التنقیح
تلخيص: طباطبایي الحکیم، محمد سعید
تتميم: طباطبایي الحکیم، محمد سعید
مؤلفين آخرين
كاتب: انصاری، مرتضی بن محمدامین
عدد المجلدات: 6
لسان: العربية
الناشر: موسسة الحکمة الثقافة الاسلامية - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1431 هجری قمری|2010 میلادی
رمز الكونغرس: BP 159 /الف 9 ف 4026
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
التنقيح تعليقة موسّعة على فرائد الأصول للشّيخ الأنصاريّ قدّس سرّه الجزء الأول تأليف السّيّد محمّد سعيد الطّباطبائي الحكيم(مدّ ظله)
مؤسسة الحكمة الثقافة الإسلامية
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1431 ه-2010 م
ص: 4
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
يسرنا أن نقدم نتاجا علميا آخر لسماحة آية اللّه العظمى السيد محمد سعيد الحكيم(دام ظله الشريف)و هو ما سطره من بحوث علمية و تعليقات و مناقشات معمقة في فترة شبابه قبل أربعة عقود أو أكثر لكتاب فرائد الأصول للشيخ الأعظم الأنصاري(رضوان اللّه عليه)أبّان تدريسه في مرحلة السطوح لهذا السفر القيم المعتمد في الحوزات العلمية حيث كان سماحته(مد ظله)-ملتزما منذ بواكير عمره العلمي-بالدقة و كتابة ما يدرسه و ما يدرّسه لطلابه من دروس و بحوث.
إلا أنها لم يقدّر لها أن تنشر في الفترات السابقة يوم كان نظام الحكم في العراق يحارب الحوزة العلمية و علماءها و يحد من نشر ثقافتها و يقتل أو يسجن أو يشرد رجالاتها و يطال منع الرقابة في وزارة اعلامه كتبا لمؤلفين كبار.
و شاءت العناية الإلهية أن تحفظ هذه الصحف من التلف و المصادرة يوم تعرض سماحته(مد ظله)للاعتقال و تعرض منزله للتفتيش و العبث من قبل السلطة الجائرة آنذاك.
ص: 5
و نظرا لمكانة كتاب الشيخ الأعظم الأنصاري(أعلى اللّه مقامه) و اهتمام الاساتذة و العلماء الأعلام بالبحوث و التعليقات العلمية عليه و كذلك أهمية التنقيح الذي سطره سماحة السيد الحكيم (أطال اللّه بقاءه)و ما يشتمل عليه من مبان و اطروحات علمية حديثة.
يشرفنا في مؤسسة الحكمة للثقافة الاسلامية أن نساهم في إخراج هذا السفر القيّم الذي يمثل نتاجا لأحد أبرز أعلام الحوزة العلمية أثناء تدريسه لطلابه في مرحلة السطوح العالية،لينتفع منه رواد العلم و أهل الفضل و التحصيل في الحوزات العلمية.
كما نود أن نشير الى أننا اعتمدنا عند الطبع و الإخراج على نفس النسخة التي اعتمدها سماحة السيد لممارسته بعد أن كان يقابلها ببعض النسخ.
نسأل اللّه تعالى أن يصون الحوزة العلمية و يسدد مسيرتها المباركة برعاية مولانا الإمام المهدي المنتظر(عجل اللّه تعالى فرجه الشريف)و ان يحفظ مرجعنا المفدى و سائر المراجع و العلماء و يديمهم منارا للعلم و المؤمنين إنه نعم المولى و نعم النصير.
بيروت /25ذو الحجة1430/ ه
/13كانون أول2009/
مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية
ص: 6
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
فاعلم:أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي،فيحصل له[فإما بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
اللهم إني أتوسل إليك بأحب الخلق عليك أن تكون في عوني و ترزقني التوفيق و النجاح و الفلاح و الصلاح برحمتك يا أرحم الراحمين.أنت حسبي و نعم الوكيل.
نعم المولى و نعم النصير.
لعل الأولى عدم أخذ المكلف عنوانا للشاك،لظهوره في عدم ترتب الأحكام إلا بعد المفروغية عنه و إحرازه،مع أنه يكفي فيها احتمال كونه مكلفا، فلو فرض التفات من ليس مكلفا واقعا،كالصبي و شك في كونه مكلفا لجرى في حقه ما يجري في حق من يعلم بكونه مكلفا،كالبالغ لو شك في بعض التكاليف الخاصة،لأن ملاك جريان الأحكام المذكورة و لزوم الفحص عن الأدلة و الأصول و الجري على مقتضياتها هو وجوب دفع الضرر المحتمل،الذي يكفي فيه احتمال
ص: 7
أن يحصل له]إما الشك فيه،أو القطع،أو الظن.
فإن حصل له الشك،فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل،و تسمى ب(الأصول العملية) ،و هي منحصرة في أربعة،لأن الشك:
إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
فالأول:مجرى الاستصحاب.
-كون الإنسان بالغا مرتبة التكليف،نعم وضوح رفع القلم عن غير البالغ أوجب قصور الاحتمال المذكور عن من يعلم بعدم بلوغه.
القواعد المذكورة شرعية كانت أو عقلية ليس موضوعها الشك المقابل للظن،بل مطلق الاحتمال،نعم لا مجال للعمل بها مع قيام الحجة-كما يأتي في محله- و من ثم كان الأولى للمصنف قدّس سرّه تثليث الأقسام بوجه آخر،بان يقول:فإما أن يحصل له القطع أولا،و على الثاني فإما أن يقوم عنده طريق معتبر أولا،فعلى الأول يعمل بالطريق المذكور،و على الثاني يكون المرجع هو القواعد المذكورة.
القواعد المذكورة ليست شرعية فقط،بل بعضها عقلى محض،كالتخيير و الاحتياط عند الشك في المكلف به،و بعضها شرعي و عقلي،كالبراءة و بعضها شرعي محض،كالاستصحاب.و الكلام هنا يعم الجميع و لا يختص ببعضها.
لعل الوجه في تسميتها بالعملية كون الملحوظ فيها مقام العمل،بخلاف الطرق،فإن نظرها إلى الواقع،و هي في مقام بيانه و الحكاية عنه،و إن كان من لوازم حجيتها العمل أيضا.
فيه اشارة إلى أنه لا يكفي في جريان الاستصحاب وجود الحالة السابقة، بل لا بد من ملاحظة الشارع لها في مقام التعبد،و لو كانت و لم يلحظها لم يجر الاستصحاب،كما هو الحال في الشبهة الحكمية قبل الفحص.
ص: 8
و الثاني:إما أن يكون الشك فيه في التكليف أم لا.
فالأول مجرى البراءة.و الثاني:إما أن يمكن فيه الاحتياط أم لا ، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط،و الثاني مجرى التخيير .و ما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة .
المراد عدم إمكان الاحتياط من حيث طبيعة الشك-كما في الدوران بين الوجوب و التحريم-لا الإمكان الفعلي،اذ قد يمتنع الاحتياط بالعجز عنه و إن كان ممكنا ذاتا،كما لو علم بوجوب أحد شيئين لا يقدر المكلف على الجمع بينهما،فإنه لا يجري التخيير حينئذ،بل قد يقال بتبعيض الاحتياط أو بسقوطه كلية.
اللهم إلا أن يقال:مختار المصنف قدّس سرّه في مثله تبعيض الاحتياط،و هو راجع إلى التخيير.فلاحظ.
و عليه يكون مجرى التخيير الشك في المكلف به،مع أنه قدّس سرّه جعله في المباحث الآتية من صور الشك في أصل التكليف،و خص الاحتياط بالشك في المكلف به.
و كأن ما هنا مبني على أن المراد بالشك في التكليف هو الشك بأصل التكليف لعدم العلم حتى بجنسه،أما ما يأتي فمبني على أن المراد به هو الشك بنوعه و لو كان جنسه معلوما،فالفرق بينهما لفظي محض.فلاحظ.
لكن يأتي منه قدّس سرّه إن شاء اللّه تعالى أن الرجوع إلى جملة من هذه الأصول في الشبهة الحكمية-التي هي محل الكلام-مشروط بالفحص،و لا يكفي فيه تحقق موضوعاتها المذكورة.
و لعله قدّس سرّه في مقام الاشارة الإجمالية لمجاري الأصول-كما هو المناسب للمقام- مع إيكال التفاصيل إلى محلها.و لأجله لا ينبغي الاهتمام بمثل هذه الإشكالات فيما ذكره و إطالة الكلام فيها،كما فعله غير واحد.
ص: 9
و قد وقع الخلاف فيها ،و تمام الكلام في كل واحد موكول إلى ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.
فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة:
الأول:في القطع.
و الثاني:في الظن.
و الثالث:في الأصول العملية التي هي المرجع عند الشك.
من الأخباريين حيث ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية مع أنها شك في التكليف،و من المحقق القمي قدّس سرّه حيث ذهب إلى عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة.
ص: 10
المقصد الأوّل في البحث في حجيّة القطع
ص: 11
ص: 12
أما الكلام في المقصد الأول فنقول:لا إشكال في وجوب متابعة القطع و العمل عليه ما دام موجودا،لأنه بنفسه طريق إلى الواقع ، و ليس طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا .
و من هنا يعلم:أن إطلاق(الحجة)عليه ليس كإطلاق(الحجة)على بل هو بنفسه وصول للواقع و منجز الواقع و ثبوت العذر فيه من لوازم وصوله الذاتية التكوينية.و معه لا حاجة إلى الاستدلال على حجيته بلزوم الدور أو التسلسل.بل لعله لا فائدة فيه،لأنه لا طريق إلى بطلانهما إلا العلم،فالاستدلال دوري،فتأمل.
إذ الجعل الشرعي إنما يتناول الأمور الاعتبارية التي ليس لها واقع محفوظ وراء الاعتبار،دون الأمور التكوينية و الذاتيات القائمة بنفسها مع قطع النظر عن الاعتبار.
ص: 13
الأمارات المعتبرة شرعا،لأن الحجة عبارة عن:الوسط الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر،و يصير واسطة للقطع بثبوته له،كالتغير لإثبات حدوث العالم،فقولنا:الظن حجة،أو البينة حجة،أو فتوى المفتي حجة،يراد به كون هذه الأمور أوساطا لإثبات أحكام متعلقاتها،فيقال:هذا مظنون الخمرية،و كل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه.و كذلك قولنا:هذا الفعل مما أفتى المفتي بتحريمه،أو قامت البينة على كونه محرما،و كل ما كان كذلك فهو حرام .
و هذا بخلاف القطع،لأنه إذا قطع بوجوب شيء،فيقال:هذا واجب،و كل واجب محرم ضده أو يجب مقدمته .
و كذلك العلم بالموضوعات،فإذا قطع بخمرية شيء،فيقال:هذا خمر،و كل خمر يجب الاجتناب عنه،و لا يقال:إن هذا معلوم الخمرية، و كل معلوم الخمرية حكمه كذا،لأن أحكام الخمر إنما تثبت للخمر،لا لما علم أنه خمر.
و هو المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى في القياس المنطقي.
و هذا أحد القولين في معنى الحجة عندهم.و عن ظاهر التفتازاني أنها تمام المقدمتين المشتملتين على الأوسط القياسي.
و الكبريات المذكورة مستفادة من الأدلة الشرعية الدالة على اعتبار هذه الأمور،فالأمور المذكورة علة لثبوت الأحكام الظاهرية الناشئة منها و المترتبة عليها، و إن لم تؤخذ في موضوعات الأحكام الواقعية.
فإن حرمة الضد و وجوب المقدمة من لوازم مطلق الواجب،لا خصوص المعلوم منه.
ص: 14
و الحاصل:أن كون القطع حجة غير معقول،لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب ،فلا يطلق على نفس القطع .
هذا كله بالنسبة إلى حكم متعلق القطع و هو الأمر المقطوع به،و أما بالنسبة إلى حكم آخر،فيجوز أن يكون القطع مأخوذا في موضوعه،فيقال:
إن الشيء المعلوم بوصف كونه معلوما حكمه كذا،و حينئذ فالعلم يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم و إن لم يطلق عليه الحجة،إذ المراد ب(الحجة)في باب الأدلة:ما كان وسطا لثبوت أحكام متعلقه شرعا،لا لحكم آخر، كما هو مقتضى تعريفها بأنها المعلوم التصديقي الموصل إلى مجهول تصديقي.فتأمل.
ظاهر كلامه السابق و اللاحق إن كلامه في القطع بموضوع الحكم، أعني:القطع بالصغرى كالخمر،و من الظاهر أنه يوجب القطع بالمطلوب-و هو النتيجة-لا نفس القطع بالمطلوب،فلا يتم ما ذكره قدّس سرّه هنا في وجه عدم صدق الحجة عليه.
و العمدة ما ذكره أولا من أن الحجة ليست مطلق ما يوجب القطع بالمطلوب، بل خصوص الأوسط القياسي،و القطع بموضوع الحكم ليس وسطا قياسيا،لما فرض من عدم أخذه في الكبريات.
نعم ما ذكره قدّس سرّه من التعليل هنا إنما يتم في القطع بالكبرى المتضمنة للحكم الشرعي الكلي،و لا يبعد كونه هو محل كلامهم في المقام.لأنه هو الذي يهم الأصولي، و ليس القطع بالصغرى إلا مقدمة للقطع بالحكم الفرعي الجزئي،و هو ليس محل الكلام للأصوليين.فلاحظ.
مما سبق تعرف أن المراد بالوسط هنا ليس الوسط القياسي،لأن الوسط القياسي يثبت أحكام نفسه لا أحكام متعلقه،فلا بد أن يراد بالوسط هنا الواسطة-
ص: 15
كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا،لا على نفس الخمر،و كترتب وجوب الإطاعة عقلا على معلوم الوجوب،لا الواجب الواقعي.
و بالجملة:فالقطع قد يكون طريقا للحكم،و قد يكون مأخوذا في موضوع الحكم.
ثم ما كان منه طريقا لا يفرق فيه بين خصوصياته،من حيث القاطع و المقطوع به و أسباب القطع و أزمانه،إذ المفروض كونه طريقا إلى متعلقه، فيترتب عليه أحكام متعلقه،و لا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به،لأنه مستلزم للتناقض.
فإذا قطع كون مائع بولا-من أي سبب كان-فلا يجوز للشارع أن يحكم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه،لأن المفروض أنه بمجرد القطع يحصل له صغرى و كبرى،أعني قوله:«هذا بول،و كل بول يجب الاجتناب عنه،فهذا يجب الاجتناب عنه»فحكم الشارع بأنه لا يجب الاجتناب عنه مناقض له ،إلا إذا فرض عدم كون النجاسة و وجوب -و العلة.
كما أن المراد بالثبوت هنا ما يساوق الإثبات لا ما يقابله.و قد عرفت أنه إنما يصح ذلك في الأدلة بالإضافة إلى الأحكام الواقعية لا الظاهرية.فلاحظ.
تمثيل لما كان مثبتا لحكم آخر غير حكم متعلقه،و هو الذي ذكر أنه لا يكون دليلا.
يعني باعتقاد القاطع،و إن لم يلزم التناقض في الواقع لو فرض خطأ القطع.إلا أن هذا الفرض مما لا يلتفت إليه القاطع حين قطعه،لاعتقاده بصحة-
ص: 16
الاجتناب من أحكام نفس البول،بل من أحكام ما علم بوليته على وجه خاص من حيث السبب أو الشخص أو غيرهما،فيكون العلم مأخوذا في الموضوع،و حكمه أنه يتبع في اعتباره-مطلقا أو على وجه خاص- دليل ذلك الحكم الثابت الذي أخذ العلم في موضوعه.
فقد يدل على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به مطلقا،بمعنى انكشافه للمكلف من غير خصوصية للانكشاف،كما في حكم العقل -قطعه،فلا يتسنى له تصحيح ترخيص الشارع و رفع التناقض عنه.
هذا و لكن النهي عن العمل بالقطع لا يرجع إلى الترخيص في متعلقه على خلاف حكمه الواقعي،بل مجرد عدم حجيته بنحو يصح الاحتجاج به للعبد و عليه، و ذلك لا يناقض الحكم الواقعي بوجه،كما لم يكن الحكم بعدم حجية الظن راجعا إلى الترخيص في متعلقه حتى يستلزم الظن بالتناقض،الذي هو ممتنع كالعلم به.
نعم الأصول الترخيصية-لو فرض جريانها-تقتضي الترخيص.
إلا أن ذلك مشترك بين العلم و الظن.و من ثم أشكل الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي،و ما يصلح من الوجوه لدفع الإشكال المذكور و إن كان لا يجري مع القطع إلا أنه إنما لا يجري فيه لكون حجيته ذاتية بديهية،و معه لا حاجة إلى الاستدلال على حجيته بلزوم التناقض أو غيره.
على أن غاية ذلك عدم جريان الأصول الترخيصية،لا امتناع ردع الشارع عن حجية القطع.
مع أن بطلان التناقض لا طريق له إلا القطع،فالاستدلال به موقوف على حجيته،فكيف يكون دليلا عليها؟!نظير ما سبق في الاستدلال بالدور و التسلسل.
فلاحظ.
يعني:حكم القطع الموضوعي من حيث الإطلاق و التقييد.
ص: 17
بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوبا لمولاه،و قبح ما يقطع بكونه مبغوضا،فإن مدخلية القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسنا أو قبيحا عند العقل لا يختص ببعض أفراده .و كما في حكم الشارع بحرمة ما علم أنه خمر أو نجاسته بقول مطلق،بناء على أن الحرمة و النجاسة الواقعيتين إنما تعرضان موردهما بشرط العلم-لا في نفس الأمر- كما هو قول بعض.
و قد يدل دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاص أو شخص خاص،مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين:
من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير الحاصل من الكتاب و السنة،كما سيجيء ،و ما ذهب إليه بعض:من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى .
و أمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم غير القاطع كثيرة،كحكم الشارع لأن ملاك الحسن و القبح المذكورين هو حسن الانقياد للمولى و قبح التمرد عليه،و يصدق الانقياد و التمرد مع العلم بمراد المولى و بما يبغضه من دون خصوصية لأفراد العلم في ذلك.
في التنبيه الثاني.لكن يأتي أنه من القطع الطريقي لا الموضوعي.و لذا كان ممتنعا عقلا.
فإن ولاية القاضي على تنفيذ حقه تعالى تابعة للجعل الشرعي،فلا مانع من اعتبار قيام الطريق في موضوعها،كما لا مانع من تخصيصه بطريق خاص.
لأن حجية القطع على غير القاطع ليست ذاتية،بل تحتاج إلى جعل شرعي كسائر الطرق و الأمارات،فيكون القطع المذكور مأخوذا في موضوع الحكم-
ص: 18
على المقلد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعي إذا علم به من الطرق الاجتهادية المعهودة،لا من مثل الرمل و الجفر،فإن القطع الحاصل من هذه و إن وجب على القاطع الأخذ به في عمل نفسه ،إلا أنه لا يجوز للغير تقليده في ذلك،و كذلك العلم الحاصل للمجتهد الفاسق أو غير الإمامي من الطرق الاجتهادية المتعارفة،فإنه لا يجوز للغير العمل بها،و كحكم الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحس لا من الحدس،إلى غير ذلك.
ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى الواقع:قيام الأمارات الشرعية و بعض الأصول العملية مقامه في العمل ،بخلاف المأخوذ في -الظاهري للغير،فيقبل التخصيص.
لأنه بالإضافة إلى عمل نفسه طريقي محض،فحجيته ذاتية لا تقبل الردع،كما سبق.
لأن ملاك العمل بالقطع منجزيته و معذريته بسبب الانكشاف الحاصل به،و أدلة اعتبار الأمارات و الأصول تقتضي المعذرية و المنجزية في مواردها بلا إشكال،إما لسوقها لذلك ابتداء،أو لسوقها لجعل الحجية الملزومة للمعذرية و المنجزية عقلا،أو لسوقها للتعبد بمضمونها المستلزم لهما أيضا،أو لأن مفادها جعلها علما تعبدا،فيترتبان عليها كما يترتبان على العلم،أو لأن مفادها تنزيلها منزلة العلم،أو تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع،فيكون قيامها موجبا للعلم بالواقع التنزيلي، فيتنجز أو يكون موردا للمعذرية كالواقع الحقيقي المعلوم،أو لغير ذلك مما يذكر في المطولات.
و لعل الأقرب الثاني في مفاد أدلة الأمارات و الثالث في مفاد أدلة الأصول الشرعية،و الأول في بعض الأصول العقلية و تمام الكلام في المطولات.
ص: 19
الحكم على وجه الموضوعية،فإنه تابع لدليل الحكم.
فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع [كالأمثلة المتقدمة.خ]قامت الأمارات و بعض الأصول مقامه .
-ثم إن بعض الأصول العقلية لا تتعرض للمعذرية و المنجزية،بل لمقام الامتثال لا غير بعد الفراغ عن مقام التنجز،كما في الاحتياط و التخيير،و من الظاهر عدم قيامها مقام القطع حينئذ،و إن وجب العمل بها،إلا أنه بملاك آخر غير ملاك العمل بالقطع.
و هي الأصول الإحرازية كالاستصحاب.أما مثل أصل البراءة فلا وجه لقيامه مقام القطع الموضوعي،إذ ليس فيه شائبة الكشف،و ليس مفاد دليله جعل الحجية،كما فصل في محله.
لكن من الظاهر أن الأمارات ليست تامة الطريقية،لاحتمال خطئها،فلا وجه لقيامها مقام القطع التام الطريقية.و لذا لا إشكال في عدم قيام الأمارات غير المعتبرة مقامه.
نعم قد يدعى أن ذلك يكون بتوسط دليل اعتبارها.
إما بدعوى:أنه مفاد تتميم طريقيتها و كشفها تعبدا،فيلحقها حكم القطع التام الطريقية.
أو بدعوى:إنه مفاد تنزيلها منزلة القطع في الأحكام.
لكن الدعوى الأولى غير تامة،لأن الكشف من الأمور الحقيقية غير القابلة للتعبد و الاعتبار.
و الثانية-لو تمت-لا تنفع لأن التنزيل إنما يصح بلحاظ الأثر العملى،و حينئذ فالتنزيل منزلة العلم إن كان بلحاظ أثره لم تترتب آثار القطع الطريقي،لعدم الأثر الشرعي له،بل للمقطوع.
و إن كان بلحاظ أثر المقطوع لم تترتب آثار القطع الموضوعي،لاختصاص-
ص: 20
و إن ظهر من دليل الحكم اعتبار القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره،كما إذا فرضنا أن الشارع اعتبر صفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائية و الثلاثية، -الأثر به دون المقطوع،و الجمع بينهما بعيد عن المرتكزات العرفية،بل لعله ممتنع،لأن الأول يستلزم لحاظ العلم بنفسه أصالة،لكونه موضوع الأثر،و الثاني يستلزم لحاظه آلة بما هو طريق للمعلوم الذي هو موضوع الأثر،فالجمع بينهما يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافرين،و حيث إنه لا إشكال في قيامها مقام القطع الطريقي فلا بد من عدم قيامها مقام الموضوعي.
هذا و قد يستفاد من دليل أخذ القطع في موضوع الحكم أنه قد اعتبر بما هو حجة يصح الاعتماد عليه في البناء على وجود متعلقه،و حينئذ لا يبعد كفاية ما دل على حجية الأمارات في ترتيب أحكام القطع عليها.
فإن قلت:ما سبق في تنزيل الأمارات منزلة العلم آت هنا،إذ التعبد بالحجية إنما يصح بلحاظ الأثر،و حينئذ فالأثر الملحوظ إما إن يكون هو أثر نفس الحجة، فلا تترتب آثار القطع الطريقي،أو أثر موضوعها و متعلقها فلا تترتب آثار القطع الموضوعي،و لا يمكن الجمع بينهما،لما سبق.
قلت:الحجية لا تتقوم بالأثر،حتى تستلزم ملاحظته بل هي معنى عقلائي اعتباري قائم بنفسه،و قوامها كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في البناء على ثبوت مؤداه و تحققه.
و الظاهر أنه المراد من السلطان الذي تكرر كثيرا في الكتاب المجيد كقوله تعالى: «مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ». و لا يبعد كون المراد بها هذا المعنى عند الأصوليين و الباحثين عن الأدلة.
نعم لا بد في جعله من أثر مصحح له،و إلا كان لاغيا.لكن لا يلزم لحاظه عند الجعل،بل يكفي توقع ترتب الأثر،بخلاف مقام التنزيل،فإنه متقوم بالأثر فلا بد من ملاحظته حينه و ملاحظة نحو انتسابه لطرفي التنزيل.فتأمل جيدا.
ص: 21
و الأوليين من الرباعية،فإن غيره-كالظن بأحد الطرفين،أو أصالة عدم الزائد-لا يقوم مقامه إلا بدليل خاص خارجي غير أدلة حجية مطلق الظن في الصلاة و أصالة عدم الأكثر.
و من هذا الباب:عدم جواز أداء الشهادة استنادا إلى البينة أو اليد -على قول- و إن جاز تعويل الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا،لأن العلم بالمشهود به في مقام العمل على وجه الطريقية،بخلاف مقام أداء الشهادة.إلا أن يثبت من الخارج:أن كل ما يجوز العمل به من الطرق الشرعية يجوز الاستناد إليه في الشهادة،كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد .
و يكون ذلك الدليل موجبا للخروج عن ظهور الدليل الأول في كون الموضوع هو القطع بما هو صفة،إما لكونه أقوى منه ظهورا،أو لكونه مفسرا له حاكما عليه.
كأنه لدعوى ظهور بعض النصوص في كون العلم مأخوذا في موضوع جواز الشهادة بما هو صفة خاصة،مثل ما رواه المحقق قدّس سرّه في الشرائع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سئل عن الشهادة:«هل ترى الشمس؟على مثلها فاشهد أودع» و في خبر علي بن غياث:«لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك».و لعله المناسب للمرتكزات العرفية.و تمام الكلام في محله.
و هي رواية حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«قال له رجل:إذا رأيت شيئا في يد رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟قال عليه السّلام:نعم.
قال الرجل:أشهد أنه في يده و لا أشهد له فلعله لغيره.
فقال عليه السّلام:أ فيحل الشراء منه؟قال:نعم.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:فلعله لغيره.من أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا-
ص: 22
و مما ذكرنا يظهر:أنه لو نذر أحد أن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا بحياة ولده،فإنه لا يجب التصدق عند الشك في الحياة لأجل استصحاب الحياة ،بخلاف ما لو علق النذر بنفس الحياة،فإنه يكفي في الوجوب الاستصحاب.
ثم إن هذا الذي ذكرنا-من كون القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقية و أخرى على وجه الموضوعية-جار في الظن أيضا،فإنه و إن فارق العلم في كيفية الطريقية-حيث إنّ العلم طريق بنفسه،و الظن المعتبر طريق بجعل الشارع،بمعنى كونه وسطا في ترتب أحكام متعلقه،كما أشرنا إليه سابقا-إلا أنه أيضا:قد يؤخذ طريقا مجعولا إلى متعلقه، سواء كان موضوعا على وجه الطريقية لحكم متعلقه أو لحكم -لك ثم تقول بعد الملك:هو لي،و تحلف عليه،و لا يجوز لك أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك.
ثم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».
لظهور أخذ اليقين في النذر بما هو صفة خاصة.
الظاهر أن المراد بأخذه طريقا للحاظه بما هو طريق و حجة لا بما هو صفة خاصة،فيشمل حينئذ الطريقي المحض الذي وظيفته الكشف عن الحكم الواقعي لمتعلقه،و إن كان موضوعا لحكمه الظاهري-كما سبق-كما يشمل القسم الأول من الموضوعي الذي هو مأخوذ في الحكم الواقعي لحكم آخر غير حكم متعلقه لكن بما هو طريق لا بما هو صفة خاصة.
يعني:مأخوذا في موضوع الكبرى الشرعية الظاهرية،حيث تقدم أن الظنون المعتبرة-كالبينة-مأخوذة في موضوع الحكم الظاهري،و هي طريق الحكم-
ص: 23
آخر يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية ،فيقال:إنه حجة .و قد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقية لحكم متعلقه أو لحكم آخر،و لا يطلق عليه الحجة فلا بد من ملاحظة دليل ذلك ثم الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه،لكن الغالب فيه الأول.
-إلى الواقع الثابت لمتعلقاتها،كالخمر و الميتة.و هذا هو الظن الطريقي.
هذا إشارة إلى الظن الموضوعي الملحوظ بما هو طريق و حجة،حيث عرفت أنه لا يكون طريقا لحكم متعلقه،بل يكون مأخوذا في موضوع حكم آخر، على النحو الذي تقدم في القطع.
لما عرفت من قيامها مقام القطع الطريقي و الموضوعي المأخوذ بما هو طريق لا بما هو صفة،فكذلك تقوم مقام الظن في القسمين المذكورين.
لكن لما كانت الطرق المذكورة كالظن في الافتقار إلى الجعل فلا وجه لفرض كونها قائمة مقامه،و ليس هو بأولى من العكس.
فالأولى أن يقال:إنها جميعا قائمة مقام العلم الذي تكون حجيته ذاتية،و هو مستغن عن الجعل.
أما بناء على تفسير الحجة بالوسط القياسي فواضح.و أما بناء على تفسيرهما بما كان طريقا لثبوت أحكام متعلقه فلا يتم إلا في القسم الأول.
نعم بناء على ما ذكرنا قريبا في معنى الحجة من أنها عبارة عما يصح الاعتماد عليه في البناء على ثبوت متعلقه-و ذكرنا أنه بهذا المعنى تقوم مقامه الطرق-ففرض كون الظن مأخوذا بما هو طريق لا بما هو صفة خاصة ملازم لحجيته بالمعنى المذكور.
يعنى بل بما هو صفة خاصة لم يلحظ فيها الحجية و الطريقية.
يعني:باصطلاح أهل الأدلة لا بالمعنى الذي ذكره و لا بالمعنى الذي ذكرناه،كما يظهر بأدنى تأمل.
ص: 24
أنه قد عرفت أن القاطع لا يحتاج في العمل بقطعه إلى أزيد من الأدلة المثبتة لأحكام مقطوعه،فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها،فيقطع بالنتيجة،فإذا قطع بكون شيء خمرا،و قام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة،فيقطع بحرمة ذلك الشيء.
لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع و إن بمعنى:صحة احتجاج الشارع عليه به،لا كونه مجعولا من قبله،لما عرفت من امتناع جعله حجة في مقام العمل مطلقا حتى في حال الخطأ.
ثم إن الكلام لا يختص بالشارع،بل يجري في سائر الموالي.كما أنه لا يختص بالقطع،بل يجري في الحجج الشرعية أيضا.
و من ثم كان الأولى له قدّس سرّه أن يحرر النزاع بوجه آخر،فيقول:إن اعتبار قيام الحجة في صحة العقاب هل يرجع إلى كونه تمام الموضوع له،فيحسن معه،و لو لم يصادف الواقع،أو إلى كونه جزء الموضوع له،فلا بد من فرض المخالفة الواقعية مع مخالفة الحجة في حسنه؟
ص: 25
كان مخالفا للواقع في علم اللّه،فيعاقب على مخالفته،أو أنه حجة عليه إذا صادف الواقع؟بمعنى:أنه لو شرب الخمر الواقعي عالما عوقب عليه في مقابل من شربها جاهلا،لا أنه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا و إن لم يكن خمرا في الواقع.
ظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتفاق على الأول،كما يظهر من دعوى جماعة الإجماع على أن ظان ضيق الوقت إذا أخر الصلاة عصى و إن انكشف بقاء الوقت،فإن تعبيرهم بظن الضيق لبيان أدنى مراتب فردي الرجحان ،فيشمل القطع بالضيق.
نعم،حكي عن النهاية،و شيخنا البهائي،التوقف في العصيان،بل في التذكرة:«لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر إن استمر الظن ،و إن انكشف خلافه فالوجه عدم العصيان»،انتهى.و استقرب العدم سيد مشايخنا في المفاتيح.
و كذا لا خلاف بينهم ظاهرا في أن سلوك الطريق المظنون الخطر، أو مقطوعه،معصية يجب إتمام الصلاة فيه،و لو بعد انكشاف عدم الضرر فيه.فتأمل .
لوجوب متابعة الظن في المقام كالقطع،لا لخصوصية فيه.
يعني:عصى ظاهرا،إذ من المحتمل خطأ الظن،فلا معصية بناء على إناطتها بالواقع.
لعله إشارة إلى أن اتفاقهم على وجوب الإتمام لا يدل على ما نحن فيه، لاحتمال كون منشئه أن الظن بالمخالفة و المعصية مأخوذ في موضوع وجوب الإتمام و لو لم تتحقق المعصية واقعا.
ص: 26
و يؤيده:بناء العقلاء على الاستحقاق.و حكم العقل بقبح التجري.
و قد يقرر دلالة العقل على ذلك :بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معين خمرا،و قطع الآخر بكون مائع معين آخر خمرا،فشرباهما،فاتفق مصادفة أحدهما للواقع و مخالفة الآخر:
فإما أن يستحقا العقاب،أو لا يستحقه أحدهما،أو يستحقه من صادف قطعه الواقع دون الآخر،أو العكس.
لا سبيل إلى الثاني و الرابع،و الثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ،و هو مناف لما يقتضيه العدل، فتعين الأول.
و يمكن الخدشة في الكل.
-أو أن الظن بالضرر مأخوذ موضوعا في حرمة الاقدام على الضرر المظنون واقعا،فالاقدام على الضرر المظنون حرام واقعا لا ظاهرا،فانكشاف الخطأ لا يقتضي عدم حرمة الاقدام.و إن كان الثاني خلاف ظاهر الأدلة،و الأول محتاج إلى التأمل و النظر فيها.
قيل:إن المقرر هو الفاضل السبزواري قدّس سرّه.
و هو إصابة الواقع و عدمها.لكن تعليل ذلك بمنافاته للعدل في غير محلها،لأن المنافي للعدل نفس العقاب لأجل أمر غير اختياري،أما استحقاقه فهو تابع لحكم العقل الذي لا معنى لمنافاته للعدل.
ص: 27
أما الإجماع فالمحصل منه غير حاصل،و المسألة عقلية ، خصوصا مع مخالفة غير واحد،كما عرفت من النهاية و ستعرف من قواعد الشهيد قدّس سرّه،و المنقول منه ليس حجة في المقام .
و أما بناء العقلاء فلو سلم فإنما هو على مذمة الشخص من حيث إن هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه،لا على نفس فعله،كمن انكشف لهم من حاله أنه بحيث لو قدر على قتل سيده لقتله، فإن المذمة على المنكشف ،لا الكاشف .
يعني:بنحو يكشف عن رأى المعصوم عليه السّلام المعلوم عدم خطئه حتى في الأمور العقلية.
فيحتمل بل يعلم استنادهم فيها إلى حكم العقل،بل هو بنظرهم،لا إلى رأى المعصوم عليه السّلام المأمون عليه الخطأ.هذا بناء على أن الكلام في استحقاق العقاب بسبب التجري لا في حرمة الفعل المتجرى به شرعا،و إلا كانت المسألة شرعية.
و سيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.فلاحظ.
و كذا من التذكرة حيث جزم بالعدم،كما تقدم.
يعني:بلحاظ كون المسألة عقلية،بل التحقيق عدم حجيته حتى في المسائل الشرعية كما يأتي في محله.
المفروض في الاستدلال دعوى بناء العقلاء على الاستحقاق،لا مجرد الذم،فحمله على مجرد الذم ينافي التسليم بالدعوى المذكورة،و هو راجع إلى إنكارها.
و هو صفة الشقاء المبنية على التمرد.
و لو كان الذم على الكاشف لكان نافعا فيما نحن فيه،حيث يقتضي قبح نفس الفعل الصادر باعتقاد التحريم فيدل على كونه جريمة و ذنبا يستحق من أجله-
ص: 28
و من هنا يظهر الجواب عن قبح التجري ،فإنه لكشف ما تجرى به عن خبث الفاعل،لا عن كون الفعل مبغوضا للمولى.
و الحاصل:أن الكلام في كون هذا الفعل الغير المنهي عنه واقعا مبغوضا للمولى من حيث تعلق اعتقاد المكلف بكونه مبغوضا، لا في أن هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ظاهرا ينبئ عن سوء سريرة العبد مع سيده و كونه في مقام الطغيان و المعصية،فإن هذا غير منكر في المقام كما سيجيء،لكن لا يجدي في كون الفعل محرما شرعيا ،لأن استحقاق المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل،و من المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلق بالفعل،لا بالفاعل .
-العقاب.
يعني:عن دعوى حكم العقل بقبح التجري التي تقدم الاستدلال بها في المقام.
عرفت أن الكلام في المقام يحتمل أن يكون في حرمة الفعل المتجرى به و كونه مبغوضا للمولى،كما يحتمل أن يكون في استحقاق العقاب عليه و إن لم يكن مبغوضا،و لا محرما،و أنه سيأتي الكلام في الأمرين معا.
و هو كون الفعل كاشفا عن سوء سريرة العبد.
كما لا يجدي في إثبات استحقاق العقاب عليه لو لم يكن محرما شرعيا.
و الحاصل:أن استحقاق العقاب و التحريم الشرعي تابعان لقبح الفعل و هو غير ثابت،و مجرد الذم لا يقتضيه لإمكان ابتنائه على قبح الفاعل المنكشف بالفعل،و هو غير كاف في استحقاق العقاب و لا في تحريم الفعل،كما لعله ظاهر.
ص: 29
و أما ما ذكر من الدليل العقلي،فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع،لأنه عصى اختيارا،دون من لم يصادف.
و قولك:إن التفاوت بالاستحقاق و العدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار،ممنوع،فإن العقاب بما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيح،إلا أن عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم،كما يشهد به الأخبار الواردة في أن:من سن سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها،و من سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها.
فإذا فرضنا أن شخصين سنا سنة حسنة أو سيئة،و اتفق كثرة العامل بإحداهما و قلة العامل بما سنة الآخر،فإن مقتضى الروايات كون ثواب الأول أو عقابه أعظم ،و قد اشتهر:«أن للمصيب أجرين و للمخطئ قد يظهر منه أن الكلام في العقاب و عدمه،لا في استحقاقه و عدمه.لكنه ليس محل الكلام،و الكلام إنما هو في الاستحقاق،و إن كان تعليله في الاستدلال السابق بمنافاة العدل إنما يناسب إرادة نفس العقاب.
فالأولى أن يقال في الجواب:إنه بناء على عدم استحقاق المتجري للعقاب يكون استحقاق العقاب منوطا بالمخالفة الواقعية التي هى اختيارية للمصيب، و عدم الاستحقاق مع الخطأ لعدم الموضوع،و لا مانع عند العقلاء من كونه غير اختياري،فعدم الموضوع يوجب عدم العقاب و إن لم يستند إلى الاختيار،نظير من لا يتحقق منه العصيان لحبس و نحوه مما يوجب سلب قدرته على المعصية و إن كان بحيث لو قدر لعصى.فلاحظ.
مع أن لازمه رفع العقاب عن الثاني بسبب أمر غير اختياري،و هو عدم العمل بسنته السيئة،و كذا يلزمه زيادة ثواب الأول بسبب أمر غير اختياري،و هو العمل بسنته الحسنة.فتأمل.
ص: 30
أجرا واحدا ».و الأخبار في أمثال ذلك في طرف الثواب و العقاب بحد التواتر .
فالظاهر:أن العقل إنما يحكم بتساويهما في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل و خبث سريرته مع المولى ،لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية .
و ربما يؤيد ذلك:أنا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة الذم بين من صادف قطعه الواقع و بين من لم يصادف.
إلا أن يقال:إن ذلك إنما هو في المبغوضات العقلائية،من حيث أن زيادة الذم من المولى و تأكده من العقلاء،بالنسبة إلى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفي،المستحيل في حق الحكيم تعالى،فتأمل .
فإنه يدل على زيادة ثواب المصيب بسبب أمر غير اختياري،و هو كرفع العقاب بسبب أمر غير اختياري.
لكنها واردة في فعلية الثواب و العقاب،لا في استحقاقهما الذي هو محل الكلام.
يعني:تساوي المصيب و المخطئ في المثال السابق في الاستدلال السابق المنسوب للسبزواري.
الذي عرفت أنه ليس مدار العقاب.
كي يدل على قبح نفس الفعل ليستحق عليه العقاب.
لعله إشارة إلى منع زيادة الذم للمصيب عند العقلاء،إذ الذم تابع للقصد الجرمي الذي يشترك بين المصيب و المخطئ،و قبح فعل المصيب واقعا لا دخل له فيه.-
ص: 31
-و قد ظهر من جميع ما سبق عدم وفاء شيء من الوجوه السابقة في إثبات تحريم التجري و كونه منشأ لاستحقاق العقاب.و من ثم كان ظاهر المصنف قدّس سرّه البناء على عدمهما.
و الذي ينبغي أن يقال:
إن كان المدعى مبغوضية الفعل للمولى بعنوان كونه صادرا بقصد التجري، بحيث يكون محرما ثانويا واقعيا،كالغصب فذلك أمر شرعي تعبدي لا بد في إثباته من أدلة شرعية أو عقلية كاشفة عن الحكم الشرعي،و ليس في الأدلة ما ينهض بذلك.
إذ الإجماع ليس بنحو يكشف عن رأى المعصوم،خصوصا مع قرب احتمال أن يكون مرادهم مجرد استحقاق العقاب على الفعل،الذي هو أعم من الحرمة كما سيأتى،فتكون المسألة عقلية لا شرعية.
و مثله جميع الأدلة الشرعية التي قد تدل على العقاب،فإنها غير ظاهرة في الحرمة الواقعية،بل قد تظهر في اختصاص الحرمة بموضوعاتها الواقعية.
و كذا حكم العقل و العقلاء بالذم و القبح و استحقاق العقاب،إذ هي-لو سلّمت-أعم من المدعى.
و إن كان المدعى استحقاق العقاب بالتجري من دون أن يقتضى حرمة الفعل فالمسألة عقلية لا مجال للأدلة الشرعية فيها،إلا بأن تكشف عن الحكم العقلي لو فرض حصول الشبهة فيه.
و الظاهر أن الدليل عليها منحصر ببناء العقلاء على الاستحقاق-الذي سبق من المصنف قدّس سرّه الإشارة إليه-و إنكاره مكابرة.
لكن ليس بنحو يقتضي مبغوضية الفعل للمولى،و لا الذم على نفس الفعل، حتى يسهل إنكار ذلك،بل بنحو يرجع إلى أن موضوع استحقاق العقاب ليس-
ص: 32
هذا،و قد يظهر من بعض المعاصرين :التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعا،فرجح استحقاق العقاب بفعله،إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ،فإنه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو في بعض الموارد ،نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية،فإن قبح التجري عندنا ليس ذاتيا،بل يختلف بالوجوه و الاعتبار.
فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل،فحسب أنه ذلك الكافر و تجرى فلم يقتله،فإنه لا يستحق الذم على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع،و إن كان معذورا لو فعل.
-هو المخالفة الواقعية بشرط قيام الحجة،بل مخالفة الحجة عملا لما يستلزم ذلك من التمرد و مجاهرة المولى و هتك حرمته عملا الذي يحصل مع خطأ الحجة كما يحصل مع إصابتها.و به يفترق عن ظهور خبث النفس من غير طريق التجري،فإنه لا يستلزم شيئا من ذلك.
و دعوى:أنه لا بد في الاستحقاق من مبغوضية الفعل و قبحه(مصادرة)بل لما كان الاستحقاق بحكم العقل فهو لا يفرق بين الأمرين.و الرجوع إلى المرتكزات العقلائية كاف في استيضاح الحكم المذكور.
و لعل في الأدلة النقلية ما يشهد بذلك بعد التأمل فيها.فلاحظ.
و هو صاحب الفصول.
إذ لو كان مشروطا بقصد القربة كان الاعتقاد بحرمته مانعا من التقرب به فيبطل،و لا يكون حسنا واقعا،حتى يمكن فيه دعوى مزاحمة حسنه لقبح التجري.
لعله إشارة إلى ما يأتي منه من احتمال ملاحظة الأهمية في الواجب الواقعي أو في التجري.
ص: 33
و أظهر من ذلك:ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي،فتجرى فلم يقتله.
أ لا ترى:أن المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدو له،فصادف العبد ابنه و زعمه ذلك العدو فتجرى و لم يقتله،أن المولى إذا اطلع على حاله لا يذمه على هذا التجري،بل يرضى به و إن كان معذورا لو فعل.
و كذا لو نصب له طريقا غير القطع إلى معرفة عدوه،فأدى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرى و لم يفعل.
و هذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجري لا يجديه إن لم يصادف الواقع،و لذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب،لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب،بخلاف ما لو ترك العمل به،فإن المظنون فيه عدمها .
و من هنا يظهر:أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية و هو احتمال خطأ الطريق المنصوب.
إنما تكون السلامة مظنونا بعدمها إذا احتمل كون مخالفة الطريق موجبة لحصول واجب،ليزاحم قبح التجري،أما لو علم بعدم حصول واجب في ذلك و غاية ما يحتمل هو حصول المباح فيقطع بعدم السلامة عن العقاب،للعلم بعدم مزاحمة قبح التجري بشيء.
هذا بناء على أن الاقدام على مخالفة الطريق اعتمادا على احتمال خطئه من أقسام التجري،أما بناء على عدم كونه من أقسام التجري و أن استحقاق العقاب معه مختص بما إذا تحققت المعصية الواقعية فلا قطع باستحقاق العقاب،بل يكون مظنونا للظن بعدم خطأ الطريق.فلاحظ.
ص: 34
أشد منه في مباحاتها،و هو فيها أشد منه في مندوباتها،و يختلف باختلافها ضعفا و شدة كالمكروهات،و يمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهاته و جهات التجري.انتهى كلامه،رفع مقامه.
أقول:يرد عليه:
أولا:منع ما ذكره من عدم كون قبح التجري ذاتيا،لأن التجري على المولى قبيح ذاتا سواء كان لنفس الفعل،أو لكشفه عن كونه جريئا -كالظلم-بل هو قسم من الظلم ،فيمتنع عروض الصفة المحسنة له،و في مقابله الانقياد للّه سبحانه و تعالى،فإنه يمتنع أن يعرض له جهة مقبحة.
و ثانيا:لو سلم أنه لا امتناع في أن يعرض له جهة محسنة،لكنه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة،و ليس مما لا يعرض له في نفسه لأن من حقوق المولى الأعظم على عبده خضوعه له و انقياده لتكاليفه، و التجري،ينافي الحق المذكور،فيكون ظلما.
لكن الالتزام بذلك مستلزم للالتزام باستحقاق العقاب،فلا يحسن من المصنف قدّس سرّه الذي تقدم منه إنكار ذلك،إلا أن يكون هذا منه قدّس سرّه مبنيا على متابعة الفصول في تسليم قبح التجري و إلزامه بمقتضى مذهبه.
يعني:الذاتي،خلافا لما سبق من الفصول من عدم كون قبحه ذاتيا.لكن الظاهر أن مراده بعدم كونه ذاتيا أنه ليس من لوازم الذات التي لا تنفك عنها بسبب وجود المزاحم.
لا أنه لا اقتضاء للذات له لو خليت و نفسها،و لذا التزم باستحقاق العقاب بالتجري إذا لم يصادف واجبا.
ص: 35
حسن و لا قبح إلا بعد ملاحظة ما يتحقق في ضمنه.
و بعبارة أخرى:لو سلمنا عدم كونه علة تامة للقبح كالظلم،فلا شك في كونه مقتضيا له كالكذب،و ليس من قبيل الأفعال التي لا يدرك العقل بملاحظتها في أنفسها حسنها و لا قبحها،و حينئذ فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه،كالكذب المتضمن لإنجاء نبي.
و من المعلوم أن ترك قتل المؤمن بوصف أنه مؤمن في المثال الذي ذكره،كفعله،ليس من الأمور التي تتصف بحسن أو قبح،للجهل بكونه قتل مؤمن ،و لذا اعترف في كلامه بأنه لو قتله كان معذورا ،فإذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجري في ضمنه مما يتصف بحسن أو قبح،لم يؤثر في اقتضاء ما يقتضي القبح ،كما لا يؤثر في اقتضاء ما يقتضي -فالظاهر أن مراده من كون قبحه بالوجوه و الاعتبارات أنها صالحة للتأثير فيه،لا أنها هي المقتضية له مع عدم اقتضاء الذات له.
الجهل لا ينافي الحسن و القبح الواقعيين التابعين لترتب المفسدة أو المصلحة على الشيء.و مدعى صاحب الفصول صلوح جهة الحسن الواقعية لمزاحمة قبح التجري.
فالعمدة منع صلوح جهات الحسن و القبح الواقعية لمزاحمة جهات الحسن و القبح الظاهرية الحاصلة بالتجري و الانقياد بنحو تمنع من تأثيرهما الثواب و العقاب،كما سيأتي.
و لو كانت الجهة الواقعية مؤثرة في الحسن و القبح اللذين هما مناط العقاب و الثواب لم يكن معذورا.فلاحظ.
لأن المزاحمة مشروطة بتنافي المتزاحمين أثرا.
النقض على الفصول بذلك في غاية المتانة،لأن المقامين من باب واحد-
ص: 36
الحسن لو فرض أمره بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره،فإنه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد،و عدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن.
و دعوى:أن الفعل الذي يتحقق به التجري و إن لم يتصف في نفسه بحسن و لا قبح لكونه مجهول العنوان لكنه لا يمتنع أن يؤثر في قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه ،إلا أن نقول بعدم مدخلية الأمور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح و الذم ،و هو محل نظر،بل منع.
و عليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق في قبح التجري .
مدفوعة-مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه و بين ما تقدم من الدليل العقلي،كما لا يخفى على المتأمل -:بأن العقل مستقل بقبح التجري -و سيأتي تمام الكلام إن شاء اللّه تعالى.
لما كان المفروض ثبوت الاقتضاء فلا معنى لمزاحمة المقتضي بما لا يقتضي أثرا مزاحما لمقتضاه.
يعني:أن الأمور الواقعية لما كانت غير اختيارية لعدم القصد إليها بسبب الجهل بها،امتنع تأثيرها في رفع القبح الحاصل من التجري،لأن الحسن و القبح تابعان للأمور الاختيارية.
يعني:على المنع من الدعوى السابقة،و هي دعوى عدم دخل الأمور غير الاختيارية في الحسن و القبح.
و هو الدليل المتقدم عن السبزواري،حيث تقدم من المصنف قدّس سرّه الجواب عنه بأنه لا مانع من ارتفاع العقاب لأجل الأمور غير الاختيارية،و القبيح إنما هو دخلها في تحقق العقاب.
لعل الفرق بينهما:إن المدعى هناك عدم العقاب لعدم المقتضي و عدم-
ص: 37
في المثال المذكور ،و مجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه مع الاعتراف بأن ترك القتل لا يتصف بحسن و لا قبح لا يرفع قبحه،و لذا يحكم العقل بقبح الكذب و ضرب اليتيم إذا انضم إليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك .
-المقتضي للعقاب مانع من استحقاقه و إن كان ناشئا من أمر غير اختياري.
أما هنا فعدم الاستحقاق ليس لعدم المقتضي،لفرض تمامية اقتضاء التجري، بل لدعوى المزاحم و مع فرض عدم كون المزاحم اختياريا يمتنع تأثيره في الحسن و القبح،فيمتنع أن يزاحم المقتضي لهما،كما ذكرنا.
يعني:إن التزاحم لما كان في الجهات المقتضية للحسن و القبح العقليين فلا بد من إدراك العقل له،و لا يدركه العقل في المقام،بل يدرك قبح التجري بلا مزاحم.
و التحقيق:أن الحسن و القبح الواقعيين التابعين للملاكات الواقعية المستتبعة لإرادة المولى و كراهته و أمره و نهيه تشريعا،لا يصلحان لمزاحمة الحسن و القبح الحاصلين للانقياد و التجري،لعدم التمانع بينهما في مقام الأثر،لعدم السنخية بين أثريهما، إذ استحقاق العقاب و الثواب تابع للجهة الثانية،و الآثار الواقعية تابعة للأولى.
فاللازم الالتزام بأن كلتا الجهتين مؤثرة فيما تقتضيه من دون أن تزاحمها الجهة الأخرى.كما أنه لاجل ذلك يمتنع تأكد تأثير إحدى الجهتين بالأخرى.
و عليه يتعين بطلان ما ذكره في الفصول من تخفيف العقاب أو رفعه مع مصادفة التجري لفعل واجب أو ترك حرام.
و لذا لا يظن منه الالتزام بتخفيف الثواب أو رفعه لو صادف الانقياد ترك واجب أو فعل حرام مع كون المقامين من سنخ واحد،كما لا يخفى.
يعني:بوجود المصلحة الرافعة لقبح الكذب و ضرب اليتيم.
ص: 38
ثم إنه ذكر هذا القائل في بعض كلماته:أن التجري إذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما.
و لم يعلم معنى محصل لهذا الكلام،إذ مع كون التجري عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب لا وجه للتداخل إن أريد به وحدة العقاب ،فإنه ترجيح بلا مرجح ،و إن أريد به عقاب زائد على عقاب محض التجري، فهذا ليس تداخلا،لأن كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما.
و التحقيق:أنه لا فرق في قبح التجري بين موارده،و أن المتجري لا إشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه و سوء سريرته بذلك.و أما استحقاقه للذم من حيث الفعل المتجرى في ضمنه،ففيه إشكال،كما اعترف به الشهيد قدّس سرّه فيما يأتي من كلامه.
إلا أن يرجع إلى عدم الموجب للعقاب على الجهة الواقعية بنفسها مع قطع النظر عن العلم بها.و إن العقاب على التجري لا غير،فلا موجب للعقاب في قبال التجري حتى يرد ما ذكره المصنف قدّس سرّه.لكن لا وجه حينئذ للتعبير في الفصول بالتداخل،كما هو ظاهر.
بل لا وجه لدعوى أن التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في المباحات كما سبق منه ايضا.
هذا إنما يلزم لو كان مدعى الفصول كون العقاب مسببا عن أحدهما بعينه، أما لو التزم بكونه مسببا عنهما معا فلا مجال للإشكال بذلك،بل اللازم الإشكال عليه بأصالة عدم التداخل في الأسباب المتعددة في المسبب القابل للتعدد أو التأكد، التي لا إشكال فيها ظاهرا،بل و لا في الخروج عنها من دليل و هو مفقود.
ص: 39
بل يظهر منه قدّس سرّه:أن الكلام في تأثير نية المعصية إذا تلبس بما يراه معصية،لا في تأثير الفعل المتلبس به إذا صدر عن قصد المعصية، فتأمل .
نعم،يظهر من بعض الروايات حرمة الفعل المتجرى به،لمجرد الاعتقاد،مثل موثقة سماعة في رجلين قاما إلى الفجر،فقال أحدهما:
هو ذا،و قال الآخر:ما أرى شيئا،قال عليه السّلام:فليأكل الذي لم يتبين له،و حرم على الذي زعم أنه طلع الفجر،إن اللّه تعالى قال: كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ.
لعله إشارة إلى رجوع هذا إلى دعوى العقاب على التجري،غايته ليس على نفس الفعل،بل على القصد في ظرفه،فما ذكره الشهيد قدّس سرّه لا ينافي العقاب على التجري.
كأنه لحكم الإمام عليه السّلام بحرمة الأكل على الذي تبين له،و مقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة حتى في ظرف الخطأ،فيدل على حرمة التجري.
و فيه:أن التبين في الآية الكريمة إن كان هو الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعيا و خرج عن باب التجري.و إن كان ذكره موضوعا في الحكم الظاهري مع كون موضوع الحكم الواقعي هو طلوع الفجر واقعا كما هو الظاهر كان مراد الامام عليه السّلام من الحرمة هي الظاهرية،ليطابق الدليل،و هو الآية،و ذلك يقتضي اختصاص الحرمة الواقعية بحال الإصابة،و لا تعم الخطأ.و لا دلالة له حينئذ على كون الفعل معصية واقعا بسبب التجري.فهي أجنبية جدا عما رامه المصنف قدّس سرّه من سوقها لبيان حرمة نفس الفعل المتجرى به.
فالتحقيق ما سبق من عدم الدليل على ذلك،كما سبق عن الشهيد قدّس سرّه و يأتي في كلامه الآتي.
ص: 40
و أما التجري على المعصية بسبب القصد إلى المعصية ،فالمصرح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه،و إن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا،مثل:
قوله(صلوات اللّه عليه):«نية الكافر شر من عمله».
و قوله:«إنما يحشر الناس على نياتهم».
و ما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار،و خلود أهل الجنة في الجنة،بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية و الطاعة لو خلدوا في الدنيا.
و ما ورد من أنه:«إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار،قيل:يا رسول اللّه،هذا القاتل،فما بال المقتول؟!قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لأنه أراد قتل صاحبه».
و ما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتب الحرام، كغارس الخمر و الماشي لسعاية مؤمن.
و فحوى ما دل على أن الرضا بفعل كفعله،مثل ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام:أن«الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم،و على الداخل إثمان:إثم الرضا،و إثم الدخول».
و ما ورد في تفسير قوله تعالى: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ:
يعني:من دون مباشرة فعل يعتقد بكونه معصية.
فإن العقاب على الرضا يقتضي العقاب على العزم على فعل الحرام،لأن العزم يشتمل على الرضا و زيادة.فتأمل.
ص: 41
من أن نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخرهم عن القاتلين بكثير،لرضاهم بفعلهم .
و يؤيده:قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ، و قوله تعالى : إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ، و ما ورد من أن:«من رضي بفعل فقد لزمه و إن لم يفعل»،و قوله تعالى : تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
هذا غير متعرض للعقاب،بل لمجرد صحة نسبة الفعل إلى الراضي به.
فتأمل.
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالذي يحب اشاعة الفاحشة في الذين آمنوا هو نسبتها إليهم و قذفهم بها،فليست هي متعرضة لمحض النية،بل للفعل المحرم، فتكون أجنبية عما نحن فيه.
لكن لا يبعد أن يكون التعبير بالحب مشعرا بأن المدار عليه لا على نفس القذف،فتصلح لتأييد المطلب،و إن لم يمكن الاستدلال بها.فلاحظ.
بناء على أن المراد من الإبداء محض الإظهار،و من الإخفاء مجرد النية.
فيدل على العقاب على النية.لكن لا يبعد أن يكون المراد به العقاب على الفعل الصادر عن النية،غايته أن النية الدافعة للفعل و الموجبة له قد تظهر و قد تختفي.
هذا ملحق بأدلة العقاب على الرضا،و ليس من سنخ ما سبق مؤيدا للمطلب.
بناء على أن المراد محض الإرادة،كما هو مقتضى الجمود على ألفاظ الآية، لا أن الكناية عن نفس الفعل التابع لها،و إلا كان أجنبيا عما نحن فيه،إلا إن يكون مسوقا للتأييد لإشعار ذكر الإرادة بدخلها.فلاحظ.
ص: 42
و يمكن حمل الأخبار الأول على من ارتدع عن قصده بنفسه، و حمل الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتى عجز عن الفعل لا باختياره.
أو يحمل الأول على من اكتفى بمجرد القصد،و الثانية على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات ،كما يشهد له حرمة الإعانة على المحرم،حيث عممه بعض الأساطين لإعانة نفسه على الحرام،و لعله لتنقيح المناط،لا بالدلالة اللفظية .
هذا لا يناسب الاستدلال بفحوى ما تضمن العقاب على الرضا،لعدم كون الرضا مبنيا على الاشتغال بالمقدمات،فالحمل الأول لعله أنسب بذلك.
فلاحظ.
لعدم صدق الإعانة في فعل الإنسان نفسه،لظهور الإعانة في تعدد المعين و المعان،هذا،و في إمكان تنقيح المناط إشكال إذ إعانة الانسان لنفسه شرط في تحقق المعصية،فلا يمكن حرمتها في قبال المعصية،بخلاف إعانته لغيره.فتأمل.
ثم إنه لو فرض ظهور الأدلة في ثبوت العقاب على العزم على المعصية فلا مجال لدعوى منافاتها لحكم العقل بلحاظ أن العقاب فرع الجريمة،و مجرد العزم لا يكون جريمة.لعدم وضوح القاعدة المذكورة،لإمكان دعوى كفاية العزم في استحقاق العقاب و إن لم تكن بذلك الوضوح،و لأجله لا مجال لرد الأدلة لو تمت دلالتها.و لو فرض تمامية الحكم العقلي المذكور تعين حمل الأدلة على حرمة العزم شرعا،ليكون جريمة يستحق لأجلها العقاب.
و دعوى:كونه خارجا عن الاختيار و إلا لتسلسل.
ممنوعة:لأن التسلسل يمنع من توقف جميع أفراد العزم على الاختيار و لا يمنع من دخول بعض أفراده تحته،كما أوضح في مباحث الإرادة.-
ص: 43
ثم اعلم:أن التجري على أقسام،يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلتها.
أحدها:مجرد القصد إلى المعصية.
ثانيها:القصد مع الاشتغال بمقدماته.
و ثالثها:القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية.
و رابعها:التلبس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقق المعصية به.
و خامسها:التلبس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام.
و سادسها:التلبس به رجاء أن لا يكون معصية،و خوف أن يكون معصية.
و يشترط في صدق التجري في الثلاثة الأخيرة:عدم كون الجهل عذرا عقليا أو شرعيا كما في الشبهة المحصورة الوجوبية أو التحريمية، -هذا و لو تم ثبوت العقاب على العزم على المعصية كان العقاب على التجري أولى،لما فيه من العزم مع المباشرة و إعلان التمرد على المولى،كما لا يخفى.
إذ لو كان عذرا جاز الاقدام و لم يحسن العقاب بلا كلام.
لكن الظاهر اختصاص العذر بما إذا لم يكن الاقدام برجاء تحقق المعصية، بحيث يكون العمل مبتنيا على الالتفات إلى العذر و الاعتماد عليه،أما إذا لم يبتن على ذلك بل ابتنى على الرغبة في مخالفة المولى و الاستهانة بالحكم الشرعي،كما لو كان الشخص في مقام التمرد و لم يتيسر له مقطوع الحرمة،بل تيسر له محتمل الحرمة لا غير فأقدم عليه رغبة في الوقوع في الحرام أشكل خروجه عن التجري،إذ مجرد وجود العذر لا يصلح للاعتذار ما لم يكن عمل المعتذر مبتنيا عليه.
بل لا يبعد ذلك في الصورة الخامسة المبتنية على عدم المبالاة بالمعصية نعم لا بدّ-
ص: 44
و إلا لم يتحقق احتمال المعصية و إن تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي،كما في موارد أصالة البراءة و استصحابها.
ثم إن الأقسام الستة كلها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة من حيث خبث ذاته و جرأته و سوء سريرته،و إنما الكلام في تحقق العصيان بالفعل المتحقق في ضمنه التجري.و عليك بالتأمل في كل من الأقسام.
قال الشهيد قدّس سرّه في القواعد:
لا يؤثر نية المعصية عقابا و لا ذما ما لم يتلبس بها،و هي مما ثبت في الأخبار العفو عنه.
-في ذلك من كون الملحوظ هو المعصية من حيث هي معصية و لا يكفي مجرد القصد إلى موضوعها إذا كان معتمدا على العذر العقلي أو الشرعي فمن أقدم على شرب محتمل الخمرية برجاء أن يكون خمرا قد رخص الشارع أو العقل في ارتكابه ظاهرا فهو يحب الخمر من حيث هو لا من حيث كونه معصية و حراما،لا يكون متجريا و لا عاصيا،بل لا يعاقب حتّى لو صادف الخمر بعد فرض الترخيص المذكور.
كما أنه لا يبعد عدم صدق التجري لو كان الإقدام مع الاحتمال المنجز كما في الشبهة المحصورة برجاء عدم الوقوع في الحرام،لعدم القصد إلى التمرد و هتك حرمة المولى،بل ليس الإقدام فيه إلاّ خروجا عن قاعدة دفع الضرر المحتمل فلا يقتضي ترتب العقاب إلا في صورة الوقوع في الحرام لا غير.
فالمدار في تجري على القصد إلى هتك حرمة المولى و عصيانه أو عدم المبالاة بذلك لا على منجزية الاحتمال.فلاحظ.
يعني:لو كان عذرا عقليا أو شرعيا.
الظاهر ثبوت الذم في قصد معصية المولى الحقيقي و إن كان مجردا عن الفعل كما سبق من المصنف قدّس سرّه،و إنما الكلام في العقاب.
ص: 45
و لو نوى المعصية و تلبس بما يراه معصية،فظهر خلافها،ففي تأثير هذه النية نظر:
من أنها لما لم تصادف المعصية صارت كنية مجردة،و هي غير مؤاخذ بها.
و من دلالتها على انتهاك الحرمة و جرأته على المعاصي.و قد ذكر بعض الأصحاب:أنه لو شرب المباح تشبيها بشرب المسكر فعل حراما، و لعله ليس لمجرد النية ،بل بانضمام فعل الجوارح.
و يتصور محل النظر في صور:
منها:ما لو وجد امرأة في منزل غيره،فظنها أجنبية فأصابها،فبان أنها زوجته أو أمته.
و منها:ما لو وطئ زوجته بظن أنها حائض،فبانت طاهرة.
و منها:ما لو هجم على طعام بيد غيره فأكله،فتبين أنه ملكه.
و منها:ما لو ذبح شاة بظنها للغير بقصد العدوان،فظهرت ملكه.
و منها:ما إذا قتل نفسا بظن أنها معصومة،فبانت مهدورة.
و قد قال بعض العامة:نحكم بفسق المتعاطي ذلك،لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي،و يعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسطا بين الصغيرة و الكبيرة.و كلاهما تحكم و تخرص على الغيب ،انتهى البحث لا نية للمعصية في المقام،و مجرد قصد التشبه لا دخل له بذلك،إذ الكلام في قصد المعصية لا قصد التشبه بها،فلو تمت الحرمة في المقام كانت أجنبية عما نحن فيه.
أما الفسق فلا ينبغي الإشكال فيه بناء على أنه من سنخ الملكة القائمة-
ص: 46
في القطع الحاصل من المقدمات العقلية.
-بالنفس،لعدم الفرق في انكشافها بين المعصية الحقيقية و التجري.
نعم بناء على تقومه بفعل الحرام كان حصوله مبنيا على حرمة الفعل المتجرى به،و قد سبق أنه لا دليل عليه.
و أما العقاب عليه في الجملة فهو الظاهر أيضا بناء على ما سبق منا.و أما تحديده بالوجه المذكور فهو كما ذكره الشهيد قدّس سرّه خال عن الدليل.
ص: 47
ص: 48
أنك قد عرفت:أنه لا فرق فيما يكون العلم فيه كاشفا محضا بين أسباب العلم،و ينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية الغير الضرورية ، لكثرة وقوع الاشتباه و الغلط فيها،فلا يمكن الركون إلى شيء منها.
فإن أرادوا عدم جواز الركون بعد حصول القطع،فلا يعقل ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف،و لو أمكن الحكم بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية،طابق النعل بالنعل .
و إن أرادوا عدم جواز الخوض في المطالب العقلية لتحصيل المطالب الشرعية،لكثرة وقوع الغلط و الاشتباه فيها،فلو سلم ذلك لعلها مثل الملازمات العقلية،كاستتباع وجوب الشيء لوجوب مقدمته، أو لحرمة ضده.بخلاف مثل امتناع اجتماع النقيضين من البديهيات.
لكثرة وقوع الغلط و الاشتباه فيها أيضا،كما يناسبه كثرة الخلاف فيها.
يعني:كثرة وقوع الغلط و الاشتباه فيها.
ص: 49
و أغمض عن المعارضة بكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من الأدلة الشرعية ،فله وجه ،و حينئذ:فلو خاض فيها و حصل القطع بما لا يوافق الحكم الواقعي لم يعذر في ذلك،لتقصيره في مقدمات التحصيل .
إلا أن الشأن في ثبوت كثرة الخطأ أزيد مما يقع في فهم المطالب من الأدلة الشرعية .
و قد عثرت-بعد ما ذكرت هذا-على كلام يحكى عن المحدث الأسترآبادي في فوائده المدنية،قال-في عداد ما استدل به على انحصار الدليل في غير الضروريات الدينية في السماع عن الصادقين عليهم السّلام-:
كما يعلم بكثرة الاختلاف بين العلماء،لكن قد يدفع ذلك بأنه يكفي في الفرق قيام الأدلة على جواز الرجوع إلى الطرق الشرعية.فتأمل.
فإن ذلك حكم شرعي تعبدي قابل للجعل.
حيث خالف فيها المولى باختياره،و مثل ذلك مسقط للقطع عن المعذرية عقلا في ظرف الخطأ،و إن كان لا يتسنى للقاطع الالتفات إلى ذلك لقطعه بإصابة قطعه،و عدم خطئه.
نعم هذا إنما يتم بناء على أن النهي عن الخوض في المطالب العقلية طريقي لحفظ الواقع الذي يعلم الشارع بضياعه بسبب الخوض فيها.
أما لو كان النهي أصليا نفسيا فهو إنما يقتضي العقاب على نفس مخالفة النهي المذكور و لا دخل له بمعذرية القطع.فلاحظ.
كثرة الخطأ أمر قريب جدا،إلا أن بلوغ ذلك حدا يستكشف منه المنع الشرعي غير ظاهر.
ص: 50
الدليل التاسع مبني على مقدمة دقيقة شريفة تفطنت لها بتوفيق اللّه تعالى،و هي:
أن العلوم النظرية قسمان:
قسم ينتهي إلى مادة هي قريبة من الإحساس،و من هذا القسم علم الهندسة،و الحساب،و أكثر أبواب المنطق،و هذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء و الخطأ في نتائج الأفكار،و السبب في ذلك أن الخطأ في الفكر إما من جهة الصورة أو من جهة المادة ،و الخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء،لأن معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة،و الخطأ من جهة المادة لا يتصور في هذه العلوم ،لقرب المواد فيها إلى الإحساس.
و قسم ينتهي إلى مادة هي بعيدة عن الإحساس،و من هذا القسم الحكمة الإلهية،و الطبيعية،و علم الكلام،و علم أصول الفقه،و المسائل النظرية الفقهية،و بعض القواعد المذكورة في كتب المنطق،و من ثم وقع [أو وقعت]الاختلافات و المشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية و الطبيعية،و بين علماء الإسلام في أصول الفقه و مسائل الفقه و علم الكلام،و غير ذلك.
و السبب في ذلك:أن القواعد المنطقية إنما هي عاصمة من الخطأ من مادة الدليل هي المقدمات المستدل بها،و صورته هي كيفية الاستدلال بها و استحصال النتائج منها.
و هي علم الهندسة و الحساب و غيرها مما سبق في كلامه.
ص: 51
جهة الصورة،لا من جهة المادة إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب مواد الأقيسة تقسيم المواد على وجه كلي إلى أقسام،و ليست في المنطق قاعدة بها يعلم أن كل مادة مخصوصة داخلة في أي قسم من الأقسام ،و من المعلوم امتناع وضع قاعدة يكفل بذلك.
ثم استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره،و قال بعد ذلك:
فإن قلت:لا فرق في ذلك بين العقليات و الشرعيات،و الشاهد على ذلك ما نشاهده من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في أصول الدين و في الفروع الفقهية.
قلت:إنما نشأ ذلك من ضم مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية الظنية أو القطعية .
و من الموضحات لما ذكرناه-من أنه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادة الفكر:-أن المشائيين ادعوا البداهة في أن تفرق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه و إحداث لشخصين آخرين،و على هذه المقدمة حيث قسم المنطقيون مبادئ الأقيسة إلى ثمانية أقسام،و هي:اليقينيات، و المظنونات،و المشهورات،و الوهميات،و المسلمات،و المقبولات،و المشبهات، و المخيلات،فمواد الاستدلال إما أن تكون من هذه الأقسام أو تكون من البرهانيات المبتنية عليها.
لم يتضح عاجلا المراد بذلك.فإن الخلاف لا يتسبب في الأكثر عن الخلاف في بعض المقدمات العقلية المستدل بها في القضايا الشرعية،إذ قد لا يشتمل الاستدلال على مقدمة عقلية أصلا.بل كثيرا ما يتسبب عن الخلاف في بعض الأمور الظنية المستدل بها كالخلاف في الدلالة أو السند أو الجمع بين الأدلة و نحو ذلك.
ص: 52
بنوا إثبات الماهية الهيولى،و الإشراقيين ادعوا البداهة في أنه ليس إعداما للشخص الأول،و إنما انعدمت صفة من صفاته،و هو الاتصال.
ثم قال:إذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة المنيفة،فنقول:
إن تمسكنا بكلامهم عليهم السّلام فقد عصمنا من الخطأ،و إن تمسكنا بغيرهم لم نعصم عنه،انتهى كلامه.
و المستفاد من كلامه:عدم حجية إدراكات العقل في غير المحسوسات و ما يكون مباديه قريبة من الإحساس.
و قد استحسن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عنه،منهم السيد المحدث الجزائري قدّس سرّه في أوائل شرح التهذيب على ما حكي عنه.قال بعد ذكر كلام المحدث المتقدم بطوله:
و تحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه.فإن قلت:قد عزلت العقل عن الحكم في الأصول و الفروع،فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟
قلت:أما البديهيات فهي له وحده،و هو الحاكم فيها.و أما النظريات:
فإن وافقه النقل و حكم بحكمه قدم حكمه على النقل ،و أما لو تعارض هو و النقلي فلا شك عندنا في ترجيح النقل و عدم الالتفات إلى ما حكم به العقل.
قال:و هذا أصل يبتني عليه مسائل كثيرة،ثم ذكر جملة من المسائل المتفرعة.
لم يتضح معنى التقديم في المقام.إلا أن يراد تقديمه على النقلي الآخر المعارض له.
ص: 53
أقول:لا يحضرني شرح التهذيب حتى ألاحظ ما فرع على ذلك، فليت شعري!إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء،كيف يجوز حصول القطع أو الظن من الدليل النقلي على خلافه؟و كذا لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي،كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع؟
و ممن وافقهما على ذلك في الجملة:المحدث البحراني في مقدمات الحدائق،حيث نقل كلاما للسيد المتقدم في هذا المقام و استحسنه،إلا أنه صرح بحجية العقل الفطري الصحيح،و حكم بمطابقته للشرع و مطابقة الشرع له.ثم قال:
لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات و غيرها، و لا سبيل إليها إلا السماع عن المعصوم عليه السّلام،لقصور العقل المذكور عن الاطلاع عليها.ثم قال:
نعم،يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف على التوقيف ،فنقول:
إن كان الدليل العقلي القطعي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة- مثل:الواحد نصف الاثنين-فلا ريب في صحة العمل به،و إلا:
فإن لم يعارضه دليل عقلي و لا نقلي فكذلك.
و إن عارضه دليل عقلي آخر:فإن تأيد أحدهما بنقلي،كان الترجيح قال بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه:«كما في الأمور الاعتقادية الغير المتوقفة على التوقيف من صاحب الشرع،سواء كانت من الأصول الاعتقادية،أو الأخلاق، أو غيرهما».
ص: 54
للمتأيد بالدليل النقلي،و إلا فإشكال.
و إن عارضه دليل نقلي:فإن تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي إلا أن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات،و إلا فالترجيح للنقلي،وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره،و خلافا للأكثر.
هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق،أما لو أريد به المعنى الأخص، و هو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلام و إن شذ وجوده في الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال،انتهى.
و العجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل و النقل،كيف يتصور الترجيح في القطعيين ،و أي دليل على الترجيح المذكور؟!.
و أعجب من ذلك:الاستشكال في تعارض العقليين من دون ترجيح،مع أنه لا إشكال في تساقطهما و كذا الاستشكال في تقديم النقلي على العقلي الفطري الخالي عن شوائب الأوهام،مع أن العلم بوجود الصانع جل ذكره إما أن يحصل من هذا العقل الفطري،أو مما دونه من العقليات البديهية،بل النظريات المنتهية إلى البداهة.
يعني:إن لم يتأيد العقلي بدليل نقلي.
لم يتقدم في كلام المحدث المذكور فرض كون الدليل النقلي قطعيا حتى تكون معارضته للدليل العقلي القطعي من التعارض بين القطعيين.
نعم يلزمه ذلك في التعارض بين العقليين،إذ فرض فيهما القطع،و يستحيل التعارض بين القطعيين،إلا أن يريد به كون كل منهما قطعيا لو لا المعارضة.و لعله مراد بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه حيث قال:«اللهم إلا أن يكون المراد تقابل السببين لا الوصفين،فخرج عن محل الفرض».
ص: 55
و الذي يقتضيه النظر-وفاقا لأكثر أهل النظر-أنه:
كلما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي ، و إن وجد ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله إن لم يمكن طرحه.
و كلما حصل القطع من دليل نقلي مثل القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا فلا يجوز أن يحصل القطع على خلافه من دليل عقلي،مثل استحالة تخلف الأثر عن المؤثر ،و لو حصل منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة،لكن هذا لا يتأتى في العقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام،فلا بد في موارده من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ،لأن الأدلة القطعية النظرية في النقليات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل البديهي أو الفطري.
فإن قلت:لعل نظر هؤلاء في ذلك إلى ما يستفاد من الأخبار،مثل إذا كان الدليل العقلي منتهيا إلى مقدمات بديهية لا يمكن الخطأ فيها، أما لو كان حصول القطع منه بدويا أمكن معارضة النقلي له،و حينئذ فقد يرتفع القطع الحاصل من الدليل العقلي،فيسقط عن مقام العمل.أما إذا لم يرتفع القطع فلا يسقط عن مقام العمل.
حيث قد يساق ذلك دليلا على قدم العالم تبعا لقدم علته و هو اللّه تعالى.
يعني:من الدليل العقلي المعارض للنقلي القطعي.
بل يكون هو موجبا للقطع بخطإ الدليل النقلي،فيسقط عن الحجية.
يعني:التي هي مسرح للنظر العقلي،كحدوث العالم،و المعاد الجسماني، في قبال ما لا مسرح للعقل فيه،كالعبادات.
ص: 56
قولهم عليهم السّلام:«حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تستمعوه منا»،و قولهم عليهم السّلام:
«و لو أن رجلا قام ليله،و صام نهاره،و حج دهره،و تصدق بجميع ماله، و لم يعرف ولاية ولي اللّه،فيكون أعماله بدلالته فيواليه،ما كان له على اللّه ثواب»،و قولهم عليهم السّلام:«من دان للّه بغير سماع من صادق فهو كذا و كذا»إلى غير ذلك،من أن الواجب علينا هو امتثال أحكام اللّه تعالى التي بلغها حجج اللّه تعالى عليهم السّلام،فكل حكم لم يكن الحجة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ،بل يكون من قبيل:«اسكتوا عما سكت اللّه عنه»،فإن معنى سكوته عنه عدم أمر أوليائه بتبليغه،و حينئذ فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجة ملغى في نظر الشارع و إن كان مطابقا للواقع،كما يشهد به تصريح الإمام عليه السّلام بنفي الثواب على التصدق بجميع المال،مع القطع بكونه محبوبا و مرضيا عند اللّه.
و وجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقل الفطري السليم:
ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل،و أنه حجة باطنية،و أنه مما يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان،و نحوها مما يستفاد منه كون العقل السليم أيضا حجة من الحجج،فالحكم المستكشف به حكم بلغه الرسول تفسير للموصول في قوله:«ما يستفاد من الأخبار».
لا يخفى أن وجوب الامتثال من الأحكام العقلية التي لا تقبل التصرف الشرعي،فلا بد من كون مرجع ذلك إلى أن الحكم الشرعي لا يكون فعليا صالحا للامتثال إلا بتبليغ الحجة،فتبليغ الحجة يكون مأخوذا شرطا في فعلية الحكم لكونه دخيلا في ملاكه،لا كاشفا عنها.فلاحظ.
يعني:الذي تقدم من المحدث البحراني في كلامه السابق.
ص: 57
الباطني،الذي هو شرع من داخل،كما أن الشرع عقل من خارج.
و مما يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء :ما ذكره السيد الصدر رحمه اللّه في شرح الوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقل به العقل ما لفظه:
إن المعلوم هو أنه يجب فعل شيء أو تركه أو لا يجب إذا حصل الظن أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه السّلام أو فعله أو تقريره،لا أنه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان،انتهى موضع الحاجة.
قلت:
أولا:نمنع مدخلية توسط تبليغ الحجة في وجوب إطاعة حكم اللّه سبحانه،كيف!و العقل بعد ما عرف أن اللّه تعالى لا يرضى بترك الشيء الفلاني،و علم بوجوب إطاعة اللّه،لم يحتج ذلك إلى توسط مبلغ .
يعني الأخباريين.
هذا إنما يتم لو كان المدعى كون تبليغ الحجة مأخوذا لمحض الطريقية إلى الأحكام الواقعية،إذ مع فرض القطع لا حاجة إلى طريق آخر.
أما لو كان موضوعيا فلا مجال لحصول القطع المذكور،لأن لازم ذلك كون ما يقطع بأنه حكم اللّه ليس حكما فعليا،لعدم تمامية ملاكه،و لا يتم ملاكه إلا بتبليغ الحجة،كما ذكرنا.
فالعمدة النظر في دلالة الأدلة المذكورة على ذلك،و الظاهر عدم تماميتها،إذ الخبر الثالث ظاهر في كون السماع من الصادقين عليهم السّلام شرطا في جواز التدين بالحكم الراجع إلى نسبته إلى الشارع الأقدس و هو يناسب كونه طريقا،لا أنه شرط في فعلية الحكم و تمامية ملاكه كما هو شأن ما يؤخذ في الموضوع.
ص: 58
و دعوى:استفادة ذلك من الأخبار،ممنوعة،فإن المقصود من أمثال الخبر المذكور عدم جواز الاستبداد في الأحكام الشرعية بالعقول الناقصة الظنية على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة و الاستحسانات من غير مراجعة حجج اللّه،بل في مقابلهم عليهم السّلام ،و إلا فإدراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة،بل لا نعرف وجوده،فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة،مع أن ظاهرها ينفي حكومة العقل،و لو مع عدم -و هذا هو منصرف الخبر الأول أيضا،إذا المنصرف من الحرمة فيه هو الحرمة التشريعية،الناشئة من عدم الحجة على الحكم،لا الناشئة من العلم بعدم الحكم لعدم تمامية ملاكه.و أما الخبر الثاني فسيأتي الكلام فيه.
الظاهر أن المراد من الخبر المذكور بيان لزوم الولاية و شرطيتها لقبول العمل،و ذكر الدلالة فيها لا يراد به توقف جميع الأعمال على دلالة الولي،كيف!و لا إشكال في جواز عمل المسلمين بالأخبار القطعية الصادرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،مع عدم احتمال نسخها أو نحوه مما يسقطها عن الحجية و عدم لزوم الرجوع إلى إمام العصر في جميع الأحكام.
بل المراد لزوم القبول منه كما هو مقتضى موالاته بحيث يعمل بدلالته و يخضع لتعاليمه،سواء كان ذلك في أصل بيان الحكم،أم في بيان عمومه أو خصوصه،أو نحو ذلك ممّا يتعلق به،في قبال العامة المعرضين عنهم عليهم السّلام، و التاركين لقولهم،و من الظاهر أن هذا المعنى لا ينافي العمل بحكم العقل القطعي حتى في قبال الدليل النقلي،للقطع معه بعدم كون مفاد النقلي مرادا للمعصوم حتى ينافي موالاته و ينافي العمل بدلالته و الأخذ منه.فالحديث الشريف أجنبي عما نحن فيه جدا.
ص: 59
المعارض .
و على ما ذكرنا يحمل ما ورد من:«أن دين اللّه لا يصاب بالعقول».
و أما نفي الثواب على التصدق مع عدم كون العمل به بدلالة ولي اللّه، فلو ابقي على ظاهره دل على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ،مع اعترافه بأنه حجة من حجج الملك العلام،فلا بد من حمله على التصدقات الغير المقبولة ،مثل التصدق على المخالفين لأجل تدينهم بذلك الدين الفاسد كما هو الغالب في تصدق المخالف على المخالف،كما في تصدقنا على فقراء الشيعة،لأجل محبتهم لأمير المؤمنين عليه السّلام و بغضهم لأعدائه،أو على أن المراد حبط ثواب التصدق،من أجل عدم المعرفة لولي اللّه،أو على غير ذلك.
و ثانيا:سلمنا مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الإطاعة،لكنا إذا بناء على أن المراد منها لزوم كون جميع الأعمال بدلالة ولي اللّه تعالى،كما هو المدعى في الاستدلال،مع أنه تقدم من المحدث البحراني قدّس سرّه جواز العمل بحكم العقل مع عدم المعارض.
لم يتضح كون حسن التصدق بجميع المال مقتضى حكم العقل الخالي عن شوائب الأوهام،و لذا يمكن قيام الأدلة الشرعية على حرمة التصدق أو كراهته.
هذا خلاف ظاهر النصوص المتقدمة،لظهورها في عدم خلل في ذات الفعل،و أن منشأ عدم قبوله عدم دلالة ولي اللّه،و عدم موالاته.
الظاهر من الحديث كون الولاية شرطا في قبول العمل و ترتب الثواب عليه،لا أن عدمها موجب لإحباطه،فكان الأولى له أن يجيب بذلك،و هو المناسب لما سبق منّا في مفاد الحديث.فلاحظ.
ص: 60
علمنا إجمالا بأن حكم الواقعة الفلانية لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجة مضافا إلى ما ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبة حجة الوداع:
«معاشر الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة و يباعدكم عن النار إلا أمرتكم به،و ما من شيء يقربكم إلى النار و يباعدكم عن الجنة إلا و قد نهيتكم عنه» ثم أدركنا ذلك الحكم إما بالعقل المستقل و إما بواسطة مقدمة عقلية، نجزم من ذلك بأن ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجة صلوات اللّه عليه،فيكون الإطاعة بواسطة الحجة.
إلا أن يدعى:أن الأخبار المتقدمة و أدلة وجوب الرجوع إلى الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين تدل على مدخلية تبليغ الحجة و بيانه في طريق الحكم،و أن كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم السّلام و لو بالواسطة فهو غير واجب الإطاعة،و حينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر هذا مختص بما هو مورد لعموم الابتلاء.و أما خطبة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع فهي و إن كانت عامة،إلا أنه يمكن أن يكون المراد بالبيان فيها البيان للأئمة عليهم السّلام،و يكون البيان للأمة بتوسط الإرجاع إليهم عليهم السّلام و الأمر بالأخذ منهم بمثل حديث الثقلين.
و حينئذ فإدراك الحكم بطريق العقل لا يوجب القطع بصدور الحكم عن الأئمة عليهم السّلام و بيانهم له،و ظاهر الحديث المتقدم هو لزوم الأخذ من الأئمة،لا مجرد صدور الحكم لهم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.فلاحظ.
عطف على قوله:«علمنا إجمالا»في قوله:«لكنا إذا علمنا إجمالا بأن حكم...».
جواب الشرط المتقدم في قوله:«لكنا إذا علمنا...».
ص: 61
عن الحجة عليه السّلام.
لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار،و مع تسليم ظهورها فهو أيضا من باب تعارض النقل الظني مع العقل القطعي ،و لذلك لا فائدة مهمة في هذه المسألة،إذ بعد ما قطع العقل بحكم و قطع بعدم رضا اللّه جل ذكره بمخالفته،فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا، فكل ما دل على خلاف ذلك فمؤول أو مطروح.
نعم،الإنصاف أن الركون إلى العقل فيما يتعلق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام،موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر،و إن لم يحتمل ذلك عند المدرك،كما يدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون:«أن دين اللّه لا يصاب بالعقول»،«و أنه لا شيء أبعد عن دين اللّه من عقول الناس».
و أوضح من ذلك كله:رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه السّلام:«قال:
قلت له:رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة،كم فيها من الدية؟قال:عشر من الإبل.قال:قلت:قطع إصبعين؟قال عليه السّلام:عشرون.قلت:قطع ثلاثا؟ قال:ثلاثون.قلت:قطع أربعا؟قال:عشرون.قلت:سبحان اللّه!يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون،و يقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟!كان يبلغنا لكن إدراك العقل للحكم إنما يقتضي القطع بلزوم امتثاله إذا لم يحتمل دخل تبليغ الحجة في ذلك،و إلا كان الحكم إنشائيا لا فعليا،فلا يجب امتثاله.
فالنصوص المذكورة واردة على حكم العقل رافعة لموضوعه،لا معارضة له.
فالعمدة أنها أجنبية عما نحن فيه،كما سبق.
ص: 62
هذا و نحن بالعراق،فقلنا:إن الذي جاء به شيطان!قال عليه السّلام:مهلا يا أبان، هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية،فإذا بلغ الثلث رجع إلى النصف،يا أبان،إنك أخذتني بالقياس،و السنة إذا قيست محق الدين».
و هي و إن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على رد الرواية الظنية التي سمعها في العراق بمجرد استقلال عقله بخلافه،أو على تعجبه مما حكم به الإمام عليه السّلام،من جهة مخالفته لمقتضى القياس،إلا أن مرجع الكل إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ،فهو توبيخ على المقدمات المفضية إلى مخالفة الواقع.
و قد أشرنا هنا و في أول المسألة إلى:عدم جواز الخوض لاستكشاف الأحكام الدينية،في المطالب العقلية،و الاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم و الانتقال منه إليه على طريق اللم،لأن انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفية،فقد يصير منشأ لم يتضح الوجه في ذلك،فإنه لا نظر في الرواية إلى الأحكام العقلية القطعية البرهانية بوجه.
نعم إذا كان منشأ القطع الجري على مقتضى الأحكام العقلية البدوية الناشئة عن التسرع أو القياس أو نحوهما،فالرواية ظاهرة في التوبيخ على الاعتماد عليه،لا على النظر فيه بنفسه مع قطع النظر عن الاعتماد عليه،و ذلك أجنبي عما نحن فيه.
تقدم منه في أول هذا التنبيه إلى إمكان البناء على ذلك.لكن تقدم منا عدم الدليل عليه.
ص: 63
لطرح الأمارات النقلية الظنية،لعدم حصول الظن له منها بالحكم .
و أوجب من ذلك:ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية لإدراك ما يتعلق بأصول الدين،فإنه تعريض للهلاك الدائم و العذاب الخالد،و قد أشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء و القدر، و عند نهي بعض أصحابهم عليهم السّلام عن المجادلة في المسائل الكلامية.
و لكن الظاهر من بعض تلك الأخبار:أن الوجه في النهي عن الأخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهي في المجادلة،فيصير مفحما عند المخالفين،و يوجب ذلك وهن المطالب الحقة في نظر أهل الخلاف .
هذا و إن كان مسلما لكن لا دليل على حرمته إذا كان بعد استفراغ الوسع و كمال التتبع و التأمل و التثبت.
ليس هذا حكما شرعيا،بل هو إرشاد صرف يلزم الرجوع إليه لمن يحتمل الخطر.
ليس المراد به كثير القطع،كما هو مفاد هيئة المبالغة،كما في مثل:شرّاب و ضرّاب،بل من خرج في قطعه عن المتعارف من حيث الأسباب،فيسرع بالقطع من أسباب لا يتعارف حصول القطع منها لمتعارف الناس،أما من كثر قطعه لتهيؤ أسبابه المتعارفة له،أو لاختصاصه بسبب لا يتهيأ لغيره و إن كان حصول القطع به متعارفا فلا يظن من أحد الالتزام بعدم حجية قطعه،و هو أجنبي عن محل كلامهم، كما يظهر من كلام كاشف الغطاء الآتي.
ص: 64
[البحث في قطع القطاع]
قد اشتهر في ألسنة المعاصرين:أن قطع القطاع لا اعتبار به.
و لعل الأصل في ذلك ما صرح به كاشف الغطاء قدّس سرّه بعد الحكم بأن كثير الشك لا اعتبار بشكه،قال:
و كذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنه،فيلغو اعتبارهما في حقه،انتهى.
أقول:أما عدم اعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه،فلأن أدلة اعتبار الظن في مقام يعتبر فيه مختصة بالظن الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس لو وجدت تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص،فالحاصل من غيرها الاختصاص المذكور مبني على اختصاص أدلة الحجية أو انصرافها، و كلاهما محتاج إلى النظر في تلك الأدلة و التأمل فيها،و هو موكول إلى الفقه.
ص: 65
يساوي الشك في الحكم.
و أما قطع من خرج قطعه عن العادة:فإن أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها كقبول شهادته و فتواه و نحو ذلك فهو حق،لأن أدلة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ،لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشك إرادة غير هذا القسم .
و إن أريد عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفية و الطريقية إلى الواقع:
فإن أريد بذلك أنه حين قطعه كالشاك،فلا شك في أن أحكام الشاك و غير العالم لا يجري في حقه،و كيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دل على عدم الوجوب عند عدم العلم،و القاطع بأنه صلى ثلاثا بالبناء على أنه صلى أربعا،و نحو ذلك.
و إن أريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه بتنزيله إلى الشك،أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه،و لو بأن يقال له:إن اللّه سبحانه لا يريد منك الواقع لو فرض عدم تفطنه لقطعه بأن اللّه يريد الواقع منه و من كل الكلام فيه هو الكلام في سابقه.
لأنه لا يراد به الشك المأخوذ في الموضوع،لوضوح أن الأحكام تابعة للواقع و كثرة الشك إنما تكون دخيلة في مقام ترتيب الأثر على الواقع المشكوك،لا على نفس الشك ليصير موضوعيا.
إذ لو تفطن لذلك لم يقتنع و لم يرتدع بالردع المذكور.
ص: 66
أحد فهو حق،لكنه يدخل في باب الإرشاد،و لا يختص بالقطاع،بل بكل من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعية و الموضوعات الخارجية المتعلقة بحفظ النفوس و الأعراض،بل الأموال في الجملة،و أما في ما عدا ذلك مما يتعلق بحقوق اللّه سبحانه،فلا دليل على وجوب الردع في القطاع،كما لا دليل عليه في غيره.
و لو بني على وجوب ذلك في حقوق اللّه سبحانه من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما هو ظاهر بعض النصوص و الفتاوى لم يفرق أيضا بين القطاع و غيره.
و إن أريد بذلك أنه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه،فهو أيضا حق في الجملة،لأن المكلف إن كان تكليفه حين العمل مجرد الواقع من دون مدخلية للاعتقاد،فالمأتي به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع،سواء القطاع و غيره.و إن كان للاعتقاد مدخل فيه ، لوجوب حفظها على كل أحد و منهم المرشد،فيجوز له الكذب،لأنه يكون من الكذب للمصلحة و لعل الحال في الأعراض و الأموال كذلك و إن لم نقل بوجوب حفظها على كل أحد.فلاحظ.
لا يبعد اختصاصه بما إذا كان الفاعل في مقام التمرد و العصيان دون ما نحن فيه مما كان معذورا لخطأ في الاعتقاد.
لكنه لو سلم لا يقتضي تسويغ الكذب بأن يقال له:إن اللّه لا يريد منك الواقع.إلا إن يدخل في الكذب للإصلاح الذي دلت الأدلة على جوازه.
هذا راجع إلى القطع الموضوعي لأخذ القطع في موضوع الحكم بالإجزاء شرعا،و إن لم يكن مأخوذا في أصل ثبوت التكليف،مثلا مقتضى الأدلة وجوب-
ص: 67
كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة فإن قضية هذا كفاية القطع المتعارف،لا قطع القطاع ،فيجب عليه الإعادة و إن لم تجب على غيره.
ثم إن بعض المعاصرين وجه الحكم بعدم اعتبار قطع القطاع بعد تقييده بما إذا علم القطاع أو احتمل أن يكون حجية قطعه مشروطة بعدم كونه قطاعا:بأنه يشترط في حجية القطع عدم منع الشارع عنه و إن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع،إلا أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.
و أنت خبير بأنه يكفي في فساد ذلك عدم تصور القطع بشيء و عدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له .
و العجب أن المعاصر مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده:لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك،أو يؤدي إليه حدسك،بل -استقبال القبلة الواقعية لا استقبال ما قطع بكونه قبلة،كما يظهر من المصنف قدّس سرّه، غاية الأمر أن الصلاة لما يقطع بكونه قبلة مجزئة.
هذا ليس ثابتا بنحو القضية الكلية،كما أشرنا إليه سابقا.
الظاهر أن المراد به صاحب الفصول،حيث ذكر ذلك في مسألة الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع عند التعرض لاستدلال المنكرين للملازمة بقوله تعالى: «وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً». فراجع.
لما عرفت من كون حجية القطع ذاتية،فكيف يحتمل المكلف أو يقطع باشتراط حجيته بعدم ردع الشارع.
بان كان طريقيا.
ص: 68
اقتصر على ما يصل إليك مني بطريق المشافهة و المراسلة.و فساده يظهر مما سبق من أول المسألة إلى هنا .
إذ لا وجه له إلا بإرجاعه إلى القطع الموضوعي.فلاحظ.
ص: 69
ص: 70
[البحث في العلم الإجمالي]
أن المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار،أم لا؟ و الكلام فيه يقع:
تارة:في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ،و أن الحكم المعلوم بالإجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجز على المكلف،أم هو كالمجهول رأسا؟
و أخرى:في أنه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي أو الإجمالي المعتبر،فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجمالية و لو مع تيسر العلم التفصيلي،أم لا يكتفى به إلا مع تعذر العلم التفصيلي ،فلا يجوز إكرام كما لو علم اجمالا؟بوجوب القصر أو التمام أو بوجوب الظهر أو الجمعة.
ظاهره المفروغية عن جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع تعذر التفصيلي،-
ص: 71
شخصين أحدهما زيد مع التمكن من معرفة زيد بالتفصيل،و لا فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر؟
و الكلام فيه من الجهة الأولى يقع من جهتين،لأن اعتبار العلم الإجمالي له مرتبتان:
الأولى:حرمة المخالفة القطعية.
و الثانية:وجوب الموافقة القطعية.
و المتكفل للتكلم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة و الاشتغال عند الشك في المكلف به،فالمقصود في المقام الأول التكلم في المرتبة الأولى.
-و هو غير بعيد،و يأتي منه هنا و في مبحث الانسداد و في مبحث البراءة و الاشتغال ما يشعر أو يدل على المفروغية المذكورة.
ص: 72
و لنقدم الكلام في المقام الثاني،و هو كفاية العلم الإجمالي في الامتثال، فنقول:
مقتضى القاعدة:جواز الاقتصار في الامتثال على العلم الإجمالي بإتيان المكلف به،
أما فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح ،و أما فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة،فالظاهر أيضا تحقق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به .
و دعوى:أن العلم بكون المأتي به مقربا معتبر حين الإتيان به و لا يكفي العلم بعده بإتيانه،ممنوعة،إذ لا شاهد لها بعد تحقق الإطاعة بغير إذ ليس المقصود منه إلا حصول الواجب بأي وجه اتفق.
يأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث الاشتغال التعرض إلى كيفية النية المعتبرة في المقام،و يأتي منا أنه يكفي الإتيان بكل محتمل برجاء المطلوبية،كما يأتي أيضا في موارد أخر الإشارة إلى ذلك.
ص: 73
ذلك أيضا .
فيجوز لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط و ترك تحصيل العلم التفصيلي.
لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض:ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة،بل ظاهر المحكي عن الحلي في مسألة الصلاة في الثوبين :عدم جواز التكرار للاحتياط حتى مع عدم التمكن من العلم التفصيلي،و إن كان ما ذكره ممنوعا، و حينئذ فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق،أو بجهة القبلة،أو في ثوب طاهر،أن يتوضأ وضوءين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق،أو يصلي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة،أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.
يعني:تحقق الإطاعة عرفا،فيتعين الاجتزاء بها بعد عدم شرح الشارع الأقدس لكيفية الإطاعة المعتبرة،و يكون إرادة خلافها محتاجا إلى دليل،لأن الإطلاقات المقامية تقتضي التحويل على المعنى العرفي للإطاعة.
نعم لو فرض عدم تمامية الإطلاقات المقامية تعين الرجوع إلى مقتضى الأصول في المقام،و يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.
حيث حكي عنه وجوب الصلاة عاريا.و يأتى الكلام في وجه ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الرابعة من مسائل دوران الواجب بين أمرين متباينين.
يعني:بناء على الاتفاق المدعى على عدم الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة.
ص: 74
لكن الظاهر من صاحب المدارك قدّس سرّه:التأمل بل ترجيح الجواز في المسألة الأخيرة،و لعله متأمل في الكل ،إذ لا خصوصية للمسألة الأخيرة.
و أما إذا لم يتوقف الاحتياط على التكرار كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا فالظاهر عدم ثبوت اتفاق على المنع و وجوب تحصيل اليقين التفصيلي ،لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك،بل و الوجه في التأمل عدم وضوح كون الإجماع تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم عليه السّلام رادعا عن الطريقة العقلائية المشار إليها،خصوصا بعد قرب كون الوجه في ذهابهم ركونهم إلى ما ذكره المتكلمون في المقام،من وجوه لا تسمن و لا تغني من جوع،تعرض لبعضها بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه،لا مجال لإطالة الكلام فيها.
نعم قد يستدل على ذلك باعتبار نية الوجه،و بالأصل المقتضي للاشتغال.
و سيأتي الإشارة إلى بعض الكلام فيها.فالبناء على عدم المنع عن ذلك متعين.و يأتي من المصنف في خاتمة البراءة و الاشتغال التعرض لبعض الشبه المقتضية للمنع.
كما لو علم بوجوب الاستعاذة قبل القراءة،أو الاستغفار بعد التسبيح، فأتى بهما في صلاة واحدة.
لكن الظاهر عدم اختصاص ذلك بالعلم الإجمالي،بل يأتي في الشبهة البدوية، كما لو احتمل وجوب جلسة الاستراحة لا غير فأتى بها،إذ الظاهر أن منشأ الشبهة هو القول باعتبار الجزم بالنية الراجع إلى قصد الوجه أو التمييز،و لا فرق فيهما بين صورة العلم الإجمالي و الشبهة البدوية.و سيأتي بعض الكلام في الشبهة المذكورة.
مما سبق في صورة التكرار تعلم الإجتزاء هنا بالامتثال المذكور، للأولوية.
ص: 75
ظاهر كلام السيد الرضي رحمه اللّه-في مسألة الجاهل بوجوب القصر-و ظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى رحمه اللّه له:ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها .
هذا كله في تقديم العلم التفصيلي على الإجمالي.
و هل يلحق بالعلم التفصيلي الظن التفصيلي المعتبر،فيقدم على العلم الإجمالي،أم لا؟
التحقيق أن يقال:إن الظن المذكور إن كان مما لم يثبت اعتباره إلا من جهة دليل الانسداد المعروف بين المتأخرين لإثبات حجية الظن المطلق فلا إشكال في جواز ترك تحصيله و الأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقف على حكي عنهما ذلك في مسألة اجتزاء المسافر بصلاته لو أتم جاهلا بوجوب القصر عليه،فعن الذكرى:«إن السيد الرضي سأل أخاه المرتضى قدّس سرّه فقال:
إن الإجماع واقع على أن من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية،و الجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية.
فأجاب المرتضى عنه بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل،و إن كان الجاهل غير معذور...»و نحوه في الروض.و لا يبعد أن لا يكون مرادهما بالجاهل هو الجاهل المحتاط بالواقع،الذي هو محل الكلام،بل الذي يكون جهله مركبا و يأتي بخلاف الواقع لاعتقاده وجوبه،فيرجع إلى انكار التصويب و إثبات التخطئة الذي هو مذهب الشيعة،و يكون أجنبيا عما نحن فيه جدا.
لم يتضح الوجه في عدم الإشكال،فإنه إن قيل باعتبار نية الوجه و التمييز مع التمكن لزم المحافظة عليه مع الظن الانسدادي-لو قيل بحجيته في تعيين التكليف كما هو مبنى الكشف الذي يظهر كونه محل الكلام للمصنف هنا لسياقه مساق الظن الخاص-سواء لزم التكرار أم لا،و إلا فلا وجه لاعتبار الجزم حتى مع-
ص: 76
التكرار.
و العجب ممن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق،ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد و الأخذ بالاحتياط، و لعل الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه .
و لإبطال هذه الشبهة،و إثبات صحة عبادة المحتاط محل آخر .
و أما لو توقف الاحتياط على التكرار،ففي جواز الأخذ به و ترك تحصيل الظن بتعيين المكلف به أو عدم الجواز،وجهان:
-إمكان العلم التفصيلي.
نعم قد يدعى قصور دليل اعتباره عن صورة الظن الانسدادي.لكنه لو تمّ فليس بنحو يصلح لدعوى عدم الإشكال،و لا للتعجب ممن يذهب إلى عدم جواز الاحتياط.
هذا و سيأتي منه قدّس سرّه في مبحث الانسداد جهة خصوصيته،و يأتى الكلام فيها.
الظاهر أنها عمدة الدليل في المقام حتى فيما لزم التكرار،لما عرفت من الإشكال في الإجماع.
يأتي منه قدّس سرّه بعض الكلام في دليل الانسداد في دفع الشبهة المذكورة قال هناك:«إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل في الأدلة في إطلاقات العبادة،و في سيرة المسلمين،و سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام،مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العلمية.
و لذا ذكر المحقق قدّس سرّه-كما في المدارك في باب الوضوء-أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الغسل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري».
ص: 77
من أن العمل بالظن المطلق لم يثبت إلا جوازه و عدم وجوب تقديم الاحتياط عليه،أما تقديمه على الاحتياط فلم يدل عليه دليل .
و من أن الظاهر أن تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكمية مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعي-و لو كان هو الظن المطلق-خلاف السيرة المستمرة بين العلماء ،مع أن جواز العمل بالظن إجماعي، فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه و اعتبار الاعتقاد التفصيلي في الامتثال.
و الحاصل:أن الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي و لو كان ظنا،و بين تحصيل العلم بتحقق الإطاعة و لو إجمالا،فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي يكون الثاني مقدما على الأول في مقام الإطاعة بحكم وجه جواز الاحتياط بالتكرار و ترك العمل بالظن.
يكفي في الدليل عليه ما يذكر في العلم التفصيلي و الظن الخاص بناء على حجيته مثلهما،إذا الفرق بينه و بينهما بعيد.و لا سيما بناء على أن الأصل يقتضي الاحتياط،كما يظهر من كلامه الآتي.
وجه عدم جواز الاحتياط بالتكرار و لزوم العمل بالظن.
لكن في تماميتها بنحو تقتضى المنع إشكال أو منع،خصوصا بناء على أن الوجه فيها هو القول باعتبار نية الوجه الذي سبق الكلام فيه منه قدّس سرّه.
بناء على أن مقتضى الأصل الاحتياط،لا البراءة،و سيأتي الكلام فيه.
يعني:و لو كان ظنيا.
يعني:بنحو الأولوية لا بنحو اللزوم،إذ لا شك في جواز العمل بالظن الانسدادي،و الكلام هنا بعد الفراغ عن ذلك.
ص: 78
العقل و العقلاء.لكن بعد العلم بجواز الأول و الشك في جواز الثاني في الشرعيات من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك،و إطلاقهم اعتبار نية الوجه فالأحوط ترك ذلك،و إن لم يكن واجبا،لأن نية الوجه لو قلنا باعتبارها فلا نسلمه إلا مع العلم بالوجه أو الظن الخاص،لا الظن المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلا بعدم وجوب الاحتياط،لا بعدم جوازه ،فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط ؟!.
و أما لو كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص،فالظاهر أن تقديمه التعليل المذكور إنما ينفع في عدم وجوب الاحتياط بناء على أن الأصل لا يقتضي وجوب الاحتياط،و إلا تعيّن وجوب الاحتياط لمجرد الشك في اعتبار نية الوجه،كما سينبه إليه عند الكلام في الظن الخاص.
فإنه يأتي أن مقتضى الأصل مع الانسداد هو الاحتياط،إلا أنه لا يجب لاستلزامه العسر،بل يحرم لو استلزم اختلال النظام،و حيث إن المفروض في المقام عدم لزوم الاختلال،فلا يكون حراما،بل غاية الأمر أنه لا يجب.
لا مانع من تقديمه إذا كان من جهة قيام الدليل على اعتبار نية الوجه أو احتماله،بناء على لزوم الاحتياط مع الاحتمال المذكور،ضرورة أن مقتضى دليل الانسداد و إن كان عدم وجوب الاحتياط لا عدم جوازه،إلا أن ذلك بالنسبة إلى الاحتياط من حيث هو،فلا ينافي المنع عنه في خصوص العبادة من جهة نية الوجه.
فالتفريق بين الظن الانسدادى و غيره مما لم يتضح وجهه.
نعم لو قلنا بأن مفاد دليل الانسداد لزوم العمل بالظن في مقام الامتثال -كما هو مبنى الحكومة-لا في تعيين التكليف-كما هو مبنى الكشف-لم يكن الظن المذكور موجبا للقدرة على نية الوجه و تعين الالتزام بجواز الاحتياط،لتعذر نية الوجه.
ص: 79
على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبني على اعتبار قصد الوجه، و حيث قد رجحنا في مقامه عدم اعتبار نية الوجه،فالأقوى جواز ترك تحصيل الظن و الأخذ بالاحتياط.و من هنا يترجح القول بصحة عبادة المقلد إذا أخذ بالاحتياط و ترك التقليد،إلا أنه خلاف الاحتياط ،من جهة وجود القول بالمنع من جماعة.
و إن توقف الاحتياط على التكرار فالظاهر أيضا جواز التكرار،بل أولويته على الأخذ بالظن الخاص،لما تقدم من أن تحصيل الواقع بطريق العلم،و لو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظني به و لو كان تفصيلا.
و أدلة الظنون الخاصة إنما دلت على كفايتها عن الواقع،لا تعيين العمل بها في مقام الامتثال .
إلا أن شبهة اعتبار نية الوجه كما هو قول جماعة،بل المشهور بين المتأخرين جعل الاحتياط في خلاف ذلك،مضافا إلى ما عرفت من مخالفة يعني:الاستحبابي،لما سبق منه.
نعم بناء على أن مقتضى الأصل في ذلك هو الاحتياط-كما سيأتي منه-يتعين كونه لزوميا،كما أشرنا إليه آنفا.
دفع دخل،أما الدخل:فهو أن العمل بالاحتياط و ترك الظنون الخاصة ينافي أدلة تلك الظنون،لظهورها في لزوم العمل عليها و تعيّنها.
و أما الدفع:فهو أن تلك الأدلة لا تقتضي إلا كفايتها عن الواقع بحيث يجوز الاعتماد عليها في مقام الامتثال لا لزوم العمل عليها،بنحو لا يجزى معه سلوك طريق الاحتياط الموصل للواقع قطعا.
و يأتي التعرض لذلك أيضا في أوائل مبحث الظن إن شاء اللّه تعالى.
ص: 80
التكرار للسيرة المستمرة.
مع إمكان أن يقال:إنه إذا شك-بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبد بالمأمور به،لا حصوله بأي وجه اتفق -في أن الداعي هو التعبد بإيجاده و لو في ضمن أمرين أو أزيد،أو التعبد بخصوصه متميزا عن غيره، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلا بالثاني،و هذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يدفع بإطلاقه،كما لا يخفى.
و حينئذ فلا ينبغي،بل لا يجوز ترك الاحتياط في جميع موارد إرادة لفرض كون الواجب تعبديا لا توصليا.
بناء على امتناع التقييد بقصد التقرب،و نحوه مما هو من شئون الأمر.
لكن الظاهر رجوعه إلى التقييد لبّا،فينفى بالإطلاق،بل لو فرض قصور الإطلاق اللفظي كفى الإطلاق المقامي الظاهر في التحويل في كيفية الإطاعة إلى العرف الحاكم بتحقق الإطاعة فيما نحن فيه-كما اعترف به المصنف قدّس سرّه بل يكفي الرجوع إلى الأصل العملي المقتضي للبراءة،لرجوعه إلى احتمال زيادة التكليف،لأنه في الحقيقة تقييد في المأمور به،لا في كيفية الإطاعة،إذ ليس معنى الإطاعة عقلا إلا موافقة المأمور به،و ليس هو مما يقبل التصرف الشرعي،و إنما يتصرف الشارع فيما هو من شئون التكليف نفسه.و تمام الكلام في مبحث التعبدي و التوصلي.
ثم إن لازم ما ذكره المصنف قدّس سرّه عدم الفرق بين لزوم التكرار و عدمه.لأن نية الوجه فيما لا يلزم فيه التكرار و إن لم يقم الدليل عليها،إلا أنه لا يقطع بعدم اعتبارها بعد ذهاب جماعة إلى ذلك،كما لا يخفى.كما لا يفرق فيه أيضا بين الظن الخاص و المطلق الذي استفيدت حجيته بدليل الانسداد،كما نبهنا عليه آنفا،و أشار إليه فيما يأتي بقوله:«بأعمال الظنون الخاصة أو المطلقة».فلاحظ.
ص: 81
التكرار بتحصيل الواقع أولا بظنه المعتبر،من التقليد أو الاجتهاد بإعمال الظنون الخاصة أو المطلقة،و إتيان الواجب مع نية الوجه،ثم الإتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.
و توهم:أن هذا قد يخالف الاحتياط،من جهة احتمال كون الواجب ما أتى به بقصد القربة ،فيكون قد أخل فيه بنية الوجوب.
مدفوع:بأن هذا المقدار من المخالفة للاحتياط مما لا بد منه،إذ لو أتى به بنية الوجوب كان فاسدا قطعا،لعدم وجوبه ظاهرا على المكلف بعد فرض الإتيان بما وجب عليه في ظنه المعتبر.
متعلق بقوله:«الاحتياط»و بيان لكيفيته.
يكفي في الاحتياط المذكور تحصيل الظن و العمل بمؤداه جازما بالنية، و لا يلزم تقديمه على الاحتمال الثاني،إذ لا خصوصية للتقديم،لإمكان الجزم المذكور مع التأخير.
نعم لا بد فيه من الفحص عن مقتضى الدليل الظني،كما لا يخفى.
يعني المحتمل الآخر غير المظنون،الذي لا مجال للإتيان فيه بنية الوجوب بعد قيام الحجة على عدم وجوبه.
فيكون تشريعا محرما لا يمكن التقرب به.ثم إنه لا فرق في كونه تشريعا و في امتناع التقرب به بين الإتيان بالطرف الآخر الذي قام الظن المعتبر على وجوبه و عدمه،بل يكفي قيام الطريق على عدم حجيته و إن لم يعمل بمقتضاه.بل يكفي في كونه تشريعا عدم قيام الحجة على وجوبه بلا حاجة إلى قيام الحجة على عدم وجوبه،إذ التشريع عبارة عن إدخال ما لا يعلم كونه من الدين في الدين.و منه يظهر الإشكال في قوله قدّس سرّه:«بعد فرض الإتيان...».فلاحظ.
ص: 82
و إن شئت قلت:إن نية الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط إجماعا حتى من القائلين باعتبار نية الوجه ،لأن لازم قولهم باعتبار نية الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعية الاحتياط و كونه لغوا،و لا أظن أحدا يلتزم بذلك،عدا السيد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغنية في رد الاستدلال على كون الأمر للوجوب بأنه أحوط ،و سيأتي ذكره عند العمدة فيه ما أشرنا إليه في صدر المسألة،و يأتي منه قدّس سرّه في مبحث الانسداد و غيره،من أن القائل باعتبار نية الوجه إنما يقول به مع إمكان تحصيلها،لا مع تعذره،كما في المقام،لأن المحتمل الآخر بعد فرض قيام الدليل على عدم وجوبه لا مجال للإتيان به بنية الوجه حتى لو كان هو الواجب واقعا،فالمقام نظير ما لو تعذر الفحص،حيث لا إشكال بينهم في مشروعية الاحتياط و سقوط نية الوجه.على أنه لو فرض احتمال اعتبارها فلا يمنع من الإتيان،بما يحتمل في وجوبه في المقام برجاء تحصيل الواقع به لاحتمال عدم اعتبار نية الوجه.
نعم لو علم باعتبار نية الوجه تعذر الاحتياط المذكور.لكن لا مجال للعلم بذلك قطعا.
قال السيد في الغنية:-«و قولهم:إن ذلك-يعني:الوجوب-أحوط للدين،غير صحيح،بل هو ضد الاحتياط،لأنه يؤدي إلى أفعال قبيحة منها:اعتقاد وجوب الفعل.
و منها:العزم على أدائه على هذا الوجه.و منها:اعتقاد قبح تركه،و ربما كره هذا الترك.و كل ذلك قبيح،لأن من أقدم عليه يجوز قبحه،لتجوز كون المأمور به غير واجب،و الإقدام على ما لا يؤمن قبحه في القبح كالإقدام على ما يقطع على ذلك فيه».
و هذا الكلام أجنبي عما ذكره المصنف قدّس سرّه جدا،فإن ردّه قدّس سرّه للاستدلال بالاحتياط ليس لعدم كونه مشروعا عنده،بل لأنه لا يلازم البناء على دلالة الصيغة-
ص: 83
الكلام على الاحتياط في طيّ مقدمات دليل الانسداد.
-على الوجوب،كما هو المدعى في الاستدلال.و لعله قدّس سرّه اطلع على كلام له آخر لم نوفق للاطلاع عليه.
ص: 84
أما المقام الأول و هو كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف، و اعتباره كالتفصيلي،فقد عرفت:أن الكلام في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعية و عدم كفاية الموافقة الاحتمالية راجع إلى مسألة البراءة و الاحتياط،و المقصود هنا بيان اعتباره في الجملة،الذي أقل مراتبه حرمة المخالفة القطعية،فنقول:
إن للعلم الإجمالي صورا كثيرة،لأن الإجمال الطارئ:
إما من جهة متعلق الحكم مع تبين نفس الحكم تفصيلا،كما لو شككنا أن حكم الوجوب في يوم الجمعة متعلق بالظهر أو الجمعة،و حكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك .
و إما من جهة نفس الحكم مع تبين موضوعه،كما لو شك في أن هذا كما في اشتباه الخمر بين إناءين.
ص: 85
الموضوع المعلوم الكلي أو الجزئي تعلق به الوجوب أو الحرمة.
و إما من جهة الحكم و المتعلق جميعا،مثل أن نعلم أن حكما من الوجوب و التحريم تعلق بأحد هذين الموضوعين.
ثم الاشتباه في كل من الثلاثة:
إما من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع،كما في مثال الظهر و الجمعة.
و إما من جهة اشتباه مصاديق متعلق ذلك الخطاب،كما في المثال الثاني .
كردّ السلام في الصلاة.
كالصوم في يوم الشك في آخر شهر رمضان.
و هو تردد الحرمة بين هذا الموضوع الخارجي أو ذاك،الذي سبق التمثيل له باشتباه الخمر بين إناءين.
و هذان المثالان للقسم الأول،الذي يكون فيه التردد في متعلق الحكم مع العلم بنفس الحكم،و هو الوجوب أو الحرمة.
و اما مثالا القسم الثاني و هو الذي يكون فيه التردد في نفس الحكم مع العلم بمتعلق الحكم فقد سبق منا ذكرهما،و هما ردّ السلام في الصلاة و صوم يوم الشك.
و أما القسم الثالث و هو الذي يكون فيه التردد في الحكم و المتعلق معا،فمثال الشبهة الحكمية فيه التي ترجع إلى اشتباه الخطاب الصادر من الشارع لا يتيسر لنا عاجلا فرضه،و إن كان ممكنا قطعا.
و أما الشبهة الموضوعية فكما لو علم المكلف اجمالا بأنه حلف إما على وطء جاريته الكبرى في يوم الجمعة أو على ترك وطئها فيه،و اشتبهت الكبرى بين جاريتين-
ص: 86
و الاشتباه في هذا القسم :إما في المكلف به،كما في الشبهة المحصورة،و إما في المكلف.
و طرفا الشبهة في المكلف:إما أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد، كما في الخنثى ،و إما أن يكونا احتمالين في مخاطبين،كما في واجدي المني في الثوب المشترك.
و لا بد قبل التعرض لبيان حكم الأقسام من التعرض لأمرين:
أحدهما:أنك قد عرفت في أول مسألة اعتبار العلم:أن اعتباره قد يكون من باب محض الكشف و الطريقية،و قد يكون من باب الموضوعية بجعل الشارع.
و الكلام هنا في الأول،إذ اعتبار العلم الإجمالي و عدمه في الثاني تابع لدلالة ما دلّ على جعله موضوعا،فإن دل على كون العلم التفصيلي داخلا -طويلة و قصيرة حيث يعلم إجمالا،إما بوجوب وطء الطويلة و حرمة القصيرة أو بحرمة وطء الطويلة و وجوب وطء القصيرة.
يعني:الذي يكون ناشئا من اشتباه مصاديق متعلق الخطاب الشرعي.
الظاهر أن الاشتباه في الخنثى،كاشتباه حال الرجل بين كونه مسافرا أو حاضرا،فهو اشتباه في المكلف به بسبب اشتباه حال المكلف،فلا ينبغي جعله قسما مقابلا للشك في المكلف به.
اللهم إلا أن يكون الوجه في المقابلة أن المراد من الشك في المكلف به هو الذي يكون منشأ الشك فيه هو إجمال المكلف به و اشتباهه مع عدم الاشتباه في بقية الجهات،و المراد من الشك في المكلف هو الذي يكون منشأ الشك فيه هو إجمال المكلف و اشتباهه مع عدم الاشتباه في بقية الجهات.فلاحظ.
ص: 87
في الموضوع كما لو فرضنا أن الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب إلا عما علم تفصيلا نجاسته،فلا إشكال في عدم اعتبار العلم الإجمالي بالنجاسة .
الثاني:أنه إذا تولد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد،وجب اتباعه و حرمت مخالفته لما تقدم،من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاص،فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث،أو بواحد مردد بين الحدث و الاستدبار،أو بين ترك ركن و فعل مبطل،أو بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه و فقد شرط من شرائط صلاة إمامه،بناء على اعتبار وجود شرائط الإمام في علم المأموم ،إلى غير ذلك.
و بالجملة:فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي و بين غيره من العلوم التفصيلية.
إلا أنه قد وقع في الشرع موارد يتوهم خلاف ذلك:
منها:ما حكم به بعض فيما إذا اختلفت الأمة على قولين و لم يكن مع أحدهما دليل من أنه يطرح القولان و يرجع إلى مقتضى الأصل،فإن و الكلام في ذلك من وظيفة الفقيه،لكون المسألة فرعية.
كان الأولى أن يقول:بناء على اعتبار شرائط صحة صلاة الإمام في صحة صلاة المأموم،إذ ذكر علم المأموم قد يوهم كونه موضوعيا.و كيف كان فقد يقال بأنه يكفي في صحة صلاة المأموم واقعا إحراز الإمام للشرائط و إن لم تكن موجودة و علم المأموم بعدم وجودها تفصيلا.و حينئذ لا مجال في الفرض لعلم المأموم ببطلان صلاته.
بيان لقوله:«ما حكم...».
ص: 88
إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعي المعلوم وجوده بين القولين ،بل ظاهر كلام الشيخ رحمه اللّه القائل بالتخيير،هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم اللّه الواقعي في الواقعة.
و منها:حكم بعض بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا،فإنه قد يؤدي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة،كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية،فإنا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية،لكون بعض ثمنها ميتة،فنعلم تفصيلا بحرمة وطئها، مع أن القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراج هذه الصورة.
و منها:حكم بعض بصحة ائتمام أحد واجدي المني في الثوب المشترك بينهما بالآخر،مع أن المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من جهة حدثه أو حدث أمامه .
و منها:حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان،بحيث يعلم صدق أحدهما و كذب الآخر ،فإن لازم ذلك جواز شراء ثالث كما لو كان القولان هما الوجوب و الاستحباب،و كان مقتضى الأصل الحرمة.
يعني:بحيث يكون الحكم الواقعي هو التخيير.أما التخيير الظاهري فهو عبارة عن التخيير في مقام العمل مع بقاء الواقع على ما هو عليه.
العلم المذكور مبني على ما سبق من كون شرائط صحة صلاة الإمام معتبرة في صحة صلاة المأموم.
إذ لو احتمل كذبهما لكونها مشتركة بينهما لم يكن الحكم بالتنصيف موجبا للعلم التفصيلي بالمخالفة.
ص: 89
للنصفين من كل منهما،مع أنه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.
و منها:حكمهم فيما لو كان لأحد درهم و لآخر درهمان،فتلف أحد الدراهم من عند الودعي:أن لصاحب الاثنين واحدا و نصفا و للآخر نصفا،فإنه قد يتفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيلية،كما لو أخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث،فإنه يعلم تفصيلا بعدم انتقاله من مالكه الواقعي إليه.
و منها:ما لو أقر بعين لشخص ثم أقر بها لآخر،فإنه يغرم للثاني قيمة العين بعد دفعها إلى الأول،فإنه قد يؤدي ذلك إلى اجتماع العين و القيمة عند واحد و بيعهما بثمن واحد،فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه،لكون بعض مثمنه مال المقرّ في الواقع.
و منها:الحكم بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه أو مثمنه على وجه يقضى فيه بالتحالف،كما لو اختلفا في كون المبيع بالثمن المعين عبدا أو جارية،فإن رد الثمن إلى المشتري بعد التحالف مخالف للعلم التفصيلي بصيرورته ملك البائع ثمنا للعبد أو الجارية.و كذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعينة عشرة دنانير أو مائة درهم،فإن الحكم برد الجارية مخالف بيان لقوله:«حكمهم فيما...».
إذا اجتمعت العين و القيمة عند واحد منهما يعلم تفصيلا بعدم ملكه للقيمة بخصوصها،و ذلك كاف في المطلوب بلا حاجة إلى بيعهما بثمن واحد.
نعم إذا اجتمعتا عند شخص ثالث توقف مخالفة العلم التفصيلي على بيعهما بثمن واحد كما ذكره المصنف قدّس سرّه.
ص: 90
للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري.
و منها:حكم بعضهم فيما لو قال أحدهما:بعتك الجارية بمائة،و قال الآخر:وهبتني إياها:أنهما يتحالفان و ترد الجارية إلى صاحبها،مع أنا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى الآخر.
إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.
فلا بد في هذه الموارد من التزام أحد أمور على سبيل منع الخلوّ:
أحدها:كون العلم التفصيلي في كل من أطراف الشبهة موضوعا للحكم،بأن يقال:إن الواجب الاجتناب عما علم كونه بالخصوص بولا، فالمشتبهان طاهران في الواقع.و كذا المانع للصلاة الحدث المعلوم صدوره تفصيلا من مكلف خاص،فالمأموم و الإمام متطهران في الواقع.
الثاني:أن الحكم الظاهري في حق كل أحد نافذ واقعا في حق الآخر ،بأن يقال:إنّ من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه،فللآخر أن يرتب عليها آثار الصحة الواقعية،فيجوز له الائتمام به.
و كذا من حل له أخذ الدار ممن وصل إليه نصفه،إذا لم يعلم كذبه فيكون حكما واقعيا ثانويا،و الفرق بينه و بين الأول أنه على الأول لا تترتب الآثار واقعا على الواقع مع عدم العلم التفصيلي به،فعدم ترتبها مع العلم الإجمالي لعدم الموضوع لا لعدم حجية العلم الإجمالي.
و على الثاني تترتب الآثار على الواقع لو ابتلى به من غير جهة الحكم الظاهري الجاري في حق الآخر.و يختص عدم ترتيب أثر الواقع بها إذا ابتلى به من جهة الحكم الظاهري المذكور الرافع لفعلية الحكم الواقعي.
يعني:إذا لم يعلم المدعي كذبه في دعواه و تعمده للكذب،إذ لو كان عالما-
ص: 91
في الدعوى بأن استند إلى بينة،أو إقرار،أو اعتقاد من القرائن فإنه يملك هذا النصف في الواقع،و كذلك إذا اشترى النصف الآخر،فيثبت ملكه للنصفين في الواقع.و كذا الأخذ ممن وصل إليه نصف الدرهم في مسألة الصلح ،و كذا في مسألتي التحالف .
الثالث:أن يلتزم:بتقييد الأحكام المذكورة بما إذا لم يفض إلى العلم التفصيلي بالمخالفة،و المنع مما يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلا،كمسألة -بكونه كاذبا في الدعوى فلا حكم ظاهري في حقه،حتى ينفذ في حق غيره.
هذا و لو شك الآخذ حينئذ في كون المدعي الذي أخذ منه عالما بكذب دعواه كان له البناء على عدم ذلك حملا له على الصحة.
يعني:في مسألة تلف الدرهم عند الودعي،و لم يظهر الوجه في تسميتها بمسألة الصلح،إلا أن يدعى أن أخذ كل منهما لنصف الدرهم راجع إلى الصلح الظاهري فتأمل.ثم إن جريان الوجه المذكور في هذه المسألة موقوف على عدم علم أحدهما بكون التالف هو درهمه،و إلا كان عالما بكون أخذه للنصف بلا حق فلا حكم ظاهري في حقه حتى ينفذ في حق الآخذ منه.
و هما مسألة اختلاف المتبايعين في تعيين الثمن أو المثمن.و مسألة الاختلاف في البيع أو الهبة.لكن لا مجال فيهما للوجه المذكور،إذ الإشكال فيهما إنما هو في أخذ الشخص ما يعلم بخروجه عن ملكه بسبب العقد المختلف في تعيينه، و لا حكم ظاهري في المقام في حق غيره حتى يقال بجواز اعتماده عليه في عمل نفسه، كما لا يخفى.
فكان الأولى للمصنف قدّس سرّه أن يذكر مسألة الإقرار،لاعتماد كل من المقر لهما على حجة ظاهرية و هي الاقرار.فيمكن دعوى نفوذ حكمهما الظاهري على الآخذ منهما.
ص: 92
اختلاف الأمة على قولين.
و حمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصا شرعيا قهريا عما يدعيه من الثمن ،أو انفساخ البيع بالتحالف من أصله، لا يخفى أن المسألتين المذكورتين لما كانتا مختصتين بصور العلم التفصيلي فلا مجال لتقييدهما بما إذا لم يفض العمل فيهما إلى مخالفة العلم التفصيلي،كما هو مبنى هذا الوجه.كما سبق أنه لا مجال لجريان الوجه الثاني فيهما أيضا.
و كذا الوجه الأول،لعدم ابتناء العلم التفصيلي فيهما على علم إجمالي بل هو حاصل ابتداء بمجرد إرجاع العين إلى صاحبها الأول،فهما في الحقيقة خارجان عما نحن فيه،إذا الكلام في العلم التفصيلي الناشئ من العلم الإجمالي.
و الحاصل:إنه لا مجال لشيء من الوجوه الثلاثة في المسألتين المذكورتين،بل يتعين فيها وجوه أخر تعرض المصنف قدّس سرّه لبعضها في كلامه الآتي.
ثم إنه لما كانت مسألة التحالف الثانية هي مسألة الاختلاف في كون العقد بيعا أو هبة فقوله قدّس سرّه:«و حمل أخذ المبيع...»لا يخلو من تسامح،إذ لا معنى لفرض كون العين المسترجعة مبيعة مع فرض الاختلاف في بيعها و احتمال كونها هبة،و إنما يتم ذلك في مسألة اختلاف تعيين الثمن أو المثمن لا غير،و لا يبعد ابتناء ذلك منه قدّس سرّه على التغليب.
كان الأولى أن يقول:عن الثمن الواقعي المردد،أو المثمن الواقعي المردد، للعلم باشتمال البيع على الثمن و المثمن بلا حاجة إلى الدعوى.كما أنه لا للخصوصية المدعاة بعد فرض عدم ثبوت الدعوى حتى يحكم له بحق المقاصة.و منه يظهر أن هذا الوجه لا يجري في المسألة الثانية،و هي مسألة الاختلاف في كون العقد بيعا أو هبة، لعدم ثبوت دعوى البيع حتى يثبت الثمن و يثبت لمالكه حق المقاصة.اللهم إلا أن يكون ذلك بلحاظ حكم نفسه لفرض اعتقاده بما يدعيه فله ترتيب الأثر عليه.فلاحظ.
و كذا انفساخ العقد الواقعي المردد بين البيع و الهبة.
ص: 93
أو من حينه.
و كون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهرية .
و عليك بالتأمل في دفع الإشكال عن كل مورد بأحد الأمور المذكورة،فإن اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي و حرمة مخالفته مما لا يقبل التخصيص بإجماع أو نحوه.
إذا عرفت هذا،فلنعد إلى حكم مخالفة العلم الإجمالي،فنقول:مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال يتصور على وجهين:
أحدهما:مخالفته من حيث الالتزام،كالالتزام بإباحة وطء المرأة المرددة بين من حرم وطؤها بالحلف و من وجب وطؤها به مع اتحاد زماني الوجوب و الحرمة ،و كالالتزام بإباحة موضوع كلي مردد أمره بين الوجوب و التحريم مع عدم كون أحدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال ،فإن المخالفة في المثالين ليست من حيث العمل،لأنه لا يخلو لعل الأولى أن يلتزم بالتنصيف بنحو الجعل الشرعي القهري،لا بنحو المصالحة إذ فرض المصالحة مع القهر لا يخلو عن إشكال.
اللهم إلا أن يريد إيقاع العقد من طرف الحاكم او الودعي بين الشخصين بإثبات الولاية لهما عليهما في ذلك.ثم إنك عرفت أن مسألة الودعي يمكن التخلص عن الإشكال فيها بالوجه الثاني و الثالث،و لا يتوقف على هذا الوجه.فلاحظ.
أما لو اختلفا،كما لو كان زمان الوجوب المحتمل يوم الخميس،و زمان الحرمة المحتملة يوم السبت،أمكنت المخالفة القطعية بالوطء يوم السبت و تركه يوم الجمعة،كما تمكن الموافقة القطعية بعكس ذلك.
أما لو كان تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال فيمكن فرض المخالفة القطعية-
ص: 94
من الفعل الموافق للوجوب أو الترك الموافق للحرمة،فلا قطع بالمخالفة إلا من حيث الالتزام بإباحة الفعل.
الثاني:مخالفته من حيث العمل،كترك الأمرين اللذين يعلم بوجوب أحدهما،و ارتكاب فعلين يعلم بحرمة أحدهما،فإن المخالفة هنا من حيث العمل:
و بعد ذلك نقول:
أما المخالفة الغير العملية،فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعية و الحكمية معا،سواء كان الاشتباه و الترديد بين حكمين لموضوع واحد كالمثالين المتقدمين،أو بين حكمين لموضوعين،كطهارة البدن و بقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمائع مردد بين الماء و البول.
أما في الشبهة الموضوعية،فلأن الأصل في الشبهة الموضوعية إنما يخرج مجراه عن موضوع التكليفين ،فيقال:الأصل عدم تعلق الحلف -كما لو تردد الأمر بين وجوب الصدقة على زيد و حرمة تمليكه المال،بنحو الشبهة الحكمية فإنه لو ملك المال هبة بلا قصد القربة يعلم بالمخالفة لكلا المتحملين.و هذا بخلاف ما لو اعتبر التقرب فيهما أو في أحدهما المردد،أو لم يعتبر التقرب فيهما معا فإن المخالفة القطعية غير ممكنة أيضا.
يعني:فلا يكون في الالتزام بخلافهما رد للحكم الشرعي،و لا تشريع في قباله إذ الادعاء المخالف للواقع في الموضوع لا في الحكم الشرعي،فلا يلزم من جريان الأصول الموضوعية إلا الالتزام في الموضوع على خلاف الواقع إجمالا،لا طرح الحكم الشرعي.
لكن هذا إنما يتم فيما إذا كان التمسك في الشبهة الموضوعية بالأصل-
ص: 95
بوطء هذه،و عدم تعلق الحلف بترك وطئها،فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمي التحريم و الوجوب،فيحكم بالإباحة لأجل الخروج عن موضوع الوجوب و الحرمة،لا لأجل طرحهما.و كذا الكلام في الحكم بطهارة البدن و بقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردد .
و أما الشبهة الحكمية،فلأن الأصول الجارية فيها و إن لم يخرج مجراها عن موضوع الحكم الواقعي،بل كانت منافية لنفس الحكم كأصالة الإباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة،فإن الأصول في هذه منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا،لا مخرجة عن موضوعه إلا أن الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتب عليه أثر إلا وجوب الإطاعة و حرمة -الموضوعي،أما لو أريد التمسك بالأصل الحكمي ابتداء لعدم جريان الأصل الموضوعي،للجهل بالتاريخ و نحوه،فالكلام هو الكلام في الشبهات الحكمية.
فإنه ناش من أصالة عدم ملاقاة البدن للنجس،و أصالة عدم الغسل بالماء.
ثم إنه تقدم من المصنف قدّس سرّه تقييد الوضوء في الفرض بما إذا وقع غفلة عن حال المائع.و كأنه لأنه مع الالتفات إلى حاله يمتنع الوضوء به،لعدم تأتي قصد القربة.
و فيه:أنه يمكن تحققه رجاء لاحتمال كونه ماء بناء على ما هو التحقيق من عدم وجوب الجزم بالامتثال.بل قد يمتنع جريان استصحاب عدم الغسل مع الغفلة،لجريان قاعدة الفراغ في الوضوء لو فرض تجدد الشك بعد الفراغ منه فيخرج عما نحن فيه.
نعم لو فرض تحقق الشك المذكور قبل الوضوء ثم غفل و توضأ بالمائع و التفت بعد ذلك لم يبعد عدم جريان قاعدة الفراغ في الوضوء،على كلام.فلاحظ.
ص: 96
المعصية ،و المفروض أنه لا يلزم من إعمال الأصول مخالفة عملية له لتحقق المعصية.
و وجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت،لأن الالتزام بالأحكام الفرعية إنما يجب مقدمة للعمل،و ليست كالأصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام و الاعتقاد من حيث الذات.
و لو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي،لم ينفع،لأن الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي، فهي-كالأصول في الشبهة الموضوعية-مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم،أعني:وجوب الأخذ بحكم اللّه.
هذا،و لكن التحقيق:أنه لو ثبت هذا التكليف-أعني:وجوب الأخذ بحكم اللّه و الالتزام به مع قطع النظر عن العمل-لم تجر الأصول، لكونها موجبة للمخالفة العملية للخطاب التفصيلي أعني:وجوب الالتزام بحكم اللّه،و هو غير جائز حتى في الشبهة الموضوعية،كما سيجيء،فيخرج عن المخالفة الغير العملية.
يعني:الراجعين إلى مقام العمل.
يعني:للحكم الواقعي.لكن من الظاهر أنه لا تلزم مخالفة قطعية،أما المخالفة الواقعية فهى محتملة.نعم لا مجال للتخلص منها جرت الأصول أو لم تجر فلا أثر لها.
فإن المخالفة و إن كانت بملاك أنه ليس هناك حكم واقعي،إلا أنه بسبب العلم الإجمالي بوجود الحكم الواقعي يلزم من جريان الأصول مخالفة لوجوب الالتزام به،فيمتنع جريان الأصول لذلك.
ص: 97
فالحق:منع فرض قيام الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به.
فالتحقيق:أن طرح الحكم الواقعي و لو كان معلوما تفصيلا ليس محرما إلا من حيث كونها معصية دل العقل على قبحها و استحقاق العقاب بها،فإذا فرض العلم تفصيلا بوجوب الشيء فلم يلتزم به المكلف إلا أنه فعله لا لداعي الوجوب،لم يكن عليه شيء.نعم،لو أخذ في ذلك الفعل نية القربة،فالإتيان به لا للوجوب مخالفة عملية و معصية لترك المأمور به ،و لذا قيدنا الوجوب و التحريم في صدر المسألة بغير ما علم كون أحدهما المعين تعبديا .
فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي،فإذا علم إجمالا بحكم مردد بين الحكمين،و فرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين علم بكون أحدهما حكم الشارع،و المفروض أيضا عدم مخالفته في العمل،فلا معصية هذا محل إشكال،بل لا بد من الالتزام به و لو إجمالا لأنه من شئون الالتزام بالشريعة المقدسة.أما عدم الالتزام به،أو الالتزام بعدمه فهو غير جائز،كما سيأتى الكلام فيه.
نعم لا يجب الإتيان بالفعل بداعي امتثاله إذا كان توصليا،و هذا أمر آخر غير وجوب الالتزام به.
يعني:بترك شرطه و هو التقرب،المتوقف على الالتزام بالحكم الشرعي.
هذا التقييد ليس ناشئا من وجوب الالتزام بالحكم الشرعي،بل من جهة إمكان المخالفة العملية القطعية مع كون أحدهما المعين تعبديا،كما سبق.فلاحظ.
ص: 98
و لا قبح،بل و كذلك لو فرضنا عدم جريان الأصل،لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيلي .
فملخص الكلام:أن المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ، و مخالفة الأحكام الفرعية إنما هي في العمل،و لا عبرة بالالتزام و عدمه.
و يمكن أن يقرر دليل الجواز بوجه أخصر،و هو:أنه لو وجب الالتزام:
فإن كان بأحدهما المعين واقعا فهو تكليف من غير بيان ،و لا يلتزمه أحد .
الذي لا يجري معه الأصل قطعا.نعم سبق منا الإشكال في ذلك.لكنه ليس لعدم جريان الأصل،بل لمنافاته للالتزام بالشريعة.
يعني:من حيثية العمل لكن الذي يرى وجوب الالتزام بالحكم لا يقول بأن في عدم الالتزام به مخالفة عملية له بل يقول بوجوب الالتزام به لأنه من شئون الالتزام بالشريعة المقدسة،كما أشرنا إليه.
كأنه لعدم قيام الدليل على ذلك.
أقول:إن كان منشأ ذلك عدم الدليل على تعيين الحكم حتى يلتزم به بتبع تعيينه،لأنه من شئون إطاعته.
ففيه:أن العلم الإجمالي بثبوت الحكم الواقعي يقتضي وجوب إطاعته تعيينا فالعمدة ما عرفت من أن المدعى ليس هو كون وجوب الالتزام من شئون إطاعة الحكم،بل هو حكم آخر ثابت لجهة أخرى،فاللازم النظر في تلك الجهة فلو فرض تماميتها كان العمل عليها ممتنعا في المقام لاستلزامه التشريع المحرم.فلاحظ.
لما عرفت من استلزامه التشريع المحرم.
ص: 99
و إن كان بأحدهما المخير فيه فهذا لا يمكن أن يثبت بذلك الخطاب الواقعي المجمل ،فلا بد له من خطاب آخر عقلي أو نقلي،و هو -مع أنه لا دليل عليه-غير معقول،لأن الغرض من هذا الخطاب المفروض كونه توصليا،حصول مضمونه-أعني:إيقاع الفعل أو الترك (تخييرا) و هو حاصل من دون الخطاب التخييري ،فيكون الخطاب طلبا للحاصل،و هو محال.
إلا أن يقال:إن المدعي للخطاب التخييري إنما يدعي ثبوته بأن يقصد منه التعبد بأحد الحكمين ،لا مجرد حصول مضمون أحد الخطابين الذي هو حاصل،فينحصر دفعه حينئذ بعدم الدليل .
لأن الخطاب بالحكم الواقعي يقتضي إطاعته بنفسه تعيينا،فإذا فرض كون إطاعته لا تتم إلا بالعمل و الالتزام كان مقتضاه هو الالتزام تعيينا لا تخييرا.
ثم إن المراد بالالتزام التخييري في ظاهر كلامه هو الالتزام بخصوص أحدهما مع تخيير المكلف في اختيار ما شاء منهما.
و هو الخطاب بالالتزام تخييرا.
لا يخفى أن إيقاع الفعل أو الترك تخييرا بنفسه ليس هو مضمون الخطاب المدعى،بل مضمونه وجوب الالتزام بأحد الحكمين تخييرا،و هو ليس حاصلا.
و كأنه إلى هذا أشار بقوله:«إلا أن يقال...».
لأن المكلف لا بد أن يفعل أو يترك،فالتخيير بين الفعل و الترك لغو و عبث.
يعني:الالتزام بثبوت أحدهما،لا كونه داعيا في مقام التعبد،فإنه مختص بالواجب التعبدي المقابل للتوصلي،و ليس هو محل الكلام هنا.فلاحظ.
و لا مجال للاحتياط مع عدم الدليل الخاص،لما يستلزمه من التشريع-
ص: 100
و أما وجوب الالتزام بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يثبت إلا الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ،لا الالتزام بأحدهما المخير،فافهم.
هذا و لكن الظاهر من جماعة من الأصحاب في مسألة الإجماع المركب إطلاق القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم علم عدم كونه -المحرم،فلا يجوز من دون تعبد خاص مخرج له عن التشريع إلى كونه مما أذن اللّه تعالى فيه.
الذي هو مقتضى الالتزام برسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التسليم لشريعته المقدسة.
فإن هذا كاف في التسليم برسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.هذا و لا يبعد كون هذا هو مراد القائل بوجوب الالتزام،لا أن مراده الالتزام باحدهما المعين أو المخير،كما سبق من المصنف قدّس سرّه و سبق الإشكال فيه،فإن هذا كاف في المنع من جريان الأصول،فإن الالتزام بأحد الحكمين على ما هو عليه ينافي الالتزام بعدمهما معا،الذي هو مقتضى الأصل.
فلعل الأولى أن يقال:إن مفاد الأصل ليس إلا الحكم العملي،فالالتزام بمؤداه يرجع إلى الالتزام بإذن الشارع في العمل على طبقه،لا إلى الالتزام بأنه الحكم الواقعي حتى ينافي الالتزام بالواقع على ما هو عليه.
و حينئذ فإن كان مؤدى الأصل حكما مخالفا للواقع كالإباحة لو فرض لم يجر الأصل،لقصور دليله عن صورة العلم بالخلاف،لا من جهة المخالفة الالتزامية، و إن لم يكن مؤداه معلوم الخطأ بل كان محتمل الخطأ جرى إذا كان موردا للعمل، حتى لو لزم مخالفة إجمالية من جريان أصلين،كما فيما نحن فيه لو أريد الرجوع إلى أصالة عدم الوجوب و أصالة عدم الحرمة،إذ كل منهما بنفسه داخل في عموم دليل الأصل بعد كون مؤداه محتملا.و العلم بمخالفة مؤداه للواقع لا يضر بعد عدم محذور في الالتزام بمؤدى الأصل،لكونه راجعا إلى الالتزام بالعمل لا بأنه الحكم الواقعي،كما ذكرنا.فتأمل جيدا.و اللّه سبحانه العالم.
يعني:حتى لو لم يلزم مخالفة عملية.
ص: 101
حكم الإمام عليه السّلام في الواقع ،و عليه بنوا عدم جواز الفصل فيما علم كون الفصل فيه طرحا لقول الإمام عليه السّلام.
نعم،صرح غير واحد من المعاصرين في تلك المسألة فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع،بجواز العمل بكليهما ، و قاسه بعضهم على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات.
لكن القياس في غير محله،لما تقدم:من أن الأصول في الموضوعات حاكمة على أدلة التكليف،فإن البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلق الحلف بترك وطئها،فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطء من حلف على ترك وطئها.و كذا الحكم بعدم لا محيص عن الالتزام بهذا،لأن الالتزام بالحكم المعلوم عدم كونه حكم الإمام عليه السّلام إن كان بمعنى الالتزام به على أنه الحكم الواقعي،فهو حرام لما فيه من تكذيب الرسالة و رد حكم الإمام عليه السّلام،و إن كان بمعنى الالتزام به على أنه الحكم العملي التعبدي فأدلة التعبد لا تشمل صورة العلم بالخطإ بخلاف التمسك بالأصلين المعلوم كذب أحدهما،فإنه لا قصور في دليل كل منهما بعد احتمال إصابته كما سبق.
و منه يظهر أن ما ذكره قدّس سرّه بقوله:«نعم صرح غير واحد من المعاصرين...» ليس من هذا السنخ،فلا ينبغي استدراكه عليه.فلاحظ.
عرفت أنه لا بأس به،و إن كان قياسه على المخالفة في الشبهة الموضوعية في غير محله.كما عرفت أنه لا مجال لقياسه على العلم التفصيلي بمخالفة الأصل الواحد للواقع.
سبق إن الحكومة مختصة بما إذا كان التمسك فيها بالأصول الموضوعية، لا الحكمية الجزئية.فراجع.
ص: 102
وجوب وطئها لأجل البناء على عدم الحلف على وطئها،فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطء من حلف على وطئها.و هذا بخلاف الشبهة الحكمية،فإن الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال، و ليس مخرجا لمجراه عن موضوعه،حتى لا ينافيه جعل الشارع.
لكن هذا المقدار من الفرق غير مجد،إذ اللازم من منافاة الأصول لنفس الحكم الواقعي،حتى مع العلم التفصيلي و معارضتها له،هو كون العمل بالأصول موجبا لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام،فإذا فرض جواز ذلك لأن العقل و النقل لم يدلا إلا على حرمة المخالفة العملية فليس الطرح من حيث الالتزام مانعا عن إجراء الأصول المتنافية في الواقع.
و لا يبعد حمل إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الإمام عليه السّلام في مسألة الإجماع،على طرحه من حيث العمل،إذ هو المسلّم المعروف من طرح قول الحجة،فراجع كلماتهم فيما إذا اختلفت الأمة على قولين و لم يكن مع أحدهما دليل،فإن ظاهر الشيخ رحمه اللّه الحكم بالتخيير الواقعي ،و ظاهر المنقول عن بعض طرحهما و الرجوع إلى الأصل، عرفت الإشكال في المعارضة.
عرفت أن ذلك لا يجوز،لكن العمل بالأصل المخالف للواقع لا يستلزمه.
يأتي التعرض لكلامه في مبحث الدوران بين الوجوب و الحرمة،و يأتى الإشكال في ظهوره فيما ذكره المصنف قدّس سرّه.
ص: 103
و لا ريب أن في كليهما طرحا للحكم الواقعي،لأن التخيير الواقعي كالأصل حكم ثالث.
نعم،ظاهرهم في مسألة«دوران الأمر بين الوجوب و التحريم»:
الاتفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة ،و إن اختلفوا بين قائل بالتخيير، و قائل بتعيين الأخذ بالحرمة.
و الإنصاف:أنه لا يخلو عن قوة ،لأن المخالفة العملية التي لا تلزم في المقام هي المخالفة دفعة و في واقعة،و أما المخالفة تدريجا و في واقعتين فهي لازمة البتة ،و العقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد و عمد،كذلك يحكم بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها من غير تعبد بحكم ظاهري عند كل واقعة ،و حينئذ فيجب إنما يكون الرجوع للأصل موجبا لطرح الحكم الواقعي إذا كان مخالفا لهما.
التي هي عبارة عن الحكم المقابل للأحكام الأربعة،أما لو كان المراد بها عدم الحرج في الفعل و الترك،عملا بأصالة عدم الوجوب و أصالة عدم الحرمة فتخرج عما نحن فيه،لما ذكرنا.
يعني:عدم جواز الرجوع للإباحة.
لما أشرنا إليه من أن البناء على الإباحة معلوم المخالفة للواقع،لا لما يأتى من لزوم المخالفة العملية التدريجية،لأنه ليس محذورا،كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
لأن الالتزام بالإباحة يقتضي جواز الفعل في واقعة و الترك في أخرى، و هو مستلزم للمخالفة العملية القطعية في إحدى الواقعتين.
هذا مسلّم إذا لم يلزم مع المخالفة القطعية التدريجية موافقة قطعية-
ص: 104
-تدريجية،كما لو علم بوجوب الصوم في يوم الخميس و الجمعة،فإن ترك الصيام فيهما مستلزم للمخالفة التدريجية من دون موافقة،و لا إشكال في قبحه،كما هو الحال في جميع موارد العلم بالتكليف مع إمكان الاحتياط،و كون المخالفة تدريجية لا تمنع من القبح المذكور،كما يأتي في مبحث الشك في المكلف به.
أما لو لزمت من المخالفة القطعية التدريجية موافقة قطعية تدريجية أيضا فلا قبح،كما في المقام و نحوه مما امتنع فيه الاحتياط لامتناع الجمع بين التكليفين عملا، لأن قبح المخالفة مزاحم بحسن الموافقة.
و بعبارة أخرى:العمل في كلتا الواقعتين بنهج واحد كما يستلزم الفرار من المخالفة القطعية التدريجية المفروض قبحها،كذلك يستلزم امتناع الموافقة القطعية المفروض لزومها و حسنها،و الاختلاف بينهما في العمل كما يستلزم الوقوع في المخالفة المذكورة كذلك يستلزم حصول الموافقة المذكورة،و لا ترجيح للأول على الثاني بحكم العقل،بل هما بنظره سواء،فمثل هذه المخالفة ليست محذورا،كما اعترف به المصنف قدّس سرّه في مسألة الدوران بين الوجوب و الحرمة.على أنها لو كانت محذورا لم يفرق بين صورتي وجود التعبد الظاهري و عدمه،إذ المخالفة علة تامة للقبح،فلا يرتفع قبحها بترخيص الشارع،بل تكون مانعة عنه،كما يأتي في حكم المخالفة العملية و حينئذ لا وجه للاعتراف بإمكان الترخيص المذكور للمقلد و نحوه كما يأتي منه قدّس سرّه.
على أنه لو سلّم إمكان الترخيص كفى في المقام إطلاق أدلة الأصول في إثبات الترخيص كإطلاق أدلة التقليد أو خصوص بعضها لو تم.
نعم لا أصل يقتضي الإباحة في المقام،بل هنا أصلان يقتضي أحدهما عدم الوجوب و يقتضي الآخر عدم التحريم،و لا مانع من العمل بهما في كل واقعة و لو اختلف سنخ العمل و لزمت المخالفة التدريجية،لما ذكرنا.و تمام الكلام في المسألة في-
ص: 105
بحكم العقل الالتزام بالفعل أو الترك،إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع يقينا عن قصد.
و تعدد الواقعة إنما يجدي مع الإذن من الشارع عند كل واقعة ، كما في تخيير الشارع للمقلد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرا يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلى الآخر ،و أما مع عدمه فالقادم على ما هو مبغوض للشارع يستحق عقلا العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض،أما لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت.
و يمكن استفادة الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض .
لكن هذا الكلام لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدد فيها الواقعة حتى تحصل المخالفة العملية تدريجا،فالمانع في الحقيقة هي المخالفة -مبحث الدوران بين الوجوب و التحريم.فلاحظ.
عرفت الإشكال في الإذن المذكور،كما عرفت إمكان دعواه في المقام.
بناء على ثبوت التخيير الاستمراري في الرجوع إليهما.
لعله من جهة أنها دلت على عدم جواز طرح الروايتين مع إمكان كذبهما معا و الرجوع إلى احتمال آخر كالأصل فطرح الحكم الواقعي المعلوم أولى بالمنع.
و فيه:أولا:أن ذلك تعبد خاص لم يعلم ملاكه.و لذا كان التحقيق أن الأصل في المتعارضين التساقط.
و ثانيا:أن الظاهر كون التخيير بين الخبرين المتعارضين استمراريا أيضا،فهو مستلزم للمخالفة التدريجية،و ليست محذورا.
يعني:من الرجوع للإباحة مع تعدد الواقعة.
ص: 106
العملية القطعية و لو تدريجا مع عدم التعبد بدليل ظاهري،فتأمل.
هذا كله في المخالفة القطعية للحكم المعلوم إجمالا من حيث الالتزام،بأن لا يلتزم به أو يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر إذا اقتضت الأصول ذلك.
و أما المخالفة العملية:
فإن كانت لخطاب تفصيلي،فالظاهر عدم جوازها،سواء كانت في الشبهة الموضوعية،كارتكاب الإناءين المشتبهين المخالف لقول الشارع:
«اجتنب عن النجس»،أو في الشبهة الحكمية كترك القصر و الإتمام في موارد اشتباه الحكم ،لأن ذلك معصية لذلك الخطاب،لأن المفروض وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الإناءين،و وجوب صلاة الظهر مثلا قصرا أو إتماما،و كذا لو قال:أكرم زيدا،و اشتبه بين شخصين، فإن ترك إكرامهما معصية.
فإن قلت:إذا أجرينا أصالة الطهارة في كل من الإناءين و أخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع،فليس في ارتكابهما بناء على طهارة يعني:لا المخالفة الالتزامية،بل هي بنفسها ليست محذورا.لكن عرفت أنها محذور مهم،إلا أنها لا تلزم من جريان الأصل.
كما لو فرض شك الفقيه في مقدار المسافة المعتبرة في التقصير.
أما لو كان ناشئا من اشتباه الموضوع،كما لو شك في مقدار المسافة بين البلد و المقصد،فهو نظير اشتباه النجس بين إناءين.ثم إن الخطاب التفصيلي الذي يعلم بمخالفته في المقام هو الخطاب بوجوب الصلاة.
ص: 107
كل منهما مخالفة لقول الشارع:«اجتنب عن النجس».
قلت:أصالة الطهارة في كل منهما بالخصوص إنما يوجب جواز ارتكابه من حيث هو،و أما الإناء النجس الموجود بينهما فلا أصل يدل على طهارته،لأنه نجس يقينا ،فلا بد إما من اجتنابهما،تحصيلا للموافقة القطعية،و إما أن يجتنب أحدهما،فرارا عن المخالفة القطعية، على الاختلاف المذكور في محله.
هذا،مع أن حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع التكليف الثابت بالأدلة الاجتهادية لا معنى له إلا رفع حكم ذلك الموضوع ،فمرجع أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب، المخالف لقوله:«اجتنب عن النجس» ،فافهم.
و لا معارضة بين أصالة الطهارة في كل منهما و وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي،لاختلاف الحيثية،لأن أصالة الطهارة إنما تقتضي جواز الارتكاب في كل منهما من حيثية كونه مشكوك الطهارة لا من تمام الجهات،و وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي يقتضي الاجتناب عنهما أو عن أحدهما من حيث كونه محققا للاجتناب عن النجس المعلوم،فلا تنافي بين الجهتين،بل العمل على الثانية،لأن اللامقتضي لا يزاحم المقتضي و لا يعارضه،بل يبنى عليهما و يكون العمل على المقتضي لا غير.
لأن الموضوع قد يكون أمرا واقعيا تكوينيا،كالحياة و الموت لا يقبل الرفع الشرعي،فلا بد أن يكون الرفع الشرعي بلحاظ رفع الآثار و الأحكام العملية، و لو لا ذلك كان لاغيا،كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.
يعني:فيلزم من جريان الأصول في كلا الطرفين التناقض بين دليل جعلها و دليل الواقع،و حيث كان دليل الواقع علميا تعين رفع اليد عن عموم-
ص: 108
-الأصل و تخصيصه بغير موارد العلم الإجمالي،إما في كلا الطرفين،أو في أحدهما، على الكلام في وجوب الموافقة القطعية و عدمه.
أقول:المخالفة المذكورة إنما تتم لو كان مفاد الأصل رفع الحكم واقعا.و هو غير مراد قطعا،بل المراد منه رفع الحكم ظاهرا الراجع إلى جواز البناء على عدمه عملا،و لذا سبق عدم منافاة مفاد الأصل لوجوب الالتزام بالأحكام الواقعية.
و حينئذ فلا تناقض بين مفاد الأصل في الطرفين و الحكم الواقعي المعلوم إجمالا حتى يلزم ما سبق.
نعم لما كان مفاد الأصل هو جواز البناء عملا على عدم الحكم،و كان العمل على طبق الحكم من لوازمه الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي لرجوعه إلى مقام الامتثال الذي هو من مختصات العقل،كان مرجعه إلى ثبوت العذر في ظرف الجهل و عدم تنجز الواقع بمجرد الاحتمال،لأن مقام العذر و التنجز ما يقبل التصرف الشرعي المولوي.
و حينئذ لا بد في منع جريان الأصول من دعوى:أن منجزية العلم الإجمالي كمنجزية العلم التفصيلي مما لا يقبل التصرف الشرعي،و لا مجال لردع الشارع عنها، كما يشهد به الرجوع للمرتكزات العقلائية في المقام.
و إلى هذا يرجع دعوى امتناع جريان الأصول من جهة لزوم الترخيص في المعصية.لكن هذا مبني على أن مفاد الأصول الترخيص في أطرافها من تمام الجهات، أما بناء على ما ذكره قريبا و أوضحناه من أنها إنما تقتضي الترخيص فيها من حيثية كونها مجهولة الحكم،فلا منافاة بينها و بين العلم الإجمالي المذكور حتى يحتاج إلى دعوى التخصيص.
و يأتي الكلام في ذلك أيضا في مبحث الاشتغال إن شاء اللّه تعالى.
و لعل قوله:«فافهم»إشارة إلى ذلك.
ص: 109
و إن كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين-كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع أو بحرمة هذه المرأة،أو علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان أو بوجوب الصلاة عند ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-ففي المخالفة القطعية حينئذ وجوه:
أحدها:الجواز،لأن المردد بين الخمر و الأجنبية لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه،و كذا المردد بين الدعاء و الصلاة،فإن الإطاعة و المعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية و مخالفتها .
الثاني:عدم الجواز مطلقا،لأن مخالفة الشارع قبيحة عقلا مستحقة للذم عليها،و لا يعذر فيها إلا الجاهل بها .
الثالث:الفرق بين الشبهة في الموضوع و الشبهة في الحكم،فيجوز في الأولى دون الثانية،لأن المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حد الإحصاء ،بخلاف الشبهات الحكمية،كما يظهر من كلماتهم في و أما وجوب أحدهما فهو منتزع عقلا من وجوب الواحد المعين شرعا واقعا.المجهول عندنا،و ليس خطابا شرعيا.
هذا راجع إلى ما ذكرناه من منجزية العلم الإجمالي عقلا و عدم إمكان الردع عنها بجعل الجهل عذرا شرعا مع تعميمه لما إذا تردد الخطاب بين خطابين.
و الظاهر أنه في محله،لعدم الفرق في منجزية العلم الإجمالي بين وحدة الخطاب و تعدده،كما يشهد به الرجوع للمرتكزات العرفية.
يعني:و حيث إنه ليس بناء المتشرعة على الاعتناء بها فتكون السيرة المذكورة موجبة لخصوصية في الشبهة الموضوعية يخرج بها عن مقتضى القواعد في-
ص: 110
مسائل الإجماع المركب .
و كأن الوجه ما تقدم :من أن الأصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلة التكليف،بخلاف الأصول في الشبهات الحكمية،فإنها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا.
و قد عرفت ضعف ذلك،و أن مرجع الإخراج الموضوعي إلى رفع الحكم المترتب على ذلك،فيكون الأصل في الموضوع في الحقيقة منافيا لنفس الدليل الواقعي،إلا أنه حاكم عليه لا معارض له ،فافهم.
-قبح المخالفة القطعية.
لكن كثرة المخالفة في الشبهات الموضوعية إنما يلتفت إليها بعد وقوع المخالفة بسبب جهل الناس بالموضوعات و كثرة الخطأ فيها،فيعلم المكلف بعد مضي مدة من عمره بأنه وقع في كثير من المخالفات،أو قبل وقوعها لكن مع عدم الابتلاء بتمام أطراف العلم الإجمالي،و ذلك مانع من منجزية العلم الإجمالي،فلا يصح قياس المقام عليه الذي فرض فيه منجزية العلم الإجمالي.
و بعبارة أخرى:مورد السيرة المشار إليها صورة عدم منجزية العلم الإجمالي كما في الشبهة غير المحصورة،و ما نحن فيه في الشبهة المحصورة المنجزة،فلا مجال للاستدلال بالسيرة في المقام.
حيث صرحوا بعدم جواز طرح قول الإمام عليه السّلام و الرجوع إلى قول ثالث.
الظاهر من كلامه السابق كون منشأ الفرق هو السيرة لا ما ذكره هنا.
فلاحظ.
لتصرفه في موضوعه.لكن الحكومة فرع جريان الدليل الحاكم،و قد سبق عدم جريانه.
ص: 111
الرابع:الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين،و بين اختلافه،كوجوب الشيء و حرمة آخر.
و الوجه في ذلك:أن الخطابات في الواجبات الشرعية بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكل،فترك البعض معصية عرفا،كما لو قال المولى:افعل كذا و كذا و كذا،فإنه بمنزلة افعلها جميعا ،فلا فرق في العصيان بين ترك واحد منها معينا أو واحد غير معين عنده.
نعم،في وجوب الموافقة القطعية بالإتيان بكل واحد من المحتملين كلام آخر مبني على أن مجرد العلم بالحكم الواقعي يقتضي البراءة اليقينية عنه،أو يكتفى بأحدهما،حذرا عن المخالفة القطعية التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء و يعد معصية عندهم و إن لم يلتزموا الامتثال اليقيني لخطاب مجمل .
و الأقوى من هذه الوجوه:هو الوجه الثاني ،ثم الثالث .
فيكون مخالفة كلا الخطابين اللذين هما من نوع واحد مخالفة للخطاب بالجميع المفروض رجوعهما إليه.
فهذا الوجه في الحقيقة راجع إلى اعتبار وحدة الخطاب في قبح المخالفة مع تنزيل الخطابين اللذين هما من نوع واحد منزلة خطاب واحد بالجميع.لكن التنزيل المذكور في غير محله بعد عدم مساعدة الأدلة الشرعية عليه.
هذا مبني على ما سبق في القول الأول.لكنه غير ظاهر كما أشرنا إليه في حجة القول الثاني.
كما يظهر بالتأمل فيما سبق منّا في بيان حجج الأقوال المذكورة.
لم يتضح الوجه في ذلك بعد ضعف ما سبق من الحجة للقول المذكور.
ص: 112
هذا كله في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلف به.
و أما الكلام في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك الحكم، فقد عرفت أنه:
يقع تارة:في الحكم الثابت لموضوع واقعي مردد بين شخصين، كأحكام الجنابة المتعلقة بالجنب المردد بين واجدي المني.
و قد يقع في الحكم الثابت لشخص من جهة تردده بين موضوعين، كحكم الخنثى المردد بين الذكر و الأنثى.
أما الكلام في الأول فمحصله:
أن مجرد تردد التكليف بين شخصين لا يوجب على أحدهما شيئا، إذ العبرة في الإطاعة و المعصية بتعلق الخطاب بالمكلف الخاص،فالجنب المردد بين شخصين غير مكلف بالغسل و إن ورد من الشارع:أنه يجب الغسل على كل جنب،فإن كلا منهما شاك في توجه هذا الخطاب إليه، فيقبح عقاب واحد من الشخصين يكون جنبا بمجرد هذا الخطاب الغير المتوجه إليه .
نعم،لو اتفق لأحدهما أو الثالث علم بتوجه خطاب إليه دخل في اشتباه متعلق التكليف الذي تقدم حكمه بأقسامه.
يعني:ظاهرا،كما يظهر من تعليله بقول:«فإن كلا منهما...».
تعليل لعدم تكليف كل منهما بالغسل ظاهرا.
لقبح العقاب من غير بيان.
الأولى أن يقول:الغير المعلوم توجهه إليه.
ص: 113
و لا بأس بالإشارة إلى بعض فروع المسألة،ليتضح انطباقها على ما تقدم في العلم الإجمالي بالتكليف.
فمنها:حمل أحدهما الآخر و إدخاله في المسجد للطواف أو لغيره، بناء على تحريم إدخال الجنب أو إدخال النجاسة الغير المتعدية:
فإن قلنا:إن الدخول و الإدخال متحققان بحركة واحدة،دخل في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلا و إن تردد بين كونه من جهة الدخول أو الإدخال .
و إن جعلناهما متغايرين في الخارج كما في الذهن:
فإن جعلنا الدخول و الإدخال راجعين إلى عنوان محرم واحد و هو القدر المشترك بين إدخال النفس و إدخال الغير كان من المخالفة المعلومة للخطاب التفصيلي،نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس.
و إن جعلنا كلا منهما عنوانا مستقلا،دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالإجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدمة.
و كذا من جهة دخول المحمول و استئجاره الحامل مع قطع إذ بناء على عدم تحريم ذلك،لا يلزم العلم بالمخالفة.
فهو نظير العلم بحرمة الإناء الخاص لكونه نجسا أو مغصوبا.
كما قد يدعى في حرمة إدخال النجاسة،بناء على أن الدليل فيها مثل قولهم عليهم السّلام:«جنبوا مساجدكم النجاسة»،إذ لا فرق في مخالفة الأمر المذكور بين كون الداخل نجسا و كونه مدخلا للنجس.
كما لو استأجر أحدهما الآخر لحمله إلى المسجد و إدخاله إياه.
ص: 114
النظر عن حرمة الدخول و الإدخال عليه،أو فرض عدمها،حيث إنه يعلم إجمالا بصدور أحد المحرّمين:إما دخول المسجد جنبا،أو استئجار جنب للدخول في المسجد .
إلا أن يقال بأن الاستئجار تابع لحكم الأجير ،فإذا لم يكن في تكليفه محكوما بالجنابة و أبيح له الدخول في المسجد،صح استئجار الغير له.
و منها:اقتداء الغير بهما في صلاة أو صلاتين:
فإن قلنا بأن عدم جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية،كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة، لعل الصحيح:«مع قطع النظر عن حرمة الإدخال»لأن حرمة الدخول مقومة للعلم الإجمالي،و لولاها كانت الشبهة في حرمة الاستئجار بدوية.
لكن حرمة الاستئجار ليست ذاتية،بل تشريعية،فلو فرض عدم قصد التشريع بها فلا تحرم تكليفا.
نعم يعلم إجمالا إما بحرمة الدخول عليه أو ببطلان الإجارة.بل يعلم تفصيلا ببطلان الإجارة،لأنها إجارة على المحرم أو المتعذر،إذ لو كان الحامل جنبا كان دخوله محرما،و إن كان المحمول جنبا حرم عليه الرضا بحمله إلى المسجد،فيكون العمل المستأجر عليه متعذرا شرعا.فتأمل.
يعني:الظاهري.
كما لو اقتدى أحدهما بالآخر غفلة عن الجنابة المترددة بينها،فاقتدى الثالث العالم بالجنابة المذكورة بالإمام،و طرأ على الإمام ما يمنعه من إكمال صلاته فتقدم صاحبه لإكمال تلك الصلاة جماعة،فيكون الثالث مؤتما في بعض صلاته بأحد الشخصين المعلوم جنابة أحدهما،و في بعضها الآخر بالثاني.
ص: 115
و الاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الإناءين،و الاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الإناءين.
و إن قلنا:إنه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص في حكم نفسه،صح الاقتداء في صلاة فضلا عن صلاتين،لأنهما طاهران بالنسبة إلى حكم الاقتداء .
و الأقوى:هو الأول،لأن الحدث مانع واقعي لا علمي.
نعم،لا إشكال في استئجارهما لكنس المسجد فضلا عن استئجار أحدهما،لأن صحة الاستئجار تابعة لإباحة الدخول لهما لا للطهارة الواقعية،و المفروض إباحته لهما.
و قس على ما ذكرنا جميع ما يرد عليك،مميزا بين الأحكام المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي،و بين الأحكام المتعلقة بالجنب من حيث إنه مانع ظاهري للشخص المتصف به.
الأولى أن يقول:لأن كلا منهما واجد لشرط الاقتداء،و هو الطهارة الظاهرية في حق نفسه.
يعني:من الصلاة،و مع بطلان صلاة الشخص لا يجوز الاقتداء به.
يعني:مما لا يكون محرما بنفسه،و إن كان مستلزما للمحرم الواقعي و هو الدخول في المسجد.
يعني:و لو ظاهرا،لأن مانعية حرمة الدخول من صحة الإجارة على الكنس إنما هي من حيث كونها موجبة لعجز الأجير عن العمل المستأجر عليه،فمع فرض الإباحة الظاهرية لا عجز،فيتعين صحة الإجارة.و تمام الكلام في ذلك في مبحث الإجارة من الفقه.
ص: 116
أما الكلام في الخنثى فيقع تارة:في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكورية و الأنوثية أو مجهولهما،و حكمها بالنسبة إلى التكاليف المختصة بكل من الفريقين ،و تارة:في معاملة الغير معها .و حكم الكل يرجع إلى ما ذكرنا في اشتباه متعلق التكليف .
أما معاملتها مع الغير،فمقتضى القاعدة احترازها عن غيرها مطلقا،للعلم الإجمالي بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين،فتجتنب عنهما مقدمة .
و قد يتوهم:أن ذلك من باب الخطاب الإجمالي ،لأن الذكور من جهة التستر منهم و النظر إليهم و نحوهما.
كالجهر و الإخفات في الصلاة.
من جهة نظرهم إليها و تسترهم منها و نحوهما.
بل سبق في أول الكلام في منجزية العلم الإجمالي رجوع الشك في الخنثى إلى الشك في المكلف به،فيجري فيها جميع ما سبق فيه.
هذا بناء على وجوب الموافقة القطعية الذي لسنا بصدده.و أما حرمة المخالفة القطعية فهي إنما تقتضي عدم جواز جمعها في النظر بين الطائفتين و يكفي فيه عدم النظر إلى إحداهما،كما لا يخفى.
لكن هذه لا يقتضي حرمة النظر إلى المتردد بين الطائفتين-كالخنثى الآخر- لخروجه عن العلم الإجمالي،و قيام العلم الإجمالي بغيره،اذ كل من الصنفين وحده أو مع المشكوك ليس موردا للعلم الإجمالى،أما هما فيكونان موردا للعلم الإجمالي حتى مع عدم المشكوك.و حينئذ يتعين الرجوع فيه إلى الأصل المقتضي للبراءة بلا مانع.
الذي تقدم أن فيه أقوالا أربعة.و إن كان لا مجال هنا للقول الثالث،-
ص: 117
مخاطبون بالغض عن الإناث و بالعكس،و الخنثى شاك في دخوله في أحد الخطابين.
و التحقيق:هو الأول،لأنه علم تفصيلا بتكليفه بالغض عن إحدى الطائفتين ،و مع العلم التفصيلي لا عبرة بإجمال الخطاب،كما تقدم في الدخول و الإدخال في المسجد لواجدي المني.
مع أنه يمكن إرجاع الخطابين إلى خطاب واحد،و هو تحريم نظر كل إنسان إلى كل بالغ لا يماثله في الذكورية و الأنوثية عدا من يحرم نكاحه.
و لكن يمكن أن يقال:إن الكف عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقة عظيمة ،فلا يجب الاحتياط فيه،بل العسر فيه أولى من الشبهة الغير -لكون الشبهة في المقام موضوعية لا غير.
لكن لا يمكن مخالفة ذلك بفعل واحد يكون هو المعلوم بالتفصيل،فلا وجه لقياسه بالدخول و الادخال للمسجد اللذين فرض تحققهما بفعل واحد.
نعم لو فرض كون الصنفين في مكان واحد بحيث يكون النظر إلى أحدهما مستلزما للنظر للآخر فقد يصح ما ذكره قدّس سرّه،لوحدة الفعل الذي يتحقق به الحرام.
لكن الإرجاع المذكور مما لا وجه له بعد تعدد الخطاب الشرعي،فليس الخطاب المذكور إلا من سنخ الخطاب المنتزع من الخطابين الشرعيين،و ليس بنفسه خطابا شرعيا.
هذا مبني على وجوب الموافقة القطعية الذي لسنا بصدده و أما حرمة المخالفة القطعية فلا تقتضي إلا اجتناب النظر إلى إحدى الطائفتين،و لا عسر فيه.
ص: 118
المحصورة .
أو يقال:إن رجوع الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعية،لا في وجوب الموافقة القطعية ،فافهم.
و هكذا حكم لباس الخنثى،حيث إنه يعلم إجمالا بحرمة واحد من مختصات الرجال كالمنطقة و العمامة أو مختصات النساء عليه،فيجتنب عنهما .
و أما حكم ستارته في الصلاة:فيجتنب الحرير و يستر جميع بدنه .
لكنه ليس من الشبهة غير المحصورة،كما يظهر في محله.
نعم العسر لو تم اقتضى عدم وجوب الاحتياط مطلقا،أو بالمقدار الذي يندفع به العسر،على الكلام الآتي في تلك المسألة.
هذا غير ظاهر،إذ الإرجاع المذكور إن كان شرعيا فلا يفرق فيه بين الأمرين،و إلا لم يفرق بينهما أيضا.مع أنه لا فرق بين وحدة الخطاب و تردده بين خطابين لا في حرمة المخالفة القطعية و لا في وجوب الموافقة القطعية،كما هو التحقيق الذي بنى عليه المصنف قدّس سرّه قريبا و في مبحث البراءة و الاشتغال،فلا أثر للتفصيل المذكور.
لكن لا يبعد كون حرمة اللباس المختص بإحدى الطائفتين على الأخرى مبنية على صورة التشبه،فلا يشمل ما نحن فيه،بل يحل له كلا الصنفين.فلاحظ.
و كذا الذهب.
للعلم الإجمالي بشرطية أحدهما في حقه.لكن هذا مبني على وجوب الموافقة القطعية.
ص: 119
و أما حكم الجهر و الإخفات:
فإن قلنا بكون الإخفات في العشاءين و الصبح رخصة للمرأة جهر الخنثى بهما .
و إن قلنا:إنه عزيمة لها فالتخيير إن قام الإجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقها.
و قد يقال بالتخيير مطلقا،من جهة ما ورد:من أن الجاهل في القصر و الإتمام و الجهر و الإخفات معذور.
و فيه-مضافا إلى أن النص إنما دل على معذورية الجاهل بالنسبة إلى لزوم الإعادة لو خالف الواقع،و أين هذا من تخيير الجاهل من أول الأمر بينهما؟بل الجاهل لو جهر أو أخفت مترددا بطلت صلاته،إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم أو العالم-:أن الظاهر من الجهل في الأخبار غير هذا الجهل .
لكن لا يبعد جواز الاخفات عليه حينئذ،لأصالة البراءة من شرطية الجهر في حقه.
اللهم إلا أن يكون طرفا للعلم الإجمالي مع بقية أحكام النساء في حقه،فهو يعلم مثلا إما بحرمة كشف نفسه أمام الرجل أو بوجوب الجهر عليه في الصلاة.
نعم هذا مبني على وجوب الموافقة القطعية،الذي عرفت أنه ليس محل الكلام.
مبتدأ خبره قوله فيما تقدم:«و فيه...».
لعل مراده قدّس سرّه هو الجهل الحكمي فلا يشمل المقام الذي تكون الشبهة فيه موضوعية،أو يكون مراده عدم شموله للجهل الناشئ من اشتباه حال المكلف كما في المقام.لكن كلاهما.غير ظاهر بعد عموم الأدلة،بل لا يظن من المصنف قدّس سرّه-
ص: 120
و أما تخيير قاضي الفريضة المنسية عن الخمس في ثلاثية و رباعية و ثنائية ،فإنما هو بعد ورود النص في الاكتفاء بالثلاث،المستلزم لإلغاء الجهر و الاخفات بالنسبة إليه،فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا.
و أما معاملة الغير معها،فقد يقال بجواز نظر كل من الرجل و المرأة إليها،لكونها شبهة في الموضوع،و الأصل الإباحة .
و فيه:أن عموم وجوب الغض على المؤمنات إلا عن نسائهن أو الرجال المذكورين في الآية،يدل على وجوب الغض عن الخنثى ، -الالتزام ببطلان صلاة من جهر باعتقاد كونه رجلا فبان امرأة.
فالعمدة:ما ذكره من الجواب الأول،و هو أن المراد بأدلة العذر هو إجزاء الصلاة لو وقعت من الجاهل المركب على خلاف ما هو المطلوب واقعا من الجهر و الاخفات،لا تخيير الجاهل البسيط بينهما من أول الأمر حتى ينفع في المقام.
يعني:فقد ورد أن من علم بأنه قد فاته إحدى الفرائض الخمس أجزأه أن يصلى ثنائية و ثلاثية و رباعية،و ذكروا أنه يتخير في الرباعية بين الجهر و الاخفات، مع أنه متردد في أن الصلاة الفائتة جهرية أو إخفاتية،نظير المقام.
نظير واجدي المني في الثوب المشترك فإن كلتا الطائفتين تعلم إجمالا بحرمة النظر إلى الخنثى إما عليها أو على الطائفة الأخرى.
لأن استثناء نسائهن يقتضي كون الموضوع الذي يجب الغض عنه هو مطلق الانسان،لا خصوص الرجال.
و حينئذ لو شكت المرأة في كون الخنثى امرأة فأصالة عدم كونها أنثى-و إن كان من استصحاب العدم الأزلي-يجوز دخوله في حكم العام و هو وجوب الغض عنه على المرأة.لكن الاستثناء-مع أنه من حكم إبداء الزينة،لا من حكم وجوب-
ص: 121
و لذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها،كتحريم نظرها إليهما،بل ادعى سبطه الاتفاق على ذلك،فتأمل جدا.
ثم إن جميع ما ذكرنا إنما هو في غير النكاح.و أما التناكح،فيحرم بينه و بين غيره قطعا،فلا يجوز له تزويج امرأة،لأصالة عدم ذكوريته-بمعنى عدم ترتب أثر الذكورية من جهة النكاح و وجوب حفظ الفرج إلا عن الزوجة و ملك اليمين-و لا التزوج برجل،لأصالة عدم كونه امرأة،كما صرح به الشهيد،لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل -الغض و حرمة النظر،الذي هو محل الكلام-مختص بالنساء،أما الرجال،فخطابهم بوجوب الغض لا يشتمل على الاستثناء الكاشف عن عموم الموضوع لمطلق الإنسان،بل ينصرف إلى خصوص النساء،و لذا لم يحتج إخراج النظر إلى الرجال في حقهم إلى الاستثناء.
و حينئذ فأصالة عدم كون الخنثى امرأة تقتضي جواز النظر و عدم وجوب الغض في حقهم و أصالة عدم كون الخنثى رجلا لا أثر لها في حقهم.
اللهم إلا أن يقال:إن استثناء(نسائهن)من حرمة إبداء الزينة في حق النساء يمنع من انصراف إطلاق وجوب الغض في النساء و الرجال إلى الغض عن خصوص المخالف،بل مقتضى حذف المتعلق العموم،و حينئذ لا يكون خروج الموافق تخصصا، بل تخصيصا و إن كان المخصص لبّيا،و مع شك كل منهما في كون الخنثى موافقا له في الصنف يتعين له الرجوع إلى عموم العام القاضي بوجوب الغض،إما لحجية العام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا،أو لأصالة عدم كونه من الصنف الموافق من باب استصحاب العدم الأزلي.
و يأتي من المصنف قدّس سرّه التعرض لبعض الكلام في الأحكام المذكورة في التنبيه السابع من تنبيهات الشبهة المحصورة التحريمية.
ص: 122
زوجا أو زوجة ،فافهم.
هذا تمام الكلام في اعتبار العلم.
الظاهر أن هذا الفرض لا يتم إلا فيما إذا تزوّج الخنثى بمثله مع العلم باختلافهما في الصنف،و هو فرض نادر جدا.
و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم و الحمد للّه رب العالمين.
انتهى الكلام في مبحث القطع مساء الأربعاء الثاني عشر من شهر شعبان المعظم سنة ألف و ثلاثمائة و سبع و ثمانين للهجرة النبوية على صاحبها و آله أفضل السلام و التحية بقلم العبد الفقير محمد سعيد الطباطبائي الحكيم عفي عنه.
و انتهى تبييضه ليلة الجمعة السابع من شهر شعبان سنة ألف و ثلاثمائة و تسعين لهجرة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله اجمعين.و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 123
ص: 124
المقصد الثاني في الظن
ص: 125
ص: 126
و الكلام فيه يقع في مقامين:
أحدهما:في إمكان التعبد به عقلا،و الثاني:في وقوعه عقلا أو شرعا.
فاعلم:أن المعروف هو إمكانه،و يظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة في استحالة العمل بخبر الواحد:عموم المنع لمطلق الظن،فإنه استدل بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على محمد و آله الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا.اللهم وفق و سدد.
لعله أراد الاشارة إلى مثل حجية الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة.فلاحظ.
ص: 127
على مذهبه بوجهين:
الأول:أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجاز التعبد به في الإخبار عن اللّه تعالى،و التالي باطل إجماعا.
الثاني:أن العمل به موجب لتحليل الحرام و تحريم الحلال،إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما و بالعكس.
و هذا الوجه كما ترى جار في مطلق الظن ،بل في مطلق الأمارة الغير العلمية و إن لم يفد الظن.
و استدل المشهور على الإمكان:بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال.
و في هذا التقرير نظر،إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقول بجميع الجهات المحسنة و المقبحة و علمها بانتفائها، و هو غير حاصل فيما نحن فيه .
فالأولى:أن يقرر هكذا:إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة،و هذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان .
بل لعل الوجه الأول كذلك،لعدم ثبوت القرآن الشريف بغير العلم من الطرق و لا يختص بخبر الواحد.
نعم الوجه المذكور لا يقتضي امتناع التعبد،بل مجرد عدم وقوعه،بخلاف الوجه الثاني.
كأنه لقصور عقولنا عن الإحاطة بالنحو المذكور،لعدم كمالها.
لم يتضح كون الحكم بالإمكان موضوع غرض عام للعقلاء حتى يسهل-
ص: 128
و الجواب عن دليله الأول :أن الإجماع إنما قام على عدم الوقوع، لا على الامتناع .
مع أن عدم الجواز قياسا على الإخبار عن اللّه تعالى بعد تسليمه إنما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة أصولا و فروعا على العمل بخبر الواحد ، -دعوى السيرة عليه.
فلعل الأولى أن يدعى سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان من السعي له خارجا و قبول الأدلة عليه و نحوهما.
نعم ربما يشكل بعدم قيام الدليل على حجية السيرة في المقام،لعدم قيام الدليل القطعي على اعتبارها،و عدم حجية الظن به،إذ الكلام فيه فعلا،كما قرره المحقق الخراساني قدّس سرّه.لكن لما كان استحقاق العقاب بحكم العقل،و هو فرع المعذرية، و المنجزية،فالعقل يحكم بهما مع موافقة السيرة المذكورة من دون حاجة إلى إثبات الإمكان الواقعي،كما حاوله المحقق المذكور بوجه لا يخلو عن تكلف.
يعني:دليل ابن قبة.
إذ الامتناع من الأمور العقلية التي لا مسرح للإجماع و نحوه من الأدلة الشرعية فيها.
و وجه الامتناع حينئذ ظاهر،إذ إثبات حجية الظن حينئذ في الأصول و الفروع دوري،لعدم كون حجية الظن ذاتية،فلا بد من كون أصل الشريعة ثابتا بالقطع.
اللهم إلا أن يفرض ثبوت الشريعة بظن ثبتت حجيته بتعبد قطعي من شريعة سابقة.لكن عدم حجية الظن حينئذ أول الكلام.و لم يتضح قيام الإجماع في الفرض المذكور فتأمل.
و لعل الأولى أن يقال في جواب ابن قبة:إنه إن كان المراد من عدم قبول خبر الواحد في الإخبار عن اللّه تعالى،عدم قبوله في كل شيء،فهو ممنوع،بل القائل-
ص: 129
لا في ما نحن فيه مما ثبت أصل الدين و جميع فروعه بالأدلة القطعية،لكن عرض اختفاؤها من جهة العوارض و إخفاء الظالمين للحق.
و أما دليله الثاني،فقد أجيب عنه:
تارة:بالنقض بالأمور الكثيرة الغير المفيدة للعلم،كالفتوى و البينة و اليد،بل القطع أيضا،لأنه قد يكون جهلا مركبا.
و أخرى:بالحل،بأنه إن أريد تحريم الحلال الظاهري أو عكسه، فلا نسلم لزومه ،و إن أريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلم امتناعه .
-بحجية خبر الواحد،يلتزم به،لرجوع خبر الواحد عن المعصوم إلى الإخبار عنه تعالى في كثير من الموارد.
نعم يمتنع رجوع جميع الأدلة في الشريعة إلى خبر الواحد أو غيره من الظنون أو نحوها مما ليست حجيته ذاتية،لما أشرنا إليه من لزوم الدور.
و ليس هو محل الكلام في المقام،إذ القائل بحجية الخبر يستدل عليه بأدلة قطعية أو راجعة إلى أدلة قطعية.و إن كان المراد الإخبار عنه تعالى بخصوص القرآن الكريم،الراجع إلى دعوى انحصار طريق نقل القرآن بالتواتر،فهو و إن كان تاما على الظاهر،إلا أنه يرد عليه:
أولا:أن الإجماع على عدم الوقوع لا على الامتناع.
و ثانيا:أنه يمكن دعوى خصوصية القرآن في ذلك فقياس الإخبار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليه في غير محله.
كيف و الحكم الشرعي مجهول،فلا حكم ظاهري حتى يخالف.
بناء على عدم كون التحريم الظاهري منافيا للحلية الواقعية و بالعكس.
و قد أطال المتأخرون في توجيه محذور التضاد بينهما و دفعه بما لا مجال للإشارة إليه-
ص: 130
و الأولى أن يقال :إنه إن أراد امتناع التعبد بالخبر في المسألة -فضلا عن تفصيل الكلام فيه.
و الظاهر أن الحكم الظاهري ليس حكما حقيقيا في قبال الحكم الواقعي،بل هو حكم طريقي لإحراز الحكم الواقعي أو لبيان الوظيفة عند الجهل به ناش من مصلحة جعل الطرق و الأصول و التعبد بها غير المنافية للحكم الواقعي،و لا لملاكه، فلا تضاد بين الحكمين،لا بنفسيهما و لا بملاكيهما،كما يشهد به الرجوع للمرتكزات العرفية في الأمارات و الطرق العرفية.
و تمام الكلام في المطولات.و لعله يأتي من المصنف قدّس سرّه بعض الكلام.
اعلم أن الإشكال بتحليل الحرام و تحريم الحلال يمكن أن يحمل بدوا على أحد أمرين:
الأول:أنه مستلزم لتشريع حكم على خلاف الحكم الواقعي مضاد له،فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين.
الثاني:أنه مستلزم لتفويت الملاك الواقعي من جهة الترخيص في العمل بنحو يقتضي تفويته.
و الظاهر من المصنف قدّس سرّه أنه نظر في كلامه الآتى للجهة الثانية،أما الجهة الأولى فكلامه لا ينهض بدفعها.إذ لا يفرق في امتناع اجتماع الحكمين المتضادين بين انسداد باب العلم بأحدهما و عدمه،إذ مع الانسداد يمكن خلو الواقعة عن حكم شرعي ظاهري،بأن يوكل المكلف إلى مقتضى حكم العقل من الاحتياط أو البراءة فلا يلزم محذور اجتماع حكمين شرعيين متضادين،كما لا يخفى.
فالعمدة في دفعها ما أشرنا إليه من عدم لزوم محذور اجتماع الضدين من جعل الحكم الظاهري.مضافا إلى النقض بالفتوى،و اليد،و البينة،و غيرها،مما يبعد من ابن قبة الالتزام بامتناع التعبد بها.
هذا و لا يبعد كون نظر ابن قبة إلى الجهة الأولى لا للثانية،كما يشهد به ذكر-
ص: 131
التي انسد فيها باب العلم بالواقع،فلا يعقل المنع عن العمل به،فضلا عن امتناعه،إذ مع فرض عدم التمكن من العلم بالواقع إما أن يكون للمكلف حكم في تلك الواقعة،و إما أن لا يكون له فيها حكم،كالبهائم و المجانين.
فعلى الأول،فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الأصول أو الأمارات الظنية التي منها خبر الواحد.
و على الثاني:يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي و ترك الواجب الواقعي،و قد فر المستدل منهما.
فإن التزم أن مع عدم التمكن من العلم لا وجوب و لا تحريم ، لأن الواجب و الحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.
قلنا:فلا يلزم من التعبد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.
-تحريم الحلال،فإنه لا يستلزم تفويت مصلحة الواقع،بل مجرد تشريع حكم على خلاف الحكم الواقعي.نعم لو كان المراد من الحلال الواجب لزم منه ذلك.لكنه خلاف الظاهر.
و لا يهم المخالفة القليلة،لأنها لا بد منها بعد فرض انسداد العلم و عدم إمكان الوصول للواقع حتى لا يفوت منه شيء.هذا و لكن قد يدعى لزوم إرجاعه للاحتياط تحصيلا للواقع.
فلا بد إما من فرض لزوم محذور في الرجوع إليه،كاختلال النظام أو الحرج.
و إما من فرض عدم إمكان الاحتياط من جهة الغفلة عن محتملات الواقع لو لا التعبد.و إما من الرجوع لما يأتي في صورة الانفتاح.
فلا موضوع لتحليل الحرام أو نحوه.
ص: 132
و كيف كان:فلا نظن بالمستدل إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر أنه يدعي الانفتاح،لأنه أسبق من السيد و أتباعه الذين ادعوا انفتاح باب العلم .
و مما ذكرنا ظهر:أنه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ،لأن المفروض انسداد باب العلم على المستفتي،و ليس له شيء أبعد من تحريم الحلال و تحليل الحرام من العمل بقول المفتي،حتى أنه لو تمكن من الظن الاجتهادي فالأكثر على عدم جواز عمله بفتوى الغير.
و كذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركبا،فإن باب هذا الاحتمال منسد على القاطع .
و إن أراد الامتناع مع انفتاح باب العلم و التمكن منه في مورد العمل عرفت انه لا مانع من إرادته له لو كان ناظرا للجهة الأولى من الإشكال، كما هو ظاهر كلامه.
كما يأتي في مبحث خبر الواحد.
عرفت أنه يتوجه عليه النقض به لو كان المنظور في الإشكال الجهة الأولى.
هذا لا يكفي في الجواب،بل الأولى الجواب بأن الوقوع في الخطأ و تفويت الواقع غير مستند إلى جعل الشارع،و لا يقتضي جعل حكم منه على طبقه،و إنما هو مستند إلى أمور خارجية قهرية،كما هو الحال في الغفلة أيضا،فلا محذور،إذ ليس المحذور مجرد فوت المصلحة الواقعية،بل تفويت الشارع لها،كما لا يخفى.
و منه يظهر عدم صحة النقض بالقطع في الجواب عن الجهة الأولى من الإشكال أيضا.
ص: 133
بالخبر،فنقول:
إن التعبد بالخبر حينئذ يتصور على وجهين:
أحدهما:أن يجب العمل به لمجرد كونه طريقا إلى الواقع و كاشفا ظنيا عنه،بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع،كما قد يتفق ذلك حين انسداد باب العلم و تعلق الغرض بإصابة الواقع،فإن الأمر بالعمل بالظن الخبري أو غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنيا عن الواقع.
الثاني:أن يجب العمل به لأجل أنه يحدث فيه بسبب قيام تلك الأمارة مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع،كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا.
أما إيجاب العمل بالخبر على الوجه الأول،فهو و إن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم لما ذكره المستدل من تحريم الحلال و تحليل الحرام لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الأدلة القطعية التي يستعملها المكلف للوصول إلى الحرام و الحلال الواقعيين،أو يكونا متساويين في نظره من حيث الإيصال إلى الواقع .
بناء على حمله على إرادة الجهة الثانية من الإشكال.
بل لا يمتنع عقلا كون الطريق مصيبا دائما بنظر الشارع،كما سيأتي التعرض له من المصنف قدّس سرّه.نعم لا نعهد ذلك في شيء من الطرق المجعولة بأيدينا، لضرورة اختلاف المجتهدين الكاشف عن خطأ طرقهم.فتأمل.
ص: 134
إلا أن يقال:إن هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم و العجز عن الوصول إلى الواقع،إذ ليس المراد انسداد باب الاعتقاد و لو كان جهلا مركبا ،كما تقدم سابقا .
فالأولى:الاعتراف بالقبح مع فرض التمكن من الواقع .
و أما وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني،فلا قبح فيه أصلا،كما لا يخفى.
قال في النهاية في هذا المقام-تبعا للشيخ قدّس سرّه في العدة-:«إن الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحة،و لا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه و نحن على صفة مخصوصة،و كوننا ظانين بصدق الراوي صفة من صفاتنا،فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة»، انتهى موضع الحاجة.
فإن قلت:إن هذا يوجب التصويب،لأن المفروض على هذا أن في صلاة الجمعة التي أخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعية، فالمفسدة الواقعية سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم إخبار العادل الظاهر أن المراد مدعي الانفتاح كالسيد و اتباعه ما يعم الاعتقاد الخاطئ الذى هو الجهل المركب،لا خصوص العلم المصيب،فإن اختلاف العلماء الكاشف عن خطئهم في الجملة من الأمور الضرورية غير القابلة للإنكار في عصر من العصور حتى عصور الأئمة عليهم السّلام.فتأمل.
لم يتضح عاجلا أين سبق ذلك.نعم فرض فوت الواقع مع انسداد باب العلم،كما سبق،مناسب لكون المراد به ما يعم تيسر الجهل المركب.
لما فيه من التفويت.إلا إذا فرض كون الطريق مصيبا دائما،كما سبق.
ص: 135
بوجوبها،و بعد الإخبار تضمحل المفسدة ،لعروض المصلحة الراجحة،فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه ، لأن الشرط في إيجاب المفسدة له خلوها عن معارضة المصلحة الراجحة، فيكون إطلاق الحرام الواقعي حينئذ بمعنى أنه حرام لو لا الإخبار،لا أنه حرام بالفعل و مبغوض واقعا،فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس إلا المحبوبية و الوجوب،فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليها.
و لو فرض صحته فلا يوجب ثبوت حكم شرعي مغاير للحكم المسبب من المصلحة الراجحة.
و التصويب و إن لم ينحصر في هذا المعنى ،إلا أن الظاهر بطلانه أيضا،كما اعترف به العلامة في النهاية في مسألة التصويب، كان الأولى أن يقول:لا أثر للمفسدة،فإن عروض المصلحة الراجحة لا يرفع المفسدة،و إنما يرفع أثرها،و هو الحكم الناشئ منها لو لا المزاحمة بالمصلحة.
و هي المفسدة غير المزاحمة بما هو أقوى منها.
الأولى أن يقول:و لو فرض صحته كان إطلاقا مجازيا،بلحاظ كون المفسدة المزاحمة مقتضية للحكم و إن لم تؤثر فعلا.
فإن من وجوهه أن لا يكون هناك حكم واقعي محفوظ تابع لملاك واقعي،بل يكون الحكم ناشئا من قيام الطريق،و لولاه لا حكم للشارع أصلا،لا أن هناك حكما يرتفع بقيام الطريق على خلافه،كما هو المفروض في هذا الوجه الذي نحن بصدده.
يعني:بطلان هذا المعنى الذي هو من وجوه التصويب.
ص: 136
و أجاب به صاحب المعالم في تعريف الفقه عن قول العلامة:بأن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم.
قلت:لو سلم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه و أغمضنا النظر عما سيجيء من عدم كون ذلك تصويبا ،كان الجواب به عن ابن قبة من جهة أنه أمر ممكن غير مستحيل،و إن لم يكن واقعا للإجماع أو غيره، و هذا المقدار يكفي في رده .
إلا أن يقال:إن كلامه قدّس سرّه بعد الفراغ عن بطلان التصويب،كما هو ظاهر استدلاله من تحليل الحرام الواقعي .
سيأتي منه قدّس سرّه توجيه ذلك بوجوه بعضها لا يستلزم التصويب و لا يرجع إليه.
لأن المدعي له هو امتناع التعبد بالخبر،لا مجرد عدم وقوعه.
إذ بناء على التصويب لا حرام واقعي حتى يلزم تحليله،إلا أن يكون مراده بتحليله رفع حرمته واقعا،فيلائم التصويب بالمعنى المذكور.لكنه حينئذ ليس محذورا عقليا حتى يصح الاستدلال به على امتناع التعبد.
ص: 137
و حيث انجر الكلام إلى التعبد بالأمارات الغير العلمية،فنقول في توضيح هذا المرام و إن كان خارجا عن محل الكلام :إن ذلك يتصور على وجهين:
الأول:أن يكون ذلك من باب مجرد الكشف عن الواقع،فلا يلاحظ في التعبد بها إلا الإيصال إلى الواقع،فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع،كما لو أمر المولى عبده عند تحيره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق،غير ملاحظ في ذلك إلا كون قول الأعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا،و الأمر بالعمل في هذا القسم ليس إلا للإرشاد .
لم يتضح وجه خروجه عن محل الكلام بعد التعرض فيه لتحقيق حال التعبد بالأمارات و بيان إمكانه،لعدم توجه المحذور الذي ذكره ابن قبة.
لما كان الحكم المذكور يقتضي حجية الطريق شرعا فلا معنى لكونه إرشاديا،إذ الحكم الإرشادي هو الحكم الذي لا يترتب عليه أثر زائد على أثر الواقع المترتب مع قطع النظر عنه كأوامر الطبيب،و ليس منه المقام.
نعم الحكم المذكور طريقي،بلحاظ كون المقصود منه الوصول للواقع-
ص: 138
الثاني:أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها و إن خالف الواقع،فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هي مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.
أما القسم الأول،فالوجه فيه لا يخلو من أمور:
أحدها:كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارة للواقع و إن لم يعلم بذلك المكلف.
الثاني:كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.
الثالث:كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلف بالواقع،لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركبا.
و الوجه الأول و الثالث يوجبان الأمر بسلوك الأمارة و لو مع تمكن المكلف من الأسباب المفيدة للقطع .و الثاني لا يصح إلا مع تعذر باب العلم ،لأن تفويت الواقع على المكلف-و لو في النادر-من دون تداركه بشيء قبيح.
-و تنجيزه في ظرف وجوده.إلا أن يكون مراده بالإرشاد الإرشاد إلى الحجة المولوية الشرعية،لكنه بعيد عن مساق كلامه.
بل الثالث قد يقتضي الردع عن النظر في موجبات القطع بالنحو الذي تقدم في القطع المسبب عن الأدلة العقلية.و كذا الأول لو فرض تحقق الخطأ في القطع.نعم لو فرض تساويهما كان المتعين جواز الأمرين.
فيما إذا كانت إصابة العلم أكثر،إذ لو كانت مساوية أو أقل فلا محذور في نصب الطريق حينئذ.
ص: 139
و أما القسم الثاني،فهو على وجوه:
أحدها:أن يكون الحكم من أصله تابعا لتلك الأمارة،بحيث لا يكون في حق الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة و عدمها حكم، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في الواقع بالعالمين بها،و الجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم له أو محكوم بما يعلم اللّه أن الأمارة تؤدي إليه ،و هذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطئة،و قد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل الأخبار و الآثار.
الثاني:أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة،بمعنى:أن للّه في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم و الجاهل لو لا قيام الأمارة على خلافه، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعلية ذلك الحكم،لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبة على مصلحة الواقع،فالحكم الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه،و شأني في حقه،بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لو لا الظن على خلافه .
و هذا أيضا كالأول في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه، هذا لا يلائم قوله في بيان هذا الوجه:«أن يكون الحكم من أصله تابعا لتلك الأمارة»لوضوح أن مقتضى التبعية عدم ثبوت الحكم قبل قيام الأمارة.
فالظاهر أن هذا وجه آخر يختلف عن الوجه السابق.و لعل الوجه السابق ممتنع عقلا،لامتناع تبعية مقام الثبوت لمقام الإثبات،بخلاف هذا الوجه و تمام الكلام في محل آخر.
قيام الظن على الخلاف لا يرفع مقتضى الحكم،و إنما يمنع من تأثيره فيه.
ص: 140
لأن الصفة المزاحمة بصفة أخرى لا تصير منشأ لحكم،فلا يقال للكذب النافع:إنه قبيح واقعا.
و الفرق بينه و بين الوجه الأول-بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه -:أن العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ،و لم يحدث في حقه بسبب ظنه حكم،نعم كان ظنه مانعا عن المانع ،و هو الظن بالخلاف.
الثالث:أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي يعني:التي من شأنها أن تستتبع الحكم.
لا يخفى أنه على الوجه الأول لا يتصور الظن بخلاف الحكم الواقعي، إذ لا واقع غير ما تؤدي إليه الأمارة.
نعم سبق أنه يحتمل وجهين:
أحدهما:أن يكون الحكم الواقعي ناشئا من قيام الأمارة و تابعا له.
و ثانيهما:أن يكون سابقا عليه مطابقا له في علم اللّه تعالى،فالأولى أن يقول:
بعد اشتراكهما في عدم ثبوت حكم واقعي فعلي على خلاف ما أدت إليه الأمارة.
يعني:في كون ظنه كالعلم كاشفا محضا عن الحكم،لا سببا لثبوت الحكم الواقعي،هذا على الثانى،و أما على الأول فهو سبب لثبوت الحكم الواقعي.
لكن عرفت أن الوجه الأول محتمل لوجهين،على الثاني منهما يكون كاشفا محضا مطلقا.مع أن الظاهر أن القائل بالتصويب لا يفرق فيه بين العلم و الظن فكما يكون الحكم عنده تابعا للظن أو متبدلا بسببه يكون تابعا للعلم أو متبدلا بسببه، و تمام الكلام في محله.
لا يخفى أن الظن بالحكم الواقعي ضد الظن بخلافه،لا مانع منه.
ص: 141
تضمنت الأمارة حكمه،و لا تحدث فيه مصلحة،إلا أن العمل على طبق تلك الأمارة و الالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع و ترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا،يشتمل على مصلحة،فأوجبه الشارع.
و تلك المصلحة لا بد أن تكون مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع،و إلا كان تفويتا لمصلحة الواقع،و هو قبيح ،كما عرفت في كلام ابن قبة .
فإن قلت:ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل على الأمارة و ترتيب أحكام الواقع على مؤداها،و بين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤداها هو الحكم الواقعي على المكلف؟مثلا:إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر،فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر،فصلاة الظهر في حق هذا الشخص خالية عن المصلحة الملزمة،فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي،فهنا وجوب واحد واقعا و ظاهرا متعلق بصلاة الجمعة.و إن لم يكن في فعل الجمعة صفة كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا،لكونه مفوتا للواجب مع التمكن من يكفي في رفع القبح مزاحمة مصلحة الواقع بمصلحة جعل الطريق و سلوكه،بلا حاجة إلى تدارك مصلحة الواقع الفائتة.و سيأتي في آخر كلام المصنف قدّس سرّه الإشارة إلى ذلك.و لأجله يمكن حمل التدارك في كلامه هنا على مجرد المزاحمة،لا تعويض المصلحة و رفع أثر فوتها،كما هو ظاهره.
عرفت أن الظاهر نظر ابن قبة إلى أمر آخر،و هو اجتماع الحكمين المتضادين.
ص: 142
إدراكه بالعلم.
فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعي بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة،فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني، و هو كون الأمارة سببا لجعل مؤداها هو الحكم الواقعي لا غير،و انحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة،و هو التصويب الباطل.
قلت:أما رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل،لأن مرجع جعل مدلول الأمارة في حقه الذي هو مرجع الوجه الثاني إلى أن صلاة الجمعة هي واجبة عليه واقعا،كالعالم بوجوب صلاة الجمعة،فإذا صلاها فقد فعل الواجب الواقعي،فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع فقد انقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر،كما إذا صار المسافر بعد فعل صلاة القصر حاضرا إذا قلنا بكفاية السفر في أول الوقت لصحة القصر واقعا.
و معنى الأمر بالعمل على طبق الأمارة :وجوب ترتيب أحكام الواجب الواقعي على مؤداها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع،كما يوهمه ظاهر عبارتي العدة و النهاية المتقدمتين، فإذا أدت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا،وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي،و تطبيق العمل على وجوبها الواقعي،فإن كان في أول الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب و جاز تأخيرها،فإذا فعلها جاز له فعل النافلة و إن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع الذي هو مرجع الوجه الثالث.
ص: 143
هي الظهر ،لعدم وجوب الظهر عليه فعلا و رخصته في تركها.و إن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها و الاشتغال بغيرها.
ثم إن استمر هذا الحكم الظاهري-أعني الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها- وجب كون الحكم الظاهري بكون ما فعله في أول الوقت هو الواقع،المستلزم لفوات الواقع على المكلف،مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ،لئلا يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلف مع التمكن من إتيانه بتحصيل فإن عدم الإتيان بالظهر يقتضي عدم مشروعية النافلة واقعا.
تعليل لقوله:«فإذا فعلها جاز له...».
هذا لا يمكن الالتزام به،فإنه عين التصويب.إلا أن يريد به عدم فعلية وجوب الظهر،بمعنى عدم وصوله و عدم تنجزه،كما قد يقع في بعض عباراتهم التعبير عن ذلك بعدم الفعلية،و لازمه كون جواز النافلة ظاهري لا واقعي.
فالأولى أن يقول:لأنه مرخص في البناء على عدم وجوب الظهر،فعدم وجوب الظهر عليه ظاهري،لا واقعي،كما قد يوهمه ظاهر كلامه.و سيأتي منه ما ظاهره الجري على ما ذكرنا.
عطف على قوله:«لعدم وجوب...».
عطف على قوله:«فإن كان في أول الوقت».
هذا إنما يتصور فيما إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في أول الوقت.
نعت لقوله:«الحكم الظاهري».
خبر(كون)في قوله:«وجب كون الحكم الظاهري».
عرفت في أول الكلام في الوجه الثالث أنه لا ملزم بالتدارك.
ص: 144
العلم به.
و إن لم يستمر،بل علم بوجوب الظهر في المستقبل،بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا،و وجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أول الأمر ،لأن المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الأمري،و إنما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة،فإذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر و عدم وجوب الجمعة،وجب حينئذ ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم-أعني وجوب الإتيان بالظهر- و نقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلا ما فات منها ،فقد تقدم أن مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهري المتحقق في زمان الفوت .
فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر،فقد تقدم أن حكم الشارع بالعمل بمؤدى الأمارة اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء الأخير لا بد أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر .
ثم إن قلنا:إن القضاء فرع صدق الفوت المتوقف على فوات متعلق بقوله:«عدم وجوبه».
لعل الأولى أن يقول:ما هو صغرى لكبرى هذا المعلوم،لأن العلم يتعلق بالكبريات،و العمل يتعلق بالصغريات،و هي التي تترتب في الخارج.
مثل الإتيان بها و بالنافلة بنية المشروعية مع عدم المشروعية.
عرفت أنه لا ملزم بالتدارك.
يعني:بخطإ الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة.
عرفت أنه لا بد من ثبوت المصلحة في الترخيص،إلا أنه لا ملزم لأن يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع.
ص: 145
الواجب من حيث أن فيه مصلحة،لم يجب فيما نحن فيه،لأن الواجب و إن ترك،إلا أن مصلحته متداركة،فلا يصدق على هذا الترك الفوت .
و إن قلنا:إنه متفرع على مجرد ترك الواجب،وجب هنا،لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا .
إلا أن يقال:إن غاية ما يلزم في المقام،هي المصلحة في معذورية هذا الجاهل مع تمكنه من العلم و لو كانت لتسهيل الأمر على المكلفين،و لا ينافي ذلك صدق الفوت ،فافهم.
ثم إن هذا كله على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري الإجزاء،واضح.
عرفت الإشكال في التدارك.مع أنه لو سلم فإنما هو لخصوص ما فات من مصلحة الواقع،و هو خصوص مصلحة الوقت،حيث لا يمكن تداركها من قبل المكلف،أما مصلحة أصل الواجب فلا موجب لتدارك المولى لها،لتمكن المكلف من تداركها بالقضاء.
و حينئذ يتحقق الفوت بالإضافة إلى أصل الواجب،فيجب قضاؤه،كما تجب الإعادة لو انكشف الخطأ في الوقت.
نعم لو لم يكن الواجب مما يقضى فلا بد من تداركه من قبل الشارع،بناء على لزوم تدارك الفائت،لفوته من أصله.
من الواضح أن تحصيل ملاك الواجب مأخوذ في مفهوم القضاء،فلا معنى لوجوبه مع فرض التدارك.فلاحظ.
الظاهر رجوع هذا إلى ما سبق منا من عدم الملزم بتدارك الشارع للمصلحة الواقعية الفائتة بمصلحة الطريق،فمع انكشاف الخطأ يتعين التدارك بالقضاء لو كان الواجب مما يقضى.
ص: 146
و أما على القول بالاقتضاء،فيشكل الفرق بينه و بين القول بالتصويب ،و ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في تمهيد القواعد استلزام القول بالتخطئة لعدم الإجزاء ،قال قدّس سرّه:«من فروع مسألة التصويب و التخطئة،لزوم الإعادة للصلاة بظن القبلة و عدمه».و إن كان تمثيله لذلك بالموضوعات محل نظر .
لا يخفى أن إجزاء الأمر الظاهري و إن اقتضى سقوط الإعادة و القضاء كالتصويب إلا أن الفرق بينهما:أن سقوط الإعادة و القضاء بناء على التصويب من جهة كون المأتي به امتثالا واقعيا،و لو للأمر الثانوي الحاصل بسبب قيام الأمارة المخطئة،و بناء على إجزاء الأمر الظاهري من جهة كونه مسقطا للأمر الواقعي السابق رتبة و زمانا على قيام الأمارة المشترك بين العالم و الجاهل،لوفائه بمصلحته في خصوص حال الجهل به،أو لكونه مانعا من تداركها و إن لم يكن وافيا بها،على ما يذكر في مبحث الإجزاء فقبل الإتيان بالمأمور به الظاهري لا تكليف إلا بالواقع الأولي،أما على التصويب فيثبت التكليف بمقتضى الأمارة و إن لم يمتثل.و لذا أمكن القول بالإجزاء مع انكشاف خطأ الأمارة في الموضوعات،بل ثبت ذلك في بعض الموارد مع الاتفاق-كما قيل-على عدم التصويب فيها.
لعل نظر الشهيد قدّس سرّه إلى أنه على القول بالتصويب يتعين الإجزاء عقلا، و على التخطئة لا يتعين،بل الأصل عدمه،و إن أمكن قيام الدليل على الإجزاء،لا أن القول بالتخطئة يستلزم عدم الإجزاء بنحو لا يمكن دلالة الأدلة الخاصة عليه.
و لذا كان مختاره قدّس سرّه،كما في ظاهر الروضة و صريح الروض تبعا للمشهور، الإجزاء لو صلى لغير القبلة عن جهل على تفصيل،مع ما هو المعلوم من عدم ذهابهم إلى التصويب،بل قيل:إنه لا قائل به في الموضوعات.و كذا في كثير من فروع الفقه، رجوعا إلى الأدلة الخاصّة.
الظاهر أن وجهه:عدم القائل بالتصويب في الموضوعات،و كأنه لأن-
ص: 147
و بالجملة:فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على حكم شرعي حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة على الموضوع الخارجي ،كحياة زيد و موت عمرو،فكما أن الأمر بالعمل في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع،و إنما يوجب جعل أحكامه ،فيترتب عليه الحكم ما دامت الأمارة قائمة عليه،فإذا فقدت الأمارة و حصل العلم بعدم ذلك الموضوع،ترتب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أول الأمر ،فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم .
و حاصل الكلام:ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيا،و الحكم بتحققه واقعا عند قيام الأمارة ،و بين الحكم -الموضوعات من الأمور الواقعية غير التابعة للأمارة و لا تنالها يد الجعل.
اللهم إلا أن يدعى التصويب في الأمارة بلحاظ أحكام الموضوعات،لا بلحاظ الموضوعات نفسها.نعم هذا إنما يقتضي إمكان التصويب فيها،و لا ينافي عدم القائل به.
يعني:الذي لا قائل بالتصويب فيه،كما عرفت.
يعني:ظاهرا،إذ لو كان واقعيا كان راجعا إلى التصويب،كما عرفت.
يعني:من باب انكشاف الخطأ،لا من باب انقلاب الحكم.
يعني:فلا يوجب جعل الحكم واقعا،بل ظاهرا ما دامت الأمارة،فإذا ظهر الخطأ وجب ترتيب آثاره من أول الأمر من باب الانكشاف لا الانقلاب.
يعني:الذي هو مقتضى التصويب.
ص: 148
واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.
و أما قولك :إن مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدى الأمارة إلى التصويب الباطل، نظرا إلى خلو الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي يكون في فوتها المفسدة،ففيه:
منع كون هذا تصويبا،كيف؟!و المصوبة يمنعون حكم اللّه في الواقع، فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه و التعبد بترتيب آثاره في الظاهر ،بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الرد على المصوبة.
و أما ما ذكر:من أن الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل على طبق الأمارة،فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة .
يعني:الذي هو مفاد الوجه الثالث.
يعني:في الإشكال المتقدم،لإثبات عدم الفرق بين الوجه الثاني و الثالث.
هذا إنما يتم على الاحتمال الأول من الوجه الأول للتصويب،كما لا يخفى.
إنما يكون حكما بلا صفة إذا كان التدارك بنحو يرفع تمام المصلحة الواقعية،أما إذا كان يرفع خصوص ما فات منها،فلا ينافي بقاء ما يمكن تداركه، من قبل المكلف بمثل الإعادة أو القضاء،كما ذكرنا.على أن التدارك فرع فوت الملاك،بفوت الواقع،فلا ينافي ثبوت الملاك في الواجب الواقعي المقتضي لوجوبه،-
ص: 149
و إلا ثبت انتفاء الحكم في الواقع ،و بعبارة اخرى:إذا فرضنا الشيء في الواقع واجبا و قامت أمارة على تحريمه،فإن لم يحرم ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة،و إن حرم،فإن بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادين،و إن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعي،ففيه:
أن المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه،هو الحكم المتعين المتعلق -فلا يكون وجوبه بلا ملاك،فملاك العمل بالأمارة من سنخ المزاحم لملاك الحكم الواقعي،لا الرافع له.
نعم بعد فوت ملاك الحكم الواقعي بالمخالفة يكون التدارك،و لا ملزم للالتزام بالتدارك من أول الامر بنفس قيام الأمارة،الذي هو في الحقيقة،تبدل في الملاك،لا تدارك له.
و بعبارة أخرى:إن كان المراد بالتدارك كون قيام الأمارة على خلاف الواقع موجبا لكون مؤداها موضوع الملاك الواقعي بحيث لا ملاك إلا على طبقه،و خلو الواقع عن الملاك،تعين ارتفاع الحكم الواقعي،و قيام مؤدى الأمارة مقامه،و كان عين التوصيب بالوجه الثاني.
و إن كان المراد به كون قيامها موجبا لكون مؤداها واجدا للملاك كالواقع تعين التخيير بينهما على طبق الملاك،فكل منهما يكون مجزيا،و كان هذا قريبا من التصويب،لأنه مثله في اقتضائه تبدل الحكم الواقعي،و إن خالفه في كيفية التبدل.
و إن كان المراد به كون العمل بمقتضى الأمارة الموجب لفوت الواقع مقتضيا لتدارك مصلحة الواقع و ملاكه،فمجرد قيام الأمارة قبل العمل لا يوجب تبدل الملاك،كما لا يوجب تبدل الحكم الواقعي،كان هذا بعيدا عن التصويب جدا،و من الظاهر أن الالتزام بالتدارك لأجل تفويت الواقع لا يقتضي إلا هذا.فتأمل جيدا.
يعني:و إن لم يبق الحكم في الواقع.
و هو يستلزم التصويب.
ص: 150
بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة،و يتعلق به العلم أو الظن و أمر السفراء بتبليغه،و إن لم يلزم امتثاله فعلا في حق من قامت عنده أمارة على خلافه، إلا أنه يكفي في كونه الحكم الواقعي أنه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصرا ،و الرخصة في تركه عقلا كما في الجاهل القاصر،أو هذا يجتمع مع التصويب على الوجه الثاني،كما لعله ظاهر.فالعمدة ما ذكرنا،و حاصله:أن المحذور،إما أن يكون هو الجمع بين الحكمين المتضادين،أو لزوم تفويت مصلحة الواقع بجعل الطرق الظنية.
أمّا الأول:فلم يتعرض له المصنف قدّس سرّه و قد أشرنا إليه في صدر الكلام.
و أما الثاني:فيمكن دفعه بوجوه ستة:التصويب بوجوهه الثلاثة التي أشار إليها المصنف قدّس سرّه و هي:الوجه الأول بمحتمليه الذين أشرنا إليهما،و الوجه الثاني، و المصلحة السلوكية بوجوهها الثلاثة التي ذكر بعضها المصنف قدّس سرّه،و ذكرنا بعضها:
الأول:الالتزام بكون قيام الأمارة موجبا لوفاء مؤداها بملاك الواقع مع بقاء الواقع على ما هو عليه من صلوحه للقيام بالملاك،و لازم ذلك التخيير بينهما قبل العمل بمؤدى الأمارة،و سقوطهما بعد العمل بها،و يتعين حينئذ عدم شرعية القضاء بل و لا الاعادة.
الثاني:الالتزام ببقاء الواقع على ما هو عليه من الملاك المقتضي لتعينه،و المستلزم لتحقق الفوت بالإضافة إليه لو فرض عدم امتثاله،غايته أنه يجب على المولى تدارك تلك الخسارة بعد وقوعها و تعويضها،و لازمه عدم تبدل الحكم الواقعي ما دام وقته موجودا،و عدم تحقق التدارك إلا بعد فوته بالمخالفة و عدم إمكان التحصيل.عليه يشرع القضاء لإمكان تدارك المكلف لأصل الواجب به،و لا يلزم الشارع إلا تدارك مصلحة الوقت لا غير،خلافا لما سبق من المصنف قدّس سرّه.
و قد ذكرنا أن الالتزام بالتدارك لا يقتضي إلا هذا الوجه دون الأول،إذ ليس الوجه الأول إلا التزاما بتبدل الواقع لا بتداركه.-
ص: 151
شرعا كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.
و مما ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجية،فإنها من هذا القسم الثالث .
و الحاصل:أن المراد بالحكم الواقعي،هي:مدلولات الخطابات الواقعية الغير المقيدة بعلم المكلفين و لا بعدم قيام الأمارة على خلافها ،و لها آثار عقلية و شرعية تترتب عليها عند العلم بها،أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤداها هو الواقع،نعم هذه -الثالث:الالتزام بكون المصلحة السلوكية مصححة لتفويت الواقع بجعل الأمارة من دون أن تكون موجبة لتداركه،لعدم كونها من سنخه،و لا وافية به، ففوت الواقع معها كفوته مع العذر العقلي كالغفلة،غايته أن ليس قبحا من المولى لكونه ناشئا من مصلحة أخرى لازمة.
و هذا هو المتيقن،دون ما سبقه،لعدم الدليل عليه،بل ظاهر أدلة الأحكام الواقعية على خلاف ما سبق،لظهورها في كون ملاكاتها منوطة بموافقتها و يفوت بمخالفتها و لا عوض عنه.و لا ملزم باعتبار التدارك بعد إمكان تصحيح جعل الأمارة بدونه.
نعم قد تدل عليه الأدلة بالخصوص.و عليه قد يبتني إجزاء الأمر الظاهري بناء على التخطئة،كما أشرنا إليه عند التعرض لكلام الشهيد الثاني قدّس سرّه.فلاحظ.
ما سبق في جعل الطرق في الأحكام آت هنا.نعم سبق أن القائل بالتصويب لا يقول به هنا،و إن كان ممكنا.
كما هو مقتضى الوجه الأول للتصويب بمحتمله الأول.
كما هو مقتضى الوجه الثاني للتصويب.
ص: 152
ليست أحكاما فعلية بمجرد وجودها الواقعي .
و تلخّص من جميع ما ذكرنا:أن ما ذكره ابن قبة من استحالة التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغير العلمية ممنوع على إطلاقه،و إنما يقبح إذا ورد التعبد على بعض الوجوه،كما تقدم تفصيل ذلك.
ثم إنه ربما ينسب إلى بعض:إيجاب التعبد بخبر الواحد أو مطلق الأمارة على اللّه تعالى،بمعنى قبح تركه منه،في مقابل قول ابن قبة.
فإن أراد به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكن من العلم و بقاء التكليف،فحسن .
و إن أراد وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد،فممنوع، إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقلي و هو الظن ،إلا أن يكون لبعض الظنون في نظره إن كان المراد بعدم فعليتها عدم وجوب امتثالها عقلا،فهو قطعي،لفرض العذر الشرعي أو العقلي.و إن كان المراد به قصور ملاكها عن فعلية التأثير،بحيث تكون أحكاما اقتضائية أو إنشائية،فهو مما لا وجه له،بل يرجع إلى الوجه الأول من التصويب،فإن المراد فيه بنفي الحكم الواقعي مع قطع النظر عن الأمارة نفي الحكم الواقعي الفعلي التام الملاك،لا نفي الحكم الواقعي الأعم منه و من الاقتضائي و الإنشائي.
كما يأتي الكلام فيه في دليل الانسداد،لكن يأتي منه قدّس سرّه الإشكال في تمامية الدليل بنحو يقتضي حجية الظن عقلا،و إن اللازم تبعيض الاحتياط بالمقدار الممكن.و تمام الكلام يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.
لكن ما اعترف به من امضاء الشارع لحكم العقل راجع في ظاهره لكون-
ص: 153
خصوصية .
و إن أراد حكم صورة الانفتاح:
فإن أراد وجوب التعبد العيني فهو غلط،لجواز تحصيل العلم معه قطعا.
و إن أراد وجوب التعبد به تخييرا،فهو مما لا يدركه العقل،إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة.
اللهم إلا أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع،أو أصح في نظر الشارع من غيره في مقام البدلية عن الواقع،و إلا فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظن كصورة الانسداد.
-ما حكم به العقل حجة شرعية.
فيتعين جعله بالخصوص،إلا أن ذلك مما لا يدركه العقل حتى يحكم بوجوبه على الشارع الأقدس،و إنما يعلم من قبل الشارع لا غير.
يعني:لو لم يكن ما هو أقرب أو أصح مع فرض لزوم الحرج من الإلزام بتحصيل العلم.
ص: 154
ثم إذا تبين عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم،و عدم القبح فيه و لا في تركه،فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبد به في الأحكام الشرعية مطلقا،أو في الجملة.
و قبل الخوض في ذلك،لا بد من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعول عند عدم الدليل على وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في الجملة،فنقول:
التعبد بالظن الذي لم يدل على التعبد به دليل،محرم بالأدلة الأربعة.
و يكفي من الكتاب:قوله تعالى: قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ. دلّ على أن ما ليس بإذن من اللّه من إسناد الحكم إلى الشارع، فهو افتراء .
هذا يدل على أن ما لم يأذن به اللّه تعالى واقعا لا يجوز إسناده إليه،و لا يدل على المدعى من أن ما احتمل كونه مأذونا فيه يحرم الاعتماد عليه في اسناد الحكم له تعالى.فهو أجنبي عما نحن فيه.
و بالجملة:مفاد الآية عدم جواز الإسناد إليه تعالى من دون حجة،لا على عدم-
ص: 155
و من السنة:قوله عليه السّلام في عداد القضاة من أهل النار:«و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم» .
-جواز البناء على الحجية مع الشك فيها.إلا أن يفهم ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع، فإنه إذا لم يجز إسناد الحكم إلى اللّه تعالى إلا بعد إذنه مع إمكان ثبوته واقعا كذلك لا يجوز إسناده إليه اعتمادا على مشكوك الحجية،لأنهما من باب واحد.
أو يقال:إن حجية الظن من الأحكام الشرعية فلا يجوز إسنادها إليه تعالى إلا مع إذنه في الإسناد،و مع الشك فيها و عدم الدليل عليها لا إذن في الإسناد،فالحرام إسناد الحجية إليه تعالى،لا إسناد الحكم الذي قام عليه مشكوك الحجية.إلا أنه أمر آخر غير ما نحن بصدده.فتأمل.
هذا يدل على عدم جواز البناء على الحكم مع الجهل،و حيث إن أدلة حجية الحجج حاكمة عليه،لأنها تقتضى كونها بحكم العلم،فمع الشك في حجية الشيء يشك في شمول هذه الأدلة لمورده،فالتمسك بعمومها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،الذي هو خلاف التحقيق،فيحتاج التحريم إلى دليل آخر،كما سبق في الآية الشريفة.
فالأولى أن يقال:إن البناء على حجية شيء تارة:يكون لإثبات المنجزية و المعذرية به.و أخرى:يكون لإثبات جواز نسبة ما قام عليه من الأحكام إليه تعالى و الالتزام به على أنه حكمه.
أما الأول فلا مجال له،لأن المنجزية و المعذرية بنظر العقل لا يترتبان إلا على ما أحرز اعتباره بوجه معتبر،حتى يصح الخروج به عن مقتضى الحجج أو الأصول العقلية و الشرعية.و هذا من الأمور الضرورية الوجدانية التي لا تحتاج إلى برهان.
و يكفي في الارشاد إليه ما دل على النهي عن ركوب الشبهات،مثل قولهم عليهم السّلام:
«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»و غيره.و إن كان الظاهر قصور ما ساقه المصنف قدّس سرّه من الأدلة النقلية عن الدلالة على ذلك.-
ص: 156
و من الإجماع:ما ادعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله:من كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء.
و من العقل:تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى،و لو كان جاهلا مع التقصير.
نعم،قد يتوهم متوهم:أن الاحتياط من هذا القبيل.
-و أما الثاني،فالوجه في دعوى حرمته ظهور أدلة حرمة التشريع في لزوم انتهاء النسبة إليه تعالى إلى طريق معتبر.و هذه الدعوى إن لم تثبت من الأدلة اللفظية لظهور مساقها في أنه لا يجوز الاستناد في نسبة الحكم إليه تعالى إلا على الطرق التي يصحح العقلاء الاستناد عليها في النسبة و ليس منها مشكوك الحجية،فلا أقل من ثبوتها بالأدلة اللبية من الإجماع،أو ضرورة المتشرعة بحسب ارتكازاتهم المعلوم كونها من الدين.
بل لا يبعد عدم جواز النسبة مع الشك حتى مع قيام الطرق المعتبرة أو الأصول المقررة،لأن مفاد أدلة حجية الطرق و الأصول هو جواز الاعتماد عليها في العمل لا في النسبة،و لا أقل من كون ذلك هو المنصرف منها،لأنه الغرض المهم.
و تمام الكلام في محل آخر.
هذا و ظاهر المصنف قدّس سرّه أن محل الكلام هو الأمر الثاني.لكنه كما ترى فإنه من المسائل الفقهية الفرعية،و عمدة نظر الأصولي إلى الأمر الأول.فلاحظ.
لم يتضح التقبيح المذكور بنحو يقتضى استحقاق العقاب،فضلا عن كونه بنحو يكشف عن التحريم الشرعي الذي بصدده المصنف قدّس سرّه،نعم لا إشكال في كونه عندهم خلاف الأولى،بل قبيحا في الجملة.
يعني:بتكلف النسبة للمولى،و إلا فالتكلف العملي على طبق الطريق المحتمل لا دليل على حرمته أصلا،بل هو حسن في الجملة،كما سيأتي.
ص: 157
و هو غلط واضح،إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنه منه مع عدم العلم بأنه منه،و بين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه،و شتان ما بينهما،لأن العقل يستقل بقبح الأول و حسن الثاني.
و الحاصل:أن المحرم هو العمل بغير العلم متعبدا به و متدينا به، و أما العمل به من دون تعبد بمقتضاه:
فإن كان لرجاء إدراك الواقع،فهو حسن ما لم يعارضه احتياط آخر، أو لم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه،كما لو ظن الوجوب و اقتضى الاستصحاب الحرمة،فإن الإتيان بالفعل محرم و إن لم يكن على وجه التعبد بوجوبه و التدين به.
و إن لم يكن لرجاء إدراك الواقع:
فإن لزم منه طرح أصل دل الدليل على وجوب الأخذ به حتى يعلم خلافه،كان محرما أيضا،لأن فيه طرحا للأصل الواجب العمل،كما فيما ذكر من مثال كون الظن بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم.
و إن لم يلزم منه ذلك جاز العمل،كما لو ظن بوجوب ما تردد بين الحرمة و الوجوب،فإن الالتزام بطرف الوجوب لا على أنه حكم اللّه المعين جائز.
لا يخفى أن حرمته ظاهرية راجعة إلى تنجز احتمال الحرمة في حقه،فيلزم العمل عليها عقلا،و ترك احتمال الوجوب،لوجود المؤمن منه بعد التعبد الشرعي بخلافه،لكن لو لم يعتن باحتمال الحرمة و صادف عدمها فلا عقاب إلا من جهة التجري.
ص: 158
لكن في تسمية هذا عملا بالظن مسامحة ،و كذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط .
و بالجملة:فالعمل بالظن إذا لم يصادف الاحتياط محرم إذا وقع على وجه التعبد به و التدين ،سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا،و إذا وقع على غير وجه التعبد به فهو محرم إذا استلزم طرح ما يقابله من الأصول و الأدلة المعلوم وجوب العمل بها.
هذا،و قد يقرر الأصل هنا بوجوه أخر:
منها:أن الأصل عدم الحجية ،و عدم وقوع التعبد به و إيجاب العمل به.
و فيه:أن الأصل و إن كان ذلك،إلا أنه لا يترتب على مقتضاه شيء، إذ العمل بالظن في مصطلحهم هو التعبد بمؤداه و البناء على أنه الحكم الشرعي و لو ظاهرا،لا مجرد موافقة الظن عملا.
و هو الوجه الأول،أعني:ما يكون الأخذ بالظن لرجاء إدراك الواقع احتياطا من دون نسبة مؤداه للمولى،فإن هذا ليس عملا بالظن،لما سبق.
لما عرفت من حرمة التدين.لكن هذا لا يفرق فيه بين مصادفة الاحتياط و عدمها،فلا وجه لقوله قدّس سرّه:«إذا لم يصادف الاحتياط».
إلا أن يكون مراده به:إذا لم يقع على وجه الاحتياط و برجاء إدراك الواقع.
لكن عرفت أنه حينئذ ليس عملا بالظن في مصطلحهم.
لأن الحجية لما كانت تابعة للجعل الشرعي كانت حادثة بحدوث الشريعة،فهي مسبوقة بالعدم،فيستصحب.
عطف على قوله:«وقوع التعبد».يعني:و عدم إيجاب العمل.
ص: 159
فإن حرمة العمل يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبد،من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبد به،ليحتاج في ذلك إلى الأصل،ثم إثبات الحرمة .
و الحاصل:أن أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الأحكام المترتبة على ذلك الحادث،و أما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشك فيه،و لا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الأصل.
و هذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ،فإنه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمة،بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ،فافهم.
و منها:أن الأصل هي إباحة العمل بالظن،لأنها الأصل في الأشياء، حكاه بعض عن السيد المحقق الكاظمي.
و حينئذ لا يكون للتعبد بالاستصحاب أثر عملي،فيكون لاغيا.لكن قد يدعى أن الحرمة مع عدم الحجية واقعا لعدم الموضوع،و مع عدم العلم بالحجية لعدم الشرط،ففائدة الاستصحاب إحراز عدم الموضوع،و هو كاف في رفع لغويته، و إن كان عدم الشرط محرزا.و لذا لا إشكال في جريان استصحاب الإباحة مع عدم ترتب أثر عليه،إلا عدم العقاب الذي هو مترتب مع الشك فيها أيضا،كما يأتي نظيره في مبحث الأقل و الأكثر الارتباطين.
اللهم إلا أن يدعى أن تمام الموضوع بحسب المرتكزات هو القطع بالحجية، و ليس هو من سنخ الشرط،فمع عدمه يحرم العمل بمشكوك الحجية،و لا أثر للحجية الواقعية.و به يفترق عن استصحاب الإباحة،و عما يأتي في مبحث الأقل و الأكثر.و إن كان لا يخلو عن إشكال.فتأمل جيدا.
ص: 160
و فيه أولا:على تقدير صدق النسبة :
أن إباحة التعبد بالظن غير معقول،إذ لا معنى لجواز التعبد و تركه لا إلى بدل،غاية الأمر التخيير بين التعبد بالظن و التعبد بالأصل أو الدليل الموجود هناك في مقابله الذي يتعين الرجوع إليه لو لا الظن،فغاية الأمر وجوب التعبد به أو بالظن تخييرا،فلا معنى للإباحة التي هي الأصل في الأشياء.
و ثانيا:أن أصالة الإباحة إنما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه ، و قد عرفت استقلال العقل بقبح التعبد بالظن من دون العلم بوروده من الشارع .
لا دخل لصدق النسبة في صحة الجواب و عدمها.
يعني:أن المكلف لا بد أن يرجع إلى طريق عقلي أو شرعي متعرض لوظيفته العملية،إما الظن أو غيره من الطرق و لو كانت أصلا،و حينئذ فالأمر دائر بين وجوب العمل بالظن تعيينا.و التخيير بينه و بين غيره،و حرمته،و لا تحتمل إباحته،حتى يدعى أنها مقتضى الأصل.
لكن فيه:أن الأصل لو كان هو البراءة أو غيرها من الأصول غير الإلزامية فلا يجب العمل به شرعا،بل هو جائز لا غير،و حينئذ لا وجه لاحتمال كون الظن طرفا في الوجوب التخييري،إذ لا وجوب أصلا،بل إما أن يباح العمل بالأصل فقط،أو بالظن معه.فتأمل جيدا.
إذ حكم العقل لما كان كاشفا عن حكم الشارع كان واردا على الأصل.
بل عرفت قيام الأدلة الشرعية على ذلك و لو كانت لبية،و لا أهمية لحكم العقل في المقام.هذا كله لو أريد من العمل به جواز التعبد و النسبة اعتمادا عليه، الذي هو حرام تكليفا بلا دليل.أما لو أريد به الجواز الطريقي إلى تحصيل الواقع-
ص: 161
و منها:أن الأمر في المقام دائر بين الوجوب و التحريم ،و مقتضاه التخيير،أو ترجيح جانب التحريم،بناء على أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
و فيه:منع الدوران،لأن عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم،لما عرفت:من إطباق الأدلة الأربعة على عدم جواز التعبد به من الشارع،أ لا ترى:أنه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة و حرمتها،كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها .
و منها:أن الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعية المعلومة إجمالا،و بين وجوب تحصيل خصوص -بحيث يكون مؤمنا عنه و عذرا بالإضافة إليه-الذي عرفت أنه عمدة ما يهم الأصولي في المقام من الحجية-فمن الظاهر أنه لا أصل يحرزه،لكونه أمرا وضعيا لا تكليفيا بل الأصل عدمه،لكونه حادثا مسبوقا بالعدم،لو لا ما سبق من المصنف قدّس سرّه من عدم الأثر للأصل المذكور،و سبق الكلام فيه.
كأنه:لأنه على تقدير الحجية يجب العمل بالحجة في الوصول إلى الواقع، و على تقدير عدمها يحرم التعبد،لما عرفت من حرمة التعبد بما لم يأذن اللّه تعالى في العمل به،لكن لو تم لزم الجمع بين الاحتمالين بالعمل من دون تعبد و نسبته إلى اللّه تعالى،للعلم الإجمالي،لا تقديم الحرمة أو التخيير.
و التحقيق أن احتمال الوجوب لا أثر له،لأن وجوب العمل بالحجة راجع إلى تنجز الواقع بها،و قد عرفت أن التنجز موقوف على العلم بالحجية،و لا أثر لاحتمالها فيه،كما أن البناء على الحرمة هو المتعين لما سيذكره المصنف قدّس سرّه.
يعني:التشريعية و أما الحرمة الذاتية فهي مدفوعة بالأصل، كالوجوب.
ص: 162
الاعتقاد القطعي،فيرجع إلى الشك في المكلف به،و تردده بين التخيير و التعيين،فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي تحصيلا لليقين بالبراءة،خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام .
و فيه:
أولا:أن وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدمة عقلية للعمل بها و امتثالها،فالحاكم بوجوبه هو العقل،و لا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه ،و أن الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد يعني:من الدوران بين التعيين و التخيير.لكن وجوب الاحتياط في الدوران بين التعيين و التخيير لو تم مختص بما إذا لم يكن هناك قدر جامع بين الأطراف،أما لو كان هناك قدر جامع كما في المقام فالمتعين الرجوع للبراءة.
ثم إنه لا يخفى أن هذا لو تم إنما يقتضي عدم الرجوع إلى الظن،و عدم الاكتفاء به في مقام الفراغ،بعد المفروغية عن الاشتغال بالتكليف و تنجزه،كما هو مقتضى فرض المستدل تنجز الأحكام الشرعية بالعلم الإجمالي،و لا يقتضي عدم الرجوع إليه في مقام إحراز التكليف و تنجزه.
نعم قد يتمسك في نفي حجيته-حينئذ-بأصالة البراءة من وجوب العمل به.فالعمدة في الإشكال أن وجوب العمل بالطريق في مقام إحراز التكليف و جواز الاجتزاء به في مقام الفراغ عنه لما كان طريقيا لا نفسيا لم يكن مجرى لأصالة البراءة و لا الاشتغال،و انما تجري الأصول في نفس ما قام عليه الطريق المحتمل الحجية من التكاليف الشرعية النفسية لا غير.
وجوب الرجوع إلى حجة و إن كان أمرا عقليا إلا أن إطلاق المقدمة عليه لا يخلو عن تسامح.فالأولى أن يقال:إنه حكم طريقي،كما أشرنا إليه.
الذي ينبغي أن يقال:إن كان مراد المستدل باحتمال كفاية الاعتقاد الظني-
ص: 163
أو خصوص العلم،بل إما أن يستقل بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي-على ما هو التحقيق-و إما أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد.و لا يتصور الإجمال في موضوع الحكم العقلي،لأن التردد في الموضوع يستلزم التردد في الحكم،و هو لا يتصور من نفس الحاكم ،و سيجيء الإشارة -احتمال كفايته بما هو حجة،فيرجع إلى احتمال حجيته بعد المفروغية عن لزوم الركون إلى حجة شرعية أو عقلية في مقام الامتثال،فليس مرجعه إلى دعوى الإجمال في كبرى حكم العقل،و إنما الشك في الصغرى،و ليست هي عقلية بل شرعية،و حينئذ يمكن الشك فيها من قبل العقل،لا كما ذكره المصنف قدّس سرّه.
إلا أنه يتعين الرجوع إلى ما سبق من أن العقل لا يحكم بترتيب آثار الحجة إلا بعد العلم بها،و لا دخل لذلك بمسألة الدوران بين التعيين و التخيير،إذ الدوران في ذلك إنما يكون في الكبرى لا في الصغرى.
و إن كان مراده باحتمال كفاية الاعتقاد الظني كفايته مع قطع النظر عن حجيته، فيكون مرجعه إلى أن العقل هل يلزم بالفراغ اليقيني و لو بتوسط اليقين بالحجية أو يكتفي بما يعمه و الظني،و من الظاهر أن الشك المذكور راجع إلى الشك في كبرى لزوم إحراز الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني،و لما كانت الكبرى المذكورة عقلية امتنع الشك فيها،و التردد في موضوعها،لما ذكره المصنف قدّس سرّه،من امتناع شك الحاكم في موضوع حكمه،بل يقطع بلزوم إحراز العلم و عدم كفاية غيره.
على أنه لو فرض تحقق الشك المذكور امتنع الاستدلال عليه بقاعدة التعيين عند الدوران بينه و بين التخيير،لرجوعها إلى قاعدة لزوم إحراز الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني،فالاستدلال بها عليها دوري.
لأنه من الامور الوجدانية التى ليس لها واقع محفوظ وراء الوجدان حتى يمكن الشك فيه.
ص: 164
إلى هذا في رد من زعم أن نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة ،مع عده دليل الانسداد دليلا عقليا،و حكما يستقل به العقل.
و ثانيا:أن العمل بالظن في مورد مخالفته للأصول و القواعد الذي هو محل الكلام ،مخالفة قطعية لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الأصول حتى يعلم خلافها،فلا حاجة في رده إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتمالية للتكليف المتيقن.
مثلا:إذا فرضنا أن الاستصحاب يقتضي الوجوب،و الظن حاصل بالحرمة،فحينئذ يكون العمل بالظن مخالفة قطعية لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين،فلا يحتاج إلى تكلّف أن التكليف بالواجبات و المحرمات يقيني،و لا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح مخالفة احتمالية للتكليف المتيقن،فلا يجوز،فهذا أشبه شيء بالأكل من القفا.
فقد تبين مما ذكرنا:أن ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن حيث يأتي هناك إن شاء اللّه تعالى الكلام في أن دليل الانسداد هل يقتضي حجية الظن مطلقا،أو خصوص نوع منه،أو بنحو الإهمال و الإجمال؟.
يعني:الشرعية.
كأنه من جهة ما سبق منه من عدم الإشكال في جواز العمل بالظن إذا لم يكن على وجه التعبد،و لم يستلزم مخالفة للأصول أو القواعد.لكن المورد قد لا يكون موردا للأصول الشرعية،بل العقلية،كقاعدة الاشتغال التي يلزم العمل بها و فرض الشك في حجية الظن عقلا-لو أمكن-مستلزم للشك في جريانها و عدمه، فلا يجري كلام المصنف قدّس سرّه.
ص: 165
يعتمد عليه،و حاصله:
أن التعبد بالظن مع الشك في رضاء الشارع بالعمل به في الشريعة تعبد بالشك،و هو باطل عقلا و نقلا،و أما مجرد العمل على طبقه،فهو محرم إذا خالف أصلا من الأصول اللفظية ،أو العملية الدالة على وجوب الأخذ بمضمونها حتى يعلم الواقع.
فالعمل بالظن قد يجتمع فيه جهتان للحرمة،كما إذا عمل به ملتزما بأنه حكم اللّه،و كان العمل به مخالفا لمقتضى الأصول.
و قد يتفق فيه جهة واحدة،كما إذا خالف الأصل و لم يلتزم بكونه حكم اللّه،أو التزم و لم يخالف مقتضى الأصول.
و قد لا يكون فيه عقاب أصلا،كما إذا لم يلتزم بكونه حكم اللّه،و لم يخالف أصلا،و حينئذ قد يستحق عليه الثواب،كما إذا عمل به على وجه الاحتياط.
هذا،و لكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في العمل و الالتزام بكون مؤداه حكم اللّه في حقه،فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملا به،فصح أن يقال:إن العمل بالظن و التعبد به كأصالة العموم و الإطلاق.
كالاستصحاب.
لعل هذا هو المنصرف من كلماتهم من العمل بالظن.و إن كان قد تحمل كلماتهم على مجرد الاستناد إليه و الاجتزاء به في العمل،بحيث يكون هو العلة فيه و إن لم يكن مبنيا على نسبة مضمونه و لا على نسبة حجيته للشارع الأقدس،فلا يكون حراما في نفسه،و إن لم يكن مجزيا عقلا.
ص: 166
حرام مطلقا،وافق الأصول أو خالفها،غاية الأمر أنه إذا خالف الأصول يستحق العقاب من جهتين:من جهة الالتزام و التشريع،و من جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتى يعلم بخلافه .
و قد أشير في الكتاب و السنة إلى الجهتين:
فمما أشير فيه إلى الأولى قوله تعالى: قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ بالتقريب المتقدم ،و قوله عليه السّلام:«رجل قضى بالحق و هو لا يعلم».
و مما أشير فيه إلى الثانية قوله تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، و قوله عليه السّلام:«من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه» ،و نفس أدلة الأصول .
لكن تقدم منا أن الحرمة ظاهرية،فهي إنما تستتبع العقاب مع مصادفة التكليف الواقعي و مخالفته عملا،دون ما لو لم يلزم ذلك.نعم قد يلزم التجري، فيتبعه حكمه.
تقدم الكلام فيه و في الحديث الآتي.
لا يخلو الاستدلال به للجهة الثانية عن إشكال،إذ يمكن حمل الانسداد على الوقوع في حرمة التشريع.
و أما الآية فلا ظهور فيها إلا في الردع عن التمسك بالظن و الاكتفاء به في الوصول إلى الواقع فهي ناظرة إلى عدم منجزيته و معذريته،لا إلى حرمة مخالفة الأصول،و إنما المتكفل لذلك أدلة الأصول بأنفسها،هذا مع أنها تقضي حجية الظن واقعا.
لأخذ العلم غاية لها في الأدلة الشرعية.
ص: 167
ثم إن ما ذكرنا من الحرمة من جهتين مبني على ما هو التحقيق:من أن اعتبار الأصول لفظية كانت أو عملية غير مقيدة بصورة عدم الظن على خلافها ،و أما إذا قلنا باشتراط عدم كون الظن على خلافها،فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن مطلقا،لا على وجه الالتزام و لا على غيره .
أما مع عدم تيسر العلم في المسألة،فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظن و بين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظن ،و كما لا دليل على التعبد بالظن كذلك لا دليل على التعبد بذلك الأصل،لأنه المفروض،فغاية الأمر التخيير بينهما،أو تقديم الظن،لكونه أقرب إلى الواقع،فيتعين بحكم العقل .
كما يأتي الكلام فيه في آخر الكلام في حجية الظواهر،و في التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب.
ما ذكره من الكلام الآتي-لو تم-إنما يقتضي جواز العمل به و متابعته و لو احتياطا،و لا يقتضى جواز نسبة مضمونه للشارع و التعبد به على أنه منه.إلا أن يكون المراد من الالتزام البناء على أن مضمونه الوظيفة العملية و لو كانت عقلية لا شرعية.لكن الظاهر أن مراده من الالتزام-فيما سبق-هو ما يتضمن النسبة للشارع.
فلاحظ.
الدوران بين الأمرين ناشئ من لزوم رجوع المكلف إلى حجة شرعية أو عقلية،و حيث لا حجة غيرهما انحصر الأمر بهما و تردد بينهما،و هذا موقوف على عدم احتمال حجة أخرى غيرهما.
لا يخفى أن الأصل الذي يدور الأمر بينه و بين الظن إن كان شرعيا فاللازم بعد تحقق سقوطه بالمعارضة الرجوع إلى الأصول العقلية.و إن كان عقليا-
ص: 168
و أما مع التمكن من العلم في المسألة،فلأن عدم جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظن و وجوب تحصيل اليقين،مبني على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ،أما إذا ادعي أن العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظن،و أن الضرر الموهوم لا يجب دفعه،فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكن.
ثم إنه ربما يستدل على أصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية عن العمل بالظن،و قد أطالوا الكلام في النقض و الإبرام في هذا المقام بما لا ثمرة مهمة في ذكره بعد ما عرفت .
-فلا يعقل التردد بينه و بين الظن لما عرفت من استحالة التردد في الأحكام العقلية، بل لا بد إما من الجزم بحجية الأصل دون الظن،أو العكس،و لا تصل النوبة إلى التخيير أو الترجيح.
لا يخفى أنه لا يجب الاقتصار على العلم،و يكفي الرجوع إلى غيره من الحجج الشرعية و العقلية المقتضية للأمان من العقاب و الضرر.و حينئذ إن أريد من حكم العقل بكفاية الظن حكمه بحجيته،فلا إشكال في جواز الرجوع إليه-حينئذ- لعدم الضرر معه.
لكن لا مجال لدعوى ذلك،إلا بناء على ما يأتى من أدلة حجية الظن،و هو خروج عن فرض الكلام و هو الشك في حجيته.و إن أريد حكمه بكفايته مع فرض عدم حجيته و عدم تحقق الأمان من العقاب به و إن كان موهوما فهو من الوهن بمكان عظيم،بل لا يكون النزاع-حينئذ-إلا لفظيا،ضرورة أن مراد القائل بعدم كفاية الظن و وجوب تحصيل العلم ليس إلا عدم الأمان من العقاب بدونه.
يعني:في تقريب مقتضى الأصل المعول عليه في المقام.لكن مقتضى الأصل المتقدم عدم ترتيب الأثر على الظن بملاك كونه مشكوك الحجية،أما الأصل-
ص: 169
لأنه إن أريد الاستدلال بها على حرمة التعبد و الالتزام و التدين بمؤدى الظن،فقد عرفت أنه من ضروريات العقل،فضلا عن تطابق الأدلة الثلاثة النقلية عليه.
و إن أريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظن و إن لم يكن عن استناد إليه :
فإن أريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكن من العلم به،فيكفي في ذلك الأدلة الواقعية .
و إن أريد حرمته إذا خالف الأصول مع عدم التمكن من العلم، فيكفي فيه أيضا أدلة الأصول ،بناء على ما هو التحقيق:من أن مجاريها صور عدم العلم الشامل للظن.
-المستفاد من الآيات فهو يقتضى عموم عدم حجية الظن،فالفرق بينهما هو الفرق بين الأصل العملي و العموم.
كأن مراده من دون تدين به و تعبد،إذ مجرد الاستناد و المتابعة من دون تعبد لا تقتضي الأدلة السابقة حرمته.نعم هو لا يصلح أن يكون عذرا مؤمنا من العقاب على تقدير المخالفة.
المقتضية للتكليف بالواقع المستلزم لحكم العقل بوجوب تحصيله و إحرازه إلا مع العذر،و ذلك لا يكون إلا مع الرجوع لمعلوم الحجية دون مثل الظن مما لم يقم الدليل على حجيته.
لكن أدلة الأصول إنما تقتضي حرمة مخالفتها ظاهرا،كما أشرنا إليه في أول الكلام في تقريب الأصل،و لعل مدعى المستدل بالآيات إثبات حرمة العمل بالظن واقعا.
ص: 170
و إن أريد حرمة العمل المطابق للظن من دون استناد إليه و تدين به، و عدم مخالفة العمل للواقع مع التمكن منه و لا لمقتضى الأصول مع العجز عن الواقع،فلا دلالة فيها و لا في غيرها على حرمة ذلك،و لا وجه لحرمته أيضا.
و الظاهر:أن مضمون الآيات هو التعبد بالظن و التدين به ،و قد عرفت أنه ضروري التحريم،فلا مهم في إطالة الكلام في دلالة الآيات و عدمها.
إنما المهم الموضوع له هذا المقصد بيان ما خرج أو قيل بخروجه من هذا الأصل،من الأمور الغير العلمية التي أقيم الدليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظن مطلقا أو في الجملة،و هي أمور:
ذكرنا قريبا أن ظاهر بعضها الردع عن الاعتماد عليه،الظاهر في عدم معذريته و منجزيته مع قطع النظر عن التدين و النسبة.
نعم ذلك إنما يقتضي المنع عن الاعتماد عليه فيما إذا خالف الأصول التنجيزية الالزامية،كاستصحاب الحرمة و قاعدة الاشتغال،دون ما لو خالف الأصول الترخيصية،كأصالة البراءة،فلا بأس بالعمل به-حينئذ-احتياطا.
يعني:من حيث هو ظن بلا أخذ خصوصية أخرى فيه.
ص: 171
ص: 172
[من ألفاظ الكتاب و السنة]
منها:الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب و السنة.
و هي على قسمين:
خلاف ذلك
،كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز،و أصالة العموم الشك في مراد المتكلم الجدي بعد فرض ظهوره النوعي الأولي،المسبب عن الأوضاع أو غيرها،كما سيأتي في القسم الثاني تارة:يكون مسببا عن احتمال عدم صدور الكلام في مقام بيان المراد الجدي،بل في مقام آخر من تقية أو سخرية أو نحوهما.
و أخرى:يكون مسببا عن احتمال عدم كونه في مقام الجري على ما عليه العقلاء من إرادة ظاهر الكلام،بل يريد ما هو خلاف الظاهر نظير التورية،إما لغرض عقلائي،كاستكشاف حال المخاطب،أو الخوف من ظالم،مع الاعتماد على قرينة منفصلة أو بدونه،و إما لمجرد التشهي جزافا فيما إذا أمكن خروج المتكلم عن مقتضى الحكمة.
ص: 173
-و ثالثة:لاحتمال اعتماد المتكلم على قرينة حالية أو مقالية،عامة أو خاصة، اختفت على السامع و لو بسبب الغفلة،توجب صرف الكلام عن ظاهره و ظهوره في معنى آخر،كالقرينة على الخصوص،أو التقييد،أو المجاز،أو غيرهما.
و المرجع في الأول أصالة الجهة المعول عليها عند العقلاء،و لا يظهر من المصنف قدّس سرّه التعرض لها هنا،و يأتي منه التعرض لها في أول مبحث خبر الواحد.
و في الثاني:أصالة الظهور التي هي بمعنى كون الأصل في المتكلم إرادة ظاهر كلامه،سواء كان حقيقة أم مجازا،أم عموما أم إطلاقا،أم غيرها.
و في الثالث:أصالة عدم القرينة.و منه يظهر أن الأصول الوجودية،كأصالة الحقيقة و العموم و الإطلاق راجعة إلى أصالة الظهور و مبنية عليها،و لا اعتبار بها إذا لم ترجع إليها،كما لو كان الظهور الشخصي في المعنى المجازي.كما أن الأصول العدمية،كأصالة عدم المخصص و المقيد و غيرهما،راجعة إلى أصالة عدم القرينة الصارفة للكلام عما هو ظاهر فيه ذاتا.
كما ظهر أيضا أنه لا وجه لإرجاع الأصول الوجودية إلى العدمية،كما يظهر من المصنف قدّس سرّه.و لا العكس،كما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته في المقام على غموض في كلامه،حيث أشار للوجه الثاني و الثالث،و فصل بينهما،ثم استظهر الرجوع فيهما معا إلى أصالة الظهور،بل كل منهما أصل برأسه،و هما مختلفان مفادا أو رتبة،حيث إن الأصول العدمية تنقح موضوع الأصول الوجودية،لأن القرينة لما كانت موجبة لتبدل الظهور فأصالة عدمها محرز للظهور،و منقح لموضوع أصالة الظهور.
اللهم إلا أن يقال:عدم إرادة الظهور في الوجه الثاني إن كان ناشئا عن غرض عقلائي من خوف أو امتحان أو نحوهما كان راجعا إلى الوجه الأول،لامتناع قصد الحكيم بيان المراد الجدي بكلام لا يظهر فيه،فمرجع الشك فيه إلى الشك في قصد-
ص: 174
و الإطلاق،و مرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة،و كغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حد الوضع ، و كالقرائن المقامية التي يعتمدها عقلاء أهل اللسان في محاوراتهم،كوقوع الأمر عقيب توهم الحظر ،و نحو ذلك ،و بالجملة:الأمور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم بحيث لو أراد المتكلم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة،عدّ ذلك منه قبيحا .
-المتكلم بيان المراد الجدي بكلامه.و المرجع فيه أصالة الجهة،لا أصالة الظهور.
و إن لم يكن ناشئا عن غرض عقلائي فهو خارج عن محل الكلام إذ الكلام فيما لو كان المتكلم حكيما،كالشارع الأقدس فلا وجه لحمل كلماتهم و استشهادهم بأصالة الظهور عليه،فليس هناك إلا الوجه الأول و الثالث،و لا بد من الالتزام بكون جميع الأصول الوجودية و العدمية المشار إليها جارية في المقام الثالث،و حينئذ لا يبعد ما ذكره قدّس سرّه من رجوع الأصول الوجودية إلى العدمية.فتأمل جيدا.
بيان للقرينة الصارفة.يعني:كما لو شك في غلبة استعمال المطلق الموجب لصرفه عن ظاهره.
إذ لو قيل بوصوله إلى حد الوضع كان الشك شكا في النقل،فلا يرجع فيه إلى أصالة عدم القرينة،بل إلى أصالة عدم النقل.
يعني:لو شك في وقوع الأمر عقيب توهم الحظر حتى يتبدل ظهوره الأصلي.
كقرينة المجاز،كما لو احتمل اعتماد المتكلم على قرينة حالية أو مقالية خاصة صارفة عن المعنى الحقيقي.
لإخلاله بغرضه بعد جريان العقلاء على تلك الطرق و عملهم-
ص: 175
و القسم الثاني:ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ،و تمييز مجازاتها عن حقائقها،و ظواهرها عن خلافها ،كتشخيص أن لفظ(الصعيد) موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص؟و تعيين أن وقوع الأمر عقيب توهم الحظر هل يوجب ظهوره في الإباحة المطلقة؟و أن الشهرة في المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة عن الظهور العرضي المسبب من الشهرة،نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض أفراده ؟
و بالجملة:فالمطلوب في هذا القسم أن اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو غير ظاهر ؟و في القسم الأول أن الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مرادا أو لا؟
و الشك في الأول مسبب عن الأوضاع اللغوية و العرفية ، -بمقتضاها.
فائدة هذا القسم تنقيح الظهورات الأولية،سواء كانت ناشئة عن الوضع اللغوي أو العرفي،أم عن القرائن العامة،كوقوع الأمر عقيب توهم الحظر، و سبق الفرد المعهود الموجب لظهور التعريف باللام فيه و نحوهما.
يعني:فإنه لو أريد منه المطلق احتيج إلى قرينة صارفة عن خصوصية ذلك الفرد.
يعني:ظهورا أوليا مع قطع النظر عن المانع و هو القرينة المحتملة.
و هو القسم الثاني الذي ذكره أولا بعد قوله:«و بالجملة:
فالمطلوب...».
و كذا يكون مسببا عن القرائن العامة،كوقوع الأمر عقيب الحظر.إلا أن-
ص: 176
و في الثاني عن اعتماد المتكلم على القرينة و عدمه.
فالقسمان من قبيل الصغرى و الكبرى لتشخيص المراد .
أما القسم الأول:
[ما يستعمل لتشخيص مراد المتكلم] فاعتباره في الجملة مما لا إشكال فيه و لا خلاف،لأن المفروض كون تلك الأمور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم،و من المعلوم بديهة أن طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم .
و إنما الخلاف و الإشكال وقع في موضعين:
أحدهما:جواز العمل بظاهر الكتاب.
و الثاني:أن العمل بالظواهر مطلقا حتى في حق غير المخاطب -يكون مراده من الأوضاع العرفية ذلك،لا الوضع المستند إلى غلبة الاستعمال عند العرف الذي هو عبارة عن النقل،و يكون المراد بالوضع اللغوي ما يعم النقل.
هذا لا يخلو عن غموض،و لم يتيسر لنا صوغ المقدمتين المذكورتين بنحو يقتضيان النتيجة المذكورة.و لعله لذا اسقط في كثير من النسخ قوله:«فالقسمان من قبيل...».
نعم القسم الأول يحرز المقتضي لاستكشاف المراد،و هو الظهور الأولي، و الثاني يحرز عدم المانع منه،و هو القرينة الصارفة.
إذ لو كان له طريق مخترع لكان عليه التنبيه عليه،و إلا كان مخلا بغرضه، و هو لا يناسب حكمته،و لو نبه على ذلك لوصل إلينا لشدة الدواعي لحفظه، و تأكدها فيه.
ص: 177
بها قام الدليل عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية،أم لا؟
و الخلاف الأول ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلا .
و الخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد المناسب أن يقول:في حق غير المقصود بالإفهام،لما سيذكره في تحرير النزاع المذكور،و الاستدلال له.
بل هو نظير الألغاز المبنية على قرائن خاصة لا يعلم بها إلا الخواص، التى كان بناء أهل اللسان على أنه لا يحق لغير الخواص استفادة المراد منها.و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر في الخطاب و خلاف أصالة عدم القرينة،و لذا احتيج فيه إلى الأدلة الخاصة المخرجة عن مقتضى الأصل المذكور.
هذا،و قد يدعى أن مرجع النزاع في حجية ظاهر الكتاب إلى دعوى كون المخاطب به هم المعصومون عليهم الصلاة و السلام،لمثل قوله عليه السّلام:«إنما يعرف القرآن من خوطب به».و حينئذ يبتني على النزاع الثاني.
و فيه:أن ظاهر الخبر عدم معرفة القرآن لغير المخاطب به لخصوصية في القرآن،لا عدم حجية الكلام مطلقا في حق غير المخاطب لبيان قضية عرفية ارتكازية تجري في غير القرآن.
نعم لو تضمن الحديث تعليل عدم حجية القرآن في حق غير المعصومين عليهم السّلام بأنهم لم يخاطبوا كان دالا على المدعى.و لذا ذهب إلى عدم حجية ظواهر الكتاب من يرى حجية الظواهر في حق غير المخاطب،أو غير المقصود بالإفهام،و هم الأخباريون الذين يعلمون بالأخبار المعلوم عدم كون المخاطب بها جميع الناس.
ص: 178
غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطابات بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.
فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى .و أما الكبرى-أعني كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم،ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة-فمما لا خلاف فيه،و لا إشكال.
الراجع إلى دعوى عدم بناء أهل اللسان على الحجية في محل النزاع.
ص: 179
ص: 180
[حجية ظواهر الكتاب]
فتفصيله:
أنه ذهب جماعة من الأخباريين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير و كشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات اللّه عليهم.
و أقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان:
أحدهما:الأخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع عن ذلك:مثل النبوي:«من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
و في رواية اخرى:«من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ...».
و في نبوي ثالث:«من فسر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، و إن أخطأ سقط أبعد من السماء».
و في النبوي العامي:«من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
و عن مولانا الرضا عليه السّلام،عن أبيه،عن آبائه،عن أمير المؤمنين عليهم السّلام،
ص: 181
قال:«قال رسول اللّه:إن اللّه عزّ و جل قال في الحديث القدسي:ما آمن بي من فسر كلامي برأيه،و ما عرفني من شبهني بخلقي،و ما على ديني من استعمل القياس في ديني».
و عن تفسير العياشي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«قال:من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر،و من فسر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر».
و عن مجمع البيان:أنه قد صح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عن الأئمة القائمين مقامه:أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح و النص الصريح.
و قوله عليه السّلام:«ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية يكون أولها في شيء و آخرها في شيء،و هو كلام متصل ينصرف إلى وجوه».
و في مرسلة شبيب بن أنس،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،أنه قال لأبي حنيفة:
«أنت فقيه أهل العراق؟قال:نعم،قال:فبأي شيء تفتيهم؟قال:بكتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال:يا أبا حنيفة،تعرف كتاب اللّه حق معرفته، و تعرف الناسخ من المنسوخ؟قال:نعم،قال عليه السّلام:يا أبا حنيفة،لقد ادعيت علما!ويلك،ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك،و لا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ما ورثك اللّه من كتابه حرفا».
و في رواية زيد الشحام،قال:«دخل قتادة على أبي جعفر عليه السّلام،فقال له:أنت فقيه أهل البصرة؟فقال:هكذا يزعمون،فقال عليه السّلام:بلغني أنك تفسر القرآن،قال:نعم»إلى أن قال له:«يا قتادة،إن كنت قد فسرت القرآن
ص: 182
من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت،و إن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت،ويحك يا قتادة،إنما يعرف القرآن من خوطب به».
إلى غير ذلك مما ادعى في الوسائل في كتاب القضاء تجاوزها عن حد التواتر.
و حاصل هذا الوجه يرجع إلى:أن منع الشارع عن ذلك يكشف عن أن مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام،فليس من قبيل المحاورات العرفية.
و الجواب عن الاستدلال بها:
أنها لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها و تخصيصها و إرادة خلاف ظاهرها في الأخبار،إذ من المعلوم أن هذا لا يسمى تفسيرا ،فإن أحدا من العقلاء إذا رأى هذا إنما يصلح جوابا عما اشتمل على عنوان التفسير و هو جلّ الروايات المتقدمة،دون مثل الرواية الأخيرة،لقوله عليه السّلام فيها:«إنما يعرف القرآن من خوطب به»النافي لمحض المعرفة الصادقة مع الأخذ من الظواهر.
اللهم إلا أن تحمل على التفسير بقرينة صدرها.أو على ما يأتي من الاستدلال بالظواهر الكتابية بحيث يستغنى به عن غيره،كسنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المروية عن طريق أهل البيت عليهم السّلام،و كقولهم عليهم السّلام الذين هم أعلم بالكتاب لكونهم مخاطبين به.كما هو الحال في مرسلة شبيب بن أنس المتضمنة لمكالمة الإمام عليه السّلام لأبي حنيفة لقوله عليه السّلام:
«تعرف كتاب اللّه حق معرفته...»فإن المعرفة الكاملة هي المستوجبة للاكتفاء بالقرآن و الاستغناء به عن غيره،و من المعلوم عدم توقف الحجية على ذلك.و أما النبوي الثاني المتضمن للنهي عن القول في القرآن بغير علم فهو محمول على التفسير-
ص: 183
في كتاب مولاه أنه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له عربيا أو فارسيا أو غيرهما فعمل به و امتثله،لم يعد هذا تفسيرا،إذ التفسير كشف القناع .
ثم لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا،لكن الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان،فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية و العرفية.
و حينئذ:فالمراد بالتفسير بالرأي:إما حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد احتماليه،لرجحان ذلك في نظره القاصر و عقله الفاتر.
و يرشد إليه:المروي عن مولانا الصادق عليه السّلام،قال في حديث طويل:
«و إنما هلك الناس في المتشابه،لأنهم لم يقفوا على معناه و لم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم،و استغنوا بذلك عن مسألة -بالرأي الذي سيأتي الكلام فيه.
لم نعثر عاجلا على ما يناسب ذلك من كلمات اللغويين.إلا ما في مجمع البحرين قال:«التفسير في اللغة كشف المعنى اللفظ و إظهاره مأخوذ من الفسر، مقلوب السفر،يقال:أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته،و أسفر الصبح إذا ظهر» و في لسان العرب:«الفسر كشف المغطى،و التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل» و في القاموس:«الفسر الإبانة و كشف المغطى،كالتفسير...ثعلب:التفسير و التأويل واحد،أو هو كشف المراد عن المشكل،و التأويل ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر».
حيث إن المنهي عنه في أكثر الأخبار السابقة ليس مطلق التفسير،بل خصوص التفسير بالرأي.
ص: 184
الأوصياء عليهم السّلام فيعرفونهم».
و إما الحمل على ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفية و اللغوية،من دون تأمل في الأدلة العقلية و من دون تتبع في القرائن النقلية، مثل الآيات الأخر الدالة على خلاف هذا المعنى،و الأخبار الواردة في بيان المراد منها،و تعيين ناسخها من منسوخها .
و مما يقرب هذا المعنى الثاني-و إن كان الأول أقرب عرفا- :
أن المنهي في تلك الأخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب اللّه تعالى عن أهل البيت عليهم السّلام،بل يخطئونهم به،و من المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نص الإمام عليه السّلام على ظاهر القرآن،كما أن المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس .
و يرشدك إلى هذا:ما تقدم في رد الإمام عليه السّلام على أبي حنيفة حيث إنه يعمل بكتاب اللّه،و من المعلوم أنه إنما كان يعمل بظواهره،لا أنه كان عطف على قوله:«إما حمل اللفظ على خلاف ظاهره...».
تقدم حمل بعض الروايات السابقة على ما يقرب من هذا المعنى.
بل هو المتعين،إذ ليس في المعنى الثاني تفسير،و إنما هو يبتني على الجمود، أو الغرور و ادعاء العلم الكامل بالقرآن بحيث لا يحتاج معه إلى شيء.نعم عرفت أن بعض الروايات التى لا تتضمن التفسير قد تحمل على هذا المعنى أو ما يقرب منه.
و منه يظهر الإشكال في استدلاله قدّس سرّه للحمل على هذا المعنى بما تقدم في رد الإمام على أبي حنيفة،حيث لم يتضمن ذلك التفسير.
بل مذهبهم على عدم القبول من أهل البيت عليهم السّلام،حتى لو لم يكن في الواقعة ظاهر كتابي.
ص: 185
يؤوله بالرأي،إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب و السنة .
و يرشد إلى هذا:قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في ذم المخالفين:«إنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض،و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجوا بالخاص و هم يظنون أنه العام،و احتجوا بالآية و تركوا السنة في تأويلها،و لم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام و إلى ما يختمه،و لم يعرفوا موارده و مصادره،إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا و أضلّوا».
و بالجملة:فالإنصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص و التتبع في سائر الأدلة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السّلام،كيف و لو دلت على المنع من العمل على هذا الوجه،دلت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم السّلام .
ففي رواية سليم بن قيس الهلالي،عن أمير المؤمنين عليه السّلام:«إن أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل القرآن،منه ناسخ و منسوخ،و خاص و عام،و محكم هذا ما يذكرونه في الأصول،و لا يبعد رجوعهم للرأي في الفقه حتى مع وجود الكتاب،كما هو المعروف من سيرة سلفهم،و منه يظهر الإشكال فيما ذكره قدّس سرّه من أن أبا حنفية لا يعمل إلا بظواهر القرآن.
كما هي طريقة الإمامية خلفا عن سلف.
لا يخفى أن الروايتين الآتيتين لم تتضمنا المنع عن تفسير السنة حتى يصح الاستشهاد بهما في المقام و جعلهما نظيرا للروايات السابقة الواردة في تفسير القرآن، و مجرد تضمنهما اشتمال السنة على الناسخ و المنسوخ و الخاص و العام و المحكم و المتشابه لا يكفي في النقض على الأخباريين.
ص: 186
و متشابه،و قد كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكلام يكون له وجهان كلام عام و كلام خاص،مثل القرآن».
و في رواية ابن مسلم:«إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».
هذا كله،مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن،مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين،و غيرها مما دل على الأمر بالتمسك بالقرآن و العمل بما فيه،و عرض الأخبار المتعارضة بل و مطلق الأخبار عليه،و رد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود، و الأخبار الدالة قولا و فعلا و تقريرا على جواز التمسك بالكتاب.
مثل قوله عليه السّلام لما قال زرارة:من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟فقال عليه السّلام:«لمكان الباء»،فعرفه عليه السّلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب.
و قول الصادق عليه السّلام في مقام نهي الدوانيقي عن قبول خبر النمام:«إنه فاسق،و قال اللّه تعالى: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية».
و قوله عليه السّلام لابنه إسماعيل :«إن اللّه عزّ و جل يقول: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ عطف على قوله:«خبر الثقلين».ثم إن بعض هذه الأخبار قد يكون جاريا مجرى الإلزام لكون الخصم من المخالفين كما قد يحمل عليه حديث الإمام مع المنصور الدوانيقي.لكن في الباقي كفاية.
حيث عتب عليه عدم تصديقه لمن أخبره بشرب رجل للخمر،لأنه لم يرتب الأثر على خبره،و استأمن الرجل المذكور على ماله.
و يأتي ذكر الخبر في الاستدلال بالآية المذكورة لحجية خبر الواحد،فإن
ص: 187
وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم».
و قوله عليه السّلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء،اعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله:«أما سمعت قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً.
و قوله عليه السّلام في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا:«إنه زوج،قال اللّه عزّ و جل: حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، و في عدم تحليلها بالعقد المنقطع:«إنه تعالى قال: فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا» .
و تقريره عليه السّلام التمسك بقوله تعالى: وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ، و أنه نسخ بقوله تعالى: وَ لاٰ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ.
و قوله عليه السّلام في رواية عبد الأعلى في حكم من عثر فوقع ظفره،فجعل على إصبعه مرارة:«إن هذا و شبهه يعرف من كتاب اللّه مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ثم قال:امسح عليه»،فأحال عليه السّلام معرفة حكم المسح على إصبعه المغطى بالمرارة إلى الكتاب،موميا إلى أن هذا لا يحتاج إلى السؤال،لوجوده في ظاهر القرآن.
-العتب إنما يحسن بعد فرض وفاء الظهور القرآني بالبيان بنحو ينبغي الرجوع إليه و يكون حجة.كما تضمن الخبر أيضا الاستدلال بقوله تعالى: وَ لاٰ تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ ثم قوله عليه السّلام:و أي سفيه أسفه من شارب الخمر.
يعني:و حيث أنه لا طلاق في المنقطع كشف عن عدم كونه مرادا من إطلاق الزوج.فاستدل الإمام عليه السّلام بظهور الذيل في صرف إطلاق الصدر الشامل للزواج المنقطع،و هو من الاستدلالات المبنية على نحو من العناية و الدقة،و إذا ساغ مثل ذلك كان الاستدلال بالظواهر الجلية أولى.
ص: 188
و لا يخفى:أن استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة مما لا يظهر إلا للمتأمل المدقق،نظرا إلى أن الآية الشريفة إنما تدل على نفي وجوب الحرج،أعني المسح على نفس الإصبع،فيدور الأمر في بادئ النظر بين سقوط المسح رأسا،و بين بقائه مع سقوط قيد«مباشرة الماسح للممسوح»،فهو بظاهره لا يدل على ما حكم به الإمام عليه السّلام،لكن يعلم عند التأمل:أن الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح،فهو الساقط دون أصل المسح ،فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح،فيمسح على الإصبع المغطى.
فإذا أحال الإمام عليه السّلام استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب،فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الآية المذكورة،أو غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كل عارف باللسان من ظاهر القرآن،إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم السّلام.
لكنه موقوف على فهم كون المباشرة قيدا في المسح بنحو تعدد المطلوب، لا بنحو وحدته،و هو غير ظاهر و لازمه كون استدلاله عليه السّلام تعبديا،لا إقناعيا إلزاميا للمخاطب،و هو خلاف الظاهر جدا.
فالأولى أن يحمل استدلاله عليه السّلام على ظاهره من كونه استدلالا لمجرد عدم وجوب مسح الإصبع مع الحرج،و يكون وجوب المسح على المرارة حكما آخر لا يستفاد من الآية الشريفة،بل يبتني على بدلية الجبيرة عن البشرة المعلومة للسائل و لو اتفاقا،حتى يصح الاستدلال على ظاهره من كونه إلزاميا أو إقناعيا.
متعلق بقوله:«فكيف يحتاج...».
ص: 189
و من ذلك:ما ورد من أن المصلي أربعا في السفر إن قرئت عليه آية القصر وجب عليه الإعادة،و إلا فلا ،و في بعض الروايات:«إن قرئت عليه و فسرت له».
و الظاهر-و لو بحكم أصالة الإطلاق في باقي الروايات- :
أن المراد من تفسيرها له بيان أن المراد من قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا بيان الترخيص في أصل تشريع القصر و كونه مبنيا فإن الظاهر منه كون قراءة الآية بيانا مصححا للتنجيز و الاحتجاج، و هو يدل على حجية ظاهر الكتاب.
إلا أن يقال:إن المنشأ في ذلك كون قراءة الآية بحد موجبة لتنبيه المكلف إلى اختلاف حال الصلاة المنجز للواقع و الموجب للسؤال.أما مع عدمه فيكون المكلف غافلا معذورا لو لم يكن يسأل.و حينئذ لا تدل هذه الروايات على كفاية قراءة الآية في البيان،بل كفايتها في تنجيز الاحتمال.
فإن مقتضاها عدم الحاجة إلى التفسير مطلقا،و حيث كان المتيقن من التفسير الذي تعرضت له الرواية خصوص تفسير قوله تعالى:لا جناح لزم الاقتصار عليه،و نفي غيره بأصالة الإطلاق في الروايات.
و فيه:أن الرواية لم تقيد بتفسير الفقرة المذكورة،بل ذكرت تفسير الآية،و هي حينئذ لا تصلح للاستشهاد في قبال الأخباريين،بل يبتني الكلام فيها على معنى التفسير،فإن كان مختصا ببيان المجمل أو صرف الظاهر عن ظاهره-كما هو الظاهر و تقدم من المصنف قدّس سرّه-كان دالا على حجية الظهور،و إن كان يعم بيان مقتضى الظاهر-كما يظهر من الأخباريين-كان دالا على عدم حجيته.
هذا مضافا إلى ما عرفت قريبا من الإشكال في الاستدلال بالروايات المذكورة.
ص: 190
على التخفيف،فلا ينافي تعين القصر على المسافر و عدم صحة الإتمام منه، و مثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة.
و قد ذكر زرارة و محمد بن مسلم للإمام عليه السّلام:«إن اللّه تعالى قال:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ، و لم يقل:افعلوا،فأجاب عليه السّلام بأنه من قبيل قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا».
و هذا أيضا يدل على تقرير الإمام عليه السّلام لهما في التعرض لاستفادة الأحكام من الكتاب،و الدخل و التصرف في ظواهره.
و من ذلك:استشهاد الإمام عليه السّلام بآيات كثيرة،مثل الاستشهاد لحلية بعض النسوان بقوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ، و في عدم جواز طلاق العبد بقوله: عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ .
و من ذلك:الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً... الآية،إلى غير ذلك مما لا يحصى.
قد يقال:إن هذا ليس تمسكا بالظاهر،إذ لا ظهور للآية إلا في ضرب المثل بالعبد الذي لا يقدر على شيء،لا أن كل عبد مملوك لا يقدر على شيء،حتى يكون له إطلاق و ينفع في الاستدلال،فاستدلال الإمام عليه السّلام لا بد أن يكون مبنيا على علمه بالمراد من الآية على ظهور الآية فيه.
اللهم إلا أن يقال:توصيف العبد بأنه مملوك و تعقيبه بقوله:«لا يقدر على شيء»ظاهر في أن علة عدم القدرة هي المملوكية الحاصلة في كل عبد،فيدل على العموم،و لو لم يكن ظاهرا في ذلك فلا أقل من كونه مشعرا به.
ص: 191
الثاني من وجهي المنع:
أنا نعلم بطرو التقييد و التخصيص و التجوز في أكثر ظواهر الكتاب، و ذلك مما يسقطها عن الظهور .
و فيه:
أولا:النقض بظواهر السنة،فإنا نقطع بطرو مخالفة الظاهر في أكثرها.
و ثانيا:أن هذا لا يوجب السقوط،و إنما يوجب الفحص عما يوجب مخالفة الظاهر.
فإن قلت:العلم الإجمالي بوجود مخالفات الظواهر لا يرتفع أثره و هو وجوب التوقف بالفحص ،و لذا لو تردد اللفظ بين معنيين،أو علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الآخر،كما في العامين من وجه و شبههما وجب التوقف فيه و لو بعد الفحص.
قلت:هذه شبهة ربما تورد على من استدل على وجوب الفحص عن المخصص في العمومات بثبوت العلم الإجمالي بوجود المخصصات ، لا يخفى أن العلم الإجمالي بالمخالفة في الظواهر لا يوجب سقوط ظهورها و ارتفاعه،نعم هو موجب لسقوط حجية الظهور.و لعل هذا هو مراد المستدل.
كأنه لعدم كون الفحص موجبا للعلم بعدم المخالفة للظاهر،لاحتمال خفاء القرينة الكاشفة عن مخالفته،و مع احتمال المخالفة لا مجال للعمل بالظاهر بعد تنجز الاحتمال المذكور بالعلم الإجمالي.
فإنه يوجب سقوط العمومات عن الحجية،فلا يجوز العمل فيها قبل-
ص: 192
فإن العلم الإجمالي إما أن يبقى أثره و لو بعد العلم التفصيلي بوجود عدة مخصصات،و إما أن لا يبقى ،فإن بقي فلا يرتفع بالفحص ، و إلا فلا مقتضي للفحص .
و تندفع هذه الشبهة:بأن المعلوم إجمالا هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص،و أما وجود -الفحص.
بيان لوجه الشبهة التي تورد على الاستدلال المذكور.و حاصلها:أنه مع العلم الإجمالي المذكور إن عثر على عدة مخصصات بحيث لا يعلم بوجود غيرها و إن كان محتملا،فإن فرض ارتفاع أثر العلم الإجمالي بذلك لزم عدم وجوب الفحص عن المخصصات في الوقائع و العمومات الباقية،و ليس بناؤهم على ذلك،و إن فرض عدم ارتفاع أثره بذلك لتنجز أطراف العلم الإجمالي به مع فرض بقاء الاحتمال فلا أثر للفحص،لعدم كونه رافعا للاحتمال،بعد احتمال خفاء بعض المخصصات بسبب بعض العوارض الخارجية.
لبقاء الاحتمال في بقية الظواهر،و العثور على بعض المخصصات لا يوجب ارتفاع الاحتمال المتنجز بسبب العلم الإجمالي المشار إليه.
لما أشرنا إليه من أن الفحص لا يوجب العلم بعدم مخالفة الظاهر للمراد لاحتمال خفاء القرينة على التخصيص لبعض العوارض الخارجية.
يعني:لو ارتفع أثر العلم الإجمالي بالعثور على عدة مخصصات لبعض العمومات من جهة عدم العلم بوجود المخصص بعد،و لا أهمية لاحتماله من دون أن يعلم به إجمالا.
يعني:في الباقي،مع أنهم يقولون بوجوب الفحص في تمام الظواهر حتى بعد العثور على مخصصات كثيرة إذا احتمل وجود ما زاد عليها.
ص: 193
مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم ،فحينئذ لا يجوز العمل قبل الفحص،لاحتمال وجود مخصص يظهر بالفحص،و لا يمكن نفيه بالأصل،لأجل العلم الإجمالي،و أما بعد الفحص فاحتمال وجود المخصص في الواقع ينفي بالأصل السالم عن العلم الإجمالي.
و الحاصل:أن المنصف لا يجد فرقا بين ظواهر الكتاب و السنة،لا قبل الفحص و لا بعده.
ثم إنك قد عرفت:أن العمدة في منع الأخباريين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن،إلا أنه يظهر من كلام السيد الصدر شارح الوافية في آخر كلامه:أن المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل،و العمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل،حيث قال لعل المراد:أن منشأ العلم بوجود الصارف عن الظواهر ليس إلا الاطلاع على وجوده في الجملة فيما بأيدينا من القرائن المنفصلة،و هو راجع إلى العلم إجمالا بوجوده في خصوص ما بأيدينا من القرائن،لا في ما زاد على ذلك.
نعم يحتمل وجوده فيما زاد على ذلك،إلا أنه ليس طرفا للعلم الإجمالي،بل هو احتمال بدوي مدفوع بالأصل،و عليه ليس المتنجز بالعلم الإجمالي مطلق احتمال وجود الصارف عن الظواهر،بل خصوص احتمال وجوده فيما بأيدينا،و حينئذ يمكن الاطلاع على وجوده بالفحص،و يعلم بعد الفحص بعدم وجوده.و منه يظهر الوجه في وجوب الفحص حتى بعد العثور على مقدار من الصوارف يحتمل عدم وجود غيره،فإن العثور المذكور لا يوجب العلم بعدم وجود صارف فيما بأيدينا، فيجب الفحص مع احتماله خروجا عن العلم الإجمالي المذكور.
يعني:مما ليس بأيدينا،و أما ما بأيدينا فيعلم بعدمه بسبب الفحص.
ص: 194
بعد إثبات أن في القرآن محكمات و ظواهر،و أنه مما لا يصح إنكاره، و ينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر،و أن الحق مع الأخباريين ما خلاصته :
أن التوضيح يظهر بعد مقدمتين:
الأولى:أن بقاء التكليف مما لا شك فيه،و لزوم العمل بمقتضاه موقوف على الإفهام،و هو يكون في الأكثر بالقول،و دلالته في الأكثر تكون ظنية،إذ مدار الإفهام على إلقاء الحقائق مجردة عن القرينة و على ما يفهمون،و إن كان احتمال التجوز و خفاء القرينة باقيا.
الثانية:أن المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح،مثل أن يقول أحد:أنا استعمل العمومات،و كثيرا ما أريد الخصوص من غير قرينة،و ربما أخاطب أحدا و أريد غيره،و نحو ذلك، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده،و لا يحصل لنا الظن به ،و القرآن من هذا القبيل،لأنه نزل على اصطلاح خاص،لا أقول على وضع جديد،بل أعم من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ،و مع مفعول لقوله:«قال...».
بل لو حصل لم يكن حجة،لعدم بناء العقلاء على العمل به بعد فرض عدم جري المتكلم على طريقتهم في تفهيم مراداته بظواهر كلامه.
هذا وحده لا يدل على كون مبني الخطاب في القرآن على عدم التفهيم بالظواهر،إذ مجرد مخالفة الظاهر في كلام المتكلم لا تقتضي ذلك،بل غايته انكشاف عدم ارادته لذلك الظاهر بالقرينة الخارجية.
نعم لو فرض تصريحه بالردع عن العمل بالظواهر كان من المجمل-
ص: 195
ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطعات .
ثم قال:
قال سبحانه: مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ...
الآية،ذم على أتباع المتشابه،و لم يبين لهم المتشابهات ما هي؟و كم هي ؟بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ،و جعل البيان موكولا إلى خلفائه،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى الناس عن التفسير بالآراء ،و جعلوا الأصل عدم العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل.
-الاصطلاحي الذي أشار إليه و أشرنا إلى عدم حجيته.إلا أن يكون مراده أن العلم بوجود ذلك و عدم تعيين مواقعه يوجب سقوط الكلام عن الحجية من جهة العلم الإجمالي.لكنه راجع إلى الوجه الثاني الذي تقدم الكلام فيه قريبا،و لا يوجب كون الكلام من المجمل الاصطلاحي.
و هي الحروف الواقعة في أوائل بعض السور مثل(الم)و(حم).لكن هذا لا يقتضي كون الظواهر من المجمل الاصطلاحي الذي تقدم إذ وجود المجمل يوجب إجمال الظاهر.
سيأتى من المصنف قدّس سرّه أن المتشابه هو المجمل،و عليه لا يضر عدم بيان كميتها،و كذا لو فرض إجمالها و دورانها بين الأقل و الأكثر،كما سيذكره المصنف قدّس سرّه.
هذا راجع إلى الوجه الأول لاستدلال الأخباريين الذي تقدم الكلام فيه،و تقدم أن الظاهر من التفسير بيان المجمل أو الحمل على خلاف الظاهر،و لا يعم الحمل على الظاهر.و لا أقل من إجماله فلا يصلح لبيان أن الظاهر من المجمل الاصطلاحي الذي سبق منه بيانه،كما سيأتي من المصنف قدّس سرّه نظير ذلك.
يعني:العلماء.و يحتمل أن يكون المراد المعصومين عليهم السّلام.لكنه لا يناسبه قوله:«إلا ما أخرجه...»فإن تأصيل الأصل بهذا الوجه من وظيفة العلماء.
ص: 196
إذا تمهدت المقدمتان،فنقول:مقتضى الأولى العمل بالظواهر، و مقتضى الثانية عدم العمل،لأن ما صار متشابها لا يحصل الظن بالمراد منه ،و ما بقى ظهوره مندرج في الأصل المذكور ،فنطالب بدليل جواز العمل،لأن الأصل الثابت عند الخاصة هو عدم جواز العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل.
لا يقال:إن الظاهر من المحكم،و وجوب العمل بالمحكم إجماعي.
لأنّا نمنع الصغرى،إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنص،و أما شموله للظاهر فلا .
إلى أن قال:
لا يقال:إن ما ذكرتم-لو تم-لدل على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا،لما فيها من الناسخ و المنسوخ،و المحكم و المتشابه،و العام و المخصص،و المطلق و المقيد.
لأنّا نقول:إنّا لو خلينا و أنفسنا،لعملنا بظواهر الكتاب و السنة مع لم يتقدم منه في المقدمة الثانية الجزم بكون الظواهر من المتشابه،بل غاية ما يستفاد منه احتمال ذلك.
يعني:أصالة عدم الحجية.
إن أراد الجزم بعدم الشمول فهو راجع إلى دعوى كون الظواهر من المتشابه،و هو خلاف ظاهر كلامه السابق،لظهوره في الشك و الرجوع فيه إلى أصالة عدم الحجية و إن أراد الشك في ذلك فهو لا يناسب قوله:«المعلوم عندنا مساواة الحكم للنص»بل المناسب حينئذ أن يقول:«المعلوم عندنا شمول المحكم للنص» فكلامه لا يخلو عن اضطراب.
ص: 197
عدم نصب القرينة على خلافها،و لكن منعنا من ذلك في القرآن،للمنع من اتباع المتشابه و عدم بيان حقيقته،و منعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تفسير القرآن،و لا ريب في أن غير النص محتاج إلى التفسير.
و أيضا:ذم اللّه تعالى على اتباع الظن،و كذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوصياؤه عليهم السّلام،و لم يستثنوا ظواهر القرآن.
إلى أن قال:
و أما الأخبار،فقد سبق أن أصحاب الأئمة عليهم السّلام كانوا عاملين بأخبار الواحد من غير فحص عن مخصص أو معارض ناسخ أو مقيد، و لو لا هذا لكنا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقفين،انتهى.
أقول:و فيه مواقع للنظر،سيما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الإجماع العملي،و لولاه لتوقف في العمل بها أيضا،إذ لا يخفى أن عمل أصحاب الأئمة عليهم السّلام بظواهر الأخبار لم يكن لدليل خاص شرعي خاص وصل إليهم من أئمتهم،و إنما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم لأجل الإفادة و الاستفادة،سواء كان من الشارع أم غيره،و هذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للإفادة و الاستفادة،على ما هو الأصل في خطاب كل متكلم.
نعم،الأصل الأولي هي حرمة العمل بالظن،على ما عرفت مفصلا، يعني:أن الأصل في خطاب كل متكلم كونه صادرا لأجل الإفادة و الاستفادة.و قد عرفت في أوائل الكلام في حجية الظواهر أن الأصل المذكور هو المعبر عنه في كلماتهم بأصالة الجهة.
ص: 198
لكن الخارج منه ليس خصوص ظواهر الأخبار حتى يبقى الباقي،بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشئ عن كلام كل متكلم ألقى إلى غيره للإفهام .
ثم إن ما ذكره من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات و احتمال كونها من المتشابهات ممنوع:
أولا:بأن المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة و لا عرفا،بل يصح سلبه عنه،فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه لا يمنع،كما اعترف به في المقدمة الأولى،من أن مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.
و ثانيا:بأن احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الأصل الذي اعترف به .
فيشمل القرآن بناء على عدم المخرج عن أصالة الجهة فيه.
قد يظهر من بعض كلماته الجزم بكونها من المتشابه.و ما سيأتي من المصنف قدّس سرّه كاف في رده.
كما أن ما ذكره في آخر كلامه من عدم الريب في احتياج الظاهر إلى التفسير فيدخل فيما ورد من النهي عن تفسير القرآن.ظاهر الدفع بعد ما سبق من المصنف قدّس سرّه في رد الوجه الأول الذي استدل به للأخباريين.
لا يخفى أن الاعتراف بحجية الظواهر و وجوب العمل بها بمقتضى الأصل الأولي لا يستلزم قصور النهي عن المتشابه عن المنع من العمل بالظواهر و الخروج عن الأصل المذكور.و لعل في عبارة المصنف تصحيفا،و الصحيح:فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه لا يمنع عما اعترف به في المقدمة.
لأن الأصل لا يخرج عنه إلا بدليل،لا بمجرد احتمال النهي.
ص: 199
و دعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من أصالة حجية الظواهر،لأن مقتضى ذلك الأصل جواز العمل إلا أن يعلم كونه مما نهى الشارع عنه.
و بالجملة:فالحق ما اعترف به قدّس سرّه،من أنا لو خلينا و أنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب،و لا بد للمانع من إثبات المنع.
ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا:أن خلاف الأخباريين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا،من اعتبار الظواهر اللفظية في الكلمات الصادرة لإفادة المطالب و استفادتها،و إنما يكون خلافهم في أن خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها،بل بضميمة تفسير أهل الذكر،أو أنها ليست بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه،كما عرفت من كلام السيد المتقدم.
لعل المناسب لما سبق أن يقول:بعد احتمال كونها من المتشابه.لكن مرجع الاحتمال المذكور إلى عموم المتشابه للظاهر لا إلى خروج الظاهر عن كونه ظاهرا،كما يظهر من كلام المصنف قدّس سرّه.
ص: 200
أنه ربما يتوهم بعض:أن الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى،إذ ليست آية متعلقة بالفروع أو الأصول إلا و ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة،بل انعقد الإجماع على أكثرها.
مع أن جلّ آيات الأصول و الفروع بل كلها مما تعلق الحكم فيها بأمور مجملة لا يمكن العمل بها إلا بعد أخذ تفصيلها من الأخبار، انتهى.
يحتمل أن يريد بها أصول الفقه،فيراد به الآيات المستدل بها على حجية بعض الطريق أو عموم بعض الأصول العملية،مثل آية النفر،التي يأتي من المصنف قدّس سرّه الاستشهاد بها،و يحتمل أن يريد بها أصول الدين،فيراد به الآيات الدالة على التوحيد و العدل،و غيرها.
لكن الأقرب الأول،إذ ليس المرجع في أصول الدين هو الظواهر و لا غيرها من الطرق غير العلمية،بل يقتصر فيها على العلم.
لعدم ورودها في مقام شرح المكلف به،فلا إطلاق لها.
ص: 201
أقول:و لعله قصر نظره على الآيات الواردة في العبادات،فإن أغلبها من قبيل ما ذكره،و إلا فالإطلاقات الواردة في المعاملات مما يتمسك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة ،كثيرة جدا، مثل: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ ،و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ، و لاٰ تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ، و لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ، و أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ ،و إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، و فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ، و فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، و عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْءٍ ،و مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، و غير ذلك مما لا يحصى.
بل و في العبادات أيضا كثيرة،مثل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاٰ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ، و آيات التيمم و الوضوء و الغسل .
يعني:المتعارضة فيما بينها،فإن التعارض فيها يوجب التساقط و الرجوع للعموم الكتابي،لا التخيير،كما هو مختار المصنف قدّس سرّه الذي أشار إليه في المسألة الثالثة من مسائل الدوران بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.
بناء على ثبوت الإطلاق لها المقتضي لنفوذ كل بيع.و الكلام في ذلك موكول إلى كتاب البيع.
حيث دل على حلية نكاح كل امرأة إلا ما خرج بآية التحريم.
تقدم الكلام في الآية الكريمة في آخر الجواب عن الأخبار التي استدل بها الأخباريين.
حيث دلت على شرح كيفياتها بنحو يمكن الرجوع إليها في موارد الشك.
و كذا الحال في كثير من آيات الأحكام،فإنها و إن كانت مجملة من بعض الجهات،-
ص: 202
و هذه العمومات و إن ورد فيها أخبار في الجملة،إلا أنه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ،فلاحظ و تتبع.
-إلا أنها ظاهرة من بعض الجهات الأخر كتعيين الأوقات أو شرائط المكلف أو غير ذلك.
ص: 203
أنه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدى ،كما في قوله تعالى: حَتّٰى يَطْهُرْنَ، حيث قرئ بالتشديد من التطهر الظاهر في الاغتسال ،و بالتخفيف من الطهارة الظاهرة في النقاء من الحيض ،فلا يخلو:إما أن نقول بتواتر القراءات كلها كما هو المشهور،خصوصا في ما كان الاختلاف في المادة ،و إما أن لا نقول أما لو لم يختلف المؤدى،بل كان الاختلاف في الأداء،نظير قراءة(ضعف) بالفتح و الضم فلا أثر له في إثبات المؤدى،لعدم التكاذب فيه،فلا تعارض.
لظهوره في كون الطهارة مسببة عن فعلها و اختيارها.
لظهوره في كون الطهارة أمرا طارئا عليها من دون أن يكون مسببا عنها.
الراجع إلى كونها قرآنا،من دون أن تتكاذب بينها فتكون حجة بنفسها لو لا المعارضة.
لا يبعد أن يكون مراده به ما إذا كان الاختلاف في المؤدى،لا الأداء.
ص: 204
كما هو مذهب جماعة.
فعلى الأول:فهما بمنزلة آيتين تعارضتا،لا بد من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر ،و مع التكافؤ لا بد من الحكم بالتوقف و الرجوع إلى غيرهما .
و على الثاني:فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة كان الحكم كما تقدم ،و إلا فلا بد من التوقف في محل التعارض و الرجوع إلى القواعد مع عدم المرجح، كما هو الحال في سائر موارد اختلاف الكلامين و تعارضها مع حجية كل منهما بنفسه،و هو المراد بالجمع العرفي.
بناء على ما هو الظاهر من اختصاص أخبار الترجيح و التخيير في المتعارضين بالأخبار،مع الرجوع في غيرها من الحجج المتعارضة إلى أصالة التساقط.
بحيث تكون حجة و إن لم تكن معلومة الصدور،نظير الخبرين المتعارضين.
يعني:من تقديم الأظهر أو النص،و مع عدمهما يتوقف لعين الوجه المتقدم في فرض تواتر القراءات.
يعني:و إن لم نقل بجواز الاستدلال بكل قراءة.
لرجوع الاختلاف بينهما حينئذ إلى الاختلاف في تعيين ما هو القرآن، نظير اختلاف النسخ في الأخبار،و مقتضى التعارض التوقف،كما ذكره.و لا مجال للرجوع إلى المرجحات الدلالية،فيقدم ما هو الأقوى ظهورا،لأنه فرع ثبوت كونه قرآنا و حجة في نفسه،و المفروض تكاذبهما في ذلك الموجب لسقوطهما معا عن الحجية.
ص: 205
أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا كما هو الظاهر ،فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال،إذ لم يثبت تواتر التخفيف ، أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ من حيث الزمان خرج منه أيام الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصص أو العمل بالعموم الزماني .
-نعم هذا مختص بما إذا كان كلاهما واجدا لملاك الحجية،أما لو اختص أحدهما بذلك لضعف سند الآخر فيتعين العمل به،و لا مجال للمعارضة.
يعني:حتى مع المرجح لأحدهما،ككونه مخالفا للعامة.
لاختصاص أدلته بتعارض الأخبار الحاكية للسنة.
إذ لو ثبت كان العمل عليه و سقطت قراءة التشديد عن الحجية،و كان حاكما على استصحاب الحرمة لو كان جاريا في نفسه.
بيان لمنشا التردد بين الرجوع إلى استصحاب الحرمة و عموم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ.
و الظاهر الثاني،كما يأتي في مباحث الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.
ص: 206
أن وقوع التحريف في القرآن-على القول به-لا يمنع من التمسك بالظواهر ،لعدم العلم الإجمالي باختلال الظواهر بذلك .
مع أنه لو علم لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة .مع أنه لو إن كان التحريف المدعى راجعا إلى الزيادة،بأن لا يكون بعض ما بين الدفتين قرآنا،لزم التوقف في حجية الظواهر حينئذ لعدم إحراز كونها حجة ذاتا.
لكن احتمال ذلك لا يظن بمسلم،بل غاية ما يدعى:وجود النقيصة،و حينئذ لا مانع من الرجوع للظواهر بعد كونها قرآنا،و قد عرفت حجية الظواهر القرآنية، و احتمال كون النقيصة من سنخ القرينة الموجب لتبدل الظهور مدفوع بأصالة عدم القرينة التي لا ينافيها العلم بالنقصان-لو فرض-لما سيذكره المصنف قدّس سرّه.
لاحتمال كونه كلاما مستقلا لا يرتبط بالظواهر الموجودة و لا يوجب تغيرها.
كأنه لكثرة الظواهر القرآنية التي هي أطراف الشبهة،بناء على أن المعيار في كون الشبهة غير محصورة كثرة الأطراف.لكنه خلاف التحقيق،بل لا بدّ من خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بسبب الكثرة.
و لعله إليه يرجع الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله:«مع أنه لو كان من-
ص: 207
كان من قبيل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه،لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب،فافهم.
-قبيل...».
كالظواهر المتعلقة بنقل القصص التاريخية،و أحوال المعاد،و غيرها،مما لا يكون الاختلاف فيه موردا لأثر عملي للمكلف،فيخرج عن الابتلاء،و يمنع عن منجزية العلم الإجمالي،فيسقط عن التأثير و لا يمنع من الرجوع لأصالة عدم القرينة في الظواهر المتعلقة بالأحكام العملية.
لكن هذا إنما يتم إذا كان المحتمل هو حذف كلام مستقل يصلح أن يكون قرينة خارجية،أما إذا احتمل حذف ما يتمم الكلام المشتمل على الظهور بنحو يوجب تبدل ظهوره فلا تجري أصالة عدم القرينة،لأنها إنما تجري بعد إحراز فراغ المتكلم عن كلامه.
و لعله إلى هذا أشار بقوله:«فافهم».لكن الظاهر من سيرة المسلمين و من النصوص المتقدمة المصححة للرجوع للكتاب المجيد عدم التعويل على الاحتمال المذكور،أو عدم حصوله.
ص: 208
قد يتوهم :أن وجوب العمل بظواهر الكتاب بالإجماع ذكر ذلك في محكي القوانين،فإنه بعد أن تعرض لردّ الاستدلال بالإجماع المنقول على حجية الظواهر،قال:«و إن كان هو الإجماع المحقق فإن كان على الجملة فهو لا يجدي نفعا،و إن كان على كل الظواهر فمع ما يرد عليه مما فصلناه فيه انه مستلزم لحجية الظن الحاصل من قوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و أمثاله من الظواهر و الظنون الحاصلة بأن العمل على ظن الكتاب لا يجوز،فإنها عامة تشمل ذلك أيضا،فالإجماع على حجية الظواهر حتى الظاهر الدال على حرمة العمل بالظن عموما يثبت عدم حجية الظن الحاصل من القرآن و ما يثبت وجوده عدمه فهو محال».
و هو كما ترى مسوق لرد من يستدل على حجية ظواهر الكتاب بالإجماع على حجية جميع ظواهره حتى الظواهر المذكورة و هي الناهية عن العمل بالظن،فالأولى رده:بأن الإجماع على حجية الظواهر المذكورة في نفسها لا ينافي حجية ظواهر الكتاب،لخروجها عن عموم الظواهر المذكورة تخصيصا أو تخصصا.فلاحظ.
لا خصوصية للإجماع في ذلك،بل مثله كل دليل يدعى دلالته على حجية-
ص: 209
مستلزم لعدم جواز العمل بظواهره،لأن من تلك الظواهر ظاهر الآيات الناهية عن العمل بالظن مطلقا حتى ظواهر الكتاب .
و فيه:أن فرض وجود الدليل على حجية الظواهر موجب لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر .
-جميع ظواهر القرآن حتى الظواهر المذكورة،و تعرض صاحب القوانين للإجماع لعله لأجل أن كلامه فيه.
قد يشكل الاستدلال بالآيات الدالة على عدم جواز العمل بالظن على عدم حجية الظواهر مطلقا بما فيها ظواهر الكتاب.
تارة:بأنها إنما تدل على عدم حجية الظن من حيث هو ظن،و لا تمنع من حجية الظواهر بخصوصيتها و إن أوجبت الظن،و كذا الحال في جميع ما دلت الأدلة على حجيته بخصوصيته لا من حيث هو مفيد للظن،كخبر الواحد و اليد و نحوهما.
و أخرى:بأن المرتكز في مفاد الآيات ليس هو عدم حجية الظن تعبدا تأسيسا من الشارع الأقدس،لعدم مناسبته لمقام الإنكار على الكفار و الاحتجاج عليهم و تشنيع عملهم-كما هو مساق الآيات المذكورة-بل هي ظاهرة في التنبيه إلى ما يرتكز في أذهان العقلاء من عدم حجية الظن و هو لا يشمل مثل الظواهر مما جرى العقلاء على حجيته بنحو يلزمون بالعمل به بل يختص بمثل التقليد و نحوه مما لا يرى العقلاء حجيته.
نعم قد يتمسك في المقام بقوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فإنه لا يتضمن النهي عن الظن من حيث هو،بل عن العمل بما لا يعلم الشامل لمورد الظواهر قطعا،كما لا قرينة على وروده مورد الإمضاء لأمر ارتكازي،كما يأتي نظير ذلك في مبحث خبر الواحد عند الاستدلال بالكتاب على عدم حجيته و يأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
هذا بظاهره لا يخلو عن إشكال،إذ لو فرض ظهور الآيات المذكورة-
ص: 210
مع أن ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجية أنفسها ،إلا أن يقال:إنها لا تشمل أنفسها ، -في عدم حجية الظهور الكتابي فلا يرتفع ظهورها بقيام الدليل على حجية الظهور الكتابي.و إن فرض عدم ظهورها في ذلك لم يفرق فيه بين قيام الدليل على حجيته و عدمه.
و لعل مراده أن الآيات المذكورة لو فرض عمومها للظهور الكتابي بالإضافة إلى ظواهر القرآن فهي مخصصة بالأدلة الدالة على حجيته،كما قد يشهد به قوله بعد ذلك:«و بازاء هذا التوهم توهم...»و إن كانت عبارته هنا لا تنهض به.
يعني:فيلزم عدم حجيتها في المنع عن ظواهر القرآن،إذ ما يلزم من وجوده عدمه محال.و هذا رجوع إلى دعوى عدم حجية جميع ظواهر القرآن،و قد عرفت أن كلام المحقق القمي يبتني على الإجماع على حجيتها بأجمعها،فالإيراد عليه بذلك خروج عن محل كلامه،فالعمدة في الجواب ما ذكرنا.
لاستحالة نظر القضية إلى نفسها.
إلا أن يدعى أن موضوع الحكم هو الماهية المطلقة من حيث هي و انطباقها على الأفراد قهري،بلا حاجة إلى لحاظها بخصوصها،و حينئذ فعموم القضية لنفسها ليس للحاظها حين الحكم،بل للحكم على الماهية المنطبقة عليها قهرا.
و فيه:أنه إنما يتم فيما إذا أمكن قيام الحكم بالماهية من حيث هي المنطبقة على تمام الأفراد،لإمكان قيام الملاك بها،كما في قولنا:«الكلام يضرني»و لا مجال له في المقام،لأن الظواهر لما كانت حجة بأنفسها لو لا المانع فلا يمكن قيام ملاك عدم الحجية بجميع ظواهر الكتاب،بل لا بد إما من قيام ملاك عدم الحجية بالظواهر المذكورة وحدها،أو بالظواهر الأخر غيرها،و الأول مستلزم لنظر القضية لنفسها بخصوصيتها،و هو محال،فيتعين الثاني،فلا بد من عدم شمول الآيات المذكورة لنفسها.
ص: 211
فتأمل.
و بإزاء هذا التوهم توهم:أن خروج ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليس من باب التخصيص،بل من باب التخصص،لأن وجود القاطع على حجيتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم.
و فيه ما لا يخفى .
لظهور أن المراد بالظن في الآيات هو الظن بالواقع،و من الظاهر أن دليل الحجية لا يوجب انقلاب الظن علما.نعم سبق منا توجيه قصور الآيات المذكورة عن الظواهر باختلاف الحيثية.
ص: 212
[حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام]
تفصيل صاحب القوانين بين من قصد إفهامه و غيره]
فهو الذي يظهر من صاحب القوانين في آخر مسألة حجية الكتاب،و في أول مسألة الاجتهاد و التقليد و هو:الفرق بين من قصد إفهامه بالكلام،فالظواهر حجة بالنسبة إليه من باب الظن الخاص سواء كان مخاطبا،كما في الخطابات الشفاهية،أم لا،كما في الناظر في الكتب المصنفة لرجوع كل من ينظر إليها،و بين من لم يقصد إفهامه بالخطاب،كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمة عليهم السّلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين ،و بالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجهة إلينا و عدم كونه من باب تأليف المصنفين، فالظهور اللفظي ليس حجة حينئذ لنا،إلا من باب الظن المطلق الثابت حجيته عند انسداد باب العلم.
و يمكن توجيه هذا التفصيل:بأن الظهور اللفظي ليس حجة إلا من باب الظن النوعي،و هو كون اللفظ بنفسه لو خلي و طبعه مفيدا للظن سيأتي أن التفصيل المذكور لو تم لا ينهض بالمنع عن حجية الأخبار المذكورة.
ص: 213
بالمراد،فإذا كان مقصود المتكلم من الكلام إفهام من يقصد إفهامه،فيجب عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب الملقى إليه معه في خلاف المراد،بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود كان إما لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه،و إما لغفلة من المتكلم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد،و معلوم أن احتمال الغفلة من المتكلم أو السامع احتمال مرجوح في نفسه،مع انعقاد الإجماع من العقلاء و العلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء،أقوالهم و أفعالهم.
و أما إذا لم يكن الشخص مقصودا بالإفهام،فوقوعه في خلاف المقصود لا ينحصر سببه في الغفلة،فإنا إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفا عن ظاهرها،و احتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اختفت علينا،فلا يكون هذا الاحتمال لأجل غفلة من المتكلم أو منّا،إذ لا يجب على المتكلم إلا نصب القرينة لمن يقصد إفهامه.
مع أن عدم تحقق الغفلة من المتكلم في محل الكلام مفروض،لكونه معصوما،و ليس اختفاء القرينة علينا مسببا عن غفلتنا عنها ،بل لدواعي الاختفاء الخارجة عن مدخلية المتكلم و من ألقي إليه الكلام.
فليس هنا شيء يوجب بنفسه الظن بالمراد حتى لو فرضنا الفحص ،فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب و اختفائها علينا،ليس يعني:لا يجب أن يكون مسببا عن الغفلة عن القرينة بل قد يكون مسببا عن غيرها،و لا دافع لهذا الاحتمال.
لإمكان ضياع القرينة بنحو لا يعثر عليها بالفحص.
ص: 214
هنا ما يوجب مرجوحيته حتى لو تفحصنا عنها و لم نجدها،إذ لا تحكم العادة و لو ظنا بأنها لو كانت لظفرنا بها،إذ كثير من الأمور قد اختفت علينا،بل لا يبعد دعوى العلم بأن ما اختفى علينا من الأخبار و القرائن أكثر مما ظفرنا بها.
مع أنا لو سلمنا حصول الظن بانتفاء القرائن المتصلة ،لكن القرائن الحالية و ما اعتمد عليه المتكلم من الأمور العقلية أو النقلية الكلية أو الجزئية المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام،ليست مما يحصل الظن بانتفائها بعد البحث و الفحص.
و لو فرض حصول الظن من الخارج بإرادة الظاهر من الكلام لم يكن ذلك ظنا مستندا إلى الكلام ،كما نبهنا عليه في أول المبحث .
و بالجملة:فظواهر الألفاظ حجة بمعنى عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها إذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلم في كيفية الإفادة أو المخاطب في كيفية الاستفادة،لأن احتمال الغفلة مما هو مرجوح في نفسه و متفق على عدم الاعتناء به في جميع الأمور،دون ما إذا كان الاحتمال مسببا عن اختفاء أمور لم تجر العادة القطعية أو الظنية بأنها لو كانت لوصلت إلينا.
و من هنا ظهر:أن ما ذكرنا سابقا من اتفاق العقلاء و العلماء على يعني:القرائن المقالية المتصلة.
يعني:فلا دليل على حجيته بالخصوص.
لم يتضح عاجلا محل التعرض لذلك.و لعل هذا من كلام القوانين.
لا يبعد زيادة هذه العبارة إلى قوله:«في رد هذا التفصيل»لعدم تقدم-
ص: 215
العمل بظواهر الكلام في الدعاوى،و الأقارير،و الشهادات،و الوصايا، و المكاتبات لا ينفع في رد هذا التفصيل،إلا أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجة من باب التعبد ،و دون إثباتها خرط القتاد.
و دعوى:أن الغالب اتصال القرائن،فاحتمال اعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته.
مردودة:بأن من المشاهد المحسوس تطرق التقييد و التخصيص إلى أكثر العمومات و الإطلاقات مع عدم وجوده في الكلام،و ليس إلا لكون الاعتماد في ذلك كله على القرائن المنفصلة،سواء كانت منفصلة عند الاعتماد،كالقرائن العقلية و النقلية الخارجية،أم كانت مقالية متصلة لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك،لعروض التقطيع للأخبار،أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى،أو غير ذلك،فجميع ذلك مما لا يحصل الظن بأنها لو كانت لوصلت إلينا.
مع إمكان أن يقال:إنه لو حصل الظن لم يكن على اعتباره دليل خاص .نعم،الظن الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب -شيء من ذلك أولا فيما أعلم.و لعدم تمامية ما تضمنته العبارة المذكورة ثانيا،فإن السيرة المذكورة-لو تمت-تنهض ببطلان التفصيل المذكور،و هي وافية باثبات حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام،كما هي حجة لمن قصد به.
اللهم إلا أن يرجع إلى دعوى عدم ثبوت السيرة المذكورة.إلا في حق من قصد بالإفهام،كالوصي لكنها ممنوعة جدا،و لذا سيأتي من المصنف قدّس سرّه الاستدلال بها.
يعني:لا من جهة رجوعها إلى أصالة عدم الغفلة.
كأنه لعدم ثبوت اعتماد العقلاء عليه،لعدم استناده للظهور الكلامي.
ص: 216
أو المتكلم مما أطبق عليه العقلاء في جميع أقوالهم و أفعالهم.
هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل.
لكنه لو تم لا يقتضي عدم حجية الأخبار في حق غير المخاطبين-كأهل العصور المتأخرة-و إن لم يقصد إفهامهم،لأن نقلها مبني على بيان المضمون ليعمل عليه و يرجع إليه،لا لمجرد نقل اللفظ.
و حينئذ يكون الناقل متعهدا بالمضمون،فيجب عليه بيان جميع ما هو دخيل فيه من قرينة حالية أو مقالية.و لذا ذكرنا في غير المقام أن اختلاف النسخ،إذا كان موجبا لاختلاف المضمون لحقه حكم التعارض،و لا يكون ناقل الزيادة حجة لأن ظاهر الآخر غير الناقل لها عدم وجودها لا مجرد السكوت عنها.
و عليه فاحتمال وجود القرينة مع عدم وصولها ناش إما من غفلة السامع عنها في مقام تلقي المضمون من المعصوم،أو من غفلته في مقام النقل،أو من تعمد الاخفاء،و يندفع الأولان بأصالة عدم الغفلة،و الثالث بفرض حجية نقله لكونه موثوقا به،و هو ينافي تعمد الإخفاء الملازم للتدليس.
نعم يتجه ذلك فيما لو لم ينقل السامع الكلام،بل اطلعنا عليه اتفاقا،كما لو سمع شخص عابر الكلام بين شخصين أو اطلع على كتاب أحدهما للآخر من دون أن يقصد أحدهما إعلامه به و تفهيمه لمضمونه،كما سيمثل له المصنف قدّس سرّه.
و لعل منه بعض الأخبار المتضمنة لنقل كلام المعصوم في خطاب غير الراوي، مثل ما اشتمل على قوله:«سمعته يقول لرجل،أو سأله رجل،أو نحوهما».
لكن الأخبار المذكورة شاهدة بعدم الفرق في الحجية بين من قصد إفهامه و غيره،لأن الظاهر من حال الراوي لذلك أنه لم ينقله بالكلام لمحض الإخبار بالألفاظ،بل لنقل المضمون من أجل العمل على طبقه،كما هو الحال في غيره مما يتضمن مشافهته فيدل على أن عموم الحجية من الارتكازيات العقلائية العامة التي جرى عليها الرواة و نقلة الحديث.
ص: 217
و لكن الإنصاف:أنه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي و أصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه و من لم يقصد،فإن جميع ما دل من إجماع العلماء و أهل اللسان على حجية الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه جار في من لم يقصد،لأن أهل اللسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلم إلى مخاطب،يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظان وجودها،و لا يفرقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب و عدمه،فإذا وقع المكتوب الموجه من شخص إلى شخص بيد ثالث،فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب الموجه إلى المكتوب إليه،فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منه،فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى،و هذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفية.
هذا حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم،و أما العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجردة عن القرائن الموجهة من متكلم إلى مخاطب،سواء كان ذلك في الأحكام الجزئية، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين،ثم مست الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه ،فإن العلماء لا يتأملون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجه إلى الموصى إليه المفقود(س.خ) و كذا في الأقارير .
كما لو فرض موته قبل انفاد الوصية.
فإن الحاكم يأخذ المقر بإقراره حتى لو وجه الكلام إلى شخص غير-
ص: 218
أم كان في الأحكام الكلية،كالأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السّلام مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبيهم لا غير ،فإنه لم يتأمل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب و من قصد إفهامه.
و دعوى:كون ذلك منهم للبناء على كون الأخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام من قبيل تأليف المصنفين،واضحة الفساد .
مع أنها لو صحت لجرت في الكتاب العزيز،فإنه أولى بأن يكون من هذا القبيل،فترتفع ثمرة التفصيل المذكور ،لأن المفصل معترف بأن ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلفين حجة بالخصوص،لا -الحاكم.
لوضوح أنهم عليهم السّلام في مقام الخطاب للسائلين بالوجه المتعارف الذي يبتني على تفهيمهم من دون اهتمام بتفهيم غيرهم.
هذا لعله ناش مما ذكرنا آنفا من ظهور حال الناقل في كونه ناقلا للمضمون و متعهدا به،فلا يدل على عموم حجية الظواهر لمن لم يقصد بالإفهام.
نعم قد يدل عليه تمسكهم بما تضمن الخطاب مع غير الراوي،كما نبهنا إلى نظيره.
حال من الفعل المنفي في قوله:«فإنه لم يتأمل أحد...».
لما ذكرناه من جريان كلامهم عليهم السّلام على الوجه المتعارف في الخطاب.
يعني:في الأحكام الشرعية الكلية التي هي همّ الأصولي،لانحصار أدلتها النقلية في الكتاب و السنة.
نعم تظهر ثمرة النزاع أيضا في الأحكام الجزئية،كما في مثل الوصايا و الأقارير.
لكنها خارجة عن موضوع الكلام في الأصول.
ص: 219
لدخوله في مطلق الظن،و إنما كلامه في اعتبار ظهور الكلام الموجه إلى مخاطب خاص بالنسبة إلى غيره.
و الحاصل:أن القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين بأنهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجية الظن المطلق الثابتة بدليل الانسداد،بل يعمل بها من يدعي الانفتاح و ينكر العمل بأخبار الآحاد،مدعيا كون معظم الفقه معلوما بالإجماع و الأخبار المتواترة.
و يدل على ذلك أيضا:سيرة أصحاب الأئمة عليهم السّلام،فإنهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم من الأئمة الماضين عليهم السّلام ،كما كانوا يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها من أئمتهم عليهم السّلام،لا يفرقون بينهما إلا بالفحص و عدمه،كما سيأتي.
و الحاصل:أن الفرق في حجية أصالة الحقيقة و عدم القرينة بين المخاطب و غيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء و أصحاب الأئمة عليهم السّلام.
هذا كله،مع أن التوجيه المذكور لذلك التفصيل لابتنائه على كالسيد المرتضى و ابن إدريس قدّس سرّهما.
لعله ناش مما أشرنا إليه من ظهور حال الناقل في كونه متعهدا بالمضمون.
يعني:أن مقتضى ما ذكر من رجوع أصالة عدم القرينة إلى أصالة عدم الغفلة عدم حجية ظاهر الكتاب المجيد حتى لو قيل بأنه من قبيل تصنيف المصنفين-لا كما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه-و ذلك لاحتمال كون ظاهر الكتاب للسابقين على خلاف ظاهره عندنا لاختفاء بعض القرائن علينا،و من الظاهر أن-
ص: 220
الفرق بين أصالة عدم الغفلة و الخطأ في فهم المراد،و بين مطلق أصالة عدم القرينة يوجب عدم كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة و إن قلنا بشمول الخطاب للغائبين،لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في حقهم مطلقا .
-الاحتمال المذكور لا يستند إلى احتمال غفلتنا عن تلك القرائن مع وضوحها لهم،حتى يدفع بأصالة عدم الغفلة،إذ لا معنى لفرض الغفلة مع التأمل في الكلام و التروي في مضمونه و كونه بحيث لا يغيب عن الذهن حتى يغفل عن مضمونه،و إنما يستند إلى احتمال الاعتماد على القرائن الحالية أو المقالية الظاهرة لهم،و قد اختفت بسبب الطوارئ الكثيرة التي حجبت كثيرا من البيانات عنا،و لا دافع للاحتمال المذكور بعد فرض قصور أصالة عدم القرينة عن دفع احتمالها إذا لم يرجع إلى احتمال الغفلة.
و دعوى:أنه يقبح من المتكلم الاعتماد على القرائن المنفصلة الحالية أو المقالية التي لا تصل إلى الغائبين إذا كانوا مقصودين بالافهام،لأن وظيفة المتكلم إيصال مراده لجميع من يقصد إفهامه،فلا مجال لاحتمال القرائن المنفصلة بالوجه المذكور حتى يحتاج إلى أصالة عدم القرينة في دفعه.
مدفوعة:
أولا:بأنه لا قبح في الاعتماد على القرائن المنفصلة إذا كان من شأنها الوصول إلى جميع من قصد إفهامه و إن اختفت بسبب الطوارئ العارضة.و إنما يقبح الاعتماد على القرائن المنفصلة إذا لم يكن من شأنها الوصول للغائبين أو المعدومين إذا كانوا مقصودين بالإفهام،كما ذكر.
و ثانيا:بأن لازم ذلك القطع بظهور الكتاب سابقا في المعنى الظاهر لنا الآن، لفرض القطع بعدم اختفاء شيء من القرائن لا بسبب الغفلة و لا بسبب غيرها،و لا يظن من أحد التزامه.
لعدم احتمال الغفلة في حقهم.
ص: 221
فما ذكره من ابتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين غير سديد ،لأن الظن المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة الناشئ عن ظن عدم الغفلة و الخطأ،فلا يجري في حق الغائبين و إن قلنا بشمول الخطاب لهم،و إن كان هو الحاصل من أصالة عدم القرينة فهو جار في الغائبين و إن لم يشملهم الخطاب .
و مما يمكن أن يستدل به أيضا زيادة على ما مر من اشتراك أدلة حجية الظواهر،من إجماعي العلماء و أهل اللسان:ما ورد في الأخبار المتواترة معنى،من الأمر بالرجوع إلى الكتاب و عرض الأخبار عليه فإن هذه الظواهر المتواترة حجة للمشافهين بها،فيشترك غير المشافهين فيتم المطلوب،كما لا يخفى.
يعني:المحقق القمي قدّس سرّه.
متعلق بقوله:«ابتناء....»
خبر لقوله:«فما ذكره....».
يعني:عن القرائن التي أقامها المتكلم و اكتنفت بكلامه.
للقطع بعدم غفلتهم،و إنما يحتمل ضياع بعض القرائن عليهم.
يعني:و لو احتمل ضياعها و عدم وصولها من غير جهة الغفلة.
لتحقق احتمال وجود القرينة و ضياعها منهم.
يعني:في إثبات حجية ظواهر الكتاب في حقهم مع كونهم مثلنا غير مخاطبين بالكتاب،فإن الأخبار المذكورة قد وردت عن الأئمة عليهم السّلام و أغلبها في عصر الصادقين عليهما السّلام و من بعدهما،و من الظاهر تأخر المخاطبين بها عن عصر نزول القرآن.
يعني:لقاعدة الاشتراك،فتكون ظواهر الكتاب حجة في حقنا بمقتضى-
ص: 222
و مما ذكرنا تعرف النظر فيما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه-بعد ما ذكر من عدم حجية ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص-بقوله:
فإن قلت:إن خبر الثقلين يدل على كون ظاهر الكتاب حجة لغير المشافهين بالخصوص.
فأجاب عنه:بأن رواية الثقلين غير ظاهرة في ذلك ،لاحتمال كون المراد التمسك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة عليهم السّلام،كما يقوله الأخباريون،و حجية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرة،إذ لا -الأخبار المذكورة.
لكن هذا إنما يتم بناء على كون الأخبار المذكورة قطعية الدلالة،كما سيأتي منه قدّس سرّه،و قد يشير إليه وصفها بأنها متواترة إذ لو لم تكن قطعية الدلالة لم يجز لنا الاستدلال بظهورها في معرفة حكم المخاطبين بها،حتى ننتقل إلى معرفة حكمنا بقاعدة الاشتراك.
ثم إن الاستدلال بالأخبار المذكورة إنما ينفع في إثبات حجية ظواهر الكتاب، لا مطلق الظواهر إذ يمكن توجيهها بأن الكتاب المجيد نظير الكتب المصنفة لإفهام كل من يطلع عليها،كما ذكره المحقق القمي فلا تدل على حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام.
نعم يظهر من المنقول عن صاحب القوانين عدم حجية ظواهر الكتاب مطلقا حتى لو كان من قبيل تصنيف المصنفين،لوجوه أخر،و حينئذ يتوجه عليه الإشكال بذلك.فراجع.
حق العبارة أن يقول:رواية الثقلين غير حجة في ذلك.
يعني ظهورها في جواز أخذ الحكم من الكتاب ابتداء من دون توقف على تفسيره من الائمة عليهم السّلام.
ص: 223
فرق بين ظواهر الكتاب و السنة في حق غير المشافهين بها.
توضيح النظر:أن العمدة في حجية ظواهر الكتاب غير خبر الثقلين من الأخبار المتواترة الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب، و هذه الأخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر الكتاب بعد ورود تفسيرها من الأئمة(صلوات اللّه عليهم)،و ليست ظاهرة في ذلك حتى يكون التمسك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرة.
بل يمكن أن يقال:إن خبر الثقلين ليس له ظهور إلا في وجوب إطاعتهما و حرمة مخالفتهما،و ليس في مقام اعتبار الظن الحاصل بهما في تشخيص الإطاعة و المعصية،فافهم .
المنقول من كلام صاحب القوانين يتضمن التعرض في السؤال للأخبار المذكورة.كما تعرض لحديث الثقلين،و كما يتضمن الجواب عنها بما أجاب عنه.
و عمدة ما يرد عليه ما سيذكره المصنف قدّس سرّه من أنها قطعية الدلالة.هذا و يظهر مما نقله بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه من كلام المحقق القمي قدّس سرّه أن المصنف قدّس سرّه قد أختصر كلامه فيما نقله عنه،و ربما أوجب ذلك بعض الاضطراب في المطلب.فراجع.
يعني:في إرادة جواز الاستدلال بظواهر الكتاب ابتداء من دون أخذ تفسيره من الأئمة عليهم السّلام.و قد أراد من نفي ظهورها في ذلك أنها نص فيه،فتكون حجة بلا إشكال.
لعله إشارة إلى أنه لا مجال لإنكار ظهوره في حجية ظواهر الكتاب و لو من جهة الإطلاق المقامي بلحاظ أن إطاعة الكتاب عرفا لا تكون إلا باتباع ظواهره،و لا سيما مع ندرة نصوصه المتعلقة بالأحكام أو عدم وجودها.كما أن حمله على خصوص ما إذا أخذ تفسيره من العترة عليهم السّلام خلاف ظاهر جعلهم عدلا له.
ص: 224
ثم إن لصاحب المعالم رحمه اللّه في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل المتقدم، لا بأس بالإشارة إليه،قال-في الدليل الرابع من أدلة حجية خبر الواحد، بعد ذكر انسداد باب العلم في غير الضروري من الأحكام،لفقد الإجماع و السنة المتواترة،و وضوح كون أصل البراءة لا يفيد غير الظن،و كون الكتاب ظني الدلالة ما لفظه-:
لا يقال:إن الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون، و ذلك بضميمة مقدمة خارجية،و هي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر و هو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر.
سلمنا ،و لكن ذلك ظن مخصوص ،فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل.
لأنا نقول:أحكام الكتاب كلها من قبيل خطاب المشافهة،و قد مر أنه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب،و أن ثبوت حكمه في حق من تأخر إنما هو بالإجماع و قضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكل، و حينئذ:فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلهم يعني:سلمنا كونه مفيدا للظن.دون القطع و لعل وجهه احتمال ضياع بعض القرائن علينا،أو تعمد إظهار خلاف المراد لمصلحة لازمة المراعاة.
لما هو المعلوم من حجية الظواهر.
مرّ منه التعرض لذلك في مبحث العموم و الخصوص.لكنه ذكر ذلك في خصوص خطاب المشافهة مثل:«يا أيّها النّاس»و:«يا أيّها الّذين آمنوا»و من الظاهر عدم كون جميع خطابات القرآن المجيد من هذا القبيل بل بعضها عام،مثل قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّٰ خَطَأً و نحوه.
ص: 225
على إرادة خلافها،و قد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع و نحوه، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الأمارات المفيدة للظن القوي، و خبر الواحد من جملتها،و مع قيام هذا الاحتمال ينفى القطع بالحكم.
و يستوي حينئذ:الظن المستفاد من ظاهر الكتاب و الحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به،لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجها إلينا،و قد تبين خلافه.و لظهور اختصاص الإجماع و الضرورة-الدالين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر الكتاب- بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية المفيدة للظن ،انتهى كلامه،رفع مقامه.
أما انتفاء القطع بالحكم من ظاهر الكتاب فظاهر بعد فرض احتمال اختفاء القرائن.و أما كون الظن الحاصل كغيره من الظنون فهو لا يلزم من القول بعدم شمول تلك العمومات لنا و اختصاص أحكامها بالمشافهين،لامكان دعوى حجيتها في حقنا بأن نعرف منها حكمهم ثم نسريه لنا بقاعدة الاشتراك لا بنفس الخطاب.
نعم لو قيل بعدم كوننا مقصودين بالإفهام و بعدم حجية الظواهر في حق غير من قصد بالإفهام-كما عرفت من المحقق القمي-توجه ما ذكره،لكنه لا يستلزم اختصاص أحكامها بالمشافهين،لإمكان دعوى عمومها لنا و إن لم نكن مقصودين بالإفهام.و لم تكن حجة في حقنا،فابتناء عدم حجيتها على عدم عموم أحكامها في غير محله.
من الظاهر أن اختصاص الإجماع و الضرورة بغير صورة وجود الخبر على خلافها إنما هو لوجود القول بحجية الخبر،فمع البناء على عدم حجيته لا مجال للتوقف في حجيتها.و من ثم لم يخل كلامه عن الإشكال،كما سيذكره المصنف قدّس سرّه.
ص: 226
و لا يخفى:أن في كلامه قدّس سرّه على إجماله و اشتباه المراد منه،كما يظهر من المحشين مواقع للنظر و التأمل.
ثم إنك قد عرفت:أن مناط الحجية و الاعتبار في دلالة الألفاظ هو الظهور العرفي،و هو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى و لو بواسطة القرائن المقامية المكتنفة بالكلام،فلا فرق بين إفادته الظن بالمراد و عدمها،و لا بين وجود الظن الغير المعتبر على خلافه و عدمه،لأن ما ذكرنا من الحجة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة .
و ما ربما يظهر من العلماء:من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه،مع اعترافهم بعدم حجية الشهرة،فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم و إطلاق،بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور،بناء على أن ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور ، و هو سيرة العقلاء و العلماء.
كما يشهد به عدم صحة الاعتذار عن مخالفة الظواهر بحصول الظن على خلافها،و لعل منشأ العموم إناطة الحجية بالظن الشخصي يوجب عدم ضبط موارد الحجة حتى يتكل عليها المتكلم و يرجع إليها السامع،لاختلاف الظن الشخصي بحسب الأحوال و الأشخاص كثيرا،و ذلك يوجب اضطراب أمر التفهيم و التفهم الذي هو المقصود من الكلام،بخلاف ما لو كان تابعا للظهور فإن ضبطه سهل جدا، لأنه تابع للمرتكزات الوجدانية المشتركة غالبا بين المتكلم و السامع،فتخف مئونة البيان و يسهل التفاهم بسبب ذلك.
كما ربما يكون لمزاحمته للخبر من حيث الجهة،بناء على أن الخبر المخالف-
ص: 227
و لذا لا يتأملون في العمل بظواهر الكتاب و السنة المتواترة إذا عارضها الشهرة.فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر،لا عمومه أو إطلاقه،فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص.
نعم،ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين ،عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن،أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها.
لكن الإنصاف:أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان و العلماء في كل زمان،و لذا عدّ بعض الأخباريين-كالأصوليين-استصحاب حكم العام و المطلق حتى يثبت المخصص و المقيد من الاستصحابات المجمع عليها، و هذا و إن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلا بالتوجيه ،إلا -للمشهور لا مجال للتعبد بأصالة الجهة فيه.و من ثم قد يشكل الحال في السنة المتواترة إذا عارضتها الشهرة،و للكلام مقام آخر.
أشار بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه إلى التفصيل في حجية الظواهر عن جماعة، كصاحبي المناهل و الإشارات و غيرهما على اختلاف بينهم في كيفيته.فراجع.
لتوقف الاستصحاب المصطلح على اليقين بثبوت المستصحب و الشك في بقائه،و مع احتمال تخصيص العام يحتمل عدم عموم حكمه من أول الأمر.
بأن يراد استصحاب عدم المخصص و المقيد،لليقين بعدمهما سابقا و لو قبل ورود العام.لكنه ليس استصحابا لحكم شرعي و لا لموضوع حكم شرعي ليدخل في الاستصحاب المصطلح.نعم قد ينفع بملاك آخر غير ملاك الاستصحاب المصطلح.
ص: 228
أن الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعية.
و ربما فصل بعض من المعاصرين تفصيلا يرجع حاصله:إلى أن الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي ،فلا يتمسك فيه بأصالة الحقيقة،و إن كان الشك في أصل وجود الصارف أو كان هنا أمر منفصل يصلح لكونه صارفا،فيعمل على أصالة الحقيقة.
و هذا تفصيل حسن متين،لكنه تفصيل في العمل بأصالة الحقيقة عند الشك في الصارف ،لا في حجية الظهور اللفظي ،و مرجعه إلى تعيين الظهور العرفي و تمييزه عن موارد الإجمال،فإن اللفظ في القسم الأول يخرج عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف ،و لذا توقف جماعة في المجاز المشهور،و العام المتعقب بضمير يرجع إلى بعض أفراده، حكي عن المحقق الشيخ محمد تقي قدّس سرّه في حاشيته على المعالم.
يعني:مع عدم اليقين بصارفيته لإجماله أو لنحو ذلك.
للبناء على عدم ظهور الكلام في المعنى الحقيقي مع اقترانه بما يصلح أن يكون صارفا عنه،و إن لم يعلم بصارفيته عنه فعلا لإجماله.
يعني:بعد فرض انعقاده للكلام،و هي محل الكلام في المقام.
يعني:مرجع التفصيل المذكور.
الذي تعرض له المحقق المذكور،و هو الكلام المحتف بحال أو مقال صالح لأن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي.
و حينئذ لا يكون موضوعا لأصالة الظهور التي نحن بصددها،فالبناء على عدم حجيته لا يكون راجعا إلى التفصيل فيها.
ص: 229
و الجمل المتعددة المتعقبة للاستثناء،و الأمر و النهي الواردين في مظان الحظر و الإيجاب،إلى غير ذلك مما احتف اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا،و لم يتوقف أحد في عام بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه مخصصا له،بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال و ارتفاع الإجمال لأجل ظهور العام،و لذا لو قال المولى:أكرم العلماء،ثم ورد قول آخر من المولى:إنه لا تكرم زيدا،و اشترك زيد بين عالم و جاهل، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرد الاحتمال،بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم،فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي .
هذا لا يخلو عن إشكال،لعدم نظر الدليل العام إلى الخاص حتى يصلح لشرحه،و أصالة العموم و إن اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك،إلا أنها لا تقتضي شرح الدليل الثاني و رفع إجماله لعدم وضوح بناء العقلاء على ذلك.و عليه فالبناء على بقاء الإجمال في ذلك الدليل هو المتعين،و إن لزم عدم الخروج به عن مقتضى أصالة العموم في العام.
نعم لما كان الدليل الخاص موجبا للعلم الإجمالي بإرادة أحد الفردين كان اللازم إجراء حكم العلم المذكور،فإن كان مقتضاه حكما غير الزامي فلا أثر له، و إن كان حكما إلزاميا لزم الاحتياط بالجمع بين المحتملين لو أمكن الاحتياط بأن كان حكم العام ترخيصيا،كما لو ندب إلى إكرام العلماء،و حرم إكرام زيد،و تردد بين الجاهل و العالم،فإنه يلزم اجتناب اكرامهما لأجل العلم الإجمالي المذكور.
و إن تعذر الاحتياط بالجمع،بأن كان حكم العام إلزاميا أيضا و مضادا لحكم الخاص عملا،كما لو وجب إكرام العلماء و حرم إكرام زيد،فلا مجال للاحتياط بترك إكرام كلا الزيدين،فإنه مناف لعموم حكم العام المفروض عدم المخرج عنه،و تعين إكرام زيد العالم عملا بالعموم،و أما الجاهل فلا يبعد عدم حرمة إكرامه حينئذ لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية،لتعذر موافقته في بعض الأطراف بسبب حجية-
ص: 230
و بإزاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف،و هو:أن احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة،فلا يصح رفع اليد عن الحقيقة،و إن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة، و مثل له بما إذا ورد في السنة المتواترة عام،و ورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العام و لا يوجب الظن بالواقع.
قال:فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبدا.ثم قال:
و لا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبدا، فإن أكثر المحققين توقفوا في ما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح،انتهى.
-العموم.
هذا كله إذا لم يكن هناك عموم آخر في الجاهل مناف للخاص أيضا أو موافق له،و إلا تعين في الأول البناء على سقوط كلا العمومين عن الحجية للعلم الإجمالي بتخصيص أحدهما،المانع من جريان أصالة العموم فيهما معا و لزم الاحتياط مع إمكانه بموافقة العامين إن كانا إلزاميين،دون الخاص،أو بموافقة الخاص إن كان إلزاميا دونهما،و إلا سقط الاحتياط،كما لو كان العامان إلزاميين و الخاص إلزاميا مضادا لهما عملا.
و يتعين في الثاني-و هو ما لو كان العام الثاني موافقا لمقتضى الخاص عملا- البناء على مقتضى العامين لحجيتهما مع عدم العلم بتخصيص أحدهما،بل يكونان موجبين لانحلال العلم الإجمالي الناشئ من الخاص المجمل،لعدم منافاته لهما بوجه،كما لا يخفى.و لا بد من التأمل جيدا و لا سيما في الصورة الأولى،لأنها لا تخلو عن إشكال.و اللّه سبحانه الموفق.
يعني:أصالة الحقيقية المقتضية للحمل في-الفرض-على العموم.
ص: 231
و وجه ضعفه يظهر مما ذكر،فإن التوقف في ظاهر خطاب لأجل إجمال خطاب آخر محتمل لكونه معارضا مما لم يعهد من أحد من العلماء، بل لا يبعد ما تقدم:من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبين في الخطاب الآخر .
و أما قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح،فعلم فساده مما ذكرنا في التفصيل المتقدم :من أن الكلام المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلم في إرادة خلاف الحقيقة لا يعد من الظواهر،بل من المجملات ،و كذلك المتعقب بلفظ يصلح للصارفية،كالعام المتعقب بالضمير،و شبهه مما تقدم.
عرفت الإشكال فيه.
و هو الذي تقدم عن المحقق الشيخ محمد تقي قدّس سرّه صاحب الحاشية.
فلا مجال لأصالة الظهور لعدم الموضوع لها،و أصالة الحقيقة لا دليل على حجيتها ما لم ترجع إليها.
ص: 232
[البحث في حجية قول اللغويين]
و هو الظن الذي يعمل لتشخيص الظواهر ،كتشخيص أن اللفظ المفرد الفلاني كلفظ(الصعيد)أو صيغة(افعل)،أو أن المركب الفلاني كالجملة الشرطية،ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني،و أن الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر في مجرد رفع الحظر دون الإلزام.
و الظن الحاصل هنا يرجع إلى الظن بالوضع اللغوي أو الانفهام العرفي ،و الأوفق بالقواعد عدم حجية الظن هنا،لأن الثابت المتيقن يعني:الظواهر الأولية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة المكتنفة بالكلام التي قد تكون صارفة عنها.
سواء كان مستندا إلى الوضع في أصل اللغة،أم بسبب الاستعمال العرفي الموجب للنقل للمعنى المستعمل فيه.
يعني:و إن لم يصل إلى مرتبة الوضع،بل كان مستندا للقرينة النوعية كالوقوع عقيب الحظر.
هذا واقع موقع جواب«أما»في قوله:«و أما القسم الثاني»مع الخروج-
ص: 233
هي حجية الظواهر،و أما حجية الظن في أن هذا ظاهر فلا دليل عليه ، عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئي من جزئيات هذه المسألة،و هي حجية قول اللغويين في الأوضاع.
فإن المشهور كونه من الظنون الخاصة التي ثبتت حجيتها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية،و إن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها،فإن الظاهر أن حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصة،كأصالة الحقيقة المتقدم ذكرها و غيرها،انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيات و الشرعيات .
-فيه عن مقتضى القواعد العربية.
لا إشكال في بناء العقلاء على حجية التبادر لتعيين المعنى الحقيقي، و بضميمة أصالة عدم النقل يثبت سبق المعنى المتبادر من حين صدور الكلام المشكوك في ظهوره،فيحمل الكلام عليه.إلا مع قيام أمارة على النقل فيلزم التوقف.
و لعل المصنف قدّس سرّه لا يريد مثل ذلك.و سيأتي بعض الكلام فيه.
هذا و إن كان مسلما في غالب الظنون الخاصة،إلا أن الظاهر أن جواز الرجوع إلى أهل الخبرة يختص بصورة انسداد باب العلم بموضوع خبرهم إذا كان حدسيا،فلو أمكن من دون عسر و لا ضيق تحصيل العلم به-و لو لشخص خاص- لم يجز الرجوع إليهم و لا تقليدهم بنظر العقلاء.و لذا كان الظاهر عدم جواز التقليد لمن له ملكة الاستنباط في الأحكام الشرعية،إذا تيسر له إعمالها بل لا بد له من إعمالها، لقصور بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم عن ذلك.و ليس هو كالظنون الخاصة الأخرى-كأصالة الحقيقة-حجة مطلقا و لو مع انفتاح باب العلم،و ليس انسداد باب العلم فيها إلا حكمة لا تدور الحجية مدارها.
لكن هذا يرجع إلى ابتناء حجية خبر أهل الخبرة على تمامية دليل الانسداد،-
ص: 234
و المراد بالظن المطلق ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعية،و بالظن الخاص ما ثبت اعتباره،لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظن بعد تعذر العلم.
و كيف كان:فاستدلوا على اعتبار قول اللغويين:باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات و الاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج،و لم ينكر ذلك أحد على أحد،و قد حكي عن السيد رحمه اللّه في بعض كلماته:دعوى الإجماع على ذلك،بل ظاهر كلامه المحكي اتفاق المسلمين.
قال الفاضل السبزواري-فيما حكي عنه في هذا المقام-ما هذا لفظه:
صحة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فهمهم في ما اختص بصناعتهم،مما اتفق عليه العقلاء في كل عصر و زمان،انتهى.
و فيه:أن المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع -إذ المراد بالانسداد هناك هو انسداد باب العلم في معظم الأحكام الشرعية التي يكثر الابتلاء،بها و المراد به هنا انسداد باب العلم بموضوع خبرهم،و إن لم يكن أمرا شرعيا،و لا كان الابتلاء به كثيرا،بل كان موضوعا خارجيا لو كان الابتلاء به نادر لا يعلم باهتمام الشارع به.
إن أريد به اتفاق العقلاء فلا إشكال في عدم اعتبار شروط الشهادة عندهم،في الرجوع إلى أهل الخبرة،لأنها لو تمت فهي شروط شرعية ثابتة بأدلة تعبدية.
ص: 235
شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك،لا مطلقا،أ لا ترى أن أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال،بل و بعضهم على اعتبار التعدد،و الظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد و العدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم و غيرها.
هذا،مع أنه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرد قول اللغوي كما اعترف به المستدل في بعض كلماته فلا ينفع في تشخيص الظواهر.
فالإنصاف:أن الرجوع إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط -نعم لا بد عند العقلاء من الوثوق بعدم تعمدهم الكذب،كما لا يخفى.و إن أريد به اتفاق العلماء و المتشرعة فهو و إن كان مسلما،لعدم انعقاد إجماعهم على الإطلاق المذكور،بل صرح غير واحد باعتبار الشروط المذكورة،إلا أن ذلك لم يبلغ الإجماع فلا أهمية له بعد العلم بانحصار الدليل في الرجوع إلى أهل الخبرة بسيرة العقلاء المعلوم إمضاؤها في كثير من الموارد،بنحو لا يبعد استكشاف عموم الإمضاء تبعا لعموم الممضى.و حينئذ يلزم الرجوع إلى سيرة العقلاء بعمومها.
و أما أدلة شروط البينة فهي لا تصلح للردع في المقام،لاختصاصها بالخبر الحسي المستند إلى مقدمات حسية أو قريبة من الحس،لا الأمور الحدسية الاجتهادية النظرية،فالمرجع فيها السيرة المقتضية لحجية قول اللغويين في المقام.
فالعمدة في المقام الإشكال في خبرتهم،لاعتمادهم كثيرا في ذكر المعنى على الاستعمال فيه،و ذلك موجب لاختلاط المعنى الحقيقي بالمجازي و المصداق بالمفهوم،لكثرة ذلك في الاستعمالات،فلا بد للفقيه من إعمال النظر في منشأ نقلهم مع الشك.
كأنه لما أشرنا إليه من أن نظرهم إلى موارد الاستعمال،لا إلى ما يتحصل من جميع الاستعمالات و هو المعنى الموضوع له.
ص: 236
الشهادة :
إما في مقامات يحصل العلم فيها بالمستعمل فيه من مجرد ذكر لغوي واحد أو أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلمات عند أهل اللغة،كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من إرسال جماعة لها إرسال المسلمات.
و إما في مقامات يتسامح فيها،لعدم التكليف الشرعي بتحصيل العلم بالمعنى اللغوي،كما إذا أريد تفسير خطبة أو رواية لا في متعلق بتكليف شرعي.
و إما في مقام انسد فيه طريق العلم و لا بد من العمل ،فيعمل بل حتى مع اجتماع شروط الشهادة،لما عرفت من الإشكال في خبرتهم.
يعني:للمعنى.
لكن لا بد حينئذ من التفسير على وجه التقريب و الظن،لا على وجه الجزم،و حينئذ ففي عدّ هذا من موارد العمل بقول أهل اللغة تسامح ظاهر.
لكن في الاكتفاء بذلك في حجية قول اللغوي مع إمكان الرجوع إلى الأصول تأمل ظاهر،فإن من أهم مقدمات الانسداد امتناع الرجوع للأصول لكثرة الوقائع التي انسدّ فيها باب العلم بنحو يلزم العلم الإجمالي بالمخالفة مع الاعتماد على الأصول الترخيصية و العسر و الحرج،أو اختلال النظام من الاحتياط،و هذا بخلاف المقام،كما سيعترف به المصنف قدّس سرّه.
اللهم إلا أن يريد بقوله:«و لا بد من العمل»لزوم العمل بالدليل و عدم إمكان طرحه و الرجوع للأصل،فتتم مقدمات الانسداد في خصوص الحكم الخاص.لكنه مجرد فرض لا واقع له أو يندر وقوعه.مع أن لازمه حينئذ حجية مطلق الظن بالحكم،لا خصوص قول أهل اللغة،و لا يظهر وجه خصوصيته.
ص: 237
بالظن بالحكم الشرعي المستند بقول أهل اللغة.
و لا يتوهم:أن طرح قول اللغوي الغير المفيد للعلم في ألفاظ الكتاب و السنة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام .
لاندفاع ذلك:بأن أكثر مواد اللغات إلا ما شذ و ندر-كلفظ الصعيد و نحوه-معلوم من العرف و اللغة،كما لا يخفى.و المتبع في الهيئات هي القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي،و اتفاق أهل العربية،أو التبادر بضميمة أصالة عدم القرينة ،فإنه قد يثبت به لكن ذلك لو تم لا يقتضي حجية قول اللغوي بالخصوص،بل حجية مطلق الظن على ما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.
اللهم إلا أن يدعى أن بناء الأصحاب على الاستنباط بالوجه المعهود.و عدم رجوعهم إلى مقتضى دليل الانسداد-و هو حجية مطلق الظن-كاشف عن عثورهم على دليل يقتضي حجية دليل الانسداد بالخصوص و لو لفهمهم إمضاء طريقة العقلاء المدعاة.
و لا يرجع هذا إلى إثبات حجية قول اللغوي بدليل الانسداد،بل استكشاف حجيته بالخصوص من باب الانتقال من المعلول إلى العلة.
كهيئة الأمر و هيئة الاستفعال،و نحوهما ما قد يشك في مفاده.
و ذلك لإثبات عدم استناد التبادر إلى قرينة خاصة خارجة عن الوضع.
لكن الظاهر أن أصالة عدم القرينة إنما تكون حجة في فهم المراد بعد إحراز الوضع -أو نحوه مما يحرز الظهور الأولي-لا في إحراز الوضع بعد فهم المراد،كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه و غيره.
و لعل الوجه في ذلك أن الدليل على أصالة عدم القرينة سيرة العقلاء و أهل اللسان،و مورد سيرتهم الشك في المراد،لأنه مورد العمل و الابتلاء العام الذي-
ص: 238
الوضع الأصلي الموجود في الحقائق،كما في صيغة(افعل)أو الجملة الشرطية أو الوصفية،و من هنا يتمسكون في إثبات مفهوم الوصف بفهم أبي عبيدة في حديث:«ليّ الواجد...» ،و نحوه غيره،من موارد -يمكن استكشاف حاله من السيرة،و أما الوضع فهو من همّ الخاصة و قليل من العلماء،و لا سيرة للعقلاء و العرف فيه.
نعم قد يقطع بعدم استناد التبادر إلى القرينة،لأن استناده إلى القرينة موقوف على ملاحظتها و لو إجمالا،و قد يتضح بعد التروي و التأمل عدم ملاحظتها حينه و عدم استناده إليها،بل إلى حاق اللفظ،فيكون كاشفا عن مقتضى الظهور الأولي.
ثم إن المراد بالتبادر إن كان هو تبادر أهل الخبرة فيرد عليه أنه من صغريات مسألة الرجوع إلى قول اللغويين.فيأتي فيه ما سبق،و لا وجه لجعله في قباله.
و إن كان هو تبادر الشاك نفسه-كالفقيه بالإضافة إلى مداليل الآيات و الروايات-كان اللازم التنبيه على أنه يتوقف الاستدلال به على ضم أصالة عدم النقل،كما أشرنا إليه في أول الكلام في هذه المسألة.
و إن كان المراد به تبادر أهل اللسان أنفسهم-كما يظهر منه قدّس سرّه-فهو ليس مورد الابتلاء فلا ينفع في الاستغناء عن قول اللغويين،اللهم إلا أن يفرض نقله عنهم.
تمثيل لما يستدل عليه بالتبادر.
الحديث كما في نهاية ابن الأثير:«ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه».و اللّي بفتح اللام و تشديد الياء المطل أو المماطلة.
و الظاهر أن الحديث وارد في الدين،يعني:أن مماطلة المدين في وفاء دينه مع كونه واجدا يحلّ عقوبته و عرضه.
فهم أبو عبيدة من الحديث المذكور اختصاص الحكم بالواجد،و انتفاءه في غيره و هو المعسر،فلا تكون مماطلته رافعة لحرمته.و حيث أن ذلك مبني على مفهوم الوصف فقد احتج بعضهم عليه.
ص: 239
الاستشهاد بفهم أهل اللسان .و قد يثبت به الوضع بالمعنى الأعم الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقامية،كما يدعى أن الأمر عقيب الحظر بنفسه مجردا عن القرينة يتبادر منه مجرد رفع الحظر دون الإيجاب و الإلزام.و احتمال كونه لأجل قرينة خاصة،يدفع بالأصل ،فيثبت به كونه لأجل القرينة العامة،و هي الوقوع في مقام رفع الحظر،فيثبت بذلك ظهور ثانوي لصيغة(افعل)بواسطة القرينة الكلية.
و بالجملة:فالحاجة إلى قول اللغوي الذي لا يحصل العلم بقوله لقلة مواردها لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة .
نعم،سيجيء:أن كل من عمل بالظن في مطلق الأحكام الشرعية الفرعية يلزمه العمل بالظن بالحكم الناشئ من الظن بقول اللغوي،لكنه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات،بل العبرة عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام،فإنه يوجب الرجوع إلى الظن بالحكم الحاصل من الظن باللغة،و إن فرض انفتاح باب العلم فيما عدا هذا المورد لا يخفى أن أبا عبيدة ليس من أهل اللسان،و إنما هو من المتأخرين في الجملة،فقد توفي سنة مائتين و تسع،أو مائتين و إحدى عشرة.
نعم هو من اللغويين فيلحقه ما سبق،و لا يصح الاستشهاد بذلك لتأييد دعوى إمكان الاستغناء عنهم.
يعني:بالتبادر.
عرفت الكلام في الأصل المذكور.
يعني:الحاجة الراجعة إلى انسداد باب العلم.
ص: 240
من اللغات.و سيتضح هذا زيادة على هذا إن شاء اللّه تعالى .
هذا،و لكن الإنصاف:أن مورد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها،و إن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوي، كما في مثل ألفاظ(الوطن)،و(المفازة)،و(الثمرة)،و(الفاكهة)،و(الكنز)، و(المعدن)،و(الغوص)،و غير ذلك من متعلقات الأحكام مما لا يحصى، و إن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذورا،و لعل هذا المقدار مع الاتفاقات المستفيضة كاف في المطلب،فتأمل .
يأتي بعض الكلام في ذلك في التنبيه الثالث من تنبيهات دليل الانسداد.
لعله إشارة إلى أنه لا مجال لذلك بعد إمكان الاقتصار على القدر المتيقن من مفاهيم هذه الألفاظ المذكورة في كلامه قدّس سرّه و غيرها،و الرجوع فيما زاد إلى الأصل،خصوصا مع قلة وفاء كلماتهم بالتحديد بالنحو المذكور،و كون همهم غالبا الإشارة إلى المعنى في الجملة،و لذا يكثر اختلافهم في الخصوصيات المذكورة في شرح المعنى.
و التحقيق أنه ما لم يثبت ما سبق في وجه حجية قولهم من كونه من صغريات الرجوع إلى أهل الخبرة الذي هو مورد السيرة العقلائية،لا مجال لإثبات الحجية بمثل هذه التقريبات التي لا تسمن و لا تغني من جوع إذ الانسداد غير تام.
مع أنه لا يقتضي خصوصية قول اللغويين من بين الأمور الموجبة للظن بالوضع،بل بالحكم الشرعي.و الإجماع لم يثبت بنحو يمكن الركون إليه لإثبات الحجية.فتأمل جيدا و اللّه سبحانه و تعالى العالم العاصم.
ص: 241
ص: 242
[البحث في حجية الإجماع المنقول]
و من جملة الظنون الخارجة عن الأصل:الإجماع المنقول بخبر الواحد،عند كثير ممن يقول باعتبار الخبر بالخصوص،نظرا إلى أنه من أفراده،فيشمله أدلته.
و المقصود من ذكره هنا مقدما على بيان الحال في الأخبار هو التعرض للملازمة بين حجية الخبر و حجيته،فنقول:
إن ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص:أن الدليل عليه هو الدليل على حجية خبر العادل،فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند ، لأن مدعي الإجماع يحكي مدلوله و يرويه عن الإمام عليه السّلام بلا واسطة.
و يدخل الإجماع ما يدخل الخبر من الأقسام ،و يلحقه ما يلحقه من الأحكام.
و هو الذي تقل الوسائط في سنده أو تنعدم،نظير قولهم:فلان عالي النسب،إذا قلّت الوسائط بينه و بين الجد الأعلى.
بناء على أن مرجع نقل الإجماع إلى نقل الحكم عن الإمام عليه السّلام بحيث يكون قوله عليه السّلام منقولا و لو في ضمن أقوال المجمعين،و سيأتي توضيح ذلك.
يعني:من حيثية الصحة و الضعف،تبعا لكون الناقل ثقة أو غيره.
ص: 243
و الذي يقوى في النظر:هو عدم الملازمة بين حجية الخبر و حجية الإجماع المنقول.و توضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين:
الأول:أن الأدلة الخاصة التي أقاموها على حجية خبر العادل لا تدل إلا على حجية الإخبار عن حس،لأن العمدة من تلك الأدلة هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء و أصحاب الأئمة عليهم السّلام،و معلوم عدم شموله إلا للرواية المصطلحة.
و كذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات.
اللهم إلا أن يدعى:أن المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم،و لا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام عليه السّلام،و لذا يجوز النقل بالمعنى،فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام عليه السّلام و لو بلفظ آخر،و المفروض أن حكاية الإجماع أيضا حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه السّلام بهذه العبارة التي هي معقد الإجماع أو بعبارة اخرى،وجب العمل به.
لكن هذا المناط لو ثبت دل على حجية الشهرة،بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها ، جواب الشرط في قوله:«فاذا كان المناط...».
إن كان المراد الكشف القطعي فلا اشكال في الحجية،و لا تحتاج إلى هذا الدليل أو غيره بعد كون حجية القطع ذاتية.
و إن كان المراد هو الكشف الظني فالوجه المذكور لا يقتضيه،فإن روايات النقل بالمعنى إنما تقتضي التعدي من النقل الحسي إلى النقل الحدسي،و تكون حاكمة-
ص: 244
كما عمل بفتاوى علي بن بابويه قدّس سرّه،لتنزيل فتواه منزلة روايته ،بل على حجية مطلق الظن بالحكم الصادر عن الإمام عليه السّلام،و سيجيء توضيح الحال إن شاء اللّه تعالى.
-على الأدلة الظاهرة في اعتبار النقل الحسي.
أما إلغاء خصوصية النقل كلية،و التعدي منه إلى مطلق الظن بالحكم فلا وجه له و لا يقتضيه الوجه المذكور.
و بعبارة أخرى:ناقل الإجماع-كما سيأتي-ناقل لقول الإمام عليه السّلام و لو حدسا، و ناقل الشهرة لا ينقل إلا فتوى الفقهاء التي قد يظن منها بقول الإمام عليه السّلام،و حينئذ فالوجه المذكور-لو تم-إنما يقتضي عدم اعتبار الحس في النقل،لا عدم اعتبار النقل كلية و الاكتفاء بما يوجب الظن بقول الإمام عليه السّلام و لو للملازمة الظنية.
و منه يظهر أن قوله قدّس سرّه في تقريب هذا المطلب:«فإذا كان المناط كشف الروايات...»ليس مطلق الكشف الظني،بل خصوص الكشف الدلالي المبني على النقل،و هو إنما يقتضى التعدي لنقل مثل الإجماع،لا لنقل مثل الشهرة.نعم لو كان نقل الشهرة مبنيا على نقل قول الإمام عليه السّلام لابتنائه على الملازمة باعتقاد الناقل و لو اتفاقا كان التعدي إليه في محله.كما ظهر أيضا الاشكال في قوله قدّس سرّه:«بل على حجية مطلق الظن».
هذا و لكن الوجه المذكور في نفسه لا يخلو عن الاشكال بل المنع،لأن أخبار النقل بالمعنى لا تقتضي التعدي إلى مطلق الخبر الحدسي،بل هي مختصة بموردها الذي هو من الحدس القريب من الحس،فإن مضمون الكلام مما يسهل ادراكه من الكلام جدا،فيعبر عنه بما يؤديه من المرادفات و نحوها،فلا يقاس به نقل الإجماع فإن رجوعه إلى نقل رأى الامام عليه السّلام مبني على الحدس البعيد عن الحس.
لعله ناش عن العلم بأنه لا يفتي إلا بمضمون رواية،فتكون فتواه بمنزلة رواية مرسلة،فيلحقها أحكامها.
ص: 245
و أما الآيات:فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هي آية النبأ، و هي إنما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق،و الظاهر منها بقرينة التفصيل بين العادل حين الإخبار و الفاسق،و بقرينة تعليل اختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا،لأن الفاسق لا رادع له عن الكذب هو:عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه،لا وجوب البناء على إصابته و عدم خطئه في حدسه ،لأن الفسق و العدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطين لتصويب المخبر و تخطئته بالنسبة إلى حدسه.
و كذا احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل و الفاسق،فلا يصلح لتعليل الفرق به.
فعلمنا من ذلك:أن المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق،لأن هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق و العدالة حين الإخبار.
و منه تبين:عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.
فإن قلت:إن مجرد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول الخبر، لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر و إن لم يتعمد الكذب،فيجب التبين في خبر العادل أيضا،لاحتمال خطئه و سهوه،و هو خلاف الآية المفصلة بين فهي منصرفة إلى الإخبار الحسي لا الحدسي،كما سبق في الأخبار.
ص: 246
العادل و الفاسق ،غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من وجهين و في العادل من جهة واحدة .
قلت:إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمد كذبه،ينفي احتمال خطئه و غفلته و اشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحس،و هذا أصل عليه إطباق العقلاء و العلماء في جميع الموارد.
نعم،لو كان المخبر ممن يكثر عليه الخطأ و الاشتباه لم يعبأ بخبره، لعدم جريان أصالة عدم الخطأ و الاشتباه،و لذا يعتبرون في الشاهد و الراوي الضبط،و إن كان ربما يتوهم الجاهل ثبوت ذلك من الإجماع ، إلا أن المنصف يشهد:بأن اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجي مخصص لعموم آية النبأ و نحوها مما دل على وجوب قبول قول العادل،بل لما ذكرنا:من أن المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمده الكذب،لا تصويبه و عدم تخطئته أو غفلته.
و يؤيد ما ذكرنا:أنه لم يستدل أحد من العلماء على حجية فتوى الفقيه يعني:فلا بد أن تحمل الآية على محض التعبد بخبر العادل من جميع الجهات في قبال خبر الفاسق،لا من حيث إلغاء احتمال تعمده الكذب فقط،فيكون مقتضى إطلاقها حجية خبره الحدسي أيضا،لعدم الموجب للانصراف حينئذ.
متعلق بقوله:«فيجب التبين في خبر العادل...».
فهو في الفاسق من جهة احتمال تعمده الكذب،و من جهة احتمال خطئه في حسه،و في العادل من الجهة الثانية فقط.
يعني:فيكون الإجماع مخصصا لعموم الآية بعد شمولها له بدعوى:دلالة الآية على الحجية من جميع الجهات لا من جهة احتمال تعمده الكذب لا غير.
ص: 247
على العامي بآية النبأ ،مع استدلالهم عليها بآيتي النفر و السؤال.
و الظاهر:أن ما ذكرنا من عدم دلالة الآية و أمثالها من أدلة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد هو الوجه فيما ذهب إليه المعظم- بل أطبقوا عليه كما في الرياض-من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحس،و إن علله في الرياض بما لا يخلو عن نظر:من أن الشهادة من الشهود و هو الحضور،فالحس مأخوذ في مفهومها .
و الحاصل:أنه لا ينبغي الإشكال في أن الإخبار عن حدس و اجتهاد و نظر ليس حجة إلا على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعية، و أن الآية ليست عامة لكل خبر و دعوى خرج ما خرج .
فإن قلت:فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمده للكذب فيه تقبل شهادته فيه،لأن احتمال تعمده للكذب منتف بالفرض،و احتمال غفلته و خطئه منفي بالأصل المجمع عليه مع أن شهادته مردودة إجماعا.
قلت:ليس المراد مما ذكرنا عدم قابلية العدالة و الفسق لإناطة الحكم بهما وجودا و عدما تعبدا،كما في الشهادة و الفتوى و نحوهما،بل المراد أن مع أن مبنى المفتي على بيان الحكم الشرعي و نقله حدسا.
لعل وجه النظر عدم أخذ عنوان الشهادة في جميع أدلة الحجية،بل بعضها متعرض لعنوان آخر شامل للخبر الحدسي،مثل عنوان النبأ في الآية الشريفة.مع أن اختصاص الشهادة بالحس خلاف ظاهر استعمالها في كثير من الموارد،و منها الشهادتان في الإسلام.و حملها على المجاز بعيد جدا.
يعني:و يبقى ما لم يدل الدليل على خروجه داخل في عموم الحجية و منه الإجماع المنقول.
ص: 248
الآية المذكورة لا تدل إلا على مانعية الفسق من حيث قيام احتمال تعمد الكذب معه،فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة، فلا يدل على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطئه بأصالة عدم الخطأ المختصة بالأخبار الحسية،فالآية لا تدل أيضا على اشتراط العدالة و مانعية الفسق في صورة العلم بعدم تعمد الكذب،بل لا بد له من دليل آخر ،فتأمل .
الأمر الثاني:أن الإجماع في مصطلح الخاصة،بل العامة الذين هم الأصل له و هو الأصل لهم هو عبارة عن اتفاق جميع العلماء في يعني:بقرينة التعليل المشار إليه و مناسبة الحكم و الموضوع،كما تقدم.
من إجماع-كما هو المدعى للخصم-و نحوه.
و بالجملة:إن كان المدعى دلالة الآية على عدم قبول خبر الفاسق مع العلم بعدم تعمده الكذب فهو ممنوع.و إن كان المدعى استفادته من الأدلة الخاصة الأخرى-كالإجماع و نحوه-فهو لا يصلح دليلا في المقام على نظر الآية و نحوها إلى جميع الجهات في مقام جعل الحجية لخبر العادل.
لعله إشارة إلى ظهور حال الأصحاب في الاعتماد في الحكم المذكور على الآية الشريفة،كما قد يشهد به إطلاقهم دلالة الآية على اعتبار العدالة في الشاهد و المخبر.لكن في كفاية ذلك في إحراز ظهور الآية إشكال أو منع.مع أنه-لو سلم- لا ينافي التوقف في دلالة الآية على حجية الخبر الحدسي،لأن ما سبق إن لم يكن موجبا لظهور اختصاصها في الخبر الحسي،فلا أقل من كونه موجبا لإجمالها و الرجوع إلى الأصل المقتضي لعدم حجية الخبر الحدسي.
فإنهم بدءوا باختراعه و الاستدلال به في أمر الخلافة.
إذ به ينحصر الدليل على خلافتهم المزعومة التي هي الأصل لهم و بها-
ص: 249
عصر،كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين.
قال في التهذيب:«الإجماع هو اتفاق أهل الحل و العقد من أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».
و قال صاحب غاية البادى في شرح المبادئ،الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلامة قدّس سرّه:«الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم السّلام هو:
اتفاق أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على وجه يشتمل على قول المعصوم»انتهى.
و قال في المعالم:«الإجماع في الاصطلاح:اتفاق خاص،و هو اتفاق من يعتبر قوله من الامة»انتهى.
و كذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك في تعريف الإجماع و غيره من المقامات ،كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره.
ثم إنه لما كان وجه حجية الإجماع عند الإمامية اشتماله على قول الإمام عليه السّلام،كانت الحجية دائرة مدار وجوده عليه السّلام في كل جماعة هو أحدهم، و لذا قال السيد المرتضى:
-قوام دينهم و امتياز فرقتهم.
العبارات التي ذكرها قدّس سرّه لا تدل على خصوصية أهل العصر الواحد، اللهم إلا أن يكون التعبير بأهل الحل و العقد ظاهر في إرادة أهل العصر الواحد بملاحظة كون التعبير المذكور من مخترعات العامة،و من المعلوم أنهم يريدون بها خصوص أهل العصر الواحد،ليستقيم باتفاقهم أمر نظام الخلافة التي كانوا يدعون فيها الإجماع.فتأمل.
ص: 250
إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام عليه السّلام فيهم،فكل جماعة -كثرت أو قلّت-كان قول الإمام عليه السّلام في أقوالها فإجماعها حجة،و أن خلاف الواحد و الاثنين إذا كان الإمام عليه السّلام أحدهما-قطعا أو تجويزا- يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين و إن كثروا،و إن الإجماع بعد الخلاف كالمبتدإ في الحجية انتهى.
و قال المحقق في المعتبر بعد إناطة حجية الإجماع بدخول قول الإمام عليه السّلام:«إنه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجة،و لو حصل في اثنين كان قولهما حجة»انتهى.
و قال العلامة رحمه اللّه بعد قوله:«إن الإجماع عندنا حجة لاشتماله على قول المعصوم»:«و كل جماعة قلّت أو كثرت كان قول الإمام عليه السّلام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله،لا لأجل الإجماع»انتهى.
هذا،و لكن لا يلزم من كونه حجة تسميته إجماعا في الاصطلاح،كما أنه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح.
و أما ما اشتهر بينهم:من أنه لا يقدح خروج معلوم النسب واحدا أو أكثر،فالمراد أنه لا يقدح في حجية اتفاق الباقي،لا في تسميته إجماعا، كما علم من فرض المحقق قدّس سرّه الإمام عليه السّلام في اثنين .
نعم،ظاهر كلمات جماعة يوهم تسميته إجماعا في الاصطلاح،حيث الظاهر أن مراده التشبيه في معيار الحجية المتقدم،و هو وجود قول الإمام عليه السّلام في جملة أقوال المجمعين.
يعني:مع أنه لا إشكال في عدم كون اتفاقهما إجماعا اصطلاحيا.
ص: 251
تراهم يدعون الإجماع في مسألة ثم يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب.
لكن التأمل الصادق يشهد بأن الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجية،لا في التسمية.
نعم،يمكن أن يقال:إنهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على اتفاق الجماعة التي علم دخول الإمام عليه السّلام فيها،لوجود مناط الحجية فيه، و كون وجود المخالف غير مؤثر شيئا ،و قد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن ينقلب اصطلاح الخاصة عما وافق اصطلاح العامة إلى ما يعم اتفاق طائفة من الإمامية،كما يعرف من أدنى تتبع لموارد الاستدلال.
بل إطلاق لفظ(الإجماع)بقول مطلق على إجماع الإمامية فقط مع أنهم بعض الأمة لا كلهم،ليس إلا لأجل المسامحة من جهة أن وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجية.
و على أي تقدير:فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام عليه السّلام في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن ،فيكون الإخبار متعلق بقوله:«قد تسامحوا...»لبيان سبب التسامح في الإطلاق.
أو لما يأتي منه قدّس سرّه من التحفظ على سيرة أهل الفن من إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة الأربعة،فإن المناسب حينئذ إرجاع هذا النوع من الاتفاق إلى الإجماع، لانه أقرب إليه من غيره.
هذا لا يخلو عن خفاء و مجرد كونه مناطا للحجية لا يقتضيه،لإمكان كون الاستدلال به باعتبار استلزامه لقول الإمام عليه السّلام لاشتماله عليه.
ص: 252
عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه السّلام،و هذا هو الذي يدل عليه كلام المفيد و المرتضى و ابن زهرة و المحقق و العلامة و الشهيدين و من تأخر عنهم.
و أما اتفاق من عدا الإمام عليه السّلام بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام عليه السّلام بقاعدة اللطف -كما عن الشيخ رحمه اللّه-،أو التقرير -كما عن بعض المتأخرين-أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام عليه السّلام،فهذا ليس إجماعا اصطلاحيا ،إلا أن ينضم قول الإمام عليه السّلام المكشوف عنه باتفاق هؤلاء إلى أقوالهم فيسمى المجموع إجماعا،بناء على ما تقدم:
من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الإمام عليه السّلام إجماعا و إن خرج عنه الكثير أو الأكثر.فالدليل في الحقيقة هو اتفاق من عدا -و بالجملة:تحديد مصطلحهم في ذلك في غاية الصعوبة،لاختلاف كلماتهم، كما لعله يتضح بما يأتي.
سيأتي توضيحها من المصنف قدّس سرّه.
لعل المراد به ما لو فرض تحقق الاتفاق بمرأى من الإمام عليه السّلام مع تمكنه من الردع و لو بايقاع الخلاف فلم يفعل،فإن مثل هذا الإجماع يكون كاشفا عن رأيه عليه السّلام.
جواب(أما)في قوله:«و أما اتفاق من عدا الإمام...».
يعني:لخروج قول الإمام عليه السّلام عنه و إن كان مستلزما له و مستكشفا به.
لكن عرفت الإشكال في تحديد المصطلح.
متعلق بقوله:«ينضم...».
يعني:في هذا النوع الأخير،و هو اتفاق من عدا الإمام عليه السّلام بنحو يكشف-
ص: 253
الإمام عليه السّلام،و المدلول الحكم الصادر عنه عليه السّلام،نظير كلام الإمام عليه السّلام و معناه.
فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع-مع توقفه على ملاحظة انضمام مذهب الإمام عليه السّلام الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه ،و تسمية المجموع دليلا-:هو التحفظ على ما جرت عليه سيرة أهل الفن،من إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة المعروفة بين الفريقين،أعني الكتاب و السنة و الإجماع و العقل،ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة .
و حاصل المسامحتين:إطلاق الإجماع على اتفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطؤهم،و عدم وصولهم إلى حكم الإمام عليه السّلام.
و الاطلاع على تعريفات الفريقين و استدلالات الخاصة و أكثر العامة على حجية الإجماع،يوجب القطع بخروج هذا الإطلاق عن المصطلح و بناؤه على المسامحة،لتنزيل وجود من خرج عن هذا الاتفاق منزلة عدمه، -عن قوله عليه السّلام.
و هو اتفاق الجماعة المذكورة،و هو متعلق بقوله:«انضمام».
خبر لقوله:«فالنكتة في التعبير...».
المسامحة الأولى بسبب عدم دخول قول الإمام عليه السّلام فيه،و الثانية بسبب عدم ابتنائه على اتفاق الكل بل يختص بالبعض.
لكن دعوى:أن المصطلح هو اتفاق جميع علماء العصر مع كون الإمام عليه السّلام في ضمن المجمعين،مما لا مجال لها أصلا،إذ لا موضوعية للعصر الواحد عندنا إلا بناء على قاعدة اللطف أو نحوها،و هي مبنية على كون قول الإمام عليه السّلام مستكشفا بالإجماع لا في ضمنه.
ص: 254
كما قد عرفت من السيد و الفاضلين قدست اسرارهم:من أن كل جماعة قلت أو كثرت علم دخول قول الإمام عليه السّلام فيهم،فإجماعهم حجة.
و يكفيك في هذا:ما سيجيء من المحقق الثاني في تعليق الشرائع:من دعوى الإجماع على أن خروج الواحد من علماء العصر قادح في انعقاد الإجماع .مضافا إلى ما عرفت:من إطباق الفريقين على تعريف الإجماع باتفاق الكل.
ثم إن المسامحة من الجهة الأولى أو الثانية في إطلاق لفظ الإجماع على هذا من دون قرينة لا ضير فيها،لأن العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدل .
نعم،لو كان نقل الإجماع المصطلح حجة عند الكل أو الأكثر كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا،أما لو لم يكن نقل الإجماع حجة،أو كان نقل مطلق الدليل القطعي حجة،لم يلزم تدليس أصلا.
و يظهر من ذلك:ما في كلام صاحب المعالم رحمه اللّه،حيث-إنه بعد ما لا يبعد كونه بلحاظ عدم الحجية لا بلحاظ عدم تحقق الإجماع المصطلح، الذي يدعيه المصنف قدّس سرّه.
لكن هذا مختص بما إذا كان المستدل في مقام بيان الوجه الذي اعتمده في فتواه،لا لإلزام الخصم بقوله،كما يظهر منهم في كثير من المقامات،إذ ظاهره حينئذ الاستدلال بما هو حجة عند الخصم.
يعني:الذي يحصل به القطع للناقل،و إن لم يحصل به القطع لغيره.لكن احتمال حجية ذلك في غاية البعد.
ص: 255
ذكر أن حجية الإجماع إنما هي لاشتماله على قول المعصوم،و استنهض بكلام المحقق الذي تقدم،و استجوده-قال:
و العجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل،و تساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية،حتى جعلوه عبارة عن اتفاق جماعة من الأصحاب،فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح،من دون نصب قرينة جلية،و لا دليل لهم على الحجية يعتد به انتهى.
و قد عرفت:أن مساهلتهم و تسامحهم في محله،بعد ما كان مناط حجية الإجماع الاصطلاحي موجودا في اتفاق جماعة من الأصحاب .
و عدم تعبيرهم عن هذا الاتفاق بغير لفظ الإجماع،لما عرفت من التحفظ على عناوين الأدلة المعروفة بين الفريقين.
إذا عرفت ما ذكرنا،فنقول:
إن الحاكي للاتفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق،أو مضافا إلى المسلمين،أو الشيعة،أو أهل الحق،أو غير ذلك مما يمكن أن يراد به دخول الإمام عليه السّلام في المجمعين .
و قد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه السّلام،كقوله:أجمع علماؤنا،أو إذ قد يحصل للناقل العلم منه،و ذلك يكفي في استدلاله به لنفسه، لكن عرفت أنه خلاف ظاهرهم في مقام الاستدلال و الخصام و النقض و الإبرام.
فلاحظ.
لا يبعد انصراف التعبير بالشيعة عن الإمام عليه السّلام،و دخوله في القسم الثاني.
ص: 256
أصحابنا،أو فقهاؤنا،أو فقهاء أهل البيت عليهم السّلام،فإن ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه السّلام،و إن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغوي،لكنه مرجوح.
فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام عليه السّلام فلا إشكال في عدم حجية نقله،لأنه لم ينقل حجة،و إن فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه السّلام من جهة هذا الاتفاق،لأنه إنما نقل سبب العلم، و لم ينقل المعلوم و هو قول الإمام عليه السّلام حتى يدخل في نقل الحجة و حكاية السنة بخبر الواحد.
نعم،لو فرض أن السبب المنقول مما يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه السّلام أو وجود دليل ظني معتبر حتى بالنسبة إلينا،أمكن إثبات ذلك السبب المحسوس بخبر العادل،و الانتقال منه إلى لازمه .لكن سيجيء بيان الإشكال في تحقق ذلك.
و في حكم الإجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه السّلام:الإجماع المطلق المذكور في مقابل الخلاف،كما يقال:خرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجس إجماعا،و إنما اختلفوا في خرء الطير،أو يقال:إن محل (إن)هنا وصلية.
تعليل لقوله:«فلا إشكال في عدم حجية نقله...».
متعلق بقوله:«معتبر»يعني:لو فرض كشفه عن وجود دليل معتبر حتى عندنا.
لحجية الخبر-كأكثر الأمارات-في لازم مدلوله.
ص: 257
الخلاف هو كذا،و أما كذا فحكمه كذا إجماعا،فإن معناه في مثل هذا كونه قولا واحدا .
و أضعف مما ذكرنا :نقل عدم الخلاف ،و أنه ظاهر الأصحاب،أو قضية المذهب،و شبه ذلك.
و إن أطلق الإجماع أو أضافه على وجه يظهر منه إرادة المعنى المصطلح المتقدم و لو مسامحة ،لتنزيل وجود المخالف منزلة تعليل لقوله:«و في حكم الإجماع المضاف...».
يعني:من دون تعرض لنقل قول الإمام عليه السّلام:«لمناسبته لمقتضى السياق مع الخلاف،إذ ليس المراد بنقل الخلاف نقل قول الإمام عليه السّلام في جملة المختلفين.
و هو ما سبق من نقل الإجماع بعد الخلاف الذي تقدم منه أنه غير ظاهر في نقل قول الإمام عليه السّلام و مراده أن ما يأتي أبعد منه عن نقل قوله عليه السّلام.
فإن الظاهر منه إرادة عدم الخلاف بين الأصحاب الذين من شأنهم اختلاف بعضهم مع بعض،لا مع الإمام عليه السّلام.
عطف على قوله فيما سبق:«فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام...».
و هو المشتمل على نقل قول المعصوم عليه السّلام بالتضمن.
إشارة إلى أنه لو فرض ظهور حال الناقل في نقله الإجماع المصطلح الراجع إلى اتفاق الكل و في ضمنهم الإمام عليه السّلام فلا يرفع اليد عنه بالعثور على مخالف في المسألة لإمكان حمل نقله على التسامح المبني على تنزيل المخالف منزلة العدم لوجود ملاك الحجية في الباقي و هو وجود قول الإمام عليه السّلام.
أقول:كما يمكن حمله على ذلك،كذلك يمكن حمله على عدم إرادة المعنى المصطلح الراجع إلى نقل قول الإمام عليه السّلام بالتضمن،بل يكون مراده نقل اتفاق جماعة حصل له من اتفاقهم العلم بقول الإمام عليه السّلام،و لا مرجح للأول بعد فرض خروجهما-
ص: 258
العدم،لعدم قدحه في الحجية فظاهر الحكاية كونها حكاية للسنة-أعني:
حكم الإمام عليه السّلام-لما عرفت:من أن الإجماع الاصطلاحي متضمن لقول الإمام عليه السّلام فيدخل في الخبر و الحديث،إلا أن مستند علم الحاكي بقول الإمام عليه السّلام أحد أمور:
أحدها:الحسّ،كما إذا سمع الحكم من الإمام عليه السّلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم،فيحصل له العلم بقول الإمام عليه السّلام.
و هذا في غاية القلة،بل نعلم جزما أنه لم يتفق لأحد من هؤلاء الحاكين للإجماع،كالشيخين و السيدين و غيرهما،و لذا صرح الشيخ في العدة في مقام الرد على السيد-حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف-:بأنه لو لا قاعدة اللطف لم يمكن التوصل إلى معرفة موافقة الإمام للمجمعين.
الثاني:قاعدة اللطف ،على ما ذكره الشيخ في العدة و حكي القول به عن غيره من المتقدمين.
و لا يخفى أن الاستناد إليه غير صحيح على ما ذكر في محله ، -معا عن المعنى المصطلح.
تقدم الإشكال في ذلك.
يعني:السيد.
متعلق بقوله:«صرح الشيخ...».
سيأتي في مطاوي كلام المصنف قدّس سرّه توضيحها.
و سيأتي في كلام السيد المرتضى قدّس سرّه وجه الإشكال فيها.
ص: 259
فإذا علم استناد الحاكي إليه فلا وجه للاعتماد على حكايته،و المفروض أن إجماعات الشيخ كلها مستندة إلى هذه القاعدة،لما عرفت من كلامه المتقدم من العدة ،و ستعرف منها و من غيرها من كتبه.
فدعوى مشاركته للسيد قدّس سرّه في استكشاف قول الإمام عليه السّلام من تتبع أقوال الأمة و اختصاصه بطريق آخر مبني على وجوب(قاعدة اللطف)، غير ثابتة و إن ادعاها بعض،فإنه قدّس سرّه قال في العدة-في حكم ما إذا اختلفت الأمة على قولين يكون أحد القولين قول الإمام عليه السّلام على وجه لا يعرف بنفسه،و الباقون كلهم على خلافه-:
إنه متى اتفق ذلك،فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السّلام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها،لم يجب عليه الظهور و لا الدلالة على ذلك،لأن الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف ،و متى لم يكن عليه دليل وجب عليه الظهور،أو إظهار من يبين الحق في تلك المسألة حيث ظهر منه أنه لو لا قاعدة اللطف لامتنع التوصل إلى معرفة موافقة الامام عليه السّلام للمجمعين.
خبر لقوله:«فدعوى مشاركته للسيد...».
هذا يقتضي الاكتفاء بكل دليل،و لا حاجة إلى كونه قطعيا،كما هو ظاهر صدر كلامه قدّس سرّه.و حينئذ لا يكون الإجماع من الأدلة القطعية التي يرفع بها اليد عن الأدلة الظنية.
إن كان المراد من تبيين الحق تبيينه بصورة قطعية بنحو لا يقبل الرد،فهو غير واجب قطعا،إذ لا إشكال في خلو كثير من المسائل عن الأدلة القطعية.و إن كان المراد من تبيينه مجرد وجود القائل به و لو كانت حجته ضعيفة بنظر الآخرين،فكونه-
ص: 260
إلى أن قال:
و ذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي أخيرا:أنه يجوز أن يكون الحق عند الإمام عليه السّلام و الأقوال الأخر كلها باطلة،و لا يجب عليه الظهور، لأنا إذا كنا نحن السبب في استتاره،فكل ما يفوتنا من الانتفاع به و بما يكون معه من الأحكام يكون قد فاتنا من قبل أنفسنا،و لو أزلنا سبب الاستتار لظهر و انتفعنا به،و أدّى إلينا الحق الذي كان عنده.
قال:و هذا عندي غير صحيح،لأنه يؤدي إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا،لأنا لا نعلم دخول الإمام عليه السّلام فيها إلا بالاعتبار الذي بيناه،و متى جوزنا انفراده بالقول و أنه لا يجب ظهوره،منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع.انتهى كلامه.
و ذكر في موضع آخر من العدة:أن هذه الطريقة-يعني:طريقة السيد المتقدمة-غير مرضية عندي،لأنها تؤدي إلى أن لا يستدل بإجماع الطائفة أصلا،لجواز أن يكون قول الإمام عليه السّلام مخالفا لها،و مع ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده،انتهى.
-مقتضى اللطف غير ظاهر،فإن إزاحة العلة لا تتم بذلك،و إنما هو مبني على امتناع اجتماع الأمة على الخطأ،كما يدعيه العامة و يروون فيه النبوي:لا تجتمع أمتي على خطأ.و لم يثبت ذلك.مع أنه لو ثبت كفى احتمال خلاف الإمام عليه السّلام لأنه من الأمة.
هذا مع أنه على ذلك لا خصوصية لأهل العصر الواحد،بل يكفي في خدش الإجماع -حينئذ-خلاف من انقرض عصره،و الظاهر منهم أن موضوع قاعدة اللطف أهل العصر الواحد،كما سيأتي من المصنف قدّس سرّه.
نعم لو كان المدرك فيه النبوي المتقدم لم يبعد ظهوره في الاجتماع في كل عصر.
ص: 261
و أصرح من ذلك في انحصار طريق الإجماع عند الشيخ فيما ذكره من قاعدة اللطف:ما حكي عن بعض أنه حكاه من كتاب التهذيب للشيخ:
أن سيدنا المرتضى قدّس سرّه كان يذكر كثيرا:أنه لا يمتنع أن يكون هنا أمور كثيرة غير واصلة إلينا،علمها مودع عند الإمام عليه السّلام و إن كتمها الناقلون، و لا يلزم مع ذلك سقوط التكليف عن الخلق ...إلى أن قال:
و قد اعترضنا على هذا في كتاب العدة في أصول الفقه،و قلنا:هذا الجواب صحيح لو لا ما نستدل في أكثر الأحكام على صحته بإجماع الفرقة، فمتى جوزنا أن يكون قول الإمام عليه السّلام خلافا لقولهم و لا يجب ظهوره، جاز لقائل أن يقول:ما أنكرتم أن يكون قول الإمام عليه السّلام خارجا عن قول من تظاهر بالإمامة و مع هذا لا يجب عليه الظهور،لأنهم أتوا من قبل أنفسهم،فلا يمكننا الاحتجاج بإجماعهم أصلا،انتهى.
فإن صريح هذا الكلام أن القادح في طريقة السيد منحصر في استلزامها رفع التمسك بالإجماع،و لا قادح فيها سوى ذلك،و لذا صرح في كتاب الغنية بأنها قوية تقتضيها الأصول،فلو كان لمعرفة الإجماع و جواز الاستدلال به طريق آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحق عليه، لم يبق ما يقدح في طريقة السيد،لاعتراف الشيخ بصحتها لو لا كونها يعني:سقوط التكليف الواقعي بسبب الجهل به،و لا يثبت إلا في حق من يعلم به.
يعني:تظاهر بكونه إماميا.
تعليل لصحتها في نفسها لو لا المحذور المذكور.
ص: 262
مانعة عن الاستدلال بالإجماع.
ثم إن الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كل من اشترط في تحقق الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر ،كفخر الدين و الشهيد و المحقق الثاني.
قال في الإيضاح في مسألة ما يدخل في المبيع:«إن من عادة المجتهد إذا تغير اجتهاده إلى التردد أو الحكم بخلاف ما اختاره أولا،لم يبطل ذكر الحكم الأول،بل يذكر ما أداه إليه اجتهاده ثانيا في موضع آخر،لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأول على خلافه ،و عدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كل واحد منهما ،و أنه لم يحصل في الاجتهاد الثاني لما عرفت من ابتناء قاعدة اللطف عند القائل بها على إجماع أهل العصر الواحد،و لا مجال لخصوصيتهم بالإضافة إلى الطرق الأخرى لمعرفة قول الإمام عليه السّلام من الإجماع،لوضوح أن طريقة الحس مبنية على إجماع من يكون في ضمنهم الإمام عليه السّلام و لو كانوا عشرة إذا علم بوجود الإمام فيهم و إن لم يعرف بشخصه،و طريقة التقرير مبنية على ظهور حال تقرير الإمام للقول في صحته و مطابقته لرأيه من دون فرق بين قول الجميع و قول البعض،في عصر واحد أو اكثر،و كذا طريقة الحدس الآتية،فانها مبنية على اتفاق جماعة يستلزم اتفاقهم عادة لقول الإمام من دون خصوصية لوحدة العصر.
فلو فرض إجماع من عدا الشخص المذكور من أهل عصر الاجتهاد الأول على مقتضى الفتوى الثانية لا يكون عدوله إليها و موافقتهم فيها موجبا لانعقاد الإجماع في ذلك العصر لفرض خلافه لهم حسب اجتهاده الأول.
أما عدم انعقاد إجماعهم على الفتوى الأولى فلفرض مخالفته لهم فيها.
و أما عدم انعقاد إجماعهم على الفتوى الثانية لو فرض موافقتهم له فيها فلفرض-
ص: 263
مبطل للأول،بل معارض لدليله مساو له»انتهى.
و قد أكثر في الإيضاح من عدم الاعتبار بالخلاف،لانقراض عصر المخالف،و ظاهره الانطباق على هذه الطريقة ،كما لا يخفى.
و قال في الذكرى:«ظاهر العلماء المنع عن العمل بقول الميت، محتجين بأنه لا قول للميت،و لهذا ينعقد الإجماع على خلافه ميتا».
و استدل المحقق الثاني في حاشية الشرائع على أنه لا قول للميت:
بالإجماع على أن خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع،اعتدادا بقوله و اعتبارا بخلافه،فإذا مات و انحصر أهل العصر في -خلافه لهم حسب اجتهاده الأول.و ظاهره أنه يعتبر في انعقاد الإجماع وحدة اجتهاد المجمعين في العصر الواحد،بمعنى عدم وجود رأى لأحدهم على خلافه و لو في عصر سابق.لكنه لا يلتئم ظاهرا مع ما سبق من دليل قاعدة اللطف،كما يتضح بالتأمل.
هذا و لكن في بعض الحواشي حمل كلامه قدّس سرّه على أن الوجه في عدم إبطاله للفتوى الأولى التنبيه على أن الفتوى الثانية ليست مستندة إلى دليل قطعي،بل هي مستندة إلى اجتهاد ظني،إذ لو كانت مستندة إلى دليل قطعي لكان اللازم عليه محو الفتوى الأولى للعلم بمخالفتها للواقع،فعدم محوها كاشف عن عدم انعقاد الإجماع على الفتوى الثانية،إذ لو انعقد الإجماع عليها كانت الفتوى الأولى مقطوعة البطلان فيلزم محوها.
و لعل هذا هو المناسب لقوله:«و أنه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للأول...»و إن كان ربما يحمل على إرادة بيان وجه آخر لعدم محو الفتوى الأولى غير الوجه الأول،لا أنه متمم له.
يعني:طريقة قاعدة اللطف المبنية على اتفاق أهل العصر الواحد.
ص: 264
المخالفين له انعقد و صار قوله غير منظور إليه،و لا يعتد به»انتهى.
و حكي عن بعض:أنه حكى عن المحقق الداماد،أنه قدّس سرّه قال في بعض كلام له في تفسير«النعمة الباطنة»:«إن من فوائد الإمام عجل اللّه فرجه أن يكون مستندا لحجية إجماع أهل الحل و العقد من العلماء على حكم من الأحكام إجماعا بسيطا في أحكامهم الإجماعية،و حجية إجماعهم المركب في أحكامهم الخلافية فإنه عجل اللّه فرجه لا ينفرد بقول،بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهية أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره و صاحب أمره،و يطابق قوله قوله،و إن لم يكن ممن نعلمه بعينه و نعرفه بشخصه».
انتهى.
و كأنه لأجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد في الذكرى إلى توجيه الإجماعات التي ادعاها جماعة في المسائل الخلافية مع وجود المخالف فيها:
بإرادة غير المعنى الاصطلاحي من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم ، و لو جامع الإجماع وجود الخلاف و لو من معلوم النسب لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة ،مع بعدها أو أكثرها.
مثل تسميتهم المشهور إجماعا،أو عدم الظفر حين دعوى الإجماع بالمخالف أو بتأويل الخلاف بما يلائم الإجماع-و إن بعد-أو إرادتهم الإجماع على الرواية لا الفتوى.
لكن هذا إنما يدل على أن الإجماع في الاصطلاح هو اتفاق الكل لا اتفاق البعض،و هو أجنبي عما نحن بصدده من دعوى:أن ذلك مبني على قاعدة اللطف، و لا سيما مع أن الشهيد-على الظاهر-في مقام توجيه الخلاف و لو مع اختلاف
ص: 265
الثالث من طرق انكشاف قول الإمام عليه السّلام لمدعي الإجماع:الحدس، و هذا على وجهين:
أحدهما:أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطأناه في استكشافه ،و هذا على وجهين:أحدهما:أن يحصل الحدس الضروري من مبادئ محسوسة بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحس،بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار لحصل لنا العلم كما حصل له.
ثانيهما:أن يحصل الحدس له من إخبار جماعة اتفق له العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ،لكن ليس إخبارهم ملزوما عادة للمطابقة لقول -العصر،و ذلك لا يلائم قاعدة اللطف.
المنسبق بدوا أن مراده من ذلك هو أنه لو انكشف الطريق لنا لوافقناه فيه،و لحصل لنا العلم منه كما حصل له،و مرجع التقسيم الآتي لهذا الوجه حينئذ إلى أن السبب المذكور المفروض كونه موجبا للعلم لنا و للناقل قد يكون لازما عاديا و ملحقا بالحس لوضوحه و قد يكون سببا اتفاقيا لا ينتقل منه إلى المطلوب كل أحد لعدم وضوح الملازمة بالنحو المذكور.
لكن هذا قد ينافيه قوله في الوجه الثاني من هذا القسم:«بحيث لو حصل لنا لعلمنا بالمطابقة أيضا»بناء على ما هو الظاهر منه من رجوعه إلى المنفي-أعني قوله:
«لكن ليس أخبارهم...»-لا إلى ما قبله.
و لأجل ذلك لا يبعد حمل قوله هنا:«لو علمنا به ما خطأناه...».على أن المراد أنه لو انكشف لنا الطريق الذي اعتمد عليه لم نجزم بخطئه.و يكون المراد من التقسيم لهذا الوجه أن ذلك قد يكون مع الجزم بصحته لو اطلعنا عليه،لكونه من اللوازم العادية التي لا تتخلف،و قد لا يكون كذلك،و إن حصل له منه العلم اتفاقا.
ص: 266
الإمام عليه السّلام ،بحيث لو حصل لنا لعلمنا بالمطابقة أيضا.
الثاني:أن يحصل ذلك من مقدمات نظرية و اجتهادات كثيرة الخطأ، بل علمنا بخطإ بعضها في موارد كثيرة من نقلة الإجماع،علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد،و استظهرنا ذلك منهم في موارد أخر،و سيجيء جملة منها .
إذا عرفت أن مستند خبر المخبر بالإجماع المتضمن للإخبار من الإمام عليه السّلام لا يخلو من الأمور الثلاثة المتقدمة،و هي:السماع عن الإمام عليه السّلام مع عدم معرفته بعينه،و استكشاف قوله من قاعدة(اللطف)،و حصول العلم من(الحدس)،و ظهر لك أن الأول منها غير متحقق عادة لأحد من علمائنا المدعين للإجماع،و أن الثاني ليس طريقا للعلم،فلا يسمع دعوى من استند إليه،فلم يبق مما يصلح أن يكون هو المستند في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها:إلا(الحدس).
و عرفت أن الحدس قد يستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة عادة لمطابقة قول الإمام عليه السّلام،نظير العلم الحاصل من الحواس الظاهرة،و نظير الحدس أشرنا إلى احتمال رجوعه إلى قوله:«أن يحصل له الحدس...»و عليه يكون قوله:«لكن ليس أخبارهم...»جملة معترضة بينهما.لكن عرفت أنه خلاف الظاهر،و أن الظاهر رجوعه إلى المنفي فهو تتمة لقوله:«لكن ليس أخبارهم...».
الذي سيجيء منه قدّس سرّه التعرض للمقدمات الحدسية الخفية التي أوجبت نسبة الفتوى للأصحاب،لا للمقدمات التي اعتمدوا عليها في معرفة رأي الإمام عليه السّلام و نسبة الفتوى له التي نحن بصددها هنا.
جواب الشرط في قوله:«إذا عرفت أن مستند...».
ص: 267
الحاصل لمن أخبر بالعدالة و الشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة،أو إلى مبادئ محسوسة موجبة لعلم المدعي بمطابقة قول الإمام عليه السّلام من دون ملازمة عادية،و قد يستند إلى اجتهادات و أنظار.
و حيث لا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس ،بل و لا المستند إلى الوجه الثاني ،و لم يكن هناك ما يعلم به كون الإخبار مستندا إلى القسم الأول من الحدس،وجب التوقف في العمل بنقل الإجماع،كسائر الأخبار المعلوم استنادها إلى الحدس المردد بين الوجوه المذكورة.
فإن قلت:ظاهر لفظ(الإجماع)اتفاق الكل،فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتفاق الكل،و من المعلوم أن حصول العلم بالحكم عطف على:«مباد محسوسة»في قوله:«قد يستند إلى مباد محسوسة».
عطف على قوله:«قد يستند إلى مباد محسوسة...».
لما تقدم في المقدمة الأولى من عدم الدليل على حجية الخبر الحدسي لغير من يجب عليه تقليد المخبر.
و هو المستند إلى إخبار جماعة علم بصدق خبرهم بشخصه من دون أن يكون قول الإمام ملزوما عاديا لخبرهم،و لا يعلم باتفاقنا معه في حصول العلم من السبب المذكور.و الوجه في عدم حجية الخبر المستند إلى الوجه المذكور ما سبق من قصور دليل حجية خبر الواحد عن الخبر الحدسي.
ظاهره الجزم بحجية الخبر فيه،قياسا على مثل الشجاعة و العدالة مما ينتقل إليه حدسا من طريق الآثار المحسوسة و الملزومة عادة لها،و هو غير بعيد.
ص: 268
من اتفاق الكل كالضروري،فحدس المخبر مستند إلى مباد محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه السّلام عادة،فإما أن يجعل الحجة نفس ما استفاده من الاتفاق نظير الإخبار بالعدالة،و إما أن يجعل الحجة إخباره بنفس الاتفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه السّلام،و يكون نفس المخبر به-حينئذ- محسوسا ،نظير إخبار الشخص بأمور تستلزم العدالة و الشجاعة عادة.
و قد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلة في شرحه على الوافية،فإنه قدّس سرّه لما اعترض على نفسه:بأن المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواس،و المخبر بالإجماع إنما رجع إلى بذل الجهد ،و مجرد الشك في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه،أجاب عن ذلك:
بأن المخبر هنا أيضا يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء و إن كما هو الحال في القسم الأول من الحدس الذي تقدم من المصنف قدّس سرّه قبول الخبر فيه.
و هو قول الإمام عليه السّلام الذي استفاده من اتفاقهم بالملازمة العادية.
و يكون الانتقال منه إلى قول الإمام بالملازمة بنظر السامع،حيث إن الأمارة حجة في لازم مدلولها.
حكي عن المحقق الأعرجي صاحب المحصول قدّس سرّه.
لا يبعد أن يكون المراد بذل الجهد في تحصيل قول الإمام عليه السّلام بسبب إجماع الأصحاب و الاطلاع على أقوالهم.
جواب«لما»في قوله:«فإنه قدّس سرّه لما اعترض».
«إن»هنا وصلية.
ص: 269
جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر،كوجوب اللطف و غيره.
ثم أورد:بأن المدار في حجية الإجماع على مقالة المعصوم عليه السّلام، فالإخبار إنما هو بها،و لا يرجع إلى سمع .
فأجاب عن ذلك:
أولا:بأن مدار الحجية و إن كان ذلك ،لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه السّلام معلوم لكل أحد لا يحتاج فيه إلى النقل، و إنما الغرض من النقل ثبوت الاتفاق،فبعد اعتبار خبر الناقل لوثاقته و رجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحس،كان الاتفاق معلوما ،و متى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم،للملازمة المعلومة لكل أحد.
و ثانيا:أن الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم عليه السّلام لرجوع الناقل في ذلك إلى الحس،باعتبار أن الاتفاق من آثارها ،و لا يعني:و لا يرجع الإخبار بمقالة المعصوم إلى سمع و حس،بل إلى الحدس.
مرجع هذا الوجه إلى دعوى قبول الخبر في اللازم-و هو الاتفاق-ثم الانتقال منه إلى الملزوم و هو رأى الامام عليه السّلام،لما أشرنا إليه من حجية الأمارات في لوازم مدلولها،أما الوجه الثاني فهو راجع إلى دعوى قبول الخبر في الملزوم،و هو قول الإمام عليه السّلام لأجل استناده إلى اللوازم العادية المحسوسة فيكون ملحقا بالمحسوس، نظير الإخبار بالشجاعة و العدالة و غيرهما.
و هو نقل مقالة المعصوم عليه السّلام.
يعني:بمنزلة المعلوم بعد فرض حجية الخبر فيه.
يعني:من آثار مقالة المعصوم عليه السّلام.
ص: 270
كلام في اعتبار مثل ذلك،كما في الإخبار بالإيمان و الفسق و الشجاعة و الكرم و غيرها من الملكات،و إنما لا يرجع إلى الإخبار في العقليات المحضة،فإنه لا يعول عليها و إن جاء بها ألف من الثقات حتى يدرك مثل ما أدركوا.
ثم أورد على ذلك:بأنه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد ،لأنه و إن لم يرجع إلى الحس في نفس الأحكام،إلا أنه رجع في لوازمها و آثارها إليه،و هي أدلتها السمعية،فيكون رواية ،فلم يقبل إذا جاء به الثقة.
و أجاب:بأنه إنما يكفي الرجوع إلى الحس في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة.و بالجملة إذا أفادت اليقين،كما في آثار الملكات و آثار مقالة الرئيس و هي مقالة رعيته،و هذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم .
ثم قال:«على أن التحقيق في الجواب عن السؤال الأول هو يعني:فتكون فتواه حجة في حق المجتهد الآخر،لرجوع فتواه إلى الإخبار عن الحكم الشرعي الذي هو قول الإمام عليه السّلام.
يعني:فتكون فتواه رواية،بلحاظ تضمنها الإخبار عن رأى الإمام عليه السّلام كسائر الروايات.
كالشجاعة و العدالة و الكرم إذا كان المستند آثارها التي هي لازمة لها عادة بحيث لا تتخلف.
لابتنائه على مقدمات حدسية نظرية خفية الإيصال.
و هو ما تضمن الإشكال بأن المدار في الحجية على نقل قول المعصوم، و المفروض عدم كونه حسيا،بل حدسيا.
ص: 271
الوجه الأول ،و عليه فلا أثر لهذا السؤال »انتهى.
قلت:إن الظاهر من الإجماع اتفاق أهل عصر واحد،لا جميع الأعصار كما يظهر من تعاريفهم و سائر كلماتهم .و من المعلوم أن إجماع أهل عصر واحد مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدمة و مخالفتهم لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروري بصدور الحكم عن الإمام عليه السّلام،و لذا قد يتخلف،لاحتمال مخالفة من تقدم عليهم أو أكثرهم.نعم يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه في المقام،كما قرر في محله.
مع أن علماء العصر إذا كثروا كما في الأعصار السابقة يتعذر أو يتعسر الاطلاع عليهم حسا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر،إلا إذا كان و هو الراجع إلى حجية الإخبار بالاتفاق،و يكون الانتقال منه إلى الملزوم-و هو قول الإمام عليه السّلام-من وظيفتنا لحجية الأمارات في لوازم مدلولها و ملزوماته.
لوضوح أن المجتهد إذا أفتى فقد أخبر بنفس قول الإمام عليه السّلام الذي وصل إليه بالحدس،فلا يكون خبره حجة،و إذا أخبر بالدليل الاجتهادي الذي يستلزم بنظره الحكم فهو غير لازم عندنا لقول الإمام عليه السّلام حتى ننتقل منه إليه،بخلاف مثل نقل الاتفاق من اللوازم العادية التي يدرك كل واحد لزومها لقوله عليه السّلام.
كما سبق منه قدّس سرّه و سبق منا الإشكال في تحديد مصطلحهم.نعم لو فرض كون مراد الحاكي للإجماع نقل آراء العلماء في جميع الأعصار فهو و إن أوجب العلم بقول الإمام عليه السّلام عادة،إلا أنه يتعذر الاطلاع على آراء الكل من طريق الحس.و عليه يبتني ما يأتي من المصنف قدّس سرّه بقوله:«و كيف كان فإذا ادعى...».
ص: 272
العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة برأيهم في المسألة فيدعى الإجماع.
إلا أن مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة لموافقة المعصوم عليه السّلام .
فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه السّلام مستحيل التحقق للناقل، و الممكن المتحقق له غير مستلزم عادة.
و كيف كان:فإذا ادعى الناقل الإجماع خصوصا إذا كان ظاهره اتفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلا من شذ،كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين و الشهيدين انحصر محمله بوجوه:
أحدها:أن يراد به اتفاق المعروفين بالفتوى،دون كل قابل للفتوى من أهل عصره،أو مطلقا.
الثاني:أن يريد إجماع الكل،و يستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره.
و هذه الاستفادة ليست ضرورية و إن كانت قد تحصل،لأن اتفاق أهل عصره فضلا عن المعروفين منهم لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم و من إلا بناء على قاعدة اللطف التي سبق المنع منها،و الظاهر جريان ذلك حتى إذا كثر العلماء في العصر الواحد.و من ثم كان الظاهر رجوع هذا الوجه للوجه الأول،و لا يصلح لأن يكون وجها آخر في قباله،غاية الأمر أنه يتضمن زيادة على الوجه الأول التنبيه على امتناع الاطلاع على آراء جميع أهل العصر الواحد عن طريق الحس مع كثرتهم.
تقدم منه قدّس سرّه أن الشهيد الأول قدّس سرّه يظهر منه الجري في دعوى الإجماع على قاعدة اللطف و مقتضى ذلك حمل الإجماع في كلامه على اتفاق علماء عصر واحد.
ص: 273
قبلهم ،خصوصا بعد ملاحظة التخلف في كثير من الموارد لا يسع هذه الرسالة لذكر معشارها.و لو فرض حصوله للمخبر كان من باب الحدس الحاصل عما لا يوجب العلم عادة.نعم هو أمارة ظنية على ذلك، لأن الغالب في الاتفاقيات عند أهل عصر كونه من الاتفاقيات عند من تقدمهم .و قد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر،لكن الكلام في كون الاتفاق مستندا إلى الحس أو إلى حدس لازم عادة للعلم .
و ألحق بذلك:ما إذا علم اتفاق الكل من اتفاق جماعة لحسن ظنه بهم ،كما ذكره في أوائل المعتبر،حيث قال:«و من المقلدة من لو طالبته بدليل المسألة ادعى الإجماع،لوجوده في كتب الثلاثة قدست أسرارهم، و هو جهل إن لم يكن تجاهلا».
فإن في توصيف المدعي بكونه مقلدا مع أنا نعلم أنه لا يدعي عطف تفسير على قوله:«غيرهم».
الغلبة المذكورة غير ظاهرة المأخذ،إذ كثيرا ما تختلف الأقوال انتشارا حسب اختلاف العصور.
لا يبعد أن يكون مراده:أن الذي ينفع و يوجب قبول قول مدعي اتفاق الكل-الذي هو ملازم عادة لقول الإمام عليه السّلام-هو إحراز استناده في نقله إلى الحس أو الحدس القريب منه،و لا طريق لإحراز ذلك،و لا يكفي في قبوله استناده فيه إلى مقدمات و أمارات توجب له العلم بشخصه اتفاقا.
فيستكشف من اتفاقهم موافقة غيرهم لهم.
يعني:أن ظاهر كلام المحقق في المعتبر أن توصيف الشخص المذكور بكونه مقلدا ليس لمتابعته الغير في نقل الإجماع-حيث يعلم بأنه بنفسه قاطع بحصول
ص: 274
الإجماع إلا عن علم،إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظن بهم و أن جزمه في غير محله،فافهم.
الثالث:أن يستفيد اتفاق الكل على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل،أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصص، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض،أو اتفاقهم على مسألة أصولية نقلية،أو عقلية،يستلزم القول بها الحكم في المسألة المفروضة ،و غير ذلك من الأمور المتفق عليها التي يلزم باعتقاد المدعي من القول بها مع فرض عدم المعارض القول بالحكم المعين في المسألة.
و من المعلوم:أن نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك لم تنشأ إلا من مقدمتين أثبتهما المدعي باجتهاده:
إحداهما:كون ذلك الأمر المتفق عليه مقتضيا و دليلا للحكم لو لا المانع .
و الثانية:انتفاء المانع و المعارض.و من المعلوم أن الاستناد إلى الخبر -الإجماع-بل لاعتقاده بحصول الإجماع بسبب اتفاق الكتب المشار إليها على الحكم، فالناشئ من التقليد هو تحصيله الإجماع لا نقله له.
مراده الاستلزام بنظر ناقل الإجماع لا واقعا.
فاعل لقوله:«يلزم»في قوله:«التي يلزم باعتقاد المدعي...».
إذ قد تكون المسألة المدعى فيها الإجماع بنظر غير ناقل الإجماع خارجة موضوعا عن ذلك الأمر المتفق عليه،و إن كان ناقل الإجماع يرى دخولها فيه.
ص: 275
المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد .
ثم إن الظاهر أن الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر،و رجوع المدعي عن الفتوى التي ادعى الإجماع فيها،و دعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدم على المدعي،و في مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدعي،بل في زمانه،بل في ما قبله،كل ذلك مبني على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه.
و لا بأس بذكر بعض الموارد صرح المدعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك.
فمن ذلك:ما وجه المحقق به دعوى المرتضى و المفيد أن من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات قال:
و أما قول السائل:كيف أضاف المفيد و السيد ذلك إلى مذهبنا و لا نص فيه؟فالجواب:أما علم الهدى،فإنه ذكر في الخلاف:أنه إنما أضاف ذلك إلى مذهبنا،لأن من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل،و ليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات،ثم قال:
و أما المفيد،فإنه ادعى في مسائل الخلاف:أن ذلك مروي عن الأئمة عليهم السّلام»انتهى.
لما سبق من اختصاص أدلة الحجية بالخبر الحسي أو الحدسي القريب من الحس بسبب كون المقدمات حسية ملازمة للنتيجة عادة،دون مثل ذلك.
جملة خبر(أن)في قوله:«الظاهر أن الإجماعات».
ص: 276
فظهر من ذلك:أن نسبة السيد قدّس سرّه الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل .
و من ذلك:ما عن الشيخ في الخلاف،حيث إنه ذكر فيما إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل،بعد القتل :بأنه يسقط القود و تكون الدية من بيت المال.قال:
دليلنا إجماع الفرقة،فإنهم رووا:أن ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين»انتهى.
فعلل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.
كما ظهر أن نسبة المفيد قدّس سرّه الحكم إلى مذهبنا ناش من جهة وجود الرواية الدالة بنظره عليه.
مع أن الأصل في المقام يقتضي عدم زوال النجاسة بغير الماء،لا زوالها به.
قوله:«بما يوجب»متعلق بقوله:«الشاهد»و قوله:«بعد القتل»متعلق بقوله:«بان فسق...».
متعلق بقوله:«ذكر...»،و كان الأولى حذف الباء في«بأنه...».
و كيف كان فالمراد أن القود يسقط عن الشاهدين و القاضي و المنفذ لحكم القاضي في المشهود عليه.
و وجه سقوطه واضح،لعدم العمد من الأخيرين،و الشاهدان لم يثبت تعمدهما،فإن فسقهما لا يستلزم كذبهما في الشهادة.ثم إنه ربما يدعى أن مقتضى القود إنما يثبت في حق الأخير-و هو المنفذ-دون القاضي و الشاهدين،لعدم تحقق القتل منهم،فالسقوط في حقه لا غير،أما في حقهم فلا مقتضى للقود حتى يتصور السقوط.
ص: 277
و قال بعد ذلك،فيما إذا تعددت الشهود في من أعتقه المريض و عين كل غير ما عينه الآخر،و لم يف الثلث بالجميع:إنه يخرج السابق بالقرعة، قال:«دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم،فإنهم أجمعوا على أن كل أمر مجهول فيه القرعة»انتهى.
و من الثاني :ما عن المفيد في فصوله،حيث إنه سئل عن الدليل على أن المطلقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟فقال:
الدلالة على ذلك من كتاب اللّه عزّ و جل و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إجماع المسلمين،ثم استدل من الكتاب بظاهر قوله تعالى: اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ، ثم بين وجه الدلالة،و من السنة قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«كل ما لم يكن على أمرنا هذا فهو رد»،و قال:«ما وافق الكتاب فخذوه،و ما لم يوافقه فاطرحوه»،و قد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا و أن الواحدة لا تكون ثلاثا،فأوجب السنة إبطال طلاق الثلاث.
و أما إجماع الأمة،فهم مطبقون على أن ما خالف الكتاب و السنة فهو باطل،و قد تقدم وصف خلاف الطلاق بالكتاب و السنة،فحصل الإجماع على إبطاله.انتهى.
و حكي عن الحلي في السرائر الاستدلال بمثل هذا.
و من ذلك:الإجماع الذي ادعاه الحلي على المضايقة في قضاء في بعض النسخ المطبوعة:«و من الأول».
و لعل الأنسب أن يقول:و من ذلك.لأن ما يأتي من سنخ ما سبق،و الجميع من صغريات الوجه الثالث.
ص: 278
الفوائت في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال حيث قال:
أطبقت عليه الإمامية خلفا عن سلف و عصرا بعد عصر، و أجمعت على العمل به،و لا يعتد بخلاف نفر يسير من الخراسانيين، فإن ابني بابويه،و الأشعريين،كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة، و سعد ابن سعد،و محمد بن علي بن محبوب صاحب كتاب نوادر الحكمة، و القميين أجمع،كعلي بن إبراهيم بن هاشم،و محمد بن الحسن بن الوليد، عاملون بأخبار المضايقة،لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق برواته، و حفظتهم،الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه،و خريت هذه الصناعة و رئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع أخبار المضايقة في كتبه،مفت بها،و المخالف إذا علم باسمه و نسبه لم يضر خلافه»انتهى.
و لا يخفى:أن إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبني على الحدس و الاجتهاد من وجوه:
أحدها:دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به.و هذا و إن كان غالبيا إلا أنه لا يوجب القطع،لمشاهدة التخلف كثيرا.
الثاني:تمامية دلالة تلك الأخبار عند أولئك على الوجوب،إذ لعلهم فهموا منها بالقرائن الخارجية تأكد الاستحباب.
الثالث:كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند أولئك ،لأن وثوق الحلي بالرواة لا يدل على وثوق أولئك.
يعني:على القول بالمضايقة.
الظاهر،رجوع هذا الوجه إلى الأول.
ص: 279
مع أن الحلي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد و إن كانوا ثقات، و المفتي إذا استند فتواه إلى خبر الواحد،لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع ،خصوصا لمن يخطئ العمل بأخبار الآحاد.
و بالجملة:فكيف يمكن أن يقال:إن مثل هذا الإجماع إخبار عن قول الإمام عليه السّلام،فيدخل في الخبر الواحد؟مع أنه في الحقيقة اعتماد على اجتهادات الحلي،مع وضوح فساد بعضها،فإن كثيرا ممن ذكر أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا،و أن المفتي إذا علم استناده إلى مدرك لا يصلح للركون إليه من جهة الدلالة أو المعارضة لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الإمام عليه السّلام.
و أوضح حالا في عدم جواز الاعتماد:ما ادعاه الحلي من الإجماع على وجوب فطرة الزوجة و لو كانت ناشزة على الزوج،و ردّه المحقق بأن أحدا من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك.
فإن الظاهر أن الحلي إنما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالة بإطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج، متخيلا أن الحكم معلق على الزوجة من حيث هي زوجة،و لم يتفطن لكون الحكم من حيث العيلولة،أو وجوب الإنفاق.
يعني:بنحو يصح معه نسبة الحكم للإمام عليه السّلام و الإخبار عنه به.
اللهم إلا أن يقال:لا يظهر من الحلي كونه في هذا المقام،و لعله في مقام بيان وضوح الحكم عند الأصحاب لا غير،من دون تعرض لنقل قول الإمام عليه السّلام.و كذا حال بعض ما سبق من كلماتهم.
ص: 280
فكيف يجوز الاعتماد في مثله على الأخبار بالاتفاق الكاشف عن قول الإمام عليه السّلام،و يقال:إنها سنة محكية؟!
و ما أبعد ما بين ما استند إليه الحلي في هذا المقام و بين ما ذكره المحقق في بعض كلماته المحكية،حيث قال:
إن الاتفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام، لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد،لأن المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد،لأن الإجماع مأخوذ من قولهم:«أجمع على كذا»إذا عزم عليه ،فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلا من علم منه القصد إليه .كما أنا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل هذا غير ظاهر،إذ قد يكون الإجماع هنا بمعنى الاتفاق،بل لعله الظاهر منه،و لذا لا يضاف إلا إلى الجماعة.نعم الاتفاق أيضا موقوف على القصد،كالعزم.
و أما دعوى ظهور الإطلاق في كلامهم في قصدهم لعموم الحكم حتى للفرد الذي هو محل الكلام،فهي لو تمت لا تنفع في المقام،لأن حجية الظواهر مختصة بما إذا كان المطلوب بها العمل،و من الظاهر أنه لا يترتب هنا أثر عملي لإطلاق كلامهم،لعدم حجية رأيهم على غيرهم،و إنما يقصد من الاطلاع على اتفاقهم:
تحصيل العلم بقول الإمام عليه السّلام،و مجرد ظهور كلامهم لا يوجب حصول العلم بقوله عليه السّلام.بل لا بد فيه من العلم بقصدهم و إرادتهم للعموم بنحو يشمل الفرد الذي هو محل الكلام.
نعم قد يكون إطلاق معقد الإجماع موجبا للقطع بإرادتهم العموم و ثبوته شرعا،لتطابقهم على التعبير به مع بعض القرائن الأخرى،و يكون الكلام في إرادة الفرد الخاص ناش من شبهة لبعض الأشخاص،فمع ظهور اندفاعها يعلم بعموم الحكم له.و لا ضابط لذلك.
ص: 281
مذهبهم لدلالة عموم القرآن و إن كانوا قائلين به »،انتهى كلامه.
و هو في غاية المتانة.لكنك عرفت ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ الإجماع،و قد حكى في المعالم عن الشهيد:أنه أول كثيرا من الإجماعات لأجل مشاهدة المخالف في مواردها بإرادة الشهرة،أو بعدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع،أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الإجماع،أو بإرادة الإجماع على الرواية و تدوينها في كتب الحديث، انتهى.
و عن المحدث المجلسي قدّس سرّه في كتاب الصلاة من البحار بعد ذكر معنى الإجماع و وجه حجيته عند الأصحاب:
إنهم لما رجعوا إلى الفقه كأنهم نسوا ما ذكروه في الأصول،ثم أخذ في الطعن على إجماعاتهم إلى أن قال:«فيغلب على الظن أن مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأصول»انتهى.
و التحقيق:أنه لا حاجة إلى ارتكاب التأويل في لفظ(الإجماع)بما ذكره الشهيد،و لا إلى ما ذكره المحدث المذكور قدّس سرّهما،من تغاير مصطلحهم في الفروع و الأصول،بل الحق:أن دعواهم للإجماع في الفروع مبني على استكشاف الآراء،و رأي الإمام عليه السّلام ،إما من حسن الظن بجماعة يعني:بجواز الرجوع للعموم القرآني.و إنما لا نعلم بمذهبهم مع ذلك لاحتمال غفلتهم عن مقتضى العموم أو وجود المخصص بنظرهم،أو نحو ذلك.
متعلق بقوله:«أوّل...».
لا يبعد كون مراد كثيرين من نقلة الإجماع بيان وضوح الحكم عند-
ص: 282
من السلف،أو من أمور تستلزم باجتهادهم إفتاء العلماء بذلك و صدور الحكم عن الإمام عليه السّلام أيضا.
و ليس في هذا مخالفة لظاهر لفظ(الإجماع)حتى يحتاج إلى القرينة ، و لا تدليس،لأن دعوى الإجماع ليس لأجل اعتماد الغير عليه و جعله دليلا يستريح إليه في المسألة .
نعم،قد يوجب التدليس من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم،لكنه يندفع بأدنى تتبع في الفقه،ليظهر أن مبنى ذلك على استنباط المذهب ،لا على وجدانه مأثورا.
-الأصحاب،من دون تعرض منهم لنقل قول الإمام عليه السّلام في جملة المجمعين،كما يظهر من بعض كلماتهم السابقة و غيرها.
فإن ظاهر لفظ الإجماع هو اتفاق الكل-كما سبق-و المفروض إرادته هنا و إن لم يكن نقله مبتنيا على الحس،بل الحدس الناشئ من المقدمات التي ذكرها المصنف قدّس سرّه.ثم إنه لو فرض مخالفته لظاهر لفظ الإجماع فلا وجه لاحتياجه إلى القرينة بناء على ما سبق منه قدّس سرّه،و يأتي هنا من عدم ترتب الأثر على النقل المذكور، فلا يلزم التدليس.
سبق منه قدّس سرّه دعوى ذلك،و سبق منا أن ظاهرهم في كثير من الموارد ذكر الإجماع لإلزام الخصم به،و الاستدلال به عليه،و هو مناسب لسوقه دليلا في المسألة.
لكن مع فرض عدم الأثر العملي لذلك فلا محذور فيه،فإن إرادة الخبر الحدسي و إن كانت خلاف ظاهر كلام الناقل،إلا أنه لا بأس بإرادة خلاف ظاهر الكلام مع فرض عدم ترتب الأثر عليه.
يعني:بطريق الحدس.
ص: 283
و الحاصل:أن المتتبع في الإجماعات المنقولة يحصل له القطع من تراكم أمارات كثيرة،باستناد دعوى الناقلين للإجماع خصوصا إذا أرادوا به اتفاق علماء جميع الأعصار،كما هو الغالب في إجماعات المتأخرين إلى الحدس الحاصل من حسن الظن بجماعة ممن تقدم على الناقل،أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه ،مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل و اعتقاده.
و على هذا ينزل الإجماعات المتخالفة من العلماء مع اتحاد العصر أو تقارب العصرين،و عدم المبالاة كثيرا بإجماع الغير و الخروج عنه للدليل،و كذا دعوى الإجماع مع وجود المخالف،فإن ما ذكرنا في مبنى الإجماع من أصح المحامل لهذه الأمور المنافية لبناء دعوى الإجماع على تتبع الفتاوى في خصوص المسألة.
و ذكر المحقق السبزواري في الذخيرة،بعد بيان تعسر العلم بالإجماع:
أن مرادهم بالإجماعات المنقولة في كثير من المسائل بل في أكثرها، لا يكون محمولا على معناه الظاهر،بل إما يرجع إلى اجتهاد من الناقل كالانتقال من الاتفاق على العموم،أو الأصل إلى الفتوى بمضمونهما في الموارد الخاصة،كما سبق في الوجه الثالث لبيان محامل نقلة الإجماع.
الظاهر أن مراده الإجماع المنقول من الغير.
يعني:أن عدم الاعتداد به في مقام الفتوى ممن يطلع عليه شاهد بالمفروغية عن عدم ابتناء نقل الإجماع على تتبع فتاوى الفقهاء في المسألة،و إلا كان ذلك مما يوجب الوثوق بالحكم بل العلم به مع كثرتهم،لملازمته عادة لقول الإمام عليه السّلام،فلا وجه لعدم الاعتناء به في مقام الفتوى.فلاحظ.
ص: 284
مؤد بحسب مواد القرائن و الأمارات التي اعتبرها إلى أن المعصوم عليه السّلام موافق في هذا الحكم،أو مرادهم الشهرة ،أو اتفاق أصحاب الكتب المشهورة،أو غير ذلك من المعاني المحتملة».
ثم قال بعد كلام له:«و الذي ظهر لي من تتبع كلام المتأخرين،أنهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف،فإذا رأوا اتفاقهم على حكم قالوا:إنه إجماعي،ثم إذا اطلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلفه الحكم المذكور،رجعوا عن الدعوى المذكورة،و يرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها»انتهى.
و حاصل الكلام من أول ما ذكرنا إلى هنا:أن الناقل للإجماع إن احتمل في حقه تتبع فتاوى من ادعى اتفاقهم حتى الإمام عليه السّلام الذي هو داخل في المجمعين،فلا إشكال في حجيته و في إلحاقه بالخبر الواحد،إذ لا يشترط في حجيته معرفة الإمام عليه السّلام تفصيلا حين السماع منه .
كما تقدم عن الشهيد.
لكنه موقوف على ظهور كلامه فيما يطابق الاحتمال المذكور،حتى يكون مدلولا لخبره فيكون حجة فيه،و إلا فمجرد الاحتمال مع عدم ظهور كلامه فيه لا تجعله ناقلا و مخبرا عن الإمام عليه السّلام،ليكون خبره حجة.
و الظاهر أنه(ظاهرا)بعد الفرض المذكور مع كثرة تسامحهم في نقل الإجماع مانع من ظهور كلام من يفرض احتمال اطلاعه على قول الإمام عليه السّلام حسا في ذلك.
هذا مضافا إلى ما ذكرناه سابقا من عدم ظهور كون مصطلحهم نقل قول الإمام عليه السّلام في جملة المجمعين،لقرب إرادة نقل السبب الكاشف عنه و هو اتفاق العلماء لا غير.
ص: 285
لكن هذا الفرض مما يعلم بعدم وقوعه،و أن المدعي للإجماع لا يدعيه على هذا الوجه.
و بعد هذا،فإن احتمل في حقه تتبع فتاوى جميع المجمعين،و المفروض أن الظاهر من كلامه هو اتفاق الكل المستلزم عادة لموافقة قول الإمام عليه السّلام،فالظاهر حجية خبره للمنقول إليه ،سواء جعلنا المناط في حجيته تعلق خبره بنفس الكاشف،الذي هو من الأمور المحسوسة المستلزمة ضرورة لأمر حدسي و هو قول الإمام عليه السّلام،أو جعلنا المناط تعلق خبره بالمنكشف و هو قول الإمام عليه السّلام،لما عرفت :من أن الخبر الحدسي المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة،كالخبر الحسي في وجوب القبول.و قد تقدم الوجهان في كلام السيد الكاظمي في شرح الوافية.
لكنك قد عرفت سابقا:القطع بانتفاء هذا الاحتمال،خصوصا إذا أراد الناقل اتفاق علماء جميع الأعصار.
نعم،لو فرضنا قلة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم،أمكن دعوى اتفاقهم عن حس،لكن هذا غير مستلزم عادة لموافقة قول الإمام عليه السّلام.
نعم،يكشف عن موافقته بناء على طريقة الشيخ المتقدمة التي لم تثبت تقدم منه قدّس سرّه أن مصطلحهم خاص باتفاق جميع أهل العصر الواحد، و عليه فحمل كلام الناقل على إرادة نقل اتفاق أهل جميع العصور الذي هو ملازم عادة لقول الإمام عليه السّلام محتاج إلى قرينة.
أمكن في حق الناقل الاطلاع على ذلك عن طريق الحس.
تعليل لقوله:«فالظاهر حجية خبره...».
ص: 286
عندنا و عند الأكثر.
ثم إذا علم عدم استناد دعوى اتفاق العلماء المتشتتين في الأقطار الذي يكشف عادة عن موافقة الإمام عليه السّلام إلا إلى الحدس الناشئ عن أحد الأمور المتقدمة التي مرجعها إلى حسن الظن أو الملازمات الاجتهادية،فلا عبرة بنقله،لأن الإخبار بقول الإمام عليه السّلام حدسي غير مستند إلى حس ملزوم له عادة ليكون نظير الإخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسية، و الإخبار بالاتفاق أيضا حدسي.
نعم،يبقى هنا شيء،و هو:أن هذا المقدار من النسبة المحتمل استناد الناقل فيها إلى الحس يكون خبره حجة فيها،لأن ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلا إذا قام هناك صارف،و المعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان و الحس في نسبة الفتوى إلى جميع من ادعى إجماعهم،و أما استناد نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبع،فأمر محتمل لا يمنعه عادة و لا عقل .
لو فرض ظهور كلام الناقل في نقل قوله عليه السّلام في ضمن أقوال المجمعين.
عطف على قوله:«لأن الإخبار بقول الإمام حدسي...».
لا يبعد زيادة كلمة:«هذا».و حاصل:ما ذكره في هذا المقام:أنه إذا لم يكن نقل الإجماع تمام الحجة لإثبات قول الإمام عليه السّلام-لما سبق-فلا مانع من كونه بعض الحجة عليه.و حينئذ فإذا تيسر المنقول إليه تحصيل بعض القرائن المتممة للحجة كان له إثبات قول الإمام عليه السّلام من المجموع.و سيأتي تفصيل الكلام في ذلك.
مجرد الاحتمال لا يجدي ما لم يستند إلى حجة،و حيث فرض ظهور كلامه-
ص: 287
و ما تقدم من المحقق السبزواري من ابتناء دعوى الإجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف فليس عليه شاهد،بل الشاهد على خلافه .و على تقديره،فهو ظن لا يقدح في العمل بظاهر -في النقل عن الجميع و أنه عن حس،و فرض عدم تحقق ذلك سقط ظهور كلامه عن الحجية.
و حينئذ فالبناء على كون النقل عن البعض-كأرباب الكتب المصنفة-حسّيا و النقل عن غيرهم حدسي لا حجة عليه بعد عدم كونه ظاهر الكلام.و التبعيض في الحجية بعد سقوطها في تمام المدلول لا دليل عليه.بل الظاهر خلافه.
نعم لو كان وضوح عدم إمكان الاطلاع على فتواى الجميع حسا قرينة موجبة لظهور الكلام في إرادة النقل عن خصوص من يمكن الاطلاع حسا على فتواه-و هم أرباب الكتب المصنفة-بحيث لا يراد النقل عن غيرهم و لو حدسا، كان لحجية الظهور المذكور وجه.
لكنه في غير محله،لأن ظهور الكلام في إرادة الجميع أقوى من ظهوره في كون النقل عن حس،فيتعين حمله على إرادة النقل عن الجميع،دون إرادة النقل الحسي،و حينئذ يسقط النقل عن الحجية بالإضافة إلى الجميع،لعدم إحراز كونه حسيا بالإضافة إلى أحدهم،و إن كان محتملا،و لا حجية في النقل الحدسي.
هذا مع أن خصوصية أرباب الكتب المصنفة في ذلك غير ظاهرة،بل كما يحتمل الاطلاع على أقوالهم حسا دون غيرهم،كذلك يحتمل العكس و الاطلاع على أقوال غيرهم-و لو المعاصرين له من غير أهل الكتب-دونهم لعدم حضور كتبهم عنده.
إلا أن يدعى أنه يلزم مع ذلك الحمل على إرادة الجميع،أعني كل من يحتمل الاطلاع على قوله حسا،لا خصوص أهل الكتب.فلاحظ.
لم يتضح مراده قدّس سرّه بالشاهد على الخلاف،إلا أن يكون هو حسن الظن-
ص: 288
النسبة،فإن نسبة الأمر الحسي إلى شخص ظاهر في إحساس الغير إياه من ذلك الشخص .
و حينئذ:فنقل الإجماع غالبا إلا ما شذ حجة بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى .
و لا يقدح في ذلك:أنا نجد الخلاف في كثير من موارد دعوى الإجماع،إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف ،فتتبع كتب من عداه و نسب الفتوى إليهم،بل لعله اطلع على رجوع من نجده مخالفا ، فلا حاجة إلى حمل كلامه على من عدا المخالف.
و هذا المضمون المخبر به عن حس و إن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الإمام عليه السّلام،إلا أنه قد يستلزمه بانضمام أمارات أخر يحصلها -بالناقل،فيبعد منه التسامح في النقل بمثل ذلك.
لكن الظهور المذكور معارض بما هو أقوى منه،و هو ظهور النقل في كونه نقلا عن الجميع،و الجمع بينها بالتبعيض في كون الخبر حسيا غير ظاهر من الكلام،و لا هو مقتضى الجمع العرفي.
هذا لو تم لا أهمية له بعد إمكان الاطلاع على أغلب فتاوى هؤلاء بالمباشرة بالرجوع إلى كتبهم أو نحوه مما يتيسر للمنقول إليه كما يتيسر للناقل.
هذا خلاف الظاهر جدا و لا ريب في أن حمله على النقل عن حدس أقرب.
لعل مثل هذا الاحتمال لا يعتد به العقلاء.
و الإنصاف:أن كثرة المخالفة موجبة لسقوط النقل عن الحجية،كما أشرنا إليه،لقوة احتمال تبدل المصطلح أو كون الخبر حدسيا لا حسيا.
ص: 289
المتتبع،أو بانضمام أقوال المتأخرين من مدعي الإجماع .
مثلا:إذا ادعى الشيخ قدّس سرّه الإجماع على اعتبار طهارة مسجد الجبهة، فلا أقل من احتمال أن يكون دعواه مستندة إلى وجدان الحكم في الكتب المعدة للفتوى و إن كان بإيراد الروايات التي يفتي المؤلف بمضمونها فيكون خبره المتضمن لإفتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجة في المسألة، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم،بل سمعناها منهم،و فتواهم و إن لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الإمام عليه السّلام،
إلا أنا إذا ضممنا إليها فتوى من تأخر عن الشيخ من أهل الفتوى،و ضم إلى ذلك أمارات أخر، فربما حصل من المجموع القطع بالحكم،لاستحالة تخلف هذه جميعها عن قول الإمام عليه السّلام.
و بعض هذا المجموع و هو اتفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم و إن لم يثبت لنا بالوجدان،إلا أن المخبر قد أخبر به عن حس،فيكون حجة كالمحسوس لنا.
و كما أن مجموع ما يستلزم عادة لصدور الحكم عن الإمام عليه السّلام إذا العلم بقول الإمام عليه السّلام من مجموع الطرق المتفرقة و القرائن المتشتتة لا ضابط له،فلا أهمية لنقل الناقل بالإضافة إلى المعروفين بالفتوى.و منه يظهر أنه لا وجه لقياس المقام على ما سيذكره من المثال في قوله الآتي:«و توضيحه بالمثال الخارجي أن نقول...»فإن مبنى المثال المذكور على فرض انضباط مقدار السبب الموجب للعلم فلا يقاس به المقام.
فإنه قد تكون طريقة بعض المؤلفين بيان فتاواهم بلسان الروايات التي يختارونها في مقام العمل.
ص: 290
أخبر به العادل عن حس قبل منه و عمل بمقتضاه،فكذا إذا أخبر العادل ببعضه عن حس.
و توضيحه بالمثال الخارجي أن نقول:إن خبر مائة عادل أو ألف مخبر بشيء مع شدة احتياطهم في مقام الإخبار يستلزم عادة ثبوت المخبر به في الخارج،فإذا أخبرنا عادل بأنه قد أخبر ألف عادل بموت زيد و حضور دفنه،فيكون خبره بإخبار الجماعة بموت زيد حجة،فيثبت به لازمه العادي و هو موت زيد،و كذلك إذا أخبر العادل بإخبار بعض هؤلاء، و حصلنا إخبار الباقي بالسماع منهم.
نعم،لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالا بلفظ(الإجماع)على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان،مما لا يكون بنفسها أو بضميمة أمارات أخر مستلزمة عادة للقطع بقول الإمام عليه السّلام،و إن كانت قد تفيده ،لم يكن معنى لحجية خبر الواحد في نقلها تعبدا،لأن معنى التعبد بخبر الواحد في شيء ترتيب لوازمه الثابتة له و لو بضميمة أمور أخر،فلو أخبر العادل بإخبار عشرين بموت زيد،و فرضنا أن إخبارهم قد يوجب العلم و قد لا يوجب،لم يكن خبره حجة بالنسبة إلى موت زيد،إذ لا يلزم من إخبار عشرين بموت زيد موته.
و بالجملة:فمعنى حجية خبر العادل وجوب ترتيب ما يدل عليه المخبر به مطابقة،أو تضمنا،أو التزاما عقليا أو عاديا أو شرعيا دون يعني:من باب الاتفاق من دون ملازمة عادية بين الأمرين.
هذا كله لأن الأمارة-خصوصا مثل الخبر-حجة في لوازم مؤداها،و لا-
ص: 291
ما يقارنه أحيانا.
ثم إن ما ذكرنا لا يختص بنقل الإجماع،بل يجري في لفظ(الاتفاق) و شبهه،بل يجري في نقل الشهرة،و نقل الفتاوى عن أربابها تفصيلا .
ثم إنه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل و ما حصله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات و الأقوال القطع بصدور الحكم الواقعي عن الإمام عليه السّلام،لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظني معتبر،بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تاما من جهة الدلالة و فقد المعارض،كان هذا المقدار أيضا كافيا في إثبات المسألة الفقهية .بل قد يكون نفس الفتاوى التي نقلها الناقل للإجماع إجمالا مستلزما لوجود دليل معتبر،فيستقل الإجماع المنقول بالحجية بعد إثبات حجية خبر العادل في المحسوسات.
إلا إذا منعنا-كما تقدم...سابقا-عن استلزام اتفاق أرباب الفتاوى عادة لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاما،و إن كان قد يحصل العلم بذلك من ذلك،إلا أن ذلك شيء قد يتفق،و لا يوجب ثبوت الملازمة -فرق في ذلك بين أن يكون المؤدى تمام اللازم،و أن يكون بعضه مع فرض حصول الباقي بالوجدان أو بدليل آخر.نعم لو كان المؤدى جزءا ضئيلا من اللازم لم يبعد عدم شمول دليل الحجية له،لعدم وضوح بناء العقلاء على ذلك،و لا بد من التأمل في طريقتهم.فلاحظ.
إذ جميع ذلك قد يكون دخيلا في الملزوم الذي يلزم من العلم به العلم بقول الامام عليه السّلام عادة.
لعدم الفرق في حجية الدليل الظني المعتبر بين الاطلاع عليه بالمباشرة و قيام الدليل المعتبر على وجوده.
ص: 292
العادية التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه.
أ لا ترى:أن إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به،لكن لا ملازمة عادية بينهما،بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الإخبار .
و بالجملة:يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادة لتحقق المخبر به،لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه،و في الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم،و إلا لم يتخلف .
ثم إنه قد نبه على ما ذكرنا من فائدة نقل الإجماع بعض المحققين في كلام طويل له،و ما ذكرنا و إن كان محصل كلامه على ما نظرنا فيه،لكن الأولى نقل عبارته بعينها،فلعل الناظر يحصل منها غير ما حصلنا،فإنا قد مررنا على العبارة مرورا،و لا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه.
قال قدّس سرّه في كشف القناع و في رسالته التي صنفها في المواسعة و المضايقة،ما هذا لفظه :
لكن بناء على ما تقدم قد ينفع إخبار العشرة،كما لو انضم إليه إخبار غيرهم حتى يبلغ المجموع العدة التي تستلزم وجود المخبر به كالألف.
لاستحالة تخلف المعلول عن علته،فلا بد أن يكون تسبيبه للعلم اتفاقا ناش عن انضمام أمور أخر لا يلتفت إليها تفصيلا.
و هي كون ما ينقله الحاكي للإجماع بعضا للحجة و جزء سبب لثبوت قول الإمام عليه السّلام.
و هو الشيخ أسد اللّه التستري قدّس سرّه.
قال بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه:«لا يخفى عليك أن اللفظ المحكي في-
ص: 293
و ليعلم أن المحقق في ذلك ،هو:أن الإجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح أو بسائر الألفاظ على كثرتها،إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه أو ما في حكمه في المجمعين،فهو إنما يكون حجة على غير الناقل باعتبار نقله السبب الكاشف عن قول المعصوم قدّس سرّه، أو عن الدليل القاطع -أو مطلق الدليل المعتد به -و حصول الانكشاف للمنقول إليه و التمسك به بعد البناء على قبوله ،لا باعتبار -الكتاب للرسالة،و إن كان ظاهره كونه لها و لكشف القناع».
يعني:في حجية الإجماع المنقول.
تقدم الإشكال في تحديد المعنى المصطلح و في التزامهم بالجري عليه.
قال بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه:«هو الدخول القولي لا الشخصي».
و الذي أظنه أن المراد به نقل الحجية على قول الإمام لا نقل قوله رأسا.و كيف كان فالمراد:أن ناقل الإجماع تارة:يكون في مقام نقل قول الإمام أو ما في حكمه في ضمن المجمعين.
و أخرى:لا يكون في مقام ذلك،و إنما ينقل اتفاق من عدا الإمام مع اعتقاده بملازمة اتفاقهم لقوله عليه السّلام،فذكر قدّس سرّه أنه في الصورة الثانية لا يكون النقل حجة باعتبار تضمنه نقل قول الإمام عليه السّلام بل باعتبار تضمنه نقل الاتفاق لنا،و نحن ننتقل من ثبوت الاتفاق إلى لازمه و هو قول الإمام عليه السّلام أو ما في حكمه.
كالخبر المتواتر.
كخبر الثقة بناء على حجيته.
الواو:بمعنى«مع»،و هو في موقع الحال من قوله:«باعتبار نقله السبب...».
يعني:قبول نقل مدعي الإجماع.
ص: 294
ما انكشف منه لناقله بحسب ادعائه .
فهنا مقامان:
الأول:حجيته بالاعتبار الأول ،و هي مبتنية من جهتي الثبوت و الإثبات على مقدمات:
الأولى:دلالة اللفظ على السبب،و هذه لا بد من اعتبارها ، و هي متحققة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم ما لم يصرف عنها صارف .
و قد يشتبه الحال إذا كان النقل بلفظ(الإجماع)في مقام الاستدلال .
عطف على قوله:«باعتبار نقله السبب»و إنما لا يكون حجة على قول الإمام أو ما في حكمه،لأن انكشافه له يبتني على اجتهاده فلا يكون حجة على غيره.
يعني:باعتبار نقله المسبب مع انتقال المنقول إليه للمسبب.
إذ لو فرض إجمال مراده من الإجماع المدعى فلا معنى لقبول نقله.
يعني:كلفظ الإجماع و الاتفاق و نحوهما،بناء على ظهورهما في اتفاق الكل،و قد عرفت الكلام في ذلك.
تقدم أن تعذر الاطلاع الحسي على الاتفاق بالنحو المستلزم عادة لقول الإمام عليه السّلام كاف في الصارفية عن مقتضى الظهور لو تم.
كأنه من جهة أن كونه في مقام الاستدلال قد يكشف عن كونه في مقام نقل ما هو الحجة و هو قول الإمام عليه السّلام،لا نقل مجرد اتفاق العلماء حتى ننتقل نحن منه إلى قول الإمام عليه السّلام.
ص: 295
لكن من المعلوم أن مبناه و مبنى غيره ليس على الكشف الذي يدعيه جهال الصوفية ،و لا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة،مع أنه على تقدير بناء الناقل عليه و ثبوته واقعا كاف في الحجية ،فإذا انتفى الأمران تعين سائر الأسباب المقررة، يعني:مبنى الناقل.
و هو ما يدعونه من حصول المكاشفات لهم بنحو يحصل لهم العلم ببعض الأمور-و منها رأى الامام عليه السّلام-بنحو تنطبع في القلب ابتداء و تحضر فيه بلا توسط أسباب حسية و لا أعمال مقدمات عقلية برهانية.
قال بعض المحشين:«قال قدّس سرّه في الحاشية ما هذا لفظه:المراد بالوجه الأخير ما ذكره سابقا في الرسالة المذكورة،و ذكره الفاضل النحرير بحر العلوم أيضا،و هو أنه قد يحصل العلم بقول الإمام عليه السّلام في زمن الغيبة بالرؤية و السماع عنه عليه السّلام لكن الرائي أو السامع-لعدم وسعه على بيان الحكم بصورة الفتوى و الرواية-يدعي أن المسألة إجماعية،ليتيسر الحكم.ثم ذكر السيد أن الغالب كون أمثال ذلك في الأدعية و الزيارات،و أما الأحكام ففي غاية الندرة».
يعني:الوجه الأخير،أما الوجه الأول فلا مجال للتعويل على النقل المستند إليه،لأنه نقل حدسي مبني على مقدمات غير ظاهرة.
كأنه لفرض كون الناقل ثقة،و كونه معولا على الحس لا الحدس، بخلاف الوجه الأول.لكن هذا وحده لا يكفي بناء على ما عليه الطائفة المحقة من عدم قبول دعوى الاجتماع به عليه السّلام و أخذ الحكم منه،لكونه حينئذ بمنزلة المخصص لدليل قبول خبر الثقة.
فالعمدة أن الاحتمال المذكور بعيد في نفسه لا مجال للتعويل عليه و التوقف في قبول الخبر لأجله.
ص: 296
و أظهرها غالبا عند الإطلاق حصول الاطلاع بطريق القطع أو الظن المعتد به على اتفاق الكل في نفس الحكم،و لذا صرح جماعة منهم باتحاد معنى الإجماع عند الفريقين ،و جعلوه مقابلا للشهرة،و ربما بالغوا في أمرها بأنها كادت تكون إجماعا و نحو ذلك ،و ربما قالوا:إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعية.
و إذا لوحظت القرائن الخارجية من جهة العبارة و المسألة و النقلة ، و اختلف الحال في ذلك،فيؤخذ بما هو المتيقن أو الظاهر .
و كيف كان:فحيث دل اللفظ و لو بمعونة القرائن على تحقق الاتفاق المعتبر كان معتبرا،و إلا فلا.
الثانية:حجية نقل السبب المذكور و جواز التعويل عليه،و ذلك هذا وحده لا يكفي في قبول النقل ما لم يرجع إلى ظهور كلام الناقل في ذلك.
مع أنه عند العامة بمعنى اتفاق الكل،فلا بد أن يكون كذلك عند الخاصة.
لكن سبق من المصنف قدّس سرّه أن في مصطلح العامة و الخاصة اتفاق الكل في عصر واحد لا في جميع العصور.مع أنه لو فرض ظهوره في الاتفاق في جميع العصور فتعذر الاطلاع عليه بطريق الحس-كما سبق-موجب للتصرف في الظهور،أو مسقط له عن الحجية فلا يعتمد عليه أصلا.
يعني مما يكشف عن كون مرادهم من الإجماع اتفاق الكل.
حيث سيأتي اختلاف الحال باختلاف هذه الأمور.
و هو المتعين لو أريد به الظهور اللفظي،لأنه مقتضى حجيته،فلا وجه للاقتصار على المتيقن،كما سيأتي في نظيره.
كأن وجه الإشكال فيه:أن دعوى دليل حجية الخبر مختص بالخبر الحاكي-
ص: 297
لأنه ليس إلا كنقل فتاوى العلماء و أقوالهم و عباراتهم الدالة عليها لمقلديهم و غيرهم ،و رواية ما عدا قول المعصوم عليه السّلام و نحوه من سائر ما تضمنه الأخبار،كالأسئلة التي تعرف منها أجوبته،و الأقوال و الأفعال التي يعرف منها تقريره،و نحوها مما تعلق بها،و ما نقل عن سائر الرواة المذكورين في الأسانيد و غيرها،و كنقل الشهرة و اتفاق سائر أولي الآراء و المذاهب و ذوي الفتوى أو جماعة منهم،و غير ذلك.
و قد جرت طريقة السلف و الخلف من جميع الفرق على قبول أخبار الآحاد في كل ذلك مما كان النقل فيه على وجه الإجمال أو التفصيل ، و ما تعلق بالشرعيات أو غيرها،حتى أنهم كثيرا ما ينقلون شيئا مما ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه و الاستناد إليه، لحصول الوثوق به و إن لم يصل إلى مرتبة العلم،فيلزم قبول خبر الواحد -للسنة،و لا يشمل الحاكي لغيره كما في المقام.
حجية النقل لغير المقلد ممن لا يكون المنقول إليه حجة عليه محل الإشكال،لتقوم الحجية بالأثر العملي.
نعم لو فرض ترتب الأثر العملي لغير المقلد فلا بأس بالالتزام بالحجية،و كذا الحال فيما عدّه بعد هذا.
و هو فعله عليه السّلام و تقريره اللذان هما من السنة كقوله عليه السّلام.
يعني في مقام الجرح و التعديل.
الاجمال يكون بنقل مثل الإجماع و الشهرة و نحوهما مما يتضمن الحكاية عن جماعة من دون تعيين أشخاصهم.و التفصيل يكون بنقل أقوال جماعة معينين بأسمائهم أو نحوها.
ص: 298
فيما نحن فيه أيضا،لاشتراك الجميع في كونها نقل قول غير معلوم من غير معصوم و حصول الوثوق بالناقل،كما هو المفروض.
و ليس شيء من ذلك من الأصول حتى يتوهم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد،مع أن هذا الوهم فاسد من أصله،كما قرر في محله.
و لا من الأمور المتجددة التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام و الصحابة.
و لا مما يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ،مع أن هذا لا يمنع من التعويل على نقل العارف به،لما ذكر .
يعني:مما يتعلق بمسائل أصول الفقه.فإن المسألة الأصولية هى المسألة التي يبحث فيها عن حجية الحجة،و المقام ليس مبنيا على ذلك،بل على نقل ما هو الحجة،و هو الاتفاق.
و هو عدم حجية خبر الواحد في أصول الفقه.نعم لا إشكال عندهم ظاهرا في عدم حجيته في أصول الدين.
يعني:حتى لا تكون السيرة حجة،لعدم ثبوت إمضائها.و هو معطوف على قوله:«و ليس شيء من ذلك من الأصول».
يعني:لكونه من الأمور الاجتهادية النظرية المبنية على الخطأ كثيرا،فلا يكون النقل فيها حجة.و وجه عدم كونه من الأمور الاجتهادية ظاهر،لوضوح إمكان الاطلاع على رأي الشخص من الرجوع إلى كلامه الذي هو من المقدمات الحسية.
يعني:من السيرة،فإن الرجوع إلى أهل الخبرة مما لا إشكال فيه عندهم.
نعم لا يقبل الخبر الحدسي في الأمور الحسية.فإن فرض كون الأمر المذكور حسيا كان مقتضى ظاهر الإخبار به أنه مبني على الحس لا الحدس،و إن فرض كونه-
ص: 299
و يدل عليه-مع ذلك -:ما دل على حجية خبر الثقة العدل بقول مطلق .و ما اقتضى كفاية الظن فيما لا غنى عن معرفته و لا طريق إليه غيره غالبا ،إذ من المعلوم شدة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين،و آراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتى لا محيص عنها،كمعرفة المجمع عليه و المشهور و الشاذ من الأخبار و الأقوال،و الموافق للعامة أو أكثرهم و المخالف لهم،و الثقة و الأوثق و الأورع و الأفقه،و كمعرفة اللغات و شواهدها المنثورة و المنظومة،و قواعد العربية التي عليها يبتني استنباط المطالب الشرعية،و فهم معاني الأقارير و الوصايا و سائر العقود و الايقاعات المشتبهة،و غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل.
و لا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك-غالبا-سوى النقل الغير الموجب للعلم،و الرجوع إلى الكتب المصححة ظاهرا،و سائر الأمارات الظنية،فيلزم جواز العمل بها و التعويل عليها فيما ذكر.
-حدسيا كان مقتضى حجية قول أهل الخبرة قبول الخبر فيه.لكن عرفت أنه و إن كان من الأمور الحسية،إلا أن الاطلاع على قول الكل بطريق الحس متعذر عادة،فيسقط الخبر عن الحجية.
يعني:مع السيرة.
لعله مثل آية النبأ.لكنه مختص بالخبر الحسي،و قد عرفت امتناعه في المقام عادة.
هذا العموم لم أعثر عليه عاجلا،و إن ظهر منهم دعواه في بعض الموارد، إلا أن الدليل عليه غير ظاهر.
عطف على قوله:«النقل...».
ص: 300
فيكون خبر الواحد الثقة حجة معتمدا عليها فيما نحن فيه،و لا سيما إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام و الأجلاء الكرام كما هو الغالب،بل هو أولى بالقبول و الاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ،و لذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتى بما لم يتسامح فيها،كما لا يخفى.
الثالثة:حصول استكشاف الحجة المعتبرة من ذلك السبب.
و وجهه:أن السبب المنقول بعد حجيته،كالمحصل في ما يستكشف منه و الاعتماد عليه و قبوله،و إن كان من الأدلة الظنية باعتبار ظنية أصله،و لذا كانت النتيجة في الشكل الأول تابعة في الضرورية و النظرية و العلمية و الظنية و غيرها لأخس مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.
فينبغي-حينئذ-:أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة كأنه لأهمية الأحكام.لكن هذا لا ينافي اختصاص الدليل بها،لعدم كون الأولوية المذكورة قطعية.فالعمدة ما سبق من السيرة العقلائية التي لا يبعد عمومها لما نحن فيه مع فرض ترتب العمل عليه في الجملة.
لكن لم يثبت شرعا صحة الاعتماد مع المسامحة فيه.
هذا مبني على ما عرفت من حجية الأمارة في لازم مؤداها.
عطف على الموصول في قوله:«فيما يستكشف».
(إن)هنا وصلية.
تعليل لكونه من الأدلة الظنية.
هذه الأمور التي ذكرها لا وجه لها،بل يكفي بناء على حجية نقله احتمال مطابقة ما نقله للواقع مع احتمال كون نقله حسيا لا حدسيا،و لا أهمية في الحجية للأورعية و الأضبطية و غيرهما،و إنما تلحظ في مقام الترجيح لو فرض التعارض في-
ص: 301
ضبطه،و تورعه في النقل،و بضاعته في العلم،و مبلغ نظره و وقوفه على الكتب و الأقوال،و استقصائه لما تشتت منها،و وصوله إلى وقائعها،فإن أقوال العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا.و كذلك حال الكتب المنقول فيها الإجماع،فرب كتاب لغير متتبع موضوع على مزيد التتبع و التدقيق، و رب كتاب لمتتبع موضوع على المسامحة و قلة التحقيق.
و مثله الحال في آحاد المسائل،فإنها تختلف أيضا في ذلك.
و كذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب و خفائها، و حال ما يدل عليه من جهة متعلقه و زمان نقله،لاختلاف الحكم بذلك،كما هو ظاهر.
-النقل،بناء على عدم اختصاص الترجيح بتعارض الأخبار.
نعم لو فرض عدم حجية النقل في نفسه،لعدم ترتب الأثر على الأمر المنقول و إنما كان النظر فيه بلحاظ كونه موجبا لحصول العلم بقول الإمام عليه السّلام لكان لمراعاة هذه الأمور وجه،لاختلاف حصول العلم و عدمه باختلافها كثيرا،فإن نقل العارف الضابط قد يوجب العلم بخلاف نقل غيره.و كذا الحال في اختلاف الكتب و المسائل.
يعني:اللفظ المنقول به الإجماع،هذا و مقتضى حجية الظواهر الاكتفاء بظهور الكلام،و لا أثر لقوة الدلالة،إلا في مقام التعارض لو فرض إمكان الجمع العرفي،أو في مقام يكون الرجوع للنقل لأجل تحصيل العلم بقول الإمام عليه السّلام،نظير ما سبق في ضبط الراوي و تورعه و غيرهما.
المنسبق بدوا منه إرادة المسألة التي يدعى الإجماع عليها،إلا أنه خلاف الظاهر هنا،لأنه تقدم منه التعرض لحال اختلاف المسائل،فلا يخلو المراد منه من غموض.
ص: 302
و يراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو الاحتجاج،فإن بينهما تفاوتا من بعض الجهات ،و ربما كان الأول أولى بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى.
فإذا وقع التباس فيما يقتضيه و يتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة ما ذكر،أخذ بما هو المتيقن أو الظاهر .
ثم ليلحظ -مع ذلك-:ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم و اليقين،إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الإجمال دون المعلوم على التفصيل .مع أنه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في إذ مقام الاحتجاج قد يبتني على نحو من التسامح،لأن المدار فيه على الحجية بنظر الناقل،و كثيرا ما يتسامح المقتنع بالمطلب في مقام الاحتجاج فيبرز المظنون بصورة المقطوع،أو ينزل المخالف لندرته منزلة العدم،أو غير ذلك،كل ذلك لاستيضاحه حكم المسألة،بخلاف مقام نقل الأقوال،فإن المقصود منه مجرد بيان حالها من دون غرض آخر،و هذا هو المشاهد كثيرا.
نعم يأتي ما سبق من أنه بناء على حجية النقل لا أثر للاختلاف المذكور،بل يكفي كون الناقل ثقة،و إنما يظهر أثر الاختلاف لو كان المقصود تحصيل العلم، باللازم كما لا يخفى.
سبق أن المتعين هو العمل بالظاهر.
بيان لوجوب الفحص عما يتمم سبب العلم بقول الإمام عليه السّلام لو فرض عدم كون المنقول وافيا به.و الوجه فيه:ما دل على وجوب الفحص عن أدلة الأحكام على المجتهد و وجوب استفراغ الوسع في ذلك.
يعني:فما دل على التعويل على المنقول المظنون إجمالا يقتضي التعويل على المعلوم تفصيلا.
ص: 303
الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه ،فكيف إذا لم يكن كذلك؟
و يلحظ أيضا:سائر ما له تعلق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد عليه من تلك الأسباب كما هو مقتضى الاجتهاد ،سواء كان من الأمور المعلومة أو المظنونة،و من الأقوال المتقدمة على النقل أو المتأخرة أو المقارنة.
و ربما يستغني المتتبع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع، لاستظهاره عدم مزية عليه في التتبع و النظر،و ربما كان الأمر بالعكس و أنه إن تفرد بشيء كان نادرا لا يعتد به.
فعليه أن يستفرغ وسعه و يتبع نظره و تتبعه،سواء تأخر عن الناقل أم عاصره،و سواء أدى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة،كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلة و غيرها مما تعلق بالمسألة،فليس الإجماع إلا كأحدها.
فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنة وصول الناقل إلى ما لم يصل هو إليه من جهة السبب،أو احتمال ذلك،فيعتمد عليه في هذا خاصة بحسب لما أشرنا إليه من وجوب استفراغ الوسع في الفحص.و ضمير:
«فيه»راجع إلى:«الاستكشاف».
فإنه يقتضي استفراغ الوسع.
ضمير«مزيته»راجع إلى«ناقل الإجماع»،و ضمير«عليه»راجع إلى «المتتبع».
يعني:المتتبع.
ص: 304
ما استظهر من حاله و نقله و زمانه ،و يصلح كلامه مؤيدا فيما عداه مع الموافقة ،لكشفه عن توافق النسخ و تقويته للنظر.
فإذا لوحظ جميع ما ذكر،و عرف الموافق و المخالف إن وجد، فليفرض المظنون منه كالمعلوم،لثبوت حجيته بالدليل العلمي و لو بوسائط .
ثم لينظر:فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجة ظنية، حيث كان متوقفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب،أو كان بلحاظ:شدة ضبطه و تورعه و نحوهما مما تقدم،و تقدم الكلام فيه.
بلحاظ:وضوح دلالته و خفائها على ما سبق.
كأنه إشارة إلى ما يأتي من عدم الاعتداد بنقل المعاصر،لعدم اطلاعه غالبا على أكثر مما اطلع عليه المنقول إليه.
يعني:فيما عدا ما اختص به الناقل،و هو ما اشتراك بينهما.
إذ مع المخالفة ينكشف خطأ النقل،فلا يعتد به.
يعني:بسبب كون النقل ظنيا،أما الظنون من غير جهة النقل فلا وجه لتنزيله منزلة المعلوم،لعدم الدليل على حجية الظن بنفسه.
و هو دليل حجية خبر الثقة.
إذ قد لا يكون دليل حجية خبر الثقة علميا بنفسه،إلا أنه قام على حجيته دليل علمي أو ينتهي إلى دليل علمي.
ظرف متعلقة بقوله:«ظنية».يعني إنما يكون حجة ظنية فيما إذا كان مستندا للنقل غير العلمي،أو كان المنكشف دليل غير قطعي،كخبر الواحد الحجة.أما لو كان مستندا للنقل الموجب للعلم و كان المنكشف هو الدليل القطعي-كقول الامام عليه السّلام-
ص: 305
المنكشف غير الدليل القاطع،و إلا فلا .
و إذا تعدد ناقل الإجماع أو النقل ،فإن توافق الجميع لوحظ كل مع ما علم -على ما فصل-و أخذ بالحاصل،و إن تخالف لوحظ جميع ما ذكر و اخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل،و زمانه، و وجود المعاضد و عدمه،و قلته و كثرته،ثم ليعمل بما هو المحصل،و يحكم على تقدير حجيته بأنه دليل ظني واحد و إن توافق النقل و تعدد الناقل.
و ليس ما ذكرناه مختصا بنقل الإجماع المتضمن لنقل الأقوال إجمالا، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا،و كذا في نقل سائر الأشياء التي يبتني عليها معرفة الأحكام.و الحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع،كما هو ظاهر.
-أو الخبر المتواتر-كان حجة علمية.و قد تقدم تفصيل ذلك في كلامه.
يعني:و إن لم يحصل من ذلك استكشاف معتبر فلا يكون حجة.
يعني:نقل الإجماع و لو من شخص واحد.
يعني:من حاله من حيثية الضبط و كيفية النقل و غيرهما مما تقدم.
بناء على عموم دليل الترجيح لجميع موارد تعارض الأمارات،و إلا لزم التساقط،كما هو الأصل في المتعارضين إلا مع إمكان الجمع العرفي الرافع للتعارض.
«إن»هنا وصلية.لكن هذا مختص بما إذا لم يبلغ التعدد درجة التواتر، و إلا كان قطعيا،كما لا يخفى.
يعني:بعد تتبع المنقول إليه بنفسه.
خبر قوله:«و الحكم».
ص: 306
و قد اتضح بما بيناه:وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب:من عدم الاستدلال بالإجماع المنقول على وجه الاعتماد و الاستقلال غالبا ، و ردّه بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف و نحوهما،فإنه المتجه على ما قلنا،و لا سيما فيما شاع فيه النزاع و الجدال،أو عرفت فيه الأقوال،أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الإجماع،لقلة المتعرض لها إلا على بعض الوجوه التي لا يعتد بها،أو كان الناقل ممن لا يعتد بنقله، لمعاصرته ،أو قصور باعه،أو غيرهما مما يأتي بيانه،فالاحتياج إليه مختص بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء و نادر من النقلة الأفاضل.انتهى كلامه،رفع مقامه.
لكنك خبير:بأن هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة،لأن القدر الثابت من الاتفاق بإخبار الناقل المستند إلى حسه ليس مما يستلزم عادة موافقة الإمام ،و إن كان هذا الاتفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العلم لأنه لا يتضمن بنفسه غالبا نقل المقدار الكاشف عن الدليل القطعي أو الدليل الظني المعتبر.
هذا لا يلائم ما سبق منه من حجية خبر الثقة فيما نقل،إذ مع ذلك لا وجه للرد بعدم الثبوت،إلا أن يراد عدم ثبوت المقدار الموجب للعمل،لا عدم ثبوت نفس المنقول و إن لم يوجبه.
كأنه لأن المعاصر غالبا لا ينفرد بمعرفة شيء لا يعرفه المعاصر له.
يعني:لنقل الإجماع.
لما عرفت من أن ما يستلزم عادة قول الإمام عليه السّلام من الاتفاق لا يمكن الاطلاع عليه عن حسّ،و ما يمكن الاطلاع عليه حسا لا يستلزم قول الإمام عليه السّلام.
ص: 307
بصدور مضمونه،لكن ليس علة تامة لذلك،بل هو نظير إخبار عدد معين في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم و قد لا يوجب.و ليس أيضا مما يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى بالنسبة إلينا،لأن استناد كل بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا،ليس أمرا مخالفا للعادة.
أ لا ترى:أنه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر،بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها،و بعضهم قد ظفر بالمعارض و لم يعمل به،لقصور سنده، أو لكونه من الآحاد عنده ،أو لقصور دلالته،أو لمعارضته لأخبار النجاسة و ترجيحها عليه بضرب من الترجيح،فإذا ترجح في نظر المجتهد المتأخر أخبار الطهارة فلا يضره اتفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الأمور المختلفة المذكورة.
و بالجملة:فالإنصاف-بعد التأمل و ترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع كما هو متعارف محصلي عصرنا-أن اتفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه السّلام،كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكل من جهة أو من جهات شتى.
فلم يبق في المقام إلا أن يحصل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء و غيرها ليضيفها إلى ذلك،فيحصل من مجموع المحصل له و المنقول إليه الذي فرض بحكم المحصل من حيث وجوب العمل به يعني:حيث لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد.
ص: 308
تعبدا القطع في مرحلة الظاهر باللازم،و هو قول الإمام عليه السّلام،أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه السّلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل.
لكنه أيضا مبني على كون مجموع المنقول من الأقوال و المحصل من الأمارات ملزوما عاديا لقول الإمام عليه السّلام،أو وجود الدليل المعتبر،و إلا فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصل بأدلة حجية خبر الواحد ،كما عرفت سابقا.
و من ذلك ظهر:أن ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة حجية الإجماع المنقول،و لا قولا بحجيته في الجملة من حيث إنه إجماع منقول، و إنما يرجع محصله إلى:أن الحاكي للإجماع يصدق فيما يخبره عن حس، فإن فرض كون ما يخبره عن حسه ملازما بنفسه أو بضميمة أمارات أخر لصدور الحكم الواقعي أو مدلول الدليل المعتبر عند الكل،كانت حكايته فاعل لقوله:«فيحصل...».
أما القطع بالحكم الواقعي فلا مجال له بعد كون بعض المقدمات-و هو النقل-لا يفيد القطع و إن كان حجة ظاهرا.
لا يبعد بناء على ما سبق الاكتفاء بالملازمة بنظر المنقول إليه بشخصه و إن لم تكن الملازمة عادية،بحيث تثبت عند الكل.إلا أن يكون مراده من الملازمة العادية في قبال العقلية،لا في قبال الملازمة الشخصية،فيرجع حينئذ إلى الاكتفاء بالملازمة و عدم اعتبار الملازمة العقلية.
فإن أدلة الحجية مختصة بما إذا ترتب على المنقول أثر عملي و لو بلحاظ ملازمته لما يجب العمل عليه.
ص: 309
حجة،لعموم أدلة حجية الخبر في المحسوسات،و إلا فلا،و هذا يقول به كل من يقول بحجية الخبر في الجملة،و قد اعترف بجريانه في نقل الشهرة و فتاوى آحاد العلماء.
و من جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول،و أن نقل التواتر في خبر لا يثبت حجيته و لو قلنا بحجية خبر الواحد،لأن التواتر صفة في الخبر تحصل بإخبار جماعة يفيد العلم للسامع،و يختلف عدده باختلاف خصوصيات المقامات ،و ليس كل تواتر ثبت لشخص مما يستلزم في نفس الأمر عادة تحقق المخبر به،فإذا أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع،و قبول هذا الخبر لا يجدي شيئا،لأن المفروض أن تحقق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابت بخبر العادل.
نعم،لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقق المخبر به،بأن يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة،كأن أخبر مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد و حضور جنازته كان اللازم من قبول خبره الحكم بتحقق الملزوم و هو إخبار الجماعة،فيثبت اللازم و هو تحقق موت زيد.
إلا أن لازم من يعتمد على الإجماع المنقول-و إن كان إخبار الناقل يعني:المحقق التستري قدّس سرّه فقد تقدم منه ذلك في ذيل كلامه السابق.
كما يختلف باختلاف الأشخاص،فقد يحصل العلم لشخص من إخبار مقدار خاص،و لا يحصل لغيره.
جواب(لو)في قوله:«نعم لو أخبر...».
ص: 310
مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة للمخبر به- هو القول بحجية التواتر المنقول.
لكن ليعلم:أن معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت زيد مثلا،يتصور على وجهين:
الأول:الحكم بثبوت الخبر المدعى تواتره أعني موت زيد،نظير حجية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدعى عليها الإجماع،و هذا هو الذي ذكرنا:أنه يشترط في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر به مستلزما -عادة-لوقوع متعلقه.
الثاني:الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتب على ذلك الخبر آثار المتواتر و أحكامه الشرعية،كما إذا نذر أن يحفظ أو يكتب كل خبر متواتر.
ثم أحكام التواتر،منها ما ثبت لما تواتر في الجملة و لو عند غير هذا الشخص،و منها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا الشخص.
و لا ينبغي الإشكال في أن مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على خبر(أن)في قوله:«إلا أن لازم من يعتمد...»،لكن قد يفرق بين المقامين بأن نقل الإجماع قد يتضمن الإخبار عن الإمام عليه السّلام بالتضمن و إن كان حدسيا، بخلاف نقل التواتر فإنه لا يتضمن الإخبار بمضمون الخبر المدعى تواتره.
اللهم إلا أن يفرض ثبوت ملازمة ذهنية بين تواتر الخبر و ثبوت مضمونه، بحيث يكون للإخبار بالتواتر دلالة التزامية عرفية على الإخبار بمضمون الخبر، فيلحقه أحكام الخبر.
ص: 311
الوجه الأول ،و أول وجهي الثاني ،كما لا ينبغي الإشكال في عدم ترتب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.
و من هنا يعلم:أن الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيا قرأه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ،فلا إشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمه اللّه بتواتر القراءات الثلاث،أعني قراءة أبي جعفر و أخويه،لكن بالشرط المتقدم،و هو كون ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما-عادة-لتحقق القرآنية.
و كذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ،فإنه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند الشهيد بإخباره.
و إن كان الحكم معلقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو مجتهده،فلا يعني:بترتيب آثار مؤدى الخبر المدعى تواتره،كموت زيد في الفرض.
يعني:بترتيب آثار نفس التواتر و لو لغير المنقول إليه.لكن هذا مبني على حجية خبر الواحد في الموضوعات الخارجية،و عدم اختصاصه بالأحكام.و كذا في الوجه الأول لو لم يكن المؤدى حكما شرعيا.
و هو الوجه الثاني للوجه الثاني.و الوجه فيه واضح،لعدم تحقق الموضوع فرضا.
لا ينبغي الإشكال في كون الموضوع هو القرآن الواقعي،و أن اعتبار التواتر أو نحوه إنما هو في مقام الإثبات لا الثبوت.و الظاهر أن خصوصية قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلحاظ إحراز القرآن الواقعي،لا لدخلها في الموضوع ثبوتا.
لكنه معلوم العدم.
ص: 312
يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات.
و إلى أحد الأولين ينظر حكم المحقق و الشهيد الثانيين بجواز القراءة بتلك القراءات،مستندا إلى أن الشهيد و العلامة قدّس سرّهما قد ادعيا تواترها و أن هذا لا يقصر عن نقل الإجماع.
و إلى الثالث نظر صاحب المدارك و شيخه المقدس الأردبيلي قدّس سرّهما، لا إشكال في عدم نظر المحقق و الشهيد الثانيين قدّس سرّهما إلى الثاني،لما عرفت في عدم دخل التواتر في مقام الثبوت،كما يناسبه تنظيرهما المقام بنقل الإجماع،لما هو المعلوم من عدم دخل الإجماع في الأحكام الشرعية ثبوتا،بل إثباتا.
نعم يمكن نظرهما إلى الأول،كما يمكن نظرهما إلى أنه يكفي في حجية خبر الشهيد و العلامة قدّس سرّه تضمنه لنقل قراءة المعصوم،كما يتضمن نقل الإجماع نقل رأى المعصوم من دون التفات إلى خصوصية كون الخبر حدسيا أو حسيا،فإن هذه التحقيقات متأخرة عن عصرهما ظاهرا،و بالجملة:ظاهرهما أن نقل التواتر كنقل الإجماع،فتبتني حجيته على ما تبتني عليه حجية نقل الإجماع بنظرهما،فلا بد من الرجوع إلى رأيهما في الإجماع المنقول.
لا إشكال ظاهرا في عدم نظر صاحب المدارك و شيخه إلى هذا الوجه،لما عرفت من وضوح بطلانه.بل يمكن أن يكون نظرهما إلى عدم تمامية شرط القبول في الوجه الأول،لعدم إحراز كون مستند العلامة و الشهيد ملزوما عاديا لمؤدى الخبر،و هو ثبوت القرآن.
كما يحتمل أن يكون نظرهما إلى أن أدلة حجية الخبر بل جميع الطرق غير العلمية تختص بغير القرآن،و أنه لا بد في القرآن الشريف من حصول العلم به بتواتر أو نحوه،و لا يجوز ترتيب آثاره بغير ذلك.فإن الدعوى المذكورة غير بعيدة عن مرتكزات المتشرعة،و إن كانت محتاجة إلى التأمل.و حينئذ ينفع نقل التواتر ما لم يفد-
ص: 313
حيث اعترضا على المحقق و الشهيد:بأن هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة.
و لا يخلو نظرهما عن نظر ،فتدبر.
و الحمد للّه،و صلى اللّه على محمد و آله،و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.
-العلم بالقرآن.
لأن الظاهر من كلام المحقق و الشهيد الثانيين قدّس سرّهما ابتناء كلامهما على اعتبار التواتر و احرازه بخبر الواحد،لا على عدم اعتباره و الاكتفاء بخبر الواحد في نفس القراءة،لوضوح عدم اعتمادهما على خبر الواحد في القراءة بل في تواترها،فلا وجه للإيراد عليهما بأن هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة.
فكان الأولى الإشكال عليهما بعدم حجية خبر الواحد في إثبات تواتر القراءة لترتيب آثارها لما عرفت من الوجهين السابقين المحتملين في كلا مبني صاحب المدارك و شيخه قدّس سرّهما.و لعل كلامهما راجع إلى أحد الوجهين المذكورين و لعل بالثاني أنسب.فلاحظ.و اللّه سبحانه العالم و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 314
[البحث في حجية الشهرة]
و من جملة الظنون التي توهم حجيتها بالخصوص:
الشهرة في الفتوى،الحاصلة بفتوى جل الفقهاء المعروفين،سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف أم لم يعرف الخلاف و الوفاق من غيرهم.
ثم إن المقصود هنا ليس التعرض لحكم الشهرة من حيث الحجية في الجملة،بل المقصود إبطال توهم كونه من الظنون الخاصة،و إلا فالقول بحجيتها من حيث إفادة المظنة بناء على دليل الانسداد غير بعيد .
ثم إن منشأ توهم كونها من الظنون الخاصة أمران:
أحدهما:ما يظهر من بعض:من أن أدلة حجية خبر الواحد تدل على حجيتها بمفهوم الموافقة،لأنه ربما يحصل منها الظن الأقوى من الحاصل من خبر العادل.
بل هو المتعين لو كانت الشهرة مفيدة للظن،بناء على عموم نتيجة دليل الانسداد،على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء اللّه تعالى.
يعني:على حجية الشهرة.
ص: 315
و هذا خيال ضعيف تخيله بعض في بعض رسائله،و وقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك،حيث وجّه حجية الشياع الظني بكون الظن الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين.
و وجه الضعف:أن الأولوية الظنية أوهن بمراتب من الشهرة، فكيف يتمسك بها في حجيتها؟!مع أن الأولوية ممنوعة رأسا،للظن بل العلم بأن المناط و العلة في حجية الأصل ليس مجرد إفادة الظن .
و أضعف من ذلك:تسمية هذه الأولوية في كلام ذلك البعض مفهوم الموافقة،مع أنه ما كان استفادة حكم الفرع من الدليل اللفظي الدال على حكم الأصل ،مثل قوله تعالى: فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ.
الثاني:دلالة مرفوعة زرارة،و مقبولة ابن حنظلة على ذلك:ففي لم يتضح من المستدل دعوى الأولوية الظنية،بل ظاهره القطع بالأولوية.
فالأولى منع الأولوية المذكورة،كما سيذكره المصنف قدّس سرّه.
لوضوح أن القياس قد يفيد الظن الأقوى من خبر الواحد مع أنه ليس بحجة.
يعني:مفهوم الموافقة،و هذا بيان لوجه الضعف.
بنحو يكون للدليل اللفظي ظهور في بيان الحكم الفرع بسبب وضوح الملازمة ذهنا بينهما،لظهور الكلام في إرادة المناط المذكور.و إلا فمجرد اتفاق الأولوية في العلة واقعا إذا ثبت من الخارج و لم يستند إلى ظهور اللفظ ليس مفهوم الموافقة اصطلاحا،بل هو الأولوية القطعية أو الظنية لا غير.و من الظاهر أنه لا ظهور لأدلة حجية خبر الواحد في حجية الشهرة لعدم وضوح مناط الحكم من نفس الكلام لو فرض ثبوت كونه مناطا من الخارج.
ص: 316
الأولى:
«قال زرارة:قلت:جعلت فداك،يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان،فبأيهما نعمل؟قال عليه السّلام:خذ بما اشتهر بين أصحابك،ودع الشاذ النادر،قلت:يا سيدي،إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم،قال عليه السّلام:
خذ بما يقوله أعدلهما.الخبر».
بناء على أن المراد بالموصول مطلق المشهور رواية كان أو فتوى ، أو أن إناطة الحكم بالاشتهار يدل على اعتبار الشهرة في نفسها و إن لم تكن في الرواية .
و في المقبولة-بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة-قال عليه السّلام:
«ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك،فيؤخذ به،و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه،و إنما الأمور ثلاثة:أمر بين رشده فيتبع،و أمر كأنه للإطلاق بناء على أن خصوص المورد لا يخصص الوارد.لكن هذا وحده لا يصحح الاستدلال بالرواية،لعدم تعرضها لحجية المشهور،بل للترجيح بالشهرة،فهي-حينئذ-تدل على أن مطلق الشهرة مرجح لا دليل في نفسه،بل هو متوقف مع العموم المذكور،على أن الترجيح بالشهرة ظاهر في اعتبارها و حجيتها في نفسها،كالترجيح بالكتاب.
قد تكون متضمنة لعلة الحكم،فتدل على أن علة ترجيح الرواية المشهورة هو الشهرة،فيتعدى منها إلى مطلق المشهور لعموم العلة.لكن هذا أيضا إنما يقتضي عموم مرجحية الشهرة بين الدليلين،لا كون الشهرة موضوعا للحجية مطلقا،نظير ما تقدم.
ص: 317
بين غيه فيجتنب،و أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:حلال بين،و حرام بين،و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجا عن المحرمات،و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم.
قلت:فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم...» إلى آخر الرواية.
بناء على أن المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور،بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله:«و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور»، فيكون في التعليل بقوله:«فإن المجمع عليه..الخ»دلالة على أن المشهور مطلقا مما يجب العمل به،و إن كان مورد التعليل الشهرة في الرواية.
و مما يؤيد إرادة الشهرة من الإجماع:أن المراد لو كان الإجماع الحقيقي لم يكن ريب في بطلان خلافه،مع أن الإمام عليه السّلام جعل مقابله مما فيه الريب .
الأولى أن يقول بقرينة مقابلته بقوله:«يترك الشاذ».
لعموم التعليل الموجب لعموم الحكم و عدم اختصاصه بمورده كما أن التعليل بعدم الريب كما يقتضي الترجيح بالشهرة يقتضي حجيتها في نفسها،لكن من الظاهر أن العلة المذكورة لما كانت هي عدم الريب فهي إنما تقتضي عموم الحجية للشهرة التي توجب عدم الريب،و هي تختص بالشهرة في الرواية،لا في الفتوى، كما سيأتي.
كما يناسبه قوله عليه السّلام:«إنما الأمور...»و الاستشهاد بحديث التثليث، مع ظهور حال الإمام عليه السّلام في أن مناسبة الاستشهاد كون المورد من موارد الشبهة،-
ص: 318
و لكن في الاستدلال بالروايتين ما لا يخفى من الوهن:
أما الأولى:فيرد عليها-مضافا إلى ضعفها،حتى أنه ردها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدث البحراني- :أن المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق حكم المشهور،أ لا ترى أنك لو سألت عن أن أي المسجدين أحب إليك، فقلت:ما كان الاجتماع فيه أكثر،لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبية كل مكان يكون الاجتماع فيه أكثر،بيتا كان أو خانا أو سوقا،و كذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرمانين فقلت:ما كان أكبر.
و الحاصل:أن دعوى العموم في المقام لغير الرواية مما لا يظن بأدنى التفات .
-للتأكيد في الاستشهاد عليها.
لأن سيرته على عدم التدقيق في السند في الروايات المعروفة بين الأصحاب.
و ذلك لما تقرر من أن تعريف الموصول باعتبار العهد،فمع عدم عهد فرد خاص،يتعين حمل الكلام على العهد الجنسي،أما معه فلا ظهور للكلام في العهد الجنسي،بل المتيقن هو المعهود الخاص،ففي المقام حيث كان السؤال عن خصوص الروايتين كان مانعا عن ظهور الإطلاق فيما يعمهما.
و أما دعوى:أن ذكر الشهرة ظاهر في أنها علة للحكم بالحجية.فهي مندفعة بأن ذلك لو سلم يوجب الإشعار لا الظهور.مضافا إلى ما يأتي من أن الشهرة في الرواية بمعنى معروفيتها بين الأصحاب بحيث لا ينكرها أحد منهم، فتكون مما لا ريب فيه،بخلاف شهرة الفتوى،فإنها بمعنى قول الأكثر بها الذي لا-
ص: 319
مع أن الشهرة الفتوائية مما لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة، فقوله:(يا سيدي،إنهما معا مشهوران مأثوران)أوضح شاهد على أن المراد بالشهرة الشهرة في الرواية الحاصلة بكون الرواية مما اتفق الكل على روايته أو تدوينه،و هذا مما يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين به.
و من هنا يعلم الجواب عن التمسك بالمقبولة،و أنه لا تنافي بين إطلاق المجمع عليه على المشهور و بالعكس حتى تصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر،فإن إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إنما هو إطلاق حادث مختص بالأصوليين ،و إلا فالمشهور هو الواضح المعروف، و منه:شهر فلان سيفه،و سيف شاهر.
فالمراد أنه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك و لا ينكرها أحد منهم،و يترك ما لا يعرفه إلا الشاذ و لا يعرفها الباقي،فالشاذ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة،و المشهور لا يشاركون الشاذ في معرفة الرواية الشاذة،و لهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد،و الشاذ من قبيل المشكل الذي يرد علمه إلى أهله،و إلا فلا معنى للاستشهاد -ينافي الريب فيها،فالتعدي من إحداهما للأخرى أشبه بالقياس.
يعني:بالمعنى الذي هو محل الكلام،و هو فتوى الغالب،أما بالمعنى اللغوي فهي خارجة عن محل الكلام.
و جرى عليه الفقهاء أيضا،و الاصطلاح المذكور مختص بالفتوى،و لا يجري في الروايات.
يعني:لو أريد من المشهور ما يقابل المجمع عليه.
ص: 320
بحديث التثليث .
و مما يضحك الثكلى في هذا المقام،توجيه قوله:«هما معا مشهوران»بإمكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى و في عصر آخر على خلافها،كما قد يتفق بين القدماء و المتأخرين،فتدبر.
إذ المشهور بالمعنى المذكور مما فيه الريب،خصوصا في الفتوى.
قال سيدنا الاعظم قدّس سرّه:«إذ الشهرة المبحوث عنها في المقام-كما نصّ عليه بعض المحققين-هي فتوى جل المعروفين بالفتوى في تمام الأعصار.و شهرة القدماء و المتأخرين ليس هي الشهرة بقول مطلق،و لا المبحوث عنها،كما لا يخفى».
بل قد يقال:إنه لو فرض حجية الشهرة لكانت شهرة القدماء حجة على المتأخرين فليس لهم الفتوى بخلافها.
و لو فرض غفلتهم عن ذلك لزم حجيتها في حقنا بعد التفاتنا إلى ذلك و ترجيحها على شهرة المتأخرين المفروض مخالفتها للدليل.و عليه لو أريد من الرواية ما يعم الشهرة في الفتوى لم يبق وجه لعدم الترجيح بين الشهرتين و الانتقال إلى مرجح آخر.
ص: 321
ص: 322
[البحث في حجية خبر الواحد]
و من جملة الظنون الخارجة بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم:
خبر الواحد في الجملة عند المشهور،بل كاد أن يكون إجماعا.
اعلم:أن إثبات الحكم الشرعي بالأخبار المروية عن الحجج عليهم السّلام الحاكية لقولهم موقوف على مقدمات ثلاث:
الأولى:كون الكلام صادرا عن الحجة.
الثانية:كون صدوره لبيان حكم اللّه،لا على وجه آخر،من تقية و غيرها.
الثالثة:ثبوت دلالتها على الحكم المدعى،و هذا يتوقف :
أولا:على تعيين أوضاع ألفاظ الرواية.
و ثانيا:على تعيين المراد منها،و أن المراد مقتضى وضعها أو غيره.
فهذه أمور أربعة،و قد أشرنا إلى كون الجهة الثانية من المقدمة و هو ثبوت دلالتها على الحكم المدعى.
و هي تعيين مراد المتكلم من الكلام بعد فرض تعيين أوضاع المفردات.
ص: 323
الثالثة من الظنون الخاصة،و هو المعبر عنه بالظهور اللفظي،و إلى أن الجهة الأولى منها مما لم يثبت كون الظن الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصة،و إن لم نستبعد الحجية أخيرا .
و أما المقدمة الثانية:فهي أيضا ثابتة بأصالة عدم صدور الرواية لغير داعي بيان الحكم الواقعي،و هي حجة،لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء و العقلاء من حمل كلام المتكلم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعي ،لا لبيان خلاف مقصوده من تقية أو خوف،و لذا لا يسمع دعواه ممن يدعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته.
و أما المقدمة الأولى:فهي التي عقد لها مسألة حجية أخبار الآحاد، فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة-أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره-هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر و القرينة؟
و من هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة ،و لا حاجة إلى تجشم دعوى :أن البحث عن دليلية الدليل و هي تعيين أوضاع المفردات.
لكن تقدم الإشكال في ذلك.
و هي المعبر عنها بأصالة الجهة،و قد أشرنا إليها في أول الكلام في حجية الظواهر.
لا يبعد سماع الدعوى في الجملة بنحو يكون مدعيها مدعيا محتاجا إلى الإثبات.
بدعوى:أن الثبوت من أحوال الأدلة التي قيل:إنها موضوع الأصول.
تعريض بصاحب الفصول،حيث أورد على من ذكر أن موضوع علم-
ص: 324
بحث عن أحوال الدليل.
ثم اعلم:أن أصل وجوب العمل بالأخبار المدونة في الكتب المعروفة مما أجمع عليه في هذه الأعصار،بل لا يبعد كونه ضروري المذهب .
و إنما الخلاف في مقامين:
أحدهما:كونها مقطوعة الصدور أو غير مقطوعة؟
فقد ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين فيما نسب إليهم إلى كونها قطعية الصدور.
و هذا قول لا فائدة في بيانه و الجواب عنه،إلا التحرز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم،و إلا فمدعي القطع لا يلزم بذكر -الأصول هو الأدلة بما هي أدلة:بأنه يلزم منه خروج مثل مسألة حجية خبر الواحد عن علم الأصول،للبحث فيها عن دليلية الدليل لا عن الأحوال اللاحقة له بعد فرض كونه دليلا.و لذا التزم بان الموضوع هو الأدلة بما هي هي لا بما هي أدلة، فيكون البحث عن دليلية الدليل بحثا عن عوارض الدليل و عوارض الموضوع فيدخل في علم الأصول.و تمام الكلام في محله.
يعني:في الجملة،لا بها جميعا.
هذا قد ينافي ما يأتي منه قدّس سرّه من الاعتراف بالخلاف في جواز العمل بأخبار الآحاد و ذهاب جمع إلى المنع عنه مع عدم تمامية مقدمات الانسداد عندهم.اللهم إلا أن يريد العمل بهذه الأخبار في الجملة،و لو لكون بعضها محتفا بقرائن تفيد القطع بصدورها كما ادعاه بعض المانعين في الأخبار التي عمل بها الاصحاب رضوان اللّه عليهم،فلا ينافي المنع من جماعة من العمل بخبر الواحد الظني غير المحتف بقرائن.فلاحظ.
ص: 325
ضعف مبنى قطعه .و قد كتبنا في سالف الزمان في رد هذا القول رسالة تعرضنا فيها لجميع ما ذكروه،و بيان ضعفها بحسب ما أدى إليه فهمي القاصر.
الثاني:أنها مع عدم قطعية صدورها معتبرة بالخصوص أم لا؟
فالمحكي عن السيد و القاضي و ابن زهرة و الطبرسي و ابن إدريس قدس اللّه أسرارهم:المنع،و ربما نسب إلى المفيد قدّس سرّه،حيث حكى عنه في المعارج أنه قال:«إن خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم،و ربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل»، و ربما ينسب إلى الشيخ،كما سيجيء عند نقل كلامه،و كذا إلى المحقق،بل إلى ابن بابويه،بل في الوافية:أنه لم يجد القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة،و هو عجيب .
و أما القائلون بالاعتبار،فهم مختلفون من جهة:أن المعتبر منها كل ما في الكتب المعتبرة الأربعة،كما يحكى عن بعض الأخباريين،و تبعهم بعض المعاصرين من الأصوليين بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور،أو أن المعتبر بعضها،و أن المناط في الاعتبار عمل الأصحاب،كما يظهر من إلا أن يكون في مقام الاحتجاج و الاستدلال،فيلزم ببيان ضعف دليله.
يعني الدليل الذي يعتبر اقترانه بخبر الواحد.
لما يأتي في الاستدلال على حجية الخبر بالإجماع من وضوح القول بالحجية بين الأصحاب و اشتهاره.
ص: 326
كلام المحقق،أو عدالة الراوي،أو وثاقته،أو مجرد الظن بصدور الرواية من غير اعتبار صفة في الراوي،أو غير ذلك من التفصيلات.
و المقصود هنا:بيان إثبات حجيته بالخصوص في الجملة في مقابل السلب الكلي.
و لنذكر أولا ما يمكن أن يحتج به القائلون بالمنع،ثم نعقبه بذكر أدلة الجواز،فنقول:
فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم،و التعليل المذكور في آية النبأ على ما ذكره أمين الإسلام :من أن فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد.
فهي أخبار كثيرة تدل على المنع من العمل بالخبر الواحد الغير المعلوم لم يذكر دليل العقل في المقام مع أن ابن قبة قد ادعى منعه من التعبد بخبر الواحد،اكتفاء بما سبق في أول الكلام في الظن من دفع الدليل المذكور،و أن الكلام في المقام بعد الفراغ عن إمكان التعبد بالظن خبرا كان أو غيره.
قال بعض المحشين قدّس سرّه:«إن المراد به هو الشيخ الطبرسي قدّس سرّه على ما ذكره قدّس سرّه في مجلس درسه الشريف»و قد ذكر ذلك الطبرسي قدّس سرّه في تفسيره الكبير مجمع البيان، قال بعد ذكر الآية الشريفة و شرحها:«و في هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم و لا العمل،لأن المعنى:إن جاءكم من لا تؤمنون أن يكون خبره كذبا فتوقفوا فيه،و هذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره...».
ص: 327
الصدور إلا إذا احتف بقرينة معتبرة من كتاب أو سنة معلومة:
مثل:ما رواه في البحار عن بصائر الدرجات،عن محمد بن عيسى،قال:
«أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه السّلام و جوابه عليه السّلام بخطه،فكتب:نسألك عن العلم المنقول عن آبائك و أجدادك سلام اللّه عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه،فكيف العمل به على اختلافه؟فكتب عليه السّلام بخطه و قرأته:ما علمتم أنه قولنا فالزموه،و ما لم تعلموه فردوه إلينا».
و مثله عن مستطرفات السرائر.
و الأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلا إذا وجد له شاهد من كتاب اللّه أو من السنة المعلومة،فتدل على المنع عن العمل بالخبر الواحد المجرد عن القرينة:
مثل:ما ورد في غير واحد من الأخبار:أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:«ما جاءكم عني مما لا يوافق القرآن فلم أقله».
و قول أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام:«لا يصدق علينا إلا ما يوافق كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».
و قوله عليه السّلام:«إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به،و إلا فقفوا عنده،ثم ردوه إلينا حتى نبين لكم».
و رواية ابن أبي يعفور قال:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اختلاف الحديث،يرويه من نثق به و من لا نثق به؟قال:إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخذوا به، و إلا فالذي جاءكم به أولى به».
ص: 328
و قوله عليه السّلام لمحمد بن مسلم:«ما جاءك من رواية من بر أو فاجر يوافق كتاب اللّه فخذ به،و ما جاءك من رواية من بر أو فاجر يخالف كتاب اللّه فلا تأخذ به».
و قوله عليه السّلام:«ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب اللّه فهو باطل».
و قول أبي جعفر عليه السّلام:«ما جاءكم عنا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به،و إن لم تجدوه موافقا فردوه،و إن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده و ردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».
و قول الصادق عليه السّلام:«كل شيء مردود إلى كتاب اللّه و السنة،و كل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف».
و صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب و السنة،أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة،فإن المغيرة بن سعيد-لعنه اللّه-دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي،فاتقوا اللّه و لا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا و سنة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».
و الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب و السنة و لو مع عدم المعارض متواترة جدا.
وجه الاستدلال بها:
أن من الواضحات:أن الأخبار الواردة عنهم(صلوات اللّه
ص: 329
عليهم)في مخالفة ظواهر الكتاب و السنة في غاية الكثرة ،و المراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالف الكتاب و السنة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلي بحيث يتعذر أو يتعسر الجمع،إذ لا يصدر من الكذابين عليهم ما يباين الكتاب و السنة كلية، إذ لا يصدقهم أحد في ذلك ،فما كان يصدر عن الكذابين عليهم من الكذب لم يكن إلا نظير ما كان يرد من الأئمة(صلوات اللّه عليهم)في مخالفة ظواهر الكتاب و السنة ،فليس المقصود من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب و السنة إلا عرض ما كان منها غير معلوم الصدور لكثرة المخصص و المقيد لعموم و إطلاق الكتاب من الأخبار،و غير ذلك من جهات المخالفة للظاهر.
هذا في غاية المنع إذ قد يكون قصد الكذاب تشويه سمعتهم عليهم السّلام و النيل من كرامتهم بما قد يصدقه الجهال الذين لم تتضح لهم رفعة مقامهم عليهم السّلام و سموّ منزلتهم مما خفي على كثير من جهال هذا الزمان فضلا عن زمان صدور الروايات المذكورة،كما قد يكون قصده إضلال الناس بدعوى نسخ أحكامهم عليهم السّلام للقرآن المجيد،و أن له عليه السّلام حق تبديل الأحكام و التصرف فيها...إلى غير ذلك من جهات الضلال و التلبيس على الجهال.و قد يؤيده أو يدل عليه ظهور بعض هذه الروايات في التنصل من الأخبار المخالفة و البراءة منها المشعر بأن في قبولها عليهم و أنها من سنخ الذي لا يناسب صدوره منهم لعلوّ مقامهم و سمو منزلتهم،مثل قوله عليه السّلام:
«فاتقوا اللّه و لا تقبلوا علينا...».
حتى يشتبه بالصدق و يمكن تصديقه و يقبله الغافل،بناء على ما ذكره قدّس سرّه من عدم تصديق المخالف للقرآن في حقهم عليهم السّلام فلا يتحقق فيه غرض الكاذب، و قد عرفت الكلام فيه.
ص: 330
عنهم ،و أنه إن وجد له قرينة و شاهد معتمد فهو،و إلا فليتوقف فيه، لعدم إفادته العلم بنفسه،و عدم اعتضاده بقرينة معتبرة.
ثم إن عدم ذكر الإجماع و دليل العقل من جملة قرائن الخبر في هذه الروايات كما فعله الشيخ في العدة لأن مرجعهما إلى الكتاب و السنة، كما يظهر بالتأمل .
كأن هذا تعريض بدعوى أن المراد من عرض الأخبار على الكتاب و السنة تمييز الأخبار الصادقة من المكذوبة بذلك،فما وافقهما فهو صادق قطعا ما خالفهما فهو كاذب قطعا،و حينئذ لا بد أن يراد بالمخالفة المخالفة بالتباين،لا مجرد المخالفة للظاهر و لو مع امكان الجمع-كالعام و الخاص-لوضوح امكان صدور المخالف منهم عليهم السّلام لظاهر الكتاب و السنة فلا يعلم بكذبه.
و حاصل الدفع:انه بعد أن سبق أن المراد بالمخالفة هي المخالفة للظاهر لا بنحو التباين،لعدم تحقق غرض الكاذب بذلك،فلا بد أن يكون الغرض من العرض على الكتاب و السنة إرادة التوقف في المخالف لاحتمال كذبه و عدم صدوره،لا أنه كاذب يقينا،لتكون المخالفة علامة على الكذب و يتحقق تمييز الصادقة من المكذوبة بذلك.
و تقدم عن المفيد قدّس سرّه أيضا.
لعله من جهة ان العقل لا يستقل بادراك ملاكات الأحكام الشرعية و انما يستقل في باب الملازمات-كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته،أو حرمة ضده-و هي متوقفة على دلالة الدليل الشرعي على الملزوم،فحكم العقل فرع الدليل الشرعي المذكور،فالموافقة للحكم العقلي المذكور موافقة للدليل الشرعي، و المخالفة له مخالفة له.
و اما الإجماع فلأنه ليس حجة بنفسه،بل بلحاظ كشفه عن رأي المعصوم عليه السّلام الراجع إلى السنة القطعية.فتأمل.
ص: 331
و يشير إلى ما ذكرنا من أن المقصود من عرض الخبر على الكتاب و السنة هو في غير معلوم الصدور :تعليل العرض في بعض الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الإمامية.
فقد ادعاه السيد المرتضى قدّس سرّه في مواضع من كلامه،و جعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة.
و قد اعترف بذلك الشيخ على ما يأتي في كلامه،إلا أنه أول معقد الإجماع بإرادة الأخبار التي يرويها المخالفون.
و هو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان،قال:(لا يجوز العمل بالظن عند الإمامية إلا في شهادة العدلين و قيم المتلفات و اروش يعني:من أجل تمييز الحجة عن غيره،لا من أجل تمييز الصادر عن غيره.
فاعل لقوله:«و يشير...»و وجه استفادة ذلك منه:ان وجود الخبر المكذوب لا يوجب العلم بكذب الخبر الخاص،لاحتمال عدم انطباقه عليه،بل غاية ما يوجب احتمال كذبه.لكن قد يكون المراد من ذلك بيان وجود الأخبار المكذوبة، من أجل المصحح للتمييز و التوقف عن الخبر بدونه،فهو غير مسوق مساق التعليل، بل لبيان واقع مغفول عنه.
و الذي تحصل:أن ما ذكر في وجه حمل المخالفة على المخالفة للظاهر مع إمكان الجمع،غير تام،بل لا مانع من حمل المخالفة على المخالفة بنحو التباين الكلي،و سيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
في الاستدلال على حجية الخبر بالإجماع.
ص: 332
الجنايات) انتهى.
و الجواب:أما عن الآيات،فبأنها بعد تسليم دلالتها عمومات فإن المرجع فيها إلى المقومين و قد لا يحصل من قولهم إلاّ الظن.
استشكل فيها المحقق الخراساني قدّس سرّه بان الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقها هو اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية،لا ما يعم الفروع الشرعية.
و فيه:أنه تحكم لا وجه له.و مجرد كون مورد بعضها ذلك لا يقتضي الاختصاص به،خصوصا مع ظهور أنها تشير إلى أمر ارتكازي لا يفرق فيه بين الفروع و الأصول.
نعم ما تضمن النهي عن اتباع الظن لا ظهور له في المنع من العمل بالخبر، إذ العمل به ليس لكونه مفيدا للظن،بل لخصوصية فيه و منه يظهر الحال في اكثر الطرق،فانها و ان كانت قد توجب الظن إلاّ أن العمل بها ليس من أجل ذلك بل لخصوصية فيها خارجة عنه فلا تنهض الآيات بالنهي عنه.مع أنها حيث وردت في مقام مسوقة لبيان أمر ارتكازي الذم و التبكيت للكفار على اتباعهم للظن،فالمناسب سوقها للاشارة إلى أمر ارتكازي عرفي لا تعبدي تأسيسي للشارع الأقدس،و حينئذ تقصر عن مثل الخبر مما كان العمل به ارتكازيا غير مستنكر عند العقلاء،و تختص بالطرق الظنية التي لا يرى العقلاء بما هم عقلاء العمل بها،كتقليد الآباء و الرؤيا و التخمينات و الاستبعادات و الاستحسانات و نحوها.
و كذا الحال فيما دل على استنكار القول بغير سلطان أو برهان أو حجة،فإنه لا ينهض ببيان ما ليس بحجة.
فالعمدة في المقام:ما دل على النهي عن العمل بغير العلم.و أوضح الآيات في ذلك فيما أعلم قوله تعالى: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً فإن إطلاقه محكم يقتضي عدم حجية خبر الواحد.و لا ظهور له في الاشارة إلى أمر ارتكازي و إن كان احتمال ذلك قريبا في-
ص: 333
مخصصة بما سيجيء من الأدلة.
و أما عن الأخبار:
فعن الرواية الأولى،فبأنها خبر واحد لا يجوز الاستدلال بها على -نفسه،لعدم وروده مورد التبكيت و الالزام لغير المسلمين،ليتعين انصراف إطلاقه عن مثل الخبر،نظير ما سبق،بل إطلاقه محكم.
و من ثم قال في مجمع البيان:«و قد استدل جماعة من أصحابنا بهذا على أن العمل بالقياس و بخبر الواحد غير جائز،لانهما لا يوجبان العلم...».
اللهم إلا أن يقال:التعليل بقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ... قد يوجب ظهور الصدر في وروده في مقام النهي الارشادي عن العمل بغير العلم بعد الفراغ عن عدم حجيته و ليس في مقام بيان عدم حجية غير العلم شرعا،ليتمسك بإطلاقه في مورد الشك فلا ظهور له في عدم حجية الخبر و نحوه.خصوصا مع قيام السيرة العقلائية على حجيته فتأمل جيدا.و قد أشرنا إلى بعض ما ذكرنا في مبحث حجية الظواهر،و ما ذكرناه هنا جار هناك فانهما من باب واحد.
و أما التعليل في آية النبأ فيتضح حاله عند الكلام في الاستدلال بها على حجية الخبر.
لكن لا يبعد إباء بعضها عن التخصيص.
نعم هو مختص بما كان منها مسوقا لبيان امر ارتكازي،و هو قاصر عن شمول خبر الثقة،كما عرفت.و لا أقل من كون أدلة الحجية حاكمة على العموم المذكور إذا امتنع كونها مخصصة له.
و أما آية: وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... فهي لو تمت دلالتها غير آبية عن التخصيص،بل تكون مخصصة بأدلة حجية الخبر أو محكومة لها.
كأنه إشارة إلى أنه يلزم من حجيتها عدمها،لأنها خبر واحد أيضا،فلا بد من الالتزام بعدم حجيتها،لئلا يلزم المحال.و ربما يأتي الكلام في نظير ذلك عند-
ص: 334
المنع عن الخبر الواحد.
و أما أخبار العرض على الكتاب،فهي و إن كانت متواترة بالمعنى إلا أنها بين طائفتين:
إحداهما:ما دل على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب.
و الثانية:ما دل على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب.
أما الطائفة الأولى،فلا تدل على المنع عن الخبر الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب و السنة.
فإن قلت:ما من واقعة إلا و يمكن استفادة حكمها من عمومات -الاستدلال على الحجية بآية النبأ،و يأتي ما له دخل في المقام.
و ربما يقال:انه ان فرض عدم قيام الأدلة القطعية على حجية الخبر فاللازم الرجوع فيه إلى أصالة عدم الحجية،و لا حاجة إلى الاستدلال بالرواية المذكورة، و إن فرض قيام الأدلة القطعية على حجيته-كما سيأتي-لم تنهض الرواية المذكورة بمعارضتها،لأنها ظنية السند و الدلالة و على كلا الحالين لا أثر للرواية المذكورة.فتأمل.
هذا مع أنها واردة في فرض تعارض الأخبار فلا تدل على عدم حجية غير المعلوم مع عدم المعارض.و منه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بها لو فرض تواتر مضمونها اجمالا،كما قد يوجد في بعض كلماتهم.
و دعوى:أنها ظاهرة في تمييز الحجة عن اللاحجة،لا ترجيح إحدى الحجتين عن الاخرى،فهي ظاهرة في عدم حجية غير المعلوم ذاتا لا من جهة المعارض.لا شاهد لها،بل لعل ظاهر السؤال المفروغية عن الحجية ذاتا و أن التوقف إنما هو من جهة الاختلاف و التعارض.
لعل الأولى دعوى تواترها إجمالا لاختلاف مضامينها.
ص: 335
الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنة القطعية،مثل قوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، و قوله تعالى: إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ... الخ، فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً، و يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، و نحو ذلك،فالأخبار المخصصة لها كلها و لكثير من عمومات السنة القطعية مخالفة للكتاب و السنة.
قلت:
أولا:إنه لا يعد مخالفة ظاهر العموم خصوصا مثل هذه العمومات، مخالفة ،و إلا لعدت الأخبار الصادرة يقينا عن الأئمة عليهم السّلام المخالفة لعمومات الكتاب و السنة النبوية،مخالفة للكتاب و السنة،غاية الأمر ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فتخرج عن عموم أخبار العرض،مع أن الناظر في أخبار العرض على الكتاب و السنة يقطع بأنها تأبى عن التخصيص .
لا يخفى أن العمومات المذكورة و نحوها لا تفي بالفروع الفقهية،فلا وجه معه لدعوى أن جميع الأخبار مخالفة للكتاب.
نعم لا بأس بدعوى أن كثيرا من الأخبار الذي بناء الاصحاب على العمل بها في الجملة و يعلم بصدور بعضها عنهم عليهم السّلام مخالفة للكتاب بالمعنى المذكور.
هذا راجع إلى دعوى أن المراد من المخالفة المخالفة بنحو التباين،فيبتني على ما سبق الكلام فيه منا عند الكلام في الاستدلال.
لظهور بعضها في التبري من الأخبار المخالفة و أنها مما لا ينبغي صدوره منهم عليهم السّلام،فلا بد أن يحمل على أن المراد بالمخالفة المخالفة التي لا ينبغي صدورها منهم،و لا يعم المخالفة بالنحو المتقدم كما أشرنا إلى نظيره آنفا.
ص: 336
و كيف يرتكب التخصيص في قوله عليه السّلام :«كل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»،و قوله:«ما أتاكم من حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو باطل»،و قوله عليه السّلام:«لا تقبلوا علينا خلاف القرآن،فإنا إن حدثنا حدثنا بموافقة القرآن و موافقة السنة»،و قد صح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:
«ما خالف كتاب اللّه فليس من حديثي،أو لم أقله»،مع أن أكثر عمومات الكتاب قد خصص بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم .
و مما يدل على أن المخالفة لتلك العمومات لا يعد مخالفة:ما دل من الأخبار على بيان حكم ما لا يوجد حكمه في الكتاب و السنة النبوية،إذ بناء على تلك العمومات لا يوجد واقعة لا يوجد حكمها فيهما .
فمن تلك الأخبار:ما عن البصائر و الاحتجاج و غيرهما مرسلا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أنه قال:
«ما وجدتم في كتاب اللّه فالعمل به لازم و لا عذر لكم في تركه،و ما لا يخفى أن بعض هذه الروايات و إن تضمن بطلان ما لم يوافق الكتاب أو السنة،إلاّ أنه يدل على بطلان ما خالف بالأولوية القطعية.
يعني:فلا بد أن تحمل المخالفة في الحديث السابق على المخالفة بنحو التباين لا بنحو العموم و الخصوص و نحوها.
عرفت أنه لا مجال لدعوى نهوض العمومات الكتابية بجميع الفروع الفقهية و انه لا إشكال في قصورها عن بعضها.ثم ان الأخبار المذكورة و إن نهضت ببيان ان بعض الوقائع لا يوجد حكمها في الكتاب و السنة،إلا أنها تدل على عدم كون المخالفة بالعموم و الخصوص مخالفة،كما يظهر بادنى تأمل.
فاستشهاد المصنف قدّس سرّه بهذه النصوص في غير محله.
ص: 337
لم يكن في كتاب اللّه تعالى و كانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، و ما لم يكن فيه سنة مني،فما قال أصحابي فقولوا به،فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم،بأيها اخذ اهتدي،و بأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، و اختلاف أصحابي رحمة لكم،قيل:يا رسول اللّه،و من أصحابك؟قال:
أهل بيتي...الخبر».
فإنه صريح في أنه قد يرد من الأئمة عليهم السّلام ما لا يوجد في الكتاب و السنة.
و منها:ما ورد في تعارض الروايتين:من رد ما لا يوجد في الكتاب و السنة إلى الأئمة عليهم السّلام.
مثل:ما رواه في العيون عن ابن الوليد،عن سعد بن عبد اللّه،عن محمد بن عبد اللّه المسمعي،عن الميثمي،و فيها:
«فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب اللّه»إلى أن قال:«و ما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» إلى أن قال:«و ما لم تجدوه في شيء من هذه فردوا إلينا علمه،فنحن أولى بذلك...الخبر».
و الحاصل:أن القرائن الدالة على أن المراد بمخالفة الكتاب ليس مجرد مخالفة عمومه أو إطلاقه كثيرة،تظهر لمن له أدنى تتبع.
و من هنا يظهر:ضعف التأمل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد لتلك الأخبار،بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدة.
متعلق بقوله:«التأمل في...»ثم إن الوجه في ضعف التأمل المذكور هو-
ص: 338
أو لما ذكره المحقق:من أن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد الإجماع على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة،و مع الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به.
و ثانيا:إنا نتكلم في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن و السنة، ككثير من أحكام المعاملات بل العبادات التي لم ترد فيها إلا آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب،إذ لو سلمنا أن تخصيص العموم يعد مخالفة،أما تقييد المطلق فلا يعد في العرف مخالفة ،بل هو مفسر،خصوصا على المختار:من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد .
فإن قلت:فعلى أي شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح مخالف الكتاب؟فإن حملها على طرح ما يباين الكتاب كلية حمل على فرد نادر بل معدوم ،فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمام الذي عرفته في الأخبار.
-أن المخصص لا يعد مخالفا للعام بالنحو الذي أريد من المخالفة في تلك الأخبار.
لا يخفى أن الوجه السابق لا ينهض بدفع هذا الوجه.فالعمدة في دفعه عدم انحصار الدليل على حجية خبر الواحد بالإجماع المذكور،بل بعض أدلته يعم الخبر المخصص للكتاب.
لم يظهر الفرق بين تخصيص العام و تقييد المطلق بعد مخالفة كليهما للظاهر المستفاد من الإطلاق و العموم.
عدم كونه مجازا لا أثر له بعد مخالفته للظاهر.
هذا مبني على ما سبق من أن المخالف للكتاب و السنة بنحو التباين لا يصدر من الكذابين،و قد عرفت الكلام فيه.
ص: 339
قلت:هذه الأخبار على قسمين:
منها:ما يدل على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب و السنة عنهم عليهم السّلام،و أن المخالف لهما باطل،و أنه ليس بحديثهم.
و منها:ما يدل على عدم جواز تصديق الخبر المحكي عنهم عليهم السّلام إذا خالف الكتاب و السنة.
أما الطائفة الأولى فالأقرب حملها على الأخبار الواردة في أصول الدين،مثل مسائل الغلو و الجبر و التفويض التي ورد فيها الآيات و الأخبار النبوية،و هذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع،لأنها اخذت عن الأصول بعد تهذيبها من تلك الأخبار.
و أما الثانية فيمكن حملها على ما ذكر في الأولى.و يمكن حملها على صورة تعارض الخبرين،كما يشهد به مورد بعضها.و يمكن حملها على خبر غير الثقة،لما سيجيء من الأدلة على اعتبار خبر الثقة .
هذا كله في الطائفة الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب و السنة.
و أما الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق الكتاب أو لم يوجد عليه شاهد من الكتاب و السنة:
الضمير يرجع إلى:«كتبنا الجوامع».
لكن الحمل بلا شاهد في كلتا الطائفتين.و الأولى حملها على الأخبار المخالفة للكتاب بالتباين،حيث لا محذور في الحمل المذكور،بل في النصوص ما يشهد به كما سبق.
ص: 340
فالجواب عنها بعد ما عرفت من القطع بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم السّلام،كما دل عليه روايتا الاحتجاج و العيون المتقدمتان المعتضدتان بغيرهما من الأخبار:
أنها محمولة على ما تقدم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب و السنة .
و أن ما دل منها على بطلان ما لم يوافق و كونه زخرفا محمول على الأخبار الواردة في أصول الدين،مع احتمال كون ذلك من أخبارهم الموافقة للكتاب و السنة على الباطن الذي يعلمونه منهما،و لهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها.
و ما دل على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهد من هذا لا يحتاج إلى الاستدلال بالأخبار،لما هو المعلوم من أن ما يفهم من الكتاب لا يفي بمعظم الفقه فضلا عن جميع فروعه،و أنه لا بد من صدور ما زاد عليه إلى الائمة عليهم السّلام و أن بهم كمال الدين و تمام النعمة.
يعني:من الحمل على أصول الدين أو صورة التعارض أو خبر الثقة.
مع أنه لا يبعد حمل(عدم الموافقة)على المخالفة،للتعبير عنها بذلك عرفا،فيلحقه ما سبق من الجواب.
العطف للتفسير و بيان كيفية الحمل على ما تقدم في الطائفة السابقة.
يعني:ما لا يوافق الكتاب لعدم وجود حكمه في الكتاب بنظرنا.ثم إن هذا الاحتمال و إن كان قويا جدا،إلا أنه يشكل حمل الروايات السابقة عليه،لعدم ورودها مورد الاعلام و الأخبار المحض،بل يظهر منها بيان قضية عملية،فلا بد أن يكون موضوعها مما يتيسر للمخاطب الاطلاع عليه حتى يترتب عليه العمل.
ص: 341
كتاب اللّه ،على خبر غير الثقة أو صورة التعارض،كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجية.
ثم إن الأخبار المذكورة على فرض تسليم دلالتها و إن كانت كثيرة، إلا أنها لا تقاوم الأدلة الآتية،فإنها موجبة للقطع بحجية خبر الثقة،فلا بد من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار.
و أما الجواب عن الإجماع الذي ادعاه السيد و الطبرسي قدّس سرّهما:
فبأنه لم يتحقق لنا هذا الإجماع،و الاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد ،مع معارضته بما سيجيء:من دعوى الشيخ المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الإجماع على حجية خبر الواحد في الجملة،و تحقق الشهرة على خلافهما بين القدماء و المتأخرين .
و أما نسبة بعض العامة كالحاجبي و العضدي عدم الحجية إلى يعني:محمول على...و هو خبر لقوله:«و ما دل...».
هذا خلاف ظاهر بعض النصوص المتقدمة،كرواية ابن أبي يعفور، حيث تعرض السائل فيها لخبر الثقة،و أهمله الامام عليه السّلام و جعل المعيار في القبول وجود الشاهد من الكتاب.
نعم الخبر المذكور و نحوه ليس متواترا،فلا مجال للخروج به عما يأتي مما يدل على حجية خبر الثقة.
يعني:و المفروض الكلام في حجيته.و قد تقدم نظير هذا في الجواب عن الرواية الأولى.هذا مع أن في الاعتماد على الإجماع المذكور هنا ما عرفت من الإشكال في الإجماع المنقول في جميع الموارد.
فإن هذا مما يوهن الإجماع على عدم حجية الخبر.
ص: 342
الرافضة،فمستندة إلى ما رأوا من السيد:من دعوى الإجماع بل ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة.
أما الكتاب،فقد ذكروا منه آيات ادعوا دلالتها:
منها:قوله تعالى في سورة الحجرات:
يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ.
و المحكي في وجه الاستدلال بها وجهان:
أحدهما:أنه سبحانه علق وجوب التثبت على مجيء الفاسق،فينتفي عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط و إذا لم يجب التثبت عند مجيء غير الفاسق، فإما أن يجب القبول و هو المطلوب،أو الرد و هو باطل،لأنه يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق،و فساده بين.
الثاني:أنه تعالى أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق،و قد اجتمع فيه وصفان،ذاتي و هو كونه خبر واحد،و عرضي و هو كونه خبر فاسق، و مقتضى التثبت هو الثاني،للمناسبة و الاقتران ،فإن الفسق يناسب عدم القبول،فلا يصلح الأول للعلية،و إلا لوجب الاستناد إليه،إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي،لحصوله قبل حصول العرضي،فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضي،و إذا كأن المراد من الاقتران ذكر الفاسق مع النبأ الذي لا ينبغي ذكره لو لم يكن هو العلة في وجوب التثبت،لما يأتي في قوله:«و إلا لوجب الاستناد إليه...».
ص: 343
لم يجب التثبت عند إخبار العدل،فإما أن يجب القبول،و هو المطلوب،أو الرد،فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق،و هو محال.
أقول:الظاهر أن أخذهم للمقدمة الأخيرة و هي أنه إذا لم يجب التثبت وجب القبول،لأن الرد مستلزم لكون العادل أسوأ حالا من الفاسق مبني على ما يتراءى من ظهور الأمر بالتبين في الوجوب النفسي،فيكون هنا امور ثلاثة،الفحص عن الصدق و الكذب،و الرد من دون تبين،و القبول كذلك.
لكنك خبير:بأن الأمر بالتبين هنا مسوق لبيان الوجوب الشرطي، و أن التبين شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل،فالعمل بخبر خبر(أن)في قوله:«الظاهر أن أخذهم...».
و عليه فيكون العمل مفروضا في المنطوق،فيكون كذلك في المفهوم، و لا يبقى هناك احتمال الرد و عدم العمل كلية،حتى يحتاج إلى دفعه بضميمة المقدمة الخارجية.
لكن لا يخفى أنه لا معنى لاشتراط العمل بخبر الفاسق بالتبين عنه،لعدم كونه من مقدماته لا تكوينا و لا شرعا حتى يكون وجوبه شرطيا مقدميا تبعا لوجوب ذي المقدمة،و هو العمل،كيف و قد لا يكون العمل واجبا،كما في الأحكام غير الالزامية،فلا معنى لوجوب مقدمته.فالأولى أن يقال:إن وجوب التبين طريقي كناية عن عدم كون الخبر مصححا للعمل و عذرا،لعدم حجيته،و حينئذ يكون عدم وجوب التبين في خبر العادل-المستفاد من المفهوم-راجعا إلى حجيته، فيتم المطلوب بلا حاجة إلى ضم المقدمة الخارجية المذكورة.
و لعل ذلك هو مراد المصنف قدّس سرّه و إن قصرت عنه عبارته.
إن قلت:عدم وجوب التبين كما يمكن أن يكون كناية عن حجية الخبر كذلك-
ص: 344
العادل غير مشروط بالتبين،فيتم المطلوب من دون ضم مقدمة خارجية، و هي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق.
و الدليل على كون الأمر بالتبين للوجوب الشرطي لا النفسي مضافا إلى أنه المتبادر عرفا في أمثال المقام ،و إلى أن الإجماع قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسي للتبين في خبر الفاسق،و إنما أوجبه من أوجبه عند إرادة العمل به،لا مطلقا هو:
أن التعليل في الآية بقوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا... الخ لا يصلح أن يكون تعليلا للوجوب النفسي،لأن حاصله يرجع إلى أنه:لئلا تصيبوا قوما بجهالة بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد -يمكن أن يكون كناية عن عدم الاعتداد به للبناء على كذبه بلا حاجة إلى فحص،فلا تثبت حجية خبر العادل بعدم وجوب التبين إلاّ بضم المقدمة المذكورة،و هي أنه لا يكون أسوأ حالا من خبر الفاسق.
قلت:المنصرف من الآية،و لا سيما بملاحظة ذيلها-الذي سيشير إليه المصنف قدّس سرّه-كون ترتب العمل على الخبر مفروغا عنه،و أنه في الفاسق مشروط بالتبين،و في العادل غير مشروط به،فيكون عدم وجوب التبين فيه كناية عن حجية.
و كأن هذا هو مراد المصنف قدّس سرّه في المقام.فلاحظ.
الذي هو مقتضى الجمود على ظاهر الأمر.
لأن من شأن الخبر هو العمل به و الجري على مقتضاه.
و لذا لا إشكال في عدم وجوبه فيما لو لم يكن المخبر به موردا للعمل في حق السامع.
ص: 345
تبين الخلاف،و من المعلوم أن هذا لا يصلح إلا علة لحرمة العمل بدون التبين ،فهذا هو المعلول،و مفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبين .
مع أن في الأولوية المذكورة في كلام الجماعة بناء على كون وجوب التبين نفسيا،ما لا يخفى،لأن الآية على هذا ساكتة عن حكم العمل بخبر الواحد قبل التبين أو بعده فيجوز اشتراك الفاسق و العادل في عدم جواز العمل قبل التبين،كما أنهما يشتركان قطعا في جواز العمل بعد التبين و العلم بالصدق ،لأن العمل حينئذ بمقتضى التبين لا باعتبار الخبر.
فاختصاص الفاسق بوجوب التعرض لخبره و التفتيش عنه دون العادل،لا يستلزم كون العادل أسوأ حالا،بل مستلزم لمزية كاملة للعادل على الفاسق ،فتأمل .
أما وجوب التبين مع قطع النظر عن العمل فهو أمر آخر لا يصلح ذلك تعليلا له.
و هو راجع إلى حجيته من دون ضم المقدمة المذكورة.
و في عدم جواز العمل بعد التبين و العلم بالكذب.
تعليل لقوله:«كما أنهما يشتركان...».
كأنه من جهة أن خبر العادل لا يكون موجبا لتكليف السامع و التضييق عليه،لعدم وجوب الفحص عنه،بخلاف خبر الفاسق.
قال بعض أعاظم المحشين قدّس سرّه:«اللهم إلا أن يقال:إن التبين في الخبر نوع من الاعتناء بشأن الخبر،فلا يصلح أن يكون فارقا.و إليه أشار بقوله:«فتأمل»على ما أفاده في مجلس الدرس...و إن لم يخل عن مناقشة».
ص: 346
و كيف كان:فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف و عشرين،إلا أن كثيرا منها قابلة للدفع،فلنذكر أولا ما لا يمكن الذب عنه،ثم نتبعه بذكر بعض ما اورد من الإيرادات القابلة للدفع.
أما ما لا يمكن الذب عنه فإيرادان:
أحدهما:أن الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار مفهوم الوصف أعني:الفسق،ففيه:أن المحقق في محله عدم اعتبار المفهوم في الوصف ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقق كما فيما نحن فيه، فإنه أشبه بمفهوم اللقب .
-و لعل وجه المناقشة:أن الاعتناء بشأن المخبر إنما يكون بقبول خبره،لا بمجرد الفحص عنه من دون أن يكون دخيلا في قبوله،بل هو ضيق محض و تكليف صرف، لا يكون عدم وجوبه في خبر العادل مستلزما لمنقصة فيه بالإضافة إلى خبر الفاسق.
نعم الظاهر أنه لا يوجب مزيته عليه أيضا خلافا لما ذكره أولا.
كما هو الظاهر من الوجه الثاني للاستدلال،لما هو المعلوم من أن الآية الكريمة لا تصريح فيها بتعليل عدم قبول خبر الفاسق بانه خبر فاسق،و استفادة التعليل منها ناش من ذكر الفاسق في الموضوع،و دلالته على العلية مبنية على مفهوم الوصف.
نعم هو لا يخلو عن إشعار بالحصر،خصوصا مع مناسبة القيد المذكور له عرفا،و إلا كان ذكره بلا فائدة.
و لعله عليه يبتني الوجه الثاني للاستدلال.اللهم إلا أن يكون ذكره لمزيد الاستنكار و شدة التشنيع،بلحاظ كونه مورد نزول الآية،و ورودها مورد الردع عن ذلك،على ما سيأتي.
الذي لا ينبغي الإشكال في عدم حجيته.
ص: 347
و لعل هذا مراد من أجاب عن الآية كالسيدين و أمين الإسلام و المحقق و العلامة و غيرهم:بأن هذا الاستدلال مبني على دليل الخطاب، و لا نقول به.
و إن كان باعتبار مفهوم الشرط ،كما يظهر من المعالم و المحكي عن جماعة،ففيه:
أن مفهوم الشرط عدم مجيء الفاسق بالنبإ،و عدم التبين هنا لأجل عدم ما يتبين ،فالجملة الشرطية هنا مسوقة لبيان تحقق الموضوع، لكن المحكي عن السيدين قدّس سرّهما عدم حجية مفهوم الشرط أيضا،فلا موجب لحمل كلامهما على النظر لمفهوم الوصف فقط.
كما هو مقتضى الوجه الأول للاستدلال.و هو معطوف على الشرط في قوله:«أن الاستدلال إن كان راجعا إلى اعتبار مفهوم الوصف...».
إذ المراد بالتبين في الآية ليس هو التبين عن مطلق الخبر،حتى يكون له موضوع مع مجيء العادل به،فيدل على حجية خبر العادل،بل هو خصوص التبين عن خبر الفاسق،و من الواضح ارتفاعه بارتفاع الشرط،و خبر العادل موضوع آخر لا تعرض لحكمه.
نعم لو كانت العبارة هكذا:النبأ إن جاء الفاسق به وجب التبين عنه،كان له المفهوم المذكور،لبقاء الموضوع مع ارتفاع الشرط،فإناطة حكمه بالشرط ظاهر في ارتفاعه عنه بارتفاعه،كما يظهر بالتأمل في النظائر.
و بعبارة أخرى:مقتضى القضية الشرطية أن ارتفاع الشرط موجب لارتفاع حكم قضية الجزاء عن موضوعها،لا عن كل موضوع،فاذا قيل:اكرم زيدا ان جاءك،كان مقتضى المفهوم عدم وجوب إكرام زيد إن لم يجيء،لا عدم وجوب إكرام غيره،و حينئذ.ان كان موضوع قضية الجزاء ملازما لوجود الشرط،فارتفاع الشرط-
ص: 348
كما في قول القائل :«إن رزقت ولدا فاختنه»،و«إن ركب زيد فخذ ركابه» ،و«إن قدم من السفر فاستقبله»،و«إن تزوجت فلا تضيع حق زوجتك»،و«إذا قرأت الدرس فاحفظه»،قال اللّه سبحانه: وَ إِذٰا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا، و إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
و مما ذكرنا ظهر فساد ما يقال تارة:إن عدم مجيء الفاسق يشمل ما لو جاء العادل بنبإ،فلا يجب تبينه،فيثبت المطلوب.
و أخرى:إن جعل مدلول الآية هو عدم وجوب التبين في خبر الفاسق لأجل عدمه،يوجب حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع، و هو خلاف الظاهر.
وجه الفساد:أن الحكم إذا ثبت لخبر الفاسق بشرط مجيء الفاسق به،كان المفهوم بحسب الدلالة العرفية أو العقلية انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه عند انتفاء الشرط المذكور فيه ، -إنما يقتضي ارتفاع حكم الجزاء لارتفاع موضوعه،لا ارتفاعه عن غير موضوعه.
فإن جميع القضايا الآتية لا مفهوم لها إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.
فإنها تقتضي عدم وجوب الأخذ بركاب زيد عند عدم ركوبه لعدم الموضوع،لا عدم وجوب الأخذ بركاب غير زيد عند عدم ركوب زيد،و كذا الحال في بقية الامثلة.
كأنه إشارة إلى الكلام في منشأ دلالة القضية الشرطية على المفهوم و في بعض النسخ العطف بالواو بدل(أو).
لما ذكرنا من أن مفاد القضية الشرطية كون انتفاء الشرط موجبا لانتفاء-
ص: 349
ففرض مجيء العادل بنبإ عند عدم الشرط و هو مجيء الفاسق بالنبإ لا يوجب انتفاء التبين عن خبر العادل الذي جاء به،لأنه لم يكن مثبتا في المنطوق حتى ينتفي في المفهوم،فالمفهوم في الآية و أمثالها ليس قابلا لغير السالبة بانتفاء الموضوع،و ليس هنا قضية لفظية سالبة دار الأمر بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أو لانتفاء الموضوع .
الثاني:ما أورده في محكي العدة و الذريعة و الغنية و مجمع البيان و المعارج و غيرها:من أنا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم،لكن نقول:إن مقتضى عموم التعليل وجوب -حكم قضية الجزاء عن موضوعها لا عن غيره.
لاختصاص المنطوق بخبر الفاسق،لان المراد من التبين هو التبين عنه لا عن مطلق الخبر،كما ذكرنا.و كأن هذا دفع للوجه الأول من وجهي الإشكال المتقدم.
كي يرجح الأول لأنه الاظهر.و كأن هذا دفع للوجه الثاني من وجهي الإشكال المتقدم.
أشرنا إلى بعض كلامه في استدلال المانعين بالكتاب.و الظاهر أنه تبع فيه الشيخ قدّس سرّه في التبيان.فراجع.
و هو قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ بناء على سوقه مساق التعليل،و أن المراد:لئلا تصيبوا...أو خشية أن تصيبوا...أو نحوه مما يرجع إلى التحذير من الاصابة بجهالة.
و لعله ظاهر المفسرين.لكن ذكر بعض المعاصرين قدّس سرّه في كتاب أصول الفقه أنه في محل المفعول لتبينوا بعد تضمينه معنى الحذر،فالمعنى:فتبينوا و احذروا أن تصيبوا قوما بجهالة.و عليه لا يكون تعليلا للحكم،و لا وجه لتوهم دلالته على-
ص: 350
التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به و إن كان المخبر عادلا،فيعارض المفهوم،و الترجيح مع ظهور التعليل.
لا يقال:إن النسبة بينهما و إن كان عموما من وجه ،فيتعارضان في مادة الاجتماع و هي خبر العادل الغير المفيد للعلم،لكن يجب تقديم عموم المفهوم و إدخال مادة الاجتماع فيه،إذ لو خرج عنه و انحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم لكان لغوا،لأن خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل،بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق و المفهوم معا ،فيكون المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل.
لأنا نقول:ما ذكره أخيرا من أن المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل مسلم،إلا أنا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في -العموم حينئذ،فإن وجوب الحذر من العمل مع الجهل في خبر الفاسق لا يقتضي ذلك في خبر العادل،كما لعله ظاهر.لكن لا يبعد كون المعنى الأول هو الاظهر.
و الاشيع استعمالا في مثل هذا التركيب من الكتاب المجيد.
فيدل المفهوم على حجية خبر العادل مطلقا،و التعليل على عدم حجية غير العلم مطلقا.
و هي خبر العادل الذي لا يوجب العلم،فالمفهوم يقتضي حجيته، و التعليل يقتضي عدمها.
يعني:مورد المفهوم.
لقصور أدلة اثبات الحجية و نفيها عن صورة العلم بالواقع،لكون العلم حجة ذاتية.
يعني:أن ما ذكر إنما يتم لو فرض انعقاد الظهور في المفهوم،و الظهور-
ص: 351
عدم جواز العمل بخبر العادل الغير العلمي و ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم،فطرح المفهوم و الحكم بخلو الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل.
و إليه أشار في محكي العدة بقوله:لا يمنع ترك دليل الخطاب لدليل، و التعليل دليل .
-في عموم التعليل،حيث يكون مقتضى الجمع بين الظهورين تخصيص الثاني بالأول، و ليس المقام كذلك،لأن المفهوم و التعليل كلام واحد،فالمدعي كون التعليل مانعا من انعقاد الظهور في المفهوم،فلا مفهوم للقضية حتى يخصص التعليل.
لكنه خلاف الظاهر جدا لو فرض تمامية المفهوم،بل حتى لو لم يتم بناء على ما ذكرنا من أن ذكر الفسق لا بد أن يكون لخصوصية ما،فإن المفهوم أو الخصوصية المذكورة تقتضي حمل التعليل على ما يناسبهما من إرادة ما يقبح العمل به و يستهجن لا مطلق الجهل،و إلا كان ذكر الفسق في الحكم المعلل خاليا عن الفائدة.
و إن شئت قلت:لا عموم في التعليل في المقام بنحو يشمل خبر العادل و لو بقرينة ظهور القضية في المفهوم او ظهورها في خصوصية الفسق،بل المراد منه ما يناسب خبر الفاسق من التغرير و التفريط المستهجن عند العقلاء.
و لا سيما بملاحظة قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ فإن الندم إنما يكون بفعل ما لا ينبغي فعله مما يشتمل على التغرير و التفريط،لا مجرد الخطأ الذي قد يكون مع قيام الحجة العقلائية او الشرعية بل مع القطع أيضا.و حينئذ لا موجب لرفع اليد عن المفهوم لو فرض ظهور الكلام فيه.
فلاحظ.
يشكل ظهور كلام العدة هذا فيما ذكره المصنف قدّس سرّه بل لا يبعد ظهوره في لزوم رفع اليد عن المفهوم بعد فرض ظهور الكلام فيه لاجل التعليل،لا أن التعليل مانع من انعقاد الظهور في المفهوم.و حينئذ يرد عليه ما عرفت من أن المفهوم أخص-
ص: 352
و ليس في ذلك منافاة لما هو الحق و عليه الأكثر:من جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة،لاختصاص ذلك أولا بالمخصص المنفصل .
و لو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة و المعلول،فإن الظاهر عند العرف أن المعلول يتبع العلة في العموم و الخصوص .
فالعلة تارة:تخصص مورد المعلول و إن كان عاما بحسب اللفظ،كما في قول القائل:لا تأكل الرمان لأنه حامض،فيخصصه بالأفراد الحامضة، -من التعليل.
يعني:جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة.
يعني:أما المتصل بالعموم فقد يكون العموم مانعا من ظهور القضية في المفهوم،فلا مفهوم حينئذ حتى يصلح لتخصيص العام.لكن الظاهر أن ظهور الخاص المتصل و لو كان مفهوما أقوى من ظهور العام،فيمنع من ظهور العام في العموم،لا أن العام يكون مانعا من ظهور القضية في المفهوم.
هذا و إن كان مسلما إلاّ انه مختص بما إذا كان ظهور التعليل أقوى من ظهور العام أو الخاص كما في المثالين الآتيين،و إلاّ كان اللازم إجمال التعليل،أو حمله على ما يوافق العموم أو الخصوص،كما في المقام.
و نظيره المثال الثاني الذي ذكره،فإنه لا مجال لدعوى أن مقتضى عموم التعليل فيه عدم جواز استعمال الدواء الذي يصفه الطبيب العارف،لأنه غير مأمون الضرر، لإمكان الخطأ في حقه،و ذلك لأن ظهور الكلام في كون ذكر النسوان لخصوصية ارتكازية يقتضى حمل التعليل على خصوص ما لا ينبغي العمل عليه عند العقلاء، لا مطلق عدم الأمن الحقيقي الراجع إلى اعتبار العلم،لعدم مناسبته لذكر النسوان جدا.و هو نظير المقام،كما لا يخفى.
ص: 353
فيكون عدم التقييد في الرمان لغلبة الحموضة فيه.
و قد توجب عموم المعلول و إن كان بحسب الدلالة اللفظية خاصا،كما في قول القائل:لا تشرب الأدوية التي يصفها لك النسوان، أو إذا وصفت لك امراة دواء فلا تشربه،لأنك لا تأمن ضرره،فيدل على أن الحكم عام في كل دواء لا يأمن ضرره من أي واصف كان،و يكون تخصيص النسوان بالذكر من بين الجهال لنكتة خاصة أو عامة لاحظها المتكلم.
و ما نحن فيه من هذا القبيل،فلعل النكتة فيه التنبيه على فسق الوليد ،كما نبه عليه في المعارج.
و هذا الإيراد مبنى على أن المراد بالتبين هو التبين العلمي،كما هو مقتضى اشتقاقه.
و يمكن أن يقال:إن المراد منه ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو مقابل الجهالة .و هذا و إن كان يدفع الإيراد المذكور عن المفهوم ،من حيث رجوع الفرق بين الفاسق و العادل في الضمير يرجع إلى:«العلة».
هذه النكتة و إن كانت مهمة،إلا أن ظاهر الكلام يأبى الحمل عليها.
ما يقابل الجهالة هو العلم لا الاطمئنان.نعم لو حملت الجهالة على السفاهة خرج العمل مع الاطمئنان عن الجهالة.
لكنه أمر آخر يأتي الكلام فيه.
هذا موقوف على التصرف في الجهالة في التعليل،و حملها على ما يقابل-
ص: 354
وجوب التبين المذكور إلى أن العادل الواقعي يحصل منه غالبا الاطمئنان المذكور،بخلاف الفاسق،فلهذا وجب فيه تحصيل هذا الاطمئنان من الخارج.لكنك خبير بأن الاستدلال بالمفهوم على حجية الخبر العادل المفيد للاطمينان غير محتاج إليه،إذ المنطوق على هذا التقرير يدل على حجية كل ما يفيد الاطمئنان ،كما لا يخفى،فيثبت اعتبار مرتبة خاصة من مطلق الظن.
ثم إن المحكي عن بعض منع دلالة التعليل على عدم جواز الإقدام على ما هو مخالف للواقع بأن المراد بالجهالة السفاهة و فعل ما لا يجوز فعله لا مقابل العلم،بدليل قوله تعالى فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ -الاطمئنان لا ما يقابل العلم،لمناسبته للحكم المعلل،و هو وجوب التبين الاطمئناني، نظير ما سبق منا في توجيه التعليل بما يناسب ذكر الفاسق و لو بقي التعليل على ظاهره من إرادة الجهل-كما ادعاه المصنف قدّس سرّه فيما سبق-فلا ينفع حمل التبين على ما يعم الاطمئنان،بل يلزم العمل بعموم التعليل كما سبق منه.
هذا لا مجال لاستفادته بالدلالة المطابقية،إذ مفاد المنطوق-حينئذ-عدم حجية خبر الفاسق إلا بعد التبين الاطمئناني عنه،فلو فرض عدم المفهوم لا مجال لمعرفة حكم خبر العادل.اللهم إلاّ أن يستفاد بتنقيح المناط.فتأمل.
لعل الأولى أن يقول:على ما هو محتمل المخالفة للواقع...
بيان لوجه المنع من دلالة التعليل على ما ذكره المصنف قدّس سرّه.
لما أشرنا إليه قريبا من أن الندم إنما يكون بفعل ما لا ينبغي فعله.ثم إن الفرق بين هذا و ما ذكرناه سابقا أن ما ذكرنا مبني على ارادة الجهل الذي لا ينبغي العمل معه،بحيث يكون العمل معه سفهيا،و هذا مبني على ارادة السفاهة ابتداء و إن كانا متفقين نتيجة و عملا.
ص: 355
و لو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد على الشهادة و الفتوى .
و فيه-مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة -:أن الاقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعا،إذ العاقل بل جماعة من العقلاء لا يقدمون على الأمور من دون وثوق بخبر المخبر بها ،فالآية تدل على يعني:من الجهالة.
لعدم الأمن معهما من الخطأ.
بناء على وضع مادة الجهل لما يقابل العلم.لكنه غير ظاهر،بل لعله مشترك بين الحمق الراجع إلى السفه المقابل للحلم و الاتزان و الحكمة و ما هو ضد العلم.بل لعله في الأول أكثر استعمالا كما في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهٰالَةٍ و قوله تعالى: مٰا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جٰاهِلُونَ و قوله تعالى:
أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجٰاهِلِينَ و قوله تعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجٰاهِلِينَ و قول الشاعر:«فنجهل فوق جهل الجاهلينا».
بل لعل إطلاق الجهل على ما يقابل العلم لملازمته المعنى المذكور عرفا أو عادة.
فالمعنى المذكور إن لم يكن هو الظاهر فلا اقل من كونه مساويا للمعنى الآخر.و قد يتعين الحمل عليه لمناسبته للحكم المعلل،و لقوله تعالى: فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ.
نعم المناسبة للحكم المعلل و لقوله تعالى: فَتُصْبِحُوا... كما تكون بحمل الجهالة على السفاهة كذلك تكون بحملها على ما يقابل العلم مع تقييده بخصوص ما يكون الإقدام معه سفهيا لا يناسب طريقة العقلاء،كما ذكرنا،و قد عرفت عدم الفرق بينهما نتيجة و عملا.
يعني:فلو حملت الآية على ذلك لزم تخصيص المورد،لعمل الجماعة بخبر الوليد أو محاولتهم العمل به،و فيهم من العقلاء الجمع الغفير.
ص: 356
المنع عن العمل بغير العلم لعلة هى كونه في معرض المخالفة للواقع.
و أما جواز الاعتماد على الفتوى و الشهادة فلا يجوز القياس به،لما تقدّم في توجيه كلام ابن قبة من أن الإقدام على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن لأجل الاضطرار إليه و عدم وجود الأقرب إلى الواقع منه،كما في -لكن سياق الآية ظاهر في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جماعة من المؤمنين أو كلهم كانوا متوقفين عن العمل بقول الوليد،و أن الذين طلبوا العمل به جماعة خاصة أزعجوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خالفوه حتى أيده اللّه تعالى بالوحي فلاحظ قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ... .
و لعله تعريض بالمنافقين و نحوهم من مسلمة الفتح و غيرهم الذين كانوا يتربصون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين الدوائر،فيثيرون مشاكل توجب هياج الرأي العام و رعاع الناس و سفهائهم،كما أوضحه شيخنا الأستاذ دامت بركاته،و أطلنا الكلام فيه في تقرير درسه.و نقل دامت بركاته عن تفسيري الكشاف و الرازي ما يؤيد ذلك كما لا يبعد إشعار بعض الروايات التى ذكرها الطبري في تفسيره بذلك.فراجع و تأمل جيدا.
هذا بناء على ما اشتهر من كون نزول الآية في قصة الوليد،أما بناء على أن نزولها في قصة مارية القبطية،حيث رمتها بعض نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بعض المنافقين بالريبة لدخول بعض الأقباط عليها،و أنه أمر أمير المؤمنين عليه السّلام بقتله في قصة طويلة ذكرها في تفسير على بن ابراهيم و مجمع البيان،فقد يستشهد له بعمل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالخبر،فيلزم أن لا يكون سفهيا.
و فيه:أن المقطوع به كون عمله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاظهار الحق لا لبنائه على ترتيب الأثر عليه،لما هو المعلوم من أهمية الدماء و شدة تورعه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا بد من التزام أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهر العمل ليظهر براءة مارية و خبث من رماها،كما تضمنته رواية علي بن إبراهيم، فلاحظها.
ص: 357
الفتوى ،و قد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع.
فراجع.
فالأولى لمن يريد التفصي عن هذا الإيراد التشبث بما ذكرنا من أن المراد بالتبين تحصيل الاطمئنان،و بالجهالة الشك أو الظن الابتدائي الزائل بعد الدقة و التأمل.فتأمل .
هذا لا ينافي دلالة الآية بعموم التعليل على عدم حجية الفتوى لو فرض إرادة ما يقابل العلم من الجهالة.و بعبارة أخرى:العمدة في الإشكال أن حمل الجهالة على السفاهة يقتضي خروج الفتوى و البينة تخصصا لا تخصيصا عن عموم التعليل، و حملها على ما يقابل العلم يقتضي خروجهما تخصيصا،و هو خلاف الأصل.
فالمتعين الجواب عنه بأنه لا دليل على أولوية التخصص من التخصيص بعد فرض خروج المورد عن حكم العام،و أصالة عدم التخصيص لا تنفع في نفيه و اثبات التخصص حينئذ،و إنما تنفع في إثبات حكم العام لما يعلم بفرديته له لو شك في حكمه و إليه يرجع ما تحقق في محله من عدم جهة العام في عكس نقيضه.
و لا سيما مع ما فرضه المصنف قدّس سرّه من أن حمل الجهالة على السفاهة خلاف الظاهر،فإنه لا مجال لارتكاب ذلك فرارا عن التخصيص في المقام.
اللهم إلاّ أن يقال:التعليل آب عن التخصيص،فإن الوقوع في معرض الندم مما لا ينبغي للعاقل على كل حال و فى كل شىء،و بعد العلم بجواز العمل بالشهادة و الفتوى يلزم حمل التعليل على ما لا يشمل هذه الأمور بحمله على خصوص ما يكون العمل به سفهيا،و حينئذ لا يشمل خبر العادل أيضا كما ذكرنا.فلاحظ.
لعله إشارة إلى أن هذا خلاف ظاهر التبين.
نعم يمكن الحمل عليه بناء على ما روي عن الباقر عليه السّلام من قراءتها(فتثبتوا).
هذا مضافا إلى ما عرفت من عدم اندفاع إشكال التعليل بذلك.
ص: 358
و فيها إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره و إن حصل منه الاطمئنان،لأن الاطمئنان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه و عدم مبالاته بالمعصية و إن كان متحرزا عن الكذب.
و منه يظهر الجواب عما ربما يقال:من أن العاقل لا يقبل الخبر من دون اطمئنان بمضمونه،عادلا كان المخبر أو فاسقا،فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق .
لا وجه لذلك إذ قد يحرز في الفاسق ملكة الصدق كما يحرز في العادل ملكة التدين المانعة من الكذب.
يعني:فلا يحتاج إلى البيان الشرعي مع فرض عدم الاقدام عليه من العقلاء.
و حاصل الجواب الذي أراده المصنف قدّس سرّه عن ذلك:أن التعرض لذلك في خبر الفاسق إنما هو للتنبيه إلى لزوم التروي في خبره و الالتفات إلى فسقه حتى يزول الاطمئنان.
لكن عرفت الاشكال في زوال الاطمئنان من خبر الفاسق بالتروي.
فالأولى دفعه بما ذكرنا آنفا من أن المقصود بالآية الردع عن العمل المخالف للطريقة العقلائية لا الجاري على طبقها.
و منه يظهر أنه لا مجال لدعوى:أن الآية مشعرة بخصوصية الفاسق في وجوب التبين،فتكون مشعرة بحجية خبر العادل في الجملة،لاندفاعها بأنه لم يعلم ورود الآية للتشريع حتى تشعر باختصاص وجوب التبين بخبر الفاسق،بل لعلها واردة للتشنيع و الاستنكار و التنديد بالعاملين بخبر الوليد على خلاف الطريقة العقلائية،و حينئذ لعل ذكر الفاسق ليس لاختصاص وجوب التبين به،بل لكونه دخيلا في زيادة التشنيع و تأكيد الاستنكار،فإن المناسب لمقام الاستنكار ذكر تمام ما هو دخيل في شدته و إن لم يختص به الحكم،كما يظهر بقليل من التدبر في الاستعمالات-
ص: 359
و أما ما أورد على الآية بما هو قابل للذب عنه فكثير.
منها:معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم، و النسبة عموم من وجه ،فالمرجع إلى أصالة عدم الحجية.
و فيه:أن المراد بالنبإ في المنطوق ما لا يعلم صدقه و لا كذبه ، فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات،فيتعين تخصيصها،بناء على ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام في العموم.
و أمّا منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل و ظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط و انتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء.فراجع.
و ربما يتوهم:أن للآيات الناهية جهة خصوص ،إما من جهة اختصاصها بصورة التمكن من العلم ،و إما من جهة اختصاصها بغير -العرفية.
هذا بناء على تمامية عموم الآيات بنحو يقتضي عدم حجية خبر الثقة.
و قد سبق الكلام فيه.
لأنه القابل للتبين.
يعني:فتكون النسبة بينها و بين المفهوم العموم من وجه،لا العموم المطلق.
بناء على تمامية دليل الانسداد و اقتضائه حجية الظن،إذ حينئذ لا بد من عدم شمول الآيات لصورة الانسداد مع شمول المفهوم له،فيكون بينهما العموم من وجه،لاختصاص المفهوم بحجية خبر العادل حال الانسداد،و اختصاص الآيات-
ص: 360
البينة العادلة و أمثالها مما خرج عن تلك الآيات قطعا .
و يندفع بأن خروج ما خرج من أدلة حرمة العمل بالظن لا يوجب جهة عموم في المفهوم،لأن المفهوم أيضا دليل خاص مثل الخاص الذي خصص أدلة حرمة العمل بالظن،فلا يجوز تخصيص العام بأحدهما أولا ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص و بين الخاص الأخير.
-بعدم حجية غيره حال الانفتاح،و يجتمعان في خبر العادل حال الانفتاح فالمفهوم يقتضي حجيته و الآيات تقتضي عدمها.
لكن يأتي من المصنف قدّس سرّه الإشكال في اقتضاء دليل الانسداد حجية الظن بنحو يخصص به الآيات،بل غاية ما يقتضيه تبعيض الاحتياط.
مع أنه لو تم كان مقتضى المفهوم حجية خبر العادل حال الانسداد،و هو يكفي في المقام،لعدم الانفتاح في عصورنا،فالتعارض بين المفهوم و الآيات في خبر العادل حال الانفتاح لا أثر له.
و إلى هذا يرجع ما في بعض النسخ من الجواب عن هذا الوجه بقوله:«و يندفع الأول بعد منع الاختصاص بأنه يكفي المستدل كون الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد،و الثاني بأن خروج...»لكن في بعض النسخ الاقتصار على قوله:«و يندفع بأن خروج...»اكتفاء بالجواب الآتي،لأنه صالح للجواب عن الوجهين معا.
فلاحظ.
إذ مقتضى ذلك كون النسبة بين الآيات و المفهوم عموما من وجه، لاختصاص الآية بغير البينة و أمثالها و غير خبر العادل،فتقتضي عدم حجيته، و اختصاص المفهوم بالبينة-التي هي من أفراد خبر العادل-فيقتضي حجيتها، و اجتماعهما في خبر العادل غير البينة،فالمفهوم يقتضي حجيته و الآيات تقتضي عدمها،و بعد التعارض و التساقط يكون المرجع أصالة عدم الحجية،و يحكم بعدم حجية غير البينة من أفراد خبر العادل.
ص: 361
فإذا ورد:أكرم العلماء،ثم قام الدليل على عدم وجوب إكرام جماعة من فساقهم،ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب إكرام مطلق الفساق منهم،فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الأوّل أولا ثم جعل النسبة بينه و بين الخاص الثاني عموما من وجه.و هذا أمر واضح نبهنا عليه في باب التعارض.
و منها:أن مفهوم الآية لو دلّ على حجية خبر العادل لدل على حجية الإجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى و أتباعه قدست أسرارهم من عدم حجية خبر العادل،لأنهم عدول أخبروا بحكم الإمام عليه السّلام بعدم حجية الخبر.
و فساد هذا الإيراد أوضح من أن يبين،إذ بعد الغض عما ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للإجماع المنقول ،و بعد الغض عن أن و الوجه فيه:أن منشأ التوقف في تعارض العامين من وجه إنما هو تساوي ظهوريهما بالإضافة إلى مورد الاجتماع،و ذلك لا يجري في المقام و نحوه ممّا كان العام مخصصا بدليل خارج لأن التخصيص و إن أوجب سقوط حجية ظهور العام في مورده،إلاّ أنّه لا يوجب تبدل ظهور العام بالإضافة إلى الباقي،بحيث يكون فيه أظهر ممّا لو لم يكن مخصصا بالدليل حتى يتوهم مساواته لظهور الخاص الآخر المفروض كونه أقوى ظهورا في مورده من العام لأنه أخص منه مطلقا.
نعم لو كان المخصّص للعام متصلا كان لانقلاب النسبة بسببه وجه قوي إلاّ أنه خارج عن محل الفرض.
لابتنائه على النقل الحدسي،الذي تقدم في أول الكلام في الإجماع المنقول عدم شمول المفهوم له.
ص: 362
إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ قدّس سرّه .نقول:إنه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية.
أما أولا:فلأن دخوله يستلزم خروجه،لأنه خبر العادل ، فيستحيل دخوله .
و دعوى:أنه لا يعم نفسه.مدفوعة:بأنه و إن كان لا يعم نفسه، يعني:و يمتنع شمول دليل الحجية للخبرين المتعارضين معا،لاستلزامه التعبد بالنقيضين،و لا لأحدهما معينا،لأنه بلا مرجح،و لا مخيرا،لقصور عموم الحجية عن ذلك.و من ثم كان الأصل في المتعارضين التساقط،و إن قيل بخروج تعارض الخبرين عنه للأدلة الخاصة.
يعني:و مقتضى ما ذكره هو عدم حجية خبر العادل.
و لا يخفى أن هذا الوجه لا ينهض ببيان أن دخوله مستلزم لخروجه،لا تخصصا و لا تخصيصا.أما عدم خروجه تخصصا فظاهر،إذ لا يخرج عن كونه خبر عادل،فيدخل في موضوع المفهوم،و أما عدم خروجه تخصيصا فلما هو المعلوم من أن قصد المرتضى في خبره عدم حجية خبر العادل مطلقا لا عدم حجية خبره بالخصوص تخصيصا للمفهوم.
فالأولى الجواب بأنه يلزم من دخوله في المفهوم حجيته،و يلزم من حجيته عدم حجيته،لعموم حكمه له و لو ملاكا،لا أن الذي يلزم هو عدم دخوله في المفهوم.و لعل هذا هو مراد المصنف قدّس سرّه.
لكن هذا لو تم اقتضى عدم شمول كلامه لخبره لنفسه،بل يختص بغيره من الأخبار،خلافا لما سيأتي من المصنف قدّس سرّه.
يعني:لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال.
ص: 363
لقصور دلالة اللفظ عليه ،إلا أنه يعلم أن الحكم ثابت لهذا الفرد أيضا، للعلم بعدم خصوصية مخرجة له عن الحكم،و لذا لو سألنا السيد عن أنه:
إذا ثبت إجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتكال عليه؟فيقول:لا.
و أما ثانيا:فلو سلمنا جواز دخوله لكن نقول:إنه وقع الإجماع على خروجه من النافين لحجية الخبر و من المثبتين،فتأمل .
و أما ثالثا:فلدوران الأمر بين دخوله و خروج ما عداه و بين العكس، و لا ريب أن العكس متعين،لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد ، بل لأن المقصود من الكلام ينحصر في بيان عدم حجية خبر العادل،و لا ريب أن التعبير عن هذا المقصود بما يدل على عموم حجية خبر العادل قبيح في الغاية و فضيح إلى النهاية ،كما يعلم من قول القائل:صدق يأتي في إشكال خبر الواسطة أنه لا مانع من شمول القضية لنفسها إذا لم يلزم محذور آخر،لكن عرفت منه لزوم المحذور من شمول خبر المرتضى قدّس سرّه لنفسه.
و يأتي تمام الكلام.
لعله إشارة إلى أن هذا الإجماع لو تم لا يصلح حجة لتخصيص عموم المفهوم،لأنه ليس إجماعا تعبديا،بل حصل الإجماع اتفاقا مع اختلاف مباني المجمعين.
لا يخفى أن شمول المفهوم لإجماع المرتضى قدّس سرّه المستلزم لخروج بقية الأخبار عنه لا يستلزم التخصيص،لأنها ليست في عرض واحد،بل خروجها في رتبة متأخرة عن دخول إجماع المرتضى في المفهوم،فهو مقتضى العمل بالمفهوم،لا أنه تخصيص له مناف لعمومه،ليدعي أنه تخصيص مستهجن.
لمنافاته لظاهر الكلام جدا.و سيأتي تمام الكلام.
ص: 364
زيدا في جميع ما يخبرك،فأخبرك زيد بألف من الأخبار،ثم أخبر بكذب جميعها،فأراد القائل من قوله:«صدق...الخ»خصوص هذا الخبر .
و قد أجاب بعض من لا تحصيل له بأن الإجماع المنقول مظنون الاعتبار و ظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار .
و منها:أن الآية لا تشمل الأخبار مع الواسطة،لانصراف النبأ إلى الخبر بلا واسطة ،فلا يعم الروايات المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام،لاشتمالها لا يبعد حمل الكلام على ذلك،و لا يتضح قبحه.نعم لو كان مضمون العموم أن زيدا لا يكذب كان ما ذكره المصنف قريبا جدا لمنافاته لخبر زيد بأنه كاذب فيمتنع شموله له نظير ما يأتي،فتأمل جيدا.
و كأن المراد اندفاعه:بأن المدعى دلالة ظاهر الكتاب المقطوع الاعتبار بعمومه على حجية هذا الإجماع المظنون الاعتبار،لا معارضته له حتى يكون الترجيح لظاهر الكتاب.
هذا و لكن التأمل قاض بأن الإجماع المدعى مناف للمفهوم،فهما متكاذبان متعارضان لدلالة الآية على حجية خبر العادل من حيث هو و دلالة الإجماع على عدم حجيته من حيث هو.
و هذا هو العمدة في عدم شمول الآية للإجماع،لأنها تقتضي كذبه و تنافيه و يمتنع دلالة الدليل على حجية الكاذب و عمومه لنافيه.و أما ما سبق من المصنف فهو لا يخلو عن خدش لما أشرنا إليه من أن مقتضاه عدم شمول خبر المرتضى لنفسه لا خروجه عن عموم المفهوم،و يأتي نظيره في خبر الواسطة.
كأنه لنظير ما سبق من المصنف قدّس سرّه في أول مبحث الإجماع المنقول من انصراف أدلة الحجية عن الخبر الحدسي،لورودها في مقام نفي احتمال تعمد الكذب، فلا تنفي احتمال الخطأ في الحدس.-
ص: 365
على وسائط.
و ضعف هذا الإيراد على ظاهره واضح،لأن كل واسطة من الوسائط إنما يخبر خبرا بلا واسطة،فإن الشيخ قدّس سرّه إذا قال:حدثني المفيد، قال:حدثني الصدوق،قال:حدثني أبي،قال:حدثني الصفار،قال:كتبت إلى العسكري عليه السّلام بكذا،فإن هناك أخبارا متعددة بتعدد الوسائط،فخبر الشيخ:قوله:حدثني المفيد،الخ و هذا خبر بلا واسطة يجب تصديقه،فإذا حكم بصدقه ثبت شرعا أن المفيد حدث الشيخ بقوله:حدثنى الصدوق، فهذا الإخبار-أعني قول المفيد الثابت بخبر الشيخ:حدثني الصدوق- أيضا خبر عادل،و هو المفيد فنحكم بصدقه،و أن الصدوق حدثه،فيكون كما لو سمعنا من الصدوق إخباره بقوله:حدثني ابي و الصدوق عادل فيصدق في خبره،فيكون كما لو سمعنا أباه يحدث بقوله:حدثني الصفار، فنصدقه لأنه عادل،فيثبت خبر الصفار أنه كتب إليه العسكري عليه السّلام، و إذا كان الصفار عادلا وجب تصديقه و الحكم بأن العسكري عليه السّلام كتب إليه ذلك القول،كما لو شاهدنا الإمام عليه السّلام يكتبه إليه،فيكون المكتوب حجة،فيثبت بخبر كل لاحق إخبار سابقه،و لهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ،لأن كل واسطة يخبر بخبر مستقل.
-و كذا يقال في الإخبار بواسطة،لعدم انحصار احتمال المخالفة باحتمال تعمد الكذب،بل يحتمل كون منشئه خطأ الواسطة،و لا دليل على إلغاء الاحتمال المذكور.
أما لو كان المراد من الخبر ما يعم المخبر بالواسطة لزم الاكتفاء بالعدالة في الخبر الأول و هو الشيخ في الفرض.
بل يلزم قبول مراسيل العادل إذا أخبر عن المعصوم عليه السّلام.
ص: 366
هذا و لكن قد يشكل الأمر بأن ما يحكيه الشيخ رحمه اللّه عن المفيد إذا صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق فكيف يصير موضوعا لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع المخبر إلا به؟! .
و لكن يضعف هذا الاشكال:
أولا:بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالإجماع،كالإقرار بالإقرار ،و إخبار العادل بعدالة مخبر ،فإن الآية تشتمل الإخبار بالعدالة بغير إشكال.
و ثانيا:بأن عدم قابلية اللفظ العام لأن يدخل فيه الموضوع الذي يعني:يلزم كون وجوب التصديق منقحا لموضوع نفسه،فيكون متأخرا عن نفسه بمرتبتين،لأن خبر المفيد إذا كان ناشئا تعبدا من وجوب التصديق كان متأخرا عنه رتبة و إذا كان وجوب التصديق من أحكام خبر المفيد كان متأخرا عند رتبة تأخر الحكم عن موضوعه،فيكون وجوب التصديق متأخرا عن نفسه بمرتبتين.
فإن أثر لزوم إقرار العقلاء على أنفسهم بالإضافة إلى الإقرار بالإقرار هو التعبد بتحقق الإقرار بالحق الذي يكون موضوعا لقاعدة لزوم إقرار العقلاء على أنفسهم من أجل إثبات الحق المقرّ به.
فإن أثر وجوب تصديق المخبر بالعدالة هو وجوب تصديق المشهود بعدالته في خبره.
يعني:بحسب دلالة المفهوم فيها المتضمن لوجوب تصديق العادل.
لم يتضح الوجه في عدم القابلية المذكورة،فإن ترتب أفراد العام إثباتا أو ثبوتا أو تعبدا لا يمنع من دخولها في عموم العام بعد كون الحكم في العام واردا على الماهية من حيث هي الشاملة لجميع الأفراد.و ترتب الأفراد بأحد الأنحاء المذكورة-
ص: 367
-لا يمنع من شمول العام لها،بعد فرض جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية المبنية على ترتبه على جميع الأفراد المحققة و المقدرة،إذ في مثل ذلك لا تلحظ الخصوصيات الفردية،حتى يمتنع شمول الحكم للأفراد المترتبة لامتناع لحاظها في عرض واحد، بل ليس الملحوظ إلا الماهية بحدودها المفهومية الخاصة المنطبقة على تمام الأفراد المترتبة قهرا.
نعم لو كان العموم واردا بنحو القضية الخارجية بنحو لا يشمل إلا الأفراد المحققة امتنع شموله للأفراد المترتبة تعبدا التي يكون التعبد بها متفرعا على شمول العام لغيره،إذ في ظرف جعل العام لا تحقق للأفراد اللاحقة كي يشملها.
لكنه لا يمنع في المقام من العمل بخبر الواسطة،لأن ترتب أخبار الوسائط إنما هو في مقام الإثبات مع اجتماعها في مقام الثبوت في عرض واحد.مضافا إلى عدم الإشكال في جعل العمومات الشرعية بنحو القضية الحقيقية،لا الخارجية.
و ممّا ذكرنا يظهر أنه لا مانع من شمول القضية لنفسها في القضايا الحقيقية،إذ ليس الملحوظ فيها إلا الماهية من حيث هي و انطباقها على فردها قهري بلا حاجة إلى ملاحظته بخصوصيته فلا يلزم منه ملاحظة القضية حين جعلها كي يمتنع.بل يمكن اختصاص حكم القضية بنفسها فيما إذا كان الموضوع هو الماهية المقيدة بقيد يختص بها من دون أن تلحظ بخصوصيتها كقول القائل:أول الكلام يجهدني.
نعم لو كان هناك مانع من شمول القضية لنفسها لخصوصية فيها تعين اختصاص الموضوع لبا بما عداها،كما في قولنا:كل كلامي صادق،فإن صدق الكلام لما كان بمطابقته للواقع،و كان مطابقه مباينا له تعين عدم شمول القضية لنفسها سواء كانت صادقة أم كاذبة،و هذا بخلاف مثل الضرر،فإن ترتبه على الكلام ليس بلحاظ مطابقة المباين له،بل من آثاره بأي وجه كان.و مثله قولنا:أول كلامي صادق فلا بد أن يحمل على الأول مما عدا القضية المذكورة.
و أوضح من ذلك قولنا:أول كلامى كاذب فإن القضية المذكورة لو انطبقت-
ص: 368
لا يتحقق و لا يوجد إلا بعد ثبوت حكم هذا العام لفرد آخر لا يوجب التوقف في الحكم إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العام و أن المتكلم لم يلاحظ موضوعا دون آخر،لأن هذا الخروج مستند إلى قصور العبارة و عدم قابليتها لشموله،لا للفرق بينه و بين غيره في نظر المتكلم حتى يتأمل في شمول حكم العام له.
فهو مثل ما لو أخبر زيد بعض عبيد المولى بأنه قال:لا تعمل بأخبار زيد،فإنه لا يجوز له العمل به و لو اتكالا على دليل عام يدل على الجواز ،لأن عدم شموله له ليس إلا لقصور اللفظ و عدم قابليته -على نفسها لزم من صدقها كذبها و من كذبها صدقها،كما لا يخفى.
لو فرض إحراز المناط فلا إشكال في عموم حكم القضية لمورده،و إن قصرت القضية عنه في مقام الدلالة اللفظية،إلا أن مجرد قصور الدلالة اللفظية عن مورد لأجل الاستحالة-لو سلمت-لا لأجل التقييد اللفظي،لا يستلزم عموم الملاك،لاحتمال قصوره و اتكال المتكلم على الاستحالة المفروضة في عدم التقييد، فلا بد في إحراز الملاك من قرينة خارجية.
يعني:بهذا الخبر الذي صدر عن زيد.
الظاهر أنه مع عموم من المولى يقتضي العمل بإخبار زيد يجب العمل بهذا الخبر،و يكون ناسخا للعموم المذكور فيما بعده من الأخبار،فلا يعمل بها.
و لا مجال لدعوى:عموم ملاك النهي عن العمل بإخبار زيد لهذا الخبر، لاستحالة تحقق ملاك عدم جواز القبول في جميع الأخبار،بل لا بد إما من وجوده في هذا الخبر أو في بقية الأخبار،فيمتنع قيام الحكم بماهية الخبر من حيث هي،بل لا بد من قيامه بالماهية المباينة لهذا الخبر،أو المتحدة معه،و يمتنع الثاني لتوقفه على ملاحظة الخصوصية،و هو ممتنع لاستحالة لحاظ القضية حين جعلها،فلا بد أن-
ص: 369
للشمول،لا للتفاوت بينه و بين غيره من أخبار زيد في نظر المولى بل لا قصور في العبارة بعد ما فهم منها أن هذا المحمول وصف لازم لطبيعة الموضوع و لا ينفك من مصاديقها .و قد تقدم في الإيراد الثاني من هذه الإيرادات ما يوضح ذلك فراجع.
و منها:أن العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعية غير ممكن لوجوب -يكون الموضوع هو الأول و هو الماهية المباينة لهذا الخبر و لو بنحو نتيجة التقييد، فيختص الملاك بها،و يكون هذا الخبر خارجا عن العموم لفظا و ملاكا.
نعم لو كان مفاد هذا الخبر معارضا للعموم الصادر و منافيا له،لا ناسخا له، تعين قصور العموم عنه و عدم وجوب العمل به في بقية الأخبار لقصور العموم عن شمول ما ينافيه،نظير ما سبق منّا في تقريب قصور المفهوم عن شمول الإجماع المنقول من المرتضى قدّس سرّه.
كأنه لما أشرنا إليه من فرض كون القضية حقيقية لا تقتضي لحاظ الأفراد بخصوصيتها لكن هذا لا ينافي القصور عن بعض الأفراد إذا كان هناك مانع من شموله،و لو من باب نتيجة التقييد.
و هو الإيراد بأن حجية المفهوم تقتضي حجية إجماع المرتضى الدال على عدم حجية خبر الواحد،حيث أورد عليه المصنف قدّس سرّه بأن عموم المفهوم لإجماع المرتضى يستلزم خروجه،لأنه خبر واحد أيضا،ثم أجاب عنه بأن القضية لا تشمل نفسها.
و أورد عليه بما ذكره هنا من أن عدم دخول القضية في حكم نفسها لفظا لا ينافي دخولها ملاكا.
و قد أجبنا عنه هناك بما ذكرناه هنا من أنه يلزم من شمول خبر المرتضى لنفسه محذور مانع من العموم.مضافا إلى ما ذكرناه هناك من أن خبر المرتضى معارض للمفهوم فيمتنع شموله له.
ص: 370
التفحص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ،فيجب تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات الخارجية،فإنها هي التي لا يجب التفحص فيها عن المعارض.و يجعل المراد من القبول فيها هو القبول في الجملة،فلا ينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه.فلا يقال:إن قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجية مطلقا يستلزم قبوله في الأحكام بالإجماع المركب و الأولوية .
و فيه:أن وجوب التفحص عن المعارض غير وجوب التبين في الخبر، كأنه لدعوى وجوب التفحص المذكور ينافي عدم وجوب التبين المستفاد من المفهوم.
يعني:في الموضوعات.
الوجه في اندفاعه:أن المراد من قبول خبر العادل في الموضوعات ليس هو قبوله مطلقا،بل قبوله في الجملة و لو بشرط التعدد،و حينئذ لا إجماع و لا أولوية في قبوله في الحكم،فإن من ينكر حجية الخبر غير العلمي في الأحكام يقول بحجية البيّنة في الموضوعات.
و بالجملة:حجية خبر العدل الواحد في الموضوعات تستلزم حجيته في الأحكام،و حجية البينة في الموضوعات لا تستلزم حجيتها في الأحكام.فلاحظ.
لما أشرنا إليه من أنه لا قائل بحجية خبر العدل الواحد في الموضوعات دون الأحكام إلاّ أن يشكل بأن عدم القول بالفرق بينهما لا ينفع ما لم يرجع إلى القول بعدم الفرق.
لم يتضح وجه الأولوية إلاّ أن تكون بلحاظ أقوال الأصحاب،حيث أن القائل بحجية خبر العدل الواحد في الأحكام أكثر من القائل بحجيته في الموضوعات.
ص: 371
فإن الأوّل يؤكد حجية خبر العادل و لا ينافيها ،لأن مرجع التفحص عن المعارض إلى الفحص عما أوجب الشارع العمل به كما أوجب العمل بهذا ،و التبين المنافي للحجية هو التوقف عن العمل و التماس دليل آخر، فيكون ذلك الدليل هو المتبع و لو كان أصلا من الأصول،فاذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر،و إذا وجده أخذ بالأرجح منهما،و إذا يئس عن التبين توقف عن العمل،و رجع إلى ما يقتضيه الأصول العملية.
فخبر العادل و إن اشترك مع خبر الفاسق في عدم جواز العمل بمجرد المجيء إلا أنه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالأول دون الثاني ،و مع وجدان المنافي يؤخذ به في الثاني ،و يؤخذ بالأرجح في الأول .
لأن الفحص عن المعارض إنما هو فحص عمّا يسقط الحجية بعد فرض ثبوت مقتضيها و التبين في خبر الفاسق لقصوره عن اقتضاء الحجية،لا من جهة المعارض.
فهو يدل ضمنا على الاعتراف بحجية هذا،و من ثم كان مؤكدا لدليل الحجية.
يعني:بعد فرض حجية الخبر ذاتا،كما هو في خبر العادل.
يعني:فيما ليس حجة ذاتا كخبر الفاسق.
المراد بالأول خبر العادل،و بالثاني خبر الفاسق.
يعني:خبر الفاسق.و الوجه بالأخذ فيه بالمنافي حجية المنافي دونه.
و هو خبر العادل،لأن كليهما حجة في نفسه،و مع تنافي الحجتين يعمل بالأرجح منهما من جهة الدلالة،بل من سائر الجهات على تفصيل يذكر في محله.
ص: 372
فتتبع الأدلة في الثاني لتحصيل المقتضي الشرعي للحكم الذي تضمنه خبر الفاسق،و في الأول لطلب المانع عما اقتضاه الدليل الموجود.
و منها:أن مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية،و هو إخبار الوليد بارتداد طائفة،و من المعلوم أنه لا يكفي فيها خبر العادل،بل لا أقل من اعتبار العدلين،فلا بد من طرح المفهوم لعدم جواز إخراج المورد.
و فيه:أن غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم بالنسبة إلى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل،فكل واحد من خبري العدلين في البينة لا يجب التبين فيه.
و أما لزوم إخراج المورد فممنوع،لأن المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها .
لوضوح أنه من خبر الفاسق الذي يجب التبين فيه و لا يكون حجة مطلقا بمقتضى المنطوق.لكن المورد و إن كان داخلا في المنطوق باصطلاح الأصوليين،إلا أن التحقيق أن المفهوم و المنطوق معا مستفادان من الإناطة و التعليق المشتمل عليهما الكلام الوارد في المورد الخاص.و حينئذ فمقتضى إناطة التبين و تعليقه على الفاسق كون الفسق هو الموجب لعدم قبول الخبر دون وحدة الخبر،فلا بد من استفادة كون الوحدة في المخبر مانعا آخر من القبول،و من البعيد جدا عدم التعرض لها مع اشتمال المورد عليها.و هذا و إن لم يبلغ حدّ الاستهجان إلا أنه من أهم الموهنات للمفهوم لو لم يكن مسقطا له بالمرة.
فالعمدة ما سبق من عدم ورود القضية مورد التشريع بل مورد الاستنكار و التشنيع،فعدم التعرض فيها للوحدة إنما هو لكون الفسق أدخل في الاستنكار منها،لا لعدم دخلها حتى يلزم خروج المورد.
ص: 373
و جعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبين إذا كان المخبر به فاسقا و لعدمه إذا كان المخبر به عادلا،لا يلزم منه إلا تقييد الحكم في طرف المفهوم و إخراج بعض أفراده ،و هذا ليس من اخراج المورد المستهجن في شيء.
و منها:ما عن غاية المبادي من أن المفهوم يدل على عدم وجوب التبين،و هو لا يستلزم العمل،لجواز وجوب التوقف.
و كأن هذا الإيراد مبني على ما تقدم فساده من إرادة وجوب التبين نفسيا،و قد عرفت ضعفه،و أن المراد وجوب التبين لأجل العمل عند إرادته،و ليس التوقف حينئذ واسطة .
و منها:أن المسألة أصولية فلا يكتفى فيها بالظن.
إشارة إلى دعوى أن مورد الحكم ليس خصوص خبر الوليد الفاسق،بل مطلق الخبر بالارتداد القابل للصدور من العادل و الفاسق.
لكن لا يخفى أن المورد تابع للواقعة الخارجية،و ليست هي إلا الخبر الخاص الصادر من الوليد.
نعم لو كان الخبر بالارتداد على إطلاقه موردا لسؤال وقع الجواب عنه بالآية لكان ما ذكر في محله.
خبر لقوله:«و جعل....»
لوضوح أن الخبر بالارتداد لا يعتبر فيه العلم،بل يكفي فيه خبر الواحد و إن كان مشروطا بالتعدد،فغاية ما يلزم التقييد في المورد لا إخراجه بالمرة.
بل هو راجع إلى وجوب التبين و عدم جواز العمل قبله.
ص: 374
و فيه أن الظهور اللفظي لا بأس بالتمسك به في أصول الفقه ، و الأصول التي لا يتمسك لها بالظن مطلقا هو أصول الدين،لا أصول الفقه،و الظن الذي لا يتمسك به في الأصول مطلقا هو مطلق الظن لا الظن الخاص .
و منها:أن المراد بالفاسق مطلق الخارج عن طاعة اللّه و لو بالصغائر، فكل من كان كذلك أو احتمل في حقه ذلك وجب التبين في خبره،و غيره بل لا مانع عقلا من التمسك به في الأصول الاعتقادية في غير مورد لزوم الدور،كما في إثبات الإمامة بظهور خبر متواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و تكون حجية الظهور من حيث العمل الأعم من عمل الجوارح و الجوانح و توقف الاعتقاد على العلم غير ظاهر،بل الظهار عدمه.
نعم لو لزم الدور فلا إشكال في عدم الحجية،كما لو أريد الاستدلال على الامامة بظاهر الخبر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام.
يعني:حتى الخاص منه.لكن عرفت أنه لا مانع عقلا من حجية الظن الخاص في أصول الدين،بل الظن العام أيضا على وجه يأتي الكلام فيه في دليل الانسداد.
يعني:حتى أصول الفقه.
هذا في غاية الإشكال،فإنه سوف يأتي من المصنف قدّس سرّه في مبحث دليل الانسداد المقتضي لحجية الظن المطلق:أنه كما يقتضي حجية الظن بالواقع يقتضي حجية الظن بالطريق،و هو راجع إلى حجية الظن المطلق في المسألة الأصولية،على كلام يأتي في محله.
يعني:و الظهور اللفظي-كما في المفهوم هنا-من الظن الخاص.
ص: 375
ممّن يفيد قوله العلم،لانحصاره في المعصوم و من هو دونه ،فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارة إلى أن مطلق خبر المخبر غير المعصوم لا عبرة به لاحتمال فسقه،لأن المراد الفاسق الواقعي ،لا المعلوم .
فهذا وجه آخر لإفادة الآية حرمة اتباع غير العلم لا يحتاج معه إلى التمسك في ذلك بتعليل الآية،كما تقدّم في الإيراد الثاني من الإيرادين الأولين.
و فيه:أن إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه من إطلاق الفاسق خلاف الظاهر عرفا،فالمراد به،إما الكافر،كما هو الشائع إطلاقه في الكتاب، حيث أنه يطلق غالبا في مقابل المؤمن ،و أما الخارج عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية،فالمرتكب للصغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السابق .
يعني:و هو المعصوم غير الواجب العصمة.إلاّ أن يدعى أنه لا يوجب العلم،لاحتمال الخطأ،بخلاف المعصوم الواجب العصمة.
يعني:فلا بد في إثبات الحجية من إحراز عدم الفسق،و لا يكفي الشك فيه.
لأنه خلاف ظاهر إطلاق الفاسق.
خصوصا مع ظهور الآية في التشنيع على المخبر و التنديد به،إذ هو لا يناسب هذا المعنى لوقوع كل الناس فيه إلا النادر.
هذا إنما يصلح قرينة على حمل الفاسق على غير المؤمن لا على الكافر.
لم يتضح الوجه في التقييد بذلك،بل مقتضى الإطلاق الحمل على الفاسق في كل زمان و هو المرتكب للمعاصي الكبيرة في زمانه.
لم يتضح التطابق بين العرفين و لا سيما مع ما سبق منه من الاعتراف بغلبة-
ص: 376
مضافا إلى قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ .
مع أنه يمكن فرض الخلو عن الصغيرة و الكبيرة،كما إذا علم منه التوبة من الذنب السابق .و به يندفع الإيراد المذكور حتى على مذهب من يجعل كل ذنب كبيرة.
و أما احتمال فسقه بهذا الخبر لكذبه فيه فهو غير قادح،لأن ظاهر قوله: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ... تحقق الفسق قبل النبأ لا به،فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا النبأ و احتمال فسقه به.
هذه جملة ممّا أوردوه على ظاهر الآية،و قد عرفت أن الوارد منها إيرادان،و العمدة الإيراد الأوّل ،الذي أورده جماعة من القدماء -إطلاقه في مقابل المؤمن.
تكفير السيئات لا يدل على عدم الفسق.
سقوط العقاب بالتوبة لا يقتضي عدم الفسق.إلا أن يتمسك ببعض الإطلاقات الدالّة على قبول شهادة المذنب بعد توبته،و الأولى الاستشهاد لما ذكره بما إذا كان المخبر في أول بلوغه و علم منه عدم ارتكاب ذنب أصلا و لو مع عدم الملكة.
و هو عدم تمامية المفهوم في الآية.هذا و قد سبق منا الإيراد أيضا بعدم ورود القضية مورد التشريع،بل مورد الاستنكار و التشنيع في مخالفة الطريق التي ينبغي سلوكها،فذكر الفاسق لعله لزيادة التأكيد و التشنيع لا لتوقف الحكم عليه.
اللهم إلاّ أن يقال:هذا مبني على عدم تمامية المفهوم لكون القضية مسوقة-
ص: 377
و المتأخرين.
ثم إنه كما استدل بمفهوم الآية على حجية خبر العادل كذلك قد يستدل بمنطوقها على حجية خبر غير العادل إذا حصل الظن بصدقه، بناء على أن المراد بالتبين ما يعم تحصيل الظن،فاذا حصل من الخارج ظن بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.
و من التبين الظني تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر أو على مضمونه أو على روايته.و من هنا تمسك بعض بمنطوق الآية على حجية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة و في حكم الشهرة أمارة أخرى غير معتبرة.
و لو عمم التبين للتبين الإجمالى و هو تحصيل الظن بصدق مخبره دخل خبر الفاسق المتحرز عن الكذب،فيدخل الموثق و شبهه بل الحسن أيضا.
و على ما ذكر فثبت من آية النبأ منطوقا و مفهوما حجية الأقسام -لتحقيق الموضوع-كما هو مقتضى الإيراد الأول-و أن الاستدلال بإشعار الوصف بالعلمية لا بمفهوم الشرط،أما بناء على تمامية مفهوم الشرط في الآية فمقتضى التعليق توقف الحكم على الفسق،و احتمال كون ذكره لمحض التشنيع خلاف الظاهر.فالعمدة هو الإشكال الأول،كما ذكره المصنف قدّس سرّه.
يعني:يظن بصدقه إجمالا في جميع أخباره،لا في خصوص الخبر الخاص الذي يراد العمل به.
و هو الذي يرويه ثقة غير إمامي.
و هو الذي يرويه إمامي فاسق لكنه ثقة متحرز عن الكذب.
ص: 378
الأربعة للخبر الصحيح و الحسن و الموثق و الضعيف المحفوف بالقرينة الظنية.
و لكن فيه من الإشكال ما لا يخفى،لأن التبين ظاهر في العلمي.
كيف و لو كان المراد مجرد الظن لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا،إذ العاقل لا يعمل بخبر إلا بعد رجحان صدقه على كذبه .
إلا أن يدفع اللغوية بما ذكرنا سابقا من أن المقصود التنبيه و الإرشاد على أن الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه ،و أنه لا يؤمن من كذبه و إن كان المظنون صدقه.
و كيف كان فمادة التبين و لفظ الجهالة و ظاهر التعليل كلها كان عليه أن يذكر الخامس و هو الشبيه بالموثق.إلا أن يريد من الموثق هنا ما يعمه.
لكنه مبني على ورود الآية مورد التشريع لا التشنيع،و قد سبق الكلام فيه.
لكن لازمه عدم حجية خبر الفاسق،فلا ينفع-حينئذ-في الاستدلال المذكور.
إلا أن يكون المراد التنبيه على أن ذلك هو شأن الفاسق لمزيد الحذر منه،فلا ينافي الظن بصدقه لقرائن خاصة خارجية،فيكون مفاد الآية-حينئذ-أن الفاسق بحسب شأنه لا ينبغي الوثوق به و لا الظن بخبره،و إن كان قد يستفاد ذلك من قرائن خاصة خارجية بعد مزيد من التثبت و الحذر.فتأمل جيدا.
عرفت الإشكال فيها بظهورها في السفاهة،فلا تجري مع فرض كون الخبر اطمئنانيا،نعم لا يكفى محض الظن.
عرفت الإشكال في التعليل.نعم لا يكفي الظن،بل لا بد من الاطمئنان،-
ص: 379
آبية من إرادة مجرد الظن.
نعم يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحير و التزلزل، بحيث لا يعد في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.
لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالا على حجية الظن الاطمئناني المذكور و إن لم يكن معه خبر فاسق،نظرا إلى أن الظاهر من الآية أن خبر الفاسق وجوده كعدمه،و أنه لا بد من تبين الأمر من الخارج و العمل على ما يقتضيه التبين الخارجي.
نعم ربما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبين.
فالمقصود الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع،فكلما حصل الأمن منه جاز العمل،فلا فرق حينئذ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه و بين الشهرة المجردة إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها.
و الحاصل:أن الآية تدل على أن العمل يعتبر فيه التبين من دون مدخلية لوجود خبر الفاسق و عدمه،سواء قلنا بأن المراد منه العلم أو -كما سيأتي من المصنف قدّس سرّه.
هذا غير ظاهر،فإن الأمر بالتبين و التثبت عند الخبر لا ينافي دخله في الحجية في مقام العمل.نعم بناء على أن المراد من التبين العلمي يتعين ما ذكره المصنف قدّس سرّه،فلاحظ.
ص: 380
الاطمئنان أو مطلق الظن،حتى أن من قال بأن خبر الفاسق يكفي فيه مجرد الظن بمضمونه بحسن أو توثيق أو غيرهما من صفات الراوي فلازمه القول بدلالة الآية على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي و إن لم يكن معه خبر أصلا.فافهم و اغتنم و استقم.
هذا و لكن لا يخفى أن حمل التبين على تحصيل مطلق الظن أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق و هو الإخبار بالارتداد .
و من جملة الآيات قوله تعالى في سورة براءة: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
دلت على وجوب الحذر فيه عند إنذار المنذرين من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ،فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.
أما وجوب الحذر فمن وجهين:
أحدهما:أن لفظة(لعل)بعد انسلاخها عن معنى الترجي لما هو المعلوم من أن خبر الوليد بالارتداد لا يكفي في قبوله التبين الظني.
كما هو مقتضى إطلاق الآية المعتضد بالسيرة العقلائية الارتكازية على عدم اعتبار حصول العلم في العمل بخبر الغير مع فرض الوثوق به،فإن الظاهر ورود الآية لإمضاء السيرة المذكورة،لا لبيان حكم تعبدي تأسيسي.
و منه يظهر الوجه في تقييد الآية بصورة الوثوق،فإنه مقتضى إمضاء السيرة المذكورة.
كأنه لاستحالة الترجي في حقه تعالى لاستلزامه الجهل المحال.
ص: 381
ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم ،و إذا تحقق حسن الحذر ثبت وجوبه،إما لما ذكره في المعالم من أنه لا معنى لندب الحذر،إذ مع قيام المقتضي يجب،و مع عدمه لا يحسن و إما لأن رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المركب لأن كل من أجازه فقد أوجبه .
هذا لا يخلو عن إشكال،لعدم وضع(لعل)إلا للتوقع و الترجي الذي قد يقارن المحبوبية،و قد يقارن المبغوضية،و لذا عدّ من معانيها الاشفاق.
و التحقيق ورود(لعل)في المقام لبيان عدم الملازمة خارجا بين الحذر و الانذار بلحاظ عصيان المكلفين و تسامحهم،فإن هذا المعنى أقرب إلى الترجي من المحبوبية، و حينئذ ينحصر وجه مطلوبية الحذر بالوجه الثاني.
و هو المنجز الذي يحتج به المولى على العبد،و يجعله في خطر العقاب بالمخالفة.
إذ الحذر فرع الخطر،و مع فرض عدم الحجة لا خطر،فلا موضوع للحذر.
لكن مورد الآية لما كان هو الخبر بالتكليف الإلزامي-الذى هو مورد الحذر-لا مطلقا،ليعم الخبر بالإباحة،فرجحان العمل به أو جوازه قد يكون من باب الاحتياط،فلا يدل على وجوبه و لا يلازمه.
نعم لو أريد من الخبر الأعم ممّا تضمن الإباحة كان جواز العمل به في المباحات ملازما لحجية الملازمة لوجوب العمل به في التكاليف الإلزامية.
و دعوى:أن العمل به من باب الاحتياط ليس عملا به حقيقة،إذ العمل بالطريق إنما يكون بالاعتماد عليه لا بمجرد موافقته احتياطا.
مدفوعة:بأن الآية لم تتضمن جواز العمل بالخبر،بل مجرد الحذر عقيب-
ص: 382
الثاني:أن ظاهر الآية وجوب الإنذار لوقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة(لو لا)فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب الحذر لوجهين:
أحدهما:وقوعه غاية للواجب،فإن الغاية المترتبة على الفعل الواجب ممّا لا يرضى الآمر بانتفائه،سواء كان من الأفعال المتعلقة للتكليف أم لا كما في قولك:تب لعلك تفلح،و أسلم لعلك تدخل الجنة،و قوله تعالى:
فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ .
الثاني:أنه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول،و إلا لغى -الإنذار الحاصل من ترتب العمل على الخبر احتياطا.
متعلق بقوله:«الواجب».
مثل:ادع زيدا لعله يأتينا و اضربه لعله يتأدب.
لعلّ الوجه في عدم عدّ الغاية فيه موردا للتكليف أن التذكر و الخشية مما لا يجب مولويا شرعا،بل هي لازمة عقلا،فالخطاب إرشادي.فتأمل.
و قد يدعى أن التذكر و الخشية من فرعون ليسا موردا لتكليف المخاطب بذي الغاية و هو موسى و هارون عليهما السّلام لخروجهما عن قدرتهما و كونهما داخلين تحت اختيار فرعون.
و فيه:أن المراد من جعل الغاية فيه موردا للتكليف ليس تكليف المخاطب بذي الغاية و إلا لتعين الخطاب بالغاية ابتداء،من دون ذكر ذي الغاية،أو الخطاب بهما بوجه آخر من دون ذكر(لعل)بل إبدالها بمثل:(حتى)و(كي)فيقال:«ألق الثوب في النار حتى يحترق»و:«ضعه في الشمس كي يجف»،و لا يصح مجيء(لعل) لما فيها من الدلالة على عدم الملازمة بين الغاية و ذيها،و هو إنما يصح في الأفعال التي هي مورد لتكليف غير المخاطب بذي الغاية،لاحتمال عصيانه أو غيره،كما في آية النفر،الآية التي هي محل الكلام و غيرهما.
ص: 383
الإنذار .
و نظير ذلك ما تمسك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة و تصديقها في العدة من قوله تعالى: وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ فاستدل بتحريم الكتمان و وجوب الإظهار عليهن على قبول قولهن بالنسبة إلى ما في الأرحام.
فإن قلت:المراد بالنفر النفر إلى الجهاد ،كما يظهر من صدر الآية، لا يخفى أن الإنذار لا يلغو مع عدم وجوب الحذر،لإمكان كون فائدته مجرد التذكير و إلقاء الاحتمال المستتبع لوجوب الفحص عن الأحكام مع أنه قد يوجب العلم أو يكون بعض سببه،و ذلك فائدة مهمة.
نعم قد تدعى الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار و وجوب القبول و إن لم يكن بينهما ملازمة واقعية.و لعلّ ما نقله عن المسالك مبني على ذلك.إلا أن الإنصاف أن الملازمة المذكورة غير تامة.
نعم لا يبعد ثبوتها فيما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء بالإبلاغ المأمور به و كان الغالب في الإبلاغ أنه لا يوجب العلم،فإن الملازمة-حينئذ-عرفا بين وجوب الإبلاغ و وجوب القبول غير بعيدة،و من الظاهر عدم تمامية ذلك في المقام،و لا يبعد تماميته في حرمة كتمان المرأة لما في رحمها،فتأمل.
ذكر في تفسير الآية وجوه ثلاثة:
الأول:أن المراد بالنفر النفر للتفقه و أن النافرين إذا تفقهوا في سفرهم رجعوا إلى بلادهم فانذروا المتخلفين،و عليه يبتني الاستدلال بالآية بالوجه السابق.
الثاني:أن المراد به النفر إلى الجهاد،و أن التفقه ليس غاية له،بل فائدة قد تترتب عليه بسبب مشاهدة آيات عظمة اللّه و تأييده للمؤمنين و نصرهم فيزيدهم بصيرة في الدين،فإذا رجعوا إلى قومهم أخبروهم بذلك و أنذروهم من التقصير في-
ص: 384
و هو قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً و من المعلوم أن النفر إلى الجهاد ليس للتفقه و الانذار.
نعم ربما يترتبان عليه،بناء على ما قيل من أن المراد حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات اللّه و ظهور أوليائه على أعدائه و ساير ما يتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة اللّه و حكمته،فيخبروا بذلك عند رجوعهم إلى الفرقة المتخلفة الباقية في المدينة،فالتفقه و الإنذار من قبيل الفائدة،لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها.
قلت:
أوّلا:أنه ليس في صدر الآية دلالة على أن المراد النفر إلى الجهاد ، -الدين في فرائضه بعد ظهور آياته و نصوع حجته.
الثالث:أن المراد به النفر إلى الجهاد أيضا،و لكن التفقه ليس من وظيفة النافرين،بل من وظيفة المتخلفين مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة فيتفقهون فيما يستجد من الأحكام،فإذا رجع إليهم قومهم النافرون إلى الجهاد أنذروهم بما تفقهوا به من مستجدات الأحكام.
كأن الوجه في ظهوره في النفر إلى الجهاد كونه في سياق آيات الجهاد،فإن قبله قوله تعالى: لَقَدْ تٰابَ اللّٰهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهٰاجِرِينَ وَ الْأَنْصٰارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سٰاعَةِ الْعُسْرَةِ... ثم قوله تعالى: مٰا كٰانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّٰهِ... و بعده قوله تعالى: قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً... .
لحذف الغاية فيه.و قرينة السياق لا تنهض بالحمل على ذلك مع التصريح بالغاية في قوله: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا و حمله على مجرد بيان الفائدة الاتفاقية بعيد جدا،فظهوره في تفسير صدر الآية أقوى من ظهور السياق.
ص: 385
و ذكر الآية في آيات الجهاد لا يدل على ذلك.
و ثانيا:لو سلم أن المراد النفر إلى الجهاد لكن لا يتعين أن يكون النفر من كل قوم طائفة لأجل مجرد الجهاد،بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعين أن ينفر من كل قوم طائفة ،فيمكن أن يكون التفقه غاية لا يجاب النفر على كل طائفة من كل قوم لا لإيجاب أصل النفر .
و ثالثا:أنه قد فسر الآية بأن المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم بل يتأدى بأن ينفر قوم دون قوم،أو ينفر جميعهم.
يعني:أن الآية تضمنت النفر بوجه خاص بأن يكون من كل فرقة طائفة، فلو سلم أن أصل النفر للجهاد،فلا وجه للالتزام بأن إيجاب الخصوصية المذكورة لأجل الجهاد أيضا،بل الظاهر أنها للتفقه.
أقول:إن كان المراد التفكيك في قوله تعالى: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ...
فلا مجال للالتزام به،لوضوح أنه لم يتضمن إلا حكما واحدا واردا على الخصوصية، فلا وجه للتفكيك فيه بين الأصل و الخصوصية.
و إن كان المراد حمل قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً على النفر إلى الجهاد-و لو بقرينة السياق-و حمل قوله تعالى: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ...
على النفر للتفقه للتصريح بالغاية المذكورة،فله وجه،لتعدد الحكم،فيمكن اختلاف الغاية،إلا أنه خلاف الظاهر،لظهور الفاء في الثاني في التفريع على الأول،فيكون صالحا لتفسير المراد من الأول،لأنه أقوى من قرينة السياق فيه.
بل لا قرينة في السياق،فإن الآية السابقة ظاهرة في لزوم خروج الناس بأجمعهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،خصوصا مع تفسيرها بغزوة تبوك،و هو لا يلائم هذا الوجه في تفسير الآية الكريمة.
إشارة إلى التفسير الثالث الذي تقدم،و عليه يكون التفقه غاية لوجوب-
ص: 386
إلى الجهاد كما يظهر من قوله: وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً و أمر -تخلف المتخلفين،لا لوجوب النفر على النافرين،فيدلّ على المطلوب أيضا لاقتضائه كون التفقه و الإنذار واجبين لكونهما غاية لواجب.
لكن هذا الوجه خلاف ظاهر نظم الآية،لأن رجوع واو الجماعة في قوله:
لِيَتَفَقَّهُوا على النافرين المذكورين صريحا أولى من رجوعها على المتخلفين المفهومين ضمنا،كما لا يخفى.
بل هو خلاف أكثر الأخبار الآتية المستشهد فيها بالآية.
نعم هذا الوجه لا ينافي قرينة السياق بخلاف الوجه الثاني،لما عرفت من أن الوجه الثاني يقتضي عدم وجوب خروج الجميع مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو لا يلائم الآية السابقة،أما هذا الوجه فهو إنما يقتضي عدم خروج الجميع عند بقاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المدينة،فلا ينافي الآية السابقة الظاهرة في لزوم الخروج مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عن ابن عباس أن اللّه لمّا حثهم على الجهاد في الآيات السابقة و عاتبهم في التخلف سير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرية،فأراد الناس الخروج بأجمعهم فنزلت هذه الآية و أمرتهم بالانقسام،فبعض يبقى و بعض يخرج،فهذه الآية خاصة في الغزوة التي لا يخرج معها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ما قبلها مختص بالغزوة التي يخرج فيها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عن الباقر عليه السّلام:أنه كان هذا حين كثر الناس،فأمرهم اللّه أن تنفر منهم طائفة و تقيم طائفة للتفقه و يكون الغزو نوبا.
و الذي تحصل:أن التفسير الأول مخالف للسياق من دون أن ينافره و مناسب لنظم الآية و للأخبار الآتية،و الثالث بعكسه مناسب للسياق غير مناسب لنظم الآية و لا للأخبار الآتية،و كلاهما دال على المطلوب،لاقتضائه كون التفقه غاية لواجب و هو نفر النافرين أو بقاء المتخلفين.
و أمّا الثاني فهو موهون جدا لمنافرته للسياق و للأخبار الآتية،و إن كان مناسبا لنظم الآية.
ص: 387
بعضهم بأن يتخلفوا عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يخلوه وحده،فيتعلموا مسائل حلالهم و حرامهم حتى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.
و الحاصل:أن ظهور الآية في وجوب التفقه و الانذار ممّا لا ينكر، فلا محيص عن حمل الآية عليه و إن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض ألفاظها .
و ممّا يدل على ظهور الآية في وجوب التفقه و الإنذار استشهاد الإمام بها على وجوبه في أخبار كثيرة:
منها:ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السّلام في حديث قال:
«إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه و طلب الزيادة و الخروج عن كل ما اقترف العبد إلى أن قال:و لأجل ما فيه من التفقه و نقل أخبار الأئمة عليهم السّلام إلى كل صقع و ناحية،كما قال اللّه عزّ و جل: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ... الآية.
و منها:ما ذكره في ديباجة المعالم من رواية علي بن حمزة قال:«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:تفقهوا في الدين،فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي،فإن اللّه عزّ و جل يقول: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا... الآية.
و منها:ما رواه في الكافي في باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام عليه السّلام من صحيحة يعقوب بن شعيب،قال:
«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:إذا حدث على الامام حدث كيف يصنع كما هو الحال في التفسير الأول.لكن عرفت أن مخالفته له ليس بنحو ينافره.
كما هو الحال في التفسير الثاني.
ص: 388
الناس؟قال:أين قول اللّه عزّ و جل:فلو لا نفر،قال:هم في عذر ما داموا في الطلب،و هؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليه أصحابهم».
و منها:صحيحة عبد الأعلى قال:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول العامة:إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهلية.
قال:حق و اللّه.قلت:فإن إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك.قال:لا يسعه إن الإمام إذا مات وقعت حجة وصيه على من هو معه في البلد،و حق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم،إن اللّه عزّ و جل يقول: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ... الآية.
و منها:صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و فيها:«قلت أ فيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟فقال:أما أهل هذه البلدة فلا-يعني:أهل المدينة-و أما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم.إن اللّه عزّ و جل يقول: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ.
و منها:صحيحة البزنطي المروية في قرب الإسناد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام.
و منها:رواية عبد المؤمن الأنصاري الواردة في جواب من سأل عن قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:اختلاف أمتي رحمة ،قال:إذا كان اختلافهم رحمة فاتفاقهم عذاب .ليس هذا يراد،إنما يراد الاختلاف في طلب العلم، على ما قال اللّه عزّ و جل: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ الحديث يعني:السائل.
هذا مبدأ كلام الإمام عليه السّلام.
ص: 389
منقول بالمعنى و لا يحضرني ألفاظه.
و جميع هذا هو السر في استدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم و كونه كفائيا .
هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة.لكن الإنصاف عدم جواز الاستدلال بها من وجوه:
الأول:أنه لا يستفاد من الكلام إلا مطلوبية الحذر عقيب الإنذار بما يتفقهون في الجملة،لكن ليس فيها إطلاق وجوب الحذر،بل يمكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم،فالمعنى:لعله يحصل لهم العلم فيحذروا ،فالآية مسوقة لبيان مطلوبية الإنذار بما يتفقهون و مطلوبية و كذا استدلالهم على حجية فتوى المجتهد في حق العامي،و حجية الخبر فيما نحن فيه،و إن كان سيأتي بعض الكلام في ذلك.
هذا خلاف الإطلاق،المستفاد من جعل الحذر غاية للإنذار،لأن ظاهر مثل هذه التراكيب أن ذا الغاية كاف في تحقق موضوع الغاية و موجب لحسنها،فإذا قيل:أحسن لزيد لعله ينفعك،فظاهره أن الاحسان ممّا ينبغي ترتب النفع عليه و إن كان قد يتخلف لجهات أخر،و إذا قيل:ادفع لزيد عشرة دراهم لعله متعفف عما في أيدي الناس،فظاهره محبوبية التعفف و كفاية دفع عشرة دراهم في لزوم ترتبه من زيد،و إن كان قد يتخلف أيضا.و حينئذ فجعل الحذر غاية للإنذار ظاهر في كونه بنفسه ممّا يحسن معه الحذر،لا خصوص الموجب للعلم منه.
كما أن حمله على ما ذكره المصنف قدّس سرّه من احتمال كون غاية الإنذار حصول العلم،فيترتب عليه الحذر طبعا،بعيد جدا،لأن ظاهر مثل هذا التركيب كون الغاية نفس الحذر،فيدل على مطلوبيته.لا العلم،حتى يكون من سنخ الفائدة التي لا تصلح للتكليف.
ص: 390
العمل من المنذرين بما أنذروا،و هذا لا ينافي اعتبار العلم في العمل،و لهذا صح ذلك فما يطلب فيه العلم .
فليس في هذه الآية تخصيص للأدلة الناهية عن العمل بما لم يعلم.
و لذا استشهد الإمام فيما سمعت من الأخبار المتقدمة على وجوب النفر في معرفة الإمام عليه السّلام و إنذار النافرين للمتخلفين،مع أن الإمامة لا تثبت -نعم أشرنا قريبا إلى أن ظاهر(لعل)عدم الملازمة بين الغاية و ذيها،و أنها قد تتخلف،و ذلك قد يكون من جهة قصور المكلف،لجهله بطلب الغاية،كما لو قال المولى:أخبر زيدا لعله يقبل منك،فإنه قد يكون الوجه في التخلف جهل زيد بطلب المولى من المخاطب إخباره حتى يرتب الأثر على الخبر،بحيث لو فرض علمه بذلك لم يتخلف.
كما قد يكون لتوقع تقصير المكلف و عصيانه و تمرّده لا لقصور في التبليغ و إقامة الحجة،نظير قوله تعالى: فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ. و الظاهر أن ذلك هو المنشأ للإتيان ب(لعل)في الآية الشريفة،دون الأوّل،لأن الخطاب بالنفر و التفقه و الإنذار عام موجه للكلام مع ظهور مساق الآية في كون الحكم الذي تضمنته ارتكازيا عقلائيا،و أن الحذر ممّا يترتب طبعا على الإنذار تبعا للارتكاز العام عند العقلاء.
نعم ذلك موجب لانصرافه إلى صورة حصول الوثوق من الخبر،لاختصاص الارتكاز و السيرة به،و لا إطلاق له شامل لما إذا لم يحصل الوثوق و لا أقل من كون ذلك مقتضى الأدلة الأخر المقيدة لإطلاق الآية،و لا وجه لما ذكره المصنف قدّس سرّه من احتمال اعتبار العلم لمخالفته لإطلاق الخطاب،كما سبق.
هذا لا ينافي ظهور الآية في عدم اعتبار العلم و كفاية الوثوق،و إن لزم الخروج عنه في مورد النصوص لأدلة خارجية مقيدة لإطلاق الآية الشريفة.
ص: 391
إلا بالعلم.
الثاني:أن التفقه الواجب ليس إلا معرفة الأمور الواقعية من الدين، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأمور المتفقه فيها،فالحذر لا يجب إلا عقيب الإنذار بها،فاذا لم يعرف المنذر-بالفتح-أن الإنذار هل وقع بالأمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمدا من المنذر-بالكسر-لم يجب الحذر حينئذ ،فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية،فهو نظير قول القائل:أخبر فلانا بأوامري لعله يمتثلها .
فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات ،فإن المقصود من لا إشكال في أن الحذر الواجب إنّما هو من الأحكام الواقعية الشرعية،إلا أن هذا لا ينافي وجوب الحذر بما أنذروا به وجوبا طريقيا ظاهريا لإحراز الواقع،فموضوع الحذر ثبوتا هو الحكم الواقعي،و إثباتا هو الإنذار به،و حمل الآية على بيان الحكم الواقعي مع توقفه ثبوتا على العلم موجب لتقييد حجية إطلاق الآية الكريمة كما سبق.
بل الظاهر في المثال المذكور الاكتفاء بالوثوق،لنظير ما سبق.
نعم لو فرض عدم وثوق فلان بالشخص المكلف كان التكليف بإبلاغه تعبديا و تعين عموم حجية خبره له،و يكون الوجه في ذكر(لعل)قصور فلان المكلف،لجهله بصدور الخطاب عن المولى،نظير ما ذكرناه آنفا.
في بعض النسخ الحكم بزيادة هذه الفقرة:«فهذه الآية نظير ما ورد من الأمر بنقل الروايات»و لعله الأقرب،لارتباط ما بعدها بما قبلها و لأن مضمونها داخل فيما يأتي بقوله:«و نظيره جميع ما ورد...»و يأتي الكلام فيه.
ص: 392
هذا الكلام ليس إلا وجوب العمل بالأمور الواقعية،لا وجوب تصديقه فيما يحكي و لو لم يعلم مطابقته للواقع،و لا يعد هذا ضابطا لوجوب العمل بالخبر الظني الصادر من المخاطب في الأمر الكذائي.
و نظيره جميع ما ورد من بيان الحق للناس و وجوب تبليغه إليهم، فإن المقصود منه اهتداء الناس إلى الحق الواقعي،لا إنشاء حكم ظاهري لهم بقبول كل ما يخبرون به و إن لم يعلم مطابقته للواقع.
ثمّ الفرق بين هذا الإيراد و سابقه أن هذا الإيراد مبني على أن الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم بالحذر عن الأمور الواقعية المستلزم لعدم وجوبه إلا بعد إحراز كون الإنذار متعلقا بالحكم الواقعي،و أما الإيراد السابق فهو مبني على سكوت الآية عن التعرض لكون الحذر واجبا على الإطلاق أو بشرط حصول العلم.
الثالث:لو سلمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا عند الفرق بين الأمر ببيان الحق للناس و تبليغهم بالأحكام و الأمر بالإنذار في المقام،أن الأمر ببيان الحق لم يتضمن جعل القبول غاية له،ليكشف عن إمضاء الطريقة العقلائيّة في قبول الخبر مع الوثوق بصدقه،بخلاف الأمر بالإنذار في المقام، فإنه لما تضمن جعل غايته الحذر كان ظاهرا في إمضاء الطريقة المذكورة.
الأولى في تقريب هذا الإشكال أن يقال:لما كان مفاد الآية وجوب الحذر عند إنذار المتفقه اختصّ بفتوى المفتي للعامي و لم يشمل مقام الرواية،إذ ليس تحمل الرواية بنفسه تفقها في الدين،فإن الدين ليس إلاّ الأحكام الشرعيّة و تحمل الرواية ليس بنفسه معرفة لها،و إن كان قد يوصل إلى معرفتها بعد فرض تمامية الدلالة و فقد المعارض،كما أن نقل الرواية بنفسه ليس إنذارا،لعدم تضمنه نقل الحكم المستلزم-
ص: 393
إنذار المنذر و لو لم يفد العلم،لكنه لا يدل على وجوب العمل بالخبر من حيث أنه خبر،لأن الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف،فإنشاء التخويف مأخوذ فيه،و الحذر هو التخوف الحاصل عقيب هذا التخويف الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلا،و من المعلوم أن التخويف لا يجب إلا على الوعاظ في مقام الإيعاد على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب و الحرمة،كما يوعد على شرب الخمر و فعل الزنا و ترك الصلاة، أو على المرشدين في مقام إرشاد الجهال ،فالتخوف لا يجب إلا على المتعظ و المسترشد ،و من المعلوم أن تصديق الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محل الكلام خارج عن الأمرين.
توضيح ذلك:أن المنذر إما أن ينذر و يخوف على وجه الإفتاء و نقل -للعقاب،و إن كان قد يوصل بضميمة اجتهاد المنقول إليه إلى معرفة الحكم،فيستلزم التخوف بسبب العلم بالملازمة بين الحكم و العقاب.فلاحظ.
لعلّ الأولى أن يقول:التخويف من وظيفة الوعاظ...و من وظيفة المرشدين...كما أن الظاهر خروج الوعاظ عن مدلول الآية،لأن المنصرف منها:
أن المنذر هو المتفقه،و المنذر،هو غير المتفقه،فلا تشمل الوعاظ،لأنهم ينذرون المتفقهين لا غير.بل قد لا يكون الواعظ متفقها،كما لو خوف من مخالفة اللّه تعالى وجبت إطاعته من دون معرفة منه بما فيه الموافقة و المخالفة لعدم تفقهه في الدين، و عدم معرفته بالأحكام.و من هنا كان الظاهر اختصاص الآية الشريفة بإفتاء المجتهد للعامي.
فإن بيان الحكم يستلزم التخويف،لملازمة الحكم للعقاب مع المعصية.
الأولى أن يقول:فإن التخوف لا يجب الاّ على من يوجه له الموعظة و الإرشاد،و أما المتعظ و المسترشد فهما خائفان فعلا،لا مكلفان بالتخوف.
ص: 394
ما هو مدلول الخبر باجتهاده،و إما أن ينذر و يخوف بلفظ الخبر حاكيا له عن الحجة.
فالأول كأن يقول:يا أيّها الناس اتقوا اللّه في شرب العصير فإن شربه يوجب المؤاخذة،و الثاني:كأن يقول:قال الإمام عليه السّلام:«من شرب العصير فكانما شرب الخمر».
اما الإنذار على الوجه الأول فلا يجب الحذر عقيبه إلا على المقلدين لهذا المفتى .
و أما الثاني فله جهتان إحداهما:جهة تخويف و إيعاد ،و الثانية جهة حكاية قول الإمام عليه السّلام.
و من المعلوم أن الجهة الأولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية، فهي ليست حجة إلا على من هو مقلد له،إذ هو الذي يجب عليه التخوف عند تخويفه.
و أما الجهة الثانية فهي التي تنفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية،لكن وظيفته مجرد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الإمام عليه السّلام ،و أما أن مدلوله متضمن لما يوجب التحريم،الموجب للخوف أو الكراهة،فهو مما ليس فهو المنذر حجة فيه بالنسبة إلى هذا المجتهد.
و أما القادر على استنباط الأحكام فلا يجوز له الرجوع إلى مجتهد آخر، لقصور أدلّة التقليد تخصيصا أو تخصصا عن شموله و تمام الكلام في محله.
من جهة ملازمة المضمون المنقول للعقاب.
و هو خارج عن الحذر،كما أن نقله ليس إنذارا،و تحمله ليس تفقها،كما سبق.
ص: 395
فالآية الدالة على وجوب التخوف عند تخويف المنذرين مختصة بمن يجب عليه اتباع المنذرين في مضمون الحكاية،و هو المقلد،للإجماع على أنه لا يجب على المجتهد التخوف عند إنذار غيره،إنما الكلام في أنه هل يجب عليه تصديق غيره في الألفاظ و الأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه السّلام أم لا،و الآية لا تدل على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوف عند التخويف.
فالحق أن الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية و وجوب التقليد على العوام أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر.
و ذكر شيخنا البهائي قدّس سرّه في أول أربعينه أن الاستدلال بالنبوي المشهور:«من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه اللّه يوم القيمة فقيها عالما»على حجية الخبر لا يقصر عن الاستدلال عليها بهذه الآية.
و كأن فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها لأن الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدا ،كما سيجيء إن شاء اللّه عند ذكر الأخبار.
بل و لا على كل أحد،لما عرفت من خروج محض الحكاية عن مفاد الآية.
كما هو مقتضى وجوب التفقه على طائفة من المؤمنين المستفاد من الآية لكونه غاية للواجب.
كما هو مقتضى وجوب الحذر على غير المتفقه بسبب إنذار المتفقه.
لكن لا يبعد ظهور كلام البهائي في قوة دلالة الحديث قياسا على الآية، لا ضعف الاستدلال بالآية قياسا به.-
ص: 396
و لكن ظاهر الرواية المتقدمة عن علل الفضل يدفع هذا الإيراد .
لكنها من الآحاد فلا ينفع في صرف الآية من ظاهرها في مسألة حجية الآحاد مع إمكان منع دلالتها على المدعى،لأن الغالب تعدد من يخرج إلى الحج من كل صقع بحيث يكون الغالب حصول القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعي عن الإمام عليه السّلام.و حينئذ فيجب الحذر عقيب إنذارهم، فإطلاق الرواية منزل على الغالب.
و من جملة الآيات التي استدل بها جماعة-تبعا للشيخ في العدة-على حجية الخبر قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّٰعِنُونَ... الآية.
و التقريب فيه نظير ما بيناه في آية النفر من أن حرمة الكتمان يستلزم -هذا و يأتي من المصنف قدّس سرّه عند الكلام في ال