المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني
المحقق: علي الفاضلي
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: 1
الموضوع : أصول الفقه
تاريخ النشر : 1428 ه.ق
ISBN (ردمك): 978-964-7986-36-6
المكتبة الإسلامية
تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري
تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني
(1236-1292ه)
الجزء الثالث
تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي
بسم اللّه الرحمن الرحيم (1)
القول في المظنّة واعتبارها ، وتفصيل الكلام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام ، يستدعي تمهيد (2) مقدّمة ، فنقول :
المكلّف إمّا أن يكون ملتفتا ومستشعرا بالتكليف ، أو لا يكون بل هو ذاهل ، ولا شكّ في أنّه في هذه الحالة معذور على ما تقتضيه قواعد (3) العدلية لكنّه بالنسبة إلى الأحكام التكليفية.
وأمّا الأحكام الوضعية ، فتفصيل الكلام فيها له محلّ آخر ، والأوّل إمّا أن يكون شاكّا ، أو ظانّا ، أو قاطعا ؛ لأنّ المدرك تارة يدرك بحيث لا يحتمل الخلاف في نفسه من حيث هو مدرك ، وأخرى على وجه يحتمله ، فمرّة يحتمل احتمالا مرجوحا ، وأخرى احتمالا مساويا.
والأوّل : هو الإدراك العلمي ، وينقسم بأقسامه المعهودة من التقليد واليقين والجهل المركّب.
والثاني : هو الإدراك الظنّي ، ويختلف باختلاف مراتبه شدّة وضعفا.
والثالث : هو الشكّ ، وقد يسمّى غير الأوّل به إلاّ أنّه خلاف المعهود.
ص: 1
ثمّ إنّه لا شكّ في عدم اعتبار الشكّ ، وكفاك شاهدا نفي الشكّ فيه ، وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : إنّه لو كان حجّة ومعتبرا ، لزم الترجيح من غير مرجّح ؛ إذ لا نعني باعتباره إلاّ أنّ الشيء بمجرّد كونه مشكوكا يحكم فيه بأحد طرفي الشكّ وهو المراد من اللازم كما لا يخفى إلاّ أنّ المكلّف في حالة الشكّ لا يخلو عن أحد الأصول الأربعة من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير بحسب اختلاف أحواله من الشكّ في التكليف ، أو في المكلّف به ، أو وجود الحالة السابقة وليس ذلك من جهة اعتبار الشكّ بل هو موضوع لتلك الأحكام ، والمتكفّل لبيان هذه الأصول ومواردها مباحث الأدلّة العقلية.
وأمّا الظنّ ، فعقد الباب فيه ، وسيجيء تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه.
ص: 2
وأمّا العلم ، فلا ريب أنّه على تقديره لا مجال للشكّ في وجوب العمل به واعتباره ، كما يدلّ عليه نفي الريب عنه بل هو معتبر بنفسه ، ودليل اعتباره ليس خارجا عن نفسه بل لا يحتاج إلى دليل ؛ إذ هو مع إفادة الظنّ لا يغني من جوع ؛ لاستلزامه إثبات الأخصّ بالأخسّ ، ومع إفادة العلم يدور أو يتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى دليل هو حجّة بنفسه وهو المطلوب ، ومعنى حجّيته أنّه لا حجّة على عامله معه لا أنّه حجّة وواسطة في إثبات آثار متعلّقه عليه كما هو الشأن في غيره من الحجج الاصطلاحية ، ففي إطلاق الحجّة عليه تسامح.
وتوضيح ذلك : أنّ الحجّة في مصطلح أهل العلم - على ما هو المبيّن في علم (1) الميزان - ما يقع وسطا لإثبات أحكام الموضوعات من المحمولات لها ، ويستكشف منها آثارها المترتّب عليها في القضايا المطلوبة والنتائج كما يظهر ذلك بالرجوع إلى البرهان السائر على ألسنتهم في إثبات حدوث العالم ، فإنّ المتغيّر هو الحجّة والواسطة في إثبات الحدوث الأكبر للعالم الأصغر ، ففي الحقيقة تسمية البرهان حجّة إنّما هي لأجل اشتماله عليها ، ويكشف عن ذلك إتيانها بعد لام التعليل مفردا ، فالعلم بحدوث
ص: 3
العالم إنّما يستند إلى العلم بالتغيّر ، فهو من حيث إنّه متغيّر حادث ؛ لأنّ التغيّر طريق ومرآة لحدوثه على ما لا يخفى.
إذ قد عرفت المراد من الحجّة ، ظهر أنّ العلم ليس بهذه المثابة ؛ فإنّ العلم مرآة وطريق إلى الواقع ، وليس واسطة في ترتّب أحكام متعلّقه عليه بل هو آلة للوصول إليه واقعا عند العالم ، فكما أنّ السراج - مثلا - ليس واسطة لثبوت الأحكام الواقعية الثابتة بواسطة عللها الواقعية للأشياء المختفية لعارض الظلمة ، ولا لإثباتها لها بل به يمكن الوصول إلى تلك الآثار الثابتة لها ، فكذا العلم ليس واسطة في ثبوت آثار المعلوم له ، ولا في إثباتها له ، ففي ترتّب حكم من الأحكام على المعلوم - لو طالبنا أحد بدليل - لا يصحّ تعليله بالعلم ، فلا بدّ من بيان ما هو المستند في ترتّب ذلك الحكم على المعلوم من جعل جاعل كما في الأحكام الجعلية وغيره في غيرها كما يظهر ذلك عند ملاحظة قولك : « البول نجس » فإنّ النجاسة لا تترتّب على العلم بها ؛ لاستنادها إلى جعل الشارع مثلا ، فهو من حيث علّتها الواقعية نجس ، لا من حيث إنّه معلوم كما هو الشأن في الواسطة العلمية ، وليس سائر الأمارات الظنّية مثل فتوى المجتهد والاستصحاب والخبر كذلك ، فإنّها أوساط في الأدلّة التي يستدلّ بها على إثبات الآثار على متعلّقاتها كما ترى في قولك : صلاة الجمعة واجبة ، لأنّها ممّا أخبر العادل بوجوبه ، فهي - من حيث إنّها قد أخبر العادل بوجوبها - واجبة.
وقس عليه سائر الأمارات من ظنّ المجتهد وغيره ، فإنّه يقال : هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما أدّى إليه ظنّي ، فهو حكم اللّه في حقّي ، فالموضوع في النتيجة من حيث كونه مظنونا صار موضوعا لمحمولها ؛ وكذا يقال في الاستصحاب : هذا ممّا علمنا طهارته قبل ، وكلّ ما علمنا طهارته قبل ، فلا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فهذا ممّا لا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فالاستصحاب واسطة في إثبات أحكام المستصحب له وترتّب آثاره عليه ، ولهذا ما لم يدلّ دليل على اعتبار الاستصحاب أو
ص: 4
خبر الواحد أو غيرهما لا يصحّ الاستدلال بها ، فظهر الفرق بين العلم وسائر الأمارات ؛ فإنّها أوساط وحجج دونه.
والسرّ في ذلك : أنّ دلالة شيء على شيء لا بدّ أن تكون بواسطة ملازمة بينهما من العلّية لأحد الطرفين للآخر ، أو لاشتراكهما في علّة ثالثة - وإن كانت العلّية تعبّدية شرعية لا عقلية كما في الأمارات التي ثبت حجّيتها بالشرع - ولا ملازمة بين العلم ومعلومه ، كيف وهو متأخّر عنه زمانا ، والآثار المترتّبة على المعلوم وإن كانت متأخّرة عنه ذاتا وفي نفس المرتبة (1) إلاّ أنّها مقارنة للمعلوم زمانا ؛ لعدم الانفكاك بينهما ؛ فإنّها مجعولات بجعل ماهيّة الملزوم والمعلوم ، ولا يتعقّل تأثير العلم المتأخّر بحسب الزمان في المتقدّم بحسبه (2) ؛ ضرورة استلزامه وجود الشيء قبل وجوده وهو محال.
لا يقال : فعلى ما ذكرت لا يجوز أن يكون الظنّ واسطة أيضا ؛ فإنّه متأخّر عن المظنون وتابع له ، فتأثير المتأخّر في المتقدّم - كما قرّرت - يوجب تقديم المتأخّر وهذا خلف.
لأنّا نقول : إنّ الظنّ تابع للحكم في (3) نفس الأمر (4) وهو ليس (5) واسطة في إثباته (6) بل هو واسطة في إثبات الحكم الظاهري (7) وهو متأخّر عنه ، فلا محذور.
وتوضيحه : أنّ هناك قضيّتين : إحداهما أنّ الخمر نجس ، والظنّ في هذه القضية كالعلم تابع ، وثانيهما : القضية الكلّية القائلة بأنّ كلّ ظنّ حجّة ، المتكفّلة لبيان النجاسة الظنّية ، فلا شكّ في تأخّر الحكم المستفاد منها عن الظنّ ، فلا يلزم المحذورات.
فإن قلت : مثل ذلك نقول (8) بعينه في العلم ؛ فإنّ ما يتوقّف (9) عليه العلم هو نفس
ص: 5
الحكم الواقعي المدلول عليه بقولنا : « الخمر نجس » وما يتوقّف حصوله على حصول العلم هو القضية الكلّية القائلة بأنّ العلم حجّة ، المستتبعة لبيان النجاسة المعلومة ، فالقضيّتان متغايرتان ؛ لتغاير طرفيهما ؛ فإنّ الموضوع والمحمول في الأولى غيرهما في الثانية.
قلت : نعم ، إلاّ أنّ القضية الثانية لا تغاير الأولى ؛ فإنّ العلم بالحكم الواقعي هو العلم بنجاسة (1) الخمر بل المعلوم الواقعي عين الواقع.
وإن شئت زيادة توضيح ، فاعلم أنّ العلم في القضية تارة يؤخذ قيدا (2) للحكم والإدراك التصديقي كما في قولنا : « زيد قائم علما » فإنّا قيّدنا الحكم بالقيام على زيد بكونه علميا ؛ دفعا لاحتمال أن يكون التصديق بقيام زيد ظنّيا مثلا ، وقد يؤخذ جزءا لموضوع أو محمول ، فهو حينئذ (3) كنفس الموضوع أو المحمول ، ولا يكون مرآة وآلة لملاحظة حال المحمول ، ثابتا للموضوع ، والقضية القائلة بأنّ كلّ ما هو معلوم الخمرية - مثلا - نجس إنّما يراد بها ثبوت المحمول للموضوع ثبوتا علميا ، ولا مدخل للعلم في الموضوع ؛ فإنّه قيد للحكم ، فالموضوع والمحمول في القضيتين ليسا بمتغايرين كما هو مبنى الاعتراض ، وذلك نظير ما لو علمنا الإنسان حيوانا (4) دائما ، فالدوام في القضية مثلا جهة للنسبة ، فلو جعلناه جزءا للمحمول ، لم يصحّ ، وهذا هو منشأ الخلط في المقام من أخذ ما هو قيد للحكم أو جهة للنسبة جزءا للموضوع والمحمول ، ولا يجري مثل هذا الكلام في الظنّ حيث إنّ جريان تلك الأحكام في العلم إنّما هو من جهة عدم حاجة (5) جعل العلم طريقا للواقع بخلاف الظنّ ؛ فإنّه محتاج إلى جعله طريقا ، ويستتبعه أحكام ظاهرية بها يصير الظنّ واسطة في إثباتها كما عرفت في الأقيسة المذكورة.
ص: 6
لا يقال : هذا يناقض ما تقدّم في بعض المباحث السالفة من عدم الإجزاء بالأمر الظاهري إذا انكشف الخلاف حيث إنّ الظنّ - على هذا التقدير - حكم ثانوي جعل (1) في مرحلة الظاهر بدلا (2) عن الواقع ، وظاهر أنّ البدل يكفي وجوده في محلّه عن المبدل منه.
لأنّا نقول : البدل يكفي وجوده عن المبدل منه فيما لو كان في عرض المبدل منه كما في خصال الكفّارة ؛ فإنّ العتق فيه مصلحة تكافئ مصلحة الصوم مثلا ، وأمّا فيما لو كان مرتّبا على المبدل منه ، وكان جعله من جهة عدم الوصول إلى المبدل منه ، فمن المعلوم عدم كفاية البدل عن المبدل منه فيما لو انكشف الخلاف ، فلا تنافي بين المقامين ؛ للفرق الظاهر بين أن يكون الجعل في مرحلة بدلا عنه (3) في مرحلة أخرى ، وبين أن يكون المجعول بدلا عنه في مورد كما هو كذلك في الخصال.
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ العلم له حالات ثلاثة :
أحدها : أن يكون طريقا للوصول إلى متعلّقه كما في العلم بالنجاسة (4).
الثاني والثالث : أن يكون موضوعا أو جزء موضوع للآثار الشرعية أو العقلية الخارجة عن متعلّقه ، فهو بالنسبة إلى متعلّقه أيضا طريق ، وموضوعيته بملاحظة الآثار المترتّبة عليه شرعا أو عقلا.
فمن أمثلة الأوّل (5) الثواب والعقاب المترتّبان على نفس العلم في صورتي التجرّي والانقياد ؛ فإنّ من اعتقد وعلم بوجوب شيء ، فيجب عليه الإتيان بالواجب المعتقد انقيادا ، وكذا فيما علم حرمته ، فالإتيان به محرّم للتجرّي ، فالشارع قد جعل العلم موضوعا لترتّب الثواب والعقاب في صورة الإتيان بما يعتقد وجوبه والاحتراز عمّا
ص: 7
يعلم حرمته ، أو ترك الواجب وفعل المحرّم المعلومين ، وإن لم يكن هو في الواقع كذلك.
و (1) ممّا يترتّب على نفس العلم شرعا جواز الإفتاء بالمعلوم ولو بالمعنى الشامل للظنّ المعلوم حجّيته بالخصوص كأخبار الآحاد على القول به ؛ فإنّه لا يجوز شرعا فيما إذا لم يعلم.
ومن أمثلة الثاني (2) العلم بالحكم الواقعي عند الإطاعة والامتثال أو المخالفة ، فالعقل يستقلّ بإدراك الثواب والعقاب المترتّبين على العلم في الصورة المفروضة ، فالعلم في المقام جزء موضوع عقلي للآثار المترتّبة عليه.
ثمّ إنّ الظنّ أيضا قد يعتبر موضوعا لترتيب آثار شرعية.
ومن أمثلته جواز التيمّم عند حصول الظنّ الغالب على عدم وجود الماء لا مجرّد عدم الماء (3) ، ولذا لا يصحّ التعويل على أصالة عدم الماء ؛ إذ المدار شرعا في الجواز وعدمه على الظنّ وعدمه ، والأصل المذكور لا ينهض بإثباته.
نعم ، لو كان مرتّبا على عدم الماء ، فله وجه في وجه ، فهو كالعلم - على ما عرفت - طريق لمتعلّقه ، ولا يتعقّل الموضوعية بالنسبة إليه ، وموضوع بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة عليه ، فلا معنى للطريقية (4) بالنسبة إليها (5) كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا فرق في اعتبار العلم إذا كان طريقا بين أفراد العلم ، ولا بين أفراد العالم (6) والمعلوم ، فكلّ علم - عقلي أو شرعي عن كلّ عالم فقيه أو عامي على أيّ شيء من أصلي وفرعي - حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، فهو منجعل بذاته ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف كما يشهد به الوجدان ، فضلا عمّا (7) هو المقرّر في محلّه من البرهان ، وذلك بخلاف ما إذا كان موضوعا لحكم ؛ إذ المناط في عمومه وخصوصه هو جعل الجاعل ،
ص: 8
فربّما يجعله عامّا كما إذا كان الجاعل هو العقل أو الشرع ، وربّما يجعله خاصّا كالعلم الحاصل من الإحساس مثلا من عالم خاصّ كالمجتهد مثلا في مورد خاصّ كالفقه مثلا ، وربّما يجعل موضوع الحكم ما يكشف عن الواقع سواء كان ظنّيا أو علميا.
وبالجملة ، فالجاعل على حسب اختلاف الأغراض يختلف جعله ، والمدار في تميزه عموما وخصوصا على الدليل الدالّ على موضوعيته إن عامّا فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ.
ثمّ العلم لو كان طريقا ، يقوم مقامه سائر الأمارات الشرعية التي جعلها الشارع بمنزلة الواقع ، فكما أنّ العلم طريق وجداني فالاستصحاب أيضا في محلّه ومجراه طريق شرعيّ.
وإن اعتبر العلم موضوعا ، فتارة يعتبر على وجه يكون لوصف العلم مدخل فيه ، وأخرى على وجه عامّ لا مدخل لخصوص وصف العلم القائم بالنفس فيه ، فعلى الأوّل لا يصحّ قيام دليل غير علمي مقامه ؛ لانتفاء موضوع الحكم على تقديره ، وعلى الثاني يصحّ.
ويظهر الثمرة فيما لو نذر شخص على تقدير علمه بحياة زيد إعطاء درهم ، فعلى الأوّل لا يجب عليه التصدّق لو علمه بالاستصحاب ، أو قامت له البيّنة مع انتفاء العلم حقيقة في الصورتين كما أنّه لا يجب عليه التصدّق فيما لو اعتبر العلم خاصّا كالحاصل من الإبصار على تقدير عدمه.
وعلى الثاني يجب عليه التصدّق في الصورة المذكورة ؛ لحصول موضوع الحكم على تقديره ، فالمعيار في التميز (1) بين الموضوعات المترتّبة عليها الآثار الشرعية هو الدليل ، فلا بدّ من الرجوع إليه في تميزها.
وقد يشكّ في كون العلم طريقا أو موضوعا بواسطة اشتباه جهة القضية بموضوعها
ص: 9
على ما أشرنا إليه ، وعلى تقدير كونه موضوعا ، في (1) أنّه موضوع على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني فكثيرا ما يقع لفظ العلم واليقين في الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي ، فيتردّد الأمر بين أنّ ذكر الشارع له هل هو من جهة تأكيده لحكم العقل من كونه طريقا إلى الواقع ، أو من جهة اعتباره موضوعا؟ وعلى تقديره لا يعلم الوجه في موضوعيته على الاحتمالين المذكورين.
مثلا قد ورد في بعض أخبار الاستصحاب لفظ اليقين من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ». وكذا ورد في بعض الروايات (2) تعليق جواز الصلاة على استيقان دخول الوقت. وكذا ورد في بعض أخبار الشهادة « على مثل هذا فاشهد أودع » (3) مشيرا عليه السلام به إلى الشمس ، فربّما يشتبه الأمر بين اعتبار العلم فيها على وجه الطريقية أو على الوجه الموضوعية ، وعلى تقديرها بين وجهيها ، والترجيح فيها موكول على نظر المجتهد فلا ينضبط.
والثمرة بين الوجوه تظهر فيما عرفت من جواز التعدّي إلى سائر الأمارات ، ففي الشهادة لو قلنا بأنّ اعتبار العلم إنّما هو من جهة خصوصية في نفس العلم طريقا وموضوعا ، فلا يجوز التعدّي إلى غيره ، فلا يجوز الشهادة بالاستصحاب ، ولا يجوز بالحدس ؛ إذ لعلّها تختصّ بالحسيّات ، ولو قلنا بعدمه ، فهو مؤكّد لحكم العقل ، فيجوز على تقديره الشهادة بالاستصحاب والحدس إلى غير ذلك من الثمرات على ما لا يخفى.
ص: 10
قد تقدّم (1) تبعا لجماعة أنّ العلم بوجوب شيء أو حرمته بمجرّده يوجب الثواب والعقاب في صورتي الانقياد والتجرّي وإن لم يكن ما علمه موافقا لما في نفس الأمر وحاقّ الواقع ، وقد يظهر من بعضهم (2) خلاف ذلك مطلقا ، وعن بعض آخر (3) التفصيل بين ما إذا قطع بوجوب شيء محرّم ، أو حرمة شيء واجب ، فقال بعدم ترتّب الثواب والعقاب ، وبين ما إذا قطع بوجوب شيء مباح أو حرمته ، فحكم بترتّبه مستندا في ذلك إلى تعارض مصلحة ترك التجرّي مع المفسدة المترتّبة على فعل الحرام فيما إذا علم بوجوب شيء محرّم مثلا ، وأمّا إذا لم يكن في الفعل مفسدة كأن يكون مباحا أو مكروها ، فلا معارض لمصلحة ترك التجرّي ، فيترتّب الثواب.
ولعلّه سهو ؛ إذ لا ينبغي الفرق المذكور بعد ما فرض من أنّ الاعتقاد يوجب (4)
ص: 11
المصلحة الفعلية الناشئة عن (1) اعتقاد الوجوب في الفعل ، وحيث إنّ التكليف بالواقع بعد اعتقاد الخلاف ساقط ، فلا مفسدة في فعله فعلا ، فلا يصلح معارضا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا ريب في عدم ترتّب الثواب والعقاب المترتّبين على نفس فعل الواجب والحرام الواقعيين في صورتي الانقياد والتجرّي ؛ إذ المفروض ترتّبهما على الواجب والحرام الواقعيين ، وانتفاؤهما معلوم بالفرض أيضا ، كما أنّه لا ريب في استحسان فعل المنقاد عند العقلاء ، وعدّهم في عداد المحسنين ، ومدحهم إيّاه ؛ لكشفه عندهم عن حسن سريرته وصفاء طينته ، واستقباح فعل المتجرّي عندهم ، وذمّهم له مستكشفين بذلك عن سوء السريرة وخبث الباطن ، كيف وقد استقرّ طريقتهم في التحسين والتقبيح فيما لو عزم على الفعل والترك إذا اعتقد وجوبه أو حرمته ، ولا إشكال فيه.
وإنّما الشأن في أنّ الإتيان بفعل علمنا وجوبه علما غير مطابق للواقع من حيث كونه معلوما هل يوجب فعله ثوابا ، و (2) تركه عقابا أم لا؟ وحينئذ يمكن منعه ؛ لعدم الدليل على ترتّبه ، وإنّما المسلّم منه هو ما عرفت من المدح والذمّ والتحسين والتقبيح.
وقد يستند (3) للقول بحرمة التجرّي إلى تساوي فاعل الحرام واقعا ، وفاعل الحرام اعتقادا من كلّ جهة إلاّ فيما ليس مقدورا للمكلّف وهو مصادفة الواقع في الأوّل وعدمها في الثاني ، وحينئذ فإمّا أن يتعلّق العقاب بهما جميعا ، أو بالأوّل دون الثاني ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني باطل ؛ لمنافاته لما تقرّر عند العدلية من عدم جواز الظلم.
ويمكن الجواب عنه باختيار الشقّ الثاني (4) ، ولا ينافي ما هو المقرّر عندنا ؛ فإنّ الإتيان بالمحرّم الواقعي يستند إلى اختياره ، فيصحّ العقاب عليه دون الآخر ؛ لعدم
ص: 12
صدور المحرّم الواقعي منه وإن كان مستندا إلى أمر خارج عن إرادته ، ولنعم ما قيل بالفارسية :
چگونه شكر اين نعمت گذارم *** كه دست مردم آزارى ندارم (1)
فإنّ عدم القدرة أيضا نوع من العصمة ، وعلى مثل هذا الوجه يبنى في الجواب عن الإشكال المشهور بينهم في أنّ للمصيب أجرين ، وللمخطئ أجرا واحدا.
وقد يجاب عن الاستدلال بوجه آخر بأنّ اللازم على ذلك التقدير مساواتهما في كيفية العقاب وكمّيته ، بل اللازم على هذا التقدير مساواة الفاعل مع العازم كما لا يخفى ، مع أنّ فساد اللازم ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وقد أشعر بذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه المنقول في نهج البلاغة أنّ : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان : إثم العزم ، وإثم الدخول » (2) اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط طريق النجاة ، فيحسن الإتيان (3) بالفعل عند اعتقاد وجوبه ، وتركه في العكس ، إلاّ أنّه لا يغني من جوع ؛ إذ غاية ما في الباب إثبات الاستحباب وليس الكلام فيه.
وقد يستدلّ أيضا على حرمة التجرّي بأنّه على تقديره فاستحقاق الذمّ والعقاب ممّا لا ريب فيه كما يشهد به الوجدان ، واستقرّ بناء العقلاء عليه أيضا وفيه الكفاية.
مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار الدالّة على حرمة العزم على المعصية ، وفي النبوي منها : « ملعون من همّ بها » (4) والروايات (5) الدالّة على العفو عن العزم المحرّم ؛ إذ العفو فرع الاستحقاق ، ففي المقام يثبت الاستحقاق بطريق أولى ، وبعد الثبوت لا دليل
ص: 13
على العفو فيه وهو المطلوب.
لا يقال : إنّ المتجرّي لم يصدر منه ما يزيد على العزم ؛ إذ المفروض عدم تحقّق الحرام في فعله ، فأخبار العفو ناهضة في المقام.
لأنّا نقول : إنّ (1) مجرّد عدم تحقّق الحرام لا يكفي في عدم تحقّق فعل منه غير العزم ؛ فإنّه يحتمل ترتّب العقاب على تشبيهه بالعاصي كما هو الوجه أيضا ، ولذلك ترى الشهيد رحمه اللّه في القواعد مع حكمه بالعفو في العزم تنظّر في المقام حيث قال :
فائدة : لا تؤثّر نيّة المعصية ذمّا ولا عقابا ما لم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه ، ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية ، فظهر بخلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر من أنّها [ لمّا ] لم تصادف المعصي فيه ، صارت كنيّة مجرّدة وهي غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة والجرأة على المعاصي.
قال : وقد ذكر بعض الأصحاب أنّه لو شرب المباح متشبّها بشارب المسكر ، فعل حراما ، ولعلّه ليس بمجرّد النيّة بل بانضمام فعل الجوارح.
قال : ويتصوّر محلّ النظر في صور :
منها : لو وجد امرأة في منزل غيره فظنّها (2) أجنبية فأصابها ، فتبيّن أنّها زوجته ، أو أمته.
ومنها : لو وطئ زوجته مظنّة (3) أنّها حائض ، فبانت طاهرا.
ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره ، فأكل منها ، ثمّ تبيّن أنّه ملك الآكل.
ومنها : لو ذبح شاة بظنّها ملك الغير ، فظنّ العدوان ، فظهرت ملكيّته (4).
ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّها معصومة ، فبانت مهدورة.
ثمّ بعد ذلك أفاد قدس سره بأنّه قد قال بعض العامّة : يحكم بفسق متعاطي ذلك ؛ لدلالته
ص: 14
على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسّطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة. وكلاهما تحكّم وتخرّص (1) على الغيب (2). انتهى كلامه رفع مقامه.
فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالعقاب على المتجرّي لا يخلو من (3) قوّة ، وكذا القول بترتّب الثواب على المنقاد ، مضافا إلى الأخبار الواردة (4) في التسامح ؛ فإنّ العمل بما بلغه لو كان ممّا يوجب الثواب وإن لم يكن كما بلغه ، فالمعتقد على وجه لا يحتمل الخلاف لو أتى بما اعتقده ، فهو أولى بأن يثاب ، أو يعاقب.
بقي الكلام في العزم على المعصية والطاعة ، والرضا بالمعصية والطاعة إذا وقعتا (5) من الغير فنقول :
أمّا الروايات ، فهي ظاهرة في أنّ العزم أيضا معصية ، فمنها ما مرّ آنفا.
ومنها : ما رواه الكليني عن أبي هاشم قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا ، وإنّما خلّد أهل
ص: 15
الجنّة في الجنّة ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا أن يطيعوا اللّه [ أبدا ] ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء » (1).
ومنها : ما دلّ على أنّ المرء مجزيّ بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ (2) ، إلى غير ذلك إلاّ أنّها تنافي ظواهر جملة من الأخبار الدالّة على العفو.
فمنها : ما ورد عن الفضيل (3) بن عثمان المرادي سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « [ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أربع من كنّ ] فيه ، لم يهلك على اللّه عزّ وجلّ (4) بعدهنّ إلاّ هالك : يهمّ العبد [ ب- ] -الحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها ، كتب اللّه عزّ وجل له حسنة [ بحسن نيّته ] فإن هو عملها ، كتب اللّه له عشرا ، ويهمّ [ ب- ] -السيّئة [ أن يعملها ف- ] -إن لم يعملها ، لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها ، أمهل (5) سبع ساعات » (6) الحديث.
ويمكن الجمع بأنّ ما يتعلّق بأصول الدين لا يغتفر فيه نيّة المعصية ، وما يتعلّق بغيرها من الفرعيّات يغتفر. وبوجه آخر هو أنّ القاصد للمعصية لو نواها وكان تركها لأجل أمر خارج عن مقدرته (7) كالموت ونحوه ، فلا يغتفر ، وإن تركها باختياره ، فيغتفر. ومنه يعلم الحال في قاصد الطاعة.
وأمّا الرضا على فعل المعصية والطاعة ، فهو كما عرفت فيما نقلناه عن نهج البلاغة (8) ، فحاله حال العاصي والمطيع ؛ ويؤيّده بعض فقرات الزيارات المأثورة عنهم عليهم السلام.
ص: 16
قد تقرّر فيما تقدّم أنّ العلم فيما لو كان طريقا إلى الواقع ، فهو حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل بل هو منجعل بنفسه ، فلا فرق بين أفراد العلم ، ولا المعلوم إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة من أصحابنا المنتسبين إلى الأخبار ما يخالف ذلك ، فقد قال أمين الأخبارية في الفوائد المدنية في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل فيما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم السلام :
الدليل التاسع مبني على دقيقة (1) شريفة تفطّنت بها بتوفيق اللّه وهي أنّ العلوم النظرية قسمان :
قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا (2) علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب فيه أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة ، أو من جهة المادّة (3) ،
ص: 17
والخطأ في الصورة (1) لا يقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة (2) ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ؛ لقرب مادّة الموادّ فيها إلى الإحساس.
وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن (3) الإحساس ، ومن هذا القسم : الحكمة الإلهية ، والطبيعية ، وعلم الكلام ، وعلم أصول الفقه ، والمسائل النظرية الفقهية ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق (4) ، ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية ، وبين علماء الإسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام وغير ذلك (5).
والسبب في ذلك أنّ القواعد هي (6) عاصمة في (7) الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة (8) ، وليس في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة (9) داخلة في [ أيّ ] قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.
ثمّ إنّه قدّس اللّه روحه بعد ما استظهر وجوها من التأييد أورد على نفسه بأنّه لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات ، واستشهد على ذلك بكثرة الاختلافات المشاهدة بين أهل الشرع في الأصوليين وفي الفروع الفقهية.
فأجاب عن ذلك بقوله : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة باطلة بالمقدّمة النقلية الظنّية
ص: 18
أو القطعية ، ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر - أنّ المشّائين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخص (1) ، وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.
ثمّ قال : إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم السلام ، فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره ، لم نعصم منه (2) إلى غير ذلك ممّا ذكرناه في المقام ، والمستفاد من كلامه رحمه اللّه عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما يكون مباديه قريبة من المحسوسات بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن محسوسا أو قريبا منه (3) إذا لم يكن ممّا توافقت عليه العقول ، وتسالمت فيه الأنظار ، وقد استحسنه في ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه.
فمنهم السيّد الجزائري في أوائل شرح التهذيب بعد نقله (4) كلام الأمين بطوله قال : تحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه ، ثمّ أورد على نفسه سؤالا بأنّه بعد ما عزلت العقل عن الحكم في الأصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟
فأجاب عنه بقوله : أمّا البديهيات ، فهي له وحده [ وهو الحاكم فيها ] ، وأمّا النظريات ، فإن وافقه النقل وحكم بحكمه (5) ، قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي ، فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى حكم العقل.
ثمّ فرّع على هذا الدليل فروعا كثيرة وقضية كلامه حجّية العقل في البديهيات ،
ص: 19
وعدمها في النظريات إلاّ أن يعاضده حكم النقل ، فيرجّح به على الآخر (1).
ثمّ إنّ مراده من البديهي في المقام غير معلوم فإن أراد به ما يكون كذلك بحسب معتقده - وإن لم يكن كذلك عند غيره أو لا يعلم حال الغير فيه - فقد صرّح فيما اختاره من التحقيق في كلام الأمين بعدم حجّيته ، وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء ، فهو - مع أنّ العلم بتحقّقه متعذّر غالبا إلاّ بطريق الحدس الذي هو أيضا من العلوم الضرورية التي حجّيتها موقوفة على الاتّفاق عليها فيما زعمه - مدفوع بأنّه ليس في اتّفاق الكلّ على بداهة شيء مزية اختصاص في الحجّية إلاّ من جهة توافق الأفهام ، والحدس بموافقته للواقع على ما هو طريق الكشف في الإجماع وحصوله في العلوم العقلية ممنوع ، ولو سلّم ، فليس أقوى من سائر العلوم الضرورية ، فهو في عرض غيرها ، فلا يصحّ جعلها معيارا في حجّية غيرها كما لا يخفى.
وقد تبعه في ذلك المحقّق البحراني في الحدائق حيث حكى عنه كلاما أورده في الأنوار النعمانية يشبه كلامه المتقدّم ، فاستحسنه إلاّ أنّه يظهر منه تفصيل آخر فيما صرّح بحجّية العقل الفطري الصحيح ، وقال بالقضية المشهورة في المقامين.
ثمّ نصّ على أنّه لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها وقال : لا سبيل إليها إلاّ السماع عنهم لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها.
ثمّ قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما يتوقّف على التوقيف ، فأفاد في ذلك بأنّه إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحّة العمل به ، [ وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ] ، وإن عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تأيّد أحدهما بنقلي ، كان الترجيح للمؤيّد بالدليل العقلي ، وإلاّ فلا إشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي ، أيضا بنقلي ، كان
ص: 20
الترجيح للعقلي إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلاّ فالترجيح للنقلي.
قال : وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ، وخلافا للأكثر ، ثمّ قال بعد ذلك : هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أمّا لو أريد بمعنى الأخصّ - وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، الذي هو حجّة من حجج الملك العلاّم وإن شذّ وجوده بين الأنام (1) - ففي ترجيح النقلي عليه إشكال (2). انتهى كلامه.
ومواضع النظر فيه وفي سابقه ما لا يحصى :
الأوّل : إن أرادوا من عدم اعتبار العلم فيما قالوا به من الموارد عدم حجّيته - مع كونه علما والمكلّف عالما بحسب معتقده وإن لم يكن كذلك في الواقع - فلا شكّ في كونه تكليفا بما لا يطاق ، وفساده ممّا نطق به الكتاب الكريم بل هو مذكور في عداد المسلّمات بين الشيعة والمعتزلة ، فلا مجال لإنكاره ؛ فإنّ التكليف بشيء فرع العلم بذلك الشيء ، ولا أقلّ من احتماله والمفروض عدمه أيضا.
وإن أرادوا أنّ بعد ملاحظة ما يعارضه من الدليل النقلي أو ملاحظة الاختلاف الواقع في العلوم العقلية ، فلا يبقى علما ، فبعد الغضّ عن الصغرى ووجود الاختلاف في النقلي أيضا ، فهو خلاف ما هو المفروض في المقام.
وإن أرادوا أنّ الدليل النقلي في محلّ تعارضه أيضا قطعي ، فهو يستلزم اجتماع المتناقضين.
وإن أرادوا عدم حجّيته من جهة الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في النهي عن الخوض في العلوم العقلية - فإنّ بعد النهي لو لم يصادفوا الواقع ، فيجري عليهم حكم المقصّر ، ويعاقب نظرا إلى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا - فلا نسلّم ورود النهي عنهم عليهم السلام في ذلك بل قضية العمومات الآمرة بطلب
ص: 21
العلم ولو بالصين (1) خلاف ذلك.
لا يقال : قد ورد في جملة من الأخبار : من أنّ « دين اللّه لا يصاب بالعقول » (2) ، ومن أنّ « من دان اللّه بغير سماع [ من صادق ] ، ألزمه اللّه [ التيه ] يوم القيامة » (3) ومن أنّ « من قام جميع ليله ، وصام جميع نهاره ، وحجّ جميع دهره ، وتصدّق بجميع ما له ولم يعرف وليّ اللّه فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته ، لم يكن له على اللّه حقّ ولا هو من أهل الإيمان » (4) ومن أنّ « ما من شيء أبعد في دين اللّه من عقول الرجال » (5) إلى غير ذلك.
مضافا إلى أنّ كثرة الاختلاف - الواقعة في العلوم العقلية المستندة إلى اختلاف مراتب إدراكاتهم المنتهية إلى اختلاف استعداداتهم وملكاتهم في فنون الاكتساب - توجب اختلالا فيما هو صونه مطلوب ، وبقاؤه مرغوب.
لأنّا نقول : أمّا الأخبار الواردة في هذا المضمار ، فستعرف تحقيق القول فيها بما لا مزيد عليها. وأمّا حديث الاختلاف ، فهو لا يختلف في المقامين ؛ فإنّ أسباب الاختلاف لو لم يكن في العلوم النقلية أكثر - كما هو كذلك أيضا كما يشاهد ذلك في المسائل المرتبطة بالكتاب والسنّة والمباحث المنتسبة إلى الأدلّة العقلية - فلا أقلّ من تساويهما.
الثاني : إن أرادوا من عدم حجّية العقل عدم حجّيته - ولو كان بديهيا - فالضرورة
ص: 22
قاضية بخلافه ، وإن أرادوا من عدم حجّيته إن كان نظريا ، فالضرورة قاضية أيضا بلزوم انتهائه إلى ضروري ، دفعا للدور والتسلسل ، واحتمال عدم كونه بديهيا في الواقع موجود فيما اختاروه من حجّية البديهي أيضا. وأمّا ما يقال - من عدم اعترافهم لمطلق البديهي بل خصوص ما تسالمت فيه الأنظار - مردود بأنّ النظري لا بدّ وأن ينتهي إلى بديهي كذلك لا محالة.
الثالث : أنّ ما زعموه على تقدير تماميته ، فهو بعينه موجود في الأدلّة العقلية التي يستدلّ عليها بوجود الصانع ولزوم إرسال الرسل وغير ذلك من الأمور الاعتقادية التي يستعمل فيها البراهين النيّرة (1) العقلية ؛ فإنّا لا نجد فرقا في الأدلّة المستندة إليها فيها وفيما يستند إليها في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي مثلا.
ثمّ إنّ ما أشكل على صاحب الحدائق من تعارض العقل الفطري والدليل النقلي - على ما نقله عنه في ذيل كلامه - فهو ممّا لا يعقل له وجه صحيح إلاّ أن يرجع النزاع معه لفظيا كما لا يخفى.
ثمّ إنّ السيّد الفاضل شارح الوافية بعد ما سلّم إدراك العقل أورد كلاما حاصله منع إناطة الإطاعة والعصيان بالواقع بل المدار عليه فيما لو أخبر به الرسول صلى اللّه عليه وآله ، أو أحد الأئمّة عليهم السلام قال : ألا ترى أنّ من نام فرأى في نومه أحدا من أهل العصمة أخبر بحكم فقطع به ، لا يجب إطاعته ، وقد استند في ذلك بالأخبار المتقدّمة (2).
والجواب أنّ ما ادّعاه من الأخبار ممّا يتحقّق به موضوع الإطاعة والعصيان موقوف على دلالة دليل الإطاعة والعصيان على ذلك ، ولا ريب (3) أنّهما من الآثار العقلية المترتّبة على مطلق حكم اللّه الواقعي المعلوم على أيّ وجه ، ولا يمكن فيه التخصيص بالنسبة إلى أفراد العلم ، أو العالم على ما عرفت ، مع أنّ المفروض حصول
ص: 23
القطع بأنّ المدرك هو حكم اللّه تعالى ، فلا يجامع احتمال حرمته الأخبار فيه ؛ لأدائه إلى خلاف الفرض المستلزم لاجتماع النقيضين على ما لا يخفى ، فالأخبار الواردة في المقام على ما زعموه مخالفة (1) للقطع ، فلا بدّ من حملها على ما كانوا يتعاطونه في تلك الأزمنة من استنباط الأحكام الشرعية من القياسات العاميّة مضافا إلى أنّه هو الظاهر من مساقها ؛ لوضوح عدم نهوضها على النهي عن طريقة الاستدلال بالبراهين العقلية القطعية في استنباط الأحكام الشرعية مع ظهور معارضتها بالأخبار الدالّة على حجّية العقل كقوله عليه السلام : « به يثاب ويعاقب (2) » (3) وقوله عليه السلام : « العقل ما عبد به الرحمن » (4) وقوله عليه السلام في رواية هشام المروية في الكافى : « أنّ لله حجّتين حجّة في الظاهر وهي الرسل وحجّة في الباطن وهو العقل » (5) سيّما بعد اعتضادها بعمل الكلّ وخصوصا مع حمل الكلّ لها على ما عرفت.
وقد يقال في وجه الحمل باختصاص الأخبار الناهية في العقل الغير الصافي ، والآمرة بالعقل الصافي. وهو تحكّم لا شاهد عليه.
والحاصل أنّه لا فرق في ترتّب أحكام القطع عليه بين حصوله من دليل عقلي ، أو نقلي - سواء كانت تلك الأحكام قبل حصوله كوجوب تحصيله في المطالب الاعتقادية ، أو مقارنة لحصوله كاستحالة التكليف بخلافه ، أو بعد حصوله كأحكام الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان والقضاء والإعادة إلى غير ذلك - فعلى مدّعي الفرق كالأخباري إقامة دليل بيّن في الفرق بينهما ، وتخصيص ما يدلّ على عدم الفرق مع امتناع تخصيصها عقلا بل شرعا ، فإنّه من بديهيات المعلومات.
ص: 24
ودعوى أصالة عدم الحجّية في غير النقلي - بعد ما مرّ من بداهة اعتبار العلم - ظاهرة الوهن ، بيّنة الفساد.
ثمّ إنّه يمكن أن يفصّل في المقام بأن يقال : العلوم العقلية قسمان :
قسم يكون من طريق المصالح والمفاسد التي هي علل للأحكام الشرعية عند العدلية كأن يستدلّ على الحكم استدلالا لمّيّا مثل ما استدلّ بعضهم في لزوم عدالة الولي للصغير بأنّه يستحيل في حكمة الشارع تسليط من لا يأتمن على مال الطفل الذي لا يقدر على القيام بمصالحه ومفاسده.
وقسم ليس كذلك بل استدلال إنّي كالاستدلال على وجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، فيقال بحرمة القسم الأوّل تنزيلا للأخبار الناهية عليه ، وبصحّة الثاني حملا للأخبار الدالّة على حجّية العقل عليه ، والشاهد على ذلك دلالة سياقها عليه.
مضافا إلى تعارف الاستدلال اللمّي في زمنهم ، ولا مانع من حملها على العقل القطعي نظرا إلى جواز التكليف بما لا يطاق وبخلاف المعلوم إذا كان ناشئا عن سوء الاختيار على ما يراه بعضهم ، ولا ينافيه تداول الاستدلالات العقلية بين علمائنا ؛ لكونها من الدليل الإنّي دون اللمّي ، فإنّ الوسط في البراهين المتداولة بينهم مأخوذ من الشرع كما في الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ بخلاف اللمّ ؛ فإنّ الوسط فيه مستنبط من العقل ولو ظنّ المستنبط كونه قطعيا.
لا يقال : في الأحكام المأخوذة من العلم كحرمة الظلم ونحوها لا يمكن أن يقال : إنّ الوسط مأخوذ من الشرع.
لأنّا نقول : أمثال ذلك مأخوذة (1) من العقل المستقلّ من الضروريات ، ولو لا ذلك ، لما كان من اللمّي ، ويشهد بذلك ملاحظة خبر أبان (2) أيضا في وجه دون وجه ؛ لأنّه يمكن
ص: 25
أن يقال : إنّ أبانا (1) كان ظانّا بالظنّ القوي ، وإنكار المعصوم عليه إنّما هو لتعجّبه بعد كشف الواقع له ، فإنّه لا معنى للتعجّب بعد ذلك ، أو يجعل ظنّه الشخصي معارضا لكلامه عليه السلام ، فحينئذ تخرج الرواية عن الشهادة ، بل يمكن دعوى أنّ الأظهر في جميع ذلك النهي عن العقل الظنّي ، فالحقّ عدم التفصيل بين أفراد العلم.
ص: 26
قد يستفاد من تضاعيف كلمات جماعة من متأخّري المتأخّرين - ومنهم الشيخ الأجلّ فيلسوف القوم الشيخ جعفر في مقدّمات كتابه الموسوم بكشف الغطاء (1) - عدم حجّية قطع القطّاع. ولعلّ المراد منه ما لا يستند قطعه بأمارة تفيده غالبا ، وأمّا إذا استند إلى سبب مفيد له كالإجماع ، فلا ينبغي الارتياب في اعتباره.
ثمّ إنّهم إن أرادوا من عدم اعتبار قطعه عدم ترتّب أحكام القطع على قطعه فيما يعتبر فيه العلم الموضوعي بالنسبة إلى غير القاطع من عدم جواز تقليده وعدم قبول شهادته ، فهو في محلّه ، كما لو أريد ذلك بالنسبة إلى القاطع كذلك كالإفتاء والشهادة ، فلا يجوز له الإفتاء وإن كان يجوز له العمل به لكنّ الكلام على تقديره في انصراف الدليل الدالّ على اعتبار العلم في موضوع الإفتاء والشهادة إلى مثل المقام وعدمه على ما عرفت فيما سبق.
وإن أرادوا أنّ قطعه غير معتبر في حقّه بالنسبة إلى أحكام ما علمه المترتّبة عليه بواسطة عللها الواقعية على أن يكون طريقا إليه ، فسقوطه واضح ؛ لاستلزامه خلاف الفرض في وجه ، واجتماع النقيضين في وجه آخر ، والتكليف بما لا يطاق مرّة ، وتخصيص عمومات الأدلّة من غير مخصّص أخرى ، واللوازم بيّنة البطلان.
وأمّا الملازمة ، فلأنّه لو حصل له القطع بموضوع من الموضوعات (2) للأحكام الشرعية كأن قطع بأنّ اليوم الفلاني من أيّام شهر رمضان ، فلا يخلو إمّا أن يجب عليه الصوم فيه ، أو لا يجب ، والأوّل هو المطلوب.
وعلى الثاني إمّا أن يكون مكلّفا بخلاف ما قطعه ، أو لا يكون مكلّفا به.
ص: 27
وعلى الأوّل إمّا أن يقطع بتكليفه بخلاف ما قطعه أوّلا مع بقاء قطعه ، أو يقطع بخلافه مع زوال قطعه ، والرابع هو الأوّل ، والثالث هو الثاني كما هو ظاهر ، والثاني هو الرابع ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب الصوم في شهر رمضان بعمومه يشمل القطّاع ولا مخصّص كما في المسافر والمريض ، والأوّل هو الثالث ، إذ شرط التكليف لو لم يكن هو العلم به ، فلا أقلّ من الاحتمال ، والمفروض أنّ بعد العلم لا يتصوّر الاحتمال بخلافه ، فكيف بالعلم بخلافه ، وظهوره ممّا يأبى عن إطالة الكلام ؛ فإنّ عدم الجواز والجواز فرع احتمالهما.
وإن أرادوا وجوب تنبيهه على خلاف قطعه ، ففيه : أوّلا عدم جريانه فيما لو علم بمطابقة قطعه للواقع أو شكّ فيها ؛ إذ لا دليل على وجوبه مضافا إلى وجوده على عدم جوازه فيما لو علم بمطابقته.
وثانيا إن أريد من وجوب التنبيه وجوبه فيما لو علمنا باشتباهه في الحكم الشرعي - كأن يقطع بوجوب شيء محرّم أو عكس ذلك - فلا ينحصر ذلك في القطّاع ؛ لعموم ما دلّ على وجوب الإرشاد ، فيجري في غير القطّاع أيضا كآية النفر وأمثالها.
وإن أريد وجوب تنبيهه فيما إذا اشتبه في موضوع من موضوعات الأحكام الشرعية كأن اعتقد الخمر خلاّ ، أو مال الغير مالا له ، فإن قلنا بوجوب الأمر بالمعروف فيه ، فلا اختصاص له فيه ، فيجري في غيره أيضا ، وإلاّ فلا يجب مطلقا.
والحقّ فيه أن يقال : إن كان الإقدام في الموضوع المشتبه يوجب فسادا في العرض كما إذا اعتقد الأجنبية زوجته ، فالإقدام في وطئها يوجب فسادا في العرض ، أو في النفس كأن اعتقد غير القاتل قاتلا ، أو فسادا في العقل كأن اعتقد الخمر خلاّ ، يجب على قاطبة الناس إرشاده وردعه إلى خلاف معتقده ؛ أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، ففي الأمثلة المذكورة يجب ردعه بخلاف ما إذا حسب مال غيره ملكا لنفسه ، أو اعتقد النجس طاهرا فاستعمله أو نسي صلاته إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلا يجب ردعه.
ص: 28
تذييل (1) :
قد تمسّك بعض (2) من يرى عدم حجّية القطع فيما لم يرد فيه (3) دليل شرعي بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (4).
وأورد عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (5) بأنّ بعد التسليم من دلالة الآية على ما زعمه المستدلّ لا بدّ من تأويله في مقابلة ما دلّ على وجوب اتّباع حكم العقل القطعي ، لعدم مقاومة الدليل الظنّي للدليل القطعي.
فاعترضه بعض الأجلّة حيث قال :
وهذا الجواب على إطلاقه غير مستقيم عندي ؛ لأنّ استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي - واقعيا كان أو ظاهريا - مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من جواز تعويله عليه.
قال : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري وتكاليفي على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة أو نحو ذلك.
ثمّ أفاد طاب ثراه : ومن هذا الباب ما أفتى به بعض المحقّقين من أنّ القطّاع - الذي يكثر قطعه بالأمارات التي لا توجب (6) القطع عادة - يرجع إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج عنه.
قال : فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا علم القطّاع ، أو احتمل أن يكون حجّية (7) قطعه مشروطة (8) بعدم كونه قطّاعا ، فيرجع إلى ما ذكرنا من اشتراط حجّية القطع بعدم المنع ،
ص: 29
لكنّ العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ؛ لمنافاته لحكمة فعلية قطعية ، وقد لا يستقلّ بذلك لكن حينئذ يستقلّ بحجّية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع ، والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني ، والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (1). انتهى كلامه.
وأنت - بعد ما أحطت خبرا بما قدّمنا لك - تطّلع على أنّه لا مساس للاعتراض المذكور على الإيراد المزبور حيث إنّه يمتنع (2) تكليف العالم على خلاف ما علمه حين ما علمه إلاّ أن يزول علمه هذا خلف. نعم ، ما ذكره - من اشتراط حجّية القطع بعدم ورود حكم الشرع على خلافه - قد يتصوّر قبل حصول العلم ، وأمّا بعد حصوله ، فلا يعقل فتدبّر ، ولا تغفل.
ص: 30
الأمر الرابع (1) :
قد عرفت فيما سبق أحكام العلم التفصيلي تفصيلا ، فلا بأس بالإشارة إلى الأحكام الثابتة للعلم الإجمالي إجمالا.
فنقول : إنّ العلم عبارة عن حالة بين العالم والمعلوم ، بها ينكشف المعلوم عنده ، فلا ريب في كونها أمرا بسيطا غير قابل للإجمال والتفصيل ، ففي توصيفه بهما تسامح من جهة اتّصاف متعلّقه بهما.
نعم ، قد يقال بأنّ العلم لو كان من العلوم التصوّرية ، وقلنا بأنّ (2) العلم هو الصورة الحاصلة ، فيصحّ اتّصاف نفس العلم بالوصفين المذكورين إلاّ أنّه خارج عمّا نحن بصدده ؛ فإنّ العلم المبحوث عنه في المقام هو العلم التصديقي لا التصوّري كما لا يخفى.
وكيف (3) كان ، فالبحث فيه تارة يقع من حيث ثبوت التكليف به بمعنى أنّه بعد حصول العلم إجمالا بوجوب شيء ، فهل يتنجّز التكليف به مثل ما إذا علمه تفصيلا ، أو لا ، كما إذا علمنا بوجوب صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة ، وأخرى يقع من حيث كفايته في الامتثال بمعنى أنّه كما يمتثل مع الإتيان بالمأمور به مثلا تفصيلا ، فهل يكفي في الامتثال إتيان المكلّف بعدّة أمور يعلم إجمالا وقوع المأمور به فيها أو لا ، كما إذا اشتبهت جهة القبلة ، فيأتي بأربع صلوات في أربع جهات ، أو لا بدّ من تعيين جهة القبلة تفصيلا؟ فهاهنا مقامان :
أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فيقع في موردين : الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، الثاني في أنّه على تقدير عدم جواز المخالفة القطعية ، فهل الواجب تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي فيه الفرار من المخالفة القطعية؟ والمتكفّل لبيان هذا المورد هو
ص: 31
الأدلّة القطعية ، فليطلب منها ، وأمّا الكلام في المورد الأوّل ، فسيجيء إن شاء اللّه.
فلنشرع لبيان المقام الثاني لقلّة أبحاثه ، فنقول : إذا دلّنا دليل شرعي على وجوب شيء خاصّ ، فلا يخلو إمّا أن نتمكّن من الامتثال تفصيلا كأن نعلمه بالخصوص ، أو لا نتمكّن منه ، فعلى الثاني فلا ريب في كفاية الامتثال الإجمالي بل لا كلام لأحد فيه عدا ما يظهر من الحلّي ، فإنّه قال في المحكي عنه : من (1) وجد ثوبين يقطع بنجاسة أحدهما دون الآخر عليه الصلاة عاريا ، ولا يجوز تكرار الصلاة فيهما (2). وهو ضعيف جدّا لا ينبغي الالتفات إليه.
وعلى الأوّل فالتحقيق في المقام التفصيل بين العبادات وغيرها ، فعلى الأوّل يحكم ببطلان العبادة كأن يأتي بالصلاة في أربع جهات مع إمكان تحصيل العلم بالقبلة تفصيلا ، أو مع حصول العلم تفصيلا ، وفي الثاني يحكم بصحّة المعاملة كأن يأتي بالبيع مشتملا على جميع ما يحتمل اشتراطه فيه.
أمّا الثاني ، فلأنّ المقصود فيه حصول ما هو في نفس الأمر معتبر في تأثيره وهو حاصل ولو مع عدم علمه به ، فيقع مؤثّرا في محلّه. ودعوى اشتراط صحّة العمل - ولو كان معاملة أيضا بالاجتهاد والتقليد - واهية جدّا ، ولا فرق في ذلك بين علمه بالوجه الصحيح إجمالا لكن مع اشتباهه بعده وجهله به رأسا ، فإنّه لو طابق الواقع ، يؤثّر أثره المطلوب منه على أيّ وجه اتّفق ، ولا مدخل للعلم والجهل فيه بل قد نفى الخلاف عن ذلك بعضهم إلاّ عن بعض متأخّري المتأخّرين (3) القائلين باشتراط صحّة العمل بالاجتهاد و (4) التقليد.
ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يقع العمل مكرّرا كما إذا تكرّر الصيغة المعتبرة في العقود فيما إذا كان مختلفا فيها وبين أن يقع العمل واحدا جامعا لجميع ما يحتمل تأثيره
ص: 32
فيه وجودا وعدما كما هو ظاهر.
وأمّا الأوّل فتفصيل الكلام فيه أن يقال : إنّ العبادة - التي يراد الامتثال بها على وجه إجمالي - تقع على وجهين ، فتارة على وجه يتكرّر العمل كأن يصلّي إلى أربع جهات مع التمكّن به من استعلام حال القبلة الواقعية ، وأخرى على وجه لا يتكرّر بل العمل مع وحدته يشتمل على جميع ما يحتمل اعتباره فيه كالصوم فيما إذا أمسك المكلّف عن جميع ما يحتمل كونها مفطرا ، ضرورة عدم خروج العمل عن وحدته حينئذ ، فعلى الأوّل لا شكّ في بطلان العمل كما هو المأخوذ من طريقة الشرع وسيرة العلماء ، وقد نفى الخلاف عنه المحدّث البحراني ؛ فإنّه بعد ما حكى عن العلاّمة (1) عدم جواز الصلاة في الثياب المشتبه طاهرها بنجسها على وجه التكرار مع التمكّن من الصلاة في الثوب الطاهر يقينا قال : هذا وإن كان حسنا إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب (2).
وعلى الثاني فالمشهور - على ما حكي أيضا - على عدم جوازه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي باستعمال ما يوجبه من غير لزوم عسر على تقديره إلاّ أنّ الدليل لا يساعد عليه بل قضية صدق الإطاعة في الصورة المفروضة عرفا من دون تزلزل في النيّة جواز الامتثال الإجمالي حينئذ.
لا يقال : نيّة الوجه وقصده - على ما ذهب إليه المعظم - واجب فلا يصدق الإطاعة بدونها.
لأنّا نقول : مع الغضّ عن وجوبه ، فلا ريب في كفايتهما ولو على وجه إجمالي ، فإنّ المفروض قطع العامل باشتمال عمله على جميع أجزائه وشرائطه ، فينوي على هذا
ص: 33
الوجه ، وبعد صدق الإطاعة التي عليها المدار لا ضير في عدم النيّة تفصيلا كما لا يخفى.
ودعوى وجوب العلم بوجه وجوب العمل ومعرفة الواجب والمندوب عهدتها على مدّعيها ؛ فإنّه إن كان من جهة عدم صدق الإطاعة بدونه ، فقد عرفت صدقها بدونه ، وإن كان من جهة وجوب نيّة الوجه ، فقد عرفت آنفا ما فيه.
فإن قيل : قد ادّعى السيّد رضي الدين (1) - فيما سأل عن أخيه علم الهدى من إتمام الجاهل بالحكم في السفر - الإجماع على بطلان صلاة من لم يعرف (2) أحكامها ، فأجاب السيّد علم الهدى - مع تسليمه الإجماع على المسألة الكلّية - بأنّه أيّ مانع من الحكم بالصحّة في خصوص المورد من جهة دليل خاصّ؟ فالإجماع على ما ادّعاه السيّد ، وقرّره علم الهدى (3) منعقد على بطلان العمل فيما لم يعرف وجه العمل.
قلنا : يحتمل دعوى الإجماع من السيّد على بطلان عمل الجاهل من غير استناده فيه إلى تقليد أو اجتهاد كما هو الحال في أكثر عوامّ العباد (4) ، وهو كذلك لكن لا ربط له بالمقام ، فإنّا ندّعي كفاية الامتثال الإجمالي ؛ لانتهائه إلى الاجتهاد أو التقليد.
ومن هنا يظهر ضعف ما قد (5) يمكن الاستناد إليه في المقام ممّا اشتهر بينهم (6) « الناس صنفان : مجتهد ومقلّد » ولكن مع ذلك ينبغي مراعاة جانب الاحتياط ، فإنّه طريق
ص: 34
النجاة وتحصيل العلم التفصيلي كما رآه المشهور فيما يمكن تحصيله.
فإن قلت : لا معنى للاحتياط في المقام ؛ فإنّه يصحّ فيما لم يكن الشكّ في وجوده كافيا في الحكم بعدم وجوده كأن (1) يكون هنا إطلاق يرجع إليه ومثل ذلك ، وأمّا في المقام ، فلا يصحّ ؛ لأنّ الإطاعة والامتثال من المفاهيم المنتزعة من وقوع فعل المأمور به على وجهه ، فمع انتزاع العقل لها لا معنى للحكم بالاحتياط فيها ، ومع عدم الانتزاع لا شكّ في عدم وقوع الفعل على وجهه ، ولا مناص عن العمل به ، فلا احتياط ، وكذا ما يتعلّق بكيفية الإطاعة والامتثال من كونها تفصيليا أو إجماليا وذلك ظاهر لا سترة عليه.
قلت : نعم ، ولكنّ الشارع في أوامره قد يعتبر حصول الإطاعة والامتثال على وجه خاصّ ، فيشكّ في حصوله مع حصول الامتثال على وجه يعمّه ، فالاحتياط يقضي بتحصيل الإطاعة على ذلك الوجه ؛ لاحتمال أن يكون الداعي في الأمر حصولها على وجه خاصّ.
وتوضيحه : أنّ الشارع تارة يأمر أمرا توصّليا غير مقيّد بحصول الإطاعة والامتثال ، وأخرى يأمر أمرا تعبّديا مقيّدا بحصول الإطاعة ، فلا بدّ من تحصيلها ، فمرّة على وجه خاصّ كأن يعتبر الامتثال التفصيلي مثلا ، وأخرى على وجه يعمّ الإجمالي أيضا ، فيمكن حصول الإطاعة العامّة بانتزاعها العقل مع الشكّ في وجود الإطاعة الخاصّة مع احتمال مطلوبيّتها على هذا الوجه ، فيحسن في العقل الاحتياط وتحصيل العلم بالمأمور به الواقعي بتحصيل الامتثال التفصيلي ، فلا إشكال ، هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الامتثال الاجمالي والتفصيلي العلمي.
وأمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي الظنّي بالظنّ الخاصّ كالتقليد - على ما رآه الجماعة من كونه من الظنون الخاصّة - فالكلام بعينه هو الكلام تقسيما وحكما على إشكال.
ص: 35
أمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي المظنون بالظنون المطلقة ، فلا ريب في تقدّم الامتثال الإجمالي ؛ لأنّ القول باعتبار الامتثال الظنّي موقوف على بطلان الامتثال الإجمالي والاحتياط على ما سيجيء إن شاء اللّه ، وذلك بخلاف الظنون الخاصّة ؛ فإنّها بمنزلة العلم.
وأمّا الظنون المطلقة ، فبعد لم يثبت حجّيتها في قبال الامتثال الإجمالي والمفروض عدم التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ؛ لانسداد باب العلم ، فلا مناص من الامتثال الإجمالي كما تقدّم عدم الخلاف فيه إلاّ المنقول عن ابن إدريس (1).
وتوضيحه : أنّ كفاية الظنّ في الامتثال - على ما هو مفاد دليل الانسداد - موقوفة (2) على بطلان الاحتياط ، أو كونه مستلزما للحرج الشديد ، فما لم يثبت بطلان الاحتياط والامتثال الإجمالي لا يثبت كفاية الامتثال الظنّي ؛ فإنّ العقل رجّحه على العمل بالظنّ ما لم يستلزم محذورا ؛ لأنّ المدار عند العقل على حصول الواقع والوصول إليه ، ولا شكّ أنّ الاحتياط هو الأقرب من غيره.
ثمّ إنّه لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي ومثله لكن كان أحد الإجمالين أقلّ إجمالا وأقرب إلى التفصيل من الآخر ، يقدّم ما هو الأقرب إلى التفصيل وجوبا أو احتياطا على حسب اختلاف المذاهب كما عرفت من صاحب المدارك والعلاّمة.
ومن فروعه ما (3) لو دار الأمر بين الصلاة في أوّل الفجر في أربع جهات وبين تأخير الصلاة إلى انتشار ضوء النهار ليعلم أنّ القبلة ليست إلاّ في جهات ثلاثة مثلا فيقلّ تكرار الصلاة ، ونظائره كثيرة.
ص: 36
لو كان عند المكلّف تكليفان يتمكّن من الامتثال في أحدهما تفصيلا ولا يتمكّن منه في الآخر ، ولكنّه يقلّ إجماله فيما لو ترك الامتثال تفصيلا في الأوّل ، فهل له تركه (1) تقليلا لإجمال الآخر ، أو لا؟ وجهان : أقواهما العدم ؛ فإنّ ترك التفصيل في الأوّل لتحصيل قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وظهور قبحه يكفي عن إظهاره.
ومن هنا يظهر وجاهة ما ذهب إليه العلاّمة في النهاية من أوّل احتماليه ؛ فإنّه أورد فيه كلاما على ما حكي عنه حاصله : أنّه لو نذر شخص لكلّ صلاة من صلاته اليومية تيمّما ، فاتّفق نسيان صلاتين من يوم واحد له ، فللخروج عن عهدتهما طريقان :
أحدهما : أن يتيمّم أوّلا ويأتي بأربع صلوات مردّدة بين الفجر والظهرين والمغرب ، ثمّ يتيمّم ثانيا ويأتي أيضا (2) بأربع صلوات مردّدة بين الظهرين والعشاءين فيمتثل التكليف بالتيمّم تفصيلا ، والتكليف بالصلاة في كلّ واحدة منهما مجملة مردّدة بين الأربع ، فالمجموع الحاصل منه تيمّمان وصلاة ثمانية ، فتلك عشرة كاملة.
وثانيهما : أن يتيمّم لكلّ صلاة من الصلوات الخمس (3) ، فيقطع بخروج ذمّته عن الصلاتين الفائتتين والتيمّمين في ضمن تيمّمات خمسة وصلوات خمس (4) ، ولا شكّ في (5) أنّ الأوّل أولى ؛ لأنّ ترك التفصيل في الأوّل إلى قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وقس عليه صورا أخر لذلك ، فلا حاجة في التعرّض لها بعد العلم بالقاعدة.
ص: 37
أمّا الكلام في المورد الأوّل من المقام الأوّل الباحث فيه عن جواز المخالفة القطعية وعدمها بعد العلم الإجمالي ، فاعلم أنّ الإجمال إمّا في نفس التكليف - كدوران الأمر بين الواجب والحرام أو المستحبّ أو المكروه ، وكلّ واحد منها مع الآخر وغيرها من صور الدوران - أو في موضوع التكليف بعد العلم به كالواجب المردّد بين الظهر والجمعة ، أو فيهما معا.
ثمّ العلم الإجمالي تارة يتعلّق بالحكم الشرعي الكلّي كالأمثلة المتقدّمة ، وأخرى يتعلّق بموضوعاته (1) الخارجية كما في الشبهة المحصورة واشتباه جهة القبلة أو اشتباه المرأة المنذور وطؤها بالأجنبية إلى غير ذلك ، أو في نفس المكلّف ، فتارة من جهة دوران موضوع - كالجنابة - بينه وبين غيره ، وأخرى من جهة دورانه بين موضوعين كالخنثى المردّد بين موضوعي الذكورة والأنوثة. وقبل الخوض في بيان أحكامها ، فلنذكر أمرين :
أحدهما : أنّ الكلام في المقام وجودا وعدما إنّما هو من جهة أنّ العلم الإجمالي هل هو طريق إجمالي إلى الواقع ، أو لا؟ كما أنّ العلم التفصيلي طريق تفصيلي (2) إليه ، فكما أنّ الأحكام الثابتة بواسطة عللها الواقعية تترتّب على متعلّقاتها عند العلم التفصيلي ، فهل تترتّب تلك الأحكام على موضوعاتها عند العلم الإجمالي ، أو لا؟ وأمّا من جهة الموضوعية ، فلا يتعلّق غرض بالبحث عنه ، لعدم دخولها تحت ضابطة وقاعدة.
وثانيهما : أنّه لا ريب في أنّه إذا تولّد من (3) العلم الإجمالي في واقعة علم تفصيلي في واقعة أخرى فهو ممّا لا مناص عن العمل به في محلّه ، فكأنّه هو خارج عمّا نحن فيه ؛ لما تقدّم من أنّه معتبر بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف ، فلو لاقى ثوبه لكلّ من الإناءين فيما إذا علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، يجب الاجتناب عنه ،
ص: 38
وكذا لا يجوز الاقتداء في الصلاة لمن وجد في ثوب مشترك بينه وبين غيره المنيّ (1) ؛ للعلم التفصيلي بنجاسة ثوبه في الأوّل ، وبطلان صلاته في الثاني ، فإنّه لو كان منه ، فهو ظاهر ، وكذا لو كان من الإمام ؛ لإناطة صحّة صلاته بصحّة صلاة الإمام.
لكن قد يظهر من بعضهم (2) صحّة الصلاة في الفرض بل قد يلوح منهم في موارد أخر عدم الأخذ بالعلم التفصيلي الحاصل من العلم الإجمالي.
فمنها : ما قد يستفاد من جملة منهم (3) عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ولو لم يضع قدر المحرّم من المشتبهات.
ومنها : ما عن العلاّمة في التهذيب (4) من جواز خرق الإجماع المركّب ، وترك القولين إلى الرجوع إلى أحد (5) الأصول ، وعن الشيخ (6) من (7) القول بالتخيير الواقعي ، ولا ريب أنّها مخالفة للعلم التفصيلي من حيث الوقوع في المحرّم قطعا تفصيلا في الأوّل ، وطرح
ص: 39
قول الإمام في الثانيين.
ومنها : ما ذكره غير واحد (1) في كتاب الصلح من أنّه لو أودع شخصان عند أمين ثلاثة دراهم أحدهما لأحدهما والباقي للآخر ، فاشتبهت الدراهم ، فتلف درهم منها ، ثمّ ادّعى أحدهما والآخر كلاّ منهما ، كان لصاحب الدرهمين درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ، فإنّ قضية ذلك على ما قلنا عدم جواز التصرّف في النصفين لغيرهما فيما لو اجتمعا عنده ؛ للعلم التفصيلي بأنّ أحد النصفين لأحدهما ، وأنّه تصرّف في ملك الغير.
ونظيره ما ذكروه (2) في كتاب القضاء من أنّه لو تداعيا عينا في يدهما ولا بيّنة ، قضي بها بينهما نصفين إمّا مع الحلف ، أو بدونه على الخلاف المزبور في محلّه ، ومقتضاه جواز تصرّف غيرهما فيما لو اجتمع النصفان عنده على حدّ تصرّفه في ملكه مع العلم تفصيلا بتصرّفه في ملك الغير من غير رضاه.
ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّه لو اختلف البائع والمشتري في أنّ المبيع ثوب أو عبد ، أو في الثمن كذلك أنّهما يتحالفان ، ورجع الثمن إلى المشتري ، والمبيع إلى البائع مع أنّ أحدهما عالم بأنّه متصرّف في مال الغير بدون إذنه.
والجواب عن ذلك كلّه (3) أمّا إجمالا ، فبما عرفت مرارا من أنّ العقل يستقلّ في أنّ العلم التفصيلي من أيّ سبب حصل ينهض طريقا إلى الواقع ، ويستقيم دليلا عليه
ص: 40
وكاشفا عنه ، فلا بدّ من طرح ما يخالفه ، أو تأويله إلى ما لا ينافيه بتصرّف في صغرى القضية أو في كبراها.
وأمّا تفصيلا ، فنقول : أمّا فتوى غير واحد من العلماء بصحّة صلاة المقتدي في الصورة المفروضة [ ف- ] -لعلّها مبنية على أنّ الطهارة ليست من الشروط الواقعية بل هي من الشروط العلمية ولو بأحد الأسباب الشرعية كالاستصحاب مثلا.
وأمّا حديث الشبهة المحصورة ، فواضح السقوط ؛ لعدم كونه من موارد النقض ؛ لأنّ العلم التفصيلي إنّما يحصل بعد الارتكاب ، والانتقاض إنّما هو فيما لو ارتكبها دفعة ولا قائل به ، ومن هنا يظهر عدم الانتقاض فيما لو اقتدى شخص ثالث بكلّ منهما في الفرض السابق في صلاتين ؛ فإنّ العلم بالفساد يحصل بعد الاقتداء ، فلا يصلح نقضا ، ولو فرض أحد (1) من العلماء قال [ ب- ] -جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة دفعة واحدة ، فلعلّه مبني على عدم تسليمه الوجوب في الاجتناب عن مطلق النجس ولو في مفروض المسألة.
وأمّا ما هو المنقول عن الشيخ ، فيمكن حمل كلامه على التخيير ولو في مرحلة الظاهر كما صرّح به المحقّقون ، وبهذا يندفع ما قد يورد عليه ، والتعرّض له يوجب الخروج عن الوظيفة.
وأمّا كلام العلاّمة ، فلم نقف له على وجه صحيح إلاّ ما قد يتخيّل من حمل كلامه على خصوص الموارد التي لا يلزم من فرق القولين فرق عمل (2) الفريقين كما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب شيء وحرمته ، فالرجوع إلى الإباحة - كما هو مقتضى الأصل - لا ينافي عمل الفريقين في صورتي الترك والفعل ؛ لتوافقه في الحالتين أحد القولين.
نعم ، هو مخالف لهما في مجرّد الفتوى ، ولا ضير فيه بادّعاء عدم شمول ما دلّ على
ص: 41
عدم جواز الإفتاء (1) بغير ما أنزل اللّه به في المقام.
وأمّا إذا كان القول بالفصل ينافي القولين في العمل أيضا كأن يفتي المجتهد مثلا في الظهر والجمعة بعدم وجوبه ، فالأدلّة الناهية عن الفتوى بغير ما أنزل اللّه به قائمة فيه ، ولا يجوز قطعا ، ويحتمل حمل كلامه على جوازه فيما لو كان أحدهما موافقا للأصل وإن كان بعيدا في الغاية ، وغريبا في النهاية.
وأمّا ما ذكروه في كتاب الصلح ، فهو لو اقتضى ما ذكر ، فلا بدّ من القول بالصلح القهري بينهما بمعنى أنّ الشارع قد تعبّدنا بالحكم بالتنصيف بينهما على وجه يكون ذلك سببا لإدخال ملك الغير في ملكه حسما لمادّة النزاع ؛ ومن هنا يظهر الوجه في مسائل التداعي أيضا.
وأمّا مسألة التحالف ، فإن قلنا بأنّ التحالف يوجب فسخ العقد ، فالأمر واضح لكنّه شاذّ جدّا ، وإلاّ فلا بدّ من أن يكون التصرّف فيه من جهة التقاصّ إلاّ أنّه يشكل فيما يزيد قيمة الثمن أو المثمن عن الآخر ؛ فإنّ قضيّة التقاصّ جواز التصرّف في ملك (2) الغير على قدر ماله لا فيما يزيد عليه.
فنقول حينئذ : إن قام الإجماع على إمضاء الشارع تصرّف أحدهما في مال الآخر مطلقا ، فلا إشكال أيضا ؛ لجواز أن يجعل الشارع ما يزيد عوضا عمّا ينقص ؛ لحكمة تقتضيه ، وإلاّ فلا بدّ من القول بوجوب الدّس في ماله على ما يزيد عن (3) ماله.
وإذا عرفت ما تقدّم من الأمرين ، فاعلم أنّ المخالفة القطعية في العلم الإجمالي على قسمين :
أحدهما : أن يخالف ما علم استقرار فتواهم عليه وإن لم يلازم المخالفة في العمل على حذو ما قرّره فيما نقل عن العلاّمة من جواز الخرق في الإجماع المركّب ، ولا فرق
ص: 42
في ذلك بين أن يكون الواجب تعبّديا أو توصّليا إلاّ من جهة قصد القربة المعتبرة (1) في الأوّل دون الثاني ، ففي المقام لو قصد القربة في فعله ، يوافق في (2) العمل القائل بالوجوب (3) ، وإلاّ فيوافق القول بالحرمة مطلقا على ما مرّ فرضه.
والثاني : أن يخالفه من حين العمل أيضا كما فيما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب الظهر والجمعة ، فالقول بعدم وجوبهما جميعا (4) مخالف لما علم إجمالا من (5) وجوب أحدهما حتّى في العمل ، وكذا القول بعدم وجوب الصلاة لا قصرا ولا تماما في أربعة فراسخ ، وكلاّ من القسمين تارة يلاحظ بالنسبة إلى الموضوع الخارجي ، وأخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعي ، فهاهنا أقسام أربعة لا بدّ لنا من بيانها :
القسم (6) الأوّل : يجوز المخالفة القطعية في الفتوى فقط في الموضوعات الخارجية مع موافقة العمل لأحد طرفي العلم الإجمالي إجماعا (7) على ما ادّعاه أستادنا المرتضى ، وأمثلته كثيرة في الفقه جدّا.
منها : لو شكّ في مائع معلوم هل هو ماء أو بول؟ فلو توضّأ منه ، يحكم بطهارة بدنه وبقاء حدثه مع العلم إجمالا بتلازم الطهارة ورفع الحدث في الواقع وجودا وعدما لكنّ العمل ليس بخارج عنه كما لا يخفى.
ومنها : لو (8) أقرّ واحد بأخوة الآخر أو بزوجية امرأة ، وأنكر الآخر والزوجة أخوّته وزوجيته ؛ فإنّه يؤخذ بإقراره فيهما دونهما مع أنّ العلم الإجمالي يخالفه.
ومنها : تعارض الاستصحابين فيما لم يكن أحدهما مزيلا ، والآخر مزالا.
ص: 43
القسم الثاني : هل يجوز المخالفة العملية في الموضوعات أو لا؟ فيه تفصيل بين ما يلزم من المخالفة طرح خطاب تفصيلي يتوجّه إلى المخاطب ، فلا يجوز ؛ للزوم الإطاعة شرعا وعقلا بعد التكليف ، وبين ما لا يلزم ، فيجوز.
و (1) من أمثلة الأوّل الشبهة المحصورة كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ؛ فإنّ قضيّة النهي عن استعمال النجاسة الظاهرة في الواقعية منها لزوم (2) الاجتناب ، فيحرم المخالفة القطعية ، فيجب الموافقة القطعية ؛ فإنّ بعد ما فرض من (3) أنّ المطلوب الاجتناب عن النجاسة الواقعية المشتبهة في الخارج ، فلا ريب في وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة بتمامها ، وإلاّ فلا بدّ من القول بجواز الارتكاب مطلقا ، أو فيما سوى مقدار المحرّم ، فظهر أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية في المقام ، والمنكر مكابر.
ومن أمثلته لو جهل جهة القبلة ، فلا بدّ من الإتيان بالصلاة مكرّرا على الجهات على حسب ما يقتضيه الجهل فيها ، وإلاّ فيلزم طرح خطاب تفصيلي يدلّ على وجوب الصلاة على جهة القبلة الواقعية.
ومن الأمثلة ممّا لو علم بأنّ الموجود المعلوم إمّا خمر أو بول ، فمقتضى لزوم الاجتناب عن النجس لزومه فيه.
ومن الأمثلة ما لو تزوّج أحد امرأة واشترى أمة ، فعلم حريّة الأمة أو مرضعية الزوجة ، فيلزم الاجتناب عنهما في لوازمهما ؛ لئلاّ يلزم طرح خطاب تفصيلي متوجّه إليه وهو قوله تعالى : ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (4) فإنّ المفروض في صورة عدم الاجتناب القطع بأنّه مقدم على الابتغاء بما وراء ما ذكره في صدر الآية ، فلا بدّ من الاجتناب.
ص: 44
فظهر أنّ المناط في الجواز وعدمه لزوم طرح الخطاب تفصيلا لا كون طرفي العلم الإجمالي من الأمور المتجانسة كما تخيّله صاحب الحدائق (1) ، وبنى عليه في الردّ على صاحب المدارك (2) حيث استدلّ الأخير على عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة مطلقا بأنّه لو كان واجبا ، لوجب الاجتناب أيضا لو علم بوقوع نجاسة من الميزاب مثلا ، وشكّ في أنّه وقع في الثوب أو القدح ؛ فإنّه أيضا شبهة محصورة ، واللازم باطل ؛ لوضوح عدم لزوم الاجتناب عن مثله ، فكذا الملزوم ولو كان من غير الفرض ؛ لعدم تعقّل الفرق بين الأقسام ، فأورد عليه الأوّل بإحداث الفرق وإبداء الفارق بين المفروض وغيره بأنّ طرفي الشبهة فيه ليسا (3) بمتجانسين ، فلا يتمّ التقريب ، وعلى ما قلنا يظهر الوجه في ضعف الدليل والإيراد كليهما.
وقد يوجّه كلام صاحب الحدائق بوجه يرجع إلى ما بنينا عليه كأن يقال إنّ مراده أنّ مرجع لزوم الاجتناب عن الأرض النجسة إلى النهي عن الصلاة فيها بخلاف لزوم الاجتناب عن القدح ، فإنّه ينحلّ إلى النهي عن شربه مثلا ، فالخطابان مختلفان لا يعلم مخالفة أحدهما تفصيلا كما في الفرض الأوّل ، فالأصل براءة الذمّة عنهما معا مع عدم المعارض على ما ستعرفه إن شاء اللّه إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّ تحليل الخطاب إلى ما ذكر يوجب التفصيل في المتجانسين أيضا في بعض الأحوال كما إذا كان هناك قدحان أحدهما من جنس المأكول ، والآخر من جنس المشروب ، فإنّ الاجتناب عن كلّ منهما في ظرف التحليل يرجع إلى (4) النهي عن أكله وشربه ، ومثل ذلك لا يلتزم به أحد لا هو ولا غيره ، فتأمّل.
هذا تمام الكلام فيما يلزم عند عدم الاجتناب طرح خطاب تفصيلي ، وأمّا إذا لم
ص: 45
يلزم ، فلا يجب الاجتناب وإن لزم العلم بمخالفة أحد الخطابين - لو لم يجتنب - إجمالا في كلتا الواقعتين للأصل السالم عن معارضة خطاب تفصيلي ، والعلم بمخالفة أحد الخطابين إجمالا لم يعلم تأثيره في قطع الأصل ؛ لعدم الدليل عليه ، فالأصل عدم انقطاعه به (1).
ومن أمثلته لو اشترى دارا وتزوّج امرأة ، ثمّ علم إجمالا أنّ أحد العقدين فاسد إمّا لأنّ الزوجة مرضعة له ، أو أنّ الدار وقف على الفقراء والمساكين ، ولا فرق في ذلك بين علمه بذلك قبل الإقدام أو بعده بإحدى الواقعتين.
لا يقال : إنّ قضيّة تعليق (2) أدلّة البراءة موردها بحصول العلم عدم جريانها عند حصوله مطلقا إجماليا كان أو تفصيليا كما في الشبهة المحصورة ، فلا وجه للاستناد إليها في مثل المقام.
لأنّا نقول : مرجع العلم الإجمالي في المقام إلى شكّين تفصيليّين عند التحليل بخلاف الشبهة المحصورة ، فلو لم يكن فيها خطاب تفصيلي يجب الأخذ به ، لما قلنا بالاجتناب فيها أيضا ، فإنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا في مورد الشكّ محكّمة ، والعلم المردّد بين الواقعتين لا يوجب العلم بخصوصية إحداهما ، فكلّ منهما مشكوك تفصيلا ، ولا يجب امتثال خطابات الشارع ما لم يعلم (3) تعلّقها بالخصوص ، ولو كان مجملا في محلّه كأن نعلم في المثال المفروض تعلّق الخطاب إجمالا بحرمة الزوجة ، وعدمه على هذا الوجه في المقام أيضا معلوم ؛ إذ الإجمال يكون بين الواقعتين ، فتدبّر.
فإن قلت : في المقام أيضا خطاب تفصيلي يلزم طرحه عند طرح العلم الإجمالي في الواقعتين وهو ما دلّ على وجوب الانتهاء عن المحرّمات وحرمة ارتكابها.
قلت : لو سلّمنا ذلك ، فلا يكفي ولا يجدي فيما نحن فيه ؛ فإنّه على تقديره أمر
ص: 46
إرشادي عقلي لا يورث ثوابا ولا عقابا ، وإلاّ يلزم أنّ من ترك واجبا ، أو أتى بمحرّم أن يعاقب بعقابين ولم يقل به أحد.
ودعوى استقرار بناء العقلاء على الاجتناب عن (1) مثل المقام عهدتها على مدّعيها ، بل لنا أن ندّعي أنّ بناءهم على الخلاف ؛ ألا ترى قبول عذر المرتكب لإحدى الواقعتين بعدم العلم؟
والقول بعدم الفرق (2) بين المعلوم بالإجمال في المقام وغيره فيما يجب الاجتناب بعد وضوح الفرق واه جدّا ، وكفاك شاهدا في الفرق جواز تصريح الشارع بعدم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام دون غيره كما لا يخفى.
ومنه ظهر أنّ اعتبار مثل العلم يحتاج إلى جعل فما لم يثبت فالأصل عدمه ؛ لأنّا نقول : لا يجوز ذلك مع توجّه الخطاب التفصيلي على المكلّف وبقائه على ظاهره كما هو كذلك.
نعم ، يجوز ذلك مع ارتكاب تأويل في ظاهر الخطاب كأن يقول : يجب عليك الاجتناب عن النجس إذا كان معلوما بالتفصيل.
وبالجملة ، إنّ مبنى هذا التحقيق أمران :
أحدهما : إبقاء الأوامر الشرعية على ظواهرها ، وعدم تقييدها بالعلم التفصيلي كما فعله البعض.
وثانيهما : عدم الاعتماد بالخطابات المنتزعة من الخطابات الشرعية الواردة في مقام بيان الأحكام ، فلا يصحّ في الفرض المذكور أن يقال : إنّ التكليف بالاجتناب المنتزع عن إحدى الواقعتين موجود إجمالا ؛ فإنّه ليس من الأدلّة الشرعية ، والقول باعتبار مثله يتوقّف على دعوى استقلال العقل - ولو بعد ملاحظة خطاب الشارع مجملا - بلزوم الاجتناب ، فيكون الخطاب التفصيلي خطابا عقليا وإن لم يكن شرعيّا ، ولا أظنّ
ص: 47
صدقها بل والمدّعي بذلك (1) لا يدّعيها أيضا كما لا يخفى.
فظهر الفرق بين الشبهة المحصورة وبين المقام ؛ فإنّه يجب الاجتناب فيها دون المقام ، فلو ارتكب أحد إحدى الإناءات المشتبهة ، وصادف النجس الواقعي ، ترتّب عليها ما يترتّب عليه من الأحكام الواقعية من الثواب والعقاب والمفسدة والمصلحة وغير ذلك ، فلم لم (2) يصادف ينعطف الحكم إلى ما ذكرناه في التجرّي ، ولا يلزم من عدم التفطّن (3) بالخطابات كون الشاكّ مكلّفا ولو لم يكن عالما إجمالا كما قد يتوهّم ؛ فإنّ عدم التكليف إنّما هو من جهة جهل المكلّف لا من قصور في الخطاب.
لا يقال : إنّ اتّصاف الأعيان بالحلّ والحرمة ، والنجاسة والطهارة راجع إلى ملاحظة حال فعل المكلّف ، فحرمة الخمر راجعة إلى حرمة شربه وإن كان ذلك ممّا تقتضيه الحكمة الكامنة (4) في نفس تلك الأعيان بأنفسها من غير ملاحظة العلم والجهل فيها إلاّ أنّ إضافتها إلى المكلّف تقضي بلزوم العلم فيها.
لأنّا نقول : إن أريد باعتبار العلم في معاني تلك الأعيان ، فسقوطه واضح ؛ لأنّ ما ذكر لا يصلح وجها للتصرّف في معنى اللفظ (5) ، وإن أريد بقيد الخطاب بمطلق العلم ، فلا جدوى فيه ؛ لأنّه موجود في صورة الإكمال أيضا ، وليس كذلك فيما لم يكن هناك خطاب تفصيلي كما في المثال المفروض ؛ إذ وجود كلّ من الخطابين مشكوك بالشكّ التفصيلي ، والعلم الإجمالي لا ينتج شيئا إلاّ بعد ضمّ كبرى كلّية إليه إمّا بأن يدلّ على اعتباره في المقام دليل ، أو يكون في الشرع دليل خاصّ تفصيلي ينهض كبرى للقياس ، ومن المعلوم انتفاؤها (6) ، والخطاب الانتزاعي قد مرّ حاله. ثمّ إنّ هاهنا أقوالا أخر في المسألة لا بأس بالتنبيه عليها.
ص: 48
الأوّل : جواز الارتكاب مطلقا ، ومبناه دعوى ظهور الألفاظ في المعلومة منها تفصيلا وضعا أو إطلاقا ، وعموم أدلّة البراءة القاضية برفع ما حجب اللّه علمه عن العباد (1).
ويدفعه ما قلنا من عدم جواز التصرّف في الظواهر الظاهرة في معانيها الواقعية ، ومنع عمومها الشامل للمقام مطلقا بعد وجود الخطاب التفصيلي على ما قلنا.
الثاني : لزوم الاجتناب مطلقا سواء استلزم طرح خطاب تفصيلي على ما اخترناه أوّلا.
والجواب عنه عدم دليل على لزومه فيما لم يستلزم طرح دليل تفصيلي إلاّ ما قد ينتزع من الخطاب ، ثمّ (2) بانضمام كبرى كلّية - مأخوذة من طريقة العقلاء ، أو الحكم العقلي القاطع ، أو غير ذلك ممّا استوفينا الكلام فيه - إلى صغرى انتزاعية يتمّ المطلوب ؛ ونحن قد فرغنا عن إبطال صغراه وكبراه على حسب اختلافها.
الثالث : التفصيل على ما اختاره صاحب الحدائق ؛ وقد مرّ الكلام فيه بجوابه (3).
الرابع : ما عزي إلى بعضهم من التفصيل بين أن يكون طرفا الشبهة حكما واحدا كالحرمة أو الوجوب ، أو حكمين مختلفين ، فقضى بالاجتناب في الثاني دون الأوّل ، فلو علمنا إجمالا إمّا أنّ المرأة الفلانية مرضعة ، أو في القدح الفلاني خمر ، يجب الاجتناب كما لو علمنا بأنّ اليوم هذا من شهر رمضان ، أو سلّم علينا شخص ، يجب ردّ السلام ويحرم عليه الإفطار ؛ ولعلّ مبنى هذا القول تخيّل عدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين موضوعي الوجوب أو الحرمة كما لو دار الأمر بين كلّ منهما مع الآخر ؛ وهو بمكان من الضعف.
الخامس : التفصيل بين الشبهة الوجوبية كاشتباه جهة القبلة بين الجهات ، فيجب
ص: 49
الاحتياط ، أو التحريمية كاشتباه أحد الإناءين بالآخر ، فيحرم لو قصد ارتكاب الجميع في أوّل الأمر ، وإلاّ فلا وإن ارتكب الجميع أيضا ، ومبناه في الشبهة الوجوبية ظاهر ، وفي الشبهة التحريمية أنّه على الأوّل تعلّق قصده بارتكاب المحرّم فيحرم ، وعلى الثاني لم يقصده وإنّما ارتكبه (1) من غير اختيار واستناد إليه.
وتوضيحه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ الألفاظ وإن قلنا بوضعها للمعاني الواقعية من غير استنادها إلى الاختيار وعدمه إلاّ أنّ وقوعها تلو الأمر والنهي يقضي (2) بكونها ألفاظا للمعاني المستندة إلى الاختيار ، فقولنا : اضرب ، معناه طلب ضرب اختياري من المخاطب ، فلو ضرب وهو نائم ، لا يعدّ ممتثلا ، وعلى قياسه قولنا : لا تضرب مثلا (3).
وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ المفصّل أراد أنّه عند عدم القصد والاختيار لا يكون منهيّا عنه ، فلا يحرم ، وكما أنّه لو أراد ضرب اليتيم تأديبا ، فضربه ، فبان مقتولا ، فإنّه لا يقال : إنّه قتل الطفل المنهيّ عنه اختيارا ، فكذا لو شرب أحد الإناءين لا بعنوان نجاسته بل رجاء (4) منه بأنّ النجس إنّما هو الآخر ، ثمّ بان أنّ المشروب هو النجس ، لا يقال عرفا : إنّه قصد شرب النجس ، فليس منهيّا عنه ؛ لما تقدّم.
ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ المقدّمة المزبورة هي المسألة المعنونة في كلماتهم بأنّ الأصل في الأوامر أن يكون متعلّقها تعبّديا لا توصّليا ، و (5) ليس على ما توهّم ؛ فإنّ الكلام في المقام من جهة اعتبار القصد والاختيار مطلقا (6) ، وفيها من حيث قصد القربة وعدمها ، فالقاعدة المزبورة تغاير المسألة المذكورة ، وحينئذ يمكن منع الثاني ؛ لعدم الدليل على اعتبار أمر زائد على مطلق القصد بخلاف الأوّل كما هو ظاهر.
والجواب عنه أنّ ما ذكره من تعلّق الطلب بالأمور الاختيارية ممّا لا يدانيه شائبة
ص: 50
الارتياب إلاّ أنّه لا يجدي ؛ فإنّ قضيّة مراعاة قواعد اللفظ حصول المقصود من الأمر ، وترتّب ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد على كلّ من الاختياري وغيره ، لما قد نقل عليه إجماع السكّاكي (1) من أنّ المصادر المجرّدة عن اللام والتنوين - التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي - موضوعة للماهية (2) المعرّاة عن جميع اللواحق ، ومدلول الهيئة لا يزيد على طلب تلك المادّة من غير تقييدها (3) باختيار ولا غيرها ، غاية الأمر أنّ الطلب الصادر من الآمر لا يتعلّق بغير الاختياري (4) ، وذلك لا يوجب تقييد (5) مدلول المادّة به (6).
والحاصل : أنّا نفرّق بين المقصود والمطلوب ، ففي الأوّل يكفي اختيارية الفعل نوعا ، وفي الثاني لا بدّ من كونه اختياريا شخصا ، والمدار على الأوّل في الامتثال ؛ إذ لا يقضي لفظ الأمر بأمر زائد عليه ؛ وعدم الكفاية في الثاني إنّما هو من جهة قصور في الطلب لا من جهة عدم صلوح اللفظ ؛ فما ذكره المفصّل - من عدم الامتثال فيهما لو ضرب نائما بعد الأمر به - في معرض المنع.
نعم ، ذلك الضرب ليس مطلوبا ، واختلاف أحكام الطلب وما تعلّق به الأمر ممّا لا يخفى على أحد ، وعلى مثل ذلك يبنى في صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ؛ فإنّ الصلاة الصادرة على وجه (7) المحرّم تنافي كونها مطلوبة لكن لا تنافي التوصّل بها إلى مقصود المولى ، فإنّ الماهيّة بجميع أفرادها من حيث إطلاقها متعلّقة للأمر ، ومتصوّرة في أوّل (8) الأمر ، وعدم كون الفرد المحرّم مطلوبا - كما لو (9) قلنا - إنّما هو من جهة قصور في الطلب
ص: 51
لا من جهة عدم تعلّق القصد به ، فتأمّل.
وقد يجاب أيضا بأنّ المرتكب في الصورة المفروضة لا يعدّ عرفا غير قاصد ، ولا فرق في ذلك بين قصده شرب الكلّ والبعض.
نعم ، قد يمكن القول بذلك فيما لو قطع بالخلاف ، فانكشف الخلاف ؛ فإنّه يلحقه أحكام الاضطرار (1).
[ القسم ] الثالث : من أقسام المخالفة هو المخالفة القطعية الحكمية في مجرّد الفتوى كما إذا اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته على قولين ، فالحكم بأصالة البراءة والقول بالإباحة مخالف لفتوى الفريقين في نفس القول ، وأمّا العمل ففي صورة اختيار الفعل يوافق القول بالوجوب ، وفي صورة اختيار الترك يطابق القول بالحرمة ، فلا مخالفة في العمل فلا ريب (2) في جوازها كما تقدّم منّا في توجيه كلام العلاّمة نظرا إلى عدم انصراف الحكم على خلاف ما أنزل اللّه تعالى إلى مثله.
بل قد يقال : إنّه أخذ بمقتضى الأدلّة الظاهرية بعد امتناع الوصول إلى الواقع إلاّ أنّه يظهر من الأصحاب فيما إذا دار الأمر بين المتباينين - كما في المقام - التخيّر بين الحكمين والتديّن بأحد الوجهين تخييرا بدويا أو استمراريا على الخلاف المقرّر كما في أخذ المقلّد وتديّنه بفتوى أحد المجتهدين عند اختلافهما في الحكم بوجوب شيء وحرمته.
وليس على ما ينبغي ؛ فإنّ مبناه تخيّلهم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام ولا دليل عليه ، وعلى تقديره ، فاللازم منه بعده هو التخيير (3) بين الفعل والترك المساوق للإباحة لا التخيير (4) بينهما على جهة استنادهما إلى أحد الحكمين.
ص: 52
والسرّ في ذلك أنّ مقتضى العلم الإجمالي فيما دار الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة أوّلا تحصيل الموافقة القطعية ، فلا بدّ في المقام من الفعل والترك حيث إنّ ذلك غير ممكن ، فلا بدّ من المصير إلى ما لا يلزم معه المخالفة القطعية ، وهذه لا تقضي بأزيد من التخيير (1) بين الفعل والترك المساوق للإباحة ، وأمّا أنّ الفعل أو الترك لا بدّ وأن يقع على أحد الوجهين ، فلا دليل عليه إلاّ أن يقال : إنّ حكمهم بالتخيير (2) على هذا الوجه مبني على دليل آخر كأدلّة وجوب الإطاعة نظرا إلى عدم تحقّقها إلاّ على الوجه المذكور ولو احتياطا ، وللأخبار الواردة في علاج المتعارضين الحاكمة بالتخيير (3) بينهما بدعوى ظهورها فيه على وجهها.
القسم الرابع : من أقسام المخالفة هو المخالفة الحكمية في الفتوى والعمل أيضا وهي أيضا - كما في الموضوعية - تنقسم إلى قسمين ؛ فإنّه تارة يلزم فيها طرح خطاب تفصيلي ، وأخرى لا يلزم ، مثال الأوّل اختلافهم في وجوب الظهر والجمعة ، فلو قيل بعدم وجوبهما رأسا ، يلزم مخالفة العلم الإجمالي فتوى وعملا ، ويلزم طرح خطاب الصلاة المتوجّه على المكلّف تفصيلا.
لا يقال : خطاب صلاة الجمعة يغاير خطاب صلاة الظهر ، فليس من المفروض.
لأنّا نقول أوّلا : يتوجّه على المكلّف وقت الظهر في الجمعة خطاب واحد وإن كان مردّدا بين الصلاتين ، ومجملا بالنسبة إليهما.
وثانيا : وإن سلّمنا تعدّد الخطاب إلاّ أنّهما (4) في حكم الواحد بعد العلم بأنّ البراءة في أحدهما تقضي (5) بها في الآخر ، وتعدّد الخطاب إنّما يجدي فيما إذا لم يكن بين الخطابين
ص: 53
علقة يرتفع أحدهما بارتفاع الآخر (1).
وثالثا : قوله (2) تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (3) إنّما يراد منه الصلاة الوسطى في يوم (4) الجمعة ، إمّا الجمعة وإمّا الظهر وهو خطاب واحد ، كيف كان (5) ، ففي المفروض التحقيق عدم جواز المخالفة ؛ إذ لو بنينا في أمثال المقام على جوازها ، يلزم الخروج من الدين.
ومثال الثاني كما لو فرضنا وجود رواية على وجوب الصلاة عند سماع اسم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ورواية أخرى تدلّ على وجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، وعلمنا أنّ إحدى الروايتين إجمالا مطابقة للواقع ، فإنّه لا يلزم من طرحها والرجوع إلى البراءة طرح خطاب تفصيلي ولا ضير فيها على ما مرّ مفصّلا في الشبهة الموضوعية مع جريان أقوالها إلاّ التفصيل الأخير ؛ فإنّه يختصّ بها كما لا يخفى.
وقد يفصّل في المقام أيضا بما لا يجري فيها وهو أن يقال : إن كان متعلّق العلم الإجمالي في الأحكام انتقاض أحد الأصلين العمليين ، فلا عبرة به كما لو ثبت جواز شرب العصير العنبي بأصالة البراءة وجواز شرب التتن بها أيضا ، فعلمنا بانتقاض أحدهما إجمالا بغيره (6) ، وإن كان تعلّق العلم الإجمالي بانتقاض أحد الأصلين اللفظيّين فنعتبره كما إذا دلّ دليل على عدم جواز الصوم في السفر ، ودليل آخر على أنّ مسافة القصر أربعة فراسخ ، ثمّ علمنا (7) بأنّ المعصوم عليه السلام صام في يوم عرفة ، فنعلم إجمالا بأنّ أحد الدليلين لا يراد منه ظاهره ، فيسري الإجمال منه إلى الآخر (8) ، فيحتاط فيهما.
وأيضا قد يوجد في بعض الأخبار ما يستفاد منها بطلان الصلاة من المرأة المقتدية
ص: 54
بالإمام إذا كانت محاذية للرجال ، وكذا لو كانت صلاتها مخالفة لصلاة الإمام نوعا ؛ فإنّه يعلم إجمالا أنّ جهة الفساد إمّا التحاذي ، وإمّا التخالف ، فلا بدّ من التصرّف في أحد الدليلين الدالّ أحدهما على جواز التحاذي ، والآخر على جواز التخالف ، فلا يراد من أحدهما ظاهره فيسري منه الإجمال إلى الآخر.
لا يقال : لا فرق في المقام بين الأصلين اللفظيّين والعمليّين ، فلا وجه للتفصيل بينهما.
لأنّا نقول : فرق واضح بين المقامين ، فإنّ الأصول العملية معتبرة من باب التعبّد والسببية المطلقة ، والظاهر من أدلّتها انقطاعها بعد وجود العلم التفصيلي في مجراها كما يشهد بذلك قوله : « إلاّ بيقين مثله » في بعضها ، فالعلم الإجمالي لا ينقطع بشيء منها في مجراها بخلاف الأصول اللفظية ، فإنّ اعتبارها من جهة الكشف ، وبعد ما فرضنا من تعلّق العلم الإجمالي بما يخالف أحدهما لا يحصل الكشف ، فلا يعتبر.
وفيه نظر يطلب من محلّه ؛ لجواز انقطاع الأصل بالعلم الإجمالي ، والتطويل في بيانه يوجب الخروج عن الوظيفة. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الشكّ في التكليف والمكلّف به (1).
وأمّا الكلام في الشكّ في المكلّف ، فيرجع إجمالا إلى ما تقدّم من الاجتناب فيما يلزم طرح خطاب تفصيلي ، وعدمه فيما إذا لم يلزم.
وتفصيل الكلام فيه أنّه ينقسم إلى (2) قسمين :
الأوّل : أن يتردّد (3) موضوع من الموضوعات الشرعية - المترتّب عليه الأحكام الشرعية - بين المكلّفين فصاعدا كما لو علم حصول الجنابة ولم يعلم تعلّقها بشخص بالخصوص.
ص: 55
الثاني : أن يتردّد مكلّف واحد بين موضوعين من الموضوعات الشرعية كالخنثى المردّد بين الصنفين بعد العلم بعدم خروجه عنهما ، فالكلام في القسم الأوّل يقع في موارد ؛ فإنّه تارة يتكلّم من حيث أحكام كلّ واحد منهما بالنسبة إلى نفسه ، وأخرى بالنسبة إلى آخر ، ومرّة من حيث أحكام غيرهما بالنسبة إليهما أو أحدهما.
أمّا الكلام بالنسبة إلى الأحكام الراجعة إلى نفسهما ، فالظاهر جريان البراءة في كلّ منهما (1) ، والحكم بالطهارة في المفروض بل قد يقال بنفي الخلاف فيه بعد جهل التكليف ، ولا يلزم من جريانها طرح خطاب تفصيلي.
وأمّا الكلام بالنسبة إلى كلّ منهما مع الآخر كاقتداء أحدهما بالآخر ، فإن قلنا بأنّ الطهارة شرط في الاقتداء واقعا كما هو الظاهر ، فلا يصحّ قطعا ؛ لما عرفت من اعتبار العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، وإن قلنا بأنّها من الشروط العلمية ، فيمكن القول بالصحّة وعدم اعتبار العلم حسبما فصّل فيما تقدّم.
وربّما يتوهّم أنّه لو استأجر أحدهما الآخر لقراءة العزائم حتّى يتبعه في القراءة من أمثلة المقام ، وليس كذلك ؛ فإنّ القراءة فيهما راجعة إلى نفسهما ، ولا علقة بين عملهما كالاقتداء.
ولو قيل بأنّ الموجر مثلا يعلم بأنّه إمّا (2) فاعل للحرام من جهة قراءة نفسه (3) على تقدير جنابته ، أو استأجر الآخر لعمل يحرم عليه (4) على تقدير جنابة الآخر ، لكان أوجه إلاّ أنّه أيضا لا وجه له ؛ لعدم الدليل على عدم جواز استيجار الجنب لقراءة العزائم أيضا.
نعم ، لو علم بجنابته واقعا ، يحرم الاستيجار ، وليس المقام منه كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر حكم ما لو حمل أحدهما الآخر في دخول المسجد ، فإنّه جائز ، أمّا
ص: 56
دخوله ، فلأنّه طاهر بالأصل ، وأمّا إدخاله الغير ، فلأنّ الغير طاهر أيضا بالأصل ، وعلى تقدير جنابته ، فلا دليل على عدم جواز إدخال الجنب في المسجد ؛ لأنّ الدخول غير الإدخال.
وأمّا الكلام بالنسبة إلى الخارج منهما معا ، فمثل ما مرّ آنفا من عدم جواز الاقتداء بهما في صلاتيه لو قلنا بالطهارة الواقعية ، وجوازه لو قلنا بالمعلومة ، وينبغي أن يعلم أنّ الإجارة وإن لم تكن حراما إلاّ أنّ الموجر لا يملك عملهما ؛ لكونه محرّما ، ولا يجوز للثالث التصرّف في أجرتهما كما لا يخفى.
والكلام في القسم الثاني أيضا يقع في موردين :
الأوّل : في بيان حكم الغير بالنسبة إليه ، والمرجع في ذلك إلى ما تقتضيه الأصول فيعمل به (1) ، وإن خالف العلم الإجمالي فيما لم يلزم (2) طرح خطاب تفصيلي ، فتزويج الغير ممّا لا يترتّب عليه الأثر ؛ لأصالة عدم الصحّة ، ودعوى عموم وجوب الوفاء بالعقد واهية ، لاختصاصها فيما إذا (3) كان المحلّ قابلا ، فلا يصحّ التمسّك به في الشبهة الموضوعية. وأمّا وطؤها ، ففي صورة الشبهة (4) ممّا (5) لا إشكال في عدم جوازه ، وأمّا بدونها ، فيحتمل الجواز نظرا إلى أنّ ثقبتها غير معلومة فرجيّتها. وأمّا النظر إليها ، فيحتمل الجواز عملا بأصالة البراءة بعد عدم لزوم طرح الخطاب التفصيلي (6) ؛ لأنّ الناظر لو كان رجلا ، فيحتمل كونها مماثلا له في الرجولية ، فلا علم بتعلّق الخطاب ، وكذا لو كانت الناظرة أنثى ، ويحتمل عدم الجواز نظرا إلى عموم الأمر بالغضّ للمؤمن والمؤمنة ، خرج ما علم رجوليته للأوّل وأنوثيّته للثاني بقي الباقي تحت العامّ على الخلاف المقرّر من جواز التمسّك بالعامّ في الموضوعات وعدمه ولو اشترى الخنثى
ص: 57
أخوها ، فهل ينعتق عليه أم لا؟ الأصل عدم الانعتاق ، وأمّا في الإرث فالأصل عدم استحقاقها ممّا (1) يزيد على حصّة النساء وإن كان قد يعارض بأنّ الأصل عدم زيادة حصّة الغير عنها.
الثاني : في بيان حكمها بالنسبة إلى نفسها وإلى غيرها في المثال المفروض ، فالمرجع فيه أيضا إلى ما فصّلناه من طرح الخطاب وعدمه ، فلا يجوز لها النظر إلى الغير نظرا إلى علمه بوجوب الغضّ تفصيلا ، وجهل المتعلّق لا يسري في الحكم ، فيجب الاحتياط.
وقد يتمسّك للجواز بلزوم العسر المنفيّ على تقدير عدمه ، وأمّا وطؤه الغير ، فالأصل جوازه ؛ لاحتمال زيادة الآلة.
ولو دخل الخنثى بالأنثى ، والرجل على الخنثى ، وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى ؛ لحصول العلم التفصيلي بالنسبة إلى الخنثى دون الرجل والأنثى ، وأمّا تزويجها الغير فكما تقدّم الأصل عدم ترتّب الآثار عليه ، وكذا مسألة العتق.
وأمّا حكمها في العبادات فيختلف الموارد ، فلو رجع شكّها إلى ما هو شرط لها أوّلا كوجوب تغطية الرأس ، فيجب على القول بالاشتغال ، ولا يجب على البراءة ، ومثله الجهر والإخفات لو (2) قلنا بجواز الإخفات لها في موضع الجهر ، وأمّا لو قلنا بوجوبه ، فيحتمل لزوم تكرير العمل بأن يقرأ حمدين وسورتين ، ويلتزم بجواز التكرير في المقام أو تكرير الصلاة ، ويحتمل التخيير بينهما كما عن الشهيد في الذكرى مع أنّ طريقها الاحتياط في غير المورد. قال : الخنثى يتخيّر في الجهر والإخفات ، وإن جهرت في موضع الإخفات (3) فهو أولى إذا لم يستلزم سماع من يحرم سماعه (4).
ص: 58
وقد أورد عليه المحقّق القمّي (1) بأنّ ذلك ينافي إلحاقه الخنثى في مسألة الستر. وأجاب عنه بعض الأجلّة (2) بأنّ الحكم بالتخيير إنّما هو لخصوصية قاضية وهو معذورية الجاهل بالحكم فيه.
وفيه نظر ؛ فإنّ المسلّم من العذر فيما لو كان الحكم والموضوع معا مجهولا ، وأمّا إذا كان عالما بالحكم جاهلا بالموضوع ، فلا دليل على معذوريته كما في المقام ، فتدبّر جيّدا.
ص: 59
ص: 60
وإذ قد عرفت تحقيق القول في العلم بقسميه : الإجمالي والتفصيلي تفصيلا ، فلنعطف الكلام إلى ما هو عقد الباب له وهو حجّية الظنّ ، ويقع الكلام فيه في مقامين : الأوّل :
في إمكان التعبّد به ، والثاني : في وقوع التعبّد به فنقول :
أمّا المقام (1) الأوّل
في جواز التعبّد بالظنّ (2)، فالمشهور بين أصحابنا ومخالفينا على ما نقل عنهم جواز التعبّد ، والمنقول عن بعض أصحابنا عدمه ، ومال إليه جملة من مخالفينا ، ثمّ المشهور حكاية هذا القول في أصحابنا عن ابن قبة (3) ومقالتهم في العنوان وإن اختصّت بخبر الواحد إلاّ أنّ الاحتجاج المنقول منهم في دعواهم صريح في عدم جواز التعبّد بالظنّ مطلقا ، فلا بدّ من تنزيل المذكور في العنوان على المثال ، وهل النزاع في الإمكان والامتناع الذاتيين ، أو فيهما ولو بملاحظة ما يلزم على تقديره من القبيح؟
والظاهر هو الثاني ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور.
لنا على الجواز وقوع التعبّد كثيرا كما يظهر من طريقة الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.
وقد يستند في المقام وأمثاله إلى أصالة الإمكان كما في مسألة جواز التجزّي
ص: 61
واجتماع الأمر والنهي ، والأصل فيها - على ما هو المصرّح به في كلام بعض الأعيان - هو الغلبة ، وليس على ما ينبغي ، لوضوح أنّ المناط فيها ليس على الموجودات فقط ، وأمّا المعدومات ، فمع ملاحظتها غلبة الممكن على الممتنع ممنوعة ، كيف ولم نعلم وجه العدم فيها ، ولعلّه لا امتناع فيها.
فالتحقيق فيها أنّ قضيّة جبلّة كلّ عاقل فيما لم يدلّ على ضرورة وجود شيء ، أو ضرورة عدمه دليل يحكم (1) بالإمكان فيه ، فيعامل معه (2) معاملة الممكن كما لو شكّ في وجود شيء يعامل معاملة المعدوم ، فكما أنّ بناء العقلاء على الحكم بالعدم عند الشكّ فيه ، فكذلك عند الشكّ في ضرورة العدم ، فيحكمون بعدمها أيضا ، ففي الحقيقة هذه شعبة من أصالة العدم ، وكأنّه إلى هذا ينظر ما هو المنقول عن عبارة الشيخ الرئيس (3) من أنّه كلّ ما قرع سمعك ولم يدلّ دليل على وجوبه وامتناعه ، فذره في بقعة الإمكان إلاّ أنّه مع ذلك غير مفيد ؛ فإنّ الإمكان إن قيس إلى الواقع ، فالأصل لا يقضي (4) به ، وإن قيس إلى الظاهر ، فلا جدوى فيه إلاّ إثبات آثار الواقع له ، وليس الإمكان والامتناع موضوعين لحكم شرعي حتّى يترتّب عليهما مثلا (5).
لا يقال : قد يثمر أصالة الإمكان فيما إذا دلّ الدليل على الإمكان فيقبل على الإمكان ، ولا يقبل على الامتناع.
لأنّا نقول : إن كان الدليل علميا ، فلا مجال لعدم القبول على التقديرين ، وإلاّ فلا مجال للقبول كذلك. نعم ، يثمر في مقام الاحتجاج ، فلمدّعي الامتناع إقامة الدليل عليه.
واحتجّ القائل بالامتناع بوجوه : أقواها لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وبطلان
ص: 62
اللازم كالملازمة ظاهر.
وأجيب عنه تارة بالنقض بسائر الأمارات الغير العلمية في الأحكام كالفتوى والموضوعات كيد المسلم والبيّنة وأصالة الطهارة ، وبالقطع أيضا لجواز تخلّفه عن الواقع واقعا وإن لم يكن كذلك في نظر القاطع كما هو الوجه في النقض في الكلّ ؛ إذ من المعلوم جواز التخلّف في الجميع عن الواقع فيلزم تحليل الحرام ، وتحريم الحلال.
وأخرى بالحلّ وحاصله : أنّ الحلّ والحرمة في المضاف والمضاف إليه إن قيسا إلى الواقع كأن يقال : على تقدير تجويز العمل بالظنّ يلزم تحليل الحرام الواقعي واقعا ، وتحريم الحلال كذلك ، أو إلى الظاهر ، كأن يقال في المفروض : تحريم الحلال الظاهري في مرحلة الظاهر ، وتحليل الحرام كذلك ، فبطلان التالي في الشرطية مسلّم لكنّ الملازمة ممنوعة ؛ لجواز التخلّف في مرحلة الظاهر (1).
وإن قيس أحدهما إلى الواقع ، والآخر إلى الظاهر ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة إلاّ أنّ بطلان التالي ممنوع جدّا.
والتحقيق في المقام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام يتوقّف على أنّ القائل بالامتناع إنّما يتمّ مقالته حالتي الانسداد والانفتاح أو لا ، بل يختصّ بالانفتاح وهو الظاهر.
أمّا أوّلا ، فلأنّ السيّد مع تأخّر زمانه من ابن قبة ادّعى الانفتاح ، وجماعة من متقدّمي أصحابنا كالشيخ في أوائل أمره إنّما كانوا يرون وجوب اللطف على الإمام حتّى أنّ كلّ ما [ لا ] يصل عليه دليل علمي كانوا يحكمون فيه بالتخيير الواقعي ، فكيف عمّن تقدّم عليه سيّما بمدّة طويلة ، فإنّ تلك الأزمنة لم تكن أزمنة الانسداد.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ جلالة شأن القائل على ما يستظهر في ترجمته المذكورة في كتب
ص: 63
أصحابنا الرجاليين ، فإنّه كان شيخ الإمامية في زمانه يمنع صدور مثل (1) هذه المقالة منه ، مع وضوح فسادها وظهور كسادها ، فإنّه على تقدير الانسداد - كما ادّعاه البعض - يجب على اللّه تعالى نصب أمارة ظنّية ، فكيف لا يجوز العمل بها؟ فإنّه بعد الانسداد ، فإمّا يحكم ببقاء التكليف كما عليه المشهور ، أو لا يحكم كما عليه البعض على ما حكي ، فعلى الأوّل يجب نصب أمارة ظنّية كما عرفت حيث إنّه لطف. وعلى الثاني لا وجه للقول باللازم بعد انتفاء جنس التكليف ، فتعيّن حمل كلامه على صورة الانفتاح ، وعلى تقدير الانفتاح وإمكان الوصول إلى الواقع مع أنّ المطلوب هو الوصول إليه ، فلا شكّ في قبح نصب طريق يتخلّف عنه ولو في وقت ؛ لاستلزامه خلاف الغرض في وجه ، ونقض الغرض في آخر إلاّ أن يكون العمل به من جهة ملاحظة وصف به يصير موضوعا مستقلاّ آخر ذا مصلحة متداركة لما يلزم في بعض صوره من المفسدة المترتّبة على عدم مصادفته للواقع كما إذا لاحظ الشارع احترام العادل ، فقال باعتبار خبره نظرا إلى أنّ التعبّد بخبره فيه مصلحة زائدة على مفسدة تخلّفه عن الواقع ، فعلى هذا التقدير فالواقع أحد الأمرين ، لكنّه لمانع أن يمنع غلبة مصلحة احترام العادل على مصلحة مصادفة (2) الواقع.
مضافا إلى لزوم التصويب على تقديره ، فظهر ممّا مرّ عدم ورود النقوض المذكورة على المستدلّ.
أمّا الفتوى ، فلأنّ مشروعيتها في حالة الانسداد ، فلا وجه للانتقاض ، وعلى قياسه (3) القطع فيما إذا تخلّف عن الواقع فإنّ باب العلم بالواقع للقاطع حينئذ منسدّ (4) ؛ إذ المحتمل قد يحتمل الواقع ولو احتمالا مساويا بل ولو احتمالا مرجوحا بخلاف القاطع حينئذ.
ص: 64
وأمّا اليد والاستصحاب وسائر الأمارات الشرعية ممّا لا يتوقّف اعتبارها على الانسداد بل يعمّ الحالتين ، فلعلّه يلتزم بأنّ نصب الطريق لا من حيث هو طريق بل بواسطة حصول مصلحة متداركة فيه بها يصير موضوعا مستقلاّ ممّا لا ضير فيه إلاّ أنّ الإشكال في لزوم التصويب على تقديره ، فإنّ الخمر مثلا من حيث إنّ العادل أخبر بحلّيته مشتملة على مصلحة تزيد على المفسدة الكامنة على تقدير عدم إخبار العدل بكونه حلالا ، فالخمر من حيث نفسه لا حكم له في الواقع ؛ فإنّ حكمه يناط بالإخبار وعدمه ، ولا نعني بالتصويب إلاّ هذا.
ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ التصويب الباطل المجمع على فساده هو أن يكون أحد الحكمين في الواقعة في عرض الآخر ، ولا يكون مرتّبا عليه ، وأمّا لو جعل الشارع المقدّس لأصل الواقعة من حيث هي حكما من دون ملاحظة الظنّ وجودا وعدما فيها ولها من حيث تعلّق الظنّ بها حكما آخر على أن يكون حكما ثانويا ، فلا يلزم التصويب.
وتفصيل الكلام أنّ التصويب في ألسنة أهله يستعمل في معنيين :
الأوّل : أن يكون حكم الواقعة موكولا إلى ظنّ المجتهد ، فما ظنّه المجتهد حراما (1) بظنّه يصير حراما ، ولا يكون هناك حكم مجعول في الواقع ، ولذلك قد أورد عليهم العلاّمة في النهاية بأنّ الظنّ كالعلم لا بدّ وأن يتعلّق بموضوع مقدّم عليه طبعا ، فما لم يكن هناك حكم مجعول في الواقع لا يصحّ الحوالة إلى الظنّ.
وأمّا ما أجاب عنه العضدي (2) بأنّ متعلّق الظنّ هو الحكم الشأني بمعنى أنّه هناك شيء لو حكم الشارع به ، لحكم به ، فالمظنون (3) هو الأليق بالقواعد ، والأشبه بالأصول ، فعلى إطلاقه غير مستقيم ؛ لاختصاصه بمقالة من يقول بالحكم الشأني من
ص: 65
المصوّبة ، وأمّا من لا يعتمد عليه - كما هو المحكي عن جملة منهم - فلا وجه له.
الثاني : أن لا يكون حكم الواقعة موكولا إلى الظنّ بل الشارع إنّما جعل على تقدير تعلّق الظنّ بالحرمة مثلا حكما ، وعلى تقدير عدم تعلّقه حكما آخر ، فالحكم يدور مدار الظنّ وخلافه في الواقع ، فكان موضوع الجهل يغاير موضوع العلم (1) ، فهو في عرضه.
والفرق بينه وبين الأوّل على زعمهم أنّ الحكم في القسم الأوّل يتّبع ظنّ المجتهد ، ولا يكون متقدّما عليه ، وفي القسم الثاني الحكم الواقعي يختلف باختلاف حالتي العلم أو تعلّق الظنّ به وعدمهما ، هذا ما بنوا عليه في الفرق بينهما ، وإلاّ فالتدبّر يقضي بعدم الفرق ؛ لخلوّ الواقعة في الحقيقة مع قطع النظر عن الحالتين عن الحكم ، فالالتزام بما ألزمهم العلاّمة في القسم الأوّل جار في القسم الثاني أيضا ، وهو بشيء من المعنيين لا يجري في المقام.
أمّا الأوّل ، فواضح.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم فيما إذا دخل الشيء تحت عنوان قول العدل ليس في عرض الحكم في الواقع ، فللواقعة من حيث نفسها مع قطع النظر عن دخولها (2) تحت عنوان حكم ، وعلى تقدير دخولها تحت العنوان حكم ثانوي مترتّب على الحكم الواقعي.
وبالجملة ، فللواقعة في حدّ ذاتها وفي مرتبة يرتفع فيها النقيضان - التي ليست فيها إلاّ هي - حكم واقعي باعتبار ما يقتضيه من المصلحة الكامنة ، ولها من حيث دخولها تحت عنوان باعتبار مصلحة كامنة فيها من تلك الحيثية حكم ثانوي مترتّب على
ص: 66
الحكم الأوّلي ، ولذلك لا يجزي عند انكشاف الخلاف ، والتصويب بكلا معنييه يغاير ما ذكرنا ، فتأمّل ؛ فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.
وقد يجاب عنه أيضا بتعارض المصلحة الحاصلة في قول العادل للمفسدة الكامنة المقتضية للحرمة في الخمر إذا أخبر العادل بحلّيته ؛ وهو بظاهره غير سديد ؛ لاستلزامه اجتماع المصلحة والمفسدة الفعليتين في واقعة خاصّة شخصية ، وقد تقدّم منّا في بعض المباحث السابقة ما يقضي بخلافه إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى ما مرّ.
ثمّ إنّه قد يعزى في المقام إلى بعضهم القول بوجوب التعبّد بالخبر الواحد أو الظنّ على ما مرّ من أوله إليه ، والظاهر أنّه أراد (1) من الوجوب لزوم جعله طريقا عليه تعالى من حيث إنّ الإخلال به إخلال باللطف قبالا لما صار إليه المانع منه.
ويؤيّده تحريرهم ذلك في المقام ، وإلاّ فلا وجه لعدّه قولا آخر في قبال مقالة المشهور ، ومنشأ الاشتباه فيه تعليل القائل ذلك بوجوب دفع الضرر ، فقد يتخيّل منه وجوبه على العباد وليس كذلك ، وعلى هذا التقدير.
فالتحقيق في دفعه أن يقال : إنّه لو أراد أنّ الإلزام بالعمل بالظنّ ، و (2) إمضاءه بعد الانسداد وعدم الرجوع إلى الأصول العملية لازم عليه تعالى نظرا إلى كونه لطفا (3) ، فهو في محلّه.
وإن أراد أنّه يجب عليه تعالى جعله حجّة وطريقا ، أو امضاؤه للعمل به في حالة الانفتاح نظرا إلى العلّة المذكورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون الظنّ موافقا للاحتياط ، أو لا - سواء كان مخالفا أو لا مخالفا ولا موافقا إذ النسبة بين الاحتياط والظنّ هو العموم من وجه - فالاجتماع ظاهر كالافتراق في الاحتياط.
وأمّا وجه الافتراق في الظنّ ، ففيما لو ظنّ بوجوب شيء مع احتمال الحرمة ولو
ص: 67
وهما ، فإنّ الاحتياط ليس في العمل بالظنّ (1) بل الاحتياط يقضي بتحصيل العلم التفصيلي كما لا يخفى ، ففي صورة افتراق الظنّ عن الاحتياط لا وجه للقول بوجوب العمل به ؛ إذ لا قبح فيه عند العقول ، وفي صورة الاجتماع لا يبعد دعوى الوجوب التخييري بينه وبين العمل (2) بالعلم التفصيلي ، لما عرفت فيما تقدّم فيما إذا دار الأمر بين الامتثال التفصيلي والإجمالي في بعض الوجوه على ما مرّ تفصيله.
ص: 68
وأمّا (1) المقام الثاني
في وقوع التعبّد به شرعا ، فاختلف القائلون بالإمكان على قولين : فالسيّد وأتباعه (2) على العدم والمشهور على الوقوع ، وقبل الخوض في الاحتجاج ينبغي تأسيس أساس ، وتأصيل أصل يرجع إليه عند الشكّ ، فنقول : الأصل الأصيل حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق (3) ما وراء العلم ؛ فإنّ للعمل بالظنّ معنيين :
أحدهما : التديّن به وجعله مستندا في العمل من حيث هو ظنّ.
وثانيهما : جعل أفعاله مطابقا (4) للظنّ وإن لم يستند إليه ، وفي الحقيقة ليس هذا عملا بالظنّ بل إنّما هو مجرّد مطابقة خارجية.
وعلى الأوّل ، فلا شكّ في أنّه بدعة محرّمة وتشريع غير مجوّز ، وقد اتّفقت الأدلّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا على حرمتها بل عدّه جملة من الأعلام من الضروريات.
أمّا الكتاب ، فمنها : قوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (5) وجه الدلالة
ص: 69
حصر الأمر في الإذن (1) والافتراء ، فغير الأوّل هو الثاني ، وبقرينة المقابلة والتشريع هو الافتراء.
ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) (2) فإنّه تعالى في مقام التوبيخ من القول بالتحريم من دون جعل.
ومنها : قوله تعالى : ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (3).
ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (4) وجه الدلالة ظاهر فيهما.
وأمّا الأخبار ، فكثيرة :
منها : ما دلّ على أنّ العبد إنّما يكفر ربّه إذا سمّى النواة حصاة والحصاة نواة (5).
ومنها : عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة - إلى أن قال - رجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النار » (6).
ومنها : رواية تحف العقول : « من أفتى الناس بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار » (7).
ومنها : ما عن أبي جعفر عليه السلام لأخيه زيد : « إنّ اللّه حلّل حلالا ، وحرّم حراما ، وفرض فرائض ، وضرب أمثالا ، وسنّ سننا - إلى أن قال عليه السلام - فإن كنت على بيّنة من ربّك ، ويقين
ص: 70
من أمرك ، وتبيان من شأنك ، فشأنك ، وإلاّ فلا ترو من أمرا أنت في شكّ منه وشبهة » (1). إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة.
وأمّا الإجماع نقلا وتحصيلا فموجود لا مخالف في البين (2).
قال المحقّق البهبهاني في جملة فائدة من فوائده : أصالة حرمة العمل بالظنّ من البديهيات عند الصبيان والنسوان (3).
وأمّا العقل : فكلّ من أنصف من نفسه وراجع وجدانه ، يحكم حكما ضروريا - لا يدانيه ريبة ولا يعتريه شبهة - بحرمة التشريع والبدعة فإنّها فرية بلا مرية. ومن هنا يظهر فساد القول (4) بأنّ الأصل هو الإباحة ؛ فإنّ أصالة الإباحة فيما لو لم يكن العقل مستقلاّ بإدراك حكمه وقد عرفت استقلاله في الحكم بالحرمة.
فإن قلت : قضيّة ما قرّرنا سابقا اعتبار العلم والإرادة والاختيار فيما يتلوه الأمر والنهي ، فلا يصدق على العمل المزبور أنّه تشريع ما لم يقصد الإدخال في الدين لما ليس منه ، فإنّه عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه ، فالإدخال في الدين لا يصدق إلاّ عند القصد وهو فرع العلم ولو كان كذلك واقعا ، والمقام ليس منه ، لعدم العلم بأنّ العمل بالظنّ ليس من الدين ، فلا يحرم.
قلت : وممّا لا ينبغي أن لا يرتاب فيه صدق التشريع على العمل المذكور ، وتفصيل الكلام في أقسام التشريع أن يقال : إنّه تارة يعلم بخروج ما أدخل في الدين ، فالمبدع
ص: 71
يدخله فيه بقصد أنّه من الدين تشريعا ، وهذا ممّا لا شكّ في كونه تشريعا وبدعة محرّمة ، والأدلّة المذكورة ناهضة بحرمتها.
وأخرى يدخله فيه مع جهله بالحكم ، فهذا تشريع اسما لا حكما ؛ إذ لا معنى لعقاب الجاهل قبل تقصيره ، لكنّ الكلام في الصغرى كما عرفت من استقلال العقل بقبحه وكونه ظلما ؛ فإنّ حرمة الظلم ممّا لا يجهله عامّة المكلّفين.
ومرّة يدخله مع جهله بالموضوع كأن يدخله في الدين جاهلا بكونه من الدين ، فهناك تحقّق التشريع حقيقة ؛ لأنّ المناط على الواقع في صدق موضوعه وإن لم يتحقّق حكمه وهو الحرمة.
ورابعا يدخل في الدين ما هو منه بقصد أنّه ليس من الدين ، ولا شكّ في كونه تشريعا وافتراء على اللّه تعالى أيضا عند العقل والعرف بالنسبة إلى التكليف الواقعي بل الظاهري ، فإنّ عند الشكّ لا بدّ من العمل بالأصول المقرّرة في الشريعة في موضوع الشكّ (1).
ويدلّ عليه قوله عليه السلام في عدّ القضاة الأربعة التي ثلاثة منها في النار : « من قضى بالحقّ وهو لا يدري » وجعله فيه أيضا « من قضى بالجور وهو لا يدري » يدلّ على حرمة القسم الأوّل كما هو ممّا نحن بصدده. هذه تمام الكلام فيما لو كان العمل بالظنّ من جهة التديّن به.
وعلى الثاني كأن لا يكون العمل بالظنّ من حيث التديّن به ، فهو حرام أيضا ؛ فإنّ الشاكّ لا بدّ وأن يعمل بالأصول المقرّرة في الشريعة من الاستصحاب فيما له حالة سابقة ، والبراءة فيما شكّ في التكليف ، والاشتغال فيما شكّ في المكلّف به مع إمكان الجمع ، والتخيير مع عدم إمكانه ، فطرح تلك الأصول محرّم وإن كان لا يسمّى هذا القسم عملا بالظنّ لكن يختصّ حرمته فيما إذا يلزم من العمل بالظنّ (2) طرح أصل منها ،
ص: 72
وأمّا فيما لا يلزم فلا ، كأن يكون الظنّ موافقا للأصل المعمول في الواقعة ؛ لانتفاء ما يقضي (1) بالحرمة لا تشريعا ولا طرحا.
نعم ، لو كانت الواقعة من الوقائع التي يجب تحصيل العلم فيها ، فيكون حراما من جهة ترك الواجب ، والنسبة بين الوجهين هو العموم من وجه ؛ إذ التديّن قد يجتمع في مورد مع طرح الأصول وقد يفترقان ، فظهر أنّ العمل بالظنّ قد يحرم من جهتين في المعنى الأوّل ، وقد لا يحرم أصلا في المعنى الثاني.
ثمّ إنّه قد يقرّر الأصل بوجوه أخر لا يخلو كلّها عن حزازة ، فمنها : ما قد أشرنا إليه سابقا من أنّ الأصل فيه الإباحة ؛ إذ الأصل في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة هو الإباحة ، وقد عرفت ما فيه سابقا (2) ، ونزيدك توضيحا في إبطاله أوّلا بأنّ مجرى أصالة الإباحة هو الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة كما اعترف به ، والعقل حاكم بوجود المفسدة فيه ، فجريانها يختصّ بما لا يستقلّ (3) العقل بحكمه ، فلا شكّ حتّى يجري الأصل فيه ، فظهر أنّ الأصل هو الحرمة ؛ لأنّ الأصل قد انقلب حرمة بعد أن كان هو الإباحة ؛ إذ العقل يحكم بالحرمة قبل كلّ شيء.
وثانيا : أنّه إذا كان مؤدّى الظنّ هو وجوب شيء ، أو حرمته ، فلا معنى لإباحة العمل بالظنّ ، أو استحبابه ، أو كراهته ؛ لأوله في الحقيقة إلى إباحة العمل بالواجب ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، والحرام عن كونه حراما.
وغاية ما يمكن أن يوجّه أن يقال : إنّه إذا أدّى الظنّ إلى وجوب شيء ، أو حرمته يجوز العمل بمقتضى ظنّه ، أو الرجوع إلى أصالة البراءة ، أو أصل آخر غيرها على أن يكون العمل بالظنّ من جهة أنّه أحد فردي الواجب التخييري ، فإباحته من هذه الجهة ، ونظيره استحبابه ، أو كراهته ومع ذلك فلا يخلو عن إشكال ؛ لخروجه عمّا هو
ص: 73
الظاهر من مقالة القائل بالإباحة كما هو ظاهر ، وعدم مساعدة أصل من الأصول المقرّرة عليه على تقديره ؛ فإنّ الأصل عدم الوجوب مطلقا سواء كان عينيا أو تخييريا.
ومن هنا يظهر وجاهة ما أفاده المحقّق القمّي في ردّ من زعم باستحباب الحذر في آية النفر حيث قال : وحاصل الكلام أنّ القول باستحباب العمل بخبر الواحد المفيد للوجوب مع بقاء الوجوب على معناه الحقيقي ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل ؛ فإنّ استحباب الواجب لا يتصوّر إلاّ في أفضل فردي الواجب التخييري (1). انتهى.
وهو جيّد جدّا وإن أورد عليه بعض الأجلّة (2) بوجوه لا طائل تحتها.
ومنها : ما ذكره بعض الأواخر من أنّه لا أصل في البين ؛ لدوران الأمر بين الحرمة والوجوب ، إمّا لأنّ معنى الجواز في المقام هو الوجوب تجوّزا ، أو لأنّ الجواز يستلزم الوجوب للإجماع المركّب على ما هو المدّعى في كلام بعض الأعيان.
وفساده ممّا لا يخفى على أحد ؛ إذ دوران الأمر بين الحرمة والوجوب إنّما يقضي (3) بانتفاء الأصل وثبوت التخيير فيما لو كانت الحرمة في عرض الوجوب من غير حصول علقة بينهما ؛ إذ العقل لا يمكن له الالتزام بأحدهما دون الآخر ؛ لامتناع الترجيح بلا داع كما في الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتية.
وأمّا إذا لم يكن في عرض الوجوب بل كان مسبّبا عن عدم العلم به ، فمن الضروريّ أنّ العقل يلتزم (4) بالمسبّب عند وجود السبب كما فيما نحن فيه حيث إنّ الحرمة في المقام على ما مرّ حرمة تشريعية ، ويكفي في العلم بها عدم العلم بالوجوب ، والمفروض عدم ثبوته ؛ لأنّ الكلام في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فيحكم العقل بالتحريم كما هو واضح.
ص: 74
فالتحقيق أنّ الأمر دائر بين الوجوب وعدمه ، والأصل عدمه ، فيحرم كما عرفت ، وهو الشأن في أمثاله من التوقيفيات.
ومنها : ما استدلّ به (1) بعض الأفاضل (2) من أنّ أصالة الاشتغال تقضي بعدم كفاية الظنّ.
وبيانه أنّه لا ريب في توقّف تكاليفنا الواقعية في حصول الامتثال بها بإدراكها ، فتارة بالعلم بها ، وأخرى بالظنّ ، والأوّل مسقط قطعا ، والثاني مشكوك ، فمقتضى الاشتغال تحصيل القطع ، فيحرم العمل بالظنّ.
وفيه أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمي إمّا عقلا أو شرعا ، فليس من
ص: 75
الأمور التوقيفية بل هو موكول إلى العقل وهو يستقلّ في وجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ وحرمته (1) ، فلا ترديد بين الأقلّ والأكثر على ما توهّم ، فلا مجرى للقاعدة المزبورة.
وثانيا : أنّ جعل الظنّ أحد طرفي الاحتمال في تحصيل المقدّمة ممّا لا وجه له ؛ فإنّ الواقعة لا تخلو عن أصل ، والعمل بالظنّ فيما يخالفه يكفي في حرمة مخالفته لذلك الأصل ، فلا وجه للاحتمال بعد قطع العقل من هذه الجهة بعدم الامتثال.
ومنها : ما أفاده بعض المعاصرين (2) من أنّ الأصل في الظنّ عدم الحجّية فإنّها أمر حادث يحتاج وجودها إلى سبق علّتها وهو جعله حجّة ، والأصل عدمه.
وفيه : أنّ الاحتياج في إحراز العدم بالأصل في ترتّب آثار عدم العلم عليه ممنوع ؛ لترتّبه على نفس الشكّ وعدم العلم بالحجّية من غير حاجة إلى إحراز العدم.
وتوضيحه : أنّه يترتّب على عدم حجّية الظنّ آثار شرعية من الحرمة التشريعية وطرح الأصول العملية من غير علم يرتفع به موضوعها ، ويترتّب هذه الآثار على نفس الشكّ في الحجّية كما عرفت ، فلا حاجة (3) إلى الأصل.
وبوجه أوضح إذا شكّ في حجّية الظنّ - كما هو المفروض - يصحّ القول بحرمة العمل به للتشريع ، ولقوله (4) عليه السلام : « من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه [ التيه ] يوم القيامة » (5) وغير ذلك ، ولا يحتاج إلى توسيط أنّ الأصل عدم الحجّية ، فيحرم العمل به للتشريع ، فالتعويل على ما شيّدنا (6) أركانه إلاّ أنّه أيضا إنّما يستقيم بناء على ما هو التحقيق في الأصول العملية من اعتبارها تعبّدا.
ص: 76
وأمّا على ما يراه بعضهم من حجّيتها من جهة إفادتها الوصف (1) ، أو السّببية المقيّدة (2) - كما عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه على ما يظهر منه في بعض مواضع كتابه - فلا مناص من القول بأنّ الأصل هو وجوب العمل بالظنّ إمّا عينا أو تخييرا في حالة الانسداد ، فإنّه على ذلك التقدير إذا تعارض الأصل بالظنّ ، فلا يفيد الأصل ظنّا ، فلا يجب العمل به ، وثبوت التكليف إجمالا يوجب العمل بأحدهما ، فإن رجّحنا الظنّ لقربه إلى الواقع ، فيجب العمل به عينا ، وإن لم نقل بالترجيح لكون الظنّ في مرتبة الأصل في الشكّ في الحجّية ، فلا بدّ من التخيير ، ولا فرق فيما ذكر بين الأصول اللفظية والعملية.
فظهر ممّا قرّرنا صحّة ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه في تعريف الاجتهاد من عدم الحاجة إلى إدراج قيد الظنّ فيه حيث قال : وإذ قد عرفت أنّه لا حاجة إلى إدراج قيد الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فيظهر أنّ ما يحصل من الاجتهاد قد يكون قطعيا ، وقد يكون ظنّيا ، وكلاهما حجّة على المجتهد ومقلّده.
أمّا الأوّل ، فظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض انسداد باب العلم (3) ، ولا دليل على حرمة العمل به حينئذ مع بقاء التكليف جزما لو لم ندّع ثبوت الدليل على الجواز (4).
ويندفع ما أورده عليه بعض الأجلّة (5) من أنّه لا وجه له أصلا ، فإنّ الوجه فيه ظاهر بعد القول بحجّية الأصول من باب الظنّ ، وأمّا إذا انفتح باب العلم ، وقلنا بعدم كفاية الظنّ في الامتثال ، فيحرم العمل بالظنّ بالمعنيين ، وأمّا على القول بالكفاية - كما هو المنقول عن المحقّق الخوانساري والقمّي - فلا حرمة في العمل بالظنّ بل هو أحد
ص: 77
فردي الواجب التخييري : من تحصيل العلم ، والكفاية بالظنّ (1).
وبالجملة ، على ما هو التحقيق في الأصول من اعتبارها تعبّدا وعدم كفاية الظنّ بالامتثال ، بعد القطع بالاشتغال ، فلا شكّ في حرمة العمل بالظنّ على المعنيين المزبورين ؛ لإطباق أهل العقل عليه.
مضافا إلى ما ذكره بعض الأواخر (2) من أنّه يدلّ على الأصل المزبور مائة آية قرآنية وخمسمائة رواية إمامية ، فلا إشكال فيه ، وإنّما الشأن في أنّه هل خرج من الأصل المذكور شيء ، أو لا؟ والحقّ هو (3) الأوّل وهو أمور نذكرها مع ما يقتضي تخصيص الأصل بها :
الأوّل : الظنّ المستند إلى ظواهر الألفاظ ، المنتهى إلى إحدى الدلالات الثلاث ولو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية المتعارفة في المحاورات لدى الإفادة والاستفادة ولو كانت بسبب سبق عهد بين المتكلّم والمخاطب ، أو اشتهار المشترك في أحد معانيه ، بخلاف غيرها ممّا لا تعويل عليها في العرف والعادة في استكشاف مقاصدهم من الألفاظ كالرمل ونحوه ، وبخلاف الظنون التي قد تستفاد من اللفظ ، ومن ينتسب إليه بواسطة أمر (4) خارج عنه بالمرّة مثل فهم الأصحاب أو اشتهار مضمون اللفظ ، فإنّها في الحقيقة ليست من الظنون المنتهية إلى إحدى (5) الدلالات بل هو ظنّ بمضمون اللفظ ، ويبنى اعتباره على اعتبار مطلق الظنّ ، وبخلاف الظنّ بواسطة الظنّ بالوضع (6) كالظنّ بالوجوب المستند إلى الظنّ بكون الأمر موضوعا له ، وكالظنّ بوجوب التيمّم على
ص: 78
التراب الخالص المستند إلى الظنّ بوضع الصعيد له ، فإنّ الكلام في الظهور وعدمه إنّما هو بعد أن كان الوضع مفروغا عنه ثابتا بالأدلّة المعتبرة علما أو ظنّا قام القاطع - ولو بملاحظة الانسداد - على اعتباره ، والوجه في ذلك هو الإجماع تحصيلا ونقلا على لسان غير واحد من الفحول ، وإطباق العقلاء كافّة بل ولولاه لانسدّ سبيل المحاورة ، وانفتح طريق المكابرة ، وعليه جرت العادة ، من لدن آدم إلى يوم القيامة ، بل ربما ينسب القائل بخلافه إلى أصحاب السوداء والجنون.
مضافا إلى أنّه تعالى أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه ، وأنّه تعالى ما أرسل من رسول إلاّ بلسان قومه ، وقوله صلى اللّه عليه وآله لابن الزبعرى : « ما أجهلك بلسان قومك » (1) مع تقريرهم عليهم السلام أصحابهم فيما يفهمونه من الألفاظ المتداولة في محاوراتهم ، ومع ذلك كلّه فقد ينسب الخلاف في ذلك إلى بعضهم وهو شاذّ لا يلتفت إليه كما أنّه قد خالفت الأخبارية (2) في خصوص ظواهر القرآن ما لم يرد عن أحدهم عليهم السلام نصّ في بيانهم ، وسواء في ذلك المشافهون وغيرهم.
وقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه اللّه (3) التفصيل بين المشافهين وغيرهم ، فقال بالاعتبار في حقّهم وعدمه في حقّ غيرهم ، ولقد وافق في ذلك صاحب المعالم (4) حيث يظهر منه اختيار ما أفاده المحقّق القمّي في مقام بيان الدليل الرابع على حجّية أخبار الآحاد وإن كان قد يحتمل كلامه إرادة عدم الحجّية مطلقا ؛ حيث إنّه قد أورد في دفع الاعتراض على مظنونية الأحكام المستنبطة من الكتاب الكريم باختصاص الخطاب (5)
ص: 79
المشافهة بالحاضرين بعد أنّ الكتاب منه (1) ، وثبوت الحكم للمتأخّر إنّما هو بواسطة أدلّة الاشتراك في التكليف ، وحينئذ فمن الجائز اقتران الخطاب بما يفيد خلاف ما هو الظاهر عندنا ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ، فإنّ تجويز هذا الاحتمال لا يختصّ بالمشافهة وغيرهم أيضا ، ومن هنا قد يورد عليه بعدم اتّجاه تفريعه على الخطاب ، فتدبّر.
وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان : إحداهما : الحجّية مطلقا قبالا للأخباريين ، وثانيتهما : كذلك قبالا لصاحب المعالم والمحقّق القمّي ، فلنا على الأولى منهما وجوه من الأدلّة :
الأوّل : اتفاق الأمّة قديما وحديثا وإجماعهم خلفا عن سلف عامّة وخاصّة ، حكيما وفقيها على حجّية ظواهره ويكشف عن ذلك استدلال الكلّ في الكلّ بها من غير نكير منهم ، ويرشدك إليه النظر في مصنّفاتهم ، والرجوع إلى مؤلّفاتهم بل كادت أن تكون من ضروريات الدين وأن ينسب الخلاف فيه إلى القاصرين بل ربما يعدّ المنكر من الكافرين.
لا يقال : لا جدوى في التمسّك بالإجماع في المسائل الأصولية.
لأنّا نقول : لا ضير فيه لو كانت لها جهة فرعية كما فيما نحن فيه حيث إنّ جواز الاتّكال على الظنّ الخاصّ توقيفي منوط بالرخصة من أهل الذكر.
نعم ، لو كانت متمحّضة في جهة العقل كاجتماع الأمر والنهي مثلا ، فلا وجه للاستناد إليه فيها.
الثاني : السيرة القطعية الكاشفة المستمرّة على ما يشهد بها ملاحظة (2) أحوال المسلمين من زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى زماننا هذا.
ص: 80
لا يقال : لعلّ الوجه في العمل (1) بها انسداد باب العلم ، فلا دلالة فيها على اعتبارها بالخصوص كما هو المطلوب.
لأنّا نقول : يمكن دعوى استقرار طريقتهم في العمل بها حتّى في صورة الانفتاح أيضا ؛ فإنّ أصحاب الأئمّة مع تمكّنهم عن تحصيل العلم كانوا يستدلّون بظواهر القرآن على جلّ مطالبهم.
ولو سلّم ، فكان الانسداد من جهة عدم التمكّن غالبا من استفادة المطالب من الألفاظ بالعلم ، ولا ينافي ذلك اعتبار الظواهر بالخصوص بل هو الوجه في اعتماد العقلاء عليه فيصير ظنّا خاصّا كما لا يخفى.
سلّمنا الانسداد من جهة عروض السدّ كما في أمثال زماننا ؛ لعدم إمكان الوصول غالبا إلى المعصوم لكنّه لا يخفى في انفتاح باب العلم ولو في بعض الأوقات ، فلا بدّ لهم من السؤال ، وإلاّ فلا بدّ من الحكم بتفسيقهم حاشاهم عن ذلك ، فإن أجاب المعصوم بالعمل بها ، فهو وإن لم يجبهم ووكلهم إلى ما هو طريق عندهم (2) من الاعتماد على مطلق الظنّ ، فهو خلاف اللطف منهم ، وهو لا يجوز عليهم ، فإنّ السؤال ناظر إلى الواقع ، فهو كتأخير البيان عن وقت الحاجة.
ومن هنا يظهر عدم جواز الإحالة على الاستصحاب وغيره من الأصول العملية إذا سألوا عن المسألة الفرعية كنجاسة القليل بمجرّد ملاقاة النجاسة.
ولو سلّم فغاية ما هناك عدم العلم بجهة عملهم بظواهر الكتاب ولا ضير فيه ؛ إذ الجهل بالجهة إنّما يضرّ فيما لو احتملنا استناد العمل إلى جهة لم نكن واجدا لها ، وأمّا لو كنّا واجدين للجهة المحتملة أيضا من الاضطرار ونحوه مثلا ، فلا شكّ في اعتبار العمل عندنا ، غاية ما في الباب عدم العلم بخصوص الجهة على تقديره ، ولا ثمرة في العلم بها إلاّ عند التعارض ، فيقدّم على غيره لو كان من جهة الظنون الخاصّة ، ويتوقّف على
ص: 81
المرجّح لو كان من غيرها كما ستعرف.
وعلى التقديرين لا بدّ من تقديم الظنون الاجتهادية على الظنّ الحاصل من استعمال الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة ونحوها في الكتاب الكريم ؛ إذ بعد ما فرض - من كونها حجّة ولو من جهة مطلق الظنّ - لا مجرى لأصالة الحقيقة عند معارضتها لها.
والحاصل : أنّ الإجماع العملي من الصحابة والتابعين - المعبّر عنه بالسيرة المستمرّة - حاصل على اعتبار أصالة الحقيقة المعمولة في الكتاب الكريم ، ولا وجه للاحتمال (1) المذكور من أنّه لعلّ العمل المذكور من جهة الانسداد.
أمّا أوّلا ، فلأنّ الانسداد في المقام - على تقدير تسليمه لما عرفت من التمكّن لتحصيل العلم ولو بالنسبة إلى بعضهم ولو في بعض الأوقات - إنّما هو (2) حكمة (3) لجواز العمل بالظنون اللفظية لا علّة كما هي قضية دليل الانسداد ، فالداعي في تشريع الحكم وجواز الاعتماد عليها - كما دلّ عليه الإجماع - هو الانسداد.
وأمّا ثانيا ، فلأنّه لا وجه لتعيين الوجه إلاّ التقدّم في التعارض ، أو التوقّف إلى حصول مرجّح ، والظنون الاجتهادية تقدّم على الظنون اللفظية مطلقا ، فلا ثمرة في التعيين.
الثالث : الأخبار الواردة في هذا المضمار ، عن السادة الأطهار ، عليهم صلوات الجبار ، وهي صنفان :
صنف منها دالّ على وجوب الأخذ بما وافق الكتاب وطرح ما خالفه (4) ، وإنّ الفتن إذا غلبت كقطع الليل المظلم ، لزم الرجوع إليه ؛ لأنّ فيه تفصيلا (5) ، وأنّ ما وجدتم فيه أو في السنّة ، لزمكم العمل به ، ولا عذر لكم في تركه (6) ، وأنّ كلّ شيء مردود إلى
ص: 82
الكتاب (1) ، وأنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما لم يوافق من الحديث القرآن ، فهو زخرف (2) ، وأنّ ما جاءكم منّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (3) ، وأنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند الجميع ، وأنّهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون (4) ، وأنّه صلى اللّه عليه وآله قال : « تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي » (5) حيث إنّه جعله كالإمام في جواز الرجوع إليه مستقلا ، فاحتمال إرادة الاجتماع لا يناسب مذهبنا في العترة بعد أنّه خلاف الظاهر من اللفظ كما لا يخفى.
وصنف آخر هي الأخبار الخاصّة الآمرة باستنباط الأحكام من الكتاب الكريم والفرقان العظيم قولا أو فعلا أو تقريرا ، كرواية عبد الأعلى بن أعين عند السؤال عن الجبيرة عن الصادق عليه السلام من أنّه رجل عثر ، فوقع (6) ظفره ، وجعل عليه مرارة ، فما ذا يصنع في الوضوء؟ فأجاب بأنّ « ذلك وأشباهه يعرف من كتاب اللّه ، قال اللّه تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (7) فامسح عليه » (8) ، فالمستفاد من الرواية جواز استنباط أمثال ذلك من الأحكام مع خفائها من الكتاب ، فكأنّه عليه السلام قد بيّن لنا قاعدة أيضا من الجواب المذكور فيما إذا دار الأمر بين سقوط المقيّد رأسا وسقوط قيده لعذر ، يقدّم الثاني ؛ فإنّ السؤال عن المسح المقيّد بالرجل وسقوطه رأسا ، أو بقائه بلا مباشرة الماسح للممسوح.
ص: 83
ودعوى اختصاص جواز الاستنباط للعارف لا ضير فيها بعد أنّ الفرض ظهوره (1) في المراد كما لا يخفى.
وكقوله مستشهدا بعدم جواز نكاح العبد بدون إذن المولى : أنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء (2) ، وقوله في سماع الجواري : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (3)(4) فإنّ الاستشهاد بشيء فرع ظهوره في المطلب (5) ، ولو لم يستند إليه المستشهد كقوله فيما سأله زرارة عن كيفية الصلاة في السفر بأنّها ركعتان ، فقال زرارة : إنّ في القرآن الحكيم نفى الجناح عن القصر ، ولا يدلّ على تعيّنه ، فعارضه الإمام عليه السلام بما ورد في الطواف من نفي الجناح (6) إلى غير ذلك من الأخبار بل هي (7) بالغة حدّ التواتر ، فعلى الطالب الرجوع إليها في محالّها.
الرابع : أنّ المقتضي للحجّية موجود ، والمانع منها مفقود ؛ لما ستعرف من بطلان ما تخيّله الخصم مانعا ، فلا مناص منها.
أمّا الأوّل ، فلأنّ الأصل في كلّ كلام من كلّ متكلّم - على ما هو مستفاد من طريقة أهل العقول - أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه إن حقيقة فحقيقة ، وإن مجازا فمجاز كما يكشف عن ذلك ملاحظة طريقتهم في استفادة مقاصدهم من الألفاظ أحياء وأمواتا ، مكاتبة ومراسلة ، قديما وحديثا ، فإنّ مجرّد انطباق لفظ بلغة - عربية أو غيرها - يقضي بإرادة المعاني المستفادة منه في العادة شخصا أو نوعا ،
ص: 84
مادّة وهيئة بل وأطباعهم مجبولة على ذلك حتّى لو ورد بخلاف ذلك لفظ ، فإنّما هو لا بدّ وأن يكون بعد دلالة دليل عليه ، وذلك مثل ما فطرهم اللّه في حمل الألفاظ على المعاني الحقيقية عند الترديد بينها وبين مجازاتها ، وعليه يبنى (1) جملة من الأحكام الشرعية في الأقارير والوصايا والأوقاف ونحوها ، فلو أقرّ زيد لعمر وبمال ، يؤخذ بإقراره ، ولو استند إلى إرادة معنى لا يتعارف استفادته منه ، لم يسمع منه ، كما أنّه كذلك فيما لو أنكر إرادة المعنى الحقيقي أو المعنى رأسا منه ، وليس ذلك كلّه إلاّ للقاعدة المزبورة ، وقضيّتها أن يكون كلّ كلام من كلّ متكلّم مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه ، وأن لا يكون واردا على سبيل التعمية والإلغاز ، فمتى شكّ في ذلك على أحد الوجهين ، يحكم بالأوّل إلى دلالة دليل على التعمية والإلغاز ، ومنه يستعلم حال أرباب التصانيف من ذوي الملل الفاسدة ، والمذاهب الكاسدة ، فوضوحه يمنع من (2) إطالة الكلام.
ومن هنا يظهر ضعف مقالة البعض (3) في الردّ على الأخبارين بقبح التكليف وإرادة ما هو خلاف ظاهر الكلام منه ، فإنّ الكلام في أصل الإرادة والخطاب فربما يدّعي الخصم انتفاءها ، ويلتزم بأنّ الكتاب كلّه من الإلغاز والرموز مثل فواتح السور ، ولكن على ما قلنا ظهر وجود المقتضي ، فليس ظواهر الكتاب إلاّ كظواهر غيره من الكتب.
وأمّا الثاني : فلأنّ ما يتوهّم كونه مانعا - سواء استند إليه أو لا - وجهان :
الأوّل : الأخبار الدالّة على أنّ علم القرآن مخصوص بالأئمّة ، وعلى حرمة تفسيره بالرأي ، وهي كثيرة مذكورة في مجمع البيان (4) ، ويجمعها ما عرفت.
ص: 85
الثاني : أنّ ورود التقييدات المتوافرة ، والتخصيصات (1) المتكاثرة إنّما أوجب عدم العمل بها بواسطة إحداثها وهنا فيها بل ربّما اختصّ بفرد واحد ومورد متّحد كما في قوله : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (2) فإنّه قد اختصّ بقراءة الإمام في الجماعة.
والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبعد الإغماض عمّا في إسناده بدعوى التواتر فيها إجمالا أنّ التفسير - كما نصّ عليه جماعة - عبارة عن كشف الغطاء ، واختصاص مورده عرفا ولغة بما إذا لم يكن منكشفا في نفسه ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.
وتوضيح الحال فيه : أنّ هناك أشياء : اللفظ ، والمعنى ، والمتكلّم ، والسامع ولا ريب في اختفاء المعنى في ذهن المتكلّم ، فيظهره باللفظ ، فتارة على نحو هو منكشف بنفسه ، وأخرى على وجه يحتاج إلى منكشف غيره ، فبعد ما يرتفع النقاب عن وجه المطلوب بواسطة اللفظ على الوجه الأوّل لا يحتاج في فهم المراد إلى شيء آخر بعد العلم بالوضع ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) عند أهل اللسان أو (3) العارف بالبيان المقرّر عندهم منكشف في نفسه لا يحتاج في بيانه إلى شيء آخر ، وإنّما انكشف عنه تكلّم المتكلّم به وتلفّظه كما هو ظاهر بعد الرجوع إلى العرف الحاكم في تميز معاني الألفاظ وصدقها ، فلا يصدق التفسير في مثله ؛ إذ المعنى لا خفاء فيه بعد التّلفظ.
نعم ، إنّما يصدق التفسير فيما لم يكن المعنى بعد التلفّظ منكشفا ، ولو فسّره من لا يروي في تفسيره عنهم عليهم السلام ، فلا شكّ في حرمته ، فلا دلالة في الأخبار المذكورة على المطلوب بل نحن أيضا نلتزم بمفادها ، وإنّما نمنع كون العمل بالظواهر منه.
وربما يتوهّم أنّ الترجمة أيضا من التفسير المحرّم ، وليس بشيء ؛ لأنّه لو كان تفسيرا ، فهو إنّما هو بالنسبة إلى المعاني اللغوية لا بالنسبة إلى المراد من اللفظ ، وظاهر
ص: 86
أنّ مساق الآيات ممّا لا ربط له بمثل المفروض ، ولو سلّمنا ، فهذه معارضة بما هو أوضح سندا ، وأقوى دلالة ، ومع التساوي فلا بدّ من الحمل على ما ذكر جمعا بينهما.
وأمّا الجواب عن الثاني ، فأوّلا : النقض بالأخبار ، فإنّها ممّا قد نالها يد التخصيص والتقييد بكثير بحيث لا يكاد ينكر.
وثانيا : الحلّ (1) ، فإنّ ورود التخصيص والتقييد كثيرا أو (2) قليلا لا يقضي بإهمال الأدلّة وإجمال المراد بعدهما ؛ لأنّ العمل بالعامّ إنّما هو بعد الفحص ، ولا ضير فيه ؛ لما قد تقرّر من حجّية العامّ المخصّص في الباقي لو لم يكن مخصّصا بمجمل ، وعلى تقديره فعدم حجّيته إنّما هو من (3) جهة إجماله.
ثمّ إنّ للفاضل السيّد صدر الدين في المقام كلاما لا بأس بنقله وذكر ما يرد عليه قال رحمه اللّه بعد جملة كلام له : والقول الفصل مع تفصيل وتوضيح يظهر بعد تمهيد مقدّمتين :
الأولى (4) : أنّ بقاء التكليف إلى الانقراض الذي (5) ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على إفهام المكلّفين ما كلّفوا به ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالة القول على المراد منه لا تكون قطعية إلاّ بضمّ أمور خارجية (6) وكثيرا ما تكون ظنّية إذ مدار الإفهام وقطبه في كلّ لغة إنّما هو إلقاء الحقائق المجرّدة عن القرينة ، وإبقاء المجازات معها ، فيبني (7) المخاطبون الاعتقاد أو العمل على ما يفهمونه ، وإن كان احتمال التجوّز في الأوّل وخفاء (8) القرينة وأشباهها (9) على المخاطب في الثاني باقيا ؛ لأنّه لا بعد في أن ينصب متكلّم قرينة لإرادة معنى مجازي آخر ؛ لكون القرينة مناسبة للمعنيين ، والذي
ص: 87
يكشف عمّا قلناه أنّا لو فرضنا كون صيغة الأمر للوجوب لغة ، فأمر لغوي عبده فأبطأ عن المسارعة إلى الامتثال معتذرا باحتمال التجوّز ، لذمّه العقلاء ، وكذا يذمّون المولى لو عذّب العبد ؛ لأنّه سارع (1) إلى الامتثال بعد فراغ المولى من التكلّم ، ولم يصبر حتّى يظهر عليه القرينة ولو بعد حين.
فإن قلت : تأخير القرينة عن وقت الخطاب جائز على المشهور ، وعن وقت الحاجة أيضا كذلك إذا كان لأحد مصلحة (2) داعية إلى التأخير ، راجحة عند العقل والشرع على العمل بخلاف ما أريد من الكلام ، مثلا لو فرضنا أنّ أحدا قال لعبده : أكرم كلّ من دخل داري غدا وهو يريد غير زيد ، فأخّر البيان إلى الغد ، فلمّا حضر زيد وكان المولى خائفا من زيد على نفسه أو على العبد ، فترك البيان فأكرم العبد زيدا أيضا ، فلا ريب في رجحان مصلحة التقية والاتّقاء (3) على ترك إكرام زيد ، فكيف يسوغ للعقلاء الذمّ إذا أبطأ العبد معتذرا بهذا الاحتمال الواقع في المحاورات ، وكذا كيف يجوز ذمّ المولى على العقاب مع مسارعة العبد إلى الامتثال إذا قال المولى : لم لم تصبر حتّى يظهر لك حقيقة (4) الحال؟
قلت : ما ذكرت نادر لا سيّما الأخير ، ولا عبرة بمثله عند العقلاء ، ولهذا يتسارعون إلى الذمّ مع قيام هذا الاحتمال عندهم.
الثانية (5) : أنّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كاشتراك اللفظ (6) ، كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد : إنّي استعمل العمومات كثيرا وأنا أريد الخصوص من غير ضمّ قرينة متّصلة ، وأطلق المطلقات وأريد المقيّدات ، وربّما أحكم
ص: 88
حكما يدلّ ظاهرا (1) على الاستمرار ، ولكن أنسخه (2) من بعد (3) ، وربّما أخاطب أحدا وأنا أريد غيره ، أو أخصّص قوما بالخطاب وأنا أريدهم مع غيرهم ، أو نرى نحن أمثال ذلك في كلام متكلّم (4) وإن لم يصرّح هو به مع علمنا بعدم غفلته ومسامحته ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل الظنّ به.
اللّهمّ إلاّ أن يكون العامّ الباقي على عمومه ، والمطلق الباقي على إطلاقه كثيرا بالنسبة إلى المخصّص (5) والمقيّد ، وكذا غيرهما ، والقرآن من هذا القبيل ؛ لأنّه وإن كان عربيا لكن نزل على اصطلاح جديد (6) ، لا أقول على وضع جديد بل أعمّ من أن يكون كذلك ، أو يكون فيه مجازات لا يعرفها (7) العرب ، ومع ذلك وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها أصلا كالمقطّعات في أوائل السور ، ثمّ إنّ اللّه تعالى لم يدع المكلّفين حتّى أنزل إلى رسوله قوله : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (8) الآية ، فذمّهم على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابه (9) ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ (10) ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبيّ صلى اللّه عليه وآله نهى الناس عن التفسير بالآراء وكذا الأوصياء (11) عليهم السلام ، وكذا جعلوا لنا الأصل عدم جواز (12) العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.
ثمّ أفاد : إذا تمهّدت هاتان المقدّمتان ، فنقول : مقتضى المقدّمة الأولى هو العمل بالظواهر ، ومقتضى الثانية عدم جواز (13) العمل بها (14) ؛ لأنّ ما صار منها (15) متشابها لا
ص: 89
يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقي على ظهوره وحصل منه الظنّ (1) مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب العامل به بدليل جواز العمل [ به ] ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة (2) هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل (3) مثل عمل أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام بالظنّ المستفاد من الأخبار إذا سمعوها منهم من غير فحص وتحصيل قطع بالمراد وتقريرهم على ذلك.
لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعي.
لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا ، كيف و [ هم ] قد عرّفوه بتعريفات مختلفة ، ولم يقيموا دليلا على أنّ المعنى الشامل للظاهر هو المراد منه في القرآن والأخبار.
وأيضا لا يظهر من الأحاديث الواردة في تفسيره هذا الشمول بل ادّعى الشيخ الفاضل المحدّث حسين بن شهاب الدين العاملي في كتابه أيضا أنّ الذي يظهر من الأخبار مساواة المحكم للنصّ حيث قال : إنّ المفهوم من الأحاديث هو أنّ المحكم ما لا يحتمل غير ما يفهم منه مع (4) بقاء حكمته على حاله والمتشابه ما عداه (5). انتهى.
ثمّ ذكر ما دلّ على أنّ المتشابه يعمّ النصّ والظاهر من النصوص وكلمات الأصحاب ، ثمّ أورد سؤالا على نفسه بقوله : لا يقال : إنّ ما ذكرتم في عدم جواز العمل بظواهر القرآن إن تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ؛ لأنّ فيها أيضا محكما ومتشابها ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا أريد منه الخاصّ ، ومطلقا أريد منه المقيّد.
ص: 90
وأجاب عنه بقوله : لأنّا نقول قد سبق ما يستفاد منه الجواب ، ونقول هنا تأكيدا وتوضيحا : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة عند عدم نصب القرينة العقلية والفعلية والقولية المتّصلة على خلافها ، ولكن منعنا عن ذلك وعن (1) العمل بالقرآن ؛ إذ منعنا اللّه من اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن حقيقته لنا ، ومنعنا رسول اللّه (2) صلى اللّه عليه وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب أنّ (3) غير النصّ محتاج إلى التفسير لتحقيق الإجمال (4) فيه ، وأوصياؤه عليهم السلام أيضا منعونا ، وأيضا ذمّ اللّه سبحانه من اتّبع (5) الظنّ وكذا رسوله صلى اللّه عليه وآله وأوصياؤه ، ولم يستثنوا (6) ظواهر القرآن لا قولا ولا تقريرا ، وليس هناك دليل قطعي بل ظنّي ، ولا إجماع على الاستثناء ، وأمّا (7) الاعتذار في العمل بالظنّ بأنّا لمّا ظننّا كون حكم مستفاد (8) من آية أنّه (9) مراد اللّه ، علمنا به ؛ لأنّ (10) تركه مورث لخوف المؤاخذة الأخروية (11) ورفع الخوف المظنون واجب ، فيجاب عنه بأنّ عقلك دلّك أيضا على قبح المؤاخذة مع النهي المطلق عن اتّباع الظنّ وعدم بلوغ المخرج ، وكيف يسمع هذا الاعتذار مع أنّ القائس أيضا يعتذر بمثل عذرك وأنت تمنعه من القياس ، وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى في مبحث حجّية الإجماع [ المنقول ] بخبر الواحد.
وأمّا الأخبار ، فقد سبق في مبحث جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أنّ أصحاب الأئمّة كانوا عالمين بأخبار تبلغهم عن (12) واحد منهم ، وما كان في قريب
ص: 91
من خمسين سنة فصاعدا (1) أصل أو كتاب يراجعون إليه ، وكانوا إذا حدثت (2) حادثة وروى ثقة فيها خبرا من المعصوم [ المتقدّم ] ، يعملون بخبره من غير تربّص وسؤال عن أنّه هل هناك عند أحد مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد؟ وكانوا يعملون إلى أن يجيء من عند الإمام الحيّ معارض (3) أو غيره ، ثمّ بعد جمع جلّ الأحاديث في الأصول والكتب ما كان عند كلّ واحد من فضلائهم إلاّ أصل (4) لا غير ، أو مع أصل واحد من غيره.
وبالجملة ، ما كان مجموع الأحاديث مجتمعا (5) عندهم ، وما كان لهم مثل التهذيب بل مثل الفقيه والأئمّة عليهم السلام يعلمون (6) هذه الطريقة منهم ، ولا ينكرونهم بل يحثّونهم على العمل بالأصول وكتابة (7) الأحاديث.
وبالجملة ، قد حصل لنا علم قطعي من التتبّع بتجويز العمل من أئمّتنا عليهم السلام بخبر العدل الإمامي من غير فحص ، ولهذا عملنا بظواهر الأخبار مع ما قلنا من أنّ مدار التكاليف في كلّ اللغات على الظواهر من لدن آدم إلى يومنا هذا ، ولو لا هذا الذي قلنا ، لكنّا في العمل بظواهر الأخبار متوقّفين (8) ، واللّه الموفّق والمعين (9). انتهى كلامه رفع مقامه (10).
وإنّما نقلناه (11) بطوله ليعلم موارد النظر فيه بعد ما قدّمنا لك من وجود المقتضي ورفع المانع ، وكفاك ردّا عليه ما قلنا من إجماع الأمّة على العمل به من لدن زمن النبيّ
ص: 92
صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام الذي به يستعلم عدم كون المعمول به (1) متشابها ، وبه ينقطع الأصل الذي أجمعت الفرقة عليه من حرمة العمل بالظنّ كما في غيره من الظواهر ، ومنه يعلم عدم الافتراق بين الأخبار والقرآن في ذلك ، وأنت بعد الإحاطة بما مرّ في دليل المختار تقدر على استخراج وجوه النظر فيه.
مضافا إلى أنّ عدم حجّية الظواهر القرآنية قد يفضي إلى الدور الباطل ؛ فإنّه لا شكّ في إعجازها من جهة الفصاحة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ وصف الفصاحة إنّما يلحق اللفظ باعتبار معناه ، فالإعجاز من الجهة المذكورة فرع فهم المراد منها ، وهو على ما تخيّله الأخباري فرع الإخبار به ، واعتباره فرع نبوّته صلى اللّه عليه وآله ، فلو توقّف نبوّته عليه ، لزم توقّف الشيء على نفسه وهو المراد باللازم وبالجملة ، فالمطلوب ممّا لا خفاء فيه.
الأولى : قيل (2) : لا ثمرة في النزاع في حجّية الظواهر القرآنية ، فإنّ آيات الأحكام قليلة ، وجملة منها مكرّرات ، وجملة أخرى إنّما تثبت الأمور الإجمالية الضرورية مع إمكان استفادتها من الأخبار الواردة فيها أيضا.
أقول : يمكن تحقّق الثمرة فيما إذا لم نقل بحجّية الأخبار الآحاد ، أو قلنا واستنبطنا منه ما لم نستنبطه من الأخبار كما قيل : إنّ الفخر الرازي قد استنبط من آية مائة حكم (3) مع ظهور الثمرة في المتعارضين من الأخبار ، فإنّ موافقة الكتاب من المرجّحات المنصوصة ، وقد تعرّض بعضهم لبيان مورد من الكتاب لم يوافق الخبر لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4) وليس بشيء ، فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « المؤمنون عند
ص: 93
شروطهم » (1) أوضح دلالة منها على المطالب التي يستدلّ بها عليها ؛ لمكان لفظ الشرط مع تصريح الفيروزآبادي في القاموس (2) بوضعه للإلزام والالتزام ، وأمّا ما خصّصه بالبيع (3) ، فالظاهر أنّه من جهة المثال.
الثانية : قد ورد في جملة من الآثار أنّ في القرآن سقطا حتّى أنّ في بعضها سقوط الثلث ، ومن ثمّة فقد يستشكل الاتّكال عليه والأخذ بظواهره ؛ لعدم الوثوق ، ولكنّه مدفوع أوّلا بمنعه ، وبعد تسليم ذلك وجوده في خصوص آيات الأحكام غير مسلّم ، وعلى تقديره فالشبهة غير محصورة ، وعلى تقديرها فلا نسلّم سريان ذلك في الموجود من القرآن ، فإنّ سقوط فقرة لا يقضي بإهمال فقرة أخرى مطلقا إلاّ أن يحصل العلم بالارتباط بينهما ، والأصل يدفعه ، فيحتمل أن يكون الفقرة المحذوفة والساقطة مثل سقوط القرينة الموضحة أو المؤكّدة ، وأمّا ثانيا ، فالإجماع بقسميه على ما عرفت يغني عن ذلك كلّه.
الثالثة : قد يتوهّم أنّ القول بحجّية الظواهر القرآنية يلازم القول بعدم حجّيتها ؛ لقوله : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (4) فإنّ الوقوف عليه وقوف على غير العلم ، فيلزم من وجوده عدمه.
ويمكن التفصّي عنه بتخصيص أمثال ذلك بأصول الدين ، على أنّ العمل بالقرآن بعد قيام الإجماع عليه عمل بالعلم ، مع أنّا لا نسلّم انصراف الآية إلى نفسها وما اشتمل عليها من الكتاب كما لا يخفى بعد الرجوع إلى العرف في أضرابه ، وعليه يبنى
ص: 94
في توجيه الاستدلال بإجماعي الشيخ والسيّد في حجّية الأخبار وعدمها عند من يرى اعتبار المنقول من الإجماع من جهتها.
الرابعة : قد اختلفوا (1) في تواتر القراءات السبع وعدم تواترها ، والمعروف بينهم هو الأوّل ، وخالف فيه جملة من الأواخر ، وهم بين القائل بحجّية جميعها وجواز قراءتها في الصلاة ، وبين المنع منها في غير المتواتر ولو جاز قراءتها في الصلاة ، ولا حاجة إلى إثبات أحد الوجهين بعد ما أطالوا في بيانه.
ولكنّه شيء هنا ينبغي التنبيه عليه وهو أنّه إذا اختلفت القراءات على وجه يختلف باختلافها المعنى ، فعلى تقدير تواتر الجميع أيّهما المقدّم فيما تعارضا كما في قوله : « يطّهرن » و « يطهرن » بالتشديد والتخفيف ، فإنّه على الأوّل لا بدّ من الاغتسال في جواز الوطء ، وعلى الثاني يجوز وطؤها بمجرّد انقطاع الدم ولو قبل الاغتسال؟ فقيل بالأوّل ، وقيل بالثاني (2).
والتحقيق أن يقال : إنّه على تقدير القول بتواتر السبع لا بدّ أوّلا من إعمال قواعد المعارضة بين الأدلّة القطعية بحسب السند ، ثمّ الرجوع إلى الأصل إن أمكن ، كأن كان موافقا لأحدهما ، وإن لم يمكن بواسطة مطابقة الأصل الثالث غيرهما ، فالتخيير لكن بين الاحتمالات الواقعية ، وأمّا الآيتان فرجوعهما في الحقيقة إلى المتشابهات ممّا لا ريب
ص: 95
فيه في الفرض ، وقد نهى الشارع عن العمل بها وذلك مثل ما قاله بعض الأفاضل في تعارض الحجّة واللاحجّة كالقياس والخبر الصحيح ، وكان الظنّ في طرف القياس ، فإنّه قال بالتخيير بينهما ، ثمّ قال : ولا يلزم منه التخيير بين العمل بالقياس وغيره.
ثمّ المراد من إعمال قواعد المعارضة أنّه لا بدّ أوّلا أن يلاحظ النسبة بينهما وإن كان من العامّين من وجه ، فإن كان أحدهما نصّا بالنسبة إلى الآخر ، فهو وإلاّ فيرجع إلى المرجّحات الخارجية وإن كان بينهما العموم والخصوص مطلقا لا من وجه ، فيحمل أحدهما على الآخر كما هو المرجع في غير المقام ، ومثل ذلك بعينه الكلام فيما لو لم نقل بتواتر السبع لكن قلنا بحجّية الجميع في مقام استنباط الأحكام كما يجوز القراءة في الصلاة بكلّ وجه من وجوه القراءة بلا خلاف وإشكال.
وأمّا لو لم نقل بحجّية غير المتواتر ، فلا وجه للرجوع إلى المرجّحات فيما إذا كان المتعارضان عامّين من وجه ، بل يكون من باب اشتباه الحجّة بغيرها ، وحكمه التوقّف بعد العجز عن التمييز والرجوع إلى ما يطابق الأصل في صورة المطابقة لأحدهما ، ثمّ التخيير بين الاحتمالين على ما عرفت. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني فقد يظهر من المحقّق القمّي وصاحب المعالم فيما نقلنا كلامه إجمالا (1) عدم حجّية الظواهر القرآنية لغير المشافهين ، ويمكن الاستدلال لهما بوجهين :
الأوّل : حصول الاطمئنان للمشافه بعد إعماله أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وغيرهما من الأصول المعمولة في استخراج المطالب عن الظواهر اللفظية عند العرف والعادة ، ولا أقلّ من حصول الظنّ القويّ للمشافه بواسطة علمه بالقرائن المحفوفة
ص: 96
بالكلام وسوق المقام ، فيعمل بمضمونه بخلاف غير المشافه ، فإنّه لا يحصل له الاطمئنان بواسطة احتمال اختفاء القرائن ، فإنّ المتعارف في أغلبها هو القرائن اللفظية وأمّا القرائن الحالية فلا ، مضافا إلى أنّه قد لا يمكن بيان الحال كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد يمكن دعوى العلم الإجمالي بسقوط جملة من الأمارات المفيدة للظنّ بالمراد والاطمئنان فيها لغير المشافه فيما لم يكن القصد إعلام غير المشافه بالمراد كما في كتب المصنّفين والوصايا والمراسلات ، فإنّ القصد فيها تعلّق بإعلام غير المشافه أيضا ، فالقرائن المعتبرة في إفادة المطالب موجودة فيها ومعتبرة عند المصنّف والكاتب والمراسل بخلاف ما إذا لم يتعلّق القصد بإعلام غير المشافه ، أو لم يكن معلوما كما في المقام ، فإنّه لا وجه للاستناد إلى أصالة الحقيقة في المقام ، لعدم حصول الاطمئنان بل الظنّ الشخصي أيضا.
لا يقال : لا يجوز العمل بالظواهر إلاّ بعد الفحص ، وبعده لا نسلّم العلم الاجمالي بسقوط القرائن بل يحصل الظنّ الشخصي بالمراد لو لم نقل بحصول الاطمئنان.
لأنّا نقول : كلاّ ، فإنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود القرائن الحالية القابلة لصرف اللفظ عن ظاهره ، وبأنّ الغائب عنّا والمخفيّ علينا إنّما يساوي أضعاف ما هو بأيدينا ، ومعه لا يحصل الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، وغاية الأمر إفادة الظنّ النوعي ، ولا دليل على اعتباره بالخصوص كما هو المراد في المقام.
الثاني : أنّ احتمال خلاف الظاهر من الخطاب للمشافه ليس إلاّ من جهة احتمال الاشتباه في المتكلّم ، أو تقصيره في عدم نصب القرينة ، أو اشتباه المخاطب ، أو قصوره عن فهم القرينة ، والأصل المجمع عليه الفريقان يقضي بعدم الخطأ والتقصير كما أنّ الأصل قصد المتكلّم مدلول الكلام إجماعا.
ص: 97
مضافا إلى إلغاء احتمال خلاف ذلك في النصوص (1) ، فإنّه سئل عن امرأة أحلّت جاريت [ ها ] لزوجها فأمضاها عليه السلام ، فقال السائل : فلعلّه لمزاح بينهما ، فأجاب عليه السلام بعدم اعتبار الاحتمال بخلاف غير المشافه ، فإنّ احتمال إرادة خلاف الظاهر لا ينحصر فيما عرفت دفعه بالإجماع بل يحتمل بواسطة سقوط قرينة وأمثاله ، ولا دليل على اعتبار أصالة عدم القرينة في حقّنا إلاّ من جهة مطلق الظنّ.
لا يقال : إنّ بناء العقلاء في استكشاف مطالبهم على التعويل بالأصول المعمولة في استخراج المراد من الظواهر ، والعلماء الأعلام مطبقون على ذلك.
لأنّا نقول : أمّا بناء العقلاء ، ففيما لم يفد الاطمئنان ، ولا أقلّ من الظنّ الشخصي فغير مسلّم كما عرفت في الوجه الأوّل ، وأمّا عمل العلماء ، فيحتمل أن يكون بواسطة مطلق الظنّ ، فلا دلالة فيه على المدّعى.
والجواب عن كلا الوجهين ما ذكرناه في أدلّة المختار من إثبات حجّية الظواهر منه مطلقا ، فإنّ الإجماع من لدن زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة على العمل بها إلى زماننا ، ولم يظهر مخالف في ذلك ، ولذلك نرى عدم عنوان المسألة في كلام القدماء مع العلم الإجمالي بأنّ جملة منها ممّا لا يفيد الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، واحتمال التعويل عليها من جهة مطلق الظنّ نظرا إلى انسداد باب العلم في تلك الأزمنة ممّا لا يستقيم أصلا في زمن إمكان تحصيل العلم ، مع أنّ أوائل زمن الغيبة كزمن المرتضى على ما ادّعاه زمن انفتاح باب العلم ، فلا وجه للقول بالظنّ المطلق ، فإنّ السيّد كان يستنبط الأحكام من الأدلّة القطعية ، وعدّ منها المتواترات ولا سيّما بعد ملاحظة تحريمهم للعمل بالظنّ المطلق وحصرهم الأدلّة في الأربعة غالبا أو الخمسة بزيادة الاستصحاب عليها كما عن بعضهم.
ص: 98
سلّمنا انسداد باب العلم بالأحكام لهم ولكن لا نسلّم انسداد باب العلم في طريقها أيضا لهم ، فالعلم في المسألة الأصولية كان ممكنا لهم ، ولعمري كيف يجوّز العاقل من أمثالهم إهمالهم في مثل هذه المسألة العظيمة مع أنّ أهل بيت العصمة والطهارة بيّنوا لهم أحكام دينهم ودنياهم حتّى أرش الخدش وآداب الأكل والشرب والنوم والخلوة والمقاربة ونحوها ، وهل هذا إلاّ للعلم برضاهم عليهم السلام بالعمل بظواهر الكتاب؟
ثمّ إنّ المحقّق القمّي قد بنى القول بحجّية الكتاب على أنّه من الظنون الخاصّة التي قام القاطع على اعتبارها ، وعدمها على القول بعموم الخطاب لغير المشافهين وعدمه ، وعلى ما عرفت لا وقع له ، فإنّ الإجماع منعقد على اعتباره ولو لغير المشافه كما مرّ ، مع أنّا لو سلّمنا العموم وقطعنا النظر عن الإجماع على العمل به ، فلا نسلّم حجّيته من باب الخصوصية ، فإنّ مجرّد القول بعموم الخطاب لا يقضي بارتفاع احتمال الخلاف في ظواهر الألفاظ ، ولذا يجب الفحص عن المعارض على القول بالظنون الخاصّة أيضا ، ومع ذلك لا يحصل الاطمئنان بإرادة ما هو الظاهر من اللفظ.
ثمّ إنّ لصاحب المعالم كلاما في المقام لا بأس بنقله ، قال بعد الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بالدليل الرابع :
لا يقال : الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، وذلك بواسطة ضميمة مقدّمة خارجية وهو (1) قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وإرادة (2) خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ، سلّمنا ولكنّه ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.
لأنّا نقول : أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّنا (3) إنّما هو بالإجماع وقضاء
ص: 99
الضرورة بالاشتراك في التكليف (1) ، وحينئذ فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائره (2) على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم الشرعي (3) ، ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا وقد تبيّن خلافه ، ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة - الدالّين على المشاركة في التكليف (4) المستفادة من ظاهر الكتاب - بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية ، المفيد (5) للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف ذلك الظنّ الظاهر ، ومثله يقال في أصالة البراءة لمن التفت إليها بنحو ما ذكر أخيرا في ظاهر الكتاب (6). انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه من وجوه النظر ما لا يخفى سؤالا وجوابا :
أمّا على الأوّل ، فلأنّ الواجب على الحكيم سوق الكلام ، على ما يقتضيه المقام باختلافه باحتفافه على القرائن المفيدة للمطلوب من غير تقصير له في البيان ، وأمّا قصور فهم المخاطب عن إدراك القرائن بواسطة غباوته أو سهوه أو نسيانه وأمثال ذلك (7) ممّا لا دخل له بالحكيم ، فلا يجب عليه رفعه ، فعلى هذا لا يفيد ضمّ المقدّمة الخارجية في إفادة القطع كما هو ظاهر السؤال ، مع أنّا نقطع بأنّ كثيرا من خطابات المشافهة - الصادرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام للمخاطبين المشافهين - لا يزيد على إفادة الظنّ كما لا يخفى ، فلا يصحّ دعوى الفرق بين خطابات الحكيم وغيره في ذلك فتأمّل.
ص: 100
وأمّا على الثاني ، فلأنّ دعوى الإجماع منه على إرادة خلاف الظاهر من الكتاب تنافي دعواه بامتناع الاطّلاع على الإجماع في تحرير الدليل.
مضافا إلى أنّ حكمه بفقد السنّة المتواترة فيه لفظا ومعنى غير موافق للواقع ؛ لوجودها كثيرا في الفقه مع أنّ تقدير الوجود في اللفظي منها لا يضرّ بما هو في صدده من انسداد باب العلم ، إذ لا يفيد العلم كالكتاب ، فكما أنّ وجود الكتاب غير مضرّ في مطلوبه ، فكذلك السنّة المتواترة اللفظية ، والمستفاد من كلامه تسليم إفادة القطع على تقدير وجودها ، وسيجيء إن شاء اللّه ما يظهر به بطلان ما أبطل به البراءة الأصلية.
ثمّ إنّ قوله : « ويستوي الظنّ الحاصل من ظاهر الكتاب والظنّ المستفاد من غيره » يستقيم لو جاز تعارض الظنّين ، وظاهر بطلانه إلاّ أن يراد من أحدهما الظنّ النوعي ، أو يراد من التسوية بينهما تساويهما من حيث الحجّية بمعنى أنّ الظنّ الحاصل من الخبر مثلا كما يكون حجّة من جهة الظنون الخاصّة ، فكذلك الظنّ الحاصل من الكتاب فتأمّل.
ثمّ ابتناؤه على الوجه المزبور ممّا لم نقف له على ابتناء في زبر الأوّلين ، فإنّ غرضه لو كان من جهة حصول القطع للمشافه دون غيره ، فقد عرفت عدم اطّراده في المشافه أيضا ، وإن كان من جهة حجّيته من باب الظنون الخاصّة ، فقد مرّ ما يعمّ بالنسبة إلى المشافه وغيره ، ولو لا الإجماع قديما وحديثا ، لكفى في الحجّية لغير المشافه.
وأمّا ما قد يمنع من صحّة الإجماع ؛ للزوم الفحص لغير المشافه دون المشافهين ، فواضح الضعف ، فإن لزوم الفحص لا يلازم عدم الحجّية من جهة الظنون الخاصّة ، كيف؟ ومنشأ الفحص العلم الإجمالي بكثرة المتعارضات ، ومبنى عدم الحجّية عدم الدليل على الحجّية ، وأين أحدهما من الآخر؟
وأمّا قوله : « ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على اشتراك التكليف » ففيه عدم اختصاص الإجماع في صورة عدم وجود الخبر الجامع عليه ، بل الإجماع
ص: 101
قائم عليه في الصورتين كما عرفت ، وعدم جواز العمل بظاهر الكتاب في صورة المخالفة مع حجّية الخبر المخالف لا يقدح في حجّية الكتاب لو لم نقل بتعاضده كما هو الشأن في جميع المتعارضات.
ثمّ إنّ صالح العلماء قد وجّه كلام صاحب المعالم بتوجيه ، وكذا جمال المحقّقين قد وجّهه بتوجيه آخر ، ونحن أيضا نوجّهه بتوجيه لعلّه أوجه ، وبه يندفع جملة من الإيرادات المذكورة في كلامهم.
قال الأوّل : « قول صاحب المعالم : ويستوي ... » لمّا دفع بقوله : « فيحتمل » ما ذكره المورد أوّلا من أنّ الظنّ (1) المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، دفع بهذا ما أورده ثانيا بعد التسليم من أنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره.
ثمّ قال : وتوضيح الدفع أنّه إذا ثبت جواز حمل الظاهر على خلافه عند معارضة الخبر إيّاه ، صار الظاهر ظنّيا ويساوي (2) غيره ممّا يفيد غيره (3) في إفادة الظنّ وفي إناطة التكليف [ به ] ، وليس المراد أنّهما متساويان من جميع الوجوه ، فلا يرد أنّ هذا ينافي ما مرّ من الخبر الراجح (4).
ثمّ أفاد أنّ وجه مساواتهما في ذلك أمران :
أحدهما : ابتناء الفرق والحكم بأنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب من قبيل الشهادة ، فلا يعدل عنه إلى غيره ممّا يفيد الظنّ على كون الخطاب متوجّها إلينا ؛ إذ الصارف حينئذ هو الخبر وقد مضت (5) ذلك ، ولكن [ قد ] عرفت بحكم المقدّمة الثانية أنّ الخطاب ليس بمتوجّه إلينا ، بل إلى الموجودين في زمانه ، ويجوز أن يقترن به ما
ص: 102
يدلّ (1) على إرادة خلافه قطعا ، والخبر حينئذ معرّف لا صارف.
وثانيهما : أنّ الإجماع والضرورة - الدالّين على مشاركتنا لهم في التكليف بظاهر الكتاب ممّا (2) تقتضيه المقدّمة الثانية - مختصّان بظاهر غير معارض للخبر (3) الجامع للشرائط الآتية ، المفيدة للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف الظنّ المستفاد بظاهر (4) الكتاب ، لأنّه لا إجماع ولا ضرورة على تلك المشاركة عند المعارضة فينتفي القطع به ، وينتفي كون الظنّ المستفاد منه من قبيل الشهادة أيضا فليتأمّل (5). انتهى.
وقال الثاني بعد الإشارة إلى ما ذكره في المعالم : فلا بدّ لنا من تحقيق الحال فيما ذكره في الجواب عن ذلك الإيراد لا يخلو عن تشويش ، وكأنّه يحتمل وجهين :
أحدهما : أنّه بعد ما أبطل الإيراد [ الأوّل ] - من « لا يقال » وهو كون الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوما لما ذكره من الوجه - بما ذكره من كون أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وأنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه فيمن تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف من (6) الكلّ ، فيكون حاصل جوابه أنّ الإجماع والضرورة إنّما هو بالاشتراك (7) بيننا وبينهم فيما علمنا [ كانوا مكلّفين ] به لا في وجوب العمل بظواهر القرآن ، وحينئذ نقول : إن نحن (8)
ص: 103
لا نعلم كونهم مكلّفين بها (1) فيما لم يقترن به قرينة صارفة عنه ، وأمّا فيما اقترن بها ، فكانوا مكلّفين بمقتضى القرينة لا بالظاهر ؛ لاحتمال (2) أن يكون لهم قرينة صارفة عنه ، ولم تصل تلك القرينة إلينا ، فغاية الأمر أنّه لمّا لم يظهر تلك القرينة ، فيجوز أن يحصل لنا ظنّ بعدمها وبكونهم مكلّفين فيه بالظاهر ، وهذا ليس إلاّ مجرّد الظنّ ، ولم يقم على اعتباره بخصوصه (3) دليل قطعي حتّى يقال به : لأنّه (4) ظنّ مخصوص لا يلزم من اعتباره اعتبار كلّ ظنّ.
ثمّ قال : ولا يخفى أنّه لا يلائم الجواب (5) عند قوله : « فيحتمل » ولا حاجة إلى ضميمة ذلك ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى جواب آخر وهو أنّه يحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن الموجبة للانتقال (6) عن الظاهر خبر الواحد ، وحينئذ ففيما وجد فيه خبر الواحد على خلاف ظاهر القرآن لا علم لنا بكونهم مكلّفين بظاهر القرآن حتّى يعلم منه كوننا أيضا مكلّفين به بل يحتمل أن يكونوا مكلّفين بمقتضاه في مثلهم (7) ، فلا يمكن لنا في مثله طرح الخبر والعمل بالظاهر بناء على إفادة (8) العلم ، أو لكونه مفيدا للظنّ (9) ؛ إذ قد ظهر انتفاء كليهما.
وثانيهما : أن يكون المراد وقوع الإجماع وقضاء الضرورة بكوننا أيضا مكلّفين بظاهر القرآن مثلهم وإن لم يشمل الخطاب لنا بكونه عامّا ، لكنّه يقول : إنّهم لم يكونوا مكلّفين بالظواهر مطلقا بل إذا لم تكن قرينة صارفة عنها كما ذكرنا ، فنحن أيضا بحكم
ص: 104
الإجماع والضرورة المزبورين نكون مكلّفين بالظواهر ، إذا لم تكن قرينة صارفة مطلقا ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن خبر الواحد المفيد للظنّ ، ففيما وجد فيه ذلك ليس لنا علم بكوننا مكلّفين بالظواهر وطرح الخبر ، فما يستفاد من الظنّ فيه ليس علما ولا ظنّا مخصوصا قام على وجوب العمل به دليل ، وعلى هذا يكون تمام الكلام جوابا [ واحدا ].
لكن لا يخفى أنّه على هذا لا حاجة إلى التمسّك بحديث خطاب المشافهة واختصاصه بالموجودين ، بل يكفي فيه أنّ التمسّك بالظواهر لا ريب في اختصاصه بما إذا لم يقم قرينة صارفة عنها ، ويحتمل أن يكون أخبار الآحاد من جملة تلك القرائن ، فعلى هذا فمع وجود الأخبار الصارفة لا يحصل لنا العلم بالظواهر والظنّ (1) المخصوص فتدبّر (2). انتهى.
وأنت خبير بما فيهما بعد التدبّر لا سيّما الأخير منهما ، والتحقيق في التوجيه لكلام صاحب المعالم هو أن يقال : قوله : أحكام الكتاب كلّه من قبيل خطاب المشافهة ، وقوله : وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف ، إشارة إلى الجواب عن الشقّ الأوّل من الإيراد وهو كون الخطابات علميا (3) ؛ إذ من الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها كما ذكره.
وقوله : « وقد وقع ... » شروع في الجواب عن الشقّ الثاني من الاستدلال وهو كون الكتاب من الظنون الخاصّة ، فإنّ الأوّل لا ينهض بذلك بل إنّما هو منع إجمالي ، وهذا
ص: 105
بيان تفصيلي لبعض الأقسام بأنّه قد يعلم قيام القرينة بسبب الإجماع ونحوه ، وقد يشكّ كما في معارضة الخبر الجامع للشرائط المقرّرة في محلّه لها ، وكان الأنسب إلحاق قسم آخر وهو ما يعلم عدم صارف عنه أصلا ، ثمّ يبيّن بعده الحكم في صورة الشكّ ، وحكم بانتفاء القطع والتساوي في كونهما من الظنون المطلقة ، ثمّ علّل انتفاء القطع بما ذكره من الابتناء والتساوي باختصاص الإجماع والضرورة بغير صورة المعارضة مع الخبر الجامع للشرائط الآتية.
ص: 106
[ القول في الإجماع المنقول ] (1)
الثالث من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن تحت الأصل هو الإجماع المنقول ، واعلم أنّ النزاع في الإجماع المنقول - من أنّه هل هو من الظنون الثابتة بالدليل ، أو لا - إنّما يتأتّى لو قلنا بحجّية أخبار الآحاد بادّعاء عموم أدلّة الخبر وشمولها له ، أو بعدم شمولها له بدعوى أنّ الظاهر منها إنّما هو حجّية الأخبار الحسّية دون الحدسية كما هو التحقيق ، وأمّا لو لم نقل بحجّية أخبار الآحاد ، فلا ينبغي التوهّم في عدم خروجه عن تحت الأصل بواسطة قيام القاطع عليه.
والحقّ أن يقال : إنّ خروج هذا الإجماع موقوف على مقدّمتين :
إحداهما : عموم أدلّة الأخبار وشمولها له كما قلنا.
وثانيتهما (2) : أن يكون الإجماعات المنقولة في كتب أصحابنا التي يستدلّ بها في المسائل الفرعية موافقة لما اصطلح عليه علماؤنا وهو الاتّفاق الكاشف عن دخول الإمام عليه السلام في المجمعين أو عن رضائه عليه السلام ، وكلتاهما بمكان من المنع عندنا ، سواء كان الإجماع المذكور محكيّا بطريق القدماء ، أو المتأخّرين ، فإنّ الأوّل منهما إخبار عن دخول قول المعصوم عليه السلام في أقوال المجمعين بطريق الحدس. والثاني منهما إخبار برضاه عليه السلام بطريق الحدس أيضا ، وتفصيل ذلك موكول إلى بحث الأخبار والإجماع ، فلا وجه
ص: 107
للتعرّض لهما (1) فيما نحن فيه إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم إجمالا أنّ شمول أدلّة الأخبار للأخبار الحدسية يلازم جواز تقليد المجتهدين ، فإنّ المراد من الخبر حينئذ ما يقابل الإنشاء ، وفتوى المجتهد خبر عن قول الإمام ، أو عن رضاه عليه السلام وبطلان اللازم كالملازمة واضح.
ولا دليل على لزوم حمل الإجماعات في كلمات أصحابنا كالشيخ والسيّد وأضرابهما على المعنى الاصطلاحي إلاّ ما قد يتخيّل من أصالة إرادة كلّ متكلّم عن كلّ لفظ له فيه اصطلاح المعنى الذي اصطلح عليه (2) ما لم يدلّ على خلافه دليل ، وهذا أيضا غير مقيّد في المقام ؛ لوجود موهنات كثيرة للحمل على هذا المعنى مثل أنّ جملة من الإجماعات المنقولة مخالفة لما اشتهر بينهم بل بعض مدّعي الإجماع قد ناقضه بنفسه في كتاب آخر ، بل في باب آخر ، وبعض آخر منهم قد صرّحوا بأنّ دعوى الإجماع مبنيّة على كون مدارك المسألة إجماعية ، فقد ذكر المحقّق (3) في بعض الموارد أنّ دعوى الإجماع فيه لكون دليل المسألة البراءة واعتبارها إجماعي ، ولا ريب أنّ بعد ملاحظة هذه الموهنات لا يبقى بعد وثوق بإرادة المعنى المصطلح منها.
لا يقال : فيلزم فسقهم من جهة تدليسهم و (4) حاشاهم عن ذلك.
لأنّا نقول : إنّما يلزم ذلك لو علمنا أنّ مقصودهم من الإجماع أن يكون دليلا لمن تأخّر عنهم ولم يعلم.
ثمّ [ إنّ ] لبعض أفاضل متأخّري المتأخّرين - وهو الشيخ الأجلّ الشيخ أسد اللّه الدزفولي (5) - مسلكا آخر في اعتبار الإجماع المنقول ، وحاصله الفرق والتفصيل بين الإجماع الكاشف عن رضا المعصوم ونقله ، وبين نقل المنكشف ، وتحقيقه أنّ الإجماع
ص: 108
المدّعى على أمر يتضمّن أمرين :
أحدهما : إخبار مدّعي الإجماع باتّفاق العلماء وإطباقهم عليه.
وثانيهما : إخباره برضا المعصوم عليه السلام من حيث الاتّفاق في وجه ، أو بدخول المعصوم في وجه آخر.
والأوّل إخبار من العادل على (1) أمر حسّي وهو موافقة فتاوى المجمعين جميعا ، والثاني إخبار منه على أمر حدسي.
ودعوى عدم انتهاض أدلّة قبول خبر العدل إنّما هو (2) في الثاني ، وأمّا الأوّل فمن المعلوم اندراجه في دليل اعتبار خبر العادل على تقدير دلالته عليه وحيث إنّ الخبر المذكور معنى قبوله ترتيب (3) آثاره الواقعية على ما أخبر به ، فلا مناص من القول باعتباره ، فإنّ من جملة اللوازم العادية للاتّفاق كشفه عن رضا الإمام ومطابقته لقول المعصوم ، فلا بدّ من الالتزام بلوازمه ، فإنّ الأخذ بشيء أخذ بلوازمه ولو بحسب العادة فلكلّ إجماع منقول في لسان عدل جهتان : جهة إخباره عن الاتّفاق الملزوم عادة ، لمطابقته لقول الإمام عليه السلام مثلا ، وجهة إخباره عن رضا المعصوم ، أو عن قوله بواسطة حدس ، أو تخمين منه ، فيقبل منه من الجهة الأولى كما فيما لو أخبر مائة عدل بسماعه عن مائة عدل أنّ زيدا مثلا قد مات ، وقضيّة حجّية إخبار العدل تنزيله منزلة الواقع ، والأخذ بلوازمه العادية والعقلية والشرعية ، ومن اللوازم العادية لإخبار مائة عدل (4) مطابقة الخبر مثلا للواقع ، فيترتّب عليه آثار موت زيد ، ولا يقبل من الجهة الثانية ؛ لأنّ مرجعه إلى حجّية قطع الغير لغيره ولا دليل عليه. مضافا إلى لزوم الهرج والمرج على تقديره.
ومن هنا ينقدح لك أنّ جريان هذا الوجه إنّما هو فيما لو عبّر عن المقصود بلفظ
ص: 109
الإجماع ونحوه من الألفاظ الدالّة على الاتّفاق كاتّفقت العصابة ، أو أجمعت الأمّة ونحوها ، وأمّا لو قال مثلا بلفظ آخر لا يدلّ على الاتّفاق ، فلا عبرة به قطعا كما فيما لو قال : « قطعا » ونحوه.
فإن قلت : إنّ مقتضى التعبّد بخبر الواحد لا يزيد على الأخذ بنفسه ، وأمّا إجراء أحكامه العادية ولوازمه العقلية فلا ، كما في الأصول المثبتة على ما سيجيء تحقيقه إن شاء اللّه.
قلت : ذلك في الاستصحاب وأمثاله - من الأمور التعبّدية التي من الطرق الظاهرية - كذلك ، فإنّ نظر الشارع في جعل تلك الطرق ليس إلى الواقع ، وأمّا في الأدلّة الاجتهادية كخبر الواحد وأمثاله ، فليس كذلك ، فلو أخبرنا عدل (1) بوجود النار في محلّ ، لا بدّ من الأخذ بلوازمه العادية كالإحراق ، والعقلية كالحرارة مثلا كما لو أخبرنا بطلوع الشمس فنحكم باستضاءة العالم ونحوه ، إلاّ أنّه لا بدّ وأن يعلم بأنّ العامل بالإجماع إذا لم يأخذ بما ادّعاه العدل من الانكشاف ، وأخذ (2) بمجرّد الكاشف ، فتارة على وجه يحصل له الكشف من الكاشف المنقول ، وأخرى لا يحصل.
وعلى الأوّل ، فلا إشكال في حجيته لو كان الكاشف والكشف قطعيا ، وإلاّ فهو طريق ظنّي مبنيّ حجّيته على اعتبار مطلق الظنّ ، وستسمع الكلام فيه عن قريب بما لا مزيد عليه إن شاء اللّه.
الأوّل (3) : أنّه بناء على هذا المسلك ينبغي أن لا يكون فرق بين نقل الإجماع والشهرة كما لا يخفى سيّما بعد ملاحظة انطباق فتاويهم بالنصوص غالبا ؛ فإنّ السلف
ص: 110
كانوا يأخذون بفتاوى الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، فإنّ الشهرة قد تكون أدخل في كشفها عن وجود أمارة قطعية على الحكم خصوصا فيما إذا كان الحكم على خلاف الأصول والقواعد ، ولا سيّما إذا كانت المسألة مشهورة بين قدماء أصحابنا كالشيخ ومن قبله ، ولا سيّما إذا كانت عظيمة تكاد تبلغ حدّ الإجماع ، وكان المخالف فيها معدودا في زمرة الشذوذ ، بل قد يمكن الكشف على تقدير نقل اتّفاق جماعة كثيرة ، وتحصيل اتّفاق جماعة أخرى على أن يكون الكشف مستندا إلى المنقول والمحصّل ، فتأمّل ؛ فإنّ الشهرة المحكية قد يحتمل أن تكون أقوى من الإجماع المنقول.
ثمّ لا يخفى أنّ هذا المسلك إنّما يتمّ على تقدير عموم أدلّة الخبر الواحد بنقل فتاوى العلماء لا انحصاره فيما إذا حصل من النقل الاطمئنان.
وقد يفهم من كلام القائل هذا لزوم الأخذ بالكاشف تعبّدا ؛ ثمّ الاستكشاف فقد يورد عليه بأنّ الكشف لا يتأتّى فيه التعبّد كما لا يخفى ، ولذلك وجّهنا كلامه بما مرّ من الأخذ باللوازم العادية للخبر على تقدير قبول الخبر تعبّدا كما في البيّنة ، فإنّه يؤخذ بلوازم الموضوع الثابت بها.
الثاني : قد حكي عن ثاني الشهيدين والمحقّقين في شرح الألفية وجامع المقاصد (1) ثبوت التواتر فيما كان التواتر فيه معتبرا لو كان منقولا بخبر الواحد العدل ، فإنّ قضية الأدلّة الدالّة على وجوب اتّباع قول العادل ذلك ، ومن هنا قد حكما بصحّة القراءة بقراءة ما عدا السبعة من القرّاء العشرة ، وهم مشايخ القراءة : أبو جعفر وخلف
ص: 111
ويعقوب ، مع عدم كون قراءتهم متواترة لنقل العلاّمة والشهيد في الذكرى تواترها (1).
قال الشهيد الثاني في روض الجنان بعد نقل الشهرة عن المتأخّرين وشهادة الشهيد على التواتر قال : ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها (2).
واعترض عليه (3) في المدارك (4) بأنّ ما اشترط فيه التواتر لا يكفي فيه نقل التواتر ، إذ النقل لا يجعل المنقول متواترا بل هو تواتر منقول.
والتحقيق أنّ اعتبار التواتر المنقول يتوقّف على أمرين :
أحدهما : أن يكون ناقل التواتر مصرّحا بعدد المخبرين من حيث إنّ التواتر أيضا كالإجماع يشتمل على خبر حسّي ، وعلى خبر حدسي والأوّل معتبر دون الثاني ؛ لعدم انصراف الأدلّة إليه ، فيقبل منه في جهة الكاشف دون المنكشف ، وإن حصل الكشف ، فهو ، وإلاّ فيحكم به من جهة أنّ الكشف من جملة اللوازم العادية لإخبار مائة مخبر.
وثانيهما : أن يكون ما دلّ على اشتراط التواتر فيما اشترط به دالاّ على اشتراط التواتر ولو لم يكن معلوما بالعلم الوجداني بل لو كان معلوما بالعلم الأعمّ من الوجداني والشرعي ، لكان أيضا كافيا ، فإنّه بعد تحقّق هذين الأمرين لا شكّ أنّه ممكن الاكتفاء بالتواتر المنقول ، وأمّا إذا لم يكن أحد الأمرين متحقّقا ، فلا يكتفى ،
ص: 112
وبهذا العلم وجد الاختلاف الحاصل بين هؤلاء الأعلام ، فتأمّل.
الثالث : أنّ الإجماع المنقول على القول بحجّيته يجري عليه أحكام الخبر من حيث المتن والسند والمعارض ، فبملاحظة السند ينقسم إلى الصحيح والضعيف ، ومن حيث المتن إلى المطلق والمقيّد ، ومن حيث المعارض إلى أقسام التعارض الحاصلة من اختلاف النسب بين المتعارضين.
الرابع : الظاهر من قدماء أصحابنا بل وجماعة من المتأخّرين أنّهم لم يصطلحوا في الإجماع اصطلاحا جديدا بل إنّما اتّبعوا في ذلك ما اصطلحوا (1) العامّة عليه ؛ حيث عرّفوه بأنّه اتّفاق المجتهدين. ولقد صرّح بذلك في أصول الغنية (2) حيث حصر الأدلّة في غير الإجماع ، ثمّ أورد بأنّ الحصر لا يصحّ مع أنّ الإجماع أيضا منها.
ثمّ أجاب عنه بأنّ الإجماع كان من الأدلّة عند العامّة ، ولمّا عرضوه علينا [ و ] رأينا أنّه لا بدّ أن يكون حجّة من جهة الكشف عن دخول الإمام عليه السلام أو رضاه ، قلنا (3) به ، فعلى هذا ، فما يوجد كثيرا - من الإجماع المنقول في لسان السيّد والشيخ وأضرابهما ممّا يكون المخالف موجودا - لا يمكن أن يحمل على ما هو المصطلح عندهم إلاّ إذا كان المخالف في غاية الشذوذ بل لا بدّ من الحمل على أنّ مدار الحكم ومدركه إجماعي ، أو نحو ذلك.
نعم ، يمكن الحمل على المعنى المصطلح عندهم إذا فرض الغفلة والاشتباه وأمثال ذلك ممّا هو مدفوع بالأصل وعلى تقديره لا يمكن العمل به.
ص: 113
ص: 114
[ القول في الشهرة ] (1)
الرابع من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور الشهرة.
قال الشهيد : وألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإن أراد في الإجماع ، فهو ممنوع ، وإن أراد في الحجّية ، فهو قريب (2) لمثل ما قلناه ، ولقوّة الظنّ في جانب الشهرة (3).
والمراد بقوله (4) : « لمثل ما قلناه » ما علّله به حجّية ما « لو أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف من أنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل خصوصا ، وقد تطرّق التغيّر (5) إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدول المخالفة ، ومباينة الفرق المنافية ، وعدم تطرّق الباقين إلى الردّ له مع أنّ الظاهر وقوفهم عليه مع أنّهم لا يقربون (6) ما يعلمون خلافه - إلى أن قال - : وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، لحسن ظنّهم به وأنّ فتواه كروايته ، وبالجملة تنزّل فتاويهم منزلة رواياتهم » (7).
ص: 115
وأورد عليه في المعالم بقوله : وهذا الكلام عندي ضعيف ؛ لأنّ العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الإفتاء بغير ما يظنّ بالاجتهاد دليلا ، وليس الخطأ بمأمون على الظنون (1).
وفيه نظر ؛ لأنّ (2) الظاهر أنّ مراد الشهيد ما يكون كاشفا كشفا قطعيا عن مدرك قطعي بقرينة الاستشهاد بأنّ الأصحاب كانوا يتمسّكون بها ، وتنزيل الفتاوي منزلة النصوص ، فإنّ المعهود من القدماء موافقة فتاويهم غالبا لألفاظ النصوص ، ولا ريب في حجّية مثل هذه الشهرة ، فإنّ الاعتماد حينئذ على المدرك المعلوم بالإجمال من طريق الشهرة ، ولا فرق بين أن يكون المدرك معلوما تفصيلا ، أو إجمالا كما أنّه لا ريب في إمكان هذا الكشف سيّما إذا كانت المسألة مخالفة للأصول والقواعد المقرّرة في المذهب ، وخصوصا فيما إذا كان المخالف شاذّا نادرا مع ظهور اختلاف مشارب العلماء في كيفية الأحكام ، وربّما يشعر بذلك عدّه قوّة الظنّ دليلا آخر ، فسقط ما زعمه صاحب المعالم ، فإنّ بعد المقدّمات المذكورة لا يحتمل تطرّق الخطأ بظنونهم.
ثمّ إنّه لا كلام في حجّية الشهرة من حيث الكشف كما أنّه لا كلام من حيث دخولها تحت الدليل الرابع ، وبرهان الانسداد على تقدير تماميته ، بل الكلام في المقام في أنّه هل دلّ دليل خاصّ على اعتبار الشهرة ، أو لا؟ فقد توهّم بعضهم (3) ذلك مستندا إلى وجهين :
الأوّل : فحوى ما دلّ على حجّية أخبار الآحاد ، فإنّ الشهرة قد تكون أقوى ظنّا منه ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، وقد وقع نظير ذلك للشهيد (4) في الحكم بحجّية الذياع والشياع بفحوى ما دلّ على حجّية الشهادة ، وقد سمّاه بعضهم بمفهوم الموافقة.
وفساده أظهر من أن يخفى على ذي مسكة ؛ لأنّ الدليل الدالّ على حجّية الخبر لو
ص: 116
كان من باب الظنّ ، فليس الاقتصار على الشهرة في محلّه ، وإلاّ فلا وجه للاستناد إليه ، مضافا إلى ما في دعواه الإجماع المركّب من الوهن.
وأمّا تسمية ذلك بمفهوم (1) الموافقة ، فإنّما هو مجرّد تغيير في العبارة ، فإنّها أولوية صرفة ومفهوم الموافقة ما يكون مستفادا من اللفظ كآية التأفيف ، ومنه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني أيضا.
الثاني : ظواهر جملة من الروايات ، فمنها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه السلام في اختلاف الحاكمين قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند (2) أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (3).
والتقريب أنّ قوله عليه السلام : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور » دالّ على لزوم أخذ الشهرة وحينئذ لا بدّ أن يكون قوله : « فإنّ المجمع عليه » (4) هو المشهور.
ومنها : مرفوعة زرارة عن الباقر عليه السلام قال : سألت الباقر عليه السلام : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ فقال : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ... » (5).
تقريب الاستدلال (6) أنّ لفظة « ما » في الحديث عامّ ، فيلزم الأخذ (7) لكلّ مشهور ؛ لمكان الأمر به.
ص: 117
والجواب : أمّا عن الأولى منهما أنّ صدر الرواية وذيلها يعطي أن يكون الشهرة على معناها لغة ، يقال : سيف شاهر أي عار ، وشهر سيفه أي أعراه ، فالرواية المشهورة حينئذ ما لا يخفى على أحد ، فيصحّ إطلاق المجمع عليه عليها ، ولا احتياج إلى ارتكاب مثل ذلك التأويل البعيد ، والرواية الغير المشهورة ما لا يكون بهذه المثابة ، فيكون في العمل بها ريب ، فظهر وجه التوصيف والتعليل أيضا.
وأمّا عن الثانية ، فبعد الغضّ عن ضعفها عدم عموم لفظة « ما » بالنسبة إلى الفتاوى كما هو محل الكلام ، وعلى تقدير التسليم فمعناها قد عرفت في الأولى ، مضافا إلى أنّ التمسّك بأمثال الروايات في أمثال المقام قد يكون دوريا على بعض الوجوه إلاّ أن يقال : إنّها من الظنون الخاصّة ، فتأمّل.
ثمّ إنّ بعض (1) من ادّعى انطباق الرواية على حجّية الشهرة فسّر الفقرة الموجودة في الرواية الأولى - وهي قول الراوي : كلاهما مشهوران - بأنّها من جهة التعارض بين شهرة القدماء وشهرة المتأخّرين ، ولعمري إنّه كلام سخيف يكاد تضحك منه الثكلى.
ص: 118
[ القول في حجّية خبر الواحد ] (1)
الخامس : من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور هو خبر الواحد.
واعلم أوّلا أنّه قد يتوهّم أنّ التركيب (2) في قولهم : « خبر الواحد » توصيفي كقولهم : « الخبر المتواتر » و « الخبر المستفيض » ونحو ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الحقّ (3) أنّه تركيب إضافي ، ويشهد على ذلك صحّة قولهم : « تواترت الأخبار واستفاضت الآثار » دون قولهم : « اتّحدت » فالتواتر وصف للرواية نفسها بخلاف الوحدة ، فإنّها وصف لها باعتبار راويها ، وعلى هذا فلا بدّ من التخريج على بعض الوجوه ما قد يتراءى على خلاف ذلك ، كقولهم الرواية من الآحاد.
وكيف كان ، فالكلام في خبر الواحد يقع في جهات ثلاثة ، وكذا في كلّ دليل لفظي :
الأولى من حيث صدوره عن الحجّة.
الثانية من حيث جهة صدوره كأن يكون على وجه التقية أو لا على وجهها.
الثالثة من حيث الدلالة.
وقد سبق الكلام في الجهة الثالثة في الكتاب والسنّة بأقسامها وغيرهما ، فلا نطيل بإعادته.
ص: 119
وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، فالكتاب والأخبار النبوية معلومة جهة صدورهما ؛ حيث إنّه لا معنى للتقية هناك.
وأمّا الأخبار الإمامية - ولو كانت متواترة - فيحتمل صدورها على وجه الاتّقاء إلاّ أنّ التقية هي التورية على ما اقتضته المصلحة ، ولا يصار إليها إلاّ بعد دلالة دليل عليها ، وعلى تقدير عدمه فالأصل عدمها.
مضافا إلى أنّ الظاهر من الكلام على ما تقدّم أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف استفادته منه في العادة.
وأمّا الكلام في الجهة الأولى ، فالكتاب قطعي الصدور ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال كما قد ارتكبه البعض ، وكذا السنّة المتواترة على تقدير وجودها.
وأمّا أخبار الآحاد ، فهي العمدة في المقام ، فذهب بعض قاصري الدراية من الأخبارية إلى أنّ صدورها قطعي ، واستند في ذلك الفاضل المحدّث الحرّ العاملي (1) إلى وجوه تبلغ ثلاثة وثلاثين.
وأورد أمينهم في فوائده (2) وجوها عديدة متقاربة لا دلالة في كلّها فضلا عن بعضها على المدّعى.
واستقربه المحدّث البحراني (3) ، وحيث إنّ فساد الدعوى بمكان من الوضوح ، فلا غائلة في الانصراف عنها إلى ما هو أهمّ.
وذهب جملة منهم إلى أنّها قطعية اعتبارا بواسطة شهادة المؤلفين على صحّة مؤلّفاتهم ، وتبعهم في ذلك بعض الأصوليين (4) إلاّ أنّه اشترط شرطين :
ص: 120
أحدهما : أن لا يكون الرواية مخالفة لما ذهب إليه المشهور.
وثانيهما : أن تكون الرواية مأخوذة من الأصول المعتمدة.
وذهب جملة من أرباب الأصول إلى أنّها حجّة من جهة الظنون الخاصّة وهم جماعة كثيرة بين من يعتبر أوصاف الراوي ، ومن يعتمد على أوصاف الرواية كالمحقّق (1) على ما حكي عنه من اعتباره كون الرواية معمولا بها بين الأصحاب.
فالفرقة الأولى افترقوا على فرق ، فمنهم من يقتصر على الصحاح الأعلائية ، ومنهم من يتجاوز إلى المشهورية منها ، ومنهم من أضاف إليها الموثّقات ، ومنهم من زاد عليها الحسان ، وذهب جماعة من المتأخّرين إلى أنّها حجّة من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ ، وهم أيضا بين فرق كثيرة تعرف وجوه التفصيل فيما سيأتي ، ولا بدّ لنا من التكلّم في مقامين :
أحدهما : في بيان أصل الحجّية قبالا لمن أنكرها رأسا كالسيّد ونحوه.
وثانيهما : في بيان اكتفاء الحجّة في الاستنباط وعدم الحاجة إلى التعدّي إلى الظنون المطلقة.
فنقول في المقام الأوّل : إنّه ذهب جماعة من القدماء كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس (2) إلى عدم الحجّية بل ادّعى السيّد الضرورة من مذهب الإمامية على عدم جواز الاتّكال عليه ، وعزى إلى ظاهر الشيخ في أوائل التهذيب وإلى ابن بابويه ، وإلى المحقّق أيضا بل في محكيّ الوافية (3) للفاضل التوني عدم تصريح الطائفة بحجّيته قبل زمان العلاّمة ، والمشهور بين المتأخّرين هو الحجّية.
ص: 121
الأوّل : الأخبار والآيات الناهيتان (1) عن العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم.
وجوابه أنّه على تقدير عمومهما وعدم اختصاصهما بأصول الدين ، أو ما يتّهم المسلمين مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة الساطعة والبراهين القاطعة.
الثاني : الإجماع المحكي ، في لسان السيّد وابن إدريس (2).
وجوابه : أنّه (3) بعد ما ستعرف من الوجوه لا يفيد الظنّ فضلا عن العلم ، فلو لم ندّع الإجماع على خلافه ، فلا أقلّ من دعوى عدم قيام الإجماع عليه ، كيف؟ والشيخ مع حذاقته في الأخبار وخبرته بالفقه قد ادّعى الإجماع على خلافه (4) وإن أمكن التوفيق بين الإجماعين ، فإنّ السيّد (5) قد فسّر القطع بما يفيد سكون النفس والاطمئنان الذي هو علم عرفي ، فلعلّه قد خصّ حجّية الأخبار بصورة حصول الظنّ الاطمئناني المسمّى عنده بالعلم كما يعلم من مطاوي كلماته (6) ، فإنّ العلم قد يتسامح فيه عند أهل العرف فيستعمل في الاطمئنان وإن احتمل الخلاف عقلا أو عادة ، والعلم الحقيقي هو ما لا يحتمل الخلاف ، فتارة بالعقل كأن يستلزم فرض وقوعه محالا عقليا كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، والعلم بأنّ الممكن في وجوده يفتقر إلى موجب موجد له ، ففرض وقوع الخلاف يوجب اجتماع النقيضين فيهما. وأخرى بالعادة بمعنى أنّ فرض الخلاف لا يستلزم محالا عقليا إلاّ أنّه ينافي ما هو المعهود في العادة منه كانقلاب الجبل العظيم ذهبا ، فإنّ فرض وقوعه لا يوجب محالا لكنّه غير محتمل عادة ، فالعلم العادي كالعلم العقلي في عدم احتمال الخلاف عقلا في الثاني وعادة في الأوّل بل قد يمكن أن
ص: 122
يقال إنّ العلم العادي أقوى من العلم العقلي ، لوضوح المعلوم فيها من حيث وصوله مرتبة البداهة كما لا يخفى.
وأمّا العلم العرفي المسمّى بالاطمئنان ، فلا ينافي احتمال الخلاف لا عقلا ولا عادة.
وقد يتمسّك في الجمع بين الإجماعين بوجوه ضعيفة سيجيء ذكرها في محلّه.
الثالث : أصناف من الروايات ، فمنها : ما دلّ على اشتراط العلم في العلم بخبر الواحد مثل ما رواه [ محمّد بن ] الحسن الصفّار في بصائر الدرجات وابن إدريس في مستطرفات السرائر وأوّله والعلاّمة المجلسي في البحار على ما هو المحكيّ عنهم عن أبي الحسن الثالث عليه السلام قال الراوي : وسألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك ، ثمّ (1) قد اختلف علينا فهمه (2) ، كيف العمل به على اختلاله فيما اختلف منه؟ قال عليه السلام (3) : « ما علمتم أنّه قولنا ، فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا » (4).
وجوابه أنّه خبر الواحد غاية ما يستفاد منه الظنّ ولم يعلم أنّه من قولهم عليهم السلام ، مضافا إلى أنّه مرسلة مع أنّها مكاتبة ، فلا ينهض بإثبات المدّعى (5).
ومنها : ما دلّ على اشتراط وجود شاهد أو شاهدين من كتاب اللّه أو سنّة رسوله صلى اللّه عليه وآله على صدق الرواية في جواز العمل به كما في رواية جابر [ عن الباقر عليه السلام ] قال : « انظروا إلى (6) أمرنا وما جاءكم منّا ، فإن وجدتموه للقرآن موافقا ، فالزموه ، وإن اشتبه الأمر عليكم ، فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم [ من ذلك ] ما شرح لنا » (7).
ص: 123
والتقريب أنّ المانعين من العمل بخبر الواحد إنّما يعمل (1) بالأخبار المحفوفة بقرائن تدلّ على صدقها ، فهم إنّما يمنعون منها (2) ما لم تكن محفوفة بالقرينة ، ولا شكّ أنّ المراد بالقرينة إنّما هو أحد الأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، والرواية المذكورة تنفي الحجّية عمّا لم يكن شاهدا (3) عليها من الكتاب والسنّة.
وأمّا الإجماع والعقل ، فالإهمال فيهما إنّما لوضوح الحال فيهما حيث إنّ المسألة بعد ما كانت من المستقلاّت العقلية أو معقدا للإجماع ، فلا حاجة إلى التمسّك بالرواية فضلا عن قطعيتها والعلم بمطابقة مفادها للواقع.
ومن هذا الصنف موثّقة ابن بكير عن أبي جعفر (4) عليه السلام قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه ، فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوا إلينا حتّى يستبين لكم » (5).
ومقبولة عمر بن حنظلة (6) وروى الشيخ السعيد قطب الدين الراوندي عن ابن بابويه قال : أخبرنا سعد بن عبد اللّه ، عن يعقوب بن [ ي ] زيد ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ لكلّ (7) حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف فدعوه » (8) إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المدّعى تواترها.
ص: 124
ومنها : الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، وأنّها زخرف واضربوه على الجدار ممّا قد سبق بعضها (1).
والتقريب في هذه الأخبار بالنسبة إلى الأخبار المخالفة للكتاب ظاهر ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فلا يتمّ إلاّ بدعوى أنّ الكتاب الكريم ولو على نحو العموم إنّما اشتمل على جميع الأحكام كقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) وقوله : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (3) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (4) إلى غير ذلك من العمومات المشتملة على جلّ الأحكام أو كلّها ؛ إذ ليس المراد من المخالفة خصوص التباين ، وإلاّ لم يبق للأخبار المزبورة مورد ، فلا يناسب كثرة ورودها والتأكيدات الأكيدة الواقعة فيها والتشديدات (5) الشديدة الموجودة فيها.
والجواب عنه هو أنّ بعد العلم الإجمالي بأنّ هذه العمومات الكتابية والمطلقات القرآنية مخصّصة بمخصّصات كثيرة في أخبار الآحاد ، ومقيّدة بمقيّدات عديدة فيها لا يعلم مخالفة الكتاب لها ، على أنّ التحقيق عدم منافاة المقيّد للمطلق ؛ لعدم كونه مجازا ، فالأخبار المزبورة لا تنهض على إبطال العمل بالأخبار من حيث إنّها أخبار.
مضافا إلى استلزامها لزوم ردّ ما يخالف كتاب اللّه ولو علمنا بصدوره عن أهل العصمة الطاهرة عليهم السلام ولو بالسماع منهم ، فكيف بما إذا تواتر.
والقول بتخصيص هذه الأخبار بغيره يخالفه ما هو المستفاد من سياقها فكأنّها كالقواعد العقلية الآبية عن التخصيص ، فهي إذا أخبار متشابهة لا ملزم لنا في تأويلها ، وأقرب المحامل على تقدير التأويل هو حملها على الروايات الواردة في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنّة كالأخبار الدالّة على الجبر والتفويض والقضاء والقدر
ص: 125
ونحوها.
وأمّا الأخبار الدالّة على اعتبار الشاهد ، فقد يلتزم بمفادها في غير خبر العادل لما دلّ على حجّيته كما سيجيء ، وقد يحمل على أصول الدين لموافقة مضمونها في الغالب لهذه الأخبار واتّحاد سياقهما.
وقد يستدلّ على المنع بقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (1) وجه الدلالة أنّ الجهالة باقية عرفا ولغة في موارد أخبار الآحاد ولو كانت من عدل ، وقد حقّق في محلّه أنّ عموم التعليل لا يخصّص بخصوص المورد.
لا يقال : إنّ بعد ثبوت الحجّية بالنسبة إلى أخبار العدل لا جهالة.
لأنّا نقول : ثبوتها في المقام أوّل الكلام.
لا يقال : عموم التعليل عليل بعد خصوص المفهوم من صدر الآية.
لأنّا نقول : المدار عرفا على عموم التعليل ولا يعارضه خصوص المفهوم ألا ترى أنّه لو قال المولى : اجتنب عن خبر الفاسق ؛ لاحتمال الكذب ، يفهم عرفا لزوم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل الكذب ولو كان من العادل ، وسيظهر لك الحال في فساد هذه الحجّة أيضا في عداد أدلّة المجوّزين ، هذا خلاصة ما احتجّ به المانعون في المقام وأجوبتها.
واحتجّ المجوّزون أيضا بوجوه عديدة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.
أمّا الأوّل : فبآيات (2) منها : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الآية وقد احتجّ بها الشيخ في العدّة (3) واقتفى المتأخّرون أثره فيه ، واستند إليها شيخنا الطبرسي في مجمع البيان (4) للمنع. وكيف كان فتقريب الاستدلال بوجهين :
ص: 126
أحدهما : ما في المعالم (1) ومحصّله أنّ وجوب التبيّن معلّق على شرط ، فينتفي على تقدير انتفائه ، فيكون مفاد الآية إن جاءكم عادل بنبإ ، فلا يجب التبيّن. ثمّ إنّه إمّا يجب الردّ ، أو يجب القبول ، والأوّل باطل ؛ لما يلزم من كونه أسوأ حالا من الفاسق ، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.
وثانيهما : أنّ تعلّق الحكم على الفاسق يقضي بانتفائه عند انتفاء وصف الفسق كما هو الشأن في أمثال المقام ممّا تعلّق الحكم فيه على ذات موصوفة ، وإلاّ لوجب أن يقترن الحكم بالذات العارية عن الوصف ، هذا مضافا إلى فهم العرف في خصوص المقام ؛ إذ لا كلام في اعتبار المفاهيم بقول مطلق (2) في مقامات خاصّة وموارد مخصوصة من جهة الاحتفاف بالقرائن المعيّنة الدالّة على اعتبارها ، فمقتضى الوصف في الآية عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل ، فيجب القبول دون الردّ لما (3) سبق.
ويرد على الأوّل أنّ المعتبر في أخذ المفهوم - كما قرّر في محلّه - هو اتّحاد موضوعي المنطوق والمفهوم ، وكذا سائر الوحدات المعتبرة في التناقض ، فالمفهوم من الآية إن لم يجئ الفاسق بنبإ لا يجب التبيّن لا أنّه إن جاءكم عادل بنبإ لا يجب كما هو المقصود.
لا يقال : إنّ الاستدلال بالمفهوم إنّما هو من حيث عموم المفهوم فإنّ عدم مجيء الفاسق بالنبإ يعمّ ما إذا لم يكن هناك نبأ (4) أصلا لا من العادل ولا من الفاسق ، وما إذا
ص: 127
كان الجائي بالخبر هو العادل ، فإنّ السالبة قد ينتفي (1) بانتفاء موضوعه (2) ، وأخرى بانتفاء محموله (3) ، والظاهر هو الثاني ؛ لأنّ السالبة مجاز في انتفاء الموضوع ، فموضوع الحكم في المقامين متّحد باعتبار العموم.
لأنّا نقول : إنّ قضية الاشتراط في القضية الشرطية لا تزيد على انتفاء التالي عند فقد المقدّم ، فوجوب التبيّن مرفوع عند عدم إخبار الفاسق ، ولا عموم فيه بالنسبة إلى إخبار العادل ، فإنّه ليس من أفراده بل إنّما هو حال من الأحوال التي قد يقارن عدم إخبار الفاسق كموت زيد وحياته ، وأكله ولبسه مثلا هل ترى أحدا يقول بأنّ الحالات المقارنة اتّفاقا لفقدان الشرط في الجملة الشرطية من أفراد فقدان الشرط؟ نعم ، لو كان الكلام في قولنا : إن كان المخبر فاسقا يجب التبيّن ، صحّ الاستناد إليه في حجّية خبر العادل بمفهوم الشرط ، لأنّ كون المخبر عادلا من أفراد عدم كون المخبر فاسقا كما لا يخفى. وظاهر عدم جري الآية مجرى هذا القول كان (4) هذا هو (5) منشأ الخلط في الاستدلال بهذه الآية.
ومن هنا يظهر أنّ المناط في القضية الشرطية إنّما هو على انتفاء نفس الشرط ، ولا مدخل للوصف (6) الواقع تلوه ، ولا للّقب فيه كما لا يخفى.
ويرد عليه أيضا أنّ الترديد بين الردّ والقبول بعد عدم وجوب التبيّن ممّا لا حاجة إليه في وجه ، ولا وجه له في آخر ؛ فإنّ التبيّن إمّا أن يكون واجبا غيريّا مقدّميا - كما هو صريح التعليل ، وهو الظاهر من الأمر في خصوص المقام كما يشهد به العرف ، ويعاضده ظهور الإجماع كما حكي عن البعض - أو واجبا نفسيا - كما هو قضية الجمود على ظاهر الأمر بناء على أنّ الأصل هو ذلك - فعلى الأوّل لا حاجة إليه في
ص: 128
وجه ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن هو حينئذ عين القبول كما أنّ الأمر بالتبيّن ليس إلاّ ردّ الخبر والوقوف عنده إلى ظهور الحال ، فالحكم بعدم وجوب التبيّن يلازم جواز العمل قبله ، فهو كناية عن القبول ، فالترديد ليس في محلّه.
وعلى الثاني لا وجه له ؛ لأنّ الردّ (1) - على تقدير أن يكون وجوب التبيّن وجوبا نفسيا - لا يلازم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، فإنّ الوجه فيه - على ما هو مصرّح به في كلامهم - هو لزوم ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده ، وهذا هو عين مراعاة حقّ العادل وملاحظة احترامه ، لاحتمال أن يكون وجوب التبيّن في خبره بواسطة إفشاء أمره وتشييع فاحشته وظهور كذبه ، وأمّا في العادل ، فلا يجب التبيّن من جهة لزوم إخفاء أمره وحفظ سرّه وستر عيبه.
وبالجملة ، فبعد قيام مثل هذا الاحتمال لا دلالة في ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده على كونه أسوأ حالا منه كما هو ظاهر لا سترة عليه.
ويرد على الثاني - بعد تسليم حجّية مفهوم الوصف مطلقا ولو فيما لم يتقدّمه موصوف لفظا أو تقديرا - تعارضه بما يقتضيه التعليل في ذيل الآية ، فإنّ قضيته تعمّ خبر العادل أيضا ، لوجود الاحتمال فيه بعده ، واللازم حينئذ التساقط كما هو الشأن في غيره ممّا يكون النسبة بين المتعارضين عموما من وجه لو لم نقل بتقديم التعليل ؛ لكونه أقوى من المفهوم دلالة ، ولأنّ المستفاد من مثله عرفا هو القضية الكلّية كما في قولهم : « لأنّه حامض » بعد النهي عن أكل الرمّان (2).
ص: 129
ص: 130
ص: 131
ص: 132
ص: 133
ص: 134
ص: 135
ص: 136
ص: 137
ص: 138
ص: 139
ص: 140
ص: 141
ص: 142
ص: 143
ص: 144
ص: 145
ص: 146
الثالث من وجوه تقرير الإجماع على حجّية أخبار الآحاد هو أنّ العقلاء بأجمعهم قد أجمعوا على الاتّكال بالخبر الواحد في أمور معادهم ومعاشهم وإن لم يكن محفوفا بقرائن الصدق بل إنّما وجدنا بعد الرجوع إلى طريقتهم والعثور على شريعتهم أنّ جبلّة كلّ عاقل لو خلّي وطبعه يقضي بذلك حتّى أنّ الزوجة ترجع في أخذ أحكامها إلى زوجها ، والصبيان إلى معلّميهم ، وليس ذلك من حيث عدم مبالاتهم بل هو قضية ما أودعه اللّه فيهم من السليقة القويمة والطريقة المستقيمة ، كيف ولولاه لاختلّ أمور دينهم ودنياهم ، ولم يعتمد أوّلهم على آخرهم (1).
لا يقال : إنكار جماعة من العقلاء جواز التعبّد به ينافي ما ذكر من إطباقهم على
ص: 147
العمل به كما هو المحكي عن ابن قبة (1) وتابعيه.
لأنّا نقول : إنكارهم ذلك مستند (2) إلى شبهة حصلت لهم ، قاضية بذلك بزعمهم ولا ينافي ذلك اعتمادهم عليه من حيث رجوعهم إلى ديدنهم البسيطة الخالصة من شوائب الريب والشبهات كما هو الشأن في أمثال المقام من الأمور الوجدانية المتنازع فيها كالتبادر ونحوه.
فإن قلت : غاية ما يمكن أن يستفاد ممّا ذكر تقرير المعصوم عليه السلام على العمل بخبر الواحد حيث لا دليل على اعتبار الاتّفاق المذكور إلاّ ما قد (3) عرفت وهو بمكان من الضعف بعد ما أسلفنا لك من الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بما وراء العلم ، فإنّها ردع منهم عليهم السلام عن العمل المذكور.
قلت : قد تقدّم أنّ الأدلّة المذكورة مرجعها إلى أمرين :
أحدهما : أنّ التشريع محرّم مثل ما دلّ على عدم جواز الافتراء على اللّه سبحانه.
وثانيهما : أنّ طرح الأصول العملية المقطوع بها من غير علم يرتفع به موضوعها غير جائز كما هو قضية تعليقها على العلم ، وعلى التقديرين لا ينهض ردعا.
أمّا الأوّل ، فلأنّ بعد التسليم عن استقرار بناء العقلاء على شيء لا ينبغي الارتياب في انتفاء التشريع ، وأنّه يعلم طريق الإطاعة والامتثال ، فإنّه بعد ما فرضنا من أنّ هذا هو طريق امتثال العبيد بالنسبة إلى مواليهم فهو في الحقيقة محقّق لموضوع لم يكن قبل.
وأمّا الثاني ، فلأنّ البراءة والاحتياط والتخيير منها (4) وإن كان قد ورد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها إلاّ أنّ العمدة فيها هو حكم العقل المستقلّ القاطع بها على حسب مواردها كما سيأتي إن شاء اللّه ، ومن المعلوم أنّ بعد ما فرضنا من إطباقهم على ذلك لا
ص: 148
وجه لجريان البراءة وأختها كما هو ظاهر.
وأمّا الاستصحاب ، فلم يدلّ دليل على اعتباره إلاّ عدّة من أخبار (1) الآحاد ، ولا سبيل إلى الاستناد إليها في مثل المقام كما لا يخفى ، وبعد الغضّ عن ذلك والتزام قطعية الأخبار الواردة فيه (2) - إمّا بدعوى تواترها ، أو باحتفافها بقرائن تدلّ على صدق إسنادها إليهم عليهم السلام كما ادّعي - الإشكال في ظنّية دلالتها ، غاية ما في الباب الاستناد إلى الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة ونحوها ، وقد عرفت أنّ المرجع فيها في الحقيقة هو بناء العقلاء ، ففي مقام استقرّ بناؤهم على أمر (3) - كما هو المفروض - كيف يتمشّى الأخذ بأصالة الحقيقة كما لا يخفى؟
وبالجملة ، أنّا نمنع من اعتبار الأصول اللفظية فيما انعقد (4) إطباق العقلاء على خلاف مفادها سواء كان المرجع فيها إلى حكم العقل ، أو بناء العقلاء.
ومن هنا يظهر عدم جواز التمسّك بإطلاقات الآيات الناهية عن العمل بمطلق ما وراء العلم في قبال ما ذكر.
فإن قيل : إنّ (5) حجّية الاستصحاب لو كانت (6) من جهة ما يحصل منه الظنّ بالمستصحب ، جاز القول بعدم اعتباره فيما انعقد بناء العقلاء على خلاف مقتضاه ، وأمّا لو كانت (7) من جهة التعبّد به ، فلا وجه لترك الاستصحاب في قباله ؛ إذ مقتضى التعبّد اعتباره مطلقا غير مقيّد بشيء ، وذلك ظاهر فيما لو كان الظنّ على خلاف الاستصحاب ، هذا غاية ما عندنا من البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا ينطبق على الدعوى ، ولا ينهض بتمام المدّعى ؛ فإنّ النسبة بين الدليل والمدّعى في المقام هي العموم من وجه ؛ إذ ليس بناؤهم على العمل بكلّ خبر وإن لم يكن ممّا يعتمد عليه ويوثق به ، ويخرج به
ص: 149
العامل من الحيرة ، كما أنّ بناءهم على العمل بكلّ ما يعتمد عليه وإن لم يكن خبرا وذلك ظاهر ، فإن أراد المستدلّ استقرار بنائهم على هذا العنوان أعني الخبر ، فهو في محلّ المنع (1) وإن أراد أنّهم يعملون بما هو موثوق به ، فلا يتمّ التقريب.
الرابع من وجوه تقرير الإجماع هو إطباق أصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد الكاشف عن رضا رئيسهم ، وهذا ممّا لا يدانيه ريب بعد ملاحظة حالاتهم المنقولة والتتبّع في كلمات أصحابنا الرجاليّين ، وقرّر العلاّمة هذا الإجماع في النهاية على ما حكي بإجماع أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ولعلّه ينظر إلى دفع مقالة من لا يتعبّد بخبر الواحد من العامّة ، وإلاّ فلا يستقيم وجها للمدّعى لعين ما يراه المرتضى على الهدى بعد اعتراضه على نفسه بمثل ما ذكر (2) من أنّ العمل من الأخيار (3) منهم بالأخبار غير معلوم ، ولا عبرة بعمل غيرهم من المتّفقين للأمارة ، والمتكلّفين للخلافة ، الذين ما كان لأحدهم أن يردعهم كما يظهر من الأمثلة الواردة في النهاية للمقام.
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الردع لطف ، وإظهار الحقّ لطف آخر ، وعدم ارتداعهم بذلك غير مضرّ في مقام الإظهار ، فسكوت الحجّة عن عملهم وعدم إظهار بطلان الطريقة المذكورة من العمل بخبر الواحد يدلّ على رضاه بالعمل المذكور ولا غبار عليه.
ثمّ اعلم : أنّ الأدلّة المذكورة كتابا وسنّة وإجماعا مختلفة المفاد حيث إنّ برهة منها تدلّ على أنّ العبرة بخبر الواحد ، وجملة منها (4) يظهر منها الاعتماد على الوثاقة ، وفرقة يكشف عنها الاتّكال على المظنّة كما أنّ فتاوى المجمعين أيضا تحتمل وجوها ، فمنهم من يحتمل اعتماده على عنوان الخبر ولو عن فاسق كما هو المنسوب إلى الحشوية ، ومنهم من يعتبر اشتهار الرواية وضبطها في الأصول المشهورة ، ومنهم من يقتصر على الأخبار الموثوق بها ، ومنهم من يتجاوز عن ذلك إلى الأخبار المظنون صدورها ،
ص: 150
ومنهم من يشترط في قبول الرواية عدالة راويها ، ومنهم من يعمل بالأخبار المروية المسموعة عنهم عليهم السلام شفاها ولا يبالون بترك المكاتبات إلى غير ذلك من الوجوه والاحتمالات.
ثمّ إن كان بعض هذه الوجوه أخصّ مطلقا من بعض ، فالمتيقّن هو الخاصّ كما في من يشترط الوثاقة ومن يعتبر المظنّة ، فإنّ القول بالوثاقة هو القدر المتيقّن وإن كان أعمّ وأخصّ من وجه ، فالمتيقّن من الوجوه المحتملة هو مورد الاجتماع كما فيمن يقول بالعدالة ، ومن يعتمد على الأخبار الشفاهية ، فإنّ القول بالخبر العدل المروي شفاها متيقّن ، وأمّا مورد الافتراق ، فلا ، فالقدر المتيقّن المعلوم اعتباره وحجّيته من الأدلّة المعهودة هو (1) الخبر الجامع لجميع القيود المذكورة ، و (2) على تقدير وجوده ، فلا شكّ في قلّته.
هذا ما اقتضاه النظر الجليّ ، وأمّا النظر الدقيق ، فما اقتضاه القول باعتبار الخبر الموثوق به الذي يحصل منه الاطمئنان ، فإنّ آية النبأ الآمرة بالتبيّن عن خبر الفاسق تقيّد الآيات المطلقة كآيتي النفر والكتمان ، فإنّ التبيّن على ما مرّ ظاهر في التبيّن العرفي سيّما بعد ملاحظة إقرانه بما يوجب الحمل عليه وإن كان بحسب اللغة حقيقة في خصوص العلم.
وتوضيح المقال بأن يقال : يحتمل أن يكون المراد بالتبيّن طلب العلم بحقيقة الحال في خبر الفاسق على أن يكون المناط في الحكم هو العلم من غير اعتماد على إخبار الفاسق له بعد ظهور صدقه وعدم خفاء مدلول خبره كما هو الظاهر من لفظه عند تجرّده عمّا يوجب حمله على خلافه ، وحينئذ يتّجه القول باعتبار العدالة تعبّدا ، ويحتمل أن يكون المراد به هو التبيّن العرفي بحيث يعدّ في العرف تبيّنا بأن يكون المناط هو وثاقة الخبر كما هو الظاهر في خصوص المقام ؛ للزوم حمل الخطابات على متفاهم
ص: 151
العرف ، وكثيرا ما يستعمل لفظ التبيّن عند العرف ويراد به الظهور وعدم الخفاء ، ولا نعني بالوثاقة إلاّ هذا المعنى ، مع أنّ التعليل المذكور في الآية - وهو خوف إصابة القوم بجهالة والإصباح على الندامة - ممّا يرتفع به نقاب الشكّ عن وجه المطلوب حيث لا خوف مع حصول الوثاقة ، ولو رام الخصم دفع هذا الاحتمال رأسا بأن يلتزم بلزوم تحصيل العلم بانتفاء خوف الإصابة ، يلزمه (1) عدم اعتبار خبر العادل أيضا ؛ فإنّ طريق احتمال خوف الإصابة والندامة لا ينسدّ بالعدالة ، فيناقض صدر الآية الدالّة على اعتبار خبر العادل ذيلها (2) لما عرفت ، فمقتضى الجمع هو حمل التبيّن على التبيّن العرفي كما ذكرنا.
فظهر ممّا ذكر تقييد الآية المذكورة بحصول الوثاقة ، فلا بدّ من حمل مطلقات الآيات على مقيّداتها كما هو الشأن في غيرها من الأدلّة المطلقة مع المقيّدة. هذا هو الكلام في الآيات.
وأمّا الأخبار ، فالمستفاد منها حقيقة هو الاعتماد على الخبر الموثوق به وإن لم يكن من عادل ، فإنّ جملة منها وإن كانت مطلقة إلاّ أنّ بعضها كما مرّ مقيّدة بالوثاقة ، فيقيّد مطلقها ، وإذ قد عرفت عدم اعتبار العدالة تعبّدا ، فلا سبيل إلى تقييد مطلقاتها بالعدالة.
وأمّا الإجماع ، فالإنصاف انعقاده على مطلق الخبر الموثوق به على وجه تسكن إليه النفس ، ولا يحتاج في تحصيل هذا الإجماع إلى ضمّ فتاوى جماعة يعتبرون العدالة ، فإنّ الرجوع إلى أحوال أصحاب الأئمّة وكلمات أصحاب الرجال وملاحظة ما يستفاد من مطاوي عبائرهم كاف في التحصيل (3) غاية الكفاية.
فإن قلت : هذا مناف لما انعقد عليه إجماعهم من اشتراط قبول خبر الواحد
ص: 152
بالعدالة على ما ادّعاه جماعة.
قلنا : أمّا شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس سره القدوسي فقد فسّر العدالة بالتحرّز عن الكذب (1) ، وهذا المعنى ممّا لا ريب في اشتراطه ، ولا يضرّ لما نحن بصدده ، وأمّا من فسّرها بالملكة أو بغيرها ممّا ينافي ما ذكرنا ، فالتحقيق أنّه ناش من اجتهادهم في آية النبأ ، وذهابهم إلى أنّ المراد من التبيّن هو التحقّق والتثبّت العلمي ، وبعد ما عرفت من فساد المبنى ، فلا وجه للاتّكال على البناء ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ شرط العمل بخبر الواحد في نفسه - مع (2) قطع النظر عمّا يوجب الوثاقة من القرائن الخارجية والاكتفاء بالقرائن الداخلية - العدالة كما هو صريح المحقّق في المعتبر (3) ، وليس ما قلنا حديثا مستحدثا أخبرناه من عند أنفسنا بل هذا هو بعينه ما اعتمد عليه القدماء من أصحابنا الإمامية من الأخبار الموثوق بها على ما صرّح به جماعة من أنّ الصحيح عندهم ليس على مصطلح المتأخّرين بل كلّ ما كان معمولا عند الأصحاب ، مقبولا لديهم - ولو باكتنافه بالقرائن المفيدة لذلك - فهو صحيح عندهم.
وأمّا المتأخّرون من أصحابنا أيضا اضطرّوا إلى تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المعهودة بعد اختفاء القرائن المكتنفة بها ؛ تحصيلا لما يمكن استناد الوثوق إليها ، ولم يبق لنا قرينة تدلّ على الوثاقة إلاّ ما دوّنوها أصحابنا الرجاليين (4) في تراجمة رواة الأخبار ، وما تكرّر من مضامين جملة من الآثار في الكتب المتداولة وسوى ما يوجّه من انطباق الخبر بعمل الأصحاب ، فجزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء ، فلولا
ص: 153
تدوينهم أحوال رجال الرواية وما نصّهم الأخبار الموجبة للهداية ، وتصنيفهم الكتب الفقهية المورثة للدراية ، لاندرست آثار الشريعة.
وبالجملة ، بعد ملاحظة الآيات المذكورة ، والأخبار المسطورة والإجماعات المحكيّة ، عن الشيخ (1) وابن طاوس (2) والعلاّمة (3) لنا (4) يحصل القطع - بحيث لا يشوبه ريب ، ولا يدانيه شكّ - برضا المعصوم عليه السلام على العمل بالأخبار الموثّقة المعمولة المقبولة التي تسكن النفس لدى العمل بها ولو من فاسق بل وكافر ، ولا ينبغي الجمود على ظاهر العدالة بعد ما قرّرنا من أنّها تكشف عن وثاقة الرواية.
قال الأستاذ دام ظلّه : ولست أوّل من اخترع هذا المذهب ، فإنّه بعينه هو المنقول من (5) القدماء ، فهذا شيخنا البهائي قد أورد في مشرق الشمسين (6) على ما حكاه المحقّق الثالث رحمه اللّه عنه ما فيه غنية عن غيره ، فراجعه.
وقد يستدلّ للقول باشتراط العدالة بوجوه :
منها : ظاهر آية النبأ وقد مرّ وجه التقريب والمناقشة.
ومنها : الإجماعات المنقولة في جملة من (7) كلمات أساطين الفنّ وقد مرّت (8) الإشارة إليها بجوابها.
ومنها : جملة من الأخبار المأثورة في الباب ، وبرهة من الآثار المسطورة في أحوال الأصحاب مثل ما روي عنهم عليهم السلام بعد ما سئل عنهم : « خذوا [ ب- ] -ما رووا وذروا ما رأوا » (9) فإنّه بظاهره يعطي اشتراط العدالة ، وإلاّ فلا وجه للسؤال كما لا يخفى.
ص: 154
وما نقل في ترجمة إبراهيم بن عبد الحميد من أنّه لم يعتمد عليه بعض مشايخ أصحابنا معلّلا بأنّه لم يرو عن الرضا عليه السلام مع إدراكه الصحبة (1) إلى غير ذلك من الوجوه الغير الخفية على المتتبّع إلاّ أنّ الظاهر منها هو بيان طريق الوثاقة والاجتهاد فيه ، مع أنّ الرواية يمكن قلبها عليهم حيث أمر بالأخذ بروايتهم مع ظهور فسقهم مضافا إلى ما ادّعيناه من (2) الإجماع.
وبالجملة ، فالأمارات وإن تعارضت من الطرفين إلاّ أنّ المتدبّر المتفطّن المتدرّب بالأخبار وأحوال الرجال وفقه أصحابنا الأخيار يظهر له ما قلنا كما يكشف عنه ما ورد في بعض الأخبار العلاجية (3) من الأمر بالأخذ بما قال به أوثق الراويين ، فتدبّر في المقام ؛ فإنّه من (4) مزال الأقدام ، ومهابط الأوهام ، ومطارح الأفهام ، وعليك بالإنصاف ، وترك الاعتساف في تحصيل الوثاقة التي اعتبرناها ، فإنّها بعد إمعان النظر ممّا لا يقبل الإنكار ، فإنّ أكثر الأخبار المودعة في كتب أصحابنا ممّا تركن النفس إليه من جهة صدوره من الإمام ، واحتمال السهو والنسيان والإرسال ممّا يندفع بالأصول المتّفق عليها ، ولا يضرّ في تحصيل الوثاقة على ما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في الآيات والأخبار والإجماع.
وأمّا العقل ، فقد يقال : إنّه تارة يحكم باعتبار أخبار الآحاد بالخصوص ، وأخرى يحكم بعنوان كلّي كالظنّ مثلا وهو يشمل بعمومه أخبار الآحاد أيضا ، فلنذكر كلاّ منهما في مقام خاصّ به.
المقام الأوّل في بيان الأدلّة التي تدلّ على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص :
ص: 155
فمنها : أنّا بعد ما وجدنا وثاقة رواة الأخبار واجتهادهم في تصحيح الآثار مع وفور علمهم وكثرة ورعهم وزيادة حذاقتهم ، علمنا علما ضروريا - لا ريب يدانيه ، ولا شكّ يعتريه - بصدور جملة كثيرة من الأخبار المودعة في كتب أصحابنا مثلا من معادن الوحي ومهابط التنزيل.
وكفاك شاهدا في المقام مراجعة ما قيل في بعض مشايخ الرواية وهو العيّاشي صاحب التفسير من بذله ثلاثمائة ألف دينار في تنقيح الأخبار ، فكان بيته كالمسجد بين قار أو كاتب ومقابل ومصحّح ، وكيف لا مع أنّا لو حاولنا كتابة كتاب يشتمل (1) على أحوال معاصرينا - وإن لم يرتبط بأمر ديني - نبذل الجهد في تنقيحها وتحصيل ما هو الواقع من حالهم والاحتراز عن الأكاذيب بل عمّا لا نثق به ، ولا نعتمد عليه ، ولعمري إنّ مؤلّفي كتب الأخبار لا يقصر حالهم عن أصحاب النقل ، وأرباب التواريخ وأئمّة اللغة ، فكما أنّا نعتمد عليهم في نقلهم ، ويحصل لنا العلم بل القطع بمطابقة جملة ما ألّفوها ، فكذا يحصل لنا العلم في المقام بصدور جملة من الأخبار ولو بألفاظ مترادفة تفيد مفادها من مخازن العلم ، وبعد إحراز هذا الموضوع نقول : يجب العمل بما علمنا أنّه قول المعصوم من أمر أو نهي مثلا ، فإن علمناه بخصوصه ، فهو ، وإلاّ فلا بدّ إمّا (2) من العمل بجميع المحتملات عند إمكان الاحتياط ، أو تعيين القول الصادر بطريق ظنّي لقضاء العقل القاطع به وهو المطلوب.
وفيه أوّلا : أعمّية الدليل عن المدّعى ، فهو في الحقيقة ينهض على المقام الثاني ؛ فإنّ مناط وجوب العمل بقول المعصوم ليس هو قوله من حيث قوله بل من جهة كشفه عن الواقع ، ومع التنزّل ، فالعبرة بمطلق رضائه ونحن نعلم علما إجماليا بمطابقة جملة من الأمارات الظنّية كالإجماع المنقول والشهرة وعدم الخلاف ونحوها للواقع ، فيلزم رضا المعصوم به ، فالدليل المذكور لو تمّ ، يدلّ على اعتبار مطلق الأمارات الظنّية حيث
ص: 156
ما عرفت من تنقيح مناطه وحصوله في غير المدّعى أيضا.
لا يقال : حصول العلم بمطابقة بعض مضامين الشهرات مثلا ممنوع ، فلا يستقيم دفعا.
لأنّا نقول : بعد الإغماض عن ادّعاء حصول العلم فيها إذ كما أنّ الأخبار حكايات عن الواقع ، فالشهرات أيضا كذلك ، فلا أقلّ من حصول العلم بانضمام أمارة ظنّية أخرى كالإجماع المنقول إليها.
ولو سلّمنا عدم حصول العلم بانضمام الأمارات جميعها إليها ، فلا أقلّ من حصول العلم بانضمام الأخبار إليها ، وليس ذلك من جهة انضمام الأخبار إليها بحيث لم يكن لها مدخل في حصول العلم كما قد يتوهّم بل يحصل العلم بملاحظتها أيضا.
وممّا يدلّك على ذلك أنّه لو ضمّ إليها صنف من الأخبار كالضعاف مثلا بحيث لم يحصل فيه العلم بملاحظة نفسه ، يحصل العلم بمطابقة جملة مردّدة بملاحظة (1) المضموم والمضموم إليه بالواقع على ما لا يخفى.
وبالجملة ، فالمناط في لزوم العمل بالخبر هو كشف الواقع مع اقترانه برضا المعصوم ، والعلم المدّعى بمطابقة جملة من الأخبار بالواقع أيضا حاصل في غيرها من الأمارات ، فلا وجه لتخصيص الدعوى بها دون غيرها بعد قضاء البرهان في غيرها أيضا.
وثانيا : سلّمنا عدم حصول العلم في غيرها من الأمارات ولو بانضمامها إليها - كما هو المفروض سابقا - لكنّ الدليل مع ذلك يعمّ غير المدّعى ؛ فإنّ المدّعى اعتبار الأخبار المظنون صدورها ، وبعد ما عرفت من أنّ مناط الدليل هو مطابقة الواقع ، يلزم القول باعتبار الخبر الموهوم صدوره فيما لو طابق أمارة ظنّية كاشفة عن الواقع مثل انجباره بالشهرة ، أو بالإجماع المنقول وغير ذلك ، فإنّه حينئذ مفاده ظنّي يورث
ص: 157
الظنّ بالواقع مع وهم سنده وصدوره ، لكنّه يلزم العمل به بمقتضى الدليل المذكور.
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مطابقة (1) مضمون الخبر بأمارة ظنّية ، وانجباره بها مثلا (2) يوجب الظنّ بصدور الخبر ولو بلفظ يؤدّي مؤدّاه ، فالموهوم هو صدور تلك الألفاظ الخاصّة وهو لا ينافي ظنّية صدور مرادفاتها ، فيصدق عليه أنّه خبر مظنون الصدور ولو بلفظ مرادفه كما لو (3) أخبر من لا يظنّ بصدقه من إمام بأنّه قال مثلا : الهرّة طاهر ، وكان موافقا لما عليه الأصحاب ، يظنّ بصدوره عن (4) المعصوم ولو بلفظ آخر كالسنّور ونحوه.
وثالثا : إنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فإنّ قاعدة الشغل يقضي بوجوب العمل بالأخبار المثبتة للتكليف.
وأمّا الأخبار النافية له كقوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (5) وما يدلّ على عدم لزوم الاجتناب عن المباحات العقلية والأخبار النافية لأجزاء الماهية (6) وشروطها بخصوصها أو عمومها ، فلا دلالة في الاحتياط على لزوم العمل بها والاستناد إليها بل ومقتضى الاحتياط (7) ترك العمل بها (8) مثلا قوله : « كلّ شيء مطلق » (9) قد دلّ بعمومه على نفي العقاب في شرب التتن عند فقد نصّ فيه بالخصوص أو مع وجوده ، وإجمال الدلالة والاحتياط لا يقضي بالأخذ بل ربّما كان الاحتياط على خلافه وترك الشرب
ص: 158
والإتيان بالمحتملات في مقام الشكّ في الشرط أو الجزء مثلا.
لا يقال : يمكن إتمام الدليل والتقريب بعدم القائل بالفرق وانتفاء القول بالفصل.
لأنّا نقول : الاستناد إلى مثل ذلك إنّما يصحّ فيما لو احتملنا اتّحاد طريق الحكم في طرفي الإجماع ، وأمّا فيما لو علمنا باختلاف جهتي الحكم في طرفي الإجماع ، فلا وجه للاستناد إليه.
وبالجملة ، فالإجماع المركّب إنّما يكشف عن اتّحاد علّة الحكم فيما إذا كان الحكم توقيفيا موقوفا على بيان الشارع ، وأمّا بعد ما فرضنا من العلم بعدم وجود شيء يجمعهما فلا.
ومنها : ما استند إليها الفاضل الكامل الملاّ عبد اللّه التوني في محكيّ الوافية (1) بعد ذهابه إلى اعتبار الأخبار المودعة في الكتب المعتبرة المعمولة عند جماعة بحيث يخرج عن وصف الشذوذ من (2) أنّا نعلم علما ضروريا بكوننا مكلّفين بأصول كلّية ضرورية كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها من العبادات والأحكام والعقود والإيقاعات مثلا ، ونعلم علما إجماليا بأنّ بيانات أجزاء تلك الأصول والكلّيات وشرائطها إنّما اشتملت عليها جملة من أخبار (3) الآحاد وحيث لا نعلمها بالخصوص فلا بدّ من العمل بالأخبار في بيان تلك الحقائق ، وإلاّ لخرجت عن كونها تلك الحقائق ، بل ولا محيص عن ذلك ، فإن كان من ينكره باللسان فقلبه مطمئن بالإيمان.
ويرد عليه أنّ الدليل يعمّ الدعوى في وجه ، ويخصّها في وجه آخر ، فلا يتمّ التقريب.
أمّا أوّلا ، فلأنّ تلك الحقائق الكلّية إمّا أن تكون مجملة أو مطلقة ، ولا يكاد يشتبه الفرق بينهما عند أولي الأنظار المستقيمة ، فإنّها على الثاني تستقيم دفعا لبعض
ص: 159
المحتملات أخذا بالإطلاق بعد إحراز ما هو المتيقّن اعتباره فيها بخلاف الأوّل ، فلا ينهض برفع جزء محتمل ، أو شرط مردّد حيث إنّها من أصلها غير معلومة المراد على هذا التقدير ، فلا مناص من الإتيان بجميع المحتملات ، وذلك على حذو قولهم فيما لو قلنا بأنّ أسامي العبادات إنّما هي للصحيحة ، أو قلنا بأنّها للأعمّ لكن كثرة المخصّصات والمقيّدات قد أجملها (1) ، فلا ينهض بإطلاقه في دفع المحتملات في غير المتيقّن.
وبالجملة ، فلو كانت تلك الحقائق مجملات ، فلا بدّ إمّا من الإتيان بجميع ما يحتمل كونه شرطا ، أو جزءا في بيان تلك الماهيات المجملة الثابتة بالضرورة لو قلنا بأنّ المعتمد بعد عدم التمكّن من الوصول إلى حقائق أجزاء تلك الحقائق وشروطها هو الاحتياط ، ولا فرق في ذلك في نظر العقل بين الأمارات من (2) حيث إنّ اعتبار الأخبار أوّل المدّعى ، فلو احتملنا من الشهرة جزئية شيء لحقيقة الصلاة المجملة ، نقول بلزوم الإتيان به إلى غير ذلك من الموارد ، فلا وجه لتخصيص الاعتبار على هذا التقدير بالأخبار بعد جريان الدليل في غيرها أيضا كما أنّه لا وجه للتخصيص المذكور لو قلنا بأنّ المرجع في بيان المجمل في الفرض المذكور على الأجزاء المظنونة ؛ إذ لا فرق أيضا في نظر العقل بين الأمارات الظنّية فالقول باعتبار بعضها دون غيره مع اتّحاد المناط في الكلّ ممّا لا يصغى إليه ، ولو كانت الحقائق الثابتة بالضرورة مطلقة مع العلم بأنّ جملة من شرائطها وأجزائها تشتمل عليها الأخبار ، فليعمل في إحراز الشرائط والأجزاء بصنف (3) خاصّ من الخبر مع دفع المحتملات الأخر بأصالة الإطلاق ، أو أصالة البراءة على القول بها.
فإن قلت : وبعد ذلك يعلم أيضا بوجود التقييدات في صنف آخر غير ما علمنا به ،
ص: 160
فلقائل أن يقول : إنّا نعلم أيضا بوجود التقييدات في غير الخبر من سائر الأمارات.
ودعوى وجود العلم في الأخبار ولو فرضنا منها صنفا يبلغ مائتين مثلا ، أو أقلّ ، أو أكثر وعدمه في غيرها من (1) الأمارات ولو بعد انضمام بعضها إلى الآخر مكابرة واضحة ، ومجازفة بيّنة ، وعهدتها على مدّعيها ، فإن استند إلى (2) عدم الكفاية في الاكتفاء بالخبر الصحيح مثلا ، فلقائل أن يقول : يمكن الاستناد إليه في الاكتفاء بمطلق الخبر ، فلا بدّ من التعدية بحسب الدليل ، مع أنّ الدعوى خاصّة بالخبر.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ الدليل المذكور يقضي بلزوم الإتيان بجميع ما يحتمل كونه جزءا ، وكان ممّا يستفاد من الخبر سواء كان ممّا اجتمع فيه القيدان المأخوذان في الدعوى ، أو لم يشتمل عليهما معا ، أو أحدهما لو لم يحكم بلزوم تعيين المقيّدات المثبتة للأجزاء والشرائط بطريق ظنّي كما أنّه يقضي بالاقتصار على الأخبار المظنونة في الظنّ ، مع أنّه لا يلازم القيدين المعتبرين في العنوان ، فيلزم اعتبار قيد الظنّ أيضا وهو ممّن لا يقول به.
وبالجملة ، فالمرجع في الدليل إن كان هو الدليل الرابع ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها.
وأمّا ثالثا : فلأنّ محصّل الدليل هو الأخذ بالاشتغال ، ومقتضاه لا يزيد عن العمل بالأخبار المثبتة للتكاليف دون غيره كما عرفت تفصيل القول فيه في الردّ على الوجه الأوّل في المقام.
وأمّا الاستناد إلى الإجماع المركّب ، فكما مرّ لا وجه له بعد العلم بانتفاء العلّة المستندة إليها الحكم في أحد جزءي الإجماع.
ومنها : ما أفاده بعض أعاظم محقّقي المتأخّرين في تعليقاته على المعالم (3) في ضمن
ص: 161
كلام طويل ، فلنقتصر على بيان الملخّص منه وهو أنّ الضرورة الدينية قاضية بوجوب الرجوع في الكتاب في جميع الأعصار والسنّة ، مضافا إلى الأخبار الواردة في هذا المضمار البالغة حدّ التواتر ، وحيث علمناها (1) بالخصوص ، فلا إشكال كما أنّه لا إشكال فيما لو قام قاطع على نفيها (2) ، وأمّا فيما لو انسدّ باب العلم أو ما قام مقامه إليهما ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في طريق نفيهما (3) كما هو الشأن في كلّ ما انسدّ فيه باب العلم على ما يقضي به العقل القاطع ، فيلزم لزوم العمل بالسنّة المظنونة وهو المطلوب.
ويرد عليه إجمالا : أنّ هذا الدليل مرجعه في الحقيقة إلى دليل الانسداد ، فلا ينهض بإثبات لزوم (4) العمل بالأخبار كما هو المناط في المقام ، وتفصيلا أنّ المستدلّ إن أراد من السنّة قول المعصوم وفعله وتقريره - كما يشعر إليه دعواه بقيام الضرورة عليه ، واقترانه بالكتاب وبقاء التكليف بالعمل به - فهو في محلّه إلاّ أنّه غير مختصّ بما زعمه من أخبار الآحاد حيث إنّ الشهرة والإجماع المنقول أيضا من السنّة المظنونة بهذا المعنى ، وغيرهما من الأمارات التي تكشف عن السنّة بالمعنى المذكور.
وتوضيح ذلك : أنّ الحاصل من المقدّمات المذكورة وجوب الأخذ بما ظنّ كونه سنّة بعد انسداد طريق العلم إليها ، فلنا أن نقول : إنّ الشهرة أيضا ممّا يظنّ كونه سنّة على ما هو المفروض من السنّة بل قد يمكن أن يقال : إنّها أقوى في استكشاف السنّة عنها من (5) غيرها ؛ إذ ابتذال مدلوله واشتهار مفاده عند الأصحاب مثلا ممّا يؤكّد صدور قول أو فعل أو حصول تقرير منهم فيه ، وهكذا نقول في غيرها من الأمارات الظنّية.
لا يقال : غاية ما هناك لزوم الأخذ بالشهرة والإجماع وغيرهما من الأمارات الكاشفة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وأمّا غيرها من الأمارات - التي هي في
ص: 162
عرض قول المعصوم أو فعله أو تقريره ما يستكشف بها من المصلحة الكامنة (1) والحكم الواقعي كالأولوية والاستقراء ونحوهما - فلا دليل على اعتبارها.
لأنّا نقول : أوّلا : لا يهمّنا البحث فيها ؛ فإنّ لها مقاما سيأتي ؛ إذ يكفي في الردّ على المستدلّ في المقام جريان دليله في غير مدّعاه بعد ما زعمه من الاختصاص ولو في مورد.
وثانيا : أنّ الأولوية أيضا كاشفة عن السنّة ؛ إذ ليس الكلام فيما حجب اللّه علمه عن العباد ، وجعله من مخزون العلم عنده بل الكلام في الأمور العادية التي بيّنوا أحكامها ، فالأولوية في واقعة كذائية تورث الظنّ بالواقع وهو يلازم ظنّ صدور سنّة منهم عليهم السلام عليه كما لا يخفى.
وثالثا : إنّ العمل بالسنّة وجوبه ليس وجوبا نفسيا من جهة اعتبارها من حيث هي هي ؛ إذ الأدلّة التي دلّت على وجوب العمل بالسنّة لا يزيد مفادها على لزوم الأخذ بها من جهة كشفها عن الواقع والأولوية لو لم نقل بالأولوية من جهة كشفها عن الواقع ، فلا أقلّ من عدم اقتصارها عن غيرها ، فلا مناص من الاتّكال عليها وورودها على المستدلّ هذا ، وإن أراد المستدلّ من السنّة المدّعى على لزوم العمل بها ضرورة الدين والإجماع بالخبر الخالي عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فإن أريد بالخبر القطعي ، فمسلّم لكنّه غير مفيد ؛ إذ هو على تقدير معلوميّته ممّا لا ينبغي التكلّم فيه ، وعلى تقدير عدم معلوميّته والعلم به إجمالا يرجع الدليل إلى الوجه الأوّل ، وإن أريد الخبر الظنّي فالضرورة قضت بعدم ضرورة لزوم العمل به ، كيف وهو المعركة العظمى وأوّل المدّعى.
وبالجملة فإن آل إلى رابع الأدلّة ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل من وجوه الأدلّة التي يمكن الاستناد إليها في حجّية أخبار الآحاد
ص: 163
بالخصوص نقلا وعقلا ، وحاصلها اعتبار الأخبار الموثوق بها ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الوثوق أمر إضافي لا ينضبط غالبا بل هو موكول إلى نظر المجتهد ، فربّما يتخيّل من لا خبرة له بأمر الأخبار والرواة أنّ شيئا من الروايات المودعة في كتب أصحابنا كالكافى والتهذيب والوافى والفقيه مثلا ممّا لا وثوق بها بل إنّما هو مجرّد سواد على بياض ، كما أنّه قد يتوهّم أنّ جلّ الأخبار بل كلّها أخبار موثوقة ، ولا اعتبار بما تخيّل ، ولا بما توهّم بل لا بدّ من العامل بذل جهده في تشخيص غثّها عن سمينها ، وصحيحها عن سقيمها ، ولنشرع في بيان الوجوه التي تدلّ بعمومها على حجّية الخبر وهي لعموم قضيتها وإن كانت تشمل غير الخبر من الأمارات الظنّية إلاّ أنّ بعد ما قرّرنا من اعتبار الأخبار الموثوقة يمكن استرجاع الدليل هذا إلى الخبر بدعوى كفايته في الفقه حيث إنّه لا يختصّ صنفا خاصّا دون غيره وكونه القدر المتيقّن.
ثمّ إنّا لمّا نفترق بين المسائل الأصولية والموارد الفقهية في العمل بالظنّ الموثوق به ، فلو ظنّنا ظنّا موثوقا به باعتبار أمارة ظنّية غير (1) موثوق بها ، نلتزم بالعمل (2) بها كما لو حصل لنا الظنّ الذي يسكن إليه النفس باعتبار الشهرة مثلا أو الأولوية الظنّية مثل ما لو حصل الوثوق في الحكم الفرعي من نفس الأولوية التي لا ترجع إلى دلالة اللفظ كما نرى في الحكم بحرمة امرأة ذات عدّة على من دخل بها في أيّام العدّة احتراما للفروج ، فإنّها أولى من امرأة ذات بعل (3) أولوية لا تكاد تنكر بل لا يستبعد (4) أن يستند إليها القائل بالظنّ الخاصّ أيضا كالأولوية التي تكون في أفعال الصلاة بالنسبة إلى ركعاتها مثلا ، لو قلنا بكفاية الظنّ في إحراز ركعات الصلاة عند الشكّ فيها ، نقول : إنّه (5) أولى في الكفاية عن إحراز (6) الركعات - وهي الأفعال - أولوية موثوقة بها كما هو
ص: 164
ظاهر ، بخلاف ما لو لم تفد الوثوق كما زعم بعضهم أولوية الماء المختلط بالدم في الحكم بكونه معفوّا عنه عن نفس الدم مثلا ، فتدبّر.
الأوّل : ما استند إليه جماعة من أصحابنا وجملة من الجماعة (1) وهو أنّ في مخالفة ما ظنّه المجتهد مظنّة ضرر ، وكلّ ما فيه مظنّة الضرر يجب الاحتراز عنه ، فيجب الاحتراز عن مخالفة ما ظنّه المجتهد وهو المطلوب.
أمّا الصغرى ، فلأنّ المخالفة تلازم إمّا خوف إصابة العقاب اللازم للأمر ، أو المفسدة القائمة المقتضية للأمر على ما هو قضية القواعد للطائفة العدلية على سبيل منع الخلوّ بناء على ما زعمه الأشاعرة من انتفاء المفسدة إلاّ أنّه لا أقلّ من مظنّة العقاب في صورة المخالفة على تقديره ، ولا ريب في أنّ العقاب والمفسدة ضرر ، فخوف إصابتهما خوف إصابة الضرر ، مثلا لو ظنّ المجتهد بوجوب واقعة من أمارة ، فلا شكّ أنّ العمل بخلافها حينئذ يلازم العقاب (2) ، أو الوقوع في مفسدة كامنة فيها وهو المراد بالصغرى.
ويمكن تقرير الصغرى بوجهين : بجعل خوف إصابة الواقع تارة محمولا ، والوقوع في المفسدة أخرى كما عن العلاّمة في النهاية إلاّ أنّ فيما ذكرنا غنية عنه ، وأمّا الكبرى ، فضرورة العقل تقضي بها بل وهي من أجلى الضروريات بل عليها مدار جملة من الأصول الدينية ، ولولاه لانسدّ طريق النبوّات ، وانفتح سبيل الهفوات بل يمكن القول بلزوم دفع الضرر الموهوم ، فكيف بالمظنون ، وإنّ من البديهي استقرار طريقة العقلاء في الاجتناب عن إناء يحتمل السمّ فيه لو لم يكن معارضا بما هو أقوى منه ، أو مساو
ص: 165
له.
ودعوى انتساب (1) المجتنب عن الموهوم إلى أصحاب السوداء والجنون إنّما يسلّم في صورة المعارضة دون غيرها.
واعترض على الدليل بوجوه يرجع إلى منع الصغرى بعضها ، وإلى الكبرى بعضها الآخر ، وإلى عدم ترتّب النتيجة بعضها الثالث.
أمّا الثاني ، فوجوه : منها : ما أورده الحاجبي (2) ، وأمّا لو قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين على ما رآه العدلية ، فالعقل إنّما يحكم بأولوية دفع الضرر المظنون ، ولا يحكم بوجوبه.
وفيه أوّلا : أنّه لا فرق في العقول بين الضرر القطعي والظنّي ، فكما أنّ العقل يستقلّ بإدراك وجوب دفع الأوّل ، فكذا في الثاني ، كيف وهو من مباني أصول المعرفة كوجوب معرفة اللّه ولولاه ، لزم إفحام (3) الأنبياء على ما قرّر الوجه في الجميع في محلّه ، وهذا القول منه وأضرابه - الذين ختم اللّه على قلوبهم وأبصارهم - ليس بعجب بعد إنكارهم أصل التحسين والتقبيح ، ولنعم (4) ما قيل : من لا يعرف الفقه ، فقد صنّف فيه.
وثانيا : أنّ الأدلّة الشرعية قاضية أيضا بوجوب دفع الضرر ، فلا يتأتّى منه أيضا إنكار الكبرى كقوله تعالى : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) (5) وقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (6) وقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (7).
ص: 166
والتقريب في الكلّ واضح بعد ما ترى من (1) الأمر بالتبيّن والحذر لخوف إصابة الفتنة والجهالة والندامة ، فالكبرى على أنّها ضرورية مبيّنة مبرهنة متبيّنة (2) أيضا.
الثاني : ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (3) وهو أنّ العقل إنّما يستقلّ في إدراك وجوب دفع الضرر الدنيوي الذي (4) له تعلّق بأمور المعاش (5) دون الأخروي الذي يرجع إلى المعاد وهو بظاهره غير سديد ؛ إذ بعد ما فرضنا من الصغرى - سواء كان متعلّقا بأمر الدين أو الدنيا - فإنكار الكبرى ممّا لا ينبغي لذي مسكة اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى إنكار الصغرى حيث إنّ الأمور الأخروية مبنيّة على دليل علمي ، فمتى لم نجد يحكم العقل بعدم التكليف ولو في مرحلة الظاهر ، فلا تكليف قطعا ولو بملاحظة أدلّة البراءة ، فلا عقاب.
الثالث : ما أفاده المحقّق في المعارج (6) من النقض بالخبر الفاسق والقياس وغيرهما ممّا قام القاطع على عدم حجّيته.
ويمكن التفصّي عنه أوّلا بما قد يستفاد من تضاعيف كلمات الفاضل القمّي رحمه اللّه (7) من الالتزام به مرّة ، وإنكار حصول الظنّ أخرى ، وليس في محلّه كما سيجيء.
وثانيا : أنّ مخالفة الظنّ الحاصل من القياس وإن كان يوجب خوف إصابة الفتنة إلاّ أنّه لا قبح في العقل أن يحكم الشارع بإلغاء ذلك نظرا إلى احتمال وقوع العامل بالقياس من جهة عمله به في محذور أشدّ مفسدة ، وأقوى فسادا.
وتوضيحه : أنّه لو ظنّ المجتهد بواسطة قياس ظنّي بحكم ، فلا شكّ أنّ مقتضى لزوم
ص: 167
التحرّز عن الضرر المظنون - كما هو مفاد الكبرى - وجوب متابعة القياس والعمل بمفاده حيث (1) إنّ العمل بالقياس أيضا واقعة من الوقائع ، فيحتمل أن يكون فيها مفسدة أشدّ من المفسدة التي تكون في الحكم المستنبط من القياس ، لأجلها قد ألغى الشارع العمل ، مثلا لو ظنّ بحرمة العصير العنبي قياسا له على الخمر ، ففي استعمال العصير بحكم الظنّ الحاصل من القياس مظنّة ضرر ، فكذا في العمل بالقياس والاجتناب عنه من حيث استناده إلى القياس ، ويجوز للشارع في مقام الجعل طرح الأوّل والحكم بأخذ الثاني متى ما كانت المفسدة الكامنة فيه أقوى ، وليس ذلك من التخصيص في حكم العقل حتّى يقال : إنّ حكم الشرع ليس موافقا لحكم العقل بل كلّ منهما يلازم الآخر بل هو تخصيص وتقييد لمورد حكم العقل.
وبالجملة ففيما نحن بصدده نلتزم بعدم لزوم دفع الضرر المظنون في مخالفة المسألة الفرعية نظرا إلى لزوم دفع الضرر المظنون في المسألة الأصولية ؛ لاحتمال أن يكون الضرر المحتمل فيها أقوى ، وأمّا ما قد يجاب (2) عن مثله بقيام الإجماع على خروجه ، فممّا لا يصغى إليه بعد ما عرفت من أنّ الكلام في جعل الشارع كما لا يخفى.
فإن قلت : إنّ بعد ما استكشفنا من نهي الشارع مفسدة كامنة في العمل بالقياس لأجلها منعنا عن (3) العمل به ، وحاولنا إنكار العمل به لاحتمال أن يكون المفسدة فيه أقوى من المفسدة في الحكم المستخرج منه ، فلا يجوز العمل بكلّ أمارة حيث إنّ الشارع قد نهى عن العمل بها لعموم ما دلّ على حرمة العمل بمطلق ما وراء العلم ، فبعد ملاحظة نهي الشارع عنها يحتمل أن يكون المفسدة الموجبة للنهي عن العمل بالظنّ زائدة على المصلحة المقتضية للعمل به ، وأشدّ من المفسدة المترتّبة على ترك العمل به ، فلا يلتفت إلى دفع (4) الضرر الحاصل عن الترك دفعا للضرر الحاصل من
ص: 168
الفعل لاحتمال كونه أقوى.
قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ القياس حرمته حرمة ذاتية كما يستفاد من الأدلّة الدالّة على حرمته من أنّ العامل به والمتّكل عليه وإن أصاب الواقع ، فهو مخطئ في الواقع ، فيجري فيه الاحتمال المذكور بخلاف العمل بالظنّ ، فإنّه قد تقدّم أنّ مرجع الأدلّة الدالّة على حرمته إلى أمرين : أحدهما لزوم التشريع ، وثانيهما لزوم طرح الأصول القطعية بلا دليل يرتفع به موضوعها ، فإنّ العامل به تارة يعمل على أنّه هو المرجع في عمله المستند في فعله ، وأخرى يجعل عمله موافقا لما ظهر له ، ومطابقا لإدراكه من غير أن يستند إليه وأخذه مبنى (1).
وعلى الأوّل يلزم التشريع وهو البدعة المحرّمة بالعقل والنقل.
وعلى الثاني فإمّا يكون ظنّه موافقا لأصل من الأصول العملية أو مخالفا لها ، أو لا موافقا ولا مخالفا ، فعلى الأوّل والثالث ، فالمرجع في الحقيقة إمّا الأصل ، أو التخيير ، فلا عمل بالظنّ ، وعلى الثاني يلزم طرح الأصل المخالف من غير دليل علمي يرتفع به موضوعه ، ولا يلزم شيء من المحذورين فيما لو استندنا إلى الظنّ بعد حكم العقل بواسطة لزوم دفع الضرر لوجوب الاستناد كما لا يخفى ؛ إذ العمل به حينئذ عين الشرع ، فلا يلزم التشريع ونفس العلم ، فلا يلزم طرح الأصل من غير علم.
ويمكن الجواب عنه بأنّ العمل بالقياس - من حيث استناد العامل إليه من حيث هو - قياس ، ومن غير ما يوجبه من الاحتياط عمل بالباطل ، وأمّا بعد ملاحظة الاحتياط دفعا للزوم الضرر ، فلا شكّ أنّه أمر مستحسن عقلا بل وشرعا أيضا ، فإنّ المدار في الحكم بالتسامح في أدلّة السنن في المكروهات عليه كما ستعرف إن شاء اللّه حيث إنّ المناط حينئذ في العمل هو الاحتياط وهو ليس من القياس في شيء بل القياس محصّل لموضوع يحكم العقل فيه بالاحتياط ، ومحقّق لعنوان يلتزم بلزوم دفع
ص: 169
الضرر فيه ، أما ترى أنّ العقل في صورة الشكّ والاحتمال إنّما يلتزم بإتيان المحتملات كما في الشبهة المحصورة مع أنّه ليس من العمل بالشكّ والاحتمال في شيء ، وهل هذا إلاّ مثل اعتضاد القياس بالخبر الصحيح في عدم اتّكال العامل بالقياس وإن كان بينه وبين ما نحن بصدده (1) فرق من جهة أخرى كما لا يخفى.
اللّهمّ إلاّ أنّ من المستفاد من طريقة المذهب وسبيل المشرب إلغاء الشارع الاحتياط هذا (2) نظرا إلى غلبة مصلحة تركه على مصلحة فعله.
ثمّ إنّك بعد ما عرفت من أنّ مبنى الدليل على الاحتياط ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه بوجه ما وجّهنا مثله على الوجوه العقلية السابقة من أنّه (3) غاية ما يستفاد من (4) لزوم الاحتياط في الأجزاء المشكوكة الثابتة بالأمارات الظنّية.
وأمّا الأمارات التي مفادها نفي التكليف ، فلا دلالة فيه (5) على لزوم الإتيان بها مع أنّ الدعوى بعمومها تشملها أيضا ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع - كما مرّ سابقا - لظهور المبنى ووضوح عدمه في أحد طرفي الإجماع ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : يجب إنفاق المال على الواقع في المخمصة بمظنّة فوته ، فيجب في غير تلك الحالة استنادا إلى الإجماع.
وأمّا الأوّل ، فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون الضرر المظنون في مخالفة ما ظنّه المجتهد حكما (6) هو العقاب اللازم لترك الواجب ، أو فعل الحرام ، أو المفسدة الموجبة للوجوب ، أو الحرمة على ما أورده المستدلّ ، وليس على التقديرين على ما ينبغي.
أمّا الأوّل ، فلأنّه لا ملازمة بين الظنّ بالعقاب وبين ترك الحكم المظنون (7) ، إذ ليس
ص: 170
علّة له ولا معلولا منه ، ولا بمشتركين في علّة ثالثة.
أمّا الأوّل ، فظاهر وفي ظهوره غنية عن التنبيه عليه كالثالث.
وأمّا الثاني ، فلأنّه لو كان ترك الحكم المظنون علّة للظنّ بالعقاب ، لكان ترك الحكم المشكوك (1) علّة للشكّ في العقاب ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة ؛ لاستقلال العقل في الحكم بعدم العقاب عند الشكّ في الحكم ، فإنّه ممّا اتّفقت فيه كلمة الأخبارية والأصولية من الحكم بالبراءة ، كيف والقطع بترك الحكم في الواقع لا يوجب القطع بالعقاب ، كما إذا كان حين الترك غافلا أو جاهلا على ما يقتضيه قواعد العدلية ، فالعقاب إنّما يلازم التكليف ، وعدم الامتثال ومجرّد ترك المشكوك بل المظنون بل المقطوع لا يورث عقابا ولا ظنّا بالعقاب بل ولا شكّا حيث إنّ العقاب دائما إمّا يكون وجوده مقطوعا ، أو عدمه في صورتي التكليف وعدمه ، فالنسبة بين العقاب وترك الحكم الواقعي تباين جزئي قد يجتمعان في مورد واحد كما لو خالفه مع تنجّز التكليف به وتعلّق العلم به ، وقد يتحقّق العقاب من دون تحقّق الترك في صورة التجرّي على ما سبق ، وقد يتحقّق الترك من دون عقاب كما لو ترك غافلا أو جاهلا ، وعدم العقاب في صورة الجهل ليس من جهة مانعية الجهل بل لعدم وجود مقتضي العقاب وهو العلم بالوجوب والعلم بتعلّق التكليف على المكلّف ، إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا سبيل إلى دعوى أنّ أدلّة وجوب دفع الضرر بيان عامّ ولو بلسان العقل ، فإنّ الكلام في أصل الضرر.
وبالجملة ، فالذي يؤمننا من الضرر في صورة الشكّ في الحكم مع ترك المشكوك يؤمننا منه عند ترك الحكم المظنون ؛ لاتّحاد سبيل الحكم فيهما قطعا ، فالعقاب إنّما يلازم مخالفة التكليف.
نعم ، لو قلنا بأنّ الظنّ أيضا مناط تنجّز التكليف بالنسبة إلى المكلّف كالعلم ،
ص: 171
فالظنّ بالمخالفة يلازم الظنّ بالعقاب ، أو قلنا بأنّ العقاب من توابع الإدراك ، فيختلف بحسب اختلاف مراتبه علما وظنّا ، يتّجه الملازمة المذكورة ، وبطلانه ظاهر ، فالمستدلّ إن أراد إثبات إناطة التكليف بالظنّ أيضا ، فلا يخفى فساده ، إذ هو من الدور المحال حيث إنّه قد احتاج في إثبات مطلوبه وهو اعتبار الظنّ إلى اعتبار الظنّ.
وأمّا الثاني ، فلأنّه لا ملازمة أيضا بين الظنّ بالحكم وبين الظنّ بالمفسدة عند المخالفة وإن كانت المفسدة مقتضية للحكم ؛ لاحتمال الحبط والتكفير ، فلو ظننّا بحرمة العصير العنبي وخالفنا حكم الظنّ فيه ، فلا يلازم حصول الظنّ بالوقوع في المفسدة المقتضية للحرمة ؛ لاحتمال صدور فعل منّا رافع لها على ما قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (1) وذلك ظاهر لكنّه لا يخفى ما فيه ؛ فإنّ المعلوم من طريقة العقلاء في جلب المنافع ودفع المضارّ - سواء كان متعلّقا بأمور معاشهم أو أمور معادهم - إحراز مقدّماتها وعدم الاعتناء باحتمال حصول شيء رافع لها ، فمتى ما حصل لنا الظنّ بوجوب شيء أو حرمته ، وقلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد - كما هو المفروض - فيكفي في الحكم بلزوم التحرّز عن تلك المضارّ المترتّبة على مخالفة الحكم المظنون ، ولا عبرة باحتمال حصول شيء يكفرها كما يظهر من ملاحظة حال العقلاء في احترازهم عن أكل السمّ مع احتمال حصول ترياق يعالجه.
فإن قلت : مع ذلك كلّه فلا يتمّ (2) الاستدلال حيث إنّ الكلام في المقام ليس إلاّ من جهة دفع العقاب في مخالفة الظنون ، وأمّا الوقوع في المضارّ التي لا ترجع إلى العقاب ، فلا نبالي (3) به بعد ما لم يكن ممّا يترتّب عليه العقاب ، وقد عرفت آنفا عدم ترتّبه عند المخالفة بما لا مزيد عليه.
فإن قلت : قد طابق حكم العقل حكم الشرع في وجوب دفع الضرر ، ألا ترى أنّ
ص: 172
المريض لو ظنّ في مضرّة غذاء محرّم (1) عليه ، أكله ، فالعقاب إنّما يترتّب على مخالفة وجوب الدفع وإن لم يترتّب على حكم المظنون ، فيعود المحذور.
قلت : لا نسلّم وجوب دفع كلّ مضرّة لا يرجع إلى العقاب شرعا ، وإنّما المسلّم منه فيما لو كان مرجعها إلى البدن كما فيما فرضه من التمثيل ، أمّا فيما لا يرجع إلى البدن بل كان مرجعه إلى انحطاط الرتبة وعدم الارتقاء إلى العالم الأعلى والبعد عن ساحة القرب - كما هو كذلك في أغلب الأحكام الشرعية - فلو لم نقل بقيام الإجماع على عدم لزوم تداركها وتحصيل ما يعالجها ، فلا أقلّ من عدم دليل على لزومه كما لا يخفى فتدبّر.
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقل يستقلّ في الحكم بلزوم دفع بعض المضارّ المترتّب على غير البدن أيضا لو لم يزد حفظ العقل على النفس ، فلا أقلّ من عدم نقصه عنه ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.
ثمّ إنّه لا يخفى عدم استقامة الكبرى على عمومها ؛ فإنّ الشارع قد ألغى الظنّ في جملة من الموارد كما في صورة الظنّ بالنجاسة والظنّ بالطهارة مثلا.
وأمّا ما أوردناه في دفعه في الجواب عن النقض (2) بالقياس والخبر الفاسق والكافر على ما هو المنقول من (3) المعارج (4) من احتمال وجود مصلحة في الترك تغلب على المفسدة المترتّبة عليه ، فهو بظاهره ينافي القول بالتخطئة على ما هو الصواب عندنا كما يظهر وجهه ممّا قدّمنا في الانتصار عن ابن قبة.
ومحصّله أنّ بعد انسداد باب العلم وحكم العقل بقيام الظنّ مقامه حيث إنّه هو الأقرب للعلم ، فلو قلنا بجواز إلغاء بعض الظنون وترك العمل به ، يلزم نقض الغرض في وجه ، وخلاف الفرض في وجه آخر ، فلو رام في دفع ذلك إلى جعل الظنّ جزء الموضوع وعدم أخذه مرآتا ، لزم التصويب وهو خطأ عندنا ، فتأمّل ؛ فإنّه لا يخلو عن
ص: 173
نوع خفاء وغموض ، فعلى ما ثبت (1) من عدم استقامة الكبرى ، يلزم إفحام الأنبياء وإلزام الأولياء وغيرهما من اللوازم إن بنينا على ما هو مصرّح به فيما سبق.
لأنّا نقول : فرق بيّن بين الأصول والفروع ؛ إذ في الأوّل يحكم العقل بلزوم التحرّز دون الثاني.
وتوضيحه : أنّ البيان في الأحكام الشرعية من وظيفة الشارع ، ففيما لم يبيّن لنا (2) حكما نلتزم (3) بعدمه في حقّنا بخلاف الأصول ، فإنّ البيان فيه من وظيفة العقل ؛ لإفضائه إلى الدور لو كان موكولا إلى (4) بيان الشرع ، فالعقل يلتزم (5) بوجوب دفع الضرر وإن كان في مقام الشكّ في التكليف.
وبالجملة ، فنحن لا نجد في عقولنا عذرا لمن لم (6) يتحرّز الضرر في مقام إقامة النبيّ المعجزة الدالّة على نبوّته ، ويعدّ قوله في هذا المقام : « لا تكليف إلاّ بعد البيان » سفها ، بل ينسب القائل به إلى أصحاب السوداء والجنون بخلاف الغير المتحرّز عن الضرر في الفروع ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّه قد يتعاكس فيهما الأمر كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في منع المقدّمتين وإثباتهما وتنقيحهما وتصحيحهما إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يترتّب عليهما النتيجة المطلوبة من اعتبار كلّ ظنّ ومطلق المظنّة ؛ إذ مبنى الدليل ومرجعه إلى لزوم الاحتياط وهو لا يلازم الظنّ ، فإنّ مقتضى الاحتياط الإتيان بكلّ ما يحتمل جزئيته ، أو شرطيته في مقام الشكّ في الأجزاء والشرائط مع ثبوت أصل التكليف بالنسبة إلى كلّ مهمل ، ومقتضى الظنّ عدم الإتيان بما ليس جزءا ولو بحسب الظنّ ، فلا تلازم بينهما ، ولا يكاد يصحّ الاستناد في إتمام المرام إلى الإجماع لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام.
ص: 174
اللّهمّ إلاّ أن يوجّه الدليل المذكور بأوله إلى الدليل الرابع وبرهان الانسداد وأخذ المقدّمات المعتبرة فيه : من بقاء التكليف ولزوم التكليف بما لا يطاق لو كان المرجع بعده إلى تحصيل العلم ، ولزوم العسر لو كان المعتبر هو الاحتياط ، والخروج من الدين لو كان المعتمد هو البراءة ، فيتعيّن التبعيض بين الأمارات الموهومة والمشكوكة والمظنونة ، ولا ريب أنّ العمل بالظنّ في تلك التكاليف المجملة وبيانها بالمظنونات أولى من العمل بغيرها وإن كان لا يخلو من الضعف أيضا.
الثاني (1) من الوجوه العقلية الناهضة على وجوب العمل بمطلق الظنّ أنّ بعد ما أطبق أصحابنا الإمامية على التحسين والتقبيح العقليين والعلم بأنّ تشريع الأحكام إنّما هو لأجل الوصول إلى الواقع ، فلو ظنّ المجتهد بوجوب شيء ، فإمّا يعمل به ويطرح الطرف الموهوم ، أو لا يعمل بمظنونه بل يحمل عمله على موهومه ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يستلزم ترجيح المرجوح وهو الموهوم على الراجح وهو المظنون ، وذلك ممّا لا شكّ في قبحه وكذا بالنسبة إلى الشارع لو جوّز له العمل بالموهوم وطرح المظنون.
فإن قلت : إنّا نرى بالعيان ، ونشاهد بالوجدان ، تجويز الشارع لنا العمل بالموهوم ولا قبح.
قلت : ولعلّه لخصوصية في الموهوم ليست في المظنون ، وإلاّ لو فرضنا عدمها بل جوّز العمل به من حيث إنّه موهوم من غير خصوصية زائدة بها يصير راجحا على الطرف الراجح وهو المظنون ، فلا ريب في قبحه وعدم جواز صدوره من الشارع الحكيم ، ألا ترى أنّا لو حاولنا سلوك سبيل يوصلنا إلى مطلوب ، ولم يكن هناك (2) مصلحة توجب الأمر بالموهوم مثل العلم بموافقته للواقع وغير ذلك ، وكان الطريق
ص: 175
الموصل غير علمي ، فلو جوّز لنا العمل بالموهوم ، يلزم عليه القبح ؛ لأدائه إلى نقض غرضه ، وهذا ظاهر.
فإن قلت : لو قلنا بلزوم الترجيح ، يلزم ما ذكر ، وأمّا في صورة عدم الترجيح والتوقّف ، فلا محذور.
قلت : التوقّف في المقام أيضا ممّا لا (1) يستقلّ العقل بصحّته كما يظهر من ملاحظة المثال المذكور لو بنينا على التوقّف كما لا يخفى.
وقد يجاب عنه (2) بأنّ ترك المظنون والعمل بالموهوم على خلافه لا يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح كما إذا ظننّا إباحة شيء مع احتمال وجوبه وهما ، فلا شكّ أنّا لو عملنا بالموهوم وتركنا المظنون ، لا يلزم ما ذكر من الترجيح حيث إنّ الاحتياط أمر مرغوب في نفسه ، ففي المقام العمل المزبور وإن كان (3) بالنظر إلى تعلّق الإدراك به موهوما ، لكنّ العمل به ليس ترجيحا للمرجوح بملاحظة الاحتياط.
ولكن لا يخفى ما فيه ؛ فإنّه إن أراد أنّ (4) العمل بالموهوم المذكور والإتيان بما يحتمل الوجوب ليس ترجيحا مع عدم قصد الوجوب في العمل وعدم تعيين وجهه ، فهو كذلك إلاّ أنّه غير مجد ؛ إذ مرجعه إلى اختيار أحد طرفي المباح ، وجوازه ممّا لا ريب فيه كما هو قضية الإباحة ، وإن أراد أنّ الإتيان بما يحتمل الوجوب على أنّه واجب و (5) بقصد الوجوب لا يستلزم ترجيح المرجوح ، فلا شكّ في بطلانه ؛ ضرورة لزوم المحذور على تقديره ، والاحتياط لا يقضي به أيضا.
والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الدليل إن آل إلى رابع الأدلّة ودليل الانسداد ، فهو وإلاّ فلا نعرف له وجها ؛ إذ يحتمل دفع المظنونات بأصالة البراءة ، والاقتصار على
ص: 176
الأحكام الظاهرية ، فلا ترجيح ، فإن أسند (1) في دفعها إلى ادّعاء القطع ببقاء التكليف بالنسبة إلى الواقع والخروج من الإسلام على تقديرها ، فهو بعينه ما يستند إليه في دفع احتمال البراءة في دليل الانسداد كما اعتبره المستدلّ أيضا كما أنّه يحتمل القول بلزوم الاحتياط الكلّي في جميع الأمارات ، فلا محذور على تقديره أيضا حيث لا ترجيح ، ولو رام إلى لزوم العسر في رفع الاحتياط ، فهو المرجع في دفعه في دليل الانسداد.
وبالجملة ، فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بعد إبطال الاحتمال من البراءة والتخيير والاحتياط والتوقّف وغيرها ممّا ستقف عليها ، فما من مقدّمة يحتاج إليها في إتمام دليل الانسداد إلاّ وهي (2) ممّا لا بدّ منها في إتمام الدليل هذا ، فعدّه في مقابله دليلا آخر ليس على ما ينبغي.
وقد يظهر من بعضهم في مثل المقام من أنّ بطلان الوجوه المحتملة في المقام لا يعيّن العمل بالظنّ ؛ لاحتمال أن يكون هناك طريق آخر لا نعرفه ؛ ولعلّه سهو (3) ، وإلاّ فلم نقف له على معنى محصّل حيث لا يتعقّل العمل بالشكّ ، والشكّ في وجوده يكفي في الحكم بعدمه ، ووجود الظنّ يكفي عن جعله طريقا ، ولذلك زيادة توضيح فيما سيأتي إن شاء اللّه.
الثالث من الوجوه العقلية القائمة على حجّية مطلق الظنّ ما عزاه الأستاذ المرتضى إلى السيّد الطباطبائي صاحب الرياض (4) ، وحاصله : أنّا نعلم علما ضروريا - لا يمازجه شبهة ، ولا يعتريه ريب - بوجود واجبات كثيرة ، ومحرّمات عديدة بين الأمارات الموجودة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ونحوها في جميع سلاسلها
ص: 177
مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فقاعدة الشغل والاحتياط تقضي بالعمل بها جميعا إلاّ أنّ لزوم العسر والحرج يقضي بخلافها ، فيجمع بينهما بالعمل بالمظنونات نظرا إلى الشغل وترك المشكوكات والموهومات نظرا إلى العسر.
وفيه إجمالا ما عرفت مرارا من أوله في الحقيقة إلى دليل الانسداد ؛ إذ لا يتمّ إلاّ بعد الأخذ بجميع مقدّماته ، وتفصيلا أنّ المستدلّ لو حاول حصول الموافقة القطعية بعد العلم بالتكاليف المجملة كما في الشبهة المحصورة ، فلا ريب في عدم خروجه عن عهدة التكليف في صورة الاقتصار على المظنونات ، فليعمل بالمشكوكات أيضا والإجماع المدّعى على عدم لزوم الإتيان بالمشكوكات غير مسلّم ؛ ودعوى لزوم العسر على تقدير العمل بالمشكوكات بعد العمل بالمظنونات واهية إذ ندرة المشكوكات في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ظاهرة ، ولو أراد عدم لزوم المخالفة القطعية في العمل بسلسلة المظنونات وترك الموهومات بعد العلم بثبوت التكليف إجمالا على ما هو المدّعى في كلامه ، فليكتف بصنف خاصّ من (1) سلسلة الظنون ، وليدافع الباقي بأصالة البراءة حيث إنّ الشكّ على تقديره يرجع إلى نفس التكليف ، فلا ينتج المطلوب ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع المركّب في إلحاق سائر الأمارات الظنّية بعد الاكتفاء بأمارة منها ؛ لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، فإنّ العلّة في أحد طرفي الإجماع معلومة ، وانتفاءها في الآخر ضروري.
ص: 178
[ في دليل الانسداد ] (1)
الرابع من الوجوه العقلية دليل الانسداد ، وتحريره على ما ينبغي غير ممكن إلاّ بعد بسط في الكلام ، لينكشف ظلمات الأوهام ، فنقول : إنّه مركّب من مقدّمات خمس :
الأولى : أنّ باب العلم بالمعنى الأعمّ من الوجداني والشرعي في معظم الأحكام الشرعية منسدّ.
الثانية : أنّه تعالى لم يتركنا سدى ، وليس حالنا حال البهائم ، فنحن مطلوبون بشيء في الجملة ولو بالأحكام الظاهرية.
الثالثة : أنّ من المعلوم أنّ المطلوب منّا - ولو في مرحلة الظاهر في جميع الموارد - ليس العمل بالبراءة الأصلية وأصالة العدم الشاملة لأبواب المعاملات والعبادات ، بل نعلم بأنّه (2) تعالى قد ألزمنا بشيء في الجملة.
الرابعة : أنّه ليس المطلوب منّا إلاّ تحصيل الموافقة القطعية ، والإتيان بجميع المحتملات.
الخامسة : أنّ المرجع في أعمالنا الخاصّة ليس هو الأصول الخاصّة في الموارد الخاصّة من الاشتغال في محلّه ، والاستصحاب في مجراه ، والبراءة في موردها ، والتخيير في مقامه ، فانحصر الطريق في المظنون والموهوم والمشكوك ، والعقل يستقلّ في تعيين
ص: 179
الأوّل وهو المطلوب.
والثاني والثالث بعمومهما يشملان سائر الاحتمالات ، وسيجيء تفاصيلها (1) إن شاء اللّه ولا كلام في الحقيقة لأحد من العلماء الأعلام ، والفضلاء العظام ، في شيء من المقدّمات عدى الأولى منها ، ولا ينبغي الارتياب فيها أيضا.
ولقد أجاد من قال (2) : إنّ بعد إجراء صغرى الانسداد ، فلزوم العمل بمطلق المظنّة (3) إجماعي ، ولعلّه ضروري لا ينكر ، فمن ينكره باللسان فقلبه مطمئن بالإيمان ، وحيث إنّ بعض متأخّري المتأخّرين (4) قد أورد شبهة في بعض المقدّمات المذكورة ، وتجشّم في دفعها جملة ممّن تأخّر عنه (5) ، فنحن أيضا (6) نقتفي آثارهم في إثبات المقدّمات المزبورة ، فنقول :
أمّا المقدّمة الأولى ، فانسداد باب العلم الوجداني ممّا يقضي به الوجدان ، فلنكتف به عن البرهان ، ولا يوجد في ذلك مخالف أيضا إلاّ شرذمة قليلة (7) من أهل الباطن ، مع
ص: 180
أنّهم ليسوا من أهل الظاهر أيضا حيث زعموا أنّ المجتهد في مقام الاجتهاد بعد الفحص والبحث ما فهمه من الدليل هو حكم اللّه الواقعي في حقّه ، وليس هناك حكم واحد واقعي يصل إليه تارة ، ولا يصل إليه أخرى مستندين في ذلك إلى قاعدة اللطف على حذو ما استند إليها (1) جماعة من قدماء أصحابنا في تحصيل الإجماع كالشيخ والسيّد في أوّل أمره وغيرهما.
مضافا إلى جملة من الروايات الدالّة على أنّ لله تعالى في كلّ زمان حجّة كي إن زاد المؤمنون شيئا يردّهم ، وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم (2) ، وذلك منهم بمكان من الضعف والوهن ؛ للزوم التصويب في وجه ، وعود النزاع لفظيا في وجه آخر.
مضافا إلى إطباق أصحابنا على خلافه ، واستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث إنّ الخطاب واحد ، والأحكام المستفادة منه متعدّدة (3) على هذا التقدير ، مع انتفاء الجامع قطعا في أكثر الموارد وعدم دلالة دليل عليه ، ومع الغضّ عن ذلك كلّه ، فلا يضرّنا في المقام ؛ إذ غاية ما في الباب أنّ المجتهد بعد استفادة الحكم من الدليل يعلم بالحكم الواقعي على ما هو المدّعى في كلامهم ، والكلام في المقام في تعيين الدليل الذي يمكن استفادة الحكم الواقعي منه كما لا يخفى ، ولعمري بطلان المذهب يكفي لنا عن إبطاله (4) ، فهو بالإعراض عنه أجدر.
وأمّا انسداد باب العلم الشرعي ، فهو موكول إلى ما سبق ، فإن قلنا بحجّية أخبار (5) الآحاد - كما هو المشهور بين أصحابنا بل ومخالفينا أيضا - فلا شبهة في انفتاح باب العلم على هذا التقدير ، وإن قلنا بعدم حجّيتها لعدم وجود دليل عليها ، فالانسداد الأغلبي ممّا لا يدانيه ريب.
ص: 181
وأمّا على ما نراه من اعتبار الأخبار الموثوق بها ، فهو موكول على حصول الوثاقة ، فربّما يحصل الوثاقة لأحد دون غيره لاعتماده على القرائن الموجودة الخفيّة الغير الظاهر دلالتها ، فهو في المقام كالقطّاع في مقامه ، فباب العلم الشرعي على تقديره منفتح ، وربّما لا يحصل الوثاقة إلاّ في أقلّ من الموارد ، أو في جملة كثيرة منها لكنّه لا يبلغ حدّ الانفتاح ، فالانسداد على تقديره غير خفيّ.
وأمّا المقدّمة الثانية ، فضرورته (1) لا تكاد تخفى على أوائل العقول ، مضافا إلى الأخبار الواردة في مقام إثبات التكاليف ولو في الجملة ، مع أنّها مدلول عليها بجملة من الآيات الظاهرية الصريحة في ذلك ولا سيّما بعد كونها ممّا يسلّمها الخصم أيضا ، فلا نطيل الكلام فيها.
وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة بأنّ المرجع بعد الانسداد في معظم الأحكام ليس هو البراءة ، فيدلّ عليها وجوه :
الأوّل : الإجماع القطعي ؛ فإنّا نعلم علما ضروريا حدسيا بأنّ أحدا من العلماء لا يفتي بذلك ، فلا ينافيه عدم كون المسألة معنونة في كلامهم.
الثاني : لزوم المخالفة القطعية على وجه قد عبّر عنها بعض (2) متأخّري المتأخّرين (3) بالخروج عن الدين بمعنى أنّ كلّ من تديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين ، وعمله ليس منه ، والمنكر في ذلك بين مكابر معاند ، ومانع للصغرى وهو الانسداد الأغلبي كما هو المفروض زعما منه خلافه ، وقد تقدّم منّا ما يكفي عن ذلك.
ولا يذهب عليك أنّ بعد انسداد باب العلم وملاحظة الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ لا سبيل لنا في الأحكام الشرعية إلى العمل بأصالة البراءة ، فإنّ من المعلوم
ص: 182
ضرورة ورودها في مقام احتمال عدم إدراك الواقع عند التعويل عليه حتّى أنّ القياس في موارده - وإن قلنا بأنّه محرّم أصليّ - إلاّ أنّ المستفاد من جملة من الأخبار الناهية عنه هو دفع هذا الاحتمال ، ولا شكّ في أنّ الوقوع في هذا الاحتمال على تقدير العمل بالبراءة بل الوقوع واقعا و (1) في نفس الأمر ممّا لا مجال لإنكاره ، سيّما بعد العلم الإجمالي بمخالفة عمله كثيرة (2) من موارد البراءة للواقع.
وإن شئت توضيح ذلك ، فراجع العرف والعقلاء أنّ المولى قد كتب طومارا لعبده بعد نهيه عن العمل بالظنّ ، فأصابه المطر بحيث لا يكون كلماته معلومة ، فهل ترى أحدا في المقام يجوّز لنفسه العمل بالبراءة وترك العمل بالظنّ ، وهذا ممّا لا يكاد يخفى على أولي الأنظار المستقيمة ومقصّر في التتبّع لكلمات الأصحاب حيث إنّه قد تنبّه (3) لذلك جماعة من متقدّمي أصحابنا ، ومتأخّريهم وجملة من مخالفينا :
فمنهم الصدوق طاب ثراه (4) في باب [ أحكام السهو في الصلاة في ذيل أخبار ] جواز السهو على النبيّ صلى اللّه عليه وآله بعد ما استند فيه إلى جملة من الأخبار ، فأورد على نفسه بأنّها أخبار آحاد لا يجوز التعويل عليها ، ثمّ أجاب عنها بأنّه على تقدير ترك العمل بالأخبار ، فبم يعمل العامل معرضا عن احتمال البراءة.
ومنهم الشيخ في العدّة في مقام الردّ على من احتمل أن يكون عمل الطائفة بالأخبار من جهة اقترانها بالقرائن فإنّه قال :
فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليه لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها بل إنّما عملوا [ بها ] بقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت ، لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن (5) الاعتماد على عملهم بها.
ص: 183
قيل لهم (1) : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر - إلى أن قال - فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة ، ومن ادّعى القرائن في جميع ذلك ، كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم من الضرورة خلافه ، ومدافعا (2) لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه.
ثمّ قال : ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك كثير (3) الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا هو حدّ يرغب عنه أهل العلم ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه (4).
ومنهم السيّد علم الهدى (5) فإنّه أورد على نفسه سؤالا في مقام (6) دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأخبار الآحاد ، لأنّه قال (7) : لو قيل : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟
فأجاب عنه بما حاصله دعوى انفتاح باب العلم حيث إنّه لم يلتفت إلى احتمال البراءة في صورة الانسداد ، والتزم بلزوم العمل بالأخبار الآحاد كما هو المنساق من السؤال والجواب.
ولقد أجاد الفاضل السيّد شارح الوافية في قوله بعد نقل كلام السيّد بأنّه قد اصطلح مع المتأخّرين العاملين بالأخبار ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين على ما حكي عنه في بحث صفات الإمام عليه السلام ووجوب عصمته ما لفظه : ولأنّه حافظ للشرع
ص: 184
لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به والإجماع ؛ لأنّه إن استند إلى أمارة ، فالخلق لا يتّفقون على أمارة ، وإن لم يستند كان باطلا ، والقياس باطل في نفسه ، والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام ، فلم يبق سوى الإمام عليه السلام ولو جاز خطؤه ، جاز أن يزيده (1). انتهى.
ومنهم : المحقّق الخوانساري في مسألة جواز الاكتفاء بالواحد في التعديل ردّا على صاحب المعالم على ما هو المنقول في كلام السيّد المذكور ، قال : إنّ اعتباره - يعني به اعتبار تعدّد المزكّي والمعدّل - يصير سببا لخلوّ أكثر الأحكام عن الدليل ؛ لندرة التعدّد (2).
ومنهم : العضدي تبعا للحاجي في مقام الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بأنّها لو لم تكن حجّة ، لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام (3).
ومنهم : المحقّق البحراني في الحدائق في طعنه على ابن إدريس عند طرحه الأخبار الدالّة على اتّحاد الشعير والحنطة جنسا ، فلا يجوز التفاضل بينهما ، معلّلا في ذلك بأنّها آحاد قال : الواجب عليه - يعني به ابن إدريس - مع ردّه هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين والتديّن بدين آخر غيره (4) ، فترى هذه
ص: 185
الكلمات من هؤلاء الجماعة منادية (1) بأعلى صوتها على عدم جواز التعويل على البراءة حيث (2) إنّهم أعرضوا عن هذا الاحتمال.
ومن هنا يظهر الوجه في الإجماع المدّعى أيضا ، فبطلان العمل بالبراءة والاقتصار على المعلومات - كما هو المفروض من قلّتها حال الانسداد - ممّا لا ريب فيه.
وممّا يدلّك على هذا أنّهم مطبقون بأجمعهم في الحكم برجوع العامي إلى فتوى الميّت بعد انسداد باب رجوعه (3) إلى الحيّ ، ولم يحتمل أحد اختيار رجوعه إلى البراءة ، وحال المجتهد بعد الانسداد واختفاء الحجّة العلمية مثل حال المقلّد عند فقدان المجتهد الحيّ ، فبعد العلم بالاشتغال لا مناص من تحصيل الامتثال ، فتارة بالعمل بالمعلوم على وجه التفصيل ، وأخرى بالمعلوم ولو إجمالا في طيّ احتمالات عديدة ، ومرّة يمتثل (4) امتثالا ظنّيا بعد انسداد باب الامتثال على أحد الوجهين الأوّلين كما هو المفروض ، وأخرى امتثالا احتماليا ، ويكشف عن ذلك حكمهم برجوع العامي الغير المتمكّن من تحصيل أحكامه تقليدا لوجوب العمل (5) بظنّه بل واحتماله فرارا من (6) المخالفة القطعية ، وبالجملة ، فظهور المرام ، يأبى عن إطالة الكلام.
الثالث : إنّ المخالفة القطعية وإن لم تبلغ حدّ الخروج عن الدين ، فهي في حدّ ذاتها باطلة يكفي جعلها تاليا في قياس شرطي ، فلزومها على تقديره كاف في بطلان المقدّم ، ولا دليل على اعتبار الأصل فيما لو خالف العلم الإجمالي كما هو كذلك فيما لو خالف العلم التفصيلي.
فإن قلت : المحاذير المفروضة مشتركة الورود على تقديري العمل بالبراءة والمظنّة أمّا على الأوّل ، فكما هو المقرّر ، وأمّا على الثاني ، فلاحتمال مطابقة الظنّ في جميع
ص: 186
الموارد للبراءة.
قلت : أمّا أوّلا ، فلا شكّ في أنّها دعوى محالة ، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية كما هو المفروض ينافي الظنّ بالسالبة الكلّية ؛ لاستلزامه اجتماع المتنافيين كما لا يخفى.
وأمّا ، ثانيا فلو سلّمنا إمكان الفرض ، فهو غير واقع ؛ لأنّ الظنّ إنّما يحصل من الأمارات الحاصلة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ، ومن المعلوم بالضرورة عدم موافقتها في جملة من الموارد للبراءة ، فإنّ الغالب فيها ، ولا أقلّ من التساوي ، ولا أقلّ من جملة كثيرة إثبات الأحكام المخالفة لأصالة البراءة.
وأمّا ثالثا ، فبعد الغضّ عن وقوعه أيضا نلتزم بعدم جواز عمله بظنّه وعدم جواز العمل بفتواه لمقلّديه لوجود المخالفة القطعية على تقديره في جملة كثيرة ، فليعمل بما يقتضيه الاحتياط والاشتغال ، أو العمل ببعض مظنوناته من الظنون القوية ، أو يختار ما يريد من موارد ظنّه هذا.
ثمّ إنّ صاحب المعالم والمحقّق البهائي (1) وجماعة ممّن تقدّم قد قالوا في دفع احتمال البراءة بأنّ أصالة البراءة ضعيفة بعد ورود الخبر ، وكأنّهم أرادوا أنّ الظنّ الحاصل من البراءة بعد ورود الخبر الواحد على خلافه ضعيف لا يقاوم الظنّ الحاصل من الخبر ، ولعلّ ذلك منهم مبنيّ على القول بحجّية البراءة من جهة إفادتها الظنّ وهو بمكان من الضعف كما قرّر في محلّه من أنّها حجّة قطعية في مجراها تعبّدا شرعيا بل (2) وعقليا ، فإنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان ، فإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، فلا ريب في عدم حصوله ، وعلى تقديره لا حجّية (3) فيه ، وإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، فسقوطه واضح حيث إنّها بالنسبة إليه دليل قطعي لا مجال لإنكاره.
ص: 187
ومن هنا قد اعترض (1) عليهم المحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي بعد منعه من إنتاج الدليل الرابع النتيجة المطلوبة بجواز العمل بالبراءة بعد الانسداد قال : لا لأنّها ظنّية بل لحكم العقل عليها (2).
وأمّا ما أفاده المحقّق القمّي (3) في دفع الاستناد إلى البراءة من منع الإجماع عليها لمخالفة الأخبارية فيها ، وعدم استقلال العقل بالحكم بها ولو بعد ورود الخبر الواحد بخلافها ، فممّا لم نقف له على وجه.
أمّا أوّلا ، فلأنّ منع الإجماع عليها مكابرة محضة ، ومجازفة صرفة ، ومخالفة الأخبارية إنّما هو لمنعهم من جريانها زعما منهم لورود (4) البيان في محلّ جريانه من أخبار الاحتياط ، ولذا تراهم حاكمين بالبراءة في مقام الشبهة الوجوبية لعدم جريان أدلّة الاحتياط فيها ، ولا ريب لأحد منهم أيضا في وجوب العمل بها فيما لم يرد فيه بيان كما هو المفروض من المعترض.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ أصالة البراءة محكّمة عقلا فيما لم يرد على خلافها دليل علمي أو منته إليه ، و (5) ورود الخبر على خلافها بعد أن لم تكن حجّة لا جدوى فيه ، فإنّ حجّيته في المقام أوّل الكلام.
نعم ، يتوجّه على المورد أنّ البراءة على إطلاقها لا تنهض حجّة في جميع الموارد ، فإنّ مرجعها إلى نفي التكليف وهو في العبادات في محلّها ، وأمّا في المعاملات ، فلا وجه للاستناد إليها في دفعها إلاّ أن يقال برجوع الأحكام الوضعية إلى الأحكام التكليفية كما يراه المورد أيضا ، فيصحّ التعبير بالبراءة ، أو يقال بأنّ المراد منها أصالة العدم كما نبّهنا عليه فيما تقدّم إلاّ أن يقال : إنّ أصالة العدم أيضا لا تعمّ جميع الموارد ، فإنّ
ص: 188
الاشتغال على القول به وكذا الاستصحاب قد يخالف حكم البراءة ويقدّم عليها على ما هو المقرّر في محلّه ، فلا سبيل إلى القول بأنّ الاستصحاب ظنّي حيث إنّه (1) قد قرّرنا قطعيّته في محلّه.
وأمّا المقدّمة الرابعة القائلة بأنّ المرجع في أحكامنا (2) بعد الانسداد ليس هو الاحتياط ، فيدل عليها وجوه - وإن قلنا بأنّ بعد العلم الإجمالي على التكليف لا بدّ من الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية ، وأمّا على القول بكفاية الاحتراز عن المخالفة القطعية في مثل المقام ، فالأمر أسهل ، ثمّ إنّه ليس المراد في المقام إبطال الاحتياط على حذو ما مرّ من إبطال البراءة وامتناعها بل يكفي في إثبات المطلوب عدم وجوبه وإن كان جائزا ، وجوازه يلازم جواز العمل بالظنّ وهو المطلوب - :
الأوّل : الإجماع القطعي ، فإنّا ندّعي أنّ جميع العلماء خلفا عن سلف مطبقون على عدم وجوب الاحتياط ، وليس ذلك من جهة انفتاح باب العلم لهم ، فيختلف الموضوع بل المدّعى اتّفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في موضوع الانسداد على ما هو المفروض وإن لم يكن من أهل الإجماع من انسدّ له باب العلم ، كما أنّهم مطبقون بأنّ الحكم في موضوع المسافر القصر والإفطار وإن لم يكونوا مسافرين على حذو ما مرّ في الإجماع المدّعى في إبطال احتمال البراءة.
الثاني : لزوم العسر والحرج على تقديره ، واللازم منفيّ إجماعا في الشريعة السمحة السهلة ، وبيان اللزوم في العبادات واضح ؛ للزوم الإتيان بجميع ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك جميع ما يحتمل الحرمة كذلك وهو لو لم يكن في حدّ التكليف بالممتنع ، فلا أقلّ من لزوم العسر على تقديره.
وتوضيحه : أنّ المجتهد لو حاول الاحتياط في واقعة جزئية مثل الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه ، فيوجّه عليه في مثل الواقعة فروع كثيرة ، ففي مقام
ص: 189
شربه لا بدّ من أن لا يشربه ، وفي مقام الوضوء مع انحصار الماء فيه ، فلا بدّ له من الجمع بين التيمّم وبينه في صلاتين ، فقد يعارضه الاحتياط في واقعة أخرى ، فيتوقّف (1) في ترجيح أحد الاحتياطين على الآخر ، ويتفرّع على كلّ من فروعه فروع متشتّتة مختلفة قد لا يمكن الجمع بينها إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل البصير ، هذا كلّه مضافا إلى لزومه في تعليم المجتهد وجوه الاحتياط وتعلّم المقلّد منه ، فقد لا يشتمل (2) كتاب حكم واقعة جزئية بجميع وقائعها المترتّبة عليها ، وذلك يوجب اختلال نظامهم في أمور معادهم ومعاشهم ، وبخلاف ما إذا علمنا بالظنّ ، ففي الواقعة المفروضة على تقدير تعلّق الظنّ بنجاسة يترتّب عليه جميع أحكامها ، فلا تنحلّ إلى وقائع ، ولا تختلف بحسب الموارد ، وليس في الاحتياط حكم كلّي يرجع إليه في جميع الموارد ، فهو في كلّ مقام يقتضي شيئا ، فالمقلّد لو حاول تعلّم أحكام الواقعة المفروضة لا بدّ له من تعلّمها على جميع مراتب اختلافها بالنسبة إلى ملاحظتها في وقائع كثيرة ، ولا عسر في كونه عسرا وهو المراد باللازم.
لا يقال : لزوم العسر على المقلّد ممنوع ؛ لجواز رجوعه إلى مجتهد لا يرى وجوب الاحتياط ، فلا عسر له في تعلّمه ، ولا في تعليم المجتهد له.
لأنّا نقول : أوّلا : قد ينحصر المجتهد ، فيمن يرى وجوب الاحتياط ، فلا مفرّ له من تقليده.
وثانيا : لا مساس للوجه المذكور لما نحن بصدده ، فإنّ (3) الكلام في أنّ الحكم الواقعي الثابت في اللوح المحفوظ في موضوع الانسداد كما هو المدّعى ، هل هو الاحتياط أم لا؟ ولا مدخل لعمل المقلّد في ذلك أصلا ، فإنّه قد لا يقلّد أصلا ، فإنّ المستدلّ بدليل الانسداد إنّما هو في بيان حكمه واقعا ، فيحكم بأنّ المرجع في الواقع
ص: 190
ليس هو الاحتياط ، وانفتاح باب العلم على ما يزعمه غيره لا يضرّه ، فإنّه يراه في سبيل باطل ، وطريق عاطل ، وذلك نظير ما قد قيل من أنّ تقليد الأعلم على القول به يوجب العسر في تمييز (1) الأعلم عن غيره ، فلا ينافيه اعتقاد المقلّدين أعلمية فقيه دون فقيه ؛ إذ لا يناط الحكم الواقعي باعتقادهم ، والكلام إنّما هو في الجعل الواقعي المتعلّق بموضوع كذائي ، فيتوجّه عليه أنّه لو كان كذلك ، يلزم العسر وذلك ممّا لا يكاد يخفى.
نعم ، قد يتوجّه هذا الكلام في المقام فيما لو فرضنا انفتاح باب العلم لواحد من المجتهدين واقعا يتمكّن من الوصول إلى معدن العلم ، فيلتزم بلزوم رجوع المقلّد إليه ، فلا يلزمه عسر على ما فرضناه إلاّ أنّه خارج عمّا هو مفروض المستدلّ. هذا تمام الكلام في لزوم العسر على تقدير الاحتياط في العبادات (2) ، وأمّا في المعاملات ، فيظهر من ملاحظة ما قرّرنا في غيرها كما لا يخفى.
فإن قلت : قد يؤدّي ظنّ المجتهد إلى ما يوجب العسر مثل ما (3) إذا ظنّ بوجوب الترتيب في الفوائت ، فإنّ لزوم العسر فيما إذا لم يعلم ترتيب الفائتة خصوصا مع كثرتها ممّا لا ريب فيه ، وكذا إذا ظنّ بفورية القضاء ، وكذا إذا ظنّ بوجوب الغسل فيما لو أجنب المكلّف عمدا وإن أصابه ما أصابه ، وكذا إذا ظنّ بواجبات كثيرة في وقائع عديدة ترد عليه دفعة مثلا ، فالمحذور على تقديره مشترك الورود بين الاحتياط والعمل بالظنّ.
قلت : إن أريد أنّ ما دلّ على نفي العسر والحرج يعارضه الأدلّة الخاصّة الدالّة على لزوم ملاحظة الترتيب بين الفوائت ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين الدليلين ، فسقوطه واضح حيث إنّ من المقرّر في محلّه حكومة الأدلّة الدالّة على نفي العسر بالنسبة إلى
ص: 191
غيرها من الأدلّة ، فهو معيار لغيرها ، وميزان لما عداها ، فلا يعارضها دليل ، ولو كان في أعلى درجات الخصوصية كما يظهر ذلك بعد ملاحظة العرف فيما يماثله ، وإن أريد النقض بالفرض المذكور ليلتفت إلى الحلّ في الصورة المفروضة ، فنقول : إن كان الدليل الدالّ على لزوم الترتيب قطعيّا غير قابل للطرح أو التأويل ، فيقدّم على أدلّة العسر كما في أدلّة الاجتهاد الأكبر والأصغر ، وإن كان ظنّيا قابلا للتأويل ، فلا بدّ منه كأن يحمل الأمر الوارد فيه على الاستحباب ونحوه وما نحن بصدده من هذا القبيل ، فإنّ لزوم تحصيل الموافقة القطعية والحكم بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية بعد الانسداد فيما (1) يوجب العسر غير معلوم حتّى يقدّم على أدلّة نفي العسر ، فيكشف ذلك من أنّ مطلوب المولى ليس الإتيان بالواقع على ما هو عليه.
وأمّا ما أورده أخيرا من المثال من جواز تعلّق ظنّ المجتهد بواجبات توجب العسر ، فهو ممّا لا محصّل له ؛ لاستلزامه اجتماع المتناقضين ، فإنّ بعد ما علمنا مع ملاحظة أدلّة نفي العسر عدم جعل (2) حكم أو أحكام يوجب العسر ، فكيف يصحّ تعلّق الظنّ بوجوب أمور توجب العسر؟ فإنّ العلم بالسالبة الجزئية - كما هو مفاد نفي العسر - ينافي الظنّ بالموجبة الكلّية كما هو مفروض المعترض عكس ما مرّ في المقدّمة السابقة.
فإن قلت : إنّ قضية أدلّة نفي العسر لا يزيد على نفيه في أصل الشرع حيث إنّه تعالى ما جعل في الدين من حرج ، وأمّا لو لزم الحرج من جهة (3) عروض سانحة ، وحدوث واقعة لا يرجع إلى جعله كما في المقام ، فإنّه يلزم بواسطة إخفاء قادة الهدى ، ومصابيح (4) الدجى بواسطة ظلم الظالمين وعناد المعاندين ، فلا دليل على بطلانه ، وحيث إنّه ليس في مرتبة التكليف بما لا يطاق ، فلا ضير في لزومه على تقدير أن
ص: 192
يكون الغير سببا في لزومه كما في المقام ، فلا يتّجه الفرق بذلك.
قلت : لا نسلّم انحصار دلالة الأدلّة المذكورة في نفيه من أصل الشرع فقط ؛ فإنّها بعمومها شاملة للمقام أيضا بل و (1) فيما لو كان سبب لزومه إدخال المكلّف نفسه في موضوع حكم معسور ، فكيف بالمقام؟
وتوضيح ذلك : أنّ العسر تارة يلزم من أصل الشرع كأن يجعل الشارع حكم المكلّف مع قطع النظر عن عروض حادثة عسرا ، وأخرى يلزم من جهة عروض سانحة من غير أن يجعله الشارع عسرا ، فمرّة سبب عروضها غير المكلّف كما إذا صار جريحا بواسطة غيرها ، وأخرى يصير المكلّف بنفسه سببا لحدوثها ، فدفعه بواسطة إدخال نفسه في موضوع يعسر عليه أحكامه كما لو أجنب عمدا مع وجود العسر في استعمال الماء ، وأخرى بواسطة إلزامه على نفسه حكما معسورا كما إذا نذر صوم دهره أو استأجر نفسه لأمر عسر إلى غير ذلك.
فعلى الوجوه الثلاثة الأول تنهض أدلّة العسر بنفيها بلا إشكال ، وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا نضايق القول بعدم (2) قيام الأدلّة المذكورة بنفيها نظرا إلى ما هو المعروف من قوله عليه السلام : « ما غلب اللّه شيئا على العباد إلاّ وهو أولى به » (3) وقوله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (4) انتهى. إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن إشكال ، فإنّ في
ص: 193
إمضائه الإلزام أيضا نوع جعل للعسر (1) كما لا يخفى.
فإن قلت : الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ يعارض العامّين من وجه ، فلا بدّ من ترجيح أدلّة نفي العسر في تقديمها عليها والمفروض عدم المرجّح ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول والأصل عدم حجّية الظنّ ، فلا مناص من الاحتياط وهو المطلوب.
قلت : قد تقدّم آنفا أنّ أدلّة نفي العسر حاكمة عرفا على غيرها من وجوه الأدلّة ، لتعارض غيرها بها ، فيحتاج في الترجيح إلى المرجّح ، وفي صورة انتفائه يرجع إلى الأصل.
الثالث : أنّا لا نسلّم أنّ بعد ثبوت الاشتغال لا بدّ من تحصيل الموافقة القطعية بل يكفي فيه عدم لزوم المخالفة القطعية وهو يحصل بالعمل بسلسلة المظنونات ، فلا وجه للاحتياط.
وفيه : أنّ من المقرّر في محلّه أنّه لا مناص من الاحتياط بعد ثبوت الاشتغال (2) ، فلا وجه للجواب المذكور.
الرابع قد لا يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين المتباينين سيّما في الموضوعات.
وفيه : أنّه لا يضرّ فيما هو المناط في المقام ؛ إذ من الجائز التزام المحتمل للاحتياط بالتخيير بينهما ، أو العمل بالظنّ في ترجيح أحدهما على الآخر.
لا يقال : إذا جوّز العمل بالظنّ فيما لا يمكن فيه الاحتياط ، فيتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل.
ص: 194
لأنّا نقول : قد مرّ مرارا بطلان الاستناد (1) إلى مثل الإجماع في أمثال المقام كما لا يخفى.
الخامس أنّ الاحتياط قد يؤدّي إلى ترك الاحتياط فإنّ معرفة الوجه ممّا أوجبه جماعة من الأصحاب (2) حتّى ادّعى بعضهم عليه الإجماع (3) ، وهو ينافي الاحتياط حيث لا يعلم وجه العمل فيه.
وفيه أوّلا : أنّ العلاّمة وإن أرسل هذا الحكم إرسال المسلّمات في أوائل الإرشاد (4) إلاّ أنّ المستفاد من بناء أهل العرف والعقلاء وسيرة أصحاب الأئمّة والعلماء عدم لزوم معرفة الوجه ، فلا وجه لما ذكره.
وأمّا ثانيا : سلّمنا لزوم معرفة الوجه في العبادات مثلا لكن لا ريب في عدم كونها واجبا أصليا كوجوب معرفة اللّه مثلا بل إنّما هو واجب توصّلي للوصول به إلى الغير ، وهو إمّا أن يكون تحصيل الامتثال التفصيلي ، أو قصد الوجه ، وعلى التقديرين لا محصّل له.
أمّا على الثاني ، فلأنّ من المقرّر في محلّه عدم لزوم قصد الوجه أوّلا ، وعدم تعقّله ثانيا ؛ لأنّ القصد لا يتحقّق في غير صورة العلم ، فلو فرضنا عدم لزوم الاحتياط وجواز العمل بالظنّ أيضا لا يتحقّق القصد إلاّ أن ينتهي إلى العلم وهو خارج عمّا نحن بصدده ، أو يغيّر القصد قصدا صوريا لا حقيقة له ، فيحتاج على تقديره إلى دلالة دليل على لزوم القصد الصوري ، والمعلوم انتفاؤه في المقام.
وأمّا على الأوّل ، فلما مرّ في مباحث العلم الإجمالي من احتمال عدم وجوب
ص: 195
الامتثال التفصيلي مع الإتيان في ضمن احتمالات عديدة إلاّ بالمأمور به مثلا وإن نقل الإجماع على عدم جوازه صاحب الحدائق.
سلّمنا لكنّ الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط فيما لو أمكن الامتثال التفصيلي العلمي غير جائز على ما ادّعاه صاحب الحدائق (1).
وأمّا لو دار الأمر بين الامتثال التفصيلي الظنّي - ولو كان ظنّه حجّة أيضا - وبين الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط ، ففي ترجيح الأوّل على الثاني تأمّل كما نبّهنا عليه في ما تقدّم ، فكيف بما إذا كان التفصيلي بظنّ لم يقم (2) دليل على اعتباره كما في المقام.
وبالجملة ، فلا وجه لتقديم العمل بالظنّ على العمل بالاحتياط لتحصيل الامتثال التفصيلي ، فإنّ ذلك يسلّم (3) فيما لو كان التفصيل علميا أو ظنّيا قام الدليل على اعتباره كما هو ظاهر بأدنى تدبّر في العرف وطريقة العبيد في امتثالهم لأوامر مواليهم.
ومن هنا ينقدح أنّ العامل بالظنّ المطلق ليس له نفي الاحتياط في مقام انحصار طريق العمل في الاجتهاد والتقليد والحكم ببطلان عبادة الجاهل المطابقة للواقع بواسطة الاحتياط ، فإنّ دليل الانسداد لا ينهض بتعيين (4) العمل بالظنّ على وجه لو لم يعمل به ، بطل عمله بل غاية ما يستفاد منه عدم لزوم الاحتياط وهو لا ينافي الجواز كما قيل ، وليس بين المسلكين واسطة يسلكها السالك إلاّ الحائطة فتدبّر.
وأمّا ثالثا : فلأنّه بعد ما سلّمنا أنّ الاحتياط يقضي بتعيين العمل ومعرفته ولو كانت معرفة ظنّية فلا نسلّم منافاة العمل بالاحتياط للعمل بالظنّ ؛ حيث إنّه بعد الاحتياط في هذه المرتبة والإتيان بالمظنون وتعيين العمل بالظنّ لا بدّ له من الإتيان
ص: 196
بسائر المحتملات تحصيلا للاحتياط في تلك المرتبة ، مثلا فيما لو دار الأمر (1) بين وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فهناك احتياطان :
أحدهما : تعيين الواجب منهما تعيينا ظنّيا.
وثانيهما : الإتيان بغير المظنون بعد الإتيان به منهما ، ولا ينافي الاحتياط في الأوّل الاحتياط في الثاني حيث إنّ الظنّ بعد غير حجّة.
وأمّا رابعا : سلّمنا جميع ذلك لكنّه في الاحتياط وجه العمل - ولو في مرحلة الظاهر - معلوم على ما تقتضيه قاعدة الشغل وهو كاف في المعرفة وقصد الوجه ، إذ لا دليل على أنّ وجه العمل في الواقع من حيث حكمه الواقعي المتعلّق عليه - مع قطع النظر عن تعلّق العلم والجهل به - واجب بل ولا أظنّ أحدا يدّعيه أيضا ، فلو شكّ في وجوب شيء في حالة بعد العلم بوجوبه في حالة سابقة ، يحكم بوجوبه استصحابا ، ويأتي به واجبا مع أنّ وجوبه ظاهري ، فلا يتّجه الجواب المذكور في وجه كما لا يخفى.
نعم ، بقي في المقام شيء وبيانه يستدعي تمهيد مقدّمة وهي أنّه لو علمنا إجمالا بوجوب شيء ولم نعلمه بالخصوص ، فمقتضى القاعدة على ما قرّرنا في المقدّمة تحصيل الموافقة القطعية بالإتيان بجميع المحتملات حتّى يحصل العلم بالامتثال ، فإنّ الاشتغال اليقيني يقضي بالبراءة اليقينية ، فإن منع من تحصيل الامتثال اليقيني مانع عقلي أو شرعي ، فإن كان يمنع من احتمال معلوم معيّن ، فلا بدّ من الامتثال فيما عداه جزما ، وإلاّ فإن كان في المقام ما يرجّح أحد الاحتمالات ، فلا مناص من الترجيح ، وإلاّ فالتخيير في الاحتمالات ، مثلا لو اشتبهت جهة القبلة بجهات قضية الشغل أوّلا (2) الصلاة على الجهات المشتبهة جميعا ما لم يمنع مانع ، وعلى تقديره فإن منع من جهة خاصّة ، فلا بدّ من تركها إلى غيرها من سائر الجهات ، وإلاّ فلا بدّ من الترجيح بين الجهات ، وإلاّ
ص: 197
فالتخيير فيها لرفع المانع ، فالمانع إنّما يؤثّر فيما يمنعه ، ولا يقضي باختلاف الموضوع وتبديله ، فتغيّر الحكم ، فالاشتغال (1) فيما لا مانع بعد العلم الإجمالي بالحكم.
وإذ قد تقرّر هذا فاعلم أنّه قد سبق في بعض الوجوه العقلية التي أقاموها على اعتبار مطلق المظنّة من أنّ مقتضى الاشتغال العمل بكلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة إلاّ أنّ العسر يمنع من ذلك ، فالجمع بين القاعدتين يقتضي ترك الموهومات والمشكوكات نظرا إلى العسر ، والعمل بالمظنونات نظرا إلى الاحتياط ، وقد سبق أيضا ما فيه من الضعف.
ويزيدك توضيحا : أنّ لزوم العسر لا يقضي بتعيين (2) العمل بالظنّ بل الضرورة إنّما تتقدّر بقدرها على ما عرفت في المقدّمة ، فإنّ التكليف بالاحتياط ثابت ، والعسر مانع ، وحيث إنّ العسر لا يمنع من الاحتياط (3) في سلسلة خاصّة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فلا بدّ من الترجيح ؛ لأنّ الحكم بالاحتياط إنّما هو في جهة إدراك الواقع ، وظاهر أنّ ترك الموهوم أولى من ترك المظنون والمشكوك حينئذ ؛ لاستقلال العقل بذلك ، وأمّا المشكوك ، فلا بدّ من العمل به أيضا حيث إنّ المانع من الاحتياط قد ارتفع في ترك الموهوم ، فالاحتياط فيما لا مانع منه محكّم ، فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة.
لا يقال : على تقدير العمل بالمشكوك على أن نفعل كلّ ما نشكّ في وجوبه ونترك كلّ ما نشكّ في حرمته ، يلزم المحذور أيضا ، فدفعا للعسر لا بدّ من ترك المشكوك والأخذ بالمظنون فقط وهي النتيجة المطلوبة.
لأنّا نقول : أوّلا : لا خفاء لمن له أدنى خبرة في الفقه قلّة المشكوكات جدّا ، فإنّ
ص: 198
المجتهد دائما إمّا (1) يظنّ بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو بعدمهما ، وأمّا (2) تساوي طرفي إدراكه في حكم وعدم ترجيح أحد طرفيه على الآخر - ولو في الجملة - على وجه يخرج من الشكّ ، فإن كان ، فهو أقلّ قليل لا يلزم من العمل بها وانضمامها إلى المظنونات محذور.
وثانيا : إنّ إلحاق المشكوكات بالموهومات ممّا لا يكاد يتمّ ؛ لأنّ العامل بالظنّ المطلق إنّما يعمل بالأصول الخاصّة في الموارد المخصوصة في المشكوكات ، مثلا فيما لو شكّ في حرمة العصير العنبي بعد الغليان بعد العلم بعدمها قبلها ، يحكم بعدمها استصحابا للحالة السابقة ، وفيما لو شكّ في وجوب السورة يستند إلى قاعدة الشغل مثلا ، وليس كذلك في الموهومات ، فإنّ الأصول الجزئية نطرحها في مقابل الظنون المطلقة مع أنّ إلحاق المشكوك بالموهوم يقضي بخلافه ، فإنّ اعتبار الظنون المطلقة لم يثبت بعد ، ولا ينافي ذلك لزوم العسر في العمل بالموهومات كأن يقال : إنّ العسر قد ارتفع به العلم الإجمالي الحاصل بين الموهومات ، فلا وجه للعمل بمقتضى الأصول فيها ؛ لأنّ العسر إنّما ارتفع به العلم الإجمالي الموجود بين جميع سلاسل التكاليف مظنونها وموهومها ومشكوكها ، وأمّا الأصول ، فلا دلالة في العسر على ارتفاعها كما أنّ العسر لا يقتضي طرح الأصول في المشكوكات ، فكذا في الموهومات.
والحاصل أنّ العامل بالظنون المطلقة يجعلها بمنزلة العلم في مقابل الأصول في الموهومات الخاصّة كما أنّ العامل بالظنون الخاصّة يجعلها كذلك ، وذلك منهم لا يلائم إلحاق المشكوك بالموهوم ؛ إذ على تقديره ، فلا بدّ لهم إمّا من طرح الأصول في المشكوكات وعدم العمل بها فيها كما في الموهومات أو العمل بها في الموهومات أيضا ، فإنّ العسر كما ألغى العلم الإجمالي في الموهومات رأسا ولو في الموارد الخاصّة ، بحسب الأصول الخاصّة فكذلك في المشكوكات على تقدير إلحاقها بالموهومات ، فلا وجه
ص: 199
للعمل بالأصول فيها دونها.
وببيان أوضح أنّه لا شكّ أنّ العامل بالظنّ قد يعتمد على بعض الأصول في الموارد الجزئية كما في المثالين المذكورين في سلسلة المشكوكات ، ولا يعتمد عليها في الموهومات نظرا منه إلى أنّ الظنّ القائم بخلاف الأصل دليل علميّ به ينقطع الأصل ، ويرتفع به موضوعه المعلّق على عدم العلم ، وسرّه (1) على هذا التقدير الوارد على قاعدة الاحتياط محكّمة (2) في الموهومات ، فكأنّه لم يكن من أطراف العلم الإجمالي ، فلا عبرة بها من جهة أنّها موهومات ، ولا من جهة ( أنّها من ) (3) الأصول ( المعتمد ) (4) إليه (5) في مواردها ، وحينئذ فلو كان قاعدة العسر محكّمة في المشكوكات أيضا ، فلا بدّ فيها من أن يعامل معاملة الموهومات حيث (6) إنّه يطرح الأصول في مقابلة الظنّ ، فلا بدّ من طرحها في مقابلة الشكّ نظرا إلى اتّحاد المناط فيهما ، والعامل بالظنّ المطلق لا يلتزم (7) بذلك ، اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بما ستعرفه في إبطال المقدّمة الخامسة من أنّه لا يمكن أن يعامل المشكوك معاملة الموهوم نظرا إلى لزوم العسر كما سيجيء.
وأمّا بطلان المقدّمة الخامسة القائلة بأنّ المرجع بعد انسداد باب العلم وبقاء التكليف في الجملة ليس إلى الأصول الجزئية في الموارد الجزئية على حسب اختلاف المقامات وهي العمدة ، فإنّ الرجوع إليها بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ هو الذي تقتضيه القواعد المعمولة عندنا في أمثال المسائل ، فإنّها في محالّ جريانها علوم شرعية تفصيلية لا مناص من الاستناد إليها.
وإذ قد انجرّ الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتجديد المقال ، لتوضيح الحال ، فنقول - وهو اللّه الموفّق والمعين - : إذا انسدّ لنا باب العلم ولو بالمعنى الأعمّ ، وعلمنا بقاء التكليف
ص: 200
إجمالا ، وقلنا بأنّه لا يعقل الاستناد إلى طرق احتمالية كالقرعة والرمل والاستخارة لكونها شكّية مفادا واعتبارا ، فتلك في عرض الوقائع المشكوكة ، والاستناد إليها لا يزيد المستند إلاّ شكّا ، فلا بدّ لنا من الرجوع إلى الأصول العملية الدائرة بين الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير بالحصر العقلي ؛ لأنّ المكلّف تارة يعلم بالحالة السابقة ، وأخرى لا يعلم ، والأوّل مجرى الاستصحاب على القول به ، وعلى الثاني فتارة يعلم بالتكليف ولو إجمالا ، وأخرى لا يعلم ، والأخير مجرى البراءة عند القائل بها ، وعلى الثاني فتارة يمكن الاحتياط ، وأخرى لا يمكن ، والأوّل مورد الاشتغال على القول به ، والثاني محلّ التخيير عند من يراه ، وحينئذ فالمستدلّ بدليل الانسداد إن كان ممّن لا يرى حجّية تلك الأصول حيث إنّه يعتمد على الأوّلين من باب الظنّ والوصف أو السببية المقيّدة بعدم قيام الظنّ على خلاف الاستصحاب والبراءة ، ولا يقول بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية والاحتياط بل يكفي بعدم لزوم المخالفة القطعية كما رآه الفاضل القمّي (1) في بعض وجوه المسألة ، ولا يلتزم بالتخيير ؛ لاختصاص مورده بتساوي الطرفين ، ومفروضه رجحان طرف الظنّ ، فإثبات حجّية الظنّ عند ذلك القائل في غاية السهولة كما لا يخفى ، وإنّما الشأن إثبات حجّية الظنّ لمن يقول باعتبار الأوّلين تعبّدا شرعيّا ، ويحكم بوجوب تحصيل الموافقة القطعية ، وعلى تقديره قلنا أيضا : إنّ المرجع ليس إلى أصالة البراءة ؛ لاستلزامه الخروج من الدين ، ولا الاحتياط ؛ لاستلزامه العسر والحرج إلاّ أنّه قلنا أيضا : إنّ العسر والحرج لا يعيّن العمل بالظنّ فقط ، وقلنا بأنّ العامل بالظنون المطلقة ليس له إلحاق المشكوك بالموهوم كما تقدّم آنفا إلاّ أن يتمسّك أيضا بلزوم العسر كما يظهر من المقام ، فللمعترض أن يستند إلى التبعيض في الأصول السابقة حذرا من المحاذير اللازمة على تقديرها ، ففي كلّ مسألة جزئية لا بدّ من الاعتماد على أصل خاصّ
ص: 201
موجود في تلك المسألة من الأصول السابقة ، فإنّها في مفروض المسألة علوم تفصيلية كما مرّ من اعتبارها تعبّدا في البعض ، وعقلا في آخر ، فعلى المستدلّ إبطال هذا الاحتمال أيضا ، فنقول :
أمّا الاستصحاب منها في مواردها ، فتارة يرجع إلى إثبات التكليف فيما إذا كانت الحالة السابقة كذلك ، وأخرى إلى نفي التكليف فيما كانت الحالة السابقة كذلك ، وعلى التقديرين لا مجرى له.
أمّا أوّلا ، فلأنّ العلم الإجمالي لنا حاصل في جميع مواردها نفيا وإثباتا بل وفي كلّ منهما بالخصوص بانتقاض جملة كثيرة من مواردها ، فلا يجري.
وأمّا ثانيا ، فلأنّه على الأوّل يوافق مفاد الاحتياط ، وعلى الثاني يطابق مضمون البراءة ، وما يدلّ على بطلان الوجهين يدلّ على بطلانه في الوجهين أيضا.
وأمّا البراءة منها فمرجعها إلى نفي التكليف في محلّ جريانها ، وما نحن فيه ليس محلّها للعلم الإجمالي بوجود واجبات كثيرة ومحرّمات عديدة في تلك الموارد ، فلا تجري البراءة ، وحينئذ فلا بدّ من الإتيان بما نقطع معه سقوط التكليف بالنسبة إلى تلك الواجبات المردّدة ، والترك لما يحتمل الحرمة امتثالا لتلك النواهي الدالّة على حرمة تلك المحرّمات المردّدة ، فيرجع إلى الاحتياط في جميع الموارد ، وقد عرفت ما فيه من انعقاد الإجماع على عدم وجوبه ، ولزوم العسر والحرج على تقديره ، وأمّا إبطال سائر المحتملات في المقام من القرعة والاستخارة وغير ذلك ، فيكفي الشكّ في اعتبارها في عدم اعتبارها حيث إنّه على تقديره لا يوجب إلاّ الشكّ ، ولا يعقل الاستناد إلى الشكّ مع وجود الظنّ فيما نعلم (1) أنّ المطلوب هو الوصول إلى الواقع ، وكان منشأ التوهّم في هذه هو أنّ الدليل هذا لمّا كان عقليا ، فيظنّ بعضهم أنّ إتمامه يتوقّف على إبطال جميع ما يحتمل كونه طريقا ، ولذلك أورد أنّ بعد تسليم المقدّمات المذكورة ،
ص: 202
فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة ، لجواز أن يكون هناك طريق لا نعلمه ، وكأن غفل عن أنّ إبطال الاحتمال إنّما يحتاج إليه فيما لم يكن نفيه كافيا في بطلانه (1) ، وفي المقام يكفي في بطلان الطرق المحتملة المشكوكة كونها مشكوكة مع وجود الظنّ.
وبالجملة ، أنّ مجرّد وجود الطريق في الواقع احتمالا بل وظنّا بل وعلما أيضا ممّا لا يجدي بعد انسداد الطريق في وصوله إلينا ، مثلا لو فرضنا أنّ هناك طريقا علميا (2) كما هو كذلك في الواقع ، ولا يمكننا الوصول إليه ، فلا شكّ أنّ ذلك لا يفيدنا شيئا ؛ فإنّ العمل في مرحلة الظاهر لا بدّ وأن يستند إلى دليل وطريق علمي ، أو ما يقوم مقامه ، والاستناد إلى الطرق المشكوكة لا يفيدنا شيئا ؛ حيث إنّه يعارض احتمال الوجود فيها باحتمال العدم ، فكأنّه لم يستند إليها ؛ لعدم تفاوت الحال في الحكم قبل الاستناد وبعده ، فالشكّ في حجّية هذه يكفي في عدم حجّيتها كما أنّ استقلال العقل في جعل الظنّ طريقا يكفي في حجّيته بعد وضوح أنّ المراد هو الوصول إلى الواقع بل هو حينئذ طريق منجعل بذاته لا يحتاج إلى جعل (3) كالعلم عند انفتاح بابه ، فظهر بما ذكرنا أنّ الاحتمالات المتصوّرة في المقام كلّها وجوه باطلة يكفي في بطلانها قيام الإجماع عليه ، ولذلك لم يحتمله أحد من الأعلام ، ولا اعترض بها على المقام إلاّ أنّ هنا احتمالا قد يتوهّم كونه طريقا بعد الانسداد ؛ لكونه من الطرق التي دلّ عليها العقل والنقل وإن كان لا يخفى بطلانه أيضا على من له خبر بالفنّ ، ومع هذا لا بأس بالتنبيه عليه وهو أنّ المجتهد بعد انسداد باب العلم له لا مناص من تقليده غيره ممّن يرى انفتاح باب العلم كما أنّه يجب عليه التقليد إذا لم يتمكّن من الاجتهاد كأن كان محبوسا ، أو نحو ذلك نظرا إلى إطلاق أدلّة التقليد.
ولا يخفى على من له مسكة فساد هذا الاحتمال وبطلانه.
ص: 203
أمّا أوّلا ، فلانعقاد الإجماع على خلافه.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ التقليد إنّما هو مشروع لمن لم يتمكّن من الفحص في الحكم الشرعي ؛ لاختصاص أدلّته به.
أمّا الإجماع ، فظاهر.
وأمّا الآيات ، فظاهرها كالأخبار فيمن لا يعلم الحكم من جهة عدم تمكّنه من الفحص والمفروض أنّه تمكّن من الفحص وبذل الجهد ، فعلم (1) بانسداد طريق العلم في الأحكام الشرعية ، فهو يعتقد بطلان ما يراه القائل بانفتاح باب العلم ، أو الظنون الخاصّة ، وقياسه على المحبوس مع الفارق لما عرفت من أنّ المحبوس فيما يرجع إلى المجتهد غير عالم ، فيشمله قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) بخلاف ذلك ؛ فإنّه عالم بالانسداد ، وذلك مثل ما لم يعلم المجتهد حكم مسألة جزئية بعد الفحص بواسطة إعواز النصّ عنده ولو كان من العاملين بالظنون الخاصّة ، فكما أنّه لا يتوهّم جواز تقليده لمن يعتقد وجود نصّ منها ، فكذلك في المقام.
نعم ، لو كان هناك مجتهد يعلم بانفتاح باب العلم في الواقع له لتمكّنه من الوصول إلى معادن الوحي أو لوجود الأصول المدوّنة في زمنهم عنده بحيث يصير جلّ الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وغيرها قطعية إمّا صدورا ، وإمّا (3) مضمونا ، فلا محيص عن التقليد كما أنّهم يعملون بفتاوى عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ؛ لتنزيلهم فتاويه منزلة النصوص وهو نوع من الاجتهاد بل وأعلى مرتبة منه على بعض الوجوه.
وأمّا الاحتمالات الأخر من العمل بالموهوم والتبعيض في الموارد والتخيير والتوقّف ، فمع أنّها مخالفة للإجماع ، فقد يردّه بعض ما أسلفنا لك في إبطال الوجوه
ص: 204
المتقدّمة ، فلا نطيل الكلام بذكرها ، وأنت بعد ما أحطت خبرا بما تقدّم تقدر على دفعها تفصيلا بل قد يقال إنّها كلام خارج عن قانون المناظرة.
نعم ، التبعيض - في الاحتمالات الظنّية والشكّية والوهمية ، أو في مراتب كلّ واحد منها من العمل بأقوى الظنون وترك ما سواه نظرا إلى العسر ، أو العمل بجميعها عدى الموهومات الضعيفة التي كادت أن يكون مقابلها معلوما - كلام يوافق قواعد المجادلة في إثبات المطالب إلاّ أنّه باطل أيضا إجماعا كما عرفت في إبطال التبعيض بين الأصول والأخذ في كلّ مورد بأصل موجود فيه ، فظهر من جميع ما تلوناه عليك أنّ بعد الانسداد وبقاء التكليف في الجملة وعدم جواز الرجوع إلى الأصول بعضا أو (1) كلاّ المرجع بحكم العقل القاطع هو الظنّ ، فتدبّر.
وما قد يتوهّم في المقام - من أنّ أدلّة حرمة العمل بما وراء العلم ينفي حجّية الظنّ - فواضح الوهن ، معلوم السقوط بعد ما عرفت مرارا من أنّ مرجعها إلى نفي التشريع ، أو طرح الأصول المعلومة ، المعلّق على العلم ارتفاعها ، فإنّ بعد استقلال العقل بطريقيتها واعتبارها لا مجال لكلّ واحد منهما ، فإنّ العامل به يجعله بمنزلة العلم ، فلا يلزم تشريع ولا غيره.
الأوّل : أنّ بعد ما عرفت من انسداد باب العلم وبقاء التكليف - ولو في الجملة - وعدم جواز الرجوع إلى الأصول كلاّ أو بعضا على ما عرفت تفاصيله ، فهل النتيجة اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الشرعية فقط ، أو في الطرق إليها كذلك ، أو فيهما معا؟ أقوال : المشهور بين القائلين بالانسداد هو الأوّل ، وذهب بعض الأعاظم في تعليقاته على المعالم إلى الثاني ، وتبعه في ذلك بعض الأجلّة في فصوله (2) والحقّ هو الثالث.
ص: 205
ولنذكر أوّلا وجوه القولين لينقدح حقيقة الحال ، فيما هو التحقيق في المقال ، ( فنقول ) (1) : إنّ القائل بانحصار الاعتبار في الطريق تارة يدّعي بأنّ المقدّمات المذكورة تنتج حجّية الظنّ في الطريق من غير تغيير فيها ، وأخرى يقرّر دليل الانسداد بوجه آخر غير ما هو المعروف من تحريره.
قال في الفصول الغروية في تقرير الدليل على هذا الوجه : إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا قطعيا (2) بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان ، وشهادة الوجدان ، إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق يقطع (3) من السمع بحكم الشارع على قيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها (4) بالقطع ، ولا بطريق يقطع بالسمع (5) بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه ، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب (6) أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين الطريق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجّيته ؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه.
ثمّ قال : وإنّما اعتبرنا في الظنّ أن لا يقوم دليل معتبر (7) على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ؛ لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري ، فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ومع تعذّر هذا النوع من الظنّ ، فالرجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل
ص: 206
على عدم حجّيتها حينئذ مع الاتّحاد ، ومع التعدّد والتكافؤ فالتخيير (1) ؛ لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذ به كما مرّ ، أو ترجيح المرجوح ، أو الترجيح مع عدم المرجّح.
ثمّ أفاد بعد ذلك : وممّا يكشف عمّا ذكرنا [ أنّا ] كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظنّ الفعلي [ بها ] كالقياس والاستحسان والسيرة الظنّية والرؤيا ، وظنّ وجود الدليل ، والقرعة وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها (2) أمارات أخر نعلم أنّ الشارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضا طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو بمعارضة الأمارات السابقة ، وهذه أمارات محصورة ، فمنها : الكتاب والسنّة الغير القطعيين والاستصحاب والإجماع المنقول والاتّفاق الغير الكاشف والشهرة وما أشبه ذلك ، فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعية في حقّنا أمارة أخرى خارجة عن هذه الأمارات.
قال : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار حتّى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظنّ - كبعض متأخّري المتأخّرين - نراهم لا يتعدّون في مقام العمل عن هذه [ الأمارات ] إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها ، وحيث إنّ النزاع قد وقع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التعارض ، ولا علم لنا بالظنّ (3) ، ولا طريق علميا إليه مع علمنا ببقاء التكليف بالعمل بها ، كان اللازم في ذلك الرجوع إلى ما يستفاد اعتباره (4) من هذه المدارك الاحتمالية لتقدّمها في نظر العقل حينئذ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا مقدّما للأقرب منهما (5) في النظر على غيره مع تحقّقه.
ص: 207
قال : فيثبت ممّا قرّرنا جواز التعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطرق التي هي أدلّة الأحكام على الظنّ (1) ، ثمّ على ما هو أقرب كذلك (2). انتهى.
وفيه نظر من وجوه :
الأوّل : أنّ أساس هذا البرهان وبناء هذا البنيان - على ما هو الظاهر - على وجود العلم الإجمالي بنصب طريق يوصلنا إلى مطلوب المولى ، وذلك في محلّ من المنع ؛ إذ من المحتمل أنّ الشارع قد وكلنا في الوصول [ إلى ] أحكامه المجعولة على الطرق المنجعلة عندنا التي قد استقرّ بناء العقلاء في تحصيل الإطاعة بالرجوع إليها من العلم ، أو ما يقوم مقامه عندهم ولو مع التمكّن منه ، أو مع عدم التمكّن منه ، وما ادّعاه من العلم الإجمالي ، فهو إمّا ناش عن (3) أنّ عدم النصب ينافي اللطف ؛ فإنّ فيه تقريبا للعباد إلى الطاعة مثلا ، أو يستند إلى دليل سمعي شرعي إن (4) لم يجب نظرا إلى اللطف.
فإن أراد من أنّه يلزم على الشارع الحكيم نصب طريق علمي للعباد في تحصيل الامتثال والإطاعة بعد جعل الأحكام للعمل بها نظرا إلى اللطف ، وأنّه لولاه يقبح التكليف ، فلا ريب في بعده عن سبيل السداد ، فإنّ (5) بعد ما يستكشف طريقة الإطاعة والامتثال من بناء العقلاء في أوامر مواليهم بالنسبة إلى عبيدهم من العمل بالعلم - فيما إذا كان تحصيله ممكنا - والتعويل على ما يقوم مقامه من الظنّ ولو في أعلى درجاته التعبّد (6) للاطمئنان ، لا يلزم على الحكيم قبح على تقدير عدم النصب ؛ لعدم الاحتياج إليه ، فإنّ العقل يستقلّ في تحصيل الطريق ولو بمعاونة بناء العقلاء في ذلك ، والنظر في أحوال السلاطين في نصب ولاتهم للبلاد يعطي ما ذكرنا ، فإنّ البيان مقصور عندهم (7)
ص: 208
على نفس الأحكام المجعولة لهم ، وذلك ظاهر لا سترة عليه ، وظنّي أنّ المدّعي أيضا لا يدّعي بذلك (1) كما يظهر من قوله : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع.
وإن أراد أنّ الدليل قد دلّنا على ذلك وإن لم يكن واجبا في نظر العقل كالإجماع مثلا ، ففيه أوّلا : منع الإجماع كيف؟ وجماعة من متقدّمي أصحابنا كابن قبة ومتابعيه (2) يقول بامتناع جعل الطريق الظنّي منه تعالى.
وأمّا العلم ، فقد عرفت فيما سبق أنّه بنفسه منجعل غير محتاج إلى الجعل ، وجملة منهم كالسيّد وأتباعه لا يرون وقوعه شرعا بل هم مكتفون في ذلك على الطرق المعمولة عند العقلاء في تحصيل الامتثال والإطاعة ، فأنّى لك بدعوى الإجماع والقطع به؟ فإنّ السيّد يعتمد على أصالة الحقيقة في الألفاظ ، ولا ريب أنّها ليست من الطرق المجعولة ، غاية ما في الباب أنّ الشارع قد أمضاها ، وذلك لا يقضي بجعل فيها كما لا يخفى.
وثانيا : أنّه قد تقدّم في بعض المباحث السابقة في الإجماع والتواتر أنّ ما نرى من اتّفاق جماعة على أمر واختلافهم في تعيينه على إطلاقه لا يلازم وجود قدر مشترك بين المجمعين والمخبرين ، فإنّه (3) يتحقّق على وجهين :
أحدهما : أن يكون (4) إطباقهم على قدر مشترك بين جميع الخصوصيات حقيقة ، و (5) كان الاختلاف فيها كذلك ، كاتّفاقهم على موت واحد واختلافهم في الميّت هل هو زيد أو عمرو مثلا ، ومثل اتّفاقهم على وجوب الصلاة في الجمعة واختلافهم في أنّها الظهر أو الجمعة ، فإنّ الاتّفاق المذكور يكشف عن أنّ الموت في الجملة واقع ، والصلاة على إجمالها واجبة.
ص: 209
وثانيهما : أن يكون الاختلاف في الخصوصيات من جهة الاختلاف في الأدلّة القاضية عند المخالف بها وبالقدر المشترك أيضا ، فلا يكشف عن القدر المشترك ، مثلا لو اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته نظرا إلى اختلافهم في الدليل الوارد في المقام من أنّه أمر أو نهي لا يكشف عن أنّ الإلزام في الجملة متحقّق ، فإنّ القائل بالحرمة كما ينفي خصوصية الإلزام الوجوبي ينفي نفس الإلزام أيضا ، وكذلك القائل بالإلزام الوجوبي ينفي الحرمة رأسا ، واختلاف الأصحاب في خصوصيات الأخبار من هذا الوجه ، ولا أقلّ من احتماله ، فإنّ بعضا منهم قد اعتمد على صنف خاصّ من جهة دليل خاصّ ، وصنف آخر منهم قد عوّل على بعض آخر كذلك كما ترى في اختلاف مداركهم من الآيات والإجماع والأخبار مثلا ، فيمكن تخطئة الجميع ، فلا يحصل الكشف.
وبالجملة ، إنّ المجمعين والمخبرين تارة يعلم من حالهم وكلماتهم اتّفاقهم في القدر المشترك ، وأخرى لا يعلم ، فمجرّد ما يرى من نفي الخصوصيات في كلماتهم لا يكشف عن كون المشترك بينهما مسلّما عندهم هذا ، ولئن أغمضنا عن ذلك ، فغاية ما هناك إطباقهم على أنّ القدر ( المشترك ) (1) من الطرق القطعية ، وأمّا أنّه مجعول ومنصوب للشارع بحيث قد جعله طريقا كما قد جعل في الموضوعات مثلا وفي القضاء كذلك ، فهو أوّل الكلام ؛ لاحتمال أن يكون ذلك من إمضاء الشارع للطريق المعمول عند العرف والعقلاء.
وأمّا ما استند إليه أخيرا من أنّه « كما نجد على الأحكام أمارات يقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طرقا إلى معرفة الأحكام مثلا كالقياس » فواضح الضعف والسقوط ؛ لاحتمال أن يكون ذلك منهم ردعا موضوعيا ، ومنعا صغرويّا ، إمّا من حيث إنّ القياس وأضرابه من الأمارات الظنّية الغير المعتبرة ممّا لا يجوز الاعتماد عليه عند
ص: 210
الانفتاح وحضور الإمام عليه السلام ، وإمّا من حيث إنّ القياس غالبا لا يصادف الواقع لعلمهم بالعواقب مثل ما نرى من اعتبار قول الثقة في المطالب العرفية عند أهله ، فلو قيل : إنّ المخبر الفلاني مثلا ممّا لا يجوز العمل بقوله ؛ لعدم الوثوق بقوله ، فكما أنّ ذلك لا ينافي الحكم بالكلّية القائلة باعتبار قول الثقة مثلا بل إنّما هو طرد موضوعي ، فكذلك فيما نحن بصدده.
ومن هنا يظهر عدم اتّجاه ما قد يتخيّل التعويل عليه في إثبات جعل الطريق منهم من الأخبار الآمرة بأخذ معالم الدين عن جملة من أصحابهم ، كقوله عليه السلام : « خذوا [ ب- ] -ما رووا وذروا ما رأوا » (1) وقوله عليه السلام : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (2) وقوله عليه السلام : « نعم » بعد قول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ (3) إلى غير ذلك ؛ لظهور الجميع فيما قلناه من بيان الطرق المعمولة عليها عند العقلاء وإمضائها كما هو مقتضى صحيح النظر في قول الراوي إنّه ثقة آخذ منه [ معالم ديني ] فإنّه سأل عن الصغرى بعد فرض الكبرى مسلّمة ، وفي قول الإمام عليه السلام : « المأمون على الدين » ولا أقلّ من الاحتمال ، فيقطع الاستدلال لعدم ظهوره فيما استدلّ عليه قطعا ، فدعوى القطع بأنّه اعتبر في حقّنا طريقا جعليا مجازفة بيّنة ، ومكابرة هشّة (4) على ما عرفت من عدم دليل على ذلك بل الإنصاف أنّ احتمال عدم جعل الطريق في الأحكام بعيد في الغاية ، وغريب في النهاية.
وممّا يكشف عمّا ذكرناه أنّ عموم البلوى في مثل المقام يقضي بعدم الخلاف في ذلك بل لا بدّ وأن يكون معلوما بالتفصيل كما أنّ التقليد في المقلّد كذلك ، فلو كان كما ذكر ،
ص: 211
لكان الواجب أوّلا أخذ الطريق ومعرفته ، ثمّ الحكم بعد ذلك بالعمل بمؤدّاها ، وعلى تقديره يصير معلوما كما لا يخفى ، فليتأمّل.
فإن قلت : إنّ منع العلم الإجمالي بنصب الطريق مكابرة ؛ إذ من المعلوم أنّا لو تشرّفنا بحضور الإمام ، وسألنا من أنّ المرجع لنا في الأحكام بعد انسداد باب العلم أيّ شيء؟ وعلى أيّ طريق نرجع ، فلا حجّة يهدينا إلى سبيل ، ويوصلنا إلى طريق؟ ولو كان مطلق الظنّ أيضا ، فنحن نعلم إجمالا أنّ الطريق في الأحكام موجود إمّا الظنون الخاصّة أو مطلق الظنّ ، فيعمل في طريقه الظنّ ، ويتمّ المطلوب.
قلنا : لا يخفى على المتأمّل في المقام ، فساد هذا الكلام ، فإنّ القول بطريقية الظنّ المطلق ليس في عرض القول بطريقية غيره من الظنون الخاصّة حتّى يصحّ القول بالعلم الإجمالي بهما ، فإنّه يترتّب على انسداد باب الظنون الخاصّة ، والترديد لا يتصوّر بينها وبين الظنّ مطلقا كما أنّ الأصول العملية ليست في مرتبة الأدلّة الاجتهادية ، فإنّ فرض وجودها ينافي وجود الظنّ ؛ إذ على تقديرها يرتفع القول بالظنّ المطلق ارتفاعا موضوعيا فكما أنّ المجتهد لا يتردّد أمره بين الأخذ بالأصول وبين الأدلّة الاجتهادية فكذا في المقام لا يتعقّل الترديد بينهما ؛ إذ على تقدير جريان دليل الانسداد نعلم علما تفصيليا بطريقية مطلق الظنّ ، وعلى تقدير عدم جريانه بواسطة وجود الظنون الخاصّة نعلم علما تفصيليا بطريقية غيره.
نعم ، يصحّ هذا فيما إذا لم يدخل المجتهد في المسألة ، فإنّه يعلم أنّ مرجعه بعد الدخول إمّا الأصل ، أو الظنّ المطلق ، وإمّا الأدلّة الاجتهادية ، أو الظنون الخاصّة.
وأمّا بعد دخوله في المسألة ، فلا ترديد له كما عرفت ؛ إذ بعد وجود الدليل فالأصل أو الظنّ لا مجرى لهما قطعا ، وعلى تقدير عدمه ، فالمرجع إليهما قطعا ، فتدبّر.
الثاني : سلّمنا وجود العلم الإجمالي بنصب الطريق من جهة العلم بأنّ الشارع مثلا قد أمضى بعض الطرق العرفية ، ونهى عن بعض آخر ، فتصرّف فيها جرحا وتعديلا ،
ص: 212
فيكشف ذلك عن أنّه لم يرض لنا بالعمل بما في أيدينا مطلقا بادّعاء كفاية مثل ذلك في نصب الطريق ، وعدم افتقاره إلى أمر آخر غير ما ذكر ، فلا نسلّم وجود المنصوب منه عندنا ؛ لاحتمال انتفاء موضوعه ، فإنّه يحتمل أن يكون المنصوب منه هو الخبر العادل الواقعي ، أو الخبر المستفيض ، أو الخبر العدل من غير واسطة مثلا ، ومصاديقه ليست بموجودة عندنا بواسطة حدوث السوانح ، وعروض الحوادث ، فيقطع التكليف به ؛ لارتفاع موضوعه.
وبالجملة : إنّ مجرّد العلم الإجمالي ونصب الطريق على تقديره لا يلازم بقاءه في زمننا ، فيحتمل أن لا يكون الطريق المنصوب في الطرق الموجودة عندنا بواسطة انتفاء مصاديقه لدينا ، فلا تكليف به ، فيقطع الاستدلال بواسطة قيام الاحتمال.
الثالث : سلّمنا العلم الإجمالي بطريق منصوب من الشارع موجود عندنا لكنّه مع ذلك لا يقضي بإعمال الظنّ فيها لوجود القدر المشترك المتّفق عليه بين الكلّ في البين ، فهو معلوم تفصيلا ، وغيره مشكوك كذلك ، فلا وجه للعمل بالظنّ.
توضيحه : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر إذا كانا غير مرتبطين كأن دار الأمر بين وجوب ثلاثة أمور ، أو أربعة ، فلا شكّ في أنّ الأقلّ معلوم الوجوب ولو بالنسبة إلى الأكثر حينئذ ، بخلاف ما (1) إذا كانا متباينين كما إذا دار الأمر بين وجوب أمر ووجوب غيره ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للعمل بالظنّ فيه ، وعلى الثاني ، فقد يحتمل على بعض الوجوه كما يظهر ممّا سيجيء ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، فإنّ كلّ من قال باعتبار الشهرة ، فقد قال باعتبار الإجماع المنقول ، ومن قال باعتبارهما ، فقد قال باعتبار الحسان والموثّقات من الأخبار ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح على ما هو المشهور فيها ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح بالمعنى المختار عند صاحب المعالم والمدارك ، وعلى قياسه الكلام فيما إذا لاحظناها
ص: 213
متنازلة إلى أن يصل إلى أقوال متباينة كما في الشهرات والضعاف مثلا ، فإنّ البعض منهم من قال باعتبار الأوّل دون الثاني ، وبعض آخر قال بالعكس مثلا ، وحينئذ نمنع حصول العلم الإجمالي بوجود (1) طريق منصوب من الشارع في الأمارات المتباينة ، فهي طرق مشكوكة صرفة ، وما عداها معلومة محضة لا ترديد فيها ، فيجب العمل بها دونها ؛ لأصالة البراءة الخالية عمّا يصلح رافعا لها ، فإنّ أدلّتها عقلا ونقلا محكّمة في مقام الشكّ في التكليف كما في المقام.
الرابع : سلّمنا العلم الإجمالي في الطرق الموجودة المتباينة لكنّه مع ذلك كلّه لا ينهض على المدّعى ؛ فإنّ قضية العلم الإجمالي بالاشتغال في دوران الأمر بين المتباينين - كما هو المفروض - هو تحصيل البراءة القطعية من الإتيان بجميع المحتملات ، فإنّ القطع بالاشتغال ، يقضي بالقطع بالامتثال ، فلا يتمّ ما ذكره من استعلام حال (2) المعلوم المردّد بإعمال الظنّ.
لا يقال : لا وجه للاحتياط في مثل المقام ؛ لدوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ إذ كما نعلم بوجود طريق منصوب يجب العمل بمؤدّاه في الأمور المتباينة ، فكذا (3) نعلم بوجود أمارة باطلة يحرم العمل بها فيما بينها.
لأنّا نقول : إنّ العلم بوجود أمارة باطلة غير منصوبة من الشارع كالقياس فيها لم يحصل لنا بعد ، واحتمال وجودها لا يجدي بعد جريان البراءة الأصلية.
فإن قلت : إنّ غاية ما هناك وقصارى ما يتوهّم في المقام منع العلم بحرمة العمل بأمارة ظنّية حرمة ذاتية كما في القياس ، وأمّا حرمة العمل بها ولو بواسطة العمومات الناهية عن العمل بمطلق ما وراء العلم ، فممّا لا يكاد ينكر دفعه وهي تكفي (4) في المقام كما لا يخفى.
ص: 214
قلت : قد عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ مرجع الأدلّة الناهية إلى نفي التشريع ، وعدم جواز طرح الأصول المعلّقة على العلم في مقابلة الظنون الغير المعتبرة ولا شيء منهما فيما نحن بصدده.
أمّا الأوّل ، فواضح ، فإنّ التشريع هو إدخال ما ليس من الدين فيه على أنّه منه ، وفي صورة الاحتياط ليس كذلك ، فإنّه يعمل بالمحتمل لرجاء أنّه من الدين ولإدراك الواقع ، فالاحتياط شرّع طريقا ظاهريا ، فيجب الأخذ به في أمثال المقام ، فعلى تقديره يرتفع التشريع بانتفاء موضوعه وارتفاع محلّه.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الأصول العملية واللفظية إذا لم تكن مخالفة لمؤدّيات الطرق المحتملة كأن دلّت الأصول على وجوب شيء ، والشهرة أيضا دلّت عليه مثلا ، فلا إشكال ، وأمّا إذا كانت مخالفة لها ، فالأصول تارة نافية للتكليف كالبراءة والاستصحاب في بعض موارده والتخيير ، وأخرى مثبتة له كالاشتغال والاستصحاب في بعض آخر من موارده.
وعلى الأوّل ، فلا منافاة بينهما أيضا ، فإنّ البراءة والاستصحاب مفادهما حينئذ لا يزيد على الرخصة وهي لا تنافي العزيمة فعلا وتركا كما يستفاد من الطرق المحتملة ، فلو قامت الشهرة على وجوب شيء يقتضي الأصل العملي واللفظي كأصالة الحقيقة إباحته ، فلا شكّ في عدم منافاة الإباحة للوجوب في العمل كما إذا قامت على حرمته ؛ فإنّ وجوب الترك لا ينافي جواز الترك ؛ إذ له الترك دائما.
وعلى الثاني أيضا ، فلا منافاة فيما إذا كان مفاد الطريق كالشهرة إباحة شيء ، ومفاد الأصل كالاستصحاب أو الاشتغال وجوب شيء ؛ لما قد عرفت من عدم منافاة الرخصة للعزيمة ، وأمّا إذا قامت الشهرة على حرمة شيء والأصل يقتضي وجوبه ، فإن كان هو الاستصحاب ، فلا يجري قطعا ؛ لانتقاض مورده بالعلم الإجمالي ، بخلاف جملة من موارده كما تقدّم في إبطال الرجوع إلى الأصول الجزئية ، وإن كان الأصل هو
ص: 215
الاشتغال كأن قامت الشهرة على وجوب شيء والاشتغال يقضي بحرمته ، فتردّد الأمر بين الاحتياط في المسألة الأصولية كأن يعمل بمفاد (1) الشهرة لاحتمال كونها طريقا ، والاحتياط في المسألة الفرعية كأن يأخذ بمفاد الاشتغال ، وحينئذ فالحقّ وإن كان الأخذ بالاحتياط في الفرعيات على ما ستعرفه إلاّ أنّه مع ذلك لا يقضي بالعمل بالظنّ في تعيين الطريق كما هو مطلوب المستدلّ ؛ إذ لا مناص من الاحتياط ، أمّا في المسألة الأصولية فيما إذا لم يخالف مفاد الطريق مفاد الأصل ، وأمّا في المسألة الفرعية فيما إذا خالف مفاد أحدهما مفاد الآخر كما عرفت ، ولا يلزم العسر على هذا التقدير ، فإنّ الاحتياط في الأصول لا يلازم إثبات التكليف ، فإنّ بعد العمل بالشهرة فهي مختلفة المفاد ، فتارة ينفي التكليف ، وأخرى يثبته ، والاحتياط في الفرعيات يختصّ في موارد الاشتغال فيها كما إذا دار الأمر بين المتباينين مثلا أو غيره على وجوه اختلافهم في تعيين محلّ الاحتياط ، فكما (2) لا يلزم على العامل بالظنون المطلقة عسر في العمل بهذه الأمارات المختلفة المتشتّتة ، فكذلك لا يلزم على العامل بها من جهة الاحتياط.
الخامس : سلّمنا جميع ذلك ، وأغمضنا عن كلّه لكنّ الدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة التي هي حصر الحجّة في الظنّ في الطريق.
وبيان ذلك : أنّ الطرق المنصوبة إمّا أن تكون طرقا حالتي الانسداد والانفتاح ، أو في حالة الانسداد فقط وإن كان جعلها في حالة الانفتاح ، وعلى التقديرين لا ملازمة بين المقدّمات التي ذكرها والنتيجة التي قصدها.
أمّا على الأوّل ، فلأنّ مؤدّى الطريق على ما هو المفروض في عرض الواقع ، فعند التمكن من العلم بالواقع ، والعلم بمؤدّى الطريق ينحصر الأمر بين الأخذ بالواقع والأخذ بمؤدّى الطريق ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر كما إذا قامت البيّنة مثلا على ذهاب الحمرة في المغرب مع التمكّن من تشخيص الواقع لنا علما بالرؤية ونحوها ، فلا
ص: 216
يتعيّن العمل بأحدهما.
نعم ، لو انسدّ باب العلم في أحدهما ، تعيّن الأخذ بالآخر كما في الواجب المخيّر ، فإنّ بعد التعذّر عن العتق في الكفّارات يتعيّن غيره ، وقضية ذلك حجّية الظنّ فيهما لو انسدّ باب العلم فيهما معا كما في الواجب المخيّر أيضا ، فيحكم بالتخيير بين العمل بالظنّ في الأحكام الواقعية وبين العمل به في الطريق ، فكما أنّ الشكّ فيهما حينئذ ممّا لا عبرة به فيهما ، فكذلك يعتبر الظنّ فيهما.
وبالجملة ، إنّ الطريق والواقع إمّا أن يكونا مشكوكين ، أو مظنونين ، أو معلومين ، وقضيّة تساويهما في الطرفين من اعتبارهما في الأخير وعدمه في الأوّل تساويهما في الوسط أيضا ، فكما أنّ العلم بالطريق ينزّل منزلة العلم بالواقع عند التمكّن ، و (1) العلم به يغني عن العلم به ، فكذلك في صورة الظنّ ، فإنّه لو لم نقل بأولوية الأخذ بالظنّ المتعلّق بالواقع ، فلا أقلّ من تساويهما.
وأمّا على الثاني ، فلا يخلو إمّا أن يكون نصب الطريق في حالة الانسداد على وجه الانحصار - كأن يكون الاعتبار منحصرا في طرق معلومة مخصوصة ، وكان المرجع فيما عداها إلى الأصول - أو لا على وجه الانحصار وعدمه كأن عيّن العمل بطرق مخصوصة مع قطع النظر عن اعتبار طريق آخر وعدمه ، ويرجع الأخير إلى الأوّل ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بغير العلم تقضي بانحصار الطريق فيما عيّنه ، فلا بدّ من الرجوع فيما عداه إلى الأصول العملية ، غاية ما في الباب أنّ عدم جواز الرجوع في صورة الانحصار إلى (2) الطرق الأخر معلوم بالخصوص ، وفي صورة عدم الانحصار معلوم بواسطة العمومات ، وعلى التقديرين فبعد الإغماض عن ذلك ، فإنّ الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد - كآية النبأ والإجماع (3) المدّعى في كلام الشيخ وغيرهما (4) كما
ص: 217
لا يخفى - بإطلاقها يشمل حجّيتها في صورة الانسداد والانفتاح ، فلا ملازمة أيضا ، فإنّ الأحكام الشرعية بأسرها فروعها وأصولها إذا انسدّ باب العلم فيهما يتعيّن العمل بالظنّ ، فكما أنّ خطاب الشارع قد تعلّق بوجوب حكم فرعي ، وعند تعذّر العلم فيه يستعلم بإعمال الظنّ ، فكذلك إذا تعلّق بطريقية طريق ، ولا تتفاوت الحال فيهما ، فكما أنّ التكليف بالواقع شأني في صورة عدم العلم به ، فكذلك التكليف بالأخذ من الطريق أيضا ، ولا تتنجّزان على المكلّف فعلا إلاّ بعد العلم ، فكما يجوز بعد الانسداد إعمال الظنّ فيه ، يجوز فيه أيضا.
فإن قلت : إنّما يسلّم ما ذكر لو كان كلّ من التكليف بالواقع والطريق مستقلاّ لا علقة بينهما بإطلاق وتقييد وليس كذلك ؛ فإنّ التكليف بالواقع قد قيّده الشارع بالطريق ، فالمكلّف به في المقام هو الإتيان بمؤدّيات تلك الطرق ، ويكشف عن ذلك الإتيان بالطريق عند الانفتاح فيها والانسداد في الأحكام كما عرفت واعترفت فيما سبق آنفا ، وقد صرّح القائل بذلك فيما نقل عنه حيث قال (1) : ومرجع القطعين في الحقيقة إلخ ، فلا بدّ عند انسداد باب العلم فيهما من إعمال الظنّ في الطريق.
قلت : من الأمور الواضحة الجليّة التي لا يكاد يعتريها ريب أنّ قوله : « أقيموا الصلاة » مطلق ، وكذلك قوله : « اعمل بخبر العدل » يحكم أيضا بالامتثال ، فيقيّد حكمه الأوّل حكمه الثاني ، فيحكم بوجوب إقامة الصلاة على ما أخبر بها العدل ، وقضيّة ذلك بحكم العقل لا تزيد على التخيير بين العلم والأخذ بالطريق عند الانفتاح فيهما ، والأخذ بالطريق عند انفتاح باب العلم فيه دون الواقع ؛ لأولويّة الامتثال العلمي على الامتثال الظنّي ، وأمّا (2) عند الانسداد ، فالعقل لا يقضي بتقييد في الامتثالين ؛ إذ لو لم نقل بأولويّة الامتثال الظنّي بالنسبة إلى الواقع ، فلا أقلّ من تساويهما ، فالحكم بتقديم العمل
ص: 218
بالطريق في صورة انفتاح باب العلم فيه وانسداد باب العلم في الأحكام الواقعية لا يقتضي (1) بالحكم بتقديم الامتثال الظنّي في الطريق على الامتثال الظنّي في الحكم ؛ إذ كما عرفت علّة الأولويّة ووجهها في صورة الانفتاح في الطريق هو صريح حكم العقل بها بواسطة تقيّده الحكم بالامتثالين فيهما من جهة تقدّم (2) الامتثال التفصيلي العلمي على الامتثال الظنّي ، والعلم الإجمالي بالأحكام الواقعية بعد إحراز جملة منها بالطريق العلمي ينقلب بالنسبة إلى البعض المحرز بالطريق العلمي علما تفصيليا ، وبالنسبة إلى الآخر شكّا تفصيلا ، فيجري فيه البراءة الأصلية في محلّ جريانها وغيرها في غيره ، وليس هناك تقيّد لفظي كما قد يتوهّم كأن قال الشارع : اعمل بالواقع من الطريق الفلاني على وجه لو انتفى الطريق انتفى الواقع.
ثمّ لو سلّمنا أنّ هناك تقييدا لفظيا ، فلا ملازمة (3) أيضا بين المقدّمات المذكورة والنتيجة المطلوبة ، فإنّ مناط جعل الطريق من الشارع معلوم ؛ إذ لا يخلو إمّا أن يكون بواسطة غلبة مطابقته للواقع ، أو بواسطة اشتماله على خصوصية متداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف عنه ، وعلى التقديرين لا يوجب التقيّد في صورة الانسداد.
أمّا (4) على الأوّل ، فلأنّ بعد الانسداد في الطريق وإعمال الظنّ في الطريق يلزم إحراز الطريق المطابق للواقع غالبا بطريق لا يلازم المطابقة غالبا ، فالمناط في الجعل مفقود في المقام.
وأمّا على الثاني ، فلأنّ الخصوصية الموجبة لجعله طريقا لو كانت موجودة في غيرها ، فلا وجه لتخصيصها بالجعل ، ولو لم يكن ، فيلزم أيضا إحراز الخصوصية بما لا يلازم وجود الخصوصية ، وهل هذا إلاّ كرّ على ما فرّ ، والتقييد لا بدّ وأن يكون عند العلم بالطريق.
ص: 219
وتوضيحه : أنّ الشارع لو قال : اعمل بخبر العدل ، فما يصل إليك من الأحكام الواقعية فقط ، فلا شكّ أنّ جعل قول العدل دليلا إنّما هو عين مراعاة الواقع إمّا بواسطة غلبة المطابقة له ، أو بواسطة اشتماله على الخصوصية كما عرفت ، فلو علمنا قول العادل بخصوصه ، فلا إشكال في جواز الاعتماد عليه عند التمكّن من الواقع ، ووجوبه عند عدم التمكّن منه ، ولو لم نعلمه بالخصوص وعلمنا في طريق تعيينه (1) بالظنّ المطلق الذي لا يلازم المطابقة واقعا ، فلا شكّ في انتقاض الغرض على هذا التقدير وانتفاء وجه التقييد ، فيرجع الأمر إلى التساوي بين الأخذ بالظنّ في الطريق ، أو الواقع ؛ إذ المفروض أنّ جعل الطريق إنّما هو بواسطة مراعاة الواقع.
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأخذ بالظنّ في الطريق إنّما هو بواسطة أنّه مجمع الظنّين ومرجع المصلحتين ، وفيه أيضا أنّ مذاق المستدلّ لا يوافق هذا المشرب ، فإنّه إنّما يراعي الظنّ بالطريق ولو لم يفد الظنّ بالواقع ، وأنّه إنّما يناسب مقالة من يقول بأنّ النتيجة بعد الانسداد هو حجّية الظنّ في الجملة على نحو القضية المهملة كما ستعرفه ، وعلى تقديره فيرد عليه ما سنورده في ردّها من عدم كلّيته ؛ لجواز أن يكون الظنّ بالواقع في أعلى مراتب الظنّ ، والظنّ المظنون اعتباره في أدنى مراتبه موضوعا وحكما ، فلا يقاومه كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ سقوط ما قد يستند إليه من قياس المقام بلزوم إعمال الظنّ في طريق القضاء للقاضي ، وعدم جواز الاتّكال على ما يفيد الظنّ بالواقع للمقلّد ، فالقاضي لا يجوز له إعمال الظنّ (2) في صدق المتخاصمين بل يجب عليه إحراز الطرق المقرّرة في الشريعة بقطع التحارب (3) ورفع التنازع وتحصيل موازين القضاء ولو بظنون
ص: 220
اجتهادية من أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز وغيرها ممّا اشتمل عليه كتاب القضاء ، وكذا لا يجوز للمقلّد إعمال الظنّ في نفس الأحكام الواقعية بل كما يكشف عن ذلك عدم جواز رجوعه إلى تقليد الميّت الأعلم بواسطة غلبة ظنّه بتطابق رأيه إلى الواقع عن تقليد الحيّ المظنون اجتهاده وعدالته بل الواجب عليه تشخيص المجتهد الذي هو طريق بالنسبة إليه بظنونه المتداولة بين أمثاله في تعيين الموضوعات من الرجوع إلى أرباب الخبرة في الاجتهاد والمصاحبة التامّة في العدالة مثلا ، وذلك للفرق الواضح بين المقامين.
أمّا إجمالا ، فلانعقاد الإجماع من المسلمين على عدم حجّية (1) ظنون المقلّد في الأحكام الواقعية والمجتهد في الموضوعات الخارجية في مقام القضاء بل الضرورة الدينية قاضية بذلك ، فالتقليد والقضاء إنّما شرّعا في أصل الشرع على وجه لا يجوز الرجوع فيهما إلى الظنّ في الأحكام في الأوّل والموضوعات في الثاني ، فإنّهما متعاكسان كما لا يخفى ، فعدم جواز الرجوع فيهما إلى غير ما هو المقرّر فيهما ليس من جهة الأصل والعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم بل بواسطة ثبوت حرمته بالخصوص كالقياس وأضرابه ، وذلك لا يقضي بعدم جواز إعمال الظنّ في غير الطريق والاتّكال عليه في الأحكام فيما ليس كذلك على ما هو ظاهر.
وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الظنون المعمولة في تمييز (2) الموضوعات للمقلّد والأحكام للقضاء ظنون مضبوطة معلومة مندرجة تحت قاعدة مقرّرة في تعيين الموضوعات عندهم من قول أهل الخبرة ونحوه ، وفي تمييز (3) موازين القضاء من الشهرات والإجماعات المنقولة وأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات التي تصادف الواقع غالبا بخلاف الظنّ المعمول في الموضوعات للقضاء ، فإنّه غالبا من الأمور التي لا عبرة بها ،
ص: 221
وقلّما يتّفق مطابقتها للواقع كحسن الظنّ بالمدّعي مثلا ولا سيّما بالنسبة إلى خصوص آحاد المكلّفين المختلفين بحسب قوّة تخيّلاتهم ، وضعفها المنتهية إلى اختلاف مراتب أغراضهم ، وبخلاف الظنون المستعملة في الأحكام للمقلّدين من الحدسيات والتخمينيّات المختلفة بحسب اختلاف آرائهم ، ولعمري لو أنّه يجوز للمقلّد إعمال ظنّه في تشخيص الأحكام ، لكان كلّ واحد منهم متديّنا بغير ما تديّن به الآخر ، وينجرّ ذلك إلى اضمحلال الدين وفساد شريعة خاتم النبيّين وكساد طريقة سيّد المرسلين ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج.
نعم ، لو فرض تمكّن المقلّد من تشخيص الأحكام بمثل ما يشخّص به الموضوعات من الظنون المنضبطة ، لقلنا بجواز إعماله فيها ولا ضير فيه إلاّ أنّه خارج عن مفروض الكلام في المقام.
وأمّا ما ذكره (1) من عدم جواز رجوع المقلّد إلى الميّت الأعلم من جهة ، فمع أنّه ليس بذلك المعلوم ، فإنّه طالما تشاجروا فيه ، فهذا هو المحقّق القمّي (2) وضرب (3) من الأخبارية (4) مجوّزون لذلك ، فالوجه فيه ما عرفت من قيام الإجماع عليه ، ولولاه لما كان القول بتلك المكانة من البعد.
وبالجملة ، فكما أنّ أسباب تمييز (5) الواقع والطريق إليه فيما نحن فيه متّحدة فإنّها في المقامين هي الإجماعات والأخبار والشهرات مثلا ، فكذا (6) لو كان في المثالين المقيس
ص: 222
عليهما أمارات التشخّص متّحدة نوعا في مورديهما ، لقلنا بجواز عمل القاضي بتلك الأمارات في تشخيص الموضوعات ، والمقلّد في تشخيص الأحكام ، فظهر أنّ قياسها على المقام قياس مع الفارق هذا تمام الكلام في الوجه الذي أورده بعض الأجلّة في فصوله.
وأورد بعض الأعاظم في التعليقة وجوها متقاربة حاصلها يرجع إلى دليل الانسداد بتغيير ما في إحدى مقدّماته ، فإنّ المطلوب في المقدّمة القائلة بعدم الرجوع في تعيين الحكم الثابت في الجملة في المقدّمة الثالثة إلى البراءة الأصلية كما احتملها محقّق الجمال (1) عدم جواز الرجوع إليها في نفس الأحكام الواقعية الثابتة في اللوح المحفوظ التي نزل بها جبريل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله في دليل الانسداد ، و (2) وعلى ما قرّره عدم جواز الاستناد إليها في مؤدّيات الطريق ، والفرق بينه وبين ما تقدّم نقله من (3) الفصول (4) أنّه زاد في الدليل مقدّمة وهي العلم الإجمالي بنصب من الشارع بخلافه ، فإنّه قد اعتبر عدم جواز إعمال البراءة في مؤدّيات الطريق وإن أمكن إرجاع كلّ منهما إلى الآخر ، وكيف كان فمناط هذا الوجه أنّ ما يتنجّز في حقّنا وفي حقّ غيرنا ممّن تقدّم علينا أو يتأخّر عنّا ولو في أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام ليس إلاّ التكليف بمؤدّيات الطرق المقرّرة ، والتكليف بالواقع إنّما هو شأنيّ محض ، واستكشف عن ذلك بالرجوع إلى أحوال المقلّدين في أخذ الفتاوى عن المجتهدين ، وأصحاب الأئمّة عنهم ، وبعضهم عن بعض ، فإنّ المرأة تراجع زوجها في أخذ أحكامها ، والصبيان بمعلّميهم (5) من غير احتمال الخطأ في الدلالة أو في السند أو في جهة الصدور ، فيعملون فيها بأصالة الحقيقة وأصالة عدم السهو والنسيان ، وأصالة عدم التقيّة ونحوها من الأصول المعمولة عند
ص: 223
العقلاء في استنباط مداليل الكلمات ، ومؤدّيات الأخبار والطلبات ، فالخطاب المتوجّه إلينا فعلا ليس إلاّ مثل هذه الأحكام ، ثمّ استظهره أيضا بجريان أصالة البراءة ، فإنّ وجود الحكم في الواقع لا ينافيها بل فيما لو كان الدليل مفقودا عندنا على الحكم ، فمن حيث عدم تنجّز التكليف بمفاد الدليل تجري أصالة البراءة في محلّ جريانها ، وتقضي عمّا لو حصل العلم بالواقع بأنّ بعد حصول العلم بالواقع ، فلا تكليف إلاّ به حيث إنّه لا يتصوّر طريقية طريق (1) بعد العلم ، فلا تكليف بمفاده لا فعلا ولا شأنا فإنّ السالبة قد تنفى بانتفاء موضوعها ، وأطال في بيان مرامه كما هو دأبه في غير المقام أيضا ، وفرّع عليه النتيجة المطلوبة من إعمال الظنّ في تشخيص الطريق لتحصيل الأحكام التي تتنجّز (2) في حقّنا ، ويتوجّه علينا فعلا بعد انسداد باب العلم إليها (3).
والجواب عن ذلك بعد تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا ريب في أنّ لله أحكاما واقعية في كلّ واقعة والدليل على ذلك بعد الإجماع من المخطّئة هو تسلّم (4) الخصم هنا وأنّها لا تنجّز في حقّنا إلاّ بعد العلم بها تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من الامتثال ، ولو لا أنّ العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف مع تمكّن المكلّف مثلا ، لما صحّ تكليف الكفّار بالفروع مع أنّ الإجماع منعقد منّا (5) على التكليف فيها بالنسبة إليهم ، ويدلّك على هذا ظواهر بعض الآثار المرويّة عن الهداة الأبرار عليهم السلام. (6)
فمنها : ما قد رواه بعضهم فيما سألهم عن سماع غناء الجواري ، فأجابه عليه السلام بأنّه « ما أسوأ حالك فيما لو تموت على مثل هذه الحالة » فإنّ من الظاهر أنّ العلم التفصيلي لم يكن له حاصلا ، ولو لا العلم الإجمالي أيضا ، فلا وجه لبقائه كما يظهر من قوله عليه السلام : « ما أسوأ ».
ص: 224
ثمّ إنّ جعل الطريق ونصبه من الشارع تارة في حال الانفتاح ، وأخرى في حال الانسداد.
وعلى الأوّل ، فقد يجعل الطريق لا من حيث اشتماله على مصلحة متداركة لمصلحة الواقع عند التخلّف عنها (1) بل الوجه في الجعل إنّما هو بواسطة غلبة مطابقته للواقع تسهيلا للعباد عند التخلّف ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة المتداركة.
والفرق بينهما أنّه على الأوّل رخصة ، فيحسن تحصيل الواقع بالاحتياط بعد الإتيان على وجه يوافق الطريق ، وعلى الثاني عزيمة يجب الاعتماد عليه ، فلا يحسن الاحتياط ، وتحصيل الواقع ؛ إذ هو في عرض الواقع حينئذ.
وعلى الثاني ، فقد يجعل الطريق من حيث هو مرآة للواقع ، وآلة للوصول إليه من غير اشتماله على مصلحة عدا كونه مرآة وآلة ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة التسهيلية ، ولا وجه لجعل الطريق حال الانسداد من جهة اشتماله على المصلحة المتداركة كما لا يخفى.
وعلى التقادير الأربعة ، فتارة على وجه الجعل حقيقة ، وأخرى على وجه الإمضاء في طرقهم المعمولة عندهم في استكشاف مطالبهم ، وإذ قد عرفت هذا فنقول :
إن أراد أنّ هناك طرقا جعلية تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف ، و [ أنّ ] المتداول في الإفادة والاستفادة للشارع وأصحابه إنّما هو في هذه الطرق ، فغير سديد ؛ للعلم القطعي بأنّ المجعول من الشارع على تقديره ليس من هذا القبيل ، ويكذّبه ملاحظة أحوال ما استكشف منه مطلوبه ، فإنّ من المعلوم أنّ مراجعة الزوجة والصبيان لزوجها ومعلّمهم ليس إلاّ من جهة استكشاف الواقع ، وكذا اعتماد العقلاء على الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ونحوها ليس إلاّ بواسطة أنّه لو لم يعتمد على تلك الأصول ، لكان التخلّف اللازم على تقديره أكثر من
ص: 225
التخلّف على تقدير الاعتماد عليها ، فنحن - كما نراجع وجداننا مرّة بعد أخرى ، وكرّة بعد أولى - لا نرى في نفوسنا عند الاعتماد على الطرق المقرّرة إلاّ من حيث إنّها كاشفة عن الواقع مبيّنة له ، ولا يكاد ينكره إلاّ مكابر ، أو من لا حظّ له من الفهم في شيء.
وإن أراد أنّ المتداول في الإفادة والاستفادة إنّما هو الطرق المقرّرة الكاشفة عن الواقع لا من حيث إنّها طرق تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة ، فغير مفيد فيما هو بصدده.
أمّا أوّلا ، فلأنّ الطرق المقرّرة عند العقلاء إنّما هي الطرق التي فطرهم على الاعتماد عليه ، وخلقهم معتمدين به ، فكلّ ما راجعوا إليه ، فهو طريقهم ، إن علما فعلم ، وإن ظنّا فظنّ ، فلا وجه للقول بانسداد باب العلم فيها.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ الطرق المعوّلة (1) عليها عند العقلاء ليس (2) إلاّ من جهة المرآتية والطريقية ، فلو فرضنا انسداد باب العلم فيها ، فلا بدّ من تحصيل مقدّمة أخرى غير المقدّمة المنسدّ فيها باب العلم ، ولا يقضي انسداد باب العلم فيها بإعمال الظنّ فيها كما لا يخفى.
ثمّ إنّ الإمضاء من الشارع لا يزيد على حكم العقل بالامتثال من جهة الإرشاد ، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرشاد والإمضاء ، فكما أنّ العقل بعد ملاحظة الأمر من الشارع يحكم على جهة الإرشاد بالامتثال ، فكذا الشارع إمضاؤه للطريق معناه إرشاده بالامتثال من الطريق ، فقد يتخيّل أنّ مجرّد هذا الإرشاد يقيّد (3) للأحكام الواقعية فكأنّها (4) لم تكن مجعولة أصلا ، غير منجّزة في حقّنا ؛ لما تقدّم في الردّ على الوجه الأوّل المنقول من الفصول.
وبالجملة ، إنّ القول بشأنية الأحكام الواقعية بأسرها إنّما يتمّ بعد انتفاء العلم رأسا
ص: 226
لا إجمالا ولا تفصيلا ، والقول بالتقييد إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ التعبّد شرعي لا عقلي ، وقد ظهر ممّا مرّ فساده بما لا مزيد عليه ، مضافا إلى أنّ التقييد على تقدير ثبوته أيضا ممّا لا يخيّل كما مرّ.
ثمّ إنّ ممّا مرّ في بيان هذا الوجه يظهر وجه آخر في عدم جواز اعتماد القاضي على الظنون المستعملة في استكشاف حكم الواقعة التي ترافع المتخاصمين إليه ، فإنّ القاضي لا بدّ وأن يعتمد على مداليل الطرق الخاصّة المقرّرة عنده ، ولا يجوز له التوصّل إلى الواقع ؛ لقوله : « نحن نحكم بينكم (1) بالظاهر ، واللّه أعلم بالسرائر » (2) ولما روي أنّ عالما من علماء بني إسرائيل قد ناجى إلى اللّه : يا ربّ ، كيف أقضي بين الناس بما لم تره عيني ، وسمعه أذني؟ فألهمه اللّه : اقض بين الناس بالبيّنات ، وأضفهم إليها باسمي (3).
وقد أورد في التعليقة أيضا وجهين آخرين لا بأس بنقلهما وبيان ما يرد عليهما.
الأوّل منهما تحريره موقوف على تمهيد مقدّمات بعد توضيح منّا (4) :
الأولى : أنّ مجرّد العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف على المكلّف كما تقدّم ، ويدلّك عليه - مضافا إلى ما عرفت - إجماع الفرقة مع قضاء ضرورة العقل به ، ولم نعرف في ذلك مخالفا إلاّ ما قد يظهر من المقدّس الأردبيلي (5) ومن اقتفى أثره (6) في أنّ الواجب بعد العلم هو الفحص وتحصيل المعرفة بالواجب وتشخيص الحرام لا
ص: 227
الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال.
ومن هنا قد أورد عليه المحقّق الجمال (1) بأنّ اللازم على تقديره وجوب المقدّمة دون ذيها إلاّ أن يلتزم بوجوبها نفسا وأصلا كما احتمله المستدلّ هذا في بحث المقدّمة (2) ، وبالجملة ، فلا (3) فرق في تنجّز التكليف بين أن يكون المكلّف عالما بالإجمال أو بالتفصيل إلاّ أنّ جعل البدل في الظاهر على الثاني غير معقول بخلاف الأوّل ، فيجوز للشارع أن يجعل في مرحلة الظاهر عند العلم الإجمالي بدلا من الأحكام الواقعية كالبراءة ونحوها من الاكتفاء بواحد من المعلومات الإجمالية في الشبهة المحصورة والاحتياط ، وهذا هو منشأ النزاع في البراءة والاحتياط.
الثانية : أنّ العقل بعد ما علم بالتكليف وقطع به ، وتنجّزه في حقّه يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة وتحصيل فراغها ، والتخلّص عن العقاب اللازم على تقدير المخالفة ولو بإسقاط الأمر كإدخال نفسه في موضوع غير موضوع المكلّفين كاختيار السفر عند وجوب الصوم وإحراق الثوب عند وجوب الغسل مثلا (4) ، ولا يتفاوت في ذلك مراتب العقول ، فإنّ هذا هو الذي فطرهم اللّه عليه حتّى أنّ ضعفاء العقول أيضا لايرتابون في ذلك بل الحيوانات العجم أيضا تقضي به.
نعم ، قد يزيد على ذلك في العقول الكاملة بواسطة علوّها في مدركاتها ، فإنّها تحكم بلزوم الإطاعة والامتثال والإتيان بالمأمور به من حيث كونه محبوبا للآمر ، وكون الآمر حقيقا لأن تمتثل أوامره ، أو كون المأمور جديرا لأن يتعبّد (5) بأوامر مولاه إلى غير ذلك من اختلاف مراتب الإطاعة والامتثال.
ص: 228
الثالثة : أنّ العقل يستقلّ بقيام الظنّ مقام العلم بعد تعذّره وحيث إنّ الواجب في المقام هو العلم بالفراغ على ما عرفت آنفا ، فلو تعذّر العلم به ، قام الظنّ مقامه ، والظنّ بالفراغ لا يحصل إلاّ بالظنّ المتعلّق بالطريق دون الظنّ بالواقع ؛ لعدم الملازمة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالفراغ ، ألا ترى أنّ القياس يحصل منه الظنّ بالواقع مع أنّا نعلم بانتفاء الاشتغال فضلا عن الظنّ بالفراغ ، وإذا تمهّد هذا ، تعيّن حجّية الظنّ في الطريق دون الواقع لتلازمه للظنّ بالفراغ وهو المطلوب.
والجواب عنه : أمّا أوّلا ، فبالنقض بما إذا كان الطريق مظنونا بظنّ غير معتبر ، فكما أنّ الواقع لو كان مظنونا بواسطة القياس مثلا ، لا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ ، فكذا لو ظنّنا طريقية طريق من جهة القياس ، فلا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ كما لا يخفى.
وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيانه أنّ المقدّمات المذكورة كلّها مسلّمة إلاّ أنّها لا تترتّب عليها النتيجة المطلوبة ، فإنّ التكليف بالواقع وبالطريق تارة يكون تكليفا فعليا كأن علمنا الواقع بخصوصه ، أو الطريق كذلك ، ولا ريب في الاجتزاء بكلّ واحد منهما حينئذ تعيينا عند حصول أحدهما خاصّة ، وتخييرا عند التمكّن منهما جميعا ، وأخرى يكون تكليفا شأنيا كأن لم نعملها كذلك ، فحينئذ لو كان الجهل سببا لسقوط التكليف ، فلا فرق بين الواقع والطريق ، وإلاّ فالظنّ يقوم مقام العلم فيهما من غير فرق بينهما حينئذ مع حصول الظنّ بالفراغ فيهما.
وتحقيق ذلك : أنّ الظنّ المتعلّق بالواقع والطريق لو كان من الظنون المعتبرة ، فالظنّ بالفراغ يحصل فيهما جزما ، ولا ينبغي الارتياب فيه ، ولو كان من الظنون الغير المعتبرة كالقياس مثلا ، ففي مورد القياس مثلا لنا حكمان :
أحدهما : الحكم الواقعي المطابق للمصالح والمفاسد ، الذي (1) تعلّق به القياس ، ولا ريب في عدم تنجّزه في حقّنا فعلا ، وكونه شأنيا بالنسبة إلينا.
ص: 229
وثانيهما : الحكم الظاهري المتنجّز في حقّنا فعلا وهو الرجوع إلى الأصول في مورد القياس مثلا لو ظننّا بوجوب الصلاة الفلانية من جهة القياس ، فالتكليف المتوجّه علينا في تلك الواقعة هو الأخذ بأصالة عدم الوجوب ، أو غير ذلك من الأصول التعبّدية ، ولو ظننّا بحجّية أمارة بواسطة القياس ، فاللازم في حقّنا هو الرجوع إلى عدم الحجّية مع أنّ المظنون بالنسبة إلى الواقع في الأوّل هو وجوب الصلاة ، وفي الثاني هو الحجّية (1).
فإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي من جهة القياس لا يستلزم الظنّ بالفراغ من التكليف الواقعي الشأني ، فمن المعلوم حصول الظنّ بالفراغ منه ، ولا ينبغي الارتياب فيه من غير فرق بين الواقع وطريقه.
وإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي لا يلازم الظنّ بالفراغ في الحكم الظاهري ، فهو كذلك إلاّ أنّه لا مزية اختصاص له بالواقع ، فالظنّ الحاصل بطريقية طريق قياس له على غيره لا يلازم الظنّ بالفراغ من حيث حكمه الظاهري في (2) لزوم العمل بأصالة عدم الحجّية في مورد القياس ، فتدبّر في الغاية ، فإنّه حقيق به في النهاية.
الثاني : أنّه كما قرّر الشارع أحكاما واقعية ، كذا قرّر طريقا للوصول إليه : إمّا العلم بالواقع ، أو مطلق الظنّ ، أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا ، فالواجب الأخذ به ، والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا نقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيا إلى الواقع نظرا إلى القطع (3) ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق ، وقطع العقل بقيام الظنّ حينئذ مقام العلم حسبما عرفت.
ص: 230
وفيه : ما عرفت أوّلا فيما تقدّم من أنّ حال مطلق الظنّ بالنسبة إلى سائر الأمارات إنّما هو حال الأصل بالنسبة إلى دليل اجتهادي ، فكما لا يجوز الترديد بين الأصل والدليل بأن يقال : المرجع في المسألة الفلانية إمّا الأصل ، وإمّا الدليل ، فكذا لا يجوز الترديد بين مطلق الظنّ وسائر الأمارات ، فإنّ كون الظنّ طريقا إنّما هو بجعل العقل ، ولا حكم له إلاّ بعد فرض انتفاء سائر الطرق الجعلية أو المنجعلة.
وثانيا سلّمنا ذلك ، لاحتمال كون مطلق الظنّ أيضا طريقا توقيفيا ، لكنّه يرد عليه ما أوردنا على الوجه الأوّل المنقول من الفصول ، فراجعه ، ولا نطيل بإعادته.
وقد يتمسّك في دفع هذا القول بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من قال بحجّية الظنّ في الأصول ، فقد قال بحجّيته في الفروع أيضا وهو كلام قشري لا لبّ فيه أصلا ؛ لما قد عرفت مرارا أنّ التمسّك بالإجماع المركّب مثلا إنّما يصحّ فيما لم تكن المسألة ممحّضة في العقليات بأن كانت لها جهة توقيفية ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الحكم ثابتا في أحد شطري الإجماع بواسطة علّة عقلية غير موجودة في الشطر الآخر - كما يدّعيه الخصم في المقام - فلا وجه للاستناد إليه قطعا ، وأمّا سائر الوجوه التي أوردها في التعليقة ، فمرجعها إلى لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن من اعتبار الظنون المظنون حجّيتها ، وستعرف فسادها فيما سيأتي بعيد (1) ذلك ، هذا تمام الكلام في إبطال قول من يرى حجّية الظنّ في الأصول فقط.
وأمّا ما ذهب إليه المشهور من القائلين بالانسداد من حجّية الظنّ في الفروع فقط ، فنظرهم على جريان دليل الانسداد في نفس الأحكام الواقعية ، وقضيّة ذلك لا تزيد على حجّية الظنّ فيها.
وأمّا الظنّ في الأصول ، فيبقى مندرجا تحت الأصل.
وفيه أوّلا : جريان دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعية ، والعمل بخبر
ص: 231
الواحد أيضا حكم شرعي بل هو أعظم الأحكام الشرعية ، فلو جوّزنا إعمال الظنّ فيها بواسطة جريان دليل الانسداد فيها ، فلا مناص من القول بحجّية الظنّ فيه أيضا.
وثانيا قد عرفت أنّ الواجب أوّلا وبالذات - الذي يحكم العقل بعد علمه بالتكليف ولو إجمالا - هو تفريغ الذمّة وهو كما يحصل بإعمال الظنّ في الواقع ، فكذا يحصل بإعمال الظنّ في نفس الطريق ، فلا وجه للاختصاص ، بل العمل بالطريق في الحقيقة لا يزيد على العمل بالواقع ، فإنّ العمل بخبر الواحد إنّما هو من جهة بدليّته عن الواقع يلازم الظنّ بتفريغ الذمّة عن الواقع كما لا يخفى.
فظهر من جميع ما ذكر في الردّ على الوجهين وجه القول (1) المختار أيضا ، وإنّما أطنبنا الكلام في المقام ؛ لأنّه من مزالّ الأقدام ، ومطرح الأوهام.
الثاني من الأمور التي ينبغي التنبيه عليه أنّه هل النتيجة الحاصلة من المقدّمات المذكورة عامّة كلّية ، أو مطلقة مهملة؟ وبعبارة : أخرى هل الحجّة بعد الانسداد كلّ ظنّ ، أو الظنّ في الجملة؟ ذهب إلى كلّ فريق ، والعموم والإهمال يؤخذان تارة بالنسبة إلى الأسباب كالظنّ الحاصل من الشهرات والإجماعات المنقولة ونحوهما ، وأخرى بالنسبة إلى الموارد أيضا كالظنّ في المسائل الفرعية والأصولية والاعتقادية والعملية والموضوعات الصرفة ونحوها (2) وسيأتي الكلام في الثانية مستوفى إن شاء اللّه.
وأمّا الكلام في الأولى (3) فتحقيق القول فيه أنّ دليل الانسداد تارة يقرّر في كلّ جزئيات المسائل المنسدّ فيها باب العلم كما عليه المحقّق القمي وصاحب المعالم ، فيتوقّف على إبطال البراءة والاحتياط في جميع الموارد الجزئية على نحو ما مرّ في إبطالهما من عدم الدليل على أصالة البراءة فيما لو خالفه خبر الواحد ، أو أمارة ظنّية
ص: 232
أخرى ؛ لابتناء اعتبارها على الظنّ عندهم وعدم الدليل على الاحتياط ؛ للاكتفاء بعدم المخالفة القطعية فيما لو علمنا بالتكليف إجمالا عندهم أيضا ، وعلى هذا التقدير لا بدّ من القول بحجّية الظنّ مطلقا من أيّ سبب حصل ؛ إذ مناط الاعتبار حينئذ هو هذا الوصف الراجح ، ولا فرق في نظر العقل بين خصوص الأسباب ، ففي كلّ ما انسدّ فيه باب العلم من المسائل الخاصّة يجب التعويل على الظنون الجزئية الناشئة عن خصوصيات الأسباب ، فعلى هذا لا وجه لكثير ممّا أورد عليه بعض من تأخّر عنه من الاكتفاء ببعض الظنون حيث إنّ في البعض الآخر أيضا (1) تجري (2) ما عرفت من الدليل إلاّ أنّ الكلام في أصل المبنى كما عرفت في مقدّمة إبطال البراءة والاحتياط.
وأخرى يقرّر على وجه الكلّية كما مرّ تقريره منّا ، فلا حاجة في تتميمه حينئذ إلى إبطال البراءة والاحتياط بالكلّية بل إبطال كلّيتها كاف في جريان الدليل كأن يقال : إنّ الرجوع إلى البراءة الأصلية يلازم الخروج من الدين والاحتياط يوجب الحرج كما عرفت ، وحينئذ فإمّا أن يكون العقل حاكما في النتيجة ، أو كاشفا فيها عن حكم شرعي.
فعلى الأوّل - كما هو الحقّ - فالنتيجة كلّية ؛ لأنّ حكم العقل لا بدّ وأن يكون دائما في موضوع متصوّر تفصيلا ، فإنّ العقل ما لم يحط بجميع جهات موضوع حكمه ومدركه لا حكم له ، ولا فرق في نظر العقل في الأسباب الظنّية إلاّ فيما قام القاطع على عدم اعتباره كالقياس في وجه ، فإنّه يحتمل أن يكون مثل القياس ؛ حيث إنّ الشارع قد كشف عن خطائه ، وأفصح عن عدم تطابقه للواقع غالبا ؛ إذ (3) العالم بالعواقب قد نهى عن سلوكه بواسطة أنّ في سبيله مفسدة عظيمة تساوق مصلحة الواقع لو لم يرد عليها خارجا عن موضوع حكم العقل ، فحكمه إنّما يخصّ ابتدائيا غير (4) هذا الموضوع
ص: 233
المنهيّ عنه مثلا وإن كان قد يحتمل عدم الفرق في نظر العقل من هذه الجهة أيضا ، وسيجيء في إخراج الظنّ القياسي وأضرابه زيادة توضيح لذلك فانتظر.
نعم ، لا ينبغي الارتياب في أنّ العقل يفرّق مراتب الظنون في الشدّة والضعف ، فالظنّ القويّ والشديد من أيّ سبب حصل هو موضوع حكم العقل ، ولا غائلة فيه.
وعلى الثاني فالنتيجة مهملة ، فإنّ (1) العقل حينئذ كاشف عن جعل طريق ظنّي من الشارع في الجملة من غير بيان للسبب فيه ، فيحتمل أن يكون الطريق بعد الانسداد مطلق الظنّ ، أو بعض أقسامه باعتبار السبب أو المرتبة ، فيحتاج القائل بمطلق الظنّ على هذا التقدير إلى مقدّمة أخرى تعمّ جميع الظنون إلاّ أنّ التحقيق هو حكومة العقل بعد الانسداد ، فإنّ مرجعها إلى تحصيل طرق الإطاعة والامتثال ، والعقل في أمثاله مستقلّ ، فكما أنّ طريق الامتثال في صورة الانفتاح هو العلم ، ولا فرق في نظر العقل في أسباب حصول العلم ، فكذلك طريق الامتثال بعد المقدّمات المذكورة في صورة الانسداد في نظر العقل هو الظنّ ، ولا يمكن افتراق أفراده بواسطة اختلاف أسبابه إلاّ على ما عرفت من الوجهين.
على أنّه لا ملازمة بين المقدّمات والنتيجة على تقدير الكشف ؛ إذ من المحتمل عدم جعل الشارع طريق الامتثال بعد الانسداد ، فلعلّه قد وكلنا على ما يستقلّ عقولنا بطريقيته كما هو كذلك في الواقع ، فيحمل ما قد يدلّ بظاهره على الجعل على مجرّد الإرشاد كالأمر بالإطاعة ، فإنّ وجوب الإطاعة ممّا لا يحتاج في إظهارها إلى أمر وإيجاب من الشارع ؛ لاستقلال حكم العقل فيها ، وإلاّ فيدور أو يتسلسل.
ويكشف عن ذلك إيراد إشكال القياس في المقام ، فإنّه على تقدير إهمال النتيجة ممّا لا يرتاب عدم اتّجاهه.
وبالجملة ، الإهمال والإجمال إنّما هما من صفات الألفاظ ، وأمّا العقل ، فليس فيه
ص: 234
شائبة منهما ، وعلى تقديره يصحّ الإيراد ؛ لعدم قبول حكم العقل التخصيص ، فيشكل إخراج القياس ، بخلاف ما لو كان الحكم شرعيّا ولو كان الحكم بترتّب النتيجة على المقدّمات عقليّا ؛ إذ لا كلام فيه بواسطة عمومه في جميع الاستدلالات ، فإنّه قابل للتخصيص ، فلا إشكال ، ولا حاجة في إخراج القياس إلى ارتكاب مثل هذه المحتملات والتكلّفات الباردة التي تضحك منها العجائز.
ثمّ لو قلنا بالكشف أيضا ، فهناك أمور تدلّ على التعميم سماّها (1) بعضهم بالمقدّمات المعمّمة :
فمنها : قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح كأن يقال : إنّه بعد ما استكشفنا بطريق العقل اعتبار بعض الظنون شرعا إجمالا فإمّا أن يكون ذلك البعض هو الظنّ المعيّن في الواقع غير المعيّن عندنا ، أو العكس ، أو المعيّن عندنا والواقع ، أو العكس والكلّ باطل ، والأخذ بالبعض دون البعض ترجيح بلا مرجّح ، فوجب أن يكون الكلّ هو المطلوب ، ويتمّ هذا الوجه لو أبطلنا ما يحتمل كونه مرجّحا لبعض الظنون بالنسبة إلى الآخر وهو أحد أمور ثلاثة :
الأوّل : كون بعض أفراده يقيني الاعتبار إمّا حقيقة (2) - كالصحيح الأعلائي المفيد للوثوق المعمول به عند جماعة كثيرة من الأصحاب - وإمّا بالنسبة إلى الآخر كالصحيح المشهوري المفيد للوثوق بالنسبة إلى الحسان ، أو الموثّقات مثلا.
الثاني : كون بعض أفراده أقوى من الآخر ، وأشدّ من غيره.
الثالث : كون بعض الأفراد مظنون الاعتبار ، ووجه الترجيح في هذا الوجه يحتمل أن يكون من حيث إنّ بعد ما تعلّق الظنّ لبعض أفراده ، فهو مجمع الظنّين ، وحائز المصلحتين ، فعلى تقدير احتمال التخلّف في الواقع قد يبقى احتمال بدليّة له في الواقع ،
ص: 235
وعلى تقدير احتمال التخلّف في بدليته قد يبقى احتمال اشتماله على مصلحة الواقع بخلاف ما إذا لم يكن الظنّ مظنون الاعتبار ، ويحتمل أن يكون من حيث جريان دليل الانسداد فيه كأن يقال : إنّ العمل بالظنّ حكم من الأحكام الشرعية التي (1) قد انسدّ فيها باب العلم ، فلا بدّ من تعيين المعتبر شرعا بالظنّ لانسداد باب العلم بالتعيين (2) فيه ، والكلّ لا يصلح مرجّحا : أمّا إجمالا ، فلأنّه بين غير مجد في الترجيح وبين غير كاف في العمل ، وأمّا تفصيلا ، فلأنّ القدر المتيقّن الحقيقي كالخبر الجامع لصفات الراوي كأن يكون عدلا إماميّا ضابطا ، والجامع لصفات المظنون كأن يكون موثوقا به ، ولصفات الاعتبار كأن يكون معمولا به عند الأصحاب في غاية الندور ، ولو فرض وجوده بين الأخبار ، فهو من الظنون الخاصّة المعتبرة بإجماع الفرقة المحقّة كما تقدّم ؛ إذ على تقدير انتفاء أحد القيود ينتفي اليقين قطعا ، فإنّه على تقدير انتفاء الخبر يحتمل حجّية غيره ؛ إذ لعلّ مناط الاعتبار هو الظنّ ، وعلى تقدير انتفاء العدالة يحتمل حجّية غيره ؛ لاحتمال إناطة الحجّية بالوثوق ، ولو انتفى الوثوق يحتمل اعتبار مطلق الخبر العدل ؛ لاحتمال ارتباط الاعتماد بالعدالة.
وأمّا القدر المتيقّن الإضافي ، فهو وإن كان كثيرا كما نبّهنا عليه في الردّ على بعض الأجلّة فيما تقدّم لكنّ الإنصاف ، أحسن الأوصاف ، ومقتضاه عدم وجود القدر المتيقّن بين الأمارات سوى ما عرفت سيّما فيما لو فرضنا أمارة ظنّية أخرى معارضة لها كما يظهر بالتأمّل.
وأمّا قوّة الظنّ ، فلأنّ المرتبة المنضبطة منها (3) - وهو الوثوق والاطمئنان وسكون النفس عندها وركونها إليها - فهو في غاية الشذوذ بحيث لو فرضنا الاعتماد عليه ، يلزم أحد المحذورين المزبورين : من الخروج عن الدين على تقدير إعمال البراءة ، والعسر
ص: 236
والحرج على تقدير الرجوع إلى الاحتياط ، وأمّا غيره ، فهي غير منضبطة بين مراتب لا تتناهى ، فإنّ مجرّد رجحان أحد الطرفين في مرتبة الإدراك يسمّى ظنّا إلى أعلى مدارج كماله إلى أن ينتهي إلى العلم ، ولذا لا فرق بين أفراد العلم في الحجّية وعدمها من العلوم القوية الشديدة ، والعلوم الضعيفة ، فأيّ مرتبة منها تكون حجّة مع أنّه قد يتراءى في النظر أنّ القول بتقيّد الحجّية بأقوى الظنون وإطلاق الأسباب قد يكون خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم ؛ حيث لا قائل بالفصل ظاهرا بين أقسام الشهرة ، وأنواع الإجماع ، وأفراد الاستقراء مثلا ، فتأمّل.
مضافا إلى أنّ الترجيح بالأقوائية ينافي ما قد بيّنّا عليه من الكشف ؛ لأنّه - كما هو ظاهر - لا يكاد ينكره إلاّ مكابر إنّ منشأ الترجيح بالأقوائية إنّما هو قرب الأقوى إلى الواقع وهو إنّما يتمّ لو كان الحاكم بالرجوع إلى الظنّ هو العقل ، وأمّا لو لم يكن ، فليس للعقل ترجيح أحد الظنّين على الآخر ممّا يتخيّله (1) مرجّحا ، كيف؟ ويحتمل في الأمور التوقيفية جعل الحجّة أدون مراتبه.
نعم ، هو كذلك في الواقع ؛ لما عرفت من أنّ التحقيق حكومة العقل ، فإنّا بعد ما فرضنا حكومة الشرع فيه وكشف العقل عنه ، فلا وجه للترجيح بالأقوائية ؛ لاستلزامه خلاف الفرض.
وأمّا كون الظنّ مظنون الاعتبار ، فعلى الأوّل من وجهي تقرير ترجيحه نقول :
أمّا أوّلا ، فلأنّا نفرض أمارة ظنّية أخرى تساوق ظنّه من جهة زيادة قوّة الظنّين : المتعلّق بالواقع ، والأمارة فيه بواسطة ضعفها مثلا حيث إنّ المناط في الترجيح على تقديره هو الأقربية وهو حاصل في الظنّ القويّ أيضا لو لم نقل بكونه أزيد.
وتوضيحه : أنّ كون الظنّ مظنون الاعتبار إنّما هو جهة ترجيحه على ما قرّرنا أنّه مجمع الظنّين وحائز المرتبتين ، وعلى تقديره يكون أقرب الوصول إلى الواقع ؛ لأنّ
ص: 237
احتمال الخلاف فيه موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال الخلاف في الظنّ بالواقع فقط ؛ فإنّه موهوم في مرتبة لأحدها (1) ، وعلى هذا لو فرضنا الظنّ بالواقع ظنّا قويّا دون مرتبة العلم ، أو الاطمئنان حصل (2) ، والظنّ في الواقع والطريق كليهما ظنّا ضعيفا في أوّل مراتبه ، فحينئذ لو لم يقل برجحان الأخذ بالظنّ القويّ فلا أقلّ من التساوي.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ الترجيح به ممّا لا يكاد ينضبط في مقام ، ويستقرّ في مرتبة ؛ لأنّ قضيّة ذلك اعتبار الظنّ المظنون اعتباره بظنّ آخر هو أيضا مظنون الاعتبار ، مثلا لو قام أمارة ظنّية مظنونة الاعتبار كالخبر مثلا على حجّية أمارة ظنّية أخرى كالإجماع المنقول مثلا وهكذا وإن استند (3) إلى انتهائه إلى ظنّ لم يكن اعتباره ظنّيا ، فيستند إليه أوّلا (4) من غير حاجة إلى مثل هذا التجشّم ، وإلاّ فيدور لو أعيد ، أو يتسلسل لو لم يعد ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.
و [ أمّا ] ثالثا ، فلأنّ الترجيح بالظنّ - على ما عرفت في الوجه الأوّل - كاشف عن حكومته ، فلا حاجة إليه ، وإلاّ فلا وجه للترجيح ؛ إذ لعلّ في نظر الحاكم هو غير ما ذكر.
وأمّا على الثاني من وجهي ترجيحه - كما زعمه بعض الأعاظم في التعليقة - كأن يقال : إنّ انسداد باب العلم وبقاء التكليف يكشف عن حجّية طريق من الطرق الظنّية ، وباب العلم بتعيّن (5) ذلك الطريق منسدّ ، والتكليف به باق ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في الطريق بحكم دليل الانسداد ، فلا مناص من الأخذ بالطرق المظنونة كالأخبار ، فإنّها بعد ما أفتى عليها الأدلّة القطعية كما عرفت لو لم تكن قطعية ، فلا أقلّ من كونها ظنّية بخلاف غيرها كالشهرة ، فإنّ عدم اعتباره مظنون بواسطة إعراض
ص: 238
المشهور عنه وهو المطلوب ، فبعد أنّه مبنيّ على مقدّمة فاسدة وهي كون العقل كاشفا عن حجّية ظنّ في الجملة ، ولا ملازمة عقلا ولا عرفا ولا شرعا بين المقدّمات المذكورة التي منها انسداد باب العلم وعدم جواز الرجوع إلى الأصول الكلّية والجزئية على ما تقدّم تفاصيلها ، وبين النتيجة على هذا التقدير وهي حجّية ظنّ معيّن واقعا غير معيّن عندنا ؛ لجواز الرجوع إلى الطرق المقرّرة عند العقلاء ؛ لأنّه من فروع الإطاعة والامتثال ، والعقل مستقلّ في طريقه ، فلو كان نتيجة الانسداد هي هذه ، فلا ريب في بطلانها.
ويرد عليه وجوه :
أمّا الأوّل ، فلأنّ المعهود المسلّم والقدر المحقّق من الأدلّة السابقة هو بين إفادة القطع باعتبار الأخبار كالصحاح المعمول بها عند الأصحاب الموثوق ، وبين عدم إفادته في وجه ، فلا وجه للتمسّك بها في ظنّية عنوان الخبر مطلقا ليتمّ ما رامه.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الدليل المعمول في النتيجة المهملة الحاصلة من الدليل الأوّل إمّا أن يكون مستلزما لنتيجة كلّية فليكن الأوّل أيضا مستلزما لها ، وإمّا أن يكون مستلزما لنتيجة مهملة مثل ما انتجه الأوّل ، وحينئذ فإن استند في تعميمها إلى دليل آخر ، فنقل (1) الكلام إليه ، وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور ، وإن لم يستند إلى دليل آخر ، فلا يجدي شيئا ، فإنّه إهمال في إهمال ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ العقل في النتيجة حاكم ، والمنكر إنّما يلجأ إليه عند ضيق خناقه ، ويلتزم بالحكومة من حيث لا يشعر ، ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه ؛ لأنّه هو نعم الوكيل.
ثمّ إنّ المحقّق النراقي قد احتمل وجها ثالثا لتقديم مظنون الاعتبار بين سلسلة الظنون غير الوجهين المذكورين ، وحاصله يرجع إلى أنّه لا معنى لمطالبة الدليل على ترجيح المظنون على غيره ، فإنّه بعد ما أورد على الدليل بوجوه عليلة قال في المقام :
ص: 239
وللخصم أن يختار شقّا ثالثا وهو العمل بالظنّ المظنون الحجّية (1) ، فيختار خصوصية ظنّ (2) من جهة الظنّ بالحجّية ، ولا شكّ أنّه لا يلزم حينئذ الترجيح بلا مرجّح.
ثمّ أورد على نفسه بما (3) حاصله : أنّ ترجيح الظنّ بالظنّ لا يتمّ إلاّ بعد القول بأصالة حجّية كلّ ظنّ ، فإنّ الظنّ المتعلّق بمثله لا بدّ وأن يكون حجّة حتّى يصحّ به الترجيح.
وأجاب عنه بأنّه خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، وناش عن عدم الفرق بينهما ، فمهّد لبيان مطلبه في الفرق بينهما مقدّمة ، ثمّ فرّع عليها ما نحن بصدده ، ومحصّله : أنّ الترجيح بلا مرجّح الذي يحكم العقل ببطلانه وامتناعه هو الكون مع أحد الطرفين والميل إليه والأخذ به من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك ، فهو أمر آخر وراء أصل الترجيح ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، وشتّان ما بينهما ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني في مقام التصديق والحكم ، وليس المراد من الأخذ بالظنّ المظنون الحجّية أنّه يجب العمل به ، والحكم بأنّه واجب العمل والتصديق به حتّى يلزم ما ذكره ، بل غرض المورد أنّه بعد ما يلزم على المكلّف ببقاء التكاليف (4) وانسداد باب العلم العمل بظنّ في الجملة ، لو عمل بالظنّ المظنون حجّية ما تقرّر فيه ، وأيّ نقض يلزم عليه؟ واستوضح ذلك بأمثلة عرفية :
منها : أنّه لو حضر طعامان عند أحد أحدهما ألذّ من الآخر ، فلو أكل هذا الشخص الألذّ ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذّ ، ولكن لو حكم بلزوم أكله ، لا بدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الأولويّة (5). نعم ، لو كان أحدهما
ص: 240
مضرّا ، يصحّ له الحكم باللزوم.
ومنها : أنّه من أراد المسافرة إلى بلد كان له طريقان متساويان من جميع الجهات ولكن يسافر بعض أحبّائه من أحدهما ، فلو اختاره أيضا المسافر ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، ولكنّه لو حكم بتعيّن (1) هذا الطريق المسلوك (2) ، احتاج إلى دليل. قال :
وبالجملة ، جميع الموارد كذلك ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح (3). انتهى ملخّصا ومحرّرا.
وأنت خبير بفساده في الغاية ، وكساده في النهاية ، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي أنّ من الأمور الجلية - التي لا يكاد يعتريها ريب - بطلان ترجيح الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره منه ، وعدمه على الآخر بدون مرجّح خارج عن الفعل والإرادة في نظره ، والمراد من المرجّح هو ما يخصّص ويعيّن وجود الفعل ، أو عدمه بالوقوع فلو لم يصل الترجيح حدّ الوجوب على وجه يمنع من الطرف الآخر ، فلا محالة (4) يجوز مع هذا الترجيح الطرف الآخر ، فعلى هذا لم يتعيّن الأوّل بالوقوع ، فالطرفان مع وجود المرجّح لم يخرجا عن حدّ إمكانهما ، ولم يبلغا درجة الوجود ، أو العدم ، فيحتاج في أحدهما إلى مرجّح آخر ، فما (5) فرضناه مرجّحا يلزم أن لا يكون مرجّحا ، هذا خلف. ومع ذلك فنقل الكلام إلى المرجّح الآخر ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، فالمرجّح في وجود الفعل وصدوره عن الفاعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه صدور الفعل منه ، ويمتنع جميع أنحاء عدمه ، ويمتنع معه صدور الفعل منه ، فإنّ الشيء ما لم يجب في نظر الفاعل لم يوجد في الخارج ولو وجودا علميا ، وما لم يمتنع لم يعدم ، وهذا ممّا قد اتّفقت عليه كلمة العدلية ، والمخالف في ذلك لا يعدّ في زمرة العقلاء
ص: 241
كالأشعرية ، فإنّ مرجع الترجيح من غير مرجّح إلى الترجّح من غير مرجّح (1).
فتارة من حيث وجود أصل الفعل في الخارج ، فإنّ نسبة الإرادة بالنسبة إلى الوجود والعدم متساوية ، وكذا الفاعل وغيره ، فلو صدر مع ذلك الفعل ، لزم ترجيح أحد طرفي الفعل الممكن وجوده وعدمه من غير مرجّح يقتضيه ، وبدون مخصّص يعيّنه بالصدور ، فإنّ الجزء الأخير من العلّة التامّة المقتضية لصدور الفعل بعد لم يوجد ، وبوجه آخر الترجيح في المقام عبارة عن وجود الفعل في الخارج بمعنى أنّ ما يحاذيه في الخارج ، وينتزع منه الترجيح هو نفس الفعل ووجوده كما في أضرابه من المفاهيم المنتزعة عن الفعل باعتبارات مختلفة كالشروع في الفعل ، ألا ترى أنّ فعل الأكل والشروع فيه غير الأكل في الخارج ، فترجيح الأكل معناه إيجاد الأكل في الخارج ، فلو جوّزنا الترجيح بلا مرجّح ، فقد جوّزنا وجود الفعل وترجيحه من غير مرجّح وهو فطريّ الاستحالة ، وضروريّ البطلان.
وأخرى من حيث نقل الكلام في الإرادة ، فإنّ وجود نفس الإرادة مع أنّها فعل اختياري لا بدّ له من مرجّح خارج عنها ، وإلاّ فيلزم وجود الإرادة وترجيحها بدون المرجّح ، وكيف كان ، فلا ريب في أنّ مرجع صدور الفعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه الفعل ، ويمتنع عدمه ، وإلاّ لم يوجد.
وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : إنّ ما ذكره في الفرق بين المرجّح والدليل بأنّ المرجّح غير الملزم في دفع ما قيل عليه ممّا لا محصّل له عند التحقيق ، فإن أراد في المثال المذكور أنّ مرجّح أكل الطعام الألذّ والعمل به لا يجب وأن يكون ملزما في صدور هذا الفعل من الآكل (2) ، فهذا الكلام باطل ؛ لأوله في الحقيقة إمّا إلى عدم صدور الأكل والفعل منه (3) ، أو إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ، وهو راجع إلى الترجيح بلا مرجّح ،
ص: 242
وتجويزه يوجب انسداد باب إثبات الصانع.
وإن أراد أنّ مرجع الحكم والاعتقاد بأكل الألذّ لا يلزم أن يكون ملزما ، فهذا أيضا كسابقه ظاهر البطلان ، فإنّ العلم أيضا موجود من الموجودات الإمكانية ، وجميع سلسلة الإمكان في وجوداتها (1) محتاج إلى سبق عللها ، وما لم يكن مرجّح وجود العلم موجودا ، أو ملزما بحيث يمتنع معه جميع أنحاء عدمه ، يمتنع وجوده على قياس المثال (2) ما نحن فيه ، فإنّ مرجّح اختيار الظنّ المظنون لا مناص من أن يكون ملزما له ، وإلاّ فيلزم المحذور السابق ، وكذا مرجّح الاعتقاد والحكم بأنّ بعد الانسداد المرجع هو الظنّ المظنون اعتباره لا بدّ وأن يكون مستندا إلى دليل يورث له ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّ مجرّد تعلّق الظنّ بالظنّ لا يصير مرجّحا للعمل بالظنّ ما لم يكن ملزما ، فالظنّ لو جوّزنا أن يكون ملزما لشيء ، فلم لا يكون ملزما للحكم الواقعي أيضا؟ وإلاّ فلا وجه في التزامه العمل بالظنّ أيضا ، فما أورد على نفسه في محلّه ، وما أجاب عنه غير مستقيم ، وكان منشأ الخلط أحد الأمرين :
أحدهما : ما قد يقال من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، فإنّه قد يتراءى منه أنّ المرجّح ما به يصير أحد طرفي الفعل أولى من الآخر ، فيجوز صدور الآخر إلاّ أنّ الأولى هو صدور الطرف الراجح من الفاعل كما يظهر من تمثيله بالمسافر والأكل.
وثانيهما : ما قد يظهر منهم في باب التعارض والتراجيح من أنّ المرجّح غير الدليل ، وكلّ منهما لا دلالة له على ما ذكره.
أمّا الأوّل ، فلأنّ معناه أنّ ترجيح أحد المتساويين وإيجاده (3) على الآخر بمرجّح وملزم لا يعدّ في نظر العقلاء مرجّحا وملزما قبيح ، لا أنّه يمكن ترجيح أحد المتساويين على الآخر وإيجاده ووجوده من غير مرجّح ومخصّص لإحدى كفّتي ميزان وجوده
ص: 243
وعدمه ، وعلى قياسه الكلمة المشهورة على لسانهم من قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وتفضيل المفضول على الفاضل ، فإنّ أمثال ذلك لا تخفى عن العاقل فضلا عن الفاضل.
وأمّا الثاني ، فلأنّ قولهم : المرجّح غير الدليل كما في الشهرة ؛ حيث يقولون بأنّها مرجّحة (1) لا دليل عند تعاضده بأحد الاحتمالين ، معناه أنّها توجب مزيّة لأحد الاحتمالين لم يكن قبل ، فإن أحدثت فيه المزيّة على وجه قطعي بأنّ المرجع هو هذا الاحتمال ، فلا شكّ أنّ المرجّح حينئذ دليل للحكم ، فإنّه جزء أخير للعلّة التامّة لحصول العلم المعبّر عنها بحسب الاصطلاح بالدليل وإن لم يوجب العلم بكون الموافق للمرجّح هو المرجّح ، فلا بدّ في إثبات كونه مرجّحا من دليل معتبر ، فإن قام على كونه مرجّحا دليل ، فهو دليل أيضا ؛ لأنّه جزء أخير لعلّة العلم بالحكم ، وإلاّ فيبقى عاطلا لا مرجّحا ، ولا دليلا ، مثلا لو احتملنا وجوب صلاة الجمعة وحرمتها بواسطة أمارة عليها ، ووافق إحدى الأمارتين الشهرة ، فإن حصل لنا القطع بحجّية ما وافق الشهرة من حيث موافقتها لها ، فلا كلام ، وإلاّ فإن دلّ دليل على اعتبار الشهرة عند تعارض الأمارتين كقوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (2) فلا شكّ في أنّ المرجّح هو الدليل ، وإلاّ فوجود الشهرة كعدمها لا يوجب علما ولا شيئا آخر فيما هو المقصود.
وحاصل الكلام في المقام أنّ نتيجة دليل الانسداد أنّه يجب العمل بظنّ في الجملة على تقدير إهمالها ، وترجيح الظنّ وتعيين الواجب منه بالظنّ يرجع في محصّل معناه إلى الحكم والتصديق بأنّ المرجع بعد الانسداد إلى مظنون الاعتبار في سلاسل الظنّ ، والحكم والتصديق موجود من الموجودات الإمكانية التي تحتاج في وجودها إلى سبق عللها ، وعلّة التصديق في الاصطلاح هو الدليل ، ودليلية الظنّ المتعلّق بالظنّ لتعيين الواجب ليس بيّنا (3) ، وإلاّ لكان في مطلق الظنّ أيضا كذلك كما هو المفروض ، ولا مبيّنا ،
ص: 244
فالمرجّح في أمثال المقام لا بدّ وأن يكون دليلا وهو المطلوب ، فسقط ما زعمه من الفرق بينهما.
ثمّ إنّ في المقام مسلكا آخر في بيان عدم حجّية مطلق الظنّ بل لو كان حجّة ، فالظنّ الذي لم يقم على عدم حجّيته ظنّ كما يظهر من بعض الأعاظم من أنّ الحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته لا مطلق الظنّ.
وأورده المحقّق النراقي على وجه الاعتراض على الدليل مع اختلاف في بيانه ، وكيف كان فتحريره أن يقال : إنّ نتيجة البرهان على ما ستعرف في إخراج القياس هو كلّ ظنّ لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره ، والمفروض أنّ دليل الانسداد أوجب القطع بحجّية كلّ ظنّ (1) ، فلو قام ظنّ على عدم حجّية ظنّ ، فقد قام القاطع على عدم حجّية الظنّ (2) الممنوع ، فإنّ المفروض اعتبار الظنّ (3) المانع قطعا ، فالحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته كالخبر الواحد مثلا بخلاف الشهرة والأولوية ؛ لقيام الشهرة على عدم حجّيّتهما.
ودعوى اختصاص حجّية الظنّ بالفروع قد فرغنا عن إبطالها وسيجيء ما يزيد التحقيق فيه.
فإن قلت : إنّ نسبة دليل الانسداد بالنسبة إلى الظنّ المانع والممنوع متساوية ، فلا وجه لترجيح الظنّ المانع بدخوله تحت الدليل على الظنّ الممنوع بخروجه عنه كما إذا كان هناك عامّ كقولك : أكرم العلماء ، وكان الامتثال بالعامّ في أحد أفراده موقوفا على عدم الامتثال بالنسبة إلى فرد آخر كما إذا كان إكرام زيد العالم في الواقع مرتّبا على عدم إكرام عمرو العالم ، فإنّه كما لا يحكم بتقديم أحدهما على الآخر إلاّ بعد دلالة دليل ، فإنّ الحكم بإكرام زيد العالم معارض بالحكم بإكرام عمرو ، ولا ترجيح
ص: 245
لأحدهما على الآخر ، فكذلك في المقام لا وجه لترجيح الظنّ المانع على الممنوع كما لا يخفى.
قلت : فرق ظاهر بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الفرد الآخر حكما ، و (1) بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الآخر موضوعا ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّ دخول الظنّ المانع في دليل الانسداد يوجب خروج الممنوع موضوعا ، فإنّ موضوع الحكم هو الظنّ الذي لم يقم قاطع على عدم حجّيته ، فخروجه لا يستلزم تخصيصا في العامّ العقلي ، بخلاف ما لو فرضنا خروج المانع ، فإنّه تخصيص في الدليل العقلي ، ألا ترى أنّا قد قلنا بتقديم استصحاب السبب على استصحاب المسبّب عند تعارضهما بواسطة أنّ دخول استصحاب السبب في دليل الاستصحاب إنّما يوجب خروج الآخر موضوعا بخلاف ما لو قدّمنا استصحاب المسبّب عليه ، فإنّه يوجب التخصيص في العامّ اللفظي الدالّ على الاستصحاب بلا مخصّص.
وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ النتيجة هي الظنّ الذي لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره على وجه التقييد ، وأمّا إشكال القياس ، فسيجيء الجواب عنه ، ودفع إشكال القياس لا يقضي (2) بهذا التقييد (3) الفاسد لتوجّه (4) على الدليل إشكال آخر.
وأمّا ثانيا : سلّمنا التقييد ولكن لا نسلّم وجود ظنّ تعلّق الظنّ بعدم اعتباره ، وأمّا ما قد يتراءى في النظر من الشهرة والأولوية والاستقراء من حيث إنّ المشهور قد أعرضوا عنها ، فليس من جهة قيام دليل على عدم حجّيتها (5) بالخصوص كما في القياس ، فإنّ الكلام في المقام إنّما هو مع قطع النظر عن أصالة حرمة العمل بالظنّ ،
ص: 246
فعدم حجّية الشهرة عند المشهور أو الاستقراء إنّما هو من حيث عدم دليل على حجّيتها بالخصوص ، وعدم حجّيتها في مرحلة الأصل معلوم لا مظنون بل هو من أجلى الضروريات عند الإمامية كما ادّعاها الأستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني (1).
نعم ، قد يتوهّم في الأولوية ورود دليل خاصّ على عدم حجّيته مضافا إلى الأصل كما ورد في خبر أبان بن تغلب (2) في دية الأصابع إلاّ أنّ لنا فيه كلاما يطلب في محلّه.
وأمّا ثالثا : سلّمنا وجود الظنّ المتعلّق بعدم اعتباره ظنّ لكن لا نسلّم أنّ دخول الظنّ المانع في الدليل أولى من دخول الممنوع ، وأمّا ما استند إليه من أنّ خروج الممنوع خروج موضوعي لا يوجب تخصيصا في الدليل بخلاف المانع ، فمشترك بينهما كيف؟ ولا يمكن خروج الحكمي في نظره.
وتوضيحه : أنّ مفاد الظنّ المانع ونظره وإن كان بحسب المطابقة مثلا عدم حجّية الممنوع وخروجه موضوعا إلاّ أنّ دخول الممنوع أيضا يوجب خروج المانع خروجا موضوعيّا التزاما مثلا ، فإنّ بعد ما فرضنا دخوله تحت العامّ ، فيلازم خروج المانع ؛ لأنّ القطع بدخول الممنوع ينافي القطع بدخول المانع ، وكذا ينافي الشكّ بدخوله ؛ إذ مع احتمال دخول المانع لا يقطع بدخول الممنوع ، فالقطع بدخوله يستلزم القطع بخروجه ؛ لأنّ دخوله دليل قطعي على خروجه ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
وأمّا حديث تقديم (3) استصحاب المزيل على استصحاب المزال (4) ، فليس بمجرّد ما ذكره من أنّ تقديم المزيل يوجب خروج المزال موضوعا ، بل التحقيق فيه أنّ التقديم هناك إنّما هو بواسطة ترتيب طبيعي بين المزيل والمزال من جهة علّية بينهما ؛ فإنّ الشكّ في المزال معلول للشكّ في المزيل ، فيرتفع الشكّ في المزال بعد استصحاب المزيل ، ولا
ص: 247
ينافي ارتفاع الشكّ في المزيل بعد استصحاب المزال وإن كانت قضية العلّية ارتفاعه من حيث إنّ رفع المعلول (1) يلازم رفع العلّة (2) ؛ لأنّ الأصل حينئذ يصير من الأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عند التحقيق.
ومحصّل الفرق هو أنّ ارتفاع الشكّ في المزال - مع كون الشكّ معلولا بعد استصحاب المزيل - معتبر بواسطة أنّه من الأحكام الشرعية للمزيل ، فإنّ طهارة الملاقي من اللوازم الشرعية لطهارة الماء المستصحب طهارته في أمثال المزيل والمزال ، وأمّا استصحاب (3) نجاسة المحلّ الملاقي لا يلازمه لزوما شرعيّا نجاسة الماء بل يلازمه لزوما عقليا كما في المقام ، فإنّ دخول الممنوع يلازم لزوما عقليا خروج المانع خروجا موضوعيّا على ما عرفت ؛ لأنّ الأصل في استصحاب المزال لا ينهض بإثبات اللوازم العقلية بخلاف المقام ، فإنّه من الأدلّة الاجتهادية وهي تنهض بإثبات اللوازم العقلية والعادية والشرعية بأجمعها ، فتدبّر.
فإن قلت : إنّ القول بخروج الظنّ (4) المانع مخالف لما أطبق عليه الفريقان من القائلين بالظنّ المطلق وأرباب الظنون الخاصّة ، فإنّ أحدا منهم لم يفصّل بين أقسام أمارة واحدة ، فإنّ الشهرة لو كانت حجّة فهي حجّة مطلقا ، ولو لم تكن حجّة ، فهي كذلك ، ولا قائل بالفصل مثل هذا التفصيل كأن يقال : الشهرة مثلا حجّة ما لم يتعلّق على بطلان الشهرة ، أو الأولوية ، أو الاستقراء.
قلت أوّلا : إنّ التشبّث بعدم القول بالفصل ، أو الإجماع المركّب في أمثال المقام ليس إلاّ كتشبّث الغريق بكلّ حشيش.
وثانيا : إنّ دعوى الإجماع مقلوبة ، فيلتزم (5) بخروج جميع أقسام الشهرة في المثال
ص: 248
المذكور ، فتأمّل.
فإن قلت : إنّ الأصل في المسألة الأصولية موافق للظنّ المانع ، فلا بدّ أن يكون هو المرجع.
وبيانه : أنّ حجّية الاستقراء أو الشهرة مثلا مسألة أصولية ، ومقتضى برهان الانسداد هو حجّيته كما أنّ مقتضى الشهرة الثابت حجّيتها بدليل الانسداد عدم حجّيته ، فدليل الانسداد في المقامين متعارض ، فيسقط عن درجة الاستدلال ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول ، والأصل في مسألة حجّية الاستقراء التي هي من المسائل الأصولية عدم الحجّية ، فيوافق مضمون الأصل مضمون المانع من الظنّين ، وفي خروج الممنوع عن تحت الدليل وهو المطلوب قلنا : لا نسلّم سقوط الدليل بالنسبة إلى كلّ من المانع والممنوع ؛ إذ قد يحتمل جواز الرجوع إلى أقوى الظنّين من المانع والممنوع ، وستعرف ذلك ، هذا تمام الكلام فيما إذا قرّر هذا الوجه في بيان عدم كلّية نتيجة دليل الانسداد.
وقد يقرّر هذا الوجه في بيان حجّية الظنّ المظنون بناء على أنّه إذا علمنا وجود (1) أمارة قطعيّة بين الأمارات ، ثمّ ظننّا بأنّ بعضا منها ليست هي ، فنظنّ إجمالا بأنّ الأمارة القطعية إنّما هي في غير تلك الظنون التي ظننّا بأنّها ليست هي ، وحينئذ فالجواب عنه هو الجواب عمّا (2) تقدّم من الظنّ المظنون ، فراجعه.
وبوجه آخر أنّ نتيجة برهان الانسداد هو العمل بالظنّ من حيث إنّه يوجب الظنّ بتفريغ الذمّة ، وبعد ما تعلّق الظنّ بعدم حجّية ظنّ لا يحصل الظنّ بالفراغ ، فلا بدّ أن لا يكون الظنّ الموهوم حجّة.
وفيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الظنّ بتفريغ الذمّة بالنسبة إلى متعلّق الظنّ وهو الحكم الواقعي يحصل قطعا ، وهو كاف في أمثال المقام ، وإذ قد عرفت بطلان ما يتخيّل
ص: 249
كونه مرجّحا ، فيثبت التعميم كما أفاده بعضهم.
والحقّ أنّ بعد ما قلنا ببطلان المرجّحات لا يجب القول بالتعميم ، لاحتمال التخيير ، وليس المراد من التخيير هو التخيير بين الكلّ والبعض حتّى يتمسّك بالأخذ بالقدر المتيقّن في دفعه ؛ لأنّ احتمال الكلّ مدفوع بالأصل ، والأبعاض متعدّدة ، فيتوجّه التخيير بينهما أيضا ، فما لم يدلّ دليل على بطلان التخيير في المقام لا يثبت التعميم ؛ لجواز أن يكون المرجّح إلى أحد أسباب الظنّ من غير تعيين (1) شرعي على أن يكون المعيّن راجعا إلى الدواعي النفسانية في نظر المكلّف كما في سائر التخييرات ، وكيف كان ، فالإجماع - على ما ادّعى - قائم على بطلان التخيير بين الأمارات في مرحلة الظاهر بمعنى أنّ التجزئة في العمل بين الأمارات في مرحلة الظاهر لا تجزي عمّا يجب العمل به في الواقع سواء كان المكلّف به في الواقع هو الكلّ أو البعض ، فبالحقيقة إنّ بطلان المرجّحات إنّما هو مقدّمة لجريان قاعدة التخيير ، ومحقّق لموضوعها وبعد صلاحية جريان التخيير في موضوعه قام الإجماع على بطلانه ، فالمعمّم في الحقيقة (2) هو هذا الإجماع كما لا يخفى.
الثاني (3) من المعمّمات هو الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، فإنّ القائلين بالانسداد لم يفرّقوا بين أقسام الظنّ وأسبابه ، وهو كذلك إلاّ أنّ الكلام في اعتبار مثل الإجماع بعد ما نجد من نفوسنا من عدم حصول الكشف عنه (4).
الثالث منها قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ بعد ما ثبت بدليل الانسداد حجّية ظنّ في الجملة ، ولم نعلم الواجب منه بالخصوص (5) ، فلا بدّ من العمل بكلّ ظنّ ؛ لأنّ العلم بالاشتغال ، يقضي بالعلم بالامتثال ، فلا يحصل إلاّ بالعمل بالجميع.
ص: 250
لا يقال : لا يجري الاحتياط فيما دار الأمر بين المحرّم والواجب كما في المقام ، فإنّ بعض الظنّ إثم والعامل به آثم.
لأنّا نقول : إن أراد من الحرام الذاتيّ المنهيّ عنه بالخصوص كما في القياس ، فلا نسلّم حرمته ، لعدم دليل عليه ، وإن أراد من المحرّم ولو بعد اندراجه في عموم ما دلّ على حرمة العمل به ، فقد مرّ غير مرّة أنّ أوله إلى أمرين : أحدهما التشريع ، وثانيهما طرح أدلّة الأصول في مواردها من غير دليل يقضي به بعد (1) تعليقها بالعلم ، والاحتياط محقّق لموضوع لا يصدق عليه التشريع ، ولا يلزم طرح الأصول فيما إذا كانت نافية ، والظنّ مثبت للتكليف ؛ لعدم التنافي بينهما كما مرّ مفصّلا.
وأمّا الأصول المثبتة ، فالاستصحابات منها منقطعة بالعلم الإجمالي في مواردها بخلاف مقتضاها ، وأمّا الاشتغال ، فالاشتغال في المسألة الفرعية يعارض الاشتغال في المسألة الأصولية ، والأوّل مقدّم على الثاني كما تقدّم.
وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يستقيم معمّما ؛ لأنّ تقديم الاشتغال في المسألة الفرعية عليه في المسألة الأصولية عين عدم العمل بالظنّ فيها ، والمقصود إثبات التعميم والعمل بالظنّ في موارد الاشتغال في الفروع أيضا.
ثمّ إنّه قد يتوهّم عدم تقديم (2) الاشتغال في الفروع نظرا إلى تعارضه بالاشتغال في الأصول وليس كذلك ؛ لأنّ الاشتغال في المسألة الفرعية لا ينافي الاشتغال في الأصول.
وتحقيقه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ وجوب العمل بطريق وأمارة كخبر زيد مثلا يتصوّر على وجهين :
أحدهما : أن يكون الأمر بالعمل به موجبا لوجوب عرضي فيما أخبر به ولو كان من المباحات أو المكروهات أو المندوبات كما إذا جعل أحدهما متعلّقا للنذر مثلا.
ص: 251
وثانيهما : أن يتعلّق الأمر باستناد العمل إلى قوله ، لا إلى نفس العمل كأن يكون الواجب استناد العمل إلى قوله ، والأخذ منه على أن يكون المدرك في اعتقاد الاستحباب أو الإباحة هو خبر زيد ، ولا شكّ أنّ هذا هو معنى وجوب العمل بخبر زيد لا الأوّل ، وإلاّ يلزم وجوب الحرام فيما إذا أخبر بحرمة شيء أو وجوب مباح ، كما أنّه لا شكّ في صدق الامتثال ولو بالنسبة إلى فعل المأمور به مع عدم الأخذ بخبر زيد وإن لم يصدق بالنسبة إلى الأخذ ، لأنّه واجب توصّلي يسقط بإتيان العمل ولو من غير هذا الطريق.
نعم ، لا يثاب بالنسبة إلى الأمر بالأخذ من قول زيد والعمل بخبره ؛ لأنّ قضية الوجوب التوصّلي لا تزيد (1) على رفع العقاب وهو لا يقضي بالثواب كما لا يخفى.
إذا عرفت هذه ، فاعلم أنّ الشهرة مثلا دلّت على خلاف ما يقتضيه الاشتغال في وجوب الصلاة مثلا ، فالعمل بالاشتغال لا ينافي العمل بالشهرة بخلاف العمل بها ، فإنّ العمل بها (2) قد يؤدّي إلى ترك الاشتغال ، فإنّ المفروض وجوب العمل على تقدير الاشتغال وعدم وجوبه على تقدير العمل بالظنّ ، والعمل بالأول عمل بالثاني ؛ لأنّ الأخذ به واجب توصّلي يحصل بالفعل ولو من غير جهة الاستناد إلى الظنّ.
نعم ، قد يتعارض الاشتغالان فيما لو كان كلّ منهما مثبتا للتكليف كما إذا كان الاشتغال في الفروع موجبا للعمل ، والظنّ قام على حرمته ، أو العكس ، فيحكم بينهما بالتخيير ، ومع ذلك فلا يطرد العمل بالظنّ كما هو المقصود من التعميم كما لا يخفى.
الرابع منها : ما عزي إلى السيّد الطباطبائي وهي قاعدة عدم الكفاية ، وبيانها - على ما قد يحكى عنه بعد تلخيص منّا - أنّه بعد ما فرضنا دلالة الدليل على حجّية ظنّ في الجملة على سبيل الإهمال ، فنقول : إنّ له سلاسل ثلاثة : من المظنون والمشكوك والموهوم ، والواجب أوّلا الاقتصار على الظنّ المظنون في الأحكام على تقدير الكفاية ،
ص: 252
وإلاّ فلا بدّ من إلحاق المشكوك ، ثمّ الموهوم ، وحيث إنّ الاقتصار على السلسلة الأولى غير كاف في الفقه كلّه لا من حيث قلّتها - كما توهّمه بعضهم - إذ قلّما يتّفق خلوّ واقعة عن ظنّ مظنون بل من حيث تعارضها كثيرا بسائر السلاسل وقيام الظنّ الشخصي على خلافها ، فلا مناص من التعدّي إلى مشكوك الاعتبار ، ثمّ منه بالبيان المزبور إلى موهومه ؛ لوجود العلم الإجمالي كثيرا في كثير بمطابقة جملة من الاحتمالات ولو بعد انضمام معارضاتها بالواقع على وجه يلزم من الطرح في المقامين أحد المحذورين من العسر والخروج من الدين أو المخالفة القطعية.
لا يقال : لا ضير في قيام الظنّ الشخصي في الظنون المشكوكة والموهومة ؛ لأنّ العبرة بالظنّ النوعي ، فلا بدّ من العمل بسلسلة المظنونات ولو لم يفد ظنّا شخصيا.
لأنّا نقول : إنّ قضية دليل الانسداد لا تزيد على حجّية الظنّ الشخصي ؛ إذ مناط حجّيته هو الاطمئنان وهو مفقود في غير الظنون الشخصية ، وحجّية الظنّ النوعي تناسب (1) القول بالتعبّد وهو خارج عن التقدير.
نعم ، لو انسدّ باب الظنون الشخصية كما انسدّ باب العلم - أعاذنا اللّه منه - يتّجه القول بحجّية الظنون النوعية ومرجعها في الحقيقة إلى اعتبار الشكّ كما لا يخفى ، فظهر وجوب العمل بمطلق الظنّ في جميع سلاسله في صورة التعارض ، وأمّا في غير المتعارضين ، فيجب العمل بالظنون الشخصية الحاصلة منها ، إمّا لعدم الكفاية ، وإمّا لعدم القول بالفصل ، وأمّا الأولوية القطعية ، فإنّه إذا كان الظنّ معتبرا فيما إذا تعارضه ظنّ نوعي آخر ، ففيما لم يعارضه شيء بطريق أولى.
وفيه أمّا أوّلا : أنّ الظاهر من وضع الترتيب بين السلاسل من الأخذ بالمظنون أوّلا ، ثمّ المشكوك ، ثمّ الموهوم هو الميل إلى ما يحتمله القائل بحجّية الظنّ في الطريق ، أو ترجيح الظنّ بالظنّ كما سبق ، وعلى هذا يرد عليه ما قد تقدّم في ردّه.
ص: 253
وأمّا : ثانيا فلأنّ التعدّي من المظنون إلى المشكوك إن كان بواسطة عدم الكفاية في أبواب الفقه ، ففيه أنّه ليس من التعميم في شيء ؛ لأنّ الإهمال في النتيجة إنّما هو بالنسبة إلى الظنون التي قام الكفاية بغيرها ، وأمّا بالنسبة إلى ظنّ يقوم بالكفاية ، فلا إهمال فيها ؛ إذ النتيجة هو الظنّ الكفائي (1) في الفقه أوّلا ، فهو إذن تشخيص لذلك الإهمال ، وتعيين في هذا الإجمال ، لا تعميم في المقال ، وإن كان بواسطة عدم القول بالفصل ، ففيه ما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، وإن كان بواسطة الأولوية كأن يقال : إنّ الموثّق (2) عند تعارضه بالصحيح من جهة قيام الظنّ الشخصي فيه حجّة ففيما لا يعارضه شيء بطريق أولى ، ففيه أنّ الأولوية إنّما تنهض معمّما (3) فيما لو ثبت حجّية الموثّق في صورة التعارض وليس كذلك بل الالتزام بالعمل بالموثّق (4) عند التعارض إنّما هو من حيث وجود العلم الإجمالي فيهما ولو بملاحظة معارضاته على وجه لو يعمل به ، يلزم أحد المحذورين ، وأمّا عند عدم التعارض ، فالعلّة المذكورة القاضية بالعمل مفقودة ، فلا تتّجه الأولوية كما لا يخفى.
ثمّ إنّ لبعض المتأخّرين وجها آخر في بيان عدم الكفاية والتعميم به ، فأفاد أنّه لو لم يعمل بمطلق الظنّ من أيّ سبب حصل في أيّ مرتبة كان ، لما تمّ الفقه وأحال الملازمة إلى التدرّب في الفقه.
ولعمري إنّه وجه فاسد ، ومنشؤه عدم التدرّب في دليل الانسداد والأمارات الظنّية ؛ إذ القول بمطلق الظنّ قد لا يلازم تمامية الفقه ، فإنّ الأسباب الظنّية في إفادتها الظنّ ممّا يختلف باختلاف استعدادات النفوس الجزئية ، فقد يحصل منها لبعضهم ظنّ (5) ولا يحصل للآخر وهم ، فتمامية الفقه إنّما هو بواسطة مصاديق الظنون ، والقول بالظنّ
ص: 254
المطلق إنّما هو قول به في مفهومه ، فربّما يحصل للقائل بالصحاح الأعلائية ظنون كثيرة لا يحصل على قدرها بل الأقلّ منها للقائل بمطلق الظنّ ، مثلا القائل بحجّية الاستقراء مع قلّة موارده على تقدير ترك العمل به لشبهة القياس مثلا قد يحصل له الظنّ من الأمارات الأخر أكثر ممّا يحصل في موارد الاستقراء.
وبالجملة ، فدعوى عدم تماميّة الفقه إلاّ بالعمل بمطلق الظنّ ناشئة إمّا عن سوء الفهم في دليل حجّية الظنّ ومناطه ، أو من عدم المبالاة في المكابرات.
وقد تمسّك بعض من لا دربة له في التعميم ببناء العقلاء.
ولم نقف له على محصّل ، فالأولى ترك التعرّض له هذا ، والذي ينبغي أن يقال في وجه التعميم على تقدير الإهمال في النتيجة هو أنّ الواجب أوّلا الأخذ بالأخبار الصحاح المعمولة عند الأصحاب ، المفيدة للاطمئنان ، فإنّها هو القدر المتيقّن من بين الظنون بجميع أقسامها ؛ إذ ما من خصوصية يتخيّل كونها مناطا في الحكم ، وملاكا في الاعتبار إلاّ وهي موجودة فيها ؛ إذ غاية ما يتصوّر في غيرها من الخصوصية هي إفادتها الاطمئنان (1) والمفروض حصوله فيها.
مضافا إلى الخبرية (2) وكونها معمولا بها عند الأصحاب ، ولو لم نقل بحجّية هذا القسم من الأخبار من جهة الظنون الخاصّة ، فلا أقلّ من احتمالها.
ومن هنا يظهر أنّ كونها قدرا متيقّنا لا يخصّ القول بالظنّ الخاصّ بل إنّما هو بحسب الدليل الرابع أيضا كذلك كما لا يخفى.
وفي حكمها كلّ أمارة دلّ على اعتبارها وحجّيتها هذا الصنف من الخبر بناء على ما حقّقنا سابقا من أنّه لا فرق بين إعمال الظنّ في الواقع ، وبين إعماله في طريقه كما مرّ مستوفى وهي (3) الأخبار الموثّقة التي تفيد الاطمئنان ، فإنّه قد دلّت أخبار كثيرة
ص: 255
صحيحة - دلالة واضحة صريحة كما لا يخفى على من له لطف قريحة - على حجّيتها.
فمنها : الرواية الصحيحة المذكورة في ترجمة يونس بن عبد الرحمن فإنّها بسؤالها وجوابها تدلّ على أنّ ملاك الاعتبار هو الوثاقة ، ومناط الحجّية هو الاطمئنان ، فإنّ السائل قال : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ فأجابه عليه السلام بقوله : « نعم » (1).
لا يقال : الرواية ظاهرة في الفتوى ، فإنّها الظاهر من معالم الدين ، فلا يدلّ على حجّية الرواية.
لأنّا نقول : لا نسلّم ظهورها بل ظاهرة فيهما جميعا كما هو ظاهر ، ولو سلّم ، فيتمّ المطلوب ؛ لعدم الفصل إذ كلّ من قال بحجّية الفتوى ، فقد قال بحجّية الرواية بل قد يمكن دعوى الأولوية بالنسبة إلى الرواية.
نعم ، ذلك لا يتمّ على مذاق (2) السيّد ومن يحذو حذوه في عدم حجّية رواية الواحد وحجّية فتواه ، ولكنّه على مشرب القائلين بحجّية الآحاد ، فلا قائل بالفرق.
فإن قلت : لا دلالة فيها على حصر الملاك والمناط في الوثاقة ، فلعلّه كان هناك شروط أخر كالعدالة ونحوها معلومة عنده ، وكان المجهول هو الوثاقة فقط كما يقال : فلان مجتهد يجوز تقليده ، فإنّه إنّما يقال بعد إحراز سائر الشرائط.
قلت : الظاهر من الرواية - كما يظهر لأولي الدراية - أنّ المعتبر هو الوثاقة ، فما لم يعلم باشتراط شيء آخر ، يؤخذ بظاهرها ، ولا عبرة بالاحتمال ، بعد ظهور المقال في غيره.
ومنها : ما رواه الكشّي في ترجمة محمّد بن مسلم ، عن محمّد بن قولويه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد اللّه بن محمّد الحجّال ، عن العلاء بن رزين ، [ عن ] عبد اللّه بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّه ليس كلّ ساعة
ص: 256
ألقاك ، ولا يمكن القدوم ، ويجيء الرجل من أصحابنا ، فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، قال : « فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه قد سمع من أبي ، وكان عنده وجيها » (1) خالف عموم التعليل بالوجاهة ممّا يرشدك بإناطة الأمر بها.
ومنها : ما رواه في الكافى في ذيل النصّ على أبي محمّد عليه السلام : أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألته : ومن أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي ، فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له ، وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ».
وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد عليه السلام ، عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي ، فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك ، فعنّي يقولان ، فاسمع لهما ، وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (2) والمراد بالمعاملة إمّا المعاملة في الدين ، أو المعاملة في الأموال المتعلّقة بالإمام عليه السلام ، فإنّ عموم التعليل يفيد عموم العبرة بالوثاقة.
وقد يذكر في عداد ما ذكرناه من الأخبار الصحيحة ما رواه في البحار عن الاختصاص للشيخ المفيد ، عن ابن الوليد ، عن الصفّار ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن عبد السلام بن سالم ، عن ميسر بن عبد العزيز ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « حديث يأخذه صادق عن صادق خير من الدنيا وما فيها » (3) وليس كذلك ؛ لأنّ المفيد لم يعاصر
ص: 257
ابن الوليد وإنّما لقي (1)(2) أحمد بن محمّد بن الوليد ولم ينقل منهم توثيقه إلاّ أنّه قيل فيه : إنّه كان من مشايخ الإجازة وإن كان الظاهر وثاقته ؛ حيث إنّ المفيد وأضرابه - كأحمد بن عبدون وابن الغضائري - أجلّ شأنا من أن يكون مخبرهم غير موثّق عندهم ، مضافا إلى أنّ الرواية موجودة في كتاب الصفّار ، والمقصود من ذكر ابن الوليد هو الاتّصال بالمعصوم سندا تيمّنا وتبرّكا ، والمقصود من القرابة عند الشيخ هو الاطّلاع على بعض المزايا في خفايا الزوايا التي لم يطّلع عليها إلاّ من ارتاض في الصنائع العلمية ، وإلاّ فيجوز أخذ الرواية من الكتاب كما في زماننا هذا ما نقلنا من الكافى والتهذيب والفقيه والوافى وغير ذلك ، لكنّه مع ذلك ليس بتلك المكانة من الصحّة بحسب الاصطلاح ، فإنّ بين المفيد وابن الوليد إرسالا كما عرفت ، ومحمّد بن عبد الحميد لم نجد فيه توثيقا صريحا إلاّ ما نقله في الوسائل عن النجاشي (3) ، وهو يحتمل أن يكون توثيقا له ، أو لأبيه ، ولهذا ترى الشهيد - كما عنه في تعليقاته على الخلاصة - قال بوثاقته (4) ، وفي تعليقاته على كتاب ابن الغضائري قال بعدم وثاقته ، وكذا في ميسر بن عبد العزيز إلاّ ما عن ابن فضّال وهو فطحي إلاّ أنّ في الروايات مدحا كثيرا له. قال العقيقي : أثنى عليه آل محمّد وهو ممّن يجاهد في الرجعة ، وحكاية الجبل معروفة (5).
وبالجملة ، فليس الخبر (6) كالأخبار المتقدّمة في السند ، وكذا في الدلالة كما هو ظاهر ، وكيف كان فالواجب أوّلا بعد إهمال النتيجة هو الأخذ بالقدر المتيقّن وما في حكمه على تقدير الكفاية بحيث لا يلزم المحاذير السابقة على تقدير الرجوع إلى الأصول الكلّية أو الجزئية في مواردها ، وعلى تقدير عدم الكفاية ، فلا بدّ من الاحتياط
ص: 258
في الأمارات وقد عرفت فيما مرّ تعارض الاحتياط في المسألة الأصولية الاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد مرّ أيضا تقدّم الاحتياط في الفرع إلاّ أن يقال : إنّ الرجوع إلى الاحتياط في الفروع يستلزم العسر والحرج من حيث إنّ الأمارات التي تثبت بها التكاليف في المسألة الأصولية ممّا لا مناص من العمل بها ، والأمارات النافية ممّا لا عبرة بها في مقابلة الاشتغال في الفروع ، وهو عين الاحتياط في جميع الموارد ، وعلى هذا التقدير فلا يمكن العمل بالاشتغال في الفروع بالكلّية ، ولا يمكن الاستناد إلى الأمارات النافية للتكليف في قبال الاشتغال في الفروع بالكلّية أيضا لما عرفت من التقديم ، فلا بدّ من الأخذ بالمظنون اعتبارا وهو الظنّ الاطمئناني ؛ لأنّ باب العلم فيها منسدّ ، والعلم الإجمالي بوجود أمارة واقعية فيها موجود ، والاحتياط غير ممكن ، والرجوع إلى البراءة غير جائز في الشكّ في المكلّف به بعد العلم الإجمالي ، فلا بدّ من إعمال الظنّ فيه.
لا يقال : إن كان دليل الانسداد منتجا لقضيّة كلّية ، فلا حاجة إلى مثل هذه النتيجات ، وإلاّ فلا مزيّة اختصاص للاستناد إليه في المقام كما مرّ في الردّ على بعض الوجوه المنقولة من التعليقة ، فإنّها أيضا قضيّة مهملة لا تعيين فيها وإن استند في رفعه إلى ثالث ، فنقل (1) الكلام إليه ، وإلاّ فلا فائدة فيه كما لا يخفى.
لأنّا نقول : الفرق بين المقامين ظاهر غير خفيّ ، فإنّ المسألة هناك كلّي متنوّع على أنواع عديدة بخلاف المقام.
وتحقيق ذلك أنّه قد سبق في بيان ما ذهب إليه المحقّق القمّي واختاره في تقريره دليل الانسداد - من جريانه في كلّ مسألة جزئية قد انسدّ فيها باب العلم كما في مسألة صلاة الجمعة مثلا - عدم تعقّل الإهمال في النتيجة بالنسبة إلى هذا الدليل ؛ لاختصاص كلّ مورد بظنّ واتّحاد المظنون على تقديره ، والمفروض جريان دليل الانسداد في جميع
ص: 259
الموارد ، فكلّ ظنّ لا بدّ وأن يكون حجّة في مورده ، ففي كلّ مورد اتّحد المظنون - وإن تعدّدت الأسباب - لا وجه للإهمال في النتيجة بخلاف ما إذا تعدّد (1) المظنون من حيث اختلاف الموارد وإن كانت مجتمعة في عنوان واحد ، فإنّ الإهمال على تقديره ممّا لا مناص منه ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، وما نقلناه عن التعليقة من قبيل الثاني ؛ لأنّ الدليل المعمول في النتيجة تارة ينتج حجّية الظنّ المظنون اعتباره كما فيما نقلناه عن التعليقة ، وأخرى ينتج حجّية الظنّ الاطمئناني كما هو المقصود في المقام ، وهو على الأوّل متعدّد ؛ لاحتمال أن يكون الظنّ المظنون على قدر الكفاية هو الخبر كما هو ظاهر ، أو الإجماع المنقول بانضمام الحسان مثلا ، أو الشهرات بانضمام الإجماعات ، أو الموثّقات فقط ، أو الصحاح مع الحسان إلى غير ذلك من الاحتمالات ، فلم يعلم الحجّة منها ، وهذا هو عين الإهمال ، وعلى الثاني متّحد وهو الظنّ الاطمئناني وإن اختلفت أسبابه ، فإنّ مجرّد اختلاف أسباب الظنّ لا يفضي (2) بتعدّده بعد اتّحاد مورده ، فلا بدّ من إجراء دليل الانسداد في الأمارات النافية للتكليف حذرا من لزوم العسر على تقدير الاحتياط في الفروع ، والمخالفة القطعية على تقدير الرجوع إلى البراءة والعمل بكلّ ما هو مظنون الاعتبار وهي الظنون المفيدة للاطمئنان ، ولا اختلاف فيها ولو اختلفت أسبابه ، فلا حاجة إلى إعمال دليل ثالث ، فليتأمّل.
فإن قلت : إنّ العمل بالمظنون في الأمارات النافية للتكليف ممّا لا مخصّص له ، فإنّ المناط فيه لزوم العسر وهو لازم على تقدير العمل بالأمارات المثبتة والنافية جميعا ، فليعمل في الأمارات المثبتة بما هو مظنون اعتباره في رفع العسر.
قلت : ومرجع ذلك إلى الاحتياط في الموهومات ، وتركه في الموارد المظنونة بالظنون الفعلية الشخصية ، فإنّ الأمارات النافية في قبال الأصول الجزئية الخاصّة في الموارد الخاصّة لا تفيد ظنّا بواسطة ما عرفت من قضاء العقل بتقديم الاشتغال في
ص: 260
الفروع على الاشتغال في الأصول ، بخلاف الأمارات المثبتة للتكليف ، فإنّها لا معارض لها ، فالظنون الفعلية غالبا فيها (1) ، وحيث إنّ القاضي في الاحتياط هو العقل ، فلا يحكم بترك الاحتياط في المظنونات ، وبالاحتياط في الموهومات كما أنّه لا يقضي بترك الاحتياط في السلسلتين بعد ارتفاع العسر الذي هو المانع في العمل بالاحتياط (2) بالعمل بمظنون الاعتبار في الأمارات النافية للتكاليف ، وذلك ظاهر لا سترة فيه كذا أفيد. وللتأمّل فيه مجال كما لا يخفى على المتأمّل ، هذا تمام الكلام في التعميم على تقدير الكشف.
وأمّا على ما هو التحقيق من الحكومة ، فهل العقل ابتداء يحكم بحجّية الظنّ من غير ملاحظة مقدّمة أخرى غير المقدّمات المأخوذة في أصل الدليل ، أو يحتاج في الحكم بالتعميم إلى ملاحظة مقدّمة أخرى لبطلان الترجيح بلا مرجّح وإن لم يكن شاعرا بالملاحظة ، فكثيرا ما يحكم في قضايا كثيرة (3) بواسطة مقدّمات خفية مع عدم العلم باستناد الحكم إليها ، وهو المسمّى بقضايا قياساتها معها.
والحقّ هو الثاني ، فإنّ مراتب إدراك العقل مندرجة بواسطة تدرّج مراتب مقدّمات الحكم ، ألا ترى أنّ العقل لا يدرك الإنسانية في الإنسان إلاّ بعد ملاحظة ما يفيدها من لوازمها ، أو ملزوماتها مع إدراك جسميّته بل وحيوانيّته أيضا ، فالعقل أوّلا بعد ملاحظة بقاء التكليف يحكم بالخروج عن عهدته ، وبعد سدّ باب العلم يحكم بتردّد بين الامتثال الإجمالي اللازم للاحتياط ، والخروج عن ربقة التكليف بالعمل بالبراءة والامتثال الظنّي بل ومطلق الامتثال ولو كان وهميّا ، وبعد ملاحظة عدم جواز الرجوع إلى البراءة بملاحظة المحاذير اللازمة على تقديرها يتعيّن الرجوع إلى الاحتياط والامتثال بغير العلم.
ص: 261
ثمّ بعد ملاحظة عدم وجوب الاحتياط بواسطة لزوم العسر والحرج يتعيّن الامتثال بغير العلم ، وحيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، فتعيّن الظنّ ، فإنّه إذا تعذّرت الحقيقة ، فأقرب المجازات هو المتعيّن ، وحيث إنّه لا خصوصية في أفراد الظنّ ، فيحكم العقل بأنّ الحجّة بعد (1) هو ، أو مطلق الظنّ من غير فرق بين أفراده وأقسامه وأسبابه كما أنّه لا يحكم العقل بعموم اعتبار العلم في موارده إلاّ بعد ملاحظة انتفاء الخصوصيات المقتضية لجميعه علم خاصّ وإدراك مخصوص.
فظهر أنّ العقل لا يحكم ابتداء بأنّ المعتمد بعد الانسداد هو الظنّ مطلقا وإن كان لا يحتاج في الحكم بالعموم إلى ملاحظة المقدّمة القائلة ببطلان الترجيح بلا مرجّح تفصيلا ، فإنّها ممّا أودعه اللّه في خزائن نفوسهم.
ومن هنا يتّضح أنّ القائل بكلّية النتيجة والقائل بإهمالها لا نزاع لهما في الحقيقة ؛ لأول الأوّل إلى الثاني ، فإنّه يحكم بالعموم أوّلا من جهة مقدّمة مطويّة معلومة ، ويتوهّم عدم استناد الحكم إليها (2) ، فهي خفيّة لشدّة ظهورها ، ومجهولة لقوّة بروزها عند النفس.
ثمّ إنّه قد يمكن (3) أن يقال بأنّ القول بالتعميم إنّما يلازم بطلان الاحتياط على وجه التعميم من غير حاجة إلى انضمام مقدّمة أخرى.
وبيانه : أنّه قد تقدّم منّا في بطلان الاحتياط (4) أنّ الضرورة الداعية إلى رفع اليد عن الاحتياط - مع أنّه هو الذي يقتضيه القواعد المتداولة بيننا من تقدّم الامتثال العلمي - ولو إجمالا - على غيره من وجوه الامتثال بل قد يعدّ في عرض الامتثال العلمي التفصيلي كما مرّ تفاصيله في أوائل الباب - إنّما تتقدّر (5) بقدرها ، فقضية الاحتياط أوّلا
ص: 262
من غير ملاحظة لزوم العسر على تقديره هو إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولمّا أنّ الاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر الشديد ويورث الحرج الأكيد كما مرّ ، فاللازم هو التبعيض بين الاحتمالات التي يقع الاحتياط فيها على وجه يرفع العسر لا على وجه يبطل الاحتياط بالكلّية ، لعدم ما يقضي (1) بالإبطال لذلك ، فعلى هذا لا بدّ أوّلا من ترك الاحتمالات الوهمية التي خلافها مظنون بالظنّ الاطمئناني ، فإن بقي بعد ذلك محذور كما هو كذلك ، فلا بدّ من ترك الموهومات برمّتها ، فإنّها أولى بالترك ، كما يستقلّ به العقل ، فلا مناص حينئذ من إعمال الاحتياط في سلسلتي المظنون والمشكوك ، فإن لزم بعد ذلك عسر - كما ادّعاه بعضهم - كان الواجب ترك المشكوك أيضا إلاّ أنّه لا يخفى فساد هذا التوهّم ؛ إذ قلّما توجد واقعة مشكوكة يساوي (2) طرفاها من غير حصول مزيّة لأحد طرفيها للفقيه في مقام الاستنباط ، فدعوى لزوم العسر على تقدير إلحاق المشكوكات بالمظنونات في إتيان الواجب وترك الحرام مجرّد مكابرة بعد ما عرفت من أنّها موارد قليلة لا تكاد توجد.
اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بالإجماع في عدم لزوم الاحتياط فيها كما يظهر من ملاحظة طريقة السلف ، ومزاولة وظيفة الخلف كما تقدّم ، فعلى هذا لا وجه لترك الاحتياط في سلسلة المظنونات بجميعها ؛ لوجود المقتضي للاحتياط ورفع المانع عنه ، فإنّ العسر إنّما كان مانعا عنه فيما يلزم الحرج ، وأمّا في غيره ، فلا وجه في منعه ، ويبقى على ما هو قضية القاعدة أوّلا ومقتضاه حجّية كلّ ظنّ حصل في كلّ مورد من الموارد الفرعية كما هو كذلك بناء على ما تخيّله المحقّق القمّي ، ونسب إلى صاحب المعالم والمحقّق البهائي ، فبطلان الاحتياط على وجه العموم يقضي بحجّية الظنّ في موارده على وجه العموم.
ص: 263
فإن قلت : إنّ الوجه في لزوم العسر - على ما مرّ ذكره - هو عدم جريان الاحتياط على وتيرة واحدة في موارده ، فتارة يقضي بترك شيء في حالة ، وأخرى بفعله في أخرى ، ومرّة يقضي بالتوقّف إلى غير ذلك من اختلاف وجوه الاحتياط ، فكلّ واقعة ينحلّ إلى وقائع عديدة ، ويتشعّب بشعب جديدة ، بخلاف ما إذا كان الظنّ حجّة ، فإنّه يجري على طريقة واحدة ، فالاحتياط مطلقا يلازم العسر ، ولا وجه للتخصيص بإلحاق الموهومات مثلا بالمظنونات.
قلت : نعم ، فاللازم هو الأخذ بالظنّ في كلّ مورد وترك وجوه الاحتياط والعمل به ، والجري على مقتضاه في جميع الوقائع ، ولا نعني بالحجّة (1) غير هذا كما لا يخفى على أولي (2) الأنظار المستقيمة ، والأفهام القويّة.
ثمّ لا يخفى أنّه مع ذلك كلّه لا يعدّ من العمل بالظنّ على وجه يوجب طرح الأصول الخاصّة في مواردها في قبال الأمارات الظنّية كما هو المقصود من القول بحجّية الظنّ.
وتفصيل هذا الإجمال ، وتوضيح هذا المقال : هو أنّ القائل بالظنون المطلقة إنّما يتوصّل في سلسلة المظنونات بالظنون المثبتة للتكاليف بعد ادّعاء العلم إجمالا بأنّ جملة منها أمور واقعية ومطابقة لما هو في نفس الأمر ، وتطرح الأصول الخاصّة النافية للتكليف في قبالها ، ولا غائلة فيه بعد موافقته للاحتياط الذي توافق (3) في حسنه الشرع والعقل ، وهو المناط في العمل بالظنّ ، وأمّا الظنون النافية للتكليف ، فالاحتياط لا يقضي بالعمل بها بل إنّما هو في العمل بالأصول المثبتة للتكليف كما مرّ ذلك غير مرّة.
وأمّا في سلسلة المشكوكات ، فقضيّة الاحتياط كما عرفت إلحاقها بالمظنونات
ص: 264
أيضا (1) إلاّ أنّه خرجنا منها للزوم العسر أو الإجماع كما ادّعي ، لكنّه إنّما هو بالنسبة إلى العلم الإجمالي الكلّي الموجود بين جميع السلاسل ، وأمّا بالنسبة إلى الموارد الخاصّة ، فيؤخذ بالأصول الخاصّة كما هو الموروث من غيرهم من القائلين بالظنون الخاصّة.
وأمّا في سلسلة الموهومات ، فالقائل بالظنّ المطلق إنّما ترك الاحتياط ، للزوم العسر بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل كما أنّه لم يلتزم به في الموارد الجزئية التي يقتضي الأصول الجارية فيها التكليف ، مع أنّه لا دليل عليه إلاّ دعوى لزوم العسر على تقدير الأخذ بالاحتياط فيها ، والإنصاف عهدتها على مدّعيها.
وبالجملة ، فالقول بحجّية الظنّ المطلق على تقدير الاستناد إلى دليل الانسداد يتوقّف على بطلان الاحتياط في الموارد الخاصّة بالنسبة إلى العلوم الإجمالية الجزئية الحاصلة فيها بدعوى لزوم العسر بالنسبة إلى جميع مراتبها.
وليس على ما ينبغي إلاّ أن يقال بأنّه لا دليل على وجوب الاحتياط مطلقا كما صنعه المحقّق القمّي ، ويستفاد من ظاهر المعالم ، ونسب إلى البهائي ، لكنّه ظاهر البطلان كظهور فساد القول بأنّ العقل يستقلّ بأنّ الطريق بعد سدّ باب العلم هو الظنّ - وإن لم يقم دليل على بطلان الاحتياط بوجه يوجب العمل بالظنّ بعده - يقضي بذلك بعد جواز الرجوع إلى الامتثال العلمي بالاحتياط غاية ما في الباب هو الخروج عن مقتضى الاحتياط فيما دلّ دليل عليه ، ويبقى الباقي على حسبه ، فإنّ الضرورة تتقدّر (2) بقدرها.
الثالث من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها أنّ قضية الدليل على تقدير التعميم ولو بملاحظة مقدّمة مطويّة معلومة عدم الفرق بين خصوصيات الظنّ من جهة الأسباب مع أنّ هناك أمورا لا يجوز الاستناد إليها في شيء قطعا كالقياس وأضرابه من الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها ولو كان خروجه بواسطة ظنّ قطعي
ص: 265
الاعتبار ، فيشكل الأمر في الحكم بخروجها عن الدليل ؛ لاستلزامه تخصيص الدليل العقلي مع عدم قبوله للتخصيص.
وقبل الخوض فيه ينبغي رسم مقدّمة وهي أنّه قد اشتهر بينهم عدم جواز تخصيص الدليل العقلي ، وربّما يتوهّم أنّ المراد منه ما يقابل الدليل الشرعي الذي قد استقلّ العقل بإدراكه كقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، فيجوز التخصيص في الأدلّة الشرعية ، وليس كذلك بل التحقيق أنّ التخصيص لا يجري في كلّ دليل لا يحتمل الخلاف في مضمونه بحسب ما يفيده من العلم بعد الظنّ.
والسرّ في ذلك أنّ الدليل في الاصطلاح هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، فهو واسطة في ثبوت العلم ولو كان علما شرعيّا بانتهائه إلى العلم الوجداني للعالم وفي إثبات المعلوم لديه ، فإن قام في الفرد المخصّص دليل على ثبوت الحكم له أيضا ، فلا معنى للتخصيص ؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة المفيدة للعلم ، وإلاّ فلا معنى أيضا للتخصيص ؛ لعدم دليل دالّ عليه أوّلا ، فلا تخصيص ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل عقليا أو شرعيا.
أمّا الأوّل ، فواضح ؛ فإنّ العقل لا حكم له إلاّ بعد الإحاطة بجميع مراتب مدركه في مرتبة إدراكه ، فإن أدرك مثلا قبح الظلم ، فلا وجه للتخصيص ، وإلاّ فلا معنى له كما هو ظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّا لو فرضنا قيام الإجماع على نجاسة عنوان الكافر ، فإن قام على نجاسة اليهود أيضا ، فنجاسته إجماعية لا تخصيص فيها ، وإن لم يقم ، فلا دليل على نجاسته ، وعلى قياسه الشهرة لو قامت على نجاسة الكافر مثلا.
نعم ، يجري التخصيص في الأدلّة اللفظية الظاهرة في المعنى بحسب الدلالة الوضعية لا بحسب الدلالة التابعة للإرادة ، وبحسب إفادتها تصوّر المعنى الموضوع له لا من
ص: 266
حيث التصديق بكون المعنى مرادا للمتكلّم (1) ، وفي الحقيقة إطلاق الدليل عليها تسامح منهم من حيث إنّها ليست بعلّة تامّة للعلم بل لا بدّ فيها من إحراز عدم المانع ولو بأصالة عدم التخصيص والتقييد والمجاز ونحوها ، فإطلاق الدليل عليها إنّما هو صوريّ بواسطة أنّها مقتضيات للعلم.
ومن هنا يتّضح أنّ الدليل الحقيقي ولو كان لفظيّا لا يقبل التخصيص كما إذا كان عدم المانع مثلا معلوما إمّا بواسطة عدم قابلية المانع كما في العامّ اللفظي بالنسبة إلى مورده ، فإنّه حينئذ نصّ فيه ، ولا تخصيص ، وإمّا بواسطة أنّ عدمه معلوم وإن كان قابلا لمانعية المانع كما إذا ورد العامّ في مقام تأسيس قاعدة كلّية ، أو في مورد الامتنان.
فظهر أنّ الدليل على قسمين : حقيقي ، وصوري ، كما أنّ التخصيص أيضا على قسمين : حقيقي ، وصوري ، والدليل الحقيقي لا يقبل التخصيص بقسميه ، أمّا التخصيص الحقيقي ، فلأوله إلى التناقض المحال ، وأمّا التخصيص الصوري ، فلما عرفت. والدليل الصوري أيضا لا يقبل التخصيص حقيقة ؛ للتناقض ، فالتخصيص الصوري إنّما يختصّ عروضه بالدليل الصوري كأن يكون عنوان الحكم في الدليل بالصورة (2) يعمّ الفرد المخصّص ولو بحسب الإجمال ، فيعرضه التخصيص الصوري.
ويعلم منه خروج الفرد المخصّص من (3) العامّ الظاهر ولو بحسب التفصيل ، فلا تناقض أيضا ؛ لاختلاف محلّي الحكم إجمالا وتفصيلا ، ومحصّل الوجه في عدم جواز تخصيص الدليل الحقيقي يرجع إلى القول بعدم جواز تخلّف المقدّمتين في القياس عن النتيجة ، وذلك أمر واضح محقّق عند العدلية كما حقّق في محلّه.
وإذ قد عرفت هذه ، فاعلم أنّ الكلام في المقام تارة يقع في كيفية خروج الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها كالقياس والاستحسان والرمل والجفر ونحوها بعد
ص: 267
أنّ حكمها معلوم من عدم جواز الاتّكال عليها كما في الاستثناء ، فإنّ المستثنى حكمه معلوم إلاّ أنّ (1) الكلام في كيفية خروجه من المستثنى منه ، وأخرى يقع في حكمها أيضا كما في الظنون التي قام الظنّ على عدم اعتبارها ، فلا بدّ من تشخيص الخارج من الدليل فيهما ، وعلى تقدير الخروج ففي كيفية الخروج ، فالكلام يقع في جهتين :
الجهة الأولى في كيفية خروج القياس وأضرابه ممّا قام القاطع والدليل العلمي على فسادها ، فنقول : لا إشكال في خروج القياس على تقدير الكشف ؛ إذ محصّل الكلام على هذا التقدير يرجع إلى أنّ الدليل قد دلّ على حجّية ظنّ (2) في الجملة ، معلوم عند اللّه ، غير معلوم عندنا ، وذلك لا ينافي خروج القياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به دليل شرعي علمي على أنّ الحجّة المجهولة المردّدة بين أسباب متعدّدة ليس هو القياس ، فإنّ الموجبة الجزئية لا تناقض السالبة الجزئية ، ولا فرق في ذلك بين أن يستند في التعميم إلى الوجوه المعمّمة ، أو لم يستند إليها ، وعلى الأوّل بين الاحتياط وغيرها.
أمّا فيما إذا لم يستند إليها فظاهر ، وأمّا في صورة الاستناد ، فلأنّ جميع ما ذكر من أدلّة التعميم لا يجري في مورد القياس. أمّا الاحتياط ، فلأنّ حكم العقل الذي هو المناط في الاحتياط بعد العلم الإجمالي بالتكليف لا يزيد على رفع العقاب والخروج عن ربقة التكليف ، فلو علمنا من المولى بأنّه قد أسقط عنّا الاحتياط في بعض الموارد ولم يلزم علينا الإتيان بكلّ المحتملات ، فقد علمنا بعدم ترتّب العقاب على ترك بعض المحتملات ، واحتمال كون الواقع في المحتملات المتروكة إنّما عهدته عليه ولا ضير فيه.
والحاصل أنّ العقل يحكم بإتيان الكلّ من باب المقدّمة العلمية لتحصيل الواقع والمكلّف به فرارا من العقاب وبعد ما علم بعدم العقاب في موضوع على تقدير الترك ، فلا يحكم بالاحتياط هذا إذا قلنا بأنّ القياس داخل في العلم الإجمالي الدائر بين
ص: 268
الظنون ، وأمّا إذا لم نقل به كما هو التحقيق ، فإنّ القياس خارج عن أطراف الشبهة ، إذ قضيّة الدليل لا تزيد على اعتبار ظنّ في الجملة ، وبعد العلم بحرمته نعلم علما تفصيلا بأنّه ليس هو ، فالأمر أظهر.
وأمّا الترجيح بلا مرجّح ، فلا ينافيه أيضا خروج القياس ، فإنّه على تقدير الكشف حكم ظاهري مرجعه إلى عدم العلم بالمرجّح وهو لا ينافي بالمرجّح في خصوص مورد كالقياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به مرجّح لعدم العمل به ، ومحصّل لموضوع لا يجري (1) فيه ذلك الدليل الظاهري كما لا يخفى.
وأمّا عدم الكفاية ، فواضح عدم جريانه فيه بل ربّما يقال بأنّ العمل به يلازم المحذور المدّعى في عدم العمل بغيره من الخروج من الدين هذا كلّه على تقدير الكشف.
وأمّا على تقدير الأخذ بالظنّ من باب لزوم الاحتياط كما قرّرناه أخيرا ، فلا إشكال أيضا كما عرفت ، ويكشف عن ذلك رفع اليد عن الاحتياط فيما يلازم العسر والحرج مع أنّ الاحتياط في تلك الموارد ممّا يحصّل الواقع ، ويظهر ذلك في الغاية عند ملاحظة وجوب تكرار الصلاة فيما اشتبهت القبلة في أربع جهات مع احتمال كون القبلة في جهة أخرى متوسّطة بين الجهات الأربعة ، فالواجب أوّلا هو الصلاة بكلّ نقطة من الدائرة التي يفرض المكلّف مركزا لها كما لا يخفى إلاّ أنّ الشارع قد عفى عنها ولو كان مؤدّيا إلى خلاف الواقع ، فظهر أنّه لا منافاة في وجوب الاحتياط وترك بعض المحتملات بعد دلالة دليل على وجوب الترك أو جوازه.
وينبغي أن يعلم أنّ الظنّ القياسي لو اقتضى شيئا ، فعلى تقدير عدم إلحاق الموهومات بالمشكوكات في عدم اعتبار الأصول الجزئية في مواردها لا بدّ من إلحاق موهومه بالمشكوك في اعتبار الأصول الخاصّة في مواردها ، فإنّ الظنّ حينئذ كالعدم ،
ص: 269
فما هو المناط في الاعتبار في المشكوكات موجود في هذا الموهوم ، هذا ما يقتضيه الجليّ من النظر.
وأمّا النظر الدقيق ، فلا يفرق في ورود الإشكال بين هذا المشترك ومذاق الحكومة كما تعرفه بعيد ذلك لكن على اختلاف ما بينهما.
وتوضيحه : أنّ بعد ما قطعنا النظر عن الاحتياط في كلّ المحتملات من حيث لزوم العسر على تقديره ، فلا بدّ من التبعيض فيها دفعا للمحذور كما عرفت ، وحينئذ فقد قلنا بأنّ العقل يستقلّ في إسقاط الموهومات عن سلسلة المحتملات ؛ لعدم الاحتياط فيها بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل ، وبالنسبة إلى العلوم الجزئية الحاصلة في الوقائع الخاصّة ، فالحكم بسقوط الموهومات مطلقا عقلي ، ولا فرق في نظره القياس وغيره من الأسباب حتّى قيل بأنّ موهومه ملحق بالمشكوك ، فتدبّر.
أمّا على تقدير حكومة العقل ، فالإشكال متّجه سواء قلنا بأنّ العقل أوّلا يحكم حكما كلّيا من غير حاجة إلى ضمّ مقدّمة أخرى ، أو قلنا بأنّ الحكم بالكلّية إنّما هو بعد ملاحظة بطلان الترجيح بلا مرجّح حيث إنّ الحكم هذا حكم واقعي مرجعه إلى العلم بعدم المرجّح كما في العلم ، وكيف كان فقد أوردوا لدفع الإشكال وجوها :
الأوّل ما أفاده المحقّق القمي (1) من منع حصول الظنّ من القياس وأشباهه فأكشف (2) الشارع صراحة أو كناية عن حاله ، واستند في ذلك إلى وجهين :
أحدهما : أنّ مبنى الشرعيات على الجمع بين المختلفات والفرق بين المجتمعات ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول الضعيفة ، ولا يستفاد من الآراء السخيفة ، فإنّ الحكم المستتبعة للأحكام لا يعلمها إلاّ الحكيم ، أو من هو من ربّه على صراط مستقيم ، ويكشف عن ذلك ملاحظة منزوحات البئر ، فإنّ البعير مثلا يخالف البقر مع اجتماعهما في غير الواقعة ، ووجوب الغسل للمنيّ دون البول ، وقضاء الصوم على الحائض دون
ص: 270
الصلاة إلى غير ذلك ، فبعد ملاحظة أمثال ذلك في الشريعة كيف يحصل الظنّ باتّحاد مناط الحكم في الواقعتين حتّى يستتبعه الظنّ بالحكم في المقيس.
وثانيهما : الأخبار الدالّة على أنّ السنّة إذا قيست محق الدين كما في خبر أبان بن تغلب (1) وفي غيره أيضا بطرق متعدّدة ، فإنّ هذه الروايات تدلّ على أنّ محق الدين في القياس ، فبملاحظة ذلك لا يحصل الظنّ بالحكم في المقيس.
وفيه إجمالا : أنّ منع حصول الظنّ من القياس مكابرة فإنّ الوجدان شاهد صدق على ذلك ، وتفصيلا : أنّ الجمع بين المختلفات كالتفريق بين المجتمعات لا يقضي بعدم حصول الظنّ منه ، كيف ويحصل العلم منه المعبّر عنه بتنقيح المناط ولو لم يحصل الظنّ منه ، يلزم الطفرة ولو على بعض الوجوه وهي ممّا قضت الضرورة ببطلانها مع أنّ الغالب هو الجمع بين المتقاربات والمؤتلفات بحيث يحكم المتدرّب في الشرعيّات بأنّ موارد الافتراق أقلّ قليل بالنسبة إليها ، ويرشدك النظر في الأحكام الثابتة في حقّ الرجال ، فإنّ الغالب اشتراك النساء لهم فيها ، ومشاركة أحكام الإماء للعبيد ولو في الأغلب ، وكيف لا مع أنّ جملة منهم ذكروا في عداد الأدلّة إلحاق الفرد المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، والمنكر لذلك مكابر لنفسه مع إمكان فرض البحث في فرض الحصول.
ودعوى امتناع حصول الظنّ منه بعد ما جاء من الخبر فيه أغرب من سابقه ، وأعجب من لاحقه ، إذ مفاده لا يزيد على وجوب الإعراض عنه وعدم الاستناد إليه ، ولا دلالة فيه على الامتناع لو لم يكن فيه تلويح بالإمكان.
نعم ، لا يبعد دعوى عدم حصول الظنّ منه في الغالب بعد ملاحظة موارد تخلّفه عن الواقع وعدم كشفه عنه كما يلاحظ ذلك في مراجعة حالات الفضلاء في أمور معاشهم.
ص: 271
الثاني : ما التزم به المحقّق المذكور (1) أيضا من جواز العمل بالقياس حال الانسداد فيما إذا أفاد الظنّ.
وتوضيحه : أنّه لا ريب في بطلان العمل بالقياس في مذهبنا ، فمن (2) مارس قليلا أهل هذا المذهب في الجملة ولا سيّما بعد ملاحظة الإجماعات المنقولة والأخبار المتكاثرة الواردة عن العترة الطاهرة بحيث يحتمل عدم جواز الملاقاة لمن أنكر ذلك في جميع الموارد ، إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة الاستناد إلى الأولوية المستقرّة (3) الظنّية حتّى قيل : إنّها قوّة الفقيه ، ومن جماعة أخرى الاعتماد على الاستقراء الذي هو في حقيقة الحال مرجعه إلى القياس ؛ إذ من الواضح فساد الاستناد في إثبات حكم جزئي لجزئي مثله من غير أن يكون هناك جامعة بينهما ؛ لعدم الملازمة بين حكميها لولاها ، وإليه ينظر مقالة أهل الميزان من أنّ الجزئي ليس بكاسب ولا بمكتسب ، وذلك يكشف عن إمكان التخصيص في حكم القياس.
فعلى هذا نقول : إنّه لا دليل على حرمة العمل بالقياس وما يقاربه حال الانسداد ، لإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة وإطلاق الروايات الواردة في المقام ، ضرورة عدم اشتمالهما حال الانسداد إلاّ بالإطلاق بضميمة أصالة الحقيقة وأصالة عدم التقييد وغير ذلك من الأصول التعبّدية التي لا تفيد العلم بل ، ولا الظنّ ، وبرهان الانسداد إنّما يدلّ على حجّية مطلق الظنّ حال الانسداد ، فمفاده خاصّ بالنسبة إليها ، والخاصّ يقدّم على العامّ كالمقيّد على المطلق ، ولا سيّما فيما كان الخاصّ عقليّا ، وحال أخبار القياس ليس أولى من حال الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ لا دلالة ولا كثرة.
بل وجملة منها إنّما وردت في مقام الردّ على الفرقة الهالكة حيث إنّهم نبذوا الكتاب (4) اختصّ علمه بهم (5) وراء ظهورهم مع تمكّنهم من الرجوع إلى باب العلم ،
ص: 272
ولأجل ذلك قد أكثروا في النهي عن اتّباعه كثيرة وقليله ، والتزم أصحابهم في الاجتناب عن سلوك سبيله.
وجملة منها وردت فيما إذا أمكن التوقّف والاحتياط في حكم المسألة ، فإنّه لا بدّ فيه من الوقف ، ولا يجوز الرجوع إلى القياس مثل ما رواه ثقة الإسلام في الكافى في الصحيح ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : قلت : أصلحك اللّه إنّا نجتمع ، فنتذاكر ما عندنا ، فما يرد علينا شيء إلاّ وعندنا فيه شيء مسطّر ، وذلك ما أنعم اللّه علينا بكم ، ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء ، فينظر بعضنا إلى بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس على أحسنه فقال عليه السلام : « فما لكم والقياس؟ إنّما هلك من هلك بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون ، فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (1) الحديث.
وبالجملة ، لا حجّة على القول ببطلان القياس في حالة الانسداد إلاّ إطلاق بعض الروايات ومعاقد الإجماعات ، وبعد إعمال الأصول لا يفيد إلاّ الشكّ ، ودليل الانسداد قطعي فكما يقدّم على الأدلّة الناهية عن اتّباع مطلق ما وراء العلم ، كذا يقدّم على هذه الإطلاقات أيضا.
ودعوى الإجماع في حال الانسداد عهدتها على مدّعيها ؛ إذ المجمعين بعد قطع النظر عن مداركهم في الحكم بعدم الحجّية أغلبهم ممّن يرون انفتاح باب العلم الشرعي أو الوجداني ، فكلماتهم في الأغلب إنّما هو في بيان أحكام الانفتاح.
ومنه يظهر دعوى الضرورة المذهبية أو الدينية في وجه على حرمة الاستناد إليه ، فإنّ الإشكال في بيان ما يستند إليه تلك الضرورة ، إذ ليس يقبل كلّ ما يقال أو يدّعى إلاّ بإلقاء دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، فمدّعي الإجماع أو الضرورة مطالب بوجههما (2) ، فعليه بالبيان ، فإن كان ممّا يستند إليه الإجماع أو الضرورة في العادة ، فيعمّ الاتّفاق ،
ص: 273
وإلاّ فلا يصغى إليه.
هذا غاية ما يمكن الانتصار (1) لهذا الوجه إلاّ أنّه لا يجدي أيضا بعد التحقيق والتدقيق ، فإنّ الأدلّة المتكثّرة الواردة في مقام وإن كان ممّا لا يفيد القطع كلّ واحد منها في حدود ذواتها إلاّ كلّ واحد منها لا يخلو عن إفادة ظنّ ولو في أضعف مراتبه وإن كان ممّا استند في دلالتها إلى تعبّدي ؛ إذ قد يفيدان الظنّ أيضا.
نعم ، لا يطّرد إفادة الظنّ فيه ، لأنّه يمنع حصول الوصف منه كما لا يخفى ، وبعد انضمام رواية أخرى إليه يزداد ذلك الظنّ قوّة إلى أن ينتهي إلى العلم ، وذلك باب شائع ، وطريق واسع يستند العلوم الحاصلة من اليقينيات غالبا إلى هذه الطريقة ، ولا بعد فيها.
ومنه يظهر الوجه في جملة من المسائل الكلامية للاعتقاد استناد المشهور إلى الروايات والآيات مع أنّ غاية ما يستفاد منها الظنّ ، وهم لا يقولون باعتبار الظنّ ولو كان حاصلا من الأمارات الخاصّة فيها ، فإنّ ازدياد الأسباب الظنّية يوجب تراكم الظنون ، فيزداد باشتداد كلّ بلحوق ظنّ آخر حتّى يصير علما ، ولو لا هذا ، لانقطع التواتر ولو في جهة اللفظ ، فإنّ الإخبار بصدور لفظ من لافظ من حيث هو لا يفيد إلاّ الظنّ بصدوره منه ، وبعد الإخبار به ثانيا يشتدّ ذلك الظنّ مرتبة إلى أن يصل إلى اليقين.
وبالجملة فمن المعلوم لكلّ واحد (2) من العلماء بل لا يبعد دعوى إلحاق العوامّ بهم عدم جواز الاستناد في زماننا هذا إلى القياس ، وليس هذا العلم ممّا لا (3) يستند إلى سبب يحصل منه العلم في العادة بل على الأمور النقلية من الاعتقاديات (4) وغيرها إلى مثل هذه الأسباب كما هو غير خفيّ على المتدبّر.
ص: 274
الثالث من وجوه الدفع ما استند إليه المحقّق أيضا (1) ، ومحصّله : أنّ حجّية الظنّ إنّما هو (2) فيما انسدّ فيه باب العلم ، وفي مورد القياس باب العلم ليس بمنسدّ ، للعلم الضروري بحرمة العمل به في شريعتنا ، فخروج القياس إنّما هو من جهة خروج موضوع الحكم في دليل العقل.
وفيه : أنّ عدم انسداد باب العلم في مورد القياس بالرجوع إلى الأصول في موارده إن كان مع قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس ، فمن المعلوم أنّه غير سديد ؛ لتساوي أفراد ماهيّة واحدة في كلّ حكم لا يرجع إلى خصوصية خارجية ، وإن كان بعد ملاحظة ما دلّ على عدم جواز الاستناد إليه ، فغير مفيد ؛ فإنّه هو محلّ الإشكال ، ومحطّ فحول الرجال ، كيف؟ وهو لم يأت بما يشفي العليل ، ويروي الغليل.
نعم ، لو قلنا باختلاف موضوعي حكم العقل بحجّية الظنّ والشرع بحرمة العمل بالقياس إمّا حقيقة ، وإمّا اعتبارا كما ستقف عليها ، فله وجه إلاّ أنّه سيجيء عدم استقامتها أيضا.
الرابع ما تكلّفه أيضا (3) في المقام من أنّ الاستثناء إنّما هو ممّا دلّ على مراد الشارع ظنّا ، لا أنّ الظنّ الحاصل منها مستثنى من مطلق الظنّ.
ولعمري إنّه وجه غير معلوم المبنى بل والمعنى أيضا ، وغاية ما يتعسّف في بيان مرامه هو أنّه طاب ثراه بعد ما قرّر الدليل في كلّ المسائل الجزئية نظرا إلى بطلان الرجوع إلى الأصول فيها من غير حاجة إلى انضمام بعض الوقائع إلى أخر جعل مبنى الإشكال جزئية النتيجة ، فإنّه لا يعقل الاستثناء من الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد المستندة إلى أسبابها الخاصّة ، فلهذا قد عدل إلى جعل الاستثناء من الأمارة دون (4) الظنّ الحاصل منها ، فكأنّه يلتزم بأنّ للعقل حكمين :
ص: 275
أحدهما : ما يصير به الأمارات حجّة ، فيستثنى منها القياس ، ولا ضير فيه لتعدّدها ، فيجوز الاستثناء منها.
وثانيهما : ما به يصير الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد الشخصية حجّة عند تعارضها للظنون النوعية التي تثبت حجّيتها ، وقد يساعد إلى هذا ما يظهر منه في بعض بياناته لهذا المطلب في ذيل مبحث حجّية الأخبار ، فراجعه.
وكيف كان ومع ذلك ، فلا يجدي شيئا ؛ لأنّ الدليل الدالّ على اعتبار الأمارة بعد التنزّل عن وجوده - لظهور عدم دلالة دليل على اعتبار الظنون النوعية والأمارات - إن دلّ على اعتبارها كلّية على نحو ما قد عرفت الكلام فيها ، فالإشكال باق بحاله ، وإلاّ كأن كان (1) مهملا ، ودالاّ عليه على سبيل الإجمال ، فيجوز الاستثناء ، والأمر في ذلك بالنسبة إلى كلّ من الظنّ والأمارة سيّان ، فلا وجه للعدول مع بقاء الإشكال بحاله.
الخامس : ما أفاده بعض الأعاظم في التعليقة (2) ، وتبعه بعض الأجلّة (3) ، وقد يستفاد من مطاوي كلمات الأستاذ الشريف أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ في الأحكام الشرعية أو في الطرق إليها ليس حكما أوّليا واقعيا مطابقا لما اقتضته المصلحة الخاصّة الكامنة في الشيء من غير اندراجه تحت عنوان غير وصفه العنواني الذاتي بل هو حكم ظاهري ثانوي مطابق للمصلحة العامّة من حيث اندراجه تحت عنوان خارج عن وصفه (4) العنواني (5) الذاتي كما في حكم العقل بحجّية البراءة عند إعواز النصوص (6) ، فبملاحظة تغيّر العنوان (7) في موضوع حكم العقل يرتفع (8) حكمه بارتفاع
ص: 276
موضوعه ، وليس ذلك تخصيصا في حكم العقل في شيء ، فحكم العقل بحجّية الظنّ معلّق على عدم ورود نهي عن العمل ، وبعد كشف الشارع عن حرمته ، فلا موضوع لحكم العقل ، فلا تناقض بين حكمي الشرع والعقل ؛ لاختلاف الموضوعين.
أقول : وكأنّ المجيب إنّما بنى على الجواب المذكور نظرا منه إلى بعض ما أسلفنا نقله منه في بحث حجّية قطع القطّاع من أنّ حجّية القطع أيضا حكم ظاهري موقوف على عدم ورود منع من الشارع عن العمل به ، وقد تقدّم فساده (1) بما لا مزيد عليه.
مضافا إلى وجهين آخرين :
أحدهما : أنّ معيار الفرق بين الحكمين وميزان التمييز بين الجهتين هو الرجوع إلى الوجدان ، ونحن كلّما نراجع وجداننا مرّة بعد أولى ، وكرّة بعد أخرى لا نجد منها الحكم على حجّية الظنّ بعد المقدّمات المعهودة إلاّ حكما جعليا واقعيا لا تمازجه حيثية زائدة على حيثية ذاته وجهة نفسه.
وتحقيق الحال هو أن يقال : إنّ حكم العقل بشيء يقع تارة على نحو لا تدانيه مخالطة عنوان غير نفسه كما في حكمه بقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، وأخرى على وجه يلاحظ فيه اعتبار عنوان (2) آخر بحيث لو قطعنا النظر عن انضمام هذا العنوان ، لما كان العقل في إدراكه مستقلاّ كما في الحكم بالبراءة ، فإنّه مع قطع النظر عن كون التتن مجهول الحكم لا حكم للعقل في حلّيته ولا في حرمته ، فبملاحظة اندراجه تحت هذا الموضوع ليستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وليس حكم العقل بحجّية الظنّ حين انسداد باب العلم من جهة تحيّر العقل في حكم الظنّ ، فيندرج تحت موضوع آخر معلّق على عدم وورد نهي من الشارع كما يظهر ، ولكن استفسار (3) حال من أراد سلوك سبيل بلدة مع انسداد باب العلم إليها ، فإنّه يأخذ بما يظنّ كونه سبيلا
ص: 277
إليها من حيث كشفه عن الواقع مثل ما لو كان السبيل علميا ، فالعقل إنّما يحكم بحجّية الظنّ في حال الجهل بالمظنون لا من حيث إنّ الظنّ مجهول الحكم يستند إليه.
وبالجملة ، فمع قطع النظر عن العنوان الزائد على نفس الظنّ وحيثية كشفه عن الواقع يحكم العقل بحجّيته ، وليس ذلك من الحكم الظاهري في شيء كما لا يخفى.
نعم ، ليس ممّن يرى حكم العقل بحجّية العلم حكما ظاهريا أشباه هذه الكلمات بعيدا ، فتدبّر.
وثانيهما : أنّه (1) مع الغضّ عن الوجدان ، فهو ممّا ينافيه البرهان.
أمّا إجمالا ، فلأنّ النهي الشرعي الوارد على خلاف ما حكم به العقل ظاهرا لا فرق فيه بين أن يكون علميا أو ظنّيا ينتهي إلى علمي كما اعترف به في مباحث البراءة من تقديمه الأدلّة الظنّية على الأصول العملية ، فعلى هذا لا فرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ سوى ما عرفت من أنّ خروج القياس قطعي وغيره ظنّي ، وظاهر أنّ مجرّد كونه قطعيا وغيره ظنّيا مع انتهائه إلى العلم لا ينهض فرقا بين المقامين.
وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الوجوه الناهضة على حجّية الظنّ لا يخلو من أحد المشارب المتقدّمة صراحة وإشارة ، وعلى التقادير لا يعقل خروج القياس في وجه ، ولا وجه لتخصيصه بالخروج في وجه آخر.
وبيان ذلك : إنّ المستدلّ تارة يبطل الأصول العملية في مواردها بحجّية الظنّ فيها كما (2) يظهر من بعض العامّة في استنادهم إلى قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، واعتمادهم على لزوم دفع الضرر كما حرّر مفصّلا ، وأخرى يحكم ببطلان الأصول في مواردها ، إمّا لعدم جريانها ، أو لعدم اعتبارها بواسطة وجود مانع منه ، ثمّ بعد ذلك يحكم بحجّية الظنّ في مواردها.
ص: 278
فعلى الأوّل لا وجه لاعتبار الظنّ إلاّ حيثية رجحانه على غيره ، وهذه جهة تعليلية إن صحّت ففي الكلّ ، وإن بطلت ففيه ، وعلى التنزّل ، فلا فرق بين القياس والشهرة إلاّ بأن يقال : إنّ الأوّل منهما قطعي الخروج ، فيحكم به بخلاف الثاني ، فإنّه بواسطة العمومات الناهية عن العمل بالظنّ ، ولا عبرة بالعامّ في قبال ما دلّ على اعتبار الظنّ ، وهو إخراج وخروج عن طريقه علمائنا الأعلام ، ومشايخنا الكرام.
وعلى الثاني ، فتارة نقول بجريان الدليل في كلّ المسائل الخاصّة كما هو مذاق المحقّق القمّي ، أو في المجموع كما هو مشرب التحقيق.
فعلى الأوّل لو قلنا بعدم حجّية أصالة البراءة فيما لم تفد ظنّا ، ولا دليل على وجوب الاحتياط شرعا ، ولا وجه للتخصيص إذ لا تعليق في حكم العقل بحجّية الظنّ في المقام ، ولو قلنا بأنّ العمل بالبراءة إنّما هو من جهة التعبّد بها شرعا ، فمرجعه إلى عدم ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وذلك في مورد القياس والشهرة سواء إلاّ بالاقتراح المذكور.
وعلى الثاني فإن قلنا بالإهمال في النتيجة ، فلا إشكال كما عرفت ، وإن قلنا بعدمه ، فلا وجه للخروج ، فإنّ رفع اليد من الاحتياط الكلّي في سلسلة الموهومات والاستناد إلى الظنّ ليس إلاّ لوصف (1) الظنّ الموجود في مورد القياس والشهرة ، وتجويز إخراج أحدهما يوجب خروج الآخر ، ولا تعليق في الحكم.
قلت : ولعلّ المجيب يستند في الفرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ إلى عدم ورود دليل على المنع في غيره أصلا ، ووروده فيه ، لا إلى العموم والخصوص حتّى يورد عليه بالاقتراح ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بالظنّ بناء على حجّية الظنّ ولو في الجملة ليس باقيا على ما هو الظاهر منها إمّا بتخصيصها بالأصول ، أو بإجمالها في المقام ، أو لعدم انصرافها إليه ، فالعمدة في المقام هو الرجوع إلى الوجدان ، وعدم
ص: 279
تعليق في الحكم الحاصل من البرهان.
السادس : ما أفاده أستاذنا المرتضى دام علاه من أنّ حكم العقل بوجوب الأخذ بالظنّ حال الانسداد إنّما هو من حيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، وبعد أنّ الشارع الحكيم العليم بخفايا الأمور قد كشفه عن حاله بتخلّفه عن الواقع بأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وبأنّ السنّة إذا قيست محق الدين ، أنّ مناط حكم العقل ليس موجودا في الظنون القياسية وغيرها من أشباهها ، كما يرشدك إلى هذا ملاحظة أحوال العقلاء فيما إذا اعتمدوا على أمارة غير معتبرة واقعا مع تخيّلهم بملازمتها له ، فإنّه بعد ما ظهر لهم الحال من كثرة التخلّف ، فلا يعتدّون بها.
وأورد عليه سلّمه اللّه بأنّا وإن سلّمنا كشف الشارع عن حال القياس ، وكثرة تخلّفه عن الواقع إلاّ أنّ ذلك لا يوجب عدم حجّية ظنّه بعد حصوله منه ؛ إذ حكم الشارع لا يزيد (1) على إفادة عدم مطابقته للواقع نوعا والظانّ يحتمل أن يكون هذه الظنون الحاصلة في موارد الأقيسة من الأفراد النادرة المطابقة للواقع.
نعم ، كشف الشارع إنّما يتمّ في عدم حصول الظنّ منه على نحو ما يحصل من غيره من الأمارات ، فإنّه أقلّ فائدة من غيره ، لا أنّه لا يحصل منه الظنّ في وقت كما زعمه المحقّق القمّي ، أو بعد حصوله ليس معتبرا.
وبالجملة ، الظنّ الحاصل من القياس مرجعه إلى الاستقراء غالبا ؛ لأنّ (2) استنباط الجامع إنّما هو منه غالبا ، وكشف الشارع عن عدم مطابقة هذه الغلبة للواقع نوعا لا ينافي مطابقة غلبة صنفه منها للواقع كما لا يخفى.
قلت : وهو كذلك نظير ما مرّ في حجّية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية النظرية في قبال الأخباري ، فإنّ تطرّق الخطأ على ما استندوا إليه لا يوجب عدم الحجّية بعد حصوله ، وقد مرّ ذلك فيما مرّ بما لا مزيد عليه.
ص: 280
السابع : ما أفاده الأستاذ أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد إنّما هو بواسطة نيل المكلّف بالمصالح الكامنة في الأشياء في موارده من حيث كشفه عن الواقع ، وكونه مرآة لملاحظة حال الواقع ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو فيما لم يكن في سلوك سبيل الظنّ مفسدة فائقة على مصلحة الواقع ، وأمّا فيما كان فيه مفسدة فائقة عليها وعلمنا بها عقلا أو شرعا ، فلا شكّ في أنّ العقل حينئذ لا يلتزم (1) به بل يرى وجوب طرحه ، وترك التعويل عليه ، والركون إليه ، ولا تعارض بين الحكمين ، لاختلاف الموضوعين حقيقة عكس ما قلنا في قبال ابن قبة عند انفتاح باب العلم ، فكما أنّه لا قبح في العقول بتجويز سلوك سبيل ذي مفسدة ذاتية للوصول إلى مصلحة فائقة ، فكذلك لا قبح فيها يمنع اتّباع أمارة تفوق مفسدتها على مصلحتها تحرّزا عنها.
وفيه أوّلا : أنّ المستفاد من أخبار القياس التي هي العمدة في المقام هو المنع منه (2) بواسطة فقد المصلحة الواقعية وعدم الوصول إليها ، وليس فيها من المفسدة الفائقة على المصلحة على ما تقرّر في الجواب عين ولا أثر ، بل لو كان ولا بدّ فيها من المفسدة ، فهو فقدان الواقع ولا دلالة فيها بوجه على أنّه على تقدير الوصول إلى الواقع ، فيعارضه المفسدة الكامنة في سلوكه.
نعم ، جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار مطلقة يكشف عنها الأخبار المقيّدة المبيّنة لها كما هو غير عزيز في أمثال المقام ، فإن كنت في شكّ ممّا تلونا عليك ، فلاحظ قول الإمام عليه السلام دفعا لمقالة أبان : « يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، فإنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » (3) ونحو ذلك ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.
وثانيا : أنّه بعد ما عرفت من الاحتمال لا يستقلّ في إدراك حكم سائر الأدلّة الظنّية كالشهرة ، لاحتمال وجود المفسدة الفائقة على مصلحة الطريق فيه أيضا ، ولا يستقلّ
ص: 281
العقل في حكمه ، فإنّ حكمه إنّما هو فيما لو أحرز وجود المقتضي ورفع المانع أيضا ، فمع احتمال وجود المانع لا يلتزم بوجود المقتضى ولو كان عالما بوجود المقتضي ، وأصالة عدم المانع إنّما تجدي (1) في الأحكام الظاهرية لا الأحكام الواقعية العقلية.
لا يقال : قد يكون للشيء حكم في نفسه وباعتبار لحوق عنوان آخر به وطريانه عليه حكم آخر ، فما لم يعلم بطريان الآخر ، وحدوث العنوان اللاحق يلتزم العقل بالأوّل ، ويحكم بترتيب آثار الأوّل ، ومجرّد احتمال الآخر لا يضرّ في حكمه كما يشاهد ذلك في حكم العقل - مثلا - بقبح الكذب في حدّ ذاته ، والظلم أيضا كذلك ما لم يلحق بالأوّل إنجاء نبيّ ، وبالثاني تأديب يتيم ، فلو علمنا بلحوق العنوان اللاحق ، فلا كلام ، ولو لم نعلم به ، يحكم العقل بالقبح فيهما قطعا من غير تردّد وتزلزل ، ففيما نحن بصدده أيضا كذلك ، فإنّ للعقل بعد انسداد باب العلم حكما بوجوب العمل بالظنّ فيما لم نعلم (2) بلحوق عنوان آخر به ، بخلاف ما إذا علمنا بلحوق العنوان ، فإنّه لا حكم للعقل فيه.
لأنّا نقول : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، لوضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه ؛ حيث إنّ الحكم في مسألة التأديب والإنجاء إنّما هو على القصد فيهما ، فما لم يعلم بوجود العنوان المسوّغ ولحوقه ، يحكم العقل بحرمته ؛ لعدم تحقّق القصد ، وما يرى من التحسين فيما إذا ترتّب على الفعل العنوان اللاحق من غير قصد ، فهو إنّما يتعلّق بنفس الفعل ، ولا مدخل للفاعل فيه بناء على ما هو الظاهر من اختلاف حكمي الفعل والفاعل بخلاف مثل الظنّ ، فإنّ وجود المفسدة في الواقع من غير تعلّق بشيء آخر يعارض المصلحة التي لأجلها حكم العقل باعتباره ، فمتى احتمل وجود المفسدة لا بدّ من إحراز عدمها في الحكم.
والحاصل : أنّ جهل الكاذب والظالم بعنوان الإنجاء والتأديب يوجب عدم القصد بهما ، ومع عدم القصد لا يتّصف الفعل من حيث استناده إلى الفاعل وإن اتّصف به مع
ص: 282
قطع النظر عنه ، وهو من هذه الجهة لا يتّصف بالحرمة أيضا ، وإنّما الفعل من حيث صدوره عن الفاعل حرام كما لا يخفى ، فحكم العقل بالحرمة والالتزام بها فيما لم يعلم لحوق العنوان الآخر لا يقضي بحكمه فيما ليس كذلك بل التحقيق فيه أنّ العقل لا يلتزم بوجود المعلول إلاّ بعد إحراز جميع أجزاء علّته التامّة من وجود المقتضي ورفع المانع ، واحتمال وجود المانع لا يجامع العلم بوجود المعلول ، فإنّ الاحتمال مبطل للاستدلال.
نعم ، فيما لو كان الدليل لفظيا مجرّد الاحتمال مع ظهوره في غيره غير مضرّ من حيث قيام الدليل على اعتبار الظواهر في الألفاظ ، فكأنّه لا احتمال في البين لأنّ (1) الاحتمال من حيث نفسه لا يضرّ بالاستدلال كما قد يتوهّم.
وقد يجاب عن الإشكال بتخصيص في الدعوى من إجراء الدليل في الظنون المشكوكة لا المعلومة حجّيتها وعدمها ، وليس ذلك إلاّ مثل ما يقال من أنّ « الغريق يتشبّث بكلّ حشيش » فإنّ خصوص الدعوى لا يجدي في عموم الدليل الذي هو منشأ الإشكال ، وليت شعري كيف يمكن إخراج القياس مع فرض حكومة العقل حكما واقعيا من غير ملاحظة جهل في حكم الظنّ.
والعجب أنّهم اتّفقوا على عدم تعقّل خروج فرد من أفراد العلم عن الحكم باعتباره لا عقلا ولا شرعا ، مع أنّ الظنّ بعد الانسداد مثل العلم كشفا وحكما ، فلو أمكن خروج فرد منه ، أمكن خروج فرد من الظنّ أيضا.
نعم ، لو قلنا بأنّ العقل يحكم به حكما ظاهريا ، اتّجه القول بالخروج من غير إشكال إلاّ أنّ الكلام فيه كما عرفت ، ولعلّ ثالث الوجوه التي أورده المحقّق القمّي في مقام الدفع ، وثاني الوجهين اللذين أفادهما الأستاد يرجع في محصّل المعنى إلى الوجه المنقول عن التعليقة والفصول ، فتدبّر.
ص: 283
الجهة الثانية (1) في تشخيص الخارج من الظنّين عند تدافعهما ، فنقول : قد يظهر من بعضهم تقديم الظنّ المانع على الممنوع ناظرا إلى أنّ خروج الممنوع حينئذ خروج موضوعي لا يوجب تخصيص العامّ العقلي بخلاف خروج المانع ، وقد عرفت فيما سبق ما فيه من الضعف والفساد ، وبيّنّا ما هو أقرب إلى السداد من أنّ الخروج في كليهما موضوعي ، وقد يحتمل تقديم الممنوع ؛ لأنّ المانع من وجوده يلزمه عدمه وهو ليس بسبب لبطلان الممنوع منه أيضا كما لا يخفى ، وقد يحتمل التساقط فيهما وهو أيضا قول بلا دليل ، والأقوى هو الرجوع إلى أقوى الظنّين ممنوعا أو مانعا ؛ لأقربيته إلى الواقع الذي هو المناط في الحكم بحجّية الظنّ ، وقد تقدّم جملة الكلام فيه عند بيان وجوه الترجيح ، فراجعه.
الرابع من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو أنّ الظنّ في الموضوعات - المستنبطة منها الأحكام الكلّية الفرعية - حجّة بعد القول بحجّية مطلق الظنّ فيها سواء كان في تعيين الظواهر كالتبادر الظنّي والشهرة على وضع اللفظ لمعنى و (2) الإجماع المنقول عليه ، أو تعيين المراد منها لقاعدة الاستلزام مع عدم تخصيص ظنّ بالحجّية ، فلا فرق في ذلك بين كون الأمارة قائمة على نفس الحكم الكلّي الفرعي ، أو على ما يستنبط منها ، فإنّ بعد ما علمنا ظهور الأمر الوارد عقيب الحظر في الإباحة ، أو علمنا بظهور الصعيد في مطلق وجه الأرض استنادا إلى نقل قول منهم ، أو شهرة قائمة عليه ، أو أمارة ظنّية كالغلبة والاطّراد مثلا يظنّ بأنّ الحكم الكلّي في التيمّم هو جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض وإباحة الاصطياد بعد التحليل ، ولا فرق في ذلك بين كون الظاهر معنى حقيقيا للّفظ كما عرفت ، أو معنى مجازيا ظهورا ومرادا فيه كالشهرة القائمة على أنّ المجاز المشهور ظاهر في المعنى المجازي ، أو اللغوي مثلا ، أو المراد منه بواسطة أمارة ظنّية هو أحدهما بالخصوص ، وكلّ ذلك للاستلزام إلاّ أنّه ينبغي أن يعلم أنّ الاستلزام
ص: 284
إنّما هو ملاحظ بالنسبة إلى ذلك الظاهر من حيث نفسه وإن لم يكن الحكم الكلّي مظنونا لجهة أخرى مثل إعمال أصل تعبّدي كأصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة ونحوها ، مثلا لو ظنّنا بأنّ الصعيد موضوع للتراب الخالص للإجماع المنقول عليه ، نظنّ بعدم جواز التيمم بغيره لو لم يكن هناك أصل آخر يوجب إعماله رفع الظنّ كأصالة عدم التخصيص مثلا ، فالاستلزام بحاله سواء استلزم الظنّ بها الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي فعلا ، أو لم يستلزم فعلا ، وإنّما استلزمه شأنا ، ولا ينافي القول بحجّية الظنّ في المسائل اللغوية ظهورا ومرادا ما تقدّم في تعداد (1) المستثنيات من الأصل الكلّي الأوّلي ، فإنّ عدم الحجّية (2) هناك مبنيّ على القول بالظنون الخاصّة ، والحجّية هاهنا (3) مبنيّة على القول بحجّية مطلق الظنّ ، ولا يذهب عليك أنّ اعتبار الظنّ في الدلالات إنّما يتأتّى بعد دعوى إجمال العمومات الواردة في الأخبار بواسطة وجود العلم الإجمالي كثيرا لورود مخصّصات كثيرة كما في العمومات الكنائية وإطلاقاتها والأخبار المتواترة على ما قرّر في محلّه ، وإلاّ فمجرّد عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة وما يشابهما لا يسوّغ طرح الأصول اللفظية في قبال الظنون الراجعة إلى الدلالة كما هو غير خفيّ على المتأمّل.
الخامس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد يظهر من بعضهم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا دخل للأحكام الشرعية فيها مطلقا.
قال المحقّق الثاني حاكيا عن أبي الصلاح على ما حكي عنه : « تثبت النجاسة بكلّ ظنّ ؛ لأنّ الظنّ مناط الشرعيّات » (4). وقد ينسب إلى المحقّق القمّي أيضا ، والمشهور عدم حجّية الظنّ فيها وهو المنصور لنا : أصالة حرمة العمل بما وراء العلم مطلقا مع عدم ما يقضي بخلافها ، فإنّ الأدلّة القاضية بجواز الرجوع إلى الظنّ قد عرفت سابقا أوّلها
ص: 285
جميعا إلى برهان الانسداد من قاعدة دفع الضرر وغيرها كما حرّر مستوفى ، والانسداد غير جار فيما نحن بصدده ، لأنّ المناط فيه هو الانسداد الأغلبي ، وحيث إنّ الجزئيات الخارجة تختلف بحسب الموارد علما وجهلا ، وبالنسبة إلى الأشخاص المختلفة ، أو بالنسبة إلى شخص واحد في زمانين ، فلا ضابط في البين ، فلا يتوجّه القول بالانسداد فيها غالبا بل ونحن بعد ملاحظة حالات الأوائل نحكم بعدم الاختلاف بيننا وبينهم فيما نحن بصدده ، فإنّ القبلة كما قد تصير معلومة بواسطة وجود ما تقتضيه من الأمارات الدالّة عليها ، كذلك قد تصير مجهولة بواسطة فقدها ، ولا فرق في ذلك بين الأزمنة حتّى أنّ معاصري الأئمّة عليهم السلام قد يعلمون بالموضوعات التي علّقت عليها الأحكام الشرعية ، وقد لا يعلمون ، فالانسداد غالبا فيها (1) غير مسلّم ، فكيف بالأغلب ، والانسداد في غيره غير مسوّغ للعمل بالظنّ إلاّ بعد القول بعدم حجّية الأصول فيما لم يفد الظنّ في الموضوعات ، ولم نقف على قائل بذلك.
فإن قلت : إنّ ترك العمل بالظنّ فيها قد يوجب المخالفة القطعية ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول.
قلنا : إنّه لا دليل على بطلان اللازم مطلقا ، نعم فيما لو كان من الشبهة المحصورة على حذو ما فصّلنا سابقا لا يجوز العمل بالأصل ، ويجب الرجوع إلى غيره ، ولا فرق في ذلك بين الظنّ والشكّ.
لا يقال : قد سبق كفاية الظنّ بتفريغ الذمّة بعد العلم باشتغالها ، فكما أنّ إعمال الظنّ في نفس الأحكام يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، فكذلك إعمال الظنّ في موضوعات تلك الأحكام يوجب الظنّ بالتفريغ مثلا كما أنّ الظنّ بوجوب السورة في الصلاة يوجب الظنّ بفراغ الذمّة عن التكليف واقعا بعد قراءتها ، فكذا الظنّ بأنّ السورة الواجبة هي السورة الفلانية يوجب الفراغ ولو ظنّا.
ص: 286
لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الظنّ بالفراغ مطلقا ، فإنّ الضرورة تتقدّر (1) بقدرها ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، وكفاية الظنّ في الأحكام الشرعية لا تقضي (2) بكفاية الظنّ في موضوعاتها بعد إمكان الرجوع إلى العلم فيها وعدم إمكانه فيها كما لا يخفى.
وبالجملة ، فلا يجوز الرجوع إلى الظنّ في الموضوعات الصرفة.
نعم ، هنا أمور خاصّة يجوز الرجوع فيها إلى الظنّ إمّا بواسطة أنّ الظنّ فيها يستلزم الظنّ في الحكم الكلّي (3) الفرعي الإلهي ، وإمّا لأنّ المناط موجود فيهما (4) من الانسداد الأغلبي.
فالأوّل كالظنون الرجالية سواء كانت متعلّقة بالوصف كما إذا حصل الظنّ بعدالة إبراهيم بن هاشم مثلا ، أو بالموصوف كما في غير المشتركات ، فإنّه لو حصل الظنّ بأنّ زرارة الواقع في سند الحديث الدالّ على وجوب السورة مثلا هو زرارة بن أعين يحصل الظنّ بوجوب السورة ، وحيث إنّه لا فرق في أسباب الظنّ ، فيجب الأخذ به كما سبق ، بل قد يقال بحجّية الظنون التي لم تستند إلى قول رجالي أيضا كالظنّ بأنّ الراوي لعلوّ مرتبته وارتفاع شأنه لا يسأل عن غير الإمام في المضمرات ونحوها كما في المقاطيع والمراسيل ، فكلّما يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الشرعي يجوز التمسّك بالظنّ فيه على القول بالظنون المطلقة.
وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فليس لهم العمل بالظنّ في مباحث الرجال أيضا بل لأنّه من البناء على العلم في تعيين الوصف والموصوف ، أو على البيّنة ، وما قد يتوهّم في المقام من دعوى الإجماع على حجّية مطلق الظنّ في مباحث الرجال ، فواضح الضعف والسقوط بعد ملاحظة تشتّت مشارب كلّ العلماء في تعيين الأدلّة ، واختلافهم في تمييز الأحاديث ، فهذا صاحب المعالم (5) يترنّم بقول ليت في منزوحات البئر بعد ظهور
ص: 287
دلالته ، فقال : يا ليتها كانت صحيحة من جهة وقوع إبراهيم بن هاشم في سندها مع أنّ الرجل أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقمّ ، وحصول الظنّ بوثاقته منه ظاهر لا يقبل الإنكار ، ألا ترى أنّهم لا يعتمدون كثيرا على ما يراه بعض أهل الرجال كابن عقدة مع إفادة الظنّ من حيث إنّه من أهل الخبرة بهم ، ويظهر ذلك عند تأمّلهم فيما رواه حسن بن علي بن فضّال الفطحي مع كونه من الموثّقين إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب بكلماتهم في مواردها ، فقاعدة الاستلزام إنّما تتمّ على مذاق أرباب الظنون المطلقة.
وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فلا تتمّ على مذاقهم كيف؟ والقول بذلك يرجع إلى القول بحجّية مطلق الظنّ والمفروض خلافه ، فإنّ الدليل الدالّ على حجّية خبر العادل إنّما يقضي بحجّية هذا المفهوم الكلّي وهو غير معمول في الفقه ، وإنّما المعتمد فيه جزئياته ومصاديقه مع أنّها مشخّصة بالظنون المطلقة فمناط العمل في الحقيقة هو الظنّ المطلق ، وذلك هدم لما قرّروه من بطلان العمل بالظنّ المطلق ، فاللازم على هذا التقدير تحصيل العلم ، أو البيّنة ، أو ما يطمئنّ به النفس كما يظهر منهم الركون إليه في نفس الأحكام أيضا.
نعم ، يمكن الرجوع إلى الظنّ المطلق في الرجال وصفا وموصوفا بناء على ما هو التحقيق عندنا من حجّية الأخبار الموثوق بها فإنّه محقّق للموضوع ، ومحصّل للوثوق الذي هو المناط في الحجّية ، ولا ضير فيه كما لا يخفى ، ولا ينافي ذلك حجّية الخبر من جهة الظنون الخاصّة ، لأنّ مصاديقه وجدانية ، فتحصل بتحصيل الظنّ.
وبالجملة ، يجب العلم بتحقّق المصداق وحصول الوصف العنواني فيه ، فعلى مذاق القوم يجب تحصيل العلم بالعدالة ، وعلى ما نراه يجب تحصيل الوثوق ، وبالرجوع إلى أسباب الظنّ من الأمارات يحصل الوثوق قطعا ، ويحصل العدالة ظنّا ، ولا دليل على كفايته نظير عدم جواز الوضوء بماء ظنّ إطلاقه ، فإنّه يجب التيمّم ولا يجوز التوضّؤ
ص: 288
به ، فالقائل بحجّية خبر العدل بعد عدم إمكان إحراز العدالة بالعلم يجب له الرجوع إلى الأصول على حسب اختلاف الموارد فيها ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.
الثاني في الموارد التي لو لم يعمل فيها بالظنّ يلزم إبطال الحقوق وتعطيل السوق.
فمنها العدالة على القول بكونها ملكة راسخة نفسانية ، فإنّ العلم بها في غاية الصعوبة بحيث لو لم يستند فيها إليه ، لما قام أمور المسلمين في معاشهم ومعادهم ، فإنّ مبنى الشريعة في الغالب على العدالة كما في الشهادة والحكم والفتوى والوصاية والتولية والطلاق والجماعة والجمعة ونحوها ، فالعلم بتحقّقها غير ممكن غالبا ، والاحتياط حرج أكيد ، وعسر شديد ، والرجوع إلى الأصول بعد العلم الإجمالي بخلافها غير سديد ، والتوقّف في مواردها غير مفيد ، فتعيّن العمل بالظنّ وهو المطلوب.
ومنها الضرر ، فإنّ العلم به غالبا لا يحصل إلاّ بعد الوقوع فيه ، وذلك خلاف ما قد بني عليه الشريعة السمحة السهلة ، والاحتياط بعد تصويره مدفوع بما مرّ مرارا ، والاستناد إلى الأصول يوجب اختلال سوق المسلمين كما هو واضح ، فيجب الرجوع إلى الظنّ.
ثمّ إنّه يظهر من كشف اللثام (1) ومن تأخّر عنه أنّ المناط في الضرر هو مجرّد الخوف نظرا إلى بعض الأخبار الدالّة صريحا على اعتبار الخوف موضوعا آخر غير الضرر ، والظاهر منها أنّ الخوف ليس موضوعا آخر بل هو طريق للضرر لئلاّ يلغو الخبر الدالّ صريحا على أنّ الخبر موضوع ، فتدبّر جدّا.
وبالجملة ، فكلّ مورد يجري فيه برهان الانسداد ، أو يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي من الموضوعات الصرفة يحكم بحجّية الظنّ فيه بخلاف غيره ، فإنّ الأصل حرمة العمل بما وراء العلم.
ومن هنا يظهر أنّه كلّما تعارض الأصل والظاهر - كما في أصالة الطهارة وظهور
ص: 289
النجاسة في غسالة الحمّام وطين الطريق - فالمناط هو الأصل ، ولا عبرة بالظنّ مطلقا ، وهذا هو العنوان المذكور في كلماتهم من تعارض الأصل والظاهر ، فإنّ الظاهر في الأحكام والألفاظ حجّة كما صرّح السلطان بذلك في حاشية المعالم (1) ، به يرتفع موضوع الأصل على القول بحجّيتها ، فلا يقاومه.
وما قد يرى في تقديم الظاهر على الأصل في بعض المقامات (2) ، فإنّما هو لدلالة دليل عليه من إجماع أو سيرة أو أصل قطعي كأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ونحوها ، وذلك كما في حكمهم ببراءة ذمّة الزوج عن النفقة فيما لو ادّعت الزوجة مع إتلافها له في مدّة مديدة ، فإنّ الظاهر أنّ أصالة عدم الإنفاق إنّما تقدّم (3) لأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، وقد صرّح الشهيد في المسالك (4) بأنّها من موارد تقديم الظاهر على الأصل مع اعترافه (5) بكونها قليلة.
السادس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة كثيرة بل قد ينسب إلى المشهور عدم حجّية الظنّ في مسائل أصول الفقه ، والحقّ حجّيته فيها وفاقا لجماعة من المحقّقين.
لنا ما تقدّم سابقا من أنّ العقل بعد الانسداد والقطع (6) بالتكليف وعدم جواز الرجوع إلى الأصول التعبّدية يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة ، والخروج عن
ص: 290
عهدة التكليف ولو ظنّا على ما قد عرفت ، والفراغ الظنّي كما يحصل بإتيان الواقع ظنّا ، فكذا يحصل بإتيان ما هو بدل عن الواقع كذلك ، وهذا (1) هو القدر المتّفق عليه بين جميع أرباب الإدراك وإن كان قد يزيد ذلك الحكم بحسب ازدياد العقل واشتداد القوّة العاقلة في الأشخاص ، فربّما يحكم الكامل في العقل بالامتثال لوجه الأمر كما لا يخفى ، والظنّ في المسائل الأصولية إنّما يوجب الظنّ بالفراغ في المرتبة الثانية ، ولا دليل على وجوب أزيد من ذلك هذا.
وقد يستدلّ على المطلوب بأنّ الأصول مقدّمة للفقه ، وبعد حجّية الظنّ في ذيها يحكم العقل بحجّيته في المقدّمة بطريق أولى.
وضعفه ظاهر ؛ فإنّ الاهتمام في المقدّمة أولى ، وبعد التسليم فلا يخفى أنّها أولوية ظنّية والاستدلال بها يفضي إلى الدور ، على أنّه منقوض بالكلام فإنّه من مقدّمات الاجتهاد ، ولا عبرة بالظنّ فيه.
حجّة المشهور وجهان :
الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ قاعدة الانسداد ، أو الاستلزام بعد ما عرفت من أول الأدلّة العقلية إلى قاعدة الانسداد ، وكلّ منهما لا ينهض وجها للاعتبار.
أمّا الأوّل ، فلأنّ الانسداد فيها ممنوع ؛ لأنّ مسائل الأصول لا تخلو عن ثلاثة أقسام ، فإنّ برهة منها متعلّقة بالألفاظ الموضوعات المستنبطة منها الأحكام التي يعبّر عنها بمشتركات الكتاب والسنّة كمباحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوها ، ولا ريب في حجّية الظنّ فيها كما عرفت ، وجملة منها بالحجّة ، فتارة من حيث الكشف عن الواقع ، وأخرى من التعبّد به شرعا كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما.
ص: 291
ففي الأولى منهما لا يتعقّل الانسداد بعد إثبات حجّية الظنّ في الفرعيّات ، فإنّ انسداد باب العلم في الفروع دليل قطعي على حجّية الأمارات الشرعية ، فباب العلم فيها ليس منسدّا.
وفي الثانية ففي جملة منها يستقلّ العقل بإدراكها ، وفي بعض منها لو فرضنا انسداد باب العلم ، لا يلزم محذور من الرجوع إلى الأصول فيها ، لانتفاء العلم الإجمالي وانضمام مسائل الأصول بالفروع نظرا إلى أنّ كلّها أحكام شرعية وبعد الانضمام يحكم بحجّية الظنّ في الجميع لانسداد باب العلم في الأغلب ، لا جدوى فيه بعد ظهور خروج هذه الجملة عن أطراف العلم الإجمالي ، فباب العلم في الأغلب مفتوح في الأصول ، فلا يجري الانسداد.
وأمّا الثاني ، فلأنّ قاعدة الاستلزام إنّما هي مسلّمة فيما لو استلزم الظنّ بشيء الظنّ بالحكم الواقعي (1) ، فإنّه هو قضية البرهان ، والقدر المتيقّن من التبيان ، والاستلزام في الأصول لو سلّم ، ففي الحكم الظاهري ، ولا دليل على حجّيته في الحكم الظاهري.
الثاني أنّ الشهرة قامت على حجّية الظنّ في الأصول ، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه ، ولا أقلّ من إفادة الظنّ ، فلو كان الظنّ حجّة ، يلزم عدم حجّية الظنّ فيها ، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.
والجواب أمّا عن الأوّل ، فبما عرفت في توجيه المختار ، فإنّ الظنّ بالحكم الظاهري يكفي عن الواقع كما هو القضية الكائنة للبدلية مثلا بعد العلم باشتغال الذمّة بالصلاة يحكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة عنها ولو بإتيان ما يكفي عنها ، أو بإدخال نفسه في موضوع آخر غير مكلّف بها عند انسداد باب العلم ، كما يكتفى بالفراغ الظنّي منها ، كذلك يكتفى بما هو بدل منه ظنّا ، فإنّه أيضا يوجب الظنّ بالفراغ الذي قد حكم العقل به بعد الانقطاع عن العلم.
ص: 292
وأمّا عن الثاني ، فبمنع قيام الشهرة على عدم حجّية الظنّ في الأصول أوّلا ، نعم أرباب الظنون الخاصّة بعد زعمهم انفتاح باب العلم لا يعوّلون على الظنّ مطلقا لا أصولا ولا فروعا ، وبمنع إفادة الظنّ منها ثانيا إذ مرجعها إلى أصالة حرمة العمل بالظنّ كما عرفت سابقا ، على أنّ مجرّد قيام الظنّ على عدم حجّية ظنّ آخر لا يوجب بطلانهما جميعا بل يجب الأخذ بأقوى الظنّين كما مرّ آنفا.
السابع ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة منهم المحقّق الطوسي قدس سره القدوسي (1) إلى كفايته في المسائل الكلامية والأصول الاعتقادية على ما حكي عنه (2) ، والمراد منها ما كان المقصود منها الاعتقاد وإن ترتّب عليه العمل - سواء كان ممّا يوجب إنكاره الكفر أو لا - كما أنّ المراد من الفرعيات ما كان المقصود منها العمل أو لا ، والفرق بينها وبين أصولها أنّ الأصول مبان ومآخذ لها ومداركها التي يستنبط منها ، ولا يذهب عليك أنّ هذه المسألة غير ما عنونوها في مباحث الاجتهاد والتقليد من كفاية التقليد وعدمه ، لعدم الملازمة بينهما ، إذ يمكن القول بكفاية التقليد مع عدم كفاية الظنّ وبالعكس نظرا (3) إلى جواز الاكتفاء بما يحصل من الأدلّة الظنّية بعد إفراغ الوسع في تحصيل الاعتقاد.
فما يظهر من المحقّق البهائي رحمه اللّه (4) من اتّحادهما ليس على ما ينبغي إلاّ أن يؤول بأنّ العلم غير التقليد نظرا إلى ما تقرّر في تقسيم الإدراك إلى العلم والتقليد وغيرهما ، فإنّ التقليد لا ثبات فيه ، بخلاف العلم ، فاشتراط العلم لعلّه (5) يلازم نفي التقليد ، فتدبّر.
وكيف كان ، فتحقيق المقام يستدعي بسطا في الكلام في طيّ عدّة من المقام :
ص: 293
المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ أو لا يجب؟ المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ نظرا إلى أنّ الظنّ يقوم مقام العلم مطلقا ، أو لا يجب؟ والكلام في المقام إنّما هو في الأمور التي يجب تحصيل العلم فيها لو لم يكن تحصيله متعذّرا.
وأمّا الأمور التي لا يجب تحصيل الاعتقاد فيها ، فهو خارج عن أصله لكنّه قد يقوى في النظر إطلاق القول بوجوب التحصيل في كلّ ما يمكن التحصيل فيه نظرا إلى إطلاق الأدلّة الآمرة بتحصيل العلم والقائلة بوجوب طلبه ، المنساقة غالبا في الأصول بخصوصها ، ولا أقلّ من شمولها لها قطعا ، كقوله : « طلب العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة » (1) وآيتي النفر والسؤال وغيرها.
وبالجملة ، التحقيق عدم وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ؛ لعدم الدليل على وجوبه ، فإنّ الأدلّة بأجمعها صريحة في طلب العلم على وجه يستفاد منها أنّه هو المطلوب بنفسه على نحو الموضوعية ، والظنّ لا يكون بدلا عن العلم في مقام يكون العلم موضوعا.
نعم ، فيما لو كان العلم طريقا ومرآة يمكن القول ببدلية الظنّ للعلم.
ومن هنا يظهر فساد قياس المقام بالأحكام الفرعية ، فإنّ المقصود منها على ما عرفت هو العمل ، والعلم طريق له ، وحيث إنّ المكلّف لا يخلو عن عمل ، يحكم العقل ببدلية الظنّ للعلم عند تعذّره ، وأين هذا من وجوب تحصيل العلم موضوعا ، فكما أنّ الأمر بالصلاة لا دلالة فيه على وجوب الصوم عند تعذّر الصلاة فكذا قوله ، فاعلم أنّ الأدلّة الدالّة (2) لا دلالة فيها (3) على وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ، مضافا إلى الأخبار الناهية عن القول بما لا يعلم ، الآمرة بالتوقّف عند عدم العلم.
ص: 294
نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ الإدراك الظنّي شيء من المعارف الحقّانية مثل ما لو ظنّ أحد بمرتبة من مراتب الإمام عليه السلام واقعا أحسن من عدم الإدراك كما أنّ العلم أحسن منه ، وأعلى مراتب العلم أحسن من غيره ، وذلك غير ما نحن بصدده من نيابة الظنّ عن العلم فيما لو تعذّر ابتداء ، فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ بدلا عن العلم.
أمّا إباحته أو استحبابه ، فلا يخلو عن إشكال أيضا سيّما الأخير وخصوصا فيما لو خالف الواقع ، هذا بالنسبة إلى حكمه التكليفي.
وأمّا حكمه الوضعي من حيث العقاب والنجاسة وسائر أحكام الكفر ، فالظاهر أنّه معذور من حيث العقاب ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، فإنّه أرأف بعباده من أن يعاقبهم على أمر غير مقدور لهم.
وأمّا النجاسة ، فالظاهر نجاسته ظاهرا ، ولزوم ترتّب آثار الكفر عليه ، لأنّه غير مؤمن قطعا ؛ لتوقّف الإيمان على الاعتقاد بالجنان ، وحيث إنّه لا واسطة بين المؤمن والكافر ، فهو كافر.
ولا يخفى أنّ الكفر إنّما هو فيما يستلزم الكفر من أصول العقائد كالتوحيد والنبوّة ونحوها (1) ، وأمّا في غيرها كالشكّ في كيفية أبواب الجنّة والحشر ، فلا كفر فيه.
ولما ورد في جملة من الأخبار من أنّ الشاكّ كافر :
منها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : « من شكّ في اللّه وفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهو كافر » (2).
ومنها : ما رواه فيه أيضا عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صفوان ، عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : من شكّ في رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله؟ [ قال ] : « فهو (3)
ص: 295
كافر » [ قلت ] : ومن شكّ في كفر الشاكّ ، فهو كافر؟ فأمسك عنّي ، فرددت عليه ثلاث مرّات ، فاستبان (1) في وجهه الغضب (2) إلى غير ذلك من الأخبار (3) الدالّة على كفر الشاكّ.
ولا ينافي الاستدلال بالأخبار مع كونها ظنّية في المقام ؛ إذ المقصود إثبات جهة الفرعية بها من ترتّب آثار الكفر كما لا يخفى.
لا يقال : لا دليل على نفي الواسطة بين الكافر والمؤمن.
لأنّا نقول : يدلّ عليه قوله تعالى : ( خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (4) كما استدلّ المشهور في نفي الواسطة بين الصنفين بقوله تعالى : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ) (5) فإنّ وجه الدلالة فيما نحن فيه أظهر.
فإن قلت : فعلى تقدير كفره لا مناص من كونه معذّبا في الآخرة ، فإنّه أعدّ للكافرين عذابا أليما ، والآيات في ذلك ممّا لا يستقصى ، وذلك ينعكس بعكس النقيض إلى « كلّ من ليس بمعذّب ليس بكافر ، وقد كان كلّ كافر معذّب » هذا خلف.
قلت : إنّ مفاد الآيات كلّها أنّ جميع الكفّار مصيرهم إلى النار ، وذلك لا ينافي فرض وجود (6) كافر قاصر لا يكون معذّبا.
نعم (7) ، كان موجودا ، فيستكشف عن العموم المذكور تقصيره ، ويحكم بدخوله وخلوده في النار ، أمّا الأفراد الفرضية التي لا وجود لها لا يضرّ بالعموم ، ولا يوجب تخصيصا فيه ، وذلك مثل قول المولى لعبده : « أضف جيراني ، وعلّم العبد بأنّ الحكم مخصّص بأصدقاء المولى » فلو شكّ في فرد منهم أنّه من الأصدقاء أو لا ، فبناء العموم
ص: 296
لا يضرّه الأفراد الفرضية ، فبالعموم يتمسّك في كون الموجودين مقصّرين.
وما قد يقال - بأنّ الوجه أنّ الحكم بوجود القاصر في الخارج فإنّ جملة من الكفّار الساكنين في البلاد النائية عن الإسلام ربّما لم يقرع سمعهم اسم ، الإسلام أو مع إسماعهم (1) لم يحتملوا عدم (2) حقّية طريقهم بعد رسوخهم فيما وجدوا عليه آباءهم وكثيرا ما (3) نجد آحادا منهم ليس لهم قوّة تمييز (4) الحقّ عن الباطل ، فكيف يتأتّى القول بأنّ كلّ كافر موجود في الخارج مقصّر - مدفوع بأنّ من المحتمل بل قد يقال : من الواجب أن يكون لهم في آن من الآنات التفات إلى الحقّ ، فإنّ اللّه تعالى لا يعذّب إلاّ بعد الإرسال ولو بلسان العقل ، فلم لا يجوز أن يمنّ عليه في آن من آناته بقوّة قويمة ، وسليقة مستقيمة يتمكّن بها من (5) تحصيل الحقّ ، وترك الباطل؟ وذلك ليس ببعيد.
وقد يؤيّد ذلك ما أجمعوا (6) عليه الفرقة الناجية من كفر الشاكّ والمعتقد بالخلاف ، فكلّ شاكّ كافر ، وكلّ كافر في النار ، فكلّ شاكّ في النار ، للعلم بعدم قصوره لا أنّه مع كونه قاصرا يكون في النار ، ولكن قد يتراءى من ظواهر بعض الآيات الدالّة على رفع العقاب عن ( الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) الذين ( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (7) وجود الواسطة بين المؤمن والكافر ، فيشكل الحكم فيما ذكرنا إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه ، فإنّ للمستضعف معنى على ما نطق به بعض أخبار (8) العترة الطاهرة ، و (9) بعض كلمات المفسّرين ، وشيء منهما لا يوافق الدعوى المزبورة.
أمّا الأوّل منهما ، فقد روى ثقة الإسلام في الكافى عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « من
ص: 297
عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (1).
وفيه أيضا عن أبي الحسن موسى عليه السلام أنّه كتب : « الضعيف من لم ترفع إليه الحجّة ، ومن لم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (2) فإنّ من المعلوم من سياق الخبرين أنّ المراد من الاختلاف هو الخلاف الواقع بين الفريقين ، فلا دخل له بالإيمان والكفر كما لا يخفى.
وأمّا الثاني ، فصرّح بعضهم (3) بأنّ المراد من المستضعف (4) من لم يقدر على المهاجرة (5) مع النبي صلى اللّه عليه وآله ومن الواضح عدم ارتباطه بالكفر والإسلام ، هذا غاية ما يمكن الانتصار به لهذا القول.
ولكنّ الإنصاف أنّ المستضعف أعمّ ممّن لم يعرف الخلاف بين الفريقين وبين غيرهم من سائر المذاهب ، وورود الخبر فيهم لا ينافي عمومه لغيرهم ، وقد صرّح الإمام عليه السلام بوجود الواسطة في أخبار كثيرة :
منها : ما رواه في الكافى عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل قال : قلت : فهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة؟ فقال : « تصوم وتصلّي وتتّقي اللّه ولا تدري ما أمركم؟ » ، فقلت : قد قال اللّه تعالى : ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (6) وأنّه لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر قال : فقال أبو جعفر عليه السلام : « قول اللّه أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ : ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (7) فلما قال : عسى؟ » قلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، قال : « فما تقول في قوله عزّ وجلّ : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ ...؟ » ) الآية فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو
ص: 298
كافرين ، قال : « ما هم بمؤمنين ولا كافرين » ثمّ أقبل عليّ [ وقال : ] « ما تقول في أصحاب الأعراف؟ » فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النار فهم كافرون ، فقال : « واللّه ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين ، لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين ، لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ، ولكنّهم قوم قد استوى (1) حسناتهم وسيّئاتهم ، فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال اللّه عزّ وجلّ » فقلت : أمن أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟ فقال : « اتركهم كما تركهم اللّه » فقلت : أفترجئهم؟ قال : « نعم أرجئهم كما أرجأهم اللّه إن شاء اللّه أدخلهم الجنّة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم » فقلت : هل يدخل الجنّة كافر؟ قال : « لا » قلت : فهل يدخل النار إلاّ كافر؟ قال : فقال : « لا ، إلاّ أن يشاء اللّه ، يا زرارة إنّي أقول : ما شاء اللّه ، وأنت لا تقول : ما شاء اللّه ، أما [ إنّك ] إن كبرت رجعت ، وكللت (2) عنك عقدك » (3) ، وقريب منه ما ورد في أصحاب الأعراف (4).
ومنها : ما في الكافى أيضا عن محمّد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو بصير ، فقال : يا أبا عبد اللّه عليه السلام ، ما تقول فيمن شكّ في اللّه؟ فقال : « كافر يا أبا محمّد » قال : فشكّ في رسول اللّه؟ قال : « كافر » ثمّ التفت إلى زرارة وقال : « إنّما يكفر إذا جحد » (5).
ومنها : ما فيه عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : « لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا » (6).
ص: 299
ومنها : ما فيه عن أبي جعفر عليه السلام فيمن سأله من المستضعف ، فقال : « هو الذي لا يهدي (1) حيلة إلى الكفر ، فيكفر ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، فلا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان فإنّه (2) مرفوع عنهم القلم » (3).
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (4) ، فالمستضعف هو تابع كلّ ناهق وناعق ، فالحقّ مراعاة الأصل في كلّ مقام بالنسبة إلى الشكّ الغير الخاصّة.
المقام الثاني فيما لو أمكن له تحصيل العلم بعد إفراغ الوسع وبذل الجهد على ما هو المتعارف في تحصيله هل يجوز له الاكتفاء بالظنّ ، أو لا؟ التحقيق عدم الاكتفاء بالظنّ لوجوه :
الأوّل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ ما عرفت من الانسداد والمفروض تمكّنه من تحصيل العلم ، فلا انسداد.
الثاني : الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم المصرّحة بلفظ العلم وما يؤدّي مؤدّاه من اليقين كقوله : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (5) و « اطلبوا العلم ولو بالصين » (6) ، و « طلب العلم فريضة » (7) ونحوها ممّا (8) لا يكاد يخفى على من له خبرة بالأخبار.
الثالث : الأدلّة الآمرة بالشهادة ، فإنّها على ما صرّح به بعض أهل اللغة هو الإخبار عن علم ، وأمثال ذلك كثيرة ، فالأمر واضح.
ص: 300
وإنّما الكلام في حكمه الوضعي فيما لو اكتفى بالظنّ ، فنقول : لا ريب في كفره ولزوم ترتيب آثاره من عدم جواز معاشرته رطبا ونحوه فيما لو كان ظنّه بخلاف الواقع كما إذا ظنّ بعدم كونه تعالى عالما ، أو واحدا ، أو قادرا مثلا ، وأمّا فيما لو كان ظنّه مطابقا للواقع ، فالظاهر أنّ ظنّه كعدمه ، فيرجع في تحقيق حاله إلى ما قد سبق في الشاكّ ، فإن كان مع جحود ، فهو كافر ظاهرا أيضا ، وإلاّ فيعمل بالأصل حسبما يقتضيه في كلّ مقام.
الثامن ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه على القول بعدم حجّية مطلق الظنّ ، أو على القول بها بعد خروج القياس وأمثاله هل يصحّ الاستناد إلى مطلق الظنّ على الأوّل ، أو إلى القياس على الثاني بجعله جابرا لكسر دليل ، أو معاضدا له ، أو مرجّحا عند تعارض دليل لآخر (1) ، أو موهنا ، أو لا يصحّ؟
وينبغي أوّلا تمهيد مقدّمة ، فاعلم أنّ كلاّ من الجبر والتعاضد والترجيح والوهن جهة مغايرة للأخرى ، وجهة مباينة لها ؛ فإنّ الجابر : عبارة عن انضمام أمر خارجي به يصير المجبور داخلا تحت عنوان كلّي قام الدليل على اعتباره ، سواء كان له مضمون يوافق مضمون الجابر أو لم يكن له مضمون أصلا.
فالأوّل كالشهرة الفتوائية فيما لو انضمّت (2) إلى خبر بها يصير صدوره عن الإمام مظنونا على القول باعتبار الظنّ في الصدور (3) ، وذلك إنّما يصحّ فيما لو كان المستند في الفتوى عند المشهور هو ذلك الخبر ، وإلاّ فلا ملازمة بين كون المضمون مشهورا وصدور الخبر عن الإمام ، كما لا ملازمة بين القطع بالمضمون وصدوره.
والثاني كالشهرة في الرواية ؛ فإنّها جابرة للخبر فيما لو كان سنده قاصرا إلاّ أنّه لا مضمون لها ، وإنّما هو كسائر القرائن الداخلية كالأعدلية.
والمعاضد : عبارة عن عبارة (4) تطابق مضمونها مضمون الآخر سواء كان جابرا كما
ص: 301
فرضنا ، أو لم يكن ، كما إذا كان هناك شهرة في الفتوى من غير أن يحصل منه الظنّ بصدور الخبر مثلا.
والمرجّح : عبارة عمّا به يتزايد أحد الدليلين على الآخر (1) عند تعارضهما سواء كان جابرا ، أو معاضدا ، أو لا ، أمّا الأخير ، فكالأعدلية ، فإنّها مرجّحة فقط ، وأمّا ما كان جابرا ومرجّحا كالشهرة في الرواية ، فإنّها جابرة ومرجّحة أيضا ، وأمّا ما كان جابرا ومرجّحا ومعاضدا ، فكالشهرة في الفتوى على القول بكونها من المرجّحات أيضا.
والموهن : عبارة عمّا به ينقص أحد الدليلين عن الآخر سواء كان له جهات التعاضد والترجيح والجبر بالنسبة إلى دليل آخر ، أو لا ، وربّما يتخيّل أنّ رجحان أحد الدليلين بمرجّح إنّما هو موهن بالنسبة إلى الآخر ، وليس كذلك بل الموهن ما به ينقص أحد الدليلين المفروض تساويهما عن الآخر ، وأين هذا عن زيادة الآخر عليه.
نعم ، فيما إذا اجتمع الوهن والترجيح في دليلين بأن كان أحدهما موهنا بواسطة شذوذه مثلا ، والآخر مشهورا في الرواية ، فعدم تقدّمه على الراجح إنّما يستند إلى كونه موهونا ، فإنّ عدم المعلول في العادة إنّما يستند إلى عدم المقتضي عند اجتماعه مع وجود المانع كما لا يخفى.
فظهر أنّ النسبة بين الأمور الأربعة هو التباين بحسب المفهوم ، فإنّ جهة التعاضد تغاير جهة الترجيح ، والعموم من وجه بحسب المورد ، ويظهر الوجه في الكلّ بأدنى تأمّل.
وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام تارة يقع في الظنون التي لم يعلم حجّيتها ؛ لعدم قيام دليل عليها ، وأخرى في الظنون التي قام الدليل على عدم حجّيتها بعد أنّ الأصل عدم الاعتداد بها جميعا ؛ لأنّ الانجبار والتعاضد وأخويه من الآثار الشرعية ، وما لم يقم دليل قطعي عليها الأصل يقتضي عدمها ، فلنذكر كلّ واحد منها في مقام :
ص: 302
المقام الأوّل في أنّ الظنّ الذي لم يعلم اعتباره يمكن أن يكون جابرا للسند فيما إذا كان الكسر فيه أو للدلالة أم لا؟ ففيه جهتان :
الأولى في الجبر في السند ، فنقول : إنّ الظنّ المطلق - على القول بعدم حجّيته كالشهرة في الفتوى مثلا - إنّما يصير جابرا فيما لو كان المجبور به يصير داخلا تحت عنوان يثبت حجّيته نوعا مثلا ، لو قلنا بأنّ الخبر الموثوق به حجّة ، فإن وجدنا خبرا كذلك ، فلا كلام ، وإلاّ فإن انضمّ إليه شهرة فتوائية أو روائية - بحيث يحصل الوثوق بصدور الخبر عن الإمام - فهو حجّة أيضا باعتبار انجباره بها ، وإلاّ فلا حجّية فيه ، ولا ينافي ذلك عدم حجّية الشهرة في نفسها ، فإنّه لا اعتماد عليها حينئذ بل إنّما هي محقّقة لموضوع هي الحجّة ، ومحصّلة لمصداق قام الدليل على اعتباره عموما بخلاف ما لو قلنا بحجّية خبر العادل ، فإنّ الشهرة في الفتوى لا دخل لها في عدالة الراوي التي بها أنيطت الحجّية ، فالمعيار في الانجبار هو حصول مصداق الحجّة بعده ، فإن حصل فيصحّ ، وإلاّ فلا يصحّ ، هذا فيما إذا (1) قلنا بعدم حجّية الظنّ المطلق ، وأمّا على القول به ، فالشهرة هي بنفسها حجّة لا جبر فيها إلاّ على ما يراه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه من عدم حجّية الشهرة لقيام الشهرة على عدم حجّيتها (2) ، فإنّه بعد انضمام الشهرة إلى الخبر يخرج عن مورد الشهرة في المسألة الأصولية ؛ إذ الشهرة لو لم تقم على حجّية الخبر المنجبر بالشهرة ، فلا أقلّ من عدم قيامها على عدم حجّيته ، فلا يخفى أنّ في إطلاق الانجبار في المقام نوع تسامح كما هو ظاهر.
وبالجملة ، فالجبر في السند وعدمه إنّما يختلف بحسب اختلاف المذاهب في أخبار الآحاد ، فإن قلنا بحجّيتها من حيث الظنّ بالصدور ، فيصحّ الانجبار ، وإن قلنا بأنّ خبر العادل حجّة ، فلا يعقل الجبر كما إذا قلنا بأنّ الظنّ الحاصل من الخبر بالحكم الواقعي
ص: 303
حجّة ، فإنّه لا معنى للانجبار ؛ إذ الشهرة مثلا إن أفاد [ ت ] الظنّ ، فإنّما هو من جهة إفادته بنفسها ، والخبر بعد الانجبار لا يصير مفيدا للظنّ بالحكم الواقعي ، لعدم الملازمة بينهما كما لا يخفى ، فإنّ الجبر إنّما يتصوّر في دليل ثبت حجّيته نوعا مع فقد بعض شرائطه على وجه به يصير واجدا له ، داخلا تحت عنوان الدليل كما عرفت ، والظنّ الحاصل من الشهرة لا ربط له بالظنّ الحاصل من الخبر كما هو واضح لا سترة عليه.
الثانية في الجبر في الدلالة بعد أن كانت قاصرة ، وقد يستشكل في قصور الدلالة حيث إنّ اللفظ لو لم يكن دالاّ كما إذا كان مجملا لتردّده بين معاني المشترك مثلا ، فلا وجه للجبر ؛ إذ بالشهرة لا يصير اللفظ دالاّ ، وداخلا تحت عنوان الدليل ؛ لعدم الارتباط بينهما ، ولو كان دالاّ ، فلا حاجة إلى الانجبار ؛ لأنّ القرائن المعتبرة في الدلالة - سواء كانت صارفة أو معيّنة - لا بدّ من كونها حجّة فيما يفيدها عرفا أو شرعا إلاّ أنّه على الأخير يقتصر في مجاري استعمالاته خاصّة في وجه ، فاللفظ لو اقترن بها ، فدلالته واضحة - سواء كان مشتركا أو غيره - وإن لم يقترن بها ، فلا عبرة به أصلا ، فلا واسطة بين دلالة اللفظ وعدمها حتّى يقال بالقصور ، لكنّه قد يتصوّر القصور على بعض الوجوه ، فتارة من حيث القصور في مقتضى الدلالة كما في الإشعارات والمفاهيم التي يتخيّل ظهورها كمفهوم الوصف مثلا ، فإنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّية ، وأخرى من حيث تخيّل وجود المانع عن الدلالة بعد إحراز المقتضي كما في العامّ المخصّص بتخصيصات عديدة ، فإنّه قد يتوهّم قصور دلالته فيما عدا الأفراد الخارجة نظرا إلى كثرة التخصيص على وجه يتخيّل ممانعتها لدلالته عليها ، وكيف كان ، فالمستفاد من مطاوي كلماتهم انحصار موارد الانجبار في ثلاثة :
الأوّل : حمل اللفظ على معنى غير معهود استعماله فيه بغير قرينة صارفة أو معيّنة.
الثاني : ترك المعنى المتعارف استعمال اللفظ فيه حقيقة أو مجازا من غير ما يقتضيه لفظ.
ص: 304
الثالث : إقدام على إعمال دليل موهون فيما يتوهّم وجود المانع عنه كما إذا كان عامّا نالت يد التخصيص إليه كثيرا ، وعلى التقادير ، فالجابر تارة فهم المشهور من اللفظ بعد استنادهم إليه ، وأخرى قيام الشهرة منهم موافقا لأحد الوجوه الثلاثة من غير استنادهم في فتاويهم إلى اللفظ.
فعلى الأوّل لا وجه للانجبار فيما إذا حمل اللفظ على معنى غير متداول الاستعمال فيه ؛ لأنّ الأصول اللفظية بعد قيام الدليل على اعتبارها كالأصول العملية لا يقاومها إلاّ ما ثبت كونه معتبرا ، والمفروض عدم ثبوت اعتبار فهم المشهور في قبال أصالة الحقيقة مثلا ، وكما أنّ أصالة البراءة لا تزيلها الشهرة ، فكذا أصالة الحقيقة لا تدفع بأمثالها.
فإن قلت : إنّ استناد المشهور إلى رواية غير ظاهرة الدلالة على ما أفتوا به يكشف عن قرينة قائمة دالّة عليه دلالة واضحة تامّة كما أنّ الشهرة فيما إذا انعقدت على فتوى تكشف عن أمارة دالّة عليه عند المشهور.
قلت : لا كلام فيما إذا كشفت (1) عن القرينة كشفا قطعيا ، فإنّه ليس وراء عبّادان قرية ، وإنّما الشأن فيما إذا كان ظنّيا ، فإنّ مرجع الظنّ بإرادة المعنى الذي فهمه المشهور إلى الظنّ بوجود القرينة ، ولا دليل على حجّية الظنّ كما هو المفروض سيّما بعد دلالة الأصول التعبّدية بخلافه ، هذا فيما إذا حمل اللفظ على معنى غير متعارف استعماله فيه.
وأمّا إذا ترك المعنى المتعارف بعد إعراض المشهور عنه فإن قلنا بأنّ الدليل الدالّ على حجّية الظواهر يعمّ ما إذا كان المشهور على خلافها أيضا ، فلا عبرة بالشهرة لعين ما عرفت آنفا ، وإلاّ يعوّل بعدم حجّية الظواهر بعد إعراض المشهور ، ولك إرجاع هذا القسم إلى القسم الأوّل كما لا يخفى.
وأمّا الإقدام على إجمال الدليل بعد ضعفه لاحتمال وجود المانع ، فلا نضايق القول
ص: 305
بأنّ الشهرة واستناد الأصحاب إليه يوجب كسر جبره ، فيصحّ التعويل عليه كما ترى في عمومات كثيرة مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) و « لا ضرر » ونحوهما إلاّ أنّه لا يخفى عدم تحقّق الجبر حقيقة في المقام ؛ لأنّ الجبر على ما عرفت ينبغي أن يكون بوجه يوجب اقتضاء المقتضي ، أو رفع المانع منه ، وفي المقام ليس شيء منهما.
أمّا الأوّل ، فواضح.
وأمّا الثاني ، فلأنّ كثرة التخصيص مثلا لو كان (2) على وجه يوجب إجمال اللفظ في محلّ الاستدلال ، فلا شكّ أنّ الشهرة بعد عدم اعتبارها لا تصير قرينة معيّنة ؛ لأنّ كون الشيء قرينة يحتاج إلى دليل قطعي عرفا أو شرعا والمفروض انتفاؤه ، وإلاّ فلا وجه لإهماله وللاستناد إلى فهم المشهور.
نعم ، ربّما يحدث في النفس نوع حزازة عند التمسّك به فيما لم يستند إليه المشهور ، وبعد الاستناد يكشف عن عدم الحزازة واقعا ، فيطمئنّ النفس عند التمسّك به كما لا يخفى ، ومنه يظهر الحال على التقيّد الثاني بأقسامه الثلاثة ، فتدبّر. هذا هو الكلام في الجبر بظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل.
وأمّا الجبر بما قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس عند من لا يرى حجّية مطلق الظنّ ، فالحقّ أنّه لا يصلح له ؛ لأنّ المستفاد من أخبار القياس ولو بعمومها وإطلاقها عدم جواز الركون إليه مطلقا وعدم ترتّب حكم شرعي بواسطته ، فإنّه عليه السلام قال : « من قاس شيئا من الدين ، قرنه اللّه مع إبليس في جهنّم » (3) ولا شكّ أنّ الجبر ممّا ترتّب عليه أثر شرعي ، كيف والمعلول إنّما يستند في العادة إلى الأخير من أجزاء علّته التامّة ، فالحكم المستند إلى المجبور بالقياس إنّما يتمّ بعد انجباره به ، فالاستناد إليه حقيقة سواء كان في جبر السند أو الدلالة.
ص: 306
أمّا الأوّل ، فلأنّ القياس في واقعة النبيذ والخمر مثلا لا ربط له بصدور خبر النبيذ عن الإمام إلاّ بعد حصول الظنّ منه بأنّ النبيذ أيضا حرام قياسا على الخمر وهو يلازم الظنّ بصدور خبر عن الإمام يطابق مضمون القياس نظرا إلى أنّ الحكم في كلّ واقعة مثلا صادر عنهم ، والظنّ بصدور الخبر عن الإمام إنّما نشأ من الظنّ القياسي ، وإعماله يوجب إعمال القياس.
فإن قلت : القدر المتيقّن من الدليل هو عدم جواز الأخذ بالظنّ الحاصل من القياس بنفسه من غير واسطة ، ولا دليل على بطلان ما يتولّد منه ، فيصحّ التعويل عليه.
قلت : ذلك مجرّد تغيّر في العبارة مع العلم باتّحاد المطلب ؛ لأنّ المستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى ذلك الشيء سيّما بعد الإطلاق في منع العمل به ، ولو كان كما زعم ، لصحّ (1) التعويل عليه عند القائل بحجّية الظنّ مطلقا في نفس الأحكام الشرعية ؛ لأنّ قياس النبيذ على الخمر يكشف كشفا ظنّيا عن وجود خبر عن المعصوم كما في الإجماع المنقول ، أو الشهرة على تقدير الكشف ، مع أنّ من المعلوم عدم جواز الاستناد إليه عند الكلّ ، وبالجملة ، فالأمر واضح.
وأمّا الثاني ، فالأمر فيه واضح بعد ما عرفت من عدم الانجبار بالظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره بجميع أقسامه حتّى القسم الأخير كما عرفت من حرمة الاستناد إليه مطلقا ، وأمّا على القول بحجّية مطلق الظنّ ، فلا يعقل جبر القياس بشيء ؛ إذ بالقياس في واقعة النبيذ يصير الخبر الدالّ على حرمته مظنون الصدور إلاّ أنّه لا يفيد ظنّا آخر بعد ما صار نفس الحكم المدلول عليه بالخبر مظنونا ؛ لامتناع تحصيل الحاصل.
المقام الثاني في أنّ الظنّ على احتماليه يمكن أن يكون موهنا لدليل على وجه يخرجه عن الحجّية ، أو لا؟
ص: 307
فنقول : أمّا الظنون التي لم يعلم عدم اعتبارها كالشهرة وأضرابها ، فكونها موهنة للأدلّة الشرعية على القول بالظنون الخاصّة تبع عدم شمول الدليل الدالّ على حجّيتها لها وشمولها بعد ملاحظة الموهن ولحوقه لها ، فإن كان الدليل شاملا ولو بإطلاقه ، فلا عبرة بوجود الموهن وإن لم يكن شاملا لها.
إمّا لانتفاء موضوع الدليل بعد ما قام الدليل على اعتباره على تقدير وجود الموضوع كما في آية النبأ على تقدير دلالتها على حجّية الخبر الموثوق به فيما لو ارتفع الوثوق عنه بملاحظة الموهن مثل إعراض المشهور.
وإمّا لانتفاء أصل الدليل الدالّ على الحجّية كالإجماع على حجّية الصحيح مثلا على تقدير إعراض المشهور عن الرواية ، فيصير الظنّ كالشهرة موهنا.
وتوضيحه : أنّ الدليل الدالّ على حجّية أخبار الآحاد لا تخلو إمّا أن يكون هو العقل كبعض الوجوه العقلية التي تقدّم ذكرها في عداد الأدلّة على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ، وإمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون الأخبار المتواترة أو الآيات.
فعلى الأوّل لو كانت الشهرة القائمة على خلاف مضمون الخبر مفيدة للظنّ الشخصي أو مزيلة للظنّ الحاصل من الخبر لولاها ، فلا إشكال في كونها موهنة ؛ لأنّ العقل إنّما دلّ على حجّية الأخبار في سلسلة مظنوناتها ، وعند انعزالها عن الظنّ لا دليل على حجّيتها.
وعلى الثاني ، فيتبع المجمع عليه ، فلو كان المجمع عليه هو الخبر الموثوق به مثلا ، فبعد إعراض المشهور لا يبقى الإجماع في وجه أو الوثوق في وجه آخر ، وإن كان قد يمكن دعوى الإجماع على تقرير إعراض المشهور مثلا إلاّ أنّ الوثوق غير باق بعد ذلك ، ولو كان المجمع عليه هو الخبر الصحيح ، لا يضرّه انعقاد الاستقراء مثلا على خلافه ، كما أنّه لا يوهنه نقل الإجماع على خلافه فيما لو فرضنا تطابقه بالشهرة.
ص: 308
وعلى الثالث ، فيتبع المدلول الحاصل من الأخبار والآيات ، فلو كان مدلولها حجّية مطلق الخبر ولو فيما خالفه الشهرة ولو فيما لم يفد الظنّ ، فلا معنى للتوهين وإن انعقد الشهرة المفيدة للظنّ على خلافه.
وبالجملة ، فالأمر في الموهن على خلاف الجبر ، فكما لا يشمل الدليل بعد لحوق الوهن لدليل على وجه يخرج عن موضوع الدليل ، أو ينتفي الدليل عنه فيصير موهنا ، وإلاّ فلا ، والصغريات في ذلك مختلفة كما عرفت.
وأمّا على القول بحجّية الظنّ المطلق ، فلا يتصوّر للتوهين محلّ ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في توهين الظنون التي لم يقم على اعتبارها وعدم اعتبارها دليل ، وبعبارة أخرى في توهين الظنون المشكوكة ، وبناء على القول بحجّية مطلق الظنّ لا يكون هناك ظنّ مشكوك ؛ لاندراجه تحت ما دلّ على حجّية مطلق الظنّ لو كان ممّا لم يقم دليل على عدم حجّيته هذا هو الكلام في الظنون المشكوكة.
وأمّا الكلام في توهين الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها كالقياس ونحوه ، فتوضيحه أن يقال : إنّ هاهنا وجوها بل يمكن أن يقال أقوالا :
أحدها : أن يكون موهنا مطلقا سواء قلنا بالظنّ المطلق ، أو الخاصّ.
وثانيها : أنّه لا يكون موهنا مطلقا.
وثالثها : التفصيل بين ما كان لوصف الظنّ مدخل فيه موضوعا كالظنّ المطلق ، أو جزء موضوع كالخبر المفيد للظنّ ، وبين غيره كالتعبّديات مثل الأصول العملية.
ورابعها : التفصيل بين القول بالظنّ الخاصّ ، فيصير موهنا ، والقول بالظنّ المطلق ، فلا يصير موهنا.
ويمكن أن يستند من يرى أوّل الوجوه بأنّ حجّية كلّ دليل - سواء كان ممّا قام القاطع على حجّيته بالخصوص كأصالة الحقيقة في الدلالات ونحوها ، أو ممّا يندرج في مطلق الظنّ على القول به - موقوف على عدم قيام ظنّ بخلافه مطلقا سواء كان من
ص: 309
الظنون المعتبرة ، أو المشكوكة ، أو الغير المعتبرة كما يراه بعضهم في الظنون الدلالية التي هي أقوى الظنون الخاصّة على ما حكاه بعض مشايخنا ، وبعد ما قام الظنّ القياسي بخلافه يرتفع موضوع الحجّة ، فليس بمعتبر حينئذ.
فإن قلت : إنّ الظنون الغير المعتبرة كالقياس ونحوه إنّما هي ملغاة (1) بحكم الأدلّة الدالّة على عدم جواز الركون إليه والاعتماد عليه ، وترك الدليل بواسطة القياس إنّما هو ركون إليه ، فلا يصحّ ترك أصالة الحقيقة ، أو الخبر الصحيح أو الشهرة نظرا إلى قيام ظنّ قياسي بخلافها.
قلت : الأدلّة الناهضة على حرمة الاستناد إليه إنّما تنهض دليلا بالنسبة إلى جعله مرآة للحكم الواقعي ، وكاشفا عنه كما في العلم والظنّ المطلق على القول به ، وأمّا الآثار المترتّبة على موضوعية الظنّ الحاصل من القياس ، فهي آثار عادية أو عقلية ، ولا ربط للأدلّة الشرعية بها نفيا وإثباتا ، مثلا لو فرضنا موضوعية الخبر لحكم كما في أحكام العدّة للمرأة الغائب عنها زوجها ، فلا يلاحظ في الخبر صحّته وضعفه مثلا بل المدار على مجرّد صدق الأخبار ، فتحسب العدّة من حين صدور الخبر بعد العلم بموت الزوج.
وبالجملة ، فاختلاف أحكام الظنّ والعلم موضوعا ومرآة ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، فلو نذر واحد إعطاء دينار لمن ظنّ بالحكم الفلاني ، يجوز إعطاؤه لمن ظنّ بواسطة القياس وإن كان الظنّ الحاصل منه غير معتبر في مقام الكشف والمرآتية ، فعلى هذا نقول : إنّ الظنّ المأخوذ عدمه في الدليل عند هذا القائل إنّما هو معتبر على جهة الموضوعية بعد قيام الظنّ مطلقا على خلافه سواء في ذلك القياس وغيره.
ومنه يظهر وجه التفصيل بين ما أخذ الظنّ في دليله موضوعا ، أو جزء موضوع ، وبين غيره من الأدلّة التعبّدية ، فإنّ الأدلّة التعبّدية لا تناط بالظنّ مطلقا على تقدير
ص: 310
دلالة دليل عليها بخلاف غيرها ، فإنّ حصول الظنّ من القياس مثلا ينافي حصول الظنّ من الخبر ، أو الشهرة ، فمناط الحجّية منفيّ فيهما على تقدير قيام الظنّ القياسي بخلافها كما لا يخفى.
ويظهر وجه التفصيل بين الظنّ الخاصّ ومطلق الظنّ في طرف الإثبات في مطلق الظنّ ، فإنّ قيام القياس بخلافه يوجب انهدام أساسها من حيث الظنّ ؛ لامتناع تعارض الظنّين وقيامهما على النقيضين ، وبعد ما فرضنا حصول الظنّ (1) من القياس يمنع حصوله من الشهرة ، فيسقط عن الحجّية بسقوط مناطها.
وأمّا وجه هذا التفصيل في جانب النفي هو أنّ الظنّ وإن أخذ على جهة الموضوعية ظاهرا في الظنون الخاصّة إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن حيثية المرآتية والكاشفية واقعا ، فإنّ المناط في عدم جعل الظنّ معتبرا في حجّية دليل شرعا إنّما هو عدم انكشاف خلاف مدلوله بذلك الظنّ ، وبعد ما علمنا بأنّ انكشاف القياس ونحوه عن الواقع ممّا لا يجدي في الانكشاف شرعا ، ولا يجوز التعويل عليه ، نحكم بعدم كونه موهنا أيضا ، مثلا لو قلنا بحجّية الخبر فيما لو لم يقم ظنّ على خلافه ، فإنّما اشترطنا هذا الشرط من حيث عدم انكشاف حال الخبر بالظنّ القائم على خلافه ، فلو علمنا بعدم اعتبار انكشاف ظنّ شرعا ، فلا بدّ من الأخذ بالخبر وعدم الاعتناء بكشف هذا الظنّ.
وبالجملة ، فموضوعية الظنّ في أمثال المقام مرجعه إلى اعتباره مرآة لحال ما اشترط انتفاؤه فيه.
وقد يتخيّل القائل بالتوهين مطلقا حتّى بالنسبة إلى الظنون المطلقة جريان هذا الكلام بعينه في الظنون المطلقة ، فيشكل الأمر عليه من حيث إنّ الحجّة الشرعية على ما يراه هو الظنّ الحاصل من الأمارة المشكوكة ، وبعد انعزاله عن الظنّ فالعقل لا يلتزم باعتباره ، مثلا لو فرضنا قيام شهرة خالية عن المعارض ، مفيدة للظنّ في محلّ
ص: 311
انعقادها ، وشهرة أخرى معارضة بالقياس ، خالية عن الظنّ في موردها - بناء على ما تخيّله - لا بدّ وأن يكونا في نظر العقل متساويين بدعوى أنّ العقل يحكم بحجّية الظنون الشخصية وإلقاء الظنون النوعية فيما لم يكن زوال ظنّها بواسطة معارضة القياس ، وأنّى له بإثبات هذا المطلب؟ فدونه خرط القتاد.
وبالجملة ، فقد يتخيّل عدم توهين القياس للظنون المطلقة نظرا إلى أنّ العقل بعد علمه بحال القياس - من أنّه لا شيء أبعد في دين اللّه من عقول الرجال - لا يبالي بمخالفة القياس ولو كان الظنّ فيه ، ويعمل بالظنّ النوعي زاعما تساويه مع الظنون الشخصية وهو بمحلّ من البعد.
وكيف كان ، فأقرب الوجوه هو التفصيل بين الظنون المطلقة والظنون الخاصّة ، فيقال بالتوهين في الأوّل ؛ لعدم (1) تعقّل عدمه فيها كما عرفت ، وبعدمه في الثاني لما عرفت أيضا من أنّ أخذ الظنّ في موضوع الدليل إنّما هو من باب التأييد وعدم كشف خلافه.
مضافا إلى رواية أبان بن تغلب (2) ، فإنّ الملاحظ في سياقها يرى تعرّض الإمام فيها من حيث إنّ الراوي ترك الرواية في قبال القياس وإن كان قد يحتمل أن يكون بواسطة معارضة الراوي له كما يستفاد من قوله عليه السلام : « إنّك قد أخذتني بالقياس » وقد يحتمل أيضا أن يكون بواسطة ترك التسليم الوارد في وجوبه أخبار كثيرة حتّى أنّ جملة منها دلّت على كفر الرادّ صريحا ، فإنّه لمّا قال : ونحن كنّا بالعراق ونقول إنّ من جاء به الشيطان ، تعرّض الإمام من عدم تسليمه للرواية ، لكنّه لا يبعد دعوى ظهور مساقها في الأوّل على أنّ السيرة المستمرّة من العلماء الأعلام في كلّ الأمصار ، في جميع الأعصار ، على العمل بإخبار الواحد المعارض بالقياس ، ولم يذكر أحد منهم اشتراط العمل به بالفحص عن الموهن القياسي كما اشترطوا بالفحص عن غيره والفحص عن
ص: 312
المعارض ، فإنّه لا فرق بين الموهن والمعارض من جهة لزوم الفحص عنه ، ولا بين أقسام الموهن ، فلو كان مخالفة القياس للخبر موهنا له ، كان عليهم أن يشترطوا بالفحص عنه ، فالقياس وجوده كعدمه على القول بالظنون الخاصّة.
وأمّا القائلون بالظنون المطلقة ، فيحتمل أن يستندوا في العمل بالأمارة الموهنة بالقياس بجعل القياس في قبال الأدلّة الأخر مثل الاستصحاب في قبال الأدلّة الاجتهادية بناء على حجّيته من باب الوصف ؛ إذ به يشكل عليهم تقدّم الخبر الواحد عليه بناء على هذا القول ، لكنّه يمكن التفصّي عنه بأنّ سائر الأدلّة مقدّمة عليه إجماعا إلاّ أنّه خلاف الفرض كما لا يخفى.
المقام الثالث في التعاضد لا خفاء في حصول التعاضد بالنسبة إلى جميع الظنون سواء كان من الظنون المطلقة ، أو غيرها ممّا قام القاطع على عدم اعتباره ، ولا ضير فيه إلاّ أنّه لا يثمر في شيء ، إذ الاستناد حقيقة إنّما هو إلى الدليل الذي وافق الظنّ ، وحصوله ممّا لا مدخل له في الحكم ، ولذا تراهم يذكرون الوجوه الاعتبارية في عداد الأدلّة بعد إحكام المقصود بالتمسّك إلى دليل معلوم الاعتبار.
نعم ، قد يثمر فيما إذا فرضنا أوله إلى جبر دلالة ، أو سند ، أو توهين ، أو ترجيح فيعلم الحكم فيه ممّا مرّ وسيجيء إن شاء اللّه.
المقام الرابع في الترجيح ، فتارة بالظنون التي لم يقم دليل على عدم اعتبارها ، وأخرى بما قام القاطع على عدم اعتباره (1) ، فنقول أوّلا : لا شكّ أنّ الأصل عدم جواز الترجيح بما لم يدلّ دليل على جواز الترجيح به على نحو ما قرّرنا الأصل في حجّية الظنّ من لزوم التشريع في وجه ، وطرح الأصول القطعية في آخر سواء قلنا بأنّ الترجيح هو اختيار المكلّف أحد الدليلين المتعارضين ، أو قلنا هو تشريع إنشاء المكلّف تقدّم أحد الدليلين في مقام التعارض للمكلّفين.
ص: 313
أمّا على الأوّل ، فلأنّ التعبّد بأحد الدليلين من المكلّف إمّا بواسطة المرجّحات الحاصلة في نظره من المصالح النفسانية ، وإمّا بواسطة المرجّحات المجعولة الشرعية ، ولا ثالث في البين ؛ لانحصار وجه صدور الفعل عن الفاعل فيهما ، والمفروض انتفاء الثاني ، وعدم دليل على كفاية الأوّل.
وأمّا على الثاني ، فللزوم العبث عليه تعالى ؛ فإنّ الشيء ما لم يجب في نظر الفاعل ، لم يوجد في الخارج ، فالأصل بمعانيه عدم جواز الترجيح بالظنّ بمعانيه إلى أن يدلّ الدليل على جوازه ، فلا يذهب عليك بأنّ الترجيح إنّما يتصوّر في الأدلّة عند من يرى حجّيتها من باب الظنون النوعية.
وأمّا على القول بحجّية الظنّ الحاصل من الخبر ، أو مطلق الظنّ ، فالترجيح غير معقول ؛ لأدائه إلى انتفاء التعارض بعد امتناع قيام الظنّ على طرفي الخلاف ، والتعارض إنّما يتحقّق بين الدليلين ، فانضمام المرجّح إلى أحدهما يخرج الآخر عن الحجّية وقد مرّ فيما سبق أنّ تسمية هذا موهنا أولى من تسميته مرجّحا ؛ إذ عدم المعلول مستند إلى عدم المقتضي عادة مع اجتماعه لوجود المانع كما لا يخفى.
ولنقدّم الكلام في الظنون التي قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس (1) ؛ لقلّة أبحاثه ، فنقول :
الحقّ وفاقا للمعظم عدم كونه مرجّحا ، وعدم جواز الترجيح به ؛ لإطلاق الأدلّة الناهية عن استعمال القياس في الشريعة ، فإنّ الأخبار في ذلك قد تواترت عن أئمّتنا الأطهار عليهم السلام كما يشاهد ذلك بعد المراجعة إلى مظانّها ، وفي بعضها : « ليس على ديني من استعمل القياس » (2) ولا سبيل إلى منع الاستعمال بالنسبة إليه في مقام الترجيح نظرا إلى أنّ العمل به إنّما هو فيما إذا كان المستند في الحكم والفتوى هو القياس بنفسه ، وأمّا إذا
ص: 314
كان الدليل هو الخبر المقدّم على مثله بواسطة القياس ، فلا يصدق العمل به ، فإنّ العمل والاستعمال يعمّ ما إذا كان الحكم مستندا إليه ، أو كان له دخل فيه ؛ إذ العمل هو مطلق الاستناد ، على أنّ الحكم في الواقعة إنّما هو مستند إليه ؛ لما تقرّر في العادة من استناد الحكم إلى الأخير من أجزاء علّته ، وظاهر أنّ وجوب صلاة الجمعة المدلول عليه بخبر معارض بمثله إنّما يستند إلى الخبر بعد ترجيحه على الآخر بالقياس سواء كان القياس شرطا ، أو شطرا.
مضافا إلى أنّ الحكم في المسألة الأصولية - وهو تقديم أحد الخبرين المتعارضين على الآخر - إنّما هو مستند إلى القياس مستقلاّ من غير مدخليّة شيء آخر فيه.
وبالجملة ، فالقول (1) بأنّ الترجيح بالقياس يخالف العمل به منشؤه قلّة التدبّر ، وسوء الفهم ، والأخبار عن السادة الأطهار حجّة عليه ، ولو لا إلاّ انعقاد إجماعنا على ترك الترجيح به في العمل ، لكفى ؛ فإنّ سيرتهم المستمرّة الكاشفة القطعية على ترك التعويل عليه والركون إليه مطلقا حتّى في مقام الترجيح ، ويكشف عن ذلك عدم تعرّضهم في كتبهم الأصولية لأقسام القياس وأحكامه وطرقه ، ولو كان القياس ممّا يؤثّر في الترجيح عندهم ، كان عليهم - كما على الفرقة الهالكة - بيان ما يتعلّق به على حذو سائر المسائل ، ولقد شاع ذلك بينهم إلى حدّ لا ينكر.
نعم ، أورد المحقّق في المعارج ما يدلّ بظاهره على وقوع الخلاف فيه حيث قال : وذهب ذاهب إلى جواز الترجيح به نظرا إلى أنّ القياس إنّما كان منشأ لطرح الآخر لا موجبا للعمل بما يوافقه (2).
وفساد القول بهذا ممّا لا يكاد يخفى ؛ فإنّه إن أراد أنّ بعد موافقة القياس لأحد الخبرين وحصول الظنّ في طرفه ، فيطرح المعارض الآخر لابتنائه على الظنّ موضوعا ،
ص: 315
أو جزء موضوع ، فقد نبّهنا أوّلا بأنّ الترجيح إنّما يتأتّى على مذاق القائل بالظنون الخاصّة لا من حيث الظنّ كما عرفت ، وإن أراد أنّ الاستناد إلى القياس لا يصدق فيما إذا طرحنا المعارض بل يشخّصه صدق الاستناد في الاعتماد عليه في مقام الأخذ بموافقه ، أو به نفسه ، فظاهر البطلان ؛ إذ هو عين القول بالقياس فالأخبار حجّة عليه.
فإن قلت : إنّ الأخبار لا تمنع من ترتيب آثاره العقلية أو العادية وحصول الترجيح منه إنّما هو منها كما في غيره من الظنون ، فإنّ الخبر المظنون صدوره دليل قطعا مثلا ، والقياس محصّل لمصداق ما هو الحجّة ، ومحقّق لموضوع الدليل ، فلا ركون إليه حقيقة.
قلت أوّلا : قد عرفت فيما سبق أنّ الظنّ بصدور الخبر إنّما هو (1) بعد حصول الظنّ من القياس بالحكم ، فهو حقيقة مستند إليه لا إلى الخبر كما مرّ.
وثانيا : أنّه خروج عمّا نحن بصدده من الترجيح ، فإنّه إنّما يتصوّر فيما إذا كان المتعارضان حجّتين حتّى في حالة التعارض ، وإلاّ فغير الحجّة لا يعارض الحجّة وإن كان قد زعم بعض من لا تحقيق له اختصاص الأدلّة الدالّة على حجّية المتعارضين بغير صورة التعارض ، فإنّه ظاهر السقوط ؛ إذ التعارض إنّما هو من باب تزاحم الحقوق كما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين ، فإنّ وجوب الإنقاذ بالنسبة إلى كليهما عقلا وشرعا باق ، وحيث إنّ الجمع بينهما والعمل بكلّ منهما غير ممكن ، فلا بدّ من الترجيح ، فعلى هذا نقول : إنّ بعد ما صار أحد الخبرين بواسطة القياس مظنون الصدور ، صار الآخر موهوما ساقطا عن درجة التعارض ، فلا ترجيح ؛ على أنّ قياس القياس بسائر الظنون مع الفارق ؛ لإمكان القول بترجيح ما عدا القياس لأحد المتعارضين من حيث قيام دليل على جواز الترجيح به عقلا أو نقلا كما سيجيء بخلاف القياس ، فإنّ النقل إنّما يدلّ على خلافه ، والعقل لا بدّ (2) من تمحّل في تخصيصه بغير القياس كما في حجّيتها على ما مرّ ، ولهذا تفرّد القياس بالبحث عن وقوع الترجيح به من سائر الظنون كما
ص: 316
لا يخفى.
والحاصل : لا شكّ بعد التأمّل في أخبار الباب في حرمة الاستناد إلى القياس مطلقا ، ولا شكّ أيضا أنّ الترجيح بالقياس استناد إليه في الأحكام الشرعية ؛ إذ الأصل لو كان في الطرف المخالف له يستند حقيقة إليه ، وكذلك طرح (1) الخبر المخالف له بعد وجوب الأخذ به مستند (2) إليه ، والحكم في المسألة الفرعية المدلول (3) عليه بالخبر الموافق له مستند إليه لأنّه جزء الدليل ، والحكم في المسألة الأصولية - وهو وجوب الأخذ بالموافق - مستند إليه ، فالحكم بوجوب صلاة الجمعة تعيّنا إنّما هو منه ، وذلك ظاهر ، وإنّما الإشكال فيما لو أحدث القياس الظنّ في غيره كما تخيّله بعضهم ، فنقول : إنّ إحداث الوصف في الغير يتصوّر :
تارة بأن لا يكون مفيدا للظنّ مطلقا ، وإنّما اقترانه بالغير يوجب ذلك كما في القرينة ، فإنّ قولنا : « يرمي » يوجب حصول الظنّ بإرادة الرجل من الأسد من غير أن يكون القرينة مفيدة للظنّ بإرادة هذا المعنى من هذا اللفظ.
وأخرى يتصوّر بأنّ الغير والمنضمّ إليه كلاهما (4) مفيدان للظنّ بوجه يحصل من اجتماعهما مرتبة أخرى من الظنّ ، أو (5) يحصل العلم كما هو المتداول في تحصيل المتواترات.
ولا يخفى أنّ حصول المرتبة الشديدة من الظنّ ، أو العلم إنّما هو من أحكام نفس الظنّ من غير أن يكون لحيثية كشفه عن الواقع دخل في حصول العلم ، فلا كلام في حجّية العلم الحاصل من الظنون القياسية.
ومرّة يتصوّر على وجه يستند الظنّ حقيقة إلى المنضمّ إليه من غير أن يكون الغير مفيدا للظنّ ، ولا شكّ أنّ القياس ليس من قبيل القسم الأوّل في مقام الترجيح ولا من
ص: 317
القسم الثاني على ما هو ظاهر ، فهو من القسم الثالث ، ولا معنى للاستناد إلى القياس إلاّ هذا كما لا يخفى.
وأمّا حصول الظنّ بصدور الخبر من القياس ، فقد عرفت الكلام فيه في الجبر. هذا هو تمام الكلام في الترجيح بما علم عدم اعتباره.
وأمّا الكلام في ترجيح الظنون المشكوكة كالشهرة وأمثالها ، فتارة يقع في ترجيح الدلالة (1) ، وأخرى في ترجيح السند فهنا مقامان :
المقام الأوّل في ترجيح الدلالة بالظنّ المطلق ، فاعلم أنّ الكلام في ترجيح الدلالة مرجعها إلى ما هو المعروف بينهم من تعارض الأحوال ، وتقديم بعضها على بعض بواسطة الظنون الخارجة عن الألفاظ ، لكنّه في تعيين المراد من اللفظ لا في تشخيص الأوضاع ، كما قد يقال بتقديم الاشتراك المعنوي على اللفظي ، أو الحقيقة على المجاز مثلا فيما لو دار الأمر بين إرادة الخاصّ من العامّ ، أو حمل الأمر على الاستحباب ، هل يصحّ تقديم التخصيص على المجاز بواسطة قيام الشهرة على التخصيص ، أو تقديم المجاز لغلبة حمل الأمر على المجاز الاستحبابي في نظائره ، أو لا يصحّ؟ فالظاهر من بعضهم عدم الاعتناء بأمثال هذه الظنون في مقام ترجيح الدلالة كما يظهر من صاحب المدارك (2) حيث قدّم الخبر الدالّ على طهارة خرء الطيور على الرواية الدالّة على وجوب الغسل عن أبوال ما لا يؤكل لحمه ؛ لاعتضاده بالأصل ، وصريح بعض آخر الاتّكال على الظنّ الخارج من اللفظ في الدلالة كالسيّد الطباطبائي في الرياض (3)(4) حيث قدّم الرواية الدالّة على وجوب الغسل على الأخرى ؛ لانعقاد شهرة الأصحاب على النجاسة مثلا.
ص: 318
ولا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما كان جهة التعارض متمحّضة في الدلالة بالغضّ عن جهة السند ؛ إذ الفرض البحث في ألفاظ الكتاب والأخبار الواردة. والحقّ عدم جواز الترجيح بها في الدلالة ؛ لعدم دليل يقضي به لا عرفا ولا شرعا.
أمّا الثاني فواضح.
أمّا الأوّل (1) ، فلأنّ المسلّم من بناء العقلاء في استخراج مطالبهم من الظنون اللفظية إنّما هو فيما لو كان الظنّ حاصلا من نفس اللفظ مادّة وهيئة ولو بمعونة القرائن - لفظية ، أو معنوية حالية أو مقالية - بوجه يوجب اقترانها باللفظ حصول الظنّ من نفس اللفظ حقيقة ، فلا عبرة بالظنّ الحاصل من الشهرة ، أو الاستقراء ، أو غيرهما ؛ لعدم استناده إلى اللفظ ، والمفروض عدم حجّية الشهرة بنفسه أيضا ، وإلاّ فلا معنى للترجيح بعد وجود الدليل ، فالشهرة حينئذ ليست مرجّحة بل هو المرجع في المقام ، فالأصل المذكور محكّم في المقام من غير ما يقضي بخلافه.
لا يقال : لعلّ قيام الشهرة على وفق أحد الاحتمالين يوجب ظهور أحد الاحتمالين (2) في نفسه بحيث يستند الظهور إلى نفسه.
لأنّا نقول : إنّا بعد إمعان النظر نعلم عدم استناد الظنّ إلى اللفظ ؛ لأنّ قيام الشهرة من العلماء لا يصلح لأن يكون قرينة لإرادة المعنى الفلاني من اللفظ حتّى يعقل حصول الظنّ منه بعد قيام الشهرة على وفقه مثلا.
فإن قلت : فلعلّ الشهرة تكشف عن قرينة صارفة عن الاحتمال المخالف لها.
قلت : العبرة بالقطع في وجود القرينة ولو كانت ظنّية ولا عبرة بالظنّ بوجود القرينة ولو كان المستكشف عنها دلالته قطعية.
وبعبارة أخرى فيكشف الشهرة عن القرينة كشفا ظنّيا ممّا لا عبرة به ولو كان
ص: 319
القرينة المستكشفة قطعية ، وفي الحقيقة الظنّ الحاصل بوجود القرينة مرجعه إلى الظنّ الحاصل من نفس الشهرة ؛ لما عرفت من عدم تعلّقها باللّفظ كما لا يخفى ، وإنّما العبرة بالقطع بوجود القرينة ولو (1) كانت ظنّية.
ودعوى الإجماع على حجّية مثل هذه الظنون عهدتها على مدّعيها إن أريد به المحقّق منه ، وإن أريد المنقول منه ولو على إطلاقه ، فبعد الغضّ عنه لا بدّ من ملاحظة إفادته الظنّ بحجّية هذه الظنون ، وعلى تقديره يتوقّف على حجّيته في أمثال المباحث.
وبالجملة ، فالمعتمد في مقام الدلالات هو الطرق المستعملة في استخراج المطالب واستكشاف المعاني في العادة عند أهلها ككون أحد الاحتمالين نصّا ، والآخر ظاهرا ، أو كونه أظهر من الآخر نوعا على ما قرّره في محلّه ، ولا عبرة بفهم العلماء من اللفظ مثلا معنى بعد عدم استقرار العادة على العمل به. كيف؟ وقد قلنا بأنّ فهم المشافه المخاطب ممّا يعتنى به في استكشاف المراد بعد عدم مطابقته للعرف والعادة ؛ لاحتمال ابتنائه على اجتهاد منهم ، وظهوره في الاستفادة العرفية مسلّم إلاّ أنّ الكلام في اكتفاء مثل هذا الظهور في الدلالة ، فتدبّر.
المقام الثاني في ترجيح السند بظنون غير معتبرة ، ولنفرض الكلام فيما كان التعارض ممحّضا في السند ، فإنّا مع فرض التساوي بينهما على تقدير عدمه ، أو مع التساوي حقيقة ، فقد يقال بحجّية مطلق الظنّ في مقام الترجيح سندا لوجوه :
منها : قاعدة الاشتغال ؛ فإنّه كلّما دار الأمر بين التخيير والتعيين ، فالتعيين مقدّم.
ومنها : ظهور الإجماع من جميع أهل العلم خاصّة وعامّة خلفا عن سلف.
وقد يستكشف عنه بملاحظة تقديمهم الأخبار العالية السند (2) على غيرها ، ونحوه من المرجّحات الداخلة في الأخبار وليس على ما ينبغي ؛ لأنّ حجّية تلك المرجّحات ممّا لا كلام لنا فيه في المقام ، وإنّما المقصود (3) بالبحث هنا إثبات الترجيح بالظنون
ص: 320
الخارجة (1) عن المتعارضين على وجه يحصل الظنّ بصدور الخبر ، مثلا من الظنّ الحاصل من تلك الأمارة والمرجّح كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية والاستقراء ونحوها بنفس الحكم ، والظنّ بالحكم في تلك المرجّحات إنّما يستند إلى نفس الخبر بعد اقترانه بها ، فهو خارج عمّا عقد المقام له بل التحقيق في استكشاف هذا الإجماع إنّما هو من (2) تعليلاتهم تقديم (3) بعض الأخبار على بعضها في مقام التعارض من غير ذكر الوجه في ذلك التعليل ، مثلا يحكمون بتقديم الرواية التي رواها أكثر على غيرها معلّلا في ذلك بقولهم : « لأنّه أرجح » من غير تعرّض للدليل في وجوب تقديم الأرجح على غيره ، فكأنّه كبرى إجماعية لصغرى وجدانية ، أو برهانية بحسب الاختلاف في الموارد.
قال المحقّق في المعارج ما حاصله : وجوب تقديم [ مضمون الخبر الموافق للقياس ؛ لأنّه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ](4).
وقال المحقّق البهبهاني الأستاذ الأكبر (5) في الفوائد الحائرية : [ وعند الأخباريين أنّ بناء المرجّحات على التعبّد ... وأمّا المجتهدون ، فلمّا كان بناؤهم على التحرّي وتحصيل ما هو أقرب في ظنّهم في السند والدلالة والتوجيه ، فلا يستشكلون في هذه الأخبار أيضا ، وكلّ يبني الأمر فيها على ما هو الأقرب عنده ](6). ويظهر ذلك عند المراجعة إلى
ص: 321
طرقهم في التراجيح حتّى أنّ من المعلوم عندهم ذلك.
ويؤيّده ما يظهر من العامّة العمياء تقديمهم الرواية التي رواها أهل المدينة على غيرها معلّلين بكونها أرجح حيث إنّهم على زعمهم مهابط وحي اللّه ، ومنازل روح القدس ، وذلك مثل ما يستكشف الإجماع على اعتبار التعدّد في الشهادة ممّا تداول الاستدلال به عندهم (1) كما في مقام التقويم وغيره (2) بقولهم : لأنّه شهادة ، فالمهمّ عندهم بيان الصغرى ، فالكبرى مسلّمة لديهم وقد نقله بعض أساطين العلماء.
ومنها : دليل الانسداد ، وبيانه أنّه لا مناص من الترجيح في الأخبار المتعارضة لكثرتها بوجه يوجب المخالفة القطعية كثيرا لو قلنا بالطرح فيهما كما فيما لو قلنا بالتخيير بينهما ، والمرجّحات المعلومة من الأمور الراجعة إلى الدلالة في المتعارضين كالنصوص والظهور والظاهر والأظهر ممّا لا تفي بجميع أبواب الفقه بوجه ، يرتفع معها العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الترجيح بمطلق الظنّ.
لا يقال : إنّ الأعدلية وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحوها من المرجّحات المنصوصة ممّا يكفي في مقام الترجيح مع كونها قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها من المرجّحات.
لأنّا نقول : لو سلّم الكفاية بها ، فلا ريب في استوائها لسائر الظنون ؛ لأنّ غاية ما دلّ على جواز الترجيح بها هو الخبران المأثوران ، والناظر فيهما بعد إمعان النظر في مواردهما من الاختلاف الواقع في الترتيب بينهما - والأمر تارة بالأخذ بما هو أوثق منهما (3) - يحكم حكما جزميا بأنّ المدار على مطلق الظنّ.
مضافا إلى المنقول من الإجماع والمحقّق من الشهرة ، فلا وجه للقول بكون المرجّحات المزبورة قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها.
ص: 322
وفي كلّ من الوجوه المذكورة نظر :
أمّا في الأوّل ، فلأنّ الأصل لا يعارض إطلاق أدلّة التخيير بقسميها من الأخبار الواردة فيه (1) ابتداء ، أو بعد المرجّحات المنصوصة.
قلت : ولعلّ إطلاق الأخبار الآمرة بالأخذ بها ممّا ينافي الاشتغال أيضا ، فلا عبرة به في قبال الدليل.
وأمّا في الثاني ، فلأنّ غاية ما يفيد ظهور الإجماع وما نقله البعض هو الظنّ بجواز الترجيح ، والمفروض عدم حجّية الظنّ في المسألة الأصولية أيضا كما في الفروع على ما قرّرناه في أوّل الكلام.
وأمّا في الثالث ، فللمنع من لزوم المخالفة القطعية بعد إعمال المرجّحات المعلومة في الدلالات ، ألا ترى أنّ جملة من العلماء زعموا قطعية الأخبار ومع ذلك لا محلّ للتعارض السندي ، فوجه الترجيح عندهم منحصر في الدلالة ولا حرج فيه كما لا يخفى.
قال الأستاد : الإنصاف أنّ التعويل على الظنّ في مقام الترجيح لو كان مستندا إلى إجماع ، فلا كلام ، وإلاّ فهو في الحقيقة كلام لا يرجع إلى حاصل.
اللّهمّ إلاّ أن يرجع إلى توهين الطرف المخالف على وجه يخرج عن موضوع ما هو الحجّة بحسب الدليل ، لكنّه خلاف ما هو المفروض بالبحث في المقام ، فإنّ الكلام - على ما نبّهنا عليه في أوّل البحث - إنّما هو في المتعارضين بعد كونهما حجّتين ومشمولين لما دلّ على اعتبارهما نوعا ، والتوهين إنّما يتأتّى على القول بحجّية الأخبار المفيدة للظنّ ، أو على القول بحجّية الظنون المطلقة.
نعم ، يمكن القول بتقديم الخبر الموافق لخصوص الشهرة والإجماع المنقول المفيد للظنّ على القول بحجّية الأخبار تعبّدا ، أو نحوه نظرا إلى عدم انصراف الدليل الدالّ
ص: 323
على الحجّية إلى ما خالف الشهرة.
وبالجملة ، فالتخلّف عن الشهرة والإجماع المنقول في مقام التعارض ممّا دونه خرط القتاد وإن كان إثبات الإجماع عليه أصعب ، فتدبّر.
لو كان هناك خبران متعارضان من جهة الصدور ، وبعد الغضّ عن جهة الصدور علما أو ظنّا ، وعن الدلالة ، فهل يصحّ الشهرة وغيرها من الظنون للترجيح في مقام جهة التعارض من حيث جهة الصدور ، أو لا؟ وجهان : فإن قلنا بأنّ أصالة عدم التقية من الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ، فلا عبرة بالشهرة ، وإلاّ فيؤخذ بها مرجّحا ولعلّ الأوّل أقوى.
ثمّ لو كان الشهرة موافقة لأحد المتعارضين وعلمنا بأنّها من مرجّحات الدلالة ، أو السند ، أو جهة الصدور ، فإن قلنا بأنّها مرجّحة في المقامات الثلاثة ، فلا كلام كما أنّه كذلك فيما لو قلنا بأنّها ليست مرجّحة فيها بأجمعها ، إنّما الإشكال فيما لو كان ممّا يقع بها الترجيح بالنسبة إلى بعض المقامات كالسند دون الدلالة ، أو جهة الصدور دون غيرها مثلا ، ولم يعلم أنّ الترجيح في أيّ منها ، فهل تعتبر تلك الشهرة مرجّحة لما وافقها من الخبرين ، أو لا؟ الأقوى عدم وقوع الترجيح به ؛ لعدم العلم بالترجيح فيما يعتبر فيه الترجيح ، فلا بدّ من الوقف. هذا آخر ما أردنا إيراده ( في هذا المجلّد ، ويتلوه مجلّد آخر إن شاء اللّه محرّرا في شهر رجب 1283 ) (1).
ص: 324
ص: 325
ص: 326
ومن الأحكام العقلية التي يبتني ثبوتها (1) على القول بالتحسين والتقبيح العقليين الحكم بخلوّ الذمّة وفراغها عن عهدة التكليف عند الشكّ فيه سواء قلنا بالملازمة بين الحكمين - كما هو التحقيق على ما مرّ - أو لم نقل ؛ فإنّ الملازمة المبحوث عنها إنّما هو فيما إذا أدرك العقل الحسن والقبح في أفعال العباد التي هي محالّ للأحكام الشرعية وليس الأمر كذلك فيما نحن بصدده ؛ إذ مرجع الحكم في المقام إلى قبح التكليف بلا بيان والعقاب بلا برهان وليس شيء منهما بأفعال العباد ؛ فإنّ التكليف والعقاب من أفعاله تعالى ، وليس أفعاله ممّا يتعلّق بها حكم شرعي على ما هو المقرّر في مقامه ، وهذا الحكم العقلي المتوصّل به إلى نفي الحكم الشرعي والعقاب هو المعبّر عندهم بأصالة البراءة ، وقد يسمّى بالبراءة الأصلية وأصالة النفي.
وقد يستشكل في المقام بأنّ الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي - على ما مرّ تفصيل القول فيه في أوائل المقصد - فعلى هذا لا وجه لعدّ البراءة من الأدلّة العقلية ؛ فإنّ غاية ما يمكن (2) التوصّل بها إليه هو نفي العقاب ودفع المؤاخذة ووضع التكليف - كما هو المستفاد من جملة من الأخبار الواردة فيها أيضا كما سيأتي
ص: 327
إن شاء اللّه - ونفي العقاب وأمثاله ليس من الأحكام الشرعية ، فلا يصير الموصل إليه دليلا عقليا اصطلاحا.
وأمّا الحكم بالإباحة الظاهرية ، فهو ممّا يدلّ عليه الدليل الشرعي كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) وأمثاله ، وليس ممّا يستفاد من العقل كما توهّمه بعض الأجلّة (2) تبعا لجماعة كثيرة منهم ؛ لما عرفت من أنّ العقل لا يزيد حكمه على نفي العقاب والمؤاخذة ، ولا يحكم حكما إنشائيا بالإباحة الظاهرية.
لا يقال : الأدلّة الشرعية كأخبار الآحاد مثلا قد تنهض على نفي الحكم الشرعي كالوجوب أو الحرمة ، فقضيّة ما ذكرت لا بدّ وأن لا يكون دليلا شرعيا.
لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في حكم العقل بصرافته من غير ارتباط حكم شرعي به ، وما يستفاد من إثبات حكم آخر غير ما هو المنفيّ في الأدلّة الشرعية ، إنّما هو بواسطة العلم الحاصل شرعا بعدم جواز خلوّ الواقعة عن جميع الأحكام ، فنفي الوجوب مثلا يلازم شرعا ثبوت حكم آخر وذلك بخلاف الأحكام العقلية ؛ فإنّ في نظر العقل لا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم ، فالعقل يحكم بعدم الوجوب ، ولا ينافي عدم حكمه بالإباحة أيضا ؛ لجواز خلوّه عن جميع الأحكام كأفعال البهائم والصبيان والغافل والناسي وأمثال ذلك.
وبالجملة ، فالخبر النافي لوجوب شيء يدلّ بالالتزام على ثبوت حكم آخر فيه ، ولأجله يسمّى دليلا شرعيا بخلاف العقل كما لا يخفى.
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ (3) الحكم الشرعي أعمّ من الإثبات - كما في الحكم بالوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة - والنفي كما في الحكم بنفي أحدها ، ولكنّه لا يخفى على المتأمّل أنّه مع ذلك التعميم والتسامح في الحكم الشرعي لا وجه لعدّه (4) من
ص: 328
الأحكام الظاهرية ، فإنّ حكم العقل بقبح العقاب عند عدم البيان حكم واقعي لا يناط بالظاهر أصلا وقد مرّ فيما سبق من أنّ مناط انقسام الأحكام إلى الظاهرية (1) والواقعية هو إمكان الأحكام الشأنية مع إمكان عدم الوصول إلى المكلّفين وهذا منتف في الأحكام العقلية ولو كان في موضوع الجهل.
ثمّ إنّ المراد بالأصل في هذا التركيب يمكن أن يكون معناه اللغوي بحسب واحد من موارد استعماله كقولهم (2) : « أصل الإنسان التراب » أي (3) الحالة السابقة من الحالة اللاحقة الموجودة فيه هو هكذا كأن يكون المعنى البراءة التي كانت موجودة ثابتة قبل ، وكثيرا ما يراد منه هذا المعنى فيما لو كان التركيب توصيفيا كقولهم البراءة الأصلية.
ويمكن أن يكون المراد به القاعدة من معانيه الاصطلاحية أي القاعدة العقلية التي توجب الحكم بخلوّ الذمّة والبراءة عن التكليف عند الشكّ مثلا ، وأغلب ما يراد به (4) هذا فيما لو كان التركيب إضافيا.
وأمّا الدليل ، فيمكن إرادته فيه بتكلّف على أن يكون الإضافة بيانية. وما توهّمه بعض الأجلّة (5) من أنّ الكلام في المقام في نفس المدلول دون الدليل غير سديد على التقدير المذكور. وأمّا الراجح ، فيحتمل إرادته أيضا بالتكلّف (6) المذكور ولو كان في التركيب الإضافي ، وإلاّ ففي التركيب الحملي ممّا لا يدانيه ريب كما لا يخفى.
وأمّا الاستصحاب ، فلا يصحّ أن يراد بالأصل في المقام لا لما زعمه بعض الأجلّة (7) من اختلاف مدارك المسألتين والأقوال فيهما لإمكان القول بخروجه عن محلّ النزاع في مسألة الاستصحاب كما احتمله بعضهم بل لأنّ الجهة المبحوث عنها في البراءة تباين
ص: 329
الجهة المذكورة في الاستصحاب ؛ فإنّ الاستصحاب عبارة عن الحكم بوجود شيء في الزمن اللاحق تعويلا على ثبوته في السابق على ما عرّفه جماعة (1) ، فالحكم في الاستصحاب إنّما هو بواسطة ملاحظة وجوده في السابق ، وفي البراءة يكفي في نفي الحكم نفس الشكّ فيه ، ومجرّد عدم العلم بالتكليف كاف في الحكم بالبراءة من غير أن يكون منوطا بملاحظة ثبوت الحكم في الزمن السابق بل ولو فرض استناد الحكم بوجوده في السابق لا يسمّى من هذه الجهة بالبراءة ولهذا ترى صاحب المعالم (2) نسب إلى المحقّق قول المرتضى في الاستصحاب مع أنّه في المعتبر (3) يقول باعتبار البراءة الأصلية ، وعدم الدليل دليل العدم بعد تقسيم مطلق الاستصحاب إلى الأقسام الثلاثة.
وبالجملة ، فالحكم في البراءة إنّما هو باعتبار مجرّد الشكّ في التكليف ، فلو فرض عدم وجود الزمان أيضا ، جاز الاستناد إليها في محلّه.
وأمّا الاستصحاب ، فالحكم فيه إنّما هو بواسطة التعويل على ثبوته في الزمن السابق ، فلا وجه لإرادته في هذا المقام.
نعم ، موارد البراءة من موارد الاستصحاب أيضا وذلك لا يقضي بصحّة إرادته في هذا التركيب كما لا يخفى ، فإنّ الشيخ بنى في العدّة (4) على مثل ذلك في الردّ على من زعم الحكم بإمضاء الصلاة للمتيمّم فيما لو وجد الماء في الأثناء ، فإنّه يحكم بالإمضاء لعدم دليل على وجوب النقض لا للاستصحاب وإن كان المورد ممّا يصحّ التمسّك به على القول به.
وأمّا عدّهم البراءة الأصلية من أقسام الاستصحاب ، فإنّما هو بواسطة اتّحاد
ص: 330
الموردين فيه كما عرفت.
ثمّ إنّ هناك أصولا أخر كأصالة الأقلّ عند الشكّ بينه وبين الأكثر وأصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم لا بأس بالتنبيه على النسبة بينها ، فنقول :
أمّا أصالة الأقلّ ، فهو أخصّ مطلقا من أصالة البراءة لكونها من أفرادها ، وقد يؤخذ من أصالة العدم ، فهي إذا شعبة من شعبها.
وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فهو أعمّ مطلقا من البراءة ؛ لاختصاصها بالأحكام الشرعية التكليفية وجريانه في غيرها (1) أيضا ، فإنّ عدم الدليل على ثبوت الوضع في الألفاظ ، أو على النبوّة مثلا دليل على عدم (2) الوضع والنبوّة ، وعدم الدليل على الوجوب دليل على عدم الوجوب ، ولا فرق في ذلك بين موارده. وهذا (3) بناء على ما هو التحقيق من أنّ النافي يحتاج إلى دليل مثبت للنفي ؛ إذ القضايا المطلوبة إثبات نسبها في الواقع لا تنحصر في الموجبات ، فإنّ السوالب أيضا أحكام محتاجة إلى الإثبات (4).
نعم ، المانع المردّد الشاكّ الذي لا يجزم بأحد طرفي الخلاف لا يحتاج إلى الدليل ، وأمّا على ما توهّمه بعضهم من عدم الاحتياج إلى الدليل في النفي ، أو على التفصيل بين العقليات والشرعيات - كما نقله الشيخ في العدّة (5) وابن زهرة في أصول الغنية (6) - فلا مورد لهذا الأصل أصلا على أحد الوجهين ، ويختصّ بالشرعيات على الآخر كما لا يخفى.
لكن ينبغي أن يعلم أنّ عدم الدليل دليل العدم قد (7) يفيد القطع كما إذا كان المدلول ممّا لا يتحقّق بدون دلالة دليل عليه كالأحكام التكليفية المنجّزة في رقاب العباد ، فإنّ الوجوب الفعلي تحقّقه مشروط بالعلم ، فعدم ما يدلّ عليه في الحقيقة دليل على عدمه
ص: 331
في الواقع ، وقد يفيد الظنّ كما إذا كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، وقد لا يفيد شيئا منهما فلو كان هناك استقرار طريقة العقلاء على العمل به ولو بإرجاعه إلى قاعدة العدم ، فهو وإلاّ (1) فلا وجه للاستناد إليه.
وأمّا قاعدة العدم ، فأعمّ من الجميع كما عرفت ممّا مرّ ، فلا نطيل بالإعادة. هذا تمام الكلام في ملاحظة النسبة بين البراءة وسائر الأصول على حسب ما يقتضيه المقام.
وأمّا قاعدة الاشتغال المعمولة في قبال قاعدة البراءة ، فلا بأس بالتنبيه على بيان الحكم فيها وكيفيّة حكم العقل بها تتميما لما مرّ ، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، على أنّ الموارد الآتية - المتنازع فيها جريان البراءة والاشتغال - ممّا لا مناص تحقيق الكلام فيها وتصوير النزاع من تصوير الاشتغال أيضا ، ويستتبعه الكلام في أصالة التخيير والاستصحاب على وجه يعلم به كيفية حكم العقل فيهما ، فنقول :
قولهم : قاعدة الاشتغال إنّما هو جزء من القضية القائلة بأنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى فراغ يقيني ، كقولهم : قاعدة « على اليد » فكأنّه عبارة عنها وكناية منها أقيمت (2) مقامها للاختصار ، والأصل في قولهم : أصل الاشتغال القاعدة يعني القاعدة المستفادة من حكم العقل بأنّ بعد العلم بالاشتغال لا يجوز الاقتناع بالشكّ ، ولا يكفي الشكّ في البراءة بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ في قبال قاعدة البراءة ، فكما أنّ العقل يستقلّ بأنّ عند الشكّ في التكليف لا بدّ من إجراء أحكام عدم التكليف وعدم الالتزام به ، فكذلك يستقلّ بأنّ عند الشكّ في الفراغ لا بدّ من الحكم بعدم الفراغ وعدم الالتزام به ، ومن إجراء أحكام التكليف ، وهذا الحكم العقلي في المقامين إنّما يناط بنفس الشكّ في التكليف والفراغ ، وبمجرّد عدم العلم بهما ، ومن هنا يظهر أنّه لا
ص: 332
حاجة في إثبات الاشتغال أو البراءة إلى الاستصحاب بل لا يعقل الاستصحاب فيهما وفي نظائرهما.
وتوضيح ذلك وتحقيقه يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي (1) أنّ المطلوب في الاستصحاب هو ترتيب أحكام مترتّبة على بقاء المستصحب عليه حال الشكّ في بقائه وارتفاعه ، وأمّا لو كان الأحكام ممّا يترتّب على حدوث شيء ، فعند الشكّ في بقائه لا وجه للاستصحاب ؛ لعدم ارتباط الشكّ في البقاء بترتّب أحكام الحدوث عليه ، فالحدوث حال الشكّ في البقاء قطعي ، ولا حاجة إلى استصحاب الحادث ليترتّب عليه أحكام الحدوث بل ولا يعقل ؛ لاختصاص مورد الاستصحاب بالشكّ اللاحق والمفروض هو العلم في اللاحق أيضا ، ولا يجدي في جريانه تقدير عدمه وفرض انتفائه ؛ إذ المقدّر أنّ الأحكام ممّا يترتّب على الحدوث ، والاستصحاب يحكم ببقائه ، ولا ملازمة بين الحدوث والبقاء في ترتيب أحكام أحدهما على الآخر ، مثلا لو فرضنا أنّ (2) جواز الدخول في الصلاة إنّما هو ممّا يترتّب على نفس الوضوء في السابق ولو لم يكن باقيا في اللاحق ، فعند الشكّ في البقاء لا وجه لاستصحاب الطهارة ليترتّب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فإنّ جواز الدخول على الفرض قطعي في اللاحق ، فلا يجري الاستصحاب.
وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ العقل إنّما يستقلّ بإتيان الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة على القول بثبوت التكليف حال الجهل أيضا ، وأمّا على القول بعدم تعلّق التكليف حال الجهل باعتبار إجمال الدليل كما يراه بعضهم ، فالكلام المذكور ساقط عن أصله ، وحكمه هذا إنّما يستند إلى الشكّ في الفراغ ، والعقل (3) الحاكم بالصلاة في أربع جهات إنّما هو موجود قبل الفعل وبعده وفي أثنائه ، والعلّة التي استند إليها العقل في
ص: 333
ذلك هو الشكّ في الفراغ ، وهو موجود حتّى يحصل العلم بالفراغ فالاستصحاب إمّا أن يقول القائل به (1) بجريانه قبل الفعل ، أو في أثنائه ، وعلى التقديرين لا وجه له.
أمّا على الأوّل ، فظاهر ؛ لأنّ المفروض أنّ العقل بواسطة عدم العلم بالبراءة والشكّ في الفراغ حكم بالإتيان على أربع جهات.
وأمّا على الثاني ، فلأنّ العقل الحاكم بالاحتياط موجود ولم يحدث بعد (2) شيء به يرتفع حكمه بوجود العلّة وهو الشكّ في الفراغ وعدم العلم بالامتثال.
فإن قلت : إنّ الاستصحاب قد يجري في موارد الأدلّة الاجتهادية مع العلم بوجود الحكم السابق في اللاحق باعتبار الدليل ولكن بعد فرض انتفاء الدليل غاية الأمر عدم الحاجة إليه وذلك لا ينافي جريانه ، ففي المقام أيضا لا مانع من القول بجريانه ولو بعد تقدير عدم حكم العقل بالاحتياط بواسطة الشكّ في الفراغ.
قلنا : ذلك في موارد الأدلّة الاجتهادية مجد بخلاف ما نحن بصدده ؛ فإنّ بعد فرض انتفاء حكم العقل بتحصيل العلم بالفراغ ، استصحاب الاشتغال لا يقضي بإتيان الصلاة في أربع جهات إلاّ بعد ملاحظة حكم العقل (3) بإتيانها فيها من حيث إنّها مقدّمة علمية ، فظهر ممّا ذكر أنّ الحكم بوجوب الإتيان بالمحتملات إنّما يترتّب على حدوث الاشتغال والشكّ في الفراغ ، وليس ذلك من آثار بقاء الاشتغال وأحكامه ، فيحرز بقاؤه بالاستصحاب ليترتّب عليه أحكامه كما هو المقصود في الاستصحاب في مجاريه ، وذلك نظير ما مرّ الإشارة إليه في مباحث الظنّ من أنّ الشكّ في الحجّية يكفي في نفيها ، ولا يصحّ التعويل في ترتّب (4) آثارها على استصحاب عدم الحجّية.
فإن قلت : إذا تعلّق الأمر بشيء تعيينا ، وشكّ في الإتيان بالمأمور به ، فلا مناص من استصحاب الأمر والاشتغال ، ولا ضير فيه أصلا ؛ فإنّ الإطاعة واجبة عند العلم
ص: 334
التفصيلي ولو لم نقل بلزوم دفع الضرر المحتمل كما هو المناط في القاعدة المذكورة ، وعند الشكّ في بقاء الأمر وارتفاعه يستصحب الأمر ، فيصير معلوما تفصيلا (1) بالعلم الشرعي ، فيجب ترتيب آثار المتيقّن (2) عليه من لزوم الإطاعة والامتثال ، وهذا الحكم إنّما هو من آثار بقاء الأمر والاشتغال ولا مدخل لحدوثه فيه ، فإنّه لو فرض عدم البقاء ، لا يجب الإتيان والامتثال.
قلنا : فرق ظاهر بين ما ذكر وبين ما نحن بصدده ، فإنّ الكلام يقع تارة فيما إذا علم التكليف (3) وشكّ في الإتيان بالمكلّف به الذي هو معلوم تفصيلا - كما إذا أمر المولى بالصلاة مثلا وشكّ في إتيانها في وقتها - وأخرى فيما إذا شكّ في أنّ المكلّف به أيّ فعل من الأفعال المردّدة مثلا ، وما ذكر (4) إنّما يتمّ في المقام الأوّل ، وليس هناك ممّا يجري فيه قاعدة الاحتياط والاشتغال بل هو مجرى الاستصحاب ولا غائلة فيه لثبوت أحكام المتيقّن عند الاستصحاب على ما فرضه و (5) كما هو المطلوب بالاستصحاب في مجاريه بخلاف المقام الثاني كما هو محلّ الكلام في المقام ، فإنّه من مجاري الاشتغال ، والاستصحاب فيها (6) ممّا لا يجدي بعد عدم القول بوجوب دفع الضرر المحتمل ولزوم تحصيل العلم عند الشكّ في الفراغ ، فإنّ وجوب الصلاة في الجهات التي لم (7) يقع فيها الصلاة ليس ممّا يترتّب على استصحاب الاشتغال كما لا يخفى.
وتوضيحه : أنّ المكلّف بعد ما شكّ في المكلّف به فإمّا أن يقال بسقوط التكليف في حقّه كما يراه بعضهم ، وإمّا أن يقال ببقائه حال الجهل أيضا ، لا كلام على الأوّل ، وعلى الثاني فالحكم بالإتيان بجميع المحتملات ابتداء وفي أثناء العمل ممّا لا يجدي فيه الاستناد إلى الاستصحاب.
ص: 335
أمّا الأوّل ، فظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بإتيان بعض المحتملات التي لم يأت بها المكلّف ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال ؛ إذ غاية ما يفيده الاستصحاب هو بقاء الاشتغال ، ومقتضاه الإتيان بالمكلّف به واقعا ، ولا يزيد على ذلك كما إذا كان الاشتغال في أوّل الأمر قطعيا ، فإنّ الاستصحاب إنّما يوجب تنزيل المشكوك فيه منزلة المقطوع به ، ومن المعلوم أنّ الاشتغال القطعي لا يقضي (1) بالإتيان بالمحتملات لا في أوّل الأمر ولا في الأثناء إلاّ بعد انضمام مقدّمة خارجية هي (2) حكم العقل بتفريغ الذمّة عند العلم بالاشتغال وعدم العلم بالفراغ والشكّ في البراءة ، فالاشتغال الثابت بحكم الاستصحاب كيف يعقل اقتضاؤه للإتيان بالمحتملات مع كونه منزّلا منزلة الواقع؟!
اللّهمّ إلاّ أن يقال في المثال المذكور : استصحاب بقاء الاشتغال مثبت لكون الباقي من الجهات المحتملة هي (3) القبلة ، وهو - كما ترى - بمكان من الوهن والضعف سيّما إذا كان الجهة الغير المأتيّ بها متعدّدة ، فإنّ الأمر بالعكس إذ احتمال كون الباقية قبلة واقعية (4) يقضي بإتيانها لا أنّها قبلة واقعية ، فيجب إتيان الصلاة فيها كما لا يخفى.
فظهر ممّا مرّ أنّ استصحاب الاشتغال يجري فيما لا يجري فيه قاعدة الاشتغال والاحتياط ، وما يجري فيه الاشتغال وقاعدة الاحتياط لا يجري فيه الاستصحاب.
وما عسى يتوهّم - من تمسّك بعضهم باستصحاب الاشتغال كالمحقّق (5) في المتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة حيث أفاد أنّ استصحاب الصحّة يعارضه استصحاب الاشتغال - فإنّما هو مبنيّ على مجرّد المناقشة في الدليل وأمثاله ، وإلاّ فكيف يعقل التمسّك به مع وضوح فساده وظهور كساده من جهة أخرى أيضا؟ وهو عدم مقاومة استصحاب الاشتغال باستصحاب الصحّة لكونه واردا عليه ورود الاجتهادي على
ص: 336
العملي كما لا يخفى ، وإلاّ فلم يبق هناك مورد للاستصحاب وهذا هو تمام الكلام في أصالة الاشتغال.
وأمّا أصالة التخيير ، فمرجعها إلى حكم العقل بعدم تعيين واحد من الدليلين (1) عند تعذّر الأخذ بهما معا وطرحهما كذلك مع عدم ما يعيّن أحدهما بالخصوص.
وأمّا الاستصحاب ، فهو حكم العقل ببقاء الشيء عند الشكّ في وجوده في اللاحق بعد العلم بوجوده في السابق من حيث ثبوته في السابق ، فمستند حكم العقل بالبقاء في الاستصحاب هو الوجود السابق لكنّه ظنّي ، ولا ينافيه حصول الشكّ ؛ فإنّ العقل عند الشكّ بملاحظة وجوده في السابق يحكم حكما ظنّيا بوجوده في اللاحق على نحو حكم العقل في سائر الأدلّة العقلية الظنّية كالاستقراء مثلا.
ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ المرجع عند الشكّ للمكلّف ينحصر في الأصول الأربعة حصرا عقليا ؛ لأنّ الإنسان البالغ العاقل إمّا أن يكون ملتفتا ، أو لا.
وعلى الثاني ، فلا كلام لنا فيه في أمثال المقام.
وعلى الأوّل إمّا أن يكون عالما بالحكم ولو علما شرعيا ، أو لا يكون بل يكون شاكّا ولو شكّا شرعيا.
وعلى الأوّل ، فلا كلام فيه أيضا.
وعلى الثاني إمّا أن يكون الحالة السابقة معلومة له ، أو لا.
فعلى الأوّل فهو مجرى الاستصحاب.
وعلى الثاني إمّا أن يكون شاكّا في التكليف خصوصا أو عموما مع عدم دوران الأمر بين المتنافيين ، أو لا.
ص: 337
فعلى الأوّل فهو مجرى البراءة ، ومع دوران الأمر بين المحذورين فهو مجرى التخيير.
وعلى الثاني ، فمع عدم دوران الأمر بين المحذورين وإمكان الجمع فهو مجرى الاشتغال ومع عدم إمكانه ودوران الأمر بين المتنافيين والمحذورين فهو أيضا مجرى التخيير.
والقوم إنّما جرت عادتهم في مدّ (1) الأصول الثلاثة الأخيرة في هذا المقام وانفراد الاستصحاب بالبحث نظرا إلى أنّ الحكم فيه ليس منوطا بنفس الشكّ بل لا بدّ فيه من ملاحظة ثبوت المشكوك في الحالة السابقة بخلاف غيره ، فإنّ الحكم فيها يناط بمجرّد الشكّ ، ولذلك قد اكتفوا بإيرادها في بحث واحد بحسب مواردها ، فلا بدّ من تشخيص مواردها وتميز مجاريها ؛ فإنّ عليها يدور رحى الفقه كلّه ، وبيان الاختلاف الواقع في تلك الموارد والتحقيق فيها فنقول :
الشكّ إمّا أن يكون في خصوص التكليف كما لو شكّ في وجوب شيء و (2) حرمته مع قطع النظر عن الترديد بينه وبين غيره ، أو مع ملاحظة الترديد كما لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ؛ فإنّ مجرّد الترديد بين الحرمة والوجوب لا يجدي في عدم كون الشكّ هذا من أقسام الشكّ في التكليف بعد تقييده بالخصوصية.
وإمّا أن يكون في المكلّف به.
وعلى التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشكّ هو الاشتباه في الحكم الشرعي كأن لا يعلم أنّ شرب التتن في القسم (3) الأوّل حرام في أصل الشريعة ، أو قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة أو لا ، أو لا يعلم أنّ الصلاة في يوم الجمعة بحسب أصل الشرع الواجب منها هو الظهر أو الجمعة ، أو الحرام في الشرع هو الشيء الفلاني أو غيره (4) في القسم الثاني ، وإمّا أن يكون منشأ الاشتباه والشكّ هو الاشتباه في الأمور الخارجية
ص: 338
كأن لا يعلم أنّ الواجب هو الإتيان بالصلاة عند اشتباه القبلة بأيّ جهة من الجهات ، أو لا يعلم أنّ المانع الفلاني هو الخمر حتّى يكون مكلّفا بالاجتناب عنه أو الماء حتّى لا يجب الاجتناب.
وعلى التقادير الأربع إمّا أن تكون الشبهة تحريمية كأن يكون الأمر دائرا (1) بين الحرام وغير الواجب على سبيل منع الخلوّ ، أو وجوبية كأن يكون دائرا بين الواجب وغير الحرام على المنفصلة المانعة الخلوّ يشتمل (2) ما إذا كان الأمر دائرا بين الواجب والحرام أيضا.
وهذان القسمان إنّما يتصوّر أقسام كثيرة فإنّ غير الحرام في الشبهة الوجوبية قد يكون هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو الاثنان منهما أو الثلاثة ، وغير الواجب في الشبهة الوجوبية أيضا كذلك ، وعند دوران الأمر بين الواجب والحرام يتصوّر أقسام كثيرة ؛ لاحتمال غيرهما ثلاثية أو رباعية أو خماسية على اختلاف الصور في الأوليين أيضا كما لا يخفى.
فهذه أقسام ثمانية ، أربعة منها من الأقسام التي منشأ الشبهة فيها الشكّ في الحكم الشرعي ، وأربعة منها من صور الشكّ في الموضوع الخارجي ، والأربعة الأولى لا تخلو عن أقسام ثلاث :
الأوّل : أن يكون الشبهة باعتبار فقد النصّ.
الثاني : أن يكون باعتبار إجمال النصّ كاشتماله على لفظ مشترك مجرّد عن القرينة المعيّنة.
الثالث : أن يكون باعتبار تعارض النصّين وتوارد الدليلين. وهذه الأقسام الثلاثة وإن كان ممّا يختلف الحكم فيها باعتبار اشتمال بعض أخبار الباب على بعض الصور إلاّ
ص: 339
أنّ (1) التحقيق أنّه لا فرق بينها فيما نحن فيه ، فكما أنّ تعارض النصّين يقضي (2) بالتخيير فكذا معارضة كلّ دليل مع الآخر يقضي بذلك (3).
وبالجملة ، فهذه اثنا عشر قسما : ستّة منها من أقسام الشكّ في التكليف ، والستّة الأخرى من صور الشكّ في المكلّف به ، وعلى الستّة الأخيرة إمّا أن يكون الأمر دائرا بين المتباينين كأن لا يعلم أنّ (4) المكلّف به هو الفعل الفلاني ، أو غيره من دون أن يكون هناك علم إجمالي بينهما أيضا ، أو دائرا بين الأقلّ والأكثر مع وجود العلم الإجمالي أيضا بينهما (5) كما إذا شكّ في جزئية شيء (6) للواجب النفسي كالسورة في الصلاة.
وأمّا إذا كان الأمر دائرا بين الأقلّ والأكثر من دون العلم الإجمالي كما فيما إذا شكّ في أنّ الدين أربعة دراهم أو خمسة ، وكما في منزوحات البئر ، فليس من أقسام الشكّ في المكلّف به بل الناقص الأقلّ معلوم تفصيلا ، والزائد مشكوك صرف ، فيرجع بالنسبة إلى الزائد إلى صور الشكّ في المكلّف به ، فهذه مع الستّة الأولى والأربعة التي منشأ الشكّ فيها الشبهة في الأمر (7) الخارجي اثنا [ ن ] وعشرون قسما ، ولنذكر أحكام هذه الصور والأقسام في طيّ أصول عديدة.
ص: 340
في الشكّ في التكليف من أقسام الشبهة الحكمية الوجوبية فيما لو كانت الشبهة مستندة إلى فقد النصّ بجميع أقسامه المذكورة عدا ما إذا كان الشكّ بين الوجوب والحرمة ؛ فإنّ لهذه الصورة في هذا المقام وفي المقام الآتي مقام (1) آخر ، فلا بدّ من ذكرها على حدّها (2) ، فنقول : لا شكّ في جريان البراءة في هذه الصورة بأقسامها ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.
أمّا الأوّل ، فآي منه أقواها في النظر قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3).
والتقريب أنّ البعث في المقام هو تبليغ الأحكام (4) وبيانها ، وعند انتفائه لا بدّ وأن لا يكون هناك عقاب ، فالآية إنّما دلّت على نفي العقاب والعذاب عند عدم البيان والبعث وهو المطلوب.
لا يقال : قد مرّ فيما سبق ادّعاء ظهور الآية في نفي فعلية العقاب ووقوع العذاب ، وقد مرّ أيضا عدم تنافيه للاستحقاق ، فالوجوب المشكوك فيه يحتمل ثبوته.
لأنّا نقول : المقصود بالبراءة هو تفريغ الذمّة عن الأحكام الشرعية والخروج عن
ص: 341
عهدة التكليف ورفع العقاب فاحتمال الوجوب في الواقع مع القطع برفع العقاب عند الشكّ فيه وعدم البيان لا ينافي الحكم بالبراءة بل وهذا عين المطلوب كما لا يخفى.
وأمّا الوجوب الواقعي ، فأصالة العدم التي مرجعها إمّا إلى الاستصحاب ، أو إلى غيره ، فقد يقضى بعدمه بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة على عدم الوجوب الواقعي بواسطة إعمال الأصل المذكور يحكم بترتّبها على العدم المستصحب مثلا.
فإن قلت : فعلى ما ذكر يصحّ التعويل بأصالة البراءة في الموارد التي ثبت العفو فيها كالظهار (1) مثلا ، وكما في المستقلاّت العقلية بناء على عدم ثبوت الأحكام الشرعية فيها مع أنّ فساد ذلك ممّا لا يدانيه ريبة.
قلت : فرق ظاهر بين ما نحن فيه من الموارد المشكوكة وبين ما ثبت الاستحقاق شرعا أو عقلا ، فإنّ الاستحقاق فيها مشكوك عن أصله كما لا يخفى ، وسيرد عليك في المقامات الآتية ما يوضح ذلك.
وأمّا الثاني ، فستطّلع عليها فيما سيجيء.
وأمّا الثالث ، فالإجماع (2) حاصل لمن لاحظ كلمات الفقهاء في مقامات مختلفة وأبواب متفرّقة وموارد متشتّتة بحيث لا ينكره إلاّ المكابر العسوف ، وما قد يتوهّم من ذهاب بعض الأخبارية إلى الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، فليس فيما إذا كانت مستندة (3) إلى فقد النصّ بل إنّما هو مخالف فيما إذا كانت الشبهة باعتبار تعارض النصّين فالأخباريون والأصوليون - على ما نقله غير واحد منهم - مطبقون على البراءة في هذه الصورة بل ربّما يظهر من عدّها (4) الصدوق (5) في اعتقاداته (6) كونه ضروريا كما لا
ص: 342
يخفى.
وأمّا الرابع ، يقرّر بوجهين :
الأوّل : استقلال العقل بقبح التكليف بلا بيان ؛ ألا ترى أنّ المولى يذمّ عند العقلاء لو أخذ على عقاب العبد بتركه ما لم يعلم وجوبه منه وإن كان واجبا في الواقع ، واستناد المولى إلى احتمال الوجوب عندهم أقبح من أصل العقاب كما لا يخفى.
الثاني : ما قد يوجد في كلمات جملة منهم من أنّ التكليف في الصورة المفروضة يوجب التكليف بما لا يطاق ، وقد يتمسّك في نفي التكليف بالمجمل الذاتي أيضا بمثله كما يظهر من استناد المحقّق القمّي (1)(2) إليه هناك.
واعترض عليه بعض الأجلّة (3) بأنّ اللزوم غير ظاهر فيما يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال بإتيان جميع المحتملات ، فإنّ الفعل في أمثال المقام ممّا يطيقه المكلّف.
وليس بسديد إذ المقصود في المقام هو القول بأنّ إتيان الفعل مع عدم العلم بالأمر بقصد الامتثال على وجه يكون الداعي فيه هو الأمر محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطيقه المكلّف إذ مع عدم العلم بالأمر كيف يعقل الإتيان على أنّه مأمور به؟
فإن قلت : إتيان الفعل في الخارج لا يخلو من وجوه :
أحدها : أن يأتي المكلّف بالفعل لا بداعي الأمر والامتثال بل لدواعي النفسانية على اختلافها.
وثانيها : الإتيان به على أنّه مأمور به قاصدا فيه الامتثال.
وثالثها : الإتيان به لاحتمال الأمر.
ص: 343
لا شكّ في خروج الأوّل من (1) المقام.
وأمّا الثاني ، فهو تكليف بالمحال ، فالقائل بالوجوب لا يمكنه القول به.
وأمّا الثالث ، فلا مانع من القول به بل وهو محلّ الكلام في المقام ؛ لأنّ القائل بعدم الوجوب لا يمكنه إنكار الاستحباب ، فلو كان الكلام في المقام في إتيان الفعل على أنّه مأمور به ، لما صحّ القول باستحبابه إذ لا فارق بين الوجوب والاستحباب في امتناع تعلّقهما بما لا يطيقه المكلّف.
وبالجملة ، فالذي يمكن أن يكون محلّ تشاجر القائل بالوجوب مثلا والقائل بعدمه هو الإتيان بالفعل لاحتمال أن يكون ممّا تعلّق به الأمر ، وهذا ممّا يطيقه (2) المكلّف قطعا.
قلت : الكلام إنّما هو عند فقدان الدليل كما هو موضوع البحث عموما وخصوصا ، والإتيان بالفعل على الوجه المذكور أيضا ممّا لا دليل يدلّ عليه وجوبا كما ستعرف ، فالإتيان بنفس الفعل على أنّه مأمور به ولاحتمال الأمر به - بعد ما فرضنا فقدان الدليل خصوصا وعموما ولو من جهة الاحتياط - سواء فكما أنّ الامتثال به عند عدم الأمر به محال ، فكذا الامتثال بالاحتياط عند عدم الأمر بالاحتياط وعدم ما يدلّ عليه محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطاق وهكذا.
فإن قلت : لا فرق في البيان بين أن يكون المبيّن هو العقل أو الشرع ، وبعد ما تقرّر في محلّه من استقرار طريقة العقلاء على لزوم دفع الضرر المحتمل وحكم العقل القاطع به لا وجه للقول بأنّ الاحتياط ممّا لم يعلم وجوبه ، فلا يساوي الإتيان به على أنّه مأمور لوجود (3) الأمر العقلي بالاحتياط وعدمه هناك.
قلت : لا خفاء في (4) أنّ مجرّد الاحتياط من غير أوله إلى عنوان آخر لا حكم للعقل بوجوبه كما لا يخفى بل العقل من حيث حكمه بلزوم دفع الضرر يحكم به ، ولا بدّ في
ص: 344
حكم العقل هذا من وجود موضوعه وثبوت محلّه كما هو ظاهر أيضا ، فلا بدّ من إثبات أنّ المقام ممّا يحتمل الضرر لو لا الإتيان به مثلا وهو منتف ؛ لأنّ المراد بالضرر إمّا أن يكون هو الضرر الدنيوي ، أو الأخروي ممّا لا يرجع إلى العقاب بعد القول به ، أو العقاب الأخروي ، أو ما يؤول إليه.
أمّا الأوّل ، فستعرف الكلام فيه (1).
وأمّا الأخير ، فبعد قطع العقل واستقلاله بقبح التكليف بلا بيان لا احتمال له فإنّ العقل يقطع بعدم العقاب ولا ينافيه احتمال الوجوب إذ العقاب والثواب ليسا من آثار الوجوب ولوازمه ، ولا ملازمة بينهما ، وإنّما الملازمة بين العقاب والمخالفة والعصيان فاحتمال المخالفة يلازم احتمال العقاب لا الوجوب (2) ، والعصيان فرع الأمر والعلم به وعند عدمه يستقلّ العقل بعدمه فاحتمال الضرر منتف بعد الحكم العقلي بعدمه.
فإن قلت : كيف يصحّ التمسّك بالأصل في رفع احتمال العقاب مع أنّ جريانه فرع رفعه ، فإنّ الدعوى هي كون العقل بيانا ، فلا وجه للتمسّك به في دفع احتمال العقاب ، وبعد ما كان العقل بيانا فالأمر قطعي والمخالفة يقينية فالعقاب قطعي فإنّه على ما اعترفت من لوازم المخالفة وهي معلومة بعد الأمر ولو عقلا.
قلت : لا خفاء في أنّ في المقام أمرين :
أحدهما : احتمال العقاب على التكاليف التي لا بيان عليها كوجوب قراءة الدعاء مثلا عند الشكّ فيه.
وثانيهما : العقاب على ترك الاحتياط في الإتيان بما يحتمل الوجوب لاحتمال العقاب ، ولا شكّ أنّ الثاني فرع الأوّل ، فالمحتمل للعقاب إمّا أن يحتمل العقاب على تلك التكاليف ، فلا خفاء في بطلانه عند الكلّ ، فإنّه تكليف بلا بيان ، وعقاب بلا برهان ، ولا يكاد يلتزم به العاقل فضلا عن الفاضل ، فالعقل يستقلّ بعدم العقاب فلا
ص: 345
احتمال وإمّا أن يحتمل العقاب على ترك الاحتياط الذي هو المبيّن بالعقل ، وهو أيضا فاسد إذ القول بقطع العقل بعدم العقاب على تلك التكاليف التي لا بيان عليها هو عين الالتزام بعدم (1) هذا الاحتمال أيضا فإنّه على ما عرفت هو فرع الأوّل ، وبعد القطع بعدم الأصل لا وجه لاحتمال الفرع.
فإن قلت : إنّ مجرى الأصل على ما مرّ في موضوع الشكّ وهو ينافي دعوى القطع بعدم العقاب.
قلت : إنّ القطع بعدم العقاب إنّما هو بعد ملاحظة قبح العقاب بلا بيان وحكمته تعالى ، وذلك ظاهر في الغاية.
هذا إذا كان المراد بالضرر الأخرويّ منه ، وأمّا إذا كان المراد منه الدنيويّ أو ما لا يرجع إلى العقاب على تقديره في الآخرة كأن احتمل عند الشكّ في وجوب قراءة الدعاء رمد العين (2) مثلا و (3) نحوه ، فلو كان مظنونا ، فلا بدّ من الاجتناب عنه لما مرّ في محلّه من حجّية الظنّ في الضرر لانسداد باب العلم فيه ، وإلاّ فهو إنّما يرجع إلى الشبهة في الموضوع الخارجي ؛ إذ العقل يحكم بحرمة الارتكاب فيما فيه ضرر قطعا ولا ترديد له في هذا الحكم بوجه ، وإنّما يشكّ (4) في أنّ الفعل الفلاني هل يوجب (5) ذلك ، أو لا كما إذا شكّ في أنّ هذا المائع الفلانيّ خمر ، أو خلّ فإنّ المدار في تميّز ذلك ظاهر كما لا يخفى على المتدرّب (6) في كلماتهم.
وممّا يؤيّد ذلك أنّ الشبهة الحكمية لا بدّ في رفع الشبهة فيها من الرجوع إلى الأدلّة الشرعية بخلاف الشبهة الموضوعية فإنّ منشأ الشكّ فيها هو الاشتباه في الأمور الخارجة ، فلا بدّ في رفعها من الرجوع إليها ولا ينافيه بيان الشارع في بعض الموارد على ما هو ظاهر.
ص: 346
وبالجملة ، فالضرر لو كان أخرويا عقابيا ، فقد مرّ أنّه يقبح عند عدم البيان بل الثواب أيضا كذلك (1) اللّهمّ لتفضيل (2) خارج عن الاستحقاق ولو كان دنيويا ، فمرجعه إلى الشبهة الموضوعية وسيجيء الكلام فيه في الأصول الآتية (3).
ثمّ إنّه هل يحكم بالاستحباب فيما إذا دار الأمر بين الوجوب وغير التحريم بصورها ، أو لا بعد القول بعدم الوجوب؟ لا بدّ لتحقيق الكلام فيه من تفصيل في المقام ليتّضح (4) به المرام فنقول :
أمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة ، فيمكن القول بالاستحباب لأدلّة الاحتياط ، ولأخبار التسامح ولو في بعض موارده ، فإنّ بعض (5) الآخر منه ممّا لا يحتمل فيه تلك الأخبار كما إذا ورد نصّ مجمل (6) يحتمل الوجوب والاستحباب فإنّه يحكم بالاستحباب للاحتياط لا للتسامح ؛ لعدم صدق البلوغ المعتبر في أخباره ولا سيّما فيما إذا لم يكن المسألة معنونة في كلامهم.
وأمّا ما يتوهّم من اتّحادهما ؛ لأول الثاني إلى الأوّل ، فليس بسديد ؛ لأنّ الاحتياط إنّما يفيد الاستحباب الغيري تحصيلا لمطلوب المولى ومحبوبه ، ولا ينافيه عدم الدليل على وجوبه ، فإنّ المحبوبية تغاير الوجوب الفعلي المنفيّ بالأصل ، والتسامح إنّما يفيد الاستحباب النفسي ؛ فإنّ الثواب المترتّب عليه - كما هو صريح أخباره - هو الثواب المترتّب على ذلك الشيء بخلاف الاحتياط ، فإنّه من قبيل الانقياد ، ولا ينافي ما قلنا عدم احتمال الاستحباب - كما هو المفروض من دوران الأمر بين الوجوب والإباحة - إذ الاستحباب الواقعي - الذي هو من آثار (7) المصالح الكامنة في ذات الشيء مع قطع النظر عن هذا اللحاظ - قطعي العدم.
ص: 347
وأمّا الاستحباب ولو بملاحظة هذا الاعتبار ، فهو قطعي كما لا يخفى.
وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فيمكن القول بالاستحباب أيضا من وجهين :
الأوّل : أخبار الاحتياط (1) الآتية على ما سيجيء تفاصيلها.
الثاني : أنّ رجحان الفعل حينئذ قطعي وهو يكفي في أولوية الفعل ، وهذا وإن لم يكن من الاستحباب المصطلح فإنّه أحد الأحكام الخمسة ولا بدّ في تحقّقه (2) من تحقّق (3) جنسه وفصله كليهما ، ومجرّد ثبوت الرجحان الذي هو الجنس القدر المشترك بينه وبين الوجوب لا يقضي (4) بوجود فصله وإن كان فصل الوجوب منفيّا (5) بالأصل إلاّ أنّه يكفي في أولوية الفعل كما لا يخفى.
وأمّا ما قد يتوهّم من أنّ الاستحباب في المقام استحباب ظاهري ، فهو كلام ظاهري لا محصّل له بعد ما عرفت من لزوم تحقّق الفصل في تحقّق النوع ، وعدم كفاية الجنس فقط ، على أنّ الحكم الظاهري إنّما هو في موضوع الشكّ ، ولا شكّ في انتفائه في المقام ، فعلى ما ذكرنا لا نحكم بترتّب آثار الاستحباب عليه ، كما لا نحكم بترتّب آثار الوجوب عليه ، فبالحقيقة (6) نحكم (7) بعدم الاستحباب والوجوب معا ، وإنّما الفعل في مقام الظاهر بالنسبة إلى المكلّف كأفعال الصبيّ من جهة الفعل (8) لا يحسن (9) ، فإنّ الرجحان قطعي ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.
ومن هنا يظهر عدم اتّجاه الاستناد إلى الأخبار الواردة في مقام التسامح ؛ إذ لا محلّ لها بعد القطع بالثواب.
ص: 348
وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والكراهة فقد يحتمل (1) عدم القول بالاستحباب إلاّ أنّ الأقوى ذلك للأخبار الآمرة بالاحتياط لا لأخبار التسامح على ما هو ظاهر لا سترة فيه.
هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ ، ومثله الكلام فيما إذا كانت لإجمال في الدليل من غير فرق بين نفي الوجوب وإثبات الاستحباب في الصورة المذكورة والغير المذكورة ممّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاثنين من الأحكام غير الحرمة كما لا يخفى.
وأمّا إذا كانت من تعارض النصّين ، فمجمل الكلام فيه أنّه لا بدّ من التخيير فيما يجري فيه الأخبار الدالّة على التخيير ، وعلى تقدير عدم جريانها ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل لا على وجه يكون مرجّحا للخبر (2) حتّى يصير مقرّرا بل على وجه يكون مرجّعا (3) على ما سيجيء تفصيل الكلام فيه في محلّه إن شاء اللّه.
ص: 349
ص: 350
في الشبهة التكليفية التحريمية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في مباحث التعادل والتراجيح ، وملخّص الكلام فيه أنّ المرجع إلى التخيير فيما إذا دلّ عليه دليل شرعا ، وإلى الأصول فيما إذا خالف أحدهما لها ولم يكن ما يدلّ على التخيير الشرعي ، وإلاّ فالتخيير العقلي.
وبالجملة ، فالمجتهدون في المقام على البراءة وكثيرا ما يعبّر عنها (1) في لسانهم بالإباحة نظرا إلى ظهور البراءة في نفي الوجوب فقط في قبال الاشتغال ، وإنّما نظرهم في ذلك ليس إلى مجرّد حكم العقل فإنّه على ما عرفت لا يزيد حكمه على رفع العقاب والمؤاخذة ، ولذا يعبّر عنه بأصالة النفي بل الحكم بالإباحة في الشبهة التحريمية إنّما يستند إلى الأدلّة الشرعية كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.
والأخباريون على الاحتياط جميعا وربّما ينسب إليهم (2) أقوال (3) كالقول بالحرمة الواقعية أو الظاهرية أو التوقّف أو الاحتياط ، وقد يستشكل في الفرق بينها بعد وفاقهم على التحريم وعدم جواز الإتيان بالفعل إلاّ أنّه يمكن أن يقال :
ص: 351
أمّا الحرمة (1) الواقعية ، فالظاهر (2) أنّها غير مصرّح بها في كلامهم ، فلعلّها مأخوذة من ظاهر لفظ الحرمة بعد تقييدها في كلام بعضهم بالحرمة (3) الظاهرية ، ويحتمل أن يكون المراد بها أصالة الحظر المقرّرة في الأصل السابق.
وأمّا الحرمة الظاهرية فيفترق (4) من التوقّف والاحتياط بأنّ الحرمة فيها تشريعية ظاهرية بخلاف الحرمة فيهما فإنّها إرشادية محضة كما يشعر به قوله في الخبر الآتي « هلك من حيث لا يعلم ».
وأمّا التوقّف والاحتياط ، فلا يكاد تحقّق (5) الفرق بينهما إلاّ في عنوان الأخبار الواردة فيهما ؛ فإنّ جملة منها تشتمل (6) على لفظ التوقّف والوقوف ، وجملة أخرى على لفظ الاحتياط وإلاّ فبحسب المعنى لا فرق بينهما (7) ؛ فإنّ التوقّف (8) معناه عدم ارتكاب المكلّف الشيء المأمور بالتوقّف (9) فيه وهو بعينه الأخذ بالأوثق كما هو المراد بالاحتياط لكنّ الإنصاف أنّ المعنى في الكلّ واحد ، وليس في كلامهم ما يدلّ على خلاف ذلك بل إنّما هو مجرّد اختلاف في العبارة والمقصود ظاهر.
وكيف كان ، فالحقّ ما ذهب إليه الأصوليون المجتهدون لوجوه من الأدلّة :
الأوّل : الكتاب العزيز وهي آيات بيّنات :
منها : ما مرّ في الأصل السابق وهي آية التعذيب وقد مرّ وجه الدلالة فيها وصحّة التقريب على وجه يليق بالمقام.
ص: 352
ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) وجه الدلالة أنّ التكليف التحريمي فيما اشتبه حكمه بواسطة فقد النصّ أو إجماله كشرب التتن مثلا ممّا لم يأت النصّ به ، ولا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها ، فلا تكليف فيه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ صدر الآية إنّما هو في الإنفاق بالأموال ، فلا يرتبط بالمقام.
ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2) والتقريب ظاهر إلاّ أنّ الاعتراض عليه أيضا ممكن ، فالأوضح من الكلّ هو آية التعذيب كما نبّهنا عليه.
الثاني : الإجماع نقلا في كلام جملة من الأعاظم ، وتحصيلا من غير الأخباري كما يظهر ذلك من استنادهم ذلك إلى المجتهد من غير استثناء كما لا يخفى.
الثالث : الأخبار وهي كثيرة جدّا ، فمنها قوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3) وجه الدلالة أنّ الحرمة في واقعة شرب التتن مثلا ممّا حجب اللّه علمه عنّا وكلّ ما حجب اللّه علمه عنّا ، فهو موضوع عنّا ، فالحرمة في الواقعة المفروضة موضوعة عنّا وهو المطلوب.
فإن قلت : إنّ الرواية ظاهرة في ما إذا حجب اللّه علم شيء مخزون عنده أو عند أوليائه كأسرار القضاء والقدر ونحوهما كما يشتمل (4) عليه ذيل الخبر النبوي الآتي من أنّ رفع عن أمّتي إلخ فعلى هذا يصير مفادها بعينها مفاد قوله : « اسكتوا عمّا سكت اللّه
ص: 353
عنه » (1) فلا يصحّ الاستناد إليها في أمثال المقام للفرق الظاهر بين ما إذا كان الأسباب المفيدة للعلم (2) فيه موجودا (3) وبين ما إذا كان مفقودا (4) ، فالوضع - كما هو المستفاد من الرواية - إنّما في المقام الثاني ، والمطلوب إنّما يتمّ فيما إذا كان من الأوّل كما لا يخفى.
قلت : إسناد الحجب إليه تعالى لا يخلو من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن يكون هو العلّة للحجب من غير مدخلية للعبد فيه تسبيبا وغيره كما في الأسرار المخزونة في علمه والمكنونة عند أهلها ، فيكون المراد من الرواية على هذا ما حجب اللّه علمه عن العباد لعدم جعله طريقا يوصلهم إليه ، فهو موضوع عنهم.
وثانيها : أن يكون هو الحاجب تسبيبا منّا كأن يكون على وجه المباشرة منه تعالى ، ولكنّ السبب في الحجب منّا كما هو مفاد قوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (5) وذلك أيضا ظاهر كما في غيبة الإمام عليه السلام فإنّ الفاعل غيرنا ونحن السبب فيها.
وثالثها : أن يكون الحاجب غيره إلاّ أنّه أسند (6) إليه من جهة عدم رفعه للموانع بعد وضعه أسباب العلم كإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر بالبيان والتبليغ ونحوه على وجه لا يستند (7) الحجب إليه إلاّ مجازا بعيدا لا يصار إليه إلاّ لقرينة مقتضية له ؛ لا شكّ في بطلان دعوى الانصراف إلى الأوّل فقط كما يظهر بالتأمّل في ذيل الحديث من قوله : « فهو موضوع عنهم » إذ لا امتنان فيه بعد ظهوره فيه كما لا يخفى فساد توهّم (8) التعميم بالنسبة إلى الثالث أيضا لما عرفت من بعده (9) من إسناد الحجب إليه تعالى ، فالأوسط أوسط الوجوه ، وبه يتمّ المطلوب فإنّه يصير حينئذ مثل قوله : « كلّ ما غلب
ص: 354
اللّه فيه فهو أولى بالعذر » (1) كما في الأمراض فإنّ السبب غالبا منّا إلاّ أنّ المباشر غيرنا ولا يجري ذلك فيما إذا كان المكلّف سببا على وجه لا يصحّ إسناد المرض إلى غيره إلاّ من جهة عدم رفعه للموانع كما إذا شرب المرقد أو المسكر.
وبالجملة ، ففيما إذا كان المكلّف سببا للحجب من اللّه تعالى دلّ الرواية على البراءة ولا قائل بالفصل فيتمّ المطلوب ، فتأمّل.
ومنها : قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (2) وجه الدلالة ظاهر سواء كانت « ما » زمانية أو موصولة مضافا إليها (3) للمجرور.
لا يقال : العلم بالتكليف أعمّ من أن يكون إجماليا أو تفصيليا ، وسعة الجهل وعدم العلم لا يجدي في العلم الإجمالي لوجوده فإنّا نعلم وجدانا بوجود محرّمات كثيرة وواجبات كثيرة ، فلا يصحّ التمسّك بالرواية بعد العلم ولو إجمالا.
لأنّا نقول : إنّ الأصل المذكور إنّما يجري بعد حجّية الأخبار الآحاد عند المجتهد أو ما يكفي (4) عن رفع العلم الإجمالي بالتكاليف المحرّمة ، أو الواجبة من غيرها من الأمارات وبعدها لا يبقى (5) العلم الإجمالي ، فعالم الجهل أوسع من الكلّ فيتمّ التقريب.
ومنها : ما رواه الصدوق في التوحيد في الصحيح عن حريز عن الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا (6) عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في
ص: 355
الخلق ما لم ينطقوا (1) بشفة » (2).
والتقريب : أنّ الحرمة المشتبهة ممّا لا نعلمها وقد رفع عن تلك الأمّة المرحومة المؤاخذة عمّا لا يعلمون والعقاب عليه وهو المطلوب.
وربّما يشكل الاستناد إلى الرواية من حيث إنّ (3) ظاهر السياق إرادة الموضوع والفعل من الموصول كما في « ما استكرهوا عليه » و « ما لا يطيقون » و « ما اضطرّوا إليه » فإنّ المراد منه الفعل المستكره عليه والفعل الذي لا يطيقونه ، فالمعنى رفع عن أمّتي الفعل والموضوع الذي لا يعلمونه على حذو (4) سائر الفقرات إلاّ أنّه يمكن أن يقال : أن ليس المراد ممّا لا يعلمون نفس الفعل وحقيقته فإنّه لا يترتّب على ذات الفعل والعلم بها حكم شرعي ، فلا بدّ من تقدير كأن يقال : إنّه رفع عن أمّتي المؤاخذة على فعل ما (5) لم يعلم حكمه ، ولا ينافي السياق أيضا إذ السياق لا يزيد حكمه على اعتبار الموصول كناية عن الفعل ، ولا بدّ من تقدير الحكم ليصحّ الرفع ، فإنّ ما للشارع أن يضعه له أن يرفعه في مقام التشريع ، وليس إلاّ الحكم المتعلّق بالأفعال ، فعدم العلم بحكمها ممّا قد منّ اللّه تبارك وتعالى برفع العقاب عنه وهو أعمّ من أن يكون بحسب أصل الشريعة كما في الشبهة الحكمية أو بواسطة أمر خارجي كما في الشبهة الموضوعية. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالشبهة في الموضوع وهو في محلّ من المنع ، فتأمّل.
فإن قلت : المراد بما لا يعلمون إن كان مطلق العلم تفصيليا كان أو إجماليا ، فلا امتنان لاشتراط التكليف عقلا بالعلم على وجه يستحيل خلافه وهذا حكم يعمّ سائر الأمم ، فلا يختصّ تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنه - كما هو ظاهر الرواية - والامتنان
ص: 356
وإن كان خصوص العلم التفصيلي وإن كان ممّا لا يعلمونه (1) ولو إجمالا ، فالرفع غير ثابت لا في تلك الأمّة ولا في غيرها.
قلت : لا خفاء في قبح العقاب على التكاليف الواقعية مع عدم العلم بها وهذا الحكم سواء في جميع الأمم ولكنّه لا قبح في إيجاب الشارع الاحتياط فيه كأن يقول : كلّما احتملت وجوب شيء أو حرمته يجب عليك الإتيان بالواجب المحتمل والاجتناب عن المحرّم المحتمل ، فلو حكم الشارع في تلك المحتملات بالإطلاق ورفع المؤاخذة عنها كما هو مدلول الرواية ، فقد منّ منّة عظيمة لا تسعها السماوات والأرض على تلك الأمّة المرحومة ، ويحتمل إيجاب الاحتياط في سائر الأمم فعلى هذا الرواية هذه معارضة لأخبار الاحتياط بخلاف مثل قوله : « الناس في سعة » ونحوه إذ يمكن القول بأنّ أخبار الاحتياط بيان وعلم.
وبالجملة ، فلا بدّ من القول بعدم وجوب الاحتياط امتنانا منه تعالى على عباده كما هو المستفاد من الرواية.
ثمّ اعلم أنّه قد يورد على الرواية بمثل ما أوردناه فيما لا يعلمون بالنسبة إلى الأحكام العقلية الأخر كرفع السهو والنسيان وما لا يطيقون ونحوها.
وقد يجاب بأنّ الامتنان حاصل بالمجموع من الأحكام العقلية وغيرها كالطيرة مثلا.
وركاكته ظاهرة إذ لا وجه لاختصاصه صلى اللّه عليه وآله بالتسعة إذ الأحكام العقلية كثيرة جدّا فقد يزيد على مائة ، فلا بدّ من توجيه آخر كأن يقال في النقض بالسهو (2) مثلا : إنّ حكم السهو مرفوع سواء كان من جهة القصور ، أو التقصير ، وفيما (3) لا يطيقون يعني ما
ص: 357
لا يتحمّل عادة كما يفصح عن ذلك الآية في آخر البقرة (1) ، لكنّه يشكل الالتزام بما ذكر في السهو كما لا يخفى إلاّ أنّه غير ضائر (2) فيما نحن بصدده.
ومنها : قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (3) وجه الدلالة أنّ الرواية قد دلّت على إباحة كلّ شيء وإطلاقه ما لم نعلم بورود أمر فيه أو نهي (4) ، فشرب التتن ممّا لم نعلم بورود النهي فيه ، فهو مطلق في حقّنا ومباح لنا في مرحلة الظاهر حتّى نعلم فيه بالنهي.
فإن قلت : لا وجه للاستناد إلى الرواية في وجه ولا حاجة إليها في وجه آخر فإنّ المراد بورود النهي هو الورود الواقعي ، فعند الشكّ في ورود النهي لو لم يستند بأصالة عدم ورود النهي لا وجه للاستناد إليها ، فلعلّه وارد في الواقع ومعه (5) لا حاجة إلى الاستناد إليها فإنّه يترتّب آثار الإطلاق والإباحة بمجرّد جريان الأصل المذكور.
قلت : المراد بالورود هو العلم بالنهي ، ولا يلزم تحصيل الحاصل ، أو العبث وإظهار ما لا فائدة فيه ؛ لأنّ المراد بالإطلاق هو ما لا منع فيه فالمقصود بهذه القضيّة لو كان إفادة الإطلاق والإباحة قبل ملاحظة جعل الأحكام منه ، يلزم الأمر الأوّل لأنّ قبل هذه الملاحظة لا منع في شيء ، فيصير المعنى كلّ شيء لا منع فيه لا منع فيه وهو تحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود بالخبر والقضيّة إثبات المحمول للموضوع والمفروض أنّ المحمول جزء من الموضوع أو معتبر فيه ، فلو حاولنا مع ذلك إثبات المحمول له ،
ص: 358
يلزم تحصيل الحاصل بغير حصوله ، ولو كان المقصود بها إفادة الإطلاق بعد جعل الأحكام ، يلزم الأمر الثاني لأنّ بعد الجعل وحصر الأحكام المجعولة في الخمسة يلزم من نفي الأربعة إثبات الأخير لمكان الحصر والتضادّ ، فيصير المعنى كلّ ما لا وجوب فيه واقعا ولا تحريم فيه كذلك ، أو لا استحباب ولا كراهة فيه - لو عمّمنا الأمر والنهي إليهما - فهو مباح ومطلق ، وهل هذا إلاّ بمنزلة أن يقال : كلّ ما لا حركة فيه ، فهو ساكن ، وليس (1) هذا إلاّ إظهارا لأمر بديهي يحترز عنه العقلاء ، ولا يصلح لحمل كلمات أرباب العصمة والحكمة عليه كما لا يخفى ، فتعيّن أن يكون المراد بالورود - [ و ] هو العلم بالأمر والنهي - ورودهما على المكلّف ، ولعمري إنّه دليل ساطع ، وبرهان قاطع لإثبات الإباحة الظاهرية لا يدانيه ريب كما لا يخفى بل لا يبعد القول بجواز الاستناد إليه في الشكّ في المكلّف به أيضا (2) كما استند إليه الصدوق (3) في الفقيه (4) في باب جواز القنوت بالفارسية ، فإنّ المحصّل في تلك الواقعة رجوعها إلى الشكّ في المكلّف به إذ الكلام في مانعية الفارسية للصلاة ، ومرجعها إلى اشتراط عدمها كما في جميع الموانع ، فيؤول الكلام إلى أنّ إتيان الصلاة على الوجه المخصوص يكفي عن الاشتغال اليقيني ، أو لا؟ وذلك ظاهر وسيزيد (5) ظهورا فيما سيجيء إن شاء اللّه تعالى.
ومنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان رواها في الكافى في نوادر المعيشة عن الصادق عليه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (6).
ص: 359
واستند إليه الفاضل التوني في الوافية (1) ووجّهها السيّد الشارح صدر الدين (2) بتوجيه ، واعترض عليه المحقّق القمّي (3) ، ولا بدّ لنا من توضيح الحال ، وتحقيق المقال ، فنقول : الظرفية المستفادة من قوله : « فيه » تحتمل وجوها :
الأوّل : أن تكون (4) ظرفية اشتمال على حذو اشتمال الكلّ للأجزاء ، فينطبق على الشبهة الموضوعية المحصورة وغير المحصورة ، وعلى الشبهة الحكمية فيما لو انضمّ العنوان المشتبه إلى عنوان معلوم الحلّ والحرمة ، فإنّ الإناءات المشتبهات شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، والعناوين المنضمّ بعضها إلى الآخر شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.
الثاني : أن تكون الظرفية ظرفية إحاطة وسريان على نحو ظرفية الكلّي للجزئيات فينطبق على الشبهة الحكمية فإنّ الغناء والغيبة له (5) أفراد محلّلة وأفراد محرّمة وهو شيء فلك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، وعلى الشبهة الموضوعية كاللحم فإنّ المذكّى منه حلال والميتة حرام ، فهو لك حلال عند الجهل والاشتباه حتّى تعرف الحرام منه بعينه.
الثالث : أن تكون الظرفية توسّعية معنوية على وجه يتطرّق المظروف في الظرف يعني له أن يقال في حقّه : حلال وحرام ، ويمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة فيعمّ القسمين.
أمّا الشبهة الحكمية ، فلأنّ شرب التتن ممّا يمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة.
وأمّا الشبهة الموضوعية كاللحم المشترى من السوق فإنّه يمكن أن يقال في حقّه : حلال كما في اللحم المذكّى ، ويمكن أن يقال فيه : حرام كما في اللحم الغير المذكّى والميتة ، فشرب التتن كاللحم المشترى من السوق شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.
ص: 360
وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ السيّد المذكور (1) قد سلك في تقريب الاستدلال
ص: 361
ص: 362
بالصحيحة المذكورة المسلك الأخير.
ولا يكاد يخفى فساده أمّا أوّلا ، فلأنّ حمل الظرفية على هذه الظرفية التي لا يكاد يوجد استعمال كلمة « في » فيها من غير ضرورة داعية إليه تعسّف بارد ، وتكلّف فاسد ، فصدر الرواية ممّا لا يقبل هذا التأويل ، وأمّا ثانيا ، فقوله (1) عليه السلام في ذيل الخبر : « حتّى تعرف الحرام منه بعينه » لا يصلح أن يكون غاية لما قبله بل المناسب حينئذ (2) أن يقول : حتّى تعلم أنّه حرام ، فإنّ ورود النهي بالنسبة إلى شيء خاصّ لا يؤثّر في تحريم غيره ، ومعرفة الحرام بعينه لا يجدي في حلّية مشتبه كما لا يخفى.
وتوضيح ذلك أنّ مقتضى كون الحكم مغيّا بغاية هو تبيّن حكمه بعد وصول الغاية لا ظهور حكم فرد منه ، فالحكم في حلّية شرب التتن مغيّا إلى معلومية حكمه بنفسه لا إلى معرفة الفرد المحرّم منه بعينه ، وذلك ظاهر في الغاية ، فلا وجه لحمل الرواية على هذا المعنى الآبي منه صدرها وذيلها.
وأمّا الوجه الأوّل ، فلا يذهب وهم إلى جواز حمل الرواية عليه فإنّ المتبادر من لفظ « الشيء » الواقع فيها هو كون الشيء واحدا وحدة حقيقية لا وحدة اعتبارية كما في الشبهة المحصورة ولا جعلية كما في انضمام العنوان المعلوم حكمه إلى ما ليس كذلك.
نعم ، ينطبق الحديث فيما إذا كان للشيء وحدة حقيقية عرفية كما في اللحم المشترى من السوق فإنّ فيه حلالا وحراما ، فاللحم لك حلال حتّى تعرف الفرد المحرّم منه.
وأمّا الوجه الثاني ، فهو وإن كان يناسبه صدر الرواية إذ الظرفية في الكلّي والأفراد ممّا لا غبار عليها إلاّ أنّ ذيل الرواية يأبى عن الحمل عليه فإنّه لا يعقل أن يكون معرفة الفرد المحرّم غاية لحلّية الفرد المشتبه.
ص: 363
نعم ، لو كان ذيل الرواية « حتّى تعلم أنّه حرام » جاز التمسّك بها في الشبهة الحكمية كما في رواية أخرى [ عن مسعدة بن صدقة ] عن الصادق عليه السلام « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (1) فيا ليتها كانت على وجه لا ينافي صدرها الحمل على الشبهة الحكمية ، وإلاّ فذيلها ممّا لا غبار عليه عكس الرواية التي نحن بصددها ، والحاصل أنّه (2) لا وجه للاستناد إلى الرواية في الشبهة الحكمية والموضوعية معا على الوجوه الثلاثة ، أمّا الوجهان اللذان استظهر السيّد المذكور أحدهما ، واحتمل الآخر بعضهم ، فظاهر ذلك فيهما.
وأمّا الوجه الثاني منها ، فلا يناسب ذيلها ذلك الحمل لمكان الغاية.
وتوضيحه وتحقيقه أن يقال : لا شكّ في أنّ الحرام المجهول قد يكون الجهل فيه باعتبار الوصف وهي الحرمة كما في الشبهة الحكمية ، وقد يكون باعتبار الموصوف بعد العلم بالوصف ، فلا يعلم أنّ الموصوف بذلك الوصف هذا الفرد أو غيره كما في الشبهة الموضوعية ، فالعلم بالوصف يصير غاية لحلّية ما لم نعلم بالوصف فيه من جهة الجهل بالحكم الشرعي ، ولا يصحّ أن يكون العلم بالحكم الشرعي غاية لحلّية ما لم نعلم بالموصوف وفرديته للحرام الشرعي ، والعلم بالموصوف غاية لحلّية الفرد المحرّم في الشبهة الموضوعية ، ولا يمكن أن يصير غاية لحلّية ما لم نعلم فيه الحكم الشرعي ، ووصف الحرمة مثلا في المثالين المذكورين في المقام العلم بحرمة غيبة الفاسق يمكن أن يكون غاية لحلّية المشتبه منها ، ولا يصحّ أن يكون العلم باندراج كلام خاصّ في غيبة الفاسق غاية لحلّية المشتبه ، ويمكن أن يكون العلم باندراج الفرد الخاصّ من اللحم في الميتة غاية لحلّية المشتبه من اللحم في (3) الموضوعات ، ولا وجه لكونه غاية لحلّية النوع المشتبه من اللحم في الشريعة.
ص: 364
والسرّ في ذلك أنّه ربّما يحصل العلم بالفردية أو الحكم الشرعي في المقامين ولا يترتّب على هذا العلم أحكام بعد الغاية وذلك ظاهر ، فلو حملنا الرواية على الأعمّ من الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فإن (1) حملنا المعرفة المعتبرة في الغاية على الأعمّ من معرفة الموضوع ومعرفة الحكم ، يلزم أن يكون معرفة الموضوع غاية لحلّية المشتبه الحكمي ومعرفة الحكم غاية لحلّية المشتبه الموضوعي وبطلانه ظاهر ، وإن حملناها على المعنيين استقلالا من غير ملاحظة الجامع بينهما ، يلزم استعمال اللفظ في أكثر من المعنى الواحد لا من حيث إنّ سبب المعرفة في الحكم هو الدليل الشرعي ، وفي الموضوع الأمارات الشرعية كالبيّنة على ما توهّمه (2) بعضهم بل للجهة (3) المذكورة ، وهل ذلك إلاّ مثل أن يقال : اغتسل للجمعة والجنابة مريدا في الأوّل الاستحباب ، وفي الثاني الوجوب مع عدم ما يدلّ على التوزيع بينهما ، فظهر أن لا وجه لحمل الرواية على الأعمّ ولو بالنظر إلى الوجه الثاني أيضا.
لا يقال : بعد عدم إمكان الجمع بينهما فليحمل الرواية على الشبهة الحكمية.
لأنّا نقول أوّلا : فليحملها على الشبهة الموضوعية.
وثانيا : أنّ رواية صدقة (4) الواردة في بيان الموضوع قطعا لاشتمال صدرها وذيلها على الموضوع كما يرشدك قوله عليه السلام فيها : « سأخبرك عن الجبن وغيره » قريبة عن هذا بل لا يوجد بينهما اختلاف إلاّ فيما لا مدخل له في ذلك ، والأخبار يكشف بعضها عن بعض ، فيصير قرينة على إرادة الموضوع منها.
وثالثا : إنّ صدر الرواية ينافي حملها على الحكمية فإنّ قوله : « يكون فيه حلال
ص: 365
وحرام » على تقدير إرادة الموضوع يصير بيانا لمورد الشبهة وما به قوامها وإن لم يكن احترازية كما زعمه السيّد المذكور بخلاف ما لو حملناها على الشبهة الحكمية إذ يلغو التقييد عن أصله لأنّ (1) قوام الشبهة في الحكمية ليس على أن يكون هناك شيء يكون فيه حلال وحرام فإنّها يتحقّق في غيرها أيضا بل وهو الغالب كما في شرب التتن وأمثاله ، فظهر أنّه لا وجه لحملها على الشبهة الحكمية فقط كما لا وجه لحملها على الأعمّ منهما.
نعم يمكن أن يوجّه بتوجيهين على وجه يشمل النوعين :
أحدهما : أن لا يكون اللام في « الحرام » المأخوذ في الغاية للعهد بل للجنس سواء كان متعلّق المعرفة هو الوصف ، أو الموصوف إلاّ أنّه كما ترى خلاف ظاهر اللام.
وثانيهما : أنّ الغاية المستفادة من كلمة « حتّى » مثلا قد تكون غاية للحكم كما في قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (2) فإنّ غاية الحلّ هو العلم بالحرمة ، وقد تكون غاية لإطلاق الحكم وعمومه ، فيكون بمنزلة الاستثناء من العامّ كما في قولنا (3) : أكرم العلماء حتّى تعلم الأصولي منهم فإنّه بمنزلة قولك : أكرم كلّ عالم إلاّ الأصولي منه ، والرواية من هذا القبيل ، فيستفاد منها حلّية كلّ شيء مجهول إلاّ الفرد المعلوم حرمته سواء كان موضوعا (4) ، ولا يلزم أن يكون العلم بحرمة الموضوع مؤثّرا في الحكم كما لا يخفى فإنّ التوزيع هنا يستفاد من المقام كما في قولهم : ركب القوم دوابّهم ، بخلاف ما لو فرضنا كون كلمة « حتّى » غاية لنفس الحلّ لا لإطلاقه.
وبالجملة ، فلا إشكال في شمول قولنا : « كلّ شيء حلال إلاّ أن تعلم الحرام منه » (5) للموضوع والحكم ومعرفة كلّ منهما بحسبه ، فينطبق (6) على الشبهة الحكمية بأقسامها من المحصورة كما إذا علمنا إجمالا بحرمة عنوان ولا نعلمها بالخصوص ، وغيرها كما في
ص: 366
الغيبة ممّا اشتمل على عنوان الحلال والحرام ، وما لا يشتمل عليهما كشرب التتن فإنّه بعد ما حكمنا في الشكّ في المكلّف [ به ] بالبراءة كما في المحصورة ، فعند الشكّ في التكليف بطريق أولى ، وعلى الشبهة الموضوعية. وهذا هو غاية توجيه الكلام في تقريب المرام من الرواية المذكورة ، وإنّما أطلنا الكلام فيها لأنّها مطرح لأنظار العلماء وأفكار الفضلاء ، وإلاّ فنحن في غنى من ذلك بعد ما عرفته من الأدلّة السالفة (1).
وقد يستدلّ على البراءة بوجوه أخر كلّها قاصرة عن إفادتها كالعمومات الدالّة على حصر المحرّمات في أشياء مخصوصة كقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (2) إلخ وكقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (3) ونحو ذلك فإنّ المقصود في المقام إثبات إباحة الأشياء والخلوّ من التكاليف فيها عند الشكّ كما عرفته في عنوان البحث فإنّه المراد بالأصل أيضا ، والأدلّة المذكورة إنّما نظرها إلى الواقع ولا ربط لها بما نحن بصددها أصلا على ما لا يخفى على الملاحظ في سياقها.
نعم ، هنا شيء يمكن الاستناد إليه بنوع من التقريب والعناية وهو قوله تعالى في مقام الردّ على اليهود : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (4) إلخ وجه العناية أنّ في تلقين اللّه نبيّه الكريم في الاحتجاج على اليهود بعدم الوجدان دون عدم الوجود إيماء إلى (5) أنّ عدم الوجدان يصير دليلا على عدم الوجود كما هو المقصود وإن كان عدم وجدان النبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يتخلّف عن عدم الوجود في الواقع إلاّ أنّ التعبير به ممّا يمكن استفادة ذلك منه.
وبعبارة أخرى : إنّ نفس النبيّ صلى اللّه عليه وآله حيث إنّه اللوح المحفوظ فعدم وجدانه شيئا وإن كان هو عين عدم وجود ذلك الشيء إلاّ أنّه مع ذلك فلا يخلو من الإشعار بأنّ
ص: 367
عدم الوجدان دليل عدم الوجود كما لا يخفى إلاّ أنّه بعد ذلك لا يصحّ التعويل عليها في إثبات البراءة.
أمّا أوّلا ، فلأنّ ما ذكر (1) إنّما يصلح نكتة للعدول إلى العبارة المذكورة ولا يزيد على إشعار كما اعترف به أيضا ، فلا يصحّ الاستناد إليها.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ الآية المذكورة إنّما نزلت في مقام الردّ على اليهود حيث حرّموا على أنفسهم من عندهم أشياء كثيرة كما يفصح عنه صدر الآية بدعة منهم (2) وتشريعا في دين اللّه من غير استنادهم في ذلك إلى ما يدلّهم عليه ، ولا شكّ أنّ عدم وجدان الدليل على التحريم يكفي في الحكم بحرمة تحريم شيء ، ولا خصوصية في ذلك لوجدان النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلا مدخل (3) لها في إثبات البراءة إذ القائل بالاحتياط لا يقول بحرمة الأشياء المشتبهة من غير دليل يدلّهم عليه في الواقع ، فلا يترك الفعل على أنّه من (4) الدين بل على احتمال أنّ الترك من الدين ولا بدعة فيه كما لا يخفى.
وما يمكن أن يحتجّ به الأخباري وجوه (5) كتابا وسنّة وعقلا أمّا الإجماع ، فلم ينعقد على الاحتياط ولم ينقله أحد ولا ادّعاه أحد منهم أيضا.
أمّا الأوّل ، فصنفان :
الأوّل : الآيات (6) الآمرة بالتقوى كقوله : ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (7) وقوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ ) (8) ونحوهما ممّا لا يعدّ ولا يحصى (9).
وجه الدلالة أنّ الاحتياط فيما يحتمل التحريم بالترك إنّما يعدّ تقى من اللّه ويجب الاتّقاء والاحتراز عن مناهيه والامتثال بأوامره ، فيجب الاحتياط وهو المطلوب.
ص: 368
الثاني : الآيات الآمرة بالوقوف عند عدم العلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ونحوه والتقريب ظاهر ، والناهية عن العمل بما وراء العلم.
وأمّا الثاني ، فصنفان أيضا :
الأوّل : أخبار الاحتياط كقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (2) وقوله : « أرى لك أن [ تنتظر حتّى تذهب الحمرة و ] تأخذ بالحائطة لدينك » (3) وقوله لكميل بن زياد : « أخوك دينك فاحتط لدينك [ ب- ] -ما شئت » (4).
والثاني : أخبار التوقّف وهي كثيرة جدّا يقرب من خمسين على ما جمعها بعض الأفاضل.
منها : قول الصادق عليه السلام في موثّقة حمزة بن طيّار : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى » (5).
ومنها : قول الكاظم عليه السلام في موثّقة سماعة : « ما لكم والقياس إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (6).
ومنها : حسنة هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد اللّه : ما حقّ اللّه على خلقه؟
ص: 369
فقال : « أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون » (1).
ومنها : ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة في الأخبار المتعارضة في حديث طويل - إلى أن قال - : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات ، نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ، ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » - إلى أن قال - : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال الإمام عليه السلام : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2) والأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة بل لا يبعد دعوى تواترها إجمالا.
وجه الدلالة في الكلّ على وجه الاشتراك أنّ ما لا نصّ فيه ولو من جهة الإجمال ممّا لا نعلم حكمه ، فهو من الشبهات ولا بدّ فيما لا نعلمه من الوقوف والكفّ وعدم الارتكاب أداء لحقّ اللّه تعالى وتخلّصا عن المهالك لأخبار المعصومين عن الوقوع فيها على تقدير عدم الاجتناب والارتكاب ، على أنّ العلم العادي يحصل بالوقوع في المحرّمات فيما لو ارتكب الشبهات وإن فرضنا عدم إخبار المعصوم بذلك أيضا.
وأمّا الثالث ، فيمكن أن يقرّر بوجهين :
أحدهما : ما مرّ مرارا من أنّ في ارتكاب تلك الموارد المشتبهة احتمال ضرر ، ويجب دفع الضرر ولو احتمالا ، فيجب الاجتناب عنها.
ص: 370
الثاني : أنّ الموارد المشتبهة من موارد الشكّ في المكلّف به ، ويجب الاحتياط بحكم العقل الصريح فيما إذا كان الشكّ في المكلّف به فيجب الاحتياط في الموارد الشبهة (1).
أمّا الكبرى ، فبعد صراحة حكم العقل فيها وفاقية مسلّمة بين الفريقين.
وأمّا الصغرى ، فبيانها يتوقّف على تمهيد فيقال : لا شكّ أنّ من ورد في الإسلام ابتداء يعلم بوجود تكاليف واجبة ومحرّمة بين الوقائع المشتبهة على وجه لا يجوز من نفسه إهمال تلك الموارد بأجمعها ، فلا بدّ له من الاحتياط فيها اتّفاقا من الأخبارية والأصولية ، فلو حصل له العلم بموارد جمّة بحيث يقرب من المحرّمات والواجبات المعلومة إجمالا ، فلا شكّ (2) في انقلاب الشبهة تكليفية صرفة ولا كلام فيها ، وإلاّ فإن قام مقام العلم دليل شرعي على وجه يكون طريقا إلى الواقع - بمعنى جعله مسقطا عن الواقع لا من حيث التسهيل ورفع العسر كما في بعض من الأدلّة الشرعية في بعض من تلك الموارد المشتبهة على وجه يحصل العلم بامتثال التكاليف المعلومة فيها - فلا كلام (3) أيضا ؛ لأنّ الوقائع المعلومة أو المدلول عليها لذلك الطريق معلوم تفصيلا ، والموارد الباقية تبقى (4) مشكوكة صرفة ، فلا بدّ من إجراء البراءة ، ولو لم يكن هناك دليل علمي بقسميه ، فالظنون المعمولة في مداليل الألفاظ وغيرها من الظنون المتعلّقة بسند الأخبار ودلالتها وغيرها في جميع الموارد المرخّص فيها العمل بالظنّ لا دليل على كونها حجّة شرعية على وجه يسقط عن الواقع في الموارد المشكوكة أو الموهومة بل غاية الأمر جواز العمل بها تسهيلا للأمر ، فيبقى (5) التكليف في الموارد المشتبهة في المشكوكات والموهومات باقيا وهو المطلوب.
وبعبارة أخرى إنّ جواز العمل بالظنون المعمولة في الأحكام الشرعية - سواء
ص: 371
كانت متعلّقة بموضوعاتها اللغوية أو بأنفسها كما عليه الفريقان في (1) الأولى وعلى الثانية المجتهدون سواء كانوا من القائلين بالظنون الخاصّة أو من القائلين بمطلق الظنّ على اختلاف مشاربهم فيها - ليس إلاّ من جهة رفع العسر اللازم على تقدير لزوم الاحتياط الكلّي كما بيّنّا في مباحث الظنّ ، ويبقى الوجوب الثابت في أوّل الأمر بعد رفع العذر بارتفاع العسر بحاله فإنّ الضرورة تتقدّر بقدرها ، ولزوم العسر على تقدير الاحتياط في جميع الموارد بعد رفعه لا يفضي بانقلاب الحكم الأوّلي الثابت بالعقل إذ لا مزيل له ، مثلا بعد إسقاط الشارع مراعاة الاحتياط في جميع الجهات الممكنة عند اشتباه القبلة وحكمه بعدم وجوب الصلاة على الدائرة مثلا في كلّ نقطة منها ليس لك أن تتوهّم بسقوط الاحتياط في الجهات الباقية أيضا ، فإنّ المقتضي للحكم بالاحتياط أيضا بحاله كما فيما لم يكن هناك شيء.
وبالجملة ، فالموارد المشكوكة أو الموهومة مثلا من موارد الشكّ في المكلّف نظرا إلى لزوم الاحتياط الكلّي في أوّل الأمر ، وإلى أنّ الظنون المعمول بها في مواردها إنّما تسهيل منه تعالى على العباد وليس بطريق جعلي شرعي ، وبعد ارتفاع العذر بارتفاع العسر لا بدّ من الاحتياط وهو المطلوب ، وهذا أقصى ما يتخيّل في توجيه قاعدة الاشتغال والاحتياط وجريانها في الموارد المشكوكة المشتبهة ، فتبصّر.
والجواب أمّا عن الأوّل ، فمن (2) آيات التقوى فبأنّ الأمر بالاتّقاء من اللّه لا يعقل أن يكون أمرا تشريعيا فإنّه كالإطاعة والعصيان بل الأمر فيه إرشادي لا يترتّب عليه إلاّ خواصّ الاتّقاء ، ولو سلّم ، فالأمر دائر بين أمور ثلاثة : من حمل الأمر فيه على الوجوب ، أو على الاستحباب ، أو على مطلق الرجحان ، والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث.
أمّا الأوّل ، فلأنّه وإن كان الأمر فيه حقيقة أو ظاهرا إلاّ أنّ الحمل عليه يوجب
ص: 372
تخصيصا كثيرا بل وتخصيص الأكثر ؛ فإنّ مراتب التقوى متفاوتة متكاثرة (1) لا يعلم لها حدّ ولا حصر ، ومن الضروري عدم وجوب جميع مراتبها بل لا يجب إلاّ في الواجبات و (2) المحرّمات ، فلو (3) حمل على الوجوب فلا مناص (4) من ارتكاب تلك التخصيصات المتكاثرة ، وهي مع كونها بنفسها شنيعة لا تتحمّل في كلمات من له أدنى مسكة ففي المقام ما يأبى عنها رأسا فإنّ سوق الآية - على ما هو ظاهر للمتدبّر فيها - ينافي التخصيص فإنّه يعدّ من الهزل قولك : اتّق اللّه إلاّ في مورد كذا وكذا ، وذلك ظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الاستحباب وإن كان أقرب للوجوب من استعمال الأمر في القدر المشترك لكثرة موارده إلاّ أنّه لا بدّ من تخصيص موارد وجوب التقوى ، فهو يستلزم مجازا وتخصيصا بخلاف ما لو حملنا على مطلق الراجح فإنّه مجاز واحد فقط من غير تخصيص ، والنظر في سياقها أيضا يعطي ذلك.
وأمّا عن آيات الوقوف عند عدم العلم وحرمة العمل بما وراء العلم ، فبالالتزام بمفادها ومنع مزاحمتها لما نحن بصدده ، فإنّ القول بالبراءة ليس عملا بغير العلم في مقام الاشتباه لقطع العقل بذلك.
مضافا إلى الأدلّة المذكورة فالحكم في مرحلة الظاهر معلوم لنا وإن أريد عدم العلم بنفس الحكم الواقعي ، فلا شكّ في أنّ المجتهدين فيه أيضا متوقّفون لعدم (5) العلم به ، وظنّي أنّ الاحتجاج بهذه الآيات في قبال الأصولي إنّما هو غفلة منهم (6) عن مرادهم ولذلك ترى المحقّقين منهم كصاحب الحدائق إنّما عدل منها إلى الآيات السابقة.
وأمّا الجواب عن الثاني ، فأمّا عن أخبار الاحتياط ، فقد أجاب المحقّق في المعارج (7)
ص: 373
عن بعضها بأنّ إلزام المكلّف بالأثقل أيضا مظنّة ريبة بعد منعه من التمسّك بالأخبار الآحاد في المسألة الأصولية إلاّ أنّ ما أفاده يقصر عن الجواب حقيقة إذ لا ريبة في الاحتياط قطعا.
وأمّا كونه خبرا واحدا فغير مضرّ بعد تسليم كون المسألة أصولية كما لا يخفى.
وأمّا ما ينظره بعض الأجلّة (1) في كلام المحقّق من أنّ مفاد الرواية ترك ما فيه ريبة إلى ما ليس فيه ريب لا مطلقا ، فمقلوب عليه كما لا يخفى على المتدبّر.
فالأولى في الجواب عنها (2) أن يقال : إنّ بعد تسليم السند في تلك الروايات - إذ لم نقف عليها في الكتب الأربعة (3) وروى الشهيد بعضا منها (4) من غير إسناد إلى الإمام - لا دلالة فيها على وجوب الاحتياط للزوم التخصيص الأكثر الآبي عن مطلقه سوق الروايات لو حمل على الوجوب ، ولزوم المجاز أيضا لو حمل على الاستحباب ، فتعيّن
ص: 374
الحمل على مطلق الرجحان كما يشاهد من سياقه أيضا ، ويشعرك (1) به أيضا قوله : « ليس بناكب عن (2) الصراط من سلك سبيل الاحتياط » (3). وهذا القدر أمر معلوم بديهي لا مجال للكلام فيه ، ولو سلّم دلالتها بعد سلامة سندها ، فهي معارضة ببعض أدلّة البراءة فيتعارضان ، ولا مجال للتخيير بينهما فتساقطان ، ولا بدّ من الرجوع إلى دليل ثالث.
وتوضيح ذلك : أنّ أدلّة البراءة على أقسام :
منها : العقل والإجماع المحصّل الحاكمين بعدم التكليف عند عدم البيان ، ولا خفاء في (4) أنّه لا قبح فيه على تقدير البيان ولو بالاحتياط ، فتلك الأخبار ترتفع موضوع (5) حكم العقل والإجماع.
ومنها : الأخبار المطابقة لحكم العقل والمساوقة لمعقد (6) الإجماع كقوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (7) ، ولا ريب في ورود أخبار الاحتياط عليها لأنّها مفيدة للعلم في مورد الشبهة.
ومنها : ما هو أعمّ من ذلك أيضا كقوله : « أيّما امرئ ركب بجهالة أمرا فليس عليه شيء » (8) وقوله : « لا » في جواب هل على من لم يعرف شيئا شيء (9)؟ فإنّ موضوع
ص: 375
مسألة البراءة على ما عرفته في المكلّف الملتفت ، وعدم العلم والجهل أعمّ من الالتفات وعدمه والجهل المركّب ، ولا ريب في ورود أدلّة الاحتياط عليها أيضا.
ومنها : ما يدلّ بظاهره على إباحة الأشياء عند الشكّ فيها كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) وقوله : « ما لا يعلمون » بناء على التوجيه المذكور في وجه التقريب في الاستدلال به والإجماعات المنقولة عن الصدوق والمحقّق والعلاّمة (2) فإنّها أيضا دالّة على حكم الأشياء المشتبهة بالبراءة ، فتعارض الأخبار الآمرة بالاحتياط عند الشكّ ، ولو لم نقل برجحان أدلّة البراءة - لاعتضادها بمرجّحات كثيرة لقوّة سندها وصراحة دلالتها وموافقتها للكتاب (3) والاعتبار بملاحظة الشريعة السمحة - فلا أقلّ من التساوي ، ومعه لا بدّ من الحكم بالتساقط ؛ إذ التخيير إنّما هو فيما لم يكن هناك ما يشبه من إجمال الدليل والمقام منه لاحتمال ارتفاع موضوع كلّ منهما بالآخر بخلاف سائر الأخبار المتعارضة ، ومع التساقط لا مناص من الرجوع إلى دليل آخر وهو في المقام يقضي بالبراءة إذ بعد فرض الإجمال لا دليل على البيان ، وفي موضوع (4) عدم البيان يستقلّ العقل بالبراءة كما هو مفاد الإجماع أيضا ، على أنّه يمكن القول بأخصّية أدلّة البراءة فيخصّص عموم الاحتياط ، فتدبّر.
وأمّا عن أخبار التوقّف ، فيقع الكلام في الجواب عنها في مقامين : فتارة في غير خبر التثليث ، وأخرى فيه.
ففي الأوّل نقول : لا دلالة فيها على لزوم التوقّف في مقام الشبهة بعد ظهور جملة منها في ردّ العامل بالقياس كما هو ظاهر من مساقها ، ولا ينبغي الاستناد إليها فيما لو حمل على الوجوب لورود التخصيصات المتكاثرة كما عرفت نظيره في أخبار الاحتياط.
ص: 376
نعم ، بعد تسليم الدلالة فيها لا يصحّ دعوى التعارض بينها وبين أخبار البراءة لكونها كثيرة جدّا فتصير أقوى سندا منها إلاّ أنّ دون إثبات (1) إفادتها الوجوب على ما هو الإنصاف خرط القتاد.
وفي المقام الثاني نقول : لا بأس بتجديد المقال في تقريب الاستدلال بالحديث المذكور على وجه يندفع به بعض الشكوك الواردة فيه ليتّضح الفرق بين هذه الرواية وغيرها أيضا ، فنقول : لا خفاء في ورودها في تلو المرجّحات في الأخبار المتعارضة عند قول الراوي للإمام عليه السلام : كلاهما عدلان مرضيّان فأمر الإمام (2) بأخذ المجمع عليه المشهور الذي لا سترة عليه يعرف روايته كلّ أحد معلّلا في ذلك بعدم الريب فيه وترك الشاذّ النادر.
وبعد ما تقرّر - من أنّ التعليل بعدم أمر وجودي دليل على أنّ وجود ذلك الشيء في محلّه مانع عن الحكم المذكور - يظهر أنّ العلّة في ترك الشاذّ ليس إلاّ وجود الريب لا العلم ببطلانه كما زعمه بعض الأجلّة (3) تبعا للمحقّق القمّي (4)(5) نظرا إلى قرينة المقابلة ، وأنّ الحكم المخالف للإجماع قطعي البطلان لأنّ المقابلة تقضي بما قلنا ، والإجماع في المقام بمعنى المشهور بالمعنى اللغوي في قولهم : سيف شاهر ، بحيث يراه كلّ أحد ، فهو بنفسه لا يقتضي بطلان خلافه كما في الإجماع المصطلح في الأحكام الشرعية.
على أنّ تثليث الإمام عليه السلام الأقسام المذكورة أدلّ دليل على أنّ المراد منه ومن التقسيم بيان حكم المشتبه تمثيلا للمقام ، ولو لا أنّ الرواية التي لا شهرة فيها من المشتبه ، لما صحّ ذلك فإنّ بيان القسمين المعلومين توطئة لبيان المشتبه وقضيّة التمثيل في المقام كما عرفت ذلك.
ص: 377
مضافا إلى أنّ القسمة حينئذ (1) ينبغي أن لا تكون ثلاثية بل ثنائية إذ احتمال كون ما لا يعلم أنّه من المجمع عليه أو من خلافه مشتبها كما احتمله بعض الأجلّة ممّا لا يعقل بعد ما عرفت معنى الإجماع والشهرة في المقام كما لا يخفى ، فالروايات على أقسام ثلاثة : ما يعلم بصحّته وهو المجمع عليه ، وما يعلم بفساده وهو ما ظهر كذبه ، وما لا يعلم بصدقه وصحّته وفساده وكذبه وهو الشاذّ النادر الذي أمر الإمام عليه السلام بتركه.
لا يقال : فبعد ما أمر الإمام عليه السلام بتركه (2) فهو من باب معلوم الغيّ فيرجع القسمة ثنائية.
لأنّا نقول : إنّ بالأمر صار معلوم الغيّ وظاهر البطلان والكلام مع قطع النظر عن الأمر بالترك ، وبعد ما ظهر أنّ الشاذّ الذي يجب تركه والأخذ بالمجمع عليه في قباله هو ما فيه الريب لا ما علم ببطلانه ، فظهر (3) أنّ كلّ ما فيه ريب كشرب التتن يجب تركه لعموم التعليل.
فإن قلت : الكلام في المقام إنّما هو في الشبهات الحكمية ، ولزوم طرح الأخبار الشاذّة لا دخل له فيما نحن بصدده ، لكونها من الشبهات الموضوعية ، إذ مرجع الشكّ إلى أنّ الصادر من الإمام أيّ من الخبرين المتعارضين وهي شبهة موضوعية ولا ينبغي قياس ما نحن فيه بما لا ربط له به.
قلت : نعم ، ولكنّ الشكّ في الصدور حقيقة يلازم الشكّ في نفس الحكم الشرعي المشتمل عليه الحديثان المتعارضان كما يظهر من ملاحظة قوله عليه السلام : « وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه ورسوله » فإنّ الشكّ في الشبهة الموضوعية إنّما يرتفع بارتفاع أسبابه من الأمور الخارجية ولا يناط إلى بيان الشارع حكمه (4) بخلاف الشبهات الحكمية فإنّ معيار التمييز (5) بينهما إلى أنّ الرافع للشكّ في الموضوع هو الرجوع إلى الأمور الخارجية ،
ص: 378
وفي الحكم إلى الأدلّة الشرعية ، فالردّ إلى اللّه في بيان حكم المشتبه يدلّ على أنّ المشكوك هو الحكم لا الغير.
فإن قلت : لا نسلّم وجوب ردّ حكم المشتبه إلى اللّه وإلى رسوله بل غاية ما هناك هو أولويته واستحبابه لعدم ما يدلّ عليه صراحة.
قلت : قد عرفت أنّ تثليث الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وإلى ما هو بيّن الغيّ وإلى أمر مشكل إنّما هو في مقام الأخذ بالمرجّحات في الأخبار المتعارضة ، ولا ريب أنّ العمل بوجوه التراجيح وترك ما لا يشتمل عليها واجب ، فحمل الأمر المستفاد من « يردّ » و « يترك » على غير الوجوب ممّا ينافي مورد الرواية ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ استشهاد الإمام عليه السلام بكلام الرسول صلى اللّه عليه وآله أيضا ليس إلاّ من الجهة التي تقرب إلى الاستدلال بكلامه صلى اللّه عليه وآله ، فلا بدّ من حمله أيضا على الوجوب كما هو ظاهره لئلاّ يخالف مورد الكلام فوجوه الدلالة في الرواية ثلاثة :
أحدها : لزوم طرح كلّ ما فيه ريب المستفاد من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب ».
وثانيها : تثليث الإمام عليه السلام الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وبيّن الغيّ ، وإلى ما هو مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله.
وثالثها : كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّ ملاحظة ورود التثليث والاستشهاد في هذا المقام الخاصّ يقتضي حمل الأمر المستفاد فيهما (1) على الوجوب وهو المطلوب.
فإن قلت : الرواية ليست ممّا يصحّ الاستناد إليها باعتبار جهالة حال عمر بن حنظلة واشتمال السند على داود بن حصين.
قلنا : نعم ، ولكنّها مقبولة عند الأصحاب مع اشتمال السند على صفوان الذي أجمع الكلّ على تصحيح ما يصحّ عنه ، وأمّا داود ، فقد وثّقه النجاشي (2).
فإن قلت : إنّ معنى الردّ إلى اللّه ورسوله هو الكفّ عنه وبعد لزوم الأخذ بالرواية
ص: 379
المشهورة لا يتحقّق هناك إلاّ طرح الشاذّ وهو ليس من الكفّ في شيء.
قلت : الكفّ إنّما هو في مقام الصدور وعدمه وبالنسبة إلى الحكم المشتمل عليه الرواية الشاذّة ، والطرح في مقام العمل ليس بضائر فيه فلا منافاة.
وإذ قد تقرّر هذا (1) فاعلم لا بدّ لنا من بيان عدم دلالة الحديث على الاحتياط اللازم بشيء من الوجوه الثلاثة :
أمّا (2) الكلام في الاستشهاد ، فنقول أوّلا : معنى قوله : « وشبهات بين ذلك » يحتمل وجهين :
أحدهما : البيّنة الخارجية كأن يكون الشيء في الخارج بين حلال وحرام بمعنى اشتماله على كلا النوعين.
وثانيهما : البيّنة الذهنية العقلية (3) على وجه يكون الشيء في الذهن وعند العقل ممّا يحتمل (4) أن يكون حلالا أو حراما محكوما عليه بأحد العنوانين على وجه الترديد.
ويمكن تعميم الثاني للأوّل أيضا ، فلا وجه لإرادة الأوّل لاستلزامه أن لا يكون القسمة النبوية حاصرة (5) لخروج الثاني منه كما لا يخفى.
وقوله : « فمن أخذ الشبهات ارتكب المحرّمات » يحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون الملازمة بين الأخذ بالشبهات وارتكاب المحرّمات واقعية من حيث علمه صلى اللّه عليه وآله بالواقع واطّلاعه على السرائر.
وثانيها : أن يكون الملازمة عادية بمعنى أنّ الآخذ بها يعلم علما عاديا بارتكابه بالمحرّمات من حيث كثرة المشتبهات وحصول العلم الإجمالي بحرمة جملة منها في الواقع فارتكاب الشبهة لا يكاد ينفكّ عن ارتكاب المحرّم في العادة.
وثالثها : أن يكون المراد بها الملازمة المجازية على نحو قوله : من قتل قتيلا من حيث
ص: 380
مشارفة الآخذ بالشبهة إلى الوقوع في المحرّم.
ورابعها : أن يكون المراد بالملازمة على حدّ قولهم من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
والفرق بين الأخيرين أنّ في الأوّل منهما مخالفة الوقوع في المحرّمات المجهولة ، وفي الثاني مخافة الوقوع في المحرّمات المعلومة من حيث إنّ ارتكاب الشبهة يورث خبثا في الباطن ورذالة في النفس على وجه لا يبالي (1) ارتكاب المحرّم (2) المعلوم.
لا خفاء في أنّ في حمل الرواية على المعنيين الأخيرين ليس دلالة على مطلوب الخصم بوجه إذ أقصى ما يتوهّم هناك هو رجحان الترك في الشبهات كما في الموضوعات مثل أكل أطعمة الظلاّم وأخذ أموال العشّار فإنّه لإيراثه قساوة في القلب على وجه يقع صاحبها في المحرّم الآخر أو في الحرام المجهول فيها لا حرمة فيها كما لا يخفى.
وأمّا المعنى الأوّل ، فلا يصحّ حمل الحديث عليه لاستلزامه الكذب لاحتمال اختلاف الشبهات بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ شبهة لواحد يكون بيّنة لآخر ، فيحتمل أن يكون هناك شخص له وقائع مشتبهة كلّها حلال في الواقع ، فلا ملازمة في الواقع بين الأخذ بها وارتكابها.
نعم ، لو كانت الموارد المشتبهة متّحدة بالنسبة إلى الكلّ في كلّ موضع ، صحّ دعوى ذلك كما لا يخفى ، فتعيّن (3) أن يكون المراد بالملازمة هي الملازمة العاديّة من حيث ارتكاب الشبهة ، والأخذ بها يوجب العلم العادي بارتكاب المحرّمات المجهولة فيها من جهة (4) كثرة الموارد المشتبهة ، وحينئذ فلا بدّ إمّا من القول بارتكاب الشبهة في الأحكام والموضوعات يوجب العلم أو بانضمام موارد الظنون أو باعتبار الموارد التي لا فحص
ص: 381
فيها عن الدليل.
والأوّلان فاسدان ، أمّا الأوّل ، فباتّفاق من الخصم ، وأمّا الثاني ، فلما دلّ على حجّيتها ، فتعيّن الثالث ونحن لا ننكر ذلك فإنّ من شروط العمل بالأصل في موارده الفحص عن الدليل كما سيجيء إن شاء اللّه ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ الاستشهاد بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله ليس إلاّ تقريبا وبيانا للمناسبة لا تحقيقا كما هو مبنى الاستدلال به.
وأمّا الكلام في التثليث ، فنقول : لا خفاء في أنّ الرواية الشاذّة التي عارضتها رواية مشهورة ليست من الأمور المشكلة التي يجب ردّ علمها إلى اللّه ورسوله ، فإنّ الظاهر من الأمر المشكل ما كان كذلك في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضته بشيء آخر كما يشاهد ذلك في سائر وجوه التراجيح أيضا فإنّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ممّا (1) هي (2) ثابتة للرواية (3) في حدّ نفسها وإن لم يكن هناك معارض لها ، والرواية الشاذّة ليست في نفسها كذلك لوجوب الأخذ بها فيما لم يكن معارضا بالمشهور وفيما لو كان الراوي فيها أعدل من الراوي في الرواية المشهورة كما هو ظاهر الترتيب المستفاد من ظاهر الخبر كما لا يخفى ، ولهذا قد نبّهنا عليه في بعض المباحث من أنّ الأخذ بظاهر الخبر ربّما يخالف الإجماع.
وتوضيح الحال : أنّ الرواية هذه لها حالات ثلاثة :
أحدها : قبل وجود المعارض.
وثانيها : بعد وجود المعارض ، فتارة بعد العلم بوجوب طرحه بواسطة هذا الخبر ، وأخرى قبل العلم بذلك ، لا شكّ في عدم إشكالها قبل التعارض (4) للزوم الأخذ بها والعمل بموجبها ، كما لا شكّ في عدم إشكالها في الحالة الأخيرة بعد العلم بلزوم طرحها فإنّها من هذه الحيثية بيّن غيّها ، فلا إشكال ، وكذلك لا إشكال في الحالة الثانية
ص: 382
قبل العلم بلزوم الطرح ، وإلاّ لكان المشهور أيضا من الأمر المشكل مع أنّه لا يتوهّمه أحد ، فظهر (1) أنّ الرواية الشاذّة ليست من الأمر المشكل في شيء.
فإن قلت : إنّ وجود الريب في الرواية لا يبتني على المعارضة كسائر وجوه التراجيح بل وفيها الريب ولو قطع النظر عنها ، وهذا موهن وعدمه مرجّح للخبر المشهور ، ولو سلّم فجملة من المرجّحات كالأقوائية والأظهرية ونحوهما (2) ممّا لا يتعقّل لا (3) مضافا إلى الغير ، فلا نسلّم كون المرجّح للرواية ثابتا في نفس الرواية مع قطع النظر عن التعارض.
قلت : ليس وجود الريب مطلقا موهنا ، وإلاّ لم يصحّ التعويل على المشهور أيضا كما عرفت.
وأمّا الأقوائية والأظهرية ، فالمرجّح في الحقيقة هي المرتبة الخاصّة من الظهور والقوّة الثابتة في نفس الأمر إلاّ أنّ إطلاق اللفظ عليه على صيغة اسم التفضيل لا يصحّ إلاّ بعد ملاحظة (4) تلك المرتبة مضافا إلى غيرها أيضا كما لا يخفى.
وبالجملة ، فكون الرواية من الأمر المشكل أمر مشكل بل (5) بيّن البطلان والغيّ ، فلا مناص من حمل التثليث كالاستشهاد على مجرّد التقريب وبيان المناسبة ، وإلاّ فكيف يتصوّر انطباق الأمور الثلاثة على الروايات تحقيقا ، فظهر أنّه لا فرق بين الروايات الآمرة بالتوقّف في غير خبر التثليث ، وبين هذه الفقرة من هذه الرواية ، فنقول في الجواب :
أمّا أوّلا : إنّ بعد إعمال البراءة في الأمر المشتبه لا إشكال كما أنّه لا إشكال في الموضوعات بعد جريان البراءة فيها على ما هو المتّفق عليه بين الأصولية والأخبارية ، فبالجملة فكما أنّ أدلّة الأصول استصحابا وبراءة واردة على أدلّة القرعة
ص: 383
مع أنّها لكلّ أمر مشكل ، والموضوعات قبل إعمال الأصول فيها من الأمر المشكل ، ولا يلتزم أحد بإعمال القرعة فيها فكذلك لا ضير في القول بورود أدلّة البراءة على مثل هذه الأخبار وارتفاع الإشكال بها كما لا يخفى.
وأمّا ثانيا : فبأنّا لو سلّمنا عدم الورود ، فأخبار البراءة أخصّ مطلقا من وجوه :
أحدها : شمول أدلّة الاحتياط للشكّ في التكليف والمكلّف به واختصاصها بالأوّل.
وثانيها : شمولها لجميع الأحكام واختصاصها بالوجوب والحرمة.
وثالثها : ورود البراءة في مقام العذر والاحتياط أعمّ.
وأمّا الجواب عن الثالث ، فأمّا عن تقريره الأوّل ، فبأنّ المراد بالضرر إن كان الأخروي منه فبالبراءة ينتفي صغراه ، وإن كان المراد به الضرر الدنيوي ممّا يرجع إلى قساوة القلب والشقاوة النفسانية ، فقد مرّ أنّ المرجع فيها إلى الشبهة الموضوعية إذ المفروض معلومية حرمة الشيء المشتمل على الضرر ، والكلام إنّما هو في أنّ الشيء الفلاني هل يندرج فيه أو لا؟ وسيجيء الكلام في محلّه من أنّ الشبهة الموضوعية ممّا لا يجب الاجتناب عنه بالاتّفاق ، غاية الأمر أنّ الدليل العقلي لا ينهض فيها ونحن لا نضايق من ذلك كما قرّرنا في أصالة الإباحة من أنّ الأصل العقلي الأوّلي الحظر ، ولا منافاة لحكم الشارع بخلافه لاحتمال أن يتداركه بترياق ونحوه كما لا يخفى.
وأمّا عن تقريره الثاني ، فبوجوه : أمّا أوّلا : فبالنقض بالشبهة الوجوبية فإنّ قضية ما قرّره - من لزوم الاحتياط بعد إعمال الظنون المعمولة في مواردها لا من حيث إنّها طريق إلى الواقع بل من حيث رفع العسر وتسهيل الأمر على العباد - عدم الفرق بين الموارد فإنّها جهة واحدة إن صحّت ، صحّت في الكلّ مع ما عرفت من أنّ الأخباري أيضا لا يقول بالاحتياط فيها.
وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيان ذلك أنّ محصّل ما ذكر في تقريب الاستدلال هو أنّ الظنّ قد يكون طريقا إلى الواقع وقد يكون العمل بها تسهيلا للأمر ، وهما في طرفي
ص: 384
التعاكس فإنّه على الأوّل إنّما يحتاج إليها لإثبات التكاليف ، وأمّا في طرف نفي التكليف ، فلا يحتاج إليها فإنّ الأصل يكفي في رفع التكليف ، وعلى الثاني فحيث إنّ الحكم من جهة وجوب الاحتياط ففي مقام إثبات التكليف لا حاجة إليها ، وإنّما الحاجة إليها من جهة نفي التكليف تسهيلا للأمر ، ولا نسلّم جواز العمل بالظنّ حتّى في الألفاظ في تشخيص مداليلها إلاّ على الوجه (1) الثاني.
وعلى هذا فنقول : إنّ الأدلّة التي تدلّ على حجّية الظنون إنّما تدلّ على كونها طريقا للواقع على وجه يسقط عنه ، أمّا الظنون الدلالية ، فلأنّ المدرك فيها بناء العقلاء وهم يكتفون عن الواقع بالظنون الدلالية فيما لو أحرزوا الواقع بها ، مثلا لو أمر المولى بإتيان شيء فيتوقّف استخراج مراد المولى على إعمال الظنون الدلالية ، فلا شكّ في اكتفائهم بهذه (2) الظنون عن الواقع ولا ينافي ذلك اعتبار الظنّ في الدلالات من جهة التسهيل ورفع العسر فإنّ ذلك حكمة في الحجّية ، وعلّة لجعله طريقا كما مرّ في محلّه.
وأمّا الأخبار الآحاد فالأدلّة (3) الناهضة على حجّيتها إنّما تفيد كونها طريقا إلى الواقع على ما مرّ في محلّه.
نعم ، يشكل الأمر على القائل بحجّية الظنون المطلقة فإنّ مبنى حجّية الظنّ المطلق على ما عرفت هو الاحتياط الكلّي ولزوم العسر على تقديره وذلك كلّه ظاهر كما لا يخفى.
وأمّا ثالثا ، فلأنّ الإتيان بالموارد المظنونة - ولو لم يكن من جهة الطريقية - فيكفي أيضا في رفع العلم الإجمالي.
وتوضيح ذلك : أنّا لو علمنا إجمالا بوجود محرّمات في جملة مشتبهات كثيرة تقرب تلك المحرّمات من مائة مثلا فحصل لنا الظنّ بحرمة جملة من تلك المشتبهات على وجه
ص: 385
يحصل العلم بإحراز المحرّمات المجهولة في ضمن تلك الموارد المظنونة ، فلا شكّ في كفاية ذلك عن الواقع ولو لم يكن على وجه الطريقية ، وهذا نظير ما أوردناه في بعض مباحث العامّ والخاصّ - من أنّ لزوم الفحص عن المخصّص إنّما يكون مستندا إلى العلم الإجمالي بوجود مخصّصات كثيرة في العمومات الواردة في الشريعة ، ومع العلم لو قلنا بإجمال العمومات ، فلا يثمر الفحص إذ بالفحص لا يرتفع الإجمال ، ولو لم نقل بإجمالها (1) ، فلا يجب الفحص عن أصله - ثمّ أجبنا عن ذلك بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود المخصّص في تلك الأمارات (2) المحتملة للتخصيص فقط ، وبعد الفحص يرتفع ذلك العلم فيبقى العامّ بحاله ظاهر الدلالة من غير إجمال.
وبالجملة ، فنحن نمنع العلم الإجمالي في أكثر ممّا أحرزناه في الموارد المظنونة ولو لم يكن طريقا بل جوّز العمل بها تسهيلا ، فيقلب الشكّ فيما يزيد عليها شكّا بدويا وهو محلّ البراءة فإنّ ملاك الأمر ومناطه في رفع العلم الإجمالي ولهذا لو كان الظنّ طريقا ولم يصل حدّا يرتفع فيه العلم الإجمالي ، فلا مناص من الاحتياط فيما بقي أيضا.
فإن قلت : لو تلف بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، فلا يكفي في رفع الاحتياط فيما بقي منها بل لا بدّ من الاحتياط وكذا في المقام.
قلت : فرق ظاهر بين المقامين ، فإنّ الظنّ إنّما يتعلّق بالواقع دون التلف ، فهو يكفي في رفع العلم الإجمالي دونه.
وأمّا رابعا فيما سيجيء تفصيله في بعض المباحث الآتية من أنّ الموارد المشتبهة كما في الشبهة المحصورة لو طرأت فيها شبهة أخرى (3) ، وهذا هو تمام الكلام في الجواب عن احتجاج الأخباريين في المقام.
نعم ، بقي في المقام شيئان لا بأس بالتنبيه عليهما :
ص: 386
الأوّل : ما نسب (1) إلى المحقّق من التفصيل في موارد البراءة بين ما يعمّ البلوى به ، فقال بالبراءة وبين غيره فلم يعتبرها.
وتحقيق ذلك يتوقّف على إيراد عبارته في المقام ليندفع الأوهام ، فنقول : قد صرّح في كتابه في (2) الأصول بالبراءة كما هو مذهب المجتهدين من غير تفصيل فيها ، وقال في مقدّمات المعتبر بعد تثليثه لأقسام الاستصحاب ، وجعل الأوّل منها استصحاب حال العقل وفسّرها بالبراءة الأصلية :
« الثاني أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به - ثمّ قال - : أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » (3) انتهى كلامه رفع مقامه.
ولا يخفى على من أمعن النظر في كلامه أنّه ليس في صدد التفصيل في أصالة البراءة ولا في أصل آخر بل صريح كلامه إنّما هو حجّيتها مطلقا ، وكان من نسب إليه ذلك إنّما توهّم من قوله : « ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » زاعما أنّ مفاد البراءة والإباحة واحد ، وليس كذلك بل البراءة - على ما تقدّم - لا تزيد على حكم عدمي يعبّر عنه بخلوّ الذمّة وعدم الاشتغال من غير أن يكون مفادها الإباحة (4) ، ولذلك قد يعبّر عنها في لسانهم بأصالة النفي.
وبالجملة ، فالمحقّق إنّما هو في بيان مورد القاعدة المعمولة عندهم من أنّ عدم الدليل دليل العدم ولا يفصّل (5) فيها أيضا بيان ذلك أنّ من المعلوم ضرورة عدم الملازمة بين وجود الشيء والعلم به فربّما يكون موجودا ولا نعلمه ، فقولهم : عدم الدليل دليل على العدم. لو كان بواسطة ما قد يتخيّل من أنّ النافي لا يحتاج في دعواه إلى الدليل ، فذلك
ص: 387
ظاهر البطلان حيث قلنا : إنّ المحقّقين على عدم الفرق بين دعوى وجود شيء (1) وبين عدمه ، فكما أنّ القضية الموجبة لا بدّ في إثباتها إلى الدليل ، فكذلك القضية السالبة ضرورة عدم تعقّل الفرق بينهما ولو كان بواسطة أنّ مرجع الاستدلال إلى الحكم بوجود المعلول أو العلّة بعد العلم بوجود الآخر ، فلو لم يكن الشيء له آثار لازمة (2) لذاته أو علّة هو (3) من لوازمها ، فلا وجود لذلك الشيء لأنّ الموجود الخارجي لا ينفكّ عن الآثار المترتّبة عليه في الواقع وعن وجود العلّة كما لا يخفى ، فهذا حقّ لا محيص عنه إلاّ أنّ القضية المذكورة كما يظهر في موارد إطلاقاتهم لا دخل لها في ذلك فإنّ ملخّص ذلك أنّ عدم الدليل على وجود شيء واقعا دليل على عدمه في الواقع ، والمقصود من القضية هذه (4) هو القول بالعدم عند عدم وجدان الدليل لا عند عدم الدليل واقعا ، وعلى هذا فلو كان بين وجود الشيء والعلم به ملازمة عقلية أو شرعية أو عادية ، يصحّ الاستناد إليها ولو لم يكن بين وجود الشيء والعلم به ملازمة لا وجه للاستناد إليها مثلا التكليف الفعلي المنجّز وجوده يلازم وجوده وجود الدليل عليه لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، فعدم الدليل على التكليف الفعلي دليل على عدم التكليف للملازمة الواقعية بينهما ، وعدم الدليل على نبوّة مدّعي النبوّة ربّما يعدّ دليلا على عدم نبوّته عادة للملازمة (5) العادية وعدم الدليل على وجوب الصلاة وجوبا واقعيا مع عموم البلوى مثلا بها دليل على عدم وجوبها في الواقع ، غاية الأمر أنّ الحكم بالعدم الواقعي مظنون.
وبالجملة ، فكلّما كان وجود شيء ملازما للعلم بوجوده لزوما عقليا كتنجّز التكليف أو عاديا قطعيا كالنبوّة أو ظنّيا فعدم ما يفيد العلم دليل على عدم ذلك
ص: 388
الشيء على حسب الملازمة الثابتة بينهما كما لا يخفى.
فظهر أنّ عدم الدليل في موارده دليل واقعي لا ينبغي أن يعدّ من الأدلّة الظاهرية كما ظهر أنّ المحقّق ليس بصدد التفصيل في هذه القاعدة ولا قاعدة البراءة.
وأمّا تفريع الحكم بالإباحة والحظر على ما ذكره (1) على ما هو المنشأ في هذا الاستناد (2) إليه ممّا لا دليل فيه عليه بعد ما عرفت من عدم التفصيل فيها أيضا ، على أنّ الإباحة لا دخل لها بالبراءة فإنّ الأولى حكم جعلي إنشائي بخلاف الثانية فإنّ مفادها لا يزيد على عدم الحرج ورفع التكليف وخلوّ الذمّة وذلك كلّه ظاهر لا سترة عليه.
الثاني : أنّ بعد ما عرفت من حجّية البراءة وجريانها في الشبهات الحكمية التحريمية فلا بدّ أن تعلم أنّ حجّية البراءة إنّما هو في مقام لا دليل على تلك الواقعة إلاّ البراءة ولو كان ذلك الدليل هو الاستصحاب ، أو أصل آخر أخصّ منها كما وقع ذلك في موارد كالدماء والفروج ، ومنها ما نبّه عليه الشهيد في محكيّ الذكرى (3) من أنّ الأصل في اللحوم الحرمة نظرا إلى أصالة عدم التذكية سواء كان الشكّ في قابلية المحلّ لها ، أو شكّ في اشتراط شيء كالتسمية ونحوها فيها بخلاف ما إذا علمنا بقابلية المحلّ ، وأحرزنا الشرائط والأجزاء ، وشككنا في اندراج اللحم الخاصّ في عنوانها فإنّ الأصل فيها الحرمة قطعا لأصالة عدم التذكية في الموضوع وسيجيء ، والأصل في ذلك أنّ التذكية أمر توقيفي جعلي منوط بحصول الترخيص من الشارع ، وكلّما شكّ في مثل ذلك فالأصل العدم فإنّ الحلّ في الأدلّة الشرعية كقوله تعالى بعد عدّ المحرّمات : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (4) وفي الخبر « حتّى علمت أنّه مذكّى » (5) من آثار التذكية على وجه هو الشرط
ص: 389
فيه لا أنّ الميتة مانعة (1) عنه.
فإن قلت : إنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت (2) كون اللحم ميتة ومع ذلك لا يفيد وعلى تقديره لا تعويل عليه لأنّه من الأصول المثبتة.
قلت : قد قلنا إنّ الحلّ والحرمة على ما هو المستفاد من عنوان الأدلّة ممّا يترتّبان على التذكية وعدمها ، فلا يكون الأصل مثبتا ، ولو سلّم فالمذكّى والميتة ليسا من الأمور الوجودية التي بينها تضادّ كالفسق والعدالة بل أحدهما الملكة ، وثانيهما العدم ، فأصالة عدم الملكة عين إحراز العدم ، فمجرى الأصل وما أضيف إليه في المقام هو العدم فلا يكون من الأصول المثبتة وذلك مثل ما ورد في قوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (3) بعد تحريم النكاح في عناوين خاصّة كالأمّ ونحوها فإنّ أصالة عدم تلك العناوين عين ما وراء تلك العناوين فالأجنبية وما يضادّها ليسا من المتضادّين (4) كما لا يخفى.
ثمّ إنّ مبنى القول هذا على أن لا يكون هناك إطلاق وارد ورود الاجتهادي على الأصل هذا كما في قوله : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (5) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (6) فإنّ النقل أمر توقيفي مبنيّ على ترخيص الشارع ولكن لمّا كان ما دلّ على سببية البيع للنقل مطلقا ، جاز التمسّك بإطلاقه في كلّ مورد يشكّ في سببيته وإن كان المسبّب توقيفيا.
فإن قلت : التذكية أمر عرفي ولا يدّعي أحد ثبوت الحقيقة الشرعية فيها فكلّ ما صدق التذكية فيه لا بدّ من الأخذ بالإطلاق والحكم بالحلّية.
قلت : لا منافاة بين كون التذكية أمرا عرفيا وبين أن يكون السبب في تحقّقها توقيفيا كما في النقل والانتقال فإنّه أمر عرفي إلاّ أنّ الشارع لم يعتبره إلاّ في ضمن البيع ونحوه وإن كان البيع مطلقا ، وليس في الأدلّة ما يدلّ بإطلاقه على سببية التذكية على
ص: 390
وجه يأخذ بالإطلاق عند الشكّ في القابلية ، أو في الشرطية فإنّ الإطلاق في قوله : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1) على تقديره ليس ممّا يستفاد منه الحكم مطلقا لوروده في غير المقام كما في قوله : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ ) (2) وذلك ظاهر كما لا يخفى.
ثمّ إنّ الشهيد الثاني (3) حكم بطهارة الحيوان المتولّد من الحيوانين في الروضة (4) وحرمته معلّلا فيهما بقوله عملا بالأصلين فيهما ، أمّا أصالة الطهارة ، فظاهرة ، وأمّا أصالة الحرمة ، فالمراد بها غير ظاهر فإنّه على ما يظهر منه في عدّة موارد في كتبه ممّا يعوّل على الإطلاق في الدليل الدالّ على سببية التذكية كما يفصح عنه تمسّكه في الحيوانات المختلف فيها في كتاب الأطعمة والأشربة بأصالة الحلّ ، فلا يصحّ حمل قوله : « بالأصل فيهما » على الأصل على (5) ما أصّلناه ، فلا بدّ له من توجيه فنقول : حكي عن المحقّق الثاني والفاضل الهندي وبعض المعلّقين على الروضة والشهيد الثاني (6) أيضا في بعض تعليقات الأوّل على الشرائع (7) وشرح الثاني على
ص: 391
الروضة (1) وبعض تعليقات الثالث عليها (2) وتمهيد القواعد (3) أنّ الأصل فيه هو انحصار المحلّل في عناوين مخصوصة وعدم انحصار المحرّم في عنوان.
فإن أرادوا من ذلك أنّ الشارع قد حصر المحلّل من الأشياء في أشياء مخصوصة وحكم بحرمة ما سواها في دليل دالّ على الحكمين ، ففيه :
أوّلا : أنّه (4) لم يثبت ذلك.
وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فليس من الأصل في شيء فإنّه دليل اجتهادي على حرمة ما وراء المحلّلات فلا يصحّ التعبير بالأصل الظاهر منه عند أرباب الصناعة (5) ما يعوّل عليه عند الشكّ في مقام العمل ، اللّهمّ إلاّ أن يراد به القاعدة في المقامين كما لا يخفى.
وإن أرادوا منه الغلبة بمعنى أنّ (6) الأغلب في اللحوم الحرمة والشكّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، ففيه :
أوّلا : منع الغلبة إن أريد بها الغلبة الشخصية فإنّ الأفراد المحلّلة تزيد على المحرّمة بكثير كما لا يخفى ، وإن أريد بها الغلبة النوعية فعلى تقدير تسليمها على وجه يكفي في حمل المشكوك عليها ، فلا جدوى فيها إذ الكلام في الحيوان المتولّد من الحيوانين ، وبعد لم يعلم مخالفته لنوعي والديه ، فربّما يكون من أفراد أحد النوعين واقعا وإن كان
ص: 392
يخالفهما (1) في الظاهر فمرجع الشكّ إلى الشخص ، وقد عرفت أنّ الغلبة بخلافها.
وثانيا : بعد الغضّ عن جميع ذلك لا دليل على اعتبار الغلبة مطلقا ولا سيّما بعد تلك الإطلاقات على ما هو مذاقهم كما لا يخفى.
وإن أرادوا أنّ الشارع إنّما حكم بانحصار المحلّل في عناوين خاصّة في أدلّة مخصوصة وسكت عن حال المحرّمات ومثل ذلك يعدّ في العرف من حصر المحرّمات فيما عدا المحرّم وإن لم يصرّح بالحصر كما أنّه حصر الحلال من الحيوانات البحرية في السمك ، ومنه فيما له فلس ، ومن الطيور فيما له حوصلة أو صيصة (2) ونحو ذلك ، فلو سلّم استفادة الحصر من ذلك ، فلا يجدي فيما نحن بصدده من الحيوانات البرّية لفقدان مثله فيه.
وقد يستند في ذلك إلى السيرة فإنّا نراهم لا يعوّلون على أصالة الحلّ والبراءة في اللحوم والحيوانات ، ولذلك يبادرون بالسؤال عنها ، ولا يجوّزون من أنفسهم ارتكاب (3) أكلها إلاّ بعد العلم بالحلّ.
وفيه : أنّ ذلك لعلّه إنّما بواسطة لزوم الفحص في مورد الأصل ولا ينكره أحد فإنّه لا مناص منه.
وأمّا ما يقال : من أنّ الفحص كما يجب في اللحوم فكذلك يجب في غيرها كما في البقول مثلا ، ومع ذلك يظهر منهم فيها من الجدّ والجهد ما لا يظهر فيها كما يظهر بالرجوع إلى ديدنهم فلعلّه يستند إلى كثرة المحرّمات فيها دون غيرها ، فلو فرضنا مثل ذلك في البقول ، لقلنا بمثله فيها أيضا على ما لا يخفى إلاّ أنّ الإنصاف أنّ اللحوم بعد لا يخلو من شيء ، فتدبّر.
ص: 393
وقد يوجّه الأصل في كلام الشهيد (1) بأنّ ارتضاع الحلال من الحرام يؤثّر في حرمة المرتضع وما يتولّد منه كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار الواردة فيه ، وعلى هذا فقد يمكن دعوى دلالة تلك الأخبار على حرمة الحيوان المتولّد من الحيوانين أيضا ولو بالفحوى إلاّ أنّ كلّ ذلك ممّا لا تعويل عليه وإن كان قد يستشمّ منها كما لا يخفى.
ص: 394
فيما إذا دار الأمر بين المتباينين من الشكّ في التكليف في الشبهة الحكمية المستندة إلى فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا تعارض النصّين ، فستطّلع على تفاصيله في التعادل والتراجيح ، ويتمّ الكلام فيه (1) في مقامات أربع يستعلم (2) منها التزام المكلّف بشيء عند دوران الأمر بينهما ، أو عدمه ، وعلى الأوّل فهل هو التعيين أو التخيير ، وعلى الثاني فهل هو بدوي أو استمراري؟ وعلى التقديرين فهل المفتي يفتي بالمختار للمقلّد أو بالتخيير؟
المقام الأوّل [ اللاحرجية العقلية ] في أنّ المكلّف إذا دار أمره بين المحذورين ، فهل هو ملتزم بشيء أم لا سواء كان ذلك هو التعيين أو التخيير؟
وبعبارة أخرى فكما أنّه لو شكّ في الوجوب فقط ، أو في الحرمة كذلك لا يلتزم بهما ويحكم بخلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعية ويبنى على البراءة ، فهل له ذلك بالحكم بخلوّ ذمّته عن كلّ منهما تخييرا ، أو تعيينا فيبنى على عدم الحكم والبراءة أو لا بل عليه
ص: 395
أن يلتزم بشيء (1) ولو بالتخيير؟
قد يقال : إنّ القاعدة تقضي بالأوّل لأنّ الالتزام إمّا بأحدهما معيّنا أو بهما مخيّرا ، وعلى التقديرين لا دليل عليهما :
أمّا على الأوّل ، فلأنّ التكليف الواقعي بعد الجهل به لا يؤثّر في الظاهر بوجه لقبح (2) التكليف بلا بيان ، فلا وجه للقول بالتكليف بأحدهما في الواقع كما أنّه لا وجه للعقاب عليه.
وأمّا على الثاني ، فلأنّ التخيير ليس من آثار الوجوب أو الحرمة الواقعية إذ لا يقتضي شيء منهما به ، ولا دليل على انقلاب التكليف التعييني في الواقع إلى التخيير فإنّ الواجب العيني أو الحرام العيني لا بدّ في انقلابهما إلى التخييري إلى دليل.
فإن قلت : الأدلّة الآمرة بانقياد العبد لأوامر المولى ونواهيه وأدلّة وجوب الإطاعة ناهضة في المقام ، وقضيّتها الالتزام في الجملة لا الحكم بالبراءة وخلوّ الذمّة والقول بعدم الحرج كما في أفعال البهائم والصبيان والحكم بخلوّ الواقعة عن الأحكام الظاهرية كما هو مفاد البراءة.
قلت : إن أريد من لزوم الانقياد والإطاعة التديّن بأوامره تعالى ونواهيه فإن أراد ذلك بالنسبة إلى ما هو الواجب أو (3) الحرام بخصوصه ، فلا إمكان فيه ، وإن أراد التديّن به ولو إجمالا ، فنحن لا ننكره بل نحن مؤمنون بكلّ ما جاء به الرسول ، وإن أراد التديّن بالتخيير بينهما والانقياد به ، فلا إمكان فيه إذ لم يثبت وجوبه حتّى ينقاد به ، وإن أريد العمل على طبق ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فإن أراد العمل بالواجب والحرام الواقعيين مع قصد الوجوب والحرمة فلا إمكان فيه ، وإن أراد تطبيق العمل بهما فهو كذلك لأنّ التكليف لا يخلو من الفعل والترك دائما ، فالعمل إمّا على الوجوب ، أو على الحرمة إذ
ص: 396
لا واسطة بين الفعل والترك ، فالمكلّف دائما إمّا أن يفعل الفعل أو يتركه (1).
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز له ولهذا تراهم يقولون بتكليف الكفّار بالفروع فأدلّة الإطاعة والانقياد بالنسبة إلى أوامره تعالى ناهضة محكّمة ، ومن هنا قلنا (2) فيما سبق بأنّ الموافقة القطعية لو لم تكن (3) ممكنة ، فلا بدّ من الموافقة الظنّية وهكذا متدرّجا إلى أن يصل إلى الموافقة الاحتمالية بعد ثبوت العلم الإجمالي بالتكليف.
وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأصحاب - على ما يظهر من كلام صاحب المعالم (4) - مطبقون على عدم جواز طرح القولين بين الطائفة والرجوع إلى ثالث خارج منهما للقطع ببطلان الثالث فإنّه لا فرق في المقام وهناك إلاّ فيما لا يؤثّر فيما نحن بصدده.
على أنّه يمكن أن يقال بأنّ أخبار التخيير الواردة في تعارض الخبرين ربّما تدلّ على التخيير في المقام أيضا ولو بفحوى الخطاب بدعوى أنّ الحكم بالتخيير فيما إذا ورد خبران ليس إلاّ باعتبار اشتمالهما على الحكمين وهو موجود في المقام بل ربّما يستفاد من طريقة العقلاء التزامهم في أمثال المقام بشيء من الحكمين فإنّه يعدّ من المخالفة في نظرهم ، على أنّ المبالاة بالأوامر الشرعية والاعتناء بها واجبة قطعا ، وفي ترك الحكمين تخييرا أو تعيينا وعدم الالتزام بشيء منهما والحكم بأنّه لا حرج في الفعل والترك مع العلم بوجوبه أو حرمته من عدم المبالاة وترك الاعتناء ما لا يخفى على المتدبّر.
ولكنّ الكلّ بعد قاصر عن إفادة المطلوب ، أمّا حديث العلم الإجمالي وتنجّز التكليف به ولزوم الانقياد بأوامره تعالى ، فهو على إطلاقه لا ينهض بإثبات المطلوب
ص: 397
بل فيما يلزم (1) المخالفة العملية على تقدير عدم الالتزام.
وتوضيح ذلك أن ليس المقصود بالأوامر الآمرة بالانقياد والالتزام بأوامره والانزجار عن نواهيه التعبّد بها بل المراد بها وقوع الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ [ عنه ] ، فالأمر بالالتزام إنّما هو للتوصّل إلى الفعل والترك ، فلو فرضنا حصول الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ عنه دائما ، فلا فائدة في الإلزام (2) بالالتزام بمثل ذلك إذ المفروض حصول المقصود ، فالداعي للأمر شرعا مفقود كما أنّ العقل أيضا في هذه الحالة ممّا لا يحكم بالالتزام ، وذلك لا ينافي وجوبه أو حرمته بدون الفعل والترك كما هو الشأن في الواجبات التوصّلية فإنّها قبل الحصول واجبات ، وبعده لا أمر حتّى يكون هناك واجب أو غير ذلك ، غاية الأمر عدم ترتّب الثواب على الفعل والترك عند حصولهما في الخارج من غير قصد الإطاعة فإنّها لا تصدق فيما لم يقصد الفاعل أو التارك امتثال الأمر أو النهي ، ولا ضير في ذلك بعد ما فرضنا من أنّ المقصود من تلك الأوامر ليس إلاّ التوصّل إلى الأفعال المأمور بها والتروك.
وإذ قد تقرّر هذه فنقول : إنّ الواجب والحرام المحتمل كلاّ منهما فيما دار الأمر بينهما ، إمّا أن يكونا تعبّديين ، أو توصّليين ، أو أحدهما تعبّديا ، والآخر توصّليا ، فإمّا مع تعيين التعبّدي ، وإمّا مع الجهل به كأن يعلم أنّ أحدهما تعبّدي إجمالا ، والآخر توصّلي ، وحيث إنّ الغرض من التوصّلي على ما عرفت هو وقوع الفعل في الخارج على وجه لا يناط في تحقّقه صدق الامتثال وإن كان الفعل معلوما بالتفصيل ، ففيما لو كان الفعل موجودا وإن لم يكن امتثالا فيجزي عن الأمر بنفس الفعل فضلا عن الأمر بالالتزام ؛ إذ ليس المقصود به الاعتقاد تعبّدا كما في العقائد ، فعلى هذا فيما لو كان الواجب والحرام توصّليين ، لا يلزم مخالفة في العمل لحصول الفعل أو الترك دائما وبعد
ص: 398
حصوله يسقط الأمران ، وإن لم يكن الفاعل والتارك مثابا وممتثلا ، ويمتنع (1) الأمر به حينئذ لامتناع تحصيل الحاصل.
ولو كانا تعبّديين فلا شكّ في لزوم المخالفة العملية لوجود الواسطة بين الفعل والترك المطلقين وهو الفعل على وجه التعبّد والترك كذلك ، والمكلّف يصحّ خلوّه منهما.
ولو كان أحدهما تعبّديا والآخر توصّليا فإن كان التعبّدي معيّنا كالواجب بمعنى أنّ الواجب المحتمل على تقديره تعبّدي كما في دوران الأمر للحائض بين الصلاة وتركها والصوم وتركه فإنّهما على تقدير الوجوب تعبّديان ، فلا خفاء أيضا في أنّ العمل لا يلزم أن يكون دائما مطابقا لأحدهما لإمكان الإتيان بصورة الصلاة من دون التعبّد وهي ليس بالفعل لانضمام القيد إليه ولا بالترك (2).
وإن كان التعبّدي منهما غير معلوم ، فالموافقة العملية حاصلة لإمكان أن يكون المأتيّ به دائما هو غير التعبّدي.
وبالجملة ، فبعد عدم إمكان الموافقة القطعية والظنّية ، فلا مناص من الموافقة الاحتمالية ونحن لا ننكر ذلك إلاّ أنّ قضيّته لا يزيد على لزوم الإتيان والالتزام فيما لا يحصل إلاّ بعنوان خاصّ كالقربة والتعبّد مثلا ، وفي التعبّديات نحن نلتزم بوجوب الالتزام حذرا من المخالفة العملية القطعية ، وفي غيرها - كأن يكونا توصّليين أو أحدهما توصّليا مع عدم العلم بالتعبّدي على وجه التعيين - لا دليل على الالتزام بحصول الفعل المأمور به والترك دائما لعدم الواسطة في الأوّل وحصول الموافقة الاحتمالية في الثاني إذ كلّ من الفعل والترك يحتمل أن يكون توصّليا ولا يخلو المكلّف منهما ، فيحتمل دائما حصول المطلوب إذ المفروض أنّ الأمر بالالتزام توصّلي ، والأمر بنفس الفعل والمنهيّ عنه أيضا توصّليان ، وسقوط الواجب التوصّلي بحصول الفعل في الخارج - ولو على غير وجه الإطاعة - ممّا لا مجال لإنكاره حذرا من لزوم تحصيل
ص: 399
الحاصل في وجه وخلاف الفرض في وجه آخر.
فتلخّص (1) من جميع ما مرّ من أنّ المخالفة القطعية لو صادفتها (2) الموافقة (3) العملية ، فلا دليل على فسادها كما في التوصّليات ، وإلاّ فلا بدّ من الالتزام أخذا بالأدلّة الدالّة على لزوم اتّباع حكم اللّه ورسوله.
وأمّا ما ادّعاه صاحب المعالم من إطباق الفرقة على لزوم الأخذ بأحد الحكمين المجمع عليهما إجمالا ، فمحمول على ما ذكرناه فيما لو لم يوافق العمل أحد القولين دائما ، على أنّ الشيخ (4) حكم بالتخيير الواقعي بين الحكمين ومن المعلوم توافقهما في نفي الثالث وإن كان هو التخيير ، وأمّا دعوى دلالة أخبار التخيير على لزوم الأخذ بمطلق الحكمين المتباينين تخييرا فعهدتها على مدّعيها.
ولو سلّم ، فلا نسلّم فيما وافق أحدهما العمل دائما ، وأمّا بناء العقلاء على لزوم الأخذ ، فمسلّم فيما لا يوافق العمل ، وأمّا الالتزام والاعتناء لا يقضي بذلك فإنّ المحرّم هو عدم المبالاة بالشرع وترك الاعتناء إليه واللزوم على تقدير الموافقة ممنوع.
ثمّ إنّ الإنصاف أنّ الأدلّة المذكورة وإن لم تكن على وجه يعوّل عليها في الحكم كما عرفت من وجوه الضعف فيها إلاّ أنّ المسألة بعد محلّ إشكال ، فلم يرتفع نقاب الشكّ عن وجه المطلوب على ما ينبغي كما لا يخفى ، فتدبّر.
في أنّ بعد ما قلنا بأنّ الحكم فيما دار الأمر بين المحذورين ليس عدم الحكم والحرج بل لا بدّ من الالتزام ، فهل الحكم هو التخيير بين الوجوب والحرمة ، أو لا بدّ من
ص: 400
ترجيح جانب الحرمة؟ قد يقال بالثاني لوجوه :
أحدها : الاستقراء وبيان ذلك أنّا تتبّعنا الموارد التي اجتمع فيها الوجوب والحرمة كالعبادة للحائض في أيّام استظهاره وعبادة المبتدأة والإناء المشتبه فوجدنا الشارع قد حكم فيها بغلبة جانب الحرمة على الوجوب ، وهذا يوجب العلم ولا أقلّ من الظنّ بأنّ مبنى الشرعيات على غلبة (1) جهة الحرمة على جهة الوجوب واعلم أنّه يمكن الفرق بين الغلبة المدّعى بها في كلامهم والاستقراء بأنّ الغلبة لا بدّ في تحقّقها من أن يكون هناك فرد نادر بخلاف الأفراد الغالبة ، ولا يجب ذلك في الاستقراء إذ قد لا يكون هناك (2) فرد نادر ؛ بل قد يقال بوجوب عدمه كما لا يخفى.
وثانيها : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين والتخيير بين الحرام والواجب ، فلو أخذنا بالتعيين - وهو الحكم بالحرمة فقط - قطعنا بالامتثال بخلاف ما لو أخذنا (3) بالتخيير إذ يحتمل أن يكون المطلوب هو التعيين فهو القدر المتيقّن ، ولا بدّ من الأخذ به ليرتفع العلم بالاشتغال.
وثالثها : أنّ مبنى الأمر والوجوب على إحراز المصلحة وجلب المنفعة ووجه النهي والحرمة على نفي المفسدة ودفع المضرّة ، والعقل بصرافته لو دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المضرّة ربّما يحكم بأولويّة الثاني من الأوّل.
لا يقال : قد يكون المنفعة كثيرة والمضرّة قليلة ، فكيف ينافي الحكم بالأولوية (4) على إطلاقها.
لأنّا نقول : لو علمنا بذلك صحّ ما ذكر ، وإلاّ فاحتمال الكثرة في كلّ منهما سواء ، والكلام في أولوية دفع المضرّة من جلب المنفعة لو جرّدا عن جميع ما يمكن احتفافهما به.
ص: 401
فإن قلت : في كلّ من الأمر والنهي كلّ من الأمرين متحقّق وجودا وعدما.
قلنا : نعم ، ولكن مبنى الأمر على ما قلنا عند العقلاء على إحراز المصلحة والنهي بخلافه ، فلا يضرّ في ذلك وجود الوجوب التبعي في النهي ، والحرمة التبعية في الأمر إذ الحكم التبعي فيهما مبنيّ على عدم المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.
ورابعها : قوله : « كلّما اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال » (1).
ولكن في الكلّ نظر :
أمّا في (2) الأوّل ، فبمنع الاستقراء ، كيف ونحن لم نجد مثالا لما نحن بصدده ولو واحدا ، والعجب أنّه لم يكتف بدعوى الاستقراء عن الغلبة مع (3) أنّ الأمر في الاستقراء على ما نبّهنا عليه أصعب كما لا يخفى.
وأمّا الأمثلة المذكورة فممّا لا مساس لها بالمقام أصلا.
أمّا الأوّل منها ، فلأنّ الحكم فيها في أيّام الاستظهار إنّما هو بواسطة أمر اجتهادي وهو حكم المعصوم بحرمة الصلاة مثلا ، ويكفي في المقام عدم العلم بالوجه في حكم المعصوم ، فلعلّه لم يكن من حيث إنّه مجهول الحكم ، ومنه يعلم الحال في الثاني أيضا لأنّ الحكم بالحرمة من جهة القاعدة المقرّرة عندهم من أنّه « كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض » وهذا في الحقيقة راجع إلى بيان الموضوع ، وإلاّ فكيف يعقل طرح الاستصحابات الكثيرة فيه من استصحاب وجوب الصلاة وجواز قراءة العزائم ونحوها كما لا يخفى.
والثالث أيضا فإنّ الحكم بإهراق الإناءين من جهة النصّ فلعلّه لا يناط بالجهل.
وأمّا في (4) الثاني ، فلأنّ قاعدة الاشتغال لا تجري (5) في المسائل العقلية إذ الحاكم
ص: 402
فيها العقل وهو موجود في زمان الشكّ أيضا ، فلا بدّ من التحلية في تحصيل حكم العقل لو اشتبهت حكمه بواسطة ممازجته بالحجب الوهمانية ، واختلاطه بالأوهام النفسانية فإن حكم بالتعيين ، فهو المتّبع أو بالتخيير فكذلك ، وأمّا الشكّ فلا يتصوّر في أمثال المقام إذ كيف يعقل كون العقل حاكما مع الجهل بموضوع حكمه.
نعم ، يصحّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ العقل كاشف عن الحكم الشرعي ، وحيث إنّ الحاكم هو الشرع فيمكن حصول الجهل بموضوع حكمه ، فيحكم العقل بالتعيين فيما لو دار الأمر بينه وبين التخيير وذلك ظاهر ، وسيجيء تفصيله في غير المقام على وجه يندفع به الشكوك والأوهام.
وأمّا في الثالث ، فلأنّ الحكم بالأولوية ممّا لا يجدي في التعيين إذ غاية الأمر هو الحكم بالاستحباب وهو لا ينافي التخيير ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى بأنّ العقل لو جرّد النظر عن جميع الخصوصيات المختصّة بالمقام ، يحكم بالوجوب ، وليس ببعيد.
وأمّا في الرابع ، فلأنّ الظاهر منه هو اجتماع الحلال والحرام في شيء واحد على نحو الممازجة ، وكيف ما كان ، فلا يبعد دعوى التعيين في المقام نظرا إلى حكم العقل في الدليل الثالث كما لا يخفى.
في أنّ بعد القول بالتخيير ، فهل هو بدوي ، أو استمراري؟ قد يقال بالأوّل لوجوه :
أحدها (1) : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر دائر بين التخيير والتعيين وقد أطبق الكلّ على اختيار التعيين دون التخيير.
وثانيها : استصحاب بقاء الحكم في المسألة الفرعية.
ص: 403
وثالثها : لزوم محذور عدم الالتزام بشيء من الحكمين على تقديره ، بيان ذلك أنّا قلنا بوجوب الالتزام بالأحكام الشرعية حذرا من المخالفة القطعية وترك الاعتناء بأوامر الشارع وعدم المبالاة بأحكامه ، وهذا هو بعينه موجود في التخيير الاستمراري ، غاية الأمر (1) استناد عمله في كلّ وقت إلى قصده الالتزام بأحد الحكمين على حسب اختلاف دواعيه النفسانية وذلك يقرب من الهرج والمرج بل وهذا مفوّت للّطف الباعث على التكليف.
وفي الكلّ نظر : أمّا في الأوّل ، فلما عرفت آنفا (2) من عدم جواز الاتّكال بالاشتغال في الأحكام العقلية إذ العقل بعد موجود ، ولا بدّ من الرجوع إلى كيفية حكمه من أوّل الأمر ، ولو سلّم فاستصحاب التخيير في المسألة الأصولية دليل اجتهادي بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال وإن كنّا لا نعوّل عليه أيضا من الجهة المذكورة.
وأمّا في الثاني فلهذين الوجهين بعينهما.
وأمّا في الثالث ، فلأنّ للمكلّف أن يدخل نفسه في عناوين مختلفة على وجه يختلف الأحكام بحسب اختلافها كما أنّا تارة نقيم (3) في بلد ، ونسافر أخرى ، فربّما يختلف العنوان باختلاف يسير ، فالمكلّف في الحقيقة إنّما يوجد أسباب التكليف ولا غائلة فيه ، ويكفي في المبالاة بالأحكام (4) الشرعية استناد العمل بعد الاختيار إلى الحكم الشرعي ، وهذا هو عين المبالاة والاعتناء واللطف كما لا يخفى.
والتحقيق أنّ مدرك التخيير لو كان دليلا شرعيا كأخبار التخيير في الأخبار المتعارضة ، فلا يبعد القول بالتخيير الاستمراري نظرا إلى استصحاب التخيير ، ووروده على استصحاب الأحكام (5) الشرعية في المسائل الفرعية إلاّ أنّ المحقّق في مقامه عدم جواز التعويل على مثل هذا الاستصحاب لأنّ شرط جواز التعويل عليه
ص: 404
إحراز موضوعه علما وهو في المقام غير محرز ؛ لاحتمال أن يكون لوصف التخيير مدخلية فيه ، وبعد الأخذ يرتفع الوصف فيرتفع الموضوع ، فعلى ما ذكرنا قاعدة الاشتغال محكّمة لجريانها في الأحكام الشرعية وعدم ما يعارضها من الاستصحاب ، فلا بدّ من الحكم بالتخيير البدوي كما بيّنّا على مثل ذلك في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد ولو كان الدليل عقليا.
فإن قلنا بأنّ الفرار من المخالفة القطعية هو المنشأ في الحكم بالتخيير ، فالتخيير بدوي لحصولها ولو تدريجا في التخيير الاستمراري ، ولو (1) قلنا بأنّ الوجه في الالتزام بالتخيير هو لزوم الالتزام بالأحكام الشرعية وتقييده بها ، فهذا لا ينافي التخيير الاستمراري إذ في كلّ من الحالتين يلتزم المكلّف بالأحكام الشرعية ولا منافاة واللطف حاصل.
وإن قلنا بأنّ الوجه هو عدم المبالاة بالشرع ولزوم المخالفة القطعية أيضا على وجه يعدّ في العادة مخالفة ، فمقتضاه التفصيل بين ما إذا حصل المخالفة عن علم كما إذا كان بانيا على الاستمرار في التخيير في أوّل الأمر فإنّه يعلم بترتّب (2) المخالفة على العمل ابتداء فإنّه يعدّ من المخالفة فيحكم بعدم الاستمرار وبين غيره كما إذا كان في أوّل الأمر بانيا على الأخذ به دائما ، ثمّ بدا له اختيار الآخر لغرض آخر فإنّه يمكن القول بأنّه لا يعدّ في العادة من المخالفة كالمقيم في بلد الإقامة بعد ما سنحت له سانحة تقضي بمسافرته بعد الإقامة.
ص: 405
في أنّ المجتهد بعد القول بالتخيير - سواء كان بدويا أو استمراريا - فهل يفتي بالمختار مطلقا ، أو بالتخيير كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا قال بالتخيير البدوي فبالمختار ، أو بالاستمراري فبالتخيير؟ وجوه :
ربّما يقال بالأوّل ؛ لأنّ الحكم المعلوم إجمالا (1) لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الأخذ والاختيار ، فالمختار هو حكم اللّه لجميع الناس في نظره فباختياره يصير حكما شرعيا لا مطلقا ، فلو أفتى بالتخيير - والفرض أنّه لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الاختيار - فقد أفتى بغير ما أنزل كما في الأخبار المتعارضة فإنّ الحكم المدلول عليه بإحدى الروايتين لا يكون حكما شرعيا إلاّ بعد تعيين المجتهد إحداهما للعمل.
وبالجملة ، فكما أنّ المجتهد لا بدّ له من تعيين الحكم فيما لو كان واجبا عينيا ، وما لم يعيّنه المجتهد لا يصير من الأحكام الشرعية ، فكذلك فيما لو كان واجبا تخييرا فإنّ تعيين أحد (2) فردي الواجب التخييري بمنزلة تعيين الواجب العيني.
وقد يقال بالثاني ؛ لأنّ المجتهد إنّما ينوب عن المقلّد في تعيين الأحكام الشرعية التي لا يناط إلى أفعال اختيارية راجعة إلى الدواعي (3) النفسانية ، فهو إنّما واسطة له في فهم الأحكام من حيث عدم قدرته له وعدم إمكان تحصيل العلم بها إلاّ من جهة المجتهد ، وإلاّ فالحكم الواقعي بالنسبة إلى المقلّد والمجتهد سواء ، فكيف يعقل مدخلية اختيار المجتهد - الراجع إلى دواعيه (4) النفسانية - في تكليف (5) المقلّد مع أنّه لو قلنا بذلك ، لزم وجوب إفطار المقلّد فيما لو سافر المجتهد ، فلو كان الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا فرق
ص: 406
في ذلك بين آحاد المكلّفين ، ولم يقم (1) دليل على مدخلية اختيار المجتهد بعد عدم تأثيره في الحكم الشرعي الواقعي الذي هو التخيير في تكليف المقلّد ، فليس له الفتوى بالمختار لعدم كونه من الأحكام الشرعية ، ولا أقلّ من الشكّ ، والأصل عدمه.
فإن قلت : إنّ التخيير أيضا كذلك.
قلت : قد عرفت أنّ التخيير في الواقعة هو الحكم الواقعي الإلهي ، فلا مناص من الالتزام به دون المختار.
والتحقيق : أنّ دليل التخيير إن كان شرعيا لفظيا كما في الأخبار المتعارضة ، فلا بدّ من الفتوى بالمختار فإنّ الاختيار فيها من جملة ما يتمّ به الحكم الشرعي فإنّ مفاد التخيير هناك هو التخيير بين العمل بالدليلين المتعارضين ، ووجوب الأخذ بأحدهما إنّما هو مثل الأخذ بالخبر الغير (2) المعارض بمثله ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ الوجوب في الأوّل تخييري ، وفي الثاني عيني ، فبالحقيقة الحكم الشرعي هو مدلول أحد الدليلين ، والتخيير ليس فيه بل في نفس الدليلين وإن كان دليل التخيير عقليا كالفرار عن المخالفة القطعية والالتزام بأوامره تعالى كما فيما نحن فيه ، فالأقرب هو الفتوى بالتخيير لأنّ التخيير العقلي إنّما هو بين (3) نفس الحكمين كما في التخيير بين خصال الكفّارة فإنّ التخيير فيها بين الأحكام وإن كان بينها وبين ما نحن بصدده فرق من جهة أخرى.
وممّا مرّ (4) ذكره يظهر وجه التفصيل بين الاستمراري والبدوي فكأنّه في البدوي اختيار المجتهد للحكم من متمّمات نفس الحكم ، بخلافه في الاستمراري ، وللنظر فيه مجال واسع.
ص: 407
لا يكاد يخفى على من تبصّر فيما أوردنا له في الأصول المتقدّمة أن لا نزاع بين الأخباري والأصولي إلاّ في الشبهة التحريمية (1) فيما دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب. وأمّا في الشبهة الوجوبية ، فالكلّ مطبقون على البراءة إلاّ ما قد (2) يظهر عن أمينهم (3).
والتحقيق - على ما يظهر بالتتبع في كلماتهم مثل ما ذكره الشيخ الأجلّ رئيس جهابذة الأخبارية الشيخ الحرّ العاملي في كتاب القضاء (4) والسيّد صدر الدين في شرحه على الوافية - أنّه خانهم في ذلك حيث تفرّد فيه عنهم أيضا ، وأمّا فيما دار الأمر بين المتباينين ، فالأخباريون أيضا لا يقولون بوجوب الاحتياط ، فهم والمجتهدون سواء في ذلك ، وعلى هذا فما أورد بعضهم على الأخباريين بلزوم العسر والحرج لو وجب الاحتياط تارة ، وبعدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين المتباينين أخرى ، فكأنّه غفلة منه عن كلامهم (5) لما عرفت من أنّ الشبهات الوجوبية ممّا لا يلتزم فيها بالاحتياط فيها ، والشبهات التحريمية في غاية القلّة حيث إنّ الكلام بعد الفحص والفراغ عن إثبات حجّية الأمارات على حسب اختلاف المشارب في تعيين الحجّة ، وعلى تقديره فالتروك لا مشقّة فيها (6) في وجه ، وعدم إمكان الاحتياط في المتباينين بعد عدم القول به فيهما لا يؤثّر فيما يمكن الاحتياط فيه كما لا يخفى.
ص: 408
أنّ الكلام في دوران الأمر بين الواجب والمحرّم في المقام (1) إنّما هو فيما إذا كان الشكّ فيهما مسبّبا عن أمر ثالث خارج منهما كما إذا ورد هناك أمر فلم نعلم أنّه للوجوب أو للتحريم من جهة التهديد ، وأمّا إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر ، فمرجعه في الحقيقة إلى أحد الأصلين السابقين إذ بعد ارتفاع الوجوب الناشئ منه الشكّ في الحرمة بالأصل يرتفع الشكّ في الحرمة لارتفاع المسبّب بارتفاع السبب ، وكذا بعد ارتفاع الحرمة بأصالة البراءة يرتفع احتمال الوجوب المنبعث عن احتمال الحرمة لعين ما مرّ من قضية العلّية والسّببية ، مثلا لو شكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة ترك إزالة النجاسة عن المسجد ، فبعد القول بجواز ترك الإزالة نظرا إلى أصالة البراءة فيها عن الحرمة ، فلا مجال للشكّ في وجوب الصلاة لعدم المانع ، وأيضا لو قلنا بحرمة الارتماس في نهار رمضان من غير أن يكون مفطرا ، ففي ضيق الوقت وعدم إمكان غير الارتماس نشكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة الارتماس في هذا الوقت ، فلو عملنا بأصالة البراءة فيها ، فاللازم الحكم بوجوب الصلاة من غير تزلزل فيه لارتفاع الشكّ بارتفاع سببه كما لا يخفى ، والمقصود من إيراد المثالين التنبيه على نفس الحكم ، وإلاّ فالحكم (2) فيهما بعد محلّ نظر.
أنّه يستفاد من تضاعيف كلماتنا في الأصل (3) المقدّم ، وهذا الأصل حكم ما إذا دار الأمر بين الحرام والاستحباب ، أو الكراهة ، أو الإباحة ، أو اثنين منها على اختلاف صورها ، أو الثلاثة وما إذا دار الأمر بين غير الواجب وغير الحرام كالإباحة والاستحباب ، وكالاستحباب والكراهة على اختلاف الأقسام المتصوّرة فيه ، فلا حاجة إلى تطويل المقام بانعطاف عنان الكلام إليه ، فعليك باستخراج أحكامها.
ص: 409
ص: 410
قد عرفت تفصيل القول في الشبهة الحكمية التكليفية وجوبية وتحريمية وغيرهما فيما دار الأمر بينهما ، وأمّا الشبهة الموضوعية التكليفية ، فالكلام فيها يقع في مقامات أيضا :
أحدها : ما احتمل الوجوب دون الحرمة.
وثانيها : ما احتمل الحرمة دون الوجوب.
وثالثها : ما دار الأمر بين الواجب (1) والحرام. ولنذكر الأوليين (2) في هذا الأصل ، ثمّ نتبعه بأصل آخر في بيان الثالث لعدم اختلاف الأوليين في الأحكام بخلافه في الشبهة الحكمية كما لا يخفى.
فنقول : لا بدّ أن يعلم أنّ الكلام في المقام ليس في جريان البراءة في كلّ موضوع فإنّ جملة منها لا يمكن جريان البراءة فيها لجريان أصل موضوعي فيها كالزوجية مثلا فإنّا لو شككنا في أنّ المرأة الفلانية هل هي معقودة أو لا؟ فلا يجوز (3) الاستناد إلى البراءة في حرمة وطيها التي تستند إلى الشكّ في كونها أجنبية أو لا؟ فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة (4) في المقام ، وكالتذكية فإنّ اللحم المطروح من غير سبق يد المسلم
ص: 411
عليه محكوم بالحرمة والنجاسة لأصالة عدم التذكية ، وكالملكية فإنّ المستفاد من حصر الشارع أسباب الملك في أشياء مخصوصة كالبيع والصلح والهبة وغيرها من الأسباب الشرعية عدم جواز التصرّف في شيء إلاّ بعد إحراز عنوان (1) الملك ، ففي مقام الشكّ لا وجه للاستناد إلى أصالة البراءة في دفع الحرمة لأصالة عدم الملكية ويترتّب عليها الحرمة وعدم جواز التصرّف فيه.
ثمّ اعلم : أنّ الكلام في المقام إنّما هو في حكم ما اشتبه موضوع الحكم الشرعي وهو من الأحكام الشرعية التي لا بدّ من استعلامها من الأدلّة الشرعية كما هو الشأن في جميع الأحكام على ما هو ظاهر لا سترة عليه ، وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الأدلّة المذكورة فيما تقدّم بعينها ناهضة على عدم التكليف عند الشكّ فيه بواسطة الشكّ في موضوع الحكم والتكليف.
أمّا الآيات ، فظاهرة فإنّ قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (2) على ما فسّره بعضهم ب- « إلاّ ما أعلمها وأقدرها » تعمّ (3) الجميع حكما وموضوعا.
وأمّا السنّة ، فقوله (4) عليه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (5) إمّا أن يكون مختصّا بالشبهة في موضوع الحكم ، أو يعمّه والحكم ، وكذا قوله : « كلّ شيء مطلق » (6) بعمومه يشمل (7) المقام.
وأمّا الإجماع ، فالأخباري أيضا يقول بالبراءة فيه كما هو أحد محاملهم لأخبار البراءة ، ونقله ربّما يعدّ مستفيضا كما لا يخفى.
وأمّا العقل ، فتقريره جار (8) في المقام أيضا : أمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، فلأنّ عند الشكّ في التكليف بواسطة الشكّ في الموضوع الخاصّ وعدم العلم بالأمر لو كان
ص: 412
مكلّفا بالفعل على أنّه مأمور لزم التكليف بالمحال فإنّ حال عدم العلم بالأمر يمتنع إتيان الفعل لداعي الأمر وهو ظاهر ، وقد مرّ تفصيل ذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية بما فيه من الأسئلة (1) والأجوبة ، وأمّا لزوم التكليف بلا بيان ، فلأنّ المفروض عدم العلم بالتكليف ولو بواسطة الشكّ في الموضوع ، ومع عدم العلم لو قيل بالتكليف والعقاب على الترك والفعل لزم التكليف من غير بيان والعقاب بلا برهان ، وذلك أيضا أمر (2) واضح يحكم به كلّ من يجد من (3) نفسه رائحة من المعنى ، فإنّ الرقيب العتيد (4) الذي يحاسبنا في حركاتنا الجزئية وسكناتنا الشخصية كيف يتأتّى منه التعذيب على الأمر المجهول مع ظهور حجّة العبد عليه.
فإن قلت : فرق ظاهر بين ما نحن بصدده وما مرّ من الشبهة الحكمية لعدم معلومية الحكم والتكليف فيها رأسا بخلاف المقام فإنّ التكليف بالاجتناب عن الخمر أو إكرام العالم مثلا معلوم ، والشكّ في اندراج الفرد لا يجدي في رفع الحكم المعلوم لأنّ المأمور بالاجتناب عنه وإكرامه هو الخمر الواقعي والعالم النفس الأمري ، والتكليف بالعنوان الواقعي يقضي بالاجتناب عن الخمر المشكوك وإكرام العالم المجهول.
قلت : إن أريد من (5) لزوم الاجتناب عن الخمر المشكوك وجوبه بواسطة الخطاب (6) العامّ الحاكم باجتناب الخمر ، فذلك ظاهر البطلان بل لا يكاد يلتزم به العاقل لما عرفت من [ أنّ ] التكليف ولو كان خاصّا في خصوص فعل جزئي يحتاج إلى العلم ، والعلم بالعنوان لا يجدي في الموضوعات الخاصّة بعد كون المقصود حقيقة من الأمر بالكلّي إيجاد الأفراد (7) كما لا يخفى ، ولو كان الاستناد إلى العنوان المعلوم كافيا في التكليف بالأفراد المشكوكة ، لصحّ الاستناد إليه فيها أيضا لو كان حكم العنوانين
ص: 413
مختلفا ، مثلا لو قلنا بحرمة إكرام الجاهل ووجوب إكرام العالم وشكّ في زيد هل هو عالم أو جاهل ، فلو صحّ دعوى وجوب إكرامه نظرا إلى وجوب إكرام العالم الواقعي واحتمال أن يكون زيد منه ، لصحّ (1) دعوى حرمة إكرامه نظرا إلى حرمة إكرام الجاهل الواقعي فإنّ لكلّ مطلوب دليلا يستفاد ذلك المطلوب منه ، وهو لا مناص من تركه من مقدّمتين إحداهما يحكم فيها بثبوت (2) الملزوم ، والأخرى بالملازمة ، ففي وجوب إكرام زيد المشكوك كونه عالما لو صحّ الاستناد إلى وجوب إكرام مطلق العالم المعلوم بالخطاب العامّ ، لزم إثبات المطلوب بمقدّمة تكفل (3) لبيان الملازمة فقط وهي المسمّاة بالكبرى عندهم.
وإن شئت زيادة توضيح في (4) ذلك ، فانظر إلى قولك : « زيد قائم » مثلا بعد إحراز ما يستفاد منه ثبوت القيام لزيد كيف يدور العلم بالقيام له والظنّ والشكّ فيه أيضا مدار العلم بزيد والظنّ به والشكّ فيه ، فكما أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء ، فالعلم بثبوت شيء لشيء فرع العلم بذلك الشيء ، وهذا ظاهر معلوم لكلّ من راجع وجدانه بل وهو من أجلى الضروريات ، ولهذا تراهم (5) يرسلون اشتراط مطلق التكليف بمطلق العلم إرسال المسلّمات على ما لا يخفى.
وإن أريد (6) أنّ في موضوع الاحتمال دليل (7) آخر غير ما دلّ على وجوب إكرام العالم ولزوم الاجتناب من (8) الخمر من حيث وجود العلم الإجمالي بوجود الخمر الحقيقي الواقعي في سلسلة المشكوكات ، فهذا خارج عن مفروض الكلام في المقام حيث إنّ الكلام إنّما هو في الشكّ الابتدائي من غير سبق علم إجمالي بوجود الواجب والحرام في
ص: 414
المشكوكات كما في الشبهة المحصورة ، فإنّ للكلام فيها مقاما آخر ستعرفه (1) فيما سيجيء.
وبالجملة ، فالمكلّف تارة يعلم تفصيلا بالموضوع والحكم ، وظاهر لزوم الامتثال حينئذ (2) ، وتارة يعلم بوجود الموضوع في جملة مشتبهة فله حكمه على ما سيجيء ، وأخرى يشكّ في الموضوع فيشكّ في نفس التكليف بالنسبة إليه بالخصوص ، ولا فرق بين الشكّ في التكليف الكلّي والجزئي بعد اتّحاد (3) المناط ولا سيّما بعد ما عرفت من أنّ المقصود حقيقة منه إتيان (4) الجزئيات كما لا يخفى ، وانضمام الأفراد المعلومة بالتفصيل إلى الأفراد (5) المشكوكة لا يؤثّر في جريان البراءة فيها ؛ للعلم بعدم مدخلية المعلوم في المجهول ، فالإتيان بالمشكوكات لو كان من جهة كونها مقدّمة للأفراد المعلومة بالتفصيل ، فلا يعقل له معنى ولو كان بواسطة الأفراد المعلومة بالإجمال ، فالمفروض خلاف ذلك ، ولو كان بواسطة تحصيل العلم بالأفراد الواقعية ، فالشكّ إنّما هو في كونها فردا واقعيا ولا بدّ في تعلّق التكليف بشيء من العلم به وبمتعلّقه (6) وبجميع ما له دخل فيه ، وإلاّ فالشكّ يرجع إلى نفس التكليف والبراءة محكّمة فيه.
نعم ، في المقام شيء آخر وهو القول بلزوم الاحتياط والإتيان بالمشكوكات نظرا إلى لزوم دفع الضرر المحتمل وليس المراد به الضرر الأخروي من العقاب المترتّب على ترك المأمور به وفعل المنهيّ عنه (7) كي يقال بأنّ قبح التكليف بلا بيان يؤمننا الضرر ، ولا ما يترتّب على ترك الاحتياط حتّى يقال بعدم وجوبه بعد عدم جواز العقاب على نفس التكاليف الواقعية كما مرّ تحقيقه في الشبهة الوجوبية ، بل المراد به الضرر الدنيوي من الآلام المحتملة عند ترك ما يحتمل الوجوب كاحتمال الرمد عند
ص: 415
ترك قراءة الدعاء عند الاستهلال مثلا ، أو الأخروي فيما لا يرجع إلى العقاب على التكاليف الواقعية وإن كان بواسطة مخالفة حكم العقل ، وهذا هو الذي نبّهنا عليه في الشبهة الوجوبية ووعدنا توضيحه لك في هذا المقام (1).
فاعلم : أنّ جملة من الأعاظم قد تصدّوا لدفع الإشكال إلاّ أنّهم بعد لم يأتوا بشيء يشفي العليل ، ويروي الغليل ، فمن ذلك ما أفاده بعضهم من منع حكم العقل بدفع الضرر ولو احتمالا مرجوحا أو مساويا ، غاية الأمر لزوم دفع المظنون منه ، وزاد بعضهم على ذلك ، فمنع من وجوب دفعه شرعا أيضا نظرا إلى منع الملازمة بينهما بل إنّما هو حكم عقلي صرف لا يمازجه شوب الشرع ، فلا يثبت به الحكم الشرعي ووجوب الاحتياط.
وحكي عن المحقّق الوحيد البهبهاني الأستاذ الأكبر في رسالته المعمولة في البراءة والاحتياط (2) أنّ (3) حكم العقل بلزوم دفع الضرر إنّما هو مجرّد إرشاد من العقل وإراءة طريق لنا لا يصل حدّا يوجب العقوبة على تقدير المخالفة ، فالعقل يحكم بالاحتياط ودفع الضرر حذرا من وقوعه فيه لا أنّه عنوان يحكم العقل بحرمته في نفسه على وجه يستوجب المخالف للذمّ كما في الظلم ونحوه ، والكلّ كما ترى بسقوط (4) الأوّل ؛ لقضاء (5) الضرورة بخلافه ، والثاني بما مرّ فيما سبق من تحقّق (6) الملازمة الواقعية بين العقل والشرع ، وكيف لا وهو خالق العقل؟
وأمّا الثالث ، فبعد الإغماض عن مخالفته لما في الوجدان ، فهو هدم لما أسّسه (7) أكابر المتكلّمين من وجوبه على الوجه المزبور ، وكيف وهذا هو المبنى لأسّ مسائل الربوبية
ص: 416
والمعارف الإلهية كما لا يخفى ، فالأولى الالتزام به ومع ذلك فالمطلوب ثابت لما عرفت أنّ الأحكام العقلية على قسمين بل على أقسام :
فتارة يمنع تصريح الشارع بخلافها كما فيما لو كان الحسن والقبح من مقتضيات ذات الشيء كحسن المعرفة وقبح الكذب بالنسبة إليه.
وأخرى لا يمنع (1) التصريح بخلافها لكن لا من حيث عنوان الحسن والقبح بل بواسطة عنوان آخر طار على الأوّل ، وقد مرّ أيضا أنّ عدم العلم بطريان العنوان الطارئ لا يجدي في ظاهرية حكم العقل وإن كان في موضوع الجهل كما أنّ عدم العلم بلحوق عنوان الطارئ لا يوجب عدم استقلال العقل بالحكم عند احتماله إذ مع عدم العلم بالعنوان اللاحق لا حكم له قطعا لعدمه حقيقة لاشتراط وجوده بالعلم ، فعند عدمه يستقلّ العقل بالحكم ، فلو استقلّ العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي ، فللشارع أن يحكم بخلافه لكن لا على وجه التخصيص بل حكم (2) الشارع يكشف عن وجود مصلحة فائقة على المفسدة التي أحرزها العقل ، فالفعل حينئذ يعنون بغير العنوان الحسن أو القبح (3) ، فهو تخصيص موضوعي كقتل الكفّار وقطع يد السارقين ونحو ذلك.
وإذ قد تمهّدت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الشارع قد جوّز ارتكاب الضرر الدنيوي في صورة العلم في موارد عديدة كالجهاد والتمكين من القتل عند إظهار كلمة الكفر لمن يعتدّ بشأنه في الدين وأمثال ذلك ، فكيف بالضرر المظنون والمشكوك ، فلا ضير في حكم العقل بوجوب دفع الضرر من حيث هو هو حكم الشرع في موارد خاصّة لعدم وجوبه للمصالح الكامنة في ارتكاب الضرر ، ولهذا تراهم عند الشكّ في الضرر لا يحكمون بسقوط التكليف إلاّ عن جماعة قليلة لشبهة اختلجت في أذهانهم نظرا إلى عنوان الخوف في بعض الأدلّة ، ولا دخل له بما نحن بصدده إذ على تقدير كون الخوف عنوانا على حدة في الأدلّة الشرعية ، فعند الشكّ وجوده قطعي والحكم لا يناط أبدا
ص: 417
بالشكّ عندهم.
والحاصل ، فلا مانع في العقل أن يحكم الشارع الحكيم بعدم (1) لزوم الاجتناب عن الضرر الدنيوي ترخيصا لنا في أفعال تحتمله (2) نظرا إلى عموم ترياق رحمته تعالى المصلح لسموم (3) الأفعال ، وبعد ما عرفت (4) من قيام الإجماع على عدم لزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل وورود الأخبار والآيات على جوازه لا مناص من الحكم بالبراءة فيه ، غاية الأمر عدم تمامية دليل العقل في الشبهة الموضوعية ولا ضير فيه بعد كفاية غيره عن المطلوب ، ولا يلزم الانفكاك بين حكمي العقل والشرع نظرا إلى اختلاف العنوانين في الحكمين ، ولا يلزم من جواز تبدّل العنوانين عدم استقلال العقل في حكمه قبل العلم بلحوق العنوان الآخر كما في الأصول الدينية ولا يكون الحكم بوجوب (5) الدفع قبل الشرع حكما ظاهريا من العقل لما عرفت من أنّ الاحتمال دليل على عدم تحقّقه ولا يعقل في الأحكام العقلية كونها ظاهرية وهذا كلّه ظاهر لا سترة عليه.
فإن قلت : قد تقدّم في مباحث الظنّ حجّيته في الضرر وإن كان من الموضوعات ، وغاية ما يثبت (6) في المقام هو إلغاء الضرر المشكوك نظرا إلى قيام الإجماع عليه ، ولا خفاء في أنّ الظنّ بالواجب يلازم الظنّ بالضرر الغير الأخروي ممّا يرجع إلى العقاب ، فاللازم من جميع ذلك حجّية مطلق الظنّ ، وهذا هدم لما تقرّر في محلّه من عدم حجّيته سيّما بواسطة الضرر المحتمل مع قطع النظر عن مقدّمات الانسداد.
قلت : لا نسلّم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا يرجع إلى أمر عرفي لا يجري فيها دليل الانسداد فإنّ المناط في الحجّية على ما قرّرنا في محلّه هو جريان الانسداد في نفس الموضوع وقاعدة الاستلزام ، وإن شئت زيادة توضيح لذلك ، فراجع مظانّه من مباحث الظنّ ، فتدبّر.
ص: 418
في الشبهة الموضوعية التكليفية فيما دار الأمر بين الحرام والواجب والكلام فيه كالكلام في الشبهة التكليفية من عدم الالتزام بشيء منهما وتحكيم البراءة فيهما بعد ما فرضنا كون الواقع مجهولا وعدم دليل على انقلاب التكليف التعييني (1) إلى التكليف التخييري عدى أنّ عدم (2) الالتزام في المقام أوضح إذ من طرح الحكمين - بمعنى عدم الالتزام بهما في الشبهة الموضوعية - لا يلزم عدم الالتزام بالحكم الإلهي الكلّي إذ الشكّ في تعلّق ذلك الحكم على المكلّف بواسطة الشكّ في اندراج الموضوع في موضوع الحكم ، فعدم الالتزام بتعلّق الحكم عين الالتزام بالحكم الكلّي كما لا يخفى.
ثمّ إنّهم قد أوردوا في المقام أمثلة :
منها : ما لو نذر شرب إناء معلوم من الخلّ ، ثمّ اشتبه بالخمر لعارض كالظلمة ، أو نذر شرب المشتبه بالخمر ابتداء فإنّ الموضوع المردّد بين الخلّ والخمر في الصورتين يحتمل أن يكون واجبا لتعلّق النذر به ، ويحتمل أن يكون (3) حراما لاحتمال الخمرية فيه ، فهو إمّا واجب وإمّا حرام.
ومنها : ما لو نذر وطي زوجته الخاصّة ، ثمّ اشتبهت بغيرها لعارض ، أو نذر وطي المشتبه بالأجنبية ابتداء فإنّ الوطي بالنسبة إلى الموضوع المشتبه في الصورتين إمّا
ص: 419
واجب ، وإمّا حرام بالنظر إلى النذر وحرمة وطي الأجنبية ، ومثل النذر ما لو اشتبهت في رأس أربعة أشهر كما لا يخفى.
ومنها : لو نذر أن يتصدّق بمال مخصوص ، ثمّ اشتبه بملك الغير ، أو تعلّق نذره بالمشتبه ابتداء فإنّ التصدّق بالعين (1) المعهودة إمّا أن يكون واجبا للنذر ، أو حراما لكونها ملك الغير.
والحقّ : أنّ شيئا منها ليس بوارد (2) على ما نحن فيه بعد ما عرفت فيما سبق من أنّ الكلام فيما إذا لم يكن أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر كأن يكونا مستندين إلى علّة ثالثة خارجة منهما ، وفيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي به يتعيّن موضوع الحكم.
وتوضيح ذلك :
أنّ الأوّل منها يرتفع الإشكال فيه تارة بجريان أصل موضوعي فيه كما إذا اشتبه المنذور بغيره لأصالة عدم تعلّق النذر به ، فيجري البراءة من غير إشكال ، وأخرى بجريان أصل البراءة في الشكّ السببي فيرتفع الشكّ في المسبّب كما إذا تعلّق النذر (3) بالمشتبه فإنّ الشكّ في وجوب الشرب مسبّب عن الشكّ في حرمته ، وبعد جريان البراءة ، فلا إشكال فيجب الشرب من دون احتمال تحريم.
وأمّا الثاني ، فيرتفع الإشكال فيه تارة بجريان الأصل في الموضوع كما إذا تعلّق النذر بالمشتبه فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة ، فيرتفع الشكّ في وجوب الوطي ، وأخرى بجريان أصل موضوعي آخر كما إذا اشتبه المنذور وطؤها لأصالة عدم تعلّق النذر بها وحيث إنّ الأصل أيضا عدم الزوجية فيحرم وطؤها من غير إشكال.
وأمّا الثالث ، ففيما إذا اشتبه الموضوع فالأصل عدم تعلّق النذر به كما أنّ الأصل عدم الملكية فيحرم التصدّق به ، وفيما إذا تعلّق (4) النذر بالمشتبه فأصالة عدم الملكية بعد
ص: 420
جريانها لا محلّ للنذر وذلك ظاهر لا سترة عليه.
ثمّ إنّ المدرك في أصالة عدم الملكية يمكن أن يكون أمورا (1) :
الأوّل : أصالة عدم المالية عند الاشتباه فيحرم التصرّف فيه.
ولكنّه ليس على ما ينبغي لأنّ الحرمة في عنوان الأدلّة الشرعية لا يترتّب على عدم المالية فإنّها من آثار ملك الغير ، فبدون التسرية إلى ثبوت ملك الغير بالأصل (2) لا جدوى فيه ، ومعها لا تعويل (3) عليه لأنّه (4) أصل مثبت ، على أنّه معارض بأصالة عدم ملك الغير ، فيجري أصالة الإباحة فيها مع أنّ طريقة الأصحاب ممّا تنفي (5) ذلك.
الثاني : أصالة عدم الملكية نظرا إلى أصالة عدم ما يفيد الملك من الأسباب الشرعية كالصلح والهبة والبيع ونحوها بناء على أنّ الاستقراء في الشرعيات يعطي انحصار الملك في الأسباب.
وفيه : أنّ الاستقراء هذا وإن كان حقّا إلاّ أنّ مفاده لا يزيد على حصر الملك في أسباب خاصّة ، وأصالة عدم تلك الأسباب لا يقضي بالحرمة بل يقضي (6) بعدم حصول الملك والحرمة على ما عرفت من آثار ملك الغير لا من آثار عدم الملكية كما لا يخفى.
الثالث : أصالة بقاء الحرمة الثابتة ولو في زمان ما في بعض الأقسام ، وتوضيح ذلك : أنّ الملك المشتبه المردّد بين أن يكون ملكا لك أو لغيرك لا يخلو من وجوه :
أحدها : أن يكون مسبوقا بالإباحة الذاتية الأصلية (7) كالمباحات الشرعية وكان الشكّ في أنّ سبب الملك وهي الحيازة هل حصلت لك أو لغيرك.
وثانيها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك من غير احتمال انتقاله
ص: 421
إلى الغير.
وثالثها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك مع احتمال انتقاله إلى غيرك أيضا لا (1) شكّ في إباحة الأوّل لاستصحابها ، وحرمة الثاني أيضا لاستصحاب ملك الغير وأصالة عدم خروجه عن سلطانه كما أنّه لا ريب في حرمة الثالث نظرا إلى استصحاب ملك الغير.
فإن قلت : إنّ ملك الغير قد انقطع إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليك وغير معلوم رأسا إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليه ، وهل هذا إلاّ (2) مثل استصحاب الضاحك بعد العلم بتبدّل الأفراد فإنّ الضاحك الموجود اليقيني في ضمن زيد قد ارتفع قطعا ، وفي ضمن عمرو لم يعلم ثبوته ، فلا تعويل على مثل هذا الاستصحاب.
قلت : إنّ تبدّل الأفراد لا يقضي بانتفاء الجنس والكلّي فإنّ ملك الغير على سبيل الكلّية والجنسية معلوم والشكّ في وجوده لا يثمر ، فيحكم ببقائه حتّى يعلم انتفاء الجنس ، وانتفاء الفرد لا دخل له فيه ، ألا ترى أنّ انتفاء الفرد الشديد من السواد لا يخلّ في استصحاب مطلق السواد وجنسه ولو في فرد آخر ، وحديث الضاحك أيضا غير مسلّم فيما لو كان الشكّ في وجود مطلق الضاحك.
نعم ، لو كان الشكّ في الضحك الخاصّ الموجود في ضمن زيد بخصوصه ، لا يعقل استصحابه في ضمن عمرو فإنّ نسبة الجنس إلى جميع أفراده المندرجة تحته سواء ، وانتفاء الخاصّ لا يدلّ على انتفاء العامّ بخلاف ما إذا كان الكلام في خصوصيات الأفراد.
الرابع : قوله صلى اللّه عليه وآله : « ما يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب من (3) نفسه » (4) فإنّ الحلّية في الحديث
ص: 422
موقوفة على طيب النفس والرضاء (1) الباطني والأصل عدم حصول طيب النفس ، ويؤيّد ذلك ما ذكروه (2) في كتاب اللقطة من أنّ من وجد في بيته مالا مع كثرة دوران الناس في بيته ، يحكم بكونه لقطة ، ويترتّب عليه آثارها من الإعلام ونحوه كما يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في بعض الأخبار (3) من أنّ المال الموجود في الصندوق المشترك لا يجوز التصرّف فيه عند الاشتباه.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّه ليس الكلام في الأموال التي لا يعلم (4) سبق (5) اليد عليه (6) فإنّ فيها ربّما نقول باستصحاب الإباحة الذاتية كما عرفت بل المقصود إثبات الإباحة العرضية المسبّبة عن أحد الأسباب الشرعية وعدمها ، وهذا نظير قولنا في بعض مباحث المفاهيم قبالا لمن زعم أنّ الحكم (7) المستفاد من المفهوم لو كان موافقا لأصالة الإباحة ممّا لا جدوى فيه لحصول الإباحة بدون التعليق من أنّ الإباحة المستفادة من المفهوم تغاير الإباحة المطلقة لاستنادها إلى التعليق ، فهي إباحة سببية ، وتلك إباحة ذاتية ، فعند انتفاء الشرط يحكم بانتفاء الإباحة العرضية لا الإباحة الذاتية ، وذلك ظاهر لمن تدبّر.
ص: 423
ص: 424
قد عرفت فيما سبق أنّ الشكّ تارة في التكليف ، وأقسامه من (1) الموضوعية والحكمية بأقسامهما (2) ستّة ، وقد مرّ تفصيل الكلام فيها ، وأخرى في المكلّف به فتارة في الموضوع ، وأخرى في الحكم.
أمّا الأخير ، فستطّلع إن شاء اللّه العزيز على تفاصيل أقسامه وأحكامه (3) عمّا قريب.
وأمّا الأوّل ، فتارة فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، وأخرى فيما دار بين الحرام وغير الواجب ، ومرّة فيما دار الأمر بين الحرام والواجب سواء كان الأمر في الموضوع دائرا بين الأقلّ والأكثر ، أم لا.
والكلام في هذا الأصل معقود لبيان حكم الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، ويتبعه الكلام فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر سواء كانا استقلاليين أو لا ، مثال ذلك ما لو اشتبهت القبلة فإنّ الحكم - وهو وجوب الصلاة على جهة القبلة - معلوم وإنّما الشكّ في أنّ الواجب هو الفعل مستقبلا على الجهة الفلانية أو غيرها.
ص: 425
وقد يستشكل في كون المذكور مثالا لما نحن فيه لاحتمال أن يكون القبلة (1) واستقبالها من الشروط العلمية ، فعند عدم العلم لا يكون الاستقبال واجبا كما في الذبح فإنّ التخيير بين الجهات حينئذ ليس تخييرا شرعيا ، فالأولى التمثيل بالصلاة الفائتة من الصلوات الخمس عند اشتباهها ، فإنّ التكليف الوجوبي معلوم ، والشكّ إنّما هو (2) في المكلّف به وفي تعيين الواجب منها.
لا يقال : إنّ الأمر دائر بين المحذورين في المقام لاحتمال التشريع وهو إتيان الصلاة لا على جهة القبلة الواقعية.
لأنّا نقول : ليس الكلام في الحرمة التشريعية إذ بعد حكم العقل بلزوم الاحتياط يرتفع موضوعه بل في الحرمة الشرعية ولا احتمال لها في أمثال المقام كما لا يخفى.
ثمّ إنّ هاهنا مقامين :
أحدهما : أنّ بعد اشتباه موضوع الحكم هل يجوز المخالفة القطعية بطرح جميع المحتملات ، أو لا؟
وثانيهما : أنّ بعد القول بعدم جواز (3) المخالفة القطعية فاللازم تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية؟ ففي المقام الأوّل لو قلنا بجواز المخالفة يجوز ترك الصلاة في جميع الجهات ، وفي المقام الثاني لو قلنا بوجوب تحصيل الموافقة القطعية لا بدّ من الإتيان بجميع المحتملات تحصيلا للواقع ، ولو قلنا بعدم وجوبه وكفاية الموافقة الاحتمالية ، يكفي بالصلاة في جهة واحدة.
أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فالظاهر أنّه لم يذهب وهم إلى جواز المخالفة القطعية بل الكلّ مطبقون على تحصيل الموافقة ولو احتمالا.
وأمّا المقام الثاني ، ففيه خلاف يظهر من بعض الأواخر (4) في نظير المقام عدم
ص: 426
وجوب الموافقة القطعية ، وتبعهم في ذلك المحقّق القمّي (1)(2) في المقام ، والمنصور (3) هو وجوب الاحتياط وتحصيل الموافقة ، لنا على ما صرنا إليه أنّ من المعلوم عندنا تعلّق الوجوب الواقعي وترتّبه على الصلاة بالقبلة (4) الواقعية ، وكلّما علمنا تعلّق الوجوب الواقعي على موضوع واقعي يجب الإتيان به وامتثال أمره ، فيجب الإتيان (5) بالصلاة على القبلة الواقعية ، فالمانع إن عطف عنان كلامه إلى منع الصغرى بعدم (6) تسليمه ترتّب الوجوب على الصلاة بالقبلة (7) الواقعية نظرا إلى عدم تعلّق الأحكام بالواقع - سواء كانت مدلولة للألفاظ لعدم وضعها للمعاني الواقعية أو مدلولة للإجماع لأنّ المتيقّن (8) من معاقد الإجماع هو ما كان الحكم معلوما - فالحاكم بيننا وبينه هي (9) الأدلّة الشرعية لفظا ولبّا بالرجوع إليها فإنّ من الضروري بحيث لا ينكره إلاّ المكابر تعلّق الأحكام بالواقع في الأدلّة الشرعية ، على أنّ ذلك لو تمّ لم يجب الموافقة الاحتمالية بل مقتضاه جواز المخالفة الواقعية ؛ لعدم ثبوت التكليف في وجه ، لعدم العلم ، مع أنّ الخصم لا يسلّم ذلك ، والاستناد في ذلك إلى الإجماع على لزوم الإتيان بشيء من الأمر المردّد ممّا لا يسمن ولا يغني فإنّ الإجماع على ما هو ظاهر لمن تدبّر كلمات المجمعين إنّما هو نظره إلى ثبوت الحكم في الواقع لا أنّه (10) حكم آخر ، كيف؟ ولو كان كذلك ، لكان التخيير واقعيا بين الاحتمالين كوجوب الخصال ، وعلى تقديره فليس من الموافقة الاحتمالية في شيء بل هو الموافقة القطعية التفصيلية وذلك واضح ، والظاهر أنّ الخصم أيضا ممّن لا ينكر ذلك أيضا ، وإنّما تعرّضنا لدفعه تحقيقا للمقام.
وإن استند في دفع الحجّة المذكورة إلى منع الكبرى نظرا إلى عدم الدليل على
ص: 427
وجوب الامتثال على الوجه المذكور لأنّه إن كان هو الشرع فالمفروض انتفاؤه ، وعلى تقديره ، فلا يجدي لأنّ الكلام في وجوب الاحتياط والإتيان بالمحتملات نظرا إلى دليل الواقع من غير حاجة إلى دليل الاحتياط وإن كان هو العقل من حيث إنّ بعد العلم بتعلّق الوجوب الواقعي على الصلاة بالقبلة الواقعية ، فلا يكون هناك حالة منتظرة للإتيان بالفعل على الوجه المذكور ، فإنّ أريد أنّ مجرّد العلم بتعلّق الوجوب علّة تامّة لحكم العقل بوجوب الاحتياط كما في صورة حصول العلم التفصيلي ، فغير سديد لجواز تصريح الشارع بالعفو عن الاحتياط من غير محذور كما هو واقع أيضا ، فلا يصحّ قياسه بالعلم التفصيلي كما لا يخفى ، وإن أريد أنّه مقتض للاحتياط ، فغير مفيد لجواز تخلّف المقتضي عن المقتضى (1) لاحتمال وجود المانع.
فالجواب عنه أنّ مطلق العلم بتعلّق التكليف بالأمر الواقعي مع إمكان الامتثال علّة تامّة للإطاعة عقلا كما تشهد به صراحة الوجدان وهي على قسمين :
إمّا عقلية صرفة كما إذا لم يرد من الشارع ما يسقط بعض الاحتمالات ، فيجب الإتيان بها طرّا لتحصيل الامتثال ، وذلك ظاهر جدّا.
وإمّا شرعية كما إذا دلّ الدليل الشرعي على سقوط بعض المحتملات فإنّ للشارع أن يجعل إطاعة هذا الأمر على هذا الوجه فكأنّه بدل من الواقع كما إذا قامت البيّنة على تعيين القبلة الواقعية ، ولا ضير في ذلك.
وبالجملة ، فكما أنّ قيام البيّنة العادلة على تعيين القبلة الواقعية مشخّص (2) لموضوع الأمر ويحصل الامتثال بالعمل على مفادها من غير نكير ، فكذا حكم الشارع بإسقاط بعض المحتملات لا يضرّ في الامتثال وحصول الإطاعة بالنسبة إلى الأمر الواقعي فإنّ امتثاله فيه ، فظهر صحّة مقايسته بالعلم التفصيلي فإنّ تجويز (3) ترك الإطاعة مطلقا
ص: 428
عقلية وشرعية يناقض العلم الإجمالي بوجوب الإطاعة في الجملة على أحد الوجهين كما أنّه يناقض تجويز (1) ترك الامتثال التفصيلي عند حصول العلم التفصيلي كما لا يخفى.
على أنّ لنا أن نختار الشقّ الثاني ، واحتمال المانع مدفوع بالأصل ، ولا يعارضه أصالة البراءة ، فتدبّر.
وإن استند في منعهما إلى لزوم التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع إطباق العدلية على امتناعه بتقريب أنّ الوجوب الواقعي إنّما يترتّب على الموضوع الواقعي فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل ، وأمّا فيما يلزم منه التكليف بالمجمل ، فلا يترتّب على الموضوع الواقعي بل لا بدّ من حمله على موضوع لا يلزم منه المحذور المذكور ، وعلى تقدير تعلّق الوجوب بالواقع ، فالامتثال فيه وجوبه إنّما يسلّم فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل.
فالجواب عنه أنّ التكليف بالمجمل الذي اتّفق العدلية على امتناعه هو ما لم يكن للمكلّف مندوحة في الامتثال ولم يكن طريق عقلي للإطاعة فيه وبعد ما عرفت من أنّ العقل بعد العلم بتعلّق الوجوب على الموضوع الواقعي يستقلّ بالحكم على لزوم الإطاعة والامتثال ، فلا إجمال في التكليف ولا في المكلّف به كما لا يخفى.
على أنّ الإجمال في المقام على تقديره إنّما هو في تعلّق الحكم الشرعي وموضوعه لا في نفس التكليف الكلّي ومتعلّقه على ما هو ظاهر.
ومجمل الكلام في المقام أنّ منع (2) الصغرى المذكورة تارة بمنع المقتضي بمنع تعلّق الوجوب إلى الموضوع الواقعي وقد عرفت فساده ، وأخرى بوجود المانع لاستلزامه التكليف بالمجمل.
ومنع الكبرى أيضا تارة بمنع المقتضي لعدم الدليل على وجوب الامتثال حينئذ ، وأخرى بوجود المانع من استلزامه المحذور المذكور ، وقد عرفت فساد الكلّ كما لا يخفى.
ص: 429
ويؤيّد ما ذكرنا فحوى الأخبار الآمرة بتكرير (1) الفائتة في ثلاثة حيث إنّ المنساق منها لزوم تكريرها (2) إدراكا للواقع المجهول فيه كما يظهر من ملاحظة تعليل الإمام عليه السلام من أنّ الفائتة إن كانت كذا فكذا ، ومن ثمّ تراهم حاكمين بلزوم إتيان ركعتين ، أو ثلاث ركعات فيما لو فاتت من المسافر صلاة واحدة فقط ، وذلك ظاهر بعد التدبّر.
ودعوى عدم تنجّز التكليف في حقّ المكلّف إلاّ في صورة العلم التفصيلي ممنوعة على مدّعيها إذ من الظاهر مخالفته لطريقة (3) الامتثال المأخوذة عن طريقة العقلاء في امتثال أوامر مواليهم إذ لا مانع منه بعد العلم بالتكليف والمكلّف به إجمالا ، ولا يعدّ التارك إلاّ مخالفا ، وذلك واضح في الغاية.
وقد يستدلّ في المقام بوجود المقتضي للامتثال وهو العلم بتعلّق الأمر الواقعي على الموضوع الواقعي وعدم المانع منه لإمكان الامتثال والاحتياط ، وقد يعبّر عنه في لسان البعض بقاعدة الاشتغال حيث إنّ الاشتغال يقيني ، فيحتاج إلى براءة يقينية ، وفي لسان آخرين بأنّ تحصيل العلم بالامتثال واجب ، فلا يحصل إلاّ بالاحتياط.
وقد تقرّر بأنّ في ترك الاحتياط احتمال الضرر العقابي ، فلا بدّ في دفعه من الاحتياط ، فتأمّل (4).
وقريب من ذلك دعوى استقرار بناء العقلاء على الامتثال فيما علم التكليف إجمالا.
والكلّ مرجعه إلى ما قلنا ، عباراتنا شتّى.
ثمّ إنّه قد يتمسّك في المقام باستصحاب الاشتغال عند الشكّ في الامتثال بعد إتيان الصلاة مثلا في جهة واحدة.
وقد عرفت فيما مرّ عدم استقامة هذا الكلام فإنّ الاستصحاب ممّا لا يترتّب عليه فائدة إلاّ أن يكون مثبتا في وجه ، وممّا لا مجرى له في وجه آخر.
ص: 430
بيان ذلك أنّ من المعلوم عدم ملاحظة الحالة السابقة في قاعدة الاشتغال فإنّ المناط فيها هو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة عند الشكّ فيها فمع ملاحظة حكم العقل بوجوب التفريع. لا شكّ في اللاحق حتّى يحتاج إلى استصحاب الاشتغال ، ومع قطع النظر عن حكم العقل بلزوم الاحتياط ووجوب تفريغ الذمّة وإن كان الشكّ باقيا إلاّ أنّ الحكم بوجوب إتيان الصلاة في الجهة الباقية أو الجهات الباقية ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال واستصحابه إذ الاشتغال الاستصحابي لا يزيد على الاشتغال الواقعي ، فكما أنّ الاشتغال الواقعي لا يقضي بالاحتياط فكذلك ما هو (1) منزّل منزلته كما لا يخفى ، اللّهمّ إلاّ أن يكون استصحاب بقاء الاشتغال مثبتا لكون القبلة هي الجهة الباقية ، أو إحدى الجهات الباقية ولا تعويل عليه عند التحقيق.
أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات ، فلو أتى المكلّف بواحد منها ولكن صادف الواقع ، فهل هو معاقب في تركه الاحتمالات الأخر أو لا؟ الحقّ الثاني بناء على ما هو التحقيق من أنّ الحكم بوجوب الاحتياط في المقام عقلي لا شرعي ، والمقصود هو الوصول إلى الواقع وهو حاصل ، فلا وجه للعقاب.
لا يقال : إنّ ترك الاحتمال الآخر وإن لم يكن محرّما من حيث أداء الواقع وحصول المقصود إلاّ أنّ عنوان التجرّي شامل له ، فيحرم من باب التجرّي في أوامره وعدم الانقياد له.
لأنّا نقول : إنّ للمتجرّي (2) - على ما هو التحقيق (3) في محلّه - صورا أعلاها فيما لو علم
ص: 431
بالمخالفة ، وأدونها ما لو احتمل المخالفة لكن مع عدم المبالاة بها ، وأمّا فيما لو احتمل المخالفة ، فيرتكب الفعل عسى (1) أن لا يكون مخالفة ، فلا نسلّم كون الفعل المذكور تجرّيا ، ولو سلّمنا الصغرى ، فلا نسلّم الكبرى إذ لا دليل على أنّ مطلق التجرّي ولو في هذا الفرد حرام ، والعقل لا يزيد حكمه على حرمة الأوليين كما لا يخفى (2).
وأمّا على ما يراه البعض من لزوم الاحتياط بواسطة الأدلّة الشرعية كالاستصحاب ودليل الاحتياط فيحتمل العقاب وإن صادف الواقع نظرا إلى أنّ الشارع قد جعل في مرحلة الظاهر للشاكّ طريقا إلى الواقع ، فمصادفة الواقع لا يجدي في صدق المخالفة بالنسبة إلى الطريق المجعول الشرعي ، فإنّ قوله : « لا تنقض » نهي عن النقض لليقين بالشكّ ، و (3) في الصورة المذكورة لم يمتثل المكلّف هذا النهي ، ولا ينافيه عدم تعدّد العقاب فيما لو خالف الواقع إذ لا يعدّ هناك إلاّ مخالفة واحدة للواقع ، وهذا كلام جار في جميع الطرق الظاهرية اجتهادية كانت أو تعبّدية ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّه بعد في إجمال ، فتأمّل.
لا إشكال في عدم لزوم قصد إتيان الجميع عند الإتيان بواحد من المحتملات فيما لو كان (4) المردّد بين أمرين واجبا توصّليا في الإجزاء وإسقاط الأمر وارتفاع التكليف لعدم (5) اشتراطه بقصد القربة بل ولا بقصد الفعل ، ولهذا يكتفى بما لو حصل اضطرارا ، وأمّا الثواب والإطاعة ، فلا يحصل في التوصّليات أيضا إلاّ بعد القصد والإرادة مضافا إلى قصد الامتثال أيضا على وجه يكون الداعي للفعل هو الأمر وتحصيل الامتثال.
وأمّا في التعبّديات - كما في المثال المذكور من الصلاة الفائتة - فلا بدّ من قصد الإتيان بالجميع عند إتيان كلّ واحد من المحتملات على وجه لو لم يقصد ذلك لم يكن
ص: 432
ممتثلا.
والسرّ في ذلك ما تقرّر فيما تقدّم من مباحث المقدّمة من أنّ وجوبها إنّما هو بواسطة عنوان المقدّمية ، ولا يحصل (1) عنوانها إلاّ بعد إرادة التوصّل بها إلى ذيها وإن لم تكن (2) موصلة كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، فلو توضّأ أحد من غير قصد إلى غاية معيّنة عنده لم يكن متطهّرا ، وذلك كما إذا أمر المولى بإكرام زيد تعبّدا فإنّ من الظاهر عدم سقوط الأمر فيما لو قصد الإهانة إليه ، أو غيرها من الأفعال ولكن صادف إكرامه ، فلا بدّ في حصول فعل من قصد عنوانه وإرادة نفسه وذلك ظاهر ، فعلى هذا لو لم يكن المكلّف حال إتيانه بأحد المحتملات قاصدا لإتيان غيره منها ، لم يكن قاصدا لعنوان (4) المقدّمية ، ولا يصدق على فعله الامتثال كما لا يخفى ، فيبقى الاشتغال بحاله.
وبعبارة أخرى العلّة الغائية في الفعل والعمل لا بدّ وأن يكون مجزوما بها ، وحيث إنّ المفروض أنّ الداعي في التعبّديات هو موافقة الأمر وتحصيل الامتثال ، فلا بدّ أن يكون كلّ من الاحتمالات مقرونا بالنيّة والقصد على وجه لو كان هو الواقع ، لكان مقرونا بالنيّة وقصد الامتثال فيؤثّر أثره ويحصل الموافقة والإطاعة على ما هو المعتبر فيه ، والقصد على هذا الوجه لا يحصل إلاّ بعد إتيان كلّ من المحتملات لاحتمال أنّه الواقع مع القصد بإتيان الباقي من المحتملات (5).
لا يقال : فعلى ما ذكرت يلزم انسداد باب الاحتياط في الشكوك البدوية من غير سبق العلم الإجمالي لعدم الجزم بالأمر الداعي للفعل مع أنّه خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم مضافا إلى الوجدان الحاكم بخلافه.
لأنّا نقول : الامتثال له مراتب (6) فتارة يعلم بوجود الأمر تفصيلا في موضوع (7) معيّن
ص: 433
كذلك ، فلا بدّ فيه من قصد الأمر تفصيلا تحصيلا للامتثال ، وأخرى يعلم بالأمر إجمالا ، فلا بدّ من قصد الامتثال إجمالا ، ومرّة الأمر مشكوك عن أصله ، فالداعي في الفعل هو رجاء الوصول إلى الواقع وهو مجزوم به (1) ، فالعلّة الغائية الباعثة لتحرّك (2) العضلات حتّى يصدر الفعل لا بدّ وأن يكون أمرا مجزوما به ، فلو كان في فعل (3) الداعي إليه هو الأمر لا مناص من إتيانه لأجله (4) على الوجه المقرّر إن علما فعلما ، وإن احتمالا فكذلك.
وبالجملة ، والذي يدور عليه رحى الإطاعة هو (5) قصد الأمر على وجه يكون الداعي في صدور الفعل هو الأمر ، ومع عدم القصد بإتيان الباقي من المحتملات لا يعدّ ذلك إطاعة وامتثالا ، لعدم تحقّق القصد بالأمر كما هو ظاهر لا سترة عليه.
أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام والحكم بلزوم إتيان الصلاة في أربع جهات ، فهل اللازم إتيان احتمالات الظهر بتمامها قبل احتمالات العصر فيما لو كان القبلة مشتبهة فيهما ، أو يجوز التداخل بمعنى إتيان كلّ احتمالات الظهر في جهة ، ثمّ (6) بعد ذلك بإتيان ما يحتمل أن يكون عصرا فيها وهكذا في كلّ جهة؟ وأمّا التداخل لا على الوجه المذكور (7) ، فلا خفاء في فساده ، وجوه ثالثها التفصيل بين وقوع احتمالات العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، فلا بدّ من ملاحظة الترتيب وتقديم احتمالات الظهر ، وبين وقوعها في الوقت المشترك فيجوز التداخل.
وتوضيح المقام أنّه قد يقال بلزوم ملاحظة الترتيب مطلقا وتقديم احتمالات الظهر
ص: 434
بوجوه (1) :
منها : أصالة بقاء الظهر في الذمّة وعدم تفريغها منه.
وفيه : أنّه غير مجد ؛ لأنّ عدم جواز الدخول في احتمالات العصر لا يترتّب على اشتغال الذمّة بالظهر الواقعي ، وإنّما الممنوع منه هو الإتيان بالعصر الواقعي لا بما يحتمل أن يكون عصرا.
ومنها : أصالة عدم مشروعية الدخول في العصر واحتمالاته.
وفيه أيضا : أنّه غير مجد بالنسبة إلى العصر الواقعي إذ الكلام في محتملاته ، وإن أريد عدم مشروعية الدخول في محتملاته فإطلاق الأدلّة الآمرة بالعصر وارد عليها كما لا يخفى.
قلت : وللتأمّل فيه وفيما قبله مجال واسع.
ومنها : أنّ من (2) المقرّر في محلّه أنّ عدم إمكان الامتثال التفصيلي في جهة لا يقضي بعدم اعتباره فيما يمكن إحرازه تفصيلا كما فيما نحن فيه فإنّ الإتيان بالصلاة على القبلة الواقعية عند الاشتباه تفصيلا غير ممكن ، وملاحظة الترتيب بين الظهر والعصر ممّا يمكن إحرازه تفصيلا ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، فلا مناص من تقديم محتملات الظهر على محتملات العصر تحصيلا للامتثال التفصيلي فيما يمكن ، وذلك ظاهر إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ الامتثال التفصيلي في الترتيب أيضا حاصل في التداخل كما لا يخفى.
وقد يقال بعدم ملاحظة الترتيب مطلقا نظرا إلى حصول الامتثال الواقعي والترتيب التفصيلي إذ القدر الواجب من ملاحظة الترتيب هو وقوع العصر الواقعي بعد الظهر الواقعي (3) وهو حاصل تفصيلا من غير إجمال ، وأمّا ملاحظة الترتيب في محتملاته ، فممّا لم يدلّ دليل عليه ، والأصل عدمه.
ص: 435
وقد يقال بالتفصيل بين ما وقع محتملات العصر في الوقت الخاصّ بالظهر بناء على أنّ الوقت في حقّ المشتبه والجاهل هو مقدار ما يسعه من المحتملات جميعا كما أنّ الوقت الخاصّ بالظهر في حقّ الحاضر هو مقدار ما يسعه أربع ركعات ، وفي حقّ المسافر ركعتان ، أو على أنّ الوقت هو مقدار الصلاة بالقبلة الواقعية من المحتملات ، فلا يجوز الإتيان بمحتملات العصر لعدم (1) وقوعها في وقت مشترك لهما بل في وقت خاصّ بالظهر.
أمّا (2) فيما لو كان تمام الوقت مختصّا بالظهر ، فظاهر ؛ وأمّا فيما لو كان الوقت الذي يقع فيه الصلاة بالقبلة الواقعية مختصّا بالظهر من بين المحتملات ، فلأنّه لا يعلم وقوع العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، أو في وقت مشترك ، وبين ما وقع احتمالات العصر في الوقت المشترك ، فيجوز لعدم المانع من الإتيان على ما عرفت إلاّ أن يقال : إنّ اختصاص الوقت بالظهر في هذا المقام لا يمنع عن جواز الإتيان بمحتملات العصر ، وإنّما يمنع عن الإتيان بالعصر الواقعي في وقت خاصّ بالظهر الواقعي ، وبالجملة فاحتمال التداخل مطلقا قويّ في النظر ، فتدبّر.
أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام ، فلو امتنع الإتيان (3) بجميع الجهات وتمام المحتملات شرعا أو عقلا ، فهل يجب الاحتياط في الجهات المقدورة ، أو ينقلب الشبهة تكليفية ، فلا يجب بل يؤخذ بالبراءة؟
وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام فنقول : إمّا أن يكون المانع عقليا كأن يكون المكلّف غير قادر للإتيان بالجميع ، أو يكون المانع شرعيا ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون المانع يمنع عن الإتيان بجهة خاصّة معيّنة ، أو عن (4) جهة لا
ص: 436
بعينها (1) مردّدة بين الكلّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون الامتناع طارئا بعد أن كان الإتيان ممكنا في الجميع ، أو يمتنع الاحتياط الكلّي من أوّل الأمر ، فهذه صور ثمانية ، وحيث أن لا عبرة عندنا بالاستصحاب في أمثال المقام - إمّا لمنع (2) في (3) موضوعه ، أو عدم جريانه رأسا في الأحكام العقلية - فلا فرق بين أن يكون الامتناع طارئا ، أو ثابتا من أوّل الأمر لظهور أنّ التقسيم (4) المذكور إنّما يثمر من حيث استصحاب الوجوب السابق على طريان الامتناع ، فيسقط التقسيم الأخير ، فيبقى الصور (5) أربعة ، مثال ذلك إجمالا الصلاة بالقبلة الواقعية بعد اشتباهها فإنّ قضية الاحتياط والإتيان بكلّ من المحتملات هو الصلاة على كلّ نقطة من الدائرة التي يكون المكلّف مركزها إلاّ أنّه لا يمكن الاحتياط على الوجه المذكور عقلا ، ثمّ شرعا بإسقاط الشارع بعض المحتملات وانحصار الجهات في الأربع.
وقد يناقش في المثال المذكور باحتمال أن يكون القبلة للجاهل الشاكّ هو بين المغرب والمشرق مطلقا على وجه في أيّ جهة منه وقعت صحّت لوقوع الصلاة على القبلة الواقعية ، فلا إسقاط ، ولذا جوّز بعضهم الصلاة في جهات ثلاثة على أضلاع مثلّث مفروض عنده فإنّه على كلّ وجه اتّفق لا يخلو من أن يكون أحد أضلاعه في طرف من بين المغرب والمشرق كما لا يخفى ، فيقع الصلاة على القبلة الواقعية من غير إسقاط لبعض الأفراد والمحتملات.
وقد يمثّل بالاحتياط الكلّي في الفقه عند انسداد باب العلم. وفيه أيضا تأمّل.
وقد يمثّل بالصلاة الفائتة المشتبهة بالخمس فإنّ الشارع قد أسقط بعض المحتملات ، وكيف كان ، فلو كان المانع عقليا وكان الممنوع منه فردا بعينها كما إذا أمر المولى بإكرام
ص: 437
زيد المردّد في أشخاص معلومة لا يمكن عقلا إكرام واحد معلوم منهم ، فالظاهر أنّ الحكم هو البراءة لرجوع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في التكليف فإنّ بعد إسقاط واحد منهم يحتمل أن يكون هو الواقع ، فلا تكليف لعدم القدرة عليه ، ويحتمل أن يكون هو غيره فيبقى التكليف بحاله ، فبالحقيقة الشكّ إنّما هو في أصل التكليف وقد عرفت فيما تقدّم حكومة البراءة في مقام الشكّ في التكليف سواء كانت الشبهة بدوية عن أصلها أو راجعة إليها كما فيما نحن فيه وذلك ظاهر.
ولو كان المانع عقليا لكن في فرد لا بعينها (1) فلا تكليف فيه أيضا ، إذ لا دليل على الاحتياط ولزوم الإتيان بجميع المحتملات سوى دليل الواقع والعلم بتعلّق التكليف الحقيقي الواقعي على الموضوع الواقعي ، ولذلك قلنا برجوع سائر وجوه (2) الأدلّة : من لزوم دفع الضرر ، ووجوب مقدّمة الواجب ، وقاعدة الاشتغال ، ونحوها إليه ، ويمتنع تعلّق الخطاب والتكليف بالمكلّف في الواقع فيما لا يمكن للمكلّف قصد الفعل على العنوان الذي قد أمر به فإنّ من شروط التكليف تمكّن المكلّف من قصد الامتثال وإرادة عنوان المأمور به على وجه يستند إلى اختياره من حيث إنّه مأمور به ، وفيما لو كان الممتنع جهة لا بعينها (3) لا يمكن قصد عنوان الفعل والامتثال به لعدم العلم به لا تفصيلا ولا إجمالا.
أمّا الأوّل ، فظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الواقع فيما لو اشتبه بعدّة أفراد امتنع فرد منها لا بعينها (4) لا يعلم المكلّف بوقوعه في مقدوراته لاختلاف وجوه مقدوراته (5) باختلاف اختياراته ، فمرّة يختار الأفراد التي لا يقع فيها الواقع ، وأخرى يختار ما يقع فيها ، فالواقع لو حصل فهو إنّما لضرب من الاتّفاق ، فيكون خارجا عن تحت القدرة ، فلا يكون متعلّقا للأمر فإنّه
ص: 438
على ما تقرّر (1) سابقا بتبعية (2) الأحكام للحسن والقبح وهما من صفات العناوين اللاحقة لذوات الأفعال اختيارا ، والفعل بعنوانه المأمور به لا يصير اختياريا إلاّ بعد العلم به وقصده إمّا تفصيلا أو إجمالا ، وحيث لا علم فلا اختيار فلا تكليف ، وذلك ظاهر ، ولذلك قد حكموا بعدم بطلان الصوم فيما لو أكل الصائم ناسيا مع كون الأكل مختارا عامدا فيه وقاصدا له ، فإنّ وقوع ذات الفعل - ولو بعنوان غير ما هو المعتبر في عنوان الحكم - لا يكفي في صدق العنوان الذي هو المناط في ثبوت الحكم ، فالأكل بعنوان أنّه مفطر لو وقع من المكلّف بأن يعلم به ويقصده مبطل للصوم وموجب للقضاء مثلا بخلاف سائر وجوه الأكل وذلك ظاهر.
والحاصل : أنّ التكليف في الصورة المفروضة منفيّ لانتفاء شرطه وهو تمكّن المكلّف من الامتثال ، وليس هذا من أصل البراءة في شيء فإنّ أصالة البراءة تنفي تنجّز التكليف مع إمكان أصل التكليف في الواقع شأنا كما في الصورة الأولى بخلاف المقام فإنّ قضية عدم إمكان الامتثال عدم التكليف في الواقع كما في غير البالغ والعاجز.
فإن قلت : لا فرق بين الصورتين في عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف كما عرفت في وجه الاستدلال بالبراءة فإنّ التكليف بما لا يطاق - على ما استدلّه البعض - ممّا لا وجه له إلاّ من حيث عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف فعلى هذا فلا بدّ إمّا من القول بأنّ الصورة الأولى أيضا ممّا يمكن به (3) التكليف لاشتراطه بإمكان قصد الامتثال بل وفي مطلق موارد البراءة ، وإمّا القول بجريان البراءة في الصورة المفروضة أيضا ، فلا وجه لتغيير الأسلوب في الاستدلال.
قلت : فرق ظاهر بين المقامين وبين الموردين فإنّ الشكّ في الأوّل إنّما هو في
ص: 439
التكليف بعد إمكان توجيه الخطاب ولو شأنا على تقدير (1) لم يكن الفرد الممتنع هو الواقع فإنّ العلم وإن كان من شروط التكليف إلاّ أنّه بعدمه لا يتغيّر عنوان التكليف لما تقرّر من أنّ العلم والجهل ليسا من الوجوه المغيّرة للأحكام بخلاف سائر شرائط التكليف كالعجز والقدرة والبلوغ والصباوة فإنّ الموضوع فيها مختلف كما لا يخفى ، وفي الثاني يمتنع تعلّق التكليف الواقعي لامتناع شرطه وهو القصد إلى الفعل المأمور به على وجه يكون الداعي هو الأمر ، وهذا وإن كان موجودا في الأوّل أيضا إلاّ أنّه إنّما امتنع بواسطة الجهل بالتكليف ، وفي المقام امتنع التكليف لامتناع القصد ، فعدم إمكان القصد في الأوّل متفرّع على عدم العلم بالتكليف ، وعدم التكليف في الثاني متفرّع على امتناع القصد ، والفرق ظاهر بين المقامين ، ومحصّل الفرق أنّ الصورة الأولى مع عدم العلم بوجود المكلّف به في مقدوراته يصحّ التكليف على تقدير وجوده فيها شأنا إلاّ أنّ عدم العلم به عذر في مقام الظاهر ، والصورة الثانية مع العلم بوجود المكلّف به في الاحتمالات التي أحدها غير مقدور للمكلّف لا يصحّ التكليف لتردّدها بين الواقع وعدمه ، فالجهات الممكنة لا يعلم بإمكانها ومقدوريتها ، إلاّ بعد وقوعها وصدورها منه وبعد الوقوع لو حصل الواقع ، فلم يكن المكلّف مختارا في صدوره مريدا عنوان الفعل ولو إجمالا ، فتدبّر في المقام ، كي لا يشتبه عليك المرام هذا.
وقد يقال : إنّ التكليف الواقعي المتعلّق بالموضوع الواقعي وإن امتنع تعلّقه بالمكلّف في حال عدم العلم بقدرته للمكلّف به إلاّ أنّه يمكن استفادة مطلوبية الفعل ومحبوبيته في نفسه وإن لم يكن الطلب متعلّقا به من وجوه خارجة كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وأمثال ذلك من الأمور التي يمكن استفادة أمثال ذلك منه كما لا يخفى على المتدرّب (3) في فنون الاستنباطات من وجوه الأدلّة.
ص: 440
وقد يقال أيضا : إنّ دليل الواقع وإن كان لا يمكن تعلّقه بالفعل في هذه الحالة إلاّ أنّه ليس إلاّ من جهة قصور (1) في الطلب بحيث لا يصحّ تعلّقه بمطلوب غير معلوم ، وإلاّ فالفعل يشمل على صفة المحبوبية وإن لم يمكن طلبه ولذلك تراهم يحكمون باستحباب صلاة الظهر بخصوصه مثلا على الصبيّ حيث إنّ الأمر به يكشف عن وجود المصلحة الكامنة في الطبيعة المطلقة على ما هو الموضوع له اللفظ (2) في المادّة إلاّ أنّ الطلب من الصبيّ ممّا يمنع منه المانع ولو شرعا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المانع من تعلّق الطلب شرعيا كما في الصبيّ أو عقليا كما فيما نحن بصدده ، وهذا طريق واسع في استنباط المطالب من الألفاظ الدالّة على الطلب وإن قصر الطلب من تمام المقصود كما نبّهنا عليه في عدّة مقامات ، وستطّلع فيما سيأتي إن شاء اللّه (3) على نظير المقام ، وهذا كلّه فيما إذا كان المانع من الإتيان بجميع الأفراد عقليا بقسميه من المنع عن جهة معينة أو غيرها.
وأمّا فيما لو كان المانع شرعيا - سواء كان الممنوع منه فردا معلوما معيّنا أو غير معيّن - فيقع على وجوه ، فتارة يكون حكم الشارع كاشفا عن أنّ الواقع في جهة (4) غيره ولا إشكال فيه لكونه دليلا اجتهاديا مشخّصا لموضوع الأمر في الجملة ، وأخرى يحكم الشارع بحرمة الجهة الممنوعة فإن كان في غير الفرد المحرّم العلم الإجمالي باقيا فله حكمه من لزوم امتثاله كما في غيره أيضا من الموانع العقلية ، وذلك مثل أنّ الشارع قد نهى عن القياس وحرّم العمل به مع أنّ الاحتياط الكلّي على تقدير الانسداد قاض بالعمل بالمظنونات وسائر السلاسل مطلقا فإنّ بعد المنع عن القياس لا يرتفع العلم الإجمالي من بين سائر السلاسل مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فيجب الاحتياط لوجود المقتضي وعدم المانع ، وإن لم يكن في الجهات الباقية
ص: 441
والمحتملات الغير الممنوع منها علم إجمالي على وجه يتردّد التكليف بين أن يكون متعلّقا في الواقع بالفرد المحرّم أو بغيره فهو كالمانع العقلي على قسميه ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا أسقط الشارع بعض المحتملات لمصلحة في نفس الإسقاط على وجه يحتمل أن يكون الواقع فيما أسقطه معيّنا ، أو جوّز ترك البعض ولو بحسب الاختيار مع عدم العلم الإجمالي في المحتملات الباقية في الصورتين فإنّه يحتمل (1) أن يكون كالمانع العقلي إلاّ أنّ التحقيق خلافه نظرا إلى أنّ الشارع إنّما جعل امتثال الواقع فيه كما في جميع الطرق الظنّية اجتهادية وتعبّدية فكأنّ الشارع اكتفى عن الواقع فيما لم يصادفه المكلّف بالأفراد الباقية و (2) بالإطاعة فيها ، فالباقي واقع جعلي كالبدل لكن لا على وجه يكون المصلحة فيه في حيال مصلحة الواقع ، ولا على وجه التقييد كما زعمه البعض ، بل على وجه يكون جعل الطريق من متمّمات مصلحة الواقع ، فهو لطف آخر منه تعالى.
وبالجملة ، فلا إشكال في أنّ الواجب على هذا التقدير الإتيان بالجهات الباقية والأفراد المحتملة ، وإنّما الإشكال في كيفية جعل الباقي بدلا عن الواقع مع إمكان تحصيل الواقع ، وهذا إشكال سار في غير المقام من الطرق المجعولة في مقام الظاهر كاليد والاستصحاب والبيّنة فإنّ مع إمكان الرجوع إلى فتوى المجتهد وأخذها منه يصحّ الأخذ من العادل ، ومع إمكان الطهارة الواقعية يصحّ الاكتفاء بالطهارة الاستصحابية ، ولقد نبّهنا على دفعه فيما تقدّم في مباحث الظنّ في دفع مقالة المانع من التعبّد بخبر الواحد ، فعليك بالتأمّل التامّ ، كي تهتدي بالمرام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.
والفرق بين ما كان المانع عقليا وبين ما كان شرعيا ظاهر ؛ لعدم حكومة العقل بجعل الباقي بدلا بخلاف الشرع فإنّ المستفاد من وجوب الواقع لدليله (3) وحكم
ص: 442
الشارع بسقوط البعض مع تنجّز التكليف المستفاد من دليل الواقع هو الاكتفاء عن الواقع (1) بالباقي لئلاّ يلزم التناقض بين حكم العقل بوجوب الامتثال للأمر المنجّز (2) في حقّنا كقوله : ( حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (3) وحكم الشرع بسقوط البعض ، واحتمال عدم التنجّز للجهل بالتكليف واه جدّا كما عرفت ، هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الموضوعية فيما كان الشكّ في المكلّف به لو كان أطراف الشبهة متباينة.
وأمّا الكلام فيها ما لو كانت أطرافها الأقلّ والأكثر فإن كان الطرفان استقلاليين - كما لو علمنا بفوات عدّة من الصلوات وشككنا في أنّ الفائت منها هو الأقلّ أو الأكثر - فقضيّة عموم أخبار الباب هو التعويل على البراءة لأنّ الأقلّ متيقّن تفصيلا ، وما زاد عليه مشكوك كذلك ، فرجع (4) الشكّ إلى نفس التكليف كما في جميع موارد البراءة إلاّ أنّ المعهود من أصحابنا الفقهاء هو الحكم بوجوب إتيان ما به يحصل العلم بفراغ الذمّة في خصوص المسألة ، ولذلك ناقشهم صاحب المدارك (5) بأنّ القاعدة تقضي بخلافه.
ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأكثر أو الأقلّ من طرفي الشبهة ممّا يمكن احصاؤه عرفا وعادة ، وبين ما لا يمكن ، وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بالفراغ إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، ولعلّه مستفاد من فحوى الأخبار الدالّة على ذلك في النوافل بعد اعتضادها بفتوى المشهور وإن كانا ارتباطيين كما إذا نذر صوم بين هلالي رجب وشعبان وشكّ في يوم أنّه هل من الرجب أو لا ، فقضيّة الاشتغال تحصيل البراءة التي لا يعلم إلاّ بالاحتياط ، وذلك وإن قطع النظر عن الأصول الموضوعية التي يجري في
ص: 443
المقام كأصالة عدم دخول شعبان وعدم خروج رجب نظرا إلى احتمال عدم التعويل عليها في الزمان وغيره من الموجودات المتدرّجة.
وبالجملة ، فالقاعدة في مثل المقام تقضي بالاشتغال وإن لم نقل به في نظير المقام في الشبهة الحكمية على ما ستعرف تفصيل الكلام فيها فيما سيأتي إن شاء اللّه.
ص: 444
في الشبهة الموضوعية التحريمية فتارة فيما إذا كان الشكّ بين الأقلّ والأكثر كما إذا حرّم على نفسه الصوم بين الهلالين وشكّ في حرمة الزائد ، فالبراءة محكّمة لرجوع الشكّ في الزائد إلى مجرّد التكليف كذا أفيد ، ولعلّ التفصيل بين الارتباطي والاستقلالي في محلّه فتدبّر.
وأخرى فيما إذا كانا متباينين وهذه الصورة هي المسمّاة عندهم بالشبهة المحصورة والأمثلة كثيرة فوق حدّ الإحصاء لكن إذا كان أطراف محصورة على ما ستعرف تفصيل الكلام في تحديدها وتحديد ما يقابلها.
وينبغي أن يعلم أنّ صورة الامتزاج - كما (1) إذا خلط الماء المباح بالمحرّم مثلا - خارجة (2) عن النزاع فإنّه لم يذهب وهم إلى عدم تحريمه وجواز التصرّف فيه كما لا يخفى ، وإنّما الكلام في غير صورة المزج.
هل يجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع ، أو لا يجوز؟ وجهان ، والحقّ هو الثاني
ص: 445
لوجوه :
الأوّل : ظهور الإجماع من العلماء في عدّة موارد من كتاب الأطعمة والأشربة وغيره على ما لا يخفى على المتدرّب في كلماتهم المتتبّع فيها بل لم نجد مصرّحا بجواز المخالفة القطعية في المقام عدى ما يظهر من العلاّمة المجلسي رحمه اللّه على ما حكاه المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) إلاّ أنّه غير صريح في الدعوى بل ربّما يمكن الاستظهار منه بأنّه إنّما مجرّد تقوية الدليل ، وأمّا الفتوى كما هو الأصل في استكشاف الإجماع ، فلا دلالة في كلامه عليها.
الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب الموافقة القطعية كما سترد عليك تفاصيلها فإنّ وجوب الموافقة إنّما هو بعد إحراز عدم المخالفة ، فالدليل عليها قاض به أيضا.
الثالث : ما ذكره بعض الأجلّة (2) من أنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى رفع العصمة عن الأموال والفروج والدماء لأنّ الاختلاط بين الحلال والحرام جائز ، وبعد الاشتباه ارتكابه أيضا جائز لجواز المخالفة (3) القطعية ، فيجوز لجماعة اجتمعوا على أرغف مغصوبة إذا وضعوا فيها رغيفا مباحا على وجه حصل الاشتباه بينه وبينها ولو لعارض كالظلمة أن يتناول كلّ واحد منهم رغيفا ، وفيما لو صادفوا امرأة واشتبه على كلّ واحد منهم كونها زوجته ، أو أجنبية أن يحلّ لهم وطيها على التعاقب مع تخلّل العدّة إن كانت من ذواتها ، وإلاّ فبدونها (4) ، وفيما لو صادف (5) جماعة من المسلمين فيهم رجل مباح الدم [ واشتبه بينهم ولو لعارض ](6) أن يجوز لكلّ واحد أن يباشر قتل واحد منهم بل وذلك سار فيما لو أراد وطي الأجنبية ، أو قتل المسلم ، أو أكل مال
ص: 446
الغير ، أو شرب الخمر بإحداثه الاشتباه بين الحلال والحرام ، ويكرّر العمل في الكلّ إلى أن يصادف الحرام الواقعي (1).
وفيه : أنّه إن أريد أنّ عدم جواز المخالفة القطعية يوجب ذلك ولو مع قطع النظر عن إرادة الوقوع في المحرّم كما يساعد عليه أوّل كلامه ، فغير سديد لجواز اختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما يرشد إليه جواز استعمال الحيل الشرعية في الأحكام الفرعية وغيرها فإنّ القائل بجواز المخالفة لا بدّ له من تصرّف على وجه يلازم اختلاف الموضوع إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من مذاق الشرع عدم جواز استعمال تلك الحيل في تلك الموارد ، وعلى تقديره فلا كلام فيه لخروجه عن محلّ الكلام فإنّ الكلام ممحّض من جهة اقتضاء القاعدة دون غيرها.
وإن أريد أنّ ارتكاب الشبهة - سواء كانت ممّا تستند إلى اختيار المكلّف ، أو لا من حيث إيصاله (2) إلى الحرام الواقعي بحيث يكون ارتكاب كلّ واحد من المشتبهات مقدّمة للوصول إلى الحرام كما في صورة الامتثال - يوجب ذلك ، فغير مفيد لاستقلال العقل بحرمة الارتكاب على هذا الوجه فإنّه من أعظم أقسام التجرّي وأعلاها كما لا يخفى. ولا يلتزم القائل بجواز المخالفة القطعية بذلك على الوجه المذكور على ما هو ظاهر لا سترة عليه بل وفساد ذلك ظاهر فيما لو ارتكب أحد أطراف الشبهة في الغير المحصورة أيضا فكيف بالمحصورة مع المخالفة القطعية.
يمكن الاستدلال للقائل بجواز المخالفة بوجهين :
أحدهما : الأصل ، وتقريره أنّه لا شكّ في جريان البراءة في الشبهة الحكمية البدوية فإنّ المحكّم فيها هو الأخذ بالبراءة على ما مرّ كما لا شكّ في لزوم الاحتياط فيما تنجّز التكليف فإنّ الحكم الشرعي فيه الاحتياط ، ففيما شكّ في لزوم الاحتياط كما في غير
ص: 447
الشبهات البدوية ، وعدمه كما فيها يرجع الشكّ إلى نفس التكليف في الاحتياط وعدمه ، والأصل البراءة من الاحتياط ووجوبه ، وهذا لا ينافي كون الكلام في الشبهة الموضوعية التي لا يؤول الأمر فيها (1) إلى اشتباه في الحكم إذ المقصود بيان حكمها ، وفيما لو اشتبه حكم الموضوع شرعا يصير الشكّ شكّا حكميا وإن كان موضوع هذا الحكم المشتبه هو الموضوع المشتبه وذلك ظاهر إلاّ أنّه لا يتمّ إلاّ بعد التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وإلاّ فمع بقائها بحالها يستقلّ العقل بوجوب الامتثال بالاحتياط ، وذلك التصرّف إمّا بالقول بوضع الألفاظ للمعاني المعلومة ، أو بانصرافها إليها مطلقا ، أو حيثما كان في حيّز الطلب والتكليف عرفا أو عقلا (2).
الثاني الأخبار الدالّة على جواز الارتكاب في الشبهات الموضوعية عموما كما مرّ وخصوصا كقوله : « كلّ شيء [ يكون فيه حرام وحلال فهو ] لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (3) والأخبار الواردة في هذا المضمار على ما ادّعاه البعض (4) فوق حدّ الاستفاضة.
والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبأنّ التصرّف في الأدلّة الواقعية يقع على وجوه :
أحدها : أن يقال : إنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي إنّما هو مقيّد بصورة العلم بنفس الحكم على وجه لا مدخل للتقييد (5) في موضوع الحكم ، ولا في حال من حالات المكلّف ، ومن الظاهر فساده ؛ ضرورة توقّف العلم على المعلوم السابق منه ليصحّ تعلّقه به ، فلو كان له مدخل في تحقّقه ، لكان دورا صريحا ، فلا يعقل اعتبار العلم في نفس الحكم.
الثاني : أن يقال : إنّ موضوع الحكم مقيّد بالعلم بمعنى أنّ الخمر مطلقا ليس ممّا يجب الاجتناب عنه ، وإنّما يجب إذا كان معلوما فحيث لم يكن معلوما ، فلا يكون حراما.
ص: 448
الثالث : أنّ المكلّف لا يتوجّه إليه الخطاب مطلقا في جميع حالاته بل المكلّف العالم يجب عليه الاجتناب.
ولا وجه للكلّ.
أمّا الأوّل ، فقد عرفت.
وأمّا الثاني ، فلأنّ دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة على أن يكون العلم معتبرا في الموضوع له سخيفة جدّا لا يكاد يلتزم بها العاقل.
ودعوى تبادر المعلومات منها وهم في خلط ؛ لاشتباه (1) العلم المرآتي بالعلم الموضوعي عنده إذ المعنى لا يتبادر إلاّ أن يكون معلوما حاضرا عند العالم على وجه يكون العلم مرآة للواقع ، ولا دخل في هذا العلم في معنى اللفظ.
ودعوى الانصراف إلى المعلومات وإن لم تكن في حيّز الطلب والتكليف مبنيّة على الخلط المختلط بالوهم المذكور.
وأمّا دعوى الانصراف في حيّز التكاليف ، فلو (2) كانت القرينة المقتضية لذلك نقلية ، فعهدتها على مدّعيها إذ لم نجد إلى الآن في الأدلّة النقلية ما يقضي (3) بذلك ، وإن كانت عقلية ، فنحن كلّما راجعنا وجداننا مرّة بعد أولى وعهدنا إلى عقولنا كرّة بعد أخرى لا نجد فيها ما يقتضي التصرّف في مدلول الخطاب بل غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بأنّ المكلّف في تكليفه لا بدّ له من حامل على التكليف والطلب ، وقبل علم المكلّف بالخطاب لا حامل له ، فليس في العقل ما يقضي باعتبار العلم في معنى اللفظ فإنّ الخطاب وإرادة المولى أو كراهته - التي يعبّر عنهما تارة بالطلب ، وأخرى بالأمر والنهي - متساوية النسبة إلى العالم والجاهل فإنّ ما للطالب دخل فيه قد تمّ ، ولا ينشأ بعد العلم من الطالب والمولى طلب آخر وإرادة أخرى وإن لم يكن المكلّف عند الجهل
ص: 449
بالخطاب معاقبا من حيث إنّ معنى التكليف هو الحمل على الكلفة وفيما لو كان ذلك الحمل بطلب قولي أو غيره مع عدم العلم بالحامل لا حامل له على الفعل.
وبالجملة ، فنحن لا نضايق من القول بعدم ترتّب العقاب على المكلّف في الشبهة التكليفية البدوية من حيث عدم علمه بنفس التكليف بل هو كذلك كما عرفت إلاّ أنّه ليس باعتبار التصرّف في الأدلّة الواقعية.
على أنّ ذلك لو تمّ ، لما صحّ التمسّك بالأصل فيه إذ المعهود منهم في الاستدلال به إنّما هو في الأحكام الظاهرية ، وبعد التصرّف في الأدلّة الواقعية - وإن كان التصرّف (1) عقلا بتخصيص ونحوه - لم يكن ذلك من الأحكام الظاهرية في شيء لعدم ترتّب أحد الحكمين على الآخر لاختلاف موضوعيهما اختلافا عرضيا.
والحاصل : أنّ الأدلّة الواقعية الدالّة على لزوم الاجتناب عن الخمر والنجس شاملة (2) للمقام ، والامتثال ممكن ، والعقل حاكم بلزوم تحصيل البراءة ولا مانع منه بعد العلم بالتكليف ووقوع المكلّف به في أشياء محصورة ، فالمقتضي للامتثال - وهو العلم بتعلّق التكليف الواقعي بالخمر الواقعي الموجود بين الإناءات المشتبهة - موجود ، والمانع مفقود ، والعقل حاكم بلزوم الامتثال ، فلا مناص منه كذا أفاد.
قلت : مضافا إلى أنّ التمسّك بالأصل المذكورة محلّ نظر فإنّ الأصل فيما إذا شكّ في البراءة والاحتياط عند التحقيق فيما لو كان الاحتياط حكما عقليا هو الاحتياط ، فالأصل في المسألة الأصولية أيضا هو الاحتياط ، وستعرف ذلك فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا الثالث ، فلأنّك قد عرفت شمول الخطاب للعالم والجاهل ، ولا قرينة على التقييد لا عرفا ولا عقلا لعين ما مرّ من عدم اعتبار العلم في معاني الألفاظ وضعا ، ولا يقضي بذلك العقل وإنّما هو قاض بعدم العقاب في صورة الجهل ، والعلم في المقام
ص: 450
موجود إجمالا ونحن لا نجد قبحا في العقول أن يعاقب المولى عبدا يعلم بوقوع المنهيّ عنه في أشياء محصورة مردّدة مع ارتكابه لها.
وأمّا عن الثاني ، فبأنّ هذه الأخبار لا دخل لها بالمقام لعدم (1) إمكان المعارضة بين حكمي العقل والشرع.
وتحقيق ذلك : أنّ المنساق من هذه الأخبار بيان الأحكام الظاهرية في صورة الاشتباه كما يلوح ذلك بعد ملاحظة تقييد الحكم فيها بغاية حصول العلم ، ولعلّه لا يكون ذلك محلاّ للتأمّل والإنكار ، وقد عرفت أنّ العقل بعد ملاحظة شمول الخطاب الواقعي للمقام ليس له حالة منتظرة للحكم بلزوم الامتثال إلاّ أن يرتفع موضوع التكليف بارتفاع أحد أركانه من نسخه ، أو تقييد ما دلّ عليه بفرد دون آخر ، أو تخصيصه ونحو ذلك ، أو موت المكلّف ، أو امتثاله والمفروض وجود سائر الأركان سوى ما يحتمل من التقييد أو التخصيص بملاحظة هذه الأخبار وهو غير معقول إذ لا يعقل تصرّف ما هو في بيان الحكم الظاهري (2) في الأدلّة الواقعية ، فالدليل (3) الدالّ على لزوم الاجتناب عن الخمر الواقعي الموجود في الإناءين موجود في محلّه من غير أن يتطرّق فيه شائبة تخصيص بصورة عدم الاشتباه ، ووجود العلم التفصيلي والعلم بالتكليف وبوجود المكلّف به حاصل ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال والخروج عن ربقة التكليف ، فلا مناص منه ، وحينئذ إمّا أن يؤخذ بهذه الأخبار ، أو بأدلّة الواقع ، لا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه ترك أدلّة الواقع من غير وجه شرعي لعدم إمكان تصوير (4) التقييد فيها بالنسبة إليها لاختلاف موضوعيهما (5) بترتّب أحدهما على الآخر ، وليست (6) هذه الأخبار بألفاظها متعرّضة لبيان تلك الأدلّة الواقعية حتّى يقال بالحكومة أيضا ، فتعيّن الأخذ بالأدلّة الواقعية ، وقضية ذلك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب عن
ص: 451
المشتبهات ، وعلى تقدير التسليم فلا يقول به القائل لجواز المخالفة القطعية إذ بعد التصرّف والتقييد يصير الحكم بجواز ارتكاب أطراف الشبهة حكما واقعيا ، ومقصوده إثبات الحلّية الظاهرية تعويلا على هذه الأخبار ، فلا وجه للقول بتقييد هذه الأخبار للأدلّة الواقعية كما لا وجه للأخذ بهذه الأخبار في قبال حكم العقل بعد شمول الخطاب للمقام بالامتثال وحصول العلم كما في صورة العلم التفصيلي ، فلا بدّ من القول بأنّ هذه الأخبار محمولة على الشبهة البدوية الحكمية أو الموضوعية إذ هناك لا علم بالتكليف ، فلا يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فيصحّ من الشارع العفو وعدم العقاب وإثبات الإباحة الظاهرية عند عدم العلم بالتكليف. والحاصل أنّ هذه الأخبار بحكم العقل القاطع محمولة (1) على الشبهات البدوية كما عرفت.
فإن قلت : لا شكّ أنّ الأحكام الشرعية بأسرها سواء كانت اقتضائية أو تخييرية لا تتعلّق (2) إلاّ على عنوانات اختيارية مقصودة للمكلّف فإنّها هي مهابط الحسن والقبح اللذين عليهما يدور رحى الأحكام الشرعية من غير فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة فكما أنّ الوجوب لا يتعلّق (3) إلاّ على عنوان مقصود له فكذا التحريم على وجه يكون صدور الفعل من المكلّف على عنوانه المحرّم مستندا إلى اختيار المكلّف ، ولا يكفي في ذلك صدوره على وجه الاختيار بعنوان آخر غير عنوان المحرّم ، فعلى هذا لو علم المكلّف بحرمة الإناء المخصوص وارتكبه ، حرم قطعا لعدم انفكاك ذلك من القصد إليه بعد العلم به وإن لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم ، وأمّا إذا لم يعلم بحرمة الإناء المخصوص تفصيلا ففيما لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم والوصول إليه ، فلا تحريم (4) فيه بل يجوز ارتكابه لأنّ العنوان المحرّم بعد عدم العلم به غير مقصود للفاعل ، فلو صادف الخمر الحقيقي ، فقد وقع منه شرب
ص: 452
الخمر اتّفاقا ، ولا يتّصف الفعل الاتّفاقي الخارج عن مقدرة المكلّف من حيث هو اتّفاقي بالحسن والقبح باتّفاق من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ، فلا يتعلّق به الحكم الشرعي وهو التحريم ، فيجوز ارتكابه ، وهكذا كلّ واحد من الإناءات المشتبهة فيجوز المخالفة القطعية.
قلت : لا خفاء في أنّ المطلوب بالأمر هو نفس الفعل ، وفي النهي (1) هو ترك الفعل وعدم إيجاده ، فالمكلّف به في الأوّل هو الفعل ، وفي الثاني (2) هو الترك ، ولا بدّ أن يكون المكلّف به (3) مقدورا للمكلّف ، اختياريا ، مقصودا له ففي الأمر لا بدّ أن يكون الفعل اختياريا ، وفي النهي لا بدّ أن يكون الترك اختياريا بمعنى أن يكون ترك شرب الخمر مقصودا في النهي ، وفعل الصلاة مقصودا في الأمر ، فالقصد قيد للترك لا للمتروك (4) ، فالمقصود للمكلّف لا بدّ أن يكون هو الترك ، وترك شرب الخمر إذا كان مقصودا لا يتحقّق إلاّ عند ترك جميع الأفراد المحتملة ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك والمفروض اعتبار تعلّق القصد به.
وبالجملة ، متعلّق التكليف لا بدّ أن يكون فعلا اختياريا مقصودا للمكلّف ، والتكليف تارة هو الأمر ، وأخرى هو النهي ، وفي الأوّل لا بدّ أن يكون المكلّف قاصدا للفعل ، وفي الثاني لا بدّ أن يكون قاصدا للترك حتّى يحصل الامتثال وإذا كان المكلّف قاصدا لا بدّ له من عدم الارتكاب ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك وهذا خلف.
فإن قلت : إنّ المستفاد من الأخبار الدالّة على رفع الحكم عند الاشتباه هو أنّ المحرّم ارتكاب الحرام قصدا وعمدا إليه ، فلا يجب الاجتناب من الخمر المردّد عند عدم القصد إلى عنوانه.
ص: 453
قلت : إنّ من المعلوم أنّ هذه الأخبار لا دلالة فيها على هذه الدعوى لعدم المنافاة بين أن يكون حكم الشيء من حيث الاشتباه شيئا ولكن بعد اجتماعه مع عنوان آخر كأن يكون مقدّمة لواجب شيئا آخر كما في المقام فإنّ الخمر المردّد - يعني المشتبه (1) - حكمه عدم وجوب الاجتناب ، وذلك لا ينافي أن يكون الموضوع المشتبه واجب الاجتناب إذا كان مقدّمة للوصول إلى الحرام ، وكان تركه مقدّمة للعلم بحصول امتثال الخطاب الدالّ على لزوم اجتنابه.
على أنّ لنا أن نقول بالفرق بين الأوامر والنواهي ، ففي الأوّل لا بدّ أن يكون الفعل مقصودا بخلاف الثاني فإنّ المطلوب منه إنّما هو مجرّد عدم وقوع المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، وأمّا عدم تعلّق الطلب بفعل غير مقصود ، فإنّما هو بواسطة قصور فيه ، وإلاّ فالمقصود فيه (2) يكون أعمّ.
المورد الثاني (3)
في أنّه هل يجب الموافقة القطعية بعد ما عرفت من حرمة المخالفة القطعية ، أو لا؟ والكلام في هذا المورد وإن كان ظاهرا بعد حرمة المخالفة القطعية فإنّ التحقيق أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية (4) في المورد الأوّل يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية فإنّها معلولي (5) علّة واحدة إلاّ أنّه لا بأس في تحرير (6) المقال لتوضيح الحال فإنّ المسألة ربّما (7) يعسر (8) على بعض الأفهام الوصول إلى حقيقتها ، فنقول : الحقّ - كما عليه جمهور المحقّقين - وجوب الموافقة لأنّ المفروض في المقام الأوّل عدم التصرّف في الأدلّة الواقعية وبقاؤها بحالها من غير احتمال متطرّق فيه من التخصيص والتقييد ونحوهما
ص: 454
فيها ، والمفروض أيضا شمول تلك الأدلّة للمكلّف حال إرادة ارتكاب البعض ، فكأنّ الخطاب بمسمع منه وهو يحكم بعدم (1) جواز تناول الخمر وشربه في الواقع وإن كان مردّدا بين الإناءين فكأنّه يسمع خطاب اللّه تبارك وتعالى : أيّها العبد ، اجتنب عن هذا الخمر الموجود في الإناءين (2) ، ولا يتمّ تحصيل الامتثال إلاّ بترك جميع المحتملات ، فلا بدّ من تركه فإنّ الخطاب العامّ ينحلّ إلى خطابات خاصّة ، ولا فرق بينهما إلاّ في كون أحدهما نصّا ، والآخر ظاهرا ، وبعد فرض عدم التخصيص يرتفع احتماله ويساوي الخاصّ في كونه نصّا ، فالخطاب العامّ مرجعه إلى الخطاب الخاصّ كما عرفت ، فالقائل بجواز ارتكاب (3) وعدم جواز (4) ارتكاب ما يساوي الحرام مؤاخذ في كلا جزءي دعواه فإنّك إمّا أن تقول بتخصيص في قوله : اجتنبوا عن الخمر بتقريب أنّه يجب الاجتناب على العالم تفصيلا ، وإمّا أن لا تقول به ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للقول بحرمة ارتكاب ما هو بقدر الحرام لعدم دليل على حرمته حينئذ ، وعلى الثاني ، فلا وجه للقول بجواز ارتكاب البعض للعلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل لجميع الأحوال ولجميع الأشخاص ، فلا وجه لهذا القول في وجه.
وأمّا التمسّك بالأخبار في هذا المقام ، فممّا لا وجه له أيضا إذ لك أن تقول : إنّ المقام ممّا علم حرمته بالعقل بعد بقاء الخطاب على حاله ولزوم امتثاله ، والقول بأنّ الحرمة المعتبرة في الغاية لا بدّ وأن يكون هي الحرمة المجهولة ، والحرمة المعلومة ليست هي مدفوع بأنّ التمثيل بخبر « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (5) مبنيّ على تقريب غير مختصّة معلومة (6) الحرمة فيه بكونها هي الحرمة المجهولة كما لا يخفى ، فتأمّل.
ولا ينافيه قوله : « بعينه » لأنّ الحرام بعينه موجود بين الإناءين فتدبّر.
ص: 455
وعلى تقدير الدلالة فإمّا أن يقال بدلالتها على جواز ارتكاب الجميع (1) ، أو البعض معيّنا ، أو غير معيّن ، فعلى الأوّل لا وجه للتخصيص بالبعض ، وعلى الثاني فهو ترجيح بلا مرجّح ، وعلى الثالث لا دلالة فيها عليه لأنّ الأفراد الانتزاعية الاعتبارية ليست داخلة في العامّ ، والفرد الغير المعيّن - كما هو مفاد أحدهما - فرد اعتباري انتزاعي ، وذلك نظير ما ستطّلع عليه في بحث التعارض حيث زعم بعضهم أنّ أحد الخبرين لا بعينه مندرج في الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر بعد زعمه لعدم شمولها لهما ولأحدهما معيّنا ، لمكان التعارض ولزوم الترجيح بلا مرجّح فإنّ من الظاهر أنّ بعد ما قد اعترف بعدم (2) شمولها للخبرين ولواحد معيّن منهما لا وجه للشمول على هذا الوجه لأنّ أحدها ليس إلاّ فردا انتزاعيا ، ولا مدخل للعامّ فيه ، فليتأمّل (3).
فإن قلت : إنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (4) يدلّ (5) على أنّ الشارع لم يرد الامتثال في صورة الاشتباه على وجه يعمّ الصورة المفروضة مع وجود العلم الإجمالي ، فبالحقيقة مرجع التعارض إلى الحكومة كما في أخبار الضرر وأدلّة العسر ونحو ذلك فإنّها حاكمة على سائر الشرعيات : وضعياتها وتكليفياتها ، فقوله : « اجتنب عن الخمر » مقتضى إطلاقه وشموله للعالم والجاهل سواء (6) سواء كان علمه تفصيليا أو إجماليا بعد العلم به وبوجود (7) المكلّف به ، وهذا أمر ظاهر إلاّ أنّ الخبر المذكور يدلّ على أنّ الشارع قيّد المطلوب بهذا الأمر بما لو حصل للمكلّف علم تفصيلي بالمكلّف به وبالتكليف كما أنّ مقتضى قوله : « صلّ » شموله لصورة يلزم فيها العسر وغيرها.
ص: 456
وقوله : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) إنّما (2) فسّر المطلوب بقوله : « صلّ » بأنّ المراد والمطلوب هو ما إذا (3) لم يستلزم الصلاة العسر ولا ضير في ذلك فإنّه باب واسع في الأدلّة الشرعية لا مجال لإنكاره.
قلت : إن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء » حاكم على الأدلّة الواقعية على وجه يكون مقيّدا للواقع كما في أدلّة العسر والحرج بالنسبة إلى سائر الشرعيات ، فواضح سقوطه ؛ لأنّ المنساق منه ومن أشباهه - كما هو المستفاد من تقييد الحكم بحصول المعرفة بالحرام - بيان الحلّية الظاهرية عند عدم العلم بالحرام الواقعي ، ولا يعقل تقييد الحلال الواقعي بالعلم بحرمته إذ لو كان هو الحلال في الواقع ، فلا حرمة فيه حتّى تكون (4) الحلّية مقيّدة بالعلم بحرمته.
اللّهمّ إلاّ أن يراد من الخبر أنّ الإناءين المشتبهين شيء فيه حلال هو الخلّ وفيه حرام هو (5) الخمر ، وذلك الشيء حلال لك في الواقع حتّى تعرف الخمر منه بعينه ، فاستعمل الحرام وأريد منه ما يصير حراما في بعض الأوقات كما إذا علم أنّه خمر إلاّ أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل معدوم.
على أنّه لا يكون حينئذ حكما واقعيا لعدم اختلاف الموضوعات بالعلم والجهل.
نعم ، لبعض المتأخّرين في بعض المقامات كالنجاسة ونحوها كلام يشعر بالتصويب فيها ، مع أنّ ذلك لو تمّ لما صحّ القول بإبقاء القدر المحرّم ، وقد عرفت فيما سبق دعوى الإجماع على حرمة المخالفة القطعية.
وإن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » إنّما يكون حاكما على الأدلّة الواقعية لكن لا على وجه التقييد بل المستفاد منه عدم العقاب على تقدير تناول الخمر صورة الاشتباه ، فكما أنّ الأدلّة الواقعية شاملة للمكلّف حال الجهل في الشبهة البدوية
ص: 457
ومع ذلك يستفاد من قوله : « رفع » ونحوه رفع العقاب ، فكذلك في المقام الأدلّة الواقعية شاملة لصورة العلم الإجمالي ، فما المانع من أن يكون هذا الخبر وأضرابه واردا في مقام بيان عدم ترتّب العقاب على ارتكاب الخمر حال الاشتباه؟ فبطلانه غير خفيّ على ذي مسكة لأنّ المراد بعدم العقاب إن كان عدم الاستحقاق - كما يستفاد من تنظير المقام بالشبهة البدوية - فمتّضح الفساد إذ ليس للشارع أن يحكم بعدم الاستحقاق بعد وجود علّته التامّة فإنّ الاستحقاق من الأمور التي لا تعلّق لجعل الشارع فيه بل هو من الآثار العقلية للمخالفة والإطاعة ، ونفي الاستحقاق في الشبهة البدوية إنّما هو لعدم تحقّق علّته التامّة وهو العلم بحامل التكليف ، ولذلك كان العقاب قبيحا عقلا (1) أيضا ، والمفروض في المقام ثبوت التكليف ، فلا يصحّ قياسه بها لوجود الفارق وهو حكم العقل بالاستحقاق فيه لأنّ العلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل للعلم التفصيلي والإجمالي علّة تامّة للامتثال على وجه يحصل معه العلم بدفع الضرر العقابي ، وقد مرّ أنّ الشرع لا يمكن وروده على خلاف حكم العقل في خصوص الضرر العقابي كما في أمثاله من العناوين المقتضية للحسن والقبح في حدود ذواتها على وجه لا يتغيّر حكمها بلحوق عنوان آخر كما في الكذب بالنسبة إلى اللّه (2) تعالى والشرك وأضرابهما.
نعم ، فيما لو (3) علم المكلّف إجمالا بالتكليف لا تفصيلا يصحّ أن يجعل الشارع طريقا للوصول إلى الواقع على وجه لو كان هو الواقع فهو ، وإلاّ كان مسقطا عنه لكن لا على وجه البدلية ليصحّ القول بالإجزاء فيما لو انكشف الخلاف ، ولا على وجه التقييد كما زعمه بعض الأجلّة على ما مرّ تفصيل الكلام في تزييفه في مباحث الظنّ ، ولا على وجه لا يترتّب عليه العصيان فيما لو صادف الواقع وتخلّف عن الطريق فإنّه واقع جعلي ، وفهم هذا المقام كما ينبغي يحتاج إلى لطف قريحة ولطافة سليقة فإنّ فيه نوع
ص: 458
خفاء وغموض.
وبالجملة ، فلا قبح في العقول أن يجعل الشارع قول العدل طريقا إلى الواقع عند اشتباه الخمر بالخلّ على ما نبّهنا عليه في نظير المقام في الشبهة الوجوبية ، ولا منافاة بين أدلّة الواقع وبين ما به يصير إليه (1) طريقا بل يؤكّده لما عرفت من أنّها طريق إليه ومفادها واقع لكن جعلا على وجه يكون امتثال الواقع فيه ، ولا يكون مسقطا عنه كما في البدلية.
فاتّضح أنّه على تقدير جعل الطريق لا تعارض بين أدلّة الواقع وبين ما يدلّ على طريقية الطرق الظاهرية ، فلا يصير موردا للمعارضة.
وإن كان المراد بعدم العقاب العفو ولو كان مستحقّا أيضا ، ففيه أوّلا : أنّ أحدا لم يحم حول هذه المقالة بعد الغضّ (2) عن عدم دلالة الرواية عليه.
وثانيا : أنّ المقصود حقيقة هو إثبات استحقاق المرتكب للشبهة المحصورة ، وما علينا بيان فعلية العقاب فإنّه بيده يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلعلّ العفو مستند (3) إلى رحمته الواسعة ، وقد مرّ أنّ الاستناد إلى الرواية وأشباهها في الحكم بالإباحة - على (4) تقدير التسليم - ممّا لا يجدي للقائل بعدم وجوب الموافقة القطعية لعدم دلالتها على جواز ارتكاب أحدها كما هو المقصود في المقام ؛ إذ بعد عدم اعتبار الفرد المعيّن لاستلزامهما الترجيح بلا مرجّح وعدم ملاحظة المجموع نظرا إلى خلاف الفرض لا يعقل دخول الفرد الانتزاعي واعتباره في العامّ الدالّ على الإباحة ؛ لخروج منشأ الانتزاع عنه كما لا يخفى بل لك أن تقول : إنّ هذه قاعدة سارية في غير المقام أيضا هي أنّه كلّما خرج عن العامّ بعض أبعاضه (5) الشخصية لا وجه للقول بأنّ الأمر المنتزع منها
ص: 459
داخل فيما لو شكّ في أنّ الخارج هو خصوص ذلك أو غيره ، ومن هنا قلنا بسقوط الاستصحابين وسائر الأصول المتعارضة عند التعارض ؛ لخروج أحدهما قطعا عن الدليل الدالّ على حجّية الأصول ولا معيّن لأحدهما بالخصوص إذا لم يكن أحد سببا ، والفرد الغير المعيّن أيضا فرد انتزاعي ، وبعد خروج منشأ الانتزاع لا وجه للقول بدخوله فيه ، فلا بدّ من التساقط.
نعم ، يستثنى من ذلك ما لو علمنا بمطلوبية المتعارضين واشتمالهما على مصلحة الحكم حتّى عند التعارض كما في تزاحم الحقوق كإنقاذ غريقين وإطفاء حريقين ، ولتحقيق المقام محلّ آخر ، فتدبّر.
ثمّ إنّ القائل بعدم جواز المخالفة القطعية في المورد الأوّل وعدم وجوب الموافقة القطعية في المورد الثاني ربّما يظهر من بعضهم الاستناد إلى عدم جواز تحصيل العلم في الوقوع في المحرّم كما هو صريح بعضهم.
وقد تجشّم بعض (1) الآخر في المقام بما لم نقف له على محصّل إلاّ بالرجوع إلى ذلك بتقريب أنّ ارتكاب الباقي مقدّمة لتحصيل العلم في الوقوع في المحرّم ، وكما أنّ ارتكاب نفس الحرام حرام ، فكذا تحصيل العلم بالوقوع في المحرّم (2).
واعترض عليه بعض الأجلّة (3) بأنّ تحصيل العلم بالحرام لو كان حراما لحرم على من نسي معاصيه أن يراجع ما يفيده تذكّرها ، فيحرم على من شرب مائعا أن يستعلم من كونه خمرا وهو ممّا لا يقول به أحد.
وفيه : نظر لأنّ تحصيل العلم بالوقوع في الحرام يقع على وجهين ، فتارة بالفحص عن أحواله السابقة وأعماله المتقدّمة من غير أن يكون مشتغلا بما يحتمل أن يكون هو المحرّم قطعا كما في مفروض المعترض من تذكّره لها واستعلامه عمّن يصاحبه ، أو عن
ص: 460
أهل الخبرة فيما إذا اشتبه عليه موضوع وغير ذلك من أسباب حصول العلم ، وأخرى بارتكاب ما به يتمّ عنوان الحرام وما به يحصل مصداق الفعل المحرّم في الواقع ، فالمكلّف إنّما يوجد ما به يحصل له العلم بحصول الفعل المحرّم في الخارج كما في العمل بالأشكال المجسّمة ، فإنّ الاشتغال بما تتمّ به الصورة (1) من الأجزاء الباقية مثلا محصّل للعلم بوقوع المكلّف في الحرام.
والمستدلّ إنّما بنى استدلاله على القسم الثاني ، والمعترض إنّما حاول الاعتراض عليه بالقسم الأوّل ، وكم من فرق بين المقامين فإنّه لا شكّ في عدم حرمة الأوّل وإن كان قد يظهر من بعض الآثار المرويّة عنهم - صلوات اللّه عليهم - ما يلوح منه الكراهة كما في قوله : « هلاّ سألت » فيما سأل السائل عن كون زوجته الانقطاعية في حبالة زوج آخر فعلم به (2) ، كما أنّه لا ريب في حرمة الثاني ؛ لأنّ العنوان المحرّم يحصّله بعلمه لمكان مدخلية له فيه ، فالمستدلّ زعم أنّ ارتكاب الأفراد الباقية إنّما هو بمنزلة تتميم الصورة المنقوشة وارتكاب غيرها بمنزلة الأجزاء الأول من تلك الصورة.
فالتحقيق في الجواب عدم صحّة المقايسة (3) بالمثال المذكور بإبداء الفرق بينهما من أنّ الاشتغال بالأجزاء الباقية من الصورة المنقوشة قطعا محصّل لعنوان محرّم ، وبه يتمّ مصداق الفعل الحرام لدوران الحكم مدار اسم الكلّ ، وبه يحصل الكلّ بخلاف الإتيان بالأفراد الباقية إذ لا قطع بأنّ ارتكاب تلك الأفراد محصّل لعنوان الفعل المحرّم ، فلعلّه حصل بالفرد الأوّل.
فظهر أنّ الحرمة في الصورة أيضا لا تترتّب على تحصيل العلم بالحرام (4) بل إنّما يلازم نفس الفعل ، وحيث إنّ تمام الفعل في الخارج يلازم العلم بحصول الحرام ، فقد يتوهّم المتوهّم أنّ تحصيل العلم بالحرام حرام.
ص: 461
وبالجملة ، فلا دليل على لزوم إبقاء مقدار ما يساوي الحرام إلاّ دعوى حرمة تحصيل العلم بالحرام كما عرفت ، ولا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا ، والعمدة في المقام هو عدم جواز التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وحكم العقل بوجوب تحصيل الإطاعة والفراغ بعد العلم بالاشتغال.
وربّما يستدلّ على لزوم الموافقة القطعية ببناء العقلاء فإنّهم بسجاياهم يحكمون على لزوم الاحتراز من الإناءين المقطوع وجود السمّ في أحدهما ، ويلحقون المرتكب لهما بأصحاب السوداء والجنون ، وهو كذلك إلاّ أنّه لا ينهض حجّة في المقام وأمثاله لما ستعرف من أنّ إلزام العقلاء على ذلك من جهة قصور أنظارهم على إحراز المصالح والمفاسد الكائنة في نفس الأشياء مع قطع النظر عن التعبّد بأوامره ونواهيه ، فكأنّهم يوجبون الاحتياط في الأمور الراجعة إليهم ، وذلك لا يتمّ فيما علمنا عدم الاقتصار على مجرّد المصالح والمفاسد لمدخل التعبّد فيه كما في الشرعيات بعد عدم دليل على وجوب الاحتياط إلاّ ما دلّ على وجوب الشيء في الواقع ، فظهر أنّ الركون إلى مثل هذا الوجه ممّا لا تعويل عليه إلاّ بعد الرجوع إلى ما مرّ وأوله إلى ما ذكر وبدونه لا جدوى فيه لاختلاف وجوه الأدلّة كما لا يخفى.
وقد يلوح من بعض متأخّري المتأخّرين كصاحب الحدائق (1) دعوى الاستقراء على عدم جواز الارتكاب ، وفيه منع واضح إذ الموارد التي بملاحظتها حكم بالاستقراء لا تزيد على معدود ، فهي في غاية القلّة ، فكيف الاستقراء.
نعم ، لو بدّل هذه الدعوى بدعوى دلالة (2) بعض الأخبار الواردة في موارد خاصّة ولو بعد تنقيح مناطها على حرمة الارتكاب ، لم يكن بذلك البعيد.
فمنها : صحيحة زرارة في حديث طويل إلى أن قال : قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال عليه السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّها [ قد ]
ص: 462
أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » (1) والتقريب ظاهر جدّا.
ومنها : ما ورد أنّه « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام على الحلال » (2).
فإن قلت : لا دلالة فيه على المطلوب لظهوره في المزجيات (3) كما يؤيّده لفظ « ما اختلط » في الخبر الآخر (4) وقد عرفت أنّ صورة المزج خارجة عن محلّ الكلام كما إذا امتزج السمن بمثله المحرّم أو بغير جنسه.
قلت أوّلا : إنّه خلاف الظاهر من لفظ « الخلط » فكيف بلفظ « الاجتماع ».
ص: 463
وثانيا : فالحرمة في المزجيات ليست (1) باعتبار غلبة جانب الحرام الحلال عند العلم بحرمة أحد المختلطين إجمالا بل بواسطة عنوان تفصيلي آخر وهو حصول الشركة أو النجاسة القطعية فإنّهم قد عدّوا من أسباب الشركة المزج اختيارا أو اضطرارا ، وبعد حصولها يحرم التصرّف بواسطة حصول الإشاعة ولا مدخل للحرام فيها كما لا يخفى.
وأمّا ما يقال : من معارضة الخبر بمثله بتقديم الحرام على الحلال كما عن بعض الأعاظم من الأواخر (2) ، فمدفوع بأنّ أمثال هذه الأخبار ممّا لا تعويل عليها إلاّ فيما عاضده العمل على وجه يحصل الاطمئنان بسندها ودلالتها ، والأوّل كذلك لاستناد العلاّمة (3) إليه في بعض الموارد بخلاف الثاني ، فلا بدّ من حمله على وجه لا ينافي الأوّل كأن يحمل على نصب الحلال على أن يكون مفعولا (4) ورفع الحرام (5).
ومنها : النبويّ صلى اللّه عليه وآله : « اتركوا ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس » (6).
واستند إليه ابن إدريس (7) في مقام وجوب الاحتياط في قضاء صلاة (8) الفائتة ، ودلالته على لزوم ترك المباح الواقعي مقدّمة لترك الحرام ظاهرة.
ومنها : خبر سماعة عن الصادق عليه السلام في رجل معه إناءان [ فيهما ماء ] وقع في
ص: 464
أحدهما ولا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال عليه السلام : « يريقهما [ جميعا ] ويتيمّم » (1) ومثله موثّقة عمّار (2).
ومنها : ما عن المحاسن عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت : أخبرني من راى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه السلام : « أمن أجل أنّه (3) مكان (4) واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض فما علمت منه أنّه ميتة فلا تأكله وما لم تعلمه (5) فاشتره وبعه وكله واللّه إنّي لأعرض (6) السوق فأشتري منه اللحم والسمن والجبن واللّه ما أظنّ كلّهم مسلمون (7) هذه البربر (8) وهذه السودان » (9) فإنّ فيه إشعارا بلزوم الاجتناب في صورة الانحصار كما لا يخفى على الخبير بصناعة الكلام.
ومنها : أخبار القرعة سؤالا وجوابا فإنّها بسياقها تدلّ (10) على أنّ سجيّة أهل الشرع كافّة على عدم الارتكاب وتوقّفهم فيه فإنّ يحيى بن أكثم من قضاة العامّة فقد حاول عرض المشاكل على الجواد - روحي له الفداء - وجواب الإمام عليه السلام بكون القرعة طريقا إلى الواقع (11) إنّما يشعر بعدم (12) تغيّر الواقع كنفس السؤال ، وأمثال هذه التلويحات في الأخبار ما لا تحصى (13).
ص: 465
ثمّ إنّ هاهنا قولا ثالثا وهو تعيين الحرام بالقرعة نظرا إلى خصوص الرواية المذكورة وعموم قوله : « كلّ أمر مجهول ففيه القرعة » (1).
أمّا الجواب عن الرواية الخاصّة ، فبأنّها قضية في واقعة خاصّة يعمل بها في مواردها ولا عموم فيها حتّى تنهض بإثبات القاعدة.
وأمّا الجواب عن عمومات القرعة ، فقد يستفاد من بعضهم رميها بضعف السند.
وليس في محلّه لانجبار سندها بالعمل ، ولا يعقل ضعفها في مورد دون مورد أيضا.
وقد يقال بعموم موردها بالنسبة إلى موارد الأصول (2) فإنّها لكلّ ما فيه الاشتباه سواء كان هناك علم سابق بالتكليف ، أو كان الشكّ فيه ، أو غير ذلك من موارد الأصول العملية الأربعة بخلاف موارد الأصول لاختصاص كلّ واحد منها بمورده فيخصّص عموم أدلّة القرعة بأدلّة هذه الأصول الخاصّة.
وضعفه أيضا واضح لاستلزامه تخصيص الأكثر بل يوجب (3) تخصيص العامّ بالفرد الأندر ولا يصار إليه.
وقد يقال بحكومة أدلّة الأصول على أدلّة القرعة لأنّها لكلّ ما فيه الاشتباه وبإعمال الأصول يرتفع الاشتباه.
وفيه : أنّ القضية معكوسة لأنّ المستفاد من أخبارها هو كونه طريقا إلى الواقع كما في البيّنة ونحوها ، فلا ينبغي توهّم ورود مثل الأصول عليها ، وستعرف لذلك زيادة تحقيق إن شاء اللّه.
والتحقيق أنّ من أمعن النظر في أمثال هذه الروايات ممّا لم يستقرّ عمل الطائفة على الأخذ بها في كلّ ما يظهر أنّه من مواردها كأخبار نفي الضرر ، يجد من نفسه ما يمنعه عن كونها مفيدة لقاعدة كلّية منضبطة سارية في تمام مواردها إلاّ ما قام الدليل على
ص: 466
تخصيصها فكأنّها تقضي بأنّها طريق الواقع في ضمن موارد مخصوصة معهودة يستكشف عنها بعمل جملة من أرباب الصناعة على وجه يحصل الاطمئنان والسكون فإنّ الشارع إنّما نفى الضرر في جملة موارد يستعلم بعمل الأصحاب منها ، وإلاّ فلو بنينا على العمل بمفاد أمثال هذه العمومات ، لزم تجديد الفقه عن أصله كما نبّه عليه بعض الأفاضل (1) سيّما فيما لو قلنا بعمومها للأحكام أيضا.
والقول بالعموم وخروج ما خصّص فيه بشاعة يأباه الذوق السليم وإن قلنا بجواز تخصيص الأكثر.
والحاصل فحيث إنّ أخبار القرعة غير معمول بها في المقام فنحن لا نجترئ على العمل بها ، وإلاّ فكان القول بها قويّا جدّا.
ثمّ إنّ هاهنا أخبارا أخر بظاهرها تدلّ على عدم وجوب الاجتناب عند العلم الإجمالي على ما زعمه بعضهم (2) مثل ما يدلّ على جواز شراء ما في يد السارق والعشّار (3) ونحو ذلك من وجوب إخراج الخمس في ما اختلط بالحرام ، ولا بدّ من حملها على وجه لا ينافي ما ذكرناه ، وكثير منها ممّا لا يأبى ذلك كأن يحمل على جوازه فيما لو دلّ الدليل الشرعي عليه كما إذا كان تحت أيدي المسلمين ونحو ذلك ، وليس ما ذكرنا بعيدا فإنّ كلمات بعض الأصحاب كظاهر بعض الأخبار توهم (4) عدم وجوب الامتثال عند العلم التفصيلي أيضا كما أشرنا إليه في بعض المباحث السالفة (5) من مباحث الظنّ.
ص: 467
قد عرفت (1) في نظير المقام في الشبهة الوجوبية أنّ وجوب الإتيان بالمحتملات من باب المقدّمة العلمية وتحصيل اليقين بالبراءة إنّما هو وجوب عقلي لا شرعي لا يترتّب على مخالفته إلاّ ما يترتّب على مخالفة نفس الفعل كما هو الشأن في الإرشاديات بتمامها ، والكلام في المقام هو الكلام فيه بعينه من غير فرق ؛ لاتّحاد المناط ، وهو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة والفراغ عن عهدة التكليف.
وأمّا التجرّي ، فقد عرفت أيضا وجه الكلام فيه (2) ونزيده هنا في المقام توضيحا بأنّه قد قرّر في محلّه أنّ التجرّي تارة يقع على وجه يكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث طينته فقط من غير أن يكون الفعل متّصفا بالحسن والقبح من هذه الحيثية كما إذا ارتكب الفعل المحرّم في اعتقاده عصيانا على وجه يقرّ بكونه معصية كما في سائر المعاصي لاحتمال تكفيره وحبطه.
وأخرى يقع على وجه يكشف عن قبح الفعل أيضا كما إذا أتى بالفعل للوصول إلى الحرام على أن يكون هو الداعي إليه ، فمرّة للالتذاذ بالفعل المحرّم ، وأخرى للعناد.
فعلى الأوّل لا دليل على حرمة التجرّي بهذا الوجه ، وإنّما يستحقّ اللوم من جهة خبث طينته وكدورة سريرته.
وعلى الثاني والثالث ، فلا ريب في حرمته بل ذلك في الثالث يوجب الكفر.
وبالجملة ، فالقول بحرمة ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين على وجه يترتّب على كلّ واحد منهما عقاب على حدة يبقى بلا دليل إذ الحرمة العقلية لا يقضي إلاّ بعقاب (3) واحد على مخالفة الواقع.
ص: 468
والتجرّي في هذا القسم يمتنع (1) أن يكون موجبا للعقاب لعدم مدخلية نفس الفعل في الذمّ على أنّ صدق عنوان التجرّي على المرتكب لواحد (2) من الإناءين لا بعنوان الوصول إلى الحرام كما في المقدّمات العلمية أوّل الكلام إذ غاية ما يسلّم هناك صدقه فيما لو أتى بالفعل جازما بأنّه هو الفعل المحرّم سواء كان عنادا أو لا ، وقد مرّ تفصيله بما لا مزيد عليه في بعض مباحث العلم (3).
قد تقرّر في مباحث الألفاظ أنّ بين الأوامر والنواهي فرقا من جهة أنّ المطلوب في الثاني هو ترك الفعل المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، بخلاف الأوّل فإنّها وإن لم يكن الأصل فيها أن يكون على وجه التعبّد كما زعمه جملة منهم إلاّ أنّ المطلوب فيها ولو لدليل خارجي التعبّد بها (4) ، فلا بدّ في الامتثال من قصد القربة.
مضافا إلى قصد عنوان الفعل الواجب على أن يكون الفعل بعنوانه المأمور به اختياريا كما مرّت إليه الإشارة في نظير المقام ، وذلك بخلاف النهي فإنّ المناهي كلّها توصّليات والامتثال وإن كان لا يصدق فيها أيضا إلاّ إذا كان الترك مقصودا لكنّ الترك مطلقا مسقط للنهي (5) كما في الأوامر التوصّلية أيضا (6) ، فعلى هذا لو ترك المكلّف أحد أطراف الشبهة قاصدا فعل الآخر واتّفق عدم ارتكابه لذلك الآخر أجزأ عن ترك الحرام لحصول المقصود فيما لو صادف الترك الحرام وإن كان لا يثاب عليه فإنّ عدم الثواب على الترك لا يلازم العقاب على المخالفة ، وذلك (7) بخلاف الشبهة الوجوبية ، فقد عرفت لزوم القصد بالنسبة إلى الامتثال بالطرف الآخر عند إتيانه (8) بالطرف الأوّل.
ص: 469
قلت : فقضية ذلك التفصيل في المقامين على أنّه لم يقم دليل خارجي على التعبّد في الأوامر فتدبّر.
أنّ ما ذكرنا من وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا صحّ التكليف لكلّ (1) واحد من الإناءين المشتبهين منجّزا من غير تعليق على شيء سواء لم يكن معلّقا ومشروطا عن أصله أو كان ، ولكن بعد حصول المعلّق عليه والشرط كما إذا كان المكلّف متمكّنا على تمام أطراف الشبهة وكان في محلّ الاحتياج والابتلاء منه ، وأمّا إذا كان الأطراف على وجه لا يصحّ النهي عن ارتكاب كلّ واحد منها تنجيزا (2) بل كان النهي عنه محتاجا إلى تعليقه على شيء عقلا أو عادة أو عرفا فلا يجب الاجتناب.
أمّا إجمالا ، فلأنّ بعد اعتبار التعليق في النهي كالتعليق على القدرة وعدم حصول المعلّق عليه لا نعلم بتحقّق التكليف في حقّ المكلّف لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو الطرف الغير المقدور ، فلا نعلم (3) بحصول التكليف ولو إجمالا فتقلب الشبهة بدوية صرفة ، وقد مرّ الحكم بجريان البراءة فيها إجماعا.
وأمّا تفصيلا ، فلأنّ التعليق فيما إذا حكم به العقل كالقدرة ، فلا كلام فيه لأنّ الواجب المشروط قبل حصول الشرط لا يجدي في حكم من أحكام الواجبات ، فقبل أن يكون المكلّف قادرا على شرب أحد الإناءين لا يتعلّق (4) به نهي ؛ لقبح النهي عن غير المقدور إذ المفروض حصول المطلوب فيه وهو الترك ، فلا جدوى في النهي أبدا لا تعبّدا ولا توصّلا.
وأمّا إذا حكم به العادة فظاهر أيضا كما إذا كان الخمر في حوصلة طير في جوّ
ص: 470
السماء ، فإنّ العادة تقضي (1) بقبح النهي عن هذا الخمر ، فإذا علمنا بأنّ الخمر في جملة مردّدة بين ما في حوصلة ذلك الطير وبين غيره ، فلا يجب عنه (2) الاجتناب لاحتمال أن يكون هو المنهيّ عنه واقعا والمفروض أنّه بحكم العادة معلّق على حصول شرط غير واقع.
وأمّا إذا حكم العرف بالتعليق كأن يكون الخطاب على وجه الإطلاق والتنجيز من غير اشتراط وتعليق مستنكرا شنيعا (3) في العرف كما إذا لم يكن أحد أطراف الشبهة في محلّ احتياج المكلّف ومورد ابتلائه فإنّ من له أدنى دربة يشاهد من نفسه بشاعة الخطاب الناهي عن استعمال أواني الذهب والفضّة الموجودة في خزائن السلاطين من غير تعليق بالابتلاء وكذا يعدّ في العرف من اللغو الخطاب الناهي عن شرب ماء في الحوض في أقصى بلاد الهند إلاّ إذا كان معلّقا بالابتلاء كأن يقال : إذا ابتليت بأواني الذهب والفضّة الموجودة في تلك الخزائن ، فلا تستعملها ، وإذا ابتليت بشرب ماء في الحوض الفلاني ، فلا تشربه ، فإذا علمنا بأنّ أحد الأواني الموجود (4) عندنا ، أو المخزون عند السلطان من الذهب ، أو من الفضّة ، فلا يجب الاجتناب عن الموجود عندنا لأنّ المفروض عدم تعلّق النهي بالموجود في خزانة السلطان منجّزا ، فلو كان هو الذهب لم يكن متعلّق التكليف به لعدم حصول الشرط والمعلّق عليه وهو الابتلاء بمورد الاحتياج به ، وكذا يعدّ في العرف سفها نهي المكلّف عن السجدة على أرض معلوم النجس في البرّ ، فإذا دار الأمر بين أن يكون الأرض الكذائي نجسا أو الماء الفلاني الذي هو محلّ الحاجة دونها ، جاز استعمال الماء لأنّ النهي عن السجدة لم يكن مطلقا بل لا بدّ من أن يكون مقيّدا بصورة الابتلاء ، فيحتمل أن يكون النجس في الواقع هو ما لا يصحّ تعلّق النهي به من غير تعليق والمفروض عدم حصول المعلّق
ص: 471
عليه وهو الابتلاء فلا حرمة فيه ، فيقلب الشكّ في الآخر شكّا بدويا صرفا ، وقد مرّ حكومة البراءة في مثله.
نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا من عدم تنجّز التكليف عرفا وكون الخطاب بلا تعليق شنيعا (1) إنّما يختلف خفاء ووضوحا ، فالمذكور من الأمثلة من (2) الموارد الواضحة ، وأمّا الموارد الخفيّة فكما إذا رشّ من مكان نجس رشاشة وشكّ في وقوعها داخل الإناء أو ظاهره فإنّه يحكم بطهارة ما في الإناء وإن علم إجمالا بوقوع الرشاشة في أحد الموضعين ، وأولى من ذلك ما إذا شكّ في وقوعها فيما لا يرتبط بالإناء كالأرض التي ليست محلاّ للحاجة ، وبذلك قد أيّد صاحب المدارك القول بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة حيث إنّ الأصحاب مطبقون فيما هو الظاهر على عدم وجوب الاحتراز في القضية المفروضة.
قال : ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه (3) ، لم ينجس الماء بذلك ، ولا يمنع (4) من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرنا (5).
وأورد عليه بعض من تأخّر عنه (6) بأنّ (7) المفروض من الشبهة الغير (8) المحصورة.
وليس بشيء إذ لا اختصاص للمذكور بذلك لجواز أن يكون الخارج الواقع فيه النجاسة احتمالا محصورا كما لا يخفى.
واعترضه أيضا في الحدائق بإبداء الفارق بين المقامين من حيث إنّ القاعدة
ص: 472
المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة ، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إن اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنه تلك الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (1). انتهى.
وأنت بعد ما تحقّقت حقيقة ما قد تقدّم منّا في المقام تعرف ضعف التأييد وعدم كون الفرق سديدا.
أمّا الأوّل ، فلأنّ حكم الأصحاب بعدم لزوم الاجتناب في القضية المفروضة إنّما هو بواسطة ما ذكرنا من عدم ابتلاء المكلّف بتمام أطراف الشبهة ، وليس في ذلك تأييد لما ذكره ، وإلاّ لكان الموارد التي لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب أحد الأطراف عقلا أيضا مؤيّدا له.
وأمّا الثاني ، فلأنّ التفصيل المذكور منه ممّا لم يسبقه إليه أحد ، ولا يكاد أن يلحقه فيه أيضا لأنّ بعد ما عرفت من أنّ الوجه في الحكم بالاجتناب هو تنجّز الخطاب الواقعي ، فبعد تحقّق المناط لا وجه للتفصيل المذكور ، وسيأتي لذلك زيادة تحقيق وبحث (2).
ويتفرّع على ذلك فروع :
منها : عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة فإنّ الأطراف التي ليست بمحلّ الابتلاء من المكلّف لا يكون الخطاب منجّزا بالنسبة إليها ولو بواسطة استهجان وركاكة لا يخفى على من مارس أنواع الكلام وضروب المقام كما ستطّلع عليه بعيد ذلك.
ومنها : ما لو وقعت نجاسة من الميزاب مثلا في أحد الإناءين اللذين كان أحدهما قبل ذلك نجسا قطعا وشكّ في وقوعها في الإناء الطاهر أو النجس بعد (3) العلم بعدم
ص: 473
خروجها منهما فإنّه لا يحكم بلزوم الاجتناب عن الإناء الطاهر سابقا لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى حدوث تكليف آخر غير ما كان مكلّفا به ابتداء لأنّ المفروض أنّ الإناء النجس إنّما هو معلوم النجاسة ، فليس هو بمحلّ الاحتياج من المكلّف.
نعم ، لو كان تلك النجاسة الواقعة المردّدة ممّا يختلف حكمها حكم النجاسة الأولى كأن كانت الثانية ولوغ الكلب مثلا والأولى غيره ممّا لا يحتاج إلى استعمال الطين والتراب مثلا.
فالتحقيق أنّه ملحق بالشبهة المحصورة في لزوم الاجتناب لأنّ المعلوم السابق ممّا لا أثر له في المعلوم اللاحق لاختلاف أحكامهما ، وكذا لو كان أحد الأطراف معلوم الحرمة من جهة ، ثمّ طرأت الحرمة من جهة أخرى كأن كان مغصوبا فصار نجسا فإنّ لكلّ واحد من الاعتبارين حكما يلحق به من غير إشكال.
وقد يتراءى في بعض الأنظار أنّه ما لو صار أحد الأطراف المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليا كأن يكون معلوم النجاسة إجمالا ، ثمّ علم بنجاسة أحد الأطراف تفصيلا أيضا ، فلا يجب الاجتناب.
وليس بشيء ؛ لعدم الارتباط بين الجهتين ، فإنّ المناط في عدم وجوب الاجتناب رجوع الشكّ إلى الشكّ البدوي المعمول فيه البراءة ، ولا دخل للجهة التفصيلية اللاحقة بالجهة الإجمالية ، فيلحق بكلّ (1) واحد منهما حكمهما على ما هو ظاهر لا سترة عليه.
ومنها : أنّه لو تعذّر ارتكاب أحد الأطراف كما إذا أريق أحد الإناءين على الأرض فإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب لرجوع الشكّ في الباقي إلى الشكّ البدوي ، لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو المتعذّر ، فيقبح التكليف وإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، ففي إلحاقه بالشبهة
ص: 474
المحصورة لأنّ التالف بمنزلة المتروك امتثالا ، وعدمه نظرا إلى رجوع الشبهة وانقلابها إلى الشبهة البدوية ولا مدخلية لحصول العلم قبل التعذّر وبعده ، وجهان :
أقربهما : الأوّل كما أفاده الأستاذ دام علاه ولعلّ وجهه أنّ البناء على مثل ذلك في الحكم بعدم وجوب الاجتناب يوجب هدم أساس القول به إذ بعد الامتثال بترك واحد من الأطراف في المقام أو بفعله في نظيره ينقلب الشبهة بالنسبة إلى الباقي شبهة بدوية ، والمفروض أنّ العقل حكم بلزوم الاجتناب عن الجميع أوّلا ، وأمّا الحكم بعدم وجوب الاجتناب فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد التعذّر ، فلأنّ العقل لا حكم له قبل العلم وبعده فالشبهة بدوية.
وكيف كان ، فلا بدّ من التأمّل التامّ في أمثال المقام كي لا يشتبه عليك المرام فإنّ الكلام متشابه الأطراف ، ولعلّك بعد التأمّل فيما تقدّم في الشبهة الوجوبية الموضوعية - من التفصيل بين ما لو كان التعذّر عقليا ، أو غير ذلك - تقدر على جريانه فيما نحن بصدده وإن كان ذلك ممّا لا يخلو عن شيء لا يخفى وجهه ، وكان ذلك هو الوجه في عدم تعرّض الأستاذ دامت إفاداته له في المقام ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وله الشكر على ما أنعمنا من نعمه المتوالية ، وآلائه المتواترة.
قد عرفت فيما سبق أنّ الوجه في اختيارنا لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة هو بقاء أدلّة الواقع بحالها وعدم التصرّف بتقييد وتخصيص فيها والحكم بوجوب الامتثال عند العلم بوجود المكلّف به يترك (1) الكلّ نظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب فلا بدّ فيه من الاقتصار على ما يقتضيه قاعدة المقدّمية ، ولا شكّ أنّ قضية المقدّمية لا تزيد على تسرية الحكم التكليفي وهو وجوب الاجتناب.
وأمّا الحكم الوضعي ، فلا مدخل للمقدّمية فيه ، مثلا لو أمر المولى بإكرام العالم
ص: 475
واشتبه بين أشخاص محصورة فإنّ وجوب إكرام العالم يقضي (1) بوجوب إكرام الأفراد المشتبهة ، ولا يقضي بأن يكون تلك الأفراد عالمين كما لا يخفى ، وكذا وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي (2) يوجب الاجتناب (3) عمّا اشتبه به الخمر ، ولا يدلّ على خمرية الأفراد المشتبهة ، وهكذا وجوب الاجتناب عن النجس لا يقضي بنجاسة الأفراد المشتبهة ، وإنّما يوجب وجوب الاجتناب عنها ، فعلى ما ذكرنا يظهر غاية الظهور عدم نجاسة الملاقي بأحد (4) الإناءين المشتبهين فإنّ غاية الأمر وجوب الاجتناب وهو حكم تكليفي لا دخل فيه بالنجاسة التي هي من الأحكام الوضعية ، ونجاسة الملاقي إنّما تترتّب على نجاسة الإناءين لا على وجوب الاجتناب عنهما.
وقد يظهر من المحدّث البحراني (5) القول بنجاسة الملاقي تبعا لما يظهر من كلام العلاّمة (6) في بعض كتبه استنادا إلى ظواهر الأخبار الآمرة بالإهراق في الإناءين نظرا إلى دعوى استفادة نجاسة كلّ منهما من الأمر بالإهراق مع إمكان صحّة الوضوء كأن يتوضّأ أوّلا من أحدهما ، ثمّ يطهّر محالّ الوضوء فيتوضّأ ثانيا من الآخر ، ثمّ يطهّر ثانيا ، فيصلّي فإنّ أحد الوضوءين في الصورة المفروضة يقع صحيحا بلا إشكال ، فالأمر بالإهراق لا يتمّ إلاّ على القول بنجاسة الجميع عند الاشتباه.
مضافا إلى أنّ الملاقي إنّما هو بمنزلة الملاقى ، فلو انضمّ إلى الأصلين كانت الشبهة مردّدة بين ثلاثة فهو كأحد أطراف الشبهة ؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو موجود بين الثلاثة ، غاية الأمر أنّ أحدها يتبع الآخر في الحكم بلزوم الاجتناب.
وكلا الوجهين ضعيف :
ص: 476
أمّا الأوّل ، فلأنّ الأمر بالإهراق في الرواية لا يستفاد منه سوى وجوب الاجتناب ، ودعوى استفادة الحكم الوضعي منه ممنوعة ، وحديث صحّة الوضوء - على تقدير الطهارة - في محلّه ، ولم يدلّ دليل على فساده ، فلا دلالة في الإهراق على النجاسة.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بلزوم الاجتناب من الأطراف إنّما كان بواسطة الأدلّة الواقعية مع عدم أصل موضوعي يستعلم منه حال الموضوع كاستصحاب الطهارة ، أو طريق يتوصّل به إلى الواقع كالبيّنة والقرعة ونحوها ، وأمّا فيما كان هناك أصل موضوعي يعلم منه حال المشتبه ، فلا يجب الاجتناب كما في الملاقي فإنّ أصالة الطهارة واستصحابها جارية من غير أن يعارضها شيء ، ولا ضير في التمسّك بالأصل في قبال الأدلّة الواقعية لعدم منافاتها له فإنّها تحكم (1) بوجوب الاجتناب عن النجس ، ولا دخل لها في الموضوع ، والاستصحاب حاكم بأنّ هذا الموضوع ليس نجسا كالقرعة ، والبيّنة على ما عرفت - من أنّ أدلّة الطرق (2) الظاهرية - لا تعارض (3) الأدلّة الواقعية بل تؤكّدها (4).
فإن قلت : إنّ أصالة طهارة الطرف الآخر كما يعارض أصالة الطهارة في نفس الملاقى كذا يعارضها (5) في الملاقي أيضا ، فلا يجري استصحاب الطهارة ولا أصالة الطهارة.
قلت : قد قرّر في مقامه من أنّ الأصلين إذا تعارضا إنّما يحكم (6) بتساقطهما ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصل ثالث وإن كان الأصل الثالث ممّا لا يجري عند جريان الأصلين
ص: 477
إذ المانع من جريان الثالث جريانهما (1) وبعد سقوطهما (2) فيجري من غير مانع كما في المقام فإنّ أصالة طهارة الملاقي لو كانت جارية ، فلا مجرى لأصالة الطهارة في الملاقى لكونها مزيلة بالنسبة إليها لاستناد الشكّ في طهارة الملاقى (3) إلى الشكّ في طهارة الملاقي وبعد استصحاب طهارة الملاقي ، فلا حاجة إلى استصحاب طهارة الملاقى فإنّ طهارته من آثار طهارة الملاقي و (4) أحكامه ، وبعد ما فرضنا من معارضة أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى وسقوطهما لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الثالث الذي يجري مع عدم جريان الأصل الموضوعي وهو استصحاب الطهارة في التابع والملاقي ، ولا يعقل معارضته للأصل في التابع إذ المفروض سقوطه بأصالة الطهارة في المتبوع والملاقى ، فالأصل في التابع وهو الملاقي جار بلا معارض ، فلا بدّ من العمل به ، والأخذ بمدلوله.
وأمّا القول (5) بأنّ الملاقي كأحد أطراف الشبهة ، فليس على إطلاقه فإنّه تابع لأحد أطراف الشبهة لا أنّه أحد الأطراف كما لا يخفى فإنّه منه سرى الوهم.
ثمّ إنّ هذا ليس من قبيل ترجيح الأصل في جانب المتبوع على الأصل في الطرف الآخر بتعاضده (6) بالأصل في التابع كما قد يتوهّم حيث إنّ تعاضد أحد الأصلين للآخر فرع جريانهما ، والمفروض أنّ التابع لا مجرى (7) له مع جريان المتبوع لكونه دليلا اجتهاديا بالنسبة إليه وبدونه لا تعاضد في البين لسقوطه عن أصل ، وذلك بخلاف الأدلّة الاجتهادية كما ستعرف الكلام فيها إن شاء اللّه.
فظهر من جميع ما مرّ أنّ طهارة الملاقي ما تقضي (8) بها القواعد لكن ينبغي أن يعلم
ص: 478
أنّ عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي إنّما هو فيما (1) إذا كان الملاقي لواحد من الأطراف ، وأمّا لو لاقى بشيء واحد كلّ واحد منها (2) ، فلا شكّ في نجاسته تفصيلا لكن فيما لم يحصل التطهير بالآخر ، فتدبّر.
وأمّا لو تعدّد الملاقي بحسب تعدّد الأطراف ، فالحكم في الملاقيات كالحكم في نفس الأطراف لحصول العلم الإجمالي بنجاسة أحدها ، غاية الأمر أنّها تابعة لنجاسة الأطراف ، ويلحق كلّ منهما حكمهما من لزوم الاجتناب ، ولو نقص أحد الأطراف مع بقاء ملاقيه ، فهل يحكم بطهارة الملاقي والطرف الآخر ، أو لا؟ فيه تفصيل بين حصول العلم الإجمالي قبل النقصان والتعذّر ، وبين حصوله بعد التعذّر.
فعلى الأوّل يحكم بالطهارة في الملاقي ولزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذ المفروض أنّ الاستصحاب قضى بطهارة الملاقي قبل التعذّر والعلم (3) الإجمالي الدائر بين الطرفين بنجاسة الطرف الآخر ، وتعذّر الملاقي بعد الحكم بالطهارة الشرعية لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي وطهارة الطرف الآخر لقيام دليل شرعي على الطهارة في الملاقي والنجاسة في الطرف الآخر.
وعلى الثاني يحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة الطرف الآخر لحصول العلم الإجمالي بين هذا الملاقي ونفس الطرف الآخر بأنّ أحدهما نجس في الواقع ، ولا بدّ من الاجتناب والمفروض عدم قيام دليل شرعي على طهارة الملاقي لتعارض أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى حيث إنّ الملاقي بعد لا محلّ له يجري فيه أصالة الطهارة حتّى يكون معارضا بالأصل في الطرف الآخر ، وحيث قد علمت أنّ المعيار في الحكم بالطهارة هو عدم معارضة أصل آخر لأصالة الطهارة يظهر الوجه في الحكم بنجاسة الملاقي فيما لو حصل العلم بعد التعذّر ، فتدبّر.
ص: 479
هل الحكم بوجوب الاجتناب يخصّ ما إذا اجتمعت أطراف الشبهة في الوجود أو يعمّها ، وما إذا اندرجت (1) فيه كأن يعلم بأنّ أحد الأيّام من الأسبوع الخاصّ في الشهر المخصوص يحرم عليه المسافرة أو الصيام؟ وجهان : أقواهما الثاني لكن حيث يكون المكلّف بمحلّ الابتلاء منه على وجه يصحّ التكليف به من غير تعليق كما مرّ كأن يكون مريدا لصوم ذلك الأسبوع فإنّ المدرك في هذا الحكم هو استقلال العقل بعد العلم بالتكليف على تحصيل الامتثال والفراغ عن عهدته ، والعقل لا يفرق بين أن يكون الأطراف مجتمعة في الوجود - كما في الإناءين أو الدراهم المعلوم غصبية أحدها - أو متدرّجة كما فيما إذا علم بحرمة واحد من أفاعيله الواقعة في برهة من الزمان المعلوم مع كون الفاعل في صدد فعلها.
ومن هنا قد أفتى الشيخ في محكيّ النهاية (2) بوجوب الاحتياط على امرأة تعلم باستمرار دمها في شهر أو شهرين مع علمها بأنّ بعضا منه أيّام أقرائه وحيضه من تركها ما يحرم على الحائض وإتيانها بما يجب عليها.
وربّما يتوهّم بأنّ الحكم بالاحتياط لا يبتني على لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة نظرا إلى وجود أصل موضوعي في المقام في تمام الشهر وهو استصحاب الطهر إلى أن يبلغ عشرين يوما مع أنّه لا معارض له وأصالة الإباحة في العشرة الأخيرة لاحتمال أن يكون العشرة الأولى أو المتوسّطة أو الملفّقة حيضا ، ولا معارض لها أيضا إلاّ أن يكون استصحاب الطهر مثبتا لكون العشرة الأخيرة حيضا.
ص: 480
ولكنّك خبير بانقطاع الأصلين بالعلم الإجمالي بأنّ عشرة من الشهر أيّام حيضها ، فيرجع الحكم بالاحتياط إلى الشبهة المحصورة ، فتدبّر.
السادس :
قد تقدّم (1) أنّ المحدّث البحراني قد أجاب عمّا أورده صاحب المدارك على المشهور من حكمهم بوجوب الاجتناب (2) في الشبهة المحصورة مع عدم وجوبه فيما إذا علمنا بوقوع النجاسة إمّا على الأرض أو خارج الإناء أو في الإناء (3) مع أنّ المفروض منها باختلاف جنس أطراف الشبهة ، وقد عرفت أيضا عدم استقامته إلاّ أنّه ربّما يتراءى في جليل النظر من الفرق بين المختلفين اللذين يجمعهما (4) عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية كالإناءين المشتبهين أو الأرض والإناء المردّد وقوع النجاسة في أحدهما ، فإنّه يجمعهما عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية وهو لزوم الاجتناب عن النجس ، وبين المختلفين اللذين لا يجمعهما عنوان تفصيلي شرعي كما إذا علم إمّا بأنّ زوجته مرضعة له أو أنّ الإناء الفلاني نجس ، أو علم بأنّ إمّا داره غصب أو زوجته مرضعة ، فإنّ في الأدلّة الشرعية ليس ما يجمعهما فيقال بلزوم الاجتناب في الأوّل وعدمه في الثاني نظرا إلى لزوم المخالفة في الأوّل دون الثاني ؛ إذ المفروض عدم وجوب خطاب تفصيلي يجمعهما (5) حتّى يلزم من عدم الاجتناب مخالفته ولا يلزم مخالفة الخطابين المخصوصين لكلّ واحد منهما لكون كلّ واحد منهما مشكوكا تفصيلا ، وأحدهما أيضا ليس من العناوين الشرعية ، فارتكاب كلّ واحد من أطراف الشبهة ممّا لا غبار عليه.
لكن النظر الدقيق لا يفرق بين المقامين لاستقلال العقل بحرمة المخالفة وصدق
ص: 481
المخالفة فيما لو ارتكب كلاّ من طرفي الشبهة بأن يشرب الإناء ويتصرّف في الدار على الوجه المذكور ممّا لا يدانيه ريبة فلا فرق في نظر العقل بين أن يكون أطراف الشبهة متجانسة كما زعمه المحدّث البحراني أو مجتمعة في عنوان تفصيلي كما قد يتراءى في جليل النظر أو غيرها.
نعم ، لا يبعد دعوى القول بالتفصيل في الصورة المفروضة بين ما يقع من المكلّف مقصودا وبين ما لا يقع مقصودا ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّ ذلك أيضا ممّا لا يتمّ إلاّ بعد التقييد في دليل الواقع وبعد ذلك فلا فرق بين المقصود وغيره ، فليتأمّل في المقام.
قد يتوهّم في المقام معاضدة استصحاب الحرمة فيما لو كانت الحالة السابقة هي الحرمة للقول بحرمة الارتكاب بل قد يجعل دليلا له بإتمام المطلوب بدعوى الإجماع المركّب ، وقد يعارض باستصحاب الحلّ فيما كانت الحالة السابقة هو الحلّ بدعوى الإجماع أيضا.
ولا عبرة بشيء منهما فإنّ التحقيق عدم اعتبار الحالة السابقة في موارد (1) الشبهة المحصورة سواء كانت الحرمة أو الحلّ لانقطاع الحالة السابقة بالعلم الإجمالي.
مضافا إلى أنّ الحرمة المعلومة في السابق غير الحرمة (2) التي يدّعي القائل بالتحريم ثبوتها لأنّ الحرمة هذه مقدّمية عقلية ، والحرمة السابقة نفسية شرعية وهي قد انقطعت ولا يجدي في إثبات الحرمة المقدّمية كما لا يخفى.
وبالجملة ، ففي موارد الشبهة إمّا أن نعلم بالحالة السابقة في كلا الطرفين ، وإمّا أن لا نعلم بها فيهما ، أو نعلم بأحدهما دون الآخر موافقا أو مخالفا ، ولا عبرة بشيء منهما إذ المفروض علمنا بطهارة الإناءين في المثال المشهور ونجاسة الآخر ، ولا فرق في ذلك
ص: 482
بين أن نعلم بنجاستهما أو بطهارتهما ، أو لا نعلم بشيء منهما (1) ، أو بطهارة الأوّل دون الثاني كما لا يخفى.
إذا اشتبه أحد الأطراف بسلسلة أخرى ، ثمّ منها إلى غيرها ، فعلى ما اخترناه يجب الاجتناب عنها أيضا للعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الأطراف في جميع السلاسل ولو كانت متصاعدة إجمالا لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو انتهت إلى الشبهة الغير المحصورة في كلّ السلاسل ، أو في مجموعها ، فتدبّر.
لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب أحد الأطراف ، فهل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ، أو لا (2) ، أو يفصّل بين موارد الأدلّة ، أو بين حصول العلم الإجمالي بعد الاضطرار ، أو قبله وجوه.
والتحقيق أن يقال : إنّ الدليل الدالّ على جواز الارتكاب قد يفيد حلّية المحرّم الواقعي في غير موضوع الاضطرار ، فلا يجب الاجتناب عن الباقي ، وقد يفيد جواز الارتكاب مع قطع النظر عن وروده على الأدلّة الواقعية بارتكاب تقييد فيها ، فيجب الاجتناب عن الباقي.
أمّا الأوّل ، فلرجوع الشبهة فيه إلى الشبهة البدوية إذ بعد احتمال حلّية المضطرّ عن أصله ينقلب الشكّ بدويا صرفا كما في صورة الامتناع.
وأمّا الثاني ، فلأنّ قضية الجمع بين الدليلين هو القول ببدلية الباقي عن الواقع من غير تقييد في الأدلّة الواقعية.
وأمّا لو شكّ في إفادة الدليل هل هي على الوجه الأوّل ، أو على الأخير ، ففيه
ص: 483
إشكال من أنّ الشكّ مرجعه إلى الشكّ في نفس بعد الشكّ في كون الدليل على وجه يجب معه الاجتناب ومن لزوم الاجتناب نظرا إلى عدم العلم بالبراءة إلاّ به (1) ، ولعلّ الأوّل أقوى.
لو حدث حادث في أحد الأطراف على وجه يطهر النجس الواقعي لو صادفه واقعا ، فهل يجب الاجتناب ، أو لا؟ قد يظهر في النظر القول بعدم وجوب الاجتناب لارتفاع العلم الإجمالي إلاّ أنّ التأمّل قد يقضي بلزوم الاجتناب استصحابا للنجاسة (2) اليقينية من غير معارض ، فتدبّر.
في بيان موضوعها ، فقد وكلها جماعة ممّن حام حولها إلى العرف.
وهو كما ترى لا يجدي (1) شيئا كما في غيرها ممّا يرجع إليه لاشتباه كثير من أهله في كثير من مواردها ؛ إذ المقصود بالتميز بيان حقيقتها على وجه يستعلم منه الأفراد المشكوكة فإنّ الأفراد الظاهرة لا حاجة فيها إلى التميز كما في عكسها.
وقد يظهر من غير واحد منهم بأنّ غير المحصورة ما يوجب العسر في اجتنابها ؛ فإن أرادوا بيان مفهومها وكشف القناع عن حقيقتها ، فظاهر السقوط لعدم مدخلية العسر في ماهيّة الغير المحصورة ، وإن أرادوا التفسير باللازم كما هو الظاهر فلا يستقيم طردا وعكسا ؛ لانتقاضها (2) بالمحصورة فيما لو استلزم العسر ، وبغيرها فيما لم يستلزمه ولو لغالب أفراد النوع في غالب أحوالهم.
وقرّرها ثاني المحقّقين والشهيدين وجماعة ممّن تأخّر عنهم (3) بأنّها ما يوجب العسر
ص: 485
ص: 486
في عدّها من حيث كثرة أطراف الشبهة بمعنى أنّ القضايا المنتزعة عن أطراف الشبهة على سبيل منع الخلوّ تبلغ في الكثرة حدّا يوجب العسر لو أريد تحديدها من حيث تعيين المشتبه ، وأمّا لو تعلّق بالإعداد والتحديد غرض آخر غير تعيين المشتبه ، فقد لا يكون العدّ عسرا كما لا يخفى لاختلاف العسر واليسر باختلاف وقوع الفعل على الوجوه المتكثّرة.
وينبغي أن يراد من الكثرة كثرة أطراف الشبهة لا كثرة المشتبهات ليدخل في المحصورة ويخرج عنها ما لو قلّت أطراف الشبهة وإن كثرت المشتبهات كما في شبهة الكثير في الكثير فإنّه لو اشتبهت ألف دراهم بعشرة آلاف دراهم ، فإنّ المشتبهات كثيرة يوجب إحصاؤها عسرا إلاّ أنّ أطراف الشبهة عشرة بعد إسقاط المكرّرات وعدم اعتبار الصور المتداخلة.
ثمّ إنّ المراد بأطراف الشبهة أيضا ما يكون في العرف والعادة متعارفا جعلها أطراف الشبهة فإنّ الحبّة الواحدة من السمسم وما يشابهه في الصغر لا يكون من أطراف الشبهة (1) عندهم فيما لو اشتبه واحدة بمنّ منه بل أطراف (2) الشبهة في أمثاله ما هو المتعارف في استعمالاته من القبضات ونحوها كما لا يخفى ، ومع ذلك كلّه فلا يجدي شيئا كما يظهر من الضابطة التي قرّرها في المقام ، حيث جزم بكون الألف من غير المحصورة قطعا ، وأحال الأمر إلى ما يقتضيه الأدلّة عند الشكّ ، فإنّ المقصود على ما عرفت إقعاد قاعدة يتميّز بها صور الشكّ على ما هو ظاهر لا سترة عليه (3) ، وبعد الرجوع إلى الأدلّة فلا جدوى في القاعدة.
ص: 487
وحيث إنّ بيان الموضوعات فيما لم يكن في عنوان الأدلّة الشرعية كما (1) في ألفاظ الكتاب والسنّة أو موردا لنقل الإجماع أو معقدا للإجماع ممّا لا يترتّب عليه كثير فائدة ، فلا وجه للإطناب في المقام بإيراد النقوض والإبرام ؛ لعدم ورود هذا اللفظ في عنوان دليل ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّق الثاني بعد ما فسّرها بما مرّ ادّعى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عنه (2) ، فلعلّ (3) مورد نقله الإجماع هو ما فسّرها ، وهو كما ترى.
في أنّه هل يجب الموافقة القطعية فيها ، أو لا؟ الحقّ عدم الوجوب ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.
أمّا الأوّل ، فالآيات الدالّة على عدم جعل الحرج في الدين ، والتقريب بوجهين :
ص: 488
الأوّل : أنّ الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة يلازم العسر في الأغلب للعلم الحاصل لأغلب أفراد النوع بأنّ أغلب الأجناس الموجودة عندهم والمستعملة لديهم - من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها ممّا يشتمل على فرد محرّم - على وجه لا ينفكّ في أغلب الأحوال الاحتراز عنها عن العسر والحرج والضيق.
والثاني : أنّ في ترك الأفراد المباحة الكثيرة والإلزام به مقدّمة لترك الحرام المشتبه بينها عسرا لا ينكره إلاّ المكابر ، ولهذا قد قلنا بأنّ الحرام المشتبه لو كان ممّا يعتدّ بشأنه عندنا ويهتمّ به كما لو كان النبيّ أو المعصوم مشتبها في جماعة غير محصورة يجوز قتلهم يجب الموافقة القطعية فإنّ الفعل يختلف عسرا ويسرا بحسب اختلاف وجوهه ووقوعه على عدّة وجوه كما لا يخفى هذا ، إلاّ أنّ التقريب الأوّل يتوقّف على مقدّمتين يتطرّق إليهما المنع :
إحداهما : هو لزوم العسر على الأغلب في أغلب الشبهات الغير المحصورة في أغلب الأحوال (1) كما هو المصرّح به في التقريب.
وثانيتهما (2) : الدليل الدالّ على ارتفاع العسر والحرج بهذه المثابة.
وكلتا المقدّمتين في محلّ من المنع.
أمّا الأولى ، فظاهرة.
وأمّا الثانية ، فالأدلّة الدالّة على ارتفاع العسر والحرج (3) عن هذه الأمّة المرحومة لا تخلو عن أقسام ثلاثة (4) :
أحدها : ما يدلّ على ارتفاع العسر عن الكلّ في الكلّ على وجه يكون المناط هو العسر الشخصي على كلّ شخص كما هو المستفاد من قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
ص: 489
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) فإنّ الظاهر المتبادر منه عدم جعل حكم يشتمل (2) على عسر على كلّ أحد في الدين ، وهذا هو المتيقّن من رفعه كما هو المعمول عند الفقهاء كما لا يخفى.
وثانيها : ما يدلّ على عدم جعل الحكم المشتمل على العسر في الأغلب على الكلّ كما هو المستفاد عن بعض أخبار الباب ، فإنّ جملة منها ظاهرة في أنّ الحكمة في جعل الحكم الفلاني على الكلّ اشتماله على العسر في الأغلب على الأغلب.
وهذا بعيد عن مظانّ كلماتهم ومطاوي استدلالاتهم ؛ فإنّ عملهم ليس على الحكم في الأحكام كما لا يخفى.
وثالثها : ما يدلّ على اشتمال الدين على الأحكام العسرة بمعنى أنّ مبنى الأمر في الدين على اليسر دون العسر كما يقال في العرف : إنّ رأي المجتهد الفلاني عسر ، ورأي الآخر فيه يسر ، ولا يراد به أنّ تمام أحكامه مشتمل على العسر ، ورأي غيره على اليسر ، بل المقصود أنّ مبنى أمر فتوى الأوّل على العسر ، والآخر على اليسر ، ولا ينافي أن يكون بعض أحكام الأوّل غير عسر ، وبعض الأحكام للثاني عسرا ، ولا ينافي ذلك يسره على البعض في الأوّل ، وعسره على البعض في الآخر كما هو مستفاد من قوله صلى اللّه عليه وآله : « بعثت على الملّة السمحة السهلة » (3) فإنّ الظاهر منه هو ما ذكرنا.
وهذا وإن كان بعيدا عن مساق كلامهم إلاّ أنّه قريب عن مساق تلك الأدلّة في حدود ذواتها فإنّها لكونها واردة في مقام الامتنان تنافي التخصيص لكونه أضحوكة عندهم في مقام الامتنان ، ولا سيّما فيما إذا تكثّر كما في المقام.
وبالجملة ، فالقدر المتيقّن من ارتفاع العسر والحرج إنّما هو على الوجه الأوّل على ما يساعد عليه كلمات الفقهاء أيضا ، واعتبار العسر النوعي إنّما يتوقّف على دليل
ص: 490
خاصّ خارج كما ثبت في بعض المقامات ، ولا يكفي في إثباته الاستناد إلى أدلّة العسر ، فاحفظ ما ذكرنا واضبطه ، فلعلّه ينفعك في كثير.
و (1) أمّا الثاني ، فصنفان :
الأوّل : ما بخصوصه يدلّ على جواز الارتكاب في الشبهة الغير المحصورة كما عرفت (2) في خبر أبي الجارود في حديث الجبنّ وهو يشعر بما ذكرنا في تقريب الاستدلال بالآيات في الوجه الثاني كما لا يخفى.
والثاني : ما بعمومه وإطلاقه يدلّ على الجواز كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (3).
والتقريب أنّ الرواية المذكورة على ما مرّ غير مرّة محمولة على الشبهة البدوية وحيث إنّ الشبهات البدوية لا تنفكّ غالبا عن الشبهة الغير المحصورة ، فما (4) يدلّ على جواز الارتكاب فيها يدلّ على جواز الارتكاب فيها أيضا بالالتزام.
لا يقال : إنّ الإطلاق لا دخل له في هذه الجهة وإنّما هو منساق لبيان حكم الشبهة البدوية في حدّ ذاتها.
لأنّا نقول : قد قرّر في مباحث المطلق والمقيّد أنّ المطلق لو صادف في الأغلب شيئا آخر وحكم الإطلاق بحلّيته ، فلا بدّ من القول بتسرية الحكم إلى الآخر أيضا ، وإلاّ لانحصر مورد المطلق في النادر فتأمّل.
ثمّ إنّ ممّا قرّرنا يظهر الوجه في عدم الانتقاض بالشبهة المحصورة إذ (5) لا نقول بشمول الرواية بإطلاقها لغير المحصورة حتّى يتوجّه النقض بها كما لا يخفى.
وأمّا الثالث ، فقد نقل جملة من أعيان الفقه وأركان العلم الإجماع عليه ، مضافا إلى
ص: 491
تحقّق الإجماع في الجملة في بعض الأقسام عندنا.
وأمّا الرابع ، فلأنّ المبنى في لزوم الاجتناب هو حكم العقل بلزوم دفع الضرر العقابي المحتمل في كلّ من الأطراف ، ونحن نشاهد عيانا ، ونعاين وجدانا عدم الاعتداد بهذا (1) الاحتمال في الشبهة الغير المحصورة على وجه يعدّ المجتنب عنها سفيها ، ومحلّ الاجتناب عنها ملحق بآراء أصحاب السوداء والجنون ، ومن العجب مساواة الاحتمال لكلّ واحد من الأطراف وإن لم يكن محصورا (2) ومع ذلك فلا يعتني (3) العقل بالاحتمال بمعنى أنّ العقل عند ملاحظة معارض آخر ولو في الجملة يحكم بتقديم معارضه عليه مع أنّ الضرر العقابي على ما عرفت في موضوع احتماله لا ينبغي أن يعارضه شيء ، فكيف بالتقديم عليه.
وبالجملة ، العقل لا يبالي من عدم الاجتناب فيما إذا تكثّرت أطراف الشبهة مع تساوي الاحتمال في الواقع بالنظر إلى كلّ واحد منها إلاّ أنّ النفس ربما (4) تحتال (5) في تحصيل الظنّ بالبعض ، ومنه يعلم وجه إلحاق المشكوك في الغلبة.
ثمّ إنّ من هنا يمكن استنباط مناط المقام وتحصيل معيار يعلم به المحصورة عن غيره كأن يقال : إنّ الغير المحصورة ما لا ينافي العقل بارتكابه بعد العلم بوقوع المحرّم فيها كما لا يخفى ، كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّه كغيره أيضا ممّا لا يجدي فائدة ؛ لعدم العلم في تمام الموارد ، فتدبّر.
ص: 492
في أنّه هل يجوز المخالفة القطعية ، أو لا؟ فنقول : إنّ قضية الأدلّة القائلة بعدم وجوب الموافقة القطعية لا تزيد على مدلولها المذكور سيّما فيما لو كان مقصودا ابتداء فإنّ منها الأدلّة النافية للعسر ، وظاهر عدم انتهاضها على ارتكاب جميع أطراف الشبهة.
وأمّا الأخبار ، فالعامّة منها كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال » (1) لا دلالة فيها على جواز المخالفة كما عرفت في الشبهة المحصورة لعدم مقاومتها لأدلّة (2) الواقع ، فإنّ العمدة في المقام كما عرفت في بعض الأمور المتقدّمة هو عدم وقوع تمام أطراف الشبهة في محلّ الابتلاء ، ولذلك يصير الدليل الدالّ على الحرمة مقيّدا لئلاّ يلزم الاستنكار العرفي ، وأمّا في محلّ الابتلاء ينجّز التكليف بالواقع ولا يجوز المخالفة.
وأمّا الأخبار الخاصّة كخبر أبي الجارود (3) ، فالظاهر أنّ دلالتها على جواز المخالفة ظاهرة.
وأمّا الإجماع ، فالحقّ عدم دلالته بوجه على جواز المخالفة فإنّ المجمعين على ما يظهر من مساق كلامهم في مقام بيان عدم وجوب الاجتناب كما في الشبهة المحصورة ، وأمّا جواز المخالفة فغير ظاهر كلامهم فيه ، ويرشدك إلى هذا عدم تعرّضهم لبيان الأحكام الوضعية المترتّبة على جواز المخالفة عند دعوى الإجماع على عدم لزوم الاجتناب من لزوم التطهير فيما إذا اشتمل على نجس ونحوه ، مع أنّ من المناسب ذكره في مثل المقام كما لا يخفى.
وأمّا العقل ، فهو يفصّل بين أن يكون بانيا على ارتكاب الجميع ابتداء فيحكم بعدم الجواز ، وبين ما يلزم منه المخالفة من غير قصد إلى ارتكاب الكلّ ، فلا يبالي بالمخالفة.
ص: 493
كذا أفاد سلّمه اللّه إلاّ أنّ قضية تنجّز التكليف بالواقع عدم جواز المخالفة مطلقا كما في الشبهة المحصورة ، والتفصيل المذكور لو تمّ ، فهو جار فيها أيضا إلاّ أن يقال بالفرق بينهما كما عرفت في بيان دلالة العقل على عدم وجوب الموافقة القطعية. هذا تمام الكلام في الشبهة الغير المحصورة التحريمية.
وأمّا الشبهة الغير المحصورة الوجوبية ، فيحتمل أن يقال بلزوم الإتيان بقدر المشتبهات من الأطراف الغير المحصورة على وجه لا يحصل له العلم بالمخالفة على حسب اختلاف كثرة المشتبهات وقلّتها ، فلو كانت خمسة مثلا ، يجب الإتيان بها ، أو العشرة يجب الإتيان بها ، ويحتمل أن يقال بلزوم الإتيان على قدر وسعه وطاقته بحيث لا ينجرّ إلى العسر والحرج بدعوى استقرار بناء العقلاء على ذلك ، فنهض (1) فارقا بين المقام وبين الشبهة التحريمية في الغير المحصورة حيث قد عرفت بعدم لزوم الاجتناب فيها.
كذا أفاد سلّمه اللّه ، وللمنع فيه مجال واسع ، لعدم الفرق بين المقامين في جليل النظر ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ الشبهة التحريمية لا تنفكّ (2) دائما عن احتمال الامتثال إلاّ عند استيعاب تمام الأطراف بالارتكاب بخلاف الشبهة الوجوبية حيث إنّ ترك الكلّ ممكن ، فيلزم المخالفة القطعية ، وقد مرّ أنّ (3) المخالفة القطعية في التحريمية أيضا إثبات جوازها ممّا دونها خرط القتاد ، فتأمّل.
ثمّ إنّك قد عرفت فيما تقدّم في المقام الأوّل أنّ مقام الشكّ في انحصار الشبهة وعدم انحصارها لا بدّ من الرجوع إلى الاحتياط وقد يتوهّم الرجوع إلى البراءة عند الشكّ إلاّ أنّ عدم التخصيص في الأدلّة الواقعية يقضي (4) بلزوم الاحتياط كما تقدّم في كلام المحقّق الثاني.
ص: 494
في الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب والحرام ، وملخّص القول في المقام هو لزوم فعل أحدهما دائما وترك الآخر كذلك فإنّه أسلم الوجوه المتصوّرة في المقام ؛ لاستلزام فعل الكلّ وتركهما موافقة قطعية مصاحبا مع مخالفته كذلك ، وترك أحدهما في البعض وفعل الآخر كذلك يوجب العلم بمخالفة واقعية في البعض بخلاف اختيار أحدهما دائما وترك الآخر كذلك ، لاحتمال الموافقة دائما مع عدم العلم بالمخالفة ولو في بعض الأوقات ، و (1) لا ريب في ترجيح العقل له على غيره من القسمين الآخرين عند الدوران بينهما.
وهذا ممّا لا يدانيه ريبة إلاّ أنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ الحكم على الوجه المزبور إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يشخّص الحلال من الحرام والواجب من غيره ، وأمّا عند إمكان التعيين بالأصل ، فلا ريب في الأخذ بمقتضاه كما أنّه لا ريب في أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما لو لاحظنا مجرّد الوجوب والحرمة من غير ملاحظة أمر خارج عنهما كما إذا كان أحدهما متعدّدا فيما لم يكن الآخر بمكان من الأهمّية فإنّه يجب الأخذ بالمتعدّد حينئذ لأنّ تحصيل الامتثالين أولى بخلاف ما إذا كان الآخر أهمّ ، فيجب مراعاته وإن كان متّحدا.
ص: 495
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما إذا كان المتعدّد معلوما من بين المشتبهات كأن يعلم إمّا بحرمة شرب هذين الإناءين أو وجوب شرب الإناء الآخر أو (1) بالعكس ، وأمّا إذا لم يعلم بالمتعدّد ، فلا فرق في ذلك أيضا كما لا يخفى.
وبالجملة ، فلا بدّ للفقيه من ملاحظة الموارد ، فربّ واجب يقدّم على الحرام وإن قلنا بأولوية دفع المضرّة عن جلب المنفعة ، وربّما ينعكس المطلوب ولو مع قطع النظر عن القاعدة المذكورة ، فلتكن (2) على خبر منه.
ص: 496
قد عرفت في أوّل البحث انقسام الشبهة إلى الشكّ في (1) التكليف ، والشكّ في المكلّف به ، وأنّ كلّ واحد منهما إمّا موضوعية ، وإمّا حكمية ، وقد فرغنا عن بيان أحكام الشبهات التكليفية موضوعية وحكمية ، وعن الشبهة (2) في المكلّف به في الشبهات الموضوعية على حسب اختلاف أقسامها ؛ من المتباينين وجوبية وتحريمية ، ودوران الأمر بين المحذورين ، وما (3) دار الأمر بين الأقلّ والأكثر.
بقي الكلام في الشبهة الحكمية عند الشكّ في المكلّف به ، فتارة يقع الكلام في المتباينين ، وأخرى في الأقلّ والأكثر ، وعلى الأوّل فتارة في الشبهة الوجوبية ، وأخرى في التحريمية ، ومرّة في دوران الأمر بين المحذورين.
والأصل هذا معقود لبيان الشبهة الوجوبية منها ، فتارة فيما إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في الخاتمة إن شاء اللّه ، وأخرى لفقد النصّ أو إجماله.
أمّا الكلام عند التعارض ، فمحصّله التخيير على ما سيجيء ، وأمّا عند فقد النصّ أو إجماله كما إذا علمنا بوجوب الظهر ، أو الجمعة إجمالا ولم نحقّق الواجب بالخصوص
ص: 497
لعدم النصّ عليه ، أو لإجمال (1) فيه (2) ، فيقع الكلام فيه في مقامين (3) : فتارة في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، وأخرى في وجوب الموافقة وعدمه.
الكلام فيها في مقامين : المقام الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد يظهر من المحقّق القمّي تبعا للمحقّق العلاّمة الخوانساري (4) - على ما حكاه عنه - جواز المخالفة ، والحقّ عدمه كما ستعرف.
وقد يتوهّم إحالة الأمر في المقام إلى ما تقدّم في الشبهة المحصورة.
وليس على ما ينبغي للفرق الظاهر بين المقامين للعلم بوجوب الاجتناب عن النجس في الواقع وإن كان مردّدا بين أشياء ، والقطع بتعلّق الطلب فعلا أو تركا على حسب اختلاف المقامات فيها بخلاف المقام (5) ؛ فإنّ الخطاب غير معلوم المراد ، فما هو مقطوع لا يجدي ؛ لأنّه بمنزلة مجرّد الصوت ، وما هو مجد غير معلوم وهو المراد ، فربّما يسبق إلى الوهم القول بالبراءة في المقام دون الشبهة المحصورة فإنّ الوهم (6) فيها بمكان من البعد على ما عرفت.
ثمّ إنّه قد يتوهّم أيضا قياس المقام بما مرّ في دوران الأمر بين الواجب والحرام في الشبهة الحكمية التكليفية.
وسقوطه ظاهر ؛ لاستلزامه المخالفة العملية في جميع صوره بخلافه كما عرفت تفصيلا.
وكيف كان فاحتجّ القائل بأنّ التكليف في المقام إمّا بأحدهما معيّنا ، أو بأحدهما غير معيّن ، أو بالواقع المجهول عندنا (7) ، والكلّ باطل.
أمّا الأوّل ، فلعدم الأمر به كما هو المفروض ، ويكشف عنه قبح العقاب عند العقول السليمة على ترك أحدهما بالخصوص.
ص: 498
وأمّا الثاني ، فلعدم دلالة الأمر على أحدهما بهذا الوصف ؛ لكونه أمرا انتزاعيا لا يناط عليه الخطابات الشرعية ولا غيرها.
وأمّا الثالث ، فلقبح العقاب عليه مع كونه مجهولا كما في الشكوك البدوية إن أريد إثبات الوجوب بالنسبة إليه بمجرّد الخطاب المجهول عندنا ؛ إذ المفروض عدم العلم به ، وإن أريد (1) إثبات التكليف بواسطة أدلّة أخرى من إجماع على لزوم الإتيان بشيء ، أو أخبار الاحتياط ، فعلى تقدير وجوده ممّا لا يضرّ بما نحن بصدده من اقتضاء القواعد كما لا يخفى.
والجواب عنه أنّ التكليف بالواقع المجهول عندنا ولا ضير فيه ؛ لأنّ الجهل بالخطاب غير مضرّ بعد العلم بنفس التكليف كما في صورة العلم التفصيلي فيما لو علمنا تفصيلا بأنّ المائع الفلاني إمّا هو خمر ، وإمّا ماء مغصوب فإنّ الخطاب مجهول ، وحيث إنّ العلم حاصل ، فلا ضير في جهل الخطاب ، ففي المقام نحن ندّعي أنّ العلم الإجمالي بمنزلة العلم التفصيلي ، فكما أنّ الجهل بالخطاب مع حصوله لا يضرّ في لزوم العمل على طبقه ، فكذا (2) في المقام ، فالعلم الإجمالي منجّز للتكليف كالعلم التفصيلي لعموم إطاعة أوامره ونواهيه تعالى عقلا ونقلا.
ويكشف عن ذلك تكليف الكفّار بالفروع مع عدم العلم التفصيلي (3) بخصوصيات الأحكام الفرعية إجماعا منّا ، وصحّة عقاب الجاهل المقصّر (4) كما حقّق في محلّه ، وقوله عليه السلام فيما سأله السائل عن سماع صوت الجواري في الخلأ : « ما أسوأ حالك لو كنت تموت
ص: 499
بهذه الحالة » (1) وعليه استقرّ طريقة العقلاء في إطاعة مواليهم وتعذيب عبيدهم كما هو أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس عند الرجوع إلى سجيّتهم.
فالمانع إمّا أن يقول بأنّ مجرّد الجهل بالخطاب يقضي بعدم التكليف ولو جرّد النظر عن جميع ما عداه ، فكلامه منقوض بصورة التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي ؛ إذ بمجرّد الجهل سقط التكليف ، ولا دليل على وجوب مقدّمة الواجب بعد سقوط ذيها ، فلا دليل على تحصيل العلم ؛ لأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليس بواجب اتّفاقا ، ولهذا قد طعن على القائل بلزوم الفحص مع عدم القول بوجوب الواقع عند الجهل كالمقدّس الأردبيلي ومن تابعة كصاحب المدارك ونحوه (2) جمال المحقّقين (3) بأنّ وجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها من أعجب العجائب.
اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفحص واجب نفسي لا مقدّمي كما يراه بعض الأجلّة (4) تبعا
ص: 500
لأخيه فخر الأعاظم (1)(2) إلاّ أنّه قد مرّ في محلّه سقوطه ؛ إذ الواجب النفسي أو الغيري ليس مجرّد الاصطلاح والتعبير بل المناط فيه هو المصلحة الواقعية ، فلو كان الفحص ذا مصلحة واقعية في حدّ ذاته وفي مرتبة هويّته ، فهو واجب نفسي ولو لم يكن كذلك بل مصلحة وجوبه في غيره ، فهو واجب غيري ، فليس الأمر بيدنا حتّى نفرض وجوبه النفسي قبل الفحص والوقت ، ووجوبه (3) الغيري بعده كما لا يخفى.
وإمّا أن يقول بأنّ الجهل بالتكليف مع عدم التمكّن يمنع من التكليف ولو عند العلم الإجمالي ، فالحاكم بيننا وبينه هي الأدلّة السابقة من عموم لزوم الإطاعة عقلا ، فكما أنّ العقل يحكم بلزوم الامتثال عند العلم التفصيلي ، فكذا يحكم به عند العلم الإجمالي وإن كان الخطاب مجهولا ؛ إذ لا تأثير فيه وعليه سيرة العقلاء في كلّ الأزمنة في جميع الأمكنة.
فإن قلت : مرجع النزاع عند التحقيق على ما قرّرت إلى أنّ شرط التكليف هل هو العلم التفصيلي ، أو لا؟ فالقائل بالبراءة يدّعي الاشتراط ، ومدّعي الاحتياط يقول
ص: 501
بالإطلاق ، فعلى الأوّل لا تكليف عند عدم العلم التفصيلي ؛ لانتفاء شرطه ، وعلى الثاني فلا بدّ من الامتثال ، والشبهة (1) في المقام ترجع إلى الشبهة البدوية التكليفية لما قد تقرّر في مقامه من أنّ الشكّ في اشتراط الواجب وإطلاقه راجع إليه ، والاشتراط موافق للأصل إذ قضية الاشتراط كما عرفت هو العدم ، عند العدم وبالجملة ففي المقام لا بدّ من إعمال البراءة لأنّه من جملة مواردها.
قلنا : نعم ، إذا دار الأمر بين الاشتراط والإطلاق الأصل الاشتراط ؛ لأنّ الأصل عدم التكليف ، ولا يجدي أصالة عدم الاشتراط ما لم يكن في البين إطلاق لفظي يؤخذ به ، ومرجعها إلى أصالة الحقيقة في المطلق ، وأمّا إذا لم يكن هناك إطلاق لفظي ، فمرجعها إلى إثبات التكليف في محلّ الشكّ وقد عرفت جريان البراءة فيه كما ستعرفه في بعض المباحث الآتية إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ المقام ممّا لا عبرة به ؛ لاختصاص مورد البراءة بما إذا لم يكن الشكّ في البراءة والاحتياط كما عند الشكّ في التكليف من غير أن يكون الشكّ في الاحتياط.
وأمّا إذا كان الشكّ في مورد البراءة والاحتياط كأن لم نعلم (2) بأنّ المورد الكذائي من موارد البراءة أو الاحتياط ، فلا يجري فيه البراءة بل (3) لا بدّ من الأخذ بالاحتياط.
والسرّ في ذلك أنّ مناط قاعدة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في التكليف ، فما لم يحكم العقل بذلك لم يؤمن من الضرر المحتمل ، فعند تردّد العقل في قبح العقاب وعدم قبحه يستقلّ بلزوم الاحتياط ؛ إذ لا رافع لاحتمال العقاب الحاكم بدفعه العقل المستقلّ ، فالشكّ في لزوم الاحتياط ، أو العمل بالبراءة عند الشكّ في البراءة إنّما هو شكّ بدوي يرتفع بملاحظة عدم ما يؤمننا من (4) الضرر كما هو المفروض كما في الشكّ في البراءة في مواردها على ما مرّ تفصيل الكلام فيها.
ص: 502
فظهر من جميع ما مرّ أنّه إذا شكّ في أنّ العلم الإجمالي أيضا منجّز للتكليف كالعلم التفصيلي ، أو ليس منجّزا كالجهل الساذج لا يصحّ التعويل بأصالة البراءة عن التكليف عند عدم العلم التفصيلي ولو مع وجود العلم الإجمالي ؛ إذ الأصل الأصيل في أمثال المقام هو الاحتياط ؛ لعدم ما يعارض وجوب دفع الضرر كما لا يخفى.
على أنّ العقل يحكم باستواء العلم الإجمالي والتفصيلي في تنجّز التكليف بهما كما يكشف عنه بناء العقلاء وإن كان التمسّك ببناء العقلاء في أمثال المقام لا يخلو عن شيء ؛ لاحتمال ارتكاز الاحتياط في أذهانهم حيث إنّ المقصود عندهم هو الوصول إلى المصالح الكامنة والمفاسد الموجودة في الأشياء من غير ملاحظة التعبّد بأمر المولى إلاّ أنّ الوجدان السليم لو لاحظ المقام - ولو بعد الغضّ عمّا ذكر - وتمحّص في ملاحظة الإطاعة والمعصية اللازمتين للتعبّد ، يحكم بعدم الفرق كما لا يخفى.
ثمّ إنّ من جميع ما مرّ يظهر وجه المختار من عدم جواز المخالفة.
المقام الثاني في وجوب الموافقة وعدمه المقام (1) الثاني في لزوم الموافقة (2) القطعية وقد مرّ في تزييف احتجاج القائل بجواز المخالفة ما يغني عن إطالة الكلام في توجيه المختار إلاّ أنّه لا بدّ من تعرّض بعض الوجوه التي قد يستند لوجوب الموافقة كما هو الحقّ.
فمنها : استصحاب التكليف ، وبيانه أنّه لو فرض حصول الاشتباه بعد العلم التفصيلي ، فقبل حصول الاشتباه لا بدّ من الامتثال وبعده يشكّ فقضيّة الاستصحاب بقاؤه ، ويتمّ في الباقي (3) بعدم القول بالفصل.
وفيه أوّلا : عدم ارتباطه بالمقام ؛ إذ على تقدير الإغماض عمّا فيه يثبت حرمة المخالفة لا وجوب الموافقة.
وثانيا : أنّ استصحاب التكليف في الصورة المفروضة معارض باستصحاب البراءة
ص: 503
قبل التكليف.
بيان ذلك [ أنّ ] الصبيّ المراهق لا تكليف له قطعا ، فلو بلغ وعلم إجمالا بوجوب شيء غير معلوم المراد ، فاستصحاب البراءة السابقة يقضي بعدم التكليف ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.
اللّهمّ إلاّ (1) أن يقال بتقديم استصحاب التكليف ؛ لأنّه أصل مثبت للتكليف ، وبه يرتفع الشكّ في التكليف كارتفاعه بدليل اجتهادي ؛ إذ مرجع استصحاب البراءة إلى نفس قاعدة البراءة ، وعند التعارض يقدّم الاستصحاب على البراءة.
ومنها : قاعدة اشتراك التكليف (2) ، وبيانها أنّ الكلام في المجملات العرضية بعد تمام الحجّة على الكلّ بوجه متعارف في الإبلاغ ، وإنّما سنح الإجمال بعد خفاء الحجّة وحدوث الآراء الباطلة وكثرة القالة كما نطق بها جملة من الأخبار ، وبرهة من الآثار (3) ، فكان الأمر المجمل معلوما عند المشافهين ، وقد انعقد الإجماع على اشتراك التكليف ، فيثبت في حقّنا أيضا.
وفيه : أنّ بعد الإغضاء (4) عن معلومية الحكم للمشافهين أنّ المعلومية عندهم لا تقضي بثبوت (5) الحكم في حقّنا عند الجهل ، على أنّ ذلك لا يقضي (6) بوجوب الموافقة القطعية إلاّ بعد ضمّ قاعدة الاشتغال كما لا يخفى ، ولو فرض الجهل في حقّ المشافهين ، فلا نسلّم التكليف في حقّهم أيضا ، فلا فرق بيننا وبينهم إلاّ العلم والجهل.
ومنها : استصحاب الاشتغال ، وبيانه أنّ بعد الإتيان بأحدهما نشكّ في رفع
ص: 504
الاشتغال وبقائه ، والأصل يقضي ببقائه (1).
وفيه أوّلا : أنّه لا يخلو عن نوع مصادرة لو أريد استصحاب التكليف بنفس الواقع المجهول ، وغير مفيد لو أريد استصحاب غيره ؛ إذ المفروض إتيانه بأحد المحتملين ، فانقطع الاستصحاب ، وإن أريد استصحاب الأمر المردّد بين الواقع وغيره ، فهو من فروع المسألة وسيجيء الجواب عنه.
وثانيا : أنّك قد عرفت فيما تقدّم في أوائل المبحث عدم جواز التعويل على الاستصحاب في مثل المقام.
وتوضيحه يحتاج إلى رسم مقدّمة وهي أنّه لا شكّ في أنّ مورد الاستصحاب لا بدّ له من أن يكون هناك يقين سابق (2) ، ثمّ شكّ لاحق له ، فمن حيث ثبوت المتيقّن في السابق بعد الشكّ يحكم (3) ببقائه ليترتّب عليه أحكامه ، فعلى هذا لا معنى للاستصحاب إلاّ ترتيب آثار المتيقّن على المشكوك حال الشكّ من حيث ثبوته في الزمن السابق ، فلو فرض انتفاء الشكّ في اللاحق ، فلا مجرى للاستصحاب إلاّ على وجه تقديري على تقدير ، كما أنّه لو فرض عدم ترتّب الأحكام المطلوبة على المشكوك ، فلا جدوى للاستصحاب (4) بل لا يعقل له معنى ؛ إذ المتيقّن بحسب الواقع مشكوك ، فلا معنى للحكم ببقائه وعدم نقضه إلاّ الأخذ بأحكامه ، فعند عدم ترتّب الأحكام عليه يبقى الاستصحاب بلا محصّل كما لا يخفى.
وإذ قد تقرّر هذه (5) ، فنقول : إنّ الحاكم (6) بإتيان الفرد المحتمل هو العقل إذ بعد العلم بالتكليف ، فهو حامل على الامتثال وهو موجود في الأثناء ، فالمكلّف بملاحظة حكم
ص: 505
العقل كأنّه بمسمع من المولى وهو يأمره بإتيان الواقع والمفروض عدم حصول العلم بالامتثال ، مع أنّ المطلوب منه هو الامتثال ، فلا مناص من الاحتياط ؛ إذ مجرّد الشكّ في الامتثال يكفي في استقلال العقل في الحكم بالامتثال ، ولا حاجة إلى ملاحظة ثبوته في الزمن السابق ، ولو فرض عدم حكم العقل بلزوم الامتثال ، فلا جدوى في الاستصحاب بل لا معنى له كما عرفت ؛ إذ غاية الأمر عند الشكّ في البراءة يحكم ببقاء الاشتغال بالواقع ، وحيث إنّ المفروض عدم حكم العقل بلزوم الامتثال لا يترتّب على بقاء الاشتغال إتيان المحتمل الآخر إلاّ على تقدير أن يكون الأصل مثبتا لكون الباقي هو الواقع ، فيجب امتثاله كما عند العلم التفصيلي.
ثمّ إنّ مجرّد كون الأصل مثبتا إنّما يجدي فيما إذا اتّحدت الجهة الباقية مثلا ، وإذا تعدّدت المحتملات ، فالأصل على تقدير الإثبات يقضي بأنّ الواقع بين الجهات الباقية ، ولا يجب الامتثال والاحتياط إلاّ على تقدير حكم العقل بلزوم الاحتياط ، والمفروض عدم استقلال (1) العقل به ، فلا يترتّب الإتيان بالمحتملات أيضا على الاستصحاب وإن كان المثبت منه أيضا معوّلا عليه كما يراه بعض من لا تحقيق له.
وقد يستدلّ في المقام بأخبار الاحتياط عموما كقوله : « أخوك دينك » (2) وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (3).
وقد عرفت (4) فيما سبق في المقامات السابقة عدم صحّة الاستناد إليها ؛ لضعف سندها وعدم الاعتداد بدلالتها.
نعم ، ربّما يصحّ التأييد بها وخصوصا مثل ما رواه الشيخ عن عليّ بن سندي ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن [ بن الحجّاج ] قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان : الجزاء بينهما ، أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال : « [ لا ] بل عليهما
ص: 506
جميعا ويجزي كلّ واحد منهما الصيد » فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ، فقال : « إذا أصبتم مثل ذلك (1) فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا (2) » (3).
والتقريب ظاهر بعد ظهور أنّ المقام من الشكّ في المكلّف به إلاّ أن يقال : إنّ الأمر بالاحتياط إنّما هو بواسطة إمكان الوصول [ إلى ] الحجّة وتحصيل العلم ، فيدلّ على عدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص ، ولا دلالة فيه على لزوم الاحتياط فيما لم يكن هناك رجاء حصول العلم كما في أمثال زماننا.
على أنّ الأمر بالاحتياط يحتمل رجوعه إلى الفتوى بغير علم كما لا يخفى ، فيكون مفاده مفاد سائر الأخبار العامّة.
ومثل ما رواه في الصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي إبراهيم عليه السلام ، قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة : أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال عليه السلام : « لا ، أمّا إذا كان بجهالة ، فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ».
فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر (4) : بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنّها في عدّة؟ فقال : « إحدى الجهالتين أهون من الأخرى : الجهالة بأنّ اللّه حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه (5) لا يقدر على الاحتياط معها ».
فقلت : هو في الأخرى معذور؟ قال : « نعم ، إذا انقضت عدّتها ، فهو معذور في أن يتزوّجها » (6) الحديث.
ص: 507
والتقريب أنّ المفهوم من الرواية لزوم الاحتياط فيما يمكن الاحتياط كما في الجهل بأنّها في العدّة أو لا.
والجواب : أنّ ذيل الرواية دليل على عدم وجوب الاحتياط كما يشعر (1) قوله : « أهون » بذلك ، وحسن الاحتياط ممّا لا يحتاج إلى بيّنة كما لا يخفى.
العلم الإجمالي يتصوّر على صور :
الأولى : أن يكون العلم الإجمالي في أمرين يجمعهما تكليف تفصيلي وعنوان غير انتزاعي كأن يكون الواجب شيئا (2) يمكن أن يتحلّى بأطوار (3) مختلفة على وجه يقع كلّ واحد منها بدلا عن الآخر كالجهر والإخفات والظهر والجمعة والقصر والإتمام ، فإنّ المكلّف بعد علمه تفصيلا بوجوب (4) الصلاة يشكّ كذلك في كلّ من الخصوصيتين (5) مع العلم الإجمالي باعتبار واحدة منهما (6) ، فمصبّ العلم الإجمالي والشكّ نفس الخصوصيات ؛ إذ المكلّف شكّه في أنّ التكليف بالصلاة المعلومة تفصيلا هل يجب امتثاله في ضمن الظهر ، أو الجمعة ، فيشكّ في الأفراد مع العلم بأحدها إجمالا ، ونظير ذلك الأخبار المشتملة على القدر الجامع على وجه لو تكثّرت ، لتواترت (7) كما لا يخفى ؛ فإنّ من طرح الخصوصيتين (8) ، يلزم طرح حكم شرعي تفصيلي غير انتزاعي وهو التكليف بالصلاة المعلوم (9) تفصيلا.
الثانية : أن لا يكون العلم الإجمالي بين أمرين كذلك بل يكون على وجه لو
ص: 508
طرحنا الخصوصيات ، لا يلزم منه طرح أمر معلوم شرعا تفصيلا ، غاية ما يلزم فيه طرح خطاب انتزاعي وهو الخطاب ب- « أحدهما » كما إذا علم إجمالا إمّا (1) بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو بوجوب الجمرة (2) في الحجّ ، أو بوجوب المضاجعة مثلا ، فإنّ من طرح الخصوصيات ، لا يلزم طرح خطاب شرعي إلاّ ما ينزعه العقل من وجوب أحدها ، فمصبّ العلم الإجمالي هو تمام الخصوصية والطبيعة ، ونظيره الأخبار التي لا تجتمع (3) في مضمون على وجه لو تعدّدت لتواترت كما لا يخفى.
الثالثة : أن يكون العلم الإجمالي حاصلا بين وجوب شيء وحرمة الآخر كما إذا علم إجمالا بوجوب غسل الجمعة ، أو حرمة الاستقبال عند التخلية.
ولك أن تقول : إنّ المكلّف إمّا أن (4) يعلم جنس الخطاب ، أو لا يعلم ، فلا يدري أنّ تكليفه هل هو الأمر ، أو النهي؟ وعلى التقديرين ، فإمّا أن (5) يعلم بأمرين يجمعهما خطاب تفصيلي ، أو لا يعلم بهما بل علمه الإجمالي دائر بين أمرين في مسألتين.
لا شكّ في لزوم امتثاله في الصورة التي يجمعهما عنوان تفصيلي كما يحكم به العقل السليم الخالي عن شوائب الوهم (6) على ما عرفت فيما تقدّم بصدق العصيان الموجب إلى وصول النيران أعاذنا اللّه منها وجميع الإخوان.
وأمّا في غيرها من الصور ، ففي جواز المخالفة القطعية مطلقا نظرا إلى أنّ المردّد بين الحجّ والمضاجعة مثلا ، أو بين الدعاء عند الرؤية والجمرة لم يقع في تلو الخطابات الشرعية ، فلا يلزم من مخالفة العلم الإجمالي في المقام مخالفة خطاب تفصيلي حتّى يلزم العقاب والمعصية فإنّ العلم الإجمالي حصل بينهما اتّفاقا ، فكلّ من الخصوصيتين مشكوك صرفا ، فيجري فيها البراءة ؛ أو عدم جوازه كذلك نظرا إلى عدم الفرق بين
ص: 509
الصورتين إلاّ فيما لا يجدي في صدق المخالفة والمعصية ؛ إذ من المعلوم إجمالا تعلّق التكليف بأحدهما جزما ، وكون العلم الإجمالي دائرا بين أمرين يجمعهما عنوان تفصيلي ، أو دائرا بين أمرين ليس كذلك ممّا لا دخل له في المقام أبدا ، حيث إنّ الكلام هو أنّ المكلّف لا يعلم أنّ الخطاب المتوجّه إليه في يوم الجمعة هل هو قوله : « صلّ الظهر » أو « صلّ الجمعة » ولمّا فرض أنّهما فردان من كلّي الصلاة ، فقد يتخيّل أنّ القدر المشترك فيهما معلوم تفصيلا ، وإلاّ ففي الحقيقة قد يمكن منع تحقّق الفرق بينهما ، وعلى تقديره أيضا فقد عرفت أنّ العقل لا يفرق بينهما بعد صدق المخالفة ، أو يفصل بين ما كان جنس (1) التكليف معلوما فيحكم بعدم جواز المخالفة القطعية ، وبين ما لم يكن جنس (2) التكليف كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء ، أو حرمة شيء آخر ، فيحكم بالجواز نظرا إلى عدم معلومية الخطاب جنسا وشخصا ، فيعمل بالبراءة مثلا ، أو يفصل بين ما إذا كان مريدا للمخالفة ابتداء وبين ما إذا اتّفق فعل أحدهما ، ثمّ بدا له فعل الآخر نظرا إلى عدم القصد (3) في الثاني بخلاف الأوّل؟ وجوه :
قال الأستاذ - دام علاه في فلك المعالي - : والإنصاف : أنّ العقل لم نجد منه الحكم بعدم جواز المخالفة القطعية في المردّد بين أمرين لا يجمعهما الخطاب التفصيلي كما في الشبهة الغير المحصورة ، لا يحكم العقل بلزوم الاجتناب لبعد الأطراف عن نظر العقل.
قلت : قد تقدّم في الأصل السابق في الشبهة المحصورة في مقام الردّ على المحدّث البحراني عدم تفاوت حكم العقل بين المجتمع في الجنس الواحد والمختلف فيه في مقام الموافقة القطعية ، فكيف بجواز (4) المخالفة القطعية ، فمناط حكم العقل هو العلم بالمحبوبية والمبغوضية وهو حاصل في المقامين من غير فرق في ذلك ، فالتوقّف في أحدهما يلازم التوقّف في الآخر ، فتدبّر تكن على بصيرة من الأمر.
ص: 510
في الشبهة التحريمية الحكمية فيما شكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين كما إذا علمنا بحرمة الغناء في الشريعة وشككنا في أنّ المراد منه هل (1) هو الصوت المطرب أو الصوت مع الترجيع؟ فلا شكّ في حرمة القدر (2) الجامع بينهما من مورد الاجتماع ، وأمّا في مورد الافتراق من الطرفين ، فنعلم (3) إجمالا بحرمة أحدهما ، ولا نعلم (4) أنّ الحرام أيّهما تفصيلا ، ولا فرق في ذلك بين الاشتباه الناشئ من إجمال النصّ أو فقده ، و (5) أمّا التعارض فستعرف الحكم فيه فيما سيجيء ، وكيف ما كان فالتحقيق في المقام هو لزوم الاحتياط عن كليهما كالأصل السابق في جانب العكس.
ص: 511
ص: 512
في الشبهة الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المحذورين في المتباينين كما إذا علمنا بصدور أمر ونهي ولم نعلم أنّ الأمر تعلّق بإكرام زيد مثلا والنهي تعلّق بإهانة عمرو ، أو تعلّق النهي بالإكرام والأمر بالإهانة ، فهل يجب الأخذ بأحدهما ولو تخييرا ، أو العمل بالأصل فيهما ، وعلى الأوّل فهو مخيّر بدوا ، أو استمرارا وعلى الأوّل ، فهل يفتى بالتخيير ، أو بالمختار؟ وجوه. مرّ تفصيل الكلام في نظير المقام في الشبهة التكليفية ، والمختار المختار ، والدليل الدليل ، والنقض النقض ، والجواب الجواب ، فلا نطيل بالإعادة.
ص: 513
ص: 514
في الشبهة الوجوبية الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، المراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين والمراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين - على ما ذكره بعضهم - هو ما كان الأقلّ مجزيا بقدره.
وليس كذلك بل المراد به هو ما كان الأمر دائرا بين واجبين نفسيين أحدهما الأقلّ والآخر [ الأكثر ] ، فإنّ نزح الماء في منزوحات البئر ارتباطي مع أنّه يجزي الأقلّ بقدره بمعنى (1) أنّه عند الاحتياط لا يجب إعادة العمل رأسا مثال ذلك الصلاة فيما لو شكّ في أنّ الواجب النفسي منها هو الصلاة بلا سورة مثلا ، أو مع السورة فعلى تقدير الأقلّ فالصلاة واجبة نفسية أيضا ، وكيف ما كان فالمشهور في المقام بين الفقهاء العظام البراءة ، فمن المتقدّمين الصدوق (2) - كما يظهر عند الفتوى بجواز القنوت بالفارسية كما نبّهنا عليه (3) - والمحقّق والعلاّمة (4) من المتأخّرين ، وقد اضطرب كلام الشهيد في الذكرى (5) في الوضوء حيث أفتى بالبراءة فيما لو نبت لحم زائد تحت المرفق ،
ص: 515
وبالاحتياط فيما لو نبت فوق المرفق ، وذهب جماعة إلى لزوم الاحتياط كالسيّد علم الهدى (1) ، وأوّل من نشر الاحتياط بين المتأخّرين من أصحابنا هو المحقّق السبزواري (2).
ويحتمل أن يقال بالفرق والتفصيل بين الأجزاء والشرائط ، فبالاحتياط في الثاني ، وبالبراءة في الأوّل وإن لم نجد قائلا بهذا إلاّ أنّه للأصولي أن يحتمل ذلك لما ستعرف عند الخوض في الأدلّة نظرا إلى أنّ الشكّ في الجزء ربّما يصير مرجعه إلى المتباينين بخلاف الشرط.
ولا يخفى أنّ التفصيل هذا ربما (3) يخالف التفصيل في الصحيح والأعمّ حيث إنّ الجزء أقرب إلى اعتباره في معنى اللفظ بخلاف الشرط ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشبهة ناشئة من فقد النصّ - كما إذا قام الإجماع مثلا على وجوب شيء في الجملة ولم
ص: 516
نعلم باعتبار شيء آخر جزءا ، أو شرطا فيه لعدم النصّ - أو كانت الشبهة ناشئة من إجمال النصّ كالصلاة بناء على مذهب الصحيح ، أو الأعمّ فيما لو قلنا بعدم وروده في مقام البيان كما قد يقال بذلك في قوله : « أقيموا الصلاة » فإنّه وارد في مقام الوعظ مثلا و (1) قلنا بالإطلاق إلاّ أنّه غرضه الإجمال من جهة كثرة ورود التقييدات.
وبيان هذا المقال وتوضيح هذا الإجمال يحتاج إلى تحقيق القول في تلك المسألة ، فنقول : من الناس من يرى أنّ لفظ « الصلاة » وأمثاله كلفظ « السرير » و « البيت » ونحوهما موضوع لمعنى مركّب من أجزاء يصدق معها اسم الصلاة عرفا على وجه لو انضمّ إليها جزء آخر في خصوص مقام ، كان ذلك جزءا للفرد ، أو قيدا خارجا عن حقيقة تلك الماهية كما في السرير ؛ فإنّ الأجزاء المتبادلة يكفي في صدق اسم السرير ولو انضمّ إليه بعض الأجزاء في وقت كان ذلك قيدا لخصوص الفرد بعد صدق الماهية بدونه أيضا أو جزء له على اختلاف الاعتبارين.
ومنهم : من يرى أنّ لفظ « الصلاة » اسم للماهية المجتمعة لجميع الأجزاء والشرائط كما هي مطلوبة للشارع.
فعلى الأوّل فلفظ الصلاة كسائر المطلقات يكشف عن معناه المطلق بحيث لو شكّ في تقييده ، يدفع بأصالة عدم التقييد ، ويحكم بالإطلاق ، ويكشف عن ذلك بأنّ المطلوب أيضا هو هذا المعنى.
وعلى الثاني فلفظ الصلاة لا إطلاق فيه ففيما لو شكّ في تقييده بشيء لا مجال لدفعه بأصالة الإطلاق ، فهو من المجملات الذاتية لا بدّ من أن يبيّنها (2) الشارع عند طلبه لها.
ومن هنا ينقدح ضعف ما قد يتوهّم من أنّ الإطلاق ممّا لا يجدي على تقدير القول بالأعمّ أيضا ؛ للقطع بأنّ المطلوب هو الصحيح فإنّ المطلوب إنّما يظهر لنا باللفظ ، فعلى تقدير إطلاقه يكشف عن أنّ المطلوب هو هذا كما في سائر المطلقات ، فبإطلاق الرقبة
ص: 517
يستكشف (1) عن أنّ المراد بها هو مطلقها (2) سواء كانت مؤمنة أو غيرها.
وبالجملة ، فلو قلنا بوضعه للأعمّ ، فإمّا أن نقول بأنّ الخطابات المشتملة على لفظ الصلاة كأقيموا الصلاة ونحوها إمّا أن تكون (3) واردة في مقام البيان ولو من هذه الجهة ، أو لا نقول به ، وعلى الأوّل فإمّا أن نقول بأنّ الإطلاق هذا ممّا عرضه الإجمال بواسطة كثرة التقييدات ، أو لا نقول.
لا شكّ في بيان المراد وظهوره فيما لو قلنا بوروده في مقام البيان كما أنّه لا شكّ في إجماله على التقديرين الأخيرين ، فعلى هذين التقديرين يكون لفظ الصلاة من المجملات العرضية ، وعلى تقدير القول بوضعه للماهية الصحيحة يكون من المجملات الذاتية ، فلو شكّ في شرطية شيء ، أو جزئيته ، لا يصحّ دفعه بالإطلاق لإجمال الخطاب على هذه الوجوه كما إذا علمنا بالتقييد ولم نعلم المراد من المقيّد على وجه تردّد في جملة أشياء.
فظهر من جميع ذلك أنّ الصلاة على تقدير القول بالصحيح مطلقا من أمثلة المسألة التي نحن بصدد بيانها ، وكذا على القول بالأعمّ على التقادير المذكورة.
واندفع ما قد يتوهّم (4) في المقام أنّ لازم القول بالصحيح هو الأخذ بالاشتغال ، ولازم القول بالأعمّ هو الأخذ بالبراءة ؛ إذ ربّ قائل بالصحيح في تلك المسألة يقول بالبراءة في هذه المسألة ، وربّ قائل بالاحتياط يقول بالأعمّ فيها.
ص: 518
نعم ، لا يثمر القول بالاحتياط على تقدير القول بالأعمّ ، وكان الإطلاق عنده واردا في مقام البيان ولم يقل بالإجمال من جهة كثرة التقييدات (1) نظرا إلى أنّ المقيّد الثابت ممّا لا يضرّ في الإطلاق ، وغير الثابت مدفوع بالأصل ، لأنّ القول بالاحتياط إنّما هو قول (2) به من جهة القواعد والأصول العملية ، ولا ينافيها ورود دليل اجتهادي على عدم لزوم الاحتياط وهو الأخذ بالإطلاق ، وكيف ما كان ، فعندنا مسألتان :
إحداهما (3) : مسألة لفظية يبحث فيها عن أنّ الألفاظ المستعملة عند المتشرّعة هل هي موضوعة للأعمّ من الماهية المجتمعة للأجزاء والشرائط على وجه تصدق (4) بدون بعضها عرفا كما في سائر المطلقات العرفية ، أو هي موضوعة لخصوص المجتمعة للأجزاء؟ و (5) حيث إنّا لا نعلم الموضوع لها من أجزائها وشرائطها ، فلا مناص من أن يكون تلك الألفاظ مجملة غير ظاهرة الدلالة على المراد بها.
وثانيتهما (6) : أنّه فيما لم نعلم بجزئية شيء ، أو شرطيته هل القاعدة تقضي بأن يكون المشكوك جزءا أو لا؟ فالمحتاط على الأوّل ، وغيره على الثاني.
وعدم العلم تارة بواسطة فقد النصّ ، وأخرى بواسطة إجمال المراد كما في ألفاظ العبادات والمعاملات أيضا في وجه على القول الثاني في المسألة الأولى ، فتلك الألفاظ على مذهب الصحيح من موارد النزاع في هذه المسألة ولا ملازمة بين المسألتين ؛ لأنّ القائل بالأعمّ قد يقول بالبراءة إلاّ أنّه لا يجدي بالنسبة إليه بعد دلالة الإطلاق على عدم الجزئيّة ، وكذا لا يجدي لو قال بالاحتياط ؛ لورود الإطلاق على الأصل العملي (7).
نعم ، إنّما يجديه فيما كان الشكّ ناشئا من فقد النصّ فقط ؛ إذ لا إجمال عنده ، فلو كان
ص: 519
اللفظ مجملا فيجديه أيضا ، والقائل بالصحيح لو قال بالبراءة كما هو المشهور ، فيبني عليها ، ولو قال بالاحتياط ، فكذلك ، وبعد ما عرفت من التوضيح ظهر لك فساد الوهم ، ولعلّه سرى الوهم من أنّ بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين (1) بعد ما عنون المسألة اختار القول بالصحيح ، وحيث كان مختاره في المسألة الثانية أيضا هو (2) الاحتياط ، أطلق القول بوجوب الاشتغال ، فتوهّم (3) منه بعض من لا تحقيق له أنّ القول بالاحتياط يلازم القول بالصحيح ، والقول بالأعمّ يلازم القول بالبراءة ، وظهر لك أنّ ثمرة النزاع في المسألة الأولى إنّما هو مجرّد الأخذ بالإطلاق.
ثمّ إنّه قد يكون منشأ الشكّ هو تعارض النصّين ، وبيانه موكول إلى مسألة التعادل والتراجيح ، وحاصل القول فيه التخيير كما ستعرف.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ الأصل في المسألة مع القول بالاحتياط لما عرفت في أوّل أصول
ص: 520
المسألة أنّ العقل ما لم يؤمن الضرر العقابي لا يحكم بالبراءة ، وحيث إنّ العقاب ليس من الممتنعات الذاتية ، فإثبات عدمه وامتناعه من الحكيم لا بدّ وأن يكون مستندا إلى قبحه ، فما لم يثبت قبحه لا تؤمن (1) النفس منه ، وفيما لو شكّ في أنّ المورد من موارد (2) البراءة ، أو الاحتياط لا شيء هناك يوجب الأمن من العقاب ، فلا بدّ من الاحتياط دفعا لاحتماله كما لا يخفى ، وقد نبّهنا عليه في الأصل السابق.
وقد يقال بأنّ الأصل في خصوص المقام بل ومطلق الشكّ في المكلّف به مع القول بالاحتياط ولو قطع النظر عن هذا الأصل السائر في تمام موارد البراءة والاحتياط.
وقد يقرّر بأنّ منشأ النزاع في أقسام الشكّ في المكلّف به - على ما هو صريح كلّ المتخاصمين - هو أنّ القائل بالاحتياط يقول في أمثال الموارد أنّ التكليف إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، والعقل حاكم بأنّ التخلّص من العقاب الفعلي المردّد بين الأمرين واجب الدفع ، فيجب الاحتياط ، والقائل بالبراءة يزعم أنّ التكليف ليس على الواقع ، وإنّما المكلّف به هو مؤدّى ما ثبت من الدليل ، وهو إمّا أحد الأمرين ، أو الأقلّ ، فلو سلّم القائل بالبراءة أنّ هناك عقاب فعلي مردّد (3) بين الأمرين في الواقع مع قطع النظر (4) عمّا ثبت عنده من الدليل ، لكان القول بالاحتياط متّجها عنده ، فعلى هذا نقول : إنّ القائل بالبراءة يقول بأنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الأقلّ ، أو على أحد الأمرين قطعا لما أدّاه إليه الدليل ، والقائل بالاحتياط يقول : إنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، فالشاكّ في أحد الأمرين يقطع بأنّه في الواقع يعاقب عقابا فعليا إمّا على الواقع المجهول ، وإمّا على الثابت بالدليل (5) ، فيصير من موارد الاحتياط اتّفاقا ؛ لأنّه يقطع بالعقاب الواقعي المردّد بين الأمرين ، والمفروض أنّ القائل بالبراءة لو وجد عنده
ص: 521
مثل هذا المورد ، لكان يقول بالاحتياط أيضا ، فيجب القول بالاحتياط ابتداء.
هذا وأنت خبير بما فيه من الخلط والمغالطة ؛ فإنّ الكلام في جريان البراءة في مثل المقام فإنّه لا يزيد على محلّ النزاع في المسألة الفرعية بشيء فإنّ كلام القائل بالاشتغال في المسألة الفرعية هو هذا الكلام بعينه ، فلا يصلح الاستناد (1) إليه في مقام تأسيس أصل مسلّم بين القولين على وجه يكون هو المرجع عند عدم الدليل على أحدهما بالخصوص كما لا يخفى.
وإذ قد تقرّر ما ذكر ، فالمنصور عندنا هو ما ذهب إليه المشهور ، وتحقيق المقام يقتضي رسم أمور :
الأوّل : لا شكّ أنّ الداعي إلى امتثال أوامر المولى على وجه يكون مشتركا بين جميع من يجب عليه الامتثال ، ومن شأنه ذلك هو دفع خوف العقاب ، والتخلّص عن العذاب ، من غير أن يحتاج في ذلك إلى انضمام أمر آخر كتحصيل الثواب والفوز بأعلى درجات الجنّات وإن كان قد يصير مثل ذلك أيضا من الدواعي إليه كما أنّ لبعض من حاز الفضائل وجميع الفواضل داعيا آخر غير ما ذكر مشتملا عليه على وجه أتمّ وأكمل كاستحقاق المعبود للعبادة كما لا يخفى إلاّ أنّ ذلك بواسطة علوّ درجته وقصور مرتبة المكلّفين لا يكون مطّردا ، وإنّما الداعي إلى الامتثال عند الشكّ هو دفع العقاب لاستقلال العقل بلزوم دفعه ، وقد نبّهنا على ذلك فيما تقدّم أيضا ، فيجب الامتثال فيما لو احتمل العقاب ، فكيف بما إذا كان العقاب مقطوعا عند عدم الامتثال كما في الأجزاء المعلومة في الصلاة ، فإنّ ترك تكبيرة الإحرام أو الفاتحة ممّا يترتّب عليه العقاب قطعا ، ولا يجب الامتثال فيما إذا لم يكن العقاب محتملا كما إذا كان في المقام ما يؤمننا من العقاب من عقل أو نقل.
ص: 522
الثاني : لا فرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري في صلاحية نفي كلّ واحد منهما بأصل البراءة (1) ، فكما أنّ أصل البراءة تنفي ما يشكّ في وجوبه النفسي ، فكذلك تنفي ما يشكّ في وجوبه الغيري من غير فرق بينهما.
والسرّ في ذلك أنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا مفادها نفي العقاب ، والبأس عمّا لا يعلم وجوبه ، أو حرمته وذلك بالنسبة إلى الواجب النفسي والغيري سواء لا لما قد يتوهّم من ترتّب العقاب على الواجب الغيري كالواجب النفسي بل من حيث إنّ تارك الواجب الغيري والمتلبّس بالترك لا يصير معاقبا ومتلبّسا بالعقاب ولو من حيث أدائه إلى ترك الواجب الغيري ، فإنّ تركه فيما نحن فيه عين ترك الواجب النفسي ؛ لأنّ ترك المركّب من جهة التركيب عين ترك جزء منه كما لا يخفى ، فأدلّة (2) البراءة تحكم بأنّ المشكوك وما لا يعلمون لا يصير منشأ وموجبا للعقاب سواء كان العقاب ممّا يترتّب عليه في حدّ ذاته ، أو ممّا يترتّب على شيء آخر بواسطته ، وليس فيها (3) ما يخصّص ذلك بالأوّل ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاقها ، ودعوى انصراف الأمر والنهي في « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (4) إلى النفسيين ممنوعة على مدّعيها ، كيف ولا نفرق شيئا في ذلك إذ غاية ما يسلّم من ذلك هو فيما لو كان هناك عنوان الوجوب ، أو (5) الواجب ، وأمّا في الأمر والنهي ، فالإنصاف عدم الفرق بين الأقسام ، فإنّ هذه أمور اصطلاحية جعلية لا مدخل لها في انصراف الألفاظ إليها.
على أنّ الأخبار النافية للمؤاخذة والعقاب وأمثاله خالية عن لفظ الأمر والنهي
ص: 523
وما يشبه ذلك كما هو ظاهر لا سترة عليه ، ويشهد لما (1) ذكرنا أنّ مساق أدلّة البراءة لا يختلف بالنسبة إلى رفع العقاب من الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فكما أنّ نسيان السورة في الصلاة لا يصير منشأ للعقاب على ترك الواجب النفسي مع عدم ترتّب العقاب على ترك نفس السورة ، فكذا عدم العلم بالسورة وتركها لا يوجب العقاب على ترك الصلاة بترك السورة ، فكلّ ما يؤمننا - عقل أو نقل - من عقابه عند تركه أو فعله سواء كان العقاب من آثاره بنفسه ، أو لأدائه إلى ما هو من آثاره كذلك يجوز لنا تركه أو فعله (2) ، وكلّ ما لم يؤمننا دليل من عقابه عند تركه أو فعله يجب امتثاله تركا وفعلا من غير استفصال بين أنّ العقاب من آثار نفس الفعل أو الترك كما في الواجب والحرام النفسيين ، أو من آثار ما يوجبه ، أو (3) يؤدّي إليه كما في الواجب والحرام الغيري ، والاستفصال في ذلك ممّا لا يجدي شيئا كما لا يخفى ، وكفاك شاهدا في [ ما ] ذكرنا (4) مقايسة حال عدم العلم بالواجب الغيري بما إذا اقتضت (5) التقيّة بتركه ، فعدم العلم والجهل بالشيء (6) كالتقيّة ولا فرق فيها بين أن يكون متعلّقها واجبا (7) نفسيا ، أو واجبا غيريا (8) وإن كان بينهما فرق آخر من جهة أخرى من حيث إنّ أحدهما حكم ظاهري ، والآخر واقعي إلاّ أنّ الكلام في المقام في ترتّب العقاب ، ولا فرق بينهما في هذه الجهة.
الثالث : العلم الإجمالي على ما عرفت منجّز للتكليف ، وموجب للاحتياط والإتيان بالمقدّمات العلمية فيما لم يكن في أحد الأطراف ما يقضي (9) بارتفاع التكليف
ص: 524
الفعلي عنه بالخصوص من عقل أو نقل ، وأمّا إذا كان في (1) أحد الأطراف ما يقضي بذلك ، فلا مناص من القول بالبدلية إذ لا معنى لرفع الامتثال ؛ للزوم التناقض على تقدير العلم بالطلب والتكليف ، ولا معنى للحكم بعدم كون أحد الأطراف مقدّمة علمية ، لاستلزامه خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّه من أطراف العلم الإجمالي ، فلم يبق إلاّ البدلية كما التزمنا بذلك فيما أسقط الشارع في المتباينين وجوب بعض الأطراف كما في جهات القبلة والصلاة الفائتة على ما مرّ ، وكما التزمنا به في الملاقي لأحد الإناءين المشتبهين.
والسرّ في ذلك هو ما عرفت في أوّل الأمور من أنّ تحمّل العقل للتكليف والامتثال ليس إلاّ بواسطة دفع احتمال العقاب ، وبعد ما تطمئنّ (2) النفس من العقاب بواسطة أصل من الأصول العملية الغير المعارضة بمثله ، فالعلم الإجمالي ممّا لا يجدي شيئا ، ولا يقضي بوجوب الإتيان به مقدّمة لانتفاء المناط.
وإذ قد تقرّر هذه الأمور ، فنقول : إنّ مقتضى العلم الإجمالي وإن كان هو الإتيان بالأكثر عند دوران الأمر بينه وبين الأقلّ لكونه مقدّمة علمية للامتثال بالمعلوم الإجمالي إلاّ أنّ أدلّة البراءة - : عقلها ونقلها - واردة على هذا الحكم العقلي الموجب للإتيان والامتثال كما في الشبهة البدوية ، فإنّ وجوب الجزء الزائد أمر مشكوك غير معلوم لنا ، وقد رفع العقاب والمؤاخذة عن هذه الأمّة المرحومة في كلّ ما لا يعلمون لعموم الموصولة ، فترك الجزء المشكوك رفع العقاب والمؤاخذة عنه وهو المطلوب.
فإن قلت : لا يجري البراءة في الأجزاء.
قلنا : المانع عن الجريان إن كان دعوى اختصاص أدلّتها بالواجبات النفسية ، فقد عرفت عدم تسليمها ، وإن كان من حيث إنّ أدلّة البراءة مفادها نفي العقاب ولا عقاب على الواجبات الغيرية ، فقد عرفت أيضا أنّ مفادها عدم ترتّب العقاب على ترك
ص: 525
شيء غير معلوم الوجوب سواء كان العقاب من لوازمه ، أو آثاره ، وهذا يكفي في المقام.
على أنّ لنا أن نقول : الأصل براءة الذمّة عن الأكثر أيضا ، فيتمّ المطلوب.
فإن قلت : كما أنّ الأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، فالأصل براءة الذمّة عن الأقلّ ؛ إذ المفروض دوران الأمر بين أن يكون الواجب النفسي هو الأكثر ، أو الأقلّ ، والأقلّ بهذا العنوان غير معلوم ، غاية الأمر معلومية الأقلّ لا بشرط (1) ، والعلم الإجمالي إنّما هو بين الأكثر والأقلّ بشرط « لا » فهو بهذا العنوان يحتمل أن يكون واجبا نفسيا ، والأصل براءة الذمّة عنه ، فلا فرق بين المقام والمتباينين ، فكما أنّ في المتباينين لا يصحّ التعويل بالأصل في تشخيص أحد الأطراف ، فكذا في المقام.
قلت : قد عرفت في أوّل الأمور أنّ الداعي للامتثال ليس إلاّ دفع احتمال العقاب ، والعقاب معلوم في جانب الأقلّ ، للقطع بأنّ ترك الفاتحة ممّا يوجب ترك الكلّ والمأمور به ، وهكذا باقي الأجزاء المعلومة ، فلا بدّ من الإتيان بها ، غاية الأمر عدم العلم بوجوب الأقلّ بشرط « لا » ، وأمّا الأقلّ لا بشرط ، فوجوبه معلوم ، والعقاب على تركه قطعي ، فلا بدّ من الإتيان به وامتثاله ، وعدم العلم بكون العقاب ممّا يترتّب على نفس الأجزاء المعلومة ، أو باعتبار ترك الكلّ لا يجدي في المقام ، لما عرفت من أنّ الاستفصال في أنّ العقاب ممّا يترتّب على أيّ شيء غير معقول بعد ما علم إجمالا.
فإن قلت : إنّ أصالة البراءة عن الأكثر ممّا لا تعويل عليها فيما لو أريد بها إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به لعدم اعتبار الأصول المثبتة ، وممّا لا جدوى فيها فيما لو أريد بها نفي الأكثر فقط من دون تعرّض بأنّ المطلوب هو الأقلّ ؛ إذ لا يصدق الامتثال بدون إتيان الماهية المطلوبة.
قلت : إن أريد من إثبات الأقلّ إثبات مانعية الجزء الزائد ، فغير سديد ، وإن أريد
ص: 526
إثبات أنّ الواجب هو الأقلّ المجرّد بمعنى عدم وجوب الأمر الزائد ، فإثبات الأصل غير مضرّ ؛ فإنّ الفصل عدمي وهو عين مفاد البراءة كما لا يخفى.
وتحقيق المقام ، على وجه ينكشف الظلام ، عن وجه المرام ، هو أنّ المانع من القول بالبراءة عند الشكّ في جزئية شيء يحتمل أن يكون أحد الأمور الثلاثة :
الأوّل : امتناع جريان البراءة في الأجزاء باختصاص دليلها بغيرها.
الثاني : معارضة الأصل بمثله بعد القول بجريانه.
الثالث : عدم الجدوى فيه على فرض الجريان وعدم المعارضة ، وحيث إنّ كلّ واحد منها قد خالف فيه بعض القائلين بالاحتياط ، فلا جرم نفصّل القول في كلّ واحد منها لتبيّن جليّة الحال ، وحقيقة المقال ، فهاهنا مقامات :
قد عرفت (1) في ثاني الأمور المتقدّمة عدم الفرق بين أقسام الواجب في جريان البراءة وعموم أدلّتها فيها ، لإطباقها على نفي العقاب والضيق وإثبات الإطلاق والسعة عن كلّ ما فيه ضيق وتقييد وعقاب من غير أن يكون العقاب ممّا يترتّب على ذات الفعل في حدّ ذاته ، أو باعتبار أمر آخر كما مرّ مفصّلا إلاّ أنّ للخصم أن يقرّر مطلوبه بوجه آخر كأن يقول :
إنّ القائل بالبراءة إن أراد نفي جزئية ما هو مشكوك الجزئية بالبراءة ، لإطلاق ما دلّ على وضع ما حجب علمه ، فظاهر السقوط ؛ لأنّ من المقرّر في مقامه أنّ الجزئية ليست من الأحكام الجعلية الموضوعية حتّى تكون (2) مرفوعة عند عدم العلم بها ، فإنّها كالكلّية منتزعة من خطاب الشارع بوجوب الإتيان بالفاتحة مثلا ، فكما أنّ الكلّية ليست إلاّ ما ينتزعها العقل من لزوم الإتيان بعدّة أمور مرتبطة بعضها بآخر في
ص: 527
ترتيب آثارها عليها ، فكذا الجزئية ليست إلاّ ما يعتبرها العقل بعد اعتبار الشارع شيئا في أمر ، أو بعد الأمر بإتيان أمر مركّب ، ويظهر ذلك عند الرجوع إلى حالات الموالي في طلبهم الأمور المركّبة كالمعاجين ونحوها ، فإنّ المنشأ للمولى ليس إلاّ طلب تلك الماهيّة المركّبة ، وأمّا كونها مركّبة ، أو كون الأمر الفلاني جزءا ، فليس إلاّ من اعتبارات العقل واختراعاته كما لا يخفى على الفطن ، وكيف ما كان إنّ الجزئية ليست من الأمور الجعلية الموضوعية (1) وما لا وضع لها لا رفع فيها ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ قوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد » (2) أو « رفع عن أمّتي تسعة » (3) أو قوله : « الناس في سعة ما لا يعلمون » (4) إنّما بعمومها شاملة للجزء المشكوك.
وإن أراد نفي الحكم التكليفي بجريان البراءة في وجوب الجزء ، فهو أيضا ممّا لا شكّ في فساده ؛ إذ لا معنى لنفي وجوب الجزء (5) إلاّ نفي وجوب الكلّ ، فإنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فإنّه عبارة عن مجموع الأجزاء ، فترك البعض عين ترك المجموع ، وهذا ظاهر سيّما بعد ملاحظة ما قرّر في محلّه من أنّ وجوب المقدّمة لا يغاير وجوب ذيها حيث إنّها ليست مطلوبة في نفسها وفي حدّ ذاتها ، وإنّما مطلوبيّتها للغير وللإيصال إليه ولما أنّ من المقرّر في مقامه أنّ لحوق حكم بشيء باعتبار إنّما هو لحوقه بذلك الاعتبار ، فالإيصال هو المطلوب ، والمطلوب منه هو الوصول إلى ذيها ، والمطلوب منه هو نفس الواجب ، فالوجوب الواحد منسوب إلى ذيها ، وبهذا الاعتبار نفسي ، وقد ينسب إلى مقدّمته ، وبهذا الاعتبار تبعي كالدلالة الواحدة القائمة باللفظ عند انتسابها إلى تمام المعنى الموضوع له وإلى جزئه ، أو لازمه كما لا يخفى ، ومن هنا يعلم وجه عدم الفرق بين قلّة المقدّمات وكثرتها في إنشاء الأوامر العرفية.
وبالجملة ، فلا معنى لوجوب الجزء إلاّ وجوب الكلّ ، ويلزمه (6) نفي وجوب الكلّ
ص: 528
عند نفي وجوبه على ما هو ظاهر ، فلا مجال في جريان البراءة في الأجزاء إلاّ بالنسبة إلى الأحكام الوضعية ، ولا بالنسبة إلى الأحكام التكليفية كما عرفت ، وستعرف تحقيق القول في المقام الثاني ، فتدبّر (1).
إنّ مناط القول بالاحتياط في جميع الأصول المتقدّمة هو وجود العلم الإجمالي بين شيئين أو أشياء على وجه لم يكن هناك طريق محصّل للامتثال في أحد الأطراف إمّا لفقده رأسا كالبيّنة ونحوها من الأمارات الشرعية في الموضوعات وأدلّتها في الأحكام ، أو لتعارضه كالبراءة في الشبهة المحصورة والشبهة الحكمية المرادية كما مرّ ، وهذا معنى قولهم : إنّ قاعدة الاشتغال واردة على البراءة بخلاف ما إذا كان في أحد الأطراف طريق سلوكه يحصّل الامتثال كما إذا كان الأصل جاريا فيه من غير معارضة بجريانه في الطرف الآخر كما هو مفاد قولهم : إنّ البراءة واردة على الاشتغال ، فإنّه على ما قرّرنا في ثالث الأمور - كما هو مقتضى الجمع بين مفاد الأدلّة - لا بدّ من الحكم بالبدلية الجعلية على وجه لا يترتّب عليه العقاب المترتّب على الواقع فيما لو كان الواقع في ضمن الطرف المعمول فيه أصل البراءة ، أو مطلق ذلك الطريق ، وعلى هذا فنقول :
إنّ القائل بالبراءة إن أراد جريان البراءة في الجزء ، فقد عرفت في المقام الأوّل فساده ، وإن أراد إجراء البراءة في الكلّ وهو الأكثر ، فهو وإن كان جاريا إلاّ أنّه معارض بأصالة البراءة من الأقلّ ، فالعلم الإجمالي موجود بين الأقلّ والأكثر مع عدم طريق محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر دفعا للعقاب المقطوع المردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ العمل بالبراءة فيهما يلازم المخالفة القطعية ، وفي أحدهما
ص: 529
دون الآخر ترجيح بلا مرجّح فيما لو كان معيّنا ، ولا جدوى فيه فيما لو كان غير معيّن من غير فرق بين المقام والمتباينين إلاّ أنّ (1) الاحتياط في المقام في فعل الأكثر فقط من غير حاجة إلى فعل الأقلّ مرّة ثانية بخلاف المتباينين.
والجواب باختيار (2) كلّ من الشقّين.
فأوّلا (3) : نختار جريان البراءة في الجزء ، قولك : لا يمكن جريان البراءة في الجزء من حيث الحكم الوضعي مسلّم ، لعدم مجعوليته عندنا ، وأمّا عدم إمكان جريانها من حيث الحكم التكليفي ، فغير مسلّم ؛ إذ لا معنى لأدلّة البراءة إلاّ رفع الضيق وإثبات السعة ، ولا شكّ في أنّ في فعل الجزء ضيقا ، فعند عدم العلم به ، فهو مرفوع كما لا يخفى ، ولا يثمر في ذلك رجوعه إلى نفي الكلّ ، فإنّ هذا هو بعينه معنى وجوبه الغيري ، ولا يدّعي أحد أنّ الجزء واجب (4) نفسي ، وقد عرفت أيضا تساوي نسبة أدلّة البراءة إليهما (5) كما مرّ (6).
وثانيا : نختار جريان البراءة في الكلّ والأكثر ، وأمّا قولك : وهو معارض بأصالة البراءة عن الأقلّ سقطة (7) واشتباه ، بيان ذلك أنّه قد مرّ في بعض الشبهات في الشبهة المحصورة عدم اعتبار العلم الإجمالي الواقع بين شيئين فيما إذا كان المعلوم (8) الإجمالي معلوما تفصيليا (9) في أحد الطرفين من جهة أخرى ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشبهة البدوية كما إذا علمنا بنجاسة إناء مخصوص كأن علمنا بأنّه بول ، ثمّ علمنا بعد ذلك إجمالا بوقوع نجاسة أخرى في أحد الإناءين على وجه لا يختلف حكمها حكم البول في كيفية الطهارة. والوجه فيه ظاهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل إذ وجوب الأقلّ
ص: 530
- ولو من حيث كونه واجبا غيريا مرادا في ضمن الأكثر - معلوم وقد علمنا بترتّب العقاب على تركه وإن لم نعلم أنّ العقاب المستند إلى ترك الأقلّ إنّما هو ممّا يترتّب على تركه بنفسه ، أو بواسطة انجراره إلى ترك الأكثر ، فإنّه على ما عرفت في الأمور المتقدّمة ممّا لا يعقل هذا الاستفصال بعد ما علم أيضا من أنّ المقصود الأصلي والداعي الواقعي لعامّة المكلّفين هو الفرار عن العقاب ، والعلم الإجمالي المردّد (1) بين الأقلّ والأكثر بعد معلومية وجوب الأقلّ من هذه الجهة غير مجد ؛ إذ من المعلوم أنّ العقاب المترتّب على الأقلّ فيما لو كان الأقلّ واجبا نفسيا لا يخالف عقابه فيما لو كان واجبا غيريا والعقل نظره مقصور على دفع العقاب المعلوم ، فيبقى عقاب الأكثر مشكوكا صرفا من غير معارضة لعقاب الأقلّ ، فإنّ من المعلوم عدم اعتبار الحيثية النفسية المجهولة في الأقلّ بعد القطع بترتّب العقاب عليه.
وبالجملة ، للأقلّ حالتان واعتباران أحدهما : الأقلّ لا (2) بشرط شيء ، وهو بهذا الاعتبار واجب غيري ، وثانيهما : الأقلّ بشرط عدم اعتبار شيء فيه ، وهو بهذا الاعتبار واجب نفسي ، وقد علمنا بترتّب العقاب على ذات الأقلّ عند المخالفة وعدم الامتثال بالنسبة إليه ، ولا بدّ من دفعه ، ولا يزيد عقابه فيما لو كان واجبا نفسيا على عقابه فيما لو كان واجبا غيريا ، والحيثية المجهولة في الأقلّ ممّا لا يترتّب عليها شيء ، والأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، وحيث إنّ البراءة طريق شرعي جعلي محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الأخذ بها كما هو مورد ورود البراءة على الاحتياط ، فإنّه على ما قرّر فيما إذا كان أحد الأطراف موردا للبراءة دون غيرها.
والقول بأنّ البراءة لا يرد على الاشتغال ، فقد عرفت أيضا أنّ مورده فيما إذا لم يكن اختصاص البراءة بأحد الأطراف لئلاّ يلزم ارتفاع الامتثال مطلقا كما لا يخفى ، فعند التأمّل مرجع الأمر إلى وجوب أجزاء معلومة ، والشكّ في جزء غير معلوم كما في
ص: 531
الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ؛ إذ لا أثر للعلم الإجمالي الدائر بين الأقلّ والأكثر عدى ما يترتّب على الأقلّ في الجملة كما في المثال المذكور.
وحاصل الكلام أنّ العلم الإجمالي أحد أطرافه هو الأقلّ بشرط لا ، وهذه الجهة وإن كانت مجهولة إلاّ أنّها على تقدير معلوميتها ممّا لا يترتّب عليها عقاب زائد حاصل من ترك كلّ من الأجزاء المستلزم لترك المركّب ، فالعقاب الذي هو المحذور في أمثال المقام متعيّن معلوم في جانب الأقلّ ، والعقاب في جانب الأكثر يبقى مشكوكا صرفا فيجري فيه البراءة ، فمرجعه في الحقيقة بالنسبة إلى العقاب إلى علم تفصيلي في جانب الأقلّ - وإن جهل الوجه فيه - وإلى شكّ تفصيلي في جانب الأكثر وإن كان الأقلّ بوصف أنّه بشرط لا من جملة أطراف العلم الإجمالي في مقابل الأكثر كما لا يخفى ، فتدبّر في المقام كي لا تشتبه (1) عليك حقيقة الحال ، فإنّ العلم الإجمالي في المقام ممّا لا يترتّب عليه شيء بخلاف المتباينين.
في أنّ بعد تسليم الجريان وعدم المعارضة بمثله ، فلا جدوى فيه ، إذ العلم الإجمالي المردّد بين الأقلّ والأكثر مقتضاه إحراز عنوان المأمور به في الخارج على وجه يصدق على العمل في الخارج عنوان الذي تعلّق الأمر به إمّا تفصيلا فيما لو علم كذلك ، وإمّا إجمالا بإتيان ما يحتمل أن يكون هو العنوان المأمور به فيما لو كان معلوما إجمالا ، وغاية ما يترتّب على الأصل في المقام هو نفي الأكثر فإن أريد مع ذلك إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به على وجه يصدق عليه عنوانه ، فغير سديد ؛ لأنّ الأصول المثبتة مطلقا ممّا لا تعويل عليها لا في الاستصحاب ولا في غيرها ، فنفي الأكثر لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ ، وإن أريد مجرّد نفي الأكثر من غير إرادة إثبات أنّ الباقي هو
ص: 532
المأمور به ، فلا جدوى فيه ألا ترى أنّ ما ذكر في المقامين الأوّلين من جريان الأصل وعدم معارضته (1) بمثله إنّما هو موجود في الشبهة المصداقية فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين كما إذا نذر صوم رجب وشكّ في يوم أنّه من أيّامه ، أو لا ، ومع ذلك فقد (2) عرفت أنّ المتّجه فيها هو الأخذ بالاحتياط ؛ لأنّ البراءة عن الزائد لا توجب (3) صدق عنوان المأمور به على العمل في الخارج على ما هو المعتبر في صدق الامتثال.
وبالجملة ، فلا بدّ من إيجاد عنوان المأمور به في الخارج ليتحقّق الإطاعة وصدق الامتثال ، ولا شكّ أنّ الأكثر ممّا يصدق معه الامتثال بدون الأقلّ ، وذلك مشاهد (4) في الأوامر العرفية كما فيما لو أمر المولى بعبده إتيان معجون كذائي مبرّد مسهّل للصفراء ، وعلم العبد بجملة من أجزائه ، وشكّ في جزء آخر منه ، فإنّ عنوان المعجون المبرّد لا يصدق في الخارج إلاّ بعد الاحتياط كما لا يخفى.
والجواب عن ذلك : أمّا أوّلا ، فبالنقض فإنّ القائل بالاحتياط أيضا يرد عليه مثل ما ذكر ، فإنّ الاحتياط لا يثبت أنّ الأكثر هو المأمور به وإن كان يحصل معه الامتثال.
وتحقيق ذلك أنّ في المقام أمور ثلاثة :
الأوّل : الأقلّ بشرط عدم وجود جزء آخر معه.
والثاني : الأقلّ بشرط عدم وجوب جزء آخر معه على وجه لا يمنع عن صحّة الأجزاء الأخر على تقدير وجوده.
الثالث : الأقلّ بشرط وجوب جزء آخر وهو الأكثر.
فإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ الأقلّ بشرط عدم وجود الجزء الآخر هو المأمور به ، فهو كذلك إلاّ أنّ المدّعى غيره وإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ
ص: 533
بشرط عدم وجوب الجزء المشكوك ، ففساده ظاهر ؛ إذ المفروض ثبوت وجوب الأقلّ ، وأمّا نفي المشكوك ، فهو عين مفاد الأصل ومحلّ جريانه ، وليس من لوازم الحكم المنفيّ بالبراءة حتّى يكون مثبتا ، فالأصل المثبت ممّا لا تعويل عليه كما ستعرف (1) إلاّ أنّ المقام ليس من الأصول المثبتة ؛ إذ ليس المقصود من إجراء الأصل إثبات أنّ الأجزاء المعلومة هي المأمور بها فقط على وجه يكون الإتيان بالأجزاء المشكوكة مانعا عن صحّة الصلاة بل المقصود إثبات أنّ الأجزاء الواجبة هي هذه فقط على وجه لا يكون الغير واجبا ، وقد عرفت أنّ نفي الوجوب إنّما هو عين مفاد الأصل.
والحاصل : أن لا فرق بين القائل بالبراءة والقائل بالاحتياط في عدم إتيان كلّ منهما بعنوان المأمور به إلاّ أنّ المحتاط يأتي بما يوجد معه المأمور به واقعا ، والقائل بالبراءة بما يحصل معه الامتثال شرعا ؛ لما عرفت من أنّ الأصل فيما هو المقصود ليس مثبتا كما زعمه بعض الأجلّة (2).
وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وتحقيقه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي أنّ ذوات الموجودات الخارجية قد تصير معنونة بعنوانات مختلفة ومحكيا عنها بحكايات (3) متعدّدة ومصدوقة لمفاهيم متكثّرة ، فكلّما كانت ذات منها متعلّقة للطلب (4) بعنوان منها ، فيجب إيجادها معنونة بذلك العنوان وليس كلّ ما يعبّر عنه بشيء حكاية لذلك الشيء ؛ إذ ليس المراد بها مجرّد اللفظ والتعبير ، فإنّ اللفظ إنّما هو (5) معبّر عن مفهوم هو عنوان لذات الفعل الخارجي الصادر من زيد مثلا ، فقد يكون (6) بعض الألفاظ ممّا لا يعقل له معنى حتّى يكون عنوانا لذات الفعل الخارجي كما إذا كان اللفظ مجملا فإذا تعلّق الطلب بإيجاد ذات من الذوات ، فإن كانت تلك الذات (7) معنونة بعنوان خاصّ ، فلا بدّ
ص: 534
من الامتثال وإيجاد تلك الذات على وجه يصدق معه ذلك العنوان كما إذا قال المولى : أكرم فلانا ، فإنّه لا بدّ من إيجاد ذات الإكرام على وجه يصدق معه الإكرام في الخارج ، وإن لم يكن تلك الذات معنونة بعنوان كما إذا دلّ على وجوبها دليل لبّي كالإجماع ، فالواجب هو إيجاد نفس الذات وإن لم يصدق معه عنوان ، ومثل ذلك الألفاظ المجملة كما إذا قال المولى : جئني بعين ، ولم يعلم المراد منه هو الذهب ، أو الفضّة ، فإنّ وجوب إحدى الذاتين معلوم بهذا اللفظ المجمل إلاّ أنّه لا يجب إيجاد تلك الذات المعلومة بأحد هذين العنوانين وما ينتزع منه من المفاهيم المختلفة (1) والعناوين المتعدّدة ، فليست ممّا يجب تحصيلها وإيجادها ؛ لعدم اعتبارها في الطلب والأمر كالمراد والمأمور به وغير ذلك من وجوه الفعل المتّحدة معه بحسب اختلاف الاعتبارات كما لا يخفى.
وإذ قد تقرّر هذه (2) فنقول : إنّ محلّ الكلام في المقام فيما إذا قلنا بأنّ الصلاة مجملة ، وليست من المبيّنات ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (3) ليس إلاّ مثل قول القائل : جئني بعين ، فكما أنّ الإلهام ، أو الإجماع لو دلّنا على وجوب شيء ولا يجب إحراز عنوان بعد إيجاد ذات الفعل ، فكذا فيما لو كان اللفظ مجملا ، لما عرفت من أنّ مجرّد (4) التعبير باللفظ لا يصيّر الذات ذات (5) عنوان ، واللفظ - فيما لم يعقل منه معنى ومفهوما مبيّنا - لا يكون كاشفا عن عنوان حتّى يجب إحرازه تفصيلا كما إذا علم كذلك أو إجمالا كما في المتباينين.
ومن هنا انقدح الفرق بين ما نحن بصدده من الأقلّ والأكثر في الشبهة الحكمية وبينه في الشبهة الموضوعية ، فإنّ صوم رجب مفهوم معيّن معلوم وعنوان تفصيلي لذات المأمور به ويجب إحرازه تفصيلا ، ولا يتمّ تحصيل (6) العلم بوجوده وامتثاله إلاّ
ص: 535
بعد الإتيان بالمأمور به فيما شكّ أنّه منه بخلاف ما نحن فيه ، إذ (1) ليس هاهنا (2) إلاّ لفظ الصلاة و (3) المفروض إجماله ، فليس على المكلّف إلاّ إتيان ذوات الأجزاء المعلومة ، والأصل يجري في المشكوك من غير معارضة وهو المطلوب.
لا يقال : إنّا نعلم أنّ الشارع أراد من قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) معنى قطعا ، فلا بدّ من تحصيل مراده ، ولا يحصل إلاّ بالإتيان بالمشكوك.
لأنّا نقول : قد عرفت أنّ ما علم وجوبه هو نفس ذوات الأجزاء من التكبير والفاتحة والركوع ونحوها ، وإرادة الشارع من لفظ الصلاة شيئا لا يوجب تحصيل المشكوك بعد عدم توقّف صدق عنوان عليه ، وأمّا عنوان المراد به كالمأمور به ونحوه ، فهي ممّا ينتزعه العقل ، وليست (4) ممّا اعتبره الشارع في أمره وطلبه كما مرّ ، فاللفظ في المقام كالإجماع والإلهام كما لا يخفى.
ونظير الكلام في المقام ما قدّمناه في بعض مباحث الخاصّ والعامّ من أنّه لو خصّ العامّ بمفهوم كلا تكرم الفسّاق بعد قوله : « أكرم العلماء » وشكّ في فسق زيد العالم ، [ ف- ] -لا بدّ من إحراز المخصّص ، ولا يجوز تحكيم العامّ بخلاف ما إذا كان المخصّص ذات (5) معلومة ، وشكّ في خروج شخص آخر (6) من العامّ فإنّه لا مناص من العمل بالعامّ وتحكيمه كما لا يخفى ، فتدبّر.
هذا تمام الكلام في جريان الأصل بالنسبة إلى الأجزاء ، وقد يؤيّد ذلك ببناء العقلاء ، وكان ذلك هو حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في التكليف كما قلنا أوّلا بحكومة أدلّة البراءة عقلا ونقلا على قاعدة الاشتغال ، وكيف كان فقد قرّر بأنّ العبد لو شكّ في جزء من الماهيّة المطلوبة منه للمولى ، واستفرغ وسعه ، وبذل جهده في
ص: 536
تحصيل (1) أجزائها ، وعلم بعدّة منها ، واقتصر على الإتيان بمعلومه ، لا يعدّ عاصيا ، ولو بدا للمولى عقابه ، ذمّ عليه ، لقبح تكليف الجاهل وتعذيبه من غير فرق بين العقاب على أصل الماهيّة عند الجهل بها ، أو على جزئها عند عدم العلم به ، وذلك ظاهر فيما لو جرّد النظر عمّا عدى لزوم الإطاعة والانقياد.
وقد يتمسّك (2) القائل بالاشتغال بذلك أيضا بتقريب أنّ المولى لو أمر عبده بإتيان الإيارج (3) مثلا وشكّ عبده في شيء ، هل هو من أجزائه ، أو لا؟ مع علمه بأنّه إمّا من الأجزاء ، أو من المكمّلات فنجد العقلاء طرّا بانين على الإتيان بالمشكوك ، ولو عاقب المولى عبده في تركه المشكوك مع كونه حقيقة من أجزائه ، لم يمنعه العقلاء من ذلك كما لا يخفى.
وفيه : ما عرفت مرارا من أنّ المدار في الإطاعة والعصيان عند عامّة العقلاء ليس إلاّ على دفع العقاب مع قطع النظر عن تحصيل المصالح الكامنة في ذوات الأشياء و (4) مفاسدها ، وقد عرفت أيضا أنّ المدار في حكم العقل بأصالة البراءة أيضا إنّما هو على قبح العقاب عند الجهل بالتكليف ، فإن أراد المستدلّ أنّ بناء العقلاء في مقام تحصيل الإطاعة دفعا لخوف العقاب إنّما هو على الاحتياط ، فكلاّ ، ثمّ كلاّ حيث إنّ العقاب قبيح قطعا ؛ إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا عقاب إلاّ بعد البرهان ، وإن أراد أنّ بناءهم في مقام تحصيل المصالح والمفاسد كما يظهر من تمثيله بالإيارج على الاحتياط ، فهو كذلك إلاّ أنّ هذه سيرتهم عند الشكّ في نفس التكليف أيضا ، وحيث إنّ الغالب في أوامرهم أنّها ليست (5) مبنيّة على التعبّد بل يحتمل قصر نظرهم في أوامرهم على
ص: 537
المصالح المرتّبة على الأفعال الراجعة إلى الموالي ، أو إلى العبيد كما في مجرّد أوامر الطبيب أو الموالي ، فلا محالة بناؤهم على الاحتياط كيف؟ ولو كان الأمر على إحراز المصالح ودفع المفاسد مع قطع النظر عن جهة التعبّد ، لكان بناء السفهاء أيضا على الاحتياط فضلا عن العقلاء إلاّ أنّ الكلام في موارد البراءة والاشتغال إنّما هو (1) في مجرّد العقاب وعدمه مع قطع النظر عن المصالح فإنّ من الواضح عدم صلاحية البراءة لإحراز المصالح كما لا يخفى ، ولذلك لو فرضنا أنّ المولى أراد امتحان عبده ، وأمره بمعجون كذائي ، وسعى في تحصيل العلم بأجزائه غايته ، ورقى في كشف حقيقته نهايته ، ولم يأل جهدا في الفحص عنه من غير شوب تحصيل فائدة منه ، لم يصحّ من المولى عندهم العقاب عليه قطعا كما هو واضح بالتأمّل ولو قليلا.
فإن قلت : إنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب البراءة عن التكليف لعدم العلم بكونه مأمورا به ، فلا يمكن قصد التقرّب ؛ إذ لا بدّ فيه من تعيين المأمور به.
قلت أوّلا : قد عرفت أنّ الأصل يعيّن أنّ الأقلّ هو المأمور به ؛ إذ الأقلّ هو الأجزاء بشرط عدم وجوب الغير وهو ثابت ، أمّا وجوب العشرة المعلومة مثلا ، فبالفرض ، وأمّا نفي وجوب المشكوك ، فبالأصل.
وأمّا ثانيا : أنّ تعيين (2) المأمور به في المقام إنّما هو من حيث عدم العلم بأنّ تلك الأجزاء واجبة نفسية ، أو غيرية فقط ؛ إذ المفروض جهل المكلّف إنّما هو بهذه الحيثية ، ولا دليل على وجوب تعيين هذه الجهة لصدق الامتثال مع الجهل والإتيان وهو المدار في أمثال المقام.
واحتجّ القائل بالاشتغال بوجوه
منها : ما عرفت (3) من بناء العقلاء مع جوابه.
ومنها : أخبار الاحتياط كما في جزاء الصيد والعدّة وعمومات الاحتياط (4).
ص: 538
ومنها : اشتراك التكليف.
ومنها : استصحاب الاشتغال وقد مرّ (1) التقريب في جميع ذلك في المقامات السابقة والأصول المتقدّمة ،
فلا نسهب الكلام بإعادة ما لا يوجب فائدة ، وقد عرفت عدم نهوضها على المقصود في وجه.
نعم ، للقائل بالاشتغال في كلّ مقام على ما بنينا عليه في موارد الاحتياط مقدّمتان :
إحداهما : وجود العلم الإجمالي بالتكليف.
وثانيتهما (2) : وجوب تحصيل العلم بالامتثال دفعا للضرر المحتمل ونظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب وغير ذلك من الوجوه الآتية بعضها إلى آخر كما مرّ.
والمقدّمة الأولى في المقام مسلّمة.
والمقدّمة الثانية قد عرفت عدم الاعتداد بها فيما كان في المقام أصلا أو طريقا آخر يعيّن أحد الأطراف من غير تعارض ، وقد مرّ وجود الأصل وعدم معارضته (3) بشيء وجدواه أيضا في المقامات الثلاثة.
وأمّا الكلام في الشرائط ، فقد يشكل القول بجريان البراءة فيها (4) ؛ فإنّها ليست بهذه المثابة من الظهور (5) كما في الأجزاء ، ويظهر وجهه بعد تفسير معنى الشرط ، فنقول : قد ذكروا له معاني كثيرة على ما صرّح به (6) جمال المحقّقين في بعض تعليقاته على الروضة (7) عند قول الشهيد : والتروك بالشرط أشبه ، إلاّ أنّ الأقرب عندنا - بعد إسقاط ما يزيّف بعضا منها ويؤيّد آخر - أنّ الشرط عبارة عن أمر خارج مقارن للمشروط على وجه
ص: 539
لو لم يوجد الشرط ، لم يوجد المشروط كالاستقبال للصلاة ، فإنّ الصلاة ليس من أجزائها الاستقبال إلاّ أنّ تلك الماهيّة تحقّقها صحيحة في الواقع (1) موقوف عليه ، وكالحالة الحاصلة من الوضوء لا نفس الأفعال ، فعلى هذا ما اشتهر عند الطلبة من أنّ الوضوء بمعنى الأفعال الخارجية شرط (2) للصلاة ممّا لا يعقل له معنى ، فإنّه حينئذ بالمعدّ أشبه من الشرط ، وإلاّ لكان اشتراط الصلاة بعدم تلك الأفعال الخارجية أولى من اشتراطها بوجودها ؛ إذ تلك الأفعال معدومة (3) حين الصلاة قطعا ، وعدمها مقارن للصلاة ، فهو أولى بالشرطية ، ولذا (4) لا يجب تكرارها عند كلّ صلاة ويكتفى بالوضوء الحاصل في الزمان السابق لصلاة الحاضرة كما لا يخفى.
وإلى ما ذكرنا يشعر ما اشتهر عند الأصوليين من أنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ؛ فإنّ انعدام تلك الأفعال عند الصلاة ظاهر ، فلا بدّ من انعدام المشروط أيضا ، فالفرق (5) بين الجزء والشرط في أمثال تلك المهيات المركّبة الخارجية هو أنّ الجزء عبارة عن نفس تلك الأفعال الخارجية التي بها يحصل المركّب بخلاف الشرط ، فإنّه عبارة عن الحالة الحاصلة عن الأفعال الخارجية فيما يرى أنّها الشرط المقارنة (6) للمركّب وذلك ظاهر.
ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير بعض أجلّة المشايخ (7) من أنّ عند الاشتغال بالصلاة لو
ص: 540
شكّ في الوضوء ، لم يكن من الشكّ بعد الفراغ في شيء ؛ لبقاء محلّه فإنّه لو كان الشرط هو نفس تلك الأفعال ، فلا ينبغي الارتياب في مضيّ محلّه ، وإنّما يصحّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ تلك الأفعال سبب للشرط ، وللحالة (1) المقارنة للمشروط لحصولها بها إلاّ أن يقال : إنّ سبق السبب يكفي في سبق المسبّب ، فبعد مضيّ زمان السبب وإن لم يمض زمان المسبّب إلاّ أنّه يعدّ في العرف من الشكّ بعد مضيّ زمانه كما لا يخفى.
وإذ قد عرفت الفرق بين الأجزاء والشرائط ، فيحتمل أن يقال : إنّ الجزء حيث كان ممّا يحتاج إلى عمل خارج عن سائر الأجزاء ، فلو شكّ فيه ، كان أصل البراءة محكّما بخلاف الشرط ؛ فإنّ الشرط ليس عملا حتّى يجري فيه البراءة إلاّ أنّ هذا الاحتمال في غاية السخافة ؛ فإنّ الشرط وإن لم يكن بنفسه عملا بل هو عبارة عن الحالة المقارنة إلاّ أنّ سببه عمل (2) خارجي ، وأدلّة أصل البراءة ممّا لا تخصيص فيها ، فكلّ ما كان المكلّف لأجله في ضيق ، فتلك الأدلّة حاكمة بالسعة فيه ولو كان من أسباب الشروط ، ولا شكّ أنّ الأسباب التي تستند إليها الشروط إنّما هي أعمال خارجية كتحصيل الماء ونفس الأفعال والاستقبال ونحو ذلك ، فكما أنّ الأجزاء وجوبها مدفوع بالأصل ، فكذا الشرائط.
نعم ، للخبير أن يستشكل في مثل القيود المنضمّة إلى المطلقات كالإيمان في الرقبة والبياض فيها ، فإنّها لا تحتاج (3) إلى زيادة عمل في الخارج بخلاف الشرائط ، فهل فيما
ص: 541
دار الأمر بين المطلق والمقيّد هل يحكم بالبراءة عن المقيّد ويؤخذ بالمطلق ولو في فرد آخر غير المقيّد نظرا إلى عموم أدلّة البراءة ، أو لا بدّ من الأخذ بالمقيّد ؛ لعدم جواز الاستناد إلى البراءة إذ لا كلفة في المقيّد لاتّحاد وجودي القيد والمقيّد في الخارج ، فلا يحتاج إلى مشقّة زائدة على نفس تحصيل المطلق ؛ إذ بتحصيله يحصل المقيّد أيضا؟ وجهان ، والأقوى جريان البراءة أيضا.
والسرّ فيه أنّ أخبار البراءة بين مصرّح (1) بأنّ الناس في سعة ، ومشعر (2) بذلك كما يظهر بالتأمّل في مساقها ، ولا شكّ أنّ الالتزام بالإتيان بالمقيّد ضيق على المكلّف وغير معلوم والناس في سعة ما لم يعلموا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون محتاجا إلى مشقّة عملية أيضا كما عند الشكّ في الأجزاء والشرائط ، أو لم يكن ؛ فإنّ المناط رفع الضيق وإثبات السعة وهو في المقام أيضا موجود كما لا يخفى ، ومثل ذلك ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير ؛ فإنّ في طرف التعيين والالتزام به ضيقا لا ينكره إلاّ العسوف وإن كان القول بوجوب المعيّن ممّا لا يتوقّف على مشقّة زائدة على أصل التكليف الثابت في مقام الفعل والعمل.
والحاصل : أنّ أخبار البراءة لها مراتب : فتارة : يتوهّم انحصار موردها بالواجبات النفسية دون الواجبات الغيرية كما زعمه بعض الأجلّة (3) ، وقد عرفت (4) فيما مرّ فساده ، ويزيدك توضيحا ملاحظة حال الواجبات الغيرية سواء كانت أجزاء ، أو غيرها من المقدّمات كالشرط والسبب وسبب الشرط ونحوها أن لو كان كلّ واحدة منها مطلوبة بطلب مغاير لطلب الآخر كأن يكون الأوامر متعدّدة كما لا يخفى ، وإطلاق الوجوب على الغيري غير عزيز في مطاوي كلماتهم كما في تقسيمهم النكاح إلى الواجب وغير ذلك.
ص: 542
وأخرى : يعمّ الواجبات الغيرية أيضا مع تخصيصها بما فيه كلفة عملية ، فيشمل الأجزاء والشرائط دون القيود المعتبرة في المطلقات ، وقد عرفت أيضا عدم استقامة هذا التخصيص ؛ لعدم ما يوجبه مع وجود ما يقتضي العموم.
وثالثا : يعمّ جميع أقسام الضيق والكلفة من غير تخصيص بواحد (1) دون آخر كما هو المختار ، فكلّ ما ينافي السعة فهو مدفوع بالأصل ، فيشمل ما فيه الضيق ولو بحسب النفس كما لا يخفى ، فيمكن القول بأنّ مفاد البراءة هو الأوّل فيجري البراءة في الواجبات النفسية فقط كما يراه بعض الأجلّة (2).
ويمكن القول بعمومها للغيرية فقط كما يظهر من المحقّق القمّي (3) فإنّه قد قال بالبراءة عند الشكّ في الشرطية والجزئية (4) ، وحكم بالاشتغال في مباحث المطلق والمقيّد (5) ولا منافاة بين كلاميه وإن كان يرد عليه أنّ القول بجريان البراءة في المتباينين ليس بأولى من جريانها في المطلق والمقيّد كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر اندفاع ما قد يتوهّم من التدافع بين ما ذهب إليه صاحب المدارك من القول بالبراءة عند الشكّ في الجزئية والشرطية (6)(7) ، والقول بلزوم الاحتياط فيما إذا شكّ في كفاية الفارسية في التكبيرة والتقديم والتأخير (8) ؛ إذ لعلّه يرجع إلى الإطلاق والتقييد ، فيحكم بالاشتغال فيه ، فتدبّر.
ص: 543
ونحن حيث فرغنا من إبطال التخصيصين ، فجريان البراءة فيما دار الأمر بين المطلق والمقيّد ممّا لا كلام فيه عندنا.
فإن قلت : قد مرّ فيما سبق أنّ وجود العلم الإجمالي مع فقد طريق يعيّن أحد الأطراف يوجب الاحتياط ، والأصل في المقام معارض بمثله ، فلا مجال للقول بالبراءة ؛ إذ المطلق بوصف الإطلاق يباين المقيّد ، فإنّه أحد أقسام الماهية المجرّدة كما هي مورد القسمة ، فكما أنّ الأصل براءة الذمّة عن المقيّد ، فالأصل براءة الذمّة عن المطلق ؛ إذ هو حينئذ في عرض المقيّد ، وليس لك أن تقول : إنّ وجوب المطلق في الجملة معلوم ، وإنّما الشكّ في وجوبه النفسي ، أو الغيري إذ المطلق ليس مقدّمة للمقيّد بل هما في محلّهما طبيعتان متباينتان كما يظهر من ملاحظة انقسام الماهية التي ليست إلاّ هي إليهما كما لا يخفى ، فالأصل معارض بمثله ، فيجب الاحتياط كما يظهر من المحقّق القمّي (1) على ما وجّه به كلامه بعض تلامذته في بعض تعليقاته على ما نقله الأستاد دام علاه.
قلت : قد عرفت فيما مرّ أنّ المناط في مسائل البراءة والاشتغال هو حكم العقل بلزوم دفع العقاب في جانب الاشتغال ، والأمن منه في طرف البراءة كيف ما اتّفق وفيما دار الأمر بين المطلق والمقيّد وإن كان رجوعه إلى المتباينين إلاّ أنّ العقاب في طرف المطلق معلوم ، ولا يجدي الاستفصال في أنّ الموجب للعقاب أيّ شيء بعد العلم بترتّبه في طرف ترك المطلق ، وبالجملة فالظاهر جريان البراءة بالنسبة إلى القيود أيضا.
وأمّا الموانع والقواطع لو شكّ فيهما ، فهل يدفعان بالأصل ، أو لا؟ الأقرب : نعم.
وتوضيح ذلك : أنّ المانع والقاطع مرجعهما إلى اشتراط عدم أمر وجودي ، فبالحقيقة الشكّ في المانعية والقاطعية راجع إلى الشكّ في الشرطية ، وقد عرفت جريان البراءة فيه.
ص: 544
ويؤيّد ما ذكرنا تمسّك الصدوق (1) بعدم مانعية القنوت بالفارسية في الصلاة بأخبار البراءة مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (2) و [ نحو ] ذلك.
وأمّا الفرق بينهما ، فهو أنّ المانع إنّما يمنع عن فعلية اقتضاء (3) المقتضى مع وجود المقتضي ، والقاطع كأنّه يقطع المقتضي على ما يظهر من لفظهما لغة. وبعبارة أخرى : إنّ القاطع ما ينهدم به بنيان العمل ، وينتشر منه نظم المأمور به على وجه لا يرتبط بعض أجزائه بآخر ، والمانع ما يفسد منه نفس المأمور به ، أو جزؤه لاشتراطه بعدم وجود المانع ، فالقاطع كالحدث الواقع في الصلاة ، والمانع كالرياء في نفس العبادة ، أو في جزئها فإنّه مفسد للمأمور به ولو باعتبار فساد جزئه ، فلا يجزي إعادة الجزء المتراءى فيه ، والفرق هذا إنّما هو بحسب ما يساعد عليه اللفظان لغة.
ويمكن الفرق بينهما أيضا بأنّ القاطع إنّما يكون منسوخه وحدوثه في أثناء العمل بخلاف المانع ؛ فإنّه ربّما يمنع عن الدخول في نفس العبادة ، أو جزئها كما لا يخفى ، فالقاطع يؤثّر أثره وإن لم يقارن عملا في الأثناء ، والمانع الأثنائي يمكن القول بعدم تأثيره فيما لم يقارن عملا كنسبة الخلاف في أثناء الصلاة ؛ فإنّها لو كانت قاطعة ينهدم الصلاة عن أصلها ، ولو كانت مانعة ، فإن قارنت فعلا من أفاعيل الصلاة ، فيحتمل القول ببطلانها بخلاف ما لم يقارن فعلا منها كما لا يخفى ، فالمعتبر في العبادة إمّا وجود شيء ، أو عدمه ، والأوّل إمّا جزء ، أو شرط ، والثاني إمّا مانع ، أو قاطع وقد عرفت جريان البراءة على التقادير الأربعة ، لعموم أدلّتها بل وحكم العقل كما استكشفناه عن بناء العقلاء.
وقد يتمسّك للقول بعدم الاعتناء لاحتمال القاطعية - كما هو المختار - باستصحاب الصحّة ، وعلى تقدير استقامته ، فهو يجدي على القول بالاشتغال أيضا ، لورود
ص: 545
الاستصحاب عليه إلاّ أنّ الكلام فيه وإن وقع الاستدلال به في كلام أساطين العلماء ، وذلك لأنّ المراد بهذا الاستصحاب إمّا استصحاب صحّة الكلّ ، أو صحّة الأجزاء السابقة ، أو الأجزاء اللاحقة ، وعلى التقادير فلا وجه له.
أمّا على الأوّل ، فلأنّ الكلّ لم يقع كما هو المفروض ، فلا معنى لاستصحاب صحّة شيء غير واقع.
وأمّا على الثاني ، فلامتناع الشكّ في ارتفاع صحّتها فإنّ ما يقع على صفة ، يمتنع (1) ارتفاعها منه في وقت ما وقع ، وإلاّ فلم يكن ممّا وقع عليها ، فلا يعقل ارتفاع صحّة الأجزاء ؛ إذ لا معنى لها إلاّ إسقاط القضاء بها ، أو (2) موافقتها للأمر ، أو ممّا يترتّب عليها أثرها المطلوب منها بعد انضمام سائر الأجزاء المعتبرة على جميع التقادير ، فهي كذلك قطعا (3) من غير ارتياب إلاّ على القول بالاحتياط كأن يقال : إنّ الشرك محبط للأعمال ، فلو شكّ في أنّ العجب أيضا محبط أو لا ، فيستصحب كونها على حالتها الأوّلية (4) كما لا يخفى.
وتوضيح ذلك : أنّ صحّة الأجزاء السابقة صحّة مشروطة تأهّلية (5) ، فهي بحيث ما لو انضمّت إليها الأجزاء الأخر على ما هي عليها ، تقع صحيحة مؤثّرة غير فاسدة بأيّ معنى من المعاني للصحّة - عبادة ومعاملة - على اختلاف الاصطلاحين ، فإنّ التحقيق عندنا رجوع الكلّ فيها إلى معنى واحد ، وصدق الشرطية موقوف على صدق التعليق (6) وإن كان التالي (7) كاذبا ، فصحّة الأجزاء السابقة لا ينافيها (8) القطع بفساد الأجزاء اللاحقة ، فكيف بالشكّ في القطع ، فالصحّة في تلك (9) الأجزاء على ما
ص: 546
هي المتنازع فيها مقطوعة معلومة ، فلا وجه للاستصحاب.
وأمّا على الثالث ، فلعين ما مرّ في الأوّل ؛ فإنّ (1) الأجزاء اللاحقة على ما هو المفروض لم تقع ، فلا معنى لاستصحابها.
فإن قلت : المراد صحّة الأجزاء السابقة والشكّ في بقاء صحّتها على أيّ معنى من المعاني معقول ؛ إذ لعلّ الشرط فيها على أيّ وجه عدم حدوث القاطع ، فالشكّ فيه يستلزم الشكّ في الصحّة ، فيستصحب.
قلت : فلا يقين بالصحّة في السابق ، فلا يعقل الاستصحاب ؛ إذ مع احتمال عروض القاطع لا قطع بالصحّة في الأوّل ، ولو فرض القطع بذلك ، ثمّ طرأ له الشكّ في الأثناء فيسري شكّه إلى زمن قطعه وهو كالشكّ ابتداء ، فلا يجري فيها الاستصحاب.
وتحقيق هذا أنّ القاطع لا يخلو عن أحد وجوه : فتارة يكون عدمه - مع قطع النظر عن الأجزاء السابقة واللاحقة - شرطا في الصلاة ، فهو بنفسه من شرائط الصحّة ، وأخرى يكون عدمه معتبرا في صحّة الأجزاء السابقة ، ومرّة في صحّة الأجزاء اللاحقة.
فعلى الأوّل ، فلا شكّ في صحّة الأجزاء السابقة كما عرفت ؛ إذ لا تناط صحّتها بشيء كما هو المفروض.
وعلى الثاني ، فالشكّ في عروض القاطع لا يجامع العلم بوقوع الأجزاء السابقة صحيحة.
وعلى الثالث ، فعدم جريان استصحاب الصحّة أظهر ؛ لعدم الارتباط كما عرفت.
فإن قلت : لا شكّ أنّ بعض هذه الأجزاء مرتبط بالآخر بحيث يعدّ هذا الارتباط والالتيام أيضا من أجزاء الصلاة ، وقبل الشكّ في (2) قاطعية شيء كان الارتباط بحاله ، وبعد الشكّ وحصول ما يحتمل القاطعية يشكّ في بقائه على حالته الأوّلية ، فالأصل
ص: 547
بقاؤه.
وبعبارة ثانية : كان للمكلّف إلحاق بعض الأجزاء ببعض آخر ، وأن ينضمّ بعضها إلى بعض حتّى يحصل المأمور به ، وبعد حصول المشكوك فيه كالعجب - مثلا - يشكّ في بقائه ، والاستصحاب يقضي بوجوده ، و (1) لا ضير فيه.
قلت : فلا قطع بالصحّة في السابق ، وتفصيل الكلام في المقام ممّا ستعرفه في بحث الاستصحاب إن شاء اللّه.
ثمّ إنّ بعض من يدّعي الفضل في هذا الفنّ ، ويزعم أنّه ممّن صبغ يده في هذه الصناعة قد أورد على المحقّق القمّي (2) بما لا محصّل له أبدا ، فزعم أنّ بين القول بالبراءة وصحّة الصلاة والعبادة عند الشكّ في الجزئية ونحوها - كما يظهر منه (3) في المقام - والقول بأنّ الأصل في العبادات هو الفساد - كما يظهر في مبحث النهي عن العبادات - تناقضا.
وأنت خبير بأنّه بمكان من الضعف والوهن حيث (4) إنّ القول بالبراءة - بعد العلم بمشروعيّة أصل العبادة والشكّ في اعتبار شيء فيها جزءا ، أو شرطا (5) - لا ينافي القول بالفساد نظرا (6) إلى قاعدة التوقّف قبل دلالة دليل على مشروعية العبادة ، وإنّما الشبهة نشأت من الحكم بالصحّة على تقدير البراءة والقول بعدم الفساد كما يظهر من عنوانه البحث بأصالة الصحّة.
وفيه من عدم الاستقامة أيضا ما لا يخفى.
ص: 548
الأوّل (1) :
إذا علمنا باعتبار أمر في شيء مركّب وشككنا في أنّه هل هو من الأجزاء الركنية ، أو لا ، فهل الأصل الركنية ، أو لا؟
واعلم أوّلا (2) : أنّ الركنية ليست عنوانا في الأدلّة الشرعية ، وإنّما عبّروا عن الأجزاء التي تنهدم الماهية عند انهدامها عمدا وسهوا بالركن ، ولذا اختلف في تحديده ، فزاد بعضهم (3) الزيادة في الحالتين أيضا إلاّ أنّ الأوّل أقوى حيث إنّ النيّة - على القول
ص: 549
بركنيّتها - زيادتها غير مضرّة سهوا بل وعمدا كما لا يخفى ، فالركن عبارة عن جزء تبطل الماهية عند انهدامه (1) عمدا ، أو سهوا ، وبعد ملاحظة ما زاد البعض من قيد الزيادة تحصل (2) في المقام صور :
منها : ما لو ترك المكلّف الجزء عمدا.
ومنها : ما لو ترك سهوا.
ومنها : ما لو زاد عمدا.
ومنها : ما لو زاد سهوا.
وحيث إنّ الصورة الأولى حكمها معلوم بعد كون الأمر المذكور جزءا ، أو لا أقلّ من انعدام الماهية عند انعدام الجزء عمدا ، وإلاّ لما كان جزءا كما هو ظاهر ، فلنذكر الصور (3) الثلاثة الأخيرة ليتّضح الحال ، فنقول :
الصورة الأولى فيما إذا ترك الجزء سهوا ، فهل يحكم بالفساد ، أو لا؟ فنقول : مقتضى الأصل الفساد ؛ لعدم صدق امتثال الواقع على الإتيان بالماهية الناقصة ، فإنّ الأمر متعلّق على الصلاة الواقعية ، والمفروض اعتبار السورة مثلا فيها ، فالإتيان بالصلاة الخالية عن السورة ليس امتثالا بما هو لازم الامتثال في الواقع ، فالأمر الدالّ
ص: 550
على وجوب الصلاة بإطلاقه موجود ، فلا بدّ من امتثاله.
فإن قلت : إنّ غاية ما يستفاد ممّا دلّ على اعتبار السورة مثلا في الصلاة هو اعتبارها حال الذكر والعلم ، وأمّا عند النسيان والسهو فلا دليل على اعتبارها فيها ، فلا نسلّم أنّ الامتثال الواقعي في الصلاة يتوقّف على الإتيان بالصلاة مع السورة ؛ لرجوع الكلام في المقام إلى جزئية السورة في حقّ الناسي (1) وهو بعينه الكلام فيما إذا شكّ في جزئية شيء ، وقد عرفت أنّ التحقيق هو القول بالبراءة ، هذا إذا قلنا باختلاف أحكام الناسي والذاكر قطعا ، ولا أقلّ من الشكّ فيه ، ومعه يتمّ المطلوب أيضا ؛ إذ الشكّ في الجزئية مع هذا أيضا باق ، والأصل البراءة لا يختلف في ذلك اختلاف أسباب الشكّ كما لا يخفى.
قلت : ما ذكر يتوقّف على أن يكون الناسي والذاكر موضوعين مستقلّين كأن يكون أحدهما في عرض الآخر كالحاضر والمسافر ، وليس كذلك ؛ فإنّ المستفاد من أدلّة النسيان غايته معذورية الناسي كما في صورة الجهل ، فإطلاق الأمر الدالّ على وجوب الجزء حال النسيان أيضا بحاله ، فيجب الإعادة بعد الذكر.
والسرّ فيه : أنّ النسيان وإن خالف الجهل في بعض الوجوه إلاّ أنّ الذكر هو عين العلم ، وقد مرّ أنّ العلم لا يكون مناطا (2) لاختلاف الأحكام كما في بعض الصفات.
وربّما يقال : إنّ المسألة تبتني (3) على أنّ الأمر العقلي الظاهري هل يفيد الإجزاء (4) ، أو لا؟ فعلى الأوّل يقال بعدم الركنية ؛ لأنّ الأمر بالإتيان في حال النسيان مجز ، فلا يجب الإعادة ، وعلى القول بعدم الإجزاء فالأصل الركنية ، وحيث إنّ القائل ممّن يرى الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي (5) ، فجزم بالأوّل.
ص: 551
وفيه أوّلا : فساد البناء حيث إنّ في مثل النسيان لا يكون أمرا ظاهريا من العقل بل (1) وهو تخيّل الأمر كما في صورة الجهل المركّب فإنّ المكلّف بعد الاعتقاد بوجوب (2) شرب الخمر ليس مكلّفا بشربه لا واقعا ولا ظاهرا.
أمّا الأوّل ، فظاهر.
وأمّا الثاني ، فلأنّ الأمر الظاهري العقلي على تقدير إمكانه فهو إنّما فيما لو كان حكم العقل في عنوان اعتبره العقل لأن يحكم عليه من حيث هذا العنوان كما في حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد ، و (3) حكم العقل بالإباحة قبل الشرع على القول بظاهرية حكم العقل ، فإنّ الحكم بالحجّية إنّما هو باعتبار الانسداد ، فما لم يلاحظ العقل عنوان الانسداد لا يحكم بالحجّية ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ فإنّ الجاهل مع اعتقاد علمه يعمل لا من حيث إنّه جاهل ومعتقد بل علمه يستند إلى اعتقاده.
وتوضيح ذلك : أنّ عنوان الناسي والجاهل المركّب لو كان مناط حكم العقل ، لوجب أن يكون عمل الناسي والجاهل المركّب من حيث نسيانه وجهله بالواقع ، مع ما ترى من فساده ؛ حيث إنّ الناسي يفترق غيره في عقد سلبي وهو عدم وجوب الجزء المنسيّ عليه حين نسيانه بمعنى عدم عقابه بواسطة النسيان ولا يلتفت إلى نسيانه ، كيف وهو تارك للفعل نسيانا ، وكذا الجاهل المركّب فإنّ أعماله إنّما تستند (4) إلى علمه باعتقاده لا إلى أنّه جاهل مركّب وحكم الجاهل كذا كما في الحكم بالظنّ ، فإنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد إنّما هو من حيث الانسداد. وبالجملة ، فعند نسيان الجزء لا يكون للمكلّف أمر ظاهري من العقل.
وثانيا : فساد المبنى إذ لو كان في النسيان وما يشبهه أمر ظاهري عقلي ، فنحن قد بيّنّا في محلّه عدم إفادته (5) الإجزاء.
ص: 552
وهذا تمام الكلام في مقتضى الأصل الأوّلي ، وهل في المقام أصل ثانوي يفيد صحّة العبادة عند النقيصة السهوية ، أو لا؟ الأقرب : نعم ؛ لاستصحاب الصحّة على ما استند إليه جملة من الأصحاب إلاّ أنّك قد عرفت (1) عدم اتّجاهه سابقا ، وسيجيء (2) تفصيله بما لا مزيد عليه في مقامه لا حقا إن شاء اللّه ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أمّتي تسعة » (3) وعدّ منها النسيان.
والتقريب في ذلك يحتاج إلى تمهيد ، فنقول : لا شكّ في وجود نفس النسيان وذاته في الأمّة ، فرفع النسيان لا بدّ وأن يحمل على رفع أحكامه فإنّ رفع الذات عن مجموع الأمّة - كما يراه مخالفونا (4) عند الاحتجاج بمثله للإجماع على أن يكون المجموع معصوما واحدا - خلاف الظاهر كما يظهر من رفع الاستكراه وما لا يطيقون ، كما هو كذلك فيما لو حمل على نفي الذات باعتبار اشتمال الأمّة في كلّ زمان على معصوم كما هو الحقّ عندنا معاشر الإمامية ، وحمل الإكراه حينئذ على معنى آخر بعيد عن مساق الرواية.
مضافا إلى أنّ الامتنان (5) حينئذ غير معقول لوجود المعصوم في جميع الأمم في كلّ الأعصار كما هو المحقّق عند أهل التحقيق ، فيجب الحمل على رفع الأحكام ، وحينئذ فإمّا أن يراد به تمام الأحكام والآثار المترتّبة على ذات الفعل مع قطع النظر عن الخطأ ، أو بعضها ، لا سبيل إلى الثاني ؛ لعدم مخصّص له ، ودعوى ظهور المؤاخذة ممنوعة ولا سيّما بحيث يمنع عن إرادة الباقي ، فتعيّن الأوّل إمّا لأنّ الظاهر عند عدم ظهور واحد من الأحكام هو الجميع كما يساعده العرف ، أو لأنّ رفع جميع الأحكام أقرب إلى نفي الماهية ، وحيث تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات متعيّن (6) ، أو لأنّ التخصيص بواحد (7)
ص: 553
دون آخر تحكّم ، والحمل على بعض غير معيّن يلغي الكلام مع ظهوره في مقام البيان كما يوافقه الاعتبار.
مضافا إلى رواية صحيحة واردة في المقام تدلّ على أنّ المراد رفع جميع الأحكام وضعية كانت أو غيرها حيث إنّ الراوي سأل عن الحلف بالطلاق والعتاق مكرها ، فأجابه عليه السلام بعدم الوقوع مستندا في ذلك إلى قوله صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي ستّة » والرواية مذكورة في طلاق المكره من كتاب الوسائل (1).
ثمّ إنّ المراد بالأحكام المرفوعة الأحكام (2) المترتّبة على ذات الفعل مع قطع النظر عن الخطأ والذكر ، فالمعنى أنّ ما يترتّب على فعل ، أو ترك - من مؤاخذة ، أو ضمان ، أو عقاب - فهو مرفوع عن هذه الأمّة المرحومة عند النسيان والخطأ و (3) الإكراه ونحو ذلك.
ومعنى الرفع عدم الجعل ، وحيث إنّ ظاهر الأوامر والأدلّة استواء الناسي والذاكر في الأحكام ، فالدفع في المقام بمنزلة الرفع ، أو لأنّ المانع من الجعل ليس إلاّ الامتنان (4) ، وإلاّ فالمصلحة الداعية للجعل موجودة ، فعلى ما عرفت من معنى الرفع والمراد بالأحكام المرفوعة لا يرد ما قد يتوهّم من أنّ المقام لا رفع فيه ، ومن أنّ الأحكام المترتّبة على الخطأ كثيرة.
أمّا الأوّل ، فظاهر.
ص: 554
وأمّا الثاني ، فلأنّ أحكام الخطأ ممّا يترتّب على نفس الخطأ ، ولا دخل لها للفعل ، فكما أنّ عند عدم العلم أحكام المعلوم مرفوع لا أحكام الشكّ لكون عدم العلم موضوعا لها ، فكذا حال الخطأ والنسيان أحكام الفعل المخطئ (1) فيه والمنسيّ مرفوع ، وأمّا الأحكام التي موضوعها الخطأ والنسيان ، فلا يرتبط بالمقام كما لا يخفى.
فإن قلت : إنّ المقصود في المقام هو القول بعدم وجوب الإعادة على الناسي عند التذكّر كما عرفت سابقا ، وإلاّ فالعقاب عنه مرفوع قطعا ، ولزوم الإعادة إنّما يترتّب على بقاء الأمر الأوّل ، فإنّها من آثاره ولوازمه فإنّها تنبعث (2) من عدم انطباق المأتيّ به لما قد أمر به على وجهه ، ولا شكّ أنّ هذه صفة ينتزعها العقل ، ويعبّر عنها بفساد المأمور به ، فهذه الصفة ليست من الأمور المجعولة للشارع حتّى يقال بدلالة الحديث على رفعها ، فإنّ ما للشارع أن يضعه ، له أن يرفعه ، فلو حكم الشارع برفعه ، لزم التناقض بين الحكمين ، ولذلك (3) ترى الشهيد الثاني (4) يعترض على المستدلّ بالرواية في مثل المقام بأنّ الإعادة إنّما هو من آثار بقاء الأمر ، فلا يصحّ الاستدلال.
قلت : نعم ، ولكنّ المرفوع في المقام هو جعل الجزء المشكوك جزءا ، فلا يجب الإعادة ؛ إذ لو لم يكن المشكوك جزءا حال السهو لم يكن الإعادة واجبة ، وذلك ظاهر.
ثمّ إنّ في المقام شيئا يجب التنبيه عليه وهو [ أنّ ] التمسّك في رفع الأمور الوضعية ونحوها بالرواية إنّما يستقيم فيما لو كانت تلك الأحكام من الحقوق المتعلّقة باللّه جلّ جلاله ؛ حيث إنّ الاستظهار المذكور من الرواية لا يتمّ إلاّ بعد اعتبار ورودها في مقام
ص: 555
الامتنان على ما نبّهنا عليه وهو - كما لا يخفى - إنّما يصحّ فيما لم يكن من حقوق الآدميين ممّا يتعلّق بأموالهم وأنفسهم وإن كان الجاعل لتلك الحقوق هو اللّه سبحانه ؛ لاستلزامه رفع التفضّل بالنسبة إليهم (1) في خصوص الصلاة « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الوقت والقبلة والطهور والركوع والسجود » (2) وجه الدلالة أنّ الرواية تدلّ على عدم وجوب الإعادة فيما سوى الخمسة المذكورة ، وحيث إنّ المستثنى في الرواية بعضها من الأجزاء كالركوع والسجود ، والآخر من الشرائط كالقبلة والطهور ، فيكشف عن عموم المستثنى منه ، فيتمّ التقريب في عدم وجوب الإعادة في كلتا السلسلتين.
لا يقال : إنّ نفي الإعادة - كما هو المستفاد من الخبر - ليس على ما ينبغي ، للزوم الإعادة في الأجزاء والشرائط بأسرها (3) فيما لو أخلّ بأحدها عمدا ، فلا بدّ من تخصيصه بحالة السهو ، فيكون تخصيصا للأكثر.
لأنّا نقول : ليس ذلك من التخصيص في شيء بل هو تقييد لإطلاق الخبر ، ولا ضير فيه أبدا.
فإن قلت : وعلى تقدير التقييد بحالة السهو من عدم لزوم الإعادة ، فلا يتمّ أيضا ؛ للزوم الإعادة في النيّة والتكبيرة والقيام الركني المتّصل بالركوع.
قلت : أمّا الأوّلان ، فلا يصدق الصلاة بدونهما ، فإنّهما الفاتحة ، والمقصود لزوم إعادة الصلاة ، وأمّا الأخير ، فيلازم الركوع كما لا يخفى ، ثمّ المراد من نفي لزوم الإعادة من سوى الخمسة إنّما هو بالنسبة إلى الأشياء التي من شأنها إعادة الصلاة لأجلها ، وأمّا
ص: 556
الأشياء التي لا دخل لها في الصلاة بحسب الاحتمال عند العلماء والفقهاء ممّا دلّ على اعتباره دليل مشكوك الدلالة أو الاعتبار ، فلا يرتبط بالمقام كما لا يخفى.
[ الصورة ] الثانية (1) : في الزيادة عمدا ، والكلام فيه تارة يقع في حكمها ، وأخرى في مفهومها.
أمّا الأوّل ، فظاهر بعد ما أصّلنا من التمسّك بأصالة البراءة عند الشكّ في الموانع لرجوع الشكّ عند الزيادة إلى المانعية.
وأمّا الثاني ، فيتصوّر (2) على أقسام :
الأوّل : أن يزيد على الماهية المركّبة بما هو يباين أجزاءها جنسا ، وهذا يحتمل أن يكون مفسدا لخروج الماهية بالزيادة عمّا كانت عليها كالنقيصة ، ويحتمل أن لا يكون مفسدا لأنّ المفروض فيما إذا لم يكن تلك الزيادة موجبة لنقصان جزء من أجزاء المركّب ، وعلى هذا فلا دليل على فساد المركّب ، وقصد الجزئية لا يجعل الشيء جزءا حقيقة وإن حرم الاستناد بالأوّل.
الثاني : أن يزيد عليها بما لا يباين الأجزاء الماهية ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة الدليل ، فتارة يدلّ على اعتبار ماهية الجزء من غير تقييده (3) بفرد ، أو فردين كما في الذكر ، وأخرى يدلّ على اعتباره مقيّدا بعدد كسورة واحدة أو سجدتين ونحوهما.
فعلى الأوّل ، فلا ريب في صحّة المركّب ؛ لأنّ الزيادة امتثال للأمر بالماهية لعدم تفاوت الماهية بالزيادة والنقصان ويعدّ في العرف الزيادة هذه من الامتثال أيضا ، وليس هذا من الامتثال عقيب الامتثال المختلف فيه عندهم كما لا يخفى.
وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون التقييد بالعدد الخاصّ على وجه ينافي الزيادة كما في
ص: 557
الوحدة المعتبرة في مدلول الألفاظ على ما يراه بعضهم ، أو لا يكون على هذا الوجه.
فعلى الأوّل ، فلا شكّ في فساد المركّب ؛ لانحلال المطلوب إلى شيئين : اعتبار الجزء ، واعتبار عدم غيره.
وعلى الثاني ، فقد يشكل كما إذا قيل : اقرأ سورة منوّنة بتنوين التنكير الدالّة على الوحدة ، فقرأ سورتين مع عدم قصد الزيادة كأن يقصد البدلية مع احتمال اللحن في الأوّل من حيث إنّ ظاهر التنوين - مثلا - اعتبار الوحدة ، ومن حيث الأصل ، فيشكّ في المانعية وقد قرّر جريان البراءة فيها ، وأمّا إذا قصد الجزئية ، فمرجع المسألة إلى التشريع ، والخلاف فيه في محلّه.
[ الصورة ] الثالثة (1) : في الزيادة سهوا ، واعلم أنّ المقام عكس المقام السابق حيث إنّ الحكم فيه مشكل دون التصوير (2) ؛ إذ الزيادة السهوية معلومة جدّا ، وأمّا الحكم ، فإن قلنا بعدم بطلان الزيادة العمدية كما عرفت ، فالحكم في الزيادة (3) السهوية بطريق أولى ، فإنّ ما لا يفسد عمده لا يفسد سهوه (4) قطعا ، وإن قلنا بالاشتغال في المقام الأوّل ، فيمكن القول بالصحّة أيضا في المقام لشموله لخبر الرفع وعدم العود إلاّ من خمسة كما عرفت إلاّ أنّ في المقام روايتين تدلاّن بظاهرهما على الفساد ، فلا بدّ من ذكرهما وتنقيحهما :
إحداهما : ما رواه الشيخ عن زرارة ، عن أحدهما عليهم السلام : « لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم فإنّ السجود زيادة في المكتوبة » (5) فإنّ ظاهر التعليل إفساد (6) الزيادة مطلقا ولو كان من غير قصد الجزئية للصلاة كما في سجدة العزائم بل ولو كان الزيادة عن سهو
ص: 558
كما هو ظاهر الإطلاق.
وثانيتهما (1) : ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام : « من زاد في صلواته شيئا ، فعليه الإعادة » (2) فالخبران يعارضان ما ذكر من خبر الرفع وعدم الإعادة (3).
الأمر الثاني (4) :
إذا ثبت اعتبار شيء في ماهية - شرطا أو شطرا - في الجملة كأن علمنا بذلك في حالة الاختيار ، فهل يحكم بذلك مطلقا حتّى عند الاضطرار إلى ترك ذلك الشيء ، فيجب الإتيان بالباقي ، أو لا يجب لانتفاء الكلّ ، أو المشروط عند انتفاء الجزء والشرط ، وتحقيقه في مقامين :
أمّا الأوّل ، فهل الأصل الأوّلي بمعنى أحد الأصول العملية براءة واشتغالا واستصحابا وتخييرا يقضي بالأوّل ، أو بالثاني؟ فنقول : الحقّ أن ليس في المقام أصل كلّي يرجع إليه عند الشكّ ، بل المقامات في ذلك متفاوتة ، فربّ مقام يؤخذ فيه بالبراءة قطعا ، وفي آخر بالاشتغال ، أو البراءة على الاختلاف ، والأمر الكلّي في المقام هو القول بوجوب ملاحظة حال الكلّ بعد ترك الجزء والمشروط بعد انتفاء الشرط وإعمال الأصول فيه (5) ، ففي ما لو اضطرّ إلى ترك ما هو معتبر في الواجب النفسي كالوضوء للصلاة ، أو القراءة فيها ، أو غير ذلك ، فالأصل البراءة ؛ لأنّ مرجع الشكّ إلى وجوب الصلاة مثلا بدون هذه الأشياء و (6) هو شكّ في التكليف قطعا ، والأصل البراءة ، وفيما لو
ص: 559
اضطرّ إلى ترك ما هو معتبر في الواجب الغيري كشرائط الوضوء بناء على غيريتها ، أو أجزائه ، فإن سرى الشكّ إلى وجوب الواجب النفسي الذي ترك ما هو معتبر في مقدّمته ، فلا كلام أيضا في أنّ الأصل البراءة ؛ لعدم الفرق في ذلك بين الاضطرار إلى الجزء ، أو جزئه ، أو الشرط ، أو شرطه ، أو جزء شرطه ، أو شرط جزئه كما لا يخفى ، وإلاّ فيبنى على مسألة جريان البراءة في الواجبات الغيرية كما هو التحقيق ، واختصاصها بالنفسيات كما يراه بعضهم (1) ، وذلك كما إذا علمنا بوجوب الصلاة ولو عند ترك غسل اليد وعدم سقوطه بواسطة فقد جزء الشرط على ما هو ظاهر.
ثمّ إنّ أكثر ورود هذا إنّما هو في العبادات ، وأمّا في المعاملات ، فقد يتّفق أيضا كما في السلف لو تعذّر ذكر تمام الأوصاف ، وفي صيغ العقود عند عدم التمكّن من إحراز بعض الشرائط المعتبرة كالعربية ونحوها ، وحيث ما وقع فالأصل يقضي بالفساد كما في جميع الأحكام الوضعية عند الشكّ في تحقّق أسبابها ، وأمّا ما ذكره بعضهم في صحّة السلف والسلم من عزّة الوجود لو كان المعتبر ذكر تمام الأوصاف ، فهو مبنيّ على الأصل الثانوي كما ستعرفه ، ونظيره ما أفاده ثاني المحقّقين (2) في بعض إفاداته عند الشكّ في اعتبار العربية حالة العجز عنها.
وربّما يقال في المقام بلزوم الإتيان بالباقي بعد الاضطرار شرعا ، أو عقلا نظرا إلى الاستصحاب ، وبيانه أنّ قبل العجز كان الباقي واجبا ، وبعده نشكّ فيه ، والأصل بقاؤه ، ويتمّ الكلام فيما لو بلغ المكلّف معذورا ؛ لعدم (3) القول بالفصل ، ولا يمكن القول بالبراءة فيما لو بلغ معذورا ، والاستناد إلى عدم القول بالفصل في الباقي لقوّة الاستصحاب ووروده على ضميمة الآخر إلاّ أنّ وهن هذه الكلمات ممّا لا يكاد يخفى.
ص: 560
أمّا أوّلا ، فلأنّ الاستصحاب ممّا لا مجرى له في هذه المقامات على ما نبّه عليه المحقّق الخوانساري (1) حيث إنّ وجوب الكلّ المعلوم قد انتفى قطعا ، ووجوب الباقي المشكوك الآن لم يكن معلوما ؛ لاحتمال مدخلية الانضمام.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ دعوى الإجماع المركّب في المقام في غاية الصعوبة.
وأمّا المقام الثاني ، فهل في المقام ما يقضي من الأدلّة العامّة والقواعد الكلّية المشتركة كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وقوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (3) وقوله : « إذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم » (4) بانقلاب هذا الأصل مطلقا ، أو لا
ص: 561
كذلك ، أو يفصّل بين الأجزاء والشرائط؟ وجوه ، بل لا يبعد القول بأنّها أقوال :
فيحتمل أن يقال بعدمه مطلقا نظرا إلى قصور مستند هذه الروايات عن إثبات مثل هذا الأصل المخالف للقواعد بل ودلالتها أيضا ؛ لظهورها في الواجبات المتعدّدة المستقلّة كما في أفراد العامّ.
ويحتمل أن يقال بالانقلاب نظرا إلى هذه الأخبار فإنّ ضعف السند فيها منجبر بعمل الأصحاب لهذه الروايات في موارد جمّة كما يظهر بالتتبّع في كلماتهم (1) ، ومن ذلك
ص: 562
ص: 563
ص: 564
ص: 565
حكمهم بعدم سقوط القيام بالمرّة عند عدم التمكّن من الانتصاب وغيره من أنحاء القيام وكيفيات الأذكار والقراءة ونحوها بل يظهر من الشيخ الأجلّ فيلسوف القوم في مقدّمات كشف الغطاء (1) الاعتماد عليها في نقص الأجزاء والشرائط وغيرها في جميع المستحبّات من الزيارات والأذكار والأدعية والصلوات إلاّ المنهيّ منها ، فقال بجواز الاقتصار على أيّ مرتبة من مراتبها عند اضطرار الإتيان بها على وجهها مريدا منها خصوص المأمور بها.
وأمّا الدلالة فلظهور عموم اللفظ وشموله للواجبات المستقلّة كالصوم والصلاة ولغيرها أيضا كالمركّبات الواجبة كنفس الصلاة بل لا يبعد القول بدعوى ظهور البعض فيها ، فإنّ المراد بالميسور ظاهرا هو الميسور من شيء وجداني كالمعسور منه كما لا يخفى.
ويحتمل التفصيل بين المركّبات الخارجية التي تجتمع (2) أجزاؤها في الوجود وينفرد بعضها من الآخر كما في الصلاة بالنسبة إلى ركعاتها ، وفي الفاتحة بالنسبة إلى أجزائها ،
ص: 566
وبين المركّبات الذهنية التي لا تمتاز أجزاؤها في الخارج على وجه لو انتفى البعض لم يكن الباقي هو الأوّل كما في الشرائط ، فإنّ تقييد الماهية بها ليس تقييدها بالأجزاء على وجه لو انتفى البعض لم يكن الباقي هو الأوّل كما في الشرائط ، فإنّ تقييد الماهية بها (1) ليس وجه تقييدها بالأجزاء كما لا يخفى ، فيقال في الأجزاء بالانقلاب نظرا إلى تلك الأخبار ، وفي الشرائط بعدمه حيث إنّه لا دلالة فيها على لزوم الإتيان بالباقي (2) فيما لو كان مباينا مع الأوّل كما لو قيل : جئني بالحيوان الناطق ، فتعذّر الامتثال بالقيد فإنّه لا يذهب وهم إلى (3) لزوم الإتيان بالحيوان الصاهل ، أو قيل : جئني بماء الورد ، فتعذّر القيد ؛ إذ لا يمكن القول بوجوب الامتثال في الماء المطلق على ما هو ظاهر وهذا الوجه هو المشهور بين المتأخّرين.
ومنه يعلم فرقهم بين الأجزاء والشرائط الفاسدة في المبيع حيث قالوا بالصحّة في الأجزاء ، وبالفساد في الشرائط ، والتحقيق هو الأخذ بعموم هذه الروايات في الأجزاء والشرائط جميعا لكن حيث يساعد عليه العرف في الحكم بأنّ الباقي لا يباين الكلّ ، أو المشروط على وجه يصدق قوله : « منه » في قوله : « فأتوا منه ما استطعتم » (4) لصدق الروايات في مثله من غير اعتبار للشرط ، أو للجزء فيه ، فربّ شرط بعد انتفائه ليس مشروطه معزولا عنه قبل انتفائه كما إذا قيل : جئني بماء السدر ، فإنّ السدر فيه ولو أخذ شرطا إلاّ أنّه ليس على هذا الوجه ، وربّ جزء بعد انتفائه لا يعدّ الباقي غير مباين منه كما لا يخفى.
ومن هنا ينقدح ضعف ما أورده السيّد في الرياض (5) من أنّه لو تعذّر السدر وجب
ص: 567
الغسل بماء القراح بدلا من ماء السدر استنادا إلى أنّ الرواية الدالّة على وجوب الغسل بماء السدر ليس التقييد فيه على وجه الشرطية كما في قولنا : « ماء السدر » حتّى لا يحكم بوجوب الغسل بالقراح بدلا منه عند تعذّره بل إنّما لفظ الرواية ورد على غير جهة الإضافة المقتضية للاشتراط والتقييد ، فإنّه قال : « وليكن فيه شيء من السدر » (1) ويستفاد منه الجزئية فيجري فيه القاعدة المذكورة ، وأنت بعد ما عرفت من التحقيق تعلم وجه الضعف فإنّ المعيار في الجزئية والشرطية ليس (2) بمجرّد التغيير والاختلاف في اللفظ بل المدار على كون المعنى من المعاني المتّحدة في الوجود للمشروط على وجه يعدّ من قيوده وأحواله كما ترى في الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، ومثال ذلك يشاهد في ماء الرمّان وماء السدر إذا كان المراد به المأخوذ منه
ص: 568
لا المخلوط معه فإن كان المعتبر في ماهية من هذا القبيل ، فهو شرط ، وينتفي الباقي بعد انتفائه وإن لم يكن كذلك كما في أجزاء المركّبات الخارجية كما في ماء السدر على وجه الاختلاط ، فهو جزء ، ولا يفرق في ذلك بين ورود العبارة الدالّة على الاعتبار على وجه التقييد كما في قولنا : « ماء السدر » أو على وجه الجزئية كما في قولنا : « وليكن فيه شيء من السدر » إذ على تقدير كون المعنى من الأحوال والقيود فيحمل المطلق على المقيّد على هذا التقدير كما إذا قال : « أعتق رقبة » وقال : « ولتكن (1) مؤمنة » بخلاف ما إذا لم يكن الإيمان من الأوصاف الراجعة إليها المتّحدة معها في الوجود.
نعم ، إذا جهل حقيقة الحال بحسب المعنى على وجه لا يتميّز المعنى المعتبر في الماهيّة أنّه هل من أيّ صنف من المعاني ، فلا بأس بالكشف عنه باللفظ الوارد في مقام اعتباره ، فإنّ الألفاظ طريق إلى المعاني.
وبالجملة ، فالحقّ هو الأخذ بعموم هذه الأخبار فيما يساعد عليه العرف من حيث صدق الميسور منه ، ورجوع ضمير الكلّ في « ما لا يدرك كلّه » كما لا يخفى.
فإن قلت : الظاهر من قوله : « ما لا يدرك كلّه ، لا يترك كلّه » اختصاصه بالواجبات فقط ، ومن البعيد في الغاية اختصاص رواية في حكم الواجب دون المندوب كما هو ظاهر لمن مارس الأدلّة.
ولو حملنا قوله : « لا يترك » على مطلق عدم الأهلية للترك بمعنى أنّه لا ينبغي أن يترك ، فلا يجدي أيضا ؛ لأنّ المقصود لزوم الإتيان بالباقي في الواجبات ولا يستفاد من الرواية على هذا التقدير.
قلت : مجرّد الاستبعاد بعد تسليم ظهور الرواية في الواجب غير مضرّ بعد فرض انجبار السند بالعمل ، وإمكان استفادة حكم المستحبّ من الفحوى ، أو باتّحاد المناط ، والعرف يساعد على توزيع الطلب المستفاد من « لا يترك » على حسب اختلاف
ص: 569
أفراده ففي الواجب على سبيل الوجوب ، وفي المستحبّ كذلك ، وليس من استعمال اللفظ في المعنيين كما لا يخفى.
وممّا يدلّ على ذلك رواية عبد الأعلى مولى آل سام في رجل عثر موضع ظفره ، وجعل عليه مرارة ، فما ذا يصنع في الوضوء؟ فأجاب عليه السلام (1) « بأنّ ذلك وأشباهه : يعرف من كتاب اللّه قال اللّه تبارك وتعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) فامسح عليها » (3).
وجه الدلالة أنّ المعصوم عليه السلام قد أمر باستنباط حكم أشباه المسئول عنه من الكتاب وقرأ الآية النافية للحرج ، ومن المعلوم أنّ المستفاد منها ليس إلاّ عقد سلبي وقضيّة سالبة دالّة على نفي الحرج المستلزم لنفي وجوب المسح على الإصبع نفسه ، وأمّا جواز المسح على المرارة ، فلا يستفاد من الآية بمجرّدها ما لم يلاحظ فيها بأنّ زوال القيد لا يوجب زوال المقيّد في الحكم ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، فالرواية يستفاد (4) منها الحكم بذلك استفادة لا تكاد تنكر ، ومن الظاهر مباينة المسح على الإصبع للمسح على المرارة مباينة حقيقية كما في الحيوان الناطق والحيوان الصاهل إلاّ أنّه لمّا كان العرف يساعد على ذلك ، فقد حكم الإمام عليه السلام (5) بمقتضى القاعدة بلزوم المسح على المرارة (6) ، لعدم المباينة العرفية ، وصدق قوله : « منه » عرفا فيه كما لا يخفى ، وهذا تمام الكلام في الأصل الثانوي ، ومن المعلوم أنّ مراعاة هذا الأصل إنّما هو بعد ملاحظة الدليل الخاصّ في نفس المسألة ، ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها ، فنقول :
إنّ الدليل الدالّ على اعتبار شيء في الماهيّة إمّا أن يكون لفظيا أو لبّيا كالإجماع والشهرة على القول بالعبرة بها.
ص: 570
وعلى الثاني فيصحّ (1) الاستناد إلى إطلاق الدليل الدالّ على وجوب المشروط ؛ إذ المقيّد (2) لإطلاقه لا إطلاق فيه ، فيقتصر في الحكم بالتقييد على القدر الثابت تقييده وهو حال التمكّن من الإتيان بالشرط ، فبقي (3) عند عدم التمكّن من الشرط إطلاق الدليل الدالّ على وجوب المشروط بحاله ويلزم امتثاله ، ولا يكون الدليل الدالّ على وجوب المشروط لبّيا لعدم اختلافه بالإطلاق والتقييد كما لا يخفى.
وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون المقيّد هو الأمر أو غير الأمر كما إذا قيل - مثلا - السورة جزء أو النيّة شرط للصلاة.
فعلى الثاني فلا شكّ في أنّ الجزئية والشرطية مطلقان وعند عدمهما يشكّ (4) في أصل الوجوب ، فبحسب الأصل الأوّلي لا بدّ من إجراء البراءة على المختار ، وبحسب الأصل الثانوي لا بدّ من الإتيان بحسب المختار لكلّ أحد (5) كما لا يخفى.
وعلى الأوّل ، فقد يقال بعدم الفرق بينه وبين ما إذا كان الدليل لبّيا بل المقام أدون ؛ لأنّ اللبّي لا يعلم تقييده وإطلاقه والأمر قطعي التقييد بحالة الاختيار ؛ إذ الطلب غير معقول عندنا من المضطرّ إلاّ أنّه في غاية السخافة والسقوط ؛ لأنّ الأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط بجملتها إرشادية والأوامر الإرشادية وإن كانت غير خالية من الطلب إلاّ أنّ مساقها مساق الألفاظ الواردة في بيان الأحكام (6) الوضعيّة فيستفاد منها المطلوبية المطلقة (7) من غير اختصاص بحالة الاختيار ، فتقييد إطلاق الأدلّة الدالّة على المشروط مطلقا في الحالتين ، فلا بدّ من ملاحظة الأصلين المذكورين ، ويظهر ما قلنا
ص: 571
من ملاحظة قولهم : نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن الغرر ، أو عن بيعه (1) ؛ فإنّ النهي حقيقة في الطلب إلاّ أنّه لمّا كان في مقام الإرشاد وبيان المصالح والمفاسد لا يلاحظ فيه أحكام الطلب من جوازه حالة الاضطرار ، فتلك الأوامر كما عرفت مرارا عدم دلالتها على المطلوبية حال عدم التمكّن ، والاضطرار إنّما هو بواسطة قصور في الطلب ، وأمّا المقصود منها أعمّ كما يدلّك ملاحظة إطلاق المادّة مضافا إلى فهم العرف ذلك منها في المقام.
نعم ، لو استفاد وجوب الجزء ، أو الشرط من أمر تعبّدي ، فلا يبعد القول بذلك كما هو ظاهر إلاّ أنّ الكلام فيه.
ص: 572
إذا دار الأمر بين ترك جزء مع الإتيان بتمام شرائط الماهيّة أو ترك الشرط مع الإتيان بأجزائها ، فهل في المقام شيء يرجّح أحد الطرفين ، أو لا بدّ من الاحتياط بمعنى الإتيان بالماهية تارة بلا جزء ، وأخرى بلا شرط ، أو لا ترجيح ، فالحكم التخيير؟ وجوه أوسطها أوسطها عملا ، وأقواها ترجيح جانب الجزء قولا كما أفاد الشهيد (1) فيما لو دار الأمر بين ترك الصفة ، أو الموصوف ، ولعلّ الوجه فيه أنّ الجاعل في مقام الجعل أوّلا يلاحظ الأجزاء والموصوف فإنّها بمنزلة الذات ، وملاحظتها (2) تامّة وناقصة ، والمعالجة فيها مقدّمة على ملاحظة الأوصاف (3) والشرائط وتماميتها ونقصها وعلاجها فكأنّ الجاعل قال : جئني بالماهية المركّبة من الأجزاء ، فإن نقصت ، فبالباقي المتّصفة بكذا وكذا ، فإن نقص ، فبالباقي كذا أفاد - دام ظلّه - إلاّ أنّه لا يسمن ولا يغني كما لا يخفى.
ص: 573
الأمر الثالث : إذا ثبت اعتبار شيء في الماهية ، وعلمنا بعدم كونه ركنا ، ودار الأمر بين كونه جزء أو شرطا ، فهل الأصل الأوّل أو الثاني؟ قيل (1) بالثاني ؛ لأصالة عدم الجزئية.
وفساده ممّا لا حاجة إلى بيانه ؛ لأصالة عدم الشرطية أيضا.
والتحقيق : أن لا أصل في البين يشخّص أحدهما بل لا بدّ من الرجوع إلى الأصول في ثمراتهما كما في كلّ ما كان شكّا في الحادث ، فالنيّة في الصلاة شكّ في كونها شرطا ، أو جزءا ، أو لا أصل في أحدهما إلاّ أنّه إذا شكّ في وجوب الطهارة فيها ، يدفع بالأصل وغير ذلك كما لا يخفى على المتأمّل في أمثال المقام ، فتأمّل.
ص: 574
في بيان شرط العمل بالأصول المذكورة في طيّ الأصول المتقدّمة من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، ولمّا كان مرجع التخيير إلى البراءة والاستصحاب دائما موافق لأحد الأصلين الآخرين ، فالبحث فيهما يغني عنهما ، فنقول : قد ذكر بعضهم (1) للعمل بالبراءة شروطا ، وحيث إنّه لا محصّل لها عندنا سوى الفحص عن الدليل ، فلنقتصر بإيراده ، ثمّ لمّا كان ذلك يختلف في البراءة والاشتغال ، فلا بدّ من إيراده في مقامين :
في أنّه هل يجب الفحص عن وجود الدليل المفضي إلى الواقع ، أو ما يجري مجراه في محلّ الاحتياط مطلقا ، أو لا يجب كذلك ، أو يفصّل في العبادات التي تحتاج (2) إلى
ص: 575
النيّة (1) مطلقا ، فيجب ، وفي المعاملات ، فلا يجب ، أو في العبادات المتكرّرة عند إعمال الاحتياط ، فيجب ، وفي غيرها ، فلا يجب ، أو فيما إذا أمكن تحصيل العلم فيجب ، وفي غيره ، فلا يجب ، أو فيما إذا أمكن تحصيل الظنّ الخاصّ أيضا ، فيجب وفيما (2) إذا كان الدليل ظنّا من الظنون المطلقة ، فلا يجب؟ وجوه واحتمالات بل وجملة منها أقوال أقواها في النظر - لو لا الإجماع على اشتراط الفحص في بعض الأقسام كما ستعرف - العدم مطلقا عبادة ومعاملة أمكن تحصيل العلم ، أو الظنّ الخاصّ ، أو المطلق أم (3) لا ؛ لصدق الامتثال في الجميع ولو في صورة التكرار في العبادات وحصول الأسباب وتأثيرها في المعاملات ، ولا دليل على اعتبار شيء زائد على (4) ذلك في شيء منها في مقام تحصيل الامتثال وحصول الأسباب كما لا يخفى إلاّ أنّ الإجماع على ما نقله بعضهم منهم العلاّمة (5) على ما هو ببالي على عدم جواز الاحتياط قبل الفحص في العبادات فيما إذا تكرّر العمل كما في ما إذا شكّ في أنّ الواجب هو الظهر ، أو الجمعة مع إمكان الاستعلام من الأدلّة في المجتهد والرجوع إليه في غيره كما إذا شكّ في القبلة مع إمكان تشخيصها بالأبصار وإعمال العلائم.
ويؤيّده توافقه لسيرة العلماء الأعلام بل يمكن دعوى بناء العقلاء في أمثال ذلك أيضا على الاستعلام في امتثالات العبيد لأوامر مواليهم كما لا يخفى كما أنّه لا يبعد
ص: 576
دعوى الإجماع على جواز الأخذ بالاحتياط موافقا للقاعدة المزبورة في المعاملات كما في صيغ البيع وشروطه والنكاح وغير ذلك ، وعليه بناء جملة من الصلحاء في آدابهم ومعاشرتهم.
وأمّا العبادات الغير المتكرّرة كما إذا شكّ في جزئية السورة للصلاة (1) أو الإمساك عن الغبار الغليظ للصوم ، فالمشهور على ما حكاه (2) الاستاذ على وجوب الفحص فيما لو يمكن من تحصيل العلم بالمعنى الأعمّ بل والظنّ المطلق أيضا على القول به ، ومبناهم في ذلك لزوم قصد الوجه المفقود عند الاحتياط ، وحيث قد عرفت ما قدّمنا لك من التحقيق في مقامه من عدم وجوب قصد الوجه ، فلا مجال للقول المذكور بعد صدق الامتثال عند العقلاء في الامتثال الإجمالي.
نعم ، يمكن أن يقال في المقام انتصارا للمشهور بعد ما هو التحقيق عندنا من أنّ الإطاعة ليست من قيود المأمور به ووجوهه ؛ لاستلزامه الدور بل هي (3) من دواعي الأمر : إنّ محصّل الكلام في المقام يرجع إلى كفاية الامتثال الإجمالي في العبادات وعدمها ، فعلى الأوّل يحكم بفساد عبادة تارك الطريقين كما زعمه جماعة (4) ، وعلى الثاني يحكم بصحّتها وحينئذ نقول : الأصل يقضي (5) بالأوّل ، لأنّ المقام من الشكّ في المكلّف به حيث إنّا لا نعلم بسقوط التكليف إلاّ عند الامتثال التفصيلي ، ولمّا أنّ (6) الإطاعة ليست من القيود ، فلا يمكن دفعها بأصالة البراءة ، فالأصل بقاء غرض الأمر وعدم
ص: 577
سقوطه ما لم يعلم المكلّف به بخصوصيته كما في صورة دوران الأمر بين المتباينين مع ثبوت الاشتغال ، فعلى هذا الاتّكال بالاحتياط في العبادات مع إمكان تحصيل العلم خلاف الاحتياط.
وأمّا ترك الاحتياط عند التمكّن من تحصيل الظنّ الخاصّ كالخبر الموثوق بصدوره بناء على تحقّق (1) الإجماع عليه بخصوصه ، فيرجّح على فعله لو قلنا بتحقّق الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي في أبواب الفقه كما ادّعاه جملة منهم ؛ إذ غاية ما يحتمل حينئذ جوازه ، ويبقى احتمال وجوب الأخذ بالظنّ الخاصّ بحاله تحصيلا للامتثال التفصيلي وإن كان ظنّيا ، فالاحتياط فيه ، وهكذا نقول في الظنّ المطلق عند دوران الأمر بينه وبين الاحتياط كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر وجه فتوى المشهور بفساد عبادة الجاهل المقصّر وإن طابق الواقع هذا بناء على ما هو المختار عندنا من أنّ الإطاعة من دواعي الأمر لا من قيوده.
وأمّا على ما يراه البعض من أنّها معتبرة في موضوع الطلب على وجه يصير جزء للمطلوب كما في سائر الأجزاء والشرائط ، فالدليل الدالّ على تقييد الأمر بالإطاعة إن كان لبّيا ، فيكتفى (2) بالامتثال الإجمالي ؛ لأنّه المتيقّن من التقييد ، ويؤخذ في المشكوك إمّا بالبراءة ، أو الاشتغال على الخلاف ، وإن كان لفظيا فإطلاق (3) المقيّد يحكم بالاكتفاء أيضا كما لا يخفى.
هذا غاية ما يمكن الانتصار لهم إلاّ أنّ الحقّ هو الحكم بالصحّة بناء على المختار من أنّ الإطاعة ليست قيدا لحكم العقل بحصول الامتثال سيّما بعد الحكم بعدم وجوب نيّة الوجه ، وبناء العقلاء مستقرّ على ذلك ، وذهاب المشهور بعد العلم بمستندهم وفساده ممّا لا يجدي شيئا فيما نحن فيه (4) على تقدير جواز الاتّكال على الشهرة ، فتدبّر.
ص: 578
وتوضيح ذلك أنّ الوجه المذكور في الانتصار إنّما ينهض دفعا للاحتياط المستلزم للتكرار في العبادة ، وقد عرفت نقل الإجماع على عدم جواز الاحتياط فيه حيث يتمكّن من تحصيل العلم ، أو ما يجري مجراه ضرورة جوازه عند عدم التمكّن كما وقع نظير ذلك في الموضوعات عند اشتباه القبلة ومخالفته لسيرة (1) العلماء وهو الحجّة وإلاّ فعلى ما هو التحقيق من القول بالبراءة لا فرق بين أن يكون (2) الإطاعة من قيود المأمور به أو من دواعي الأمر لعموم أدلّتها.
ومنه يظهر الوجه فيما أفاده صاحب المدارك بعد ما حكى عن العلاّمة (3) عدم جواز الصلاة في الثياب المشتبهة مع التمكّن منها في ثوب طاهر : وإنّ هذا وإن كان حسنا إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب (4) ، وأمّا فيما لم يستلزم التكرار ، فالامتثال التفصيلي حاصل بمعنى العلم بالمطلوب وتميّزه عن غيره ، فلا اشتباه في المطلوب إلاّ أنّ وجه الطلب وخصوصيته غير معلوم ، فلا مانع من الاحتياط سوى القول بوجوب نيّة الوجه ، ونحن قد فرغنا عن إبطال هذه الشبهة في محلّه وقلنا باستقرار طريقة العقلاء في الحكم بامتثال من لم يراع في فعله وجه الفعل كما لا يخفى ، وهذا هو الحاسم لهذه الشبهة ، فلا وجه للقول بلزوم الفحص في العبادات الغير المتكرّرة عند إعمال الاحتياط ، ولا مأخذ للقول (5) بأنّ الناس صنفان : مجتهد ومقلّد.
وأمّا ما يظهر من السيّد الرضي دعوى الإجماع على فساد عبادة الجاهل ، وتقرير أخيه المرتضى علم الهدى له (6) ، فلا يجدي شيئا (7) فإنّه محمول على عبادة من لم يعرف
ص: 579
شيئا عدا ما عرفه من طريقة آبائه.
وأمّا المحتاط ، فليس منهم لانتهاء عمله إلى الاجتهاد فإنّا لا نضايق من القول بلزوم الفحص إمّا في المسألة الأصوليّة ، أو المسائل الفرعيّة ، فيحصل من جميع ما ذكرنا أنّ جريان الاشتغال والأخذ بالاحتياط مشروط بأحد أمرين - سواء كان في العبادات ، أو المعاملات - : إمّا الفحص (1) في خصوص جزئيات المسائل الواردة على المكلّف في مقام العمل كما يراه المشهور في العبادات ، وإمّا الفحص في هذه المسألة الكلّية المبحوث عنها عن لزوم الفحص ، وتحصيل الاعتقاد اجتهادا بكفاية الاحتياط وعدم كفايته ، أو تقليدا كذلك ، فيحكم بفساد عبادة من لم يتفحّص في المقامين.
نعم ، لو لم يكن المكلّف ملتفتا بشيء منهما ، لا يبعد القول بصحّة عباداته بعد مطابقة الواقع ، فالقائل بلزوم الفحص إن أراد منه ما ذكرنا من أحد الأمرين ، فمرحبا بالوفاق ، وإن أراد خصوص الفحص في الأحكام الفرعيّة كما هو الظاهر من كلمات القائلين بفساد عبادة الجاهل ، فلا نعرف له وجها كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
في وجوب الفحص عن الدليل عند إعمال البراءة ، وتحقيق الكلام فيه يقع في موردين :
الأوّل : في أنّ تارك الفحص والعامل بالبراءة عند ذلك هل هو معاقب ، أو لا؟ فنقول : إنّ ما يظهر من التصفّح في كلمات الأعيان أقوال في المقام ، فقيل بكونه معاقبا مطلقا بواسطة ترك التعلّم ومخالفة مجرّد الفحص وإن طابق الواقع ، وهذا هو المنسوب إلى المقدّس الأردبيلي وتلميذيه ، والفاضل السبزواري (2) وجماعة ممّن تبعهم ، وقيل
ص: 580
بكونه معاقبا مطلقا على نفس العمل طابق الواقع ، أو خالف ، ولا عقاب على ترك الفحص ، وقيل بالتفصيل بين ما إذا طابق الواقع ، فلا عقاب وبين ما إذا خالف فيعاقب على المخالفة ، ويترتّب على فعله ما يترتّب على نفس الفعل حال المخالفة العملية (1).
ومبنى الأوّل يمكن أن يكون القول بوجوب تحصيل العلم والتعلّم وجوبا نفسيّا كما يظهر عن بعض الأعاظم (2) ، فلا يرد ما أفاد محقّق الجمال (3) من أنّ هذا قول غريب.
وأمّا عدم العقاب على نفس الفعل ولو في صورة المخالفة ، فلقبح العقاب على الجاهل كما يظهر عن صاحب المدارك في بعض فروع المسألة ، ويمكن أن يكون مبناه ما نسب إلى السبزواري من العقاب على المقدّمة ؛ لأدائه إلى ترك ذيها ، و (4) لا يخفى أنّه لا يقضي بالعقاب عند المطابقة كما هو ظاهر ، فلا يصحّ أن يكون مبنى هذا القول.
ووجه الثاني هو حرمة التجرّي ، فإنّ في هذا الفعل مع قطع النظر عن (5) حرمة الفعل في الواقع تجرّيا فيعاقب عليه.
وأمّا عدم العقاب على الفعل ، فللجهل ، ويحتمل القول بالتداخل كما عليه بعض الأجلّة (6) ، والتحقيق هو الثالث ، ويتوقّف إثباته على إثبات مقدّمتين :
إحداهما : عدم العقاب عند الموافقة.
وثانيتهما (7) : العقاب عند المخالفة.
أمّا الأولى ، فالعقاب إمّا على ترك الفحص والتعلّم ، أو على التجرّي ، فلا وجه لكلّ
ص: 581
واحد منهما ، أمّا الأوّل ، فلأنّ الفحص والتعلّم ليس من الواجبات النفسيّة حتّى يقال بالعقاب على تركه بل الظاهر أنّه واجب غيري مقدّمي كما يظهر من لفظ السؤال ، فإنّ المستفاد منه هو مطلوبية العمل بجوابه كما لا يخفى ، وسياق أدلّة السؤال كقوله : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (1) وغير ذلك شاهد صدق على أنّ العلم - ولا سيّما في العمليات - ليس مطلوبا بنفسه ، وإنّما المقصود منه تحصيله للعمل.
ويدلّ على ذلك ما رواه المفيد الثاني (2) في تفسير قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (3) من أنّه تعالى يحتجّ على العباد بقوله : « أما علمت؟ فإن قال : نعم ، فيقول : فهلاّ عملت؟ وإن قال : لا ، فيقول : فهلاّ تعلّمت فعملت؟ » (4) وجه الدلالة ظاهر فإنّ التوبيخ على ترك العمل بعد العلم ، وعلى عدمه بعد عدمه على تقدير تحصيله كما لا يخفى.
ويتّضح ذلك غاية الاتّضاح عند ملاحظة قوله : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (5) فإنّه تعالى جعل الحذر غاية للإنذار وهو واجب نفسي ، وغاية الحذر في العمل (6) بفعل الواجبات وترك المحرّمات ، ولو لا أنّ المقصود هو العمل ، لكان بدل قوله : « يحذرون » « يتعلّمون » فإنّ الإنذار هو الإبلاغ والإرشاد كما لا يخفى.
وأمّا الثاني ، فبالمنع صغرى وكبرى إذ التارك للفحص والعامل بالبراءة قد يكون غافلا عن الفحص ، فلا تجرّي إلاّ أن يقال : إنّه مستند إلى اختياره بعد علمه الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الشريعة ، فغفلته بعد تقصيره غير مجدية.
ص: 582
ولو سلّمنا كونه تجرّيا ، فلا دليل على حرمة التجرّي مطلقا ؛ إذ له مراتب أعلاها الإتيان بالفعل رجاء المخالفة ، ولا يبعد كونه كفرا ، وأدونها الإتيان بالفعل رجاء عدم المخالفة عند احتماله ، ولا دليل على حرمة هذا الفرد منه كما حرّر ذلك في مقامه ، وتقدّم (1) جملة من الكلام فيه في الشبهة الغير المحصورة ، فتذكّر.
و (2) أمّا الثانية (3) ، فلوجود المقتضي وفقد المانع.
أمّا الأوّل (4) ، فالأدلّة الواقعية الآمرة بالواجبات والناهية عن المحرّمات الدالّة على استحقاق المخالف لها (5) للعقاب كقوله : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (6) فإنّ صدق المخالفة عند ترك الحجّ مع الاستطاعة ظاهر ، وهو محقّق (7) للحكم باستحقاق العقاب.
وأمّا الثاني (8) ، فلأنّ المانع إمّا أن يكون هو العقل ، أو الشرع ، والكلّ منتف.
أمّا الأوّل (9) ، فليس إلاّ ما تخيّله الخصم من قبح عقاب الغافل وتعذيب الجاهل وهو ليس بشيء ؛ لأنّ العقل قاض بذلك فيما لم تكن (10) غفلته مستندة إلى تقصيره ، وأمّا إذا استند جهله إلى مقدّمات مقدورة متروكة باختياره بعد العلم الإجمالي بتحقّق واجبات كثيرة في الشريعة ومحرّمات كذلك ، فلا قبح في العقول في تعذيب المخالف كما هو ظاهر.
وأمّا الثاني ، فلعدم ما يدلّ على ذلك في الأدلّة الشرعية بل وجملة منها يدلّ على خلافه.
ص: 583
فمنها : ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في مجدور جنب ، فغسّلوه ، فكزّ ، فمات ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله عند ذلك : « قتلوه قاتلهم اللّه ألاّ سألوا ألاّ تيمّموه » (1) وصراحته في المقصود ممّا لا ينكر ؛ فإنّ إسناد القتل إلى مباشر الغسل مع ضعفه مع التوبيخ في عدم السؤال وعدم التيمّم ممّا ينادي بأعلى صوته على ترتّب العقاب عند عدم العلم وعدم السؤال.
لا يقال : التوبيخ على ترك التعلّم ، فيدلّ على وجوبه بالأصالة.
لأنّا نقول : التوبيخ على ترك التيمّم ينافيه (2) كما لا يخفى.
ومنها : رواية سماع غناء الجواري ، فإنّ في ذيلها ما يدلّ على [ عدم ] معذورية الجاهل المقصّر ، وهو قوله : « ما أسوأ حالك لو كنت تموت على هذه الحالة » ، فإنّه تخيّل عدم حرمة السماع وهو جالس على الخلاء من غير أن يذهب برجله إلى الاستماع كما يدلّ عليه قوله : وكأنّي لم أسمع بها لا من عربي ، ولا من عجمي بعد ما قرأ له الإمام عليه السلام (3) : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (4).
ومنها : رواية عمّار في التيمّم حيث قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يهزؤه : « تمعّكت كما تتمعّك الدابّة » (5) فإنّ في هذا التوبيخ والاستهزاء ما لا يخفى.
ومنها : إجماع أصحابنا على تكليف الكفّار بالفروع وعقابهم عليها ، فإنّ المسلمين ليسوا في العلم الإجمالي بالواجبات أدون من الكفّار ، فكما أنّ مصحّح العقاب على الكفّار هو العلم الإجمالي بالأحكام الفرعية مع الجهل بها تقصيرا ، فكذلك في المسلمين.
فالجهل مع التقصير والمخالفة الجهلية يصير منشأ للعقاب. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ
ص: 584
إجماع الأصحاب على عقابهم لا يحرز الاشتراط عند الشكّ في اشتراط شيء ، لأنّ الإجماع هذا إنّما هو في قبال أبي حنيفة (1) وبعض الأخباريين من أصحابنا (2) القائلين بعدم عقاب الكافر [ على الفروع ] ولو كان عالما تفصيليا ، فإجماعهم في بيان مطلب آخر لا يمكن استعلام حال الشرائط منه ؛ إذ غاية ما يستفاد منه الحكم بمساواة الكافر للمسلم ، وأمّا لو شكّ في اشتراط أصل التكليف بشيء وعدمه ، فلا بدّ من ملاحظة ذلك لمساواة الكافر للمسلم (3) في ذلك إلاّ أن يدّعى الإجماع على استحقاق الكافر للعقاب فيما لو استجمع الشرائط المعتبرة في التكليف من الأمور المتّفق عليها غير العلم
ص: 585
التفصيلي وهو بعيد.
فظهر ممّا ذكرنا دليل وجوب الفحص أيضا إذ يحتمل في كلّ مورد ترتّب العقاب ويجب دفعه بحكم العقل القاطع كما ظهر أنّ الفحص واجب شرطي يجب عند عدم الاحتياط إذ لا ضير في الاحتياط كما سبق.
ومن ذلك ينقدح أنّ الفحص ليس من شرائط اعتبار البراءة على ما يظهر من بعضهم (1) بل التحقيق أن لا مجرى للبراءة بدونه ؛ إذ دليل البراءة ليس إلاّ قبح العقاب بدون البيان.
وأمّا الأخبار ، فجملة منها (2) مفادها مثل مفاد العقل ، وبعض (3) الآخر منزّلة عليه كما مرّ ، والعقل لا يقبّح تعذيب تارك الفحص والعامل بالبراءة : فإنّ مناط حكمه بالقبح هو معذورية المكلّف ، ولا عذر عند عدم الفحص ، ولا فرق في ذلك بين ما كان في موارد العمل بالبراءة علم إجمالي كما في أمثال زماننا ، أو لم يكن ، ألا ترى أنّ الفحص في معجزة النبيّ واجب ، ولا يجوز الاتّكال على البراءة مع احتمال صدقه وإن لم يكن علم إجمالي إذ لا عذر لمن ترك النظر.
فالبراءة لا مجرى لها عند عدم الفحص ، وذلك بخلاف الاستصحاب إذ أدلّتها عقلا ونقلا جارية عند عدم الفحص ؛ لصدق الشكّ واليقين المقوّمين في معناه.
فإن قيل : إنّ أخبار البراءة أيضا بعضها لا يعتبر فيها إلاّ الشكّ وعدم العلم كقوله : « الناس فى سعة ما لا يعلمون » (4) وغير ذلك ، فلا فرق بينها وبين الاستصحاب.
قيل : قد عرفت أنّ المستفاد من مجموعها عدم العقاب على المعذور ، ولا عذر لغير المتفحّص ، وهذا هو العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة ، ويؤيّده وجوه
ص: 586
أخر أيضا كالإجماع من القائلين بها بحسب اختلاف مواردها أخباريا وأصوليا إلاّ في موارد ستعرف تحقيق القول فيه ، واستقرار عمل العقلاء على الفحص في مواردها ، ولزوم الهرج والمرج لو لاه ، والخرج من الدين على وجه لا يعدّ من المتديّنين بهذا الدين كما برهنّا (1) عليه في مقدّمات دليل الانسداد عند إبطال العمل بالبراءة.
هل المدار في الواقع الذي جعلنا العقاب دائرا مداره ما ذا؟ فهل هو الواقع في نفس الأمر ، أو ما يصل إلى أنظار المجتهدين بعد الفحص المعتبر ، أو ما يصل إلى نظر المقلّد؟
وتظهر الثمرة فيما إذا (2) انكشف اختلاف الواقع (3) مع ما وصل إلى الأنظار المسمّى بالحكم الظاهري عند بعض ، وبالواصلي عند الأخباري مثلا فيما لو كان شرب التتن في الواقع مباحا وارتكبه المكلّف ، ثمّ انكشف أنّ الحكم الظاهري بحسب ما أدّى إليه اجتهاد المجتهد كان حراما ، أو العكس ، فعلى تقدير كون المدار على الواقع الواقعي ، يعاقب عند المخالفة وإن وافق الحكم الظاهري ، وعلى تقدير كون المدار على الواقع الثانوي ، لا يعاقب على تقدير الموافقة وإن خالف الحكم الواقعي وجهان.
نعم ، في صورتي الموافقة لكلّ واحد من الحكمين ، أو المخالفة لهما لا ثمرة إلاّ نادرا كأن يكون من لوازم الواقع أو الظاهر.
وكيف كان ، فوجه الأوّل أنّ الحكم الظاهري إنّما هو مجرّد طريق إلى الواقع ولا عبرة به في شيء سوى مجرّد الطريقية ، وبعد موافقة الواقع لا ضير في مخالفة الطريق ؛ إذ لا مصلحة في الطريق سوى الوصول إلى ما هو طريق إليه والمفروض حصوله.
ووجه الثاني فلأنّ الواقع لمكان الجهل به وعدم التمكّن من العلم به - إذ المفروض
ص: 587
مخالفة ما هو طريق إليه له - مرفوع عن المكلّف ، ولا يجوز العقاب عليه ، ولك أن تقول : إنّ المدار على عدم التكليف ، فإن كان الواقع حراما ، ومؤدّى الاجتهاد أو التقليد إباحة ، فالمحكّم هو الأخذ بالطريق وعدم الحكم بكونه معاقبا ، وإن كان الواقع على الإباحة دون مؤدّى الطريق ، فالمدار على الواقع.
أمّا إذا كان الواقع على الإباحة ، فالوجه فيه ظاهر بعد ما عرفت من عدم ترتّب شيء على الطريق سوى ما يترتّب على الواقع ، وأمّا إذا كان الواقع على الحرمة دون مؤدّى الطريق ، فلأنّ شرط الحرمة الواقعية تنجّز التكليف والمفروض عدم العلم وعدم تمكّنه أيضا ، لأنّ الطريق إليه على تقدير الفحص عن الواقع مخالف له ، فلا يمكن الوصول إليه.
ويمكن الإيراد عليه بأنّ الأخذ بالطريق الظاهري في مرتبة أحد أفراد الواجب المخيّر ، وبعد تعذّر أحد أفرادي الواجبين فالباقي هو المعيّن ، ويلازمه العقاب عند التخلّف عنه.
قلت : بعد القطع بكون الأمارات المعمولة عند المجتهد طريقا إلى الواقع سواء قلنا باعتبار الظنّ المطلق ، أو لا ، فلا يعرف في ترتّب العقاب على الطريق بعد فرض المطابقة وجها عدى ما يتوهّم من عنوان التجرّي ، وقد عرفت تحقيق القول في حرمة التجرّي بما لا مزيد عليه.
هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي في الشبهات الحكمية عند عدم الفحص وإعمال البراءة ، وأمّا بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية فلا ريب في جريان البراءة في مواردها من دون لزوم الفحص فيها ، فلو شكّ في كون إناء خمرا ، أو خلاّ ، فيعمل بالبراءة من غير ملاحظة أنّه الخمر ، أو الخلّ.
ص: 588
والأصل في ذلك هو الإجماع القطعي فإنّ بناء العلماء (1) سلفا عن خلف على الأخذ بالبراءة في الشبهات الموضوعية من غير توقّف على الفحص بل ولو فيما يعلم باستكشاف الواقع عند الفحص ، ولا اختصاص لهذا الحكم بالبراءة بل يجري في جميع الأصول العملية الدائرة في الموضوعات من الاستصحاب وقاعدة اليد وأصالة الطهارة ونحوها.
مضافا إلى أخبار كثيرة :
منها : ما رواه في الكافى عن عبد اللّه بن سليمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الجبنّ قال : « كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة » (2).
ومنها : ما رواه فيه عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه (3) فتدعه » (4).
ومنها : ما رواه فيه أيضا عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد اللّه بن سنان ، عن عبد اللّه بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبنّ قال : « لقد سألت (5) عن طعام يعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهما ، فقال : « يا غلام ، ابتع لنا جبنّا » ودعى بالغداء فتغدّينا (6) معه وأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا عن الغداء ، قلت له : ما تقول في الجبنّ ، فقال لي : « أو لم ترني أكلته؟ » قلت : بلى ، ولكنّي أحبّ أن أسمعه منك ، فقال عليه السلام : « أخبرك (7) عن الجبنّ وغيره ، كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال
ص: 589
حتّى تعرف منه بعينه فتدعه » (1) إلى غير ذلك.
ولعلّ بناء العقلاء على عدم الفحص أيضا (2) ، كذا أفاد إلاّ أنّه ربّما ينافي ما قيل : من أنّ بناءهم على الاحتياط في أمور معاشهم ، فتدبّر.
والفروع المترتّبة على عدم وجوب الفحص في الموضوعات عند إعمال الأصول ممّا لا يحصى كالبناء من المرأة على عدم الحيض قبل الفحص ، والبناء على عدم الاستطاعة فيما لو شكّ في وجود مال به يستطيع ، وكالبناء على جواز الأكل قبل الفحص في ليالي رمضان ، وكالبناء على الطهارة فيما لو شكّ في حمرة أنّها الدم أو البقّم (3) ، ونحو ذلك.
نعم لبعض الأصحاب في بعض موارد الشبهة الوجوبية كلام يشعر بحكمه بوجوب الفحص في تلك الموارد دون الشبهة التحريمية مثل ما حكم به بعضهم (4) : من لزوم الفحص عن الهلال وعدم الحكم لعدم دخول الشهر الآتي ، ومثل ما حكم جملة منهم (5) بلزوم الفحص عن قدر المال فيما لو شكّ في حصول الاستطاعة بالقدر الموجود دون ما
ص: 590
إذا شكّ في أصل وجود المال ، فإنّ البناء فيه على العدم كما عرفت ، فلا بدّ من توجيه لهذه الموارد.
وغاية ما يمكن أن يقال : هو أنّ الخطاب الوارد من الشارع قد يكون معلّقا على أفراد غير محصورين كما إذا أوجب علينا إكرام العلماء وقد يكون معلّقا على أفراد محصورين ، كما إذا أوجب علينا إكرام علماء البلد.
فعلى الأوّل فقد عرفت أنّ المشكوك كونه من العلماء ملحق في الحكم بعدم الوجوب بغير العلماء ؛ لما عرفت من أنّ الحكم بالوجوب ليس بأولى من الحكم بالوجوب (1) ، لاستواء المشكوك بالنسبة إليهما.
وأمّا على الثاني ، فقد يمكن دعوى القول بأنّ العقلاء في أمثال هذه الخطابات ليس بناؤهم على الأخذ بالبراءة بل إنّما يأخذون بها بعد الفحص ، ولعلّه إليه ينظر كلام صاحب المعالم عند دعوى عدم جواز العمل بخبر المجهول من أنّ وجوب التثبّت في الآية متعلّق بوصف الفسق ، ويحتمل كون هذا الرجل فاسقا في الواقع ، ومقتضى ذلك وجوب الفحص عن وجوده وعدمه.
قال : ألا ترى أنّ قول القائل : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة [ درهما ] » يقتضي السؤال والفحص عمّن جمع هذين الوصفين لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه (2).
ويحتمل أن يقال : إنّ ذلك إنّما يدور مدار الاهتمام بوقوع المأمور به وعدمه ، والمرجع فيهما (3) عرض الخطاب على العرف ، فإن حكموا بمجرّد الخطاب على الفحص ، فهو ، وإلاّ فالإجماع على عدم وجوب الفحص في محلّه ، ثمّ (4) إن طابق ما ذكرنا للموارد المفتى بها بلزوم الفحص ، فهو ، وإلاّ فالمفتي بذلك مطالب بالدليل.
ص: 591
المقام الثاني (1)
في بيان الحكم الوضعي عند عدم الفحص والأخذ بالبراءة ، وتحقيق الكلام في ضمن مطلبين :
في المعاملات المعمولة فيها أصالة العدم قبل الفحص كما إذا شكّ في اشتراط شيء في العقد ، فأخذ بعدمه نظرا إلى أصالة العدم ، واعلم أنّ المراد بالمعاملات في المقام ما لا يجب في تحقّقه قصد القربة.
والحقّ أنّ مدار الأحكام الوضعية في المعاملات عند الأخذ بالأصول المعمولة فيها هو الواقع ، ولا يؤثّر الفحص فيها صحّة ولا فسادا ، فلو فرضنا أنّ أحدا قد اتّكل على نقل شيء بالمعاطاة تعويلا على أصالة عدم لزوم العقد في النقل والانتقال ، فلو كان الواقع على عدم الاعتبار ، فالنقل حاصل ، وإلاّ فلا أثر للفحص عن الاعتبار وعدمه فيما هو ثابت في الواقع ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون حين صدور الفعل المعاملي منه شاكّا في التأثير ، أو ظانّا ، أو قاطعا بالفساد ما لم يضرّ ذلك في تحقّق إنشاء النقل والانتقال منه إذا كان الفعل المعاملي من قبيله.
ويظهر ذلك من ملاحظة حال اللاعب بالشطرنج والنرد فإنّه مع علمه بالفساد شرعا قاصد للنقل ، وذلك ظاهر في الطهارة والنجاسة ، ولم نر في ذلك مخالفا إلاّ بعض المتأخّرين.
والوجه في ذلك هو الأخذ بعمومات أدلّة الأحكام الواقعية فإنّ ما دلّ على سببية البيع للنقل غير مقيّد بكون ذلك بعد الفحص ، فالمعاملات التي تقع بلا اجتهاد وتقليد صحّتها وفسادها وترتيب الآثار المطلوبة (2) منها من نقل ملك ، أو منفعة ، أو رفع
ص: 592
خصومة معوّضا ، أو بلا عوض وجواز الدخول معه في الصلاة وعدمه تابع لحصول حقائقها الواقعية التي تترتّب عليها تلك الآثار الواقعية وعدم حصولها ، وذلك ظاهر جدّا ؛ فإنّ تأثير الأسباب الواقعية في مسبّباتها لا يتوقّف على العلم والجهل ، بل وكيف يعقل انقلاب وصف الشيء الذي وقع عليه إلى ما يضادّه؟ ولا وجه للقول بخلاف ذلك عدا (1) ما أورده بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين في مناهجه (2) ، وهو ممّا لا وجه له ، فلاحظه.
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في صحّة المعاملة فيما لو وقعت بلا اجتهاد وتقليد ، و (3) أمّا لو وقعت على اجتهاد ، أو تقليد ، ثمّ انكشف خلاف ما ظنّه المجتهد ، فهل يحكم فيه بالصحّة ، أو بالفساد ، أو يفصّل بالنسبة إلى الآثار السابقة واللاحقة ، أو غير ذلك؟
وجوه وأقوال ستطّلع عليها ، وعلى تحقيق القول فيها في مسائل الاجتهاد والتقليد ، وليس المقام محلّه ، فانتظره إن شاء اللّه.
في العبادات التي يتمسّك فيها بأصالة البراءة ، والمراد منها ما يقابل المعاملات ممّا يحتاج في تحقّقه إلى قصد القربة ، والكلام فيه تارة يقع في صحّة العبادة المعمولة فيها أصالة البراءة من غير فحص من اجتهاد ، أو تقليد ، وأخرى في أنّ العمل المعمول فيه بتلك الأصالة بعد ما انكشف الخلاف ، هل هو صحيح ، أو فاسد؟ والمتكفّل لبيان الثاني هو مسائل الاجتهاد والتقليد.
وأمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد يتراءى في بادئ الأنظار فساد تلك العبادات نظرا إلى امتناع تحقّق قصد القربة من الشاكّ في نفس العمل بل والظانّ أيضا فيما لم يكن ظنّه معلوم الاعتبار ، فإنّ الظنّ المشكوك الاعتبار مرجعه إلى الشكّ في العمل الواقع على
ص: 593
حسب ذلك الظنّ ، ولكن لنا أن نقول بصحّة تلك العبادات وإن كان تارك التقليد والاجتهاد والاحتياط معاقبا نظرا إلى تركه الطرق الظاهرية التي يجب الأخذ بها على القول بذلك ، فتصحّ العبادة المطابقة للواقع سواء كانت بطريق الاجتهاد ، أو التقليد المعتبر ، أو الاحتياط ، أو تقليد الآباء والأمّهات أو بغير (1) ذلك ، وتبطل العبادة الغير المطابقة للواقع إلاّ أنّ للإجزاء بالفاسدة وعدم الإجزاء بها مقاما آخر ، فالمدار على الواقع صحّة وفسادا ، فلو ترك السورة في الصلاة ثمّ اجتهد ، فاعتقد وجوبها ، فلا بدّ من القضاء في خارج الوقت ، والإعادة فيه ، ولو يرى (2) عدم وجوبها ليس عليه شيء من القضاء والإعادة.
وأمّا حديث قصد القربة ، فمجرّد الشكّ في الواقع في اعتبار شيء في الصلاة مثلا لا ينافي تحقّقه ؛ إذ ليس الفاعل ملتفتا إلى ذلك بل إنّما يأخذ بأصالة البراءة وعدم الوجوب من غير رويّة ونظر تقليدا لما سلف من آبائه ، وتبعا لما وجّه من طريقة كبرائه بل ولو شئنا قلنا بذلك في المقصّر أيضا حين صدور الفعل منه فيما لو كان غافلا عن تقصيره.
نعم ، فيما لم يتحقّق الفعل بدون العلم ، فذلك مسلّم.
ولا يخفى جريان هذا الكلام فيما إذا كان الشكّ في صحّة العمل وفساده بعد وقوعه كما إذا شكّ في الشرطية والجزئية مثلا.
وأمّا إذا شكّ في واجب نفسي على وجه لا يؤتى بنفس العمل على تقدير البراءة فيه كالشكّ في وجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، فلا يجري فيه الكلام المذكور ؛ لعدم تعقّل الصحّة والفساد في العمل الذي لم يقع في الخارج كما هو ظاهر لا سترة عليه.
وكيف كان ، فالمدار في ترتّب الآثار على الأفعال والأعمال الواقعة عن آحاد
ص: 594
المكلّفين في مواردها ومواقعها وعدمه على وقوعها تامّة الأجزاء والشرائط على ما هي (1) عليها في نفس الأمر ، ولا مدخل للفحص في ذلك.
نعم ، قد يستثنى من ذلك في المعاملات إن كان الجهل وعدم الفحص مؤدّيا إلى عدم تعقّل وقوع تلك الأسباب الواقعية ، وفي العبادات ما لو أخلّ الجهل بقصد القربة وإتيان العمل بداعي الأمر وإيقاعه بعنوان الامتثال ؛ فإنّ مطابقة العمل للواقع لا يجدي في تحقّق عنوان الامتثال ، ولذلك قد حكمنا بصحّة عمل المحتاط لإحراز الواقع مع المطابقة لعنوان الامتثال أيضا ، فلو فرض تحقّق قصد القربة من العامل بالبراءة عند الشكّ مع المطابقة ، فلا مجال لإنكار صحّة العبادة بل لو استفتى من يرى عدم وجوب المشكوك من المجتهدين عن صحّة أعماله السابقة التي وقعت منه من دون اشتمالها على المشكوك اعتمادا منه في تركه على البراءة لا بدّ للمجتهد أن يفتيه بصحّة أعماله السابقة الغير المشتملة على المشكوك.
نعم ، لو كان ذلك المفتي ممّن لا يرى صحّة عبادة تارك الطريقين وإن طابقت الأعمال الواقع ، فهو يفتيه بفسادها ، وقد عرفت أنّ الكلام معه في مبنى هذه.
ص: 595
ص: 596
تمهيد مقدّمة في تقسيم المكلّف الملتفت ... 1
في القطع ... 4
تنبيهات
الأوّل في التجرّي ... 11
الثاني في القطع الحاصل من المقدّمات العقلية ... 17
الثالث في قطع القطّاع ... 27
تذييل ... 29
الرابع في العلم الإجمالي ... 31
تتمّة ... 37
في الظنّ وفيه مقامان :
المقام الأوّل في جواز التعبّد بالظنّ ... 61
المقام الثاني في وقوع التعبّد به شرعا ... 69
في حجيّة الظواهر ... 78
فوائد
الأولى في دفع توهّم عدم الثمرة في النزاع في حجيّة الظواهر القرآنية ... 93
الثانية في عدم وقوع التحريف في القرآن وعلى فرضه لا يمنع من التمسّك بظواهره ... 94
الثالثة في دفع توهّم أنّ القول بحجّية الظواهر القرآنية يلازم القول بعدم حجّيتها ... 94
ص: 597
الرابعة فيما إذا اختلفت القراءات على وجه يختلف باختلافها المعنى ... 95
في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين ... 96
القول في الإجماع المنقول... 107
تنبيهات
الأوّل في أنّه بناء على هذا المسلك لا فرق بين نقل الإجماع والشهرة ... 110
الثاني في التواتر المنقول بخبر الواحد ... 111
الثالث في جريان أحكام الخبر على الإجماع المنقول بناء على حجّيته ... 113
الرابع في أنّ الظاهر من القدماء لم يصطلحوا في الإجماع اصطلاحا جديدا ... 113
القول في الشهرة ... 115
القول في حجّية خبر الواحد ... 119
ذكر القائلين بعدم الحجّية ... 121
حجّة المانعين ... 122
الأوّل الاستدلال بالأخبار والآيات الناهيتين عن العمل بالظنّ وجوابه ... 122
الثاني الإجماع المحكي وجوابه ... 122
الثالث أصناف من الروايات والجواب عنها ... 123
قد يستدلّ على المنع بآية النبأ ... 126
حجّة المجوّزين ... 126
الثالث من وجوه تقرير الإجماع طريقة العقلاء على العمل بخبر الواحد ... 147
الرابع من وجوه تقرير الإجماع هو إطباق أصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد 150
كلام الشيخ في الأدلّة المذكورة كتابا وسنّة وإجماعا ... 151
الكلام في آية النبأ ... 151
الكلام في الأخبار ... 152
ص: 598
الكلام في الإجماع ... 153
الاستدلال بالعقل وفيه مقامان :
المقام الأوّل في بيان الأدلّة التي تدلّ على حجيّة أخبار الآحاد بالخصوص ... 156
منها : العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار عن الأئمّة عليهم السلام وشدّة اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار 156
المناقشة فيه ... 157
منها : ما استند إليها الفاضل التوني ... 159
المناقشة فيه ... 160
منها : ما أفاده صاحب هداية المسترشدين ... 162
المناقشة فيه ... 162
المقام الثاني في بيان الوجوه التي تعمّ الخبر من الأدلّة الأربعة وهي أربعة :
الأوّل وجوب دفع الضرر المظنون ... 165
المناقشة فيه بوجوه :
الوجه الأوّل ما أورده الحاجبي والجواب عنه ... 166
الوجه الثاني ما ذكره صاحب الفصول والجواب عنه ... 167
الوجه الثالث ما أفاده المحقّق في المعارج والجواب عنه ... 167
عدم ترتّب النتيجة المطلوبة من اعتبار كلّ ظنّ ومطلق المظنّة ... 174
الثاني من الوجوه العقلية على التعميم قبح ترجيح المرجوح ... 175
جواب صاحب هداية المسترشدين عنه والمناقشة فيه ... 176
التحقيق في الجواب ... 177
الثالث من الوجوه العقلية على التعميم ما ذكره صاحب الرياض والمناقشة فيه ... 177
الرابع من الوجوه العقلية دليل الانسداد ... 179
ص: 599
مقدّمات دليل الانسداد ... 179
المقدّمة الأولى انسداد باب العلم بالمعنى الأعم في معظم الأحكام الشرعية مسند ... 180
المقدّمة الثانية أنّه تعالى لم يتركنا سدى وليس حالنا حال البهائم ... 182
المقدّمة الثالثة أنّ المرجع بعد الانسداد في معظم الأحكام ليس البراءة والدليل عليها وجوه 182
الأوّل الإجماع القطعي ... 182
الثاني لزوم المخالفة القطعية ... 182
الثالث لا دليل على اعتبار الأصل فيما لو خالف العلم الإجمالي ... 186
المقدّمة الرابعة أنّ المرجع بعد الانسداد ليس الاحتياط ، والدليل عليها وجوه ... 189
الأوّل الإجماع القطعي ... 189
الثاني لزوم العسر والحرج ... 189
الثالث عدم لزوم تحصيل الموافقة القطعية بل يكفي عدم لزوم المخالفة القطعية وهو يحصل بالعمل بسلسلة المظنونات ، فلا وجه للاحتياط ... 194
الرابع قد لا يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين المتباينين سيّما في الموضوعات ... 194
الخامس أنّ الاحتياط قد يؤدّي إلى ترك الاحتياط ... 195
بطلان المقدّمة الخامسة بأنّ المرجع بعد انسداد باب العلم ليس إلى الأصول الجزئية في الموارد الجزئية 200
تنبيهات :
التنبيه الأوّل أنّ نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الشرعية وفي الطرق إليها 205
ذكر ادلّة القائلين بأنّ النتيجة اعتبار الظنّ في الطرق إلى الأحكام فقط ... 206
ذكر كلام صاحب الفصول ... 206
ص: 600
المناقشة فيه ... 208
ذكر كلام صاحب هداية المسترشدين ... 223
الجواب عنه ... 224
وجهان آخران أيضا لصاحب هداية المسترشدين ... 227
الوجه الأوّل منهما ... 227
الجواب عنه ... 229
الوجه الثاني منهما ... 230
المناقشة فيه ... 231
ذكر كلام المشهور القائلين باعتبار الظنّ في الفروع فقط والمناقشة فيه ... 231
التنبيه الثاني هل نتيجة دليل الانسداد عامّة كلّية أو مطلقة مهملة ... 232
تقرير دليل الانسداد على وجه الحكومة - كما هو الحقّ - فالنتيجة كلّية ... 233
تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف فالنتيجة مهملة ... 234
التحقيق في تقرير دليل الانسداد هو الحكومة ... 234
أمور تدلّ على التعميم على الكشف :
الأوّل قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح والمناقشة فيها ... 235
كلام المحقّق النراقي في تقديم مظنون الاعتبار بين سلسلة الظنون ... 239
المناقشة فيه ... 241
مسلك آخر في بيان عدم حجيّة مطلق الظنّ ... 245
المناقشة فيه ... 246
الثاني من المعمّمات الإجماع المركّب والمناقشة فيه ... 250
الثالث منها قاعدة الاشتغال ... 250
المناقشة فيها ... 251
ص: 601
الرابع منها قاعدة عدم الكفاية ... 252
المناقشة فيها ... 253
وجه آخر لبعض المتأخّرين في بيان عدم الكفاية والتعميم به والمناقشة فيه ... 254
تمسّك بعض من لا دربة له في التعميم ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 255
والذي ينبغي أن يقال في وجه التعميم على تقدير الإهمال في النتيجة ... 255
بناء على الحكومة هل العقل ابتداء يحكم بحجيّة الظنّ من غير ملاحظة مقدّمة أخرى أو يحتاج في الحكم بالتعميم إلى ملاحظة مقدّمة أخرى لبطلان الترجيح بلا مرجّح ... 261
الحقّ هو الثاني ... 261
التنبيه الثالث أنّ قضية الدليل على تقدير التعميم عدم الفرق بين خصوصيات الظن من جهة الأسباب مع أنّ هناك أمورا لا يجوز الاستناد إليها كالقياس وأضرابه ... 265
تمهيد مقدمة في عدم جواز تخصيص الدليل الحقيقي ... 266
الكلام يقع في جهتين :
الجهة الأولى في كيفية خروج القياس وأضرابه ... 268
لا إشكال في خروج القياس على تقدير الكشف ... 268
توجّه الإشكال على تقدير الحكومة ... 270
وجوه لدفع الإشكال :
الأوّل ما أفاده المحقّق القمي من منع حصول الظنّ من القياس وأشباهه ... 270
المناقشة فيه ... 271
الثاني ما التزم به المحقّق القمّي أيضا من جواز العمل بالقياس حال الانسداد فيما إذا أفاد الظنّ 272
المناقشة فيه ... 274
الثالث ما استند إليه المحقّق القمّي أيضا من أنّ باب العلم في مورد القياس ليس
ص: 602
بمنسد والمناقشة فيه ... 275
الرابع ما تكلّفه المحقّق القمي أيضا والمناقشة فيه ... 275
الخامس ما أفاده صاحب هداية المسترشدين من أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ ليس حكما أوّليّا واقعيا بل هو حكم ظاهري ثانوي 276
المناقشة فيه ... 277
السادس ما أفاد أستاذنا المرتضى دام علاه من أنّ حكم العقل بوجوب الأخذ بالظنّ من حيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، وأنّ مناط حكم العقل ليس موجودا في الظنون القياسية وأشباهها ... 280
مناقشة الشيخ فيه ... 280
السابع ما أفاده الأستاد أيضا من أنّ حكم العقل بحجّية الظن إنّما هو بواسطة نيل المكلّف بالمصالح الكامنة وأنّ ذلك إنّما هو فيما لم يكن في سلوك سبيل الظن مفسدة فائقة على مصلحة الواقع ... 281
المناقشة فيه ... 281
الجهة الثانية في تشخيص الخارج من الظنّين عند تدافعهما ... 284
التنبيه الرابع من أنّ الظنّ في الموضوعات حجّة بعد القول بحجيّة مطلق الظنّ ... 284
التنبيه الخامس في عدم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا دخل للأحكام الشرعية فيها مطلقا 285
أمور خاصّة يجوز الرجوع فيها إلى الظنّ ... 287
الأوّل أنّ الظنّ فيها يستلزم الظنّ في الحكم الكلّي الفرعي كالظنون الرجالية ... 287
الثاني في الموارد التي لو لم يعمل فيها بالظنّ يلزم إبطال الحقوق وتعطيل السوق ... 289
منها العدالة على القول بكونها ملكة راسخة نفسانية ... 289
منها الضرر ... 289
ص: 603
التنبيه السادس في حجيّة الظنّ في أصول الفقه ... 290
التنبيه السابع هل يعتبر الظنّ في أصول الدين؟ ... 293
تحقيق المقام في طي مقامات :
المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ أو لا يجب؟ ... 294
التحقيق عدم وجوب تحصيل الظنّ ... 294
المقام الثاني فيما لو أمكن له تحصيل العلم بعد إفراغ الوسع هل يجوز الاكتفاء بالظنّ أو لا؟ 300
التحقيق عدم الاكتفاء بالظنّ لوجوه :
الأوّل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ... 300
الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ... 300
الثالث الأدلّة الآمرة بالشهادة ... 300
الكلام في حكمه الوضعي ... 301
التنبيه الثامن في أنّه على القول بعدم حجّية الظنّ فهل له آثار أخر؟ ... 301
تمهيد مقدّمة في المراد من الجبر والتعاضد والترجيح والوهن ... 301
تنقيح الكلام في طي مقامات :
المقام الأوّل في أنّ الظنّ الذي لم يعلم اعتباره يمكن أن يكون جابرا للسند فيما إذا كان الكسر فيه أو للدلالة أم لا؟ 303
ففيه جهتان :
الجهة الأولى في الجبر في السند ... 303
الجهة الثانية في الجبر في الدلالة ... 304
المقام الثاني في أنّ الظنّ على احتماليه يمكن أن يكون موهنا لدليل على وجه يخرجه عن الحجّية ، أو لا؟ 307 - 308
ص: 604
المقام الثالث في التعاضد ... 313
المقام الرابع في الترجيح ... 313
في الترجيح بالظنون التي قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس ، الحقّ عدم كونه مرجّحا... 314
في ترجيح الظنون المشكوكة كالشهرة وأمثالها ... 318
فهنا مقامان :
المقام الأوّل في ترجيح الدلالة بالظنّ المطلق ... 318
المقام الثاني في ترجيح السند بظنون غير معتبرة ... 320
تذنيب ... 324
مباحث الأصول العملية
البراءة والاشتغال
(1) أصل في الأصول العقلية
البراءة العقلية ... 328
قاعدة الاشتغال ... 332
أصالة التخيير ... 337
(2) أصل في البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ... 341
الشبهة الوجوبية من جهة فقد النصّ ... 341
1 - الاستدلال بآية ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ... 341
2 - الاستدلال بالإجماع ... 342
3 - الاستدلال بالعقل ... 343
يقرّر بوجهين :
ص: 605
الأوّل ... 343
الثاني ... 343
الشبهة الوجوبية من جهة إجمال النصّ ، فهو مثلها ... 349
الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصّين ... 349
(3) أصل في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية ... 351
الشبهة التحريمية من جهة فقد النصّ أو إجماله ... 351
1 - الاستدلال بالكتاب :
الاستدلال بآية التعذيب ... 352
الاستدلال بآية ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) ... 353
الاستدلال بآية ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ... 353
2 - الاستدلال بالإجماع ... 353
3 - الاستدلال بالأخبار :
الاستدلال بحديث « ما حجب اللّه علمه عن العباد »... 353
الاستدلال بحديث « الناس في سعة ما لم يعلموا » ... 355
الاستدلال بحديث « رفع عن أمّتي تسعة » ... 355
الاستدلال بحديث « كلّ شيء مطلق » ... 358
الاستدلال بحديث « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال » ... 359
الاستدلال على البراءة بوجوه ضعيفة ... 367
الاستدلال بآية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ ) ... 367
استدلال الأخباري على الاحتياط :
1 - الاستدلال بالكتاب فصنفان :
الف : الاستدلال بالآيات الآمرة بالتقوى ... 368
ص: 606
ب : الاستدلال بالآيات الآمرة بالوقوف ... 369
2 - الاستدلال بالأخبار فصنفان :
الف : أخبار الاحتياط ... 369
ب : أخبار التوقف ... 369
3 - الاستدلال بالعقل ويقرّر بالوجهين ... :
الأوّل : دفع احتمال الضرر ... 370
الثاني : الاحتياط في موارد الشبهة ... 371
الجواب عن أدلّة الأخباريين :
الجواب عن آيات التقوى ... 372
الجواب عن آيات الوقوف ... 373
الجواب عن أخبار الاحتياط ... 373
الجواب عن أخبار التوقّف ... 376
الجواب عن دليل العقل :
الجواب عن التقرير الأوّل ... 384
الجواب عن التقرير الثاني ... 384
تنبيهان :
الأوّل في التفصيل المنسوب إلى المحقّق الحلّي ... 387
الثاني في عدم جريان البراءة عند وجود الاستصحاب أو أصل آخر أخصّ منها ... 389
حكم الشهيد الثاني بطهارة الحيوان المتولّد من الحيوانين وحرمته ... 391
توجيه كلامه والمناقشة فيه ... 391
توجيه آخر لكلامه والمناقشة فيه ... 394
(4) أصل في دوران الأمر بين المحذورين ... 395
ص: 607
الشبهة الحكمية التكليفية بين المتباينين من جهة فقد النصّ أو إجماله الكلام فيه في مقامات أربع :
المقام الأوّل في اللاحرجية العقلية ... 395
المقام الثاني في التخيير أو الترجيح ... 400
المقام الثالث في كون التخيير بدويا أو استمراريا ... 403
المقام الرابع في كون التخيير أصوليا أو فقهيا ... 406
تنبيهات :
الأوّل اتفاق الكلّ من الأصوليين والأخباريين على البراءة في الشبهة الوجوبية فيما دار الأمر بين المتباينين 408
الثاني الكلام في دوران الأمر بين المحذورين فيما إذا لم يكن أحدهما مسبّبا عن الآخر ... 409
الثالث يستفاد ممّا سبق حكم ما إذا دار الأمر بين الحرام والاستحباب أو الكراهة و... 409
(5) أصل في الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية ... 411
(6) أصل في اشتباه الواجب بالحرام ... 419
(7) أصل في الشبهة الموضوعية الوجوبية من الشك في المكلّف به ... 425
تنبيهات :
الأوّل لو أتى المكلّف بواحد من المحتملات وصادف الواقع فهل هو معاقب في تركه الاحتمالات الأخر أو لا؟ 431
الثاني عدم لزوم قصد إتيان الجميع عند الإتيان بواحد من المحتملات فيما لو كان المردّد واجبا توصّليا ، ولزومه فيما لو كان تعبديا 432
الثالث هل اللازم عند اشتباه القبلة إتيان احتمالات الظهر بتمامها قبل احتمالات العصر... 434
الرابع لو امتنع الإتيان بتمام المحتملات فهل يجب الاحتياط في المحتملات المقدورة أو تنقلب الشبهة التكليفية ويؤخذ بالبراءة؟ 436
ص: 608
(8) أصل في الشبهة الموضوعية التحريمية من الشك في المكلّف به ... 445
الكلام في الشبهة المحصورة
تحقيق الكلام في الموردين :
المورد الأوّل هل يجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع ، أو لا يجوز؟ ... 445
الحقّ هو الثاني لوجوه :
الأوّل الإجماع ... 446
الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب الموافقة القطعية ... 446
الثالث ما ذكره صاحب الفصول والمناقشة فيه ... 446
يمكن الاستدلال للقائل بجواز المخالفة بوجهين :
الأوّل الأصل ... 447
الثاني الأخبار الدالّة على جواز الارتكاب في الشبهات الموضوعية ... 448
الجواب عن الأوّل ... 448
الجواب عن الثاني ... 451
المورد الثاني في أنّه هل يجب الموافقة القطعية بعد ما عرفت من حرمة المخالفة القطعية ، أو لا؟ 454
التمسّك بالأخبار لا وجه له ... 455
تجشّم بعضهم في أنّ ارتكاب الباقي مقدّمة لتحصيل العلم في المحرّم ... 460
اعتراض صاحب الفصول عليه ... 460
المناقشة فيه ... 460
الاستدلال على لزوم الموافقة القطعية ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 462
دعوى الاستقراء من صاحب الحدائق والمناقشة فيه ... 462
الاستدلال بالأخبار الواردة في موارد خاصّة ولو بعد تنقيح مناطها على حرمة الارتكاب :
ص: 609
منها : صحيحة زرارة « تغتسل من ثوبك ... حتى تكون على يقين » ... 462 - 463
منها : « ما اجتمع الحلال والحرام ... » ... 463
منها : « اتركوا ما لا بأس به ... » ... 464
منها : خبر سماعة عن الصادق عليه السلام : « من يريقهما جميعا ويتيمّم » ... 464 - 465
منها : عن المحاسن عن أبي الجارود ... 465
منها : أخبار القرعة ... 465
الجواب عن الرواية الخاصّة ... 466
الجواب عن أخبار القرعة ... 466
الجواب عن أخبار أخر تدلّ بظاهرها على عدم وجوب الاجتناب ... 467
تنبيهات :
الأوّل وجوب الإتيان بالمحتملات إنّما هو وجوب عقلي لا شرعي ... 468
الثاني الفرق بين الأوامر والنواهي ... 469
الثالث وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا صحّ التكليف بالأطراف منجزا وإلاّ فلا يجب 470
تفصيل صاحب الحدائق بين كون المشتبهين مندرجين تحت ماهيّة واحدة وغيره والمناقشة فيه 472
فروعات المسألة ... 473
الرابع الثابت في المشتبهين وجوب الاجتناب دون سائر الآثار الشرعية ... 475
كلام المحدّث البحراني في نجاسة الملاقي والمناقشة فيه ... 476
الخامس هل الحكم بوجوب الاجتناب يخصّ ما إذا اجتمعت أطراف الشبهة في الوجود أو يعمّها؟ 480
السادس لا فرق بين المشتبهين الذين يجمعهما عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة
ص: 610
الشرعية وبين المختلفين اللذين لا يجمعهما عنوان تفصيلي ... 481
السابع التسوية بين كون الاستصحاب في كلّ واحد من المشتبهين هو الحلّ أو الحرمة ... 482
الثامن في اشتباه أحد الأطراف بسلسلة أخرى ... 483
التاسع لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب أحد الأطراف فهل يجب الاجتناب عن الباقي أم لا ، أو التفصيل 483
العاشر لو حدث حادث في أحد الأطراف فهل يجب الاجتناب ، أو لا؟ ... 484
الحادي عشر في الشبهة غير المحصورة في مقامات : ... 484
المقام الأوّل في موضوعها ... 484
المقام الثاني في أنّه هل يجب الموافقة القطعية فيها ، أو لا؟ ... 488
الحقّ عدم الوجوب للأدلّة الأربعة :
الآيات الدالّة على عدم جعل الحرج في الدين ، والتقريب بوجهين ... 488
الأوّل والمناقشة فيه ... 489
الثاني ... 489
الاستدلال بالأخبار فصنفان :
الأوّل ما بخصوصه يدلّ على الجواز ... 491
الثاني ما بعمومه وإطلاقه يدلّ على الجواز ... 491
الاستدلال بالإجماع ... 491
الاستدلال بالعقل ... 492
المقام الثالث في أنّه هل يجوز المخالفة القطعية ، أو لا؟ ... 493
(9) أصل في دوران الأمر بين الواجب والحرام من الشك في المكلّف به ... 495
(10) أصل في الشبهة الوجوبية الحكمية من الشك في المكلّف به فيما دار الأمر
ص: 611
بين المتباينين ... 497
الكلام فيها في مقامين :
المقام الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه ... 498
المقام الثاني في وجوب الموافقة وعدمه ... 503
بعض الوجوه التي قد يستند لوجوب الموافقة كما هو الحقّ :
منها : استصحاب التكليف والمناقشة فيه ... 503
منها : قاعدة اشتراك التكليف والمناقشة فيها ... 504
منها : استصحاب الاشتغال والمناقشة فيه ... 504
قد يستدلّ في المقام بأخبار الاحتياط ... 506
تنبيه في تصوير العلم الإجمالي على ثلاث صور ... 508
(11) أصل في الشبهة التحريمية الحكمية فيما شكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين 511
(12) أصل في الشبهة الحكمية عند الشك في المكلّف به فيما دار الأمر بين المحذورين في المتباينين 513
(13) أصل في الشبهة الوجوبية الحكمية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين 515
المراد بالأقلّ والأكثر الارتباطيين ... 515
المشهور بين الفقهاء البراءة ... 515
اضطراب كلام الشهيد الأوّل في ذلك ... 515
ذهاب جماعة إلى لزوم الاحتياط ... 516
احتمال الفرق بين الأجزاء والشرائط فبالاحتياط في الثاني ، وبالبراءة في الأوّل ... 516
التفصيل هذا ربّما يخالف التفصيل في الصحيح والأعمّ ... 516
ص: 612
الاستدلال على الاحتياط والمناقشة فيه ... 521
المنصور عندنا مذهب المشهور وهو البراءة ... 522
تحقيق المقام يقتضي رسم أمور :
الأوّل في أنّ الداعي إلى امتثال أوامر المولى دفع خوف العقاب ... 522
الثاني في عدم الفرق بين الواجب النفسي والغيري في جريان البراءة ... 523
الثالث في أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف فيما لو لم يكن في أحد الأطراف ما يقضي بارتفاع التكليف الفعلي عنه بالخصوص 524
الاستدلال على البراءة ... 525
المانع من القول بالبراءة عند الشك في جزئية شيء أن يكون أحد الأمور الثلاثة فها هنا مقامات ثلاث :
المقام الأوّل امتناع جريان البراءة في الأجزاء باختصاص دليلها بغيرها ... 527
المقام الثاني معارضة الأصل بمثله بعد القول بجريانه ... 529
الجواب عن ذلك ... 530
المقام الثالث : عدم الجدوى فيه على فرض الجريان وعدم المعارضة ... 532
الجواب عن ذلك ... 533
تأييد البراءة ببناء العقلاء ... 536
تمسّك القائل بالاشتغال ببناء العقلاء والمناقشة فيه ... 537
احتجّ القائل بالاشتغال بوجوه ... 538
الكلام في الشرائط وجريان البراءة فيها ... 539
تفسير معنى الشرط ... 539
ذكر استدلال للاشتغال والمناقشة فيه ... 541
إذا دار الأمر بين المطلق والمقيّد هل يحكم بالبراءة عن المقيّد؟ الأقوى جريان
ص: 613
البراءة ... 541
الكلام في الموانع والقواطع وجريان البراءة فيهما ... 544
تفسير معنى المانع والقاطع والفرق بينهما ... 545
الاستدلال باستصحاب الصحّة والمناقشة فيه ... 545
تنبيهات :
الأوّل في الشكّ في الركنية ... 549
تحديد الركن ... 549
في المقام صور ثلاث :
الصورة الأولى في ترك الجزء سهوا ... 550
الكلام في مقتضى الأصل الأوّلي وهو الفساد ... 550
مقتضى الأصل الثانوي هو الصحّة ... 553
الاستدلال باستصحاب الصحّة والمناقشة فيه ... 553
الاستدلال بحديث الرفع ... 553
الصورة الثانية في الزيادة عمدا ... 557
الصورة الثالثة في الزيادة سهوا ... 558
التنبيه الثاني إذا تعذّر الجزء أو الشرط هل يسقط التكليف بالكلّ؟ ... 559
تحقيقه في مقامين :
المقام الأوّل هل الأصل الأوّلي بمعنى أحد الأصول العملية يقضي بالأوّل أو الثاني؟ ... 559
المقام الثاني هل في المقام ما يقضي من الأدلّة العامّة والقواعد الكلّية؟ ... 561
الاستدلال بالروايات الثلاثة : الميسور لا يسقط بالمعسور و... 561
التحقيق هو الأخذ بعموم هذه الروايات في الأجزاء والشرائط ... 567
تذنيب : إذا دار الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط ... 573
ص: 614
التنبيه الثالث إذا دار الأمر بين الجزئية والشرطية ... 574
خاتمة في بيان شرط العمل بالأصول وهو الفحص ... 575
إيراده في المقامين :
المقام الأوّل في عدم وجوب الفحص في محلّ الاحتياط في الجملة ... 575
الإجماع على عدم جواز الاحتياط قبل الفحص في العبادات فيما إذا تكرّر العمل ... 576
المشهور على وجوب الفحص في العبادات الغير المتكرّرة والتحقيق خلافه ... 577
ما يمكن أن يقال انتصارا للمشهور ... 577
الجواب عنه ... 578
المقام الثاني في وجوب الفحص عن الدليل عند إعمال البراءة ... 580
تحقيق الكلام فيه في موردين :
الأوّل في أنّ تارك الفحص والعامل بالبراءة عند ذلك هل هو معاقب ، أو لا؟ ... 580
هنا أقوال ثلاثة والتحقيق التفصيل بين ما إذا طابق الواقع فلا عقاب وبين ما إذا خالف فيعاقب على المخالفة 581
التحقيق أنّ الفحص ليس من شرائط اعتبار البراءة بل هو من مقوّماته ... 586
فرع : ما المراد من الواقع الذي جعلنا العقاب دائرا مداره؟ ... 587
عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية ... 588
الثاني في بيان الحكم الوضعي عند عدم الفحص والأخذ بالبراءة ... 592
تحقيق الكلام في ضمن مطلبين :
الأوّل في المعاملات المعمولة فيها أصالة العدم قبل الفحص ... 592
الثاني في العبادات التي يتمسّك فيها بأصالة البراءة ... 593
ص: 615