاصلا لما سبق في الوجه الأول،و لا لما سبق في الوجه الثاني، إذ ما سبق في الوجه الأول يبتني على خروج الشبهة المحصورة و غير المحصورة عن أخبار الحل،و ما سبق في الوجه الثاني يبتني على دخولهما في أخبار الحل و خروجهما عنها تخصيصا لأخبار الاجتناب،أما هذا فيرجع إلى تعارضهما في الشبهة غير المحصورة كالعامين من وجه.

(3)الخصوصية المدعاة إن استندت إلى مقتضى الكلام بحسب ظهوره نفعت في الجمع العرفي،و إن استندت إلى قرائن خارجية من إجماع أو شهرة أو نحوهما فهي لا ترفع التعارض،و لا تقتضي الجمع العرفي.إلا أن يكون الإجماع لو تم شاهد جمع بين الطائفتين،كما ذكرنا.

ص: 435

ترجيحا بلا مرجح (1) .

إلا أن يقال:إن أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ترجع بالآخرة إلى الشبهة الغير المحصورة،لأنا نعلم إجمالا غالبا بوجود النجس و الحرام في الوقائع المجهولة الغير المحصورة،فلو أخرجت هذه الشبهة عن أخبار الحل لم يبق تحتها من الأفراد إلا النادر،و هو لا يناسب مساق هذه الأخبار (2) فتدبر (3) .

(1)لكن مقتضى التعارض بعد تعذر الجمع تساقط كلا العامين،فيرجع في الشبهة غير المحصورة إلى الأصل العقلي،إلا أن يدعى أن مقتضى الأصل فيها الاجتناب،لحكم العقل مع العلم بالتكليف إجمالا بلزوم الفراغ منه.

(2)يعني:فيكون هذا قرينة على حمل أخبار الاجتناب على خصوص الشبهة المحصورة.

(3)لعله إشارة إلى أن ذلك لا يقتضي ابقاء جميع أفراد الشبهة غير المحصورة تحت أخبار الحل،بل يمكن إبقاء خصوص ما كان منها مقارنا لعدم الابتلاء ببعض الأطراف تحتها،و إبقاء الباقى تحت أخبار وجوب الاجتناب.

و تحقيق المقام:أن أخبار الاجتناب لا تقتضي الحكم بتنجز الشبهة،و إنما هي واردة في الشبهة المتنجزة في نفسها،فلا تنفع في تنجيز شيء.و أما أخبار الرخصة فهي تقتضي الرخصة في جميع موارد الشبهة لكن لا مطلقا،بل من حيث الجهل بالتكليف،و هي حينئذ لا تنافي تنجز الأطراف بسبب العلم الإجمالي أو غيره،و قد تقدم جميع ذلك و حينئذ لا ينفع شيء من الطائفتين فيما نحن فيه،بل يلزم الرجوع إلى مقتضى حكم العقل،و قد فرض أنه يقتضي الاجتناب في أطراف الشبهة غير المحصورة،للعلم بالتكليف لوجوب تحصيل العلم بالفراغ،إلا مع عدم الابتلاء ببعض الأطراف و نحوه مما يمنع من منجزية العلم الإجمالي.

ص: 436

الرابع:

الرابع:بعض الأخبار في خصوص المسألة

بعض الأخبار الدالة على أن مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما،مثل ما في محاسن البرقي،عن أبي الجارود،قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن،فقلت:أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة،فقال:أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟!فما علمت فيه ميتة فلا تأكله،و ما لم تعلم فاشتر و بع و كل،و اللّه إني لأعترض السوق فأشتري اللحم و السمن و الجبن،و اللّه ما أظن كلهم يسمون،هذه البربر و هذه السودان...الخبر».

فإن قوله:«أ من أجل مكان واحد...الخبر»ظاهر في أن مجرد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته.

و كذا قوله عليه السّلام:«و اللّه ما أظن كلهم يسمون»،فإن الظاهر منه إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح،كالبربر و السودان.

إلا أن يدعى (1) :أن المراد أن جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا نعم بعض أخبار الحل مختص بالعلم الإجمالي،و هو قولهم عليهم السّلام:«كل شيء فيه حلال و حرام...»كما تقدم،و هو يعم الشبهة المحصورة و غيرها،لكنه لما كان منافيا بإطلاقه لحكم العقل تعين حمله على العلم الإجمالي غير المنجز بسبب عدم الابتلاء ببعض أطرافه و نحوه،على ما سبق في أول الكلام في الشبهة المحصورة.

(1)يكون مراد السائل حينئذ أن احتمال وجود الميتة في فرد من الجبن هل يكون منجزا مع العلم بوضعه في فرد آخر منه،لتوهم أن الاحتمال المذكور يكون معتدا به حينئذ.

ص: 437

يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن،و لا كلام في ذلك،لا أنه لا يوجب الاجتناب عن كل جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان،فلا دخل له بالمدعى.

و أما قوله:«ما أظن كلهم يسمون»،فالمراد منه عدم وجوب الظن أو القطع بالحلية،بل يكفي أخذها من سوق المسلمين،بناء على أن السوق أمارة شرعية لحل الجبن المأخوذ منه و لو من يد مجهول الإسلام.

إلا أن يقال:إن سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي بوجود الحرام،فلا مسوغ للارتكاب إلا كون الشبهة غير محصورة (1) .فتأمل.

لكن الحمل على ذلك خلاف ظاهر الجواب.لظهوره في أن المدار على العلم التفصيلي بوجود الميتة،و لا يكفي العلم الإجمالي في تنجزها،و هو مناسب لحمل السؤال على إرادة السؤال عن حال العلم الإجمالي لا الشبهة البدوية.

فالإنصاف أن الرواية لها ظهور في عدم منجزية غير العلم التفصيلي.

لكن مقتضى ذلك عدم منجزية الشبهة المحصورة أيضا،فلا بد من حملها على صورة عدم وجود ما يمنع من منجزية العلم الإجمالي من عدم الابتلاء بتمام الأطراف و نحوه،و لا يختص ذلك بالشبهة غير المحصورة.

(1)هذا موقوف على كون مورد الرواية العلم الإجمالي بعدم تحقق التسمية على بعض الذبائح،و هو محل الكلام.لما سبق من احتمال كون مراده عليه السّلام بقوله:«ما أظن كلهم يسمون...»هو الظن بعدم تسميتهم،لا القطع بعدم تسمية بعضهم حتى تكون الشبهة مقرونة بعلم إجمالى.

على أنها لو كانت في مورد العلم الإجمالى،فلا بد من فرض سقوطه عن المنجزية لعدم الابتلاء ببعض أطرافه أو نحوه حتى يكون السوق حجة يرفع به اليد عن أصالة عدم التذكية الجارية في اللحم،حيث أنها معها لا يكفى احتمال الحل في

ص: 438

الخامس:

الخامس:أصالة البراءة

أصالة البراءة،بناء على أن المانع من إجرائها ليس إلا العلم الإجمالي بوجود الحرام،لكنه إنما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدمة العلمية،التي لا تجب إلا لأجل وجوب دفع الضرر و هو العقاب المحتمل في فعل كل واحد من المحتملات،و هذا لا يجري في المحتملات الغير المحصورة،ضرورة أن كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات (1) .

جواز الارتكاب،بل لا بد معه من أمارة على التذكية،و حينئذ فلا يعلم خصوصية كون الشبهة غير محصورة في رفع منجزية العلم الإجمالى.فلاحظ.

(1)هذا الوجه لا يخلو عن غموض.و يحتمل رجوعه إلى أحد وجهين:

الأول:أن العلم الإجمالي بوجود الحرام إنما يوجب الاجتناب عن الأطراف لأجل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها،المقتضي للاجتناب عنها،لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل،و لا مجال له في الشبهة غير المحصورة،لضعف احتمال انطباق الحرام على الأطراف فيها فلا تجري قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، لاختصاصها بالاحتمال القوي المعتد به عند العقلاء،فلا منجز للأطراف،بل يرجع فيها لأصالة البراءة،لكون العقاب حينئذ بلا بيان.

و فيه-مع أن الظاهر عدم اختصاص جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة عندهم بما إذا ضعف احتمال الحرام،بل يعم ما إذا قوي الاحتمال و لو بسبب بعض القرائن الخارجية-أنه لا مجال لدعوى عدم جريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل مع ضعف الاحتمال،بل يكفي فيها كون الاحتمال له منشأ معتد به، و وجود العلم الإجمالي كاف في المنشأ المذكور و عدم الاحتياط في الأمثلة التي ذكرها مع كثرة الأطراف إنما هو لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر الواقعي،حيث أن

ص: 439

أ لا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السم في أحد إناءين أو واحد من ألفي إناء؟و كذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه و بين قذف واحد من أهل البلد؟فإن الشخصين كليهما يتأثران بالأول و لا يتأثر الاحتياط مستلزم لنحو من المشقة و المشاكل التي هي محذور يزاحم به الضرر المعلوم بالإجمال،و لا مجال لذلك في ضرر العقاب،لأهميته الموجبة لتحمل أعظم المشاكل في سبيل الخلاص منه.

مع أنه لو فرض تجويز العقل الإقدام عليه فهو لا يقتضي الأمان منه،و لا يكون عذرا رافعا لأثر البيان و مصححا لجريان البراءة مع فرض العلم الإجمالي، إذ العقل إنما يجوز فرضا الإقدام على الضرر،و لا يحكم بعدم الضرر،كما هو الحال في الأضرار التكوينية التي أشار اليها المصنف قدس سرّه فلا يصلح ذلك المنع من العقاب حتى تجري البراءة.و لذا قلنا إن دفع الضرر مما يسعى له من يريد الأمان لنفسه و لو لم نقل بالتحسين و التنقيح العقليين،كما سبق في الدليل العقلي الأول لحجية مطلق الظن.

الثاني:أن كثرة الأطراف تمنع من منجزية العلم الإجمالي ابتداء،و مع عدم تنجز التكليف الواقعي بقبح العقاب عليه،لعدم البيان،الذي لا يراد به إلا المنجز، فلا موضوع معه لقاعدة وجوب دفع الضرر،لعدم الضرر،لا لضعف احتماله، و حينئذ لا مجال لشيء من الإشكالات السابقة.

و فيه:أن حجية العلم الإجمالي كسائر أفراد العلم ذاتية وجدانية،من دون فرق بين كثرة الأطراف و قلتها،و إنكارها إنكار للوجدان يتعذر معه إقامة البرهان.

ثم إن مقتضى ذكر المصنف قدس سرّه للمقدمة العلمية و لقاعدة دفع الضرر المحتمل و لضعف الاحتمال و تنظيره بمثال السم المشتبه بين أطراف كثيرة إرادة الوجه الأول، و مقتضى بعض التفريعات التي ذكرها-مثل ما يأتي في التنبيه الاول-إرادة الوجه الثاني.فتأمل جيدا.

ص: 440

أحد من أهل البلد بالثاني (1) .

و كذا الحال:لو أخبر شخص بموت الشخص المردد بين ولده و شخص آخر،و بموت المردد بين ولده و بين كل واحد من أهل بلده،فإنه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا.

و إن شئت قلت:إن ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير المحصورة لا يكون عند العقلاء إلا كارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم الإجمالي.

و كأن ما ذكره الإمام عليه السّلام في الرواية المتقدمة من قوله:«أ من أجل مكان واحد...الخبر»-بناء على الاستدلال به-إشارة (2) إلى هذا المعنى، حيث إنه جعل كون حرمة الجبن في مكان واحد منشأ لحرمة جميع محتملاته الغير المحصورة،من المنكرات المعلومة عند العقلاء (3) التي لا ينبغي للمخاطب أن يقبلها،كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الإنكاري.

لكن عرفت:أن فيه احتمالا آخر يتم معه الاستفهام الإنكاري أيضا.

و حاصل هذا الوجه:أن العقل إذا لم يستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات (4) ،فليس هنا ما يوجب على المكلف (1)ذا ناش من ضعف الاحتمال،إلا أنه ليس نظيرا للمقام،لعدم التكليف فيه،و كذا الحال فيما بعده.

(2)خبر(كأن)في قوله:«و كأن ما ذكره الامام عليه السّلام...».

(3)لكن لا ظهور للرواية في فرض ضعف الاحتمال،بل ظاهر قوله عليه السّلام:

«و اللّه إني لاعترض السوق...»قوة احتمال الحرمة.

(4)عدم حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل مما لا يمكن الالتزام

ص: 441

الاجتناب عن كل محتمل،فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان (1) ، فعلم من ذلك:أن الآمر اكتفى في المحرم المعلوم إجمالا بين المحتملات، بعدم العلم التفصيلي بإتيانه،و لم يعتبر العلم بعدم إتيانه،فتأمل.

السادس:

السادس:عدم الابتلاء إلا ببعض معين

أن الغالب عدم ابتلاء المكلف إلا ببعض معين من محتملات الشبهة الغير المحصورة و يكون الباقي خارجا عن محل ابتلائه،و قد تقدم عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة،فضلا عن غير المحصورة (2) .

هذا غاية ما يمكن أن يستدل به على حكم الشبهة الغير المحصورة، و قد عرفت:أن أكثرها لا يخلو من منع أو قصور،لكن المجموع منها لعله يفيد القطع أو الظن بعدم وجوب الاحتياط في الجملة.و المسألة فرعية (3) به بعد أهمية محذور العقاب،فما لم يثبت حكم العقل بعدم منجزية العلم لا مجال للإقدام في المقام،كما يتضح الحال بملاحظة ما سبق.

(1)مما تقدم تعرف أن العقاب لا يكون بلا برهان إلا بناء على الوجه الثاني.

(2)هذا هو عمدة الوجوه،و اللازم تنزيل كلمات الأصحاب عليه،بل عرفت لزوم تنزيل الأخبار الظاهرة في عدم منجزية العلم الإجمالي عليه.و عليه يلزم الاقتصار في رفع الاحتياط على أفراد الشبهة غير المحصورة المقرونة بعدم الابتلاء، و لا يكتفى بغلبة عدم الابتلاء في رفع اليد عن الاحتياط في تمام أفرادها.

(3)من حيث كون موضوعها فعل المكلف،لفرض أن الكلام في الشبهة الموضوعية.

ص: 442

يكتفى فيها بالظن (1) .

(1)لا يخفى أن المسألة الفرعية لا يكتفى فيها بالظن المطلق إلا بناء على تمامية دليل الانسداد،و عليه يكفي الظن أيضا في المسألة الأصولية،بناء على ما ذكره المصنف قدس سرّه من عدم الفرق بين الظن بالواقع و الظن بالطريق.

و أما الظن الخاص فهو كما يكون حجة في المسألة الفرعية يكون حجة في المسألة الأصولية-التي هي بمعنى أصول الفقه لا أصول الدين-بلا إشكال مع أن الظن الذي ادعاه في المقام ليس خاصا،كما لا يخفى.فالعمدة في المقام ما عرفت من تمامية الوجه السادس.

ص: 443

إلا أن الكلام يقع في موارد:

الاول هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة؟

أنه هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث يلزم العلم التفصيلي (1) ،أم يجب إبقاء مقدار الحرام؟

ظاهر إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأول،لكن يحتمل أن يكون مرادهم عدم وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب،و هذا غير بعيد عن مساق كلامهم.

فحينئذ لا يعم معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكل،إلا أن الأخبار لو عمت المقام دلت على الجواز (2) .

و أما الوجه الخامس،فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب (3) لكن (1)لعل الأولى أن يقول:بحيث يلزم العلم بارتكاب الحرام الواقعي،و إلا ففرض العلم التفصيلي لا يخلو عن تسامح.

(2)لظهورها في توقف لزوم الاجتناب على العلم التفصيلي بحرمة الأمر الذي يرتكب.

(3)تقدم أن الوجه الخامس يرجع إلى أحد وجهين،أما الوجه الأول منهما فهو يقتضي المنع من الارتكاب،للعلم بالمخالفة الموجب لمنع العقل.بل لما كان المناط

ص: 444

مع عدم العزم على ذلك من أول الأمر،و أما معه فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام (1) فيستحق العقاب.

فالأقوى في المسألة:عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أول الأمر،فإنّ قصده قصد للمخالفة و المعصية،فيستحق العقاب بمصادفة الحرام.

و التحقيق:عدم جواز ارتكاب الكل (2) لاستلزامه طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي،كالخمر في قوله:«اجتنب عن الخمر» (3) ،لأن هذا التكليف لا يسقط من المكلف في الوجه المذكور ضعف الاحتمال تعين البناء على المنع من الارتكاب بمقدار يقوى معه احتمال المخالفة لكثرة الأطراف المرتكبة.و أما الوجه الثاني فهو يقتضي جواز الارتكاب،لأنه مع فرض عدم المنجز للحرمة الواقعية لا موجب للاجتناب عن شيء من الاطراف.

(1)لم يتضح الوجه في الفرق بين العزم و عدمه،إذ مع منجزية الاحتمال يتعين الاجتناب مطلقا،و الاّ جاز الارتكاب مطلقا.نعم لو ارتكب الفعل رغبة في الوقوع في الحرام و طلبا له من حيث كونه معصية للمولى لم يبعد حصول التجري أو المعصية حتى مع الشبهة البدوية،على ما ذكرناه في مبحث التجري.

(2)يعني:إذا قصده من أول الأمر،لما سبق و يأتي.نعم يكون تأكيدا لما سبق، و هو لا يناسب مساق العبارة،بل لا يناسب الدليل المسوق في المقام كما سيأتي.

(3)هذا لو تم لا يفرق فيه بين قصد ارتكاب الجميع من أول الأمر و عدمه، لأن مرجع هذا الوجه إلى امتناع ترخيص الشارع في تمام الأطراف،بل لا يجوز إلا الترخيص في بعضها مع جعل البدل،المستلزم لوجوب ترك مقدار الحرام مطلقا ليكون بدلا عنه.فلاحظ.

ص: 445

مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات (1) .

غاية ما ثبت في غير المحصور:الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات،فيكون البعض المتروك بدلا ظاهريا عن الحرام الواقعي (2) ، و إلا فإخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله:«اجتنب عن كل خمر»،اعتراف بعدم حرمته واقعا (3) ،و هو معلوم البطلان.

هذا إذا قصد الجميع من أول الأمر لأنفسها (4) .

(1)يعني:بنحو يسوغ له قصد ارتكاب الجميع.

(2)هذا محتاج إلى قيام الدليل الخاص على البدلية،و إلا فالوجوه السابقة لا تقتضيها،بل هي مختلفة المفاد فبعضها يقتضي جواز الارتكاب،كما هو الحال في الرابع،بل الثالث أيضا،و بعضها يقتضي عدم جوازه،كما عرفته في أحد احتمالي الوجه الخامس.

نعم الوجه الثاني قد تتم فيه دعوى البدلية،بناء على ما عرفته من المصنف قدس سرّه في التنبيه الخامس من تنبيهات الشبهة المحصورة،لعدم الفرق ظاهرا بين الاضطرار و الحرج.فتدبر.

(3)ليس المدعى في الشبهة غير المحصورة هو حلية الفعل واقعا حتى ينافي دليل حرمته.بل حليته ظاهرا الراجعة إلى عدم منجزية العلم الإجمالى،لكثرة الأطراف الموجبة،لضعف الاحتمال أو لغير ذلك من الوجوه المتقدمة،فلا تنافي الحرمة الواقعية،كما أشرنا إليه في أوائل الكلام في الشبهة المحصورة.فراجع.

(4)يحتمل أن يكون المراد لا نفس الأطراف مع عدم قصد الاجتماع،فيكون مشيرا للتفصيل السابق.و يحتمل أن يكون المراد:لا نفس الخمر،فيكون مشيرا لصورة الآتية في قوله:«و لو قصد نفس الحرام...»هذا بناء على كون«لا»نافية و لعل الأولى ما في بعض النسخ من تشكيلها هكذا:(لأنفسها)فيكون اشارة إلى ما

ص: 446

و لو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكل مقدمة له (1) ،فالظاهر استحقاق العقاب،للحرمة من أول الارتكاب بناء على حرمة التجري.

فصور ارتكاب الكل ثلاث،عرفت كلها (2) .

إذا كان الداعي ارتكاب الأطراف أنفسها،في قبال ما إذا كان الداعي نفس الحرام الموجود فيها الذي هو الصورة الآتية.فلاحظ.

(1)بحيث يكون الداعي له تحصيل الحرام،كما أشرنا إليه.

(2)الأولى:ارتكاب الكل من دون قصد لذلك من أول الأمر.و ظاهره جواز ذلك.

الثانية:ارتكاب الكل مع قصده من أول الأمر،و قد حكم فيه باستحقاق العقاب،باستيعاب الأطراف،لاستلزام الترخيص فيه الترخيص في المعصية

الثالثة:ارتكاب الكل لأجل الوصول للحرام و مقدمة له،و قد حكم باستحقاق عقاب بارتكاب الفرد الأول بناء على حرمة التجري،و مقتضى ذلك عدم الفرق بين الصورتين الأخيرتين بناء على مختاره من عدم حرمته.

و الظاهر أن استحقاق العقاب في الصورة الأخيرة في محله إن رجعت إلى الرغبة في الحرام من حيث كونه معصية لا لذاته،أما لو كانت الرغبة في الحرام لذاته مع الاعتماد على الترخيص الشرعي فلا فرق بين هذه الصورة و ما سبقها.و أما الصورتان الأوليان فقد عرفت عدم الفرق بينهما بحسب الأدلة.

و حينئذ فالذي ينبغي أن يقال:عرفت أن المعتمد في المقام هو السادس،و هو يقتضي تخصيص جواز الارتكاب بصورة عدم الابتلاء،فلا يتيسر ارتكاب الجميع في واقعة واحدة،حتى يقع الكلام في جوازه.

نعم لو فرض ارتكاب بعض الأطراف لعدم الابتلاء بالأطراف الأخر،ثم حصل الابتلاء بها في واقعة أخرى مع عدم ترتب الأثر على التكليف بالاولى-من

ص: 447

حيث وجوب القضاء و نحوه-تعين جواز ارتكابها،لعدم منجزية احتمال التكليف فيها،من دون فرق بين أن يكون عازما من أول الأمر على ارتكابها على تقدير الابتلاء بها و عدمه،لأنّ ذلك لا يستلزم العزم على المعصية بعد فرض الترخيص الشرعي حين الارتكاب.فلاحظ.

ص: 448

الثانى ضابط المحصور و غير المحصور

اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور و غيره:فعن الشهيد و المحقق الثانيين و الميسي و صاحب المدارك:أن المرجع فيه إلى العرف،فهو:ما كان غير محصور في العادة،بمعنى أنه يعسر عده،لا ما امتنع عده،لأن كل ما يوجد من الأعداد قابل للعد و الحصر.

و فيه،مضافا إلى أنه إنما يتجه إذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب على الإجماع (1) المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور، أو على تحصيل الإجماع من اتفاق من عبر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم عليه السّلام (2) بها-:إن (3) تعسر العد غير متحقق فيما (1)إذ قد يقال حينئذ:إن اشتمال معقد الإجماع على العبارة المذكورة ظاهر في إرادة صدقها عرفا.أما لو كان المرجع هو الوجوه الأخر فلا وجه للاكتفاء،بالصدق العرفي،بل لا بد من الرجوع إلى تلك الوجوه.

(2)لم يتضح وجه الاستكشاف المذكور،و لا سيما مع الاطمئنان بان العنوان المذكور من العناوين المستحدثة في كلمات الفقهاء.

(3)مبتدأ خبره قوله:«و فيه...».

ص: 449

مثلوا به لغير المحصور كالألف مثلا،فإن عد الألف لا يعد عسرا.

و ربما قيد المحقق الثاني عسر العد بزمان قصير،قال في فوائد الشرائع -كما عن حاشية الإرشاد-بعد أن ذكر أن غير المحصور من الحقائق العرفية:

إن طريق ضبطه أن يقال:لا ريب أنه إذا أخذ مرتبة عليا من مراتب العدد كألف مثلا،قطع بأنه مما لا يحصر و لا يعد عادة،لعسر ذلك في الزمان القصير،فيجعل طرفا،و يؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدا كالثلاثة يقطع بأنها محصورة،لسهولة عدها في الزمان اليسير،و ما بينهما من الوسائط كلما جرى مجرى الطرف الأول الحق به،و كذا ما جرى مجرى الطرف الثاني الحق به،و ما يعرض فيه الشك يعرض على القوانين و النظائر،و يرجع فيه إلى الغالب،فإن غلب على الظن إلحاقه بأحد الطرفين فذاك،و إلا عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل.

و بهذا ينضبط كل ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة و النكاح و غيرهما.

أقول:و للنظر فيما ذكره قدس سرّه مجال.

أما أولا:فلأن جعل الألف من غير المحصور مناف لما عللوا عدم وجوب الاجتناب به:من لزوم العسر في الاجتناب (1) ،فإنا إذا فرضنا (1)المنافاة المذكورة إنما تتم لو كان المراد بذلك العسر الشخصي في تمام الوقائع،أما لو كان المراد هو العسر النوعي في غالب الوقائع فلا مجال للجزم بالمنافاة المذكورة،لإمكان أن يدعى أن الاجتناب مع كون عدد الأطراف ألفا عسر غالبا، و إن لم يكن في بعض الموارد،و منها المثال الذي ذكره المصنف قدس سرّه.

ص: 450

بيتا عشرون ذراعا في عشرون ذراعا،و علم بنجاسة جزء يسير منه يصح السجود عليه نسبته إلى البيت نسبة الواحد إلى الألف،فأي عسر في الاجتناب عن هذا البيت و الصلاة في بيت آخر؟و أي فرق بين هذا الفرض،و بين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين مما يوجب حصر الشبهة؟فإن سهولة الاجتناب و عسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالا قليلا أو كثيرا (1) و كذا لو فرضنا أوقيّة من الطعام تبلغ ألف حبة بل أزيد يعلم بنجاسة أو غصبية حبة منها،فإن جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسر الاجتناب.

و أما ثانيا:فلأن ظن الفقيه (2) بكون العدد المعين جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر أو مجرى غيره،لا دليل عليه (3) .

و أما ثالثا:فلعدم استقامة الرجوع في مورد الشك إلى الاستصحاب حتى يعلم الناقل،لأنه إن أريد استصحاب الحل و الجواز كما هو الظاهر من كلامه (4) ،ففيه:أن الوجه المقتضي لوجوب الاجتناب في المحصور (1)لا إشكال في أن القلة و الكثرة قد تكونان دخيلتين في لزوم العسر و عدمه.

(2)هذا تعريض بما تقدم من المحقق الثاني قدس سرّه من أن ما يعرض فيه الشك من المراتب يعرض على القوانين و النظائر،و يرجع فيه إلى الغالب،فإن غلب على الظن إلحاقة بأحد الطرفين فذاك.

(3)يعني:على حجيته.

(4)لم يتضح منشأ الظهور المذكور من الكلام المتقدم.كما أنه لا يأتي من المصنف قدس سرّه وجه آخر للاستصحاب،كما هو مقتضي سوق عبارته.

ص: 451

و هو وجوب المقدمة العلمية بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردد بين المشتبهات-قائم بعينه في غير المحصور،و المانع غير معلوم،فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب.

إلا أن يكون نظره إلى ما ذكرنا في الدليل الخامس (1) من أدلة عدم وجوب الاجتناب:من أن المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة-و هو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل-غير موجود، و حينئذ فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها إلى الشك في وجود المقتضي للاجتناب،و معه يرجع إلى أصالة الجواز.

لكنك عرفت التأمل في ذلك الدليل (2) فالأقوى:وجوب الرجوع مع الشك إلى أصالة الاحتياط (3) لوجود المقتضي و عدم المانع.

و كيف كان:فما ذكروه:من إحالة غير المحصورة و تميزه عن غيره إلى العرف،لا يوجب إلا زيادة التحير في موارد الشك (4) .

و قال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنجس:لعل الضابط (1)و كذا الدليل السادس بناء على أنه مع الشك في الابتلاء لا يتنجز التكليف،كما سبق في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة المحصورة.

(2)لم يتقدم منه قدس سرّه التعرض لشيء يقتضي التوقف فيه،بل ظاهر ما ذكره في الأمر السابق الجري عليه.

نعم هو بعد تقرير الوجه المذكور أمر بالتأمل،فلعله أراد هنا ذلك.

(3)بناء على ما عرفت أن المرجع في المقام هو الوجه السادس بتعين البناء على عدم وجوب الاحتياط مع الشك،كما أشرنا إليه.

(4)مع أنه لا دليل عليه في نفسه

ص: 452

أن ما يؤدي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور،كما أن اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدي إلى الترك غالبا.انتهى.

و استصوبه في مفتاح الكرامة.

و فيه:ما لا يخفى من عدم الضبط (1) .

و يمكن أن يقال-بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس (2) :إن غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها،أ لا ترى:أنه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها، لم يكن ملوما و إن صادف زيدا (3) ؟

و قد ذكرنا:أن المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلة الاحتمال ما لا يؤثر مع الانتشار و كثرة الاحتمال،كما قلناه في سبب واحد مردد بين اثنين أو ثلاثة،و مردد بين أهل بلدة.

و نحوه:ما إذا علم إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب و السنة،أو حصول النقل في بعض الألفاظ (4) ، (1)بل عدم الدليل أيضا،بل من البعيد الاقتصار في الشبهة غير المحصورة على ذلك،لأنه يتوقف على كثرة الأطراف بنحو خاص يبعد منهم اعتبار حصوله.

(2)لكن عرفت منه قريبا أنه محل تأمل.و عرفت منا الإشكال فيه مع أن الضابط الذي ذكره مما لا يظن منهم الرجوع إليه،كيف و غالب موارد الشبهات غير المحصورة لا يضعف فيها الاحتمال بالنحو المذكور.

(3)هذا غير ظاهر إذا التفت إلى وجود زيد بين أهل البلدة.

(4)هذا غير ظاهر إلا أن يرجع إلى ابتلاء العلم الإجمالي ببعض الموانع عن

ص: 453

إلى غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالعلوم الإجمالية المترتب عليها الآثار المتعلقة بالمعاش و المعاد في كل مقام.

و ليعلم:أن العبرة في المحتملات كثرة و قلة بالوقائع التي تقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام،فإذا علم بحبة أرز محرمة أو نجسة في ألف حبة،و المفروض أن تناول ألف حبة من الأرز في العادة بعشر لقمات،فالحرام مردد بين عشرة محتملات (1) لا ألف محتمل، لأن كل لقمة يكون فيها الحبة حرم أخذها،لاشتمالها على مال الغير،أو مضغها،لكونه مضغا للنجس،فكأنه علم إجمالا بحرمة واحدة من عشر لقمات.نعم،لو اتفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كل حبة واقعة مستقلة كان له حكم غير المحصور.

و هذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور و غيره، و مع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشيء منها.

فالأولى:الرجوع في موارد الشك إلى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الإجمالي الموجود في ذلك المورد،فإن قوله:«اجتنب عن الخمر»لا فرق في دلالته على تنجز التكليف بالاجتناب عن الخمر،بين الخمر المعلوم المردد بين أمور محصورة و بين الموجود المردد بين أمور غير محصورة،غاية الأمر قيام الدليل في غير المحصورة على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي تنجزه.

(1)هذا غير ظاهر خصوصا إذا كانت الحبة المحرّمة يمكن أن تجعل في كل لقمة و أمكن تبديل حبات كل لقمة.فلاحظ.

ص: 454

ببعض محتملاته،كما تقدم سابقا (1) .

فإذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة،شك في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض،فيجب ترك جميع المحتملات،لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض.

(1)لكن تقدم في الأمر السابق أنه لا دليل على ذلك،و لم يتقدم منه قدس سرّه في الاستدلال على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة غير المحصورة التعرض له بوجه.فالعمدة ملاحظة الوجوه التي استدل بها،و النظر في مقتضاها عند الشك، و قد عرفت أن عمدتها الوجه السادس،و أن لازمه عدم وجوب الاحتياط مع الشك.فلاحظ.

ص: 455

الثالث إذا كان المردد بين الأمور غير المحصورة أفرادا كثيرة
إذا كان المردد بين الأمور غير المحصورة أفرادا كثيرة

إذا كان المردد بين الأمور الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأمور المحصورة،كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرمة في ألف و خمسمائة شاة،فإن نسبة مجموع المحرمات إلى المشتبهات كنسبة الواحد إلى الثلاثة،فالظاهر أنه ملحق بالشبهة المحصورة (1) ،لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في (1)هذا ظاهر بناء على الوجه الأول من وجهي الدليل الخامس،بل لا يبعد تماميته على الوجه الثاني منه أيضا،إذ الظاهر أن عدم الاعتناء بالعلم الإجمالي مع كثرة الأطراف-لو تم-مختص بما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال كثيرا.

و أما بقية أدلة المسألة فلا تنهض بذلك.

أما الوجه الأول-و هو الإجماع-فلما هو المعلوم من أن أغلب موارد الشبهة غير المحصورة التي يتعرضون لها و يمثلون بها من هذا القبيل،كالعلم بوجود النجس في المجموعات فإن أطرافه و إن كانت كثيرة جدا،إلا أن النجس المعلوم كثير أيضا.

و أما الثاني-و هو الحرج-فالأمر فيه أظهر،إذ لا فرق مع كثرة الأطراف بين كثرة المعلوم و قلته،و مثله السادس:كما هو ظاهر.

ص: 456

المثال (1) ،و محتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة،فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة،و أما ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات فهي احتمالات لا تنفك عن الاشتمال على الحرام (2) .

و أما الرابع فلأن ظاهر الأخبار المتقدمة كثرة المعلوم بالإجمال بنحو يوجب الظن بالوقوع في الحرام.

نعم الثالث يحمل من هذه الجهة،و حيث عرفت أن المعتمد في المقام هو الدليل السادس فاللازم إلحاق ما نحن فيه بغير المحصور

(1)لم يتضح الوجه في أخذ المجموعة قيدا في موضوع التحريم،بل التحريم وارد على كل شاة بنفسها،فالأطراف كثيرة لا قليلة.

(2)لم يتضح الوجه في ذلك،فإن كل شاة تفرض محتملة التحريم،و كذا كل مجموعة تؤخذ بنحو التبادل بين الأفراد.

نعم يتم في الجملة لو كانت الشياه مقسمة كل خمسمائة في جانب،و يعلم حرمة إحدى المجموعات بتمامها.

ص: 457

الرابع أقسام الشك في الحرام مع العلم بالحرمة

إنا ذكرنا في المطلب الأول المتكفل لبيان حكم أقسام الشك في الحرام مع العلم بالحرمة:أن مسائله أربع:الأولى منها الشبهة الموضوعية.

و أما الثلاث الأخر و هي ما إذا اشتبه الحرام بغير الواجب،لاشتباه الحكم من جهة عدم النص،أو إجمال النص،أو تعارض النصين فحكمها يظهر مما ذكرنا في الشبهة المحصورة الموضوعية (1) .

لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني،كما إذا تردد الغناء المحرم بين مفهومين بينهما عموم من وجه،فإن مادتي الافتراق من هذا القسم.و مثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة و اختلف في تعيينه.و مثل قوله عليه السّلام:«من جدد قبرا أو مثل مثالا فقد خرج (1)لعدم الفرق في منجزية العلم الإجمالي و في جريان الأصول الترخيصية بين الشبهة الحكمية و الموضوعية.

نعم لو كان منشأ الشك تعارض النصين اختص بورود الأدلة الخاصة التي سبق الكلام فيها في مسائل الشك في أصل التكليف.فراجع.

ص: 458

عن الإسلام»،حيث قرئ:«جدد»بالجيم (1) و الحاء المهملة (2) و الخاء المعجمة (3) ،و قرى«جدث»بالجيم و الثاء المثلثة (4) .

(1)فيكون المراد به حرمة تجديد القبر بعد انهدامه أو اندراسه.

(2)من التحديد،و هو التسنيم.كذا قيل،فيكون إشارة إلى ما يفعله العامة.

(3)من التخديد،و هو الشق،فكأنه كناية عن النبش

(4)كأنه كناية عن جعله جدثا مرة بعد أخرى،بمعنى دفن ميت آخر فيه.

ثم إنه لا يخفى أن اختلاف الحديث المذكور من سنخ اختلاف النسخ،و هو بتعارض النصين أقرب منه بإجمال النص.

ص: 459

ص: 460

المحتويات

المقصد الثالث في الشك

المكلف الملتفت إلى الحكم الشرعي 7

إمكان اعتبار الظن 7

عدم إمكان اعتبار الشك 8

الحكم الواقعي و الظاهري 9

الدليل الاجتهادي و الفقاهتي 10

وجه تقديم الأدلة على الأصول 10

أخصية الأدلة غير العلمية من الأصول 12

الدليل العلمي رافع لموضوع الأصل 13

التحقيق حكومة دليل الأمارة على الأصول الشرعية 15

ارتفاع موضوع الأصول العقلية بالأدلة الظنية 15

انحصار الأصول في أربعة 16

الانحصار العقلي 17

مجاري الأصول الأربعة 17

تداخل موارد الأصول أحيانا 18

ص: 461

المقام الأول:في البراءة و الاشتغال و التخيير

حكم الشك من دون ملاحظة الحالة السابقة 21

الموضع الأول:الشك في نفس التكليف

متعلق التكليف المشكوك إما فعل كلي أو فعل جزئي 22

منشأ الشك في الشبهة الموضوعية و الحكمية 23

المطلب الأول:الشبهة التحريمية،و فيه مسائل:

المسألة الأولى:الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص 25

قولان في المسألة 25

أدلة القول بالإباحة و عدم وجوب الاحتياط:25

الاستدلال بآية لا يكلف اللّه نفسا... و المناقشة فيه 26

الاستدلال بآية و ما كنا معذبين... 28

المناقشة في الاستدلال 30

إيراد المحقق القمي قدس سرّه على الوحيد البهبهاني قدس سرّه 32

دفع الإيراد 33

الاستدلال بآية و ما كان اللّه ليضل... 35

المناقشة في الاستدلال 36

الاستدلال بآية ليهلك من هلك... و المناقشة فيه 37

إيراد عام 38

الاستدلال بآية قل لا أجد... 39

المناقشة في الاستدلال 39

الاستدلال بآية و ما لكم أن لا تأكلوا... 40

المناقشة في الاستدلال 41

عدم نهوض الآيات المذكورة لإبطال وجوب الاحتياط 41

الاستدلال على البراءة بالسنّة:42

الاستدلال بحديث(الرفع)42

ص: 462

وجه الاستدلال به 42

المناقشة في الاستدلال 42

ظاهر بعض الأخبار أن المرفوع جميع الآثار و الجواب عنه 46

مما يؤيد إرادة العموم 47

الجواب النقضي عن المؤيد 48

الجواب الحلي عنه 48

وهن العموم بلزوم كثرة الإضمار و الجواب عنه 49

وهن العموم بلزوم كثرة التخصيص و الجواب عنه 50

ليس المراد رفع الآثار المترتبة على هذه العناوين 50

المرفوع هو الآثار الشرعية دون العقلية و العادية 52

المراد من الرفع 53

المرتفع هو إيجاب التحفظ و الاحتياط 56

اختصاص الرفع بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان 57

المراد من رفع الحسد 58

المراد من رفع الطيرة 60

المراد من الوسوسة في الخلق 60

ما ذكره الصدوق في تفسير الطيرة و الحسد و الوسوسة 62

الاستدلال بحديث(الحجب)و المناقشة فيه 63

الاستدلال بحديث(السعة)و المناقشة فيه 64

الاستدلال برواية(عبد الأعلى)و المناقشة فيه 65

الاستدلال برواية(أيما امرئ...)و المناقشة فيه 66

الاستدلال برواية(إن اللّه تعالى يحتج...)و المناقشة فيه 67

الاستدلال بمرسلة الفقيه 67

الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج 68

المناقشة في الاستدلال بالصحيحة 68

ص: 463

الاستدلال برواية(كل شيء فيه حلال و حرام...)71

ما ذكره السيد الصدر قدس سرّه في تقريب الاستدلال 71

المناقشة في الاستدلال 73

ما ذكره الفاضل النراقي قدس سرّه انتصارا للمستدل 76

المناقشة فيما أفاده الفاضل النراقي قدس سرّه 77

ما أورده المحقق القمي قدس سرّه على الاستدلال 78

المحصل من الأخبار المستدل بها على البراءة 79

الاستدلال على البراءة بالإجماع من وجهين:

الوجه الأول:دعوى الإجماع فيما لم يرد دليل على تحريمه مطلقا 80

الوجه الثاني:دعوى الإجماع فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو 80

تحصيل الإجماع على النحو الثاني من وجوه:

الوجه الأول:ملاحظة فتاوى العلماء 80

كلام الشيخ الصدوق قدس سرّه 81

كلام الشيخ الطوسي قدس سرّه 82

الوجه الثاني:الإجماعات المنقولة و الشهرة المحققة 83

كلام الحلي قدس سرّه في السرائر 83

كلام المحقق قدس سرّه في المسائل المصرية 83

الوجه الثالث:الإجماع العملي 84

كلام المحقق قدس سرّه في المعارج 84

المناقشة فيما أفاده المحقق قدس سرّه في المعارج 85

الدليل العقلي على البراءة(قاعدة قبح العقاب بلا بيان)86

حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لا يكون بيانا 86

ما ذكره في الغنية:من أن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق 89

المراد ب(ما لا يطاق)89

الدليل العقلي المذكور ليس من أدلة البراءة 91

ص: 464

الاستدلال على البراءة بوجوه غير ناهضة 91

استصحاب البراءة المتيقنة 92

كون الاحتياط عسرا 95

كون الاحتياط متعذرا أحيانا 96

الاستدلال بالكتاب:

الاستدلال بالآيات الناهية عن القول بغير علم 97

الاستدلال بالآيات الدالة على لزوم الاحتياط و الاتقاء 98

الجواب عن آيات النهي عن القول بغير علم 99

الجواب عن آيات الاحتياط 100

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنة:

الاستدلال بالأخبار الدالة على حرمة القول و العمل بغير علم و الجواب عنها 101

الاستدلال ب لأخبار الدالة على وجوب التوقف:

مقبولة ابن حنظلة 101

صحيحة جميل ابن درّاج 102

روايات الزهري و السكوني و عبد الأعلى 103

وصية الإمام علي عليه السّلام لابنه 104

موثقة حمزة ابن الطيار و رواية جميل و رواية جابر 105

رواية زرارة 106

الجواب عن الاستدلال بأخبار التوقف 107

ملخص الجواب 109

إن كان الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الأخروي 110

إن كان مفسدة أخرى غير العقاب 110

الهلاك المحتمل فيما نحن فيه من قبيل غير العقاب 111

مفاد الأخبار المذكورة 112

ص: 465

استعمال خبرية الوقوف عند الشبهة في مقامين:

المقام الأول:استعمالها في مقام لزوم التوقف 116

المقام الثاني:استعمالها في غير اللازم 117

الجواب عن أخبار التوقف بوجوه غير تامة:

الجواب الأول 118

الجواب الثاني 118

الجواب الثالث 118

الجواب الرابع 118

الجواب الخامس 120

الاستدلال بالأخبار الدالة على وجوب الاحتياط:

صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج 123

موثقة عبد اللّه ابن وضاح 123

رواية الأمالي 123

رواية عنوان البصري 124

ما أرسله الشهيد قدس سرّه 124

ما أرسل عنهم عليهم السّلام 124

ما ذكره المحقق قدس سرّه في النبوي(دع ما يريبك)131

التأمل فيما ذكره المحقق قدس سرّه 131

الاستدلال بأخبار التثليث 132

مقبولة ابن حنظلة 132

وجه الاستدلال 133

المناقشة في الاستدلال 134

ليس المقصود من الأمر بطرح الشبهات خصوص الإلزام 135

عموم الشبهات للشبهة الموضوعية التحريمية 136

كون المراد جنس الشبهة 137

ص: 466

الأخبار الكثيرة 138

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط من وجهين:

الوجه الأول:العلم الإجمالي بوجود محرمات كثيرة 140

الجواب عن هذا الوجه 144

الوجه الثاني:أصالة الحظر في الأفعال 147

الجواب عن هذا الوجه أيضا 148

التفصيل المحكي عن المحقق قدس سرّه بين ما يعم به البلوى و غيره 151

كلام المحقق قدس سرّه في المعتبر 152

كلام المحقق قدس سرّه في المعارج 152

المناقشة فيما أفاده المحقق قدس سرّه 154

هل أن أصالة الإباحة من الأدلة الظنية أو من الأصول؟162

هل أن أوامر الاحتياط للاستحباب أو للإرشاد؟164

الظاهر كونها للإرشاد 166

ما يشهد لكونها من الإرشاد 167

ترتب الثواب على اجتناب الشبهة 167

ظاهر بعض الأخبار كونها للاستحباب 168

حسن الاحتياط مطلقا 168

المذاهب الأربعة المنسوبة إلى الأخباريين فيما لا نص فيه 170

التوقف أعم من الاحتياط بحسب المورد 171

الاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم 171

الفرق بين الحرمة الظاهرية و الواقعية 172

احتمال آخر في الفرق 173

احتمال ثالث في الفرق 174

أوامر الاحتياط إرشادية 175

أصل الإباحة إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليه 177

ص: 467

ما يظهر من المحقق و الشهيد الثانيين في حيوان متولد من طاهر و نجس 178

ما ذكره شارح الروضة في المسألة 180

المناقشة فيما ذكره شارح الروضة 180

اعتراض بعض الأخباريين على الأصوليين 183

المناقشة فيما أفاده بعض الأخباريين 183

المسألة الثانية:الشبهة التحريمية من جهة إجمال النص 186

المسألة الثالثة:الشبهة التحريمية من جهة تعارض النصين 188

الأقوى عدم وجوب الاحتياط 188

ظاهر مرفوعة زرارة وجوب الاحتياط 188

الجواب عن المرفوعة 189

تعارض(المقرر و الناقل)،و(المبيح و الحاظر)190

الفرق بين المسألتين 191

المسألة الرابعة:الشبهة التحريمية من جهة اشتباه الموضوع 193

عدم الخلاف في الإباحة 193

استدلال العلامة قدس سرّه برواية مسعدة 194

الإشكال في الأمثلة المذكورة في الرواية 194

توهم عدم جريان قبح التكليف من غير بيان في المسألة و الجواب عنه 195

تقرير التوهم بوجه آخر 200

الجواب عن هذا الوجه 200

عدم حكم العقل بوجوب دفع الضرر إذا ترتب عليه نفع أخروي 202

محل الكلام في الشبهة الموضوعية ما إذا لم يكن أصل موضوعي يقضي بالحرمة 205

كلمات المحدث العاملي قدس سرّه في الفرق بين الشبهة في نفس الحكم و بين الشبهة في طريقه و المناقشة فيها 211

الاحتياط التام موجب لاختلال النظام 221

التبعيض بحسب الاحتمالات 222

ص: 468

التبعيض بحسب المحتملات 223

التبعيض بين مورد الأمارة على الإباحة و بين غيره 224

عدم اختصاص الإباحة بالعاجز عن الاستعلام 226

المطلب الثاني:الشبهة الوجوبية،و فيه مسائل:

المسألة الأولى:الشبهة الوجوبية من جهة فقدان النص 228

المعروف من الأخباريين عدم وجوب الاحتياط 228

كلام المحدث العاملي قدس سرّه 228

كلام المحدث البحراني قدس سرّه في الحدائق في عدم وجوب الاحتياط 229

كلامه قدس سرّه في الدرر النجفية في عدم وجوب الاحتياط أيضا 229

كلامه قدس سرّه في وجوب الاحتياط 229

كلام المحدث الاسترآبادي قدس سرّه في وجوب الاحتياط أيضا 231

المناقشة فيما أفاده المحدث الاسترآبادي قدس سرّه 234

المسألة خلافية و الأقوى البراءة 235

محل الكلام في المسألة 237

رجحان الاحتياط و ترتب الثواب عليه 238

الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب 239

احتمال الجريان 240

التحقيق في المسألة 241

قاعدة التسامح في أدلة السنن

الاستدلال على القاعدة ب(أخبار من بلغ)245

ما يورد على الاستدلال 246

عدم دلالة ثبوت الأجر على الاستحباب الشرعي 250

دلالة(أخبار من بلغ)على الأمر الإرشادي 250

الثمرة بين الأمر الإرشادي و الاستحباب الشرعي 253

ص: 469

اختصاص أدلة البراءة بالشك في الوجوب التعييني 255

لو شك في الوجوب التخييري و الإباحة 255

هل يجب الائتمام على من عجز عن القراءة و تعلمها؟258

كلام فخر المحققين في أن قراءة الإمام بدل أو مسقط 259

الشك في الوجوب الكفائي 261

المسألة الثانية:الشبهة الوجوبية من جهة إجمال النص 262

المعروف عدم وجوب الاحتياط 262

تصريح المحدثين الاسترآبادي و البحراني بوجوب التوقف و الاحتياط 262

كلام صاحب الحدائق 262

المناقشة فيما ذكره صاحب الحدائق 263

المسألة الثالثة:الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصين 266

المعروف عدم وجوب الاحتياط خلافا للمحدثين الاسترآبادي و البحراني 266

الجواب عن مرفوعة زرارة الآمرة بالاحتياط 267

مما يدلّ على التخيير في المسألة 268

ما ذكره الأصوليون في باب التراجيح 271

المسألة الرابعة:الشبهة الوجوبية من جهة اشتباه الموضوع 272

جريان أدلة البراءة 272

لو ترددت الفائتة بين الأقل و الأكثر 273

المشهور وجوب القضاء حتى يظن الفراغ 274

كلام العلامة قدس سرّه في التذكرة 274

كلام الشيخ قدس سرّه في التهذيب 275

المورد من موارد جريان أصالة البراءة 275

كلام السيد بحر العلوم قدس سرّه في عدم جريان أصالة البراءة في المسألة 277

مناقشة كلام السيد بحر العلوم قدس سرّه 278

توجيه فتوى المشهور 279

ص: 470

ضعف التوجيه المذكور 282

التوجيه الأضعف 286

المطلب الثالث:دوران الأمر بين المحذورين،و فيه مسائل:

المسألة الأولى:الدوران بين المحذورين من جهة فقدان النص 288

هل الحكم في المسألة الإباحة أو التوقف أو التخيير؟289

الحكم بالإباحة ظاهرا و دليله 292

دعوى وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى و الجواب عنها 294

دعوى أن الحكم بالإباحة طرح لحكم اللّه الواقعي و الجواب عنها 295

عدم صحة قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين 296

عدم شمول ما ذكروه في مسألة اختلاف الأمة لما نحن فيه 299

ظاهر كلام الشيخ قدس سرّه في مسألة اختلاف الأمة هو التخيير الواقعي 299

كلام الشيخ قدس سرّه في العدة 301

شمول أدلة الإباحة لما نحن فيه 303

اللازم في المسألة هو التوقف 304

بناء على وجوب الأخذ،هل يتعين الأخذ بالحرمة أو يتخير؟304

أدلة تعيّن الأخذ بالحرمة 304

كلام العلامة في نهاية الوصول 304

المناقشة في الأدلة 305

هل التخيير على القول به ابتدائي أو استمراري؟311

ما استدل به للتخيير الابتدائي 311

المناقشة فيما استدل 312

الأقوى هو التخيير الاستمراري 313

المسألة الثانية:الدوران بين المحذورين من جهة إجمال الدليل 314

المسألة الثالثة:الدوران بين المحذورين من جهة تعارض النصين 315

الحكم هو التخيير و الاستدلال عليه 315

ص: 471

هل التخيير ابتدائي أو استمراري؟وجوه 315

اللازم الاستمرار على ما اختار 316

المسألة الرابعة:الدوران بين المحذورين من جهة اشتباه الموضوع 317

ما مثل به للمسألة 317

المناقشة في الأمثلة 317

دوران الأمر بين ما عدا الوجوب و الحرمة من الأحكام 319

الموضع الثاني:الشك في المكلف به

المطلب الأول:اشتباه الحرام بغير الواجب،و فيه مسائل:

المسألة الأولى:الاشتباه من جهة اشتباه الموضوع 323

المقام الأول:في الشبهة المحصورة

هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات؟324

الحق حرمة المخالفة القطعية و الاستدلال عليه 324

عدم صلاحية أخبار(الحلّ)للمنع عن الحرمة 327

ما هو غاية الحلّ في أخبار(الحلّ)؟328

قبح جعل الحكم الظاهري مع علم المكلف بمخالفته للحكم الواقعي 331

وجوب الاحتياط فيما لا يرتكب إلا تدريجا أيضا 335

توهم وجود المخالفة القطعية للعلم الإجمالي في الشرعيات 338

الجواب عن التوهم المذكور 340

تفصيل صاحب الحدائق في الشبهة المحصورة 344

هل يجب اجتناب جميع المشتبهات؟345

الحق وجوب الاجتناب و الاحتياط 345

الاستدلال عليه 345

توهم جريان أصالة الحلّ في كلا المشتبهين و التخيير بينهما و دفعه 347

الحكم في تعارض الأصلين هو التساقط لا التخيير 348

عدم استفادة الحلّية على البدل من أخبار(الحلّ)351

ص: 472

أدلة القول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام:

ما دلّ على حلّ ما لم يعلم حرمته 352

المناقشة في الدليل المذكور 353

ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة:

موثقة سماعة 357

الجواب عن الموثقة 358

الأخبار الواردة في حلّية ما لم يعلم حرمته:

أخبار الحلّ و الجواب عنها 360

ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة و الجواب عنه 360

أخبار جواز الأخذ من العامل و السارق و السلطان و الجواب عنها 361

قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين عقلا 362

اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين:

الأخبار الدالة على هذه القاعدة 363

ما يستفاد من الأخبار الكثيرة:من كون الاجتناب عن كل واحد من المشتبهين

أمرا مسلما 366

الاستئناس لما ذكرنا برواية وجوب القرعة في قطيع الغنم 368

الرواية أدلّ على مطلب الخصم 369

لا فرق بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة و غيره 371

ظاهر صاحب الحدائق التفصيل بينهما 371

كلام صاحب الحدائق في جواب صاحب المدارك 372

المناقشة فيما أفاده صاحب الحدائق 372

هل يشترط في المحرم الواقعي أن يكون على كل تقدير متعلقا لحكم واحد 373

لو كان المحرم على كل تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر 374

لو تردد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو هذا المائع خمرا 374

الأقوى عدم جواز المخالفة القطعية في جميع ذلك 375

ص: 473

.............. الأقوى وجوب الموافقة القطعية أيضا 376

هل تختص المؤاخذة بصورة الوقوع في الحرام،أم لا؟377

الأقوى الاختصاص و الدليل عليه 377

لا فرق في ذلك بين الاستناد إلى حكم العقل أو حكم الشرع 378

التمسك للحرمة في المسألة بكونه تجريا و المناقشة فيه 381

التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط و المناقشة فيه أيضا 381

وجوب الاجتناب إنما هو مع تنجز التكليف على كل تقدير 382

لو لم يكلف بالتكليف على كل تقدير 382

لو كان التكليف في أحدهما معلقا على تمكن المكلف منه 383

لو كان أحدهما المعين غير مبتلى به 383

اختصاص النواهي بمن يعد مبتليا بالواقعة المنهي عنها و السر في ذلك 385

حلّ الإشكال بما ذكرنا عن كثير من مواقع عدم وجوب الاجتناب في الشبهة

المحصورة 386

اندفاع ما أفاده صاحب المدارك فيما تقدم بما ذكرنا 387

تأييد ما ذكرنا 387

خفاء تشخيص موارد الابتلاء و عدمه غالبا 388

المعيار صحة التكليف و حسنه غير مقيد بصورة الابتلاء 389

لو شكّ في حسن التكليف التنجيزي فالأصل البراءة 389

الأولى الرجوع إلى الإطلاقات 391

هل يجوز التمسك بالمطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق لتعذر ضبط مفهومه،أم لا؟391

الثابت في المشتبهين وجوب الاجتناب دون سائر الآثار الشرعية 395

هل يحكم بتنجس ملاقي أحد المشتبهين؟396

ما استدل به على تنجس الملاقي 397

الأقوى عدم الحكم بالتنجس و عدم تمامية الأدلة المذكورة 398

رواية عمرو بن شمر 399

ص: 474

الاستدلال بالرواية على تنجس الملاقي 400

الجواب عن الرواية 400

أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقي سليمة عن المعارض 401

التحقيق في تعارض الأصلين الرجوع إلى ما وراءهما من الأصول 405

محصل ما ذكرنا 406

الاضطرار إلى بعض المحتملات 408

لو كان المضطر إليه بعضا معينا 408

لو كان المضطر إليه بعضا غير معين 409

لو كانت المشتبهات مما توجد تدريجا 414

عدم الابتلاء دفعة في التدريجيات 416

جواز المخالفة القطعية بناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية 417

العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة قد ينشأ عن اشتباه المكلف به و قد يكون من

جهة اشتباه المكلف 420

القول بعدم توجه الخطابات التكليفية المختصة إليها 422

المناقشة في القول المذكور 423

التسوية بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين هو الحل أو الحرمة 425

المقام الثاني:في الشبهة غير المحصورة

المعروف عدم وجوب الاجتناب و الاستدلال عليه من وجوه:

الأول:الإجماع 429

الثاني:لزوم المشقة في الاجتناب 429

المناقشة في هذا الاستدلال 430

عدم فائدة دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب فيما نحن فيه 430

عدم لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة 433

الثالث:أخبار الحلّ 434

المناقشة في هذا الاستدلال 434

ص: 475

الرابع:بعض الأخبار في خصوص المسألة 437

رواية أبي الجارود 437

الخامس:أصالة البراءة 439

حاصل هذا الوجه 441

السادس:عدم الابتلاء إلا ببعض معين 442

المستفاد من الأدلة المذكورة 442

هل يجوز ارتكاب جميع المشتبهات في غير المحصورة؟444

التحقيق عدم جواز ارتكاب الكل 445

غاية ما ثبت في غير المحصور الاكتفاء بترك بعض المحتملات 446

ضابط المحصور و غير المحصور 449

القول بأن المرجع فيه العرف 449

المناقشة في هذا القول 449

ما ذكره المحقق الثاني قدس سرّه من الضابط 450

كلام المحقق الثاني قدس سرّه في فوائد الشرائع 450

المناقشة فيما أفاده المحقق الثاني قدس سرّه 450

ما ذكره الفاضل الهندي قدس سرّه من الضابط و المناقشة فيه 452

الضابط بنظر المصنف قدس سرّه 453

إذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة 454

إذا كان المردد بين الأمور غير المحصورة أفرادا كثيرة 456

أقسام الشك في الحرام مع العلم بالحرمة 458

اشتباه الحرام بغير الواجب من جهة اشتباه الحكم 458

المحتويات 461

ص: 476

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.