مطارح الأنظار المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

المحقق: مجمع الفكر الإسلامي

الناشر: مجمع الفكر الاسلامي

المطبعة: شريعت

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-5662-51-6

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الثاني

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 1

اشارة

ص: 2

المكتبة الإسلامية

مطارح الأنظار

تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري

تأليف: العلامة المحقق الميرزا أبوالقاسم الكلانتري الطهراني

(1236-1292ه)

الجزء الأوّل

تحقيق: مجمع الفكر الإسلامي

ص: 3

سرشناسه : كلانتری نوری ، ابوالقاسم بن محمد علی

محل نكهداری نسخه : قم

مركز نگهدارنده نسخه : كتابخانه زنجانی (آیة اللّه)

شماره بازیابی نسخه : 39

عنوان و نام پدیدآور : مطارح الانظار[نسخه خطی]

وضعیت استنساخ : رجب 1283

یادداشت كلی : آغاز كتاب: الحمدلله رب العالمین .. القول فی الاستصحاب و تحقیق المقصود فیه فی طی هدایات انجام كتاب: علی القول بالتصویب و یظهر من بعضهم بالتبعیض مطلقاً و لاوجه كما عرفت. مباحث ظن تاریخ تالیف:1246 ق. تدوین و گردآوری: موسسه فرهنگی پژوهشی الجواد

یادداشت مشخصات ظاهری : خط: شكسته نستعلیق

خصوصیات نسخه موجود : مقابله شده با نسخه اصل. با مهر كتابخانه حاج شیخ فضل اللّه نوری. در آغاز و انجام

منابع اثر، نمایه ها، چكیده ها : منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: الذریعة136/21 و369/4 و 513/28 منابع كتابشناسی: مرعشی9/9 و 184/28و 185/28 و 126/31 و 252/31 منابع كتابشناسی: مجلس424/25 منابع كتابشناسی: مشارعربی/875 منابع كتابشناسی: فهرست آستان قدس 81/6 و 404/16 و 436/16-438 منابع كتابشناسی: معجم المؤلفین 120/8 منابع كتابشناسی: بیروت، داراحیاء التراث العربی منابع كتابشناسی: الذریعة 136/21 منابع كتابشناسی: آیة اللّه زنجانی ص 203 منابع كتابشناسی: عكسی مركز احیاء میراث 213/5 و 351/5 منابع كتابشناسی: ذریعه 136/21 شماره 4305 منابع كتابشناسی: التراث العربی 119/5 منابع كتابشناسی: كتابخانه مدرسه آخوند ص 1361 منابع كتابشناسی: مجلس شورا 564/23 و425/16 و 667/23 و 114/26 و 424/25-426 منابع كتابشناسی: نامه دانشوران 472/1 منابع كتابشناسی: مكتبة امیرالمؤمنین 322/4 منابع كتابشناسی: شورا 150/24/2 منابع كتابشناسی: سید محمد باقر طباطبائی ص40و 41 منابع كتابشناسی: الذریعة: 107/6 منابع كتابشناسی: ریحانة الادب: 244/5 منابع كتابشناسی: آغاز نامه: 459/1. ماخذ: آشنائی با چند نسخه خطی

یادداشت باز تكثیر : بیروت، دار احیاء التراث العربی؛ مشار عربی 875 ؛ دارالخلافه طهران ، سنگی ، 1308 ، رحلی ، بدون شماره صفحه . و در تهران 1308و 1314 به همراه تقلید المیت و الاعلم حبیب اللّه رشتی چاپ سنگی شده و اخیرا به تحقیق علی قاضلی در قم 1386-1383 به چاپ رسیده.

معرفی نسخه : معرفی كتاب: تقریراتی است كه مرحوم كلانتر از درس اساتید خود تحریر نموده است . این تقریرات از دروس شیخ انصاری و میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر گردیده است . با عناوین <هدایة -هدایة> تنظیم شده و پس از مؤلف فرزندش <میرزا ابوالفضل كلانترتهرانی> آنها را جمع آوری و بدین نام موسوم گردانیده است . مطارح الانظار درتهران به صورت چاپ سنگی در307 صفحه رحلی درسال 1308 ق به چاپ رسیده ، ولی ناشر تصرفاتی در اصل كتاب داده ، و بخش قطع و ظن و برائت و استصحاب را به استناد آنكه نظرات شیخ انصاری دراین مسائل دركتاب رسائل بیان گردیده ، چاپ نكرده و از مسئله اجتهاد و تقلید بحث تقلید میت و اعلم راچاپ نموده است . نسخه حاضر پنج بخش از مطارح را شامل است . سه بخش اول همان است كه در مطارح الانظار چاپی به چاپ رسیده و از تقریرات درس شیخ انصاری است . اما بخش پنجم و چهارم چاپ نشده ومؤلف د رپایان بخش چهارم ، تصریح نموده كه این بخش از تقریرات درس میرزا حبیب اللّه رشتی تحریر شده است . بخش پنجم نیز گویا از تقریرات درس رشتی است . ترتیب و عنوان بخشهای كتاب چنین است : 1- مسالة الاجزاء بسمله هدایة اختلفوا فی ان الاتیان بالمامور به علی وجهه 1-33 2- مقدمة الواجب : بسمله القول فی وجوب مقدمة الواجب وتحقیق الكلام 34-132 3- الضد ، بسمله القول فی ان الامر بالشی هل یقتضی النهی عن ضده اولا 132-158 4- الاجتهاد والتقلید ( تقریرات درس شیخ حبیب اللّه رشتی ) آغاز حمدله وبعد اختلف بعد اتفاقهم علی جواز التقلید عند تعذر العلم 163-215 5- الاستصحاب ، آغاز : حمدله القول فی الاستصحاب وتحقیق المقصود فیه فی طی هدایات 221-445

عنوان افزوده توسط فهرستنو یس : التقریرات attaqrīrāt

موضوع های كنترل نشده : اصول فقه

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

ص: 6

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المفهوم والمنطوق

اشارة

ص: 7

ص: 8

وتحقيق المطلب في طيّ هدايات :

هداية

في بيان امور ترتبط بالمقام :

الأوّل : الظاهر من موارد إطلاق اللفظين في كلمات أرباب الاصطلاح أنّهما وصفان منتزعان من المدلول ، لكن من حيث هو مدلول ، فنفس المعنى مع قطع النظر عن كونه مدلولا لا يتّصف بشيء منهما. ولا يقاس بالكلّية والجزئيّة ؛ لظهور اتّصاف المعنى بهما من حيث هو. ويشعر بذلك الحدود الآتية ، سيّما مع تفسير جماعة منهم الموصولة الواقعة فيها ب- « الحكم » ونحوه ، فإنّ الدلالة لا تعرّف بالحكم.

خلافا لظاهر العضدي (1) تبعا للحاجبي (2) وللمحكيّ عن الشهيد الثاني (3) ، حيث جعلوهما من الأوصاف الطارئة للدلالة. ولا وجه لذلك.

وأمّا ما قيل : من أنّ تقسيم الدلالة إليهما يدلّ على ذلك. ففيه : أنّ التقسيم المذكور لم نعثر عليه في كلام من يرى أنّهما من الأوصاف المنتزعة من المدلول. نعم ، عدّهم دلالة الإشارة من المنطوق دليل عليه. والظاهر إرادة دخول مدلولها فيه.

ص: 9


1- انظر شرح مختصر الاصول : 306.
2- انظر شرح مختصر الاصول : 306.
3- تمهيد القواعد : 108 ، وحكاه عنه وعمّا قبله في إشارات الاصول ، الورقة : 233.

وربّما يستشهد له أيضا بقولهم : هل المفهوم حجّة أو لا؟ حيث إنّه لا يعقل حجيّة المدلول بعد ثبوته.

وفيه : أنّه لا يعقل حجيّة (1) الدلالة بعد ثبوتها ، فالكلام على التقديرين في نفس الثبوت.

وأمّا كونهما من عوارض الدالّ - كالأوصاف اللاحقة للألفاظ من العموم والخصوص والحقيقة والمجاز ونحوها - فممّا لم يذهب إليه وهم ، ولا يساعده موارد استعمالهم لهما أيضا.

الثاني : أنّ مقتضى الحصر بين الدلالات انحصار استفادة المدلول فيها. وهل المدلول منحصر في المفهوم والمنطوق أو لا؟ ظاهر الأكثر - كما يظهر من الحدود الآتية - هو الأوّل ؛ لاعتبارهم النفي والإثبات فيهما.

ويظهر من محكيّ النهاية ثبوت الواسطة (2) ، حيث جعل الإيماء والإشارة قسما ثالثا ، مع أنّ المشهور دخولهما في المنطوق ، خلافا للتفتازاني حيث جعلهما من المفهوم (3).

فإن أرادا بذلك جعل اصطلاح جديد فلا ينبغي التشاحّ. وإن أرادا بيان ما هو المصطلح فالظاهر خلافه ، كما يظهر بالرجوع.

ثمّ إنّ المداليل المفردة ليست من المنطوق ، كما أنّ لوازمها العقليّة أو غيرها ليست من المفهوم ، فإنّ المقسم فيهما هو المدلول المركّب ، فلا يختلّ الحصر ، كما لا يخفى.

ص: 10


1- في ( ع ) زيادة : « ثبوت ».
2- نهاية الوصول : 200.
3- حاشية التفتازاني المطبوع مع شرح العضدي 2 : 171 - 172.

الثالث : الظاهر في مصطلحهم دخول المدلول المطابقي في المنطوق قطعا.

وأمّا التضمّني ، فظاهر الأكثر أيضا أنّه من المنطوق وإن وقع الخلاف (1) في صراحته. لكن لازم من زعم أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على الحكم المفهومي إنّما هو بالتضمّن انقسامه إليهما.

وأمّا الالتزامي ، فعن بعض الأفاضل كونه مفهوما مطلقا (2). ولازمه عدّ دلالة الأمر على الوجوب ووجوب المقدّمة وحرمة الضدّ من المفهوم ، فضلا عن مثل دلالة الإيماء والإشارة والتنبيه.

وحيث إنّ المرجع في تشخيص هذه الامور الاصطلاحيّة - كما تقدّم - هو الرجوع إلى كلماتهم ، فالظاهر أنّ المقسم هو مطلق المدلول ، لكنّ المدلول المطابقي والتضمّني لا يكون إلاّ منطوقا ، والمدلول الالتزامي ينقسم إليهما. فتقسيم المداليل الثلاثة إلى القسمين باعتبار التوزيع والتداخل.

ثمّ إنّ الظاهر من كلماتهم أيضا أنّ التمييز بين القسمين ليس باعتبار الحيثيّات والاعتبارات ، بل هما تعبيران عن معنيين ممتازين في الواقع لا يتداخل أحدهما في الآخر. فما يظهر من بعضهم : من أنّ آيتي « الحمل » (3) و « التأفيف » (4) يحتمل جعل مدلولهما من المنطوق باعتبار ومن المفهوم باعتبار آخر - كما ستعرف - لا وجه له.

ص: 11


1- راجع هداية المسترشدين 2 : 412 ، والقوانين 1 : 168 ، وإشارات الاصول ، الورقة : 233.
2- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 127 ، عن البيضاوي.
3- الأحقاف : 15 ، والبقرة : 233.
4- الإسراء : 23.

الرابع : عرّف الحاجبي المنطوق ب- « ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق » ، والمفهوم ب- « ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق » (1). والظاهر أنّ لفظة « ما » موصولة ، فيدلّ على أنّ المنطوق وخلافه من أوصاف المدلول كغيره من الحدود الآتية. كما أنّ الظاهر اختصاصهما بالدلالة الوضعيّة ، فالدلالة العقليّة وإن كانت لفظيّة لا يعدّ مدلولها من المنطوق والمفهوم.

وفسّره العضدي بقوله : أي يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أم لا. والمفهوم بخلافه ، وهو : ما دلّ عليه اللفظ (2) لا في محلّ النطق ، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله (3).

وتوجيهه - على ما زعم من كون لفظة « ما » مصدريّة - : أنّ المنطوق دلالة اللفظ على مدلوله حال كون ذلك المدلول يكون موضوعه ثابتا في محلّ النطق ، فيكون الظرف متعلّقا بالعامل المقدّر حالا عن الضمير المجرور باعتبار موضوعه ، فيكون من قبيل إجراء الصفة على غير من هي له.

وذلك مع كونه بعيدا - لما عرفت من أنّ الظاهر أنّ كلمة « ما » موصولة ، وأنّ استفادة المدلول من الدلالة ليكون مرجعا للضمير المجرور لا يخلو عن شيء ، وأنّ ظاهر التوصيف وما يجري مجراه من الحال ونحوه أن يكون جاريا على من هي له - اورد عليه (4) :

أوّلا : بخروج بعض المفاهيم ، كمفهوم الشرط مثل قولك : « إن جاءك

ص: 12


1- راجع شرح مختصر الاصول : 306.
2- لم يرد « عليه اللفظ » في ( ع ) والمصدر.
3- شرح مختصر الأصول : 306.
4- انظر هداية المسترشدين 2 : 410.

زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد » المذكور في المنطوق ، ومفهوم الغاية كقولك : « صم إلى الليل » فإنّه لا يجب فيه الصيام وهو مذكور ، ومفهوم الحصر كقولك : « إنّما زيد قائم » ، ومفهوم اللقب ، نحو قولك : « يجب إكرام غير زيد » ، وبنحو « فاسأل القرية » ، فيختلّ التعريفان طردا وعكسا.

وثانيا : أنّهم ذكروا أن الإيماء والإشارة من المنطوق ، ومثّلوا لهما بالآيتين (1) ؛ فإنّ دلالتهما على أن أقلّ الحمل ستّة بالمنطوق مع أنّ أقلّ الحمل الذي هو الموضوع غير مذكور.

وثالثا : أنّ المداليل الالتزاميّة التي لا يعدّ عندهم من المفهوم في الأغلب لا يكون الموضوع فيهما مذكورا.

وقد يذبّ عن هذه الوجوه :

أمّا عن مفهوم الشرط ، فتارة : بأنّ الموضوع في المفهوم هو « زيد الغير الجائي » ، لا « زيد » مطلقا ، وهو ليس بمذكور. وأخرى : بأنّ الموضوع في المنطوق هو « المجيء » وفي المفهوم عدمه ، وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الغاية : فبأنّ الموضوع في المفهوم هو أنّ « غير الليل ليست غاية » وهو ليس بمذكور.

وأمّا عن مفهوم الحصر : فبأنّ المراد نفي القيام عن غير زيد ، وهو ليس مذكورا. وإن اريد منه نفي غير القيام عن زيد فيؤول الأمر حقيقة إلى نفي اتّصاف زيد بشيء من الصفات ، و « الاتّصاف » ليس مذكورا.

ص: 13


1- أي : آيتي « الحمل » : الأحقاف : 15 ، والبقرة : 233 ، وراجع هداية المسترشدين 2 : 410 ، والفصول : 146.

وأمّا عن مفهوم اللقب : فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس زيدا بل هو « غير زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان مصداقه وهو « زيد » مذكورا (1).

وأمّا عن خروج دلالة الإشارة عن المنطوق : فبأنّ الموضوع هو « الحمل » ، والمستفاد من الآيتين أنّ الحمل أقلّه ستّة ، وهو مذكور.

وأمّا عن نحو « فاسأل القرية » : فبأنّ الموضوع المقدّر في حكم المذكور.

وأمّا المداليل الالتزامية : فبأنّ وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما إنّما هو من أحكام الصلاة المذكورة في قولك : « صلّ » ، فالمستفاد منه أنّ الصلاة يجب مقدّمتها ويحرم ضدّها ... إلى غير ذلك.

ولا يخفى على من له خبرة أنّ هذه كلّها تكلّفات سخيفة وتوجيهات ضعيفة لا ينبغي ارتكابها ؛ فإنّ ذلك يوجب اختلاط مصاديق النوعين وامتيازها بحسب الوجوه والاعتبارات ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ الظاهر منهم عدم اختلاط المفهومين كمصاديقهما ، فلا ينبغي الإصغاء إليها.

وقد يفسّر الحدّ المذكور - مع قطع النظر عن تحليل مفرداته - : بأنّ المنطوق هو المدلول الذي يفهم من اللفظ في محلّ النطق ، بأن يكون ناشئا من اللفظ ابتداء بلا واسطة المعنى المستعمل فيه ، بخلاف المفهوم.

وتوضيحه : أنّ المستفاد من قولك : « إن جاء زيد فأكرمه » حكمان يكفي في استفادة أحدهما ترجمة الألفاظ الواقعة في التركيب لغير أهل اللسان ، ويحتاج استفادة الثاني إلى ملاحظة اعتبار آخر في المدلول ، كما هو ظاهر. فالظرف متعلّق ب- « دلّ » ويكون المراد بالموصولة هو الحكم ونحوه. إلاّ أنّه لم يظهر بعد معنى لقولهم : « في محلّ النطق » إلاّ على وجه بعيد ، فتأمّل.

ص: 14


1- كذا في النسخ. والمناسب هكذا : وأمّا عن مفهوم اللقب فبأنّ الموضوع في المفهوم ليس « غير زيد » بل هو « زيد » وهو ليس مذكورا وإن كان « غير زيد » مذكورا.

ويشعر به تعريف الآمدي للمنطوق ب- « ما فهم من اللفظ نطقا » (1) كتحديد العلاّمة ب- « ما دلّ اللفظ عليه بصريحه » (2) فالمعيار في الفرق هو الاستفادة الابتدائيّة وعدمها.

وحينئذ ينتقض الحدّان بناء على ما ذكرنا : من أنّ ظاهرهم دخول التضمّن في المنطوق ، وتقسيم الالتزام إليهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المدلول التضمّني لا يستفاد من اللفظ ابتداء ؛ ضرورة تبعيّة التضمّن للمطابقة وإن انعكس الأمر في التحقّق ، فيدخل في حدّ المفهوم مع أنّه ليس منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المداليل الالتزاميّة كلّها لا تتحقّق (3) إلاّ بالواسطة ، ولا وجه لما يتوهّم من الفرق بين المداليل الالتزاميّة البيّنة وغيرها ، فإنّ وجوب المقدّمة من غيرها مع أنّه ليس من المفهوم كدلالة الإشارة ونحوها.

وقد يفرّق أيضا : بأنّ المداليل الالتزامية على قسمين ، أحدهما : ما يكون لازما لنفس المعنى لا مدخل للّفظ والوضع فيه أبدا إلاّ الكشف عن المعنى ، وذلك كوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وأمثالهما من اللوازم ، فإنّ الانتقال إليها لا يتوقّف على ملاحظة لفظ أو وضع أو غير ذلك ، بل يكفي في الانتقال إليها ملاحظة نفس المعنى الملازم وإن لم يكن بدون اللفظ ، ولذلك لا يفرّق بين ما إذا ثبت وجوب الواجب باللفظ أو بغيره في الحكم بوجوب المقدّمة. الثاني : ما يكون لازما للمعنى الموضوع له باعتبار الوضع له ، فكأنّ الواضع اعتبره في وضع اللفظ للمعنى الملازم. فالأوّل من المنطوق ، والثاني من المفهوم.

ص: 15


1- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 74.
2- نهاية الوصول : 200.
3- في ( ع ) : « لا يتصوّر ».

وفيه : أنّ الفرق المذكور ممّا لا محصّل له ؛ فإنّ الملازمة واقعة بين المعاني في جميع الموارد ، فإنّ العلقة بين الشرط والجزاء تتصوّر على وجهين : أحدهما التوقّف الوجودي فقط ، والثاني التوقّف وجودا وعدما. وإنّما النزاع في أنّ الجملة الشرطيّة - مثلا - هل يستفاد منها العلقة على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني؟

ولا معنى لاعتبار الواضع اللزوم أو الملازمة في الوضع ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ولا ينافي ذلك كون المبحث من مباحث الألفاظ كما في الأمر ؛ ولذلك لو ثبت المعنى الموجود في الجمل الشرطيّة - مثلا - بدليل غير اللفظ على الوجه المستفاد من اللفظ نقول بالانتفاء عند الانتفاء فيما إذا قلنا بثبوت المفهوم ؛ مضافا إلى ورود النقض بمفهوم الموافقة بعد ، فإنّا لا نفرّق بين الانتقال إلى حرمة الضرب من آية « التأفيف » وبين غيره من اللوازم.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ لوازم المداليل المفردة خارجة عن المقسم ، كما يشعر به أخذ « الحكم » جنسا في التعريفات السابقة.

وأمّا المداليل الالتزامية للمركّبات : فتارة يقصد دلالة اللفظ عليها ، وتارة يستفاد ولو مع عدم القصد. والثاني خارج عن المفهوم. وأمّا القسم الأوّل ، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك : « لا غير » كما في مفهوم المخالفة ، كما يقال : « زيد قائم غير عمرو » أو كان الحكم ثابتا للغير على وجه الترقّي - كما في مفهوم الموافقة - فهو المفهوم بقسميه ، وإلاّ فهو من المنطوق. فاستقرّ اصطلاحهم على تسمية هذا النوع من المدلول الالتزامي بالمفهوم ، وذلك شامل لجميع المفاهيم. أمّا مفهوم الشرط فلأنّ المقصود منه نفي تحقّق الجزاء عند غير الشرط ، كمفهوم الوصف واللقب والحصر ، سواء كان من قبيل قصر الصفة أو قصر الموصوف ، وكمفهوم الغاية فإنّ المقصود فيه نفي وجود الحكم فيما بعد الغاية ، فيكون الحكم ثابتا قبلها لا غير.

ص: 16

ولا يرد النقض بدلالة الإشارة ، فإنّ المستفاد من الآيتين هو الحكم بأنّ أقلّ الحمل ستّة ، ولا دلالة فيهما على نفي الحكم عن الغير أو الإثبات له على وجه الترقّي ، ولا بدلالة الأمر على الوجوب أو على وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ. وكلّ ذلك ظاهر في الغاية.

ويمكن أن يعرّف المفهوم حينئذ ب- « أنّه حكم افيد لغير المذكور » سواء كان مغايرا في النفي والإثبات أو موافقا ، كما هو قضيّة إطلاق الحكم ، فيشمل لكلا قسمي المفهوم.

والوجه في تبديل « الدلالة » ب- « الإفادة » إخراج ما لا يكون مقصودا من اللوازم. والمراد بكونه حكما لغير المذكور هو كونه ثابتا له على أحد الوجهين المتقدّمين. والمراد بغير المذكور هو الموضوع الذي سيق له الحكم.

وتوضيحه : أنّ المراد ب- « الموضوع » في المقام وأمثاله ليس خصوص المبتدأ أو الفاعل في الجملة الخبريّة ، بل كلّ ما يتعلّق بالحكم من المتعلّقات : من الظرف والغاية والفاعل والمفعول ونحوها من الامور المذكورة في القضيّة التي يمكن الإخبار عنها بالحكم ، كأن يقال في الظرف : « إنّ الدار مضروب فيها » ونحو ذلك ، فقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » يشمل على حكم هو الوجوب ، وموضوعات عديدة هي : المجيء ، والمخاطب ، وزيد ، والإكرام ، فإذا سيق الكلام المزبور لبيان نفي الحكم عن غير الإكرام ، يكون المراد به : إن جاءك زيد فلا يجب غير الإكرام ، وحينئذ يكون من مفهوم اللقب ، والموضوع « غير الإكرام » وهو غير مذكور. ومثله لو سيق الكلام لنفي الحكم عن غير زيد أو المخاطب. وإذا سيق الكلام المزبور لنفي الوجوب عند عدم المجيء يكون من مفهوم الشرط.

ص: 17

ومن هنا تعرف أنّه لو أريد من آية « النبأ » (1) نفي الحكم عن مجيء غير الفاسق يكون من مفهوم الوصف أو اللقب ، وإن اريد نفي الحكم عن عدم مجيء الفاسق يكون من مفهوم الشرط.

وبالجملة : فتشخيص الموضوع في القضايا موقوف على تشخيص ما سيق لأجله الكلام المذكور. ولعمري! إنّه غاية ما يمكن أن يقال ، إلاّ أنّه بعد إحالة على على المجهول.

والأولى أنّ الحدود المذكورة إنّما هي حدود لفظيّة لا عبرة بها بعد تميّز المعنى المقصود عن غيره ، كما ذكرنا وجه التميّز.

مع أنّه لا يكاد يظهر الثمرة في تشخيص مصاديق المفهوم عن المنطوق ، عدا ما قيل : من تقدّم المنطوق على غيره. وفيه : أنّ المناط في التقديم على قوّة الدلالة لا على التسمية ، والقوّة غير مخفيّة.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو اشتمل على أحد اللفظين عنوان من عناوين الأدلّة مع إرادة المعنى المصطلح ، ولكنّه لا يكاد يوجد.

الخامس : قسّموا المنطوق إلى صريح وغيره ، وعدّوا المدلول المطابقي من الأوّل اتّفاقا ، وألحق بعضهم (2) التضمّني به.

فإن كان ذلك اصطلاحا منهم ، فلا مشاحة. وإن كان ذلك بواسطة حصول ما هو المناط في التسمية ، فالأولى إلحاقه بالالتزامي الغير الصريح ؛ ضرورة أنّ وجه الانتقال إلى المدلول التضمّني والالتزامي واحد ، وهو الملازمة بين المعنى المطابقي وغيره ، غاية الأمر أنّ اللازم في أحدهما داخل وفي الآخر خارج ، وذلك لا يوجب الاختلاف في الصراحة.

ص: 18


1- الحجرات : 6.
2- انظر إشارات الاصول ، الورقة : 233 ، وشرح مختصر الاصول : 307.

ودعوى : أنّ الدلالة التضمّنية أظهر من الالتزاميّة ، ممنوعة. كيف! وبعض اللوازم أظهر من بعض المداليل التضمّنية ؛ فإنّ دلالة العمى على البصر أظهر من دلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق.

ص: 19

ص: 20

هداية

الحقّ - كما عليه المحقّقون - أنّ تقييد الحكم بواسطة كلمة « إن » وأخواتها يفيد انتفاءه عند انتفاء مدخولها.

وما ذكرنا أولى ممّا قيل في العنوان : إنّ تعليق الحكم ... ؛ لإشعار لفظ « التعليق » بالانتفاء عند الانتفاء ، فلا يناسب أخذه في العنوان. وإن كان ذلك أولى ممّا قيل : هل مفهوم الشرط حجّة أو لا؟ لظهوره في أنّ النزاع ليس في ثبوت الدلالة ؛ مضافا إلى أن لفظ « الشرط » ممّا لا وقع له ، أمّا على مصطلح الاصوليّين فلعدم تأتّي النزاع على تقديره ، وأمّا على مصطلح النحاة فلأنّ الشرط عبارة عن المقدّم في الجملة الشرطيّة ، ولا يطلق على نفس الجملة عندهم.

وبما ذكرنا يظهر أنّه لا حاجة إلى بيان معنى لفظ « الشرط » فيما نحن بصدده. ولكنّه لا بأس بالتنبيه على ذلك احتذاء.

فنقول : الشرط يطلق في العرف على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ، وهو بهذا المعنى مصدر « شرط » بمعنى الإلزام ، فهو شارط للأمر الفلاني وذلك الأمر مشروط له أو عليه ، ومنه الاشتراط بمعنى الالتزام. من غير فرق في ذلك بين أن يكون ابتدائيا أو ضمن العقد ، كما يساعد عليه العرف ، كما في قولك : « شرطت على نفسي كذا » أو « فلان شرط على نفسه كذا ».

ص: 21

وعن الصحاح : « الشرط معروف » (1) من دون تعرّض لاختصاصه بما إذا كان في ضمن العقد فضلا عن البيع فقط.

لكن في القاموس : « أنّه إلزام الشيء والتزامه في البيع » (2).

وظاهره كون استعماله في الإلزام الابتدائي مجازا أو غير صحيح. مع أنّه لا إشكال في صحّته ، بل وفي اطّراده في موارد استعماله ، كما في قوله صلى اللّه عليه وآله : « قضاء اللّه تعالى أحقّ وشرطه أوثق » (3) ، وقوله عليه السلام إنّ « شرط اللّه قبل شرطكم » (4). وقد اطلق على النذر والعهد والوعد (5). وعن الحدائق : أنّ إطلاق الشرط على البيع في الأخبار كثير (6). مضافا إلى أولويّة الاشتراك المعنوي. وفي بعض الروايات استدلّ الإمام عليه السلام بقوله : « المؤمنون عند شروطهم » على إمضاء النذر والعهد (7).

ومع ذلك لا يبقى وجه لما زعمه في القاموس ، ولعلّه لم يعثر على موارد هذه الاستعمالات.

ثمّ إنّه قد يستعمل الشرط بالمعنى المذكور (8) في المشروط كالخلق في المخلوق. ولا ريب في كونه مجازا ، فيراد منه ما ألزمه الإنسان على نفسه من عمل ونحوه.

ص: 22


1- الصحاح 3 : 1136 ، مادّة « شرط ».
2- القاموس المحيط 2 : 368 ، مادّة « شرط ».
3- كنز العمال 10 : 322 ، الحديث 29615.
4- الوسائل 15 : 31 ، الباب 20 من أبواب المهور ، الحديث 6.
5- راجع الوسائل 15 : 29 و 46 - 48 ، الأبواب 20 و 37 - 40 من أبواب المهور.
6- الحدائق 20 : 73.
7- الوسائل 15 : 30 ، الباب 20 من أبواب المهور ، الحديث 4.
8- لم يرد « بالمعنى المذكور » في ( ع ).

الثاني : ما يلزم من عدمه العدم ، من دون ملاحظة أنّه لا يلزم من وجوده الوجود. وهو بهذا المعنى من الجوامد ولا يكون مشتقّا.

فيكون لفظ « الشرط » مشتركا بين المعنيين ، مثل اشتراك لفظ « الأمر » بين المعنى الحدثي الذي يشتقّ منه « الأمر » و « المأمور » ، والمعنى الاسمي ك- « الشيء » و « الشأن » ونحوهما. وأمّا اشتقاق « المشروط » منه بهذا المعنى فهو ليس على الأصل ، بل هو اشتقاق جعليّ مثل اشتقاق « المسبّب » من لفظ « السبب » مع أنّه ليس المراد منه معنى يمكن الاشتقاق منه كما هو ظاهر ؛ ولذلك ليس الفاعل وهو « الشارط » والمفعول وهو « المشروط » منه (1) متقابلين في الفعل والانفعال ، بل الشارط هو الجاعل والمشروط هو ما جعل له الشرط ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة. وقاعدة الاشتقاق تقضي بأن يكون المشروط هو نفس الطهارة ، وذلك ظاهر.

وله في اصطلاح أرباب النحو معنى ، وهو : الجملة الواقعة عقيب « إن » وأخواتها ، وهو مأخوذ من المعنى الثاني من جهة إفادة تلك الجملة لكون مضمونها شرطا بالمعنى الثاني.

وفي اصطلاح أرباب المعقول والاصول له معنى آخر ، وهو : ما لا يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم ، فيكون مأخوذا أيضا من المعنى الثاني ، إلاّ أنّه اعتبر فيه عدم اللزوم بين الوجودين ، في قبال السبب حيث اخذ فيه الملازمة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المعنى الثاني ليس خارجا عن المعنى الأوّل ، بل هو من نتائج بركاته ولو بنحو من العناية ، كما لا يكاد يخفى.

ص: 23


1- كذا ، والظاهر زيادة : « منه ».

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنّ تنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في أنّ الجملة الشرطيّة هل هي ظاهرة في اللزوميّة؟ فيستفاد منها تعلّق أحد الجزءين بالآخر على وجه يكون الاتّفاقيّة خارجة عن حقيقتها أو لا.

فنقول : لا ينبغي الإشكال في أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في إفادة الربط والتعلّق بين جزأيها ، كما يقضي بذلك العرف في موارد استعمالها ، بل لا يكاد يتّضح معنى أداة الشرط في قولك : « لو كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا » إلاّ بضرب من التأويل.

وأمّا استعمال أدوات الشرط في الوصليّة - مستعملة في التسوية (1) - كما في قوله : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » (2) فيحتمل أن يكون المراد منها إفادة التسوية بين الكفر والإسلام في لزوم الإكرام ، فيكون أداة الشرط مثل استعمال بعض الحروف في غير معناه ، كاستعمال « في » في قوله : إنّ « امرأة دخلت النار في هرّة » (3) في التعليل.

ويحتمل أن يكون المراد منها الربط بين الشرط والجزاء ، لكنّه بعد إعمال ضرب من التأويل ، كأن يقال : إنّ المتكلّم بواسطة زيادة اهتمامه واعتنائه في إفادة لزوم إكرام الضيف في المثال المذكور ، جعل ما ليس بسبب سببا وحكم بالتسوية بين الكفر والإسلام ، فالسببيّة بواسطة العطف مبالغة في دفع ما يتوهّم من كونه مانعا عن الحكم بالإضافة والإكرام ؛ ومن هنا يشترط في حسن استعمال الوصليّة احتمال مانعيّة مدخول أداة الشرط عن الحكم المذكور قبلها ، ومن ثمّ لم

ص: 24


1- لم ترد « مستعملة في التسوية » في ( ع ).
2- كنز العمّال 15 : 38 ، الحديث 39976.
3- مسند أحمد 2 : 507.

يحسن قولك : « أكرم الزائر ولو كان حافيا » فإنّ كونه حافيا يوجب مزيد الإكرام (1) فلا يحسن ذكره عقيب أداة الوصل. فليس التجوّز في كلمة « إن » وأخواتها ، بل التصرّف إنّما هو في المعنى بادّعاء سببيّة ما يحتمل مانعيّته ، كما في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (2) تنزيلا للعدوّ منزلة الصديق في وجه.

الثاني : في أنّ العلاقة المعتبرة بين الشرط والجزاء هل هي السببيّة وعلّيّة الشرط للجزاء ، أو هي أعمّ منها؟ ظاهر كثير من الاستعمالات هو الأوّل ، حتّى أنّ جماعة - كالمحقّق القمّي رحمه اللّه (3) وغيره (4) - راموا تأويل الموارد التي لا يكون الشرط فيها علّة للجزاء ، كما في قولهم : « إذا نزل الثلج فالزمان شتاء » : بأنّ الشرط في المقام وإن لم يكن سببا لتحقّق الجزاء ، بل الأمر على عكس ذلك ، إلاّ أنّ الشرط سبب للعلم بتحقّق الجزاء. وإن كان ذلك لا يخلو عن مساهلة ، حيث إنّ العليّة المفروضة إنّما هي بين العلمين ، لا بين جزأي الكلام.

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في أنّ الظاهر من الجمل الشرطيّة هو سببيّة الاولى للثانية ، وإنّما الإشكال في أنّ الوجه في ذلك الظهور هو الوضع فاستعمال الجملة الشرطيّة فيما يكون الجزاء علّة للشرط أو كلاهما معلولي علة ثالثة أو غير ذلك من أنواع اللزوميّة استعمال مجازيّ ، أو الوجه فيه هو إطلاق الجملة وعدم تقييدها؟ وجهان :

للأوّل : أنّ الأصل في الظهور استناده إلى الوضع.

ص: 25


1- في ( ع ) زيادة : « بطريق أولى ».
2- القصص : 8.
3- القوانين : 175.
4- انظر الفصول : 149 ، ومفاتيح الاصول : 211 - 212 ، ونقلا عن التفتازاني أيضا.

وللثاني : عدم تنافر (1) استعمال الشرطيّة فيما يكون المقدّم معلولا ، وذلك دليل عدم اختصاص الوضع بما إذا كان علّة ، غاية الأمر أنّ هذه العلاقة الخاصّة حيث كانت أكمل أفراده (2) انصرف الإطلاق إليها ، نظير انصراف الأمر إلى الفرد المتكامل من أفراد الطلب ، فإنّ علاقة العلّية هي أتمّ العلائق وأكملها.

وفي الأوّل منع. وفي الثاني - بعد تسليم أنّ هذه العلاقة هي أتمّها وكفاية ذلك في المدّعى ، فإنّ ما ذكر لا ينافي كون الجزاء علّة - : أن (3) لا وجه للانصراف المذكور ، إذ لا يعقل ذلك إلاّ بواسطة غلبة الاستعمال ، ومن المعلوم أنّ ذلك الظهور ليس مستندا إليه كما يظهر بالتأمّل ؛ مضافا إلى أنّ الانصراف إنّما هو في المطلقات ولا يعقل ذلك في مدلول أدوات الشرط - كما في الأمر أيضا - فإنّ الموضوع له فيها هي المعاني الخاصّة ، كما لا يخفى.

وقد تستند الدلالة المذكورة إلى إطلاق الشرط. وتوضيحه : أنّ ظاهر الجملة يفيد وجود الجزاء عند وجود الشرط على وجه الاستقلال ، سواء فرض وجود شيء آخر معه أو لم يفرض ، فلا مدخليّة لشيء في وجود الجزاء ، سوى وجود الشرط ، وهو معنى السببيّة ، إذ لو لم يكن ذلك كافيا لم يحسن عدم انضمام شيء آخر إليه كما ينضمّ إليه عند تعدّد الشروط.

ولا يخفى ما فيه من المنع والمصادرة في وجه وعدم كفايته في المدّعى في وجه آخر ، وذلك يظهر بأدنى تدبّر وتأمّل.

فالأولى دعوى استفادة السببيّة من أدوات الشرط بحسب الوضع ، كما لا بعد في ذلك أيضا عند ملاحظة معناها.

ص: 26


1- في ( ع ) : « عدم تنافي ».
2- في ( ط ) : « أفرادها ».
3- في ( ع ) : « إذ ».

وممّا ذكرنا يظهر جريان الوجهين في كون الشرط علّة تامّة وسببا مستقلاّ من دون مداخلة أمر آخر ، وكونه سببا ناقصا ، فلا نطيل بالإعادة.

الثالث : أنّه بعد ما عرفت في المورد الأوّل أنّ الجملة الشرطيّة تستفاد منها العلقة فاستعمالها في الاتّفاقيّات ليس استعمالا حقيقيّا. وفي المورد الثاني (1) أنّ هذه العلقة هي علّية الشرط على وجه الاستقلال ، دون المعلوليّة لعلّة ثالثة ولا التضايف ولا معلوليّة الشرط للجزاء ، كما عرفت.

فهل يستفاد منها انحصار العلقة التامّة في الشرط ، كأن لا يكون من أفراد ما هو العلّة حقيقة ، أو لا يستفاد ذلك منها؟ وهذا هو النزاع المعروف بين القوم.

فالمثبتون على أنّ الجملة ظاهرة في انحصار العلّة التامّة في الشرط ، ولذلك يحكم بانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ولو مع احتمال قيام شرط آخر مقامه ، إذ ذلك الاحتمال مدفوع عندهم بظهور الانحصار من اللفظ ، فلا يعتنى به.

والمانعون على أنّه لا يستفاد منها ذلك. وربّما يحتمل أن يكون وجه المنع التأمّل في أحد الموردين المتقدّمين كما يتراءى من بعضهم (2). لكن استدلال السيّد باحتمال قيام سبب آخر مقام الشرط (3) ينادي بتسليمه الموردين ، وإنّما النزاع في الثالث كما لا يخفى.

وهل الأصل يقتضي ثبوت المفهوم أو عدمه؟ قد يقال بالثاني ؛ لأصالة عدم اعتبار الواضع في مدلول الأداة التعليق على وجه خاصّ. وفيه (4) : أنّ ذلك الأصل ممّا لا عبرة به ، لمكان المعارضة ، كما هو ظاهر.

ص: 27


1- يعني عرفت في المورد الثاني.
2- راجع مفاتيح الاصول : 210.
3- الذريعة 1 : 406.
4- « فيه » من هامش ( ع ).

والحقّ أنّ مقالة القائل بالمفهوم مطابقة للأصل سواء كان نفس الحكم المذكور في المنطوق مخالفا للأصل كما إذا كان مثل الوجوب والحرمة ، أو مطابقا كالإباحة.

أمّا في الأوّل : فظاهر ، لأصالة عدمه في غير مورد اليقين ، وأصالة براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة عند عدم ما يدلّ عليها.

وأمّا في الثاني : فلأنّ تعليل الإباحة وتعليقها على الشرط يشعر بأنّ تلك الإباحة الثابتة في المنطوق ليست إباحة مطابقة للأصل ، وإلاّ لم يحتج إلى التعليل بالعلّة المذكورة. ولا شكّ أنّ هذه الإباحة عند الشكّ فيها محكومة بالعدم. وليس ذلك قولا بالمفهوم ، كما هو ظاهر. وذلك نظير ما قيل (1) : من أنّ قوله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) يفيد أنّ الأصل في الماء انفعاله بالملاقاة ، فإنّ تعليق عدمه بالكرّية يفيد ذلك بحسب الأصل ، وهو ظاهر.

ثم إنّ القول بالمفهوم هو المشهور على ما نسبه جماعة (3). وذهب السيّد (4) من أصحابنا إلى عدمه ، واختاره بعض المتأخّرين أيضا ، كالشيخ الجليل الحر العاملي رحمه اللّه (5). والحقّ - كما أشرنا إليه - هو الأوّل.

لنا : قضاء صريح العرف بذلك ، فإنّ المنساق إلى الأذهان الخالية من الجمل الشرطية هو التعليق على وجه ينتفي الحكم بانتفاء الشرط ، وكفانا بذلك دليلا

ص: 28


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم في القوانين ( 1 : 426 ) ما يفيد هذا المعنى.
2- الوسائل 1 : 117 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث 1 ، 2 و 6.
3- انظر مناهج الأحكام : 128 ، ومفاتيح الأصول : 207.
4- الذريعة 1 : 406.
5- الفوائد الطوسيّة : 279.

وحجّة ملاحظة الاستعمالات الواردة في العرف. وذلك لا ينافي ثبوت استعمال الجملة في معنى آخر ، فإنّ باب المجاز غير منسدّ ، ولم يزل البلغاء والفصحاء يستعملونه في موارد تقضي بها (1) الحال ، فما حكي عن الفوائد الطوسيّة : من أنّه تجشّم باستخراج مائة مورد بل وأزيد (2) من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم (3) ، فهو تكلّف من غير حاجة ، إذ لا نزاع في ثبوت ذلك في الجملة ، ولا يوجب ذلك وهنا في قضاء العرف بثبوت المفهوم.

وإلى ما ذكرنا يرجع استدلال البعض باستدلال أهل اللسان بالمفهوم في موارد جمّة ، كما ورد ذلك في جملة من الأخبار (4) ، وهي مذكورة في الإشارات (5).

ولا ينافي ما ذكرنا من ثبوت المفهوم ، ما ذكره أهل الميزان : من أنّ القياس الاستثنائي وضع المقدّم فيه ينتج وضع التالي ، كما أنّ رفع التالي ينتج رفع المقدّم ، وأمّا رفع المقدّم فلا ينتج رفع التالي. ولو كان المستفاد من الجمل الشرطيّة هو سببيّة الشرط للجزاء كانت النتيجة المذكورة أولى بالثبوت من غيرها.

ووجه عدم المنافاة : أنّ مقصود المنطقيّين ومحطّ نظرهم في القياس الاستثنائي الاستدلال بالملازمة والاستكشاف منها على وجود أحد طرفيها أو

ص: 29


1- في ( ع ) : « به ».
2- لم يرد « بل وأزيد » في ( ع ).
3- الفوائد الطوسيّة : 291.
4- راجع معاني الأخبار : 209 ، باب معنى قول إبراهيم ... ، الحديث الأوّل ، والوسائل 8 : 4. الباب 9 من أبواب العود إلى منى ، الحديث 4 ، و 20 : 391 ، الباب 45 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث 5.
5- إشارات الاصول : 235 - 236.

عدمه ، ولا شك أنّ صرف الملازمة بين الشيئين لا دلالة فيها زيادة على ما ذكروه : من ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم ، ومن انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم. وأمّا ثبوت اللازم فلا يدلّ على ثبوت ملزوم خاصّ ، لجواز كونه أعمّ ، كما أنّ نفي الأخصّ لا يلازم نفي الأعمّ ، كما يظهر من قولك : « لو كان هذا إنسانا كان حيوانا » فإنّ نفي الإنسان لا يلازم نفي الحيوان ، كما أنّ إثبات الحيوان لا يلازم إثبات الإنسان ؛ ولذلك لم يذكروا ذلك في عداد النتائج الحاصلة من الاستثنائي ، وحيث كانت الجملة الشرطيّة مفادها ثبوت الملازمة جعلوا تلك الجملة أمارة على ما راموه من الاستنتاج ، كما عرفت. وليس ذلك لأجل اختصاص تلك الجملة بإفادة الملازمة على وجه لا يلزم من نفي المقدّم نفي التالي.

والحاصل : أنّه حيث كان مقتضى الترتيب الطبيعي عند إرادة الاستنتاج أن يجعل ما هو الأعمّ مذكورا في التالي وما هو الأخصّ في المقدّم وكان ثبوت الخاصّ دليلا على ثبوت العامّ وعدم العامّ دليلا على عدم ثبوت الخاص ، اقتصروا في النتيجة على ما ذكروا ، وأين ذلك من انحصار مدلول الجملة الشرطيّة فيما لا يلزم من عدم المقدّم عدم التالي؟ وبالجملة ، فمنشأ ذلك اختلاف أنظارهم.

احتجّ المنكرون بوجوه :

الأوّل : ما عزاه جماعة إلى السيّد (1) وهو : أنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به ، وليس يمنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن كونه شرطا ، فإنّ قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (2)

ص: 30


1- الذريعة 1 : 406.
2- البقرة : 282.

يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول ، ثمّ علمنا أنّ ضمّ امرأتين إلى الشاهد الأوّل شرط في القبول ، ثمّ علمنا أنّ ضمّ اليمين إلى الأوّل يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الحرارة ، فإنّ انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قيام النار مقامه. والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا.

والجواب : أنّ ما أفاده ممّا لا ينافي ما نحن بصدده ، فأنّ ظاهر الاستدلال ناظر إلى إمكان نيابة شرط عن شرط آخر فكأنّه جعل النزاع في أمر عقليّ ، فحاول رفع امتناع ذلك بما أفاده. وعلى تقديره فهو حقّ لا محيص عنه ، إلاّ أنّ الظاهر من عناوين المسألة رجوع البحث إلى الأبحاث اللغويّة ، مثل النزاع في وضع هيئة الأمر للوجوب.

وإذ قد عرفت ، فنقول : إنّ المستدلّ إن أراد بذلك منع الظهور الوضعي فيما نحن فيه ، فقد عرفت ممّا تقدّم جوابه. وإن أراد أمرا آخر فهو لا ينافي ما نحن بصدده. وكأنّ السيّد أيضا لا يمنع الظهور ، كما ربما يشعر به قوله في الاستدلال : إنّ قوله تعالى : ( فَاسْتَشْهِدُوا ) يمنع من قبول الشاهد الواحد ، فإنّ هذا هو عين القول بالمفهوم ، غاية الأمر أنّه لم يعوّل عليه ، لما ذكره بقوله : « ثمّ علمنا أنّ ضمّ امرأتين ... الخ » فإنّ الظاهر (1) يدفع بالقاطع كما هو المفروض في كلامه ، كيف! والمنقول منه اعترافه بثبوت مفهوم العدد (2) مع كونه أضعف من مفهوم الشرط بمراتب.

ص: 31


1- في ( ع ) زيادة : « قد ».
2- الموجود في الذريعة إنكار مفهوم العدد ، انظر الذريعة 1 : 407 ، ولم نعثر على الحاكي.

وأمّا ما لم يعلم بقيام سبب آخر فظاهر الجملة يلزم الأخذ به من دون اعتناء باحتمال وجود سبب آخر ، كما هو الحال في سائر الظواهر. وبالجملة ، فمع احتمال تعدّد الأسباب لا ينبغي الاعتناء به ، ومع العلم فهو المتّبع ، ولكنّه لا يضرّ ما نحن بصدده من ثبوت المفهوم ، فإنّ القائل بالمفهوم يلتزم بالتقييد (1) ويحكم بعدم الجزاء عند عدم الشرط بجميع أفراده لا في الجملة ، وهو ظاهر في الغاية.

لا يقال : يمكن أن يكون السبب الآخر المحتمل قيامه مقام السبب الأوّل ملازما في الوجود مع نقيض الشرط ، وحينئذ لا سبيل إلى القول بأنّ قيام سبب آخر لا ينافي ثبوت المفهوم.

لأنّا نقول : إن أريد أن يكون الحكم ثابتا على تقديري وجود الشرط وعدمه ؛ لأنّ عدمه يقوم مقام وجوده في ترتّب الجزاء عليه ، فلا يمكن القول بالمفهوم ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين فهو على تقدير تعقّله يوجب إلقاء الاشتراط ، إذ لا فائدة في الاشتراط بالشرط المذكور. وإن اريد غير ذلك كأن يكون هناك ضدّان كالسواد والبياض وكلّ واحد منهما باعتبار جامع بينهما يقتضي حكما ، فيجوز التعلّق المذكور ، ولا يضرّ في ثبوت المفهوم ، إذ يقال : إنّه على تقدير وجود السواد والبياض (2) الحكم كذا ، وعلى تقدير عدمهما معا فالحكم المذكور منتف. ولا ضير في ذلك.

فإن قلت : قد يكون السبب القائم مقامه محتملا لعدّة امور فيصير مجملا ، فيلغو اعتبار المفهوم.

ص: 32


1- في ( ع ) : « بالتقيّد ».
2- في ( ع ) : « أو البياض ».

قلت : نعم ، ولكنّه لا يضرّ بظهور اللفظ فيما لا يحتمل ذلك ، فإنّ الحكم بالإجمال في المجمل لا يسري إلى ما ليس بمجمل ، وهو ظاهر.

وقد يعترض على السيّد : بأنّ مجرّد احتمال قيام سبب آخر لا ينافي القول بالمفهوم ، لأنّ الأصل يقضي بعدمه.

وفيه : أنّ المانع أيضا لم يعلم من حاله الاعتداد بالاحتمال المذكور وعدم الأخذ بالأصل في مقام الشك في القيام ، لكنّه لا دخل له في ثبوت المفهوم ، فإنّ المقصود نفي الاحتمال المذكور بظهور اللفظ كما يدّعيه القائل بالمفهوم ، وهو ظاهر.

الثاني : أنّه لو دلّ لكان بإحدى الدلالات ، والملازمة كبطلان التالي حيث لا لزوم عقلا ولا عرفا - ظاهرة.

والجواب : أنّا نمنع بطلان التالي ، إذ الالتزام ثابت ، فإنّا قد قدّمنا أنّ العرف قاض بأنّ المستفاد من أداة الشرط هو التعليق على وجه خاصّ يلزم منه الانتفاء عند الانتفاء ، وذلك نظير قضاء العرف باستفادة الطلب من الأمر على وجه لا يرضى الطالب بتركه ، وهو المعبّر عنه بالوجوب ، فيكون الوجوب مدلولا التزاميّا وضعيّا للأمر.

وقد يجاب : بأنّ الدلالة المذكورة من التضمّن ، فإنّ التعلّق المذكور في نظيره (1) مركّب من قضيّة يحكم فيها بالوجود عند الوجود وقضية اخرى يحكم فيها بالانتفاء عند الانتفاء ، نظير لفظ « السبب » في وجه. وهو بعيد ؛ إذ المعقول عندنا هو الالتزام دون التضمّن ، كما لا يخفى.

ص: 33


1- في ( ع ) : « نظره ».

ثم إنّا قد أشرنا في بعض المباحث السابقة إلى الفرق بين هذه الالتزامات وبين الالتزامات في مسألة الضدّ والمقدّمة ، وحاصله : أنّ النزاع في هذه المسائل في أنّ مدلول اللفظ هل المعنى الذي يلزمه اللازم الفلاني أو معنى لا يلزمه ، والنزاع في تلك المسائل إنّما هو في ثبوت الملازمة بين المعنيين ولو لم يعبّر عنهما بلفظ أصلا.

الثالث : قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (1) وجه الدلالة : أنّ اعتبار المفهوم يوجب إباحة الإكراه عند عدم الشرط ، وهو عدم إرادة التحصّن ، واللازم باطل ، والملزوم مثله.

والجواب : أنّ مجرّد الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ونحن لا ننكر استعمال الجمل الشرطيّة فيما يلغو فيه المفهوم ، وإنّما الكلام في الظهور العرفي ، ووجود الاستعمالات المخالفة (2) وإن كانت غالبة ، غير مضرّ فيه ؛ لاقترانه بالقرينة في الكلّ.

وأجاب عنه في المعالم (3) وغيره (4) ، تارة : بالالتزام بالمفهوم والقول بأنّها تدلّ على عدم حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، وذلك لا يقتضي إباحة الإكراه ، إذ لا يعقل الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، فيصدق : أنّه لا يحرم الإكراه عند عدم إرادة التحصّن ، لأنّ السالبة صادقة عند انتفاء الموضوع أيضا. وأخرى : بأنّ التعليق بالشرط إنّما يقتضي الانتفاء إذا لم يظهر للشرط فائدة

ص: 34


1- النور : 33.
2- في ( ع ) : « المختلفة ».
3- المعالم : 78.
4- انظر الفصول : 151 ، ومناهج الاصول : 129.

اخرى ، وأمّا إذا ظهرت فائدة فلا ، كما في الآية ، فإنّ الوجه في التعليق يحتمل أن يكون المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعني : أنّهنّ إذا أردن العفّة فالمولى أحقّ بإرادتها.

ويرد على الأوّل - بعد الغضّ عن إمكان الواسطة عند عدم الالتفات أو عنده مع التردّد - : أنّ ذلك يوجب إلغاء المفهوم ، فإنّه كما ستعرف يجب أن لا يكون بين المفهوم والمنطوق اختلاف إلاّ من جهة الإيجاب والسلب ، والمفروض في المنطوق هو وجود الموضوع ، فيجب اعتباره في المفهوم أيضا.

وتوضيحه : أنّه لو قال المولى لأحد غلمانه : « إن جاءك زيد فأضفه » فلا بدّ أن تكون الإضافة المنفيّة في طرف المفهوم أمرا مقدورا كما أنّها في المنطوق كذلك ، فلو كان الإضافة في المفهوم غير مقدور كان التعليق المذكور تعليقا مجازيّا. وصدق السالبة بدون الموضوع وإن كان صادقا ، لكنّه لا يصحّح ثبوت المفهوم ؛ لما عرفت ، فلا وجه لتصحيح المفهوم بما ذكر ، بل الظاهر أنّ الجملة الشرطيّة مسوقة في مثله لبيان موضوع الحكم ، كما في قوله : « إن ركب الأمير فخذ ركابه » و « إن رزقت ولدا فاختنه » وقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (1) إلى غير ذلك من الموارد.

وعلى الثاني (2) : أنّ ذلك ينافي القول بالمفهوم ، فإنّ اللازم حينئذ اقتصار الحكم بما إذا علم عدم الفائدة. ودعوى كونها أظهر الفوائد إن رجعت إلى دعوى الوضع ، فمرجعها إلى ما قلنا ، وإلاّ فلا فائدة فيها. وهو ظاهر.

ص: 35


1- الحجرات : 6.
2- عطف على قوله : « ويرد على الأوّل ».

ص: 36

هداية

بعد ما عرفت أنّ الحقّ هو المفهوم في الجملة الشرطيّة ، فهل يفرق في ذلك بين موارد الوصايا والأوقاف ونحوها وبين غيرها؟ فنقول : لا فرق فيما ذكرنا من ثبوت المفهوم بين كون الجمل الشرطيّة واقعة في موارد الوصايا أو الأوقاف أو الأقارير وبين غيره.

ويظهر من الشهيد الثاني اختصاص النزاع بالثاني بخروج الأوّل عن محلّ التشاجر ؛ للقطع بثبوت المفهوم فيها من غير أن يكون قابلا للنزاع. قال في محكيّ تمهيد القواعد : لا إشكال في دلالتها (1) في مثل الوقف والوصايا والنذر والأيمان ، كما إذا قال : « وقفت هذا على أولادي الفقراء » أو « إن كانوا فقراء » أو نحو ذلك (2). ولعلّ الوجه في تخصيص (3) المذكور هو عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك : وقفت على أولادي مطلقا.

وفيه : أنّ ذلك خلط بين انتفاء الإنشاء الشخصي الخاصّ الموجب لما يترتّب عليه من الآثار من ملك أو لزوم أمر آخر ، وبين انتفاء نوع الوجوب المعتبر في المفهوم ، فإنّ انتفاء الشخص قطعيّ لا يقبل إنكاره بعد ارتفاع الكلام الدالّ على الإنشاء ، ومن لوازم تشخّصه عدم سراية ذلك الحكم الثابت به

ص: 37


1- في المصدر : « دلالتهما » ، أي : الصفة والشرط.
2- تمهيد القواعد : 110.
3- كذا ، والظاهر : التخصيص.

إلى غيره ؛ كما يظهر ذلك بملاحظة مفهوم اللقب ، فإنّ وجوب إكرام زيد الثابت بإنشاء خاصّ منفيّ عن عمرو قطعا. نعم ، يصحّ إنشاء الوجوب أيضا لعمرو بإنشاء آخر مماثل لإنشاء وجوب إكرام زيد. ولا يصحّ إنشاء الوقف لغير الفقير بواسطة عدم قابليّة المحلّ المذكور لوقفين ، حيث إنّ ذلك المتعلّق أمر شخصي ، بخلاف الإكرام فإنّه كلّي يحتمل الوجوبين بالنسبة إلى زيد وعمرو. ونظير الملك المذكور هو ما إذا أمر بفرد خاصّ شخصيّ للإكرام لو فرض ، فإنّه لا يحتمل الوجوبين أيضا.

وبالجملة ، فعدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم لا يقضي بالمفهوم كما عرفت في اللقب أيضا. وفهم التعارض والتناقض بين قوله : « وقفت على أولادي إن كانوا فقراء » و « وقفت على أولادي » مطلقا بواسطة عدم تحمّل العين لتمليكين ، كما هو ظاهر. والمعتبر في المفهوم انتفاء الحكم عن مورد الشرط على تقدير انتفائه بحسب نوع الحكم وسنخه.

وقد يستشكل في المقام ، نظرا إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطا بالنسبة إلى الإنشاء الخاصّ الحاصل بذلك الكلام دون غيره ، فأقصى ما تفيده الشرطيّة انتفاء ذلك ، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب؟ كما هو المدّعى.

وقد يذبّ عنه : بأنّ الوجوب المنشأ في المنطوق هو الوجوب مطلقا من حيث كون اللفظ موضوعا له بالوضع العامّ ، واختصاصه وشخصيّته من فعل الآمر ، كما أنّ شخصيّة الفعل المتعلّق للوجوب من فعل المأمور ، فيحكم بانتفاء مطلق الوجوب في جانب المفهوم.

أقول : لا وقع للاشكال والدفع.

ص: 38

أمّا الأوّل : فلأنّ الكلام المشتمل على المفهوم إمّا أن يكون خبريّا ، كقولك : « يجب على زيد كذا إن كان كذا » وإمّا أن يكون إنشائيّا ، كقولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » وارتفاع مطلق الوجوب في طرف المفهوم في الأوّل ظاهر ، حيث إنّ المخبر عن ثبوته في المنطوق ليس شخصا خاصّا من الوجوب ، ضرورة كون الوجوب كلّيا. فلا يتوجّه هنا إشكال حتّى يدفع بما ذكره أو بغيره. وأمّا ارتفاع مطلق الوجوب فيما إذا كان الكلام إنشائيّا فهو من فوائد العلّية والسببيّة المستفادة من الجملة الشرطيّة ، حيث إنّ ارتفاع شخص الطلب والوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلّة والسبب المأخوذ في الجملة الشرطيّة ، فإنّ ذلك يرتفع ولو لم يؤخذ المذكور في حيال أداة الشرط علّة له ، كما هو ظاهر في اللقب والوصف. فقضيّة العلّية والسببيّة ارتفاع نوع الوجوب الذي أنشأه الآمر وصار بواسطة إنشائه شخصا من الوجوب. وأمّا وقوع الشرط شرطا للإنشاء الخاصّ فهو بملاحظة نوع الوجوب المتعلّق به الإنشاء وإن لم يكن ذلك على ذلك الوجه مدلولا للّفظ ، إذ يكفي فيه ارتفاع شخصه من حيث إنّه عنوان لارتفاع نوعه ، نظرا إلى العلّية المذكورة.

وأمّا الثاني : فلأنّ ابتناء الدفع على ما زعمه من عموم الموضوع له والوضع ليس على ما ينبغي ، كما عرفت فيما ذكرنا ؛ مضافا إلى أنّ ذلك أيضا ممّا لم يقم دليل عليه لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه ، حيث إنّ الخصوصيّات بأنفسها مستفادة من الألفاظ. والحمد لله.

ص: 39

ص: 40

هداية

يجب تطابق المفهوم والمنطوق في جميع القيود المعتبرة في الكلام والاعتبارات اللاحقة له ، إلاّ في النفي والإثبات. والوجه في ذلك - بعد ما عرفت من أنّ الوجه في ثبوت المفهوم هو علّيّة الشرط للجزاء - ظاهر ، حيث إنّ العلّية تقضي بارتفاع ما فرض كونه معلولا عند ارتفاع (1) العلّة ، ولا يقضي بارتفاع ما هو أجنبيّ عن العلّة ، فمفهوم قولك : « إن جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه » عدم وجوب إكرام زيد على تقدير عدم المجيء في يوم الجمعة ، لا مطلقا ، فلا ينافي ثبوته في السبت ، إلى غير ذلك ممّا هو معتبر في الكلام.

نعم ، ينبغي استثناء ما هو متفرّع على النفي والإثبات وليس منفيّا ولا مثبتا في الكلام ، وذلك نظير استفادة العموم من النكرة الواقعة في سياق النفي وعدم استفادته من الواقعة في حيّز الإثبات ، كما في قولك : « إن جاءك زيد فأعتق رقبة » إذ المستفاد منه في المنطوق وجوب عتق رقبة مردّدة بين أفراد جنسها على تقدير الشرط ، وفي المفهوم يستفاد عدم وجوب عتق كلّ فرد من الرقبة ، وذلك ليس بضائر فيما ذكرنا ، فإنّه من خصائص النفي والإثبات الواردين على الطبيعة المطلقة ، وليس ذلك من مداليل اللفظ إلاّ على القول بدخول وصف الإطلاق في الموضوع له فيتوجّه النفي في المفهوم إلى ذلك القيد.

ص: 41


1- في ( ع ) : « انتفاء ».

وقد يتوهّم أنّ مفهوم قولنا : « إن جاء زيد فهو يكرم » على جهة الإخبار - الذي يستفاد منه وجوب الإكرام على تقدير الشرط بواسطة حسن الطلب - هو قولنا : « إن لم يجئك زيد فلا يكرم » وهو يفيد التحريم. وذلك أيضا من الامور المتفرّعة على نفس النفي والإثبات ، فلا يضرّ اختلاف المفهوم والمنطوق بهذا الوجه نظير اختلافهما بالعموم والإطلاق في المثال المتقدّم.

وفيه : أنّ ذلك لا يخلو من مغالطة.

وتوضيحه : أنّ قولك : « يكرم » يفيد التحريم فيما إذا وقع في حيّز النفي إذا لم يكن ممّا استفيد منه الوجوب ، وأمّا إذا كان ممّا استفيد منه الوجوب ووقع في حيّز النفي فلا يفيد ذلك إلاّ رفع الوجوب. وبعبارة واضحة : أنّ قولك : « يكرم » إذا لوحظ بشرط وقوعه في الجملة الإثباتيّة التي يستفاد منها الوجوب ، غير قولك : « يكرم » إذا لوحظ لا بشرط شيء ، والثاني يفيد التحريم في الجملة المنفيّة دون الأوّل. ولا يجري ذلك في الإطلاق ، حيث إنّ ورود النفي والإثبات على الطبيعة الملحوظة لا بشرط يفيد ذلك ، ووقوعه في الجملة الإثباتيّة لا يعقل أخذه شرطا لها ، إذ المفروض كونها لا بشرط شيء ، فتدبّر.

والحاصل : أنّه لا بدّ من ملاحظة الامور المستفادة من ضروب التراكيب ووجوه الكلام ، فإنّه ربما يتوهّم خلاف ما هو الواقع.

ومن ذلك : ما توهّم أنّه لو كان مفاد المنطوق الوجوب العيني ، كما إذا قال : « إن جاءك زيد فيجب عليك إكرامه » الظاهر في الوجوب العيني ، فالمستفاد منه في المفهوم أيضا هو نفي الوجوب العيني على تقدير عدم الشرط ، ولا ينافي إثبات الوجوب التخييري على تقدير عدم الشرط.

وبعد ما عرفت من أنّ لوازم النفي والإثبات لا يعتبر في المفهوم والمنطوق لا ينبغي الإشكال في فساد التوهّم المذكور ، فإنّ ذلك من قبيل الإطلاق والعموم

ص: 42

المستفادين في المثال المتقدّم ، من غير فرق في ذلك بين استفادة الوجوب من مادّة الوجوب - كما في المثال المتقدّم - أو من الهيئة ، حيث إنّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى إطلاق المادّة ، والمفروض أنّ الطبيعة المطلقة إذا وقعت في سياق النفي يستفاد منها العموم ؛ ولذلك تراهم يقولون بالتعارض فيما إذا دلّ الدليل على وجوب إكرام زيد في المثال المذكور على تقدير عدم الشرط تخييرا. ولا فرق فيما ذكرنا بين أقسام الوجوب المستفاد من الهيئة من الإطلاق والتعيين والنفسيّة وغيرها ، فإنّ الظاهر من المفهوم نفي جميع الأقسام وإن كان المنطوق خاصّا بواحد منها.

هذا كلّه فيما إذا كان المأخوذ في المنطوق مطلقا. وأمّا إن كان عامّا استغراقيّا ، كقولك : « إن جاءك زيد فأكرم العلماء » فهل يستفاد من المفهوم عدم وجوب الإكرام بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من العلماء على تقدير عدم الشرط ، أو يستفاد عدم وجوب إكرام الجميع؟ فعلى الأوّل لو دلّ دليل على وجوب إكرام زيد العالم يعارضه المفهوم ، بخلافه على الثاني.

اختلفوا في ذلك ، فيظهر من جماعة - منهم الشيخ وصاحب المعالم والمحقّق القمّي رحمهم اللّه - الأوّل ، وحكي [ عن ] بعضهم الثاني (1). ولعلّ وجه الاختلاف في ذلك هو : أنّ العموم الملحوظ في المنطوق هل هو يعتبر آلة لملاحظة حال الأفراد على وجه الشمول والاستغراق فلا يتوجّه النفي إليه في المفهوم فيكون الاختلاف بين المنطوق والمفهوم في الكيف فقط دون الكمّ ، أو يعتبر على وجه الموضوعيّة فيتوجّه إليه النفي فالاختلاف بينهما ثابت كمّا وكيفا على قياس النقيض المأخوذ عند أهل الميزان؟

ص: 43


1- راجع ضوابط الاصول : 112.

وكيف كان ، فلا بدّ من تشخيص أحد الموضوعين حتّى نجري على منواله في الحكم المذكور.

فنقول : لا إشكال عند العلم بأحد الوجهين. وأمّا إذا لم يعلم ذلك من القرائن الخارجيّة ، فالظاهر أنّ العرف قاض بالوجه الأوّل. وأمّا ما يرى من ظهور قولك : « إن جاءك زيد فلا تقتل أحدا » في الوجه الثاني - حيث إنّه لا يدلّ على عدم حرمة قتل أحد على تقدير عدم المجيء - فبملاحظة القرينة ، لمكان العلم بأنّ سبب حرمة القتل في كلّ واحد لا ينحصر في الشرط المذكور ، بل لها أسباب عديدة. وذلك مثل قول القائل : « إن كان زيد أميرا لاستغنى كلّ أحد » فإنّه لا يفيد أنّه على تقدير عدم إمارة زيد لا يستغني أحد.

وتوضيح ذلك : أنّه قد يعلم بوجود أسباب كثيرة للحكم المأخوذ في الجملة الشرطيّة ، وحينئذ فلو أخذنا العام في الجزاء دلّ ذلك على سببيّة الشرط لعموم الحكم ، لا للحكم على وجه العموم ، ونحن لا نضايق من ذلك.

والحاصل : أنّ قضيّة ما ذكرنا من التطابق بين المفهوم والمنطوق ، وما تقدّم من ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار السبب - المؤيّد بفهم العرف فيما نحن فيه أيضا - هو الوجه الأوّل. ولا ينافي ذلك ما هو المقرّر في الميزان : من أن نقيض الموجبة الكلّية هي السالبة الجزئيّة ، فإنّ غرضهم لا يتعلّق ببيان ظواهر القضايا ، بل نظرهم مقصور على بيان لوازم ما هو القدر المتيقّن من القضيّة ، ولا ريب أنّ المتيقّن هو اللازم بالنسبة إلى المجموع دون الآحاد.

ومن هنا يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين (1) في قوله عليه السلام : « إذا كان الماء

ص: 44


1- وهو الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك كما نقله عنه في هداية المسترشدين 2 : 460 ، وراجع حاشية المدارك 1 : 48 ، ذيل قول الشارح : لفقد الشرط.

قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) من أنّ مفهومه « أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء من النجاسات » وفساد ما أورد عليه (2) : من أنّ اللازم من القضيّة المذكورة نجاسة الماء الغير الكرّ بشيء من النجاسات ، وهو مجمل لا يفيد ولا يلزم منه النجاسة بكلّ شيء ؛ ولذلك نقول بأنّ ما دلّ على عدم نجاسة غسالة الاستنجاء يعارض عموم المفهوم (3) مثل ما يدلّ على عدم نجاسته إذا كان عاليا (4) إلى غير ذلك.

ونظير ذلك في صحّة الاستدلال وفساد الاعتراض ، ما أفاده الشيخ : من عموم مفهوم قوله : « كلّ ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره » (5) وما اعترضه الشيخ محمّد في حاشية الاستبصار : بعدم العموم (6) ، فلاحظهما متأمّلا فإنّه حقيق بذلك. واللّه الهادي.

ص: 45


1- الوسائل 1 : 117 - 118 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث 1 و 2 و 5 و 6.
2- أورده في هداية المسترشدين 2 : 460 - 461.
3- كذا ، والظاهر : « مفهوم » بدون اللام.
4- في ( ع ) : « غالبا ».
5- التهذيب 1 : 224 ، ذيل الحديث : 642.
6- استقصاء الاعتبار 1 : 203 - 206.

ص: 46

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الجملة الشرطيّة سببيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، فلو تعدّد الشرط فلا بدّ من الخروج عن ذلك الظاهر ، وذلك يحتمل وجوها :

أحدها : تخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، فقول الشارع : « إذا خفي الأذان فقصّر » (1) و « إذا خفي الجدران فقصّر » (2) يراد من كلّ منهما انتفاء وجوب القصر عند انتفاء السبب الآخر أيضا. والوجه في ذلك ما هو المعروف : من أنّ دلالة اللفظ على منطوقة أقوى من دلالته على مفهومه ، ولا ريب أنّه عند التعارض يقدّم الأقوى.

وثانيهما : رفع المفهوم فيهما. ويظهر الثمرة أنّه على الأوّل يستدلّ بهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء المفروض ، بخلافه على الثاني.

وعلى الوجهين لا ريب في لزوم المجاز على القول باستناد المفهوم إلى الوضع. وقد يتوهّم أنّه على القول بالتضمّن لا يكون هناك مجاز. وهو وهم ؛ إذ على تقديره يلزم استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء.

وثالثها : تقييد إطلاق الشرط في كلّ منهما بالآخر وجودا فيكون المراد في المثال المذكور « إذا خفي الأذان عند خفاء الجدران فقصّر » أو عدما فالمعنى

ص: 47


1- لم نعثر عليه بعينه ، نعم يوجد ما يدلّ عليه ، راجع الوسائل 5 : 506 ، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 3.
2- لم نعثر عليه بعينه أيضا ، ويدلّ عليه ما في المصدر المتقدم ، الحديث الأوّل.

« إذا خفي الأذان ولم يكن الجدران مخفيّة فقصّر » فعلى الأوّل يرجع الأمر إلى أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب ، فلا يجوز القصر مع خفاء أحدهما فقط ، كما ذهب إليه جماعة (1) ، وهو أبعد الوجوه. وعلى الثاني يكون كلّ واحد منهما سببا مستقلاّ عند عدم الآخر ، وأمّا مع وجود الآخر فلا سببيّة فيهما.

وهذان الوجهان يلائمان القول باستناد المفهوم إلى الإطلاق ، بل وربّما يستدلّ بذلك عليه ، حيث إنّه لو كان بالوضع يلزم ما عرفت من المجاز ، ولا يلزم على هذا التقدير إلاّ تقييد الإطلاق ، وهو لو كان مجازا أيضا مقدّم على غيره من أنواع المجاز.

ورابعها : إبقاء إحدى الجملتين بحالها مفهوما ومنطوقا والتصرّف في الاخرى كذلك ، كما هو الظاهر من الحلّي في المثال المذكور ، فإنّه جعل المناط في القصر خفاء الأذان فقط ، وقيّد منطوق الآخر بخفاء الأذان ومفهومه بعدمه (2) ، فيرجع إلى إلغاء الجملة الثانية رأسا. اللّهم إلاّ أن يكون خفاء الجدران من الأمارات الّتي يتوصّل بها إلى خفاء الأذان ، فلا يلزم لغويّته رأسا.

وخامسها : إرادة القدر المشترك بين الشرطين من كلّ واحد منهما. وتوضيحه : أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو كون ما اخذ في الشرط بعنوانه الخاصّ علّة تامّة منحصرة للجزاء ، إلاّ أنّ تعدّد الشروط ينهض قرينة على

ص: 48


1- منهم : السيّد المرتضى ( رسائل الشريف المرتضى ) المجموعة الثالثة : 47 ، والشيخ في الخلاف 1 : 572 ، المسألة 324 ، وقد نسبه في المدارك 4 : 457 ، إليهما وإلى أكثر المتأخّرين ، ومنهم : الشهيد في الذكرى 4 : 321 ، والشهيد الثاني في المسالك 1 : 346.
2- السرائر 1 : 331.

أنّ الشرط إنّما هو شرط بعنوانه الأعمّ الشامل للشرط الآخر ، فلا مجاز فيما يدلّ على العلقة ولا تقييد في إطلاق أحد الشرطين. ولعلّ العرف يساعد على ذلك بعد الاطّلاع على التعدّد.

وكيف كان ، فالوجه الأوّل والقسم الثاني من الثالث مشتركان مع هذا الوجه في أنّ الحكم ثابت على تقدير كلّ واحد من الشرطين ومرتفع عند عدمهما معا ، كما هو الشأن فيما إذا تعدّدت العلل مع قيام إحداها مقام الاخرى ، إلاّ أنّ الاختلاف في وجه التصرّف.

فعلى الأوّل ، يلزم المجاز - كما عرفت - وإن لم نقل بأنّ التخصيص مجاز. والوجه فيه : أنّ المفهوم من اللوازم العقليّة للمنطوق ، ولا يعقل التصرّف في المدلول الالتزامي إلاّ بعد التصرّف في المدلول المطابقي.

وعلى الثاني ، يلزم تقييد الإطلاق في كلّ واحد منهما بعدم الآخر ، وأمّا مع الوجود فإمّا أن يقال بأنّ التأثير للمتقدّم أو للقدر المشترك ، على حسبما تعرف.

وعلى الثالث ، فلا يلزم شيء منهما ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ، حيث إنّ ظاهر الشرط كونه علّة لعنوانه الخاصّ ، ولا يلزم مجاز ، فتدبّر : واللّه الهادي.

ص: 49

ص: 50

هداية

اشارة

إذا تعدّدت الأسباب واتّحد الجزاء ، فلا إشكال على ما ذهب إليه الحلّي من إلغاء إحدى الجملتين ، كما أنّه كذلك على ما ذهب إليه البعض (1) : من أنّ كلّ واحد منهما جزء السبب. وعلى الوجوه الأخر ، فهل اللازم تعدّد المسبّبات ولزوم إيجاد الجزاء على حسب تعدّد الشروط ، أو يتداخل المسبّبات ويكتفى في الإتيان بالجزاء دفعة واحدة؟ اختلفوا فيه على أقوال :

فالمشهور على عدم التداخل ، وذهب جماعة منهم المحقّق الخوانساري رحمه اللّه إلى التداخل على ما يظهر منه في المشارق (2). وعن الحلّي التفصيل بين اتّحاد الجنس وتعدّده. وتوضيح المقام بعد رسم امور :

أحدها : أنّ التداخل تارة يعتبر في الأسباب ، كأن يقال : بأنّ تعدّد الشروط لا يقتضي إلاّ إيجاد جزاء واحد ، سواء كانت تلك الأسباب من نوع واحد مثل تعدّد أفراد النوم المقتضي لوضوء واحد ، أو من أنواع مختلفة كتعاقب النوم والبول بالنسبة إلى الوضوء.

واخرى يعتبر في المسبّبات ، كأن يقال : إنّ تعدّد الشروط قاض بتعدّد المسبّبات ، إلاّ أنّ الجزاء الواحد يقوم مقام ذلك المتعدّد.

فعلى الأوّل فتداخل المسبّبات عزيمة ويتوقّف جواز الإتيان به ثانيا على وجه الامتثال على دليل ، وعلى الثاني رخصة.

ص: 51


1- كما تقدّم عن جماعة في الصفحة : 48.
2- مشارق الشموس : 61.

ولعلّ نظرهم إلى تداخل المسبّبات في المقام ، كما يظهر من استدلالهم بحصول الامتثال فيما لو أتى بالمسبّب مرّة واحدة.

ولا ينافي ذلك استدلالهم. بأنّ العلل الشرعيّة معرّفات فلا يمتنع اجتماعهما في شيء واحد ، الظاهر في دعوى تداخل الأسباب ؛ لأنّ المقصود حقيقة إثبات عدم تعدّد الجزاء ، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم : من أنّ المراد تداخل المسبّبات ، وإنّما عبّروا عنه بتداخل الأسباب تنبيها على علّة الحكم.

الثاني : الجزاء المأخوذ في الجملة قد يكون قابلا للتعدّد. وقد لا يكون ، كقتل زيد إذا وقع جزاء لشروط عديدة.

لا ينبغي الإشكال في خروج الثاني عن محلّ النزاع. نعم ، قد يستشكل في كيفيّة تأثير الأسباب المتعدّدة فيما لا يقبل التعدّد إذا تعاقب الأسباب أو تواردت دفعة واحدة ، فإنّه إمّا أن يقال بسببيّة كلّ منهما (1) مستقلاّ فيلزم المحال المعروف ، أو باستناد الأثر إليهما معا ، وهو خلاف الفرض ؛ لكفاية أحدهما فيه قطعا. والقول بأنّ القدر المشترك بينهما سبب لا يدفع الضيم ؛ لعدم تحقّقه إلاّ في الأشخاص ، ووجوده الذهني لا يترتّب عليه شيء ، واستناد الأثر إلى أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

أقول : إمّا أن يكون المسبّب ممّا يختلف شدّة وضعفا أو لا ، فعلى الأوّل لا إشكال ؛ لاستناد المرتبة الشديدة إليهما دفعة عند التوارد ، وانقلاب الضعيفة إلى الشديدة عند التعاقب. وعلى الثاني فنلتزم بأنّ السبب هو القدر المشترك ولا ضير فيه ، إذ القدر المشترك لا يتعدّد بتعدّد الأشخاص والوجودات الخاصّة. ولا أقول إنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عن الوجود هي السبب حتّى يقال بأنّ الماهيّة الذهنية لا يترتّب عليها شيء ، بل الماهية من حيث الوجود ، إلاّ أنّه لا حكم لنفس الوجودات الخاصّة.

ص: 52


1- كذا ، والمناسب : « منها » وكذا الكلام في الضمائر الآتية.

وحينئذ فلو تعاقب الأسباب فالأثر مستند إلى الأوّل ويلغو الباقي ؛ لعدم قابليّة المحلّ بعد الاتّصاف بالمثل. ولو تواردت دفعة واحدة فالأثر مستند إلى الماهيّة الموجودة ولا اختصاص للوجودات ، فلا يلزم محذور ، لعدم تعدّدها.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما قيل (1) : من أنّها معرّفات ؛ أمّا أوّلا : فلما ستعرف أنّه خلاف الواقع ، وأما ثانيا : فلأنّ الأسباب الواقعيّة ربما يكون كذلك.

الثالث : حكي عن فخر المحقّقين أنّه جعل مبنى المسألة على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرّفات وكواشف أو مؤثّرات؟ وعلى الأوّل فالأصل التداخل ، بخلافه على الثاني (2).

ولعلّه تبعه في ذلك بعض المحقّقين في كتابه الموسوم ب- « العوائد » ، حيث إنّه بعد ما قسّم الأسباب قسمين وجعل الأسباب الشرعيّة من المعرّفات وصرّح بامتناع اجتماع الأسباب الواقعيّة ، قال : إنّه لا يراد من الأسباب في قولهم : « الأصل عدم التداخل » هذا القسم يعني الأسباب الواقعيّة ، لأنّ الأصل إنّما يستعمل في مكان جاز التخلّف عنه بدليل ، بل يصرّحون بأنّ الأصل عدم التداخل إلاّ فيما ثبت التداخل. وكذا لا كلام في جواز التداخل فيما كان من الثاني ، إذ المعرّف علّة للوجود الذهني ، ومعلوليّة موجود واحد ذهني لعلل متعدّدة جائزة ، ولذا يستدلّ على مطلوب واحد بأدلّة كثيرة ، ويصحّ أن يستند وجود ذلك الموجود الذهني إلى كلّ منهما ؛ ولذا لا يرتفع ذلك الموجود الذهني بظهور بطلان واحد من الأدلّة (3).

ص: 53


1- قاله العلاّمة في المنتهى 1 : 107 ، والشهيد الثاني في المسالك 1 : 199 وغيرهما.
2- لم نعثر عليه بعينه ، ولعلّه يدلّ عليه ما في الإيضاح 1 : 48.
3- عوائد الأيّام : 294.

أقول : القول بأنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات من المشهورات التي لم نقف على أصل لها. نعم ، قد يكون في الأسباب الشرعيّة ما هو كاشف عن أمر آخر غير الحكم الّذي قد جعله الشارع سببا له ، كالبيّنة واليد ونحوهما ، فإنّهما سببان للعمل بمقتضاهما ووجوب التعويل عليهما مع كونهما كاشفين عن نفس المقتضى والمدلول ، وأين ذلك من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات على وجه الإطلاق؟ وتعدّد الأسباب الشرعيّة ليس إلاّ كتعدّد الأسباب العقليّة ، فكما أنّ ذلك لا يقتضي الكاشفيّة فيها لا يقتضي فيها أيضا.

وأمّا ما أفاده : من أنّه لا يراد من الأسباب في قولهم ... ، ففيه : أنّ المحال هو تعدّد العلّة التامّة ، وتلك الأسباب ليست كذلك ، لرجوعها الى القدر المشترك كما في الأسباب العقليّة. ولا ينافي ذلك كونه أصلا يجوز التخلّف عنه بدليل ، نظرا إلى ظهور اللفظ في العلّية التامّة ؛ مضافا إلى أنّ كلماتهم مشحونة بما يدلّ على خلاف ما أفاده في موارد شتّى ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع.

وأمّا قوله : « لا كلام في جواز التداخل فيما كان معرّفا » لما ذكره من الوجه ، ففيه : أنّه لم يعلم فرق في امتناع توارد العلل التامّة على معلول واحد بين أن يكون موجودا ذهنيّا أو خارجيّا ، بل وليس ذلك إلاّ الموجود الخارجي ، وأمّا الموجود الذهني فهو المعلوم دون العلم ، فإنّ وجود العلم في الخارج وإن كان من الامور الذهنيّة إنّما هو بواسطة المعرّف ، وطريق الامتناع واحد ، وهو لزوم خلاف الفرض فيما لم يكف إحداها في الوجود أو تحصيل الحاصل على تقدير الكفاية. وأمّا تعدّد الأدلّة فربّما يحتمل أن يكون لتحصيل مرتبة من الكشف لم يكن قبل ، كما هو المحسوس في الأمارات الظنّية التي تفيد اجتماعها العلم ، وإلاّ فلا بدّ من توجيه ذلك على ما وجّهنا به العلل في الموجودات الخارجيّة.

ص: 54

وأمّا عدم ارتفاع الصورة عند ظهور بطلان أحد الأدلّة فلم يظهر لنا وجه ارتباطه بالمقام. والعجب! أنّه تفطّن بذلك واعتذر عنه بالفرق بين الموجود الذهني والخارجي ، حيث إنّه لا يمكن كون الشيئين في الخارج شيئا واحدا ، بخلاف الموجود الذهني فإنّه يصير ألف موجود ذهني موجودا واحدا ، بمعنى تطابق موجود واحد في الذهن لألف موجود خارجي ، فينتزع من كلّ ألف موجود صورة وهيئة كلّها منطبقة على موجود ذهني واحد.

وفيه : أنّ تعدّد الموجود الذهني إنّما هو بتعدّد نفس الملاحظة والانتزاع. ولا ريب في امتناع تلك الملاحظات كامتناع اتّحاد الموجودات الخارجيّة ، بل ما نحن فيه منها أيضا كما عرفت. وأمّا اتّحاد تلك الصور المنتزعة من أفراد كليّ واحد فعلى تقدير تعدّد الملاحظات يراد به عدم اختلافها مع قطع النظر عن خصوصيّات الوجود الذهني ، إذ لا يرتاب عاقل في التغاير مع ملاحظتها ؛ على أنّ ذلك خلط بين التصوّر والتصديق ، فإنّ الاعتقاد ممّا لا يتصوّر فيه ما ذكره في الصورة الكلّية المتصوّرة ، فإنّه موجود علميّ واحد لا يشوبه شوب التعدّد ، كما هو ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وبالجملة ، فلم يظهر لنا وجه في صحّة الابتناء المذكور فلا بدّ من التأمّل لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

الرابع : زعم بعضهم (1) جريان النزاع المذكور فيما إذا قال الشارع : « صم يوما وصم يوما » نظرا إلى أنّ الأمر سبب للوجوب فيتعدّد السبب مع وحدة المسبّب. فيمكن أن يقال فيه ما يقال في غيره. والظاهر اختصاص النزاع بما إذا كان الأمران مسبّبين عمّا جعله الشارع سببا أو ينتزع عمّا جعله الشارع

ص: 55


1- راجع عوائد الأيّام : 296 ، والعناوين 1 : 237.

سببا (1) أو ينتزع (2) منه السببيّة على القول بعدم تعلّق الجعل بها على وجه الاستقلال. وانتفاؤه فيما زعمه ظاهر ، وإن كان يمكن للعقل انتزاع السببيّة والمسببيّة من المصلحة الداعية إلى الأمر وإيجاب الشارع ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المشهور في مثل ما فرضه هو تعدّد التكليف مع قطع النظر عن قرينة الاتّحاد كما إذا كان أحدهما منكّرا والآخر معرّفا ، أو قرينة التعدّد كالعطف. ولم أقف على وجه فيه عدا ما يظهر من بعض الأعلام من دعوى الظهور العرفي. وستعرف الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

الخامس : الظاهر أنّ النزاع في هذه المسألة إنّما يؤول إلى اقتضاء معنى السببيّة عند التعدّد تعدّد المسبّبات وعدمه وإن (3) لم يكن ذلك المعنى مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، كما إذا قام إجماع على سببيّة أمرين لوجوب شيئين ، فمع القطع بسببيّة الأمرين يمكن أن ينازع في الاقتضاء المذكور. فما يظهر من بعضهم في المقام من الاستدلال على مذهب المشهور بإطلاق الأدلّة ، لا وجه له (4) فلعلّ مقصوده دفع منع آخر يتوجّه على عدم التداخل فيما إذا كان دليل السببيّة فيهما لفظا ، وإلاّ فالقائل بالتداخل لم يظهر منه دعوى التخصيص أو التقييد حتّى يتمسّك بالإطلاق في قباله.

السادس : قضيّة الأصل التداخل فيما إذا كان النزاع في تداخل الأسباب ، لرجوع الكلام على تقدير عدم التداخل إلى دعوى تعدّد التكاليف ، ولا ريب أنّه عند الشكّ في تعدّد التكليف الأصل البراءة عن المشكوك.

ص: 56


1- لم ترد عبارة « أو ينتزع عمّا جعله الشارع سببا » في ( ع ).
2- في ( ع ) : « وينتزع ».
3- في ( ط ) : « إن » بدون الواو.
4- لم يرد « لا وجه له » في ( ع ).

وقضيّة الأصل عدم التداخل فيما لو كان المراد تداخل المسبّبات ، لأول البحث إلى أنّه بعد ما ثبت من تعدّد التكليف ، فهل يمكن أداؤه بفعل واحد أو لا؟ ولا ريب أنّه شكّ في سقوط المكلّف به بعد العلم بالتكليف.

وإلى ما ذكرنا أوّلا ينظر ما حكاه البعض عن المشارق (1) : من أنّ ما يقال من « أنّ الأصل عدم التداخل » فكلام خال عن التحصيل ، فإنّه إن اريد به الظهور فممنوع ، بل الظاهر كفاية مسمّى المسبّب ، وإن اريد به الاستصحاب فهو ممّا لا يعقل له وجه ، وعلى تقديره فلا عبرة به ، وإن اريد به الغلبة والكثرة فهو أيضا باطل ، انتهى ملخّصا. والظاهر عدم التفاته قدس سره إلى ما ذكرنا ثانيا من المراد ، مع أنّه أجلّ من ذلك.

ثمّ إنّ لبعض الأعلام (2) في نظير المقام كلاما ، وملخّصه : أنّ مقتضى الأصل العملي التداخل فيما إذا علم تعدّد التكليف ، فيجزي الإتيان بالفعل الواحد عن مجموع التكاليف ، وإن كان الأصل اللفظي قاضيا بعدم الإجزاء ؛ فإنّ المتفاهم عند العرف تعدّد المكلّف به عند تعدّد التكليف.

أقول : إذا ثبت تعدّد التكاليف ، فإن قلنا بأنّ تعدّدها يوجب تعدّد المكلّف به - كما هو التحقيق على ما ستعرفه - فلا وجه لما أفاده من أنّ الأصل التداخل ، وإن قلنا بأنّ ذلك لا يقتضي التعدّد - كما يراه رحمه اللّه في تداخل الأسباب - فلا نعرف وجها لدعوى ظهور اللفظ في تعدّد المكلّف به.

وتوضيحه : أنّه لا كلام فيما إذا كان في المقام ما يدلّ على الوحدة أو التعدّد ، مثل العطف الظاهر في المغايرة ، أو سوق الكلام على وجه يستفاد منه الاتّحاد.

ص: 57


1- حكاه المحقّق النراقي في العوائد : 293 ، وانظر مشارق الشموس : 61.
2- لم نعثر عليه.

بل الكلام إنّما هو في مقتضى الدليل بحسب الوضع واللغة ، ولا شكّ أنّ الأمرين إذا تعلّقا بطبيعة واحدة لا يقتضيان إلاّ إيجاب تلك الطبيعة ، ولا دلالة في اللفظ على غير ذلك بحسب القواعد اللغويّة ، فلا وجه لدعوى فهم العرف من اللفظ تعدّد المكلّف به ، فلو كان ذلك قضيّة العرف فليس إلاّ من جهة أنّ تعدّد التكاليف قاض بتعدّد المكلّف به ، لما ذكرنا سابقا : من أنّ الطبيعة الواحدة على وحدتها لا تتحمّل وجوبين لكونها من اجتماع المثلين ، فينصرف التكليف إلى الوجودات الخاصّة (1) ، فيجب تكرارها على حسب تكرار الأمر. ولا فرق في ذلك بين التكاليف الثابتة باللفظ أو بغيره من الأدلّة اللبيّة ، كما تقدم إليه الإشارة.

وبالجملة ، فالأصل العملي يختلف على حسب ما عرفت ، فلا وجه لما يوجد في كلمات غير واحد منهم من الإطلاق.

وإذ قد عرفت هذه الامور ، فاعلم أنّه ذكر بعض أجلاّء السادة الأعلام (2) وجوها للقول المشهور ، أقواها ما احتجّ به الفاضل في محكيّ المختلف (3) ، وتبعه عليه السيّد في شرح الوافية (4) : أنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا ، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّبا واحدا أو لا يقتضيا شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر. والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

أمّا الملازمة : فلانحصار الصور في المذكورات.

ص: 58


1- في ( ع ) : « وجودات خاصّة ».
2- وهو السيّد الطباطبائي بحر العلوم في فوائده المطبوعة بالطبعة الحجريّة : 126.
3- المختلف 3 : 427 - 428.
4- لم نعثر عليه.

وأمّا بطلان التوالي : أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت سابقا من أنّ النزاع المذكور إنّما هو مبنيّ على خلافه. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل. وأمّا الثالث ؛ فلأنّ استناده إلى المعيّن يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببية ، وإلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

واعلم أنّ محصّل الوجه المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث :

إحداها : دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية : أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة : أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لا بدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلوّ.

فتعلّق جماعة منهم منع (1) المقدّمة الاولى. ويمكن أن يستند في ذلك إلى أمرين :

أحدهما : وهو الظاهر من بعض الأعلام في تعليقاته على المعالم ، حيث قال : لا مانع من كون المسبّب (2) الثاني كاشفا عن المسبّب الأوّل (3).

وتوضيحه : أنّه يجوز أن يكون لشيء واحد آثار متعدّدة ولوازم عديدة ، يستكشف عنه بتلك الآثار واللوازم ، سواء كانت مقترنة في الوجود أو لا ، وتعدّد اللوازم لا يدلّ على تعدّد الملزومات ، كما هو ظاهر. فيجوز أن يكون الأسباب

ص: 59


1- كذا ، والظاهر : « بمنع ».
2- في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.
3- هداية المسترشدين 1 : 712.

الشرعيّة من هذا القبيل ، فعلى المستدلّ إثبات هذه المقدّمة. وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي لم يكتف بالمنع المذكور ، بل ادّعى أن الأسباب الشرعيّة ليست بأسباب حقيقيّة ، وإنّما هي معرّفات (1).

ويؤيّد الدعوى المذكورة : توارد الأسباب الشرعيّة على مسبّب واحد مع امتناعه في غيرها ، كما في توارد النوم والبول على وضوء واحد.

أقول : إنّ بعد ما فرغنا من أنّ الظاهر من الجملة الشرطيّة هو سببيّة الشرط للجزاء وتسالم عليه المانع المذكور لا وجه للمنع المذكور ، لرجوعه إلى مقدّمة ثابتة ؛ على أنّ الكلام لا يختصّ بالجملة الشرطيّة بل تجري فيما إذا ثبت السببيّة بالتصريح بها ، بل وفيما إذا قام عليها الإجماع ، كما عرفت.

لا يقال : حيث إنّه قد ثبت في بعض الموارد معرفيّة الأسباب فيقوم احتمالها ويرجّح على احتمال المؤثريّة ؛ نظرا إلى موافقته لأصالة عدم تعدّد الأثر.

لأنّا نقول : لا عبرة بالأصل في قبال الدليل الظاهر في التعدّد. وأمّا الدعوى المذكورة فيكفي في دفعها عدم دلالة دليل من العقل والنقل عليها ، وبعد ما عرفت من الظهور يتمّ التقريب.

ولا دلالة في توارد الأسباب على المعرّفيّة.

أمّا أوّلا : فبالنقض بالأسباب العقليّة والعاديّة ، فإنّها أيضا قد تجتمع على أمر واحد.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وهو القول بأنّ القدر المشترك هاهنا سبب ، ولا غائلة فيه كما قدّمنا.

وأمّا مسألة الأحداث فلا تدلّ على مطلوبهم.

ص: 60


1- راجع الصفحة : 53.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود بالوضوء - كما علم ذلك بالدليل - ليس إلاّ رفع الحدث ، وهي الحالة المانعة عن الدخول فيما هو مشروط بعدمها ، ولا شكّ أنّها بعد ارتفاعها بوضوء واحد لا يقبل المحلّ لوضوء آخر يقصد به رفع تلك الحالة ، فيكون ذلك من قبيل ما لا يقبل التكرار ، الخارج عن المتنازع فيه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات المعرّفية في الوضوء لا يجدي في إثباتها في غيره إلاّ على وجه القياس ولا نقول به. سلّمنا أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات ، لكن ذلك يلازم تعدّد الأثر ؛ لامتناع توارد المعرّفات على معرّف واحد ، فتعدّد المعرّف كاشف عن تعدّد المعرّف. ولا ينافي ذلك عدم دلالة تعدّد اللوازم على تعدّد الملزومات ، حيث إنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا لم يقصد بها الاستكشاف.

فإن قلت : نعم ، ولكنّه معرّف شأني. قلنا : ظاهر الدليل فعليّة المعرفيّة.

ومنه يظهر فساد ما أفاده في التعليقة : من أنّ السببيّة الشرعيّة لا تنافي عدم فعليّة التأثير ، لصدق السببيّة الشرعيّة مع شأنيّة التأثير قطعا ، كما في مسألة الأحداث (1). وجه الفساد : أنّه إن اريد بذلك الفرق بين الأسباب العاديّة والشرعيّة لعدم منافاتها للفعليّة في الثاني دون الأوّل ، فهو كلام خال عن التحصيل ، إذ لا يعقل الفرق بينهما. وإن اريد به منع ظهور دليل السببيّة في الفعليّة فقد يظهر فساده بالرجوع إلى العرف. فكيف كان ، فلا نعرف وجها للدعوى المذكورة عدا ما عرفت من مسألة تعاقب الأحداث وأشباهها ممّا لا دلالة فيها عليها.

نعم ، يظهر من بعض الأجلّة الاستناد إلى وجه آخر في الدعوى المذكورة ، حيث قال - في دفع ما استشكل على القول بحجيّة المنصوص العلّة من أنّه ينافي القول بأنّ « علل الشرع معرّفات » - : إنّ علل الشرع على ضربين ، الأوّل : العلل

ص: 61


1- هداية المسترشدين 1 : 712.

المجعولة في الشرع عللا وأسبابا لأحكام مخصوصة ، كالأحداث للطهارة ، وأسباب الكفّارة والعقود والإيقاعات لما يترتّب عليها ، فإنّها معرّفات لها ، وليست عللا حقيقيّة ، لانحصارها في الأربع. وعدم كونها من الماديّة والصوريّة واضح ، وكذا عدم كونها من الفاعليّة ، لاستناد جعل الأحكام الشرعيّة إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ؛ وكذا عدم كونها الغائيّة ، لظهور أن ليس المقصود بوضع تلك الأحكام ترتّب تلك الأسباب عليها. الثاني : العلل التي هي منشأ حكم الحكيم وجهات حسن تشريعه وما يستند إليه مطلوبيّة الفعل أو مبغوضيته ، كإسكار الخمر الموجب لمبغوضيّتها. وهذه العلل علل حقيقيّة ، إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ، فإنّ المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن السكر وفساد العقل. ثمّ حمل قولهم بأنّها معرّفات على القسم الأوّل ، وجعل مبنى القول بحجيّة المنصوص العلّة (1) القسم الثاني (2). انتهى كلامه - رفع مقامه - ملخّصا.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للإشكال المذكور ، إذ القول بالمعرّفيّة لا ينافي الحجيّة ، إذ لا ضير في كون الإسكار كاشفا عن علّة التحريم مع اطّراد الحكم. نعم ، لو قيل بكونها عللا ناقصة تمّ الإشكال المذكور ، ولا مدفع له.

وثانيا : أنّ ما استند إليه في نفي كونها عللا حقيقيّة من انحصارها في الأربع غير مستقيم ؛ أمّا أولا : فلأنّ دعوى الانحصار فيها باطلة ، كما أذعن به جماعة ، منهم شارح المقاصد حيث قال - بعد تقسيم الخارج إلى ما به الشيء وهي الفاعليّة ، وإلى ما لأجله الشيء وهي الغائيّة - : لا دليل على انحصاره فيهما سوى الاستقراء (3) ، وهو أيضا ممنوع ، فإنّ موضوع العرض خارج لا فاعل ولا غاية.

ص: 62


1- في ( ع ) زيادة : « على ».
2- الفصول : 385.
3- إلى هنا تمّ كلام شارح المقاصد ، راجع شرح المقاصد 2 : 78.

ثانيا : سلّمنا الانحصار ، ولكنّا نقول : إنّها علل فاعليّة كما أنّ حركة اليد علّة فاعليّة لحركة المفتاح ، بل ولا بدّ من تعميم العلّة الفاعليّة على وجه يدخل فيها الشروط والآلات ، كما صنعه بعضهم (1).

قوله (2) : « لاستناد جعل الأحكام إليه تعالى ، لا إلى تلك الأسباب ».

فيه من الخلط ما لا يخفى ، سيّما على ما زعمه من مجعوليّة الأحكام الوضعيّة بنفسها ، فإنّه تعالى جاعل لسببيّة تلك الأسباب ، وأين ذلك من استناد المسبّبات لتلك الأسباب إليها ، فإنّ شرعيّة السبب لا تنافي استناد المسبّب إليه بعد تشريع السببيّة.

ثمّ لا يخفى ما فيما أفاده من نفي كونها من الغائيّة.

ثمّ إنّ ما أفاده في القسم الثاني من أنّها علل حقيقيّة ، لا وجه له على ما زعمه.

قوله : « إذ مرجعها إلى العلّة الغائيّة ».

فيه : أنّه لا يعقل أن يكون الإسكار غاية لحرمة الخمر. وكون المقصود من تحريم الخمر حفظ المكلّف عن فساد العقل ممّا لا ربط له بالمقام لظهور الفرق بين داعى التحريم وهو الحفظ وبين غاية الحرمة التي هي معلول الإسكار.

وتوضيحه : أنّ العلّة الغائيّة هي علّة فاعليّة الفاعل وسبب ترجيح الفاعل أحد طرفي المقدور ، فمعلولها لا بدّ أن يكون فعلا من الأفعال. وما ذكره إنّما يصحّ غاية للتكليف الذي هو فعل المكلّف ، ولا دخل له بما نحن بصدده من فرض علّيّة الإسكار للحرمة التي هي من الأوصاف دون الأفعال ، وذلك ظاهر في الغاية.

ص: 63


1- وهو التفتازاني في شرح المقاصد 2 : 78.
2- أي : صاحب الفصول.

ثمّ انّ هذا المستدلّ ذكر في خلال بيان اجتماع العلل ما ملخّصه : ولو لم يكن الحكم قابلا للشدّة والضعف أو كان وعلم عدم الاشتداد بدليل جاز أن يكون علّيّة الثاني مشروطة بعدم سبق المتقدّم فيكون الثاني معرّفا وكاشفا محضا (1) ، انتهى.

أقول : ولعلّه أخذه من أخيه البارع في تعليقاته حيث قال - على ما تقدّم نقله - : لا مانع من كون المسبّب (2) الثاني معرّفا وكاشفا عن المسبّب الأول (3). وما أفاده ليس في محلّه ؛ فإنّه لا يعقل القول بأنّ الشيء إذا لم يكن مسبوقا بمثله فهو سبب وإذا كان فهو معرّف ؛ لاستواء الحالتين بالنسبة إلى دليل السببيّة ، فإن اقتضى السببيّة فالقول بالمعرفيّة لا وجه له ، وإن اقتضى المعرفيّة فلا وجه للقول بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ الأسباب الشرعيّة ليست إلاّ كالأسباب العقليّة سواء كانت من جنس واحد أو من أجناس مختلفة ، لرجوع الكلّ إلى سببيّة القدر المشترك ، ضرورة امتناع اجتماع العلل على معلول واحد ، فإذا تواردت على شيء واحد غير قابل للتعدّد يمتنع تأثير الثاني ، لامتناع تحصيل الحاصل لو كان الأثر هو الأثر الحاصل بالأوّل ، وامتناع اجتماع الأمثال لو كان غيره ، فعدم تأثير السبب الثاني ليس بواسطة تصرّف لفظي في دليل السببيّة كما هو المشاهد في الأسباب العقليّة ، بل بواسطة عدم قابليّة المحل لحصول الأثر ، وذلك لا يقضي بالكاشفيّة (4) ، فلا وجه للقول بأنّ السبب كاشف. نعم ، هو سبب شأنيّ لمقارنته

ص: 64


1- الفصول : 385.
2- في ( ع ) و ( ط ) : « السبب » وما أثبتناه من المصدر.
3- تقدّم في الصفحة : 59.
4- في ( ع ) : « لا يقتضي الكاشفيّة ».

وجود المانع عن التأثير ، وهو حصول الأثر في المحل. وكيف كان ، ففساد هذه الدعوى ظاهر لمن تأمّل الأسباب العقليّة والعاديّة.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما زعمه أخيرا من احتمال عدم اشتراط السبق ، كما أفاده أوّلا ، حيث قال : وجاز أن لا تكون مشروطة به فيشترط حينئذ استدامة التأثير به ، فيكون العلّة بعد تحقّقه هو والسابق ، كما في صورة التوارد في زمان واحد. والأسبقيّة لا تصلح للترجيح حينئذ ، لأنّ العلّيّة إذا كانت مستدامة كانت بالنسبة إلى كلّ زمان كالعلّة الابتدائيّة (1). والظاهر أنّه أراد بما أفاده أنّه يلتزم بتعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب المتعاقبة ، لكن بواسطة اعتبار الزمان جزءا من المسبّب ، فالحدث الحاصل في القطعة الاولى من الزمان مسبّب عن النوم الأوّل مثلا وفي الثانية عن الثاني وهكذا ... وإن كانت العبارة غير خالية عن حزازة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وجه الفساد : أنّ بعد ما عرفت من العلاج لا حاجة إلى هذه التكلّفات التي لا يساعدها اعتبار ، فإنّ استفادة هذه التقييدات من دليل السببيّة فيما إذا كان لفظا ممّا لا سبيل إليها ، وإذا كان عقلا - كما في الأسباب العقليّة - يلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، إذ المفروض أنّ السبب الأوّل إذا لم يتعاقبه السبب الثاني يكفي في الاستدامة أيضا ، فلحوق الثاني لا يترتّب عليه شيء قطعا ، وذلك ظاهر.

الثاني من الأمرين (2) اللذين يمكن الاستناد إليهما في منع المقدّمة الاولى من الدليل المذكور : ما يمكن استظهاره ممّا قدّمنا.

ص: 65


1- الفصول : 385.
2- تقدّم أولهما في الصفحة : 59.

ومحصّله : أنّ قضيّة القواعد اللفظيّة فيما نحن بصدده وحدة الأثر والتكليف ؛ وذلك لأنّ اللفظ الواقع في الجزاء موضوع للطبيعة المرسلة التي لا يشوبها شوب التعدّد - كما هو المختار في وضع (1) اسم الجنس - ولا شكّ أنّ الماهيّة في تلك المرتبة واحدة فلا تتحمّل وجوبين ، إذ لا فرق في امتناع الأمثال بين أن يكون الوحدة شخصيّة أو نوعيّة ، فعند تعدّد الأسباب لا دليل على تعدّد الآثار والتكاليف ، لعدم صلاحيّة الفعل المتعلّق للتكليف المدلول عليه باللفظ المأخوذ في الجزاء للتعدّد ؛ ولذلك قلنا : عند تعدّد الأوامر الابتدائيّة لا دليل على ترجيح التأسيس على التأكيد ، فإنّ التأكيد (2) بمقتضى اللفظ بعد كونه معنى انتزاعيّا.

لا يقال : إنّ كون الماهيّة في تلك المرتبة متّحدة لا يجدي في دعوى الاتّحاد ، لأنّ الوحدة أيضا خارجة عنها وإن كانت متّصفة بها حقيقة ، فمدلول اللفظ لا ينافي الكثرة.

لأنّا نقول : عدم دلالة اللفظ على الكثرة كاف في المدّعى ، لإثبات الوحدة بالأصل عند عدم الدليل على خلافها.

أقول : إنّ بعد الاعتراف بأنّ اللفظ الواقع في الجزاء إنّما هو موضوع لنفس الماهيّة الخارجة عنها الوحدة وغيرها من أوصاف الماهيّة ، لا ينبغي الارتياب في تعدّد الأثر والتكليف ؛ إذ الوحدة لا وجه لها حينئذ إلاّ الأصل ، وهو لا يقاوم الدليل ، وهو ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، ولازمها التعدّد في المحلّ القابل ، والمفروض قابليّة المحلّ أيضا ، لعدم مدخليّة الوحدة النوعيّة في الموضوع له.

ص: 66


1- في ( ع ) : « موضوع ».
2- لم يرد « فإنّ التأكيد » في ( ع ).

فإن قلت : على تقدير التعدّد لا بدّ من تقييد إطلاق المسبّب أيضا ، فإنّ المطلوب في الثاني ليس نفس المطلوب في الأوّل ، بل لا بدّ أن يكون مغايرا ، فيؤول الأمر إلى القول بأنّ المطلوب هو الفرد المغاير للفرد الأوّل المطلوب بالسبب الأوّل ، ولا شكّ أنّ ذلك تقييد ، وأصالة الإطلاق محكّمة عند الشكّ.

قلت : نعم ، ولكن ذلك التقييد ليس في عرض ظهور دليل السببيّة في الفعليّة ، بل إنّما يقضي به العقل بعد الأخذ بذلك الظهور.

وتوضيح المطلب : أنّ الاستناد إلى الإطلاق ليس بواسطة عدم البيان وانتفاء ما يقضي التقييد ، وبعد وجود ما يصلح له لا وجه للقول بمعارضة ظهور الإطلاق لظهور ذلك الصالح ، فإنّه بيان له كما قرّر في محلّه ، فبعد ما فرضنا من ظهور دليل السببيّة في الفعليّة لا بدّ من ذلك التقييد ، لأنّ ذلك الظهور دليل على التقييد.

ومن هنا يظهر أنّه لا يقاس حال الأوامر الابتدائيّة بما نحن بصدده ، فإنّ مجرّد قابليّة الفعل المتعلّق للأمر لا يقتضي التعدّد كما هو الحال فيها ، بل لا بدّ من أمر آخر يقضي به ، كما في تعدّد الأسباب ، فظهر الفرق وبطل القياس.

ومن الغريب! ما وقع عن بعض الاعلام (1) : من تسليم ظهور الأوامر الابتدائيّة في التعدّد دون ما نحن فيه ، مع ما عرفت من أنّ التحقيق على خلافه.

ثم إنّه بما ذكرنا أيضا يظهر فساد ما توهّم بعضهم (2) : من أنّ المسبّب الثاني لا بدّ أن يكون مغايرا للمسبّب الأوّل ؛ إذ على تقدير التغاير يلزم استعمال اللفظ في

ص: 67


1- وهو صاحب هداية المسترشدين كما سيجيء في الصفحة : 72.
2- عوائد الأيام : 300 ، العائدة 31.

معنييه. بيان اللزوم هو : أنّ قولك : « إن سلّم عليك زيد فأكرمه » يراد من الإكرام طبيعة الإكرام عند انفراد السلام ، وإذا انضمّ إليه فرد آخر من السلام لا بدّ أن يراد منه الفرد المغاير ، وهو معنى مجازي للإكرام ، وهو المراد باللازم.

وجه الفساد : أنّ لفظ « الاكرام » لا يراد به إلاّ نفس الطبيعة ، وهذه التصرّفات ممّا يدلّ عليه العقل في مقام امتثال الأمر المتعلّق بتلك الطبيعة ، ألا ترى أنّه لو صرّح الآمر بأنّ المطلوب هو تعدّد الوجودات عند تعدّد الأفراد المندرجة في السبب ، لا يعدّ ذلك قرينة على الاستعمال المذكور ، ولو كان كما زعمه يلزمه وقوع ذلك الاستعمال في جميع الموارد التي ثبت فيها عدم التداخل ، ولا أظنّه راضيا بذلك.

هذا محصّل الكلام في إثبات المقدّمة القائلة بأنّ السبب الثاني لا بدّ وأنّ يكون مؤثّرا.

وأمّا المقدّمة الثانية (1) التي يطلب فيها مغايرة الأثر الحاصل من السبب الأوّل للأثر الحاصل من الثاني ، فمنعها جماعة ، منهم المحقّق النراقي.

قال في محكيّ العوائد - بعد ما نقلنا منه من دعوى معرّفيّة الأسباب الشرعيّة ، ولا ضير في تواردها نظرا إلى إمكان ذلك في الموجود الذهني - ما محصّله : إنّه لا شكّ في أنّ الأسباب الشرعيّة علل للأحكام المتعلّقة لأفعال المكلّف ، لا لنفس الأفعال ؛ ضرورة لزوم الانفكاك على تقدير علّيّتها لها لا لأحكامها ، فتعدّدها لا يوجب تعدّد الفعل ، وإنّما يوجب تعدّد معلولها وهو الوجوب ، وتعدّد الوجوب لا دلالة فيه على وجوب إيجاد الفعل متعدّدا ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ، كما في الإفطار بالحرام في نهار

ص: 68


1- تقدّمت في الصفحة : 59.

رمضان وقتل زيد القاتل المرتدّ (1) ، انتهى ملخّصا.

وأشعر به بعض الأعلام أيضا ، حيث قال : إنّ تعدّد التكليف بنفسه لا يقتضي تعدّد المكلّف به إلاّ أن ينضمّ إليه ظهور عرفي (2). انتهى.

أقول : بعد تسليم أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب حقيقيّة كالأسباب العقليّة والعاديّة لا وجه لما ذكره ، وتحقيقه : أنّا نلتزم بأنّ الأسباب الشرعيّة أسباب لنفس الأحكام لا لمتعلّقاتها ، ومع ذلك يجب تعدّد إيجاد الفعل في الخارج كما هو المطلوب ، فإنّ المسبّب حينئذ يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاد الفعل ، ولا شكّ أنّ السبب الأوّل يقتضي ذلك ، فإذا فرضنا وجود مثله فيوجب استعمالا آخر ، إذ لو لم يقتض ذلك فإمّا أن يكون بواسطة نقص في السبب أو في المسبّب ، وليس شيء منهما. أمّا الأوّل : فلما هو المفروض ، وأمّا الثاني : فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد وعدمه إنّما هو تابع لقبول الفعل المتعلّق له وعدمه كما هو ظاهر للمتأمّل ، والمفروض قبوله للتعدّد ، إذ لا وحدة فيها لا شخصا ولا نوعا ، كما قرّرنا.

قولك : « يمكن تعلّق فردين من حكم بفعل واحد ».

نقول : ذلك إنّما هو بواسطة وحدة المحلّ وعدم قبوله للتعدّد ، فإنّ الإفطار بالحرام فعل خاصّ لا يحتمل التعدّد فلا يتحمّل وجوبين إلاّ على وجه التأكيد واضمحلال الضعيف في الشديد على وجه لا يكون هناك فردان من الوجوب ، لامتناع اجتماع الأمثال ، فلا يقاس ذلك بما إذا كان المحلّ قابلا.

ص: 69


1- عوائد الأيام : 297 - 298.
2- الظاهر أن المراد من بعض الأعلام هو صاحب هداية المسترشدين ، كما عبّر عنه في الصفحة 72 وغيرها ، ولكن لم نعثر على العبارة بعينها في الهداية ، نعم يوجد ما يفيد ذلك ، راجع هداية المسترشدين 1 : 708 - 712.

فإن قلت : إذا كان التأكيد معقولا فلا مانع من احتماله في المحلّ القابل أيضا ، فعلى المستدلّ رفع ذلك الاحتمال بالدليل.

قلت : إنّ ملاحظة الأسباب العقليّة رافعة لهذا الاحتمال ، فإنّه إذا فرضنا سببيّة كلّيّ لكلّيّ آخر قابل للتعدّد لا يعقل التأكيد ، إذ على تقديره لا دليل على وجود الأفراد المتعدّدة ، مع أنّه مشاهد بالعيان في الأسباب العقليّة. فظهر أنّ المانع إنّما هو اعتبار وحدة المحلّ سواء كانت الوحدة شخصيّة أو نوعيّة. والحاصل أنّ السبب الأوّل يقتضي اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الطبيعة المهملة ، والمفروض مماثلة السبب الثاني للأوّل في التأثير والمسبّب ، فيقتضي اشتغال الذمّة تارة اخرى ، كما في الأسباب العقليّة.

نعم ، ما ذكره يتمّ في الأوامر الابتدائيّة مع قبول المحلّ أيضا ، لأنّ مجرّد القابليّة غير قاضية بالتعدّد ، بل إنّما يحتاج إلى ما يقتضيه ، والاشتغال الحاصل بالأمر الثاني فيها لا نسلّم مغايرته للأمر الأوّل حتّى يكون مقتضيا للتعدّد ، لاحتمال التأكيد الموافق لظاهر الأمر بالطبيعة ، كما أشرنا إليه سابقا.

هذا إن اريد من التأكيد المحتمل في المقام تأكيد مرتبة الطلب والوجوب وإن كان حصوله بواسطة لحوق جهة مغايرة للجهة الاولى ، كما في التأكيد الحاصل بالتحريم للإفطار في نهار رمضان من جهتين. وإن اريد التأكيد نحو الحاصل في الأوامر المتعدّدة الابتدائيّة كالأوامر المتعلّقة بالصلاة في الكتاب والسنّة ، ففساده أظهر من أن يخفى وإن كان يوهمه بعض عباراتهم ويتعاطونه طلبة عصرنا ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل ووارد في مورده في التأكيدات ، كما هو ظاهر. وذلك بخلاف ما نحن فيه ضرورة حصول الاشتغال والوجوب على وجه التعدّد قبل وجود السبب بنفس الكلام

ص: 70

الدالّ على السببيّة ، فتكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه - وهو وجود السبب - يتحقّق الاشتغال بأفراد متعدّدة. ويمكن أن يجاب بالتزام أنّها أسباب لنفس الأفعال لا لأحكامها.

قوله : « ضرورة لزوم الانفكاك » (1).

قلنا : إنّ الجنابة - مثلا - سبب جعليّ لا عقليّ ولا عاديّ ، ومعنى السبب الجعلي هو أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل للغسل مثلا على وجه لو انقدح في نفوسنا لكنّا جازمين بالسببيّة ، يكشف عن ذلك ملاحظة قولك لعبدك : « إذا جاء زيد من السفر فأضفه » فإنّ للضيافة نحو ارتباط بالمجيء ، فالقول بأنّها ليست بأسباب لنفس الأفعال ، لا وجه له ؛ ولذا اشتهر في الأفواه والألسن : أنّ أسباب الغسل والوضوء كذا. إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا يسمن (2) فإنّ معنى جعليّة السبب ليس إلاّ مطلوبيّة المسبّب عند وجود السبب.

والارتباط المدّعي بين الشرط والجزاء حيث يكون الجزاء (3) من الأفعال الاختياريّة هو كون الشرط موردا لانتزاع أمر يصحّ جعله غاية للفعل المذكور ، كما يظهر بملاحظة قولك : « إذا قدم زيد من السفر فأضفه » فإنّ السفر مورد لما هو الغاية ولو على وجه انتزاعي كما لا يخفى ، فالتعويل في دفع المنع المذكور على ما ذكرنا.

ص: 71


1- أي : قول المحقّق النراقي المتقدّم في الصفحة : 68.
2- في ( ع ) : « لا يثمر ».
3- في ( ع ) : « الفعل ».

وأمّا الكلام في المقدّمة الثالثة (1) القائلة بأنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل ولا يكفي إيجاد فعل واحد في مقام فعلين ، فلم أر مصرّحا بدعوى الكفاية بعد تسليم المقدّمتين السابقتين.

نعم ، لا يبعد حمل كلام المحقّق الخوانساري (2) على ذلك وإن احتمل رجوعه إلى منع الثانية أيضا ، حيث قال : إنّ الظاهر اقتضاء كلّ من الأسباب مسمّى الغسل ، وهو متحقّق في ضمن فرد واحد. ولا يخفى احتماله للوجهين.

وربما يمكن استفادته من بعض الأعلام أيضا ، فإنّه عوّل في استفادة التعدّد في الأوامر الابتدائيّة على ما هو خارج عن مقتضى اللفظ ، حيث أجاب عمّا أورد على نفسه : من أنّ قضيّة إطلاق المادّة عدم التعدّد لكفاية المسمّى فمن أين يجيء التقييد؟ بقوله : يمكن استناد ذلك إلى ضمّ أحد الأمرين إلى الآخر (3) ، فإنّ الفرق بين الأوامر الابتدائيّة والمسبوقة بالأسباب من هذه الجهة غير معقول ، وإن كان يظهر منه الفرق لكن بدعوى ظهور الابتدائيّة في التعدّد دون العكس ، كما أشرنا إليه.

ومن الغريب! قوله في جواب السؤال المذكور : بل لا يبعد القول في المقام بإسناد الفهم المذكور إلى خصوص كلّ من الأمرين ، لقضاء كلّ منهما باستقلاله في إيجاب الطبيعة ووجوب الإتيان بها من جهته ، وقضيّة ذلك تعدّد الواجبين المقتضي للزوم الإتيان بهما كذلك (4). فإنّ دعوى ذلك في غير ذوات الأسباب لا أعرف الوجه فيها.

ص: 72


1- تقدّمت في الصفحة : 59.
2- مشارق الشموس : 68.
3- هداية المسترشدين 1 : 704.
4- هداية المسترشدين 1 : 704.

وكيف كان ، فيحتمل رجوع هذه الكلمات إلى المقدّمة الثانية ، كما يحتمل رجوعها إلى الثالثة ، وعلى الأوّل فقد استوفينا ما عندنا ، وعلى الثاني نقول : قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ، ولا يعقل تداخل فردين من ماهيّة واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضا على ذلك التقدير ، إلاّ أن يكون ناسخا لحكم السببيّة.

وأمّا تداخل الأغسال فبواسطة تداخل ماهيّاتها ، كما كشف عنه رواية الحقوق (1) ، مثل تداخل الإكرام والضيافة فيما إذا قيل : « إذا جاء زيد فأكرم عالما وإن سلّم عليك فأضف هاشميّا » فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي على وجه الضيافة فيما لو قصد امتثال الأمرين في التعبّديّات ، وأين ذلك من تداخل الفردين؟

لا يقال : إنّ تعدّد الأسباب يحتمل أن يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات أيضا ، فيصحّ دعوى الاكتفاء.

لأنّا نقول : ظهور لفظ المسبّب في ماهيّة واحدة ممّا لا يقبل الإنكار. ولو سلّمنا فلا يجدي ، لعدم العلم بالتصادق لإمكان المباينة ، فالقاعدة قاضية بالتعدّد.

وما ذكرنا محصّل الدليل المذكور. ولهم وجوه أخر كلّها مزيّفة لا فائدة في إيرادها ، فليراجع الى فوائد السيّد السند بحر العلوم (2). وممّا ذكرنا يظهر احتجاج القائل بالتداخل أيضا من الأصل وغيره ، فلا نطيل بالإعادة.

ص: 73


1- راجع الوسائل 1 : 526 ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.
2- الفوائد الاصوليّة : 119.

واحتجّ ابن إدريس رحمه اللّه على ما ذهب إليه من التفصيل - من التعدّد عند اختلاف الأجناس وعدمه عند الاتّحاد - بدعوى الصدق على الثاني ، وبإطلاق السببيّة على الأوّل.

قال في محكيّ السرائر في مسألة تكرّر الكفّارة عند تكرّر وطء الحائض - بعد أن اختار العدم - : الأصل براءة الذمّة ، وأمّا العموم فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذه المواضع ، لأنّ هذه أسماء أجناس (1). وقال في بحث السجود ما يظهر منه الوجه المذكور - إلى أن قال - : فأمّا إذا اختلف الجنس فالأولى عندي بل الواجب الإتيان عند كلّ جنس بسجدتي السهو ، لعدم الدليل على تداخل الأجناس (2) ، انتهى.

والإنصاف أنّه لا وجه للتفصيل المزبور ؛ إذ بعد الإذعان بامتناع توارد الأسباب والعلل على معلول واحد ، لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك بين تلك الأجناس المختلفة على وجه لا مدخليّة لخصوصيّات تلك الأجناس ، كما لا مدخليّة لخصوصيّات أفراد تلك الأجناس وأشخاصها ، على ما أشرنا إلى تحقيقه إجمالا. وحينئذ فإمّا نقول بعدم التداخل نظرا إلى الدليل المذكور ، أو لا نقول بواسطة تطرّق المنع إلى إحدى مقدّماته. وعلى التقديرين لا وجه للتفصيل ، فدعوى الصدق في متّحد الجنس تناقض دعوى الإطلاق في متعدّده.

ص: 74


1- السرائر 1 : 144.
2- السرائر 1 : 258.

فائدتان

الأولى : قد سبق أنّ التداخل تارة سببيّ ومرجعه إلى : دعوى عدم تعدّد الأوامر والآثار والاشتغال والتكليف ، واخرى مسببيّ ومرجعه إلى : دعوى صدق الامتثال والاكتفاء بفرد واحد عند تعدّد التكاليف والاشتغالات.

فعلى الأوّل ، تعدّد الفعل في الخارج بقصد المشروعيّة غير جائز ، لعدم الدليل على ذلك حينئذ ، فيكون تشريعا محرّما.

وعلى الثاني ، فإمّا يكون الفرد الذي يراد الاكتفاء به في مقام امتثال التكاليف مجمعا لعناوين الأفعال التي تعلّق التكليف بها ولو عند عدم إرادة اجتماع تلك العناوين ، كما فيما فرضنا من مثال العالم الهاشمي ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل الاجتماع موقوف على القصد وإرادته. فعلى الأوّل أيضا لا يجوز إيجاد الفعل في الخارج متعدّدا إلاّ إذا كان أحدهما أو كلاهما عبادة مع عدم قصد الإطاعة فإنّه حينئذ يجب إيجاده متعدّدا لتوقّف الامتثال عليه. وعلى الثاني فالتعدّد وعدمه موقوف على القصد ، فمن قصد إيجاد عنوانين من عناوين الفعل لا يجوز له تكرارهما ، بخلاف العنوان الغير المقصود ، فإنّه يجوز ترك الفعل قصدا إلى ذلك العنوان. وإلى ذلك أشرنا في صدر المسألة (1) ، حيث قلنا : إنّ التداخل على الأوّل عزيمة وعلى الثاني رخصة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المسبّب من التوصّليّات أو من التعبّديّات ، إذ بعد ما عرفت من أنّ المطلوب هو تكرّر وجودات الفعل على تقدير عدم تداخل الأسباب ، لا بدّ من إيجاد الفعل التوصّلي مرّتين.

ص: 75


1- راجع الصفحة : 52.

وما يتوهّم : من أنّه على تقدير التوصّليّة لا يجب ذلك لحصول المطلوب بالمرّة الاولى فيكون التداخل عزيمة ، فاسدة جدّا ؛ لأنّ قضيّة التوصّليّة ليست إلاّ عدم اعتبار قصد الامتثال فيه ، ولا مدخل لها في لزوم إيجاد الفعل مرّتين وعدمه كما هو المقصود في المقام.

نعم ، يثمر التوصّليّة فيما إذا كان هناك عنوانان ، أحدهما مسبّب والآخر مأمور به ابتداء ، كالوضوء المسبّب عن أحد أسبابه وغسل موضع الوضوء إذا كان نجسا ولم نشترط سبق الطهارة ، فإنّه يمكن القول بأنّ العنوان الابتدائي حيث كان توصّليّا يحصل في ضمن العنوان المسبّب ولا يجوز تكراره عزيمة.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لجعل هذه المسألة من موارد تداخل الأسباب ، فإنّ أحد العنوانين من الأوامر الابتدائيّة.

وممّا ذكرنا أيضا يظهر أنّه في مورد التداخل وعدمه لا وجه للاحتياط من جهة حصول المأمور به وعدمه ، إذ على تقدير التداخل في السبب فالأمر ظاهر من هذه الجهة ، وأمّا احتمال عدم تداخل الأسباب فهو يورث احتياطا آخر من جهة اخرى. وعلى تقدير تداخل المسبّبات ففيما لم يتوقّف على القصد فالأمر أيضا ظاهر ، وفيما توقّف عليه لا بدّ منه عند إرادة الاكتفاء ، وعند عدمه يلزم التعدّد فلا يبقى محلّ الاحتياط. نعم ، يبقى من حيث إنّ امتثال هذه المسألة من الاجتهاديّات النظريّة ، فيحسن الاحتياط من جهة الخروج عن شبهة الخلاف.

الثانية : قد يتعدّد الأسباب الشرعيّة وتتوارد على مسبّب واحد غير الفعل ، مثل اجتماع عقدي الأب والجدّ على البنت لزوجين ، واجتماع بيع الوكيل والمالك في صيغة واحدة من شخصين ، واجتماع وصايا عديدة على مال واحد لأشخاص ، ونحو ذلك من الموارد المختلفة المتشتّتة.

ص: 76

ويظهر من مطاوي كلماتهم تارة الحكم بالسقوط من الطرفين ، كما في المثالين الأوّلين. واخرى الحكم بالتشريك كما في المثال الأخير.

ولم يظهر لنا وجه في ذلك إلاّ ما قد يقال : من أنّه لا بدّ من إعمال السببين بقدر الإمكان نظرا إلى إطلاق دليل السببيّة في مورد يقبل التشريك ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل السببيّة. وقضيّة ذلك التشريك في الوصايا ، وفي مورد لا يقبل ذلك يحكم بالسقوط ، كما في عقد الوليّين على الصغيرة.

إلاّ أنّه مع ذلك فلا يشفي العليل ، إذ - بعد الغضّ عن عدم الاطّراد ، كما يظهر لمن راجع كلماتهم - يرد عليه : أنّ قضيّة القاعدة السقوط في جميع الموارد ، إذ بعد ما هو المقرّر من امتناع اجتماع العلل المتعدّدة لا بدّ من القول بأنّ العلّة هو القدر المشترك ، وأفراده إنّما هي علّة إذ لم تكن مسبوقة بأمثالها ، نظرا إلى امتناع اجتماع الأمثال وتحصيل الحاصل ، فإذا تقارن فردان من ماهيّة السبب لا وجه للقول بكلّ واحد منهما أو أحدهما سببا مؤثّرا ، لمقارنة كلّ واحد منهما مع ما يمنع عن استناد الأثر إليه.

فإن قلت : فعلى ذلك لا بدّ من القول بالسقوط فيما إذا عقد الوليّان على الصغيرة لشخص واحد ، لعين ما ذكر من وجود المانع.

قلت : السبب على ما عرفت هو القدر المشترك ، ولا عبرة بخصوص الوجودات ، ولا تعدّد في القدر المشترك ، فالوجودات الخاصّة مظاهر له ، فلا وجه للقول بالسقوط. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ بناء العرف والعقلاء على التشريك فيما يقبل ذلك ، ونحن لم نحقّقه (1). إلاّ أنّ التشريك في خصوص الوصيّة لا يبعد الالتزام به ،

ص: 77


1- كذا ، والمناسب : لم نتحقّقه.

لظهور الفرق بينها وبين عقد الوليّين على صيغة واحدة من (1) شخصين ، فإنّ تعدّد الوصايا وإنشائها إنّما يكون على وجه التعدّد والاستقلال لأشخاص متعدّدة من دون أولها إلى رجوع غير معقول ، وحيث إنّ الموصي إنّما يكون في مقام الإفادة وليس لاغيا فيصرف إلى إرادة التشريك ، ولا يضرّ ذلك عدم صراحة اللفظ في التشريك لوسعة الدائرة في الوصيّة. نعم ، لو كان ذلك في البيع لم يكن البيع نافذا ، لاشتراطهم صراحة اللفظ في عقد البيع وغيره من العقود. فتأمّل في المقام ، فإنّه بعد محتاج إليه.

ص: 78


1- في ( ع ) بدل « من » : « على ».

هداية

اشارة

الحقّ - كما عليه المشهور - أنّ إثبات حكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها لا يستلزم انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة.

وما ذكرنا في العنوان أولى ممّا ذكره غير واحد ، منهم الآمدي حيث قال : « اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ... » (1).

وجه الأولويّة : أنّ ما ذكره لا يشمل ما إذا كان الموضوع وصفا من الأوصاف كأن يقال : « أكرم عالما » ودخوله فيما ذكرنا ظاهر ، حيث يصدق عليه أنّه إثبات حكم لذات ، سواء قلنا باعتبار الذات في المشتق أم لا ، وعلى الأوّل ظاهر ، وأمّا على الثاني فلأنّ النزاع يجري فيه على ذلك التقدير أيضا ، كما لا يخفى.

كما أنّ عنوان الآمدي أولى من عنوان غيره : من أنّ تعليق الحكم بالصفة لا يدلّ على انتفائه بانتفائها ؛ كما صنعه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) ؛ لظهور أنّ اعتبار التعليق إنّما يناسب مفهوم الشرط ونحوه.

وقد يقال بخروج المثال المذكور عن محلّ النزاع. ولم يظهر وجهه. بل قيل بدخول الوصف الضمني في النزاع (3) ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لأن يمتلئ بطن الرجل قيحا

ص: 79


1- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 80.
2- القوانين 1 : 178.
3- قاله صاحب هداية المسترشدين 2 : 469 ، وراجع مناهج الأحكام : 130 ، والقوانين 1 : 178 أيضا.

خير من أن يمتلئ شعرا » (1) فإنّ امتلاء البطن كناية عن الشعر الكثير ، فيدلّ بمفهومه على عدم البأس بالشعر القليل. وهو ليس ببعيد ، لجريان مناط الأقوال فيه كما في الكلمات المتضمّنة معنى الشرط في النزاع السابق.

وهل الحال داخل في النزاع أو لا؟ صرّح بدخوله بعض الأفاضل (2) إلاّ أنّ الظاهر من كلماتهم اختصاص النزاع بما كان قيدا للموضوع لا الحكم ، بل يحتمل إلحاقه بمفهوم الشرط ، فإنّ قولك : « اضرب زيدا قائما » بمنزلة قولك : « إن كان قائما فاضربه ».

والإنصاف أنّ مناط الأقوال موجود فيه ، بل ربما يحكى عن بعضهم (3) عدّ جميع جهات التخصيص منه ، فالمعدود والمحدود موصوفان بالعدّ (4) والحدّ ، إلاّ أنّ وجود المناط ممّا ينهض وجها للإلحاق لا للإدخال.

ولا فرق فيما ذكرنا بين اعتبار الوصف في كلام إنشائي أو خبري ، وما يوجد في بعض كلماتهم من الاختصاص فمحمول على المثال.

ثمّ إنّ الوصف قد يكون مساويا للموصوف ، وقد يكون أخصّ مطلقا ، وقد يكون أخصّ من وجه. فعلى الأوّل لا وجه للنزاع المذكور ، لعدم تحقّق موضوعه ، كما إذا كان أعمّ. وعلى الثاني فالنزاع جار. وعلى الثالث فهل يجري فيه النزاع بالنسبة إلى الافتراق من جانب الوصف كما يظهر من بعض الشافعيّة - حيث قال : إنّ قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يدلّ على عدم الزكاة

ص: 80


1- الوسائل 5 : 83 ، الباب 51 من أبواب صلاة الجمعة ، الحديث 3.
2- وهو صاحب هداية المسترشدين 2 : 469.
3- لم نعثر عليه.
4- في ( ع ) : « بالعدد ».

في معلوفة الإبل (1) - أو لا يجري كما يظهر من جماعة؟ الظاهر هو الثاني ، حيث إنّ المطابقة بين المنطوق والمفهوم - كما عرفت وستعرف - من الشروط ، واختلاف الموضوع من أشدّ أنحاء عدم المطابقة. نعم ، يتمّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ الوصف علّة مستقلّة كما في منصوص العلّة ، فيخرج بذلك عن مفهوم الوصف.

ومن هنا يظهر حال المحكيّ عن العلاّمة (2) حيث فصّل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره ، فإنّ مجرّد العلّيّة إنّما يقضي بعدم التخلّف في موارد الوجود كما في منصوص العلّة ، وأين ذلك من الانتفاء عند الانتفاء المطلوب في المقام؟ اللّهم إلاّ أن يقال بأنّه يلزم ذلك فيما لو علم انحصار العلّة. وهو كذلك إلاّ أنّه خروج عن محلّ النزاع ؛ فإنّ الكلام مع قطع النظر عن القرائن المفيدة للمفهوم مثل الأوصاف الواقعة في الحدود والتعاريف ، حيث إنّها يقصد بها الإصلاح طردا وعكسا الملازم لإرادة المفهوم ، كما لا يخفى.

ومن أوضح القرائن على إرادة المفهوم ما إذا كان الوصف عدميّا ، كقولك : « أكرم رجلا لا يكون جاهلا » أو قولك : « غير جاهل » وأشباه ذلك ، فالتفصيل بين هذه المقامات غير واقع في محلّه ، كما صدر عن الفاضل النراقي (3).

ثم إنّ المراد بالمفهوم في المقام هو ما نبّهنا عليه في مفهوم الشرط من أنّ المقصود - على القول بالمفهوم - ليس رفع الحكم الشخصي الثابت بالكلام ، فإنّ ذلك ليس من المفهوم في شيء ، فإنّ قولك : « أكرم زيدا » لا يدلّ إلاّ على وجوب

ص: 81


1- تخريج أحاديث اللمع في اصول الفقه : 140 ، وفيه : ومن أصحابنا من قال : يدلّ على نفيها عمّا عداها في جميع الأجناس.
2- حكاه في هداية المسترشدين 2 : 498 ، والمفاتيح : 220.
3- انظر مناهج الأحكام : 130.

إكرام زيد ، وغير زيد لا يكون فيه ذلك الحكم قطعا بالخطاب المذكور ، بل المقصود رفع سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف ، على وجه يكون القضيّة المشتملة على الوصف منحلّة إلى عقد إيجابيّ وهو الثبوت في محلّ الوصف ، وعقد سلبيّ في غير محلّه مثلا.

وبهذا اندفع ما توهّمه بعض (1) من التنافي بين ما ذهب إليه المشهور من عدم المفهوم في الوصف ، وبين ما قالوا بالتخصيص في مباحث العامّ والخاصّ ، كقولك : أكرم العلماء الطوال ، فإنّه لا يجب إكرام القصار ، لا من حيث إنّ تقييد العلماء بالوصف دلّ على عدم الحكم في القصار حتّى يكون من المفهوم ، بل من حيث إنّ وجوب الإكرام في غير المنصوص بوجوبه يحتاج إلى دليل ، والنصّ مختصّ بمحلّ الوصف ، فلا يعارض ما دلّ الدليل على وجوبه أيضا.

وأغرب من ذلك! جواب البعض (2) من التنافي : بأنّ الحيثيّات مختلفة ، فإنّ الوصف تارة يعتبر من حيث كونه مقتفيا بالعامّ واخرى من حيث نفسه ، فهما لمّا كانا مختلفين موضوعا ، فلا إشكال لو اختلفا حكما.

وأفسد من ذلك! ما اجيب أيضا (3) : بأنّ ذلك من جهة تعليق الحكم على العامّ الموصوف ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الحكم على نفس الصفة. فانّ هذه كلمات صدرت عن غير تأمّل.

ونظير ذلك ما أورده شيخنا البهائي : من أنّ القائلين بعدم حجيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا بمفهومها في نحو « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن

ص: 82


1- نقله عن بعض مشايخه المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : 244.
2- وهو المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : 244.
3- المصدر السابق.

مفهوم الصفة حجّة عندهم كيف يقيّدون بها ، فما هذا إلاّ التناقض؟ وأجاب عن ذلك : بأنّ مفهوم الوصف إمّا أن يكون في مقابله مطلق - كما في المثال المذكور - أو لا ، ففي الأوّل قالوا بالحجيّة ، وفي الثاني قالوا بعدم الحجّيّة ، فلا تناقض (1).

وفيه : أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة المنطوق من غير ملاحظة المفهوم ، بل لو فرض اعتبار المفهوم فلقائل أن يقول بعدم الجمل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ محصّل الحمل هو أنّ المراد من المطلق هو المقيّد ، فيكون غير المقيّد في قولك : « اعتق رقبة مؤمنة » غير واجب ، بمعنى أنّ اللفظ المذكور والإنشاء الخاصّ لا يدلّ على وجوبه مطلقا ، سواء كان وجوبا عينيّا أو وجوبا تخييريّا. أمّا الأوّل فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالمقيّد فلا يكون المطلق وغيره من أفراده المخالفة للمقيّد واجبا عينيّا. وأمّا الثاني فلأنّ الوجوب التخييري إنّما هو من فروع تعلّق الوجوب العيني بالمطلق ، وقد فرضنا خلافه.

ولا ينافي ذلك ورود دليل آخر يدلّ على وجوب غير المقيّد عينا فيما إذا كان غير المطلق ؛ إذ على تقديره فلا بدّ من حمله أيضا ، إذ لا فرق بين تعدّد الأمر بالمطلق واتّحاده ، نعم يدلّ على عدم تعلّق الوجوب التخييري ، فلو دلّ دليل على ثبوته غير الإطلاق نقول بتعارضه. ولا سبيل إلى توهّم أنّ نفي الوجوب التخييري من جهة المفهوم ، فإنّ ذلك من مقتضيات الحمل ؛ ولذلك نقول به في اللقب أيضا ، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّا لو قلنا بثبوت المفهوم للوصف كان التعارض بين المطلق والمقيّد من قبيل تعارض الظاهرين ، وقد تقرّر في مقامه : من أنّه لا بدّ في مثله من التوقّف والحكم بمقتضى الاصول العمليّة ، فلا سبيل إلى الحمل ؛ لأنّه فرع

ص: 83


1- لم نعثر عليه.

عدم المعارضة كما هو التحقيق في وجه الحمل بناء على أنّ المطلق حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء ، أو دعوى أظهريّة المقيّد من ظهور المطلق كالعامّ والخاصّ بناء على ما هو المنسوب إلى المشهور ، كما ستطّلع على تفاصيله في محلّه إن شاء اللّه الرحمن.

وأمّا بيان اللزوم : فلأنّ الحمل على ذلك التقدير موقوف على أن يراد من الكلام المشتمل على الصفة نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، إذ لو كان عينيّا فقط لا سبيل إلى الحمل ، لعدم المنافاة بين عدم الوجوب العيني والوجوب التخييري ، فإن قلنا بكفاية هذا المقدار في ثبوت المفهوم ؛ نظرا إلى لزوم اتّحاد القضيتين في المفهوم والمنطوق ، فلا شكّ في عدم اقتضائه الحمل. وإن قلنا بأنّ المعتبر في المفهوم نفي سنخ الوجوب ، سواء كان تخييريّا أو عينيّا ، فلا شكّ أنّ دلالة المقيّد عليه حينئذ بالظهور ، ولا ترجيح لهذا الظهور بالنسبة إلى ظهور المطلق في الوجوب التخييري ، بل قد يقال بأنّ الثاني أقوى ، نظرا إلى كونه مدلولا منطوقيّا ، إلاّ أن ذلك إنّما يتمّ على مذاق المشهور في المطلق.

وأمّا على مشرب الواقع عندنا ، فلا وجه لذلك ، بل اعتبار المفهوم يؤكّد وجه الحمل كما ستعرف في محلّه إن شاء اللّه. نعم ، يؤيّد الاعتراض ما لو قلنا بثبوت المفهوم من جهة العقل وصونا لكلام الحكيم عن اللغويّة ، فإنّ في ذلك يكفي رفع الوجوب العيني ، فتدبّر في المقام. وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أورده رحمه اللّه في الجواب.

وممّا ذكرنا أيضا يندفع إشكال آخر ، وهو أنّ القائلين بعدم المفهوم متّفقون على أنّ الأمر وما يحذو حذوه ظاهر في الوجوب العيني ، وهو تناقض ؛ فإنّ مقتضى العينيّة عدم وجوب غير محلّ الوصف ، وهو معنى المفهوم.

ووجه الدفع : أنّه إن اريد مقتضى العينيّة نفي الوجوب العيني عن غير محلّ الوصف فهو غير سديد ؛ إذ لا ينافي ذلك ثبوت الوجوب العيني لغيره على القول بعدم المفهوم. وإن اريد أنّ مقتضاه نفي الوجوب التخييري لغيره

ص: 84

فهو غير مفيد ؛ لأنّ ذلك من لوازم تعليق الوجوب العيني به وعدم تعلّقه بالمطلق الخالي عن الوصف.

وبالجملة ، فقد اختلف الأصوليّون في ثبوت المفهوم وعدمه على أقوال :

فنسب إلى كثير من الاصوليّين والفقهاء القول بثبوته.

ولعلّ المشهور بين أصحابنا هو العدم.

وحكي التفصيل بين ما كان في مقام البيان وغيره عن عبد اللّه البصري (1).

وقد عرفت نسبة التفصيل إلى العلاّمة بين ما كان علّة وبين غيره ، كالتفصيل بين كون الوصف من قبيل قولك : « لا يكون » و « غير الجاهل » كما في المناهج (2).

ولعلّ القول منحصر في الأوّلين. وأمّا التفاصيل ففي موارد إثباتها خارجة عن حريم النزاع ، لاستناد الدلالة إلى القرائن الخارجيّة ، كما أشرنا إليه إجمالا.

احتجّ النافي (3) : بأنّه لو دلّ لكان بإحدى الثلاث ، والتالي باطل ، كما يشهد به العرف. وثبوته في الشرط لا يقضي به في الصفة (4) ؛ لظهور الفرق بينهما : من دلالة الجملة الشرطيّة على علّيّة الشرط للجزاء على وجه الانحصار ، بخلاف المقام.

لا يقال : قد ملأ الأسماع قولهم : إنّ التعليق على الوصف يشعر بالعلّية ، فلا وجه للمنع.

لأنّا نقول - بعد الغضّ عن عدم اطّراده كما في قولك : « اشتر لي عبدا أسود » وتسليم أصل الإشعار - لا يثمر في المقام ؛ إذ الإشعار بالعلّية لا ينفي

ص: 85


1- حكاه عنه المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : 130 ، والآمدي في الإحكام 3 : 80.
2- مناهج الأحكام : 130.
3- احتجّ به صاحب الفصول في الفصول : 152 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 130.
4- في ( ع ) : « لا يقتضي ثبوته في الوصف ».

احتمال خصوصيّة المورد أيضا ، فلا إشعار على العلّيّة التامّة ، وعلى تقديره فلا ينفي احتمال التعدّد كما هو المقصود في إثبات المفهوم ، إلاّ أنّه لا ينافي ثبوت المفهوم في الجملة.

وأمّا وجه الإشعار المدّعى ، فيحتمل أن يكون كثرة الفائدة المذكورة من بين الفوائد التي تدعو إلى التوصيف لا على وجه تنهض لصرف اللفظ عمّا وضع له من المعنى الأعمّ كما لا يخفى. ونظير ذلك إجمال المطلق في بعض مراتب تشكيكه.

وإلى هذا الدليل يرجع قولهم : « إنّ الأوصاف ليست إلاّ مثل الجوامد » فكما أنّ أسماء الأجناس لا دلالة فيها على أزيد من الإثبات المذكور نفيا أو إثباتا فكذلك الأوصاف ، غاية ما في الباب أنّ « الغنم » مثلا موضوع للطبيعة مع قطع النظر عن اتّصافها بوصف (1) بخلاف « السائمة » فإنّها موضوعة للطبيعة الملحوظة مع بعض أوصافها ، وذلك لا ينهض دليلا على نفي الحكم عمّا عدا الملحوظة.

واستدلّ (2) أيضا بالأصل. وتقريره : أنّ الأصل هو الاشتراك المعنوي فيما لو استعمل اللفظ في معنيين بينهما جامع قريب ، كما فيما نحن فيه.

احتجّ المثبتون بوجوه :

منها : التبادر عرفا ، فإنّ قول القائل : « اشتر لي عبدا أسود » يدلّ على عدم مطلوبيّة شراء العبد الأبيض ، على وجه لو اشتراه لم يكن ممتثلا.

وأجاب عنه الشهيد الثاني بما عرفت (3) : من التزام المفهوم في القيود الواقعة في الإنشاء. وقد عرفت ما فيه.

ص: 86


1- في ( ط ) : « بالوصف ».
2- أي : النافي.
3- راجع الصفحة : 37.

ومنه يظهر الوجه في فساد الدليل. وبيانه : أنّ عدم مطلوبيّة شراء الأبيض إنّما هو بواسطة المطلوبيّة بالأسود في الإنشاء الخاص ، والكلام ليس فيه. نعم ، لو كان مفاده عدم مطلوبيّته مطلقا كان ذلك وجها.

وربّما يؤيّد التبادر المذكور بدعوى غلبة إرادة المفهوم في كلمات البلغاء ، وهي على تقديرها تنهض وجها للإشعار المدّعى في المقام. وأمّا الزائد فلا نسلّم الغلبة ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّه لولاه لزم اللغو في كلام الحكيم ، والتالي باطل. وأمّا الملازمة ، فلأنّه لا فائدة في التقييد إلاّ ذلك وعند انتفائها يلزم اللغو ، وهو المذكور في التالي.

هذا فيما إذا اعتمد الوصف على الموصوف.

وأمّا إذا كان الحكم محمولا على الوصف - كما في آية النبأ - فقد قرّروا الدليل : بأنّه قد اجتمع فيه وصفان ، أحدهما ذاتيّ وهو كونه خبر الواحد ، والآخر عرضيّ وهو كون مخبره فاسقا ، والمقتضي للتثبّت هو الثاني ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلاّ لوجب الاستناد به ؛ إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّيّة أولى من التعليل بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكم قد حصل قبل حصول العرضيّ.

والجواب : منع الملازمة ؛ لاحتمال فائدة اخرى كالاهتمام بمحلّ الوصف ، كما في قوله « والصلاة الوسطى » أو لعدم احتياج السامع إلى غيره ، أو لدفع توهّم اختصاص الحكم بغيره ، أو لسبق ذلك ، أو لعدم المصلحة في بيان غيره ، أو للتوضيح والكشف ، ونحو ذلك من دواعي التوصيف. مع أنّ ذلك على تقدير تسليمه لا ينهض وجها للمطلوب ؛ لأنّ الكلام في الدلالة اللفظيّة على حدّ غيره من المباحث المتعلّقة بالظواهر اللفظيّة.

ص: 87

ومنها : أنّ « أبا عبيدة » - مع كونه من أهل اللسان الذين ينبغي الرجوع إليهم في تشخيص المعاني - قد فهم من قوله صلى اللّه عليه وآله : « مطل الغنيّ ظلم » أنّ مطل غيره ليس بظلم ، ومن قوله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » أن ليّ غيره لا يحلّ.

والجواب : أنّه إن اريد التمسّك بفهمه مع قطع النظر عن ملاحظة ظهور اللفظ في ما فهمه وعدمه ، فهو على تقدير كونه منزّلا منزلة إخباره بالوضع ، اعتباره مبنيّ على اعتبار قول اللغوي في الأوضاع ، ونحن لا نرى ذلك فيما إذا كان واحدا ولم يكن ما ذكره مؤيّدا بالأمارات الّتي يعوّل عليها في المطالب اللغويّة ، كالتبادر العرفي ونحوه. وبالجملة ، ففي الموارد الغير المعلومة لا بدّ في قبول قول اللغوي من اعتبار شروط الشهادة. وإن اريد بذلك تأييد التبادر المدّعى ، فبعد عدم وجداننا له في العرف لا جدوى فيه.

واعترض عليه (1) : بالمعارضة بما ذكره الاخفش ، من أنّ الأصل في التوصيف التوضيح. وهو غير ثابت.

وفي المقام اعتراضات وأجوبة ركيكة. ونظيره الكلام فيما استدلّ بفهم ابن عبّاس في بعض الآيات (2).

تنبيهات :

الأوّل : وممّا تقرّر عند القائل بثبوت المفهوم في الصفة أنّه يشترط

ص: 88


1- اعترض عليه السيّد المجاهد في المفاتيح : 219 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 130 - 131.
2- للاطّلاع على تفصيل ذلك ، راجع الإحكام إلى اصول الأحكام للآمدي 3 : 83 ، وهداية المسترشدين 2 : 485 - 487.

أن لا يكون واردا مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (1) فإنّ التوصيف في المقام لا يدلّ على انتفاء الحكم في الربائب اللاتي ليست في الحجور.

وعلّله الرازي - على ما حكي - : بأنّ الباعث على التخصيص هو العادة ، فإنّ الربيب غالبا يكون في الحجور ، وإذا احتمل أن يكون ذلك هو الوجه في التخصيص لم يغلب على الظنّ أنّ سببه نفي الحكم عمّا عداه (2). وتبعه في ذلك جماعة (3).

وما ذكره يناسب القول بأنّ التزام المفهوم إنّما هو لأجل إخراج الكلام عن اللغويّة ، أو القول بأنّ أصالة الحقيقة إنّما لا يعوّل عليها إذا لم تكن مفيدة للظنّ ، وإلاّ فعلى القول بالدلالة الوضعيّة مع عدم اعتبار الظنّ لا وجه له ، كما هو ظاهر.

وعلّله المحقّق القمّي : بأنّ النادر هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالعلّة في المذكور (4) لا بدّ أن تكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب ، وهو فيما نحن فيه - يعني قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ ) - التشبيه بالولد (5).

ص: 89


1- النساء : 23.
2- التفسير الكبير 10 : 33.
3- راجع تفسير روح البيان 2 : 187 ، ذيل الآية 23 من سورة النساء ، وروح المعاني 4 : 257 ، ذيل الآية ، ومجمع البيان 2 : 29 ، ذيل الآية أيضا.
4- في المصدر : « فالنكتة في الذكر ».
5- القوانين 1 : 181.

فإن أراد أن مجرّد انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة الغالبة ينهض وجها في عدم إرادة التخصيص من التوصيف مع إمكان إرادة التخصيص في الوصف الغالب أيضا ، فهو مطالب بالفرق بين المقامين ، حيث إنّه لا يعتبر التخصيص في الوصف الغالب ويعتبر في غيره مع إمكانه.

فإن قلت : إنّ الوصف الغالب بمنزلة الوصف المساوي للموصوف ، فكما لا وجه لاعتبار التخصيص فيه كذلك فيما إذا كان الوصف غالبيّا.

قلت : يمكن تصحيح ذلك فيما لو قلنا بأنّ الانصراف في المطلق ينزّل منزلة التخصيص اللفظي ، فيكون الوصف مساويا حينئذ. وأمّا لو لم نقل به أو قلنا ولكن لا في جميع مراتب التشكيك - كما ستعرفه في محلّه إن شاء اللّه - فلا وجه لذلك ، لإمكان إرادة إخراج الفرد النادر عن مورد الحكم وإثبات خلاف الحكم له ، كما هو مقتضى المفهوم.

وإن أراد أنّ الوصف الغالبي مع إرادة التخصيص منه واختصاص محلّ الحكم في الموصوف لا وجه لاعتبار المفهوم فيه نظرا إلى أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه إلى التنبيه - إلى آخر ما ذكره في التعليل - ففيه : ما أورده بعضهم بأنّ غاية ما يلزم من انصراف المطلق إلى الفرد الغالب اختصاص الحكم به ، وهو غير الدلالة على الانتفاء. فيمكن أن يكون التقييد بالوصف الغالب للدلالة على المفهوم على القول به في غيره ، بل المقام أولى به من غيره ، لانتفاء بعض الفوائد التي لأجل احتمالها طرحنا القول بالمفهوم ، كما لا يخفى.

لكنّ الإنصاف أنّ الظاهر من كلامه هو أنّ الغلبة في الوصف مانعة عن إرادة التخصيص به ، وبعد عدم إرادة التخصيص من الوصف لا يعقل ثبوت المفهوم ، لأنّ الانتفاء فرع الاختصاص ، إلاّ أنّه بعد مطالب بالفرق ، كما لا يخفى.

ص: 90

الثاني : قد بسطنا لك القول في مفهوم الشرط ، من أنّ اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات ، فمفهوم الوصف في قولنا : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » لا شيء من غير السائمة فيه الزكاة. وقد عرفت أنّ جماعة من الفحول تخيّلوا اختلافهما في الكمّ أيضا ، فمفهوم الموجبة الكلّيّة السالبة الجزئيّة.

وأنت بعد ما عرفت أنّ السور في القضايا إنّما هو آلة لملاحظة ما تعلّق به ولا يعتبر موضوعا فيها تحكم بفساد الخيال المذكور ، ولا حاجة إلى إطالة الكلام بعد ذلك.

الثالث : قد عرفت نسبة القول بالتفصيل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره إلى العلاّمة رحمه اللّه. وقد عرفت أيضا أنّ مرجعه إلى القول بحجّيّة مفهوم العلّة (1). واستدلّ عليه في محكيّ النهاية : بأنّه لو لم يلزم من عدمه العدم لزم ثبوت المعلول بدون العلّة أو يلزم خروج الوصف عن كونه علّة ، لأنّ ثبوت الحكم مع عدمه لا بدّ له من مستند آخر ، فالوصف يكون إحدى العلّتين (2). وظاهره دعوى ظهور اللفظ الظاهر في العلّية في الانحصار أيضا ، وإلاّ فلا وجه لما جعله تاليا في الشرطيّة. فلا يرد عليه ما قيل : من أنّ تعدّد العلّة في الشرعيات غير عزيز (3). نعم ، يرد عليه منع الظهور في الانحصار في الوصف الظاهر في العلّية ، فتدبّر.

ص: 91


1- انظر الصفحة : 81.
2- حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 220.
3- لم نعثر عليه.

ص: 92

هداية

الحقّ - كما عليه كثير من أهل التحقيق - : أنّ الحكم المغيّا بغاية يرتفع بعد حصول الغاية على وجه لو قيل بثبوته بعدها كان مناقضا للدليل الأوّل. وهو المراد بمفهوم الغاية.

وتنقيح المبحث موقوف على رسم مقدّمة ، وهي :

أنّ لفظ « الغاية » قد يطلق ويراد به النهاية ، كما في قولك : « بلغ الغاية ». ولعلّ منه الغاية الداعية إلى الفعل والعلّة الغائيّة ، حيث إنّه يترتّب عليه بعد وصوله إلى نهايته ، كما لا يخفى.

وقد يطلق ويراد به المسافة ، كما صرّح به التفتازاني في قولهم : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية. قال في محكيّ التلويح : المراد بالغاية في قولهم : « من لابتداء الغاية » المسافة ؛ إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ، فالغاية هي النهاية وليس لها ابتداء (1) ، انتهى.

والظاهر أنّ المراد من « المسافة » ليس خصوص المكان والزمان وإن كان يعطيه ظاهر بعض الكلمات في بعض المقامات ، بل المراد مطلق الامتداد الحاصل في غير المكان والزمان أيضا ، كما في قولك : « أنشدت القصيدة من أوّلها إلى آخرها » فإنّ المسافة المعقولة في ذلك ليست مكانيّة ولا زمانيّة ، كما لا يخفى.

ص: 93


1- شرح التلويح على التوضيح 1 : 287.

ثمّ إنّ ظاهر التفتازاني : أنّ استعمال الغاية في المسافة إنّما هو مجاز عن النهاية.

واعترض عليه : بأنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، وضدّ الشيء لا يكون جزءا منه ، فلا وجه لقوله : « إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ ».

وأجاب عنه الچلبي : بأنّ الجزء المجاور للنهاية اطلق عليه « النهاية » من باب علاقة المجاورة ، ثم اطلق ذلك الاسم على الكلّ ، فيكون مجازا بمرتبتين ، وهو غير عزيز. ثمّ وجّه الاستعمال المذكور : بأنّ المراد من الغاية هو الحدّ وإضافة الابتداء والانتهاء إليه بيانيّة ، من قبيل إضافة الفرد إلى الجنس (1).

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ انسباك المجاز عن مثله على تقدير جوازه عزيز الوجود جدّا ، مع أنّ الظاهر في الإضافة أن تكون لاميّة ، مضافا إلى أنّ استعمال الغاية في مطلق الحدّ الشامل للابتداء ممّا لم نقف عليه إلى الآن.

فالأولى في دفع الاعتراض عمّا أفاده التفتازاني : المنع من أنّ نهاية الشيء هو ضدّه ، بل النهاية ليست إلاّ أمرا اعتباريّا يصحّ انتزاعه من الشيء بعد فرض انقطاعه بملاحظة ما يغايره ويضادّه ، كالبداية ، فإنّها أيضا أمر منتزع من الشيء الممتدّ في أوّل أجزاء وجوده بملاحظة ما يغايره قبله. وهذا الأمر المنتزع وإن لم يكن جزءا من الشيء ، إلاّ أنّ منشأ انتزاع جزء منه كمنشإ انتزاع البداية أيضا. نعم ، حيث إنّه قلنا بامتناع الجزء الجوهري فلا بدّ أن لا يكون منشأ الانتزاع موجودا فعليّا في ذلك الممتدّ ، بل يجب أن يكون مفروضا كما في سائر الأقسام الفرضيّة.

ص: 94


1- لم نعثر عليه.

ومع ذلك فلا يخلو ما ذكره التفتازاني عن شيء ؛ نظرا إلى ظاهر كلام القاموس والصحاح ، حيث جعلا من معاني الغاية مدى الشيء ، فلا حاجة إلى ارتكاب التأويل فيها. ولو قلنا بأنّه لا يزيد على مجرّد الاستعمال فالظاهر أنّه من توابع استعمال الغاية فيما هو المقصود ؛ نظرا إلى أنّ غاية الشيء إنّما هي مقصودة ، فتدبّر في المقام.

ثمّ المقصود فيما نحن بصدده يحتمل أن يكون النهاية ، كأن يقال : إنّ الحكم المفروض نهايته بإحدى آلات النهاية - مثل لفظ « حتّى » أو « إلى » - ينتفي بعد حصول النهاية أو لا؟ ويحتمل أن يكون المراد منه مدخول لفظ « إلى » و « حتّى ».

والفرق بينهما : أنّ مدخول لفظ « إلى » و « حتّى » لا يلزم أن يكون نهاية على الحقيقة ، فإنّ مدخول تلك الآلات قد يكون ممّا يشتمل على أجزاء من الامور الممتدّة كالكوفة في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » والليل في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) وقد لا يكون كذلك. فظهر أنّ مدخول الأداة لا يجب أن يكون نهاية.

ثمّ إنّ على الثاني لا إشكال. وعلى الأوّل فقد وقع الخلاف بينهم في أنّ الحكم المنطوقي الثابت لما قبل الغاية هل هو ثابت لنفس الغاية أو لا؟ ولا وجه لما زعمه البعض : من أنّه لو قيل بخروج الغاية كان النزاع المذكور في العنوان أوّلا غير متصوّر ، لأنّ اللفظ إذا دلّ على نفس الغاية كان ما بعدها أولى بالخروج ، فإنّ ذلك خلط بين النزاع في ثبوت المفهوم للغاية وبين دلالة المنطوق على ثبوت الحكم لنفس الغاية ، ولعلّه ظاهر.

ص: 95


1- البقرة : 187.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ لفظ « الغاية » في النزاع الثاني لا يحتمل إلاّ الوجه الثاني. وزعم بعض الأجلّة اتّحادهما (1). ولا وجه له كما عرفت.

إذا تمهّد تلك المقدّمة نقول : إنّ لهم في المقام نزاعين :

أحدهما : أنّ الغاية هل تدخل في المغيّا أو لا؟

والثاني : أنّ الحكم المغيّا هل ينتفي بعد حصول الغاية أو لا؟

ولنذكر كلّ واحد في مقام.

أمّا المقام الأوّل ، فاختلف القوم فيه على أقوال :

فذهب نجم الأئمة إلى الخروج مطلقا (2) ؛ نظرا إلى أنّ حدود الشيء خارجة عنه ، وحمل الموارد الّتي يظهر فيها الدخول على وجود القرينة فيها.

وقيل بالدخول مطلقا (3).

وفصّل ثالث : بين « حتّى » و « إلى » ، فقال بالدخول في الأوّل وبعدمه في الثاني. اختاره الزمخشري على ما نسب إليه (4).

وادّعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في « حتّى » (5). ولعلّه خلط بين العاطفة والخافضة ، كما نصّ عليه ابن هشام (6).

ص: 96


1- راجع الفصول : 153.
2- حكى عنه النراقي في المناهج : 132.
3- لم نعثر على القائل ، وقال السيّد المجاهد في المفاتيح ( الصفحة 100 ) : والقول بالدخول مطلقا شاذّ لا يعرف قائله.
4- شرح الكافية 2 : 324.
5- حكاه ابن هشام في المغني 1 : 168 ، عن شهاب الدين القرافي.
6- انظر المغني 1 : 168.

وفصّل بعضهم : بين ما إذا كان ما قبل الغاية وما بعدها متّحدين في الجنس فقال بالدخول ، وبين غيره (1). وهنا أقوال أخر.

ولعلّ الأظهر بمقتضى لفظ « النهاية » الدخول مطلقا ، حيث قد عرفت من أنّها الأمر المنتزع عمّا نفرض جزءا أخيرا للشيء المفروض امتداده بملاحظة ما يغايره ويضادّه في الأغلب. ومنه يظهر حال الابتداء في كلمة الابتداء ، فإنّه أيضا ينتزع من الجزء الأوّل للشيء.

إلاّ أنّ ذلك لا يجدي فيما هو محلّ الكلام ؛ إذ لا يعقل النزاع المذكور فيما إذا كان مدخول « حتّى » أو « إلى » نهاية بالمعنى المذكور ، بل لا بدّ من أن يكون ذلك المدخول ممّا يفرض له أجزاء كثيرة - مثلا - كما نبّهنا عليه. وذلك لا يكون نهاية في الحقيقة ، بل هو تسامح في جعل ما ينتهي عنده الشيء المغاير له نهاية ، إذ من الواضح افتراق « ما به ينتهي الشيء » وهو النهاية و « ما ينتهي عنده الشيء » وهو الضدّ على ما زعمه المعترض المتقدّم.

وتوضيح المطلب : أنّ أدوات النهاية إنّما هي موضوعة لأن يلاحظ حال ما لحقت به من الأفعال على وجه النهاية ، ولا ريب في أنّ النهاية الحقيقيّة غير قابلة لأن ينازع في دخولها في ذيها ، لا نفسها ولا ما ينتزع منها. أمّا الأوّل فلكونه أمرا اعتباريّا. وأمّا الثاني فلبداهة دخول جزء الشيء فيه. وقد يستعمل تلك الأدوات فيما ليست نهاية حقيقيّة ، بل ولعلّ أغلب موارد استعمالها كذلك ، فيكون مدخول الأدوات نهاية تسامحيّة ، فيمكن أن ينازع فيه بالدخول وعدمه. إلاّ أنّ الأظهر خروج مثل هذه الغاية عمّا قبلها ، ولذلك ذهب إليه الأكثر واستظهره نجم الأئمة ، والتعليل الّذي استند إليه حينئذ في محلّه.

ص: 97


1- نسبه في إشارات الاصول 1 : 243 إلى المبرّد ، ومثله في هداية المسترشدين 2 : 515.

نعم ، حيث كان استعمال « إلى » و « حتّى » في مثل ذلك تسامحا ، فيمكن فرض الكلام على وجه يستظهر منه الدخول - كما في بعض الأمثلة - بواسطة القرائن ، وعند عدم القرينة فمع العلم بأنّ النهاية ليست نهاية حقيقيّة ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في كلّ مورد. ولا وجه للرجوع إلى أصالة عدم الدخول ، فإنّه إن اريد بها عدم دخول الغاية في المغيّا موضوعا ، فذلك معلوم وجدانا كما هو المفروض. وإن اريد بها عدم دخولها فيه حكما فذلك ممّا يختلف فيه قضيّة الأصل بحسب اختلاف موارده. ومع عدم العلم بذلك فالظاهر أنّه يحكم بالدخول نظرا إلى أصالة الحقيقة لو قلنا بأنّ الأداة (1) موضوعة للنهاية الحقيقيّة ، كما هو الظاهر.

وأمّا المقام الثاني ، فاختلفوا في أنّ تقييد الحكم بالغاية هل يوجب انتفاء الحكم رأسا وسنخا عمّا بعد الغاية على وجه لو ثبت له مثل الحكم المذكور بدليل آخر كان معارضا لذلك التقييد أو لا يوجب؟ فالمشهور بل المعظم على الأوّل ، وذهب جماعة - منهم السيّد (2) والشيخ (3) - إلى الثاني. ولا ريب في أنّ اعتبار المفهوم في المقام على القول به إنّما هو مثل اعتباره في الشرط ، من انتفاء سنخ الحكم في جانب المفهوم ، وإلاّ فانتفاء الحكم الشخصي ثابت في اللقب والوصف أيضا ، بل وذلك ضروريّ ؛ ضرورة اختصاص كلّ حكم مختص بموضوع بذلك الموضوع.

ومن ذهب إلى القول الأوّل ومع ذلك يقول يجوز أن يكون الحكم فيما بعد الغاية كالحكم فيما قبلها بالنظر إلى خطاب آخر ، فقد أتى بشيء عجيب! فإنّه إن

ص: 98


1- في ( ع ) : « الأدوات ».
2- الذريعة 1 : 407.
3- العدّة 2 : 478.

أراد بالجواز المذكور إمكانه بالنظر إلى ترجيح في جانب الخطاب الآخر فهو جار في جميع المفاهيم ، إذ لا يمنع ترك الظاهر بواسطة ما هو أظهر منه. وإن أراد عدم المعارضة فهو ممّن لا يقول باعتبار المفهوم قطعا ، فلا وجه لعدّ نفسه منهم. ومن العجب! أنّه صرّح بأنّ مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط وصرّح بظهور الثمرة عند التعارض بتقديم الأقوى (1).

وأغرب من ذلك ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (2) ، حيث قال : إنّ النزاع يتصوّر هنا في مقامين : الأوّل أنّ التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا أو لا؟ الثاني أنّ التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور أو لا؟ فاختار في الأوّل العدم وفي الثاني اختار الدلالة مع اعترافه بأنّ ظاهر كلامهم هو الأوّل.

ثمّ استدلّ على مطلوبه في المقام الأوّل : بأنّ قول القائل : « صم إلى الليل » إنّما يقتضي عرفا ولغة تعلّق طلبه بالصوم المغيّا بالليل ، وظاهر أنّ هذا لا ينافي تعلّق أمره أيضا بصوم الليل إلى الصبح بطلب مستقلّ ، فإنّ مرجع الأمرين إلى طلب الصومين المحدودين. وهذا لا يستدعي خروجه عمّا يقتضيه ظاهر الأمر.

واستدل على الثاني : بأنّ المفهوم من قولك : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية. ثمّ حقّق ما ذكره : بأنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للموضوع ، فيجري ذلك مجرى الوصف ، فكما لا نقول به فيه ، فكذلك فيما نحن فيه (3).

ص: 99


1- انظر القوانين 1 : 186 ، وهداية المسترشدين 2 : 556.
2- وهو صاحب الفصول.
3- الفصول : 153 - 154.

أقول : وما أفاده ممّا لا يرجع إلى طائل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ الانتفاء في المقام الثاني ممّا لا حاجة فيه إلى تجشّم الاستدلال ، ضرورة ارتفاع الحكم بارتفاع الموضوع فلا يعقل توجيه النزاع فيه. وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره وجها في المقام الأوّل ممّا لا وجه له. وتوضيحه : أنّ تعليق الفعل بالغاية ، كما في قولك : « سر من البصرة إلى الكوفة » يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يلاحظ السير المبتدأ من البصرة المنتهى إلى الكوفة ويأمر به بواسطة اشتمال هذه القطعة من السير على مصلحة أو ينهى عنه مع قطع النظر عن سائر قطعات السير وجودا وعدما ، ومرجعه إلى طلب فعل واحد أوّله كذا وآخره كذا ، فالطلب إنّما تعلّق بالفعل المحدود ابتداء وانتهاء.

الثاني : أن يلاحظ السير المطلوب فعله أو تركه أوّلا ثمّ بعد اعتبار تعلّق طلبه به يلاحظ تحديده بداية ونهاية بما يصلح لذلك التحديد.

فعلى الأوّل لا وجه لاستعمال أداة الغاية والتعليق بها ، بل لو كان المراد ذلك فمن حقّه استعمال الغاية على جهة التوصيف ، إذ الكلام في أمثال المقام إنّما هو في الظهور.

وعلى الثاني فمن حقّه استعمال التركيب المتنازع فيه. ومجرّد إمكان رجوعه إلى التوصيف لا يجدي ، إذ لم يقم دليل على امتناعه في الشرط أيضا.

وبما ذكرنا يظهر فساد ما زعمه في توجيه ما صار إليه ، من أنّ توابع الفعل من القيود اللاحقة للمادّة لا للهيئة (1) ، نظرا إلى أنّ مفادها معنى حرفيّ ؛ فإنّ ذلك لا يقضي بما زعمه ، مضافا إلى عدم قدحه فيما إذا كان الطلب مثلا ، ولا ينافي ذلك كونه إنشاء لا إخبارا ، كما لا يخفى.

ص: 100


1- انظر الفصول : 154.

ثمّ لا فرق في الوجه الثاني بين أن يكون المطلوب المحدود ملحوظا على وجه يكون فعلا واحدا كما عرفت في الوجه الأوّل ، أو أفعالا متعدّدة فينحلّ إلى مطلوبات متعدّدة لكنّها محدودة بالغاية المذكورة ، أو يكون على وجه التوسعة فيكون المطلوب التخيير في الأفعال الّتي يمكن إيجادها في الوقت المضروب إلى زمان الغاية المفروضة.

لا يقال : لعلّه يدّعى ظهور الجملة المغيّاة بالغاية في الوجه الأوّل. لأنّا نقول : كلاّ! فإنّ كثيرا من الموارد ممّا لا وجه لإرجاعها إليه ، كما في أغلب موارد التحريم والإباحة ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) وقوله عزّ من قائل : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) (2) إذ على تقديره يكون المراد تحريم المقاربة التي يكون غايتها الطهر وإباحة الأكل والشرب الذي يكون غايته التبيّن ، وذلك واضح الفساد جدّا. نعم ، بعض الموارد ممّا يصلح لذلك ، كما في بعض الأمثلة ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ مجرّد الصلاحيّة مع ظهور اللفظ في الخلاف ممّا لا يجدي في مثل المقام.

ثمّ إنّه قد أفاد في أثناء احتجاجه على المقام الثاني : أنّ معنى « صم إلى الليل » طلب إمساك مقيّد يكون نهايته الليل ، فلو فرض أنّ المطلوب إنّما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الإمساك إلى الليل مطلوبا لنفسه ، وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حمل الأمر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الإطلاق ، أو حمل الليل على الجزء المتأخّر عنه ... (3).

ص: 101


1- البقرة : 222.
2- البقرة : 187.
3- الفصول : 154.

وهو بظاهره يشعر بإمكان دلالة الكلام المذكور على ما زاد على الإمساك إلى الليل ، وإنّما المانع منه ظهور الأمر في الوجوب النفسي. وفساده ظاهر ؛ لما عرفت من أنّ عدم الدلالة على الزيادة على الحكم الخاصّ على تقدير عدم المفهوم من أجلى الضروريّات ، سواء كان الأمر ظاهرا في الوجوب النفسي أو الغيري ، إذ على الثاني أيضا لا يمكن التجاوز عن مدلول اللفظ ، كما هو ظاهر.

نعم ، لو كان الأمر ظاهرا في الوجوب النفسي ، فلو ورد بعد ذلك خطاب آخر يعلم باتّحاد التكليف منه ومن الخطاب الأوّل لا بدّ من حمل الأمر على الوجوب الغيري ، لأنّ دلالة الأمر على النفسيّة - على ما صرّح به - إنّما هو بالإطلاق ، ومع وجود ما يصلح للتقييد لا يبقى له ظهور كما هو الشأن في جميع المطلقات. ولعلّ ذلك هو الباعث إلى مصيره إليه فأثبت مقامين وزعم أنّ الثاني أيضا من المفهوم جدّا.

ثمّ إنّ ما ذكره بعينه جار في الوصف واللقب وأضرابها. وقد تفطّن به أيضا ، إلاّ أنّه دفعه بأنّه لا يظهر هناك ثمرة ، بخلافه في المقام حيث نعلم اتّحاد التكليف ، كما لو ورد أمر بالصوم إلى سقوط القرص وورد أمر آخر إلى سقوط الحمرة فيحكم بينهما بالتعارض (1).

وفيه : أنّ التعارض إن كان بواسطة دلالة الغاية على انتفاء الأمر ، فعدم مجيئه بالوصف مسلّم ، إلاّ أنّه خلاف المفروض. وإن كان بواسطة ظهور الأمر في النفسي بعد فرض اتّحاد التكليف فهو منقوض :

ص: 102


1- انظر الفصول : 154.

أوّلا : بما إذا علّق الحكم على صفة خاصّة ثمّ علّق على صفة عامّة مع القطع باتّحاد التكليف ، فانّ الظاهر من الأوّل عدم تجاوز الحكم عن موضوعه ، والظاهر من الثاني تجاوزه عن الموضوع الأوّل وإن لم يتجاوز عن موضوعه ، فيقع التعارض.

وثانيا : نقول إنّ ذلك ليس من المفهوم ولا يعدّ من التعارض أيضا ، ضرورة حمل المطلق على المقيّد في الثاني وعدم الاعتداد بظهور الأمر الأوّل في النفسي بعد ورود الأمر الثاني ، كما نبّهنا عليه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الأظهر في المقام هو القول بالدلالة ، ولا حاجة إلى تطويل الكلام في بيان المرام.

واحتجّ النافي بما قدّمناه في مفهوم الوصف ، من انتفاء الدلالات الثلاث.

والجواب : أنّ العرف شاهد على ثبوت الدلالة الالتزاميّة ، فبطلان التالي ممنوع.

ثمّ إنّ الدلالة المذكورة كما هي ثابتة في « إلى » و « حتّى » فالظاهر ثبوت نظيرها (1) في « من » الابتدائيّة أيضا كما صرّح به جماعة (2).

والظاهر استفادة الترتيب أيضا من الكلام المشتمل على الكلمتين إلاّ ما أخرجه الدليل ، فيصار إلى المجاز بدليله ، كما في آية الوضوء. واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 103


1- في ( ع ) : « ثبوتها ».
2- مثل صاحب الفصول في الفصول : 154 ، والمحقّق الكلباسي في الإشارات : 243.

ص: 104

هداية

في ما يفيد الحصر ، سواء كان الدالّ مادّة ك- « إنّما » و « بل » الإضرابيّة ومادّة الحصر والقصر وأشباهها ، كتقديم ما هو حقّه التأخير.

ومنها : الاستثناء ، وهو من النفي يفيد إثبات الحكم للمستثنى فقولك : « ما جاءني أحد إلاّ زيد » ومن الإثبات يفيد انتفاء الحكم له كقولك : « جاءني القوم إلاّ زيدا ».

ولم نعثر على حكاية خلاف في الحكمين إلاّ من « أبي حنيفة » ، حيث إنّه ذهب - فيما حكي (1) - إلى عدم الإفادة. والمعقول من كلامه أن يقال : إنّ المستفاد من قولك : « ما جاءني إلاّ زيد » ليس إلاّ عدم دخول زيد في الحكم المذكور ، وأمّا حكمه فيحتمل أن يكون موافقا أو مخالفا ، إلاّ أنّ شيئا منهما غير مستفاد من الكلام المذكور ، فغاية ما يفيده الاستثناء خروج المستثنى عن كونه مخبرا عنه بالنفي والإثبات.

واحتجّ (2) بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، فإنّه على تقدير عدمه يلزم أن يكون الطهارة المقرونة مع فقد الشرائط صلاة.

ص: 105


1- حكاه الآمدي في الإحكام 3 : 106 ، والمحقق القمّي في القوانين 1 : 251.
2- انظر المستصفى من علم الاصول 1 : 329 ، ونهاية الوصول ( مخطوط ) : 158 ، وشرح مختصر الاصول 1 : 264 - 265.

وهو ضعيف جدّا ؛ فإنّ الحصر إضافيّ بالنسبة إلى حالة فقدان الطهارة مع فرض نفي (1) الأجزاء والشرائط ، ومجرّد الاستعمال أعمّ.

وشواهد خلافه كثيرة ، أقواها التبادر كما يحكم به الوجدان السليم وادّعى جماعة الإجماع على ذلك ، ومنهم العضدي (2).

وقبول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إسلام من قال « لا إله إلاّ اللّه » من أعدل الشواهد على ذلك. والقول بأنّ ذلك للقرينة أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعا بمكان من السخافة.

ولا ينافي الإجماع المذكور ذهاب جماعة في دفع التناقض في الاستثناء : بأنّ الاستناد إنّما هو بعد الإخراج ، لأنّ الكلام في دلالة الإخراج سواء كان قبل الاستناد أو بعده ، وعلى تقدير التنافي فذهابهم إلى ذلك باطل ، كما اعترض عليهم المحقّق القمّي رحمه اللّه أيضا (3).

ثم إنّهم اختلفوا في كلمة الطيّبة التوحيديّة بين من يقول باستغناء « لا » عن الخبر كما ذهب إليه التميميّون (4) ، وبين من يقول بأنّ الخبر « موجود » أو « ممكن » (5).

والأظهر الأوّل ، وتحقيقه : أنّ الوجود كما قد يؤخذ محمولا وقد يؤخذ رابطة ، فكذلك العدم قد يكون محمولا كقولك : « زيد معدوم » وقد يكون رابطة كقولك : « زيد ليس قائما » ، والثاني يحتاج إلى الطرفين ، لامتناع تحقّق الرابط

ص: 106


1- في ( ط ) : « نفيه » ، ولعلّ الصواب : « بقيّة ».
2- انظر شرح مختصر الاصول 1 : 264 - 265.
3- القوانين 1 : 251.
4- نقله عنهم في شرح الكافية 1 : 112 ، والبهجة المرضيّة 1 : 134.
5- كما في المستصفى 1 : 330 ، والبهجة المرضيّة 1 : 134.

بدونهما ، والأوّل لا يحتاج إليهما. فالعدم المستفاد من كلمة « لا » على طريقة التميميّين عدم محمول (1) ولا يحتاج إلى تقدير خبر. والمعنى : نفي عنوان الإلهيّة مطلقا إلاّ في اللّه ، كما في قولك : « لا مال ولا أهل » فإنّه يراد منه انتفى المال والأهل ، وهذا المعنى لا يحتاج إلى خبر ، لتمام الكلام بدونه.

إلاّ أنّه يشكل أنّ كلمة « لا » لم نجد من صرّح بأنّها ترد اسميّة ، وهذا المعنى - على ما عرفت - ليس معنى رابطيّا ومدلولا حرفيّا. واحتمال أن يكون استعارة عمّا يصلح لإفادة ذلك ضعيف.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ قولك : « لا رجل ولا مال » وأضرابهما غير محتاج إلى تقدير الخبر ، بل الكلام المذكور في قوّة أن يقال : لا شيء ورجل ، ولا شيء ومال ، ولا شيء وإله ، ففي الحقيقة يكون اسم « لا » محذوفا.

إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّ التزام ذلك في المقام إنّما هو بواسطة ما يلزم على القول بالاحتياج إلى الخبر من المحاذير ، كما هو المشهور. وتلك المحاذير على تقدير عدم الحاجة أيضا ثابتة ، فإنّ إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى إمّا أن يكون بالفعل أو بالإمكان ، فعلى الأوّل لا يدلّ على نفي إمكان الغير ، وعلى الثاني لا يدل على ثبوت العنوان له تعالى فعلا. غاية ما يتصوّر الفرق بينهما أنّه على تقدير الاحتياج إلى الخبر إنّما يتوجّه الترديد المذكور بالنسبة إلى نفس الخبر ، وعلى تقدير عدمه إنّما يتوجّه بالنسبة إلى مادّة القضيّة وكيفيّة ثبوت المحمول للموضوع ، وذلك لا يجدي في دفع المحذور قطعا. ومن هنا التجأ بعضهم إلى القول بالنقل الشرعي في الكلام المزبور.

ص: 107


1- في ( ع ) : « محمولي ».

فالأوجه على ما صرّح به بعض المحقّقين (1) : أنّ المنساق من ذلك ليس إلاّ إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى فعلا. وأمّا نفي إمكان غيره فإنّما هو بواسطة ملازمة واقعيّة بينهما ، ولا يضرّ خفاء تلك الملازمة ، فإنّ ما اختفى منها إنّما هو الالتفات اليها تفصيلا ، بمعنى عدم الشعور بعلمها ، وأمّا العلم بنفس الملازمة فإنّما هو ممّا فطر اللّه تعالى عليه عامّة الخلق ، كما ذهب إليه جماعة من العرفاء والحكماء الالهيّين (2). وعلى تقدير الاختفاء فلا مانع من القول بكفاية ذلك في الحكم بالإسلام ، سيّما في صدر الإسلام كما صرّح به جماعة أيضا (3).

ثمّ إنّهم اختلفوا في كون الدلالة المذكورة هل بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فإن أرادوا بذلك ترتيب أحكام أحد القسمين عليها عند التشخيص ، ففيه : أنّا لا نعرف حكما يخصّ بأحدهما ، إذ ليسا مأخوذين في عنوان دليل شرعي. وأمّا تقديم المنطوق عند التعارض فقد عرفت ما فيه ، إذ المدار على الأقوائيّة والظهور ، ولا دليل على دورانهما مدارهما. وإن أرادوا بذلك تشخيص ما هو الواقع بحسب الاصطلاح ، فالظاهر أنّه من المفهوم.

وتحقيق ذلك : أنّ قولك : « ما زيد إلاّ قائما » يشتمل على حكمين : أحدهما سلب جميع المحمولات عن زيد ، وثانيهما : إثبات القيام لزيد. والأوّل مستفاد منطوقا ، والثاني مفهوما ، نظرا إلى ما وجّهنا حدّيهما فيما تقدّم ، إلاّ أنّه مع ذلك لا طائل تحته.

ومنها : الإضراب بكلمة « بل » ، وأمّا ما جيء به للترقّى فلا يفيد الحصر قطعا ، إذ لا وجه لاستفادة الحصر منها. ولعلّ من جزم بعدم إفادتها الحصر

ص: 108


1- لم نعثر عليه.
2- لم نعثر عليه.
3- لم نعثر عليه.

فيما إذا دخلت على الجملة وادّعى الوفاق فإنّما أراد ما ذكرنا ؛ نظرا إلى أنّ الأغلب كونها للترقّي ، بخلاف ما إذا كان بعدها مفرد ، فيحتمل الوجهين.

وكيف كان ، ففيما إذا كانت إضرابيّة اختلفوا فيها على أقوال :

أحدها : إفادتها الحصر مطلقا سواء كان في الإيجاب أو النفي ، وهو المنسوب إلى الحاجبي (1).

الثاني : العدم مطلقا ، وهو المنسوب إلى الزمخشري (2) ، فقولك : « جاءني زيد بل عمرو » إنّما يدلّ على صرف الحكم المقصود بالكلام إنشاؤه عن زيد وإثباته لعمرو من غير دلالة على حكم المتبوع.

الثالث : التفصيل بين النفي فيدلّ ، والإثبات فلا يدلّ. ذهب اليه جماعة منهم نجم الائمّة (3) والتفتازاني (4) - على ما حكي - واختاره بعض أعاظم المتأخّرين (5). واستند في ذلك : بأنّ احتمال الغلط في النفي بعيد ، بخلافه في الإثبات.

ثمّ إنّه ينبغي أن لا يكون من موضع الخلاف ما إذا كانت مسبوقة ب- « لا » ، فإنّه حينئذ كالنصّ في ثبوت المفهوم. ولا يبعد دعوى الوفاق ، إلاّ أنّ ابن هشام جعله لتأكيد الإضراب (6) فلو كان لمجرّد الصرف عنده كان مخالفا.

ص: 109


1- حكى عنه الكلباسي في إشارات الاصول 1 : 252.
2- المصدر المتقدم ، وراجع شرح الأنموذج من كتاب جامع المقدمات 2 : 401.
3- شرح الكافية 2 : 378 - 379.
4- انظر شرح التلويح على التوضيح 1 : 259 - 260.
5- الظاهر أنه هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ، فراجع.
6- مغني اللبيب : 153.

ومنها : الحصر بإنّما ، كقولك : إنّما زيد قائم. واختلفوا في ذلك ، والمشهور على الإفادة ، وذهب بعضهم إلى العدم (1).

واحتجّوا بامور ، أقواها تصريح اهل اللغة كالأزهري (2) بذلك. وقال بعضهم : لم أظفر بمخالف فيه (3). ونقل بعضهم إجماع النحاة على ذلك (4) ، وهو المنقول عن أئمة التفسير أيضا (5). وحكي عن المبرّد في جواب من سأله عن اختلاف قولهم : « إنّ زيدا قائم » و « إنّما زيد قائم » : أنّ الأوّل إخبار عن قيامه فقط والثاني إخبار عن قيامه مع اختصاصه به (6). وظاهره اختلاف المدلول باختلاف الدلالة. وأيّد ذلك بدعوى التبادر عند استعمال تلك اللفظة.

والانصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك ؛ فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربيّة ، كما في أداة الشرط ونحوها.

وأمّا النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع على تقدير أن لا يكون ذلك منهم اجتهادا ، ولم يثبت ذلك إلاّ على تقدير اعتبار مطلق الظنّ كما قرّر في محلّه.

ص: 110


1- مثل الآمدي في الإحكام 3 : 106 ، والمحقّق النراقي في المناهج : 132.
2- راجع لما احتجّوا به ولما حكي عن الأزهري ، مفاتيح الاصول : 105 ، وإشارات الاصول 1 : 248.
3- قاله الطريحي في مجمع البحرين 1 : 91.
4- نقله المحقّق الكلباسي في الإشارات ، 1 : 248.
5- انظر مفاتيح الاصول : 105.
6- لم نعثر عليه.

وقد يتمسّك بأنّ العلماء لا يزالون يتمسّكون بحديث « إنّما الأعمال بالنيّات » (1) بفساد العمل بلا نيّة ، كاعتمادهم على قوله : « إنّما الولاء لمن أعتق » (2) في مثله. وهو لا يجدي شيئا ، إذ بعد الغضّ عمّا فيه لا يزيد عن مجرّد الاستعمال.

وأمّا كلمة « أنّما » بفتح الهمزة فقد صرّح بعضهم : بأنّ الموجب للحصر في « إنّما » بالكسر ما (3) في « أنّما » بالفتح (4) ، وهو تضمّنها معنى « ما » و « لا » أو اجتماع حرفي التأكيد.

وفيه : أنّ الموجب في « إنّما » على القول ليس إلاّ الوضع ، وإلاّ فمجرّد ما زعمه في الموجب فاسد جدّا ، كما لا يخفى. ودعوى الوضع ممّا لا شاهد عليها.

ومنها : تعريف المسند إليه (5) باللام إذا كان الخبر خاصّا ، كقولك : « الانسان زيد » وأمّا إذا كان الخبر أعمّ مطلقا كقولك : « الانسان حيوان » ، أو من وجه كقولك : « الإنسان أبيض » فظاهر التفتازاني إلحاقه بالأوّل ، ونصّ عليه بعض الأفاضل (6) ، وربّما يؤيّده أيضا قولهم : « التوكّل على اللّه » و « الأئمّة من قريش » فإنّ الخبر في هذه التراكيب لا يكون أخصّ قطعا. ومنه يظهر عدم اختصاصه بما إذا كان المسند إليه وصفا أيضا.

ص: 111


1- الوسائل 1 : 34 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 7.
2- الوسائل 13 : 35 ، الباب 9 من أبواب بيع الحيوان ، الحديث الأوّل.
3- في ( ع ) بدل « ما » : « ثابت ».
4- انظر مفاتيح الاصول : 107 ، حيث نقله عن الچلبي في حاشية المطوّل.
5- في ( ع ) : « المبتدأ ».
6- هو الفاضل النراقي في المناهج : 133.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الوجه في إفادة الحصر وعدم تجاوز المبتدأ عن الخبر هو التعريف كما يظهر من عنوان البحث ، إلاّ أنّه يلوح من بعض كلماتهم أنّ الوجه في ذلك هو كون المعنى موضوعا لما هو المحمول في الكلام ، وعلى ذلك فعنوان البحث ب- « تعريف المسند إليه » ممّا لا وجه له إلاّ بواسطة ما يتوصّل به إلى جعل المعرّف مسندا إليه ، وهو كما ترى خلاف الظاهر ، سيّما بملاحظة ما ذكروه في تعريف المسند إليه.

فكيف كان فاختلفوا في ذلك ، فالأكثر على الإفادة ، وذهب بعضهم إلى عدمها. والقائلون بالإفادة : بين من صرّح بأنّ ذلك بواسطة المقام وليس لذلك (1) كاشف لفظيّ كما نقله البعض عن إمام الحرمين (2) ، وهو الظاهر من كلّ من تمسّك في المقام بأنّ العدول عن الترتيب الطبيعي إلى خلافه يحتاج إلى نكتة ، وبين من يرى ذلك بواسطة اللفظ.

واحتجّ الأوّلون - بعد ظهور إجماع البيانيّين كما يظهر من إرسالهم ذلك إرسال المسلّمات ، والتبادر على ما يساعد عليه العرف - بوجوه ، أقواها أمران :

أحدهما : ما ذكره التفتازاني في المسند المعرّف (3) ، لكنّه جار في المقام أيضا.

وحاصله : أنّ « اللام » في مثل قولك : « الأمير زيد » إن حملت على الاستغراق فأمره ظاهر ، وإن حملت على الجنس فهو يفيد أنّ جنس الأمير

ص: 112


1- في ( ع ) : « كذلك ».
2- لم نعثر عليه.
3- انظر المطوّل : 140.

وماهيّته متّحد مع زيد كما هو قضية الحمل وهو المطلوب ، أو يجب حينئذ أن لا يصدق جنس الأمير إلاّ حيث (1) يصدق زيد ، وهو معنى القصر.

أورد على نفسه سؤالا في الخبر المعرّف ، وحاصله : النقض بالخبر المنكّر كما في القضايا المتعارفة.

وأجاب عنه : بأنّ المحمول فيها مفهوم الفرد ، ثمّ تنظّر فيه وبيّنه بأنّ اعتبار مفهوم الفرد خارج عن طريق الحمل. وهو كذلك ؛ لأنّ الفرديّة أمر منتزع من حمل الماهيّة الإنسانيّة على زيد مثلا ، فكيف يمكن اعتبارها في المحمول؟ مع أنّ اعتبار مفهوم الفرد يوجب التسلسل ، فإنّه أيضا كلّي.

فالحقّ : أنّ المحمول هو نفس مفهوم الإنسان ومفاد القضيّة الحمليّة هو أنّ زيدا وجود الإنسان في الخارج ، بمعنى أنّ هذا المفهوم الّذي في الذهن موجود علميّ في الخارج زيد. وبهذا الاعتبار ينتزع الفرديّة من زيد والكلّية من الإنسان.

وتحقيق المقام وتوضيحه أن يقال : الماهيّة الواقعة في مقام المحمول أو الموضوع تارة يمكن اعتبارها على وجه يستفاد من حملها أو وضعها الحصر ، كما إذا اعتبرت على ما هي معتبرة في الحمل الذاتي الأوّلي كقولك : « الإنسان بشر » فيما إذا اريد بيان اتّحاد المعنى دون التساوي في الصدق. واخرى يمكن اعتبارها على وجه لا يستفاد منها الحصر ، سواء كانت موضوعا كما إذا قيل لمن سمع الأسد ولم يشاهد فردا من أفراده : « الأسد هذا » أو محمولا معرّفا كقولك في المقام المذكور : « هذا الأسد » أو منكّرا كما في جميع القضايا المتعارفة ، أو كانت متعلّقة للأمر كما إذا قيل : ( أكرم الرجل ) حيث لا عهد.

ص: 113


1- في ( ط ) : « من حيث ».

وبعبارة ثانية : أنّ مفاد الحمل هو الاتّحاد المفهومي في الأوّل ، والخارجي مع بقاء اختلاف المفهومين في الثاني. ولم يظهر لنا اختلاف المفهومين (1) على وجه لو كان اللفظ موضوعا لأحدهما لم يكن استكشاف الآخر منه إلاّ على وجه المجاز ، بل الظاهر أنّ هذا الاختلاف بواسطة اختلاف الأحكام في الواردة على الماهيّة ، وإنّما اللفظ موضوع لنفس الماهيّة الّتي هي هي في المقامين ، كما يظهر بملاحظة الأمثلة المتقدّمة.

فالمستدلّ إن أراد تعيين أحد الوجهين من اللفظ مع قطع النظر عمّا يفيد ذلك من المقام والحكم ونحوهما ، ففيه : أنّ ذلك تحكّم صرف. ولا سبيل إلى دعوى ظهور الحمل في الحمل الذاتي ، إذ لو لم نقل بظهوره في المتعارفي فلا أقلّ من التساوي. وإن أراد أنّ تعيين ذلك إنّما هو بواسطة التعريف ب- « اللام » حيث إنّها وضعت للإشارة إلى نفس الماهيّة من حيث إنّها معهودة ، ففيه : أنّ مجرّد التعريف لا يقضي بذلك ، كما يظهر بملاحظة ما إذا وقع علم الجنس محمولا ، كقولك : « زيد اسامة ».

فإن قلت : التعريف في العلم الجنس على تقدير كونه تعريفا معنويّا كما يراه البعض (2) - لا تعريفا لفظيّا كما يراه نجم الأئمة (3) وبعض آخر (4) - ليس بالإشارة ، بخلاف التعريف في المعرّف باللام ، فإنّ أداة التعريف يشاربها إلى نفس الحقيقة ، ومن المعلوم أنّه إذا فرض اتّحاد نفس الحقيقة مع شيء يلزمه القصر كما هو المفروض في الدليل.

ص: 114


1- في ( ع ) : « الاعتبارين ».
2- لم نعثر عليه.
3- شرح الكافية 2 : 129 و 132 - 135.
4- انظر البهجة المرضيّة 1 : 57 ، وشرح ابن عقيل 1 : 126.

قلت : اتّحاد نفس الحقيقة قد عرفت عدم اقتضائه الحمل الذاتي ، بل هو أعمّ منه ومن المتعارفي ، والمطلوب الأوّل.

لا يقال : إنّهم ذكروا أنّ « اللام » لتعريف الجنس ، وهذه الجهة إنّما تلحق الماهيّة من حيث عمومها وكلّيّتها ، وكذلك لا يسري الحكم بالجنسيّة إلى أفرادها ، ضرورة اختلاف اعتبار الماهيّة على وجه ينتزع منه الجنسيّة واعتبارها فيما إذا كان محمولا لمصاديقها ، وإذا فرض اتّحاد شيء مع الماهيّة بالاعتبار الأوّل فلازمه القصر.

لأنّا نقول : ذلك وهم باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الجنس في قولهم إنّما هو عنوان لنفس الماهيّة ، كما يشعر بذلك تعبير غير واحد بلفظ « الماهيّة » و « الحقيقة » وأشباهها (1).

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقصود في مقام الحصر ليس دعوى اتّحاد الشيء مع الماهيّة الملحوظة بهذه الملاحظة ، فإنّها في هذه المرتبة ليست إلاّ أمرا اعتباريّا ومعقولا ثانويّا ، كما هو ظاهر جدّا.

وزعم بعض الأجلّة أنّ الوجه في التبادر المدّعى في المقام هو : أنّه قد اخذت حقيقة الرجل في قولك : « أنت الرجل » و « زيد الأمير » مثلا مقيّدة باعتبار الخارج ، فاعتبرت من حيث تمام تحقّقها فيه بقرينة الإشارة إليها باللام ، فإنّ الإشارة تستدعي تعيّن المشار إليه ، ولا تعيّن للماهيّة الخارجيّة عند عدم العهد إلاّ بهذا الاعتبار ، وبنى على ذلك في الردّ على ما ذكره التفتازاني من ظهور الحصر ، بناء على حمل « اللام » على الاستغراق (2).

ص: 115


1- كذا في ( ع ) و ( ط ) ، والظاهر : « أشباههما ».
2- الفصول : 155.

أقول : بعد تسليم أخذ الطبيعة خارجيّة - حيث إنّه لم نقف على ما يكشف عن ذلك مع قطع النظر عن الأحكام الواردة على الطبيعة - لا وجه لما أفاده إلى آخره ، فإنّ أخذ الطبيعة مقيّدة باعتبار الخارج إمّا على وجه الاستغراق وهو لا يقول به ، أو العهد الخارجي أو الذهني وشيء منهما لا يقضي بما ذكره ، كما لا يخفى. ولا نعقل اعتبار الماهيّة الخارجيّة عدا ما ذكرنا.

وبالجملة ، فبيان وجه الإفادة كما هو المتبادر بحسب القواعد اللفظيّة المقرّرة في غاية الإشكال.

وما توهّمه بعض المعاصرين (1) في دفع ما أورده التفتازاني من النظر ، من قوله : « إنّ أراد بالمفهوم معنى حاقّ اللفظ بدون ملاحظة ما تعتوره من اللواحق كالتنوين واللام ونحوهما فلا نسلّم اعتباره في المفهوم ، وإن أراد به مفهومه مع ملاحظة ما لحقه من التنوين فاعتباره مسلّم لكن الفرق ظاهر حيث إنّ المحمول على التعريف هو نفس الطبيعة بخلافه على التنكير » فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ ضرورة أنّ التنوين اللاحق لاسم الجنس ليس في الأغلب إلاّ تنوين التمكّن وهو لا يقضي بالفرديّة. سلّمنا كون التنوين للتنكير ، لكنّه لا ينافي الحصر أيضا ، فإنّ القائل بوضع اسم الجنس للفرد المنتشر لا يمنع من الحصر كما هو ظاهر. وصرّح المحقّق الشريف بإمكان استفادة الحصر على القولين (2). وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة ما وقع في جانب المحمول على الوجه الّذي أشرنا إليه عند إرادة الحصر. ولا نفرّق في ذلك كون المحمول هو الصفة أو الفرد المنتشر ، فتدبّر.

الثاني : أنّ المعرّف إذا وقع محكوما عليه ولم ينحصر في المحكوم به لزم الإخبار بالخاصّ على العامّ والتالي باطل. أمّا الملازمة فظاهرة ، إذ المفروض

ص: 116


1- لم نعثر عليه.
2- لم نعثر عليه.

فيما لم يفد الحصر هو الأعمّيّة وعدم اختصاص الوصف المحكوم به. وأمّا بطلان التالي فلأنّ ما ثبت للشيء ثبت لجميع جزئيّاته.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك لا مدخل له في التعريف ، والمقصود في المقام استفادة الحصر منه. وثانيا : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا اريد من الحمل بيان اتّحاد المحمول بحسب المفهوم لما جعل موضوعا ، والحمل لا يستدعي ذلك.

لا يقال : فحمل العبارة في (1) جعل العام محمولا كما في القضايا المتعارفة ، ولو قدّم واريد منه المعنى المذكور فلا بدّ من القول بأنّه خبر مقدّم.

لأنّا نقول : قد عرفت فيما تقدّم صحّة ذلك بدون اعتبار التقديم كما في « الأسد هذا » لمن عرف الأسد ولم يشاهده. ولا سبيل إلى جعله للعهد ، كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ ذلك خلاف الظاهر.

لأنّا نقول : الكلام إنّما هو في بيان وجه الظهور ولا سبيل إليه ، ولذلك عدل المحقّق الشريف في الخبر المعرّف إلى وجه آخر (2) ، وهو : أنّ المقصود ب- « الحمل » عند تعريف المحمول باللام ، لو كان مجرّد الاتّحاد في الوجود يصاغ التعريف لاستفادته من الخبر المنكّر أيضا ، فالعدول منه إليه دليل على أنّ المقصود الاتّحاد في الحقيقة والمفهوم ولو ادّعاء. وهو بظاهره أيضا فاسد ، لأنّ العدول لا يتحقّق من تركيب إلى تركيب لأجل إفادة أمر إلاّ بعد فرض دلالة التركيب الثاني على ذلك الأمر بخلاف التركيب الأوّل ، والمفروض انتفاء الدلالة في المقام. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ التعريف يلازم قرينة تفيد ذلك ، وهو أيضا إحالة على المجهول ، كما لا يخفى.

ص: 117


1- في محتمل ( ع ) : « حينئذ » وعلى أيّ حال ، العبارة لا تخلو عن إشكال.
2- لم نعثر عليه.

وقد يتمسّك في المقام بما ذكره الشيخ عبد القاهر واختاره الزمخشري على ما نسب إليهما (1) في مثل قولك : « الأسد زيد » ، من أنّ المراد اتّحاد الجنس مع الفرد مبالغة في كماله في الفرديّة ، يعني : هل سمعت بالأسد وتعرف حقيقته؟ فزيد هو بعينه ، وهو الحصر بل أعلى منه ، لأنّ قضيّة الحصر ليس إلاّ انحصار المسند إليه في المسند ، وهذا يفيد التساوي وعدم تجاوز المسند منه أيضا.

فإن أرادوا التمسّك بقولهم من حيث إنّهم من أئمّة اللغة فله وجه على تقدير الاكتفاء بأمثاله في مثل المقام ، وإلاّ فإن اريد استفادة المعنى المذكور من قولك : « الأسد زيد » بمقايسة العبارة المذكورة فهو ممّا لا سبيل لنا إليه ، إذ الكلام إنّما هو في وجه ذلك بحسب قواعد اللغة وظهور قولك : « هل سمعت بالأسد وتعرف حقيقته » في التساوي. والحمل الذاتي لا يقضي بالظهور في محلّ النزاع.

ثمّ اعلم أنّ المقصود في المقام إنّما هو بيان أنّ تعريف المسند إليه يفيد الحصر ، حتّى إذا وردت رواية مشتملة على ذلك يحكم بعدم تجاوز المسند إليه عن المسند ، كما في قولك : « الأئمّة من قريش » وهذا كما ترى إنّما يفيد فيما إذا لم يعلم أخصيّة المسند إليه من المسند ، وأمّا إذا علم فليس ذلك من الحصر الحقيقي قطعا ، بل الحصر فيه ادّعائي. وأغلب ما يذكر في المقام من كلمات البيانيّين إنّما يلائم الحصر الادّعائيّ ، كما لعلّه ظاهر. والمقصود الأوّل ، لكنّه نجده من العرف إجمالا ولم نحصّله تفصيلا.

احتجّ الخصم : بأنّه لو أفاد الحصر كان تعريف المسند أيضا مفيدا له ، والتالي باطل. أمّا الملازمة : فلاتّحاد الوجه فيهما ، ولأنّه لو لم يفد لزم استناده إلى الهيئة لاتّحاد المادّة وهو غير معهود ، إذ لم يعهد تأثير الهيئة في اختلاف معنى المادّة بحسب اللغة.

ص: 118


1- نسبه اليهما المحقّق الكلباسي في الإشارات 1 : 251.

والجواب : تارة بالالتزام ، إذ لا دليل على بطلان التالي ، بل قد عرفت أنّ جملة من كلمات أهل البيان إنّما هو فيه. واخرى بإبداء الفارق : بأنّ الوصف إذا وقع محكوما عليه كان معناه الذات بالوصف العنواني ، وإذا وقع محكوما كان معناه ذات موصوفة به وهو عارض للأوّل ، والاتّحاد مع الذات الموصوفة يقتضي الحصر ، بخلاف الاتّحاد مع عارض له ، فإنّه لا ينافي مشاركة معروض آخر له فيه.

وحيث إنّ الفرق المذكور ممّا لا يرتضيه من يرى الحصر عند تعريف المسند أيضا كالتفتازاني ، فاعترض عليه بأنّ ما ذكر إنّما يتّجه في الوصف المنكّر دون المعرّف ، فإنّ معناه الذات الموصوفة. والظاهر أنّه أراد بذلك الإشارة إلى ما تقدّم نقله منه في الدليل الأوّل ، من الفرق بين المحمول المعرّف والمنكّر ، من اقتضاء الأوّل الحصر دون الثاني. وحمله بعض الناظرين في كلامه (1) على أنّه إذا كان المحمول معرّفا فيراد منه الذات ، وإذا كان منكّرا يراد منه المفهوم (2). فاورد عليه : بأنّ هذا إنّما يراد إذا كانت اللام موصولة ، وأما إذا كانت للتعريف فلا فرق بين حمل المعرّف بها وحمل المنكّر في كون المحمول فيهما المفهوم دون الذات.

وأنت خبير بأنّ ذلك ممّا لا مساس له بكلامه ، إذ لم يظهر من كلامه الفرق المذكور ، كيف! وذلك لا يجدي في دفع الجواب ، وأنّ اعتبار الذات في المحمول أو المفهوم ممّا لا دخل له بالجواب المذكور كما هو ظاهر ؛ مضافا إلى أنّ ما ذكره من الالتزام - أخذ الذات في المحمول إذا كان اللام للموصول - فهو مناف لما قد اشتهر عندهم ، من أنّ المعتبر في المحمول هو المفهوم دون الذات مطلقا.

ص: 119


1- راجع مفاتيح الاصول : 215.
2- راجع مفاتيح الاصول : 215.

ولبعض الأجلّة في المقام كلمات لا تخلو عن مناقشة يظهر بعضها ممّا ذكرنا ، فراجعه (1).

ثمّ إنّا في غنية عن التعريض لتعريف المسند أيضا ، كما تجشّمه البعض في المقام.

كما أنّه يظهر الوجه في إفادة الحصر من قولك : « صديقي زيد » ونحوه من كلّ تركيب يقدّم فيه ما حقّه التأخير. ولعلّ الكلّ بواسطة أمر خارج عن الوضع والموضوع. وقد تقدّم ما يغني عن الإطالة ، فتدبّر جدّا واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 120


1- الفصول : 155.

هداية

الحقّ - كما عليه أهل الحقّ وجماعة من مخالفينا (1) - أنّه لا مفهوم في اللقب. والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام ، كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك ، سواء كان صالحا لأن يؤخذ منه مفهوم آخر - كما إذا كان المبتدأ أو الفاعل أو غير ذلك وصفا أو زمانا أو عددا - أو يعمّ فيما إذا كان وصفا ، فيستفاد منه المفهوم على القول بثبوته فيه وفي المقام من جهتين.

وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد (2) إلى ثبوت المفهوم فيه.

لنا : انتفاء الدلالات الثلاث ، يكشف عنه أنّه لا دلالة في قولك : « زيد موجود » على أنّه تعالى ليس بموجود ، وقولك : « موسى رسول اللّه » على أنّ محمد صلى اللّه عليه وآله ليس برسول اللّه. ومن ادّعى ذلك فقد لبس عليه وجدانه ولا يحسن مناظراته. وقد اشتهر على الألسن : « أنّ إثبات الشيء لا ينفي الحكم عن الغير » ولا محلّ له إلاّ في أمثال المقام.

واحتجّوا : بلزوم العراء عن الفائدة لولاه ، وبأنّ قول القائل : « لا أنا بزان ولا اختي زانية » رمي للمخاطب ولاخته بالزنا ، ولذلك أوجبوا عليه الحد.

ص: 121


1- انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي 3 : 104 ، ومفاتيح الاصول : 217.
2- انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي 3 : 104 ، وشرح مختصر الاصول : 321 ، ومفاتيح الاصول : 217.

والجواب عن الأوّل بمنع الملازمة كما تقدّم نظيره. وعن الثاني بأنّ ذلك بواسطة قرينة المقام. وللعامّة في مباحث العلوم العقليّة والنقليّة خرافات وهذيانات لا تحصى!

ص: 122

هداية

اشارة

الأقوى - وفاقا لجمع كثير من أصحابنا ومخالفينا - أنّه لا مفهوم في العدد ، بل وادّعى بعضهم وفاق أصحابنا فيه (1). وحكي القول بالإثبات مطلقا (2) ، ولم نعرف قائله. وفصّل جماعة منهم الآمدي في ذلك ، فقال - على ما حكي عنه - : إنّ الحكم إذا قيّد بعدد مخصوص ، فمنه ما يدلّ على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق أولى كما لو حرم اللّه جلد الزاني بمائة ، وقال : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » ومنه ما لا يدلّ على ثبوت الحكم فيما زاد عليه بطريق أولى ، وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني بمائة أو أباحه ، فإنّه مسكوت عنه ، مختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ، متّفق على أنّ حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن يمنع الاقتصار (3). فاختار في الأوّل الدلالة وفي الثاني العدم.

وفصّل بعضهم (4) بين ما وقع جوابا عن المقيّد كأن يقول : « نعم » في جواب هل اجلد الزاني ثمانين؟ فلا يفيد ؛ لظهور كون الفائدة فيه غير المفهوم ، وبين ما إذا وقع جوابا عن المطلق فمع عدم ظهور فائدة غير المفهوم فانّه لا بدّ من حمله على المفهوم ، لئلاّ يلزم العراء عنها.

ص: 123


1- ادّعاه المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : 354.
2- حكاه المحقّق النراقي في المناهج : 131 ، بلفظ : وقيل حجة مطلقا.
3- الإحكام في اصول الأحكام 3 : 103.
4- نسبه المحقّق الكلباسي في الإشارات إلى بعض الأواخر.

والظاهر أنّ شيئا من القولين ليس بتفصيل في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ البحث في المقام إنّما هو في أنّ التقييد بالعدد الخاصّ هل يستلزم نفي الحكم عمّا فوقه وعمّا دونه أو لا؟ وما حكم فيه بالدلالة لا ربط له بهذه المسألة ، بل اختار مشاركة الفوق لما تحته بمفهوم الموافقة في تلك الموارد.

وما اختار فيه العدم إن حملناه على عدم الدلالة على المشاركة بقرينة الإثبات فعدم كونه مرتبطا بالمقام ظاهر ، وإلاّ كان من النافين مطلقا ، حيث إنّ اختياره الدلالة على المشاركة لا ينافي عدم الدلالة على النفي بل يؤكّده.

وأمّا الثاني ؛ فعدم كونه تفصيلا ظاهر.

لنا على ما صرنا إليه : ما تقدّم من انتفاء الدلالات الثلاث.

احتجّوا بالعراء عن الفائدة لولاه ، و (1) بقوله صلى اللّه عليه وآله : « لأزيدنّ على السبعين » (2) بعد نزول قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (3) وبلزوم تحصيل الحاصل لو كان الحكم ثابتا لما دون وما زاد ، فقوله صلى اللّه عليه وآله « طهور إنائكم إذا ولغ الكلب فيه أن تغسله سبعا » (4) يدلّ على حصوله بها خاصّة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبما مرّ مرارا.

وعن الثاني : فبعدم صحّة الرواية ، كما يؤيّده سياق الآية ، فإنّ الظاهر أنّها واردة في مقام الكناية عن الكثرة ، إذ الظاهر أنّ كلمة « إن » لا تفيد السببية ، إذ لا يعقل أن يكون عدم المغفرة مسبّبا عن الاستغفار ولو مرّة ، بل الظاهر أنّها

ص: 124


1- كلمة « و » من ( ع ).
2- مجمع البيان 3 : 55.
3- التوبة : 80.
4- المستدرك 2 : 602 ، الباب 45 من أبواب النجاسات.

هي الوصليّة. ومع ذلك يبعد صدور هذا الكلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولو سلّم صحّتها فلا تفيد في المقام ، كما لا يخفى.

واجيب (1) أيضا : بأنّ ذلك بواسطة مفهوم الشرط ، وهو ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ قضيّة ذلك حصول المغفرة عند عدم الاستغفار مطلقا لو لم نقل بمفهوم العدد ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الثالث : فبأنّ ذلك إنّما يتمّ إذ وقع العدد في مقام التحديد كما في الرواية ، وهو خارج عن المتنازع فيه. ثمّ على تقدير وروده في مقام التحديد فالملازمة إنّما تتم على تقدير امتناع التخيير بين الأقلّ والأكثر.

وممّا ذكر يظهر فساد القول الرابع أيضا على تقدير كونه من أقوال المسألة ، ولا حاجة إلى الإطالة.

تذنيب :

العدد المأخوذ في متعلّق الحكم إمّا يعلم بكونه مأخوذا لا بشرط الزيادة أو النقيصة ، أو يعلم بكونه مأخوذا بشرط عدم النقيصة والزيادة معا ، أو بشرط عدم الزيادة فقط ، أو النقيصة فقط ، أو لا يعلم شيء منها.

وعلى الأخير فلا بدّ من إجراء أحكام ما علم كونه مأخوذا لا بشرط ، إذ اللفظ إنّما هو كاشف عن العدد المعيّن ولا يدلّ على شيء آخر سواه ، فلا داعي على اعتباره.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون الحكم وجوديّا كما إذا قيل : يجب صوم ثلاثين يوما ، وإمّا أن يكون عدميّا كما إذا قيل : يحرم جلد الزاني مائة. فعلى الأوّل

ص: 125


1- أجاب بذلك السيّد المجاهد في المفاتيح : 216 - 217.

يدلّ على وجوب صوم كلّ يوم من الثلاثين تبعا ، وهل يدلّ على وجوبه أصالة أيضا؟ الظاهر العدم إذا لم يعلم تعدّد التكاليف ، ولا يدلّ على وجوب الزائد وهو ظاهر ، ولا ينافيه أيضا نظرا إلى عدم المفهوم كما عرفت. وعلى الثاني فيدلّ على حرمة الزائد بالأولويّة.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة والنقيصة : ففي الوجودي يجب الجميع تبعا ، فإن زاد عليه أو نقص لم يمتثل ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به. وفي العدمي لا يحرم في الناقص قطعا ، وفي الزائد فإن لم يكن تدريجا فلا يحرم أيضا ، وإن كان تدريجا ففي تحريم ما وصل إلى مرتبة ذلك العدد المعيّن وعدمه وجهان مبنيّان على تشخيص ذلك بالقصد وعدمه.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة فقط فلا حرمة ولا وجوب فيما زاد عليه إذا كان دفعيّا ، وفي التدريجي فالوجهان فيهما. وفيما دونه أيضا لا حرمة ولا وجوب ، أمّا أصالة فظاهر بناء على عدم تعدّد التكليف ، وأما تبعا ففي العدمي ظاهر ، وأما في الوجودي فلأنّ اتّصافه بالوجوب التبعي إنّما هو بعد قصد الكلّ ، فلو قصده كان واجبا كما في سائر المقدّمات على ما حقّقناه في مقامه ، وإلاّ فلا.

وإذا اخذ بشرط عدم النقيصة فقط ففي العدمي لا حرمة إلاّ بعد التمام ، ويدلّ على حرمة الزائد بالإطلاق ، ويحتمل الأولويّة أيضا. وفي الوجودي لا وجوب إلاّ في التمام أصالة ، وتبعا قد عرفت الوجه فيه. وأمّا وجوب الزائد فلا دلالة في اللفظ عليه نفيا وإثباتا ، إلاّ أنّه لو زاد على العدد يحكم بالامتثال نظرا إلى الإطلاق. وما ذكرنا ظاهر جدّا ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 126

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في العموم والخصوص

اشارة

ص: 127

ص: 128

واعلم أنّ صرف الوقت في تزييف ما ذكروه في الحدود الواردة للعامّ وبعض المسائل المتعلّقة بالعموم - مثل إفادة المعرّف ب- « اللام » العموم وأمثال ذلك - ممّا لا وجه ؛ لوجود ما هو الأهمّ منها ، فالأولى أن نتعرّض لما هو المفيد في المباحث الفقهيّة أو ما هو كاللازم في المباحث في طيّ هدايات :

ص: 129

ص: 130

هداية

إذا خصّص العامّ بأمر معلوم مفهوما ومصداقا ، فلا ينبغي الإشكال في حجيّة العامّ في الباقي ، وليس ممّا يتطرّق عليه الاشتباه كما عليه المشهور ، بل ولم يظهر من أصحابنا فيه خلاف ، وإنّما نسب الخلاف إلى بعض العامّة كأبي ثور (1).

وذهب جماعة - منهم البلخي على ما حكي (2) - إلى التفصيل بين المخصّص المتّصل - كالوصف والغاية وبدل البعض والاستثناء ، على تأمّل فيه - فقال بالحجّيّة ، وبين المنفصل فقال بعدمها.

لنا : ظهور العامّ في الباقي بعد التخصيص على وجه لا يشوبه شائبة الإنكار في العرف. ويشهد له انقطاع عذر العبد المأمور بإكرام العلماء إلاّ زيدا عند عدم الامتثال به كما هو ظاهر ، ولا نعني بالحجيّة في المقام إلاّ ذلك ، ويظهر بالرجوع إلى الوجدان الخالي عن الاعتساف. ويزيد ظهورا بملاحظة الاحتجاجات الواردة في كلمات الأئمّة وأرباب العصمة - صلوات اللّه عليهم - وأصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله من أهل اللسان والعلماء في موارد جمّة ، على وجه لا يمكن إنكاره ، بل ولولاه لا نسدّ باب الاجتهاد ؛ فإنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بالعمومات ، مع أنّ من السائر في الأفواه « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » ومن هنا قيل : إنّ العام المخصّص أقوى ظهورا من غيره ؛ لكونه مظنّة له (3).

ص: 131


1- انظر الإحكام في أصول الأحكام 2 : 252 ، والمختصر وشرحه : 224.
2- حكاه الآمدي في الإحكام 2 : 252 ، وانظر المختصر وشرحه للعضدي : 223 - 224.
3- لم نعثر عليه.

واحتجّ النافي : بأنّ الباقي بعد التخصيص مرتبة من مراتب المجاز ، وهي متساوية ، فتعيّن الباقي دون غيره ترجيح من غير مرجّح.

فاجيب عنه : بأنّ المرجّح هو أقربية الباقي لمدلول العامّ.

فإن اريد من الأقربيّة ما هي معتبرة في الترجيح فلا نسلّم تحقّقها ، إذ الأقربيّة المعتبرة ما تكون منوطة بغلبة استعمال اللفظ بعد صرفه عن الحقيقة ، مثل استعمال الأسد في الشجاع لا في الأبخر مثلا ، ولا سبيل إلى إثبات غلبة استعمال العامّ المخصّص في الباقي ، إذ المراد مصداق الباقي وهو مختلف جدّا ، فلا يتحقّق غلبة كما لا يخفى. وإن اريد غيرها فلا يكفي في الترجيح.

والأولى أن يجاب - بعد تسليم مجازيّة الباقي - بأنّ دلالة العامّ على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ولو كانت دلالة مجازيّة ، إذ هي إنّما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ؛ لأنّ المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي ، لاختصاص المخصّص بغيره ، فلو شكّ فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حدّ سائر المجازات حتى يحتاج إلى معيّن آخر بعد الصرف مع تعدّدها ، فإنّ الباقي متعيّن على حسب تعيّن الجميع عند عدم المخصّص مطلقا.

وممّا ذكرنا يظهر سرّ الظهور العرفي ، فلا يرد ما قد يتوهّم : من أنّه لا وجه له ؛ إذ على تقدير المجازيّة لا وضع حتى يستند إليه والمفروض أيضا عدم القرينة ، وعلى تقدير عدمها فالحقائق متعدّدة أيضا ، فالوجه هو الإجمال. وتوضيح الدفع هو ما ذكرنا من عدم إناطة دلالة العامّ على فرد على دلالته على فرد آخر بالوضع ، وعدم إرادة فرد - سواء كان بعد ذلك حقيقة أو مجازا - لا يوجب عدم دلالة العامّ

ص: 132

على الأفراد الباقية بالوضع ، وحيث لا صارف فيحمل عليه اللفظ ، على ما هو المعتاد في حمل اللفظ بعد ثبوت الدلالة وعدم الصارف.

ويمكن أن يحتجّ للمفصّل : بأنّ للعامّ عند اتّصال المخصّص به ظهورا ثانويا في الباقي ، بخلافه عند انفصاله.

لا يقال : لا وجه لذلك ، إذ لا نجد فرقا في المقامين ، فدعوى الظهور في المتّصل دون غيره ممّا لا شاهد لها ؛ لأنّا نقول : الفرق بينهما في غاية الظهور ، ويرشدك ملاحظة ما قيل في المجاز المشهور : من أنّ إرادة المعنى العاري عن القرينة اعتمادا على القرائن المنفصلة ربّما يوجب إجمال اللفظ الموجب للتوقّف ، بخلاف ما إذا اقترنت القرينة باللفظ ، فإنّه لا يكاد يصل إلى حدّ الإجمال وإن بلغ الاستعمال ما بلغ ، فانفصال المخصّص ربما يوجب وهنا في الظهور بخلاف المتّصل ، ومن هنا قال بعضهم بجواز تخصيص الأكثر في المتّصل دون غيره (1) وستعرف وجها آخر في الفرق في ما سيأتي إن شاء اللّه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه ليس الفرق بمثابة لا يمكن القول بالبيان والاعتبار عند الانفصال ، نظرا إلى ما قلنا : من أنّ مقتضى الحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، وإمكان الإجمال في صورة الانفصال لا يقضي به ، كما هو ظاهر في القرائن المنفصلة في سائر المجازات. وبالجملة ، فلا إشكال في ذلك ، فلا بدّ من صرف الكلام إلى ما هو أهمّ. واللّه الهادي.

ص: 133


1- قاله ابن الحاجب ، انظر المختصر وشرحه : 249.

ص: 134

هداية

الحقّ عدم صحّة التعويل على العامّ عند عروض الاشتباه في أفراد المخصّص إذا فرض له عنوان مع انتفاء أصل يوجب تعيين ذلك المشتبه في مقام الظاهر.

خلافا لما يظهر من جماعة من الأخباريّة (1) ، حيث إنّهم يتمسّكون في موارد الاستصحابات الموضوعيّة بعموم الدليل مع إنكارهم الاستصحاب فيها أيضا ، وقد أشرنا إليه في محلّه (2).

وهذا منهم ليس بعجيب وإنّما العجب من الشهيد الثاني ؛ حيث إنّه قال على ما حكي : والمرأة لا تقتل بالارتداد ، وكذا الخنثى ؛ للشكّ في ذكوريّته المسلّطة على قتله ، ويحتمل أن يلحقه حكم الرجل ؛ لعموم قوله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (3) خرج منه المرأة ويبقى الباقي داخلا في العموم ؛ إذ لا نصّ على الخنثى بخصوصه (4) ، انتهى.

وستعرف وجها يمكن تصحيحه ، مضافا إلى احتمال كون الشبهة حكميّة على تقدير إمكان الواسطة بين النوعين ، فيكون من جزئيّات الهداية السابقة.

ص: 135


1- لم نعثر عليه.
2- انظر الفرائد 3 : 45.
3- المستدرك 18 : 163 ، الباب الأوّل من حدّ المرتدّ ، الحديث 2.
4- الروضة البهيّة 4 : 161.

وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : التعويل عند وجود أصل رافع للاشتباه ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » وشكّ في زيد العالم أنّه هل هو فاسق بعد العلم بعدالته سابقا أو لا؟ فاستصحاب العدالة يوجب تحكيم العامّ في المورد المشكوك ، كما أنّ استصحاب الفسق في مورده يوجب تحكيم عنوان التخصيص. وكذا إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » وشكّ في زيد العالم في عدالته ، فبأصالة عدم حصول الملكة له يحكم بعدم وجوب إكرامه ، ولا إشكال في ذلك على ما قرّرنا في محلّه.

الثانية : عدم صحّة التمسّك بالعامّ في مورد الاشتباه عند انتفاء أصل موضوعي.

والذي يدلّ عليه : أنّ المقصود من الاستدلال بدليل والداعي إليه إنّما هو رفع الشكّ الذي أوجب النظر والفحص ، إذ مع عدمه بعد الالتفات لا حاجة إلى الاستدلال قطعا والشكّ في المقام ممّا لا نعقل رفعه بالتمسّك بالعامّ.

وتوضيحه : أنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة هو التردّد في الأمور الخارجيّة التي لا مدخل لإرادة المتكلّم فيها بوجه ، بل ذلك التردّد والاشتباه كثيرا ما يقع للمتكلّم أيضا ، بل قد يقطع المتكلّم بخلاف ما هو الواقع في المصاديق أيضا ، فمن حاول رفع هذه الشبهة فلا بدّ من رجوعه إلى ما هو المعدّ في الواقع لإزالة هذه الشكوك والشبهات من اختبار وتجربة وإحساس ونحوها ، وما يمكن رفعه بالرجوع إلى العام هو الشكّ في مراد المتكلّم على وجه لو صرّح بمراده بعد الرجوع إليه لم يقع الشكّ فيه ، ففيما إذا شكّ في أنّ زيدا عادل لو راجعنا المتكلّم أيضا لا يرتفع الشكّ المذكور من حيث هو متكلّم ، فلا وجه لتحكيم العامّ في مورد

ص: 136

الشكّ كيف! ونسبة المشكوك إلى العنوانين نسبة واحدة ، فالتزام دخوله في أحدهما من غير أن يكون ذلك مستفادا من أصل أو دليل ترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة ، فالمتكلّم والمخاطب سيّان في هذه الشبهة ، لثبوتها مع قطع النظر عن المتكلّم وإن كان قد يوجب التفاتا إليها أيضا ، ولا يلزم على المتكلّم قبح عند التكلّم بالعامّ مع شكّ المخاطب في مصاديق العنوانين من حيث هو متكلّم من جهة إقامته بما هو الوظيفة في المتعارف من التعبير بما هو الكاشف عن مراده من دون قصور فيه ولا تقصير. ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة فيه.

ويمكن أن يحتجّ للخصم تارة بالاستصحاب فيما لو عمل بالعامّ في المشكوك بواسطة القطع باندراجه ثم طرأ الشكّ فيه.

وفيه : أنّ ذلك - بعد الإغماض عن كونه رجوعا عن التمسّك بالعامّ إلى التعويل على الاستصحاب وعدم نهوضه للشكوك البدوية - ممّا لا يجدي ؛ لارتفاع الحكم بعد ارتفاع القطع ؛ لكونه دائرا مداره ، كما نبّهنا على عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام في محلّه.

واخرى بأنّ الظاهر من عنوان العامّ والمخصّص أن يكون الأوّل مقتضيا والثاني مانعا عن الحكم ، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي ، والأصل عدمه ، فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي.

وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ الظاهر من العنوانين أن يكون العامّ مقتضيا والخاصّ مانعا ، فإنّ قضيّة التخصيص لا تزيد على صرف الحكم عن الأفراد المخصّصة وتخصيصه بالأفراد الباقية من غير إشعار بأنّ العلم هو المقتضي والفسق هو المانع ، لكونه أعمّ من أن يكون العامّ مقتضيا والآخر مانعا كما هو مطلوب المستدلّ ، أو أن يكون عنوان العامّ هو الجزء الآخر للعلّة التامّة بالنسبة إلى الحكم ويكون عنوان المخصّص كاشفا عن عدم شرط في بعض أفراده.

ص: 137

وبالجملة ، فلا دليل على التزام كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا.

فإن قلت : الظاهر من القضايا الغير المعلّلة بعلّة عند عدم استنادها إلى عللها الواقعيّة (1) أن يكون الموضوع هو العلّة في ثبوت المحمول أو ما هو ثابت في مورده قطعا ، وإلاّ لزم أن يكون كلّ شيء صالحا لأن يحكم عليه بكلّ شيء ، وهو ضروريّ الفساد ، ولذلك لا حاجة إلى إحراز أمر آخر في ترتيب الحكم بعد إحراز ما جعل موضوعا في القضيّة ، فإذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » نعلم أنّ علّة وجوب الإكرام إنّما هو العلم الغير الجامع للفسق ، ولا شكّ أنّ العلم حينئذ يكون مقتضيا كما هو مأخوذ في عنوان العامّ والفسق مانعا كما هو مقرّر في المخصّص.

لا يقال : فيلزم القول باعتبار مفهوم الوصف واللقب وأضرابهما كما هو قضيّة العلّيّة المدّعاة في المقام.

لأنّا نقول : إنّما يلزم لو قلنا بأنّ الظاهر انحصار العلّة ليلزم من ارتفاعه ارتفاع سنخ الحكم ولا نقول به ، بل المقصود إثبات الاطّراد في الوجود فقط ، فإنّ ذلك يكفي فيما نحن فيه وإن أمكن ثبوت الحكم في مورد آخر أيضا ، فلا يلزم محذور.

قلت : لا إشكال في أنّه بعد إحراز ما هو الموضوع في القضية يلزم ترتيب الحكم عليه ولا حاجة معه إلى أمر آخر ، بل يكفي فيه ذلك ولو فرض ارتفاع جميع الموجودات أو وجود جميع المعدومات كما هو قضيّة الإطلاق ، لكن ذلك لازمه القول بأنّ العلّة في الحكم أو في العلم به (2) عنوان العامّ مع انتفاء عنوان

ص: 138


1- في ( ع ) : « عند عدم العلم باستنادها إلى العلل الواقعيّة ».
2- في ( ع ) زيادة كلمة غير واضحة لعلّها : هو.

المخصّص ولا حاجة إلى إحراز أمر آخر في الحكم المذكور ، ولا دلالة فيه بوجه على تعيين المقتضي والمانع كما هو المقصود. لا يقال : لا نعني بالمقتضي إلاّ الأمر الوجودي المؤثّر في وجود المعلول ، وبالمانع إلاّ ما يكون عدمه معتبرا في الوجود ، ولا شكّ في صدق ذلك على العنوانين كما عرفت بأنّ العلّة هو العلم مع انتفاء الفسق.

لأنّا نقول : ما ذكر ليس مستفادا من ظاهر الدليل وإنّما هو أمر يمكن اعتباره كذلك ، كما يمكن اعتباره بوجه آخر أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فمن الجائز أن يكون الأفراد الباقية مشتملة على علّة الحكم بعناوينها الخاصّة ، بخلاف الفرد المخرج ، لارتفاع بعض أجزاء العلّة فيها ، ويكون الداعي إلى التعبير على الوجه المذكور هو تعذّر إحصاء الأفراد الباقية بعناوينها أو غيرها ، وحينئذ لا دلالة على المطلوب بوجه كما في قولك : « أكرم أهل هذه البلدة إلاّ اليهود » مثلا ، بل قد يقال : إنّ العام بعد تخصيصه بالمنفصل يصير كالدليل اللبّي وينهدم أساس عنوان الموضوع ، فإنّه حينئذ ذوات الأشخاص الباقية كما إذا قيل مشيرا إليها : « أكرم هؤلاء » ومشيرا إلى الأفراد الخارجة : « لا تكرم هؤلاء ».

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، لظهور الفرق بين الإشارة وعنواني العامّ والمخصّص ، فإنّ للعالميّة مدخلا في الحكم جزما ، لارتفاع الحكم فيما لو انقلب جاهلا ، بخلافه في صورة الإشارة.

ثمّ إنّ الدعوى المذكورة ممّا لا سبيل إليها في مثل قولك : « لا يجب إكرام الناس إلاّ العالم » من الأحكام السلبيّة ، إلاّ أنّه لا بد من التأويل فيها بعد ذلك أيضا.

ص: 139

وثانيا (1) : سلّمنا كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا ، إلاّ أنّه لا بدّ من إحراز عدم المانع بدليل ، ومجرّد الشكّ في وجود المانع مع قطع النظر عن الحالة السابقة لا يقتضي الحكم بالعدم ، وأمّا الحالة السابقة فليست معلومة في المقام حتّى يؤخذ بها.

وتوضيح ذلك : أنّ عدم الفسق المفروض وجوده مانعا قد يكون معلوما قبل زمان الشكّ كما إذا كان زيد المشكوك دخوله في العنوانين معلوم العدالة في السابق ، وقد لا يكون كما إذا كان الشكّ في فسقه ابتداء.

فعلى الأوّل : لا حاجة إلى تجشّم إثبات كون العام مقتضيا والمخصّص مانعا ، لكفاية الأصل الموضوعي عن ذلك. وعلى الثاني : لا يجدي إثبات كونه مانعا أيضا ، لعدم ما يقضي بعدمه في الواقع من الدليل أو في الظاهر من الأصل.

لا يقال : إنّ المانع إذا كان مشكوكا فالأصل فيه العدم ، سواء كان مسبوقا بالحالة السابقة أو لم يكن. ويكفي في ذلك احتجاج المحقّق في الاستصحاب بعد إحراز المقتضي : بأنّ احتمال وجود المانع معارض باحتمال عدمه (2) ، فإنّ ذلك لا وجه له إلاّ على تقدير عدم الاعتناء بوجود المانع بمجرّد الشكّ فيه.

لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الشكّ في وجود المانع في الحكم بعدمه ، لا عقلا لعدم استقلاله به ، ولا نقلا لعدم اندراجه تحت قاعدة من القواعد الشرعيّة. وأمّا احتجاج المحقّق فقد نبّهنا على ما فيه في محلّه.

وربّما يتوهّم الفرق في المقام بين ما كان الأفراد الباقية والخارجة معلومة الأعداد والأشخاص - كأن يكون العدول مثلا عشرة والفسّاق أيضا عشرة فاشتبه

ص: 140


1- عطف على قوله : وفيه أوّلا في صفحة : 137.
2- معارج الاصول : 207.

واحد منهم بالآخر - وبين ما لم يكن كذلك ، بل كان الاشتباه لأجل حصول عنوان المخصّص في المشكوك. فعلى الأوّل : نقول بعدم تحكيم العامّ ، لما مرّ من أنّ الحكم بدخوله في أحد العنوانين خاصّة ترجيح بلا مرجّح. وعلى الثاني : نقول بتحكيم العامّ في مورد الاشتباه ، نظرا إلى وجوب الأخذ بالعامّ مهما أمكن ، فما لم يعلم خروج فرد من العامّ يجب الأخذ به ، لعدم وصول المعارض إلينا من جانب المولى كما جرى عليه ديدن العقلاء في مقام امتثال الأوامر المتعلّقة بهم ، كما هو ظاهر.

أقول : لا إشكال على الأوّل كما هو المفروض. وأمّا على الثاني ، فما ذكر في وجه التحكيم فإنّما يناسب فيما لو كان المراد من المخصّص مجملا. وأمّا إذا كان عنوان المخصّص معلوم المراد فلا وجه للفرق بين الموردين بوجه ، لاتّحاد ما هو المناط بينهما. ودعوى جريان ديدن العقلاء على تحكيم العامّ في مثل ما نحن فيه ممنوعة جدّا ، ألا ترى أنّهم يتوقّفون في مائع لم يعلم كونه خلاّ أو خمرا ولا يستندون فيه إلى عموم التحليل والتحريم؟ والوجه في ذلك هو ما نبّهنا عليه : من أنّ الشكّ في المقام ممّا لا يزول بالأخذ بالعموم ، فإنّ الاصول اللفظيّة تارة يقصد بها إثبات الوضع والمفروض في المقام عدم الشكّ فيه في أحد من العنوانين ، وتارة يقصد بها إثبات المراد من اللفظ وهو أيضا معلوم فيهما.

وتوضيح المقام : أنّ ملخّص ما يمكن أن يقال في الفرق بين الصورتين : هو أنّ الشك في دخول زيد في عنوان الخاصّ على الأوّل لا يستلزم الشكّ في تخصيص العامّ زيادة على ما علم تخصيصه ، لأنّ دخول زيد تحته يوجب خروج فرد آخر منه ، لانحصار أفراده في عشرة مثلا. بخلاف الشكّ فيه على الثاني ، فإنّه يشكّ في أنّ زيدا هل خصّص من العامّ أو لا؟ بعد العلم بتخصيصه بالنسبة إلى عمرو وأصالة عدم التخصيص في الأقلّ معارضة بمثلها كما في الشبهة المحصورة. وعلى الثاني فلا معارض لها ، لكونه من قبيل الشبهة البدويّة.

ص: 141

وملخّص الجواب : أنّ الفرق لا يجدي في الرجوع إلى العامّ ، لأنّ منشأ الشكّ في التخصيص وإن كان الشكّ بدويّا هو الاشتباه في الأمر الخارجي ولا يمكن زواله بالرجوع إلى العامّ كما قلنا. وذلك بمكان من الظهور والوضوح [ بهداية اللّه ](1) وهو الهادي.

ص: 142


1- لم يرد في ( ع ).

هداية

اشارة

إذا علم تخصيص العامّ بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما. ويمكن استيناسه من مذاق العلماء في جملة من الموارد أيضا. ومثال ذلك : ما إذا قال المولى : « أكرم العلماء » وعلمنا من نفسه ومن تعبيره وتخصيصه للعامّ أنّه لا يريد إكرام الفاسق ، فإنّه إذا شكّ في زيد هل هو فاسق أو لا يجب تحكيم العامّ فيه والقول بوجوب إكرامه.

وتحقيق القول : أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين وتنويعهما ، كالعالم الفاسق والعالم الغير الفاسق مثلا. واخرى لا يوجب ذلك ، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنوانا في العامّ وإن علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه. فعلى الأوّل : لا وجه لتحكيم العام ، لما عرفت في الهداية السابقة ، وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظيّة. وعلى الثاني : يجب تحكيم العامّ وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللبيّة. والذي يقضي بذلك أمران :

الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّه يجب ترتيب الحكم فيما لو علمنا بعدم ما هو المخصّص واقعا ، وكذا فيما لو شكّ فيه لملازمته لأصل موضوعيّ به يرتفع الشكّ ، وهو أصالة عدم كونه فاسقا. ولا يرد فيه ما أوردناه في القسم الأوّل : من أنّه بدون الحالة السابقة لا دليل على اعتبار الأصل ومعها يخرج عن عنوان البحث.

ص: 143

وتوضيحه : أنّ أصالة عدم وجود الفاسق الأزلي يكفي في المقام بعد إحراز عنوان العامّ في الفرد المشكوك ، ولا يكفي في القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد عدم إحراز وجود الفاسق بالأصل لا يجوب إحراز ما هو الموضوع في الحكم من عنوان العامّ مع ما هو ضدّ لعنوان المخصّص.

وفيه أوّلا : إن اريد من استصحاب عدم الفاسق إثبات أنّ المشكوك ليس فاسقا ، فهو ممّا لا تعويل عليه. وإن اريد استصحابه بدون ذلك فالشكّ في محلّه ، فلا وجه في تحكيم العامّ فيه. وإن اريد استصحاب عدم الفسق في هذا المشكوك الخاصّ ، ففيه أنّ هذا الفرد متى يكون لا فاسقا حتى يستصحب؟

وثانيا : أنّ الحكم في القسم الأوّل ربما يترتّب على نفس عدم الفاسق ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء العدول » مضافا إلى أنّ هذا الوجه لو تمّ لم يكن تحكيما للعامّ كما هو المراد ، بل لو قيل : إنّ العامّ أيضا مجمل في المقام لم يكن كذبا.

الثاني : أنّ الرجوع إلى العامّ في المقام يوجب رفع الشكّ الموضوعي المفروض في المشكوك. بيان ذلك : أنّ التعبير بالعموم من دون أخذ عنوان آخر يكشف من أنّ المتكلّم لا يرى في أفراد ذلك العامّ ما يصلح لمعارضة العامّ ، وإلاّ كان عليه التخصيص بغيره ، فالخطاب المنفصل لبيان الحكم إنّما يستفاد منه بيان الموضوع أيضا ولو بملاحظة أصالة عدم التخصيص ، وكلّ من يجب إكرامه ليس بفاسق ، لما قد فرضنا أنّ المولى لا يريد إكرام الفاسق ، فينتج أنّ زيدا ليس بفاسق ، فالتمسّك بالعامّ لا يحتاج إلى رفع الشكّ ، بل بالعموم يستكشف واقع المشكوك فيه ، ومن هذا القبيل التمسّك بعموم ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) لعصمة

ص: 144


1- البقرة : 124.

النبي صلى اللّه عليه وآله والتمسّك بقوله : « اللّهم العن بني اميّة قاطبة » (1) على عدم وجاهة واحد منهم - لعنهم اللّه - وأمثال هذه التمسّكات في كلمات العلماء كثيرة ، بل العرف أيضا شاهد على ذلك ، كما يلاحظ في كثير من محاوراتهم ، كما إذا أمر المولى عبده بإتيان كلّ بطيخ في بيته مع العلم بأنّه لا يريد الفاسد منه ، أو أمر المولى بإكرام جيرانه عموما مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه يستكشف من الأوّل أنّ المولى لا يعتقد فسادا فيما هو في بيته من البطّيخ ، ومن الثاني أنّه لا يرى من هو عدوّ في جيرانه. ولعلّه ظاهر ، وإنّما الإشكال في تشخيص مورد القسمين ، وبيان ما هو المعيار في تمييز أحدهما عن الآخر. ولعلّ ما أخذناه في عنوان الهداية يوجب التمييز في الأغلب.

فإن قيل : إذا علمنا بأنّ العداوة مانعة عن اقتضاء عنوان العامّ للحكم ، فلا فرق بين التصريح بالتخصيص كما في القسم الأوّل وبين غيره كما فيما نحن فيه ، لظهور أنّ الحكم إنّما يلحق موضوعه وبعد العلم بالممانعة نشكّ في ثبوت الموضوع كما قرّر مفصّلا.

قلنا : لا نسلّم مداخلة العداوة في الموضوع ما لم يصرّح بالتخصيص ، غاية الأمر أنّا نعلم بملازمة بين العداوة وبين عدم الإكرام ، وذلك لا يضرّ التمسّك بالعامّ بل يؤكّده ، حيث إنّا نستكشف من ثبوت الإكرام الملازم لعدم العداوة عدم كونه عدوّا كما هو الشأن في جميع ضروب الاستدلال.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لم يعلم بوجود المخصّص في الخارج أصلا ، وأمّا إذا علم بوجوده ولو واحدا ، فيكفي في أخذه عنوانا والحكم بالتنويع.

ص: 145


1- الوارد في زيارة عاشوراء ، انظر البحار 101 : 293.

قلت : لا فرق في ذلك بين العلم بوجوده وبين عدمه ، إذ المدار على الاستكشاف المذكور لجريان أصالة عدم التخصيص ، فكما أنّه لو شكّ ابتداء في تخصيص العامّ بفرد بعد العلم بتخصيصه بفرد آخر يجب التمسّك بالعموم ولا ينافيه العلم بتخصيصه بالنسبة إلى فرد غيره ، فكذا في المقام.

وبالجملة ، فملاك الأمر في المقام على تشخيص الموضوع ، ولا تفاوت فيه بين أقسامه وأحواله.

هذا كلّه فيما إذا كان أخذ عنوان المخصّص قيدا في موضوع الحكم ممكنا وأمرا معقولا ، كما عرفت من الأمثلة المتقدّمة. وأمّا ما لا يمكن أخذه في الموضوع ولا يعقل ذلك فيه ، فلا ينبغي الإشكال في أنّه يؤخذ بالعموم.

فتوضيح المطلب بأن يقال : إنّ العلم بعدم إرادة المولى بعض ما يلاحظ كونه فردا عند إيراده عنوان العامّ على وجهين :

أحدهما : ما يمكن اعتباره في الموضوع كالجار الصديق والعالم العادل ونحو ذلك.

وثانيهما : ما لا يمكن ذلك فيه ولا يعقل اعتباره فيه ، كما إذا كان ذلك الوصف منتزعا من مجرّد إرادة المولى المتعلّقة بما هو المراد وعدم إرادته لما ليس مرادا كالصحّة والفساد سواء كانت في العبادات أو في المعاملات ، فإنّهما وصفان اعتباريّان منتزعان من تعلّق إرادة المولى بما هو المقصود وعدمه في غيره ، فهما إنّما يعتبران في محلّهما بعد ملاحظة الأمر والجعل ، فلا يعقل اعتبارهما في متعلّق الأمر والجعل. وعلى الأوّل : فقد عرفت الكلام فيه بما لا مزيد عليه. وعلى الثاني : فالتمسّك بالعموم فيه كاد أن يكون ملحقا بالضروريّات ، فإذا شككنا في أنّ عتق الرقبة الكافرة هل هو صحيح أو لا؟ يجب الأخذ بالعموم أو الإطلاق ، ولا سبيل للقول بأنّا نعلم بأنّ غير الصحيح من العتق غير مراد للمولى والشكّ إنّما

ص: 146

هو في ذلك ، فمن حاول التمسّك بالعموم لا بدّ له أوّلا من إثبات الصحّة ثمّ بعد ذلك يتمسّك بالعموم ، فإنّ ذلك باطل جدّا ، لأنّ الصحّة ليست إلاّ ما ينتزع من المأمور به ، والعموم يفيد كونه مأمورا به فيكون صحيحا. ولا يعقل اعتبار الصحّة في المأمور به ، لما قد نبّهنا عليه في محلّه ، فلا يجب إحرازه قبل التمسّك على تقدير لزوم إحراز كلّ ما هو لازم للموضوع أيضا.

وعلى هذا جرى ديدن العلماء في التمسّك بالعمومات والإطلاقات في جميع أبواب العبادات والمعاملات من الأنكحة والبيوع وغيرها على وجه لا يحسن إنكاره من المكابر أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أفاده في الحدائق - على ما حكي - : من أنّ إمضاء الشارع إنّما يتعلّق بالعقد الصحيح الجامع للشرائط والأجزاء الواقعيّة المعتبرة عنده ، دون الفاسد والفاقد لبعضها ، فإذا شكّ في صحة العقد وفساده ، فلا بدّ أوّلا من إثبات صحّته بمعنى كونه تام الأجزاء والشرائط ثمّ الاستناد إلى العموم المزبور في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، بحيث إذا لم يحرز ذلك سقط اعتبار ذلك العموم هنا.

ومن هذا القبيل اعتراض بعض القائلين بوضع أسماء العبادات للصحيحة على من زعم أنّها موضوعة للأعمّ : بأنّه لا وجه للتمسّك بالإطلاق على تقديره أيضا ، للعلم بأنّ الشارع لا يريد منها إلاّ الصحيحة ، فلا بدّ من إحراز صحّتها (1).

أقول : ولعمري إنّ ذلك في غاية السقوط جدّا ، ومع ذلك أولى ممّا ذكره في الحدائق ، لاعترافه بسقوط الإطلاق على هذا الاعتبار الفاسد عن الاعتبار ، بخلافه حيث إنّه يظهر من قوله : « ثم الاستناد إلى العموم في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر » أنّه بعد متمسّك ومستدلّ بالإطلاق.

ص: 147


1- انظر الفصول : 49 ، وضوابط الأصول : 28.

وكيف كان لا وجه للتردّد في أمثال هذه المطالب الواضحة وإن صعب مأخذه بواسطة عدم التدرّب في كيفيّة المأخذ ، ولقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الصحيح والأعمّ فراجعه.

تنبيهات :

الأوّل :

أنّه يظهر من بعضهم التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد من غير جهة العموم ، كما إذا شكّ في صحّة الغسل أو الوضوء ، بمائع مضاف فيستكشف صحّته بعموم قوله : « أوفوا بالنذر » إذا وقع متعلّقا للنذر ، فيقال : إنّ هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به ، لعموم قوله : « أوفوا بالنذر » وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحا ، فيجب أن يكون الوضوء صحيحا ، أمّا الصغرى فبالعموم وأمّا الكبرى فللقطع بأنّ ما ليس صحيحا لا يجب الوفاء به.

وقد شاع التمسّك بمثل ذلك في كلمات بعضهم (1) ، كما لا يخفى على المتتبّع. وهو فاسد جدّا.

أمّا إجمالا : فلأنّ النذر وأمثاله من العناوين الثانوية التي لا ترد إلاّ على محل يعلم قبوله له ، ولا يمكن استكشاف ذلك.

وأمّا تفصيلا : فلأنّ الأحكام الواردة في الشريعة على ضربين :

أحدهما : ما لا تؤخذ ضدّه في موضوع ذلك الحكم كإباحة السكّر وحرمة الخمر ووجوب الصلاة ونحوها ، فإنّه لا يعقل القول بأنّه يباح السكّر

ص: 148


1- لم نعثر عليه بعد الفحص التام.

الذي ليس بحرام ، فإنّه في مقام إنشاء الإباحة التي في عرض الحرمة. نعم ، يمكن تقييد موضوعه بأمر ذلك ليوجب (1) الحرمة كأكل المسكر المضرّ مثلا.

وثانيهما : ما يؤخذ في موضوعه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّلية ، كوجوب إطاعة الوالدين في الامور المباحة أو الغير المحرّمة ، وكإمضاء وصايا الميّت في الامور الغير المحرّمة ، وكإجابة الأخ المؤمن في الامور المباحة.

وقد اصطلحنا على تسمية الأوّل بالعناوين الأوّليّة والثاني بالعناوين الثانوية ، فموضوع هذه الأحكام إنّما اخذ فيه الجواز وليس الجواز ما يتفرّع على وجوب النذر حتّى يمكن استكشافه بالعموم ، بل يجب أوّلا إحراز الجواز مع قطع النظر عن لحوق هذه الأحكام للموضوع ، ثمّ بعد ذلك التمسّك بالعموم في وجوب ترتيب الآثار. ولو صحّ التمسّك بالعموم في مثل المقام لم يبق لنا مشكوك من الامور إلاّ ويمكن استكشافه من العموم ، كما إذا شكّ في جواز شرب مائع فيتمسّك بأدلّة استحباب قضاء الحاجة ويشرب فيما لو أراده مؤمن. وهو باطل جدّا ، فتأمّل كيلا يختلط عليك الأمر في الموارد المتقدّمة ، فإنّها بعد تباعدها متقاربة جدّا.

الثاني :

إذا علمنا أنّ زيدا مثلا ممّن لا يجب إكرامه وشككنا في أنّه عالم وخصّص في هذا المورد أو ليس عالما فلا تخصيص ، وأصالة عدم التخصيص تقول : إنّه

ص: 149


1- في ظاهر ( ع ) : « لموجب » والعبارة على كلا التقديرين مشكلة.

ليس بعالم. بل ولو تردّد زيد بين شخصين : أحدهما عالم ، والآخر جاهل ، وسمعنا قول القائل : « لا تكرم زيدا » نحكم بأنّه زيد الجاهل ، لأصالة عدم التخصيص ، فنقول : إنّ كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ من لم يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب.

وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهيّة ، كاستدلالهم على طهارة ماء الغسالة على أنّها لا ينجّس المحلّ ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا : كلّ نجس ينجّس.

الثالث :

الحكم المتعلّق بالعامّ إذا علّل بعلّة فإن علمنا بعدم المطابقة عموما وخصوصا فالحكم يدور مدار العلّة في التعميم والتخصيص ، كما إذا قيل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » فيخصّ بالحامض منه ويعمّ غير الرمّان أيضا ولا مجال لتوهّم كشف الحموضة من العموم في المقام. وأمّا إذا لم يعلم بالمطابقة فبأصالة عدم التخصيص يحكم بالمطابقة ، فكلّ رمّان يحكم بحموضته ، وذلك ظاهر في الجملة.

ولا بدّ من التأمّل في الموارد كيلا يشتبه الأمر فيها ، فإنّ تشخيصها موكول إلى نظر آخر. واللّه الهادي.

ص: 150

هداية

اشارة

إجمال المخصّص يسري إلى العامّ فيوجب إجماله عند أكثر المحقّقين ، بل نفى الخلاف فيه جماعة (1) وادّعى بعضهم الإجماع صريحا (2).

وينبغي أن يكون مرادهم من سراية الإجمال أنّه لا يؤخذ بعمومه كما يؤخذ به فيما إذا لم يكن مجملا ، وليس مرادهم سقوطه عن الاعتبار بالمرّة فلا يستفاد منه شيء بوجه من الوجوه ، ولعلّه يشعر بذلك تصريح جماعة بسقوطه من جهة إجماله (3) ، فلو كان مبيّنا من جهة اخرى يلزم الأخذ ، لوجود المقتضي وانتفاء المانع.

ولا فرق في جهة البيان بين أن يكون المبيّن أمرا معلوما من جميع الجهات كما إذا قيل : « اقتلوا الكفّار إلاّ بعض اليهود » فإنّ غير اليهود ممّا يجب الأخذ فيه بعموم العامّ فيهم من دون حاجة إلى أمر آخر - كما في جميع العمومات والمطلقات - وبين أن يكون المبيّن أمرا مجملا كأن يعلم بالتكليف مجملا في مورد العامّ ، كما إذا قيل : « يجب الاجتناب من هذه الآنية إلاّ بعضها » فإنّه صريح في ثبوت التكليف إجمالا فيها وإن لم يعلم المكلّف به شخصا ،

ص: 151


1- مثل المحقّق القمّي في القوانين 1 : 265 ، وصاحب الفصول في الفصول : 199 ، والكلباسي في الإشارات ، الورقة : 54 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 211.
2- ادّعاه الكلباسي في الإشارات.
3- صرّح به المحقّق القمّي في القوانين ، ومثله صاحب الفصول والضوابط.

فلا بدّ من الأخذ بالمعلوم ، فإن اقتضى العلم الإجمالي ثبوت التكليف في الجميع - كما هو التحقيق في مورد الشبهة المحصورة - فهو وإلاّ فلا بدّ من العمل بما يقتضيه الاصول في ذلك المورد.

وبالجملة ، فالمراد من نفي الحجّيّة في العامّ المخصّص بالمجمل عدم الأخذ به في القدر الذي لا يمكن الاستكشاف. وأمّا ما يمكن استكشافه تفصيلا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ بعض النحويّين » إذا كان البعض معيّنا عنده كوجوب (1) إكرام غير النحويّين ، فلا إشكال عندهم في اعتباره. أو إجمالا كوجوب إكرام بعض النحويّين في المثال المذكور ، ثم الأخذ بما يقتضيه القواعد المقرّرة في أمثال المقام : من لزوم الاحتياط في بعض الموارد والتخيير في آخر ، أو الرجوع إلى البراءة كما هو غير خفيّ على أحد.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي أو مجاز ، فإنّ التكليف التفصيلي ممّا لا يمكن استفادته منه ، والإجمالي ما (2) لا مانع من استفادته ، لما قرّرنا : من أنّ المجاز في العامّ المخصّص ليس على حدّ سائر المجازات التي على تقدير تعذّر الحقيقة وتعدّدها يصير اللفظ مجملا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد يفصّل في المقام - كما في المناهج - من أنّ اختيار الجملة (3) فيما إذا كان العامّ المخصّص حقيقة ، وعدمها إذا كان مجازا (4) وبيّن الحجيّة على الأوّل بما حاصله يرجع إلى الأخذ بما يستفاد من العامّ على وجه الإجمال ، وعدمها على الثاني بعدم ظهوره في شيء من المراتب المجازية.

ص: 152


1- في ( ط ) : « وهو وجوب ».
2- كذا ، والظاهر : ممّا.
3- كذا ، والصحيح : من اختيار الحجّية.
4- المناهج : 107.

وجه الفساد أوّلا : أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال نفي الحكم الإجمالي المستفاد من الخطاب المجمل ، كيف وقد وضعوا لذلك بابا على حدة.

وثانيا : أنّه على تقدير المجازيّة أيضا يجب الأخذ بما هو المعلوم إجمالا ، لما عرفت من الفرق بين المجاز اللازم في المقام على تقدير (1) المجازية وبين غيره ، كما أشرنا إليه.

ثمّ إنّ في كلامه مواقع للنظر يطّلع عليها الخبير بموارد الكلام ، ومن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إليه ، ونحن لا نطيل الكلام بذكره ، فراجعه.

ثم اعلم أنّ الإجمال على قسمين :

أحدهما : أن يكون المراد مردّدا بين المتباينين ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » مع اشتراكه بين آحاد من العامّ.

الثاني : أن يكون مردّدا بين الأقل والأكثر وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الأقلّ داخلا في الأكثر ويكون دخوله في الباقي معلوما كقولك : « أكرم العلماء العدول » وشكّ في العدالة هل هي الملكة أو حسن الظاهر؟

فصاحب الملكة دخوله في المقام معلوم. أو يكون دخوله في المخصّص معلوما كقولك : « أكرم العلماء ولا تكرّم الفسّاق منهم » وشكّ في معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبائر فقط أو يعمّه ومرتكب الصغائر فمرتكب الكبائر دخوله في المخصّص قطعي والشكّ إنّما هو في الزائد.

الثاني : أن لا يكون الأقلّ داخلا تحت الأكثر ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ الزيدين » وتردّد الأمر بين أن يراد من المخصّص فردان من العلماء لتسمية كلّ منهما زيدا أو فردا واحدا مسمّى بزيدين.

ص: 153


1- في ( ع ) : « تقرير ».

وعلى التقادير : المخصّص إمّا أن يكون متّصلا كالشرط والغاية وبدل البعض والصفة والاستثناء - على تأمّل فيه كما ستعرف الوجه فيه - أو منفصلا ، والثاني ظاهر ، فهذه صور ستّة.

والحكم بالإجمال في صورة دوران الأمر بين المتباينين في محلّه سواء كان التخصيص بالمتّصل أو بالمنفصل. والوجه فيه ظاهر ، حيث إنّ اللفظ لا يكون حاملا للمكلّف إلاّ بعد العلم أو الظنّ المعتبر بما اريد منه ، والمفروض انتفاؤه ؛ وكذا في صورة دوران الأمر بين الأقلّ الذي لا يشمله الأكثر سواء كان المخصّص متّصلا أو منفصلا ، لعدم ما يوجب البيان ، لا من اللفظ ولا من غيره. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فغاية ما يمكن أن يقال هو : أنّ الأصل عدم خروج الأكثر ، وهو معارض بأنّ الأصل عدم خروج الأقلّ ، فإنّ الأقلّ حينئذ بمنزلة المتباينين.

لا يقال : إنّ خروج الواحد يقينيّ فلا يجري فيه الأصل ، فأصالة عدم خروج الأكثر سليمة عن المعارض.

لأنّا نقول : إنّ المعلوم خروجه هو الواحد مفهوما ، والعلم بخروجه غير مجد بعد ابتلاء الأصل الجاري في المصداق بالمعارض ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الحكم بخروج فردين ولو كانا متغايرين يشتمل على زيادة تخصيص في العامّ ، بخلاف الحكم بخروج فرد واحد ، فهو مخالف لأصل واحد ، والأوّل مخالف لأصلين.

قلت : لو سلّم ذلك يجدي فيما لو قلنا بأنّ توحيد الاصول يوجب الترجيح ، ونحن قد بيّنا في محلّه : أنّ ذلك ممّا لا يوجب له (1) في غير الأدلّة الاجتهادية. اللّهمّ إلاّ بالقول بأنّ الاصول اللفظيّة أيضا منها ، لابتنائها على الظنون النوعيّة.

ص: 154


1- كذا ، والظاهر : يوجبه.

وأمّا إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر مع شمول الأكثر للأقل ، ففيما إذا كان التخصيص بالمتّصل - كالشرط والغاية والصفة وبدل البعض - فالظاهر أنّ الإجمال أيضا في محلّه لسريان الإجمال في العامّ ، فيسقط عن الاعتبار بالنسبة إلى تلك الأفراد المشكوكة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول. وأمّا غيرها فالعامّ فيها مبيّن لا إجمال فيها ، لأنّ العدالة في قولك : « أكرم العلماء العدول » من القيود المعتبرة في الموضوع ، وإجمال المقيّد بعد إجمال القيد من الامور الواضحة ، فكان الموضوع في المقام هو نفس العدالة ، كما إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » مع اشتباهها بين الوجهين.

وأمّا إذا كان التخصيص بالمنفصل كقولك : « أكرم العلماء » ثمّ قولك : « لا تكرم فسّاق العلماء » فمن القريب جدّا عدم سراية إجمال المخصّص إلى العامّ فيؤخذ في المعلوم المتيقّن المخصّص وهو مرتكب الكبائر ، ويدفع الزائد بأصالة عدم التخصيص ، فيؤخذ فيه بالعموم ، فلا وجه للرجوع إلى الاصول العمليّة. وإن شئت تقول : إنّ خروج أهل الكبائر بواسطة القرينة معلوم وأمّا خروج غيرهم فغير معلوم ، والأصل عدم الخروج.

والفرق بينه وبين المتّصل : هو أنّ العامّ في المتّصل لم يتمّ دلالته وظهوره على الأفراد المندرجة فيه قبل الإتيان بالقيد ، فإنّ المتكلّم ما لم ينته كلامه فكلّ قيد يأتي به فهو مأخوذ في موضوعه أو محموله. بخلافه في المنفصل ، فإنّ التخصيص فيه لأجل التعارض كسائر المعارضات بعد تماميّة الدلالة في العام ، فكما إذا قامت قرينة على صرف الظاهر يجب التعويل عليه ، وإن لم نعلم بما هو القرينة فالأصل عدمه (1).

ص: 155


1- العبارة من قوله : « فكما إذا قامت ... الخ » مختلّة غير واضحة.

لا يقال : إنّ الشكّ في المقام إنّما هو في كون الشيء قرينة ، وهذا ممّا لا يجري فيه الأصل ، إذ لم يعلم أنّه لا يكون قرينة في زمان حتّى يستصحب.

لأنّا نقول : أصالة عدم وجود القرينة مطلقا تجدي في المقام بعد ما عرفت من أنّ العامّ ظاهر في جميع المراتب ، وعدم ظهوره في البعض محتاج إلى القرينة ، فأصالة عدم القرينة مجدية. وبالجملة ، لا يبعد الفرق المذكور ، كما لعلّه يساعد عليه العرف.

هذا كلّه في غير الاستثناء ، وأمّا في الاستثناء ففيه إشكال ، من حيث إنّه لم يظهر كونه من المخصّصات المتّصلة أو غيرها ، ولا يبعد دعوى الاتّصال فيه أيضا ، فيلحقه حكمه.

تذنيب :

إذا ورد مخصّصان متعارضان ، كما إذا علمنا بتخصيص العامّ بأحدهما يقينا وعدم تخصيصه بالآخر أيضا ، فإن أمكن الترجيح فهو ، وإلاّ فالحكم فيه ما عرفت في المخصّص المجمل ، فيجب الرجوع في محلّ الاشتباه إلى الاصول إن قلنا به ، وإلاّ فيتخيّر بينهما ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 156

هداية

اشارة

الحقّ كما عليه المحقّقون عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. وربّما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي (1) والآمدي (2) ، بل ادّعي عليه الإجماع كما عن النهاية (3). وحكي عن ظاهر التهذيب اختيار الجواز (4) ، وتبعه العميدي (5) والمدقّق الشيرواني (6) وجماعة من الأخباريّة ، منهم صاحب الوافية (7) وشارحها (8) ، ومال إليه بعض الأفاضل في المناهج (9). وحكى من بعضهم : أنّ مراد القائل بالجواز وجوب الاعتقاد بالعموم واقعا حتّى يظهر المخصّص فيحكم بكونه ناسخا (10).

ص: 157


1- المستصفى 2 : 157.
2- الإحكام 3 : 56.
3- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 195.
4- حكاه في المعالم : 118 ، والمناهج : 110 ، وانظر التهذيب : 138 ، وفيه : ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب المخصص.
5- انظر منية اللبيب : 168 و 209.
6- حكاه النراقي والسيّد المجاهد في المناهج : 110 ، والمفاتيح : 187 عن حاشيته على المعالم. وانظر حاشيته المطبوعة في هامش المعالم :6. 125.
7- انظر الوافية : 130.
8- انظر شرح الوافية ( مخطوط ) : 122.
9- المناهج : 110.
10- حكاه في المناهج (110) عن مذهب أبي حنيفة والكرخي.

اللّهم إلاّ أن يكون مرادا لبعض من (1) لم نقف على كلامه. ونقل التفصيل بين ضيق الوقت فالجواز وبين عدمه (2)(3) فالمنع عن بعض (4). وقيل : إنّه مبنيّ على (5) جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب (6) ، وهو على تقدير صحّته ممّا ينادي كلام المجوّز بخلافه.

وكيف كان ، فمن اللازم تقديم مقدّمة يعلم فيها أمران :

الأوّل : أنّه صرّح شيخنا البهائي وغيره على أنّ النزاع في هذه المسألة من جزئيّات النزاع في جواز العمل بالأدلّة الشرعيّة قبل الفحص عن المعارض ولو كان الدليلان متباينين ، وأمّا الوجه في إفرادهم هذا نظرا إلى أنّ وجود المعارض هنا أقوى (7).

وقد يتوهّم أنّ مرجع النزاع إلى جواز العمل بأصالة الحقيقة قبل الفحص عن القرينة انظر الفصول : 200.. وليس كذلك لأنّ الاصول المعمولة في الألفاظ من تشخيص أوضاعها ومراداتها لم يعهد من أحد الخلاف فيه ، ولم يظهر من العرف توقّف في العمل بها قبل الفحص ، بل وذلك ديدنهم على وجه لا يقبل الإنكار.

ص: 158


1- في ( ع ) : « ممّن ».
2- في ( ع ) : « غيره ».
3- لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال الكلباسي في الإشارات : إن الفحص في المضيّق قبل الحكم ، ونقل مثله السيّد المجاهد في المفاتيح عن جدّه.
4- انظر المناهج : 110.
5- في ( ع ) زيادة : « عدم ».
6- انظر المناهج : 110.
7- الزبدة : 97 - 98.

وقد يظهر من بعضهم (1) : أنّ الخلاف إنّما في حجّيّة العامّ قبل الفحص ، فقال في مقام استنهاض الحجّة على ما اختاره من العدم بعد دعوى العلم الإجمالي أنّه : لا دليل على حجّيّة تلك العمومات مطلقا حتى عند عدم البحث.

وكلامه ظاهر في نفي الدليل على اعتبار أصالة الحقيقة عند العلم الإجمالي. ثم ساق الكلام - إلى أن قال - وهذا الدليل بعينه يجري في سائر الأدلّة الظنّيّة ، سواء كانت ظنّيّتها من حيث السند كخبر الواحد ، أو من حيث المتن كالأمر والنهي والمطلق وغيرها من الظواهر اللفظيّة.

أقول : ولعلّه إلى مثل ذلك ينظر المتمسّك بإطلاق أدلّة الحجّية كما عن بعض المجوّزين (2) وإلاّ فلا وجه لكلّ منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا النزاع بعد الفراغ عن الحجّية ، فإنّ ترك الأخذ بالدليل بواسطة احتمال ما زاحمه من سنخه لا ينافي الحجّيّة بل تؤكّدها.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا كلام في حجّية تلك الأدلّة على وجه الإطلاق حتّى يحتاج إثباته إلى التمسّك بالإطلاق ، وإنّما الكلام في وجود المانع عن العمل بهذه الأدلّة الثابتة حجّيّتها سندا كما في المتباينين ، ودلالة كما في العموم والخصوص ، فالمجوّز إنّما يحكم بالجواز لعدم ما يصلح للمنع عنده بعد إحراز المقتضي ، بخلاف المانع فإنّه يعتقد وجود مانع من ذلك.

فإن قلت : إنّ تجويز النزاع في العامّ والخاصّ هدم لما قرّرت : من أنّ الاصول المعمولة في الألفاظ لم يعهد منهم الخلاف فيه.

قلت : أوّلا : إنّ ذلك مع قطع النظر عمّا يوجب المنع كما هو مقصود المانع. وثانيا : سلّمنا الاتّفاق على وجه الإطلاق ، لكن نقول : إنّ المخصّصات المنفصلة

ص: 159


1- وهو صاحب الفصول في الفصول : 200.
2- لم نعثر عليه.

عن العامّ بمنزلة المعارضات ، فليست من قبيل قرائن المجاز ؛ وذلك لأنّ القرائن المتعارفة إذا اطّلع عليها المخاطب فلا يتأمّل في الحكم بإرادة المتكلّم خلاف ظاهر اللفظ ، بخلاف المقام فإنّ الحكم بقرينيّة الخاصّ للعامّ في المنفصل بهذه المثابة ، سيّما في الأخبار التي بأيدينا اليوم ، فإنّه قد يكون العامّ واردا عن معصوم والخاصّ عن معصوم آخر ، والحكم بكونه قرينة يتوقّف على كون المتكلّم بهما بمنزلة متكلّم واحد.

وبالجملة ، فالفرق ظاهر بين المخصّص المتّصل وبين المنفصل ، فدعوى الاتّفاق على العمل بالاصول المعمولة في الألفاظ إنّما تتمّ - على تقدير صحّتها على وجه الإطلاق - فيما إذا كان الشكّ في المخصّص المتّصل دون المنفصل ، لكونه - مع كونه من القرائن - معدودا في المعارضات عند العرف ، فتدبّر في المقام.

الثاني : قد يتوهّم أنّ الوجه في وجوب الفحص في المقام هو الوجه فيه عند إعمال الاصول العمليّة كالبراءة في الأحكام الشرعيّة.

ولعلّ المقامين متغايران ، حيث إنّ العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة في الحكم الشرعي عدم جريان دليل البراءة عند عدم الفحص. أمّا العقل : فلانحصار المعذوريّة فيما إذا كان الجاهل متفحّصا عن الحكم ، ضرورة عدم معذوريّة غير المتفحّص مطلقا عند العقل ، ولذلك يحكم العقل بوجوب النظر في المعجزة. وأمّا النقل : فبعد مخالفته لما هو المستفاد من العقل وتسليم الإطلاق - كما في بعض الروايات (1) - فالإجماع واقع على وجوب تقييده بالفحص ، إذ لم

ص: 160


1- مثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ... والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، انظر الوسائل 2 : 1. الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

نجد من يظهر منه الخلاف في وجوب الفحص في العمل بالبراءة فيترك التعويل على البراءة عند عدم الفحص لعدم المقتضي ، بخلاف المقام فإنّ المقتضي في المقام ممّا لا ينبغي الكلام فيه ، لظهور اعتبار العامّ سندا ودلالة ما لم يمنع منه مانع.

لا يقال : إنّ من جملة الأدلّة على وجوب الفحص عن الدليل عند العمل بالبراءة هو العلم الإجمالي في موارد الأصل ، لوجود العلم الإجمالي فيها بالتكليف ، وهذا الوجه بعينه موجود في المقام ، وقضيّة ذلك وجوب الفحص عن الحكم الواقعي وتحصيل التكاليف الواقعية عند الشكّ في المعارض ، فالمقامان من واد واحد.

لأنّا نقول : إن اريد من ذلك أنّ العامل بالعامّ قبل الفحص بمنزلة العامل بالبراءة قبله - كما يظهر ذلك من بعضهم - فهو غير سديد ، لظهور الفرق بينهما ، حيث إنّ العامل بالعامّ إنّما عوّل على دليل اجتهاديّ به يخرج الواقعة عن أطراف العلم الإجمالي المقتضي للتكليف المانع عن العمل بالبراءة. وإن اريد أنّ في المقام أيضا علما إجماليا بوجود المعارض فهو متين ، لكنّه لا يكون وجها لاتّحاد المقامين كما لا يخفى. وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّه يظهر من مطاوي كلماتهم وجوه من الدليل على المختار :

[ وجوه القول بعدم جواز الاخذ بالعامّ قبل الفحص : ]

الأوّل : ما قاله بعض الأعلام في الإشارات بعد ما نقله عن الوافية ، ومحصّله : أنّ إطاعة اللّه وإطاعة خلفائه واجبة وهي لا تتحقّق إلاّ بعد العلم بالمراد أو الظنّ ، وهو لا يحصل إلاّ بالفحص. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فللشكّ في صدق الإطاعة عند عدم العلم أو الظنّ بالمراد ، وأمّا الثالث فهو ظاهر أيضا (1).

ص: 161


1- الإشارات : 158.

واعترض عليه في الوافية : بمنع عدم حصول الظنّ في كلّ فرد ، قال : ولا ينافيه ظنّ أصل التخصيص ، لقلّة المخرج غالبا (1).

وظاهره : أنّ الظنّ بتخصيص العامّ لا يوجب عدم الظنّ في جميع الأفراد ؛ لأنّ الغالب في التخصيصات عدم خروج غالب الأفراد ، فإذا شكّ في فرد أنّه هل خصّص أو لا ، فبغلبة عدم تخصيص أغلب الأفراد في العمومات يحصل الظنّ بأنّ هذا العامّ ممّا لم يخصّص أغلب أفراده ، بل لو كان مخصّصا فالخارج هو غير الغالب ، ومنه يحصل الظنّ بعدم تخصيص هذا الفرد ، والظنّ بدخوله في العامّ يستلزم الظنّ بالإطاعة الواجبة.

ومنه يظهر فساد ما أورد عليه في الإشارات : من أنّه إذا قيل : « اقتلوا المشركين » إمّا أن يأتي بأقلّ الأفراد أو أكثرها أو الكلّ ، والأوّل لا يوجب الظنّ بالامتثال وهو ظاهر ، وكذا الأخير ، إذ المفروض العلم بوجود المخصّص في الجملة ، وأمّا الثاني فلبعد المطابقة.

وجه الفساد : أنّا نختار الثاني ، والظنّ بعدم الخروج في الفرد الملحق بالغالب يوجب الظنّ بالامتثال عقلا.

نعم ، يرد على الاستدلال : أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بعد فرض العلم الإجمالي بوجود المعارض للعمومات ، وإلاّ فمع عدمه لا وجه لطرح أصالة عدم التخصيص ولو مع الظنّ بالتخصيص ، اللّهم إلاّ على القول باعتبار الظنّ الشخصي في تشخيص مراد اللافظ ، فإنّه لا وجه للتعويل على الأصل ما لم يفد الظنّ بعدم التخصيص.

والظاهر أنّ المستدلّ ممّن لا يرى ذلك ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل في المقام ، وبذلك يحصل الإطاعة الواجبة إذ المدار في تشخيص الإطاعة هو

ص: 162


1- الوافية : 130.

الرجوع إلى العقلاء والعرف ، وبعد ما فرضنا من اعتبار أصالة العموم ولو عند عدم الظنّ عند العقلاء يصدق الإطاعة قطعا ، فلا موجب للفحص.

الثاني : أنّه لا إشكال في أنّ الخاصّ أقوى من العامّ والعمل بأقوى الدليلين واجب إجماعا ونصّا (1) ، فيجب تحصيله ؛ لكونه من الواجبات المطلقة ، وهو المراد بالفحص.

وفيه : أنّه لا يجدي مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، لوجود الأقوى سندا كان أو دلالة ؛ لأنّ أصالة عدم المعارض لا مانع من جريانها في هذا المقام ، كما يظهر بملاحظة حال الموالي والعبيد في أمثال أوامرهم ونواهيهم.

الثالث : أنّه لا سبيل إلى تشخيص تخصيص (2) المراد من العامّ إلاّ بأصالة عدم التخصيص ، وهي موهونة في المقام لامور :

أحدها : ما أفاده في الزبدة ، من ابتناء تلك الاصول على الظنون الشخصيّة (3) ، كما هو ديدنه في مطلق الاستصحاب أيضا (4) ، على ما نبّهنا عليه في محلّه (5). وذلك على تقدير القول به لا وجه له ؛ لعدم حصول الظنّ الشخصي من الأصل المذكور على تقدير انتفاء العلم الإجمالي بوجود المخصّص ، فإنّ دعوى

ص: 163


1- لعله قصد بذلك الروايات العلاجية ، انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.
2- كذا في ( ع ) ، ولم يرد « تشخيص » في ( ط ) ، والظاهر أنّ كلمة « التخصيص » فيهما زائدة.
3- الزبدة : 97.
4- الزبدة : 73.
5- انظر فرائد الاصول 3 : 21 - 22.

حصول الظنّ فعلا من الأصل في غير ما نحن فيه دونه بعد تساويهما من حيث وجود المقتضى وعدم المانع فيهما معا مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ مضافا إلى أنّ المعنى أيضا فاسد ، لإطباق أهل اللسان على العمل بتلك الاصول ولو لم يحصل منها الظنّ.

إلاّ أنّ فيه إشكالا لو لم يكن تلك الاصول حجّة شرعيّة تعبّديّة - كما احتمله بعضهم (1) - وإن كان ضعيفا جدّا كما لا يخفى.

وجه الإشكال : أنّه لا يعقل اعتماد العقلاء على الشكّ إذا لم يكونوا متعبّدين ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، بل لا يعقل الاعتماد على الظنّ من حيث هو ظنّ ما لم يفرض ما ينسدّ معه احتمال الخلاف ، كما لا يخفى على المتدبّر.

وثانيها : ما قد يستفاد من مطاوي كلمات بعضهم - كالمحقّق القمّي وغيره (2) - : من أنّه لا دليل على اعتبار تلك الاصول بالنسبة إلى غير المشافه أو من قصد تفهيمه باللفظ.

وتوضيحه : أنّ من أراد استكشاف مراد المتكلّم إمّا أن يكون مشافها ومخاطبا فعلا ، لا إشكال في استقرار السيرة وجريان العادة على التعويل على الاصول المعمولة في الألفاظ في هذا القسم كاستقرارها وجريانها فيما إذا كان مرادا بالاستفادة ومقصودا للمتكلّم وإن لم يكن مخاطبا فعليّا ومشافها ، كما هو الحال في الكتب المؤلّفة وما يرسم في سجّل الأوقاف والوصايا والأقارير ونحوها. والسرّ في ذلك بعد عدم احتمال السهو ونحوه في كلام الحكيم المطلق ، وندوره على وجه لا يعتنى به في كلام غيره ، وأنّ المتكلّم حيث علمنا بكونه في

ص: 164


1- لم نعثر عليه.
2- انظر القوانين 1 : 398 - 403 ، والمعالم : 193 - 194.

مقام الإفادة وعلمنا بكونه عالما بطرق التأدية واختلافها في مفادها ، فمتى حاول إفادة مطلب يجب عليه التعويل على ما هو المعهود في إفادة ذلك المطلب في عرفهم ، وإلاّ لم يكن في صدد الإفادة ، أو كان ولم يكن عالما بطريقها ، أو كان وكان مقصّرا في التأدية ناقضا لغرضه المنزّه عن جميع ذلك العقلاء ، فضلا عن ربّهم جلّ وعلا.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اعتبار تلك الاصول وأنّها ليست من جهة الاستصحاب ، ولذلك لم ينكره من أنكره على وجه الإطلاق. وأنّه يندفع الإشكال الذي أشرنا إليه آنفا ، فإنّ الشكّ في وجود القرينة يرتفع بعد فرض المقدّمات المفروضة ، فتدبّر في المقام.

وإمّا أن لا يكون مشافها (1) ولا مرادا بالإفادة والاستفادة كما في الكتاب العزيز - بناء على ما زعمه بعضهم : من أنّه ليس من قبيل تأليف المؤلّفين - وكما في الكلام المسموع من وراء الجدار لمن هو غير مخاطب به وغير مراد بالإفادة ، ففي هذا القسم لا دليل على اعتبار الاصول المعمولة في الألفاظ في تشخيص مراداتها ، إذ لو فرضنا إهمال بعض ما يوجب خفاء المراد من اللفظ بالنسبة إلى ذلك الغير لم يلزم على المتكلّم قبيح.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول بأنّ حالنا في زماننا هذا حال من يريد استفادة المطالب من الكلام الذي لا يكون مخاطبا ولا مرادا باستفادته منه ، كما ستعرف. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلعدم ما يقضي بذلك ، وقد عرفت عدم اعتبار الأصل حينئذ ، فلا بدّ من تحصيل القطع بعدم المخصّص أو ما قام الإجماع على قيامه مقامه ، وهو الظنّ الحاصل بعد الفحص.

ص: 165


1- عطف على قوله : إمّا أن يكون مشافها.

وفيه أوّلا : أنّ دعوى الإجماع على اعتبار الظنّ بعدم المخصّص على تقدير عدم اعتبار الأصل اللفظي مجازفة صرفة. نعم ، لا كلام في العمل بالأصل بعد الفحص ، لكنّه ليس بناء العامل به على عدم اعتباره كما هو المفروض في الدليل ، بل المقصود - على ما يظهر منهم - جعل الأصل بعد الفحص مثل الأصل قبل الفحص في كلام قصد إفهامه للغير مخاطبا أو غيره. وبعبارة اخرى ظاهرة : أنّ اعتبار الأصل على ما ذكره مبنيّ على أصالة حجّيّة الظنّ المطلق ، إذ بدونه لا وجه للعمل بالأصل بعد الفحص أيضا ما لم يحصل منه القطع.

وثانيا : أنّ مدار العرف على الأخذ بالاصول المذكورة ولو في مقام لم يقصد إفهام العامل بتلك الاصول. ولعلّ الوجه في ذلك : أنّ الأغلب في المحاورات عدم التفرقة بين القسمين ، وأنّ من المشاهد عدم اختلاف حال المتكلّم في التعبير عن مراده عند إرادة إفهام غير المخاطب أيضا وعدمها ، فإنّه يبالغ في ما يفيد مقصوده من غير ملاحظة الفرق في المقامات. وما ذكره وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الواقع على خلافه على وجه لا يعمل بذلك الاحتمال عندهم ، مثل احتمال السهو والنسيان والخطاء ونحوه. ويشهد بذلك ملاحظة حال السلف ، فإنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا إذا سمعوا خبرا من ثقة أو استند أحد المتخاصمين إلى ظاهر رواية اعتمدوا عليه وسكتوا وأخذوا بظاهر ما يقتضيه ظاهرها مثل المشافهين ، بل وملاحظة العرف أيضا يشهد بذلك ، فإنّه لا يتوقّف أحد في الشهادة فيما لو سمع من وراء الجدار إقرار زيد لعمرو بشيء. وقد أبطلنا التفصيل المذكور في محلّه بما لا مزيد عليه.

وثالثها : أنّ الأخذ بأصالة عدم التخصيص إنّما يجب إذا كان ذكر العامّ وإرادة الخاصّ قبيحا. وهو ممنوع ، لاحتمال وجود مصلحة داعية على إيراد العامّ غير مقترن بما هو قرينة على المراد من العامّ ، فلا قبح في إغراء المخاطب

ص: 166

بالجهل. ومن هنا يظهر : أنّ إخفاء الحكم الواقعي ليس خلافا للطف الواجب على الحكيم ، كيف! وهو واقع جزما ، ضرورة أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بيّنها الشارع الأقدس على وجه التدريج ، وكلّ من لاحظ الأحكام يعلم أنّ في بدء البعثة وابتداء التكليف لم يكن النبيّ صلى اللّه عليه وآله يبيّن جميع الأحكام الواقعيّة في الصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات ، فيكون التكليف بالعمومات أحكاما ظاهريّة لمن لم يطّلع على المخصّص وأحكاما واقعيّة لمن اطّلع عليه ؛ ولذلك ترى أنّ العامّ إنّما ورد من النبيّ صلى اللّه عليه وآله والخاصّ من العسكري عليه السلام أو الهادي عليه السلام.

لا يقال : لعلّ العامّ الصادر كان مقترنا بقرينة يكشف عنها الخاصّ الصادر بعده.

لأنّا نقول : ذلك ممّا يقطع بفساده في جميع العمومات ، كما هو ظاهر على المتأمّل المنصف ، فلا وجه للأخذ بأصالة عدم التخصيص ، فإذا علمنا بالعامّ يجب في مورده الفحص عن المخصّص حتى يظهر التكليف الواقعيّ.

فإن قلت : هب أنّ العامّ يحتمل أن يكون حكما ظاهريّا لهم ، إلاّ أنّ قاعدة الاشتراك في التكليف تفيد لنا وجوب الأخذ بالعامّ ولو كان تكليفا ظاهريّا.

قلت : لم يثبت الاشتراك إلاّ في الأحكام الواقعيّة ، فلا دليل على الاشتراك مطلقا حتّى في الأحكام الظاهريّة.

وبالجملة ، فمن الجائز. بل من الواقع : أن يريد الشارع تعبّدهم بالحكم الظاهريّ لمصلحة تدعو إليه ، وحينئذ لا وجه للأخذ بالأصل ، بل ولو مع العلم بعدم المخصّص هناك أيضا ما لم يثبت كون العام مفيدا للحكم الواقعي ، وهو موقوف بعد التعويل على الأصل اللفظيّ على أصل عمليّ ، وهو أصالة عدم جعل حكم آخر وعدم ورود خطاب غيره حتّى يكون العامّ مفيدا للحكم الواقعيّ. ولا شكّ في أنّ الاتّكال على الاصول العمليّة موقوف على الفحص إجماعا وقولا واحدا ؛ ولذلك لم يذهب وهم إلى الجواز هناك كما أشرنا إليه سابقا.

ص: 167

وفيه أوّلا : أنّ ذلك من قبيل الشبهة في مقابل الضرورة ، ضرورة استقرار السيرة على الأخذ بتلك الاصول. واحتمال كون المصلحة في الإخفاء ممّا لا وجه للاعتناء به ، إذ لا فرق في ذلك بين كلام الشارع وكلام غيره من العقلاء وأهل العرف ، فإنّ الإنصاف أعدل شاهد على أنّ المتداول عند أهل اللسان الأخذ بالعموم والبناء على أنّه الحكم الواقعي ما لم يظهر المخصّص. نعم بعد ظهور المخصّص يعلم أنّه كان حكما ظاهريّا ، لا أنّه قبل ظهوره يحكم بكونه من الأحكام الظاهريّة ، لعدم الاعتبار بذلك الاحتمال.

وثانيا : أنّ الفحص ممّا لا يثمر في المقام أيضا إلاّ بناء على أصالة حجّية الظنّ المطلق ، إلاّ أنّه موهون عند المحقّقين ، سيّما في الظنون اللفظيّة ، على ما نبّهنا عليه في محلّه بما لا مزيد عليه.

ورابعها - وهو العمدة - : أنّ العلم الإجمالي بورود معارضات كثيرة بين الأمارات الشرعيّة التي بأيدينا اليوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة واستشعر اختلاف الأخبار ، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان بذلك ، ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي - كما قرّرنا في محلّه - فيسقط العمومات عن الحجّيّة ، للعلم بتخصيصها إجمالا عند عدم الفحص. وأمّا بعد الفحص فيستكشف الواقع ويعلم أطراف الشبهة تفصيلا بواسطة الفحص ، فلا يرد ما أوردناه على السابقين.

وتوضيحه : أنّ احتمال تخصيص العامّ تارة يكون بدئيّا غير مسبوق بالعلم الإجمالي ، واخرى يكون من حيث إنّه أحد أطراف المعلوم بالإجمال ، وقد يجتمع في عامّ واحد كلاهما ، كأن يكون محتمل التخصيص بدءا ومحتمله بواسطة سبق العلم الإجمالي. وارتفاع الاحتمال من جهة لا يلازم ارتفاعه من جهة اخرى ، كما أنّ إبقاءه من جهة لا يلازم إبقاء الاخرى ، كما هو ظاهر.

ص: 168

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ العمومات التي بأيدينا اليوم في الأخبار يحتمل تخصيصها من جهتين :

إحداهما : من حيث علمنا الإجمالي بوجود مخصّصات لها في الأخبار التي يمكن الوصول إليها في زماننا ، وغيرها من الأمارات الظنّية على تقدير القول بها.

وثانيتهما : من حيث احتمال ورود التخصيص عليه في الواقع مع عدم وصوله إلينا أيضا. والاحتمال الثاني بدئيّ يعمل في دفعه أصالة عدم التخصيص من دون معارض ، والاحتمال الأوّل بعد الفحص يستكشف واقعه ويعلم أنّه من العمومات التي خصّصت أو من غيرها ، إذ المفروض دعوى العلم الإجمالي فيما هو بأيدينا وما يمكن لنا الوصول إليها من المخصّصات. فالفحص من حيث تشخيص الواقع ، لا من حيث إجراء أصالة عدم التخصيص ، لأنّ الجهة البدئيّة غير محتاجة إلى الفحص ، والجهة المسبوقة بالعلم الإجمالي تصير معلوم التخصيص تارة ومعلوم العدم اخرى ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو من شعب العلم الإجمالي بمطلق التكاليف الشرعيّة التي تمنع عن الرجوع إلى الاصول في مواردها ، واحتمال ثبوت التكليف في موارد العامّ وأفراده إنّما هو بواسطة ذلك العلم الإجمالي ، وحكم ذلك العلم الإجمالي باق بعد الفحص ما لم يقطع بعدم المخصّص ، وقيام الظنّ مقامه يوجب التعويل على الظنّ المطلق ، كما عرفت فيما تقدّم.

قلت : إنّ العلم الإجمالي بثبوت مطلق التكاليف الذي أوجب الفحص عن مطلق الدليل يكفي في رفع حكمة الأخذ بظاهر العموم المعوّل عليه في الاصول ، وما هو المدّعى في المقام يغاير ذلك العلم الإجمالي ، ولا مدخل لأحدهما بالآخر وجودا وعدما ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 169

وخامسها : ما أشار إليه في المعالم بقوله : وقد شاع التخصيص حتى قيل : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » فصار احتمال ثبوته مساويا لاحتمال عدمه وتوقّف ترجيح أحد الأمرين على الفحص والتفتيش (1). ولعلّه يشير إلى ما صرّح به في الزبدة : من توقّف إعمال الأصل على الظنّ الشخصي (2) ، ولا يقول بكونه من المجاز المشهور حتّى يقال بأنّ الفحص لا يوجب الإجمال حينئذ ؛ مضافا إلى عدم نهوضه في العامّ المعلوم تخصيصه ، إذ لا غلبة.

وكيف كان ، فلا وجه له مع انتفاء العلم الإجمالي ، إذ لو قلنا بحجّيّة الأصل ولو مع عدم الظنّ فالأمر ظاهر. وأمّا لو قلنا بدورانها مدار الظنّ فلا مانع من حصوله بعد عدم العلم الإجمالي ، فدعوى الحصول في مثله دونه مكابرة.

الرابع من الأدلّة : دعوى الإجماع على الفحص والالتزام به. ويكشف عن تحقّقه أمران : أحدهما ما عرفت من نقله في لسان جماعة منهم العلاّمة (3).

وثانيهما ملاحظة حال الفقهاء خلفا عن سلف ، فإنّه قد استقرّ رأي أرباب الفتوى والاجتهاد على البحث والتفتيش في طلب الأدلّة عموما وخصوصا ، ومعارضاتها موافقا ومخالفا ، مجتهدا وأخباريّا ، والمنكر إنّما يناقض عمله قوله ، ولا يجوز عنده البدار بالفتوى بمجرّد عموم رواية أو آية دلّ على مطلوب ، كيف! ولو لم يكن كذلك لكان الواجب عليه الاقتصار في كلّ باب على عموم وارد فيه ، فيأخذ بإطلاق قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (4)

ص: 170


1- المعالم : 119.
2- الزبدة : 97.
3- تقدّم عنهم في الصفحة : 157.
4- الفرقان : 48.

ويفتي (1) بما يقتضيه ، فهل المجوّز [ إنّما ](2) يتفصّى في تحصيل الأحكام الشرعيّة بتحصيل المخصّصات والفحص عنها وترك التعويل على العموم (3) ، كلاّ! بل الإنصاف أنّ عدم اجترائه في الأخذ بالعمومات ابتداء وإتعاب نفسه في تحصيل المدارك بعد الأخذ بالعموم إنّما هو من أقوى الشواهد على أنّه لا يجوّز ذلك بحسب ما فطره اللّه عليه ، وإن كانت تلك الفطرة الإلهيّة قد اكتساها غواشي الأوهام في الظاهر ويعمل على غير شاكلتها في مقام الجدل ، وإن كان المجوّز مجترئا بالفتوى بمجرّد اطّلاعه على رواية من دون فحص ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج وتغيّر في دين اللّه وتبديل لشريعة الرسول مع أنّه بالغ في حفظه ، فيا سبحان اللّه! كيف يمكن أن يقال : إنّ الفقيه إذا اطّلع على الفقيه يكتفي به عن الكافي ، وكيف يستغني في تهذيب المطلوب عن التهذيب؟ اللّهم إلاّ أن يكون من دون استبصار ، فالمرجوّ من كرمه تعالى أن يحفظنا عن الخطاء.

الخامس : الأخبار الدالّة على أنّ في الكتاب والسنّة عامّا وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ، كما ورد في نهج البلاغة (4) وغيره (5).

والإنصاف عدم ظهور دلالة تلك الأخبار على المدّعى وهو الفحص. نعم يدلّ على وجوب الأخذ بعد الاطّلاع ، وهو من الامور الضروريّة التي لا تحتاج إلى تجشّم استدلال في المقام.

ص: 171


1- في ( ع ) : « يقل ».
2- لم يرد في ( ع ).
3- كذا في النسختين ، والعبارة لا تخلو من تشويش.
4- نهج البلاغة : 325 ، الخطبة 210.
5- انظر الوسائل 18 : 129 و 152 ، الباب 13 و 14 من أبواب صفات القاضي.

احتج المجوّز بامور :

الأول ما حكي عن الصيرفي من التعويل على الظنّ الحاصل من أصالة عدم التخصيص (1). واعترضه في محكيّ النهاية : بمعارضتها لأصالة عدم حجّيّة الظنّ (2). ولا وجه له على تقدير جريان الأصل اللفظي ، ضرورة ثبوت التعويل على الظنون اللفظيّة الكاشفة عن المراد. والوجه هو ما قدّمناه : من أنّها موهونة بواسطة العلم الإجمالي بالتخصيص.

واعترض عليه بعض من قارب عصرنا (3) تارة بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن العمل بالأصل إلاّ إذا كانت الشبهة محصورة ، وجعل ذلك من باب الشبهة المحصورة من غرائب الجعليّات! فإنّه إذا كان ذلك من باب المحصور ، فأين غير المحصور؟

قلت : ولعلّه سهو من مثله ، إذ لا إشكال في كون المقام من المحصور نظرا إلى كثرة المعلوم بالإجمال وإن كانت الأطراف أيضا كثيرة.

واخرى بأنّ كونها من باب المحصور مسلّم ، لكن لا تجب الموافقة القطعيّة فيه ، كما قرّر في محلّه.

وفيه : ما قرّر في محلّه من لزومها.

ثمّ اعلم أنّ دعوى العلم الإجمالي تارة تكون في جميع العمومات ، واخرى تكون في عامّ واحد ، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة - على تقدير

ص: 172


1- حكاه الآمدي في الإحكام 3 : 56.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 146.
3- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 111.

صحته - إنّما يتمّ في الأوّل دون الثاني ، لأوله إلى كون العامّ مخصّصا بمجمل ، وقد عرفت الحال فيه فيما تقدّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع المعترض أيضا ، حيث إنّه ذهب إلى حجّيّة هذا العامّ المخصّص بالمجمل.

الثاني أنّه لو وجب الفحص عن المخصّص لوجب الفحص عن قرينة المجاز أيضا ، والتالي باطل ، والملازمة ظاهرة ، حيث إنّه لا فارق.

واجيب - بعد تسليم بطلان التالي - : بشيوع التخصيص وغلبته ، فالفارق موجود. وعورض بأنّ المجاز أيضا شائع حتى قيل بأنّ أكثر ألفاظ العرب مجازات.

واورد عليه بأنّه إغراق ، سلّمنا لكنّه لا يجديهم فيما أرادوا من كون المجاز اللغويّ أكثر من الحقيقة ، لاحتمال المجاز العقليّ ، والاستعارة التمثيليّة ، والمجاز في الإعراب بالحذف والزيادة.

أقول : بعد الإحاطة بما قدّمنا لا حاجة إلى إطالة الكلام في إبطال هذه الكلمات ، إذ بدون العلم الإجمالي لا يعقل وجه لطرح الأصل في المقامين ، ومعه لا وجه للأخذ به فيهما ، من غير فرق في ذلك بين الأدلّة الشرعيّة وغيرها من الكلمات المستعملة عندهم في المحاورات ، من غير فرق بين القرائن المعمولة في المجازات اللغويّة أو غيرها. وبذلك يظهر فساد الإيراد الأخير. نعم ، احتمال هذه الوجوه من المجاز يؤيّد ما ذهب إليه ابن جنّي : من أنّ أكثر كلام العرب مجازات (1) ؛ إذ لم يصرّح ولم يظهر منه المجاز في الكلمة ، فتدبّر.

ص: 173


1- انظر حاشيته المطبوعة ضمن جمع الجوامع 1 : 310 ، ونقله السيّد المجاهد في المفاتيح : 31 عنه وعن جماعة.

الثالث إطلاق ما دلّ من الآيات وغيرها على اعتبار أخبار الآحاد كآية النبأ (1) والنفر (2) والسؤال (3) فإنّ قضيّة إطلاقها وجوب الأخذ بالخبر من دون انتظار أمر آخر من الفحص وغيره.

والجواب : أنّ الاعتماد على أخبار الآحاد موقوف على سدّ خلل السند والدلالة وجهة الصدور مع خلوّها عن المعارض ، وقد وضعوا لكلّ واحد من هذه المقامات مقاما وعقدوا بابا على حدة ، والمنعقد للمقام الأوّل هو مسألة حجّيّة الأخبار ، والآيات - على تقدير دلالتها - إنّما يصحّ التمسّك بها فيما إذا كان الشكّ من هذه الجهة. وأمّا إذا شكّ من جهة اخرى فالتعويل على هذه الإطلاقات في دفع الشكّ المذكور ممّا لا وجه له ، فهل ترى أنّه إذا شكّ في جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل من أصالة الحقيقة ولو بعد الفحص يصحّ التمسّك بالإطلاق المذكور؟ فالإنصاف : أنّ الاستدلال المذكور أجنبيّ عن طريقة أهل الاستدلال وإن كان المستدلّ (4) بمنزلة ربّهم!

والعجب أنّه يحتمل تفطّنه بذلك حيث أورد على نفسه بقوله :

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ في نفي اشتراط القطع ، وأمّا اشتراط الظنّ فللخصم أن يدّعي أنّ المعنى أنّ الخبر الذي يفهم المراد منه ظنّا أو قطعا لا يجب التثبّت عند مجيء العادل به ، وأمّا الخبر الذي لا يظنّ بالمراد منه فخارج عن مدلول الآية ومفهومها.

ص: 174


1- الحجرات : 6.
2- التوبة : 122.
3- الانبياء : 7.
4- وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، وسيجيء كلامه.

فأجاب عنه : بأنّ ذلك يوجب تقييد الإطلاق ، ولو صحّ ذلك لصحّ القول باعتبار الظنّ في السند أيضا. ثمّ أخذ في إبداء الفارق بين المجمل وبين العامّ بما حاصله : استقباح العقل التعبّد بالمجمل ، بخلاف العامّ ، وحكم بخروج الأوّل عن الآية بالإجماع ، بخلاف الثاني ، إذ لا إجماع (1).

أقول : بعد ما عرفت من اختلاف الجهات المذكورة يظهر وجوه الفساد فيما أفاده ، إذ الشكّ في المقام ليس من جهة السند حتّى يؤخذ بالإطلاق وإن صحّ ذلك فيما لو قيل باعتبار الظنّ في السند على تقدير دلالة الآية على حجّيّة السند تعبّدا ، وإلاّ لم يكن ذلك أيضا تقييدا ، كما لا يخفى. والمجمل ليس بخارج من الإطلاق قطعا وإن لم يمكن الانتفاع به من جهة عدم إحراز جميع شرائط الانتفاع بالدليل اللفظيّ ، كما هو ظاهر.

الرابع ما أشار إليه المستدلّ المتقدّم (2) واعتمد عليه في الوافية (3) وقرّره بوجه أتمّ وأتقن بعض الأفاضل (4) ، فقال : الضرورة الدينيّة واقعة على اشتراكنا مع الموجودين المشافهين في التكليف ، ولازمه لزوم تحصيل تكليفاتهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بالرجوع إلى ما خوطبوا به ، وتحصيل تكليفهم منها لا يمكن إلاّ بتحصيل طرق فهمهم ، وهو الغرض من تأسيس الاصول اللفظيّة ، ولازم ذلك استخراج

ص: 175


1- انظر حاشية الشيرواني المطبوعة في هامش المعالم : 125 ، ونقل عنه السيّد المجاهد في المفاتيح : 190.
2- وهو المحقّق الشيرواني ، انظر حاشيته المطبوعة في المعالم ، الصفحة : 124 - 125 ، ونقل عنه في المفاتيح : 189.
3- الوافية : 130.
4- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 110.

الأحكام من الأخبار بطريق استخراجهم ، وإذا علمنا أنّهم لا يتربّصون للفحص عن المخصّص كما هو معلوم لمن استعلم حال السلف ، فإنّ الصحابة والتابعين كانوا يعملون بالعمومات ويحتجّون بها على المتنازعين ولم يطلب أحد من المتنازعين في المسألة التوقف من صاحبه حتّى يبحث عن المعارض ، فكيف نتربّص في العمل بهذه العمومات ، فهل هذا إلاّ التناقض (1)؟ ومن هنا يظهر وجه آخر ، وهو تقرير الإمام عليه السلام العامل بها من دون فحص ، فيكون حجّة اخرى على الخصم.

والجواب : أنّ الضرورة الدينيّة واقعة على الاشتراك فيما إذا اتّحد موضوعنا وموضوع المشافهين ، وأمّا إذا اختلفا موضوعا فالضرورة واقعة على عدم الاشتراك ، وما نحن فيه من الثاني ، لوجود العلم الإجمالي بكثرة المعارضات على وجه لا يجوز معه الرجوع إلى الاصول ، كما عرفت في دليل المختار.

لا يقال : إنّ وجه الاختلاف في المقام ممّا يجب أن يكون موجودا فيهم أيضا ، فلا سبيل إلى دعوى اختلاف الموضوع.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ إبلاغ الرسول للأحكام الدينيّة لم يكن دفعة واحدة بل إنّما كان على وجه التدريج ، ولازم ذلك اختلاف موضوع المشافه بالخطاب الصادر في أوّل الشريعة والمشافه عند كمالها مثلا ، فيحتمل أن يكون الموجودون في زمن الأئمّة من الصحابة والتابعين لم يطّلعوا إلاّ على العمومات لا تفصيلا ولا إجمالا على وجه يوجب الفحص ، لاحتمال أن يكون كلّ عامّ في نظرهم من أطراف الشبهة الغير المحصورة التي لا توجب الموافقة القطعيّة.

فإن قلت : إنّا لو لم نقل بوجود العلم الإجمالي لهم بأجمعهم فلا بدّ من القول به في زمان الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما من الأئمّة عليهم السلام ومع ذلك فلم نجد في زبرهم ما يبيّن فيه وجوب الفحص في العمل بالأدلّة المعمولة عندهم.

ص: 176


1- إلى هنا انتهى كلام النراقي مع إضافات لم ترد في المناهج الموجودة عندنا.

قلت : لا نسلّم أنّهم كانوا يعملون بالعمومات بعد العلم الإجمالي بكثرة المعارضات والمخصّصات بالأدلّة والعمومات من دون فحص في زمان اجتماع الأخبار وانتظام الآثار ، فإنّ ذلك لعلّه من مقتضيات الجبلّة ولوازم الفطرة كما أشعرنا به ، فكيف يسوغ لك فرض العلم الإجمالي الموجب للفحص لرؤساء الشريعة وأمنائها من أصحاب الأئمة عليهم السلام مع عدم فحصهم عن المخصّص؟ كلاّ! ثمّ كلاّ! نعم ، حيث إنّهم كانوا مشافهين للأئمّة عليهم السلام وكان تأخير البيان عن وقت الحاجة غير محتمل عندهم ، فلذلك كانوا يقنعون بالعموم الملقى إليهم من دون الفحص ، ولا أقلّ من أن يكون أكثر العمومات الملقاة إليهم كذلك ، ومن أين علمنا أنّ القبيل الذي لم يكن وروده في محلّ الحاجة لم يتفحّص فيه الراوي؟ ولا ملازمة بين وقوعه ونقله مع هذه الندرة ، لعدم عموم البلوى به ، ولذلك ترى أنّ أرباب التصنيف وأصحاب التأليف أخذوا فيهما ما قصروا في الفحص على وجه يعلم منه أنّ إتعاب أنفسهم في تحصيل الكتب العلميّة وتحمّلهم لمشاقّ الفحص ولوازمه إنّما هو لملزم شرعي أو عقلي لذلك ، إذ لم يعهد إلى الآن استمرار طريقتهم على الوجه المذكور على أمر غير لازم عندهم كما هو معلوم لمن أنصف وتأمّل. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير المذكور في آخر الاحتجاج.

الخامس ما استدلّ به بعض الأفاضل (1) : من أخبار التسامح المستفيضة الواردة في من بلغه ثواب (2) ، فإنّ إطلاق تلك الأخبار يدلّ على كون العامل بالعموم مثابا في جميع أفراده.

ولعمري! إنّه استدلال عجيب بعد ما عرفت من جهة الشكّ في المقام.

ص: 177


1- وهو المحقّق النراقي في المناهج : 111.
2- راجع الوسائل 1 : 59 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات.

وأعجب منه استدلاله (1) بقوله عليه السلام : « علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع » (2) فإنّ المراد بالاصول العمومات وقد امرنا بالتفريع وتطبيقها على الجزئيّات من دون تقييد بالفحص.

وأغرب من ذلك! الاستدلال (3) بالأخبار الواردة في تعيين ما فيه الزكاة بعد ما سئل عنه ، فأجاب الإمام عليه السلام بأنّها في تسعة وقال : وعفا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عمّا سوى ذلك ، فقال الراوي عندنا شيء كثير مثل الأرز هل فيه الزكاة؟ فردّ الإمام عليه السلام بأنّي أقول : « عفا عما سوى ذلك » وتقول : عندنا أرزّ (4)!

فإنّ قياس حال المشافه الواقع في محلّ الحاجة بغيره قياس قد عرفت فساده. وأمّا رواية التفريع فقد عرفت أنّ إطلاقها لا يجدي في مثل المقام.

واستدلّ أيضا (5) بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (6) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (7).

وتقريب الاستدلال بأمثال هذه الأدلّة فيما نحن بصدده مما لا سبيل إليه للمنصف ، فكيف بإتمامها والتحويل عليها؟ ولعمري أنّه نظير الاستدلالات الموروثة عن بعض الأخباريّين في المسائل الخلافيّة بينهم وبين المجتهدين ،

ص: 178


1- أي الفاضل المذكور.
2- الوسائل 18 : 41 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 52.
3- هذا الاستدلال أيضا من الفاضل المذكور.
4- الوسائل 6 : 34 ، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث 6.
5- أي الفاضل المذكور.
6- البقرة : 286.
7- الطلاق : 7.

مثل استدلالهم بالأخبار الواردة في فضيلة العلماء (1) ، مثل ما دلّ على ترجيح مدادهم على دماء الشهداء (2) على جواز تقليد الميّت. وهذه الأدلّة من أقوى الأدلّة على أنّ المستدلّ إنّما لم يبلغ إلى ما هو المبحوث عنه في المقام ، وإلاّ فهو أجلّ من ذلك.

تذنيب :

اختلف القائلون بوجوب الفحص في مقداره ، فنسب إلى القاضي لزوم تحصيل القطع (3) والأكثرون على كفاية الظنّ واحتجّ القاضي : بأنّ القطع ممّا يتيسّر حصوله للمجتهد بالفحص ، فلا بد من تحصيله.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحكم المستفاد من العامّ إن كان ممّا كثر البحث عنه ولم يطّلع على ما يوجب تخصيصه ، فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه ولو قبل الفحص ، وإلاّ فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه ، إذ لو اريد بالعامّ الخاصّ لأطلع عليه ، فإذا حصل الفحص ولم يطّلع عليه وجب البناء على العموم.

وأمّا الثاني : فلقضاء صريح العقل بعدم الاقتناع بالظنّ عند إمكان تحصيل العلم ، إلاّ أن يدلّ على ذلك دليل من الشرع.

واجيب عنه بوجوه مرجعها إلى منع حصول القطع من الفحص ، فلا بدّ من الاكتفاء بالظنّ (4).

ص: 179


1- انظر الكافي 1 : 32 ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.
2- الفقيه 4 : 398 ، الحديث 5853 ، والوافي 1 : 145.
3- نسبه إليه الآمدي في الإحكام 3 : 56 ، وصاحب الفصول في الفصول : 200 وغيرهما.
4- انظر الإحكام للآمدي 3 : 57.

واعترض عليه المدقّق الشيرواني بأنّ عدم إمكان حصول القطع في الغالب لا يوجب جواز الاكتفاء بالظنّ عند إمكانه فلا بدّ من الالتزام باشتراطه إلاّ إذا تعذّر (1).

والتحقيق في المقام : أنّه يجب الفحص إلى أن يرتفع ما يقتضي الفحص ، وقد عرفت أنّ ما يقتضي الفحص عندهم أمور :

فعلى القول باعتبار الظنّ الشخصي ومنع حصوله قبل الفحص لا بدّ من القول بكفاية الظنّ بعدم المخصّص عند حصول الظنّ بالمراد بعد الفحص ، وإن كان ذلك غير مرضيّ عندنا ، كما نبّهنا عليه.

وعلى ما اخترنا : من أنّ المانع عن العمل بالعامّ هو العلم الإجمالي وارتفاعه بالفحص ، يظهر أنّ الفحص يفيد القطع بعدم المخصّص الذي كان احتماله مانعا من الأخذ بالعموم.

وأمّا احتمال التخصيص البدئيّ فلا يمنع من العموم ، ويكفي في دفعه أصالة عدم المخصّص ، كما عرفت ذلك في دليل المختار مفصّلا ، فراجعه.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا في مناط وجوب الفحص يظهر : أنّه لا يجب استقصاء البحث في جميع أبواب الكتب الجوامع الفقهيّة والأخباريّة ، بل يكفي في العمل بعمومات باب الطهارة استقصاء ذلك الباب ، إذ لا نعلم المعارض لذلك العام في غير الأخبار المذكورة في ذلك الباب ، فأصالة عدم المعارض والمخصّص سليمة لا بدّ من الأخذ بها ، ولا سيّما فيما إذا تفحّصنا عن المعارض (2)

ص: 180


1- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 192 ، وانظر حاشية المعالم المطبوعة في هامشه : 124 - 125.
2- لم يرد « عن المعارض » في ( ع ).

في مثل كتاب الوسائل والكتب الفقهيّة المفصّلة المصنّفة في زمان العلاّمة والشهيدين ومن تأخّر منهم إلى زماننا ، فإنّهم قد بالغوا في ضبط الأخبار وجمعها ، فلو فرضنا أنّ في باب لباس المصلّي خبرا يناسب باب الطهارة فقد تعرّضوا لذكره ولو بالإشارة الكافية لأهل الدراية ، فشكر اللّه مساعيهم الجميلة وجزاهم اللّه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء السابقين واللاحقين بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 181

ص: 182

هداية

اشارة

الحقّ إمكان شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة ، وتوضيح المرام بعد رسم أمور :

الأوّل : اعلم أنّ كلماتهم قد اختلفت في تحرير العنوان فقال في المعالم : ما وضع لخطاب المشافهة نحو « يا أيّها الناس » و « يا أيّها الذين آمنوا » لا يعمّ بصيغته من تأخّر عن زمن الخطاب وإنّما يثبت حكمه لهم بدليل آخر (1).

وظاهر المثالين - ولو بعد تصرّف في الثاني بتجريده عن الماضويّة ، أو بالقول بأنّ المناط اتّصافهم بالإيمان حال وجودهم وتعبير الماضوية بالنسبة إليها ، كما قيل (2) - اعتبار أن يكون في تلو أداة الخطاب لفظ شامل للمتأخّر عن زمن الخطاب لو لا المخاطبة (3) فيرجع النزاع إلى أنّ لفظ « الناس » بعده توجيه لغير المخاطب في نفسه هل يصلح له بعد الخطاب أيضا لعدم ما يقضي بالتقييد والتخصيص ، أو لا يصلح لاقتضاء أداة الخطاب ذلك؟ وقال بعض الأجلّة في فصوله : اختلفوا في أنّ الألفاظ التي وضعت للخطاب ك- « يا أيّها الناس » و « يا أيّها الذين آمنوا » هل يكون خطابا لغير الموجودين ويعمّهم بصيغته أو لا (4).

ص: 183


1- معالم الاصول : 108.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) : « المخاطب ».
4- الفصول : 179.

وأنت خبير بأنّه لا يعقل النزاع في عموم صيغة الخطاب في قوله : « يا أيها الناس » على ما مثّل به ويقتضيه ظاهر الضمير في قوله : « بصيغته » على أنّ البحث على هذا لا يلائم مباحث العامّ ، كما لا يخفى.

وقريب من ذلك في وجه ما عنون به بعض الأعاظم ، حيث قال : اختلفوا في إمكان عموم خطاب المشافهة لغير الموجودين وعدمه (1).

ويمكن الذبّ عنه بأنّ المراد ليس عموم الخطاب ، بل عموم اللفظ الواقع في تلو أداته ، فينطبق على التحرير الأوّل ، إلاّ أنّه لا يخلو عن تمحّل في الأوّل ، فتدبّر.

فعلى ما هو الظاهر من العالم الأورع (2) في عدم شمول الخطابات الخاصّة ك- « يا أيّها الرسول » و « يا أيّها المدّثر » و « المزمّل » و « أنت » وأشباهها ، لعدم تعقّل الشمول إلاّ على وجه بعيد كذكر المقيّد وإرادة المطلق ، وأما مثل قولك : « أنتم » وصيغ الجمع من الأمر الحاضر ك- « افعلوا » ونحوها فلا دليل على خروجه مع ظهور اتّحاد المناط أيضا. وحكي عن التوني التمثيل بذلك أيضا (3). ومع ذلك فلا يخلو عن تأمّل.

الثاني : الخطاب بمعناه المصدري عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام. وبعضهم أسقط القيد الأخير (4) وظاهر المحكيّ عن الطريحي أنّه معناه لغة (5)

ص: 184


1- إشارات الاصول : 139.
2- لعل المراد به هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ، انظر المصدر المتقدم : 142.
3- الوافية : 119.
4- مثل النراقي في المناهج : 90 ، والقزويني في ضوابط الاصول : 189.
5- مجمع البحرين 2 : 51 ، « خطب ».

وصرّح به بعض الأعاظم أيضا (1). وقد يطلق ويراد به الكلام الموجّه نحو الغير للإفهام ، فيكون اسم عين. والظاهر أنّه مجاز من الأوّل ، من حيث إنّه حاصل بسببه.

وزعم بعضهم أنّه الحاصل لذلك المصدر (2) ، فإن أراد ما هو المتعارف في غير المقام ، ففيه نظر واضح ، حيث إنّ الكلام ليس حاصلا لذلك المصدر ، بل هو أيضا مصدر آخر يعمّ نفس الكلام يمكن اعتباره حاصلا لمصدره كما لا يخفى. وإن أراد حصوله بسببه ولو بوجه تجوّزيّ وإن لم يكن حاصلا له ، فهو حقّ ، كما ذكرنا. لكنّه خلاف ظاهر كلامه. ولعلّ المراد بالكلام معناه اللغويّ ، فيشمل المخاطبة بنحو « يا زيد » لو لم نقل بكونه كلاما نحويّا.

وكيف كان ، فما ذكر من معنى الخطاب يحصل بمجرّد المواجهة بالكلام نحو الغير وإن لم يكن الكلام مقرونا بواحدة من أدوات الخطاب كالنداء ونحوه ، كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (3). نعم ، قد يكون الكلام مقرونا بأداة الخطاب ، كما عرفت من التمثيل. والظاهر أنّ النزاع إنّما هو في الثاني لا في الأوّل ، إذ لم نجد مخالفا في شمول حكم الآية السابقة لمن تأخّر عن زمن الخطاب ، ولا يلازم ذلك مخاطبة المعدوم حتّى يشاجر في إمكانه وامتناعه. وليس هناك لفظ خوطب به حتّى يقال : إنّه حقيقة أو مجاز. ولا ينافيه اختصاص التوجيه والخطاب بواحد ، كما إذا وجّه الخطاب بواحد وكان غيره مكلّفا ، نحو قولك : « يا زيد يجب على عمرو كذا ».

ص: 185


1- صرّح به الكلباسي في الإشارات : 139.
2- إشارات الاصول : 139.
3- آل عمران : 97.

نعم ، لو فرض إرادة المواجهة بالكلام والمخاطبة به للمعدوم أو لغير الحاضرين توجّه النزاع في أنّه هل يمكن مخاطبة المعدوم أو لا؟

وممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام المعالم في بحث الأخبار حيث قال : « إنّ أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين » (1) إذ الأحكام المستفادة من الكتاب قد تكون مستفادة من نحو قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ) ولا نزاع في شموله لغير الحاضرين وإن اختصّ خطابه بهم على تقدير الامتناع.

وقد يذبّ عنه بأنّ الاختصاص بالحاضرين يستند إلى أنّ لفظ « الناس » حقيقة في الموجودين. وهو خبط وخلط ولا يخفى على أحد ، إذ الظاهر أنّه قياس اسم الجنس الواقع في تلو أداة النداء بغيره ، حيث إنّ المنادى على تقدير امتناع نداء المعدوم يجب أن يكون موجودا حال النداء ، وأمّا اسم الجنس الخالي عن النداء فعلى تقدير اعتبار الوجود فيه أيضا - على ما هو خلاف التحقيق - لا يقتضي ما زعمه من عدم الشمول ، فإنّ إطلاق « الناس » على غير الموجودين إنّما هو باعتبار حال وجودهم ، ولا إشكال أنّه حقيقة حينئذ على هذا القول.

الثالث : هل النزاع المذكور عقليّ أو لغويّ؟ يشهد للثاني ظاهر عنوان الحاجبي (2) وصاحب المعالم (3) وجماعة آخرين (4) حيث إنّهم جعلوا النزاع في

ص: 186


1- معالم الاصول : 193.
2- انظر المختصر وشرحه : 245.
3- معالم الاصول : 108.
4- انظر القوانين 1 : 229 ، والفصول : 179 ، والمناهج : 87.

عموم الصيغة وعدمه ، وظاهر أنّ هذا من الأبحاث اللغويّة وإن كان البحث (1) في العموم والخصوص ممّا يرجع إلى أمر عقليّ من إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه ، إذ المدار في كون المسألة لغويّة أو عقليّة إنّما هو على ما هو المسئول عنه في عنوانها دون ما ينتهي إليه مداركها ، كما يشهد له عدّ المسألة في عداد مسائل العامّ والخاصّ ، فإنّ إمكان مخاطبة المعدوم وامتناعه لا ربط له بها جزما. ويؤيّده ما جنح إليه التفتازاني من الشمول فيما إذا كان الخطاب للمعدومين والموجودين على وجه التلفيق فمجاز لا حقيقة ويؤيّده استناده إلى التبادر في تشخيص معنى الخطاب. ويحتمل قريبا أن يكون ذلك بواسطة تسجيل معنى الخطاب وتعيينه حتّى يتمكّن من دعوى الاستحالة والامتناع ، بل هو المصرّح في كلمات جملة منهم (2).

وبالجملة ، فظاهر جملة من الأمارات يشهد للثاني. وظاهر جملة اخرى يشهد للأوّل ، كإحالة المنكر الامتناع (3) إلى الوجدان ورمي المخالف إلى المكابرة. وصريح عنوان بعضهم كما تقدّم عن بعض الأعاظم [ والإنصاف على ما ظهر لي بعد التأمّل إمكان الجمع بين هذه الأمارات ، بل لا يبعد أن يكون هو الواقع في كلام المتنازعين أيضا ](4) أنّ النزاع في أمر لغويّ ، وهو شمول الصيغة للغائبين والمعدومين أو اختصاصها بالموجودين.

ص: 187


1- في ( ع ) : « الوجه ».
2- نقل عنه في المناهج : 88.
3- كذا ، والظاهر أن كلمة « الامتناع » زائدة.
4- ما جعلناه بين المعقوفتين غير ملائم لنظم الكلام ، وقوله بعده : « إنّ النزاع » ... خبر لقوله قبله : « وصريح عنوان بعضهم ... ».

لكنّ الوجه في الاختصاص هو ما يدّعيه المانع من امتناع شمول الخطاب حقيقة أو مجازا. والوجه في الشمول هو ما يراه المجوّز من إمكان ذلك حقيقة أو مجازا ، فلو لوحظ ما هو مناط القولين يمكن القول بأنّ النزاع عقليّ ، ولو لوحظ نفس الخلاف يمكن القول بكونه لغويّا ، ولكل وجهة هو مولّيها.

ثمّ على تقدير النزاع العقليّ قد عرفت إمكان جريانه بالنسبة إلى الخطابات التي لم يدلّ عليها بكاشف (1) لفظيّ كقوله : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ) إلاّ أنّه غير مفيد ، كما أومأنا إليه.

وتوضيحه : أنّا لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ففي أمثال « يا أيّها الناس » ممّا يكون في تلو أداة الخطاب لفظا عامّا لجميع أفراده المعدومة والموجودة ، فالمقتضي للحمل على العموم موجود لمكان ذلك اللفظ ، والمانع مفقود كما هو المفروض ، فيحمل على العموم بخلاف ما إذا لم يكن الخطاب مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ، فإنّ غاية ما يكون هناك أن لا يكون مانع عن الخطاب بالمعدوم ، أمّا أنّه خاطب وأراد بذلك الكلام الخطاب العامّ للمعدوم والموجود فلا قاضي به من اللفظ ، لإمكان اختصاص المخاطبة بشخص خاصّ مع عموم الحكم المستفاد من ذلك الكلام ، فكلّ ما لا مانع من أن يكون خطابا للمعدوم لا يكفي في القول بالعموم ، بل لا بدّ من وجود المقتضي أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه فيما قلنا من دخول نحو « أنتم » و « افعلوا » وأمثاله في النزاع ، حيث إنّ المخاطبة بها وأشباهها موقوفة على القصد وإرادة عموم الخطاب وشموله للمعدوم والغائب ، وذلك ممّا لا كاشف له ظاهرا بحسب الوضع.

ص: 188


1- في ( س ) : « كاشف ».

ثمّ على تقدير النزاع اللفظيّ ، فهل الخلاف في الشمول على نحو الحقيقة ، أو في الأعمّ منه ومن المجاز ، أو في خصوص المجاز إمكانا على وجه لا خلاف في وقوعه على تقدير إمكانه ، أو وقوعا على وجه لا خلاف في إمكانه؟ وجوه يمكن استفادة كلّ منها من مطاوي كلماتهم عنوانا واحتجاجا واعتراضا ، على ما هو غير خفيّ على المتتبّع. وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أنّ المنقول منهم في المقام أقوال :

أحدهما : ما اختاره في الوافية (1) - على ما حكي - من الشمول ، من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني : الشمول حقيقة لغة ، حكاه البعض عن الفاضل النراقي (2) أنّه نسبه إلى بعضهم.

الثالث : الشمول حقيقة شرعا ، ونفي عنه البعد الفاضل المذكور فيما حكي (3).

الرابع : الشمول مجازا ، حكاه البعض عن التفتازاني (4). وظاهره دعوى ذهابه إلى أنّ الخطابات القرآنيّة تعمّ الغائبين أو المعدومين على وجه المجازية فعلا.

وظنّي أنّه ليس في محلّه ، فإنّ ما يظهر من كلامه المحكيّ دعوى إمكان الشمول على وجه المجاز ولم يظهر منه وقوعه. نعم ، قد اختاره في المناهج (5) - على ما حكي - ونقله عن والده في الأنيس (6).

ص: 189


1- الوافية : 119.
2- حكاه في المناهج : 88 ، عن والده في الأنيس.
3- حكاه أيضا في المناهج : 88 ، عن التجريد.
4- حكاه عنه في المناهج : 88.
5- المناهج : 88.
6- المصدر السابق.

الخامس : إمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنزيل والادّعاء إذا كان فيه فائدة يتعلّق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة. ولعلّه المشهور كما قيل (1).

والأظهر عندي القول بإمكان الشمول على وجه الحقيقة إن اريد من المجاز المبحوث عنه في المقام المجاز في أداة الخطاب ، كما يظهر من جماعة - منهم بعض الأجلّة (2) - حيث صرّحوا بأنّ الأداة حقيقة في خطاب الموجود الحاضر ، واستعماله في غير ذلك سواء كان على وجه التغليب ( كما إذا انضمّ إلى الموجودين غيرهم ) أو غيره ( كما إذا اختصّ بغيرهم ) مجاز إن اريد من المجاز ما هو المعهود مثله في المجاز العقليّ ، بمعنى أنّ التصرّف إنّما هو في أمر عقليّ من دون سرايته إلى اللفظ.

وتحقيق ذلك : أنّ أداة الخطاب إنّما هي موضوعة لأن يخاطب بها ، والمخاطبة إنّما تقتضي أن تكون إلى مخاطب يتوجّه إليه الخطاب ، وذلك لا يعقل في حقّ المعدوم ، إلاّ بتنزيله منزلة الموجود وادّعاء أنّه الموجود ، ومجرّد ذلك يكفي في استعمال اللفظ الموضوع للمخاطبة من دون استلزام لتصرّف آخر في اللفظ باستعماله في غير معناه ، وهل هذا إلاّ مثل استعمال الأسد في الرجل الشجاع بادّعاء أنّه الحيوان المفترس حقيقة؟ وما يتوهّم : من أنّ الأسد مجاز حينئذ لأنّه موضوع للحيوان المفترس الحقيقي لا الادّعائي ، فهو غلط ، فإنّ ادّعاء كونه من الأسد ليس من وجوه المعنى حتّى يقال : إنّه موضوع لغيره ، كما لا يخفى.

ص: 190


1- لم نعثر على القائل.
2- الفصول : 180 ، وانظر القوانين 1 : 229.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما بالغ فيه بعض الأجلّة : من امتناع تعلّق الخطاب بمعناه الحقيقي وتوجّهه نحو المعدوم (1). فإنّ ما ذكره في وجه الامتناع ممّا لا مدخل لكون أداة الخطاب على وجه الحقيقة أو المجاز ، كما هو ظاهر على المتأمّل ، ويظهر الصدق بمراجعة كلامه في فصوله.

والذي يقضي بذلك أنّه لا حاجة إلى أمر آخر بعد التنزيل - ولو عند التغليب - من ملاحظة أمر أعمّ لئلا يلزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيّ والمجازيّ ، بل ولا يعقل الأمر الأعمّ الشامل للمعدومين والموجودين في مدلول أداة الخطاب. والوجه في ذلك : أنّ الخطاب إمّا من الامور الحادثة بالأداة كما يراه البعض ، أو من الامور التي يكشف عنها الأداة ، سواء كانت الأداة علامة لها كما في علامة التأنيث والتذكير أو غيرها. وعلى التقادير فهي معان شخصية جزئيّة لا تتحمّل العموم ، كما هو ظاهر لمن تدبّر. نعم ، يصحّ ذلك في مدلول مدخول الأداة ، وأين ذلك من اعتبار العموم في مدلول الأداة؟

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بمجرّد الإمكان. وأمّا الوقوع فلا بدّ له من التماس دليل آخر ، ولم نجد ما يقضي به ، فإنّ ما تخيّله البعض من الأدلّة لا يقتضي إلاّ الاشتراك في الحكم ، وأمّا أنّ الخطابات القرآنيّة ممّا لوحظ فيها التنزيل المذكور واستعمل اللفظ في المخاطبة للحاضر ولمن هو منزّل منزلته فلم يدلّ عليه دليل.

ثم إنّه قد احتمل بعض المحقّقين في الخطابات القرآنيّة - مع القول باختصاصها بالحاضرين - شمولها للغائبين ، لقيام الكتّاب والمبلّغين واحدا بعد واحد مقام المتكلّم بها ، فلم يخاطب بها إلاّ الموجود فكأنّ الكتابة نداء مستمرّ من

ص: 191


1- انظر الفصول : 180.

ابتداء صدور الخطاب إلى انتهاء التكليف. والسرّ فيه : أنّ المكتوب إليه ينتقل من الوجود الكتبي إلى الوجود اللفظي ومنه إلى المعنى فمن حيث هو قارئ متكلّم ، ومن حيث إنه من المقصودين بالخطاب مستمع (1) ، انتهى كلامه.

أقول : وما أفاده أمر معقول ، لكنّه موقوف على وجود ما يدلّ عليه ، ولم نقف على ما يقضي بذلك الاعتبار ، مع أنّ ما ذكره في السرّ ليس أمرا ظاهرا لا يقبل المنع ، لاحتمال الانتقال من الكتب إلى المعنى من دون توسيط اللفظ فينتفي اعتبار الخطاب باللفظ. وأما الأمر بالكتابة والحفظ - كما هو ثابت - فلا دليل فيه على ما ذكره ، لاحتمال فوائد شتّى غير ما ذكره.

ثم إنّه قد طال التشاجر بين القوم في الاحتجاج على الأقوال المذكورة وتصحيحها وتزييفها ، ولا نرى طائلا تحتها.

فالأولى أن نختم الكلام بذكر امور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل :

الظاهر عدم الفرق بين المعدوم والغائب عن مجلس الخطاب في عدم تحقّق المخاطبة لو لا التنزيل ، كما تقدّم إليه الإشارة. واستواء الكلّ بالنسبة إليه تعالى غيبة وحضورا لا يجدي في المقام.

أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك مبنيّ على أن يكون المخاطب - بالكسر - هو اللّه تعالى ، ولا دليل عليه ، فإنّ ذلك موقوف على تشخيص ما وقع به الخطاب من مراتب القرآن لو كان اسما لجميع مراتبه ، وإلاّ فهو موقوف على تشخيص معنى

ص: 192


1- شرح الوافية : 112.

القرآن من أنّه هل هو اسم لوجوده العلمي لله سبحانه ، أو لما هو الثابت في اللوح المحفوظ ، أو لما هو المنزل على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في بيت المعمور كما اطلق عليه القرآن في قوله تعالى : ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (1) أو لما هو المنزّل عليه في الوقائع الشخصيّة ممّا نزل به جبرئيل من الألفاظ الخاصّة ، فيكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله حاكيا له فيما خاطب به الناس ، أو لما خاطب به النبيّ صلى اللّه عليه وآله العباد عن اللّه تعالى ، فيكون وجود القرآن في عالم الظهور وجوده في لسان النبيّ صلى اللّه عليه وآله نظير وجود الكلام في الشجر فقراءته له بعد انقضاء القراءة في مجلس الوحي والتنزيل إنّما هو حكاية عمّا بلغه في مجلس الوحي نظير قراءة غيره أو الأعمّ منه وممّا يظهر عندنا كونه حكاية ، فيكون جميع الألفاظ الشخصيّة الصادرة من القرّاء من حقيقة القرآن ، إمّا بالقول بوضعه لأمر كلّي صادق على جميع ذلك كما احتمله البعض (2) وإن كان ضعيفا ، وإمّا بالقول بكون كلّ واحد من تلك القراءات (3) من القرآن ، نظير الوضع في المبهمات ، أو الأعمّ منها ومن المكتوبات على الوجهين فيها أيضا ، أو للأعمّ من الألفاظ والنقوش والمعاني الثابتة في اللوح وغيره ، ويحتمل وجوه أخر أيضا. ومع جميع هذه الوجوه والاحتمالات كيف يقطع بأنّ المخاطب هو اللّه تعالى؟

وأمّا ثانيا : فبأنّ استواءه غيبة وحضورا لا يجدي مع اختلاف حال المخاطبين بالعلم والسماع ، فإنّ النقص فيهم ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ؛ مضافا إلى أنّ الاستواء إنّما هو موجود في الموجود والمعدوم ، ولم يظهر

ص: 193


1- طه : 114.
2- لم نعثر عليه.
3- في ( ع ) : « المراتب ».

التزامه من المورد ، فبدون التنزيل لا يعقل الخطاب في المقامين ، ومعه لا إشكال فيهما. نعم ، ذلك إنّما نعقله فيما هو بأيدينا من الخطابات. وأمّا خطابه تعالى فلا يعرف وجه التنزيل فيه كما لا يعرف سائر وجوه التصرّف في كلامه تعالى.

اللّهم إلاّ أن نقول : إنّ المعلوم عندنا هو تكلّمه بكلام من ينزّل المعدوم منزلة الموجود ، فتدبّر.

الثاني :

ذكر بعضهم : أنّ الغرض من هذه المسألة وذكرها بيان الحقّ فيها ، فلا يترتّب عليها أثر عمليّ ، إذ الظاهر تحقّق الإجماع على مساواة جميع الامّة في الحكم (1). واعترض عليه بعض المحقّقين (2) بأنّه غفلة ، لوجود الثمرة في مقامين :

أحدهما : أنّه على الشمول لا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر من الخطاب ، لامتناع الخطاب بما هو ظاهر وإرادة خلافه من دون دلالة : وعلى العدم فلا بدّ من تحصيل متفاهم المتشافهين والتحرّي في استحصاله ، فإن حصل العلم به فهو ، وإلاّ عملنا بالاجتهاد في تحصيل ما هو الأقرب إليه.

وأورد عليه بعض الأجلّة (3) بأنّه على العدم لا وجه للفرق بين المخاطب وغيره في حجّيّة الظواهر ، فإنّ ذلك أمر متّضح الفساد منحرف عن منهج السداد ، للإجماع على حجّيّة ظواهر الألفاظ في حقّ السامعين مطلقا ، ولو لا ذلك لم يعتبر ظواهر الأقارير والوصايا والعقود والشهادات ، ونحو ذلك.

ص: 194


1- الوافية : 134.
2- انظر المناهج : 91.
3- الفصول : 184.

ويمكن ذبّه بأنّه ليس المقصود بيان الفرق في ذلك بين المشافه وغيره في الأخذ بالظواهر ، بل المقصود إثبات الفرق بينهما من حيث احتمال وجود القرينة عندهم واختفائها لدينا أو (1) ثبوت النقل وإن كان يمكن تحصيل متفاهمهم بإعمال الاصول اللفظيّة في اللفظ أيضا. ومحصّل الفرق : أنّ المشافه إنّما يأخذ بالظاهر من حيث هو ظاهر ، وغيره إنّما يأخذ به من حيث إنّه الظاهر عند المشافه وإن كان طريق ثبوته هو الظاهر أيضا ، فليس ذلك تفصيلا في حجّية الظواهر ؛ مع أنّ في احتجاجه لعدم الفرق بظواهر الأقارير والوصايا والشهادات نظرا ذكرناه في محلّه.

واعترض عليه أيضا بأنّه على الشمول لا وجه للأخذ بالظواهر ، للعلم بطريان النسخ والتجوّز والتخصيص والتقييد ممّا مرّ الإشارة إليها في بحث الفحص ، فلا بدّ من البحث والتحرّي (2).

وزاد عليه بعض آخر بأنّه مع ذلك يحتمل السهو من الراوي والغلط منه والسقط والتحريف والتصحيف والزيادة ، مع اختلاط الصادق بالكاذب ، لدسّ الكذابة ، إلى غير ذلك ، فعلى الشمول أيضا لا بدّ من التحرّي والاجتهاد في دفع تلك المحتملات (3) انتهى.

وفسادهما غنيّ عن البيان ، إذ ليس المقصود أنّه على تقدير الشمول لا يعقل وجود الفرق بين الحاضر وغيره من جميع الجهات حتّى يتمسّك بهذه الوجوه الواهية ، فإنّ هذه الموانع كما هي مانعة من حمل الغائب على تقدير

ص: 195


1- في ( ع ) : « و ». وعلى أيّ حال فالعبارة مختلّة.
2- انظر الفصول : 184.
3- لم نعثر عليه.

وجودها ، كذلك هي مانعة عن حمل المشافه أيضا. بل المقصود أنّه على تقدير ارتفاع الموانع من سائر الجهات ، كأن لا يكون الخطاب بواسطة العلم الإجمالي بوجود المخصّصات مجملا ، كما مرّ في المسألة المتقدّمة. وبعد أن أحرزنا قول المعصوم بإعمال الاصول المعتبرة في إحرازه - كأصالة عدم السقط والتحريف وغيرها ، واعتبار سند الرواية لعدالة الراوي أو ما هو بمنزلته - يجب القول بالمساواة بين الغائب والحاضر ، وأنّ الغيبة والحضور لا ينهضان فرقا في الاعتبار وعدمه ، وذلك من الامور الوضحة التي لا تكاد تخفى على أحد كما هو ظاهر ؛ ومع ذلك فلا يتمّ الثمرة المذكورة كما نبّه عليه إجمالا بعض أجلّة السادة المحقّقين (1).

وتحقيقه : أنّه على القول بالشمول ، إمّا أن يعلم الاختلاف بين المشافه وغيره فيما هو الظاهر عند كلّ منهما ، أو يعلم الوفاق ، أو يشكّ في ذلك.

فعلى الأوّل : إمّا أن يكون وجه الاختلاف قرينة مخفيّة عليهم موجودة عندنا ، كما مرّ نظيره في العامّ المخصّص بمخصّص متأخّر ، أو خطائهم في تشخيص الظواهر لو فرض ، ونحو ذلك ممّا لا يوجب تعدّد الحكم الواقعي. وإمّا أن يكون وجه الاختلاف ما يوجب ذلك ، مثل اختلاف الأوضاع ونحوه.

فعلى الأوّل : نقول إنّ المشافه إنّما لم ينجّز في حقّه الحكم الواقعي ، لاختفاء القرينة عليه أو لخطائه إذا لم يكن على وجه التقصير ، وليس ذلك من حجّيّة الظواهر في حقّه ، كما لا يخفى.

ص: 196


1- الظاهر أنّه هو السيّد الصدر في شرح الوافية : 112 ، حيث قال : أقول قد عرفت أنّ بعد تسليم جواز الاستعمال لا ثمرة للاصولي.

وعلى الثاني : نقول : لا يجوز إرادة كلّ من الظاهر ، لا لأجل عدم جواز استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد ، بل ولو قلنا بجوازه أيضا ؛ لأنّ ذلك لا يستلزم استعمال اللفظ في معان غير محصورة ، ولا سيّما لو فرضنا إلحاق المعاني المستحدثة الظاهرة أيضا. ولا يتعقّل استعمال اللفظ في كلّ ما يفهمه المخاطبون على أنحاء اختلاف أفهامهم ومراتبهم على وجه يكون كلّ واحد منهم مخصوصا بإرادة ما فهمه في حقّه من غير مشاركة الآخر له في ذلك.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين استعمال العين في معنييه ، فإنّه على تقديره إنّما هو مرادان بالنسبة إلى الكلّ ، وذلك خارج عن حدّ المحاورات ، ولا يبعد نسبته إلى الغلط عند أربابها ، بل هو كذلك قطعا ؛ مضافا إلى استلزامه تعدّد الأحكام الواقعيّة ، وهو خلاف الصواب عندنا ، فلا بدّ من القول بإرادة معنى واحد من تلك الظواهر وإحالة من ليس ظاهرا عنده إلى من هو ظاهر عنده. ولعلّ الظاهر إحالة من عدا المشافه إليه ، لقيام أدلّة الاشتراك قرينة عليها وكفايتها في ذلك ، بل ولا يعقل (1) إحالة المشافه إلى غيره في بعض الصور المتقدّمة ، كما إذا كان المعنى المراد من المعاني الظاهرة المستحدثة بعد زمان المشافهة. اللّهم إلاّ أن ينصب قرينة عليه وكشفه لديه ، لئلاّ يلزم القبح (2) وعند الشكّ في وجود القرينة يحكم بعدمها ، كما هو قضيّة الأصل.

فثبت بذلك وجوب الرجوع إلى متفاهم المشافه عند العلم بالاختلاف وعدم قيام قرينة على تعيين أحد المعاني.

ص: 197


1- في هامش ( ع ) : « بل ولا يبعد » ، خ ل.
2- في ( ط ) : « القبيح ».

وعلى الثاني (1) - وهو العلم بالوفاق - لا إشكال في وجوب الأخذ بما هو الظاهر عندهم ، إلاّ أنّه ليس مورد ظهور الثمرة.

وعلى الثالث (2) : فلا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر عند غير المشافه والحكم بأنّ الظاهر عندهم أيضا هو ذلك بإعمال الاصول اللفظيّة. وبالجملة ، لا نعرف فرقا بين القول بالشمول وعدمه من هذه الجهة.

الثالث :

الثالث (3) :

أنّ شرط اشتراك المشافهين وغيرهم هو اتّحاد الصنفين لعدم الإجماع عليه عند الاختلاف ، والأدلّة القائمة عليه غير الإجماع أيضا يمكن القول بأنّها محمولة على صورة اتّحاد الصنف ، كما لا يخفى. فوجوب صلاة الجمعة مثلا على الحاضرين لا يدلّ على وجوبها على الغائبين ، لاحتمال اختلافهم في الصنف كأن كان وجوبها مشروطا بحضور السلطان أو نائبه الخاصّ المفقود ذلك الشرط في حقّ الغائبين. ولا وجه للتمسّك بإطلاق الآية بعد احتمال اختلاف الصنف.

واعترض عليه تارة : بأنّ اعتبار الاتّحاد في الصنف ممّا لم يحدّه قلم ولا يحيط ببيانه رقم. واحتمال مدخليّة كونهم في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله أو كان صلاتهم خلفه وأمثال ذلك في الأحكام ممّا يهدم أساس الشريعة.

واجيب بأنّ اللازم إحراز الاتّحاد ، إمّا بدعوى القطع على عدم المدخليّة كما في كثير ممّا يقبل أن يكون وجها للاختلاف. ولا يلزم من ذلك القطع بالحكم

ص: 198


1- عطف على قوله : فعلى الأوّل في الصفحة : 196.
2- وهو صورة الشكّ في الاختلاف والوفاق.
3- في جميع النسخ ( الثاني ) ، والصواب ما أثبتناه ، فقد تقدّم التنبيه الثاني في الصفحة : 194.

ليلزم عدم الحاجة إلى دليل الاشتراك ، إذ اتّحاد الصنف بمجرّده لا يقضي بالتكليف ، فلا بدّ من التماس دليل الاشتراك. أو بإقامة دليل خاصّ عليه (1) من الأدلّة اللفظيّة أو غيرها. والمفروض في المقام عدم القطع باتّحاد الصنف حتى أنّه قال الأكثر : بأنّ شرط وجوب الجمعة حضور السلطان أو نائبه ، فلا بدّ من انهدام أساس الشريعة فيما لو لم يؤخذ بعدم الاتّحاد في مثل المقام.

واخرى : بأنّ في المقام ما يدلّ على اتّحاد الصنف من أصالة عدم القيد وأصالة الإطلاق. ومجرّد كونهم واجدين للشرط لا يمنع من جريان الأصل ، كما أنّه لا يمنع منه كونهم في المدينة أيضا.

ويمكن أن يناقش فيه بأنّ الأصل المذكور لا يجري في المقام ، إذ مرجعه إلى قبح إرادة المقيّد (2) من المطلق ، ولا قبح لإطلاق الخطاب فيما إذا كان المخاطب واجدا للشرط ، فإهمال القيد لا يوجب قبيحا. نعم ، على القول بالشمول لا بدّ من إظهار القيد لئلاّ يقع الغائب في خلاف المراد ، لما قرّرنا فيما تقدّم من بطلان اختلاف تكليف المشافه والغائب بالإطلاق والتقييد (3). ومجرّد وجدان الحاضر للشرط - وهو الحضور - لا يكفي في تقييد الإطلاق بالنسبة إلى الغائب المقصود بالخطاب أيضا ، فلا بدّ من إعمال أصالة الإطلاق عند الغائب. ومنه يستكشف عدم مدخليّة الحضور في حقّهم أيضا ، لأنّ المفروض اتّحاد التكليف.

ص: 199


1- عطف على قوله : إمّا بدعوى القطع.
2- في ( ع ) : « القيد ».
3- في ( ع ) : « التقيد ».

الرابع :

الرابع (1) :

لا إشكال في ثبوت اشتراك كلّ الامّة في ما إذا لم يكن الخطابات مصدّرة بإحدى أدوات الخطاب ك- « يا أيّها الناس » ونحوه كأن كان الخطاب عامّا لجميع المكلّفين ، مثل قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) (2) ونحوه من الأدلّة العامّة الغير المختصّة بصنف خاصّ من المكلّفين الشاملة لجميع الأزمان والأحوال ، وأمثال ذلك كثيرة في الأحكام الشرعيّة على وجه لو لم نقل بالاشتراك فيما ثبت بعناوين الخطاب للمشافهين لا أظنّ لزوم (3) انهدام أساس الشريعة وبطلان الطريقة ، لا سيّما بعد انضمام الخطابات الخاصّة الواردة بالنسبة إلى أشخاص معلومة يقطع بعدم اعتبار ذلك الشخص المعيّن كخطابه لزرارة « لا تنقض اليقين » (4) ونحو ذلك. وليس القطع بعدم مدخليّة خصوص السائل في قول النبي صلى اللّه عليه وآله : « هلكت وأهلكت » (5) بعد سؤال الأعرابي من مواقعة أهله في نهار رمضان أخفى من القطع بقاعدة الاشتراك الثابتة بالإجماع.

وممّا ذكرنا يظهر عدم ورود ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه - على من تأمّل - في قاعدة الاشتراك : من لزوم انهدام أساس الشريعة (6).

ص: 200


1- في جميع النسخ ( الثالث ) ، والصواب ما أثبتناه.
2- آل عمران : 97.
3- لم يرد « لزوم » في ( ع ).
4- الوسائل 1 : 175 ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.
5- كذا ، والصواب : « أعتق رقبة » لأنّ « هلكت وأهلكت » من قول السائل ، راجع الوسائل 7 : 30 ، الباب 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 5.
6- القوانين 1 : 234.

وأمّا إذا كان الخطاب مصدّرا بأداته ، فهل في المقام أصل يرجع إليه عند الشكّ؟ نقول : إنّه لم نقف على أصل جامع لموارد الشكّ بأجمعها ، فإنّها على أقسام :

أحدها : أن يكون الشك في كيفية الحكم ، بأن يكون الشكّ في تقييد الحكم بأمر أحرزه الحاضرون وإطلاقه ، كما قرّرناه في الثمرة الثانية (1) وحينئذ لا بدّ من دفع الشكّ المذكور إمّا بالتمسّك بالإطلاق - كما عرفت - ثمّ يحتاج إلى عموم أدلّة الاشتراك ، فإنّ مجرّد عدم تقييد الإطلاق لا يقتضي ثبوت الحكم لغير المشافه على تقدير عدم الشمول. وإمّا بالتمسّك بأصالة البراءة عند دوران الأمر بين الاشتراط وعدمه ، لأنّ الأصل الاشتراط ، فلا يبقى مورد لأدلّة الاشتراك.

وثانيها : أن يكون الشكّ في مقدار ثبوت الحكم بحسب الزمان من دون مدخليّة للأشخاص الموجودة في زمان ثبوت الحكم على وجه لو كان الغائب موجودا في ذلك الزمان والحاضر معدوما فيه لم يختلف الحكم ، فمرجع الشك إلى بقاء الحكم في الزمان الثاني أو ارتفاعه ، لطريان النسخ أو لعدم وجود ما يقتضيه واقعا لو وجد في الأحكام مثله ، وحينئذ لا بدّ من الأخذ بالاستصحاب ، ولا وجه للاعتماد على البراءة ، لحكومته عليها في مجاريه ، ومنها المقام عندهم ، بل ادّعى أمين الأخباريّة اعتبار الاستصحاب في المقام ، وكونه من ضروريّات الدين (2) ، وإن لم يأت على دليل بسلطان مبين ، لما قرّرنا : من أنّ الاعتماد على الاستصحاب في المقام بعينه كالتعويل عليه في سائر المقامات خلافا ووفاقا. نعم ، لو كان مرجعه إلى أصل لفظيّ - كأصالة عدم التخصيص في العامّ الزماني - كان وجها لثبوت التعويل عليه إجمالا وإن لم نعلم وجهه.

ص: 201


1- راجع الصفحة : 198.
2- انظر الفوائد المدنية : 143.

ثمّ إنّه لا يكفي مجرّد الاستصحاب ، بل لا بدّ من التشبّث بأدلّة الاشتراك ، إذ المفروض اختصاص الخطاب. نعم ، يكفي الاستصحاب في غير المصدّر بالخطاب ، كما أنّه لا يكفي مجرّد الاشتراك أيضا ، إذ على تقدير النسخ لا مسرح للاشتراك.

وثالثها : أن يكون الشكّ في اختصاص الحكم للأشخاص الموجودين في ذلك الزمان من دون مدخليّة وصف من الأوصاف ، ومن غير مدخليّة الزمان ، على وجه لو كان الغائب حاضرا كان ثبوت الحكم في حقّه أيضا مشكوكا فيه لو فرض مثل هذا الشكّ.

ووقوعه في محلّ المنع ، لعدم معقوليّة الاختصاص في الواقع لا بواسطة اندراج أحدهما في عنوان لا يندرج فيه الآخر. نعم ، يمكن عدم العلم بذلك العنوان ، فالفرق بينه وبين الصورة الاولى احتمال مدخليّة عنوان خاصّ ، بخلاف المقام.

وكيف كان ، فإن أمكن دفع الشكّ بالتمسّك بدليل لفظيّ كالإطلاق ونحوه فهو ، ويحتاج إلى أدلّة الاشتراك على تقدير عدم الشمول ، وإلاّ فيمكن دفعه بالتمسّك بأدلّة الاشتراك ، فإنّها كاشفة عن اتّحاد العنوان. ولا يرد النقض بما إذا كان الشكّ في مدخلية عنوان خاصّ ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا يظهر حال الحكم الثابت بالدليل اللبّي. وأمّا الأدلّة التي أقاموها على الاشتراك فهي كثيرة ، عمدتها الإجماع المنقول في لسان جمع كثير وجمّ غفير من الفحول (1) ، تعرف بأدنى تتبّع.

ص: 202


1- منهم العلامة في تهذيب الوصول : 134 ، والمحقق القمي في القوانين 1 : 233 ، والكلباسي في الإشارات ( مخطوط ) : 140.

وأمّا الأخبار الدالّة على أنّ حكمه على الأوّلين حكمه على الآخرين (1) فلا بأس بالتمسّك بها ، إلاّ أن يناقش بأنّ الظاهر منها إثبات التعميم من جهة الزمان كما فرضناه في القسم الثاني (2) كما يظهر من ملاحظة قوله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (3) لكنّ الإنصاف عدم الاعتداد بهذه المناقشة ، كما لا يخفى على من لاحظها وتأمّل فيها حقّ التأمّل.

ثمّ إنّه إذا ثبت حكم في حقّ النساء أو الرجال ولم يدلّ دليل على التعميم بخصوصه ، فهل الأصل العموم فيه؟ وجهان بل قولان ، فمن المقدّس الأردبيلي والمحقّق الخوانساري (4) : نعم ، بل ادّعى فيه الإجماع. وظاهر جماعة اخرى - منهم صاحب المدارك (5) ، بل نسبه إلى الأكثر (6) : العدم. ولعلّه الأقوى ، لعدم ما يقضى به ، والإجماع على الاشتراك غير ثابت. ومنه يظهر الكلام في الحرّ وغيره (7).

ص: 203


1- راجع العيون 2 : 87 ، الحديث 87 ، والبحار 74 : 105 ، الحديث 68 ، وغيره.
2- راجع الصفحة : 201.
3- انظر الكافي 1 : 58 ، الحديث 19 ، والوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
4- حكى عنهما المحقّق القمّي في القوانين 1 : 241.
5- قال النراقي في المناهج (92) : وهو الظاهر من المدارك في بحث اعتداد الرجل بأذان المرأة وفي بحث الصلاة في الحرير. انظر المدارك 3 :5. 178 و 260.
6- الظاهر من العبارة أنّ الناسب هو صاحب المدارك ، ولم نعثر فيه. بل في المناهج 6. : ويظهر فيه أنّه المشهور ، ونسبه هو إلى الأكثر.
7- في ( ع ) بدل « وغيره » : « ونحوه ».

ص: 204

هداية

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله فذلك لا يوجب تخصيص العامّ ، وفاقا لجماعة من المحقّقين ، منهم الشيخ (1) والعلاّمة في أحد قوليه (2) والحاجبي (3). وذهب جماعة إلى تخصيصه (4) واخرى إلى التوقّف (5) مثاله قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) (6) حيث إنّ الضمير في « بعولتهنّ » راجع إلى بعض المطلّقات وهي الرجعيّات. ومحلّ الكلام في المقام هو ما إذا كان الحكم الثابت للضمير مغايرا للحكم الثابت لنفس المرجع ، سواء كان الحكمان واحدا وفي كلام واحد كقولك : « أكرم العلماء واحدا منهم » إذا فرض عود الضمير لعدولهم ، أو متعدّدا وفي كلامين كما في الآية المباركة ، حيث إنّ حكم العامّ وجوب التربّص ، وحكم الضمير أحقّيّة الزوج بالرجوع والردّ.

ص: 205


1- العدة 1 : 384.
2- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه ولا على من نسب إليه.
3- المختصر مع شرحه للعضدي : 278.
4- منهم العلاّمة في النهاية : 171 ، والعميدي في شرحه على التهذيب : 193 ، وإمام الحرمين والبصري ، انظر المختصر وشرحه : 278 - 279.
5- كالسيّد في الذريعة 1 : 300 ، والمحقّق في معارج الاصول : 100 ، والعلاّمة في التهذيب : 154 ، وصاحب المعالم في المعالم : 138 ، 153 ، والنراقي في المناهج : 102.
6- البقرة : 228.

وأمّا إذا كان الحكم واحدا ، كقوله تعالى في صدر الآية : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) حيث إنّ المراد منها غير اليائسات ، لعدم انفراد المدخول بها قطعا للدليل ، فلا نزاع في وجوب اختصاص الحكم بما هو المرجع حقيقة ، ولئلاّ يلزم خلوّ الكلام عن الرابط.

وهل هو تخصيص للعامّ أو استخدام ، أو تجوّز في الإسناد من قبيل إسناد ما هو للبعض إلى الكلّ؟ وجوه. ولعلّ الأوجه الأوّل ، لكونه أشيع.

ومنه أيضا قوله : ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) بعد قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (1) حيث إنّ الإيلاء وإن كان في اللغة لمطلق الحلف على ترك الوطء ، إلاّ أنّ المقصود في الآية هو ترك الوطء بالنسبة إلى الدائمة فقط ، إذ ترك الوطء للمنقطع ليس حراما ، والإيلاء هو الحلف على ترك الوطء الغير المشروع ، فلا بدّ من أن يراد من الضمير في « عزموا » ما هو المراد من النساء.

وجعله بعض الأجلة من أمثلة المقام (2) بتقريب أنّ « النساء » تعمّ الدائمة والمنقطعة ، لكونها جمعا مضافا ، والمراد من الضمير في قوله : ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) أي طلاقهنّ هي الدائمة ، إذ لا يقع الطلاق على غيرها ، فالنساء تعمّ غير الدائمة ، والضمير الذي عوّض عنه بأداة التعريف يختصّ بالدائمة.

وممّا ذكرنا يظهر فساده ؛ لأنّ المراد بالنساء خصوص الدائمة في الآية ، فإنّ وجوب تربّص أربعة أشهر ليس في الحلف على ترك وطء المنقطعة ، لكونه مشروعا غير محرّم ولو إلى الأبد.

ص: 206


1- البقرة : 226 - 227.
2- انظر الفصول : 212.

ثمّ إنّ ما ذكره على تقدير صحّته إنّما يجيء في الضمير في قوله تعالى : ( وَإِنْ عَزَمُوا ) والموصول المتقدّم ذكره في الآية ، ولا حاجة إلى ملاحظة في لفظ « النساء » والاستدلال على عمومه بكونه جمعا مضافا ثم تقدير الضمير في الطلاق ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ وجه الخلاف في المسألة اختلاف أنظارهم في تشخيص ما ينبغي أن يجعل كبرى في المقام ، فجعله البعض من قبيل دوران الأمر بين تعدّد المجاز ووحدته كالعضدي (1) حيث زعم أنّ تخصيص العامّ يوجب التجوّز في الضمير ، للزوم مطابقته لما هو الظاهر من المرجع دون المراد ، بخلاف التصرّف في الضمير بالاستخدام ونحوه ، فإنّه لا يسري إلى العامّ.

وزعم أرباب التوقّف (2) أنّ المقام من قبيل تعارض المجازين ، للزوم مطابقة الضمير لما هو المراد من المرجع وإن كان مجازا ، فيدور الأمر بين التصرّف في العامّ بالتخصيص أو في الضمير بالاستخدام أو بالتخصيص فيه أيضا ، كما زعمه السلطان (3) فإنّه يظهر منه : أنّ الضمير أيضا من صيغ العموم ، ولازمه التزام التخصيص في الضمير الراجع إلى بعض العامّ.

واحتمل بعضهم (4) أن يكون المقام من الموارد التي يقرنها ما يصلح أن يكون قرينة كما في جملة من الموارد ، منها : تعارض الحقيقة مع المجاز الراجح ،

ص: 207


1- شرح مختصر الاصول : 279.
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 138.
3- حاشية السلطان : 298 ، ذيل قول الماتن : « فالتعارض إنّما هو بين التخصيص والمجاز ».
4- لم نعثر عليه.

والاستثناء عقيب الجمل ، والأمر الوارد عقيب الحظر ، وغير ذلك. فإن قلنا بأنّ ذلك الأمر الصالح للقرينيّة يوجب صرف اللفظ عن الظاهر ، فلا بدّ من القول بالتخصيص. وإن لم نقل ، فإنّ قلنا باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا - ولو في مثل المقام - فلا بدّ من القول بعدمه. وإن قلنا باعتبارها من باب الظهور النوعي ونوع ذلك الكلام ليس بظاهر في إرادة الحقيقة ولا في إرادة المجاز ، فلا بدّ من الوقف ، لعدم ظهور المراد بحسب القواعد المعمولة في الألفاظ ، فيكون من موارد الإجمال.

والظاهر أنّ المقام من قبيل تعارض الظاهرين ؛ لأنّ ظهور العامّ في العموم ممّا لا ينكر ، كما لا ينبغي إنكار ظهور الضمير في مطابقته للمرجع ، وليس من الموارد التي تقرن بما يصلح قرينة ، كورود الأمر عقيب الحظر والمجاز المشهور ، فإنّ الورود والشهرة من الأمور الاعتباريّة المكتنفة باللفظ ، وليس لهما ظهور يقابل بظهور اللفظ. بخلاف المقام ، فإنّ ظاهر الضمير أن يكون كناية عمّا أريد من المرجع ولو على وجه المجاز.

وممّا ذكرنا يظهر فساد جعل الاستثناء عقيب الجمل من تلك الموارد ؛ لأنّ وجه الإجمال في الاستثناء هو الاشتراك بين خصوصيّات الإخراج ، نظير تردّد اسم الإشارة بين امور متعدّدة. ولا ينافي ذلك كون الوضع في أمثاله عامّا ، فإنّ ذلك من لوازم خصوصيّات الموضوع له ، فإنّها بحكم الاشتراك اللفظي.

وأمّا ما زعمه العضدي : من دوران الأمر بين مجازين ؛ لأنّ تخصيص العامّ يوجب المجاز في الضمير أيضا (1) فهو فاسد جدّا ، لما عرفت من أنّ الضمير لا يتفاوت الحال فيه بعد انطباقه على المرجع بين أن يكون المرجع حقيقة أو مجازا.

ص: 208


1- تقدّم في الصفحة : 207.

وأمّا ما أفاده سلطان العلماء (1) فهو أيضا بظاهره فاسد ؛ لأنّ الضمير ليس من صيغ العموم حتى يتصوّر فيه التخصيص إلاّ بإخراج بعض أفراد المرجع ، كما في قولك : « أكرم العلماء وأضفهم بشرط العدالة » ولو فرض كون ذلك تخصيصا في الضمير لا في المرجع فالفرق بين المقامين ظاهر ، فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

فالأقرب أنّ المقام من قبيل تعارض الظاهرين ، أعني ظهور العامّ في العموم ، وظهور الضمير في الرجوع إلى تمام مدلول مرجعه دون بعضه ، وهو المراد بالاستخدام في المقام. نعم ، لا ينحصر في ذلك ، لوجوده فيما إذا أريد من اللفظ معناه الحقيقي ومن ضميره معناه المجازي ، أو أحد معنييه الحقيقيّين أو المجازيّين. والعلاقة المصحّحة للاستعمال المذكور هي المسامحة في أمر المرجع بالاكتفاء بما يمكن أن يراد منه المرجع ولو في استعمال آخر ، فكأنّه مذكور حكما.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الاستخدام ليس من المجاز.

كما يظهر فساد ما حكي عن بعض أصحاب التدقيق (2) من أنّ العلاقة في المقام هي علاقة العموم والخصوص. وجه الفساد ، أمّا أوّلا : فلأنّه ليس من المجاز كما عرفت. وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير كونه مجازا فالعلاقة المعتبرة فيه غير العموم والخصوص ، لوجوده في غير المقام أيضا. والظاهر أنّ الوجه واحد في الكلّ.

ص: 209


1- تقدّم في الصفحة : 207.
2- لم نظفر به.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر فساد ما قد يتوهّم : من أنّه على القول بكون التخصيص حقيقة لا إشكال في تقديمه على الاستخدام فإنّه على تقديره أيضا لا يخلو من تصرّف على خلاف الظاهر ، مضافا إلى أنّ الاستخدام أيضا حقيقة.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّه يمكن الاستناد فيما صرنا إليه من عدم التخصيص وترجيح الاستخدام عليه - مع ما هو المعروف عندهم من شيوع التخصيص ، وبذلك يقدّم على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في الألفاظ - إلى أنّ الشكّ في أحد التصرّفين إذا كان مسبّبا عن التصرّف في الآخر وفرضنا علاج ذلك الشكّ بإعمال أصل من الأصول الممهّدة لذلك ، فالظاهر تعيّن التصرّف في غير مورد العلاج ، كما يساعده الاعتبار ، بل لعلّه يوافقه حكم العرف أيضا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الشكّ في الاستخدام في الضمير إنّما هو بواسطة الشكّ في عموم العامّ على وجه لو فرض التخصيص فيه علم بعدم الاستخدام ، ولو فرض عدمه في العامّ علم بالاستخدام في الضمير. وبعد جريان أصالة العموم وعلاج الشكّ في العموم بالأصل يتعيّن التصرّف في الضمير بالاستخدام.

لا يقال : يمكن قلب الدليل ، فيؤخذ بظاهر الضمير المقتضي لمطابقته للمرجع ، وذلك يعيّن التصرّف في العامّ بالتخصيص.

لأنّا نقول : إنّ الظاهر هو أنّ الشكّ في المطابقة إنّما نشأ من الشك في المراد. والسرّ في ذلك : أنّ الاختلاف في الضمير لا يرجع إلى اختلاف المراد منه ، لظهور اختصاص الحكم في الضمير بالبعض وإنّما هو اختلاف في نحو من أنحاء استعماله كما لا يخفى. بخلاف الاختلاف في العامّ ، فإنّه راجع إلى المراد قطعا ، على وجه لو أراد المتكلّم الكلّ فتبعه (1) نحو من الاستعمال

ص: 210


1- كذا في النسخ ، ولعلّ الأصل : يتبعه.

في الضمير ، ولو أراد المتكلّم البعض يلزمه نحو آخر منه. وليس تلك الأنحاء ممّا يقصد ابتداء ، مثل قصد العموم والخصوص. وذلك ظاهر لمن تدبّر وأنصف من نفسه.

وبذلك يمكن القول بأنّ المسألة نظيرة لما تقدّم من المجاز المشهور وورود الأمر عقيب الحظر. وعلى ذلك التقدير يمكن الاستدلال بأصالة الحقيقة ما لم يعلم بالقرينة ، ولا يعارض بالأصل في الضمير ، فإنّه تابع لجريان الأصل في المرجع وعدمه.

ولكنّه ليس في محلّه ؛ لأنّ أصالة الحقيقة إنّما هي تعتبر من جهة الظهور النوعي ، وقد عرفت إمكان منع إفادة الأصل لذلك نوعا في المقام ، لاحتمال ما يصلح أن يكون قرينة.

فإن قلت : إنّ أصالة عدم القرينة جارية في المقام ، وبذلك يتمّ الاستدلال.

قلت : إنّ مرجع الأصل المذكور إن كان هو الاستصحاب فهو موقوف على العلم بالحالة السابقة ، ومتى علمت بأنّ ذلك الشيء المحتمل لكونه قرينة لم يكن قرينة حتّى يستصحب؟ وإن كان هو الحكم بالعدم عند الشكّ في الوجود ولو لم يعلم الحالة السابقة فلا دليل على اعتباره.

نعم ، يصحّ التمسّك بأصالة عدم وجود القرينة في الكلام بواسطة العلم به قبل التكلّم أو بأصالة عدم التعويل عليها كذلك ، إلاّ أنّهما لا يجديان ، لا لأنّهما من الاصول المثبتة لاعتبارها في مباحث الألفاظ ، بل لما عرفت من أنّ الوجه في التعويل على الأصول المذكورة هو حصول الظنّ نوعا منها ، ولا نسلّم حصوله ولو نوعا في المقام ؛ ولذلك لو فرض العلم بتعويل المتكلّم بما يصلح أن يكون قرينة لم يحكم بأنّه فعل قبيحا ، كما لا يخفى على من تدبّر.

ص: 211

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الأوفق بالقواعد في المقام على تقدير الشكّ فيما ذكرنا : من أنّ الشك في الاستخدام إنّما هو تابع للشك في العموم ، هو التوقّف ، لعدم الاعتماد على أصالة الحقيقة في مثل المقام.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة أورد كلاما في ترجيح التصرّف في الضمير لا بأس بذكره تنبيها على ما فيه ، فقال : إنّ الدليل الدالّ على عدم ثبوت الحكم المتعلّق بالضمير لجميع أفراد مرجعه إنّما يقتضي منع عموم الضمير دون المرجع ، فتعيّن فيه التخصيص. وإغناء التصرّف في المرجع من التصرّف في الضمير لا يوجب التكافؤ ؛ لأنّ التصرّف في مورد التعارض أولى (1).

وفيه ما مرّ : من أنّ الضمير ليس من صيغ العموم ، بل هو من الكنايات ، فتارة كناية عن جماعة محصورة وأخرى عن غيرها ، فالمعارض لذلك هو المرجع قطعا ، غاية ما في الباب أنّه بمنزلة تكرار لفظه ، فتارة يبقى على العموم واخرى يخصّص. سلّمنا لكنّ الدليل الدالّ على عدم ثبوت الحكم المتعلّق بالضمير بجميع أفراد المرجع لا يعارض خصوص ظاهر الضمير ، فإنّ نسبة ذلك الدليل إليهما نسبة واحدة ، فإنّه أوجب التعارض بينهما ، إذ لو لم يكن ذلك الدليل لم يكن تعارض بينهما. ولعلّه راجع إلى الأوّل ؛ فتدبّر ، واللّه الهادي.

ص: 212


1- الفصول : 211.

هداية

لا كلام في تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة الراجع إلى دلالة اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى. وأمّا دلالة اللفظ على مساواة المدلول لغيره - وهو المعبّر عنه بلحن الخطاب في بعض الألسنة - فهو على تقدير القول به أيضا لا ينبغي الكلام في التخصيص.

والوجه فيه : أنّ السرّ في دلالة اللفظ على ثبوت الحكم في غير محلّ النطق مع أنّه ليس مدلولا مطابقيّا له هو أنّ المذكور في محلّ النطق إنّما دلّ عليه باللفظ (1) توطئة للوصول إلى حكم غيره ، فكأنّ المذكور طريق إليه ، وإنّما قصد به مجرّد الإراءة ، فيكون دلالة اللفظ عليه أظهر من دلالة العامّ على العموم وإن لم يكن من مداليل اللفظ على وجه الصراحة والمطابقة حتّى أنّه يمكن أن يقال : إنّ دلالة اللفظ على المفهوم أظهر من دلالته على المنطوق وإن كان مدلولا التزاميّا ؛ لأنّه المقصود بالإفادة. ولا ينافي ما ذكرنا من دلالة اللفظ عليه كونه موقوفا على حكم العقل بالأولويّة في غير محلّ النطق كتوقّفه على القطع بالمناط ، لكونه طريقا لثبوت الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة كما في غيره من موارد الالتزامات العقليّة. نعم ذلك ينهض وجها آخر لتقديم المفهوم على العموم بعد الغضّ عن عدم ظهور اللفظ في المفهوم ولم نقل بكونه من الدلالات اللفظيّة كما تعرفه بعد ذلك.

ص: 213


1- في ع : « اللفظ ».

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه كما في قولك : « لا تكرم الفسّاق » و « أكرم خدّام العلماء » فالتعارض إنّما هو في العالم الواجب الإكرام بالمفهوم ومحرّم الإكرام بالعموم ، أو كان المفهوم أخصّ كما إذا قيل : أكرم خدّام العالم الفاسق.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفهوم في المقام قضيّة لبّيّة لا يمكن التصرّف فيها بنفسها بالتخصيص وإنّما هو يتبع المنطوق ، فلا بدّ إمّا (1) من التصرّف في المنطوق بالقول بأنّ قولنا : « أكرم خدّام العلماء » إنّما لا يراد منه وجوب (2) إكرام الخدّام بإخراجه عن الظاهر بالمرّة ، إذ على تقديره فلا معنى للمنع من ثبوت الحكم للمفهوم ، لاستقلال العقل بثبوت الحكم على وجه الأولويّة ، نظير استقلال العقل بوجوب المقدّمة بعد فرض وجوب ذيها. ولا يعقل القول ببقاء الدليل الدالّ على الوجوب مع المنع عن وجوب المقدّمة ، لرجوع ذلك إلى منع الملازمة بين الوجوبين ، وقد فرض حكومة العقل بثبوتها ، ولا ريب أنّ ذلك تصرّف بارد لا ينبغي ارتكابه لمن له أدنى درية.

وأمّا القول بالتخصيص فهو متعيّن ولو لم يكن شائعا ، لما عرفت من خصوصيّة المقام. وهذا هو الوجه في كونه محلاّ للاتّفاق ، دون مفهوم المخالفة بعد اشتراكهما في عدم تعقّل التصرّف في المفهوم ، لرجوع التصرّف إلى تفكيك اللازم عن الملزوم. أمّا في الموافق فقد عرفت. وأمّا في المفهوم المخالف فلأنّ بعد تسليم ظهور اللفظ في العلّية المنحصرة - كما هو مدار المفهوم - لا يعقل عدم

ص: 214


1- لم يرد « إمّا » في ( ع ).
2- لم يرد « وجوب » في ( ع ).

الحكم بالانتفاء عند الانتفاء ، فإنّ ذلك حكم يستقلّ به العقل ولو كان بواسطة خطاب الشرع ، إلاّ أنّ منع ظهور اللفظ في ذلك ليس بتلك المكانة من البعد.

وأمّا الثاني : فيظهر الوجه في وجوب تقديم المفهوم على العموم فيه ممّا تقدّم ، مضافا إلى كون المفهوم أخصّ مطلقا أيضا.

وبالجملة ، فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقوليّة التصرّف فيه بنفسه فيدور الأمر بين التصرّف في العامّ أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح ، مضافا إلى ما تقدّم : من أنّ اللفظ مسوق لبيانه ، فظهوره في المفهوم أولى من ظهور العامّ في العموم.

ومنه يظهر فساد ما قد يحكى عن بعض سادة مشايخ مشايخنا (1) حيث أورد على من استدلّ على اعتبار العربيّة في العقود باعتبار الماضويّة - كالمحقّق الثاني (2) - بأنّ الأولويّة معارضة بعموم وجوب الوفاء بالعقد ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، فلا بدّ من ملاحظة المرجّحات. وأمّا مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العامّ وعدم التصرّف في ظاهر الجملة الشرطيّة والأخذ بظهورها لا إشكال في تخصيص العامّ به كما عرفت ، وإنّما الإشكال في أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء منها أو العامّ أظهر في إرادة الأفراد منه؟ فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين.

فربما يقال : إنّ العامّ أظهر دلالة في شموله لمحلّ المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى

ص: 215


1- وهو السيّد المجاهد في المناهل : 270 - 271.
2- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 217 - 218.

خبر العدل الظنّي ، فإنّ قضيّة عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظنّي ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ، ولا سيّما إذا كان العام متّصلا بالجملة الشرطيّة. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطيّة كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم.

وبالجملة ، فالإنصاف أنّ ذلك يتبع الموارد. ولم نقف على ضابطة نوعيّة يعتمد عليها في الأغلب ، كما اعترف بذلك سلطان المحقّقين (1).

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا كان النسبة بين المفهوم والعموم عموما وخصوصا ، بأن كان المفهوم أخصّ مطلقا ، فإنّه يدور الأمر بين التصرّف في ظاهر العامّ وبين التصرّف في ظاهر الجملة الشرطيّة بإلقاء المفهوم رأسا.

وأمّا إذا كان المفهوم عامّا فلا بدّ فيه من تقييد المنطوق ، كما إذا قيل : « أكرم الناس إن كانوا عدولا » وقيل : « أكرم العالم الفاسق » فإنّه يقدّم على المفهوم القائل بعدم وجوب إكرام غير العادل عالما وغيره ، ومعنى تقديمه عليه هو تقييد الناس بغير العالم الفاسق ، لما عرفت من عدم معقوليّة التصرّف في المفهوم بنفسه ، فلا بدّ من إرجاعه إلى المنطوق. وأمّا احتمال إلقاء المفهوم رأسا في المقام فلا وجه له.

وأمّا إذا كان النسبة عموما من وجه ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء » بعد قولك : « أكرم الناس إن كانوا عدولا » فيحتمل أن يقال بإلقاء المفهوم رأسا على تقدير تقديم العموم في مورد التعارض - وهو العالم الفاسق - على المفهوم القاضي بنفي وجوب إكرام الفاسق مطلقا. ويحتمل التقييد في المنطوق ، كأن يقال : « أكرم الناس الغير العالم إن كانوا عدولا » فيستفاد من الكلامين سببيّة كلّ

ص: 216


1- حاشية سلطان العلماء : 298 ، ذيل قول الماتن : بل التحقيق أن أغلب صور المفهوم.

من العلم والعدالة لوجوب الإكرام ، بل ولعلّه هو المتعيّن ، لعدم ما يقضي بخلافه في غير مورد التعارض من المفهوم ، كما عرفت فيما إذا ورد خاصّ في قبال المفهوم العامّ.

ومنه يظهر الوجه لمن أطلق القول بعدم انفعال الجاري ولو لم يكن كرّا ، مع أنّ مقتضى المفهوم في قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) اعتبار الكريّة في الماء الجاري أيضا ، إذ إلقاء المفهوم رأسا ممّا لا شاهد عليه ، فلا بدّ إمّا من طرح العموم الدالّ على عدم انفعال الجاري في مورد التعارض أو تقييد المنطوق ، وذلك ظاهر على من تأمّل. وهو الهادي.

ص: 217


1- الوسائل 1 : 117 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2.

ص: 218

هداية

يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب وبالخبر المتواتر ، كما يجوز تخصيصه بهما بلا خلاف معتدّ به. وأمّا تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، فالأقرب جوازه أيضا ، وفاقا لأكثر المحقّقين (1).

وحكي عن الذريعة (2) والعدة (3) والمعارج (4) عدم الجواز مطلقا. ولعلّ منع السيّد مبنيّ على أصله من إنكار حجّيّة الخبر الواحد (5).

وفصّل بعضهم (6) بين تخصيص العامّ الكتابي بمخصّص قطعيّ فيجوز ، وعدمه فلا يجوز. وحكي عن المحقّق أيضا الوقف (7). ولعلّه توقّف منه في العمل ، وإلاّ فالمحكي عنه هو العدم ، كما عرفت.

ص: 219


1- منهم العلامة في تهذيب الاصول : 148 ، ونهاية الوصول : 159 ، وصاحب المعالم في المعالم : 140 ، والمحقق القمي في القوانين 1 : 308 ، وغيرهم.
2- الذريعة 1 : 280.
3- العدّة 1 : 344.
4- حكاه عنه في المعالم : 140 ، والقوانين 1 : 308 ، والمناهج : 114 ، قال : ظاهر كلامه الثاني ( عدم الجواز مطلقا ).
5- الذريعة 2 : 517.
6- وهو عيسى بن أبان كما في المناهج : 114 ، ومفاتيح الأصول : 160 ، وراجع المعارج : 96.
7- حكى عنه في المعالم : 141 ، والقوانين 1 : 308 ، والمناهج : 114.

ثمّ إنّه قد يستشكل في الفرق بين المقام والمسألة الآتية الباحثة عن بناء العامّ على الخاصّ. وظنّي أنّه ليس في محلّه ، كما يظهر من ملاحظة كلمات المانعين ، حيث إنّه يظهر من بعضهم عدم اعتبار الخبر الواحد في قبال عموم الكتاب (1). ويظهر من آخر عدم قابليّة الخبر للتخصيص من جهة قطعيّة العموم (2). وعلى الأوّل فالفرق ظاهر ، وعلى الثاني فكذلك أيضا ؛ لأنّ المبحوث عنه في المسألة الآتية هو رجحان التخصيص على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في الدليلين وعدمه بعد فرض القابليّة لو فرضنا احتمال التجوّز في الخاصّ أيضا ، وإلاّ فتلك المسألة يبحث فيها عن أنّ الخاص بيان أو ناسخ على ما هو التحقيق.

وكيف كان ، فيمكن الاستدلال على الجواز بالإجماع من الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال العامّ الكتابيّ ، وهذه سيرة مستمرّة إلى زمن الأئمّة عليهم السلام بل وذلك ممّا يقطع به في زمن الصحابة والتابعين ، فإنّهم كثيرا ما يتمسّكون بالأخبار في قبال العمومات الكتابيّة ولم ينكر ذلك عليهم.

ودعوى أنّ ذلك لعلّه بواسطة احتفاف الخبر بقرينة قطعيّة ، مدفوعة بما أفاده الشيخ عند احتجاجه بعمل الصحابة على حجّيّة الأخبار بأنّه تعويل على ما يعلم ضرورة خلافه ولا يحسن مكالمة مدّعيه (3).

ومن هنا ترى أنّ الشيخ مع أنّه منع من ذلك في الاصول فقد بنى عليه في الفقه ، كما يظهر من تتبّع موارد كلامه وتضاعيف الفروع كالمحقّق أيضا.

ص: 220


1- انظر الذريعة 1 : 281.
2- انظر العدة 1 : 344.
3- العدّة 1 : 136.

وبالجملة ، وجوب تخصيص الكتاب بالخبر الواحد عندهم على منار ، بل ربّما يظهر من بعضهم (1) أنّ الوجه في اعتبار الخبر هو لزوم تخصيص الكتاب على وجه لو لم يخصّص به يعلم بأنّ الأمور الثابتة بالكتاب ليست بحقيقة تلك الأمور ، كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر أنّه لو قلنا باعتبار الخبر من باب الظنّ المطلق يجب التخصيص أيضا ، للعلم الإجمالي بورود التخصيص بالكتاب ووجود المخصّصات في الأخبار الظنّيّة ، فلا وجه للتعويل على أصالة الحقيقة ، لطروّ الإجمال.

فلا وجه لما تخيّله البعض : من أنّه على تقدير الظنّ المطلق لا وجه للتخصيص ، لوجود الظنّ الخاصّ وهو العامّ الكتابي (2) وعلى تقديره فلا انسداد حتّى يؤخذ بالظنّ.

واستدلّ بعض الأفاضل (3) على المطلب بأنّه لولاه لزم إلقاء الخبر بالمرّة ، إذ ما من خبر إلاّ وهو مخالف لعموم الكتاب ، ولا أقلّ من عموم ما دلّ على أصل البراءة.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الخبر المخالف لأصل البراءة لا يعقل أن يكون مخصّصا للعموم كما قرّر في محلّه ، وستعرفه بعد ذلك من عدم ورود الدليل والأصل في مورد واحد.

احتجّ المانع تارة : بأنّ العام المفروض في الكتاب قطعيّ وخبر الواحد ظنّي ، وهو لا يعارض القطعيّ.

ص: 221


1- لم نعثر عليه.
2- لم يرد « الكتابي » في ( ع ).
3- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 310.

والجواب : أنّ القطعيّ لا يعارض بالظنّي في جهة ما هو القطعيّ. وأمّا في غيرها فلا نسلّم عدم المعارضة. وبعبارة واضحة : الكتاب قطعيّ سندا وخبر الواحد ظنّي سندا ولا تعارض بينهما من هذه الجهة ، وإنّما التعارض بينهما من جهة الدلالة الراجعة في العامّ إلى أصالة الحقيقة التي يجب تقديم ما هو صالح للقرينة عليها ، لارتفاع موضوع الأصل ، لوجود الدليل حقيقة إذا كان علميّا أو حكما إذا كان ظنّيّا ولو مع ملاحظة العلم باعتباره ، والمفروض أنّ خبر الواحد صالح لذلك ، أمّا دلالة فظاهر ، وأمّا سندا فلأنّ كلامنا في قبال هذا المانع إنّما هو بعد الفراغ عن حجّية الخبر ، والمانع إنّما زعم ذلك بواسطة ما زعمه من عدم قابليّة التخصيص بالظنّي كما هو ظاهر. ولا فرق فيما ذكرنا بين اعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا أو من باب الظنّ ؛ لأنّه مقيّد بعدم ورود ظنّ على خلافه قطعا ؛ ولذا لا يتأمّل أحد في تقديم الخاصّ على العامّ ، فتدبّر.

وقد يجاب بأنّ الكتاب وإن كان قطعيّ المتن ، إلاّ أنّه ظنّي الدلالة ، والخبر بالعكس ، فيتساويان. وردّ بأنّ الدلالة في الخبر أيضا ظنّيّة ، لاحتمال التجوّز فيه أيضا. وفي كليهما نظر. أمّا الأوّل : فلأنّ فرض التساوي لا يوجب التخصيص.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض في محلّ البحث عدم احتمال تصرّف آخر في الخاصّ ، إمّا بالنظر إلى أنّ التخصيص أشيع فلا يعارض احتمال التجوز ، وإمّا بواسطة عدم احتماله في نفسه.

وأخرى : بأنّ جواز التخصيص يلازم جواز النسخ ، والتالي باطل إجماعا. أمّا الملازمة ، فلأنّ مرجع النسخ أيضا إلى التخصيص. والجواب أوّلا : بمنع بطلان التالي من حيث القاعدة ، وقيام الإجماع هو الفارق.

وثانيا : بأنّ الفرق ظاهر بين النسخ والتخصيص ، من حيث إنّ النسخ ممّا يتوفر الدواعي إلى ضبطه ونقله ونشره ، بخلاف التخصيص. ويرشدك إلى

ص: 222

ذلك أنّ الموارد المنسوخة ممّا شذّ فيه الخلاف على تقدير وجوده فيها ، بخلاف موارد التخصيص ، فإنّ الخلاف فيها على منار ، فالملازمة ممنوعة.

وقد يجاب بأنّ التخصيص دفع والنسخ رفع ، والأوّل أهون بخلاف النسخ. وهو بظاهره فاسد جدّا.

وقد يوجّه ذلك بأنّ التخصيص هو الحكم بعدم ثبوت الحكم للبعض ، والنسخ هو رفع الحكم بعد ثبوته ، ولا شكّ أنّ الثابت وجودا كان أو عدما يجب الحكم بثبوته ما لم يعلم عدمه بالإجماع والاستصحاب ، فإذا دلّ خبر على النسخ فهو معارض لأدلّة الاستصحاب ولدليل ثبوت هذا الحكم. بخلاف دليل التخصيص ، فإنّها معاضدة بأدلّة الاستصحاب ، فيكون إعماله أهون ، انتهى ملخّصا (1).

أقول : لا نعرف فرقا بين النسخ والتخصيص بعد ملاحظة العموم الزماني في النسخ الملازم لعدم ثبوت الحكم في البعض ولو بملاحظة الزمان.

ومنه يظهر فساد ما أورده من حديث المعارضة مع أدلّة الاستصحاب ولدليل الحكم :

أمّا أوّلا : فلأنّ دليل الحكم لا يعارض الناسخ إلاّ باستصحاب عدم النسخ وعدم ورود مخصّص زماني ؛ لأنّه لا يزيد على أصالة الحقيقة كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ دليل النسخ على تقدير اعتباره لا يعقل معارضته لأدلّة الاستصحاب ؛ لارتفاع موضوع الاستصحاب - وهو الشكّ - حقيقة أو حكما بعد ورود الدليل ، كما أنّه لا يعقل معارضته لأدلّة التخصيص.

ص: 223


1- أي انتهى التوجيه ، والموجّه هو المحقّق النراقي في المناهج : 116.

ومرّة : بأنّ الدليل على العمل بخبر الواحد هو الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به ، وهو المحكي عن المحقّق (1).

والجواب : ما مرّ من أنّ الإجماع على العمل بالخبر المخالف لعموم الكتاب واقع وليس له دافع ، مضافا إلى ما قرّر في محلّه : من عدم انحصار الدليل في الإجماع.

وأخرى : بطائفة كثيرة من الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها وضربها على الجدار وأنّها زخرف وأنّها ممّا لم يخبر بها الإمام وهي كثيرة جدّا وصريحة الدلالة على وجوب الطرح ، فلا وجه لما يجاب : من أنّ العمل بتلك الأخبار يوجب تخصيص الكتاب الدالّ على حجّيّة الخبر بالخبر الغير المخالف ، فإنّ هذه قطعيّة ، كما يظهر للمنصف.

والجواب - بعد القطع بصدور جملة من تلك الأخبار عن الحجج الطاهرة - : أنّ مخالفة العموم وأصالة الحقيقة لا تعدّ مخالفة عرفا ، ومع الشكّ في صدق المخالفة على مثل هذه المخالفة يستكشف من عموم ما دلّ على أنّ المخالف غير صادر منهم أنّ هذه الأخبار الصادرة عنهم قطعا ليست مخالفة للقرآن ، وإلاّ لزم التخصيص في العموم ، والأصل عدمه ، مع أنّ سياق هذه الأخبار يأبى عن التخصيص.

وبالجملة ، فتارة ندّعي العلم بعدم صدق المخالفة على مثل هذه المخالفة ، كما يشهد به العرف. وأخرى أنّه لا أقلّ من الشكّ في صدق المخالفة ، وبعد القطع بالصدور يستكشف بالعموم الغير القابل للتخصيص عدم كونها مخالفة ،

ص: 224


1- المعارج : 96.

نظير استكشاف عدم كون النحويّ عالما على تقدير الشكّ فيه من عموم « أكرم العلماء » بعد القطع بعدم وجوب إكرام النحويّ. اللّهم إلاّ أن يدّعى القطع بصدق المخالفة في المقام ، والإنصاف أنّه في غير محلّه.

ويؤيّد ما ذكرناه من عدم صدق المخالفة أنّ المشايخ الراوين لهذه الأخبار هم الذين رووا الأخبار المخالفة على التوجيه المذكور ، وكيف يتصوّر مع إكثارهم في هذه الرواية؟

والحاصل أنّه لا ينبغي التوقّف في العمل بالأخبار المخالفة لعموم الكتاب في زماننا هذا ، لاستلزامه حدوث شرع جديد ، كما لا يخفى على من تدرّب.

فلا بدّ من حمل تلك الأخبار على الأخبار المخالفة على وجه المباينة. ولا ينافي قلّتها في زماننا ؛ لأنّ جوامع الأخبار الموجودة عندنا إنّما هو بعد التهذيب ، فلعلّها كانت كثيرة في تلك الأزمنة قبل التهذيب.

لا يقال : إنّه لا داعي إلى جعل الأخبار المباينة ، للعلم بكذبها ، فلا يقع بها التدليس المقصود من دسّ الكذّابين.

لأنّا نقول : لا ينحصر الداعي في التدليس ، بل يحتمل أن يقصد بالجعل الإبطال وإسناد الأباطيل إليه ، كما يومئ إليه جملة من الأخبار (1) على ما لا يخفى على المتتبّع فيها. أو يحمل (2) على الأخبار الواردة في مسائل اصول الدين ، كأخبار الغلوّ والجبر والتجسيم والتشبيه ، ونحو ذلك من الامور المعلومة بنصّ الكتاب الموافق للسنّة السنيّة والملّة المحمّدية صلى اللّه عليه وآله على صادعها ألف سلام وتحيّة.

ص: 225


1- انظر الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي وغيره.
2- عطف على قوله : « فلا بدّ من حمل تلك الأخبار ».

وبالجملة ، فعلمنا بصدور الأخبار المخالفة لا على وجه التباين واعتبارها إنّما يمنعنا عن الأخذ بظواهر هذه الأخبار لو سلّم ظهور صدق المخالفة على ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف القول بالوقف ، كما يظهر من الوافية حيث استند فيه إلى أنّ العامّ الكتابيّ غير ظاهر المراد والحجّيّة ، وكذا الخبر المخالف لعموم الكتاب مشكوك في اعتباره (1).

ووجه الضعف : أنّه لا وجه لكلتا مقدّمتيه.

أمّا الأولى : فلأنّ أصالة الحقيقة في الكتاب إنّما يجب الأخذ بها ما لم يدلّ دليل معتبر على خلافها ، والمفروض في كلامه عدم اعتبار الخبر في قبالها. وأمّا الثانية : فلأنّه لا وجه للشكّ في اعتبار الخبر في قبال العامّ ، كيف! وهو الذي حاول إثبات حجّيّة الخبر بما أشرنا إليه فيما عوّلنا عليه في إثبات الجواز : من أنّه لو لم يؤخذ الخبر لزم خروج الامور الثابتة بالكتاب عن حقيقتها. وهذا أيضا من الشواهد على أنّ النزاع في المسألة إنّما هو مبنيّ على غفلة عمّا هو مركوز في أذهانهم وجرى عليه ديدنهم في الفقه.

وأمّا حجّة المفصّل وجوابه فيظهر ممّا ذكرنا ، فتدبّر. واللّه الهادي.

ص: 226


1- الوافية : 136 و 140.

هداية

اشارة

الأقرب أنّ الخاصّ المخالف لحكم العامّ إنّما هو بيان له تارة وناسخ له أخرى ، وفاقا لجلّ المحقّقين بل كلّهم.

وتفصيل المقام بعد تمهيد ، وهو أنّ عقد هذه المسألة ليس لبيان أظهريّة الخاصّ عن العام ، فإنّ ذلك موكول إلى بحث تعارض الأحوال ، وقد قرّر فيه : أنّ التخصيص لكونه أشيع أرجع على أنحاء التصرّفات في الخاصّ نوعا ، فإعادته في المقام تكرار لا طائل تحته ، بل المبحوث عنه في المقام هو أنّ الخاصّ هل هو بيان أو ناسخ للعامّ؟ وأنّه في أي مقام يحكم بكونه بيانا؟

ومن ذلك يظهر : أنّه لا وجه لتخصيص محلّ الكلام بالعامّ والخاصّ المطلقين ، إذ بعد ما صرّح جماعة بجريانه في العامّين من وجه - كالتفتازاني (1) وصاحب المعالم (2) والفاضل الشيرواني (3) - أنّ ملاك البحث موجود فيه أيضا ، فإنّه لو فرض تأييد أحد العامّين بما يوجب التقديم من دعوى ظهور ناش عن قلّة الأفراد - كما قيل (4) - مثلا ، فيمكن أن ينازع فيه أنّ ذلك المقدّم هل هو بيان أو ناسخ؟ وبعد وجود الملاك وتصريح جماعة بالشمول لا وجه للتخصيص ، مع أنّه ليس في كلامهم عنوان آخر له.

ص: 227


1- لم نعثر عليه.
2- انظر المعالم ( الحجرية ) : 149 ، ونسبه إليه المحقق الشيرواني في الحاشية.
3- انظر حاشية المعالم ( الحجرية ) : 149.
4- لم نقف عليه.

وتوهّم جماعة اختصاص النزاع بالمطلقين (1). ولعلّ الوجه فيه عدم تعيين المخصّص فيهما ، أو عدم تصوّر بعض الأقسام الآتية كتقديم الخاصّ ، إذ لكلّ منهما جهة عموم ، إلاّ أنّ ذلك لا ينهض له وجها ، إذ عدم التعيين لا ينافي ما ذكرنا : من أنّه عند التعيين هل هو بيان أو ناسخ؟ كما أنّ عدم تصوّر بعض الأقسام لا يمنع عن النزاع في القسم المتصوّر. نعم ، شاع بينهم التمثيل بالمطلقين وهو لا يقاوم التصريح ، مضافا إلى تمثيل الحاجبي والعضدي (2) - كما حكي - بآيتي عدّة الحامل والمتوفّى عنها زوجها ، مع كون النسبة بينهما عموما من وجه.

ثمّ إنّ الكلام في المقام ليس من حيث السند ، فلو كان العامّ قطعيّا يجري فيه الكلام كما لو كان ظنّيّا ، إذ المبحوث عنه - كما عرفت - لا يفرق فيه بالقطعيّة والظنّية بعد فرض اعتبار الظنّي من غير فرق بين أن يكون اعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد أو الظنّ ، لكونه مقيّدا بعدم ورود ظنّ على خلافه ، كما قرّر في محلّه.

وإذ قد تقرّر ذلك ، فاعلم أنّ الصور المتصوّرة كثيرة ، بل انتهت - كما عن الوافية (3) - إلى ما يقرب من ألفين ، بل يمكن تصوّرها بأضعاف ما ذكره ، إلاّ أنّ الحكم لا يختلف في كثيرها فنحن نقتصر على ما هو المعتدّ بها منها.

فنقول : إنّ العامّ والخاصّ إذا تنافيا ظاهرا ، إمّا يعلم اقترانهما - كما إذا صدرا عن معصومين في زمان واحد - أو افتراقهما ، أو يجهل ذلك إمّا مطلقا أو في أحدهما ، فهذه صور ستّة.

ص: 228


1- منهم المحقق القمي في القوانين 1 : 314 ، وسلطان العلماء في حاشيته على المعالم : 149 ، والنراقي في المناهج : 117 ، وغيرهم.
2- راجع المختصر للحاجبي وشرحه للعضدي : 271.
3- الوافية : 134.

الأولى : أن يعلم اقترانهما ، فلا بدّ من حمله على البيان ، ولا وجه لاحتمال النسخ ، لبطلانه قبل حضور وقت العمل ، وفهم العرف الراجع إلى تقديم ما هو صالح من الدليل على أصالة الحقيقة في العامّ لو كان التخصيص مجازا أو ما يضارعه على تقدير عدمه. ولعلّ الحكم في هذه الصورة وفاقيّ ، إلاّ عن شاذّ لا يعتنى به ، من غير فرق في ذلك بين العامّين من وجه وبين غيره فيما لو اقترن أحدهما بما يوجب تخصيصه بالآخر ، كما هو ظاهر.

الثانية : أن يعلم تقدّم العامّ على الخاصّ ، فعلى تقدير ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ فلا بدّ من حمله على النسخ إذا أحرزنا ورود العامّ في مقام بيان الحكم الواقعي. وأمّا إذا شكّ فيه ففيه إشكال ستعرفه. والوجه فيه : أنّه لولاه لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. هذا إذا كانا من المطلقين.

وأمّا في العامّين من وجه : فلا بدّ من حمل العامّ الأوّل على كونه مخصّصا للثاني ، إذ ورود الثاني إنّما هو بعد حضور وقت العمل بالأوّل ، فيكون نصّا في مورد التعارض ، وذلك يصير قرينة على إرادة التخصيص في الثاني ، من غير فرق بين العمل بالعامّ وعدمه. ولو ورد الخاصّ قبل حضور وقت العمل فعلى تقدير جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا إشكال في التخصيص ، لما عرفت في الأوّل. وعلى تقدير عدمه فكذلك ، إلاّ على القول بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل. ولعلّه لم يذهب من أرباب المقالة الأولى إلى الجواز أحد ، كما لا يخفى. هذا في المطلقين.

وأمّا في العامّين من وجه : فعلى القول بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، فلا بدّ من تخصيص الثاني بالأوّل ، للزوم التأخير لولاه. وعلى الجواز فيجوز تخصيص كلّ ما اقترن بما يوجبه بالآخر من غير فرق بينهما ، ولا وجه للنسخ فيهما إلاّ على قول من يجوّزه قبل الحضور.

ص: 229

الثالثة : أن يعلم تقدّم الخاصّ على العامّ فيبنى على تخصيص العامّ بالخاصّ ، من غير فرق بين ورود العامّ قبل حضور وقت العمل بالخاصّ أو بعده.

أمّا الأوّل : فظاهر على القول بعدم جواز النسخ قبل الوقت ، وعلى الجواز فلا بدّ من القول بأنّ التكليف ابتلائيّ ، وهو خلاف ظواهر أدلّة التكليف ، فالراجح حملها على التكليف الحقيقي ، وهو يلازم التخصيص ويساعده فهم العرف وغلبة التخصيص.

وقد يستدلّ على المطلب بأنّ تقدّم العامّ المحتمل على الخاصّ القطعيّ قطعي البطلان (1).

وفيه : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا اريد عدم التخصيص مع عدم النسخ ، وهو غير محلّ الكلام. وأمّا عند احتماله - كما هو المفروض في المقام - فليس من تقديم المحتمل على القطعيّ ، لرجوع النسخ أيضا إلى التخصيص في العموم الزماني المستفاد من الدليل أو من خارج قابل للتخصيص.

ونقل عن بعضهم القول بالنسخ في المقام محتجّا بأنّه لولاه لزم تقديم البيان وهو محال والشرطيّة ظاهرة (2).

والجواب : أنّ تقديم البيان على أنّه بيان محال كتقديم ما له البيان أيضا. وأمّا تقديم ذات البيان فلا ضير فيه ، كما في ذات ما له البيان أيضا. والوجه فيه : أنّ البيانيّة من الأمور المنتزعة من الشيء باعتبار إضافته إلى شيء آخر ، ويجب

ص: 230


1- المستدل هو صاحب المعالم في حاشيته عليه كما نسب ذلك إليه أيضا في القوانين 1 : 319 ، وحاشية الشيرواني المطبوعة مع المعالم ( الحجرية ) : 150.
2- نقله المحقق في المعارج : 98 عن الشيخ ، راجع العدة 1 : 393.

تقارنهما في هذه الملاحظة وإن تقدّم أحدهما على الآخر بحسب الذات ، فالحاكم في مثل المقام هو رجحان أحد التصرّفين على الآخر ، وقد عرفت أنّ التخصيص أرجح من غيره. ومن هنا يظهر فساد القول بالوقف في المقام.

وأمّا الثاني : فالأمر فيه أيضا ظاهر ممّا مرّ ، إلاّ أنّ القائل بالنسخ في المقام الأوّل يقول به في الثاني بطريق أولى.

الرابعة : أن يجهل التقارن والتقدّم ، سواء علم تاريخ أحدهما أو لم يعلم ، والظاهر هو التخصيص في جميع الصور ؛ لأنّ الواقع لا يخلو عن إحدى الصور المتقدّمة ، وقد عرفت أنّ التخصيص هو الراجح فيها.

وينبغي التنبيه على أمور مهمّة :

الأوّل : أنّه يظهر الثمرة بين النسخ والتخصيص فيما إذا ورد مخصّصان مستوعبان للعامّ ، فعلى التخصيص يقع التعارض ، لاستهجان استيعاب التخصيص ، بخلاف النسخ ، ومثله ما إذا قلنا باستهجان تخصيص الأكثر وورد خاصّ مشتمل على حكم أكثر الأفراد ، فإنّه على النسخ لا ضير فيه ، بخلاف التخصيص. ومن موارد إمكان ظهور الثمرة ما إذا كان الخاصّ ظنّيّا والعامّ قطعيّا وقلنا بعدم جواز نسخ القطعيّ بالظنّي ، فإنّه يحمل على التخصيص ، فتأمّل.

الثاني : قد تقدّم في بعض الهدايات (1) أنّ تقدّم العامّ على الخاصّ لا يخلو عن إشكال ؛ لاستلزامه إمّا النسخ بعد انقطاع زمان الوحي والإجماع على خلافه ، وإمّا تأخير البيان عن وقت الحاجة التي اتّفقت كلمة أهل المعقول على بطلانه.

ص: 231


1- راجع الصفحة : 229.

والجواب عن ذلك ما أشرنا إليه في محلّه أيضا : من أنّ الخاصّ الوارد في كلام العسكري عليه السلام لعلّه كاشف عن خاصّ مقارن للعامّ الوارد في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو أنّ العموم حكم ظاهريّ لمن لم يبلغه حكمه الخاصّ ، وإنّما أخفاه من أظهر العامّ لحكمة داعية إلى ذلك. ويؤيّده القطع بأنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بلّغها النبيّ صلى اللّه عليه وآله على وجه التدريج ، كما يقضي به العادة أيضا.

الثالث : قد عرفت عدم جريان النسخ إلاّ في مورد يكون فيه عموم زمانيّ قابل للتخصيص ، إذ بدونه لا وجه لاحتمال النسخ ، سواء لم يكن هناك ما يتعلّق بحكم الزمان أو كان ولم يكن قابلا للتخصيص ، كما إذا كان من الأدلّة اللبيّة. وعلى هذا يكون موارد احتمال النسخ في غاية القلّة ، فإنّ اقتران الخطابات بعموم زمانيّ قليل جدّا. وقد تبيّن وجه العموم من وجوه : كعموم ما دلّ على أنّ « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (1) وكظهور الأدلّة الخاصّة مثل قولك : « الكلب نجس » في العموم ، وكظهور تأسيس الشرائع والأحكام في العموم ، كاستصحاب الأحكام ، وكإطلاق الأوامر بالنسبة إلى الأزمان.

وفيه : أنّ الأوّل إنّما هو في بيان عدم انقراض أصل الشريعة ، ولا ينافي ذلك نسخ بعض أحكامها ، كما يظهر من موارد ثبوت النسخ ، فإنّها لا تنافي الأخبار المذكورة. والثاني كالثالث ، ولا دلالة فيهما على العموم ، وعلى تقديره فلا يقبل التخصيص. وأمّا الاستصحاب فهو ممّا لا مساس له بالمقام. وإطلاق الأوامر لا يجدي ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه على تقدير وجود العامّ الزماني فمرجع البحث إلى تعارض الظاهرين.

ص: 232


1- الكافي 1 : 58 ، الحديث 19.

الرابع : قد اشتهر عندهم أنّه ربّ عامّ يقدّم على الخاصّ وهو بظاهره ينافي ما قرّرنا : من أنّ أصالة الحقيقة في العامّ إنّما يعتمد عليها ما لم يقم دليل على خلافها ، والمفروض أنّ الخاصّ إذا بلغ إلى أدنى مراتب الاعتبار يكون دليلا ، فيجب تقديمه على العامّ ولو كان في أعلى مدارج الاعتبار ، فلا بدّ أن يكون ذلك مقصورا فيما إذا كان الخاصّ موهونا من جهة السند ، كما إذا كان ممّا قد أعرض عنه المشهور بناء على أنّ ذلك من الموهنات للرواية ، من غير فرق في ذلك بين تعدّد العام وانفراده ، فإنّ نسبة الخاصّ إلى جميع العمومات المخالفة نسبة واحدة ؛ ولذا استقرّ بناؤهم على التخصيص في موارد تعدّده ، مثل استقراره في مورد انفراده كما يظهر بالتتبّع.

نعم ، قد يظهر لهذه القاعدة مورد آخر ، وهو ما إذا كان العامّ غير قابل للتخصيص ، لوروده في مقام الامتنان أو مثل ذلك من الامور التي يستنكر معها التخصيص ، فإنّ العامّ فيها يقدّم على الخاصّ ، بل لعلّه هو أغلب موارد استعمال تلك القضيّة بل كلّها ، نظرا إلى أنّ الخاصّ إذا لم يكن حجّة لا وجه للقول بتقدّم العامّ عليه ، إذ على تقدير عدم العامّ أيضا يجب الرجوع إلى دليل آخر غير الخاصّ ، كما لا يخفى.

الخامس : قد يظهر من بعضهم (1) تقديم العامّ على الخاصّ فيما إذا كان العامّ مقرونا بشيء من المرجّحات التي تراعى في السند ، كموافقته للكتاب أو مخالفته للعامّة ، ونحو ذلك.

ص: 233


1- نسب في هامش القوانين إلى السلطان ولكن لم نقف عليه في حاشيته على المعالم والموجود فيها عكس ذلك. انظر القوانين 1 : 315، والمعالم : 151.

ولعلّه خلط بينهما ، فإنّ المقام لا بدّ فيه من مراعاة المرجّحات المعمولة في الدلالة. وأمّا المرجّح السندي فلا ينبغي استعماله فيه ، إذ إعمال تلك المرجّحات إنّما يؤكّد الظنّ بصدور العامّ وهو لا يؤثّر فيما هو محلّ التعارض ، كيف! ولو كان قطعيّا أيضا لا يجدي ، لما عرفت من تخصيص الكتاب بالخبر الواحد. ويوميك إلى ذلك ملاحظة كلمات العلماء في الفروع والاصول ، فإنّه لم يعهد منهم تقديم الرواية المشتملة على العموم على الخاصّ بواسطة أعدليّة راويها ، إلى غير ذلك من مراتب الترجيح ، وما ذكرنا من الوضوح بمكان.

والسرّ في ذلك ما قرّرنا في بحث التعارض : من أنّ العرف بعد اطّلاعهم على ما فيه من التنافي لا يلتفتون إلى السند ما لم يعجزوا عن الدلالة ، وبعد عدم الالتفات إلى السند لا معنى للتعويل على التراجيح المعمولة في السند ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ومن هنا يظهر أنّه لا يصلح ذلك وجها في دفع الإشكال المذكور في الأمر الواقع ، كما عساه يتوهّم ، فتدبّر.

السادس : زعم بعض الفضلاء أنّ العامّ إذا خصّ بمخصّص ثمّ طرأ ورود مخصّص آخر له ينقلب النسبة بين العام والخاصّ الثاني عموما من وجه ؛ لأنّ التخصيص الأوّل تغيّر في موضوع العامّ وبذلك يحصل في الخاص جهة عموم (1).

وقد نبهنا على فساد ذلك مرارا ، فإنّ المخصّصات متساوية الأقدام بالنسبة إلى العامّ في مراد اللافظ وإن تقدّم أحدهما على الآخر من حيث وجود الكاشف عنه ؛ مضافا إلى أنّ الحكم بالتقديم أيضا في الأغلب بالنسبة إلى الروايات

ص: 234


1- مناهج الأحكام : 317.

في غاية الصعوبة ، لعدم العلم بالتاريخ. والعلم بورود المخصّص والاطّلاع عليه مقدّما على الآخر ممّا لا ينبغي أن يصغى إلى احتمال تأثيره في المقام ، كما لا يخفى.

السابع : إذا ورد عامّ كتابي ووافقه خاصّ آخر ثمّ عارضه خاصّ مقترن بمرجّح آخر - كمخالفته للعامّة مثلا - فهل العبرة بالخاصّ الموافق للكتاب أو بالخاص المعارض؟ الأقرب الثاني ، لدوران الأمر بين الأخذ بموافق الكتاب وطرح الخاص المخالف لا من ترجيح ، وبين الأخذ بالمخالف والتخصيص وطرح الخاصّ الموافق بواسطة ما يوجب ترجيح معارضه عليه ، ولا ريب أنّ الثاني أولى ، إذ به يرتفع موضوع الموافقة ، فلا مرجّح في البين. بخلاف ما لو قدّم الخاصّ الموافق ، فإنّ لازمه وجود موضوع المرجّح الآخر وعدم ثبوت الحكم له (1) وذلك نظير ما قلنا في ترجيح الأصل الحاكم في دخوله تحت دليله على الأصل المحكوم فيه.

لا يقال : إنّ موافقة الآخر للكتاب مرجّح فيتعارض المرجّحان.

لأنّا نقول : إنّ وجود الموافقة فرع لعدم اعتبار المخالف وعدم اعتباره فرع وجود الموافقة وهو دور صريح ، فلا بدّ من تقديم الخبر المرجّح بغير الموافقة. والسرّ فيه : هو ما قدّمنا في مباحث تخصيص الكتاب بالخبر الواحد : من أنّ الموافقة والمخالفة لا يراد بهما موافقة الظاهر ومخالفته من الكتاب ، وقد نبّهنا على ذلك في باب التعارض (2) أيضا.

ص: 235


1- في ( ع ) : « به ».
2- لم يطبع بحث التعارض للمؤلف في كتاب مطارح الأنظار.

الثامن : قد عرفت في بعض الصور المتقدّمة (1) أنّ الخاصّ إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ فهو مخصّص بناء على عدم جواز النسخ حينئذ ، وإن ورد بعده فهو ناسخ بناء على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولو شكّ في وروده قبل الحضور أو بعده ، فإمّا أن يجهل زمان العمل بالعامّ وورود الخاص كليهما ، أو يعلم أحدهما دون الآخر. فعلى الأوّل : لا وجه لتعيين أحد المجهولين بأصالة التأخّر ، إلاّ أنّه مع ذلك يحكم بالتخصيص للغلبة. وعلى الثاني : فإن علم زمان العمل بالعامّ وشكّ في ورود الخاصّ قبله حتّى يكون مخصّصا أو بعده حتى يكون ناسخا ، فبأصالة تأخّر ورود الحادث يحكم بكونه واردا بعد زمان العمل ويحكم بكونه ناسخا.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذلك من الاصول التي لا تعويل عليها ؛ لأنّ الناسخيّة ليست من أحكام عدم ذلك الحادث في زمان وجود الحادث الآخر ، بل إنّما هو من أحكام تأخّره عنه. وهذا وإن كان من لوازم ذلك العدم ، إلاّ أنّه لازم عقليّ ولا دليل على ترتّبه على الملزوم بالاستصحاب ، كما تقرّر.

ولا ينافي ذلك ما قرّرنا في محلّه من اعتبار هذه الاصول فيما يتعلّق بمراد الألفاظ وأوضاعها ، فإنّ ذلك ليس منها ، فتأمّل.

وإن علم زمان ورود الخاصّ وشكّ في حضور وقت العمل بالعامّ ، فبأصالة التأخّر أيضا يمكن القول بالتخصيص ، إلاّ أنّ فيه أيضا ما عرفت ، مع ما فيه من التأمّل.

التاسع : ذكر بعض الأجلّة (2) في آخر المبحث تتمة ، وحاصلها أنّه إذا فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما يخالف العامّ ، فلا إشكال في تخصيصه بالنسبة إليه. وأمّا بالنسبة إلى

ص: 236


1- تقدم في الصفحة : 229.
2- وهو صاحب الفصول قدس سره.

غيره هل يقال بالتخصيص ، لعموم التأسّي (1) أو لا؟ قولان ، ثمّ اختار العدم نظرا إلى أنّ عموم التأسّي يعارض العامّ المخصّص بفعله صلى اللّه عليه وآله تعارض العموم من وجه ، والمرجع فيه بعد عدم المرجح هو الإجمال والتوقّف فلا تخصيص. ثمّ قال : وما يقال : من أنّ المخصّص لعموم العامّ ليس عموم التأسّي وحده بل هو مع الفعل وهو أقوى ، ففيه : أنّ التنافي بين العامّين إنّما هو بسبب الفعل ، فلا اختصاص له بأحدهما ، إذ كما يمكن تخصيص العامّ بعموم التأسّي مع الفعل كذلك يمكن تخصيص عموم التأسّي بعموم العامّ مع الفعل.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ العبرة في مقام التعارض بنفس الدليل لا بدليل الدليل وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ، إذ مرجع حجية كلّ دليل إلى أدلة عامة ، والفعل هنا خاص وإن كان دليل حجّيّته عامّا ، فيجب تخصيص العامّ به.

ثمّ أجاب بقوله : إنّما يتمّ ما ذكر إذا كان الخاصّ دالاّ في نفسه وإلاّ كان التعارض بين دلالتي العامّين كما في المقام ، فإنّ الفعل مشخّص لعنوان أحد العامّين ، وليس بدالّ (2) ، انتهى ما أردنا نقله.

ومواقع النظر في كلامه غير خفيّة.

أمّا أوّلا : فلأنّ ما يظهر منه في جواب ما أورده على نفسه من تسليم كون عمومات التأسّي دليل الدليل ممّا لا وجه له ؛ لأنّ دليل الدليل هو ما يتوقّف عليه اعتباره بعد أن كان له دلالة كآية النبأ (3) بالنسبة إلى قول العادل : يجب عليك كذا ، وعمومات التأسّي على ذلك المنوال بالنسبة إلى الفعل ، فإنّ الفعل من موارد ظهور

ص: 237


1- مثل الآية : 21 من سورة الأحزاب.
2- الفصول : 217.
3- الحجرات : 6.

ذلك العموم ومظهر وروده كما لعلّه (1) يشعر به قوله : « فإنّ الفعل مشخّص لعنوان أحد العامّين » وبعبارة ظاهرة : أنّ عموم التأسّي إنّما تكفّل حكم موارد فعل النبي صلى اللّه عليه وآله فيكون موارد الفعل موضوعا لدليل التأسّي ، فعمومه دليل لنفس التأسّي والمتابعة ، لا للفعل ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما يظهر منه أيضا في الجواب من إمكان معارضة دليل الدليل والدليل الآخر إذا لم يكن بنفسه دالاّ ، ظاهر الفساد ؛ لأنّ دليل الدليل لا يرتبط بالدليل الآخر بنفسه حتّى يتصوّر فيه المعارضة. نعم ، يمكن المعارضة بين دليل الدليلين ، وذلك من الأمور الظاهرة. ويمكن توجيه كلامه على وجه لا يرد عليه ما أوردنا ، فتدبّر (2).

ص: 238


1- لم يرد « لعلّه » في ( ع ).
2- في ( ع ) و ( ط ) ما يلي : وما نقلنا في المقام إنّما هو من نسخة لاحظها نفسه ، وإلاّ ففي بعض النسخ ما لا يليق انتسابه به. والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المطلق والمقيّد

اشارة

ص: 239

ص: 240

وتنقيح البحث فيه بطيّ هدايات :

هداية

عرّف المطلق بأنّه : ما دلّ على شايع في جنسه. وفسّره غير واحد منهم بأنّه : حصّة محتملة لحصص كثيرة ممّا يندرج تحت أمر مشترك (1). والظاهر أنّه تفسير للمدلول.

فالمراد بالموصولة بقرينة الصلة - مضافا إلى وقوعه في مباحث الألفاظ - هو اللفظ الموضوع والمراد ب- « الشائع » - على ما يظهر من التفسير - هو الكلّي المأخوذ باعتبار إضافته إلى قيد ما ، فإنّ ذلك هو المعهود من لفظ « الحصّة » وبذلك يخرج ما دل على الماهيّة الغير الملحوظة عن الحدّ ، فإنّها لم يلاحظ فيها الإضافة إلى شيء كاسم الجنس.

وأمّا احتمالها لحصص كثيرة فليس المراد منها الحصص التي هي في عرض الحصّة المفروضة كما هو ظاهر وإن كان قد يوهمه ظاهر التفسير ، بل المراد الحصص التي تلاحظ في تلك الحصّة المفروضة ويحتملها باعتبار

ص: 241


1- منهم صاحب المعالم في المعالم : 150 ، وصاحب الفصول في الفصول : 217 ، والعضدي في شرحه على المختصر : 284 ، ونسبه في ضوابط الأصول : 221 إلى المشهور ، وفي القوانين 1 : 321 إلى أكثر الأصوليّين.

إضافتها إلى قيد آخر غير ما فرض فيها ، والاحتمال ليس على وجه الشمول والاستغراق لجميع ما يحتمله تلك الحصّة كما يشعر به لفظ « الشيوع » وإن كان التفسير ممّا لا يأباه كما لا يخفى.

وبذلك خرج العامّ ، فانّه يدلّ على الحصّة المستغرقة لجميع ما يحتملها (1) من الحصص. ولكنّه يعمّ احتمال النكرة التي لا تصدق دفعة على فردين لتقيدها بالفرد الواحد (2) واحتمال الطبيعة الملحوظة مع شيء ما كقولك : « رقبة مؤمنة » وأمثالها. بل ظاهر التفسير يشكل مطابقته لاحتمال النكرة.

وبذلك يظهر شمول العدّ لهذا القسم من المطلق أيضا ، كما يظهر به خروج الأعلام الشخصيّة من الحدّ ، لعدم الاحتمال فيها إلاّ لمعيّن خاصّ (3) ؛ ويلحق به المعهود الخارجي.

وأمّا المعهود الذهني : فهو يلحق بالنكرة.

وأمّا المعرّف بلام الجنس المأخوذ معه إضافته إلى بعض قيوده كالرقبة المؤمنة فلم يدلّ على خروجه عن الحدّ شيء ، سيّما بعد ملاحظة التفسير.

وأمّا المبهمات فهي خارجة عن الحدّ ، إمّا من جهة العموم المستفاد من بعضها كما في الموصولات ، وإمّا من جهة أنّ الشيوع فيها ليس في جنس ، إذ مداليلها هي الذوات الخارجية من دون أن يكون ملحوظا في كونها موضوعا لها كونها معنونة بعنوان وإن كان ملاحظة العنوان في نفس الوضع ممّا لا مناص عنه.

ص: 242


1- في ( ق ) : بدل « ما يحتملها » : « ما تحته ».
2- في ( ش ) : « بفرد واحد ».
3- في ( ش ) : « المعيّن خاصّة ».

وبعبارة ظاهرة : أنّ الواضع لمّا حاول وضع « هذا » لاحظ المفرد المذكّر العاقل وجعل ذلك اللفظ تعبيرا عن ذوات ذلك العنوان ، من دون أن يكون ذلك العنوان ملحوظا في الموضوع له ، كما يظهر بملاحظة مرادفه بالفارسيّة ، فالشيوع فيها ليس في أمر مشترك معبّر عنه بالجنس.

ومنه يظهر خروج « من » و « ما » الاستفهاميّتين أيضا وغيرهما من أدوات الاستفهام ، فإنّ تلك الألفاظ لا يراد منها إلاّ مجرّد إراءة الذات الخارجية على وجه الاستفهام ، من دون دلالته (1) على كونها حصّة من الماهية ومعنونا بعنوان الجنس والأمر المشترك.

والحاصل : أنّ كلّ ما هو من قبيل عامّ الوضع وخاصّ الموضوع له لا دلالة فيه على عنوان وإن لوحظ في وضعه العنوان آلة لملاحظة الذوات ، فإنّ الموضوع له حقيقة هي الذوات الخارجيّة. نعم ، ملاحظة العنوان في الوضع إنّما يجعل (2) في عدم التجاوز (3) عن مصاديقه والذوات الصادقة عليها ذلك العنوان الملحوظ في الوضع (4).

وممّا ذكرنا يعرف أنّه لا وجه لما زعمه (5) بعض الأجلّة (6) من أنّ « من » و « ما » الاستفهاميّتين يردان على طرد الحدّ ، لدلالتهما على معنى شائع في أفراد

ص: 243


1- كذا ، والمناسب : دلالتها.
2- كذا ، والظاهر أنّه مصحّف : يجدي.
3- في ( ق ) : « عدم تجاوزه ».
4- من قوله : « وبعبارة ظاهرة ... » إلى هنا لم يرد في ( ش ).
5- في ( ق ) : « لما ذكره ».
6- هو الأصفهاني في الفصول : 218.

جنسه أعني جنس (1) العاقل (2) وإنّما تكلّف لإخراج مثل ذلك من ألفاظ العموم البدلي بزيادة قوله : « شيوعا حكميّا » فإنّ الشيوع فيهما وضعيّ.

مع أنّ ذلك كلّه على مذاق من زعم دلالتهما على العموم البدلي ، وهو مخالف لما ذهب إليه جمهور المحقّقين من الأصوليّين وأرباب الأدب من دلالتهما على العموم الاستغراقي ، كما يدلّ عليه اطّراد صحّة الاستثناء منهما ، كما يقال : « من في الدار إلاّ زيد » أو « أيّهم جاء إلاّ زيد ».

والإنصاف : أنّ مجرّد صحّة الاستثناء لا دليل فيها على العموم الشمولي في اللفظ ، ألا ترى أنّه يصحّ الاستثناء من قولك : « أكرم رجلا إلاّ زيدا » على ما هو مفروض الصحّة في قولك : « من في الدار إلاّ زيد » إذ الوجه فيه بعد ظهور احتياج الاستثناء وافتقاره إلى الشمول وإلاّ لم يعقل الإخراج - كما هو معتبر في مفهومه - هو أنّ مرجع الاستثناء حقيقة في الكلام المذكور إنّما هو عن حكم عامّ شموليّ ، وهو جواز قيام كلّ فرد من أفراد الرجل مقام الآخر في مورد الامتثال المفهوم من الكلام ، وذلك ظاهر بعد أدنى تأمّل ، فعمومه الشمولي إنّما هو متصوّر في أدوات الاستفهام بواسطة عمومه البدلي ، كما لا يخفى على من تأمّل (3).

ثمّ (4) إنّه لا ريب في كون الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافيّة ، فتارة يمكن اعتبار شيء على وجه الإطلاق كالرقبة المؤمنة بالنسبة إلى حصصها

ص: 244


1- في ( ش ) زيادة : « المذكّر ».
2- كذا ، ولعلّها بحاجة إلى إضافة : وغير العاقل.
3- من قوله : « مع أنّ ذلك ... » إلى هنا لم يرد في ( ش ).
4- في ( ش ) بدل « ثمّ » : « وبالجملة فاعلم ».

المفروضة فيها ، وأخرى على وجه التقييد كما إذا لوحظ نفس الرقبة ، فمن هذه الجهة هي خارجة عن الحد.

ولا فرق في التقييد بين أن يكون حاصلا من اللفظ كما في المثال المذكور ، وبين أن يكون مفهوما من غيره كما في المطلق المنصرف إلى فرد خاصّ (1) فإنّه باعتبار عدم احتماله لتمام حصصه المفروضة خارج عن الحدّ. ولا بأس به ، بل ولا بدّ من إخراجه ؛ لأنّه من المقيّد حقيقة.

ومن هنا تعرف فساد ما أورده بعض الأجلّة : من أنّ التفسير المذكور للحدّ يصدق على المطلق المقيد (2) ، إذ لا بأس به بل يجب المحافظة على دخوله في الحدّ.

كما تعرف فساد ما توهّمه بعضهم : من أنّ قيد « الجميع » في الحدّ الذي ذكره بعضهم (3) يوجب خروج المطلق المنصرف ، ولذا أسقطه عن الحدّ. وجه الفساد ما عرفته ؛ مضافا إلى أنّ إسقاطه غير مفيد إن اريد به الجميع ، وان اريد به الشيوع في الجملة فيصدق على المقيّد أيضا ، فتأمّل (4).

وعرّفه جماعة - منهم الشهيد (5) - بأنّه اللفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي (6) والمراد من الماهية أعمّ من الماهية الغير الملحوظة معها شيء كالحيوان

ص: 245


1- في ( ش ) : « الفرد الشائع ».
2- الفصول : 218.
3- لم نعثر عليه.
4- من قوله : « كما تعرف فساد ما توهّمه ... » إلى هنا لم يرد في ش.
5- لم يرد « الشهيد » في ش.
6- راجع نهاية الوصول ( مخطوط ) : 174 ، والذكرى 1 : 45 وفيه : وهو اللفظ الدالّ على الماهيّة لا بقيد ، وتمهيد القواعد : 222.

مثلا من دون ملاحظة لحوق فصل من فصوله له ، ومن الملحوظة معها شيء كالحيوان الصاهل [ و ] كالرقبة المؤمنة ، من غير فرق بين التعبير عنها بما يكشف عن تلك الماهيّة المركّبة على وجه الإجمال كالفرس في المثال المذكور أو على وجه التفصيل كما في المثال المذكور ، فيشمل الحدّ لما هو غير مقيّد أصلا ولما هو مقيّد لكنّه ملحوظ من جهة إطلاقه في حصصه وأفراده ، فإنّه يصدق عليه أيضا أنّه دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، ولا يوجب انحصار المطلق فيما لا تقييد فيه أصلا ، كما في جنس الأجناس ، إذ لا فرق قطعا بين الإجمال والتفصيل كما لا يخفى.

وأمّا الماهيّة الملحوظة مع التشخّص وإن كان على وجه الإبهام كما في النكرة ، فالظاهر عدم انطباق الحدّ عليها ، كما لعلّه ظاهر ، ولا يمكن إدراجها تحته إلاّ بتكلّف فاسد.

فالإنصاف : أنّ الحدّين كلاهما قاصران عن بيان ما هو المراد من المطلق ، كما يظهر من تضاعيف كلماتهم ومطاوي موارد إطلاقاتهم ، فإنّ الحدّ الأوّل لا يصدق على اللفظ الدالّ على الماهيّة المطلقة ، والثاني لا يصدق على النكرة ، مع أنّ القوم قد عاملوا مع كلّ واحدة منهما معاملة المطلق وأجروا عليهما أحكامه من غير فرق بينهما بوجه.

وقد يتخيّل زيادة قسم ثالث للمطلق وهو الإطلاق المستفاد من الأوامر عند الشكّ في كونها مشروطة أو مطلقة. وهو وهم ، لما قرّرنا من أنّه راجع إلى إطلاق المادّة وعلى تقدير عدمه فلم يعلم وجه المغايرة ، كما هو ظاهر.

ولا يبعد إحالة التحديد إلى ما هو المستفاد من لفظ « المطلق » لغة ، فإنّه فيها : ما ارسل عنانه ، فيشمل الماهية المطلقة والنكرة. والمقيد بخلافه ،

ص: 246

فهو ما لم يرسل عنانه ، سواء كان مطلقا ومرسلا ثم لحقه التقييد فاخذ عنانه وقلّ انتشاره. مثل « رقبة مؤمنة » لا من حيث إطلاقه وإرساله ، أو لم يكن مرسلا من أوّل الأمر كالأعلام الشخصيّة ونحوها ، ولكن إطلاق المقيّد عليها من قبيل « ضيّق فم الركيّة » وهذا الاستعمال في غاية الشيوع بينهم.

ولا يرد على المطلق أسماء العدد ، فإنّها لا إرسال فيها كما هو ظاهر ، واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.

ص: 247

ص: 248

هداية

اشارة

الحقّ - كما عليه جماعة من أرباب التحقيق - أنّ التقييد لا يوجب مجازا في المطلق من جهته ، وأوّل من صرّح بذلك [ من أئمّة الفنّ على ما اطّلعت عليه هو ](1) السيّد السلطان (2) [ وإن كان يظهر ذلك من جماعة من المحقّقين في غير الفنّ ، كما لا يخفى على المتدرّب ](3).

وذهب بعضهم (4) إلى أنّه مجاز بل نسب إلى المشهور (5). ولا أظنّ صدق النسبة.

وفصّل ثالث بين التقييد بالمتّصل فاختار ما اخترناه ، وبين التقييد المنفصل فذهب إلى أنّه مجاز (6).

وتحقيق المقام موقوف على تمهيد ، وهو أنّ الماهيّة يمكن اعتبارها على وجوه مختلفة :

ص: 249


1- لم يرد في ( ش ).
2- في ( ش ) : « سلطان المحقّقين » ، وراجع لما صرّح به حاشيته المطبوعة في هامش المعالم : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين.
3- لم يرد في ( ش ).
4- ذهب إليه المحقّق القمي في القوانين 1 : 325.
5- لم نعثر عليه.
6- ذهب إلى هذا التفصيل القزويني في ضوابط الاصول : 225 - 326.

فتارة : تعتبر على وجه التقييد بشيء خاصّ وقيد مخصوص ، سواء كان ذلك القيد ممّا يقتضي حصرها في شيء خاصّ كما في ماهيّة الإنسان الملحوظ معها خصوصيّة زيد على وجه لا يمكن التعدّي عنه ، أو كان ممّا يقتضي عدم حصرها في شيء خاصّ مثل ما يلحق الإنسان من الاعتبار الموجب لكفاية الإكرام لكلّ فرد منه في مقام الامتثال لو تعلّق الأمر بإكرامه ، ولا ريب أنّ ذلك اعتبار زائد على نفس المعنى ولا يلازمه دائما ، لجواز انفكاكه عن الماهيّة وهذا هو المعبّر عندهم بالماهيّة بشرط شيء.

وأخرى : تعتبر على وجه عدم التقييد (1) وهي الموسومة عندهم بالماهيّة بشرط لا ، وهذه ممّا لا يتحقّق لها حكم عمليّ ، لعدم إمكان تحقّقها إلاّ في الذهن إن كان القيد الملحوظ عدمه فيها هو الوجود أو ما يلازمه.

وثالثة : تلاحظ على وجه الإرسال وعدم ملاحظة شيء معها من أمر وجودي أو عدمي ، فهي في هذه المرتبة ليست إلاّ هي ويمكن حذف جميع ما عداها وسلبها عنها ، كما أنّها في هذه المرتبة يحمل عليها الأضداد ، وهي الموسومة عنده بالماهيّة لا بشرط شيء [ معها ](2) والتي يرتفع عنها النقيضان ، بمعنى عدم أخذهما فيها ، كما هو (3) الموضوع لهما أيضا من دون حاجة لأن يلاحظ معها قيد في صحة حمل الأضداد أو المتناقضين عليها ، كيف! وتلك القيود لا بدّ من رجوعها إلى الأضداد ، وهي ثابتة لها من دون

ص: 250


1- كذا ، والظاهر : التقييد بالعدم.
2- من ( ش ).
3- كذا ، والظاهر : « هي » لرجوع الضمير إلى الماهيّة ، وإلاّ فلا معنى للعبارة.

مدخليّة قيد دفعا للتسلسل. ولا فرق بين هذا القسم والمقسم إلاّ بمجرّد الاعتبار والملاحظة ، على وجه حرّرناه في غير المقام.

وملخّصه : أنّ القسم يمايز المقسم بالالتفات إلى أنّه في تلك الحالة كذلك ، وهو غير ملتفت به في المقسم وإن كان هو أيضا كذلك. وما ذكرنا إنّما يجري بالنسبة إلى جميع القيود التي يمكن اعتوارها على أمر سواء كان ذلك الأمر ممّا قد لوحظ معه شيء آخر غير ما فرض كونه لا بشرط بالنسبة إليه أو لا.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ اللفظ المطلق بكلا قسميه إنّما هو موضوع للمعنى اللابشرط الذي لم يلاحظ فيه وجود القيد وعدمه من القيود التي يمكن لحوقها له ، سواء كان ماهيّة غير مقيّدة بفرد كما هو مقتضى التحديد الثاني أو نكرة ؛ لأنّ المفروض فيها أيضا إمكان اعتوار القيود المعيّنة للتشخّص المبهم المأخوذ فيها ، فالموضوع له هو نفس المعنى الذي قد يكون ذلك المعنى واحدا وقد يكون هو بعينه (1) في عالم نفس المعنى كثيرا ، وقد يكون أبيض حال كونه أسود ... إلى غير ذلك.

ولا ريب في أنّ المعنى بعد ما كان على هذا الوجه لا يعقل أن يوجب التقييد فيه اختلافا ، وبعد عدم اختلافه في جميع مراتب تقلّباته وأنحاء ظهوره ومراتب وجوده لا يعقل أن يكون التقييد مجازا (2) ؛ لأنّه هو بعينه في جميع مظاهره وأطواره وشئونه ، ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع.

ص: 251


1- في ( ق ) : « بنفسه ».
2- في ( ش ) : « أن يوجب التقييد فيه مجازا ».

فالماهيّة في هذه الملاحظة ملحوظة بشرط شيء ، لما أشرنا إليه : من أنّ الشيء المشروط به أعمّ من ذلك ومن غيره ، ولذلك تكون القضيّة التي اعتبر موضوعها على هذا الوجه من المحصورة في وجه.

وبالجملة ، فمتى اعتبر مع نفس المعنى أمر غير ما هو مأخوذ فيه في نفسه فهو من أطوار ذلك المعنى ، سواء كان ذلك الأمر هو اعتبار الوجود الذهني فيه أو الخارجي أو اعتبار آخر غيرهما ، وفي جميع هذه الأطوار نفس المعنى محفوظ لا تبدّل ولا تغيّر فيه بوجه ، وإنّما المتبدّل وجوه المعنى ، كما هو ظاهر.

وإلى ما ذكرنا يشير السيّد المتقدّم بقوله : « إنّه يمكن العمل بالمطلق والمقيّد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيّد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق ، فإنّ مدلول المطلق ليس صحّة العمل بأي فرد كان حتّى ينافي مدلول المقيّد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد بل المقيّد في الواقع ، ألا ترى أنّه معروض للقيد ، كقولنا : رقبة مؤمنة ، وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق ، مع أنّه لا يصلح لأي رقبة كانت ، فظهر : أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك ، وإلاّ لم يتخلّف عنه » انتهى (1).

قوله : « فإنّ مدلول المطلق ليس ... » والوجه فيه ما عرفت : من أنّ هذه الملاحظة من أطوار المعنى وشئونه ، ومدلول اللفظ ليس إلاّ نفس المعنى.

قوله : « بل هو أعم منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيّد » الوجه فيه هو ما عرفت : من أنّ اللفظ موضوع لنفس المعنى الذي هو المقسم في الأقسام

ص: 252


1- راجع حاشية السلطان المطبوعة في هامش المعالم : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين ... مع تفاوت في الألفاظ ، والعبارة مأخوذة من القوانين ، راجع القوانين 1 : 326.

المعتبرة في المعنى وإن كان أحد أقسامه وهو ما يصلح للتقييد المعبّر عنه بالماهيّة لا بشرط [ أيضا ](1) نفس ذلك المعنى من غير اختلاف بينهما إلاّ بمجرّد الاعتبار ، كما عرفت.

وكلمة « بل » في قوله : « بل المقيّد » ليست للإضراب كما زعمه بعض الأجلّة (2) بل هو للترقّي ، والوجه فيه هو : أنّ المقيّد هو ذلك المعنى القابل للتقييد الذي عرضه التقييد بواسطة تلك القابليّة ، وذلك لا يوجب خروج المعنى عمّا كان عليه بل هو هو ؛ ولذلك يصحّ الحمل عليه ، ولو لا أنّ اللفظ موضوع لنفس المعنى لم يصحّ الحمل في قولك « زيد إنسان » من دون تأويل وخروج عن الظاهر ، وبطلان التالي كنفس الملازمة ظاهر جدّا ، إذ الماهيّة الملحوظة على وجه السراية والشيوع ليست متّحدة مع الموضوع ، بل المتّحد معه هو نفس المعنى على وجه لا يمازجه شيء غيره ، فقضيّة صحّة الحمل بدون تأويل كون اللفظ موضوعا لنفس المعنى القابل للتقييد ، والشيوع والسراية خارجة عنه.

ولعمري! إنّ ذلك من المعاني الظاهرة التي لا ينبغي خفاؤها على أحد ، ولعلّه أيضا غير خفيّ في غير المقام ، إلاّ أنّه ظهر من بعضهم (3) كلمات تخالف ما ذكرنا.

فالقول بالمجازيّة ممّا لا نعرف له وجها. والذي يقضي بذلك - مضافا إلى ما عرفت - أنّ المركّبات لا بدّ لها من وضع شخصي أو نوعي به يدلّ على ما هو المقصود من التركيب من توصيف أو إضافة أو اتّحاد ، ففي قولنا : « رقبة مؤمنة »

ص: 253


1- من ( ش ).
2- وهو صاحب الفصول في الفصول : 221.
3- العبارة في ( ش ) : « ظهر مع ذلك من بعض ».

لفظ « الرقبة » يدلّ على الموصوف « كالمؤمنة » على الصفة والهيئة على التوصيف ، وكلّ واحد من هذه المعاني ممّا يدلّ عليه لفظه بدون مشاركة قرينة أو علاقة ، فمن أين يحكم بكونه مجازا؟ ولما ذا يلزم؟ وما الداعي إلى التزامه؟

فإن قلت : إنّ ذكر الصفة قرينة على إرادة الموصوف من حيث اتّصافه بالصفة.

قلت : كلاّ! فإنّ هذه الحيثيّة إنّما يصحّ انتزاعها من الموصوف بعد ذكر الصفة ، فكيف يمكن اعتبارها في لفظ الموصوف.

فإن قلت : إنّ المتبادر من المطلق هو الإشاعة والسراية ، ولذا لا يتأمّل في الحكم بصحّة أيّ فرد كان بعد السماع لقولك : « أكرم رجلا » ونحوه.

قلت : إن اريد أنّ نفس اللفظ إنّما يستفاد منه ذلك فهو ممنوع بل هو مقطوع الفساد ، لوجود أمارات على خلافه على وجه القطع. وإن أريد أنّ اللفظ بمعونة المقام - كما ستعرف تفصيله - يستفاد منه ذلك فهو مسلّم ، لكنّه لا يرتبط بما ذكر بوجه ، من غير فرق فيما ذكرنا بين موارد استعماله من الإخبار كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) الآية (1) ، أو الإنشاء كما في قولك : « أكرم رجلا » لاتّحاد المناط فيهما.

والقول بأنّ « الرجل » على وجه الإهمال ممّا يمتنع تعلّق الحكم الشرعي به ، فلا بدّ من أن يراد به إمّا الإطلاق بمعنى الماهيّة ملحوظة على وجه السراية ، أو خصوص المقيّد مثل « زيد » ، بخلاف الإخبار ، فإنّه يعقل أن يخبر عن عنوان « الرجل » ولو على وجه الإجمال والإهمال ، وهذا هو الوجه في الفرق بين المقامين.

ص: 254


1- القصص : 20.

مدفوع بأنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان المقصود من الأمر المتعلّق بالماهيّة المهملة هو بيان تمام المراد والمقصود ، كما أنّه لو كان المقصود الإخبار عن تمام من قام به السعي في الآية الشريفة لم يصحّ في بيانه الاكتفاء (1). وأمّا إذا كان المراد بيان بعض ما هو المطلوب فلا بأس به ولا ضير فيه كما هو كذلك في الآية الشريفة ، فالفرق ممّا لا وجه له.

وممّا يدلّ على ما ذكرنا : أنّه لو فرض لماهية واحدة إرسال من جهات عديدة فقيّدت من إحدى الجهات ، فعلى القول بالمجازيّة لا بدّ وأن يكون لانسلاخ الشيوع والسراية من تلك الجهة من اللفظ ، والمفروض عدم التقييد من جهات اخرى ، فالشيوع باق بحاله من جهتها ، ولا بدّ أن يكون حقيقة من تلك الجهة ، فيلزم كون اللفظ الواحد في استعمال واحد حقيقة ومجازا وهو باطل جدّا ، وبعد ملاحظة أنّ جميع المطلقات ممّا لا يخلو عن تقييد ما يلزم كون جميعها حقيقة ومجازا.

والقول بأنّ ذلك نظير العامّ المخصّص - فإنّه إمّا أن يكون حقيقة أو مجازا - باطل ، للفرق بين المقامين كما لا يخفى ؛ مضافا إلى أنّ ذلك في المقام محلّ كلام ، نظرا إلى أنّ أغلب التخصيصات فيه راجع إلى التقييد ، فتأمّل حتّى تهتدي إلى المرام.

وممّا يشهد بما ذكرنا كثير من موارد استعمال الألفاظ المطلقة ، كقول الطبيب لمن حاول أن يعالجه : « إنّه لا بدّ لك أن تشرب الدواء » ولا يجوز أن يؤخذ بإطلاقه فيشرب كلّ ما يصدق عليه الدواء ، فإنّ أمثال هذه الاستعمالات

ص: 255


1- كذا في ( ق ) ، وفي سائر النسخ : « الانتفاء ».

في العرف فوق حدّ الإحصاء ، ولا ريب في أنّها خالية عن أمارة المجاز ؛ مضافا إلى مساعدة أمارة الحقيقة عليها أيضا ، كما يظهر بعد التأمّل الصادق في مواردها.

ومن هذا القبيل جملة من الأوامر الشرعيّة التي يختلف تفاصيل مواردها على حسب اختلاف موضوع المكلّفين سفرا وحضرا صحّة ومرضا اختيارا واضطرارا ... إلى غير ذلك ، مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) بناء على القول بوضع الصلاة للأعمّ ، فالمراد من ذكره بيان أصل المشروعيّة ، وأمّا تفاصيل ذلك فهي موقوفة على بيان آخر في موارد أخر (2) كما هو كذلك أيضا ؛ ولذا لا يحسن الاستفهام عند الاطّلاع على مثل الواقعة الواردة في مقام الإهمال ، فإنّه لازم للإجمال ، سواء كان في الاشتراك اللفظي أو في الاشتراك المعنوي.

ثمّ إنّه لا فرق [ فيما ذكرنا ](3) بين اتّصال القيد بالمطلق كقولك : « رقبة مؤمنة » وانفصاله عنه كقولك : « أعتق رقبة مؤمنة » بعد الأمر بالمطلق ، فإنّ ما عرفت من الوجوه متساوية النسبة إليهما ولا وجه لما تخيّله بعض (4) : من أنّه على تقدير الانفصال لا بدّ وأن يراد من المطلق (5) خصوص المقيّد على وجه المجازيّة (6) ، لإمكان أن يراد به نفس المعنى إلى أن يلحقه القيد ، فذكر القيد ينهض

ص: 256


1- البقرة : 43.
2- كذا في ( س ) ، وفي سائر النسخ : « مورد آخر ».
3- لم يرد في ( ق ).
4- في ( ش ) والمطبوع : « البعض ».
5- في ( ق ) : « بالمطلق ».
6- راجع ضوابط الاصول : 225.

ببيان تمام المراد ، وقبل الاطّلاع على القيد (1) لو تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد لا ينافي ما ذكرنا ، إذ بعد الاطّلاع يكشف عن عدم وروده في ذلك المقام ويكون اللفظ مستعملا في نفس المعنى على وجه الحقيقة.

لا يقال : كما أنّه يمكن ما ذكرت ، فيمكن أن يكون ورود المقيّد كاشفا عن إرادة المقيّد من المطلق ، فيكون مجازا ؛ لأنا نقول : إنّ ذلك الوجه ممّا ينكره العرف ؛ مضافا إلى أن أصالة الحقيقة تحكم بما ذكرنا.

لا يقال : إنّ أصالة الحقيقة لا مسرح لها في مورد يكون شيء يصلح لأن يكون صارفا عنها كما في المقام ؛ لأنّا نقول بعد الغضّ عن أصل المبنى - كما قرّر في محلّه - : إنّما هو في غير المقام ، لعدم اختلاف المقصود بالصرف وعدمه ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا يعقل فرق بين الرقبة الموصوفة بالإيمان في قولك : « رقبة مؤمنة » وبين الرقبة المجرّدة ، فكما أنّ القول بأنّ الرقبة في التركيب الأوّل إنّما يراد منها الرقبة المؤمنة بقرينة ذكر القيد شنيع في الغاية - كما أوضحنا سبيله فيما مرّ - فكذلك القول بأنّ المراد منها في الثاني هو المقيّد ، لوجود ما يصلح للصرف في الأوّل أيضا.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر فساد ما نسبه بعضهم إلى بعض الأفاضل (2) : من القول بأنّ المطلق مع قطع النظر عن المقيّد له وضع مغاير لوضعه معه ، نظير فعل المضارع المقرون ب- « لم ».

وجه الفساد : أنّ ذلك تكلّف بارد ، إذ بعد إمكان استفادة الوجهين من وضع واحد لا وجه لتعدّد الوضع بعد عدم مساعدة اعتبار عقليّ أو نقليّ عليه.

ص: 257


1- في ( ق ) : « قيده ».
2- انظر هداية المسترشدين 3 : 222.

تذنيب :

قضية ما عرفت من معنى اللفظ وعدم اعتبار شيء في الموضوع له من الوجوه الطارية والقيود اللاحقة هو عدم الفرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة أو النهي بها بحسب القواعد اللفظيّة الممحّضة في تشخيص مداليل اللفظ بحسب الأوضاع اللغويّة ، فإنّ قولك : « لا تضرب » لا يفيد سوى وجوب ترك ماهيّة الضرب المفروض كونها (1) لا يزيد عليها شيء من الاعتبارات. نعم ، ملاحظة ماهيّة الضرب على وجه الشيوع والسراية التي هي أحد الوجوه الطارئة عليها ثمّ النهي عنها يوجب التكرار والدوام ، وقد عرفت أنّ ذلك خارج عن معنى اللفظ فلا بدّ له من التماس دليل آخر كما هو المحتاج في الأمر أيضا.

والقول بالفرق من حيث إنّ قولنا : « اضرب » و « لا تضرب » متناقضان ، فلا بدّ من القول بإفادة النهي التكرار - بملاحظة المناقضة (2) - واضح الفساد ، لما عرفت من أنّ نفس المعنى ممّا يصحّ اجتماع المتناقضين فيه ، ولذا لا تناقض بين وجود زيد الانسان وعدم عمرو الانسان. فإن أريد ثبوت المناقضة بمجرّد ملاحظة نفس المعنى فهو فاسد ، لجواز اجتماع النقيضين في مقام نفس المعنى كارتفاعهما. وإن أريد ثبوته باعتبار آخر فهو لا ينافي ما نحن بصدده.

ص: 258


1- في ( ق ) بدل « المفروض كونها » : « التي ».
2- في ( ق ) : « دفعا للمناقضة ».

هداية

قد تكرّر فيما تقدّم : أنّ الشياع والسريان خارجان عن معنى اللفظ ولا بدّ في إثباتهما من التماس وجه آخر غير اللفظ ، فلا بدّ من تحقيق ذلك الوجه ، فنقول : إنّه موقوف على أمرين :

أحدهما : انتفاء ما يوجب التقييد داخلا أو خارجا.

والثاني : كونه واردا في مقام بيان تمام المراد.

ومتى شككنا في أحد الأمرين لا يحكم بالسراية إلاّ أن يكون هناك ما يوجب ارتفاع الشكّ من أصل أو دليل ؛ فلو دلّ دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق ، لارتفاع مقتضى الإطلاق ، لا لوجود المانع عنه ، وإن كان الدليل الدالّ على التقييد أيضا ممّا يحتمل فيه التصرّف بحمل الوارد فيه على الاستحباب ، إلاّ أنّ أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال. ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق ، لعدم لزوم مجاز فيه ، وإنّما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل ، فالإطلاق حينئذ بمنزلة الأصول العمليّة في قبال الدليل وإن كان معدودا في عداد الأدلّة دون الأصول ، فكأنّه برزخ بينهما.

وتوضيح المطلب : أنّه إن علمنا بعدم التقييد مع وروده في مقام البيان فلا ينبغي الإشكال في إفادته التخيير والشياع ، إذ لولاه فإمّا أن يراد منه البعض المعيّن أو جميع الأفراد ، وكلّ واحد منهما خلاف الفرض ، لما عرفت من العلم بعدم التقييد فلا بدّ من أن يراد منه التخيير.

ص: 259

فإن قلت : إنّ ملاحظة المعنى على وجه التخيير أيضا من القيود التي فرضنا العلم بعدمها.

قلت : نعم ، ولكن يكفي في إثبات ذلك القيد عدم ذكر قيد آخر وإخراج كلام المتكلّم عن اللغويّة وعدم إسناد القبيح إليه ، وهو إخفاء المطلوب مع أنّه بصدد بيانه مع عدم ما يقضي بخلافه من مصلحة الإخفاء كما هو مفروض المقام.

فإن قلت : يكفي في إثبات (1) التخيير والشياع استواء نسبة الماهيّة الغير الملحوظة بشيء من الاعتبارات إلى جميع أفراده ، فلا حاجة إلى إحراز كون المتكلّم في صدد بيان تمام المراد ، كما صرّح بذلك جماعة ، منهم بعض الأفاضل (2).

قلت : لو لا كونه في مقام البيان لا يجدي ذلك في إفادة التخيير والشياع إذ استواء النسبة لا ينافي أن يكون المتكلّم في مقام بيان بعض المراد ، وقد عرفت عدم إفادته الشياع في ذلك المقام. نعم ، ذلك يفيد بعد إحراز كونه بصدد بيان تمام المراد ، فيحكم العقل بحصول الامتثال بالنسبة إلى كلّ الأفراد المتساوية في صدق الماهيّة عليها.

وأمّا إذا شكّ في أحد الأمرين ، فإن شكّ في ورود المقيّد فبأصالة عدم ورود المقيّد المعمولة عند أرباب اللسان يستكشف عدم التقييد ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشكّ في ورود المطلق في مقام البيان؟

ص: 260


1- في ( ق ) بدل « إثبات » : « مصلحة ».
2- لم نعثر عليه.

قد يقال (1) : إنّ أغلب موارد استعمال المطلقات كذلك (2) فعند الشكّ يحمل عليه. وليس بذلك البيعة ، فتأمّل.

وأمّا إذا علم بانتفاء أحدهما فلا ينبغي الأخذ بالإطلاق ، أمّا الأمر الثاني (3) فلما عرفت من عدم الداعي لا لفظا ولا عقلا لعدم الدلالة وعدم لزوم القبيح (4). وأمّا الأمر الأوّل (5) فلو علم بورود ما يصلح للتقييد فلا وجه للاعتماد على أصالة عدم ورود القيد ، فهو - ولو بملاحظة أصالة الحقيقة - ينهض مقيّدا للمطلق ، لكفايته في مقام البيان ، ويستكشف من ذلك عدم ورود المطلق في مقام البيان ، ويرتفع بذلك ما هو الوجه في الحكم بإطلاقه.

وهذا هو السرّ في الحكم بتقديم التقييد على أنحاء التصرّفات المتصوّرة في اللفظ ، فلا حاجة إلى دعوى شيوع التقييد بالنسبة إلى غيره من التصرّفات وإن كان الوجه في شيوعه هو (6) ما ذكرنا [ واللّه الهادي إلى سواء السبيل وهو خير معين ](7).

ص: 261


1- راجع ضوابط الاصول : 223 - 224.
2- في ( ش ) والمطبوع : « إنّما هو ذلك ».
3- يعني كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، راجع الصفحة : 267.
4- العبارة مشوّشة وقاصرة عن إفادة المراد جدّا.
5- يعني انتفاء ما يوجب التقييد داخلا أو خارجا ، راجع الصفحة : 263.
6- في المطبوع بدل « هو » : « أيضا ».
7- من ( ق ).

ص: 262

هداية

اشارة

قد عرفت أنّ حمل المطلق على الإطلاق موقوف على أمرين : أحدهما عدميّ ، والآخر وجوديّ ، ويتولّد من كلّ واحد منهما شرط للحمل على الإطلاق ، كما أفاده بعض المحقّقين في فوائده (1).

الأوّل :

أن لا يكون منصرفا إلى بعض الأفراد. والوجه في ذلك : الاشتراط ظاهر بعد قيام الانصراف مقام التقييد اللفظي ، إلاّ أنّه لا بدّ من توضيح موارده ، فنقول : إنّ له أقساما :

أحدها : الشيوع الحضوري (2) بمعنى حضور (3) بعض أقسام المعنى في الذهن بواسطة استيناس حاصل به مع القطع بعدم كونه مرادا بالخصوص كانصراف الماء إلى ما هو المتعارف شربه في البلد ، كالفرات في العراق مثلا.

ثانيها : ما هو أقوى من ذلك مع ارتفاعه بالتأمّل ، وهو المسمّى بالتشكيك البدوي.

وثالثها : أن يكون الشيوع موجبا لاستقرار الشكّ واستمراره على وجه لا يزول بالملاحظة والتأمّل ، نظير الشكّ الحاصل في المجاز المشهور عند التردّد في وصول الشهرة حدّا يمكن معها التصرّف. إلاّ أنّه في المجاز محكوم بإرادة

ص: 263


1- الفوائد الحائرية : 361 ، الفائدة 5.
2- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « الخطوري ».
3- في المطبوع و ( ع ) : « خطور ».

الحقيقة نظرا إلى أصالتها ، وفي المقام محكوم بالإجمال نظرا إلى أنّ الحكم بالإطلاق ممّا لا قاضي به. أمّا على المختار فلأنّ بعد احتمال البيان قويّا لا ضير في ترك الإطلاق ولا يجري فيه أصالة الحقيقة ، وأمّا على المجازيّة [ كما عليه المشهور ](1) فلأنّ شيوع هذا المجاز هو الفارق بينه وبين غيره من عدم جريان أصالة الحقيقة عند احتماله.

ورابعها : بلوغ الشيوع حدّ الشياع في المجاز المشهور عند تعارضه مع (2) الحقيقة المرجوحة ، إلاّ أنّه يحكم في المجاز بالتوقّف وبالتقييد في المقام.

أمّا على المختار ، فلما عرفت من صلاحيّته للبيان وبعد وجود ما يصلح له لا يحكم العقل بالإطلاق من غير فرق بين القرينة الداخلية - أعني الشيوع - وغيرها. وما توهّم : من أنّ الشيوع لا يصلح أن يكون دليلا على الخصوصيّة والتقيّد (3) ليلزم منه كون المطلق حقيقة ، بل إنّما هو صالح لأن يراد من المطلق المقيّد فيكون مجازا حينئذ لا محالة ، فهو فاسد ، إذ لم نجد ما يقضي بذلك ، فكما أنّه يمكن ذلك فيه فما نحن فيه أولى به.

وأمّا على المشهور ، فلوضوح الفرق بين المجازات كما عرفت ، ولعلّ الوجه هو الأخذ بالمعلوم ، فإنّ المقيّد هو القدر المتيقّن على دخوله في المطلق ، إلاّ أنّ ذلك خلاف الاحتياط عند عدم التمكّن من المقيّد ، فلا بدّ من بيان ما هو الملاك في التقييد. نعم ، يتمّ ذلك في مقام العمل ، فتأمّل.

وخامسها : بلوغ الشيوع حدّ الاشتراك ثمّ النقل. وقد يتوهّم على المختار من عدم لزوم مجاز في التقييد بلوغه ذلك الحدّ مشكل ؛ لأنّ المعنى الموضوع له

ص: 264


1- من ( ش ).
2- في ( ش ) زيادة : « أصالة ».
3- في غير ( ش ) : « التقييد ».

محفوظ في جميع المراتب ولا يختلف باختلاف الوجوه كما عرفت والنقل مسبوق بالمجاز لا محالة ، فكيف يتصوّر ذلك؟

والجواب عن ذلك : أنّ ما ذكرنا إنّما هو في مقام بيان عدم الملازمة بين التقييد والمجاز ، وإلاّ فقد يمكن أن يكون التقييد مجازا ، كأن يراد من لفظ المطلق - الموضوع لنفس المعنى - المقيّد بواسطة القرينة ، ولا امتناع في ذلك ، كيف والعموم والخصوص من العلائق التي تراعى بين المعاني الحقيقيّة والمجازيّة ، ومن موارد تلك العلاقة استعمال الكلّي والمطلق في الفرد والمقيّد ، فيمكن حصول النقل بملاحظة هذا النحو من الاستعمال. نعم ذلك غير ممكن على الوجه الآخر الذي لا يلزم على تقديره مجاز ؛ مع أنّه يمكن القول بإمكانه على ذلك التقدير أيضا ، كأن يكون الذهن غير ملتفت إلى ما يوجبه التقييد لكثرة استيناسه بما يوجب التقييد ، فينتقل تارة بعد تأكيد الأنس إلى المقيّد مع قطع النظر عمّا يوجبه ، نظير حصول النقل على وجه المجازيّة أيضا.

ثمّ إنّ الانصراف كما يختلف مراتبه - كما عرفت - كذلك يختلف مراتبه ؛ لأنّه بمنزلة التقييد ، بل هو هو بعينه ، إلاّ أنّ المقيّد هنا لبّي ، فقد يكون اللفظ من إحدى الجهات منصرفا ومطلقا من جهة غيرها ، ويلحق بكلّ جهة حكمها ، من دون سراية إلى الاخرى.

ولو شكّ في الانصراف أو في بلوغه حدّا لا يؤخذ معه بالإطلاق ، ففي الأخذ به أو عدمه وجهان ، ولعلّ الأوّل أقرب ، لعدم العلم ولا ما يقوم مقامه من أصل ونحوه بالبيان ، فاعتبار (1) المتكلّم على ذلك قبيح ولا رافع له من حكم العرف بالبيان ، فتأمّل.

ص: 265


1- كذا ، والظاهر : فاعتماد.

تفريع : إذا قام إجماع أو نحوه على ثبوت حكم المنصرف إلى الشائع للفرد النادر ، فهل يوجب ذلك الحكم بإطلاقه من جميع الجهات التي يكون منصرفا بالنسبة إليها ، أو لا فيقتصر على ثبوت الحكم لذلك المورد بالخصوص ويؤخذ بالانصراف في الجهات الباقية؟ وجهان بل قولان ، فالمشهور على الثاني ، ونسب إلى الشريف المرتضى (1) الأوّل حيث حكم بجواز التطهير بالمضاف. خلافا للمشهور لذهابهم إلى عدم الجواز لانصراف الغسل إلى ما يحصل بالماء المطلق. فقال المرتضى : إنّ الغسل بالمضاف كما أنّه من الأفراد النادرة فكذلك الغسل بماء الكبريت ونحوه من الأفراد النادرة أيضا ، والإجماع على جواز التطهير بأمثال ماء الكبريت ثابت (2) وبذلك يستكشف عن كون المراد هو المطلق على وجه الاطلاق (3).

وقال بعضهم : إنّ الحقّ في ذلك هو التفصيل ، بأن يقال : إن علمنا أنّ مستند الإجماع على تعلّق الحكم الكذائي ببعض الأفراد (4) النادرة هو تعلّق الحكم على المطلق ليكون فتوى المجمعين مستندا إلى ظاهر الإطلاق ، فالتعويل على ما اختاره الشريف المرتضى كما هو كذلك في الفرع المتنازع فيه ، فلا وجه لردّ السيّد بالانصراف ولا بدّ له من إبداء وجه غيره. وإن لم يعلم ذلك فلا ، إذ لعلّ هناك دليلا خاصّا دلّ على تعلّق الحكم المذكور بخصوص هذا الفرد النادر ، كما لا يخفى.

ص: 266


1- نسبه في ضوابط الأصول : 222 ، وراجع مفاتيح الأصول : 197.
2- لم يرد « ثابت » في ( ش ) والمطبوع.
3- راجع مسائل الناصريات : 105 - 106.
4- في ( ق ) : « بالأفراد ».

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ النسبة المذكورة ممّا لا دليل عليها ، فإنّ السيّد حكم بالإطلاق في ذلك المورد الخاصّ لا مطلقا ، وهو في محلّه.

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك غير وجيه بعد تعدّد جهات الإطلاق والانصراف ، فإنّهم لو استندوا إلى الإطلاق من جهة خاصّة لا ملازمة بين ذلك وبين استنادهم إليه من جهة أخرى ، فإنّ الانصراف أيضا كما عرفت من التقييد ، فكما لا ينافي ورود التقييد اللفظي الآخذ بالإطلاق من جهة لم يرد فيها (1) فكذلك الانصراف.

ولكنّه لا بدّ من التأمّل من حيث نسبة ذلك إلى من هو أعرف منّا بمواقع الكلام.

الشرط الثاني :

إذا فرض لإطلاق المطلق جهات عديدة ، فالشرط في حمله على الاطلاق من كلّ جهة أن يكون واردا في مقام بيان تلك الجهة بخصوصها ، فلا يجوز التعويل على الإطلاق في الجهة التي لم يرد المطلق في مقام بيانها. ووجه الاشتراط ظاهر بعد ما عرفت من أنّ الإطلاق إنّما هو موقوف على وروده في مقام البيان ؛ لأنّه لو لم يحمل على العموم من تلك الجهة وحمل على الإهمال من جهتها لا يلزم قبيح على المتكلّم ، ويظهر ذلك في الغاية بالمراجعة إلى المحاورات العرفيّة ، فلو أفتى المجتهد مقلّده بجواز الصلاة في القلنسوة النجسة ، فهل ترى أن يؤخذ بإطلاق القلنسوة ويحكم بجواز الصلاة فيها إذا كانت مغصوبة أيضا؟ ومن هنا أوردوا (2) على الشيخ في استدلاله على طهارة موضع عضّ الكلب

ص: 267


1- في ( ش ) والمطبوع : « في جهة ولم يرد فيها ».
2- في المطبوع : « ومنها نقدوا على الشيخ ».

بإطلاق قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (1) مع وروده في مقام بيان الحلّية ولا يرتبط بجهة الطهارة والنجاسة (2).

نعم ، من لا يرى أنّ وجه العموم في المطلق هو ما ذكرنا بل العموم عنده وضعيّ يشكل عليه الأمر في إثبات الشرط ، مثل من ذهب إلى أنّ وجه العموم في المطلق هو استواء نسبة الماهيّة الملحوظة بنفسها إلى جميع الأفراد من غير حاجة إلى إحراز مقام البيان وإن كان قائلا بخروج الشيوع عن المعنى كما هو الظاهر من بعض الأفاضل ؛ قال في العوائد - بعد نقل ما ذكرنا عن الوحيد البهبهاني - : وهذا الكلام يجري على دليل الحكمة ، ولا يجري على المختار من كون عموم المطلق لوجود الطبيعة ؛ لأنّها موجودة في ضمن كلّ فرد من أفرادها (3).

ثمّ إنّه حاول الاعتراض على ما ذكره ، فأورد عليه بما حاصله : أنّ ملاحظة الجهات والحيثيّات توجب ارتفاع التناقض بين المطلقين فيما إذا تقارب الجهات ، فلا يكون تعارض بين قوله : « في الغنم زكاة » وبين قوله « ليس في الحيوان الأسود زكاة ».

وأنت خبير بأنّ عدم التعارض إنّما هو الحقّ الحقيق بالتصديق ، لما عرفت من ارتفاعه حيث لا يلاحظ المعنى على وجه السراية والشيوع وبالجملة ، فملاحظة موارد إطلاق المطلق في العرف من أقوى الشواهد.

ص: 268


1- المائدة : 4.
2- راجع المبسوط 6 : 259 ، والخلاف 6 : 12 ، المسألة 7 من كتاب الصيد والذبائح ، وراجع لما أوردوه عليه ، المسالك 11 : 443 ، والجواهر 36 : 67 ، والمستند 15 : 360.
3- عوائد الأيّام : 753.

ثمّ إنّ وروده في مقام بيان حكم آخر قد يكون واضحا جليّا ، وقد لا يكون كذلك فيحصل الشكّ ، فهل يحكم بوروده في مقام بيان الحكم من جميع الجهات أو من الجهة المشكوك فيها ، أو لا؟ وجهان مبنيّان على دعوى الغلبة ومنعها ، ومجال الكلام فيه واسع.

تذنيب :

ما ذكرنا من عدم السراية إلى الجهة التي لم يرد المطلق في بيانها إنّما هو إذا لم يكن لتلك الجهة ملازمة عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة للجهة التي ورد في بيانها ، مثل ما ورد في صحّة الصلاة في ثوب فيه عذرة ما لا يؤكل لحمه من جهة النجاسة عند عدم العلم بها (1) ، فإنّها تدل على صحة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل عند عدم العلم بها إذا كانت النجاسة من الأجزاء ، لعدم الانفكاك بينهما على هذا التقدير ، فلو حمل على نفس الجهة التي ورد في بيانها لزم إلغاؤه بالمرّة.

ومثله أيضا أنّه سئل الإمام عليه السلام عن الكافر إذا وقع في البئر ومات ، قال : « ينزح سبعون دلوا » (2) فإنّه وإن ورد من جهة النجاسة من حيث إنّه كافر ، لكن النجاسة الحادثة بالموت نظرا إلى الإطلاق لا يمكن أن يكون أزيد منها ، وإلاّ لغى الكلام ويبقى بلا مورد.

ص: 269


1- الوسائل 2 : 106 ، الباب 40 من أبواب النجاسات ، الحديث 5.
2- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من المجاميع الحديثية ، نعم ورد في موثّق عمّار نزح سبعين دلوا لموت الإنسان في البئر ، راجع الوسائل 1 : 141 ، الباب 21 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 2.

ومثله ما ورد من طهارة سؤر الهرّة (1) حيث إنّ الغالب عدم خلوّ موضع السؤر عن النجاسة ، فيحكم بكون السؤر طاهرا مطلقا ولو كان قبل الملاقاة ملاقيا بالنجاسة ، بل وذلك هو عمدة الوجه في اتكالهم على طهارة الحيوان بزوال النجاسة فراجع.

ومثله الاستدلال بعمومات البراءة الواردة في الشبهة الموضوعيّة البدويّة على حلّيّة أطراف الشبهة الغير المحصورة ، لعدم انفكاك هذه الجهة في الأغلب عنها ، فلمّا لم يدلّ على هذه الجهة يبقى تلك العمومات عادم المورد ؛ لأنّ النادر كالمعدوم ... إلى غير ذلك من الموارد لا يكاد ضبطها ولا خفاؤها على الملاحظ المتتبّع ، واللّه الهادي.

ص: 270


1- راجع الوسائل 2 : 164 ، الباب 2 من أبواب الأسآر ، الحديث 1 و 2.

هداية

اشارة

إذا ورد مطلق ومقيّد ، فإمّا أن يكون المحكوم به متّحدا أو متعدّدا ، وعلى التقديرين فهما إمّا منفيّان أو مثبتان أو مختلفان ، وعلى التقادير إمّا أن يكون الموجب فيهما مذكورا أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا أن يكون الموجب واحدا أو متعدّدا وتنقيح البحث في طيّ مقامات :

المقام الأوّل : فيما إذا كان المحكوم به متعدّدا بجميع الصور المفروضة (1) لا حمل ، كقولك : « أطعم فقيرا » و « اكس فقيرا هاشميا » لعدم ما يقضي (2) بالحمل ، ضرورة عدم ارتباط أحدهما بالآخر ، إلاّ أن يكون هناك ما يقضي بذلك من توقّف أحد الموضوعين على الآخر ، كقولك : « أعتق رقبة » و « لا يملك رقبة كافرة » فإنّ توقّف العتق على الملك أوجب تقييد الرقبة بالمؤمنة ، وعند التحقيق ذلك خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ قولك : « أعتق » بمنزلة « املك رقبة وأعتقها » بواسطة التوقّف ، فيدخل في المتّحدين. هذا إذا كان اختلافهما على وجه التباين الكلّي.

وأمّا إذا كان بينهما عموم من وجه فلا حمل أيضا ، إلاّ أنّه يمكن الحكم في مورد اجتماع الفعلين بالامتثال إذا تعلّق الأمر بهما. ولعلّه ظاهر.

وأمّا إذا كان بينهما عموم مطلقا فكما إذا كان بين متعلّقيهما كذلك.

ص: 271


1- في ( ع ) : « فجميع الصور المذكورة ».
2- في ( ع ) : « يقتضي ».

المقام الثاني : إذا اتّحد المحكوم به ، فمع تعدّد الموجب كقولك : « إن ظاهرت أعتق رقبة » و « إن قلت (1) أعتق رقبة مؤمنة » فلا حمل أيضا ، كما عليه أصحابنا الإماميّة أجمع على ما حكي (2) ، لعدم ما يوجب ذلك من العقل والنقل ، لعدم التنافي بينهما. وحكي عن بعض أهل الخلاف : أنّهم خالفوا في ذلك وقالوا بالحمل (3). وشذوذه يكفي في الأعراض عنه.

المقام الثالث : إذا اتّحد الموجب مذكورا أو مستورا وكان الكلامان مثبتين ، فالمشهور على الحمل ، بل وعليه الإجماع صريحا في كلام جماعة من أصحابنا كالعلاّمة (4) والعميدي (5) والبهائي (6) ، وغيرهم كالآمدي (7) والحاجبي (8) والعضدي (9).

ولعلّ ذلك هو الواقع أيضا ، فإذا قال القائل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » مجرّدين عن ذكر الموجب أو مضافين إلى قوله : « إن ظاهرت » فالعرف إنّما يساعد على الحمل المذكور وأنّ المراد بالمطلق هو المقيّد ، وهو راجع إلى التقييد وإن توهّم اختلافهما كما هو ظاهر.

ص: 272


1- كذا ، والظاهر : إن قتلت.
2- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 204 ، عن نهاية المأمول.
3- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 204 عن الشافعي وغيره ، وراجع شرح مختصر الأصول للعضدي : 285.
4- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 174.
5- قاله في منية اللبيب : 194 ، وحكى عنه السيّد المجاهد في المفاتيح : 202 - 203.
6- زبدة الاصول : 104. وفي ( ط ) ونسخة من ( ش ) : « البهبهاني ».
7- الإحكام 3 : 7 ، وفيه : فلا نعرف خلافا في حمل المطلق على المقيد.
8- راجع شرح مختصر الاصول :8. 285.
9- راجع شرح مختصر الاصول :284- 285.

فاستدلّ الأكثرون بأنّه جمع بين الدليلين ، وهو أولى. وأورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر كحمل الأمر فيهما على التخيير أو في المقيّد على الاستحباب. والأوّل باطل لعدم معقولية التخيير بين الفرد والكلّي ، والثاني فاسد لما عرفت من أنّ التقييد ليس تصرّفا في معنى اللفظ وإنّما هو تصرّف في وجه من وجوه المعنى الذي اقتضاه تجرّده عن القيد مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطّلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال ، فلا إطلاق فيه حتّى يستلزم تصرّفا ، فلا يعارض ذلك بالتصرّف في المقيّد بحمل أمره على الاستحباب ، وعلى المشهور فلا يعارض أيضا بغلبة هذا المجاز على أقرانه ، وعلى تقدير التساوي فالحكم هو الإجمال على المشهور ، ولا بدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل عند دوران الأمر بين المطلق والمقيّد من تحكيم البراءة والاشتغال ، على الخلاف المقرّر بينهم.

والعجب من المحقّق القمي رحمه اللّه حيث حكم بالبراءة عند دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة (1) ، ويظهر منه الاشتغال في المقام (2).

وممّا ذكرنا يظهر عدم استقامة ما قد يحتجّ على الحمل بالاحتياط ، فإنّه بعد كونه مختلفا فيه ليس حملا بل هو حمل في العمل كما لا يخفى.

وقد ذهب شيخنا البهائي إلى أنّ وجه الحمل هو اعتبار مفهوم الوصف في قبال المطلق (3) ؛ ولذلك أورد عليهم التناقض. وهو ليس في محلّه ، إذ بعد النقض

ص: 273


1- القوانين 2 : 37.
2- القوانين 1 : 325 - 326.
3- لم نعثر عليه في الزبدة ولا في حواشيه ، نعم حكى في القوانين 1 : 329 عن حواشي الزبدة ما يدل عليه.

باللقب وعدّ هذا القسم في المثبتين يرد عليه : أنّ التنافي إنّما هو بواسطة اتّحاد التكليف والمفهوم لا يورث التنافي ؛ لأنّ المستفاد منه نفي وجوب الفعل (1) عن غير محلّ الوصف ، وهو لا ينافي وجوبه تخييرا كما هو قضيّة الأمر بالمطلق. ولو سلّم أنّ المستفاد منه هو نفي سنخ الوجوب مطلقا فاللازم هو التعارض ، لكونهما ظاهرين ، ولا وجه للترجيح بينهما من دون مرجّح ولو التزمنا ثبوت المفهوم صونا لكلام الحكيم عن اللغوية. فما ذكرنا : من أنّ المستفاد من المفهوم ليس إلاّ نفي الوجوب العيني يكون أقوى ، وقد فصّلنا ذلك في مباحث المفهوم ، فراجعه.

تنبيه فيه تحصيل : قد عرفت أنّ وجه التنافي بين المطلق والمقيّد هو اتّحاد التكليف ، إذ لو لم يكن ذلك فلا وجه للحمل ، لوجوب المقيّد هنا تارة بواسطة تعلّق الأمر به وأخرى تخييرا. نعم يتأتّى القول بالاكتفاء بفرد واحد على القول بأنّ تعلّق الأوامر العديدة على وجه العينيّة أو غيرها مع قبول المورد التعدّد لا يوجب تعدّد الامتثال ، وهو لا يرتبط بما نحن بصدده من الحمل ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

وهل يستفاد ذلك من نفس اللفظ ، أو لا بدّ من استفادته من الخارج كأن يكون السبب فيه واحدا بناء على أنّ ذلك من كواشفه كما قيل (2)؟ وجهان مبنيّان على تشخيص معنى المطلق من خروج الإشاعة والسريان منه أو دخوله فيه ، فعلى الأوّل نعم ، وعلى الثاني لا.

ص: 274


1- في ( ع ) و ( ق ) : « نفي الوجوب ».
2- لم نعثر على قائله.

وتوضيح المطلب : أن ذلك من فروع ما قد عنونوا في غير المقام : من أنّ ورود الأوامر العديدة [ وتعلّقها ](1) هل يوجب تعدّد الامتثال بحسب الأوضاع اللغويّة أو لا؟ إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون مورد الأمرين طبيعة واحدة كقولك : « اضرب رجلا ، اضرب رجلا » أو طبيعتين بينهما عموم مطلق نحو قولك : « اضرب رجلا ، واضرب رجلا بغداديّا » وقد قرّرنا في محلّه : أنّ مجرّد ذلك لا يقتضي التكرار بحسب الدلالة اللفظيّة لو خلّي وطبعها ؛ لأنّ اللفظ إنّما موضوع للطبيعة المرسلة ، ولا دلالة في تعدّد الطلب المدلول بالهيئة على تعدّد الامتثال ، فظاهر اللفظ [ إنّما ](2) لا ينافي وحدة التكليف.

لا يقال : إنّ ذلك [ إنّما ](3) يوجب التأكيد ، والتأسيس خير منه ، بل التأكيد إنّما هو من قبيل المجاز يحتاج إلى القرينة ، حتّى أنّ بعض الأفاضل منع من حمل الكلام على التأكيد والتأسيس إذا احتمل الوجهين (4) نظرا إلى أنّه مثل استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي.

لأنّا نقول : ليس التأكيد إلاّ اعتبارا منتزعا من الكلام بعد وروده على وجه خاصّ ، وبعد تحقّق مورده - كما هو المفروض من تعاقب الأمرين وتوارد الطلبين - يصحّ انتزاعه من الكلام من دون ارتكاب مخالفة للظاهر ، فلا وجه لقياسه بالمجاز ، كيف! وذلك قضيّة أصالة الحقيقة في اللفظ الموضوع للماهيّة.

نعم. لو قيل بأنّ ظاهر حال المتكلّم إنّما هو التأسيس كان وجيها ، مع كونه أيضا في مجال المنع ، حيث إنّه لا يستبعد التأكيد مثل استبعاد كون المتكلّم في مقام الإلغاز والتعمية.

ص: 275


1- لم يرد في ( ق ).
2- لم يرد في ( ق ).
3- لم يرد في ( ق ).
4- لم نعثر عليه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره ذلك البعض أيضا ، فإنّ اجتماع العنوانين من دون أن يكونا مقصودين ممّا لا إشكال فيه أصلا كما لا يخفى ، وعلى تقدير أن يكونا داعيين للمتكلّم في تكلّمه لا دليل على امتناعه لا عقلا ولا لغة ؛ ولا دخل لذلك باستعمال اللفظ في معنيين ، فإنّه لم يعهد من متكلّم إلى الآن استعمال اللفظ والإتيان به مرآة لمعنيين ، وأين ذلك من الاختلاف في الاستعمال؟ فربما يكون المتكلّم بكلام عامّ لأفراد كثيرة ذا إرادات عديدة ودواعي كثيرة بالنسبة إلى كلّ فرد ، كما لا يخفى على الملاحظ.

وكيف كان ، فبعد ما عرفت : من أنّ اللفظ إنّما هو موضوع للطبيعة المهملة لا دليل في اللفظ على تعدّد المطلوب ؛ لأنّ طلب المطلق لا ينافي طلب المقيّد ، بل يحتمل أن يكون المطلوب في أحدهما عين المطلوب في الآخر.

لا يقال : إنّ الأمر بالطبيعة كما لا ينافي أن يكون المطلوب فيها عين المطلوب بالفرد ، فكذا لا ينافي أن يكون غيره كما هو قضيّة ملاحظة نفس المعنى.

لأنّا نقول : نعم ، ولكنّه مجرّد عدم الدليل على التعدّد يكفي في الحكم بالاتّحاد كما هو قضيّة الأصل.

هذا إذا لم يعلم ورود المطلق في مقام بيان تمام المراد ، إذ لو علمنا ذلك فلا بدّ من استعلام الاتّحاد من الخارج ، بل ولا يعقل ذلك ، إذ بعد الاستعلام يعلم عدم وروده في مقام بيان تمام المراد. نعم يتمّ ، ذلك على المشهور من دخول الشياع في اللفظ ، فإنّه قبل الاستعلام لا بدّ من حمل اللفظ على الإشاعة والقول بوجوب المقيّد عينا وتخييرا وبعد الاستعلام والعلم باتّحاد التكليف لا بدّ من القول بكونه مجازا ، لعدم إرادة الشياع منه.

وبالجملة ، فمقتضى الأصل اللفظي هو تعدّد التكليف ؛ لأنّ المطلق بقيد

ص: 276

الشياع يغاير المقيّد قطعا. ودعوى فهم العرف اتّحاد التكليف بناء على ذلك من اللفظ في نفسه جزاف من القول ، لا يساعده دليل ولا اعتبار. نعم ، فهم العرف مسلّم ، لكنّه بواسطة ما صرنا إليه من خروج الشياع ، فتدبّر.

تذنيبان :

الأوّل : قد تكرّر في كلماتهم دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد مثل ما يظهر من جماعة (1) : من دعوى انصراف المسح في آية التيمم (2) إلى المسح بباطن اليد ، وقد عرفت أنّ قضيّة الانصراف كالتقييد اللفظي من أنّ متعلّق الحكم هو الفرد الخاصّ [ على وجه يدور معه الحكم وجودا وعدما فلا يصحّ التيمّم لو وقع المسح بظاهر اليد اختيارا ولو تعذّر الفرد الخاصّ ](3) فيحتاج إثبات الحكم في فرد آخر إلى التماس دليل آخر ، ومع ذلك فقد تراهم يتمسّكون بنفس الإطلاق لإثبات الحكم في الفرد الغير الشائع عند تعذّر الفرد الشائع ، فقالوا بوجوب المسح بظاهر اليد عند تعذّر المسح بباطن اليد. ويمكن التفصّي عنه بوجهين :

أحدهما : أنّ الاستناد إلى الإطلاق بعد تعذّر القيد إنّما هو فيما إذا قلنا بالتقييد من حيث إنّ المقيّد هو القدر المتيقّن من المطلق ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالفرد الآخر بعد تعذّر القدر المتيقّن أيضا احتياط. ولا ينافي ذلك عدم حصول الامتثال به عند إمكان القدر المتيقّن ؛ لأنّ الاحتياط في خلافه حينئذ.

ص: 277


1- في ( ق ) : « من بعضهم ».
2- المائدة : 6.
3- ما بين المعقوفتين من المطبوع.

وفيه : أنّه وإن لم يكن بعيدا عن مذاق الجماعة ، إلاّ أنّه خلاف التحقيق في وجه الحمل ، كيف! والقول بالاحتياط عند وجود الدليل الكاشف عن الواقع وجوبا ممّا لم نقف على قائل به ، فإنّ المطلق ليس مجملا عندهم ، بل يعاملون معه معاملة الدليل ، كما لا يخفى ، فلا وجه لأن يكون ذلك وجها لهذه المسألة الاتّفاقيّة.

الثاني من الوجهين : أنّ أفراد المطلق كقولك : « رقبة » تارة تلاحظ من جهة الإيمان والكفر ، وأخرى من جهة حال الاختيار والاضطرار ، فإنّ هذه أيضا جهة ملاحظة الاطلاق (1) والتقييد بالنسبة إليها ، وتقييد المطلق من جهة لا يستلزم تقييده من جهة أخرى ، فإذا فرضنا أنّ الرقبة قد قيّدت بالإيمان في إحدى الحالتين فقط ، فلا بدّ من الأخذ بالإطلاق في غير تلك الحالة.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : يحتمل أن يكون الموارد التي رجعوا فيها إلى الإطلاق من هذا القبيل ، كأن نقول : إنّ المسح في آية التيمّم إنّما هو محكوم بالإطلاق بالنسبة إلى ما هو يقع به (2) من الظاهر والباطن ، وانصرافه إلى أحد فرديه في حالة خاصّة - وهي حالة الاختيار - لا يقتضي انصرافه إلى أخرى ، فيصحّ التمسّك بالإطلاق فيها.

نعم ، لو كان المقيّد ممّا يعقل فيه إطلاق كان إطلاقه دليلا على التقييد في الحالتين ، إلاّ أنّ الانصراف حكمه حكم المقيّدات اللبيّة لا بدّ فيها من الاقتصار على ما هو المعلوم من التقييد ؛ وذلك نظير ما قلنا بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 278


1- في ( ق ) : « للإطلاق ».
2- في ( ق ) : « ما يقع فيه ».

عند النسيان ، فإنّ الخارج من إطلاق الأمر هو حال الذكر والاختيار ، لامتناع الاجتماع على تقدير عدم خروجها ، وإطلاق الأمر باق يصحّ التعويل عليه في الحكم بالصحّة وحصول الامتثال عند عدم المزاحم (1).

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين المجاز من خروج الشياع عن معنى اللفظ (2) وغيره ، والوجه في ذلك : أنّ المتكلّم بالمطلق إذا حاول الشيوع والسراية لا بدّ له من أوّل الأمر أن يلاحظ المعنى على وجه السراية والإشاعة ، ثمّ يستكشف ذلك بملاحظة عدم ورود البيان والقيد مع كونه واردا في مقام البيان. كما أنّه إذا لم يرد ذلك وأراد نفس المعنى لا بدّ وأن يكون مقصوده من أوّل الأمر الكشف عن نفس المعنى بدون ملاحظة شيء آخر ، ويستكشف ذلك من عدم وروده في مقام البيان ومن ورود القيد ، فإذا فرضنا ورود قيد للماهيّة يكشف ذلك عن إهمالها من أوّل الأمر ، وبعد تعذّر القيد لا يعقل أن ينقلب المعنى عمّا كان عليه من الإهمال ، لامتناع خروج الشيء عمّا وقع عليه.

إلاّ أن يستند إلى ما ذكرنا في الجواب من تغاير جهات الإطلاق. وإهمال المعنى من جهة ورود القيد الكاشف عنه لا ينافي إطلاقه من جهة أخرى ، لعدم ورود القيد مع وروده في مقام البيان من تلك الجهة. وانفكاك هذه الجهات بعضها عن بعض ممّا لا ينبغي الارتياب فيه كما يظهر بملاحظة العموم في هذه الجهات ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا وجه للفرق بين المذهبين في ورود الإشكال ودفعه ، كما قرّرنا.

ص: 279


1- في ( ق ) : « المزاحمة ».
2- في ( ق ) : « مسمّى اللفظ ».

نعم في المقام إشكال آخر يشبه بما تقدّم يحتمل فيه الفرق بينهما ، وتقريره : أنّهم قالوا في كثير من الموارد باختلاف حكم العاجز والقادر ، فيجب على القادر الإتيان بالسورة ويسقط عن العاجز ، فعلى المشهور من القول بالمجازيّة يكون الصلاة في قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) مستعملة في المقيّد بخصوصها ، فإذا فرضنا تعذّر القيد لا وجه للاستناد إلى المطلق (1) في إثبات الصلاة بدون القيد للعاجز ولو بضميمة قوله (2) : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (3) فإنّ ذلك يصلح وجها لتشريع وجوب الميسور بعد تعذّر المقيد ، لا لإرادة وجوبه من الدليل الأوّل ، لاستلزامه استعمال المطلق تارة في المقيّد وأخرى في المطلق على وجه الترتيب (4) ، فإنّ الإطلاق ليس في عرض المقيّد (5) ، بل إنّما هو مترتّب على انتفاء المقيّد ، وهذا موقوف على استعمال جديد وإنشاء لفظ آخر غير اللفظ المنشأ أوّلا وإن قلنا بجواز استعمال اللفظ في المعنيين أيضا ؛ لأنّهما إنّما يكون أحدهما في عرض الآخر على تقدير جوازه ، وعلى المختار يصحّ الاستناد إلى المطلق بضميمة قوله (6) : « الميسور لا يسقط بالمعسور » فإنّ المطلق لا يراد منه غير نفس المعنى ، وله بيانان : أحدهما المقيّد وثانيهما قوله : « الميسور » بالنسبة إلى الحالتين. ولا ضير فيه بوجه ، لعدم اختلافه باختلاف أحواله وطواريه كما قدّمنا.

ص: 280


1- في ( ق ) : « الإطلاق ».
2- لم يرد « قوله » في ( ق ).
3- عوالي اللآلي 4 : 58 ، الحديث 205 ، وفيه : لا يترك بالمعسور.
4- في ( ق ) : « الترتّب ».
5- في ( ق ) : « التقييد ».
6- لم يرد « قوله » في ( ق ).

الثاني (1) : أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم الفرق بين الواجب والمستحبّ في الحمل ، فإنّ اللفظ لا دليل فيه على التعدّد والأصل قاض بالاتّحاد ، ومعه يتحقّق التنافي فيحمل المطلق على المقيّد.

إلاّ أنّ المشهور بينهم عدم الحمل. والوجه فيه على المشهور واضح ؛ لأنّ اللفظ ظاهر في التعدّد ، وإثبات الاتّحاد من الخارج موقوف على مقدمة عزيزة ، وهي القطع بعدم تفاوت مراتب تلك الماهيّة في المطلوبيّة ، وأنّى لك بإثباته!

وتحقيقه : أنّ تعدّد الاستحباب كما يكون بتعدّد الفعل كذلك يكون بتعدّد مراتب محبوبيّة فعل واحد وقد علمنا بذلك في موارد جمّة (2) ، فإذا ورد أمر مطلق بزيارة الحسين عليه السلام ثمّ ورد أمر آخر بزيارته عليه السلام يوم عرفة لا داعي على الحمل ، بل يحمل على زيادة استحبابها في عرفة.

وأمّا على المختار : فلعلّ الوجه العلم بورود المستحبّات غالبا في مقام البيان والظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، أو للعلم باختلاف مراتب المطلوبية في المستحبّات غالبا فيحمل المشكوك على الأغلب. وأمّا إذا وردا في خبر « الإمام » عليه السلام (3) فيحكم أيضا بإبقائهما على ظاهرهما ؛ ويظهر الوجه عن قريب في الحكم الوضعي إن شاء اللّه (4).

ص: 281


1- أي : التذنيب الثاني.
2- في غير ( ق ) : « خمسة جمّة ».
3- العبارة في ( ق ) : « إذا ورد في حيّز الإباحة » وفي ( ش ) : « في خبر الإباحة ». والظاهر صحّة ما أثبتناه من المطبوس. وإن كان هو أيضا قاصرا عن إفادة المراد. والمقصود منه - على فرض صحّة النسخة - وأما إذا ورد أمر في خبر بزيارة الإمام عليه السلام وفي آخر بزيارته يوم عرفة. أو المراد : إذا ورد في خبر أمر بزيارة الحسين عليه السلام وفي آخر بزيارة الإمام عليه السلام.
4- يأتي في الصفحة : 287.

وأمّا على المشهور : فالأمر واضح. وهكذا الحال في الواردين في مقام الكراهة وستعرفه بتفصيله (1).

المقام الرابع : فيما إذا كانا منفيّين سواء كان متعلّق النفي نفس الحكم المتعلّق بهما كقولك : « لا يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » أو كان متعلّقا بالمحكوم به ، كقولك : « لا تعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة (2) » وعلى الوجهين لا حمل بلا خلاف كما عن العلاّمة (3) ، بل ادّعى عليه الإجماع في الزبدة (4) والاتّفاق في المعالم (5) على ما حكي عنه. والوجه في ذلك عدم الداعي عليه ؛ لأنّ انتفاء الحكم عن الطبيعة الواقعة في سياق النفي لا ينافي انتفاءه عن الفرد أيضا ، فإنّ التأكيد بابه واسع ، وقد عرفت أنّه ليس مجازا ولا بخلاف الظاهر ، بل وهو قضيّة الأخذ بالظواهر.

نعم ، على القول بالمفهوم يتأتّى التنافي بين مفهوم القيد ومنطوق العامّ ، فلا بدّ إمّا من تخصيص العامّ بالمفهوم أو إلغاء المفهوم في قبال العموم.

ودعوى اتّحاد التكليف ممّا لا شاهد عليها ، أمّا اللفظ فلأنّ العامّ بعمومه يغاير الخاصّ ، فظاهر اللفظين هو التعدّد ، والعرف أيضا لا يساعد الاتّحاد ، بل مدار حكم العرف على الظواهر ، ولا حكم للعرف مع قطع النظر عنها ، وقد عرفت أنّها قاضية بالتعدّد. نعم ، لو قام على الاتّحاد إجماع خاصّ

ص: 282


1- راجع الصفحة : 284.
2- في ( ق ) : « كافرة ».
3- حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : 203 ، وراجع نهاية الوصول : 175.
4- زبدة الاصول : 104.
5- معالم الاصول : 152.

فلا بدّ من الحمل ، لأنّ ارتكاب التخصيص في العموم أهون من طرح اختصاص الحكم الخاصّ المستفاد من التقييد.

أقول : إنّما يتمّ ما ذكرنا فيما لو قلنا بأنّ المطلق الواقع في سياق النفي يجب أن يكون مفيدا للعموم ؛ لأنّ انتفاء الطبيعة يلازم انتفاء جميع أفرادها كما صرّح بذلك جماعة (1) ، وقد عرفت فيما تقدّم (2) : أنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عمّا يلحقها من الطوارئ واللواحق ممّا يتساوى فيه الوجود والعدم والنفي والإثبات. نعم ، الماهيّة الملحوظة على وجه السراية التي تقع في مقام البيان ممّا يختلف فيه الوجود والعدم ، فإن وقعت في حيّز الوجود في الإثبات يقتضي العموم البدلي وإن وقعت في حيّز النفي يقتضي العموم الشمولي.

فالتحقيق أن يقال : إنّ المنفيّين إذا كان المطلق منهما باقيا على إطلاقه غير خارج عمّا وضع له من نفس المعنى - كأن (3) لا يكون في مقام البيان حتّى يستكشف منه كونها ملحوظة على وجه السراية - فاللازم الحمل ، لما (4) تقدّم بعينه في المثبتين من غير فرق بين المقامين بوجه من الوجوه. وإن لم يكن كذلك - كأن يكون الماهيّة ملحوظة على وجه السراية لوقوعها في مقام البيان - فلا حمل ، كما عرفت أنّه لا حمل في المثبتين أيضا.

ص: 283


1- راجع نهاية الاصول ( مخطوط ) : 115 ، والمعالم : 92 ، والقوانين 1 : 138 ، وإشارات الاصول الورقة : 102.
2- راجع الصفحة : 250 وما بعدها.
3- في ( ق ) : « بأن ».
4- في ( ق ) : « كما ».

وبالجملة ، لا نجد فرقا بين المقامين في مورد الحمل ، وهو ما إذا كان المطلوب من المطلق نفس المعنى من دون مدخليّة شيء في الماهيّة وعدمه ، وهو ما إذا كان المطلق واقعا موقع البيان.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ المنفيّين لا يجب رجوعهما إلى العموم والخصوص دائما (1) كما زعمه جماعة (2).

فإن قلت : إنّ الواقع في حيّز النفي يلزم أن يكون واردا في مقام البيان كما يساعده العرف ، فيتّجه قول المشهور.

قلنا : إن أريد أنّ أغلب موارد النفي هو ذلك ، فعلى تقدير تسليمه لا يضرّ فيما نحن بصدده من الحمل ، كما أنّ أغلب موارد الإثبات أيضا كذلك. وإن اريد الملازمة الدائمة فلا نسلّم ذلك ، كيف! ولا يقضي به شيء والعرف بخلافه ، كما يظهر من قول الطبيب إذا أراد علاج شخص خاصّ ، فإنّه كما يصحّ له الأمر بشرب الدواء على وجه الإهمال يصحّ النهي عن شرب الدواء على وجه الإهمال من غير تناقض وعدول عن الظاهر ، كما هو ظاهر لمن تدبّر فيما ذكرنا من أحوال الماهيّة.

فإن قلت : إنّ وقوع الماهيّة في حيّز النفي وإن كان لا يقضي بذلك ، إلاّ أنّ دليل الحكمة يقضي به فيقع في مورد البيان بواسطة الدليل.

قلت : ذلك إنّما يتمّ فيما إذا تجرّد المطلق عن ورود المقيّد ، وأمّا مع ورود المقيّد فلا يجري فيه دليل الحكمة ، كما هو كذلك في الإثبات أيضا ، فتدبّر.

ص: 284


1- لم يرد « دائما » في ( ق ).
2- راجع شرح مختصر الاصول : 286 ، والإحكام 3 : 7 - 8 ، والنهاية : 175.

المقام الخامس : فيما إذا كانا مختلفين ، بأن كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا ، فإمّا أن يكون النفي في المنفيّ واردا على الحكم كقولك : « يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » (1) وإمّا أن يكون واردا على المحكوم به كقولك : [ يجب عتق الرقبة ويجب عدم عتق الرقبة المؤمنة إذا كان النفي والإثبات مستفادين من نفس الحكم ، كقولك : ](2) « أعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة » مثلا.

فعلى الأوّل : إن استظهرنا أنّ وجوب المنفيّ هو مطلق الوجوب الشامل للوجوب العيني والتخييري الشرعي والعقلي ، فلا بدّ من التقييد كما هو ظاهر.

وإن لم نستظهر ذلك فلا داعي على التقييد ؛ لانّ الواجب حقيقة هو المطلق وإن كان هو عين المقيّد في وجه ، لكن يمكن أن يقال : إنّه ممّا لم يتعلّق به الأمر بخصوصه فلا منافاة فلا يجب التقييد.

وعلى الأخيرين : سواء كان العموم والخصوص بين نفس الفعلين مع قطع النظر عن متعلّقهما أو كان بين المتعلّقين - كما فيما نحن فيه - فإن قلنا بأنّ النهي (3) يقتضي الفساد فلا بدّ من التقييد ، لدلالته على عدم حصول الإجزاء بالإتيان بالمقيّد ، فيقدّم على ما أفاده الأمر بالمطلق من حيث عدم البيان ؛ لأنّه بيان. وإن قلنا بعدم الاقتضاء فعلى القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي يجب التقييد (4) ، وعلى القول بالجواز لا داعي على التقييد ويجزي الإتيان بالمقيّد عن الأمر الوارد

ص: 285


1- في ( ق ) بدل « المؤمنة » : « الكافرة ». وهكذا فيما يأتي من المثالين.
2- ما بين المعقوفتين لم يرد في ( ش ).
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « النفي ».
4- في ( ق ) زيادة : « أيضا ».

بالمطلق وإن كان عاصيا بواسطة النهي أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ النهي لا يقتضي الفساد ، ولكن لم يذهب إليه من قال بجوازه. ولعلّه مبنيّ على ما تخيّله بعض المجوّزين من أنّ الجواز العقلي لا ينافي التقييد العرفي ، وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في محلّه (1).

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختلافهم في مسألة النهي [ في العبادات ](2) واتّفاقهم في المقام ، حيث إنّ الكلام في المقام بعد الفراغ عن اقتضاء النهي الفساد ، فالكلام هناك في إثبات الصغرى للمقام ، فتدبّره متأمّلا. هذا إذا كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا.

وأمّا إذا كان المطلق منفيّا والمقيّد مثبتا ، كأن تقول : « لا تعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا يجب عتق رقبة » فإن حملنا المنفيّ على الإهمال فلا حمل ولا تقييد ، لعدم ما يقضي به. وإن حملناه على الشياع والسراية فاللازم التقييد ؛ لأنّه حينئذ بمنزلة العموم والخصوص ، لكنّه خارج عن المقام كما عرفت تفصيله في المنفيّين (3).

ثمّ إنّه لا فرق في هذه المقامات بين ذكر السبب وعدمه ، وبين تعدّده ووحدته ، كما أشرنا إليه إجمالا في بعضها واللّه الهادي.

ص: 286


1- راجع مطارح الأنظار 1 : 695 ، هداية في ذكر احتجاج المفصل بين العرف والعقل.
2- أثبتناه من ( ش ).
3- راجع الصفحة : 283 وما بعدها.

هداية

اشارة

قد عرفت حكم المطلق والمقيّد الواردين في مقام بيان الحكم التكليفي.

وأمّا حكمه في مقام بيان الأحكام الوضعيّة : فالظاهر منهم عدم الحمل ، فلو قيل : « البيع سبب » و « البيع العربي (1) سبب » يحمل على مشروعيّة المطلق والمقيّد معا ، بل لا يكتفى بذلك ويقال : بأنّ السبب كلّ واحد من أفراد البيع على وجه العموم الاستغراقي ، فيطالب بالفرق بين الأحكام التكليفيّة وغيرها من حيث الحمل فيها وعدمه في الوضعيّة. ثمّ الحمل على العموم على المذهبين (2).

أمّا على المختار : فالإشكال ظاهر الورود ، حيث إنّ اللفظ لا دلالة فيه على شيء سوى المعنى القابل لأنحاء التبدّلات ، ولا دلالة فيه على شيء من تلك الأنحاء ، فإثبات العموم موقوف على دليل آخر من عقل أو نقل.

وأمّا على المشهور : فلأنّ غاية ما يلزم من اللفظ والوضع هو العموم البدلي ، فيستفاد منه سببيّة فرد واحد على سبيل التخيير دون العموم الاستغراقي.

والجواب : إن استظهرنا عدم ورود المطلق في مقام البيان فعلى المختار لا وجه لعدم الحمل ولا نقول به ولا ضير فيه. وإن استظهرنا وروده في مقامه فالفرق إنّما جاء من خصوص الحكم والمحمول (3) فإنّ المحمولات مختلفة جدّا. فتارة

ص: 287


1- في المخطوطات : « بيع العربي ».
2- كذا في النسخ ، والعبارة غير تامّة.
3- في ( ق ) : « المحمولات ».

يكون ثبوت المحمول للموضوع على وجه التخيير مفيدا في مقام البيان كالوجوب ، فإنّ ثبوته لما هو محمول له - كالصلاة - على وجه التخيير ممّا لا غائلة فيه ولا إشكال في كونه مفيدا ، كما يظهر بالرجوع إلى العرف. وتارة يكون ثبوته له على وجه العموم مفيدا وعلى وجه التخيير لا يعدّ مفيدا ، وهو ينافي كونه في مقام البيان والإفادة فيصرف (1) بحكم العقل والعادة إلى العموم مثل السببيّة والمانعيّة ونحوهما من الأمور التي لا وجه للإخبار بثبوتها على وجه التخيير والإجمال في مقام البيان من غير فرق في ذلك بين المذهبين ؛ لأنّ العموم الاستغراقي غير معنى اللفظ على المشهور أيضا ؛ هذا هو الوجه في فهم العرف من الخطابات المذكورة العموم أيضا.

ومنه يظهر الوجه في إفادة المنفيّين العموم ، فإنّ المطلق الوارد في مقام البيان إذا تعلّق به النفي يفيد العموم ، كما إذا قيل : « لا تضرب » إذ التخيير فيه ممّا لا فائدة فيه كما لا يخفى.

فعند التحقيق لا يختلف الحكم في المقامات المذكورة نظرا إلى اللفظ وإن اختلف بحسب حكم العقل من حيث الإفادة وعدمها في بعض دون آخر.

تذنيب يشتمل على فوائد :

الأولى : إذا جعل المطلق [ شرطا لشيء ](2) - كالستر في الصلاة - وجعل المقيّد شرطا آخر كالستر (3) بغير الحرير فيها ، فيبنى على اشتراط كلّ منهما.

ص: 288


1- في « ش » : « فينصرف ».
2- في النسخ : « بشرط شيء » ، والصواب ما أثبتناه.
3- العبارة في ( ق ) : « كالتستر للصلاة وجعل للمقيّد شرط آخر كالتستّر ... ».

فلو لم يتمكّن من تحصيل المقيّد يجب الأخذ بالشرط المطلق ، وليس ذلك من الحمل كما لا يخفى.

الثانية : إذا ورد مطلق ومقيّد بالفرد النادر ، كقولك : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة ذا رأسين » فهل يحمل المطلق على الفرد النادر مطلقا ، أو لا يحمل مطلقا ، أو يفصّل بين المنفيّين والمثبتين؟ وجوه :

من أنّ بيان الفرد النادر وذكره هل (1) يصلح لأن يستكشف منه ملاحظة المتكلّم المطلق على وجه الإهمال مطلقا (2) ، فيحمل. أو لا يصلح لذلك نظرا إلى ظهور المطلق في الشائع (3) ، فالنادر خارج عن مدلوله ، فلا ينافي ثبوت الحكم له ثبوته لما هو مغاير له (4). أو يصلح في المثبتين دون المنفيّين ، لرجوع المطلق فيهما إلى العموم ، فلا ينافي نفي الحكم عن فرد من أفراده.

والأوجه أن يقال : إن استظهرنا ورود المطلق في مقام البيان ، فلا وجه للحمل في المثبتين ؛ لأنّ ذلك يقضي بالانصراف ، وبعد الانصراف لا ينافي ثبوت الحكم للفرد النادر ، فلا تعارض بينهما. بخلاف ما إذا لم يكن المقيّد من النادر ، فإنّه على تقدير وروده في مقام البيان يتعارضان ؛ مع احتمال أن يكون بيان الفرد النادر علامة لملاحظة المتكلّم المطلق على وجه العموم أيضا ، نظير : استثناء الفرد النادر دليل على العموم. نعم ، ورود المقيّد في المقام ليس دليلا على عدم وروده في مقام البيان ، كما أنّه دليل عليه في غيره لئلاّ يلزم البداء.

ص: 289


1- في ( ق ) بدل « هل » : « لا ».
2- لم يرد « مطلقا » في ( ق ).
3- في ( ق ) : « الشياع ».
4- في ( ق ) : « لما خارج عنه ».

وإن لم نستظهر فلا مانع من الحمل ، بل هو في محلّه ؛ لأنّ الفرد النادر ليس خارجا عن حقيقة المطلق ، فيحتمل أن يكون هو المراد من المطلق في الواقع.

وكذلك الكلام في المنفيين.

وأمّا في المختلفين : فإن كان النفي مطلقا فلا بدّ من التخصيص وإن كان المطلق مثبتا فلا بدّ من التقييد ، غاية الأمر يؤكد الانصراف ، ولا ضير فيه.

الثالثة : إذا ورد للمطلق مقيّدان مستوعبان ، كأن يقال : « أعتق رقبة مؤمنة » و « أعتق رقبة كافرة » فهل يحكم بالإطلاق نظرا إلى تساقطهما أو نظرا إلى بيانهما (1) للمطلق على وجه الإطلاق ، أو يتخيّر بين المقيّدين نظرا إلى العلم بالتقييد مع التردّد فيهما من دون ترجيح بينهما فلا بدّ من التخيير ، أو يتوقّف نظرا إلى إجمال الدليل بواسطة تعارض البيانين؟ وجوه :

الأوجه هو التخيير ، إذ لا وجه للتساقط كما قرّر في محلّه : من أنّ التعارض لا يوجب التساقط. ولا يكون كلّ منهما بيانا لقضاء العرف بالحمل. ولا وجه للإجمال أيضا بعد إطلاق أدلّة التخيير في المتعارضين الشامل للمقام أيضا كما هو ظاهر.

الرابعة : كلّ ما تقدّم من أحكام العامّ والخاصّ : من جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد وتخصيص المنطوق بالمفهوم مخالفا وموافقا وأحكام العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما ومصداقا وبالمتّصل والمنفصل ، يجري في المطلق والمقيّد ، لاتّحاد الوجه في المقامين من دون تفاوت.

ص: 290


1- في ( ق ) : تباينهما ، وفي ( ع ) : إثباتهما.

نعم ، ينبغي استثناء مقدار التخصيص من بين الأحكام المذكورة في باب العامّ والخاصّ ، فإنّ ذلك لا يجري في المطلق والمقيّد ، فإنّ التقييد ممّا لا حدّ له عندهم ، لجوازه في أيّ مرتبة من المراتب قليلا وكثيرا ، ولعلّه ممّا لا كلام فيه أيضا عندهم ، ولا إشكال فيه أيضا لمساعدة العرف على جوازه حتّى إلى الواحد ، كما يظهر من مطاوي المحاورات العرفيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من مباحث المطلق والمقيّد ، ولله الحمد (1) [ وصلّى اللّه على رسوله وأهل بيته ](2).

ص: 291


1- في ( ش ) : « فلله الحمد تمّه بالخير والسعادة » ، وفي ( ع ) : « والحمد لله باطنا وظاهرا ».
2- من ( ق ).

ص: 292

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القول في المجمل والمبيّن

اشارة

ص: 293

ص: 294

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

المجمل لغة كما عن أهلها : المجموع ، مأخوذ من « أجملت الحساب » إذا جمعته ، أو من الخلط كما قيل (1).

وعرّفه جماعة (2) اصطلاحا بأنّه : ما لم يتّضح دلالته ، فكأنّه مجمع الاحتمالات ، أو لاختلاطها.

والمراد بالموصولة : اللفظ الموضوع ، فلا يرد النقض بالمهمل. وتقسيم المجمل إلى الفعل والقول لا يدلّ على جريان الاصطلاح عليه كما لا يخفى ؛ مضافا إلى ظهور السالبة في وجود الموضوع وإن صدقت عند انتفائه أيضا والمراد بالدلالة : اللفظيّة الوضعيّة ، فإنّها المعهود (3) في باب الألفاظ ، فلا يرد النقض بالمسموع من وراء الجدار فإنّه لا يتّضح دلالته على قائله ، إذ تلك دلالة عقليّة ؛ ومع ذلك يرد عليه : أنّ عدم وضوح الدلالة ممّا لا يعقل ، فإنّ الدلالة تابعة للعلم

ص: 295


1- المعتمد 1 : 293 ، والإحكام للآمدي 3 : 11 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 286 - 287.
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 152 ، والعضدي في شرحه على المختصر : 285 - 286 ، والكلباسي من الإشارات ، الورقة : 202 ، وراجع القوانين 1 : 332 ، والفصول : 223 ، أيضا.
3- في ( ق ) : « المعهودة ».

بالوضع فمتى علم الوضع يتحقّق الدلالة ، فإنّه علّة تامّة لها ويمتنع تخلّفها عنه ، حتّى في المشترك بعد العلم بأوضاعه ، وحتّى في المجاز ولو مع القرينة ، فإنّها صارفة عن الإرادة لا عن الدلالة ، بل ومحاسن الكلام (1) وأسرار البلاغة إنّما هي فرع للدلالة على الحقيقة ، فما هو غير متّضح (2) في الاشتراك والمجاز عند فقد القرينة المعيّنة هو المراد ، لا الدلالة.

نعم ، يتصوّر عدم وضوح الدلالة ولو بوجه فيما إذا علم إجمالا وضع اللفظ لمعنى من المعاني ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الدلالة غير متّضحة ، بمعنى أنّه لا يدلّ على معنى خاصّ ، لعدم العلم به على وجه الاختصاص.

وكيف كان ، فالمبيّن خلافه.

وقد قسّموا المجمل إلى القول والفعل والترك (3) ، وإلى المفرد والمركّب.

أمّا القول : فستعرف تفصيله (4).

وأما الفعل : فوجه الإجمال فيه : هو اشتراكه في وقوعه على وجوه عديدة ، وإذا جهل وجه وقوعه تردّد بين جميع ما يحتمله من الوجوه ، فيكون غير ظاهر الدلالة ومجملا.

وفيه نظر ، إذ تلك الوجوه ليست مدلولة للفعل مثل دلالة اللفظ على معناه ، لعدم الوضع. ودلالته على عدم الحرمة إنّما هو بواسطة دليل العصمة لا بنفس

ص: 296


1- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « محاسن المجاز ».
2- في ( ق ) زيادة : « كما ».
3- كما في ضوابط الأصول : 226 ، وراجع المناهج : 121 ، وشرح المختصر : 287 ، وفيهما تقسيمه إلى قول وفعل.
4- في الصفحة الآتية وما بعدها.

الفعل (1). نعم ، لو وضع فعل لمعنيين وصدر ذلك الفعل عن الفاعل من غير اقترانه بما يرشد إلى أحد الوجهين كان ذلك مجملا فعليّا ، كالإشارة المردّدة بين الأمر بالذهاب والأمر بالقعود مثلا ، وكالقيام المردّد بين كونه تواضعا لمن قدم عليه وكونه استراحة لما حصل فيه من الكسالة.

وأمّا المفرد (2) : فإجماله تارة : باعتبار نفس اللفظ ذاتا ك- « تضرب » المشترك بين المخاطب والغائبة ، أو عرضا ك- « المختار » (3). واخرى : باعتبار المعنى ذاتا كالمشترك ، أو عرضا كالمجاز المتعدّد عند فقد القرينة المعيّنة مع وجود الصارفة.

وأمّا المركّب : فإجماله تارة باعتبار وقوع لفظ في تركيب خاصّ على وجه لو كان في غيره لم يكن مجملا ، كقول عقيل : « أمرني معاوية بلعن علي عليه السلام ألا فالعنوه » (4) وقول بعض [ أصحابنا ](5) حين سئل عن الخليفة بعد النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال : « من بنته في بيته » (6). واخرى باعتبار نفس التركيب كقوله تعالى : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ... ) (7) فقالوا : إنّ المعطوف محتمل

ص: 297


1- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع زيادة : « لها ».
2- أي المجمل المفرد.
3- يعني لفظ « المختار » المشترك بين اسمي الفاعل والمفعول بعد الإعلال.
4- العقد الفريد 4 : 29.
5- لم يرد في ( ش ).
6- المعروف في الكتب أنّه قول سبط ابن الجوزي ، راجع رياض الجنة 1 : 158 ، وسير أعلام النبلاء 21 : 371.
7- البقرة : 237.

لأن يكون الزوج فيكون العفو عمّا في ذمّة الزوجة إذا كان المهر مقبوضا لها ، ولأن يكون وليّ الزوجة فيكون المعفوّ عنه الزوج بإبراء ذمّته عن المهر ، والإجمال إنّما هو في جملة الكلام لا في جزء خاصّ.

وفيه نظر ؛ لأنّ الإجمال على تقدير تسليمه إنّما هو ناش من جزء خاصّ (1) في الكلام وهو صلاحيّة الصلة المذكورة للموصول لكلّ واحد من الوليّين ، فليس الإجمال في الجملة ؛ مضافا إلى أنّه لا إجمال في الآية بوجه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الصلاحيّة لا تنافي البيان ، لاحتمال العموم ، بل وهو (2) الظاهر حيث لا عهد ، إلاّ أن يكون المعهود كما ستعرف وجهه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قضيّة العطف أن يكون المراد هو وليّ الزوجة ، إذ لو كان المراد هو الزوج لزم أن يكون مستثنى من المفهوم الثابت بواسطة قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) وهو خلاف الظاهر للمتعاطفين ، فإنّ الظاهر خروجهما من مخرج واحد كما لا يخفى على من له أنس بمواقع الكلام. ولا يعارض ذلك لظهور (3) عقدة النكاح في الزوج ، إذ هذه الصفة موجودة فعلا في الزوج دون الوليّ ؛ لأنّ ذلك أظهر ، بل لم نجد في العربيّة نظيرا له.

ومنه يظهر عدم إمكان إرادة العموم من الموصول ، إذ يلزم الاستثناء تارة من المفهوم واخرى من المنطوق ، وهو لا يصحّ في استعمال واحد. ولا يجوز أن يكون المراد هو الوليّ ويكون الاستثناء من المفهوم منقطعا ، لكونه خلاف الظاهر

ص: 298


1- في ( ق ) : « جزئه الخاصّ ».
2- في ( ش ) : « هي ».
3- في ( ش ) : « بظهور ».

مع شناعته. ولو حمل قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) على بيان ما يستحقّه الزوج فهو أشنع ؛ لأنّ المراد بالمعطوف إن كان الوليّ لزم استثناؤه كالمعطوف عليه من المفهوم ، وهو وإن كان صحيحا ، لكنّه بعيد جدّا. وإن كان المراد الزوج فالمعطوف عليه خارج من المفهوم والمعطوف من المنطوق وهو أيضا فاسد.

ولو (1) حمل على بيان النصف (2) بينهما حتّى يكون بمنزلة قولنا : « لكلّ منهما نصف المهر » صحّ استثناء كلّ منهما من المنطوق ، إلاّ أنّه أبعد المحامل المتصوّرة في الآية ولا يصار إليه.

ثمّ إنّ المجمل على قسمين : أحدهما ما عرفت ، والآخر ما له ظاهر لم يرده المتكلّم كما في العامّ المخصّص (3) واقعا مع عدم العلم به على القول بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الحقّ ، والمطلق عند عدم ذكر المقيّد.

فإن أرادوا بذلك أنّه من المجمل فيما لو علم بوقوعه على هذا الوجه من المتكلّم كان ذلك حقّا لا مناص عنه ، فإنّا إذا علمنا أنّ المتكلّم إنّما لاحظ المطلق لا على وجه السراية فمراده مجمل لإجماله ، كما إذا علم التخصيص ولم يعلم بخصوصه ، وهذا هو الذي قلنا في بعض المباحث المتقدمة بسراية إجمال المخصّص إلى العامّ.

وإن أرادوا أنّه مع عدم العلم من المجمل ، فممّا لا يرى له وجه ، بل هو محكوم بالبيان إلى ظهور القيد ، وبعد الظهور ينكشف كونه واقعا على وجه

ص: 299


1- كذا في مصحّحة ( ش ) ، وفي النسخ بدل « ولو » : « لو لا ».
2- كذا في ( ش ) ، وفي ( ق ) : « التنصيف » ، وفي المطبوع و ( ع ) : « المتّصف ».
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « المخصوص ».

الإجمال. نعم ، يشكل ذلك فيما إذا قلنا باعتبار الأصول لا من جهة الظنّ بل تعبّدا ، إذ عند عدم الحاجة لا يترتّب على الكلام أثر شرعيّ حتّى يؤخذ بالأصل ويحكم بكونه مبيّنا (1) ، بخلاف الظنّ فإنّ وجوده لا يناط بترتيب الأثر كما لا يخفى على المتأمّل. [ واللّه الهادي ](2).

ص: 300


1- في ( ق ) : « مثبتا ».
2- من ( ش ).

هداية

لا إجمال في آية السرقة ، وهي قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... ) (1).

أمّا القطع : فلأنّ المتبادر منه مطلق الإبانة الصادقة على جميع مراتبها وخصوص مرتبة خاصّة وإرادتها بالدليل ، وقد مرّ أنّه لا يوجب الإجمال ، إذ بعده لا إجمال وقبله محمول على المسمّى.

نعم ، لا يبعد القول بالإجمال من حيث إنّ الظاهر - وهو إبانة الكلّ - غير مراد قطعا ولا ظاهر بعده فيتردّد بين المراتب العديدة من إبانة اليد. ولكن الإجمال إنّما جاء به من قبل أمر آخر لا بواسطة نفس الآية.

وأمّا في اليد : فإنّ الظاهر منها تمام العضو المخصوص ، وثبوت اسم خاصّ لبعض أجزائه ممّا لا دليل فيه على خلاف ما ذكرنا.

وأمّا الموارد التي يستعمل لفظ « اليد » فيها على بعضها كما في قولك : « غوّصت يدي » و « قطعت يدي » ونحو ذلك ، فليس « اليد » مستعملة فيها في أبعاضها بل في تمام العضو ، إلاّ أنّ نسبة تلك الأفعال إنّما تقتضي اتّصاف المورد بالفعل المذكور على الوجه المذكور من دون مجاز في الفعل أو في المورد ، كما أفاده بعض المحقّقين في عوائده ، حيث قال بعد ما قرّر من أنّ العرف ربما يتسامحون في صدق بعض المعاني على مصاديقها : إنّ هذه القاعدة

ص: 301


1- المائدة : 38.

- يعني المسامحة - جارية في وضع الجزء الصوري للنسبة بين الشيئين أيضا ، فكلّ ما يعدّ في العرف هذه النسبة فهو المراد بالإضافة من غير تغيير في حقيقة المضاف والمضاف إليه ، فإنّ الموضوع له للماهيّة الإضافيّة النسبة العرفيّة الحاصلة بين الحقيقتين ، فالتقبيل الحقيقي لزيد الحقيقي يحصل بجزء منه عرفا ، لا بمعنى أنّ زيدا الواقع في هذا التركيب يراد منه جزؤه عرفا ، بل بمعنى أنّ النسبة العرفيّة التي هي الجزء الصوري تحصل بذلك ، ولم يعلم للجزء الصوري معنى غير هذا لغة ولم يعلم للهيئة معنى آخر سوى المصداق العرفي ، ولا يختصّ ذلك بالتركيب الإضافي بل كذلك الإسنادي والتوصيفي ، نحو زيد مضروب ، وهذا الثور أسود إذا كان فيه نقطة بيضاء والقصيدة العجميّة إذا كانت فيها ألفاظ عربيّة (1). انتهى ما أردنا نقله بأدنى تفاوت.

فما أفاده [ غير ](2) بعيد ، إلاّ أنّه لا حاجة إلى اعتبار المسامحة في النسبة ، كما يظهر من قياسها على ما يقع من التسامح في طرفيها ؛ مضافا إلى ما يظهر منه : أنّ المعنى العرفي يغاير المعنى الحقيقي ، وليس كذلك ، بل المعنى محفوظ على الوجهين ، إلاّ أنّ التسامح في دعوى العرف صدق المعنى الحقيقي على ما ينزّلونه (3) منزلة الواقع. وعليك بإمعان النظر في كلامه لعلّك تطّلع على ما لم نطّلع عليه ، وهو الموفّق المسدّد الهادي.

ص: 302


1- عوائد الأيّام : 505.
2- لم يرد في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع.
3- العبارة في ( ش ) : « على ما يراد أنّه منزلة الواقع ».

هداية

الأقرب أنّ التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) (1) و ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (2) لا يلازم الإجمال. وقيل بالملازمة (3) ، وآخر بالبيان مطلقا (4).

واحتجّ الأوّل بأنّ (5) إضافة الحلّ والحرمة إلى نفس العين ليست إضافة حقيقيّة ، لامتناع تعلّقهما بها ، بل إنّما هي إضافة لملابسة (6) ، بين الحلّ والعين باعتبار الفعل المتعلّق بها ابتداء ، وحيث إنّ ذلك ممّا لا دليل على تعيينه بعد تعدّده (7) في نفسه يصير مجملا.

واحتجّ الثاني بأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم بعد أنّ الأصل في كلّ كلام حمله على البيان والإفادة ، نظير المطلق الوارد بدون القيد.

ص: 303


1- المائدة : 1.
2- النساء : 23.
3- نسبه الشيخ في العدّة 2 : 436 ، والآمدي في الإحكام 3 : 15 ، والعضدي في الشرح :
4- نسبه في المعالم : 156 إلى الأكثر ، ومثله في القوانين 1 : 339 ، واختاره صاحب المعالم ، وهو مختار الشيخ في العدّة 2 : 36.
5- في ( ش ) والمطبوع : « إلى أنّ ».
6- في ( ق ) : « الملابسة ».
7- في ( ع ) : « فعند تعذّره ».

والجواب عن الأوّل : فبأنّه ربما يكون الفعل الرابط بينهما ظاهرا عند أهل الاستعمال كما هو كذلك في أغلب الموارد التي يتعاطونه أهل العرف في محاوراتهم كالأكل في المأكول واللبس في الملبوس والشرب في المشروب ونحوها ، فإن أريد الملازمة بمعنى أنّ نفس التركيب مع قطع النظر عن ظهور خارجي يقتضي الإجمال فهو حقّ ، وإن أريد أنّ الواقع على الإجمال في جميع موارد التركيب فهو فاسد جدّا. لكنّ الإنصاف أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال غير الشقّ الأوّل من الترديد.

وعن الثاني : فبأنّ حذف المتعلّق إنّما يفيد العموم بعد البيان في الجملة بواسطة إحراز أركان الكلام من الموضوع والمحمول. وأمّا عند عدم إحرازها كذكر الفعل بدون الفاعل أو العكس فلا شكّ في إجماله كما فيما نحن فيه ، فإنّ المضاف إليه هو الفاعل والموضوع في هذه التراكيب ، وأصالة البيان لا تجري بعد العلم بالإجمال عرفا ، فلا يقاس ذلك بالمطلق.

ثمّ اعلم أنّ الحلّية والحرمة في هذه التراكيب كسائر الأحكام المتعلّقة بموضوعاتها تدور مدار صدق ذلك العنوان الذي تعلّق به الحكم على وجه لو زال العنوان زال الحكم ، إلاّ أن يعلم من دليل خارج عن نفس القضيّة الحمليّة ثبوت الحكم بعد زوال العنوان أيضا ، فيكشف ذلك الدليل عن كون العلّة التامّة للحكم هو حدوث العنوان في أحد الأوقات.

ثمّ إنّه بما ذكرنا ظهر (1) أنّ وجه الإفادة في أمثال هذه التراكيب في مورد إفادتها ليس وضعا جديدا للهيئة التركيبيّة ، لعدم الحاجة إليه والأصل عدمه ،

ص: 304


1- في ( ق ) : « ممّا ذكرنا يظهر ».

بل يكفي في ذلك ملاحظة صحّة الإضافة بواسطة ارتباط حاصل من (1) الحكم والعين من جهة ما هو منسوب إلى الطرفين ، كالأكل في ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) فإنّ له تعلّقا بالحلّ (2) من حيث اتّصافه به وبالعين (3) من حيث تعلّقه بها ، فيضاف الحلّ بما هو متعلّق لمتعلّقه مجازا في الإضافة والإسناد ، كما يشهد بما ذكرنا أنّ الذهن إنّما يلتفت إلى هذا المذهب بعد الالتفات إلى عدم تعقّل سلوك سبيل يقتضيه الوضع من ارتباط الحكم إلى العين بلا واسطة. وهذا ظاهر وإن زعم بعض الأجلّة (4) - تبعا للمحكيّ عن الشيخ (5) والعلاّمة (6) - خلافه. واللّه الهادي.

ص: 305


1- في ( ع ) بدل « من » : « بين ».
2- في ( ش ) : « باحلّ ».
3- في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « بين العين ».
4- الفصول : 224.
5- العدة 2 : 437.
6- نهاية الوصول : 178 - 179.

ص: 306

هداية

اشارة

قد تداول في تضاعيف المحاورات إطلاق مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) وموارد مثل هذا التركيب لا يخلو من وجوه.

فتارة : يستعمل في نفي الحقيقة والذات ، فيكون مفاد كلمة « لا » مفاد لفظ « العدم » إذا وقع محمولا بنفسه ، كقولك : « زيد معدوم » ومن هنا ذهب جماعة إلى عدم احتياجه إلى الخبر ، كما تقدّم في كلمة التوحيد (2).

ثمّ إنّ المنفيّ قد يكون مجرّد الذات من دون عنوان ، وقد يكون الذات باعتبار عنوانه الملحوظ في الكلام كقولك (3) : « لا صغيرة مع الإصرار » فإنّ المنفيّ هو عنوان « الصغر » (4) فالمنفيّ يمكن اعتباره على وجه المحموليّة إن لوحظ المنفيّ هو الذات المعنون من حيث إنّه معنون. ويمكن اعتباره على وجه الربط من حيث إنّ ذلك راجع إلى انتفاء الوصف العنواني عن الذات ، فإنّ التوصيف مسبوق بالحمل قطعا ، كما هو ظاهر لا سترة عليه.

وتارة يستعمل في نفي الصفة عن الذات ، فيكون مفاده مفاد العدم إذا كان رابطا ، وتلك الصفة مختلفة جدّا ، فتارة تكون صحّة ما تعلّق به النفي كقوله :

ص: 307


1- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.
2- راجع الصفحة : 106.
3- في ( ق ) : « كقوله عليه السلام ».
4- في ( ش ) : « الصغيرة ».

« لا صلاة إلاّ بطهور » بناء على عدم حمل النفي فيه على نفي الذات وحمله على نفي الصحّة (1) كما يراه جماعة (2) ، فيكون المراد هو عدم مطابقة الصلاة بدون الطهارة لما هو المأمور به حقيقة.

وتارة يراد به نفي المشروعيّة كقوله : « لا جماعة في نافلة » (3) فيكون المراد هو عدم تعلّق طلب الشارع بالجماعة في النافلة ، ويغاير الأوّل بالاعتبار.

وقد يراد به نفي الفضيلة كقوله عليه السلام : « لا صلاة لجار المسجد » (4) أو نفي الكمال كقوله عليه السلام : « لا صلاة لحاقن » (5) ويفارق الأوّل بأنّ نفي الفضيلة لا ينافي الإباحة في العبادات ، وبخلاف نفي الكمال فإنّه يفيد (6) الكراهة المعتبرة (7) في العبادات.

وقد يراد به نفي الوجوب كقوله عليه السلام : « لا إعادة إلاّ في خمس » (8) أو نفي جميع الآثار الشرعيّة أو بعضها على اختلاف المقامات كقوله عليه السلام

ص: 308


1- في ( ق ) والمطبوع : « الصفة ».
2- منهم صاحب المعالم في المعالم : 155 ، والمحقّق القمي في القوانين 1 : 338 ، والغروي في الفصول : 224 ، والعضدي في الشرح : 289.
3- الوسائل 5 : 182 ، الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ، الحديث 6.
4- الوسائل 3 : 478 ، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل.
5- الوسائل 4 : 1254 ، الباب 8 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 5.
6- في المطبوع : يضادّ.
7- في المخطوطات : « المعتبر ». والكلمة مصحّفة قطعا ، ولعلّها في الأصل : المضرّة.
8- « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » الوسائل 4 : 683 ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث 14.

« لا رضاع بعد فطام » (1) و « لا يتم بعد احتلام » (2) و « لا عمل إلاّ بنيّة » (3) إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.

وحيث إنّ ذلك التركيب صالح لأن يراد به الوجوه المذكورة اختلف القوم في بيانه وإجماله على أقوال (4) : ثالثها التفصيل بين الأسماء الشرعيّة واللغويّة التي لها حكم واحد وبين غيرها من الأحكام اللغويّة التي لها أحكام متعدّدة فالإجمال في الثاني والبيان في الأوّل ؛ ومثّل بعضهم (5) للأوّل بقوله عليه السلام : « لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا » (6) وقوله عليه السلام : « لا غيبة لفاسق » (7).

وقد يتخبّل : أنّ وجه الإجمال في المقام على تقديره هو دوران الأمر بين مجازات عديدة بعد تعذّر الحمل على المعنى الحقيقي.

وقد يورد عليه بأنّه ليس في محلّه ، بل المعنى الحقيقي أيضا - وهو إرادة نفي الذات - أحد المحتملات من حيث حدوث الوهن في الحمل عليه ، للزوم تقييدات كثيرة في بعض الموارد كما هو معلوم في قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (8)

ص: 309


1- الوسائل 14 : 291 ، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث 2.
2- الوسائل 1 : 32 ، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 9.
3- الوسائل 1 : 33 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل.
4- راجع شرح المختصر : 290 ، والإحكام للآمدي 3 : 20 ، ونهاية الوصول : 179.
5- نهاية الوصول : 180. وفيه : لا إقرار لمن أقرّ بالزنا مرة واحدة.
6- لم نقف عليه بعينه في الجوامع الحديثية.
7- كشف الريبة : 80 ، وراجع الأمالي للشيخ الصدوق : 42 ، المجلس العاشر ، الحديث 7 مع تفاوت يسير. وكنز العمال 3 : 7. الحديث 8071 ، وفيه : ليس للفاسق غيبة.
8- المستدرك 4 : 158 ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث 5.

فإنّ الحمل على نفي الذات يوجب تقييد الصلاة بغير الموارد التي تقع الصلاة بدون الفاتحة كالناسي والجاهل والأخرس والمضطرّ ونحوهم.

وممّا ذكرنا أوّلا يظهر فساد ذلك كلّه ، فإنّ استعمال أداة النفي (1) في نفي الذات على وجه يراد بها العدم المحمولي الذي لا يحتاج إلى الخبر (2) لو لم نقل بكونه مجازا - لأنّه من المعاني الاسميّة التي لا يستفاد من الأداة - فلا أقلّ من أن لا (3) يكون استعمالها في نفي المحمول مجازا ، من غير فرق بين المحمولات ، سواء كان وجودا أو أمرا غيره ، فلا يتصوّر هناك مجاز في تلك المواد حتّى يقال بدوران الأمر بين المجازات بعد تعذّر الحقيقة أو بين الحقيقة وأحد المجازات ، بل الوجه في الإجمال هو ما قرّر من صلاحيّة إرادة جميع ما يمكن (4) نفيه من الموضوع المفروض دخول الأداة عليه.

نعم ، على تقدير حمل الأداة على نفي المحمول والصفة لا بدّ من تقدير الخبر ، من غير فرق بين أن يكون الخبر وجودا أو أمرا آخر. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر الأداة لو قلنا باحتياجها إلى الخبر هو نفي خصوص المحمول الوجودي ؛ ولعلّ هذا هو الوجه في امتيازها عن المشبّهة بليس بحسب المعنى ، إذ على تقدير كونها غير ظاهرة في نفيه خاصّة لا تمايز بينهما معنى ، وهو أيضا في غاية الإشكال ، فلا بدّ من التأمّل.

ص: 310


1- في ( ش ) ، ( ع ) والمطبوع : « فإنّ أداة النهي استعمالها ».
2- في ( ع ) : « خبر ».
3- لم يرد « لا » في ( ع ).
4- في ( ق ) : « ما يحتمل ».

احتجّ القائل بالبيان مطلقا بأنّ الفعل المنفيّ إمّا من العبادات أو من غيرها. فعلى الأوّل فإمّا أن تكون موضوعة للصحيحة أو الأعم ، فعلى الأوّل لا إجمال لإمكان الحمل على نفي الذات ، وعلى الثاني فيحمل على أقرب المجازات ، وهو نفي الصحّة ، لتعذّر الحمل على المعنى الحقيقي. وعلى الثاني فيحمل على نفي الفائدة ؛ لأنّه الأقرب. هذا إذا لم نقل بثبوت وضع ثانوي لهذه التراكيب لنفي الفائدة ، وعلى تقديره فالأمر أظهر.

وأجيب عنه بأنّه على القول بالصحيح لا وجه لحمله على نفي الذات ، لما (1) تقدّم من أنّه في عرض أحد المجازات ؛ مضافا إلى استلزامه حمل الكلام على الإخبار ، وهو ليس من شأن المعصوم وهو الإخبار عن نفي الذات بدون الشرط أو الجزء. وعلى القول بالأعمّ لا وجه لإطلاق القول بأنّه لا يحمل على نفي الذات ، لاحتمال أن يكون الجزء الثابت جزئيّته بالكلام المذكور من الأجزاء المقوّمة التي ينتفي الكلّ بانتفائه ولو عند القائل بالأعمّ ، بل لا بدّ من القول بأنّه من تلك الأجزاء نظرا إلى ظاهر اللفظ.

وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّه لا يتصوّر مجاز في التركيب المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا مناص من حمل الكلام على الإخبار كما هو ظاهر التركيب أيضا ، غاية الأمر أنّ المخبر به على تقدير حمله على نفي الصفة هو الحكم الشرعي الذي شأن الإمام عليه السلام بيانه ، وهو حاصل على تقدير نفي الذات أيضا ، فلا داعي إلى صرف كلامه عن ظاهره إلى غيره ؛ مع أنّ ما أورده على القول

ص: 311


1- في ( ق ) و ( ع ) والمطبوع : « كما ».

بالأعمّ لا ينافي مقصود المستدلّ من البيان ، فإنّ حمل الجزء على ما لا يتقوّم الكلّ بدونه - كما هو ظاهر اللفظ - ممّا يؤكّد البيان ولا ينافيه.

ثمّ إنّه قد يمكن على القول بالأعمّ حمله على نفي الذات بوجه آخر ، وهو تنزيل الفعل الفاقد لذلك الجزء منزلة العدم مبالغة في الاعتناء بشأن ذلك الجزء أو الشرط. وبذلك يظهر وجه آخر لعدم لزوم مجاز في تلك التراكيب على تقدير حملها على نفي الصفات ، فإنّ التصرّف في أمر عقليّ.

ونظير في غير المقام قوله عليه السلام : « المؤمن إذا وعد وفى » (1) و « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » (2) فإنّه مشعر بعدم إيمان من لا يفي بالوعد وعدم إسلام من لم يسلم منه المسلمون. لكنّه محمول على ادّعاء نفي الإيمان والإسلام عند التخلّف والإيذاء.

ومن هنا يظهر أنّه على القول بالأعمّ لا ينحصر وجه المبالغة في الاعتناء بما لا يعدّ الفعل صحيحا لولاه ، بل يحتمل أن يكون وجه التنزيل هو فقد الكمال كما في قوله عليه السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (3).

واحتجّ القائل بالإجمال بما مرّ إليه الإشارة من صلاحيّة التركيب للوجوه المحتملة.

وأمّا المفصّل ففي جهة الإجمال يشارك من قال به مطلقا ، وفي جهة البيان بأنّ الفعل الشرعي يمكن انتفاؤه بفوات شرطه أو جزئه فيحمل النفي على ظاهره.

ص: 312


1- البحار 67 : 31 ، الحديث 45.
2- الوسائل 8 : 597 ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.
3- الوسائل 3 : 478 ، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل ، ولفظ الحديث : في مسجده.

كما لا إجمال مع اتّحاد الحكم اللغوي لصرف (1) النفي إليه على تقدير وجود الفعل ، وعلى تقدير عدمه فلا إجمال.

والتحقيق : أنّ هذه التراكيب لا يقتضي الإجمال ، إذ لو قلنا باستفادة العدم المحمولي من الأداة ، أو قلنا بأنّ المستفاد منها خصوص نفي الوجود دون سائر المحمولات - كما لعلّه الظاهر من الأداة - فلا إشكال في عدم الإجمال. وإن قلنا بأنّ المستفاد منها هو نفي المحمول ولو كان غير الوجود ولا وجه لدعوى (2) ظهورها في نفي المحمول الوجودي ، فإن علمنا بانتفاء الذات فلا إجمال قطعا ، وإن علمنا بقاء الذات فالعرف يساعد على نفي جميع آثارها. ولعلّ ذلك ناش من ظهور الأداة في نفي المحمول الوجودي دون ساير المحمولات ، وبعد تعذّره - للقطع ببقائه - فالأقرب هو نفي جميع الآثار ، ودونه في القرب نفي معظم الآثار ، وهو الصحّة في العبادات ، والفائدة في غيرها ، ثم نفي التماميّة فإنّ الناقص كالمعدوم ، ثم نفي الكمال فإنّه أبعد. وعند الشكّ يحمل على نفي الوجود وعلى تقدير ظهورها في نفيه خاصّة.

تذنيبان :

الأوّل : لا إشكال في بيان خصوص قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) وإن احتمل إجمال غيره ، لظهوره في أنّ العمل الغير المتلبّس بالطهور فاسد

ص: 313


1- في ( ش ) و ( ط ) : « مع اتّحاد حكم اللغوي بصرف ».
2- في ( ق ) بدل « لدعوى » : « لعدم ».
3- الوسائل 1 : 256 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث 1 و 6.

لا يحصل منه البراءة ، من غير فرق في ذلك بين القول بالأعمّ والصحيح. نعم ، حمل النفي على نفي الذات موقوف على القول بالصحيح ، وإمكان ذلك على القول بالأعمّ إنّما هو في غير الشرائط ، اللّهمّ إلاّ بالقول بدخول الشرط في بعض الاعتبارات في المشروط ، فيحتمل أن يكون ذلك من الأجزاء المقوّمة التي يرتفع الماهيّة بارتفاعها ولو عند القائل بالأعمّ أيضا ، وسيأتي تفصيله عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون النفي متوجّها إلى الذات أو إلى الصفة ، كالصحّة والفائدة بدعوى ظهوره في نفي الصحّة والفائدة بحسب متفاهم العرف ؛ وقد يحتجّ على ذلك بأنّ نفي الذات يدلّ على نفي الصفات وإذا ترك العمل به في نفي الذات لوجودها وجب العمل في نفي الصفات. ولعلّه قياس بما تقدّم في العامّ المخصّص : من أنّ خروج بعض الأفراد لا يوجب زوال الحكم عن الباقي. والفرق ظاهر ؛ لأنّ نفي الصفات إنّما هو تابع لنفي الذات في كونه مدلولا للّفظ ، ولا يعقل زوال المتبوع وبقاء التابع من حيث إنّه تابع ، بخلاف العامّ فإنّ أفراده في حدّ سواء.

الثاني : على تقدير ظهور تلك التراكيب في خصوص نفي الذات إمّا من دون احتياج الأداة إلى الخبر وإمّا معه ، فلو تعذّر الحمل عليه فيحتمل في التركيب المذكور وجوه من التصرّف :

إمّا بالقول بأنّ التصرّف في أمر عقليّ تنزيلا لما لا صحّة له منزلة المعدوم ، أو لما لا كمال فيه منزلته. ولو دار الأمر بينهما فالظاهر الأوّل ؛ لأنّه الأقرب ولو في مقام التنزيل.

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الحذف بتقدير الاسم للأداة ، كأن يقال : لا فائدة في الصلاة أو لا صحّة فيها.

ص: 314

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الإسناد فإنّ المحلّ المقرّر لإسناد النفي بعد وجود الذات هي الصفة عند العقل ، فإسناده إليها يكون مجازا فيه ، فهو من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى اللازم إلى ملزومه ، كقولك : « بنى الأمير المدرسة » (1).

وإمّا بالقول بأنّه مجاز لغويّ ، إمّا من جهة استعمال المطلق في خصوص المقيّد فيكون المراد من الصلاة خصوص الصحيحة ، أو من استعمال الملزوم وإرادة اللازم ؛ لأنّ نفي الذات يلازم نفي الصفة. كذا قيل (2). وفي الأخير نظر.

[ تمّ ما أفاده قدس سره في مسألة المجمل والمبيّن ، ولعمري نعم ما أفاد ممّا لم يسبقه. ويتلوه الكلام في الأدلّة العقلية ](3).

ص: 315


1- في ( ق ) : « المدينة ».
2- راجع نهاية الوصول : 180 ، والقوانين 1 : 338.
3- أثبتناه من ( ط ).

ص: 316

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

القول في الأدلّة العقليّة

اشارة

ص: 317

ص: 318

ويتمّ الكلام فيه في طيّ اصول :

أصل

أصل (1)

عرّف الدليل العقلي : بأنّه « حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ».

وقسّموه إلى ما لا يتوقّف على خطاب شرعيّ كالحسن والقبح العقليّين وإلى ما يتوقّف عليه كالحكم بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، ونحوه. وعدّ غير واحد - منهم الفاضل التوني (2) - منه ما لو ثبتت الملازمة شرعا كالملازمة بين القصر والإفطار ، مصرّحين بعدم الفرق بينه وبين ما كان الملازمة عقلية.

ثمّ يرد على التعريف : بأنّ الدليل العقلي إنّما هو فرد من أفراد مطلق الدليل ، وقد عرّف : بأنّه « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ » (3) فلا وجه لإهمال قيدي « الإمكان » و « صحيح النظر فيه » ، إلاّ أن يراد من « التوصّل » إمكانه ، وهو كما ترى مجاز لا يصار إليه في أمثال المقام كما لا يخفى.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ من الظاهر أنّ المقصود بالتحديد في المقام ليس إلاّ تميز هذا القسم من الدليل عمّا يشاركه في الجنس من الدليل الشرعي ، وبعد اعتبار القيدين فيما يتمّ القسمين لا غائلة في إهمالهما في مقام يراد فيه تميز

ص: 319


1- في ( ش ) : « تحديد ».
2- الوافية : 219.
3- انظر الإحكام للآمدي 1 : 27.

أحدهما عن الآخر إجمالا ، دون أن يكون المقصود كشف تمام حقيقتهما ؛ على أنّه يمكن القول بعدم الحاجة إلى قيد « الإمكان » في المقام ، فإنّه - على ما هو المصرّح به في كلامهم - لإدراج المغفول عنه وهو في الأدلّة العقليّة غير معقول ، إذ المراد بالحكم هنا هو التصديق ، ومع حصوله لا معنى للغفلة ، وبدونه لا حكم هناك حتى يكون مغفولا.

ثم إنّه إن اريد من « الموصل » ما هو العلّة التامّة للعلم بالحكم الشرعي فلا يكاد يتمّ أصلا ، إذ الحكم العقلي لا يزيد على مقدّمة واحدة فيما هو الموصل واقعا ، فإنّ المجهول التصديقي ممّا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بعد [ اعتبار ](1) قضيّتين يستفاد من إحداهما ثبوت اللازم ومن الاخرى اللزوم - على ما هو المقرّر في محلّه - وتسمية الاصولي غيرهما دليلا إنّما يرجع إلى مجرّد الاصطلاح ، نظرا إلى إطلاق الدليل عندهم على المفرد وعلى القضيّة الواحدة وعلى القضيّتين من غير اعتبار ترتيب بينهما كما يظهر للمتدرّب في كلماتهم.

وإن اريد منه مطلق ما له دخل في الإيصال ولو لم يكن علّة تامّة فيلزم دخول الكلّ فيه ، إذ ما من دليل شرعي إلاّ وللعقل فيه مدخليّة ، ولا أقلّ من انتهائه إليه في مقام الحجّية. والالتزام به - كما وقع عن بعضهم - ممّا لا يرضى به المنصف المتأمّل.

ويمكن دفعه : باختيار الشقّ الثاني والقول بأنّ الحكم المجهول : تارة يستدلّ عليه بدليل عقلي بكلتا مقدّمتيه ، ولا ريب في كونه دليلا عقليّا.

ص: 320


1- من ( ش ).

وأخرى بدليل شرعيّ كذلك ، ولا ريب في كونه شرعيا. وأمّا مدخليّة العقل فيه فإنّما هو من حيث انتهائه إليه في إثبات حجّيته ، ولا شكّ في عدم اعتباره بعد إحراز حجّيته كما هو المقصود في أمثال المقام على ما لا يخفى.

واخرى : بما يكون إحدى مقدّمتيه عقليّة والأخرى نقليّة ، فالمقدّمة العقليّة لو كانت معلومة مفروغا عنها ومحرزة صحّ تسمية الدليل بالشرعيّ ، سواء كانت صغرى للقياس أو كبراه ، والمقدّمة الشرعيّة لو كانت مفروغا عنها - ولو في الاعتبار - فالدليل عقلي ، فإنّ المقدّمة العقليّة حينئذ ممّا (1) يتوصّل به إلى حكم شرعي ، كما يقال : بأنّ مقدّمة الواجب ممّا يتوصّل بها إليه ، يعني أنّ بعد إحراز الشرائط ورفع الموانع - مثلا - يتوصّل بها إليه ؛ ولا يراد منه أنّها علّة تامّة للتوصّل إلى ذيها ، ولكن حيثما كان وجود المعلول متوقّفا على حصول العلّة وكان حصولها لوجود الجزء الأخير منها صحّ إسناد المعلول إليه فكان الموصل هو هذا الجزء.

وبالجملة ، المقدّمة العقليّة سواء كانت صغرى للقياس الذي هو المفيد للعلم بالحكم أو كبرى له فيما لو كانت المقدّمة النقليّة الأخرى محرزة مفروغا عنها تجري مجرى الجزء الأخير من العلّة ، فيصحّ استناد العلم إليها والقول بأنّها الموصلة إليه كما لا يخفى. وإليه ينظر كلام من قسّم الدليل إلى العقلي والنقلي من أساطين العلماء ، كالمحقّق في مقدّمات المعتبر (2) والشهيد في الذكرى (3) على ما حكى عنهما (4).

ص: 321


1- في ( ش ) بدل « ممّا » : « ما ».
2- انظر المعتبر 1 : 28 - 31.
3- انظر الذكرى 1 : 44 - 52.
4- في ( ط ) : « عنها ».

فإن قلت : ما ذكر من أنّ المراد من الموصل أعمّ من العلّة التامّة وغيرها ينافي ما هو المصرّح به في كلامهم : من أنّ الدليل النقلي ما لا يكون مقدّماته عقليّة صرفة ، فإنّ ذلك إنّما يلائم كون المراد من الموصل خصوص العلّة التامّة كما هو الظاهر.

قلت : قد يطلق الدليل العقلي ويراد به ما ليس بنقلي في قبال الدليل النقلي ، وقد يطلق ويراد به ما يقابل غير العقلي ، فالعقلي بأحد المعنيين لا ينافي النقلي بالمعنى الذي لا يقابله ، بل ينافي ما يقابله ، فالمراد من التسمية بالعقلي : أنّ الحكم مستند إلى العقل ، لا الإجماع وغيره من الأدلّة الشرعيّة. ولا ينافي كونه نقليّا بالمعنى الذي ذكروه ، فإنّه ربما يستند الحكم إلى الكتاب أو السنّة ؛ مع أنّ كلاّ منهما لا يكاد يتمّ الاستدلال بهما إلاّ بعد ضمّ مقدّمة عقليّة أو نقليّة كالإجماع - ولو مركّبا - ونحوه ؛ ومع ذلك فالحكم مستند إلى الكتاب أو السنّة.

مثلا : لزوم الاجتناب عن الأثواب الملاقية لأبوال ما لا يؤكل لحمه يستفاد من السنّة ، والحكم في الأبدان إنّما يتمّ بعد انضمام عدم القول بالفصل بين الأبدان والأثواب إلاّ (1) أنّ الحكم في الأبدان أيضا مستند إلى الكتاب (2).

وبالجملة ، لا تنافي بين كون الدليل نقليّا بمعنى كون بعض مقدّماته نقليّة وكونه عقليّا بمعنى استناد الحكم إلى العقل ، كما عرفت عدم المنافاة بين استناد الحكم إلى السنّة أو (3) الكتاب مع عدم انتهاضهما على تمام المطلوب إلاّ باعتبار مقدّمة خارجة عنهما.

ص: 322


1- لم يرد « إلاّ » : في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : السنّة.
3- في ( ش ) بدل « أو » : « و ».

ثم إنّه لا يخفى عليك عدم انعكاس الحدّ المذكور ، نظرا إلى أنّ المتبادر منه هو اختلاف حكمي العقل والشرع ، كما هو ممّا لا مناص عنه حذرا عن اتّحاد الدليل والمدلول ؛ ومع ذلك فبعض أفراد الدليل العقليّ - كالحكم بوجوب المقدمة بعد وجوب ذيها - هو عين الحكم الشرعيّ ، فإنّ العقل يدرك وجوب المقدّمة وهو نفس المدلول ، فيلزم الاتّحاد المحذور.

اللّهمّ إلاّ أن يجاب عنه : بأنّ الحكم العقلي في المقام هو وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها على وجه إجمالي كلّي يتوصّل به إلى حكم شرعيّ خاصّ ، كوجوب الوضوء للصلاة والخروج مع الرفقة للحجّ ، وأمثال ذلك ممّا هو ظاهر كالحكم في سائر الكبريات المستدلّ بها على ثبوت أحكام أفراد موضوعها ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ التقسيم المذكور ممّا لا وجه له ظاهرا ، إذ العقل بعد فرض حكمه فهو مستقلّ فيما يحكم به ، ولا ينافيه ثبوت موضوعه بالشرع ، فإنّ العقل يستقلّ بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ كما يستقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم ، من غير فرق بينهما إلاّ فيما لا عبرة به في الاستقلال وعدمه ، وهو تحقّق موضوعه شرعا في الخارج ، فالحاجة إلى ثبوت الموضوع لو كان ممّا يؤثّر في الاستقلال وعدمه لما كان هناك حكم يستقلّ به العقل ، للاحتياج المذكور.

وبالجملة ، فالعقل يحكم بامتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر وإن كان ثبوت الملزوم متوقّفا على شيء آخر في الخارج.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكلام ليس في تلك العناوين الكلّية - كوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو امتناع الانفكاك بين المتلازمين - بل الكلام إنّما هو في العناوين المخصوصة المعنونة (1) في كتب الفقهاء : من وجوب الوضوء عند

ص: 323


1- في ( ش ) : « المعهودة ».

وجوب الصلاة ، وحرمة الصلاة عند نجاسة المسجد ، وحرمة الضرب عند حرمة التأفيف ، ونحوها من الأحكام الخاصّة. ولا ريب أنّ العقل لا يستقلّ بإدراك أحكام تلك الأمور المخصوصة إلاّ بعد ورود خطاب شرعيّ على وجوب الفعل أو حرمته بخلاف حكم العقل بحرمة الظلم ولو في مورد خاصّ ، فإنّه لا حاجة في ذلك إلى خطاب أصلا ، بل يكفي فيه مجرّد حكم العقل بالتحسين والتقبيح ، فالحكم الكلّي بحرمة الأشدّ عند تحريم الأخفّ أو وجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو حرمة الضدّ عند وجوب الضدّ الآخر لا يثمر في حكم العقل بحرمة (1) الصلاة والتأفيف ووجوب الوضوء إلاّ بعد ورود خطاب الشرع. وهذا هو المراد بالتقسيم.

وأمّا ما عدّه الفاضل التوني من الدليل العقلي كالحكم بالملازمة بين القصر والإفطار ولو كانت الملازمة شرعيّة (2) ، فهو بظاهره أيضا ليس بشيء ؛ لأنّك قد عرفت آنفا أنّ الدليل لو كان بكلتا مقدّمتيه شرعيّة صغرى وكبرى فهو دليل شرعي لا وجه لعدّه من الأدلّة العقليّة ، وفي المقام صغرى القصر شرعيّة ، والكبرى وهي القضيّة القائلة بالملازمة أيضا شرعيّة لا مدخل للعقل فيها إلاّ مجرّد الاستنتاج ، وهو لا يثمر في نسبة الدليل إلى العقل ، لوجوده فيما ليس بعقلي قطعا (3).

وبالجملة : إذا ثبت وجوب القصر في أربع فراسخ وثبت أيضا وجوب الإفطار فيما وجب فيه القصر على وجه كلّي ، ثبت وجوب الإفطار في المسافة

ص: 324


1- في ( ش ) : « بحكم العقل في حرمة ».
2- الوافية : 219.
3- في ( ش ) : « اتّفاقا ».

المقدرة من غير توسيط للعقل إلاّ فيما لا مدخل له في انتساب الدليل إلى العقل ، وهو مجرّد الاستنتاج (1) ، وإلاّ فيلزم أن يكون الأدلّة الشرعيّة بأجمعها أدلّة عقليّة ، وفساده غير خفيّ.

قال الاستاذ - دام عزّه (2) السامي - : وهذه الإيرادات على التعريف والتقسيم وعلى ما أفاده الفاضل التوني ممّا كنّا نورده في سالف الزمان ، وأمّا الآن فنحن معرضون عنها.

أمّا بالنسبة إلى التعريف والتقسيم ، فلما عرفت.

وأمّا بالنسبة إلى ما أفاده الفاضل التوني ، فلأنّ الحكم في الكبرى قد يكون على وجه كلّي ، كأن يقول الشارع : « كلّ ما وجب فيه القصر وجب فيه الإفطار » ولا ريب في صلوحه لإثبات النتيجة بعد ضمّ الصغرى الشرعيّة إليها من غير حاجة إلى حكم العقل بامتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر ، بل وهذا عين مفاد حكم العقل كما في قولنا : « كلّ متغيّر حادث » على ما لا يخفى.

وقد يكون الحكم الثابت بالشرع على وجه يحتاج إلى ملاحظة حكم العقل بامتناع انفكاك المتلازمين أيضا ، كأن يقول : « القصر ملازم للإفطار » أو ما يؤدّي مؤدّاه ، وحينئذ فلا بدّ من ضمّ كبرى عقليّة إليها يستند الحكم في الواقع : من امتناع الانفكاك بين المتلازمين ، وإن كان اللزوم شرعيّا ، فإنّه ليس بضائر كما في الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ. وما أفاده من قبيل الثاني لا الأوّل ، فصحّ إفادته (3).

ص: 325


1- لم ترد « وهو مجرّد الاستنتاج » في ( ش ).
2- في ( ط ) : « دام ظلّه ».
3- العبارة في ( ط ) هكذا : « فصحّ التعريف والتقسيم وما أفاده بأجمعها ، كما لا يخفى ».

ص: 326

أصل

اشارة

أصل (1)

لا كلام في المقام في حجّية العلم الحاصل من الأدلّة العقليّة (2) التي لا تبتني على (3) التحسين والتقبيح العقليّين ، فإنّ لها محلاّ آخر قد فرغنا عنه فيما سلف في حجّية الظنّ وذكرنا : أنّ المخالف فيها هناك (4) هو بعض الأخبارية وتبعهم في ذلك بعض المتأخّرين (5)(6)؟

بل الكلام هنا في أنّ العقل فيما هو مبنيّ على القول بالحسن والقبح هل هو حجّة؟ بمعنى أنّه إذا أدركت عقولنا حسن شيء على وجه ملزم أو قبحه كذلك ، فهل هو ممّا يعتبر في التوصّل به إلى الحكم الشرعي ويصحّ استكشاف الحكم الشرعي منه أم لا؟

ولا بدّ أن يعلم أيضا أنّ محلّ الكلام بالتقييد المذكور ليس عامّا بحيث يشمل أفعاله تعالى أيضا ، كوجوب العدل وقبح الكذب والظلم في حقّه تعالى ، فإنّ هذه الأحكام وإن كانت ممّا يتفرّع على الحسن وما يقابله ، إلاّ أنّ أفعاله تعالى

ص: 327


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- في ( ط ) : « الشرعيّة العقليّة ».
3- في ( ش ) : « لا ينتهي إلى ».
4- لم يرد « هناك » في ( ش ).
5- راجع الفوائد 1 : 51 - 64.
6- في ( ط ) زيادة : « فلا نطيل بإعادته ».

ليس ممّا يتعلّق به حكم شرعي حتّى يتوصّل بالحكم العقلي إلى الحكم الشرعي كما في أفعال العباد ، فإنّ من قبح الظلم وحسن ردّ الوديعة يستكشف الحكم الشرعيّ في حقّهم ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثم اعلم أنّ المعروف بين من تقدّم على الفاضل التوني اكتفاؤهم عن هذا العنوان بعنوان « مسألة إثبات إدراك العقل للحسن والقبح » وأوّل من جعل هذا المبحث عنوانا آخر هو الفاضل المذكور (1) ، ولعلّه أخذه من كلام الفاضل الزركشي (2) حيث التزم بالحكم العقلي ونفي الملازمة بينه وبين الحكم الشرعيّ ، إلاّ أنّه تبعه في ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه.

ولكن التحقيق : أنّ البحث الأوّل على ما يستفاد من عناوينهم للمبحث وإقامة الأدلّة من الطرفين وثمرات المسألة بين الفريقين مغن عن العنوان الثاني.

وتوضيح ذلك يتوقّف على ذكر كلمات من تعرّض لها من أصحابنا ومخالفينا في الموارد الثلاثة.

أمّا كلمات أصحابنا في أوّل المقامات :

فمنها : ما ذكره الفاضل المحقّق اللاهيجي في رسالته الفارسيّة المسمّاة ب- « گوهر مراد » حيث فسّر الحسن في محلّ النزاع ب- : « جزاء الخير » ، والقبح ب- : « جزاء الشرّ » ، لكن إذا أضيف إلى اللّه تعالى يكون الأوّل ثوابا - لعدم كون جزاء الخير منه إلاّ الثواب - والثاني عقابا (3).

ص: 328


1- الوافية : 171.
2- لا يوجد لدينا كتابه.
3- گوهر مراد : 244.

فلولا أنّ النزاع في المقامين ممّا يرجع إلى نزاع واحد لم يصحّ ذلك كما لا يخفى (1).

ومنها : ما ذكره العميدي في شرح التهذيب : من أنّ الحسن : هو الفعل الذي لم يكن على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

والقبح : ما كان على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

وفسّر الذمّ : بأنّه قول أو فعل أو ترك قول أو فعل ينبئ عن اتّضاع حال الغير.

ومثّل للأوّل بالشتم من الرئيس لذي المروّة ، وللثاني بالضرب منه له ، وللثالث بتركه ردّ السلام ، والرابع بترك القيام له مع أهليّته لذلك (2).

ولا شكّ أنّ اعتبار الذمّ في الحسن والقبح وجودا وعدما ثم تفسيره بما عرفت أصرح دليل على الاكتفاء عن الثاني بالأوّل ، إذ ليس الذمّ بهذا المعنى إلاّ العقاب.

ومنها : ما أفاده جمال المحقّقين في تعليقاته على العضدي : من نسبة الحسن والقبح بالمعنى المذكور إلى المعتزلة (3). وفي مورد آخر ادّعى الإجماع من الإماميّة على القول بالحسن والقبح بالمعنى المذكور (4).

ص: 329


1- في ( ط ) زيادة : « على المتدبّر ».
2- منية اللبيب : 16 - 17.
3- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام : 65.
4- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام : 66 ونسب فيه هذا القول إلى المذهب.

ومنها : ما عن الكاظمي في شرح الزبدة : من تفسيره للحسن والقبح بما ذكرناه (1).

ومنها : ما ذكره جملة من أساطين العلماء - كالمحقّق (2) والشهيد (3) وأضرابهما - : من تقسيم حكم العقل إلى ما يتوقّف على خطاب شرعيّ وما لا يتوقّف ، ومثّلوا للثاني بالتحسين والتقبيح العقليّين كحرمة الظلم ووجوب ردّ الوديعة.

وأمّا كلمات مخالفينا :

فعن المواقف : تفسير الحسن - في محلّ النزاع - باستحقاق المدح في العاجل والثواب في الآجل ، والقبح باستحقاق الذمّ والعقاب كذلك (4).

وعن القوشجي : تفسير الحسن والقبح أيضا بما سمعت (5) ، كما عن الباغنوي (6) أيضا (7).

وقال الاسنوي في شرح المنهاج : اعلم أنّ الحسن والقبح قد يراد بهما ملائمة الطبع ومنافرته ، وقد يراد صفة الكمال وصفة النقص ، وليس نزاع فيهما ، وإنّما النزاع في الحسن والقبح بمعنى ترتّب الثواب والعقاب ، فعندنا أنّهما

ص: 330


1- لا يوجد لدينا.
2- المعتبر 1 : 31 - 32.
3- الذكرى 1 : 52.
4- المواقف المطبوع مع شرحه للسيد الشريف 8 : 183.
5- شرح التجريد للقوشجي : 338.
6- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية مبحث مبادئ الأحكام.
7- في ( ط ) زيادة : « مثل ما مرّ ».

شرعيّان ، وذهب المعتزلة إلى أنّهما عقليّان ، بمعنى أنّ العقل له صلاحيّة الكشف عنهما وأنّه لا يفتقر الوقوف على حكم اللّه ، لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح والمفاسد وإنّما الشرائع مؤكّدة (1) ، انتهى. وصراحة ذلك في المقصود ممّا لا يخفى (2).

فظهر من جميع ما مرّ : أنّ المراد بالحسن والقبح الواقعين في العنوان ما ذا ، فإثبات أنّ العقل يحكم بالحسن والقبح في قوّة إثبات أنّ العقل يدرك حكم اللّه كما هو المراد بالملازمة. ويكفيك شاهدا في المقام قولهم : إنّ « الظلم حرام » و « ردّ الوديعة واجب » حيث لا يعنون بالوجوب إلاّ الطلب الملازم للعقاب عند المخالفة. نعم ، لو كان المراد من الحسن والقبح هو مجرّد المدح والذمّ دون الثواب والعقاب كان لتغاير العنوانين وجه. هذا تمام الكلام في عناوين القوم.

وأمّا الأدلّة الواردة من الفريقين على الطرفين القاضية (3) باتّحاد العنوانين وكفاية إثبات الحسن العقلي عن الملازمة :

فمن أدلّة المثبتين : هي لزوم إفحام الأنبياء وعدم وجوب معرفة اللّه لولاه ، حيث إنّ مجرّد (4) إدراك استحقاق الذمّ والمدح لا يلزم منه الوجوب ولا يندفع منه إفحام الأنبياء ما لم يلاحظ مع ذلك العقاب ولو احتمالا.

ص: 331


1- لا يوجد لدينا.
2- في ( ط ) : « ممّا لا ينبغي أن ينكر ».
3- العبارة في ( ط ) هكذا : « وأمّا أدلّة الطرفين الواردة على النفي والإثبات فتقضي ».
4- العبارة في ( ط ) هكذا : « فأدلّة المثبتين من لزوم إفحام الأنبياء وعدم وجوب معرفة اللّه لولاه تقضي بما ذكرناه ، لأنّ مجرّد ».

ومن أدلّة النافين : آية التعذيب (1) الصريحة في كون المراد من الحسن والقبح هو ما يلازم الثواب والعقاب (2) ، وإلاّ فنفي التعذيب لا مساس له في نفي الذمّ والمدح. وكذا في جواب القائلين بالتحسين عنهم : بأنّ المنفيّ هو فعليّة العذاب دون استحقاقه إيماء إلى المطلب المزبور (3) من حيث عدم تعرّضهم لعدم مدخليّة الحسن والقبح للعذاب ، فنفيه لا يدلّ على عدم الحسن ، كما لا يخفى.

وأمّا ثمرات المسألة على ما فرّع عليه العضدي (4) وأضرابه (5). من عدم وجوب شكر المنعم فلا عقاب ولا إثم في تركه على من لم يبلغه دعوة النبي (6) فممّا لا تصحّ إلاّ بملاحظة الدعوى التي ادّعيناها.

وبالجملة : فنحن لا نقول بأنّ المقامين متّحدان لا تغاير بينهما بوجه لا يمكن النزاع في أحدهما مع تسليم الآخر ، ولكنّا نلتزم بأنّ النزاع الواقع بين العدليّة والأشعريّة ممّا يغني عن هذا النزاع في المقام الثاني ، فكان بعد تسليم صغرى الإدراك من العقل وأهليته ، فلا نزاع في كونه سبيلا إلى الحكم الشرعيّ على وجه لا ريب فيه كما استظهرناه من المقامات الثلاثة المذكورة من العناوين

ص: 332


1- الإسراء : 15.
2- العبارة في ( ط ) هكذا : « وأمّا أدلّة النافين كآية التعذيب فدلالتها على أنّ المراد بالحسن والقبح ما يلازم الثواب والعقاب صريحة ».
3- لم يرد « المزبور » في ( ش ).
4- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 76.
5- انظر الإحكام للآمدي 1 : 126.
6- في ( ط ) : « النبوّة ».

الواقعة في كتب القوم وأدلّتهم القائمة على الطرفين وثمرات المسألة المتفرعة عليها على ما هو الشأن في استكشاف أمثال هذه المقاصد ، وسيأتي ما يوضّح ذلك ، فإنّ الإيضاح عند الاستدلال على المقصود (1).

وتوضيح البحث وتنقيحه يقتضي بسطا في المقام ، فنقول : إنّ هنا نزاعين :

أحدهما : أنّ العقل هل يدرك حسن شيء أو قبحه أم لا يدرك؟ فأثبته الإماميّة ومن تابعهم من المعتزلة ، وأنكره الأشاعرة ؛ وحيث إنّ الكلام في المقام ليس من الكلام في مباحث الفن - لعدم كون المسألة أصوليّة بل إنّما هو من [ ال ] مبادئ الأحكاميّة - فقد طوينا الكشح عن ذكرها ؛ مضافا إلى بداهة المقصود ، حتى أنّ إكثار الكلام فيها ربما يعدّ من العبث ، حيث إنّه لا يفيدنا غير ما هو المعلوم لنا منها بسلامة الوجدان ، مع أنّ فيه غنى عن تجشّم البرهان.

إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم أنّ الحسن والقبح الواقعين في العنوان قد اختلف في تفسيرهما ، فعن بعضهم - كالفاضل التوني والفاضل الزركشي - تفسيرهما بمجرّد المدح والذمّ دون الثواب والعقاب.

قال الأوّل في محكيّ الوافية : « الحقّ ثبوت الحسن والقبح العقليّين في الجملة ، لقضاء الضرورة ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة الشرعيّين بهما نظر » (2). ثم فرّق بين الوجوب العقلي والشرعي باستحقاق الذمّ (3) على الأوّل والثواب على الثاني. ثم قال بعد ذكر أمور من وجوه النظر : فإن قلت :

ص: 333


1- توجد هنا اختلافات في النسخ ، وقد أثبتنا ما في المخطوط ، ولم نتعرض للاختلافات ؛ لعدم الفائدة.
2- الوافية : 171.
3- في نسخة بدل ( ش ) : « المدح » ، وفيها بعد كلمة « الذمّ » زيادة : « أي على تركه ».

الواجب العقلي هو ما يكون تاركه مذموما عند كلّ عاقل حكيم ، والحرام العقليّ ما يكون فاعله مذموما كذلك ، فالحرام العقلي لا بدّ وأن يكون ممقوتا لله ، وليس الحرام الشرعيّ إلاّ ذلك ؛ لأنّ فاعل فعل ممقوت عنده مستحقّ لعقابه ضرورة. قلت : الحرام الشرعي ما يجوز للمكلّف العقاب عليه ، ولا يكفي مجرّد الاستحقاق وإن علم انتفاؤه بسبب ما كان من إخباره بذلك (1). وأيضا بداهة استلزام المكروهيّة عند اللّه لاستحقاق عقابه محلّ نظر ، انتهى (2).

وقال الثاني - على ما حكاه الأوّل - : إنّ الحسن والقبح عقليّان والوجوب والحرمة شرعيّان ، فلا ملازمة بينهما حيث قال : تنبيهان ، الأوّل : أنّ المعتزلة لا ينكرون أنّ اللّه تعالى هو الشارع للأحكام وإنّما يقولون : إنّ العقل يدرك أنّ اللّه شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهما عندهم مؤدّيان إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسنا جوّزه الشارع وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما شرعيّ والآخر عقلي - إلى أن قال في ثاني التنبيهين - ما اقتصر عليه المصنّف من حكاية قولهم هو المشهور بينهم (3). ثمّ قال : وتوسّط قوم وقالوا : قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب (4) بالشرع. ثم قال : وهو المنصور ، انتهى (5).

ص: 334


1- في المصدر : بسبب ما كإخباره بذلك.
2- الوافية : 175.
3- في ( ط ) زيادة ما يلي : « يعني أنّ ما حكاه صاحب جمع الجوامع عن المعتزلة من إدراك العقل الثواب والعقاب هو المشهور ».
4- في ( ط ) زيادة : « ثابت » ، وفي المصدر : « والعقاب يتوقّف على الشرع ».
5- الوافية : 175 - 176.

التحقيق - على ما عرفت من استظهارنا من العناوين والأدلّة والثمرة - :

أنّ المراد منها هو الثواب والعقاب ويرشدك إليه أيضا تصديق الزركشي باشتهاره بين المعتزلة ، كما لا يخفى.

وثانيهما (1) : ما اشتهر بين من (2) تأخّر من التوني في مسألة الملازمة : من أنّه بعد تسليم إدراك العقل للمدح والذمّ ، فهل يدرك الثواب والعقاب؟ زعما منهم أنّ الحسن والقبح في محلّ النزاع هو مجرّد المدح والذمّ من غير مدخليّة للثواب والعقاب فيهما ، وهذا هو البحث الذي نحن بصدده.

فنقول : إنّ الحقّ - كما عليه المحقّقون - ثبوت الملازمة الواقعيّة بين حكم العقل والشرع ، وهذا الحكم هو مفاد قولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » وسيأتي بيان المراد من القضيّة المذكورة ، وحيث إنّ المخالف في المقام ممّن يعتدّ بشأنه ليس إلاّ جمال المحقّقين والسيّد الصدر شارح الوافية ، فالأقرب ذكر كلامهما لتوضيح مرامهما ، ثم ذكر ما يرد عليهما عندنا.

فقد قال السيّد المذكور في المقام بعد ما مهّد مقدّمتين في جملة كلام طويل له : إنّا إذا أدركنا العلّة التامّة للحكم العقلي بوجوب شيء أو حرمته - مثلا - يصحّ أن يحكم عليه : بأنّ الشارع حكم أيضا بمثل الحكم العقلي عليه ، لما مرّ في المقدّمة الأولى ، ولمّا فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتّب عليه الثواب وإن ترتّب على نفس الفعل شيء من قرب أو بعد فلا يكون واجبا أو حراما شرعيّا - إلى أن قال - : وبالجملة ، وجود الإضافة التي يعبّر عنها بالخطاب معتبر في تحقّق حقيقة الحكم. وليس مجرّد العلم التصديقي من الشارع. بأنّ شيئا خاصّا ممّا

ص: 335


1- يعني : ثاني النزاعين ، وقد تقدّم أوّلهما في الصفحة : 333.
2- كذا ، والمناسب : عن.

يحسن فعله أو تركه ، وكذا إرادته من المكلّف أن يفعل أو يترك ، ورضاه من فعل ومقته لآخر حكما شرعيّا من دون أن يصير المكلّف مخاطبا بالفعل بأن يصل إليه قول النبي صلى اللّه عليه وآله : أن « صلّ » و « صم » ؛ وكذا إخبار الشارع : بأنّ هذا الشيء واجب أو حرام ، إذ طلبه قبل بلوغ الخطاب ليس حكما ، فعلى هذا يكون كلّ الأوامر والنواهي قبل علم المكلّف بها خطابات بالقوّة لا يترتّب عليها آثارها من الثواب والعقاب.

ثم قال : فحينئذ نقول : إن أردت بقولك : « كلّ ما يحكم به العقل مطابق للواقع (1) فقد حكم الشارع عليه بحكم مماثل له » : أنّه علم وأذعن بأنّ هذا الشيء بحيث لو نقل إلى المكلّف الأمر به أو النهي عنه لكان مستحقّا للثواب والعقاب مع الامتثال وعدمه.

أو أراد به (2) : أنّ الفعل أو الترك مرضيّ عنده أو ممقوت له ، أو أخبر أهل بيته بالحكم ، أو قال لهم : « قولوا للناس : افعلوا أو لا تفعلوا إن رأيتم المصلحة » وهم ما رأوها ، فجميع ذلك لا نمنعه ونسلّمه ، ولكن لا يترتّب عليه الثواب والعقاب.

وإن أردت أنّه طلبه فعلا أو تركا بحيث حصل التكليف وصرنا مكلّفين فهو خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض عدم بلوغ الحكم إلينا ، بل نريد أن نثبت الحكم الشرعي بتوسّط الحكم العقلي.

ثم إنّه بعد ذلك أورد على نفسه سؤالا حاصله : أنّه بعد قطع العقل بالحكم الواقعي لا مجال لإنكار كونه حكم اللّه وهو المطلوب. فأجاب عنه : بأنّ التعبّد بمثل هذا الشيء محلّ نظر ؛ لأنّ المعلوم أنّه يجب فعل شيء أو لا يجب إذا حصل

ص: 336


1- العبارة في المصدر : « كلّ ما حكم عليه العقل بحكم مطابق للواقع ».
2- في المصدر : « أو أردت ».

الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أي طريق كان كالفتوى ، فإنّه لا يجوز الانقياد بقول المعصوم المسموع منه في المنام (1).

ثم إنّ السيّد المذكور قد أفاد شيئا آخر في إحدى المقدّمتين الممهّدتين ، وهو عدم كون الجهات المدركة للعقل علّة تامّة للحكم ، بل غاية ما يمكن أن يدركه العقل هو بعض الجهات المحسّنة والمقبّحة ، ويجوز أن يكون هناك جهة أخرى في الواقع لم يحصّلها [ فيمكن أن تكون ](2) معارضة للجهة المدركة فلا يكون الحكم كما أدركه (3).

وقال جمال المحقّقين بعد ما نقلنا عنه في عنوان النزاع : إنّ الحسن والقبح في بعض الأشياء مسلّم ، لكن يمكن أن لا يكون في بعض الأشياء جهة حسن ولا جهة قبح ، ومع ذلك أمر الشارع به ونهى عنه ليعلم المطيع من العاصي. ثم أجاب عن ذلك : بإمكان الاستكشاف من الأخبار والآثار الواردة عن الهداة الأبرار الأطهار والآيات القرآنيّة والبيّنات الفرقانيّة عدم تعلّق الأمر والنهي إلاّ لكلّ حسن وقبيح على أن يكون الحسن مأمورا به والقبيح منهيّا عنه (4).

وبالجملة ، فلم يظهر من المحقّق المذكور مخالفة حتى يحتاج إلى دفع مقالته (5).

ص: 337


1- شرح الوافية للسيّد الصدر : 213 - 215.
2- لم ترد « فيمكن أن تكون » في ( ش ).
3- المصدر نفسه : 211.
4- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، بداية بحث مبادئ الأحكام : 66.
5- في ( ط ) زيادة : « ونقلها ».

فالأولى عطف عنان الكلام إلى دفع ما أفاده السيّد المذكور ، وستعرف الجواب عمّا أورده المحقّق المذكور في دفع الشبهة التي أوردها بعض الأجلّة في منع الملازمة ، فنقول :

فيما أفاده السيّد نظر من وجوه :

الأوّل : أنّ ما أفاده في تفكيك حكم العقل والشرع بتسليم الرضا والمقت ومنع الثواب والعقاب ليس على ما ينبغي وذلك لأنّ (1) الحكم الشرعي قد يطلق ويراد به : الخطاب الفعلي التنجيزي الصادر منه تعالى أو أحد امنائه عليهم السلام ، وإليه ينظر تعريفهم له : بأنّه خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين ، على حسب اختلاف القيود المعتبرة فيه عند بعضهم.

وقد يطلق ويراد به : الخطابات الشأنيّة التي صدرت عن الشارع وإن لم يعلم بها المكلّف ، لعدم وصولها إليه من حيث ممانعة مانع داخلي أو خارجي عنه ، فهي مخزونة عند أهلها ، وبعبارة واضحة : الأحكام التي يقول بثبوتها المخطئة وبعدمها المصوّبة ؛ ويشارك الأوّل في مجرّد الجعل ويمايزه من حيث عدم حصول فعليّة هنا (2) بخلاف الأوّل.

وقد يطلق ويراد به : الإرادة الجازمة والكراهة الثابتة في الواقع متعلّقة بالمراد في الأوّل وبالمكروه في الثاني على وجه يصير المظهر عنهما عند إرادة إظهارهما هو الأمر اللفظي والنهي كذلك ، فالإرادة هذه في الحقيقة روح الطلب ولبّه ، بل هو عينه بحيث لو أراد الشارع جعل حكم ، فلا بدّ من أن يكون مطابقا له.

ص: 338


1- في ( ط ) : « وتوضيحه وتحقيقه أنّ ».
2- في ( ط ) : « الفعليّة فيه ».

فإن أراد السيّد : أنّ حكم العقل بوجوب شيء وإدراكه العلّة التامّة المقتضية للوجوب لا يلازم صدور الخطاب على وجه يصدق أنّه حكم فعلي تنجيزيّ صادر من الشارع فمسلّم ، لكنّه لا يجديه ، فإنّ مدار الثواب والعقاب هو الإرادة والطلب الحتمي ، كما يشهد به الوجدان على ما ترى بالقياس إلى حال العقلاء في تعذيب عبيدهم ، فلو علم العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده أو إرادة إكرامه وقتله أو أكرمه فيعدّ عندهم عاصيا ومطيعا من غير أن يدانيه (1) ريبة أو يخالطه شبهة ، كما لا يخفى (2). وليس في صدور اللفظ المعبّر عنه بالخطاب مدخليّة في ذلك كما هو ظاهر لا سترة عليه (3). ومثله ما لو أراد من « الحكم » فيما نفى الملازمة بينه وبين حكم العقل الحكم الشأني كما في الإطلاق الثاني.

والظاهر أنّ القائل بالملازمة أيضا لا يقول به بواسطة مجرّد حكم العقل ، ألا ترى في المثال المذكور مع قطع العبد بعدم إرادة المولى قتل ولده يقطع بعدم صدور الخطاب عنه أيضا ولا تنافي بين القطعين؟

ويؤيّد ما ذكرنا : من عدم إرادة القائل بالملازمة ذلك : أنّ المتكلّمين من أصحابنا مع كونهم قائلين بأنّ الجهات الثابتة في الأفعال علل تامّة لم يكتفوا في إثبات التكاليف بمجرّد ذلك ، بل قالوا بها بواسطة وجوب اللطف.

نعم ، لو انضمّ إلى ذلك مقدّمة خارجيّة أخرى كقولهم باللطف أو قولهم بعدم جواز خلوّ الواقعة عن الأحكام - كما يستفاد من جملة من الأخبار (4) - صحّ

ص: 339


1- في ( ش ) : « يذهبه ».
2- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
3- لم يرد « لا سترة عليه » في ( ش ).
4- الوسائل 19 : 271 ، الباب 48 من أبواب ديات الأعضاء.

القول : بأنّ الحكم العقلي يلازم الخطاب الفعلي ، يعني بعد ملاحظة المقدّمة الخارجيّة العقليّة أو النقليّة. إلاّ أنّ الظاهر منهم في المقام دعوى ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مع قطع النظر عنها ، كما يشعر بذلك قول الحاجبي : « شكر المنعم ليس بواجب عقلا ، فلا إثم على من لم يبلغه دعوة النبوّة » (1) حيث إنّ قوله : « فلا إثم » - على ما صرّح به السيّد الشريف (2) - ثمرة المسألة ، ولا يخفى عدم ترتّبها إلاّ على دعوى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع مع قطع النظر عن المقدّمات الخارجية ، وإلاّ فالثمرة (3) لا تظهر إلاّ فيمن بلغه دعوة النبوّة. ويومئ إليه ما استدلّ به الفاضل التوني في نفي الملازمة (4) بالأخبار ، فإنّ ثبوت الأحكام الشرعيّة ولو بعد ملاحظة المقدّمة الشرعيّة فيما استقل فيه العقل ممّا لا ينكر.

وبالجملة : فإن أراد منع الملازمة بين حكم العقل والحكم الشرعي (5) اللفظي بأحد الوجهين فمسلّم ، ولكنّه كما عرفت غير مجد فيما يراه.

وإن أراد الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى طلبه وإرادته ، فهو محجوج بقطع العقل الخالي عن شوائب الوهم بخلافه ، فإنّ العقل إذا أدرك حسن الشيء على وجه يستحقّ فاعله الثواب وجزاء الخير ، فقد أدرك من كل عاقل حكيم شاعر فكيف بمن هو خالقهم (6)! وكذلك إذا أدرك قبح الشيء كذلك.

ص: 340


1- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 76.
2- انظر شرح المواقف 1 : 274.
3- في ( ش ) زيادة : « ان » وفي ( ط ) زيادة : « إنّما » وكلاهما زائدتان ظاهرا.
4- الوافية : 172.
5- في ( ش ) بدل « الحكم الشرعي » : « حكم ».
6- في ( ش ) : « خالفهم ».

ولعمري! إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى ممّا لا يقبل الإنكار ، فكأنّها نار في منار.

فإن قلت : ما ذكر ممّا لا يجدي شيئا في المقام - كما اعترف السيّد (1) بذلك أيضا - لأنّ الكلام في ترتّب الثواب على الواجب العقلي والعقاب على تركه ، ولا نسلّم ترتّبهما إلاّ على الأمر والنهي اللفظيين.

قلت : بعد أنّ ذلك منقوض بموارد الإجماع والضرورة والسيرة على وجه في الجميع ، فإن أراد عدم ترتّبهما على الواجب العقلي في الحقيقة وفي المعنى فهو مردود بملاحظة حال العقلاء في كيفيّة الإطاعة والعصيان كما مرّ.

وإن أراد أنّ ما يترتّب على العقليّين من الواجب والحرام لا يسمّى في الاصطلاح عقابا وثوابا فبعد الغضّ عنه - كما ينفيه تحديد المتكلّمين (2) للثواب : بأنّه إيصال النفع بقصد التعظيم ، والعقاب بما يقابله من غير ملاحظة الأمر فكيف باللفظيّ منه - فيرد عليه : أنّ النزاع ليس في مجرّد التسمية والاصطلاح ، إذ لا يترتّب على تسمية ذلك ثوابا أو غيره شيء من الأحكام الشرعيّة ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ بعض الآثار لا يترتّب إلاّ بعد إثبات الخطاب والثواب والعقاب مثل قتل فاعل الكبيرة في الرابعة ، حيث إنّها على ما عرّفها جماعة (3) بأنّها « ما أوعد اللّه عليها النار في كتابه » لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق الخطاب ، والقائل بالملازمة لا بدّ له من إثبات الخطاب في صدق الثواب والعقاب.

ص: 341


1- انظر شرح الوافية : 213 - 214.
2- انظر كشف المراد : 407 - 408 ، وشرح القوشجي : 384.
3- نسبه في الذخيرة : 304 ، ومفتاح الكرامة 3 : 89 إلى المشهور ، وفي الكفاية 1 : 139 إلى المعروف بين الأصحاب.

قلنا : لا نسلّم انحصار الكبيرة فيما ذكر ، فإنّها أعمّ عندنا من ذلك وممّا حكم العقل بحرمته على الوجه المعهود.

الثاني (1) : أنّ ما أفاده في دفع ما أورد على نفسه - من عدم مجال للإنكار بعد ما قطع العقل بالحكم بالنظر والتأمّل في جواز التعبّد بأمثال هذه الإدراكات العقليّة القطعيّة أو الظنّيّة - ممّا لا يبتني على أساس ولا له بما أورده مساس ، حيث قد فرغنا عن حجّيّة العلم المرآتي في محلّه على وجه ظهر عدم معقوليّة التخصيص بطريق دون آخر ، فليراجع ثمّة.

الثالث : أنّ ما أفاده من أنّ (2) الجهات المدركة في المستقلاّت العقليّة ليست علّة تامّة فممّا لا يصغى إليه بعد موافقة الوجدان ، فإنّ الجهة المدركة (3) في الإحسان والظلم الآمرة في الأوّل والناهية في الثاني بحسب وجداننا في حال العلم هي العلّة التامّة ، وأمّا جواز تبدّل العلم جهلا فهو أمر خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس الاحتمال - هذا - للعالم ، والمحتمل لغيرها لا علم له ، فيخرج عمّا نحن بصدده. ويشعر بذلك ما أفاده الشيخ في العدّة في مباحث النسخ : من أنّ حكم الشارع إنّما هو كاشف عن الصفات ، لا أنّه به يحصل الوجوب (4) ؛ ومن هنا تمسّك الأشعري بعدم كونه حينئذ في جعل الأحكام مختارا ، بل لا بدّ وأن يكون موجبا.

وبذلك يشعر ما أجاب عنهم أصحابنا : بأنّ انتفاء القبيح لصارف لا ينافي

ص: 342


1- من وجوه النظر فيما أفاده السيّد ، راجع الصفحة : 338.
2- لم يرد « أنّ » في ( ش ).
3- لم ترد عبارة « في المستقلاّت - إلى - المدركة » في ( ش ).
4- لم نعثر عليه بعينه ، انظر العدّة : 409 - 505 ، الفصل 2 من فصول النسخ.

الاختيار ، فإنكار كون تلك الجهات المدركة لنا في الأفعال التي تستقلّ عقولنا بأحكامها يشبه أن يكون سفسطة في سفسطة! فإنّ المفروض استقلال العقل بإدراك الحكم في البعض.

ثمّ اعلم ، أنّ معنى قولهم : « إنّ حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ممّا يمكن أن يتوصّل به إلى الحكم الشرعي » أنّه يمكن أن يجعل دليلا للحكم الشرعي ، فإنّ حكم العقل باستحقاق فاعل الإحسان جزاء الخير بمنزلة كبرى كلّيّة لخصوص حكم الشارع ، بمعنى إرادته ورضاه وطلبه للإحسان ، وإن كان إطلاق الحكم على هذا المعنى مجازا عندهم كما لا يخفى.

ومن هنا يلوح ضعف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه اللّه في تحرير العنوان من قوله : « كما تبيّن عندنا معاشر الإماميّة تبعا لأكثر العقلاء : أنّ العقل يدرك الحسن والقبح - إلى قوله - كذلك من الواضح : أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى بتركه - إلى أن قال - وما توهّمه بعض المتأخّرين : من أنّ حكم العقل محض استحقاق المدح والذمّ ، فهو مبني على الغفلة عن مراد القوم وحسبان أنّ حكم العقل إنّما هو الذي ذكروه في مبحث إدراك العقل » (1).

ووجه الضعف أمران :

أحدهما : حسبانه تعدد النزاع وقد علمت أن كلام الأكثرين يشعر بخلافه.

الثاني : أنّه على ما أفاده فلا معنى لدليليّة حكم العقل لحكم الشرع ، بل العقل تارة يدرك الحسن والقبح بمعنى المدح والذمّ ، وأخرى يدرك الثواب والعقاب بمعنى أنّه يدرك أنّه ممّا يرضى اللّه تعالى بفعله أو لا يرضى به ،

ص: 343


1- القوانين 2 : 2 ، الباب السادس ، المقصد الرابع ، القانون الأوّل.

فلا يتصوّر النزاع في ذلك إلاّ ممّن ينكر حجّيّة الإدراكات القطعيّة العقليّة ، والمفروض : أنّ العقل مذكور في عداد الأدلّة والمسألة أصوليّة ، إذ المقصود فيها إثبات دليليّة العقل للحكم الشرعي.

وبالجملة ، فما أفاده لا يكون دليلا للحكم الشرعي. ولعلّه إنّما أخذ ذلك من كلام المحقّق اللاهيجي ، حيث قال : « إنّ العقل رسول في الباطن ، كما أنّ الرسول عقل في الظاهر » (1) فإنّ المستفاد من كلماته في موارد عديدة : أنّ العقل لسان الشرع وطالب من قبله ، كما أنّ الرسول في الظاهر مبيّن أحكامه.

وكيف كان ، فلا وجه لما ذكره أيضا ، إلاّ أن يكون ذلك منه لبيان مقام (2) آخر غير دلالة العقل على حكم الشرع كما هو (3) الكلام في المسألة الأصوليّة المعبّر عنها بقولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع »

واعلم أنّ هذه القضيّة تحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم بمثله الشرع ، وهذا يلائم قولهم : « إنّ العقل والشرع متطابقان » فإنّه ظاهر في تعدّد الحكمين (4) وتغايرهما ، من جهة أنّ أحد الحكمين شرعي والآخر عقلي إرشادي ، وعلى هذا المعنى ففي الموارد التي استقلّ بها العقل حكمان وحاكمان.

وثانيها : أن يراد منها : كلّ ما حكم به العقل حكم بعينه الشرع ، وبعبارة

ص: 344


1- گوهر مراد : 247.
2- في ( ش ) بدل « مقام » : « حكم ».
3- في ( ش ) بدل « هو » : « مرّ ».
4- في ( ط ) زيادة : « وتطابقهما ».

اخرى : أنّ الشرع يصدّق العقل فيما يحكم به ، لا أنّه يحكم بحكم آخر لكنّه يماثل حكم العقل ، وعلى هذا فالحاكم اثنان والحكم واحد فإنّ أحدهما حاكم وهو العقل ، والثاني مصدّق وهو الشرع (1).

وثالثها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل فهو عين ما حكم به الشرع ، بمعنى أنّ العقل رسول الشرع ، فكما أنّ الرسول لا يختلف حكمه حكم (2) الشرع بل هو عين ما حكم به الشرع ، فكذلك العقل ، فإنّه رسول في الباطن ، كما أنّ الشرع عقل في الظاهر ، فحكم الشرع قائم بالعقل حيث إنّه لسان الشرع ، وعلى هذا : الحكم واحد والحاكم واحد ، كما في أحكام الرسول صلى اللّه عليه وآله.

ثمّ إنّ هذه القضيّة قد تطلق في قبال من يرى صحّة حكم العقل وعدم حكم الشرع ، لجواز خلوّ الواقعة عن الأحكام ، وقد تطلق في قبال من يرى أنّ حكم الشارع قد يكون على خلاف حكم العقل بعد تسليمه عدم جواز خلوّ الواقعة (3) عن الحكم ، فعلى الأوّل يكون المقصود إثبات الحكم الشرعي قبالا لمن ينفيه ، والتطابق غير ملحوظ في المقام (4) حينئذ. وعلى الثاني يكون المقصود إثبات التطابق ، ونفس الحكم الشرعي سواء كان مخالفا أو موافقا غير ملحوظ في النزاع ، وذلك كما تقول : « الذي ضربته أمس ضربته اليوم » فإنّه قد يكون قولك مسوقا لإثبات المسند قبالا لمن نفاه ، وقد يكون مسوقا لإثبات المضروب وبيانه ، وقد تقدّم ما يدلّ على ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى الإرادة

ص: 345


1- لم ترد عبارة « فإن أحدهما - إلى - الشرع » في ( ش ).
2- كذا ، ولعلّ المناسب : حكمه عن حكم.
3- لم ترد عبارة « عن الأحكام - الى - الواقعة » في ( ش ).
4- لم يرد « في المقام » في ( ش ).

والكراهة والسخط والرضا ، وسيأتي ما يدلّ من الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وإجماعا بأقسامه محقّقا ومنقولا بسيطا ومركّبا على الملازمة بين حدّي (1) الحكمين بمعنى الحكم اللفظي الخطابي كما أفاده (2) محقّق الجمال (3).

قال الاستاذ - دام علاه - : وزعم بعض المعاصرين جواز الانفكاك بين حكم العقل والشرع ، أراد به صاحب الفصول حيث قال - بعد ما عنون البحث في مقامين : أحدهما : يرجع (4) إلى الكليّة القائلة بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وثانيهما : إلى حجّيّة القطع وجواز عمل القاطع بقطعه : فالحقّ عندي في المقام الأوّل أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه. نعم ، جهات الفعل من جملة جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به ، وقد لا يقتضي لمعارضته لجهة أخرى في نفس التكليف (5). واستند في ذلك إلى وجوه :

الأوّل : حسن التكليف الابتلائي ، فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله من حيث هو فاعله المدح في نظره ؛ استخبارا لحال العبد أو إظهارا لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل لما حسن ذلك.

ص: 346


1- لم يرد « حدّي » في ( ط ).
2- في ( ط ) : « ادّعاه ».
3- في الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، في مباحث مبادئ الأحكام : 96.
4- في ( ط ) زيادة : « في محصّل المعنى ».
5- الفصول : 337 - 338.

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ الكلام إنّما هو في الملازمة بين حكم العقل بعد إدراكه الجهة المحسّنة والمقبّحة وحكم الشرع ، ولا وجه للابتلاء بعد العلم بحال الفعل وجوبا وحرمة ، لعدم وجود الفائدة فيه ، كما لا يخفى. نعم ، إنّما يرد ذلك نقضا على الملازمة بين حكم الشرع والعقل التي مرجعها إلى الحكم بتبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات الكامنة في الأشياء باعتبار حدود ذواتها أو بعد انضمام أمور أخر إليها زمانا ومكانا ونحوهما. ومن هنا يظهر عدم استقامة ما أجاب به عن الاعتراضات التي أوردها المحقّق القمّي على الوجه المذكور ، حيث إنّه إنّما حاول دفعها على (1) ذلك المقام ، وقد عرفت أنّه لا ربط بين المقامين (2).

وأمّا ثانيا : فبأنّ التكاليف الابتلائيّة خارجة عن محلّ تشاجرهم وحريم نزاعهم ، إذ ليست بتكاليف حقيقة ، فإنّ التكاليف الحقيقية - على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين - لا بدّ وأن تكون مشتملة على حسن زائد على حسن التكليف (3).

قال المحقّق الطوسي قدس سره القدّوسي في مقام بيان شرائط حسن التكليف : وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدّمه وإمكان متعلّقه وثبوت صفة زائدة على حسنه (4).

ص: 347


1- في ( ط ) : « دفعه في ».
2- في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى على المتدبّر فيهما ».
3- في ( ش ) : « التكاليف ».
4- تجريد الاعتقاد : 203.

وتحقيق المقام إنّما هو بعد بسط في الكلام ، فنقول : إنّ التكليف بشيء يقع على وجوه :

الأوّل : أن يكون الفعل المأمور به مشتملا على مصلحة توجب الأمر به أو يشتمل على مفسدة مقتضية للنهي عنه بحيث لو نهى عن الأوّل أو لم يأمر به أو أمر بالثاني (1) أو لم ينه عنه لكان قبيحا على ما عرفت مرارا ، وهذا هو القسم الشائع عندنا معاشر العدليّة.

الثاني : أن يكون المصلحة في نفس صدور الأمر من غير أن يكون الفعل ذا مصلحة بوجه ، بل قد يكون الفعل مبغوضا للآمر ، لكن المصلحة المقتضية لصدور الأمر دعته إلى الأمر به كالأوامر الواردة في مقام التقيّة من غير أن يكون في نفس العمل تقيّة ، ولا شكّ أنّ هذا القسم من الأمر لا يورث إيجابا بالنسبة إلى الفعل ولا شيئا آخر ، وإنّما هو فعل قد ألجأت إليه الضرورة فوقع من غير أن يكون منوطا بحسن في متعلّقه ، وإنّما الحسن في نفسه على النهج السائر في الأفعال الاختياريّة التي يكفي في صدورها عن الفاعل وجود الداعي إليه بخصوصه ولو كان هو حفظ النفس عن مكائد الأعادي ، بل هو من أعظم الدواعي.

الثالث : أن يكون المصلحة في الفعل ، لكنه بعد ما تعلّق الأمر به فتارة من حيث إنّ الفعل محصّل للامتثال بالنسبة إلى أمر المولى ، واخرى من حيث إنّ الفعل بعد ما تعلّق الأمر به (2) ظاهرا [ إنّما ](3) اشتمل على عنوان حسن كان الأمر به طريقا إلى تحصيل ذلك العنوان الحسن الذي هو المقصود بالأمر واقعا وإن تعلّق

ص: 348


1- لم ترد « أو لم يأمر به أو أمر بالثاني » في ( ش ).
2- لم ترد عبارة « فتارة - إلى - الأمر به » في ( ش ).
3- لم يرد « إنّما » في ( ش ).

بغيره ظاهرا ، فالمأمور به بالأمر اللفظي شيء والمقصود من الأمر الذي حسنه اقتضى صدور الأمر من الآمر شيء آخر ، إلاّ أنّ تعلّق الأمر به حيث لم يكن ممكنا لأدائه إلى مفسدة ابتداء تعلّق الأمر بغيره على وجه يحصل بواسطة تعلّق الأمر به ذلك العنوان الحسن ، فيصير مأمورا به بأمر آخر ؛ مثلا إذا كان في إظهار الإطاعة للمولى حسن أو مصلحة دعت إلى طلبه من العبد ، فلا يصحّ الأمر بإظهار الإطاعة ابتداء من غير سبق تكليف ؛ لأنّ الإطاعة ترجع في محصّل المعنى إلى الامتثال بأوامر المولى والإتيان بما تعلّق به الأمر ، والمفروض انتفاء موضوعه في المقام ، فلا بدّ في ذلك من الأمر بشيء آخر مثل الأمر بقطع يده مثلا أو قتل ولده لتحصيل موضوع ما هو مطلوب واقعا : من إظهار الإطاعة وإن لم يكن قطع اليد محبوبا له ، بل إنّما يكون مبغوضا ، فكان الأمر اللفظي في المقام جزء لموضوع ما هو المقصود حقيقة ، وبعد تحصيل ذلك الموضوع يحكم العقل بالأمر العقلي بالإطاعة المطلوبة للمولى حقيقة ، فالأمر اللفظي لا يورث وجوبا في متعلّقه واقعا وإن تخيّله المأمور من حيث جهله بالواقع وكشف اللفظ عن الوجوب ظاهرا ، ولا يتبع هذا حسنا ، بل هو مستتبع لموضوع حسن تعلّق الأمر الحقيقي به.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ القسم الأوّل ممّا لا كلام فيه ، والقسم الثاني ممّا لا دخل له في المقام ، فإنّه أمر صوري لفظي صرف وتخيّل بحت. وأمّا القسم الثالث فبالنسبة إلى الأمر المتعلّق لفظا بقطع اليد أو ذبح الولد فلا شكّ في كونه صوريّا بحتا لا يورث وجوبا في الواقع وإن تخيّله المكلّف - بواسطة عدم اطّلاعه وجهله بالواقع وبالنسبة إلى المطلوب - واقعا ، فهو كالقسم الأوّل من حيث إنّ حسن الفعل دعا إلى الأمر به. والأوامر الابتلائية يحتمل أن تكون من هذا القبيل ، ولا ينافيه ما اشتهر في الألسنة : من أنّ التكاليف الابتلائية

ص: 349

لا بدّ وأن يكون الفعل فيها غير مطلوب ، إذ بعد تسليمه فإنّما هو فيما تعلّق الأمر اللفظيّ به وتخيّله المكلّف مأمورا به.

ولا دليل على أنّ ذلك الأمر لا يصحّ أن يجعل طريقا إلى الوصول إلى ما هو المطلوب حقيقة ، كما أنّه لا ينافيه مبغوضيّة ما تعلّق الأمر به ظاهرا ، نظرا إلى أنّ المطلوب الحقيقي هو إظهار الإطاعة والانقياد ، ومن جملة ما يحصل به هذا المفهوم هو قطع اليد أو قتل الولد ، والمفروض كونه مبغوضا للمولى ، والوجه في ذلك : هو أنّه كما يحصل بالقتل ذلك المفهوم فكذلك يحصل بإيقاعه في معرض القتل أو القطع ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك كلّه ظهر أنّ ما زعمه المحقّق القمّي تبعا لبعضهم : من أنّ الأمر في أمثال المقام مجاز عن المقدّمات (1) ممّا لا وجه له.

والحاصل : أنّ الأوامر الابتلائيّة لا ترد نقضا على الملازمة بعد احتمال ما ذكرناه ، فكيف بأنّ الظاهر من مساق كلماتهم هو ذلك الاحتمال! (2) فتأمّل جيّدا تهدى إلى الحقّ.

الثاني (3) : التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا الأطهار عليهم السلام لا يكاد يعتريه شوب الإنكار وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أيضا ، فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان ، لما فيها من صون المكلّف والمكلّف عن شرور المخالفين وإن تجرّد المكلّف به عن الحسن الابتدائي. وطريان الحسن

ص: 350


1- القوانين 2 : 4.
2- في ( ط ) زيادة : « ما قلنا ».
3- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

بعد التكليف من جهة الامتثال ممّا لا يجدي ، إذ الكلام في الجهات المتفرّع عليها التكاليف ، لا في الجهات المتفرّعة عليها هذا (1).

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بما لو حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ، فإنّه يحسن التكليف اتّقاء من شرور الأعادي وصونا عن مكائدهم على خلاف حكم العقل من تحريم الواجب وإيجاب الحرام ، مع أنّه لا يلتزم بجوازه ولا يحكم بالانفكاك بين الحكمين فيه. قال في ذيل المبحث : « وإذا ثبت عندك ممّا حقّقناه انتفاء الملازمة الكليّة ، فاعلم أنّ ذلك يتصوّر إمّا بالأمر بالحرام العقلي (2) ولو ندبا والنهي عن الواجب العقلي (3) ولو تنزيها » (4) وعدّ الأقسام المتصوّرة في المقام من الأمر بالمباح أو تحريمه أو إباحة الواجب ونحوه - إلى أن قال - : « أمّا القسمان الأوّلان : فلا ريب في امتناعهما بالقياس إلى الحكم الواقعي » (5) مع أنّ مقتضى ما ذكره من الدليل هو جواز مثل ذلك أيضا ، فما هو الجواب عنه هو الجواب عن غيره أيضا. والحقّ أن النقض المذكور ممّا لا يختصّ وروده بهذا الدليل خاصّة ، بل يجري في أكثر الوجوه التي استند إليها ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، بأن نقول : إنّ تلك التكاليف لا بدّ وأن تحمل على أحد الوجهين : إمّا على التورية باعتبار إرادة معنى غير ظاهر منها على إطلاقها ، كأن يقال فيما لو أمر بالمسح على الخفّين : إنّه يجب عند الخوف على النفس ، والفعل

ص: 351


1- الفصول : 338.
2- في المصدر : الفعلي.
3- في المصدر : الفعلي.
4- الفصول : 340.
5- الفصول : 340.

فيه يشتمل على الحسن قطعا ؛ لأنّ الفعل الواقع في مقام الخوف على النفس له وجه يغاير سائر وجوهه ويختلف الحسن والقبح باختلاف الوجوه المتّحدة مع الفعل المنتزع عنه ، كما لا يخفى. وقد ورد نظير ذلك في الأخبار بحيث لا يكاد يشوبه الإنكار ، فمن ذلك : ما قد قاله الإمام عليه السلام فيما سأله السائل عن الوتر من وجوبه ، ثم فسّره بوجوبه على الرسول (1). وقوله : « أصبت » ثم فسّره ب- « أصبت الباطل » (2). وقوله في الشيخين : « إنّهما إمامان عادلان قاسطان كانا على الحقّ وماتا على الحق » (3) ثم فسّره بما ينافيه ظاهرا. ولا قبح في ذلك الوجه بوجه.

وأمّا حمل الأمر فيها على مجرّد اللفظ وإيجاد صيغة الأمر صورة من غير إرادة معنى منه - نظير الكذب في الإخبارات من حيث عدم مطابقة نسبة الكلام للواقع - فلا بعد فيه أصلا كما زعمه. والعجب أنّه لا يستبعد وقوع التكليف بالقبح ويستبعد حمل الأمر في أمثال المقام على الأمر الصوريّ! مع أنّه في مقام التقيّة لا غائلة فيه بوجه.

الثالث (4) : أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة متعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد التقرّب والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنها تجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، فإنّ وقوعها موصوفة بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة ، حتى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال لا تخلو واقعا إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقا أو بشرط الأمر بها

ص: 352


1- الوسائل 3 : 50 ، الباب 16 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 6.
2- لم نعثر عليه.
3- الصوارم المحرقة : 155 ، والصراط المستقيم 3 : 73.
4- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

ووقوعها بقصد الامتثال ، وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل : فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني : فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل (1).

أقول : ويمكن تحريره بوجه آخر يغايره في الجملة ، وهو : أنّه لا شكّ في اشتراط جملة من الأفعال بالإتيان على وجه الامتثال ، فمع قطع النظر عن هذا الاشتراط ، فإمّا أن يكون تلك الأفعال مشتملة على حسن يقتضي الأمر بها أو لا ، وعلى التقديرين لا يتمّ الملازمة ، أمّا على الأوّل : فلأنّها لا تجزي عن التكليف الواقعي ، وأمّا على الثاني : فلأنّها مأمور بها مع أنّه لا حسن فيها ولا تناقض (2) في البين ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الأمر يتعلّق بها من حيث اشتراط وجه القربة قلنا : الكلام في الجهات التي يتفرّع عليها التكليف ، ووجه القربة (3) إنّما يتفرّع على التكليف ، فلا يحصل إلاّ بعد الأمر ، فأخذه في المأمور به يوجب الدور المحال.

والجواب عنه بكلا تحريريه.

أمّا أوّلا : فبخروجه عمّا نحن فيه ، إذ الكلام فيما إذا أدركت عقولنا حسن الفعل أو قبحه فهل يكشف عن حكمه الشرعي أم لا على ما عنون به المبحث؟ وذلك إنّما يرد نقضا على الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، ولا يرتبط بما نحن فيه (4) أصلا.

ص: 353


1- الفصول : 339.
2- في ( ش ) شطب على كلمة « تناقض » وكتب عليه : ملازمة.
3- لم ترد عبارة « قلنا - إلى - القربة » في ( ش ).
4- في ( ط ) بدل « فيه » : « بصدده ».

وأمّا ثانيا : فنختار أنّها واجبات عقليّة مطلقا مع قطع النظر عن الاشتراط بقصد القربة ، ولا غائلة فيه أصلا ، وبيانه موقوف على مقدّمة ، وهي : أنّ الفعل الواقع عن المكلّف ، له عناوين كثيرة ووجوه عديدة تصلح للحمل عليه ويصحّ انتزاعها منه ، فقد يكون الضرب الصادر من المكلّف معنونا بعنوان حسن (1) حسنا كما إذا كان على وجه التأديب ، وقد يكون ملحوظا بلحاظ آخر موجّها بوجه غيره قبيحا كما إذا كان على وجه التعذيب مثلا (2) ، فإذا علمنا العنوان الحسن المنتزع من الفعل بخصوصه تفصيلا فلا كلام ، وإن علمناه إجمالا كأن علمنا أنّ الفعل الفلاني وجها يكون ملحوظا بذلك الوجه حسنا ، ولو كان علمنا أنّ للفعل الفلاني وجها يكون ذلك الفعل (3) ملحوظا بذلك الوجه حسنا (4). ولو كان علمنا بذلك بواسطة أمر الشارع وكشفه عن وجود عنوان الحسن إجمالا فلا ريب أنّ الإتيان بالفعل في الخارج تحصيلا لذلك العنوان المعلوم حسنه إجمالا يجزي عن الأمر به لو كان مأمورا به ، ويحصل الحسن المنتزع من الفعل كما لا يخفى.

وبالجملة ، فبعض الأفعال لوقوعها مشتركة بين وجوه كثيرة لا بدّ في تعيين واحد منها إلى قصد ذلك الوجه بالخصوص تفصيلا أو إجمالا ، وإليه تنظر العبارة المنقولة عن المتكلمين من أنّه : « لا بدّ أن يقع الفعل في الخارج إمّا لوجوبه أو لوجه وجوبه » (5) فإنّ هذا أحد الوجوه في وجه الوجوب.

ص: 354


1- لم يرد « حسن » في ( ش ).
2- لم يرد « مثلا » في ( ش ).
3- لم يرد « ذلك الفعل » في ( ش ).
4- العبارة مشوّشة جدّا.
5- المنقذ من التقليد 1 : 240 - 241 ، وكشف المراد : 407 - 408.

وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : نلتزم بأنّ الأفعال المخصوصة التي يعبّر عنها بالصلاة مثلا حسن ، لكن لا على أي وجه حصلت وعلى جميع العناوين المنتزعة عنها ، بل على وجه خاصّ علمنا به إجمالا من أمر الشارع وإن لم نعلم ذلك الوجه بخصوصه ، فهي معنونة بعنوان معلوم بالإجمال حسنه ، ولهذا قد أمر بها الشارع ، والإتيان بها على الوجه المأمور بها يجزي عن الواجب وإن لم يكن الامتثال ظاهرا ، وأمّا واقعا فمرجعه إلى حقيقة الامتثال كما لا يخفى فهي حسنة ومأمور بها فلا مخالفة بين الحكمين.

وأمّا ثالثا : فنختار أنّها واجبات عقليّة بعد الاشتراط بنيّة القربة وقصد الامتثال ، ولا غائلة أيضا ، وبيانه أيضا يحتاج إلى تقديم مقدّمة.

وهي : أنّ الحكمة الداعية إلى وضع الألفاظ - على ما تقرّر في محلّه - هو الكشف عن المقاصد في مقام الإفادة والاستفادة ، وذلك يحصل بوجهين.

أحدهما : أن يكون المقصود بالإفادة والاستفادة ما هو المفهوم من اللفظ بحسب ما يستفاد منه لغة ، كما هو المتعارف عند العقلاء في أغلب إفاداتهم واستفاداتهم خبرا أو إنشاء.

وثانيهما : أن يكون المقصود واقعا من إيراد اللفظ وإطلاقه بحسب ما يستفاد منه من الأمور اللازمة للمعنى أو الملزومة له ولو بملاحظة مدلوله ابتداء.

فكما أنّ اللفظ في القسم الأوّل طريق للوصول إلى المعنى ، فكذلك المعنى المستفاد من اللفظ في المقام طريق للوصول إليه ، وذلك في الأخبار ظاهر شائع كالمداليل الكنائية.

وأمّا في الإنشاء : فقد يتحقّق مثل ذلك أيضا ، كما إذا جعل الأمر بشيء عنوانا لمطلوبيّة شيء آخر ، فالمطلوب بحسب ما يعتقده المكلّف هو ما تعلّق

ص: 355

الأمر به لفظا ، إلاّ أنّ المحبوب واقعا ربما يكون شيئا آخر ولو بعمومه ، فيختلف المقصود المسوق للكلام والمستفاد من الأمر بحسب ما تعلّق به ظاهرا في مقام اللفظ ، كما إذا أمر المولى بضرب زيد مثلا أو إكرام عمرو ، فإنّه ربما يقال باختلاف المقصود والمطلوب ظاهرا من حيث إنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالامور الاختياريّة للمكلّف ، ومع ذلك فيمكن الحكم بالإجزاء فيما لو أكرم عمرا من غير اختيار ومن دون قصد إليه ؛ لأنّ عدم تناول الطلب للامور الاضطراريّة التي لا تقع باختيار المكلّف إنّما هو من جهة قصور في الطلب ، وإلاّ فاللفظ المفيد لما تعلّق به الأمر - على ما صرّح به السكّاكي (1) - مطلق يعمّ القسمين.

وبالجملة ، فاختلاف أحكام المقصود والمطلوب أمر ظاهر لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وإذ قد تقرّر هذه ، فنقول :

لمّا كان الفعل مجرّدا عن الاشتراط بنيّة القربة غير واجد لحسن ملزم للأمر به وكان بعد الأخذ بها حسنا مقتضيا للأمر ولا يمكن الأمر به على وجه يكون الاشتراط بها مأخوذا في الفعل نظرا إلى محذور الدور ، انحصر الطريق في الأمر به أوّلا على وجه يكون نفس الفعل متعلّقا للأمر اللفظي مجرّدا عن اعتبار الاشتراط والقيد ، ليصحّ التقييد بالاشتراط بعد ذلك الأمر ، فالحيلة في الوصول إلى ما هو المقصود واقعا إنّما هو تعلّق الأمر لفظا بما هو مجرّد عن قيد المطلوب ثم التقييد بعد ذلك ، فالمقصود من الأمر بالصلاة هو التقرّب بها ، فإنّ (2) المطلوب الظاهري هو مجرّد فعل الصلاة ، فما هو متعلّق للأمر الواقعي والطلب الحقيقي

ص: 356


1- لم نعثر عليه.
2- في ( ط ) بدل « فإنّ » : « وإن كان ».

حسن قطعا ، وما هو مأمور به في مقام اللفظ لا دليل على لزوم كونه حسنا ولا يدّعيه القائل بالملازمة أيضا على ما لا يخفى.

الرابع (1) : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة (2) رفعا للكلفة والمشقّة عنهم ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عقيب كلّ صلاة » (3) فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن أصل الفعل ، وذلك حيث لا يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فالفعل الشاقّ قد يكون حسنا بل واجبا عقليّا لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّفين مع قضاء الحكمة بعدمه (4).

أقول : ويمكن تحريره بوجهين :

الأوّل : أنّ الأدلّة الدالة (5) على رفع الحرج عن هذه الامّة - على ما يعطي النظر في مساقها - أنّها إنّما هي واردة في مقام الامتنان عليهم ، فتلك التكاليف التي تفرّدت تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنها لا تخلو : إمّا أن تكون حسنة في الواقع على وجه يقتضي الأمر بها إلزاما ، أو لا ، فعلى الأوّل يلازم القول بانتفاء الملازمة ، وعلى الثاني ينافي الامتنان ، فإنّ ترك الإلزام بما لا ملزم فيه لا يعدّ امتنانا بل التكليف الإلزامي حينئذ يعدّ قبيحا ، ولا امتنان في ترك القبيح ؛ مع أنّه قد

ص: 357


1- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.
2- في ( ش ) زيادة : « قطعا ».
3- الوسائل 1 : 355 ، الباب 5 من أبواب السواك ، الحديث 3.
4- الفصول : 339.
5- لم يرد « الدالّة » في ( ش ).

منّ اللّه تعالى ببركات نبيّنا نبيّ الرحمة - عليه وآله من الصلاة أزكاها ومن السلام أفضلها - على هذه الأمّة بترك الإلزام بها ، على ما يستفاد من جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار (1) ، كما لا يخفى على من راجعها.

الثاني : أنّ الظاهر من قوله صلى اللّه عليه وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ... » (2) أو « لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل » (3) ونحوه أنّ ترك التكليف بهذه الأفعال إنّما هو بواسطة عدم إلقائهم في المشقّة بعد ما هو يقتضي التكليف ، نظرا إلى ما هو المعهود من طريقة العقلاء حيث يستندون في عدم المعلول إلى عدم المقتضي فيما لو اجتمع مع وجود المانع ، وإنّما يحسن الاستناد إليه بعد إحراز المقتضي ، وإلاّ فينسب كلام القائل به إلى كلمات أصحاب الهزل والظرافة ، أو يلحق بكلمات أرباب السوداء والجنون ، فاللازم لذلك وجود الحسن في تلك الأفعال مع عدم الأمر بها.

والجواب أمّا عن التحرير الأوّل :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن العنوان ، إذ لا كلام فيما لا (4) يستقلّ العقل بإدراكه.

ص: 358


1- راجع الوسائل 1 : 153 ، الباب 9 من أبواب الماء المضاف ، الحديث الأوّل ، و 120 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل و 327 ، الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5 و 113 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 5 ، والوسائل 2 : 980 ، الباب 13 من أبواب التيمم ، الحديث الأول و 1071 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 3 وغيره.
2- المتقدّمة في الصفحة السابقة.
3- الوسائل 3 : 135 ، الباب 17 من أبواب المواقيت ، الحديث 7.
4- لم يرد « لا » في ( ش ).

وأمّا ثانيا فبالمعارضة ، إذ لو كان التكليف في تلك الأفعال قبيحا فلا امتنان في ترك القبيح ولو كان حسنا ، فلا ملازمة بين حسن التكليف ووقوعه على ما زعمه ، فهذا الإيراد على صحته مشترك الورود ، ولا بدّ لكلّ من الفريقين من التفصّي عنه ، فلا يصلح نقضا للملازمة.

وأمّا ثالثا : فبأنّ العسر واليسر من وجوه الفعل واعتباراته ، فيجوز أن يكون الفعل باعتبار العسر قبيحا فلا يكون مكلّفا به. وأمّا إشكال الامتنان فستعرف الحلّ منه على المذهبين.

ثم لا يخفى عدم ورود هذه الإيرادات على التحرير الثاني :

أمّا الأوّل : فلأنّ المخبر الصادق قد كشف عن حسنه - على ما عرفت - فالقطع حاصل بحسنه ، مع أنّه لا تكليف به.

وأمّا الثاني : فواضح.

وأمّا الثالث : فلأنّ الظاهر من الرواية عدم كون الفعل شاقّا ، بل المشقّة إنّما تحصل من الإلزام به ، كما يظهر من قوله : « أشقّ » حيث استند (1) مشقّتهم إلى نفسه صلى اللّه عليه وآله كما لا يخفى.

ولكنّه يرد عليه :

أوّلا : أنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من هذه الأخبار هو الظنّ والظاهر يدفع بالقاطع ، فإنّ الدليل الدالّ على الملازمة قطعيّ ولا يعارضه خبر الواحد بل ولا المتواتر لفظا ، فلا بدّ إمّا من حمله على خلاف ظاهره ، كأن يقال : إنّ المشقّة في تلك التكاليف إنّما هي من وجوه المكلّف به ، فبعد العسر والمشقّة لا يكون حسنا ، فلا مخالفة أو من طرحه.

ص: 359


1- كذا ، والأنسب : أسند.

وبالجملة ، لا يصحّ ترك الدليل العقليّ والأخذ برواية في سندها - بل وفي دلالتها أيضا - ألف كلام ، فهذه الكلمات في دفع الملازمة لو خيطت من ألف جانب لتهتّك من ألف جانب آخر.

وثانيا : أنّ جملة من الأخبار الدالّة على تفويض الأحكام إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام (1) محمولة على وجوب اتّباع النبيّ صلى اللّه عليه وآله فيما لو أمر لداع غير التبليغ : من إيصال العباد إلى جميع المصالح المكنونة قليلها وكثيرها من غير أن يفوّت منهم مثلا شيئا منها ، ومن هنا قيل : فرض اللّه وفرض رسوله ، فيجوز أن يكون الأمر المفروض في الرواية - كما يظهر من استناده إلى نفسه - من فرائضه من غير أن يكون تبليغا منه صلى اللّه عليه وآله ، فالفعل بعد الأمر من النبيّ صلى اللّه عليه وآله يصير حسنا فيجب ، فأمره في الحقيقة محقّق لموضوع الواجب العقلي والشرعي كالنذر وأمر الوالد لولده. ولا ينافيه علم النبيّ صلى اللّه عليه وآله وحكمته بعد ما عرفت من أنّه ربما يكون الداعي استيفاء جميع المصالح لهم ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ الإشكال الوارد في المقام - أعني مقام الامتنان - يمكن التفصّي عنه على المذهبين ، أمّا على مذهب الناقض : فبأن يقال : إنّ التكليف وإن كان حسنا ، إلاّ أنّ ترك التكليف أحسن ، للامتنان (2) على نهج العفو فيمن يستحقّ العقوبة ، فإنّها عدل لكن العفو أولى.

وأمّا القول بأنّ فعل الأحسن بعد ما كان كذلك لا امتنان فيه - نظرا إلى وجوب (3) صدور الأحسن منه تعالى ، فهو في مقام الربوبيّة وعدم جواز صدور

ص: 360


1- الكافي 1 : 265 ، باب التفويض إلى رسول اللّه وإلى الأئمة صلوات اللّه عليهم.
2- في ( ط ) زيادة : « و ».
3- لم يرد « وجوب » في ( ش ).

القبيح منه لا امتنان له - فواه جدّا ، فإنّ عدم صدور القبيح منه تعالى إنّما هو لغنائه ، لا لشيء آخر على وجه يضطر إليه ، فإنّ امتناع القبيح لصارف يؤكّد الامتنان ، حيث إنّ اتّصافه (1) بذلك أيضا من أعظم المنن (2) ، كما أنّ فيّاضيّته على وجه الإطلاق محض الامتنان على العباد ، وإلاّ فلا وجه لعدّ الوجود من أعظم نعمائه التي منّ بها على خلقه ، كما لا يخفى.

وأمّا على مشرب التحقيق ، فبأن يقال : إنّ حسن الفعل قد يتدارك بوجوه أخر ويحرز بجهات أخرى على الوجه الأتمّ الأكمل من غير تكليف إذا اقتضى المصلحة لذلك ، كما في الحكم بإفطار الصوم في السفر ، فإنّ التنعّم بنعمه في السفر (3) عند المشقّة قد يوجب شكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم المنّان المشتمل على أكمل المصالح وأتمّ الفوائد ، فرفع التكليف والإحسان بما لا يستحقّه من مجازاته تعالى له بجزائه الجميل ممّا لا يقدر العاقل بإحصاء (4) وجوه امتنانه عمّا قليل. كذا أفاد الأستاذ - دامت إفاداته - لكنّه لا يخفى عدم اندفاع النقض على المذهبين بذلك وإن حلّ الإشكال به ، فتدبّر.

الخامس (5) : لا ريب في أنّ كثيرا من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ظنّا أو احتمالا بِحِكَمٍ غير مطّردة في مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذرا من الأداء إلى الاختلال بموارد الحِكَم ،

ص: 361


1- في ( ش ) بدل « اتّصافه » : « المتصارف » أو « التصارف ».
2- في ( ش ) زيادة : « به ».
3- لم يرد « في السفر » في ( ش ).
4- في ( ش ) : « بإحضار ».
5- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

كتشريع العدّة المعلّلة بحفظ الأنساب ونحوه ، فالفعل في الموارد المنفكّة عن العلّة خال عن المصلحة مع اطّراد الحكم واختصاص الحكمة بالبعض (1).

والجواب عنه :

أوّلا : فبما عرفت مرارا.

وثانيا : أنّه لا نسلّم كون تلك الحكم علّة للحكم الشرعي ، كيف! ولولاها لزم التخلّف ، بل تلك الحكم إنّما هي تقريبات لأذهان المخاطبين لمناسبة جزئيّة ، أو علل لتشريع الحكم وإظهاره وإبرازه كما في شأن نزول الآيات القرآنية ، فإنّ المصالح الكامنة في الأشياء المقتضية للأمر بها والنهي عنها ممّا لا يعلمها إلاّ اللّه والراسخون في العلم من امنائه وخلفائه.

وأمّا ما تخيّله : من كفاية الاحتمال فيما يراه (2) من نفي الملازمة - كما أشار إليه بقوله : « ظنّا أو احتمالا » وصرّح به أخيرا في ذيل كلامه - فلعلّه سهو عن قلمه أو غفلة عن قواعد المناظرة ، فإنّ الناقض لا بدّ وأن يكون في مقام النقض موردا لمورد يخالف مقصود خصمه قطعا ولا يكفيه الاحتمال ، نعم المانع يكفيه الاحتمال في قبال الاستدلال.

وبالجملة ، فمن يقول بالملازمة فإن منعها مانع بتجويز أمثال ذلك فلا بدّ لنا (3) من إحكام الدليل الدالّ على الملازمة وسدّ باب الاحتمال بإقامة البراهين القطعيّة ، وإن نقضها الناقض بأن يقول : إنّ المورد الكذائي قد تخلّف فيه الحكم المذكور فلا بدّ له من إتيانه بمورد قطعيّ المخالفة ، وعلينا إمّا إصلاحه أو الالتزام

ص: 362


1- الفصول : 339.
2- العبارة في ( ش ) هكذا : « وأمّا ما تخيّله من أنّ كثيرا من الأحكام فيما يراه ».
3- كذا ، والظاهر : له.

بمقالته ، ومن الظاهر أنّ الوجوه التي استند إليها في عدم ثبوت الملازمة إنّما هو أوردها على وجه النقض كما لا يخفى ، فلا وجه حينئذ لإبداء الاحتمال.

وثالثا : أنّه كما يحتمل أن يكون اطّراد تلك الأحكام بواسطة حسن في التكليف كذلك يحتمل أن يكون بواسطة حسن في الفعل المكلّف به في غير الموارد الموجود فيها العلّة ؛ لأنّ اشتمال فرد على مصلحة من (1) طبيعة ممّا يجدي (2) في انتزاع عنوان عن فرد مماثل له في النوع ، فيصير ذلك العنوان من وجوه ذلك الفرد ، ويحتمل أن يكون حسنا فيصير مأمورا به.

وبالجملة ، فلا دليل على انحصار المصلحة في شيء بخصوصه ، فلعلّ الحكم في الأفراد الغير الواجدة لتلك الحكم مستند إلى علّة عامّة لغيرها أيضا أو (3) يخصّ بها ، ولعمري! كيف يرضى العاقل - فضلا عن الفاضل - بالاستناد إلى مثل هذه الوجوه في دفع ما قد اتّفقت العدليّة عليه؟ كما سنبيّنه إن شاء اللّه.

السادس (4) : الصبيّ المراهق إذا كان لطيف القريحة كامل العقل تثبت في حقّه الأحكام العقليّة ، مع أنّه لا يجب عليه شرعا (5).

والجواب الالتزام بالأحكام الشرعيّة في حقه أيضا بعد ما أدرك الحكم العقلي كحرمة الظلم أو وجوب ردّ الوديعة ، غاية ما في الباب عفوه ثابت بالشرع تفضّلا كما في المعاصي الصغيرة مثلا ؛ مع أنّ الحكم بثبوت العفو

ص: 363


1- في ( ش ) زيادة : « انتزاع ».
2- في ( ش ) : « لا يجدي ».
3- في ( ش ) : بدل « أو » : « و ».
4- من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.
5- الفصول : 339.

في بعض المقامات - كما لو فرضنا فيما لو قتل الصبيّ قبل بلوغه ساعة مع كمال عقله وإدراكه نبيّا أو وصيّ نبيّ - في غاية الصعوبة ، فإنّه ربما يخالف العدل على ما لا يخفى.

وبالجملة ، فنحن نقول : إنّ كلّما أدرك العقل أنّ الفعل الفلاني ممّا يترتّب عليه الثواب بمعنى جزاء الخير ، أو العقاب بمعنى جزاء الشرّ ، أو لا يترتّب عليه شيء منهما عند العقلاء والحكماء ، فيمتنع أن يكون حكم الشارع الذي هو خالق العقلاء الحكماء بخلافه. وإن شئت التوضيح فلاحظ المباح العقلي هل يصحّ أن يحكم الشارع بوجوبه أو حرمته أو لا يصحّ؟ وقس عليه البواقي.

فنقول : إنّ بعد ما أدرك العقل جهات الفعل ولم يحكم بوجوبه أو حرمته أو استحبابه أو كراهته وحكم بإباحته ، فإيجاب الشارع الحكيم له لا يخلو عن وجوه :

إمّا لحسن فيه قبل الأمر والمفروض خلافه.

أو لحسن فيه بعد الأمر على وجه يتفرّع عليه التكليف ، فالأمر فيه محقّق لعنوان حسن مطلوب حقيقة هو مأمور به واقعا كما في الأوامر التعبّديّة كالصلاة والزكاة ، فإنّ بعد الأمر يحصل عنوان حسن غير الامتثال هو يصير مأمورا به. وأمّا حسن الامتثال فلا يتفرّع عليه التكليف بل الامتثال يتفرّع عليه ، فلا يصلح وجها لتعلّق التكليف بالفعل.

وإمّا الابتلاء (1) ...

ص: 364


1- عطف على قوله : إمّا لحسن فيه. ولا يخفى عدم ارتباط قوله : « كما أورده القوشجي ... » بما قبله ، ولذا أفرزناه عنه ، والظاهر - بل المقطور. سقوط بعض الكلمات ، والكلمات الآتية أيضا لا تخلو عن تشويش.

كما أورده القوشجي على المحقّق الطوسي في بيان كلامه (1). وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن ، فأمّا مع العلم فلا وجه له ، وأمّا مع الجهل فالامتثال به أيضا لا حسن فيه ؛ لأنّ حسن الامتثال إنّما هو من حيث تحصيل محبوب المولى ، والمفروض أنّه لا حسن فيه.

نعم ، في صورة الجهل لاعتقاد المخاطب (2) - من حيث ظاهر الأمر الكاشف عن الطلب واقعا - بالمحبوبيّة يحسن منه الانقياد ويحرم عليه التجرّي بترك المطلوب على حسب ما اعتقده ، وهذا ليس من حسن الامتثال في شيء كما لا يخفى ، وليس هذا الأمر إلاّ صوريّا صرفا ولفظيّا بحتا ، والكلام على تقدير خلافه فلا يصلح نقضا على الملازمة الواقعيّة.

نعم ، لو قلنا : بأنّ الطلب أمر يغاير الإرادة أو لا يستتبعها ، بل يمكن الانفكاك بينهما كما يراه بعض الأعاظم (3) - تبعا للأشاعرة - فلا ملازمة بين الحكمين. ولعلّ الناقض المذكور قد بنى كلامه على ذلك ، إلاّ أنّ الكلام معه حينئذ (4) في أصل المبنى.

ثم إنّه قال في عنوان المبحث بعد ما نفى الملازمة الواقعيّة : « هذا إذا أريد بالملازمة القطعيّة الواقعيّة منها ، ولو أريد بها الملازمة - ولو بحسب الظاهر - فالظاهر ثبوتها » (5) ثم قال - بعد إيراد النقوض على الملازمة الواقعيّة بما

ص: 365


1- انظر شرح التجريد للقوشجي : 340.
2- في ( ط ) : « المكلّف ».
3- انظر ضوابط الاصول : 47 ، وشرح القوشجي : 246.
4- لم يرد « حينئذ » في ( ش ).
5- الفصول : 337.

عرفت (1) والاستدلال على مقصوده من إثبات الملازمة بين حسن التكليف ووقوعه في أثناء الاحتجاج على الملازمة الظاهريّة في المقام الثاني الذي يرجع في محصّل (2) المعنى إلى حجّيّة العلم والقطع في الظاهر - : ومن هنا يتّضح أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف عملا بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار ؛ ولأنّ قضيّة جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها ، إلاّ أن يعارضها مانع. ولا يكفي احتماله ، إذ المحتمل لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به (3) ، انتهى.

وهذا أيضا ليس في محلّه ، فإنّ الملازمة لو كانت ثابتة فهي واقعيّة على ما عرفت ، وإلاّ فالملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها.

وأمّا ما استند إليها من عموم الآيات : فعلى تقدير دلالتها إنّما يثبت بها الملازمة الواقعيّة دون غيرها ، فالحكم بلزوم العمل على مقتضى ما أدركه العقل من جهات الفعل في الظاهر يبقى بلا دليل.

وغاية ما يمكن الاستناد إليه في تصحيح مرامه هو أن يقال : إنّ الرجوع إلى الوجدان يقضي بأنّ الجهات المحسّنة للفعل بعد وصول العقل إليها إنّما هي المقتضية للتكليف ، واحتمال المانع ممّا لا يعبأ به العقل سيّما إذا كان بعيدا ، مع أنّ الأصل يقضي بعدمه ، فيثبت التكليف في مرحلة الظاهر إلى ثبوت مانعة.

وفيه :

أوّلا : أنّ الرجوع إلى الوجدان شاهد صدق على أنّ جهات الفعل علّة تامّة

ص: 366


1- في ( ش ) زيادة : « ما عليها ».
2- في ( ط ) : « تحصيل ».
3- الفصول : 340.

للتكليف ، فليست هناك حالة منتظرة له. وبعد التنزّل نقول : إنّ كونها علّة تامّة (1) لا دليل على كونها مقتضية للحكم ، فلعلّها جزء للمقتضي ، فإنّ ارتفاع التكليف في الصبي (2) يحتمل أن يكون لوجود مانع منه ، ويحتمل أن يكون مستندا إلى فقدان شرط من شروط التكليف ولا معيّن لأحد الاحتمالين في البين ، فالجزم بأنّ العدم في أمثال المقام مستند إلى وجود المانع إنّما هو تعرّض على الغيب أو تحكّم (3).

وثانيا : لو سلّمنا إحراز المقتضي فلا نسلّم أنّ الشكّ إنّما هو في وجود المانع عن ثبوت المقتضي وترتّبه على المقتضي ، كيف! ويحتمل أن يكون الشكّ في مانعيّة شيء موجود ولا يجري الأصل حينئذ (4) لعدم العلم بالحالة السابقة ، فإنّ ما يحتمل مانعيّته مذ خلق ومنذ جعل يحتمل مانعيّته وعدمها ، فهي من الآثار واللوازم الغير الشرعيّة (5) وقد تقرّر في مقامه عدم جريان الأصل فيها لكنّه يختصّ بالموانع الواقعيّة للمطالب الخارجيّة ، وأمّا الموانع الجعليّة كالموانع الشرعيّة التي يناط كونها مانعة للأحكام الشرعيّة بجعل فيها ، فيجري فيها الأصل ، وليس (6) المقام منه - كما لا يخفى - فإنّ الكلام في الموانع التي تمنع عن ترتّب الحكم العقلي على مقتضياتها ، وهذه أمور واقعيّة غير منوطة بجعل ، ولا وجه للأصل فيها.

ص: 367


1- لم يرد « إنّ كونها علّة تامّة » في ( ش ).
2- لم يرد « في الصبي » في ( ش ).
3- في ( ش ) : « بحكمه ».
4- في ( ط ) بدل « حينئذ » : فيه.
5- لم يرد « الغير الشرعيّة » في ( ط ).
6- في ( ط ) : « إلاّ أنّه ليس ».

ودعوى استقرار بناء العقلاء على عدم اعتبار ما يحتمل مانعيّته في ترتيب آثار (1) المقتضي بعد إحراز المقتضي غير مسموعة جدّا ، كيف! ولا نجد منها عينا ولا أثرا ، ألا ترى أنّه من أراد المسافرة إلى بلد خاصّ بعد وجود المقتضي لذلك السفر واحتمل هناك مانعيّة شيء موجود عنه فهم لا يترتّبون (2) آثار وصول المسافر إلى البلد المقصود له عليه : من إرسال المكاتيب إليه وتوكيله وجعله وصيّا ، وغير ذلك.

وأمّا أصالة عدم وجود المانع فقد تقرّر (3) في محلّه : أنّه جار في الامور الشرعيّة ، فإنّ من آثار عدم المانع الشرعي وجود المقتضي الشرعي بخلاف الامور الواقعيّة فإنّها تستند إلى عللها الواقعيّة بجميع أجزائها : من وجود المقتضيات ورفع الموانع ، فعدم المانع المحرز بالأصل (4) لا يجدي في الحكم بوجود المقتضي فيها.

وبالجملة ، مرجع الأصل في أمثال ذلك إلى الاصول المثبتة ، ولا ثبات لها عندنا (5).

والحاصل : أصالة عدم المانع وإن كان يجدي في إثبات الملازمة الظاهريّة ، إلاّ أنّ الكلام في مورده ، فإثبات أنّ المقام إنّما هو ممّا نعلم فيه بوجود المقتضي ونشكّ في وجود المانع دونه خرط القتاد.

ص: 368


1- في غير ( ط ) : « الآثار ».
2- كذا ، والمناسب : لا يرتّبون.
3- في ( ط ) : « قلنا ».
4- في ( ط ) زيادة : « الشرعي ».
5- العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه أصل مثبت ولا ثبات له عندنا ».

وقد يستفاد من كلامه الملازمة الظاهريّة أيضا فيما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل واحتمل وجود معارض يعارض قبحه أو حسنه فيما أدركه ، كما إذا أدرك حسن العدل أو قبح الكذب ولكنّه يحتمل هناك وجود عنوان آخر في الكذب من إنجاء نفس محترمة ونحوه ، فانّ العقل في مقام الظاهر يستقلّ بحرمته أو وجوبه مثلا ما لم ينكشف الخلاف أو يعتمد على أصالة عدم المانع ، وهذا أيضا ممّا لا وجه له في وجه ، فانّ العقل بعد ما أحرز العنوان الحسن فلا يجدي في الحكم بخلاف مقتضاه احتمال طريان عنوان القبيح ؛ لأنّ الحسن وخلافه من الصفات الطارئة على الأفعال الاختياريّة والعناوين المقصودة ، فكلّما لم يكن العنوان القبيح مقصودا لا يتّصف بالقبح وإن وقع وكذا العنوان الحسن ، فإنّ قطع اليد من اليتيم ممّا يستقلّ به العقل قبحا ، ولا يكفي في رفع قبحه احتمال رفع شقاقلوسه (1) مثلا وإن وقع مفيدا واقعا ، فالحكم بقبح الظلم وقطع اليد حكم واقعيّ غير مبتن على الظاهر ، فعند عدم القصد إلى العنوان الحسن لا يتزلزل العقل في الحكم بالقبح حكما واقعيّا ولا يحتمل الخلاف لا في الواقع ولا في الظاهر ، فكيف يكون مثل هذا الحكم حكما ظاهريّا؟ ولا حاجة إلى إعمال الأصل في عدم لحوق العنوان المحتمل ، فإنّ الآثار التي تحرز بالأصل ويحكم بترتّبها في المقام ممّا (2) يترتّب على نفس الشكّ في وجود العنوان اللاحق من غير حاجة إلى إعمال الأصل ، كما لو شككنا في حجّيّة أمارة فنفس الشكّ فيها يكفي في عدم ترتيب آثار الحجّيّة عليها فلا فائدة حينئذ في إجراء أصالة عدم الحجّيّة كما نبهنا عليه في مباحث حجّيّة الظنّ.

ص: 369


1- هو داء يموت أو يفسد به العضو ، أصله : سفاكلوس ، لغة يونانيّة ( لغت نامه دهخدا 9 : 12644 ).
2- في ( ش ) زيادة : « لا ».

وبالجملة ، إذا أدرك العقل بعض جهات الفعل وأحرز عنوانا حسنا وشكّ في وجود عنوان آخر معارض للأوّل (1) فبمجرّد الشكّ يحكم بحسن الفعل واقعا من غير تأمّل وتزلزل ، فإنّ الشكّ دليل على عدم عنوان مقتض للقبح ، إذ لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد القصد والاختيار ، ولا قصد مع الشكّ فلا قبح قطعا من غير احتمال خلاف في الواقع ؛ واحتمال وقوع العنوان القبيح ممّا لا يجدي ؛ لأنّه بعد عدم القصد فعل اضطراري لا يتّصف بحسن ولا قبح.

ومن هذا القبيل فعل المتجرّي لو اعتقد حرمة شيء واجب واقعا ، فإنّه لا يجدي به مع عدم قصده إليه ولا يتّصف بالحسن والقبح ، وكذا لو اعتقد وجوب شيء حرام وتركه تجرّيا على اللّه - نعوذ باللّه - فإنّه يذمّ على نفس التجرّي ولا يمدح في ترك الحرام الواقعي ، كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة (2).

فتخلّص ممّا مرّ : أنّ الملازمة الظاهريّة ممّا لا محصّل لها بوجه ، والحقّ ثبوت الملازمة الواقعيّة.

وما قد يتوهّم في المقام : من دلالة الظواهر على انتفاء الملازمة ، كما في قوله تعالى في تحريم الشحوم على اليهود : ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ... ) (3) الخ ، وقوله : ( جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ... ) (4) الخ ، وقول ابن عبّاس في اليهود في قصّة البقرة : من « أنّهم شدّدوا فشدّد اللّه عليهم » (5) - وأمثال ذلك - فممّا لا يقاوم

ص: 370


1- في ( ط ) هكذا : « عنوان آخر يعارض قبحه حسنه ».
2- لم ترد عبارة « كما نبّهنا عليه في بعض المباحث السابقة » في ( ش ).
3- الانعام : 146.
4- الانعام : 146.
5- انظر مجمع البيان 1 : 135.

ضرورة العقل ، فلا بدّ من حمله على أنّ الفعل بعد الظلم والبغي والتشديد منهم اختلف أوصافه ، لا أنّ مجرّد الظلم حرّم الشحوم عليهم مثلا من غير وجدان الفعل للصفة المقتضية للتحريم ، كما نبّه عليه المحقّق القمّي في بعض مباحث القياس (1) ، فتدبّر جيّدا فإنّه حقيق بالتدبّر (2).

وممّا يعدّ من الوجوه الدالّة على ثبوت الملازمة الواقعيّة بين حكمي العقل والشرع الإجماع بأقسامه : نقلا وتحصيلا ، مركّبا وبسيطا.

أما الإجماع البسيط : فيكشف عن تحقّقه أمور :

منها : ما عزى الأستاذ إلى الشيخ في العدّة : من أنّه لا خلاف في أنّ كلّ محظور عقلي فهو محظور شرعي (3). وظاهره نفي الخلاف بين أرباب التحصيل وأهل النظر ، ولا أقلّ من نفيه بين العدليّة.

ومنها : ما أفاده جمال المحقّقين في تعليقاته على العضدي (4) : من أنّه لا خلاف بين العدليّة في ذلك.

ومنها : ما ذكروه في ثمرة النزاع بين الفريقين من ترتيب (5) الأحكام الشرعيّة على القول بالإدراك وعدمه على تقدير عدمه.

ص: 371


1- القوانين 2 : 81.
2- لم ترد عبارة « من غير وجدان - إلى - بالتدبّر » في ( ش ).
3- انظر العدة 2 : 741.
4- الحاشية على مختصر الاصول في أول مبحث مبادئ الأحكام : 66 ، وفيها نسب ذلك إلى « المذهب ».
5- في ( ش ) : « ترتّب ».

ومنها : احتجاج الأشعري (1) في نفي الحسن والقبح : بلزوم الجبر في أفعاله تعالى ، وجواب العدليّة (2) : بأنّ انتفاء القبح لصارف لا ينافي الاختيار وعدم تعرّضهم في دفع ذلك بمنع الملازمة مع كفايته في الجواب ، كما لا يخفى.

ومنها : احتجاج الأشعري أيضا : بنفي التعذيب اللازم للحكم الشرعي على انتفاء الملزوم كما يرشد إليه قوله تعالى : ( ... وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3) وجواب أهل العدل : بأنّ الرسول أعمّ من الرسول الظاهر ، ولم يتعرّض واحد منهم لنفي الملازمة إلاّ من هو محجوج بالإجماع.

ومنها : ما أضافه بعضهم (4) بالمدح والذمّ الثواب والعقاب آجلا وعاجلا في تفسير الحسن والقبح عند تحريره لمحلّ النزاع ، فإنّه قد أفرط في الإشعار بأنّ بعد تسليم الإدراك لا ينبغي التشكيك في ثبوت الملازمة حتّى أنّه يعلم في مقام إثبات الحسن والقبح ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد ، إذ لا يذهب وهم إلى دعوى إدراك الثواب والعقاب في الآجل إلاّ بعد تسالم الخصمين بعد الإدراك في ثبوته.

وبالجملة ، فمن تدبّر في مطاوي كلماتهم في مجاري استدلالاتهم وموارد ثمراتهم وتحرير عنواناتهم لا يكاد يرتاب في ثبوت الملازمة بعد تسليم صغرى الإدراك ، حتّى أنّ الأشاعرة الذين نسبتهم إلى القواعد المأخوذة من مشكاة الولاية ومصباح الهداية كنسبة السوفسطائيّة إلى القواعد الموروثة عن البداهة

ص: 372


1- راجع الإحكام للآمدي 1 : 120 - 133 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 70.
2- راجع كشف المراد : 304 ، والفصول : 320 وما بعدها ، ومناهج الأحكام : 140.
3- الإسراء : 15.
4- انظر هداية المسترشدين : 433 ، والفصول : 316.

والمنتهية إلى الضرورة و (1) لا ينكرون ثبوت الملازمة بعد تسليم الإدراك كما عرفت في إلزاماتهم على العدليّة ؛ فتنبّه في الغاية وتذكّر ما أسلفنا لك في تحرير العنوان إلى النهاية.

وأمّا الإجماع المركّب : فلأنّ علماء الإسلام بأجمعهم بين منكر للحسن والقبح العقليّين وبين ملتزم بالملازمة بين الحكمين ، فكلّ من قال بثبوت الإدراك العقلي التزم بملازمته للحكم الشرعي ، إلاّ ما قد يحكى عن الزركشي (2) وأشباهه ممّن لا يعتدّ بشأنهم في تحصيل الإجماع الكاشف عن رضا الإمام والرئيس بالعمل بما أدركه العقل ، فالقول بثبوت الحسن والقبح وانتفاء الملازمة إحداث لقول ثالث ، فيكون باطلا.

وممّا يدلّ على ثبوت الملازمة أيضا : الكتاب والسنّة :

فمن الأوّل : قوله - عزّ من قائل - في مدح النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ( ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ... ) (3) والتقريب : أنّ المعروف والمنكر هما الحسن والقبيح العقليّان ، والمستفاد من السياق بدلالة وقوعه في مقام المدح هو العموم وإن كان تعريف الجنس ممّا لا يلازمه ، ولا مدح على تقديره كما لا يخفى. والأمر فيه محمول على مطلق الطلب ، لعموم المعروف للمستحب ، فالترك لو كان من المنكرات التي تنهى عنها فالفعل واجب وإلاّ فهو مستحبّ ، فلا يرد عدم التميز كما زعمه بعض الأجلّة (4).

ص: 373


1- الظاهر زيادة : و.
2- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 175.
3- الأعراف : 157.
4- انظر الفصول : 341.

وقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ... ) (1) وجه الدلالة : أنّ العدل من كلّ شيء وسطه ومستقيمه ومستقيم الأفعال حسنها ، والعموم أيضا مستفاد من المقام على ما عرفت.

وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ) (2).

وقوله تعالى : حكاية عن لقمان في وصيّة ابنه : ( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... ) (3).

وجه الدلالة في الكلّ واضح. والمناقشة فيها ممّا لا وقع لها بعد اعتضاد بعضها ببعض كما لا يخفى.

ومن الثاني (4) جملة من الأخبار :

منها : ما ورد في خطبة الوداع التي خطب بها النبيّ صلى اللّه عليه وآله يوم الغدير : « إلا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعّدكم عن النار إلاّ وقد أمر اللّه تعالى به ، ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهاكم عنه » (5).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه السلام في رجل سأله عن طول الجلوس في بيت الخلاء : « دع القبيح لأهله ، فإنّ لكلّ شيء أهلا » (6).

ص: 374


1- النحل : 90.
2- آل عمران : 104.
3- لقمان : 17.
4- يعني ومن السنّة ، عطف على قوله : فمن الأوّل.
5- الوسائل 12 : 27 ، الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث 2.
6- الوسائل 2 : 975 ، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، وفيه حديث واحد. مع تفاوت يسير.

وجه الدلالة ظاهر ، وفيما تقدّم منّا من البرهان العقلي كفاية.

فلنعطف عنان القلم إلى بيان الكلّيّة القائلة : بأنّ « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » فنقول : إنّ هذه الكلّيّة منهم تحتمل وجهين :

الأوّل : أنّ كلّ ما حكم به الشرع قد صدّقه في الحكم في تلك الواقعة العقل واعتقد وقوعه في محلّه وصدوره من أهله ، وهذا المعنى ممّا لا [ يكاد ](1) ينكره القائل بانفكاك الحكمين من العدليّة أيضا.

الثاني : أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم العقل على طبقه حكما إنشائيّا جعليّا كما في عكسه ، على ما مرّ تحقيق الكلام فيه.

فالمعنى الأوّل يتوقّف ثبوته على مقدّمتين مسلّمتين عند العدليّة ، وقد فرغنا عن إثباتهما في غير الفنّ.

إحداهما : أنّ أفعاله تعالى معلّلة بأغراض لا تعود إليه لئلاّ يلزم الاستكمال في حقّه والعبث منه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وثانيهما : امتناع الترجيح بلا مرجّح وأنّه لا يكفي للترجيح إرادة الفاعل وتعلّق قصده بأحد المتساويين في نظر الفاعل وإلاّ لزم الترجّح بلا مرجّح وهو ضروري البطلان وبديهي الاستحالة.

فبعد إحراز هاتين المقدّمتين لا يعقل عدم تصديق العقل لأحكام الشرع ، فإنّه تعالى خبير في حكمه وحكيم في صنعه ، فلا مناص من إمضاء العقل حكم الشرع على الوجه المذكور.

وقد زعم بعض المعاصرين (2) : أنّ من قال بعدم كفاية الإرادة في الترجيح - كما في المقام - إنّما ينافي قوله في دفع ما ذهب إليه سليمان بن عبّاد الصيمري :

ص: 375


1- لم يرد « يكاد » في ( ش ).
2- انظر القوانين 1 : 194.

من أنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة أو الوضع إنّما هو لمناسبة ذاتية ، بأنّ إرادة الواضع مرجّحة ؛ فإنّ كون إرادة الواضع مرجّحة إنّما يناسب مذاق من يجوّز صدور الفعل عن الفاعل من غير اقترانه واستناده إلى الفاعل وقدرته ، وأمّا على المشرب الحق الأصفى الأتمّ الأكمل فلا يكفي في الترجيح تعلّق الإرادة بأحد المتساويين ، إذ الكلام إنّما ينقل إلى نفس الإرادة بعد تساوي نسبتها إلى الطرفين (1).

لكنّه لا يخفى عدم استقامة ما زعمه ، فإنّ الإرادة تارة قد يقال للقصد ، وأخرى للعلم بالأصلح. فعلى الأوّل لا يكفي في الترجيح كما في المقام ، وعلى الثاني فهي بعينها هي المصلحة الداعية للفعل وصدوره من الفاعل. والمراد من « الإرادة المرجّحة » في مقام الوضع هو هذا المعنى ، نظرا إلى منع انحصار المرجّح في الوضع فيما يرجع إلى ذات اللفظ ، والإتيان بلفظ « الإرادة » مجرّدا عن القيد المذكور إنّما هو الإشعار بتوغّل اللفظ وما يتعلّق به من الوضع ومرجّحاته في التوقيفيّة ، كما لا يخفى.

وأمّا المعنى الثاني (2) : فتارة يحمل على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل تفصيلا أو فعلا ، وأخرى على أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل إجمالا أو بعد الاطّلاع على جهات الفعل. فعلى الأوّل لا شكّ في فسادها ، لمخالفتها للوجدان الصحيح. وعلى الثاني فلا شكّ في صحّتها ، لوجوه :

منها : أنّه لو لم يكن « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » صادقا لم يصدق قولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » والتالي باطل فالمقدّم

ص: 376


1- العبارة في ( ط ) هكذا : إلى نفس الإرادة مساواة الفعل بالنسبة إليها أيضا.
2- يعني المعنى الثاني لقاعدة « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » راجع الصفحة : 375.

مثله. أمّا بطلان التالي ، فلما تقدّم في المقام الأوّل. وأمّا الملازمة ، فلأنّ عدم صدق قولنا : « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل » يلازم عدم صدق عكسه ، وهو قولنا : « بعض ما حكم به العقل حكم به الشرع » وكذب العكس يلازم صدق نقيضه ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وهو قولنا : « لا شيء ممّا حكم به العقل حكم به الشرع » وقد ثبت أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وهو المذكور في التالي.

وأمّا القول بأنّ العقل يمكن أن لا يكون له حكم في مورد حكم الشرع فليس على ما ينبغي ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد الاطّلاع على الواقع على ما هو عليه ، وعلى تقديره لا يعقل عدم الحكم ؛ لأنّ الأحكام منحصرة بالحصر العقلي في الخمسة ، كما لا يخفى.

ومنها : الكتاب العزيز ، قوله تعالى : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... ) (1) وقوله - عزّ من قائل - : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... ) (2).

وجه الدلالة : أنّ المستفاد من انحصار المأمور به في القسط والمحرّم في الفواحش هو ذلك ، كما هو ظاهر.

ومنها : الأخبار ، كما في خطبة أوصى بها أمير المؤمنين ابنه الحسن - عليهما أفضل الصلاة والسلام من الرحمن وأكملها - : من أنّه تعالى « لم يأمرك إلاّ بحسن ولم ينهك إلاّ عن قبيح » (3) ، وقول الباقر عليه السلام في رواية سبق

ص: 377


1- الأعراف : 29.
2- الأعراف : 33.
3- نهج البلاغة : 396 ، الرسالة 31.

ذكرها « فإنّه لا يكره اللّه إلاّ القبيح » (1) فالأمر ظاهر لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو مسكة.

نعم ، بقي هنا شيء ، وهو : أنّه قد تقدّم (2) أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا في نفي الإدراك العقلي بآية التعذيب ؛ نظرا إلى أنّ انتفاء اللازم يساوق انتفاء الملزوم - وهو الحكم الشرعي - جريا على طريقة العدليّة من ثبوت الملازمة بعد ثبوت الحسن والقبح.

وتنظّر فيه الفاضل التوني : بأنّ ثبوت الحسن والقبح العقليّين لا يلازم وقوع التكليف ؛ نظرا إلى جواز التفكيك بين الحكمين (3) ، فاستند في دفع الملازمة بالآية المذكورة في أحد الوجهين.

ولقد أجاب عنها القوم بوجوه (4) :

منها (5) : أنّ الآية - على ما يشهد به مساقها - واردة في مقام نفي التعذيب في الدنيا قبل البعثة ، ويظهر ذلك بعد الرجوع إلى الآيات السابقة منها واللاحقة لها ، فعدم وقوع التعذيب في مستقلاّت العقل في الدنيا لا يقتضي عدم (6) ترتّب العقاب عليها ولو في الآخرة ، لوضوح أنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ ولو في فرد آخر غير الأخصّ.

ص: 378


1- راجع الصفحة : 374 والرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام.
2- راجع الصفحة : 332 و 372.
3- الوافية : 171 - 172.
4- انظر هداية المسترشدين : 440 ، والفصول : 342 ، ومناهج الأحكام : 141 و 147.
5- في ( ط ) : « الأوّل ».
6- في ( ط ) : لا يقضي بعدم.

ومنها (1) : أنّ غاية ما يستفاد من الآية نفي العذاب الفعلي ولو في الآخرة ، وهو لا ينافي الاستحقاق ، لمكان العفو. واستحقاق العقاب في المستقلاّت العقليّة ممّا لا يدانيه ارتياب.

واعترض عليه في الوافية : بأنّ الواجب ما يجوّز العقل ترتّب العقاب على تركه (2) ، وبعد ما عرفت من العفو - كما اعترفت به - لا يجوّز العقل ترتّب العقاب على المدركات العقليّة ؛ للقطع بصدق المخبر بالعفو.

والجواب عنه : أنّ تعريف الواجب بما ذكره إنّما هو اقتراح من نفسه - قدّس اللّه نفسه - فإنّ حقيقة الوجوب هو الطلب (3) الأكيد ، وهو أمر بسيط لا مدخل لتجويز ترتّب العقاب عليه فيه ، كيف! ولا نقول بمدخليّة الاستحقاق أيضا (4) في حقيقته.

وأمّا ما عرّفه بعضهم بما يترتّب على تركه الذمّ والعقاب (5) ، فهو تعريف باللازم ، وعلى تقديره فلا غائلة أيضا ؛ لأنّ تجويز ترتّب العقاب على تركه إنّما هو من حيث ذات الواجب مع قطع النظر عمّا عداه ، وهذا موجود في المقام وإن لم نجوّز ترتّب العقاب على تركه نظرا إلى امتناع تخلّف وعده سبحانه ، فإنّ عدم التجويز لعارض ليس بضائر ، كما لا يخفى.

ص: 379


1- في ( ط ) : « الثاني ».
2- الوافية : 172.
3- في ( ط ) زيادة : « الحتمي ».
4- لم يرد « أيضا » في ( ط ).
5- كما عرّفه المعتزلة حسب ما نقل عنهم العلاّمة في نهاية الوصول : 7 ، وعرّفه شيخنا البهائي في الزبدة : 37 ، بأنّه ما يستحق تاركه لا إلى بدل ذمّا.

فإن قلت : إنّ من جملة ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية هو وعد اللّه سبحانه على الطاعة ووعيده على ارتكاب المعصية ، بل هذا من أعظم ألطافه - جلّت عظمته - على العباد ، فالإخبار بالعفو إنّما يوجب التهاون في مدركات العقول ويورث الإغراء في أفاعيلهم والذهول ، فربما يفرط المكلّف فيما تشتهيه نفسه من ارتكاب المحرّمات العقليّة وترك واجباتها اتّكالا على عفوه تعالى واعتمادا على فضله ، وذلك ينافي ما هو المعلوم من طريقة الشرع من الحثّ على فعل الواجبات والتحريض على ترك المحرّمات ، فهو نقض لغرضه تعالى ؛ وعلى هذا فلا وجه لحمل الآية على الإخبار بالعفو ، بل لا بدّ من حملها على نفي الحكم قبل بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله ، فيتمّ ما يراه المستدلّ من نفي الحكم الشرعي في موارد استقلال العقل.

قلت : مع أنّ ذلك لازم على تقدير عدم الحكم الشرعي في موارد حكم العقل أيضا على ما تنبّه به المستدلّ أيضا (1) في بيان وجه ترديده - كما لا يخفى على من لاحظ كلامه - فهو منقوض :

أوّلا : بالموارد التي وعد اللّه تعالى بالعفو عنها (2) فيها ، كما فيمن ترك الكبائر ، فإنّه عفو في صغائره ، على ما يشهد به الكتاب العزيز : من قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ) (3) الآية ، وكما في الظهار (4) ، فإنّ ما دلّ على حرمته

ص: 380


1- لم يرد « أيضا » في ( ش ).
2- لم يرد « عنها » في ( ش ).
3- النجم : 32.
4- المجادلة : 2.

قد دلّ أيضا على كونه معفوّا عنه ، كما لا يخفى (1). وكما في الصبيّ المراهق ، بناء على ما هو التحقيق : من ثبوت الأحكام العقليّة في حقّه دون الأحكام الشرعيّة. إلاّ أنّه لا يرد نقضا عليه ، على ما لا يخفى فالإغراء المذكور لازم في هذه الموارد ، فما هو الجواب عنها هو الجواب عنه في المقام.

وقد يتخيّل : أن التوبة أيضا ممّا يرد نقضا على المقام. وليس كذلك (2) ، فإنّ فيها حالة ترتدع النفس بها عن القبائح حقيقة ، كما هو ظاهر على من له شمّ روائح المعاني. ولا فرق في ذلك بين أن يكون العفو معلّقا على إيجاد سبب كالبكاء على الحسين عليه السلام أو لم يكن ؛ فإنّه ربما يتوهّم الجاهل ويغترّ بفعل القبائح نظرا إلى عدم تخلّف وعده.

وثانيا : أنّ الأحكام العقليّة من ضروريّات جميع الملل والأديان ، فالمكلّف يعلم بتحريمه في الشريعة قبل اطّلاعه على الوعد على عفوها ، فلا غرو ولا اغترار.

وثالثا : أنّ الآية ممّا لا ينبغي الاستناد إليها في اعتقاد العفو ، نظرا إلى عدم كونه من الأحكام الشرعيّة وعدم إفادة أصالة الحقيقة في غير الأحكام الشرعيّة شيئا. نعم ، لو حصل العلم بالعفو عنها ولا أقلّ من الظنّ الشخصي تمّ ما ذكروا (3) وأنّى لها لإفادة (4) العلم لأمثال المكلّفين الذين يغترّون بالعفو (5).

ص: 381


1- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
2- في ( ط ) : « ليس على ما ينبغي ».
3- في ( ط ) : « ما ذكر ».
4- في ( ط ) : « في إفادة ».
5- في ( ط ) زيادة : « ونحوه ».

نعم ، يحصل العلم بذلك من أهل اللّه ، وهم لا يعصون اللّه طرفة عين (1)!

ومنها (2) : ما أجاب عنها العلاّمة في التهذيب : من أنّ دلالة الآية على نفي الملازمة ظاهرة ، وقد سبق في مقام إثباتها ما يفيد القطع بها ، والظاهر يدفع بالقاطع ، فلا بدّ من تأويلها وتنزيلها على غير محلّ الكلام من تخصيص ونحوه (3). وتبعه في ذلك المحقّق القمّي (4).

واعترض عليه بعض الأجلّة بعدم استقامة هذا الجواب (5) على إطلاقه ، فإنّ (6)

ص: 382


1- في ( ط ) بدل عبارة « نعم يحصل - إلى - طرفة عين » ما يلي : اللّهمّ إلاّ للمتخلين عن جلباب البشريّة والمتخلّقين بأخلاق الربوبيّة ، وهم لا يعصون اللّه فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ولو لم يجزهم بالجنة ويعذّبهم في النار. وبالجملة : فالعالم بالعفو ممّن له رتبة عالية لا يغترّ بذلك ، والمغترّ لا يعلم. والاستناد إلى ما لا يفيد العلم ولا الظنّ في الاغترار إنّما هو كمن يغترّ على اللّه تعالى بلا احتمال أيضا. فهنا إنّما يشبه بما أفاده الشيخ في كفاية التقليد في الاعتقادات للعوام بعد ما أورد على نفسه : بأنّ القول به إنّما يوجب اغترار العوّام وعدم الفحص والاجتهاد في العقائد. فأجاب : بأنّ العلم بالكفاية لا يحصل إلاّ لمن جاس خلال الديار في تحصيل المطالب والأنظار ، وهو مجتهد قطعا فلا غرو. ومن لا يعلم بالكفاية فلا بدّ له من الاجتهاد فلا اغترار. [ راجع عدّة الاصول 2 : 731 ]. وعلى مثل هذا الجواب قد بنينا في دفع الإشكال الوارد على العفو في ثلاثة أيّام في ربيع الأعياد والغدير ونحوه ؛ فتدبّر.
2- في ( ط ) : « الثالث ».
3- لم نعثر عليه في التهذيب ولا في غيره ، نعم هو موجود في شرح التهذيب للعميدي : 19.
4- القوانين 2 : 6.
5- في ( ش ) : « بعدم استقامته ».
6- في ( ط ) : « فقال ».

استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي - واقعيّا كان أو ظاهريّا - مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي من جواز تعويله عليه - إلى أن قال (1) - : والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (2) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الجواب المذكور في غاية المتانة وبمكان من الواقع (3) ؛ فإنّك قد عرفت سابقا في مسألة القطع : أنّ حجّيّة العلم غير مجعولة ، بل هو بنفسه طريق إلى الواقع وليس بواسطة في ثبوت أحكام متعلّقه له ، إذ الأحكام ممّا تترتّب عليه في مرتبة ذاته ، والعلم متأخّر عن المعلوم ولا يعقل تأثير المتأخر في المتقدم وإلاّ يلزم تقديم المتأخر أو تأخير المتقدّم.

بل التحقيق : أنّ القطع إنّما هو مرآة لثبوت أحكام متعلّقه عليه ؛ ولهذا لا يحتاج في إثباتها وترتّبها (4) عليه إلى شيء آخر عدا دليل الواقع ، فإنّ الكبرى في قياس يطلب فيه إثبات التحيّز مثلا للإنسان هو قولنا : « كلّ حيوان متحيّز »

ص: 383


1- ورد في ( ط ) مكان « إلى أن قال » نصّ عبارة الفصول : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة. ومن هذا الباب ما أفتى بعض المحقّقين : من أنّ القطّاع الذي يكثر قطعه من جهة أمارات لا توجبه يرجع عادة إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج منه - إلى أن قال - ولكن العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ، وقد لا يستقلّ ولكن يبني على التعويل عليه في الظاهر ما لم يثبت خلافه. والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني.
2- الفصول الغروية : 343.
3- لم يرد « وبمكان من الواقع » في ( ش ).
4- في ( ط ) : « في إثبات الآثار وترتيبها ».

ولا دخل للعلم في ثبوت التحيّز للأصغر سوى أنّه طريق إليه ومرآة يحكي عنه ، وكذا لا مدخليّة لإثبات النجاسة للبول في العلم بالبوليّة (1) ؛ ولذا يقال في قياس يطلب فيه (2) ذلك وكلّ بول نجس ، بدون توسيط العلم ومدخليّته في الكبرى ، إلاّ في كونه جهة للقضيّة كالضرورة والدوام ونحوهما ، وعلى هذا فلا يعقل تخصيص الاعتبار ببعض أقسامه دون آخر ، لعدم مدخليّته في شيء ، وإلاّ يلزم خروج الواقع (3) عن كونه واقعا ، وقد أجمع العقلاء على امتناع تخلّف الذات والذاتي عن صاحبها (4) فالقول بالتفصيل بين أقسام العلم ثم القول بحجّيته ظاهرا لا واقعا ممّا لا يصغى إليه (5) لا ظاهرا ولا واقعا.

وقد ظهر من ذلك : أنّ ما نسب (6) إلى بعض المحقّقين : من الفتوى بعدم اعتبار قطع القطّاع أيضا غير سديد كما مرّ مفصّلا. نعم ، لو أخذ الشارع العلم جزءا لموضوع أو جعله موضوعا لصحّ تخصيص ذلك بما أراده بحسب الخصوصيّات المعتبرة في أنفس الأشياء في حدود ذواتها ، كما لا يخفى. فعلى ما ذكرنا يظهر أنّه لو قيل للقطّاع : « لا تعمل بقطعك » فلا بدّ من أن يكون هذا إرشادا له إلى زوال قطعه. أو يقال له : لا تعمل بقطعك فيمن لا يعرف مناقضة ذلك للعلم ويعتقد صحّة المنع ، كما في حقّ بعض من لا يلتفت إلى شيء من العوام (7).

ص: 384


1- لم ترد عبارة « وكذا لا مدخلية - إلى - بالبولية » في ( ش ).
2- في هامش ( ش ) زيادة : « إثبات النجاسة ».
3- في ( ط ) : « سلب الواقع ».
4- لم ترد عبارة « وقد أجمع - إلى - صاحبها » في ( ش ).
5- من هنا إلى قوله : « ومنها » لم يرد في ( ش ).
6- نسبه صاحب الفصول كما مرّ.
7- من بعد قوله : « ممّا لا يصغى إليه » إلى هنا لم يرد في ( ش ).

ومنها (1) : ما ذكره غير واحد (2) : من أنّ المراد من « الرسول » (3) أعمّ من الظاهري والباطني ، فيصير كناية عن إتمام الحجّة ولو بالعقل ، والتعبير ب- « الرسول » إنّما هو رعاية للغالب ، حيث إنّ التبليغ به غالبا.

ومنها (4) : أنّ البعث الذي هو غاية في التعذيب حاصل. أمّا إذا كان المراد مجرّد البعث - ولو على تقدير خلوّه عن التبليغ - فلما عرفت. وأمّا إذا كان المراد به التبليغ فهو أيضا حاصل ؛ لما ورد عنهم عليهم السلام : من صدور كلّ حكم عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله حتى أرش الخدش ، وهو مخزون عندهم عليهم السلام (5).

لا يقال : إنّ المراد بالتبليغ هو التبليغ التفصيلي ، كما هو ظاهر من مساق الآية الواردة في مقام إتمام الحجّة.

لأنّا نقول : لا نسلّم ظهور ذلك من الآية ، بل الغاية تسليم وجوب اللطف على حسب ما يتعارف فيه ، كما يظهر من كيفيّة تبليغ الأنبياء والأوصياء من الاكتفاء به ولو نوعا ، فإنّه ربما يمنع الإيصال إلى جميع الأشخاص عادة ويمنع عنه المانع (6) ، ولتحقيق المقام محلّ آخر (7).

وقد يجاب بوجوه ضعيفة أخر لا مجال لذكرها وتزييفها ، فتدبّر (8).

ص: 385


1- في ( ط ) : « الرابع ».
2- كالمحقّق القمي في القوانين 2 : 25 ، والنراقي في المناهج : 141 ، 147.
3- في ( ش ) زيادة : « في الآية ».
4- في ( ط ) : الخامس.
5- انظر الكافي 1 : 238 ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ...
6- العبارة في ( ط ) هكذا : « فإنّه ربما يمنع من الإيصال إلى جميع الأشخاص مانع ».
7- لم يرد عبارة « ولتحقيق المقام محلّ آخر » في ( ش ).
8- لم ترد عبارة « وتزييفها فتدبّر » في ( ش ).

وممّا استند إليه الفاضل التوني لدفع الملازمة (1) جملة من الأخبار ، مثل ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب ... » (2).

وجه الدلالة : أنّ قوله : « أرسل » عطف على الموصول ، لعدم الاعتداد بالإرسال لولاه ، لتمام الحجّة بدونه ، فيدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يحتجّ على العقل وحده ، وهو المطلوب. ولعلّ المراد من « المعرفة » ما بها يتمكّن من تمييز الحقّ عن الباطل كما يشهد به (3) جملة من الأخبار - كما في الكافي (4) - : من أنّ حجّة اللّه تعالى على الخلق هو النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وحجّته فيما بينه وبينهم هو العقل لتميّز الحقّ عن الباطل ، فيدلّ على انحصار الحجّة من اللّه تعالى في النبي صلى اللّه عليه وآله والشرع.

والجواب حمل الرواية على الغالب ، حيث إنّها واردة في مقام بيانه ، والغالب عدم تماميّة الحجّة إلاّ بالشرع ، ومن ذلك الأخبار الدالّة على عدم التكليف إلاّ بعد البعثة ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة (5).

ومجمل الجواب : حصول البعثة ، فلا بدّ من ترك ما يستقلّ العقل بقبحه وفعل ما يستقلّ العقل بحسنه.

ص: 386


1- الوافية : 172.
2- الكافي 1 : 164 ، الحديث 4.
3- في ( ط ) : « يشعر بذلك ».
4- الكافي 1 : 25 ، الحديث 22.
5- انظر كمال الدين وتمام النعمة : 508 ، ذيل الحديث 37 ، وعلل الشرائع 1 : 120 ، الباب 99 ، الحديث الأوّل ، والتوحيد : 45 ، الباب 2 ، الحديث 4.

ومن ذلك أيضا الأخبار الدالّة على عدم جواز خلوّ الزمان عن حجّة ليعرّفهم ما يصلحهم وما يفسدهم (1).

والجواب : أنّ « وجوب نصب الإمام للمستقلاّت العقليّة » أوّل الكلام ، والسيّد المرتضى (2) والطبرسي (3) ينكرانه ، بل وجماعة وافرة من العلماء أيضا (4).

ومن ذلك قوله : « كلّ شيء مطلق » (5).

وجوابه عدم نهوضه في المستقلاّت العقليّة كما مرّ.

ومن ذلك ما رواه الكليني عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « بني الإسلام على خمسة - إلى أن قال - : أما إنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه ، فيكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان على اللّه حقّ في ثوابه » (6) ووجه الدلالة ظاهر بعد عدّ التصدّق في عداد ما ذكر ، فإنّه من قبيل الإحسان الذي هو (7) من المستقلاّت العقليّة.

والجواب : أنّ ذلك (8) مبنيّ على الحثّ والمبالغة في معرفة وليّ اللّه ، ولا دلالة له على عدم حجّية المدركات العقليّة. وأمّا التصدّق فبقرينة الحجّ

ص: 387


1- انظر الكافي 1 : 178 ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.
2- انظر الذريعة 2 : 824 و 700 - 701.
3- انظر مجمع البيان 3 : 404 ذيل الآية الشريفة ، ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .
4- انظر العدّة 2 : 741 - 746 ، ومناهج الأحكام : 146.
5- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، الحديث 3.
6- الكافي 2 : 19 ، الحديث 5.
7- لم ترد عبارة « من قبيل الإحسان الذي هو » في ( ط ).
8- في ( ش ) : « عن ذلك ».

والصوم والصلاة محمول على الواجب منه كالزكاة الواجبة (1) ، وإلاّ فليس مطلق التصدّق ممّا بني عليه الإسلام.

ويمكن أن يقال : إنّ غاية ما يستفاد من الحديث عدم الثواب إلاّ بعد دلالة ولي اللّه ، ويمكن الالتزام بذلك حتّى في الواجبات العقليّة ، كما يراه بعضهم من عدم استقلال العقل في لزوم الثواب في الأشياء الحسنة وإن كان يستقلّ في قبح الأشياء القبيحة ولزوم العذاب على تقديرها ، لكنّ الإنصاف فساد هذا الجواب ، كما يشعر بذلك اتّفاق المتكلّمين على خلافه (2).

واستند الفاضل التوني أيضا (3) : بأنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : بأنّ التكليف ممّا يستقلّ به العقل لطف ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لا يرد به نصّ من الشارع وإن كان قد حكم به العقل.

وأجاب المحقّق القمي (4) - تبعا للسيّد الكاظمي (5) - بمنع وجوب كلّ لطف استنادا إلى أنّ كثيرا من الألطاف مندوبة ، لوضوح أنّ التكاليف المندوبة أيضا لطف في المندوبات العقليّة أو مؤكّدة للواجبات العقليّة. وربّما يقال (6) : باستشعارهم ذلك من كلام المحقّق الثاني في باب النيّة (7).

ص: 388


1- لم يرد « الواجبة » في ( ش ).
2- لم ترد فقرة « ويمكن أن يقال ... إلى هنا » في ( ش ).
3- الوافية : 173.
4- القوانين 2 : 8.
5- الوافي في شرح الوافية ( المخطوط ) ، أوائل بحث الأدلة العقلية ذيل قول الماتن ، الثالث : ما عليه الأصحاب والمعتزلة.
6- انظر الفصول : 345.
7- جامع المقاصد 1 : 202.

وفي دلالته على ما ذكر تأمّل ، ومن أراد الاطّلاع عليه ، فراجعه (1).

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يوافقه البرهان ، فإنّه هدم لما أسّسه أكابر المتكلّمين في جملة من الأصول الدينيّة. فلعلّ المانع المذكور قد يتسرّى منعه إلى عدم وجوب اللطف في (2) بعث الأنبياء.

وقد أفاد مثل ذلك أيضا في ردّ مسلك الشيخ في الإجماع (3) ، ونحن لم نحصّله إلى الآن ؛ ولعلّ المنشأ في ذلك ما قد اشتهر بينهم : من أنّ اللطف ما يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية فيما لم يصل إلى حدّ الإلجاء ؛ وصدق ذلك في مثل المقام أدّاهم إلى مثل هذه المقالة ، مع أنّ فسادها ممّا لا يخفى. والعجب! أنّهم إنّما أخذوا بظاهر التحديد مع (4) صراحة الدليل على وجوب اللطف بخلافه ، حيث علّل بلزوم نقض الغرض ، كما مثّله جماعة : بأنّ من أراد ضيافة شخص وتعلّق غرضه بها ولو بواسطة عوده إليه وعلم بأنّه ما لم يفعل بالنسبة إليه نوع إكرام - كما إذا أظهر طلب قدومه في ضمن رقعة أو إرسال أمين من امنائه إليه - أنّه لم يجبه يجب عليه حينئذ أن يفعل ما يتوقّف حصول غرضه عليه تحصيلا للغرض ، فإنّ نقضه من العاقل الحكيم يعدّ قبيحا ولو قطعنا النظر عن التعليل (5) فالتحديد المذكور أيضا لا يدلّ على مرادهم ، حيث إنّ المراد إيصال العباد إلى المصالح ،

ص: 389


1- لم ترد عبارة « استنادا - إلى - فراجعه » في ( ش ) وورد بدلها : الخ.
2- لم يرد « اللطف في » في ( ش ).
3- القوانين 1 : 353.
4- في ( ش ) بدل « مع » : « على ».
5- لم ترد فقرة « كما مثّله - إلى - عن التعليل » في ( ش ) ، وفي هامشها ما يلي : « كما مثّلوا له بمن أراد الضيافة بشخص فلا بدّ له ... ».

ولا شكّ أنّ اللطف أصلح وفعل الأصلح واجب عليه ، فلا ينقسم إلى الواجب والمندوب ، إلاّ أن يراد بالوجوب ما فيه المصلحة الموجبة للّطف مع قطع النظر عن لزوم فعل الأصلح عليه تعالى (1) وبالجملة ، فالتحقيق منع كونه لطفا.

قال المحقّق الطوسي : فإنّ من عدم التكليف في الواجبات العقليّة لا يلزم نقض الغرض ، لاستقلال العقل بلزوم الإتيان. ولو سلّمنا كونه لطفا فيكون واجبا ، فهو صادر ولا دلالة فيه على مقصود الخصم ، إذ التبليغ حاصل نوعا ولو إجمالا ، والبيان موجود فالعقاب صحيح (2). كذا أفاد ، إلاّ أنّه لا يخلو من ضعف ، حيث إنّ كلام المستدلّ في قبح العقاب بدون اللطف وحصول اللطف وإن كان يصحّح العقاب ، إلاّ أنّه خارج عن فرض المستدلّ ، كما لا يخفى.

ص: 390


1- لم ترد عبارة « إلاّ أن يراد - إلى - عليه تعالى » في ( ش ).
2- لم نعثر عليه.

أصل

اشارة

أصل (1)

هل الحسن والقبح ذاتيّان للأشياء ، أو بالصفات اللازمة ، أو يفصّل بين الحسن والقبح ، ففي الأوّل يكفي انتفاء الجهة المقبّحة وفي الثاني بالصفات اللازمة ، أو بالوجوه والاعتبارات ، أو يختلف بحسب اختلاف الأشياء ، ففي البعض ذاتي وفي آخر اعتباري وفي ثالث بالصفات اللازمة؟ وجوه بل أقوال :

فقيل : بأنّهما ذاتيّان (2). ويحتمل أن يراد به أمران :

أحدهما : أن يكون نفس ذات الشيء كافية في انتزاع الحسن والقبح منها من غير حاجة إلى ملاحظة حيثيّة خارجة عنها بعد وجودها ، كما في سائر لوازم الماهيّات كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فإنّ بعد ملاحظة الحيثيّة التعليليّة المقيّدة لوجودها يكفي في انتزاع الزوجيّة منها ، أي ذاتها.

وثانيهما : أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح ، فيتوقّف انتزاعها عنها إلى عدم المانع في الخارج. فعلى الأوّل إمّا أن يكون المراد ب- « الذات »

ص: 391


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- نسبه المحقّق النراقي في المناهج : 142 إلى ظاهر السيّد الداماد في السبع الشداد ، انظر السبع الشداد المطبوع ضمن « اثنى عشر رسالة » : 42 - 43 ، وحكاه في هداية المسترشدين : 440 عن قدماء المعتزلة ، وانظر المستصفى 1 : 27 و 55 - 56 ، والإحكام للآمدي 1 : 120 ، ونسبه في شرح المختصر : 70 إلى المعتزلة والكراميّة والبراهمة.

ذوات كلّيّات الأجناس العالية والمتوسطة والأنواع الحقيقيّة والأصناف ، أو المراد ذوات المصاديق الخارجيّة والجزئيّات الحقيقيّة ولا يجري هذا التقسيم في الثاني ، إذ لا يعقل أن يكون الجزئي الحقيقيّ مقتضيا للحسن ، لجواز انقسامه باعتبار وجود المانع وعدمه ، والمفروض كونه جزئيّا حقيقيّا ، هذا خلف.

والظاهر أن المراد هو الأول من الأول كما يرشدك إليه ما اورد على القائل بالذاتيّة : من عدم جواز النسخ على تقديرها (1) وجواب بعض أصحاب هذه المقالة بأنّ النسخ من جهة تعارض الذاتيّين (2) ، فإنّ كلاّ من الإيراد والجواب صريح في أنّ المراد هو أنّ الذات تكفي في انتزاع الحسن والقبح. وكذا يشعر بذلك ما اورد عليهم : من لزوم التناقض في الصدق الضارّ والكذب النافع (3) ؛ مضافا إلى أنّ احتمال أن يكون الذات مقتضية للحسن والقبح فاسد من جهة أخرى ؛ لأنّ عدم المانع إن لوحظ فيهما على وجه يصير منوعا فينقلب إلى الأوّل ، وإلاّ فلا يفترق عن القول بالوجوه والاعتبارات.

ويحتمل ضعيفا أن يراد بالذات ذوات الجزئيّات أيضا ، إذ ليس المراد : أنّ الحسن والقبح في الكلّ كذلك ، بل قد يكون ذات المصداق الخارجي مقتضيا للحسن أيضا ، فلا ينتقض بالعلم ، لعدم مدخليّة صدق زيد في حسن كلّي الصدق ، كما لا يخفى.

ص: 392


1- انظر هداية المسترشدين : 440 ، والمناهج : 142.
2- المناهج : 142.
3- انظر الإحكام للآمدي 1 : 120 وما بعدها ، وهداية المسترشدين : 440.

وقيل (1) بالصفات اللازمة (2). ويحتمل أن يراد بها ما هي لازمة للذوات الكلّيّة والجزئيّة (3). ويحتمل أن يراد بها الصفات التي هي بمنزلة الفصول للأجناس. والظاهر أنّ المراد هي الصفات اللازمة لنفس (4) الماهيّات على وجه يكفي في انتزاعها تحقّق الماهيّة ، فعلى القول بالذاتي نفس الحسن والقبح بمنزلة تلك الصفات. وعلى هذا القول هذه الصفات واسطة فيه ، كما لا يخفى.

وقيل بالتفصيل بين الحسن والقبح فيكفي في الأوّل انتفاء جهة مقبّحة ، وفي الثاني بالصفات اللازمة (5). ويحتمل أن يكون المراد من « الحسن » عدم الحرج في الفعل. وإليه ينظر ما قد يوجد في كلمات بعضهم : من أنّ الحسن ما لا حرج في فعله (6). ويحتمل أن يراد أنّ الحسن في الفعل إنّما هو بحسب اقتضاء الذات ، فيكفي فيه انتفاء جهة مقبّحة ، بخلاف القبح فإنّه بالصفات اللازمة (7) على أحد الوجوه المتقدّمة فيها. وهذا هو الظاهر.

ص: 393


1- عطف على قوله : فقيل بأنّهما ذاتيّان.
2- ذهب إليه جماعة أخرى من المعتزلة ، انظر الإحكام للآمدي 1 : 120 ، والمختصر وشرحه : 70 ، وشرح التجريد للقوشجي : 338 ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27.
3- في ( ط ) : « أو الجزئيّة أيضا ».
4- في ( ش ) : لا نفس.
5- نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27 إلى قوم من المعتزلة ، وانظر الإحكام للآمدي 1 : 120 أيضا.
6- قاله العضدي في شرح المختصر : 70.
7- لم يرد « اللازمة » في ( ش ).

وقيل بالوجوه والاعتبارات (1).

والفرق بين الوجوه والاعتبار - على ما يساعده الاعتبار وإن كان لا يظهر من موارد كلماتهم - هو : أنّ المراد بالأوّل هي العناوين المنتزعة من ذوات الأفعال التي لا يمكن تخلّف الفعل عنها ، فلا بدّ من أن يقع على واحد منها كالتأديب والتعذيب (2) في الضرب ، والإنجاء والإضرار في الكذب ونحوهما. والمراد بالاعتبار : هو الأوصاف اللاحقة للأفعال باعتبار ملاحظة المعتبر على وجه لو لم يكن الاعتبار لما كانت تلحق بالفعل ؛ مثلا قد يكون الخروج عن البلد ممّا لا يقضي به شيء ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة خروج الرفقة والرئيس قد يوجد في نفس الخروج صفة بعد الاعتبار تقضي بالخروج ، كما لا يخفى. وقد يصير المثال من قبل الأوّل ؛ والأمر سهل.

ثم الفرق بين هذا القول والقول الأوّل ظاهر ، فإنّه على الأوّل مورد الحسن تمام الفعل والوجه ، وعلى الثاني نفس الفعل باعتبار الوجه.

وأمّا الفرق بين هذا القول والقول بالصفات اللازمة أيضا ظاهر باللزوم وعدمه.

ثم إنّ أصحاب هذا القول بين معمم في الوجوه والاعتبارات حتّى العلم والجهل ، سواء كانا متعلّقين بالصفة أو الموصوف. ومخصّص بالموصوف فقط. ومخصّص بغيرهما مطلقا.

ص: 394


1- قاله الجبائيّة كما في المختصر وشرحه : 70 ، وفواتح الرحموت المطبوع ضمن المستصفى : 27.
2- في ( ط ) بدل « التعذيب » : « الإهانة ».

فعلى الأوّل ما لم يعلم بالظلم وبقبحه لا يكون قبيحا. وعلى الثاني لو جهل بالظلم لا يكون قبيحا. وعلى الثالث فهو قبيح مطلقا.

وقيل باختلاف الموارد (1) ، فربّما يكون ذاتيّا كما في الظلم والشرك وشكر المنعم والخضوع لوجهه الكريم ، وربّما يكون بالوجوه والاعتبار كما في التأديب والتعذيب (2) وغير ذلك كما في اعتبار (3) مطابقة العمل بقول الأعلم - مثلا - فإنّ هذه المطابقة ليست من العناوين المتّحدة مع الفعل في الخارج إلاّ اعتبارا. وهذا هو الحقّ الحقيق بالتصديق الذي لا محيص عنه.

ولعلّ هذا ما ذهب إليه الإماميّة بأجمعهم على حسب ما يظهر منهم في موارد كلماتهم ومطاوي تحقيقاتهم ؛ ولذا (4) لا يلتزمون بالنسخ في جميع الأحكام كما صرّح به الشيخ في العدّة (5) والعلاّمة في النهاية (6) وجماعة من متكلّمي الإماميّة (7) ، كما لا يخفى على المتتبّع (8) ، لكن ينبغي أن تخصّص الوجوه والاعتبار بغير العلم والجهل المتعلّقين بالصفة ، إذ لولاه لزم الدور الباطل (9) فإنّ العلم بالقبح

ص: 395


1- مناهج الأحكام : 142.
2- في ( ط ) بدل « التعذيب » : الإهانة.
3- لم يرد « اعتبار » في ( ش ).
4- في ( ط ) : « ولهذا تراهم ».
5- انظر العدّة 2 : 499.
6- نهاية الوصول : 217.
7- لم نعثر عليه.
8- لم ترد عبارة « وجماعة من متكلّمي الإمامية كما لا يخفى على المتتبّع » في ( ش ).
9- لم يرد « الباطل » في ( ش ).

متأخّر عنه لكونه متعلّقا به ، فلو كان العلم المتأخّر عنه مؤثّرا فيه قبحا (1) لزم تأثير المتأخّر في المتقدّم ، فلا بدّ من فرضه مقدّما ؛ وعلى تقديره يلزم تقدّم العلم على وجوده وتأخّر القبح عن وجوده ، وهو باطل جدّا.

بخلاف العلم بالموصوف ، إذ لو لم يكن الموصوف معلوما لما كان وقوعه على وجه الاختيار ، فإنّه ممّا علم ضرورة احتياج الفعل الاختياري إلى العلم والإرادة ، فعلى تقدير الجهل يكون الفعل اضطراريّا ومن المقطوع به المجمع عليه عدم اتّصاف الفعل الاضطراري بالحسن والقبح.

فالعلم بالموصوف لا بدّ وأن يكون ممّا له دخل بالحسن والقبح على هذه الوجوه (2) دون العلم بالصفة ؛ لما عرفت ، مضافا إلى لزوم التصويب ، إذ الظلم في حقّ العالم بقبحه حرام وفي حقّ الجاهل مباح ، وما هو إلاّ اختلاف الأحكام في حقّ العباد من غير اندراجهم تحت عنوان يخصّهم بالعلم والجهل.

تنبيهان :

الأوّل : منشأ (3) هذا النزاع بينهم هو ما قد تقرّر عند المتكلّمين : من أنّ النزاع في أنّ اختلاف الأفعال هل هو بواسطة اختلافها في حدود أنفسها وذواتها ، أو لأمور خارجة عنها؟ كالنزاع بين أرباب الصنعة في اختلاف الجواهر والفلزّات ، فيمكن إرجاع الاختلاف في المقام إلى اختلاف أقوالهم هناك ، فمن يرى أنّ شرب الخمر ماهيّة متميّزة عن غيرها لا تختلف لوقوعها في حالتي

ص: 396


1- في ( ط ) : « مؤثّرا في قبحه ».
2- في ( ط ) : « هذا الوجه ».
3- في ( ط ) : « لعلّ منشأ ».

المرض والصحّة ، بل ذلك أمر خارج عنها ، يقول : إنّ الحسن والقبح ليسا بالذات بل يلحقان الأفعال باعتبار الصفات الخارجة. ومن قال : بأنّ الوقوع في حالتي الصحّة والمرض منوّع للشرب يقول : بأنّ القبيح هو الشرب الواقع في حالة الصحة ، وهكذا ...

الثاني : قد ذكروا في ثمرة النزاع امورا لا يترتّب شيء منها على قول من الأقوال ، أحسنها في المقام أمران :

أحدهما : أنّ القول بالوجوه والاعتبار على تقدير التعميم إلى العلم المتعلّق بالصفة لازمه التصويب ، وباقي الأقوال لازمها التخطئة.

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ (1) أصحاب هذه المقالة الباطلة لا يقولون بالحكم الواقعي ولا الحسن والقبح ، بل لازم القول بالتصويب حدوث الحكم بواسطة الظنّ. ومن هنا قد يجاب عن إشكال الدور عليهم : بأنّ المراد الظنّ بما هو أشبه بالقواعد والأصول ، كما قرّره العضدي (2). فحينئذ إنّما (3) هو نوع آخر من التصويب كما هو اللازم من مذهبنا : من ثبوت الأحكام الواقعيّة والحسن والقبح ، كما مرّ.

وأمّا التصويب المشهور عنه أهله فلا ملازمة بينه وبين هذا القول بل قد يخالفه ؛ لأنّ مبنى التصويب على عدم الحكم والحسن والقبح ، ومبنى هذا القول على وجودها. ومن هنا يعلم أن الجواب الذي أورده العضدي لا ينهض جوابا هناك.

ص: 397


1- في ( ش ) : « وفيه أنّ ».
2- انظر شرح المختصر : 470.
3- في ( ط ) بدل « فحينئذ إنّما » : « نعم ».

وثانيهما : أنّ لازم القول بالذاتي جواز اجتماع الأمر والنهي في مثل الصدق الضارّ والكذب النافع ، لعدم جواز تخلّف الذاتي.

وضعفه ظاهر أيضا ، لأنّ القائل بالذاتيّة إن قال : بأنّها مقتضية للحسن والقبح فلا ملازمة أصلا (1) ؛ لاحتمال كون الضرر مانعا عن الحسن ، والنفع مانعا عن القبح ، فلا حسن ولا أمر ، فلا يجتمع الأمر والنهي. وإن قال : بأنّها علّة تامّة للانتزاع كما مرّ (2) ، فلازمه اجتماع الحسن والقبح معا ، لامتناع تخلّف اللازم عن الملزوم ، إلاّ أنّه لا ملازمة بينه وبين الاجتماع ؛ لأنّ الحسن والقبح إنّما يوجبان الأمر (3) والنهي لو لم يكن هناك جهة خارجة توجب قبح الحسن وحسن القبيح بالعرض كما في موارد اجتماعهما ، فإنّ الكذب النافع قبيح بالذات وحسن بالعرض ، ولا يؤثّر مثل هذا الحسن والقبح في الأمر والنهي ؛ لأنّه في قوّة الخارج عن تحت القدرة والاختيار. ولو صحّ هذه الثمرة فلازمه جواز الاجتماع المسبّب من الأمر أيضا ، مع أنّ البداهة تشهد بخلافه.

هذا تمام الكلام في مسألة الحسن والقبح.

ص: 398


1- لم يرد « أصلا » في ( ش ).
2- لم يرد « كما مرّ » في ( ش ).
3- في ( ش ) : « بالأمر ».

أصل

اشارة

أصل (1)

اختلف الآراء في أنّ الأصل في الأفعال الاختياريّة التي لا ضرورة فيها عقلا هل هو الإباحة أو الحظر؟ على أقوال :

وقبل الخوض في نقلها ونقدها ينبغي رسم أمور :

الأوّل :

أنّه قد استصعب بعضهم (2) الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الآتية : من أنّ الأصل العملي في مقام الشكّ في التكليف - على حسب اختلاف موارده - هو البراءة أو الاحتياط ، زاعما أنّ عنوان إحدى المسألتين مغن عن الأخرى ، إمّا لعموم إحداهما ، وإمّا لاتّحادهما.

وليس على ما زعم ولا على تلك المكانة من الصعوبة ، فإنّ الفرق بين المقامين في منار.

أمّا أوّلا : فلأنّ جهة عنوان البحث في المقام تغاير الجهة المعنونة في ذلك المقام.

وبيان ذلك : انّ الأشاعرة بعد ما نازعوا مع العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين في إثبات الحسن والقبح ونفيه نازعوهم في مسألتين على سبيل التنزّل والانحطاط عمّا قالوا به ، مما شاة منهم للعدليّة ، فجعلوهما من فروع تلك

ص: 399


1- في ( ش ) : « هداية ».
2- لم نعثر عليه.

المسألة وتذنيباتها - كما يظهر ذلك بعد الرجوع إلى عناوينهم - إحداهما وجوب شكر المنعم ، والأخرى هذه المسألة ، فكأنّهم قالوا : سلّمنا أنّ للعقل في بعض العناوين - كوجوب ردّ الوديعة والظلم والإحسان - حكما ، ولكنّا لا نسلّم أنّ هذين المقامين من جملة موارد حكم العقل ، فلا حكم للعقل على تقدير حكومته فيهما. والعدليّة قالوا : بأنّ العقل يحكم في الأولى منهما بالوجوب ، وبالإباحة أو الحظر في الثانية.

فمحصّل النزاع في المقام إنّما يرجع إلى أنّ للعقل حكما في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة أم لا؟ ولا مدخل في تشخيص المرجع في العمل عند الشكّ فيه ، فانّ الحاضر ربما يحكم بالإباحة في ذلك المقام والمبيح بالحظر ، من غير تناف بينهما ، لإمكان ورود دليل عقليّ أو نقليّ آخر على خلاف ما أصّله في هذا المقام.

وملخّص النزاع في المقام الآتي يرجع إلى أنّ المرجع شرعا عند الشكّ في التكليف - باختلاف أقسامه وموارده سواء كان المدرك في ذلك هو العقل أو النقل - ما ذا؟ فالأخباريّ على الاحتياط والأصولي على البراءة ، فكان الجهة الملحوظة في تلك المسألة مباينة للجهة المبحوث عنها في المقام.

وبعبارة مجملة هي : أنّ مسألة أصالة البراءة من المسائل الأصوليّة التي هي مبان لأحكام أفعال المكلّفين. وهذه المسألة من فروع الخلاف في الحسن والقبح الذي هو من مبادئ الأحكام ، على ما هو المحرّر في كلماتهم كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المقصود بأصالة الإباحة - بعد الإغماض عمّا تقدّم - هو إثبات الإباحة التي هي من الأحكام. والمطلوب بأصل البراءة هو نفي العقاب.

ص: 400

وما يستفاد من بعض الأدلّة الناهضة عليها من إثبات الإباحة كقوله : « كلّ شيء مطلق » (1) ونحوه إنّما هو تفضّل من الدليل ، وإلاّ فلا وجه للتمسّك ببعض ما لا يستفاد منها إلاّ رفع العقاب كما هو الغالب فيها ، كقوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد ... » (2) وقوله : « رفع عن امتي ... » (3) ونحوهما ممّا يدل على الرفع والوضع وانتفاء العقاب والمؤاخذة.

لا يقال : إنّ مفاد أصالة الإباحة لا يزيد على نفي الحرج وعدم المؤاخذة ، فلا ينهض فرقا.

لأنّا نقول : إنّ المبيح يدّعي الإذن والترخيص ، كما يستفاد من قولهم في دفع حجة الحاظرين : بأنّ الإذن معلوم.

وأمّا ثالثا : فبأنّ النزاع في المقام في الإباحة الواقعيّة ، وفي البراءة في الإباحة الظاهرية. ويظهر ذلك من الرجوع إلى مطاوي استدلالاتهم وفحاوي كلماتهم ، ألا ترى أنّهم قد جعلوا في قبال القول بالحظر القول بالوقف (4) مع تصريحهم باشتراكهما في العمل (5) ، فلولا أنّ المراد بالحظر الحظر الواقعي لما صحّ عدّ القول بالوقف قولا آخر ، ولا شكّ أنّ الحظر بعد ما كان واقعيّا لا مناص من كون الإباحة أيضا واقعيّة.

ص: 401


1- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، الحديث 3.
2- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.
3- الوسائل 11 : 56 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل والثاني.
4- وهو مختار الشيخ في العدّة 2 : 742 ، ونسبه فيه إلى شيخه المفيد قدس سره ، وانظر معارج الاصول : 203 ، ومناهج الأحكام : 208.
5- كما صرّح به السيّد في الذريعة 2 : 809.

وممّا يدلّ على أنّ الكلام في المقام في الإباحة الواقعيّة استدلال القائل بالحظر بأنّ التصرّف في الأشياء المذكورة تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وجواب المبيح : بأنّ الإذن من المالك معلوم ، فإنّ كلاّ من الدليل والجواب أدلّ دليل على أنّ المراد بالإباحة والحظر الواقعيّين منهما كما لا يخفى ، إذ التصرّف في ملك الغير حرمته واقعيّة وبعد معلوميّة الإذن إباحة التصرّف واقعيّة. وكذا احتجاج القائل بالإباحة بما يقرب من قاعدة اللطف يلائم كونها واقعيّة ، إلى غير ذلك ممّا يلوح من عنواناتهم لها في ذيل مبحث الحسن والقبح في عرض وجوب شكر المنعم ، كما عرفت في أوّل الوجوه (1).

فإن قلت : بعد ما كانت الإباحة واقعيّة لا يجوز ورود الشرع بخلافها لأولها (2) إلى التناقض بين العقل والشرع.

قلت : ورود الشرع بخلافها لا يقتضي التناقض ، فإنّ العقل في موضوع التصرّف في ملك الغير بغير إذن المالك يحكم بالحظر وفي موضوع (3) الإذن يحكم بالإباحة ، ولا يجوز ورود الشرع بخلاف حكم العقل في هذين الموضوعين. نعم ، يمكن تبدّل أحد الموضوعين بالآخر بحصول الإذن كما في الغصب على ما لا يخفى ، فلا تناقض على تقديره.

وأمّا رابعا : فلأنّ المستفاد من ظاهر قولهم : « أصالة الإباحة » ومن موارد إجرائها فيها - كما هو المتداول في ألسنة القدماء - اختصاصها بالشبهة التحريميّة. ومن ظاهر « البراءة » اختصاصها بالشبهة الوجوبيّة ولا أقلّ من عمومها لها وللتحريمية.

ص: 402


1- راجع الصفحة : 340.
2- في ( ش ) : « لأدائها ».
3- في ( ش ) زيادة : « موضع ».

فالفرق ظاهر بين المقامين. وربما يذكر في وجه الفرق وجوه أخر ضعيفة (1).

الثاني من الامور في تحرير محل النزاع :

الثاني من الامور (2) في تحرير محل النزاع :

فنقول : الأشياء عند العدليّة تنقسم على قسمين : قسم يستقلّ بإدراك حكمه العقل ، وقسم لا يستقلّ.

الأوّل خارج عن هذا النزاع وينقسم على أقسامه الخمسة : من الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة العقليّات.

والثاني أيضا على قسمين ، فإنّه إمّا من الأفعال التي لا يمكن بقاء النوع وحفظ النظام بدونه - كالتنفّس في الهواء ونحوه من ضروريّات العيش - وإمّا أن لا يكون من هذا القبيل. والأوّل أيضا خارج عن هذا النزاع ، ضرورة حكم العقل بجواز ارتكابه فيه (3) ، ففي الحقيقة مرجع هذا القسم إلى الأوّل. والثاني لا يخلو إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المنفعة أم لا. وعلى الثاني فلا شكّ في كونه (4) لغوا وعبثا ، فلا يجوز الارتكاب فيه أيضا (5) إمّا الكراهة عقليّة أو حرمة ، كما لا يخفى (6). والأوّل إمّا أن يكون ممّا يشتمل على أمارة المفسدة أيضا أم لا. وعلى الأوّل فلا ريب أيضا في عدم جواز الارتكاب فيها. وعلى الثاني فهو محلّ النزاع.

ص: 403


1- في ( ط ) بدل « ضعيفة » : « كلّها غير وجيهة فلا نطيل بذكرها وتزييفها ».
2- تقدّم أوّلها في الصفحة : 399.
3- في ( ط ) : « بجواز الارتكاب فيهما ».
4- في ( ط ) : « كونها ».
5- في ( ط ) : « أيضا فيها ».
6- لم ترد عبارة « إمّا لكراهة عقليّة أو حرمة كما لا يخفى » في ( ش ).

وبالجملة ، فالنزاع إنّما هو في الأفعال الغير الضروريّة التي لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الخالية عن إمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة.

وربما توهّم بعض الأجلّة (1) دخول ما لا فيه أمارة المفسدة ولا أمارة المنفعة (2) في النزاع ، وليس بسديد. وأمّا ما زعمه من اشتمال العنوان بشموله لها بعد ما يظهر منهم التصريح بخلافه في عناوينهم (3) ، فممّا لا يصغى إليه ، كتوهّم شمول الأدلّة لها. نعم ما زعمه من الدليل ربما يشمله ، إلاّ أنّه بمعزل عن الصواب ، لعدم استقامة الاحتجاج بمثله في أمثال المقام كما لا يخفى (4).

بقي هنا شيئان :

أحدهما : ما استشكله المحقّق القمّي (5) : من أنّه بعد ما كان مثل شمّ الطيب وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته ، فأي شيء يبقى بعد ذلك يكون مباحا عقليّا في قبال أقسامه الأربعة؟ فالأولى تربيع الأقسام فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه.

وقد يجاب عنه بما ذكره بعض الأجلّة (6) : بأنّ التقسيم مبني على أن يراد باستقلال العقل في الجملة ولو بحسب بعض أفراده ، وفساده غير خفيّ.

ص: 404


1- الفصول : 347.
2- في ( ش ) : « ما لا فيه الأمارتين ».
3- الفصول : 350.
4- لم ترد عبارة « كتوهّم - إلى - كما لا يخفى » في ( ش ).
5- القوانين 2 : 9.
6- لم يرد « بعض الأجلّة » في ( ش ) ، وانظر الفصول : 346.

وقد يجاب أيضا (1) : بأنّ العلم بعدم المفسدة فيما فيه أمارة المصلحة يوجب القطع بالإباحة ، فهو مباح عقليّ قطعيّ.

ويرد عليه : أنّ دليل الحاظر : بأنّ التصرّف فيه تصرّف غير مأذون فيه يجري فيه أيضا ، فلا يصير متّفقا عليه كما هو المطلوب ، ولا غائلة فيه بعد تمييز (2) المفاهيم.

وثانيهما : ما هو المعروف بينهم : من أنّ فرض العنوان فيما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه يناقض دعوى الحاظر والمبيح باستقلال العقل (3) : بإباحته أو حظره. وهذا هو الوجه في اختيار الحاجبي عدم الحكم في المسألة (4) حيث إنّ الحكم فرع الحاكم ولا حاكم في المقام ، أمّا العقل فلأنّ المفروض عدم استقلاله بالحكم ، وأمّا الشرع فلأنّ الكلام قبل وروده.

وأجيب (5) عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ لا يستقلّ بإدراك حكم العناوين الخاصّة من حيث أنفسها وفي حدود ذواتها - كأكل الرمّان وشرب الماء البارد - فيما ليس هناك ضرورة ونحوهما ، وهو لا ينافي استقلال العقل بإدراك حكم عنوان عامّ صادق على تلك العناوين الخاصّة على وجه كلّي إجمالي كما في الحكم بكليّة الكبرى في الشكل الأوّل.

ص: 405


1- انظر القوانين 2 : 9.
2- في ( ط ) : « تميّز ».
3- في ( ش ) : « بالاستقلال ».
4- المختصر وشرحه : 77 - 78.
5- انظر الفصول : 350.

وفيه : أنّ التقسيم حينئذ يبقى (1) بلا وجه ، لجريانه بعد فيما يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، مثلا : الظلم الخاصّ القائم بشخص خاصّ ممّا لا يستقلّ العقل بقبحه بخصوصه ، بل مما يستقلّ العقل بإدراك حكمه من حيث اندراجه تحت عنوان كلّي « الظلم ». وكذا ردّ الوديعة ونحوه لو لوحظ من حيث خصوص أفراده لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، ولو لوحظ باعتبار شمول عنوان كلّي له فهو من المستقلاّت العقليّة (2) ونحن لا نقول : بأنّ اختلاف حكم الكلّي والجزئي لا يجزي في دفع الإشكال ، كيف! ولولاه لبطل الاستدلال من أصله ، بل نقول : بأنّ مجرّد هذا الاختلاف لا يقضي بعدّ الظلم من المفاهيم التي يستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وما نحن فيه ممّا لا يستقلّ بإدراكه بعد جريان الكلام المذكور فيه أيضا كما عرفت.

الثاني (3) : انّ ما لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه ضرورة من دون حاجة إلى الوسط في الإثبات هل يستقل بإدراك حكمه بالنظر ومع ملاحظة الدليل والوسط أم لا؟ فمحلّ النفي هو الإدراك الضروري ومحلّ الإثبات على تقديره هو الإدراك النظري ، فلا تناقض.

وقد يستفاد هذا الجواب من تحرير البعض في عنوان البحث كالعميدي (4) على ما لا يخفى (5).

ص: 406


1- لم يرد « يبقى » في ( ش ).
2- لم ترد عبارة « لو لوحظ - إلى - العقليّة » في ( ش ).
3- في ( ش ) زيادة : « من الوجوه ».
4- انظر منية اللبيب : 21.
5- لم يرد « على ما لا يخفى » في ( ش ).

وفيه أيضا : ما عرفت من جريانه بعينه فيما يستقلّ العقل بإدراكه ، كيف! ومرجع هذا الوجه عند التدبّر هو الوجه الأوّل ، وعلى (1) بعض الوجوه فالعنوان الذي لا يستقلّ بإدراك حكمه العقل إلاّ بعد ملاحظة الوسط ليس من المستقلاّت العقليّة وإنّما الوسط منها.

ولا معيار في المقام لاختلاف المراتب ، فربما يكون الشيء بعنوان جزئي منها وربما يكون منها باعتبار صنفه على اختلاف مراتب الأصناف أو باعتبار نوعه أو جنسه السافل إلى أن يصل إلى جنس الأجناس في سلسلة الطول ، فأكل الفاكهة في المقام بمنزلة الظلم الشخصي في ذلك المقام. فكما أنّ الظلم الشخصي لا يعدّ من المستقلاّت العقليّة إلاّ باعتبار الاندراج فكذلك ، أكل الفاكهة لا يعدّ منها إلاّ باعتبار التصرّف في ملك الغير الذي مرجعه في الحقيقة إلى عنوان الظلم على بعض الوجوه ، كما لا يخفى.

الثالث : ما أفاده بعض أفاضل المتأخّرين (2) طاعنا على الفاضل القمّي حيث استصعب دفع الإشكال ، وهو : أنّ الحكم في المقام بالنسبة إلى مرحلة الظاهر والجهل بالنسبة إلى مرحلة الواقع ، والنفي في الواقع لا ينافي الإثبات في الظاهر كما في أصالة البراءة ، فإنّ شرب التتن ممّا لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه الواقعي ويستقلّ بإدراك حكمه الظاهري من غير تناقض بين الحكمين.

وفيه : أنّك قد عرفت فيما تقدّم : أنّ حكم العقل بالإباحة عند المبيح وبالحظر عند الحاظر واقعيّ على ما هو لائح من مطاوي كلماتهم وإن كان باعتبار جهالة حكم موضوعه.

ص: 407


1- في ( ط ) : « على ».
2- لم نعثر عليه.

وتوضيحه وتحقيقه يحتاج إلى رسم مقدّمة ، وهي : أنّه لا يتصوّر في الحكم العقلي أن يكون ظاهريّا بل كلّ ما يحكم به العقل فهو حكم واقعي ، لأنّ اختلاف الأحكام الشرعيّة بأن يكون بعضها واقعية وبعض آخر ظاهريّة إنّما هو بواسطة إمكان جعل حكم في الواقع وعدم الوصول لمانع إلى المكلّف ، فما هو مجعول واقعا حكم واقعيّ ، وما هو المحكوم به في مقام العمل والفتوى حكم ظاهري. وهذا كما هو ظاهر يصحّ فيما لو كان الحاكم غير المكلّف وأمّا فيما إذا كان هو المكلّف - كما فيما نحن فيه - فلا وجه لعدم الوصول حتّى يقال : بأنّ المجعول الغير الواصل حكم واقعيّ والمحكوم به في مقام الجهل بالواقع حكم ظاهريّ.

لا يقال : قد يكون الفعل قبيحا والعقل من حيث جهله بقبحه مثلا يحكم بجواز ارتكابه وإباحته ، فمن حيث قبحه واقعا له حكم واقعيّ ، ومن حيث الجهل به له حكم ظاهريّ.

لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في الحكم التابع للقبح والحسن على ما هو المقرّر في المراد منهما (1) في محلّ النزاع ، والحسن والقبح بالمعنيين المعهودين لا يلحقان للأفعال (2) الغير الاختياريّة اتّفاقا من العدليّة والأشعرية ، فالفعل القبيح في الواقع لا يتّصف بالقبح إلاّ بعد العلم به على وجه يصير (3) اختياريّا ، فهو حال الجهل لا يتحقّق قبيحا ؛ لأنّ المفروض عدم العلم بالعنوان القبيح ومع عدمه لا يصحّ قصده وبدون القصد لا يكون اختياريّا فلا يكون متّصفا بالقبح في الواقع.

ص: 408


1- لم يرد « في المراد منهما » في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : لا يلحقان بالأفعال.
3- في ( ط ) زيادة : « به ».

وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : إنّ حكم العقل بقبح التصرّف في ملك الغير يقع على وجوه :

فتارة مع العلم بعدم إذنه ، ولا ريب في كونه حكما واقعيّا غير منوط بالجهل.

وأخرى مع عدم العلم بإذنه ، فإمّا مع إذنه واقعا أو مع عدم الإذن في الواقع ، والحكم بقبح التصرّف في الصورتين أيضا حكم واقعيّ وإن كان في موضوع الجهل (1) ، فإنّ تعريض النفس في معرض الهلاكة عنوان حكم العقل ولا اختلاف فيه في جميع الصور ، وعدم وقوع الهلاكة في البعض لا يناط بالاختيار ، فلا يصحّ القول بكونه فارقا في الصور الثلاثة.

وبالجملة ، فمقتضى القول بالحظر - كما هو ظاهر ما تمسّك به - هو الحظر الواقعي. وفي قباله القول بالإباحة ، سيّما بعد ملاحظة ما أجابوا به عن دليل الحظر من معلوميّة الإذن هو الإباحة الواقعيّة. فجعل النزاع في الحكم الظاهري في المقام - كما في أصالة البراءة - ودفع التناقض بأنّ عدم الاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الواقع والاستقلال إنّما هو بالنسبة إلى الظاهر إنّما هو تأويل بما لا يرضاه المتنازعون ، كما لا يخفى على المتأمّل (2).

فالتحقيق في دفع الإشكال هو أن يقال : إنّ استقلال العقل إنّما هو في موضوع عدم وجدان ما يقتضي المفسدة ، وعدم استقلاله فيما لم يلاحظ مع الفعل هذا العنوان ، وليس من الحكم الظاهري في شيء ، فإنّ موضوعات أحكام العقل

ص: 409


1- في ( ش ) : « وإن كان موضوع موضع الجهل ».
2- لم يرد « كما لا يخفى على المتأمّل » في ( ش ).

ليس أحدها في سلسلة طول الآخر ، بل الكلّ في عرض سواء. بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإنّها ربما يكون أحد الموضوعين فيها في عرض الموضوع الآخر - كالحاضر والمسافر - وقد يكون مرتّبا على الآخر كما في أصالة البراءة على ما سيجيء تحقيقه - إن شاء اللّه - والأحكام الظاهريّة إنّما تتصوّر فيما إذا كان أحد الموضوعين مرتّبا على الآخر. مثلا حكم العقل بحرمة الظلم حكم واقعيّ وحكمه بحرمة الضرب فيما إذا شكّ في حصول التأديب أيضا حكم واقعي وإن حصل التأديب ، ومثله في الشرعيّات يسمى بالحكم الظاهري ، فإنّ للشيء مع قطع النظر عن العلم والجهل حكما مخزونا في الشرع.

وأمّا الأحكام العقليّة ، فموضوعاتها لا تحصل إلاّ بعد العلم والإرادة ، حيث إنّ الكلام - على ما عرفت - إنّما هو في الحكم التابع للحسن والقبح اللاحقين للأفعال (1) الاختياريّة التي لا تصير اختياريّة إلاّ بعد العلم والإرادة ، فما لم يقصد حصول عنوان لم يحصل على وجه يتّصف بالحسن والقبح وإن وقع ما هو القبيح أو الحسن في الواقع ، كالتأديب المترتّب على الضرب فيما لم يكن مقصودا وقتل النبيّ المترتب على الصدق إذا لم يكن الصادق مريدا له في صدقه.

والسرّ في جميع ذلك هو ما عرفت في المقدّمة الممهّدة : من أنّ مناط الانقسام إلى الحكمين هو إمكان جعل الأحكام الشأنيّة وعدم وصولها إلى المكلّف ، فيمكن أن يقال : إنّ للشيء مع قطع النظر عن الجهل حكما ومن حيث هو مجهول حكما آخر. بخلاف الأحكام العقليّة ، فإنّ الشأنيّة فيها غير معقول ، لامتناع ذهول النفس عنها ، كما لا يخفى.

ص: 410


1- كذا ، والظاهر : اللاحقين بالأفعال.

الثالث من الامور (1) : في بيان الأقوال في المسألة :

فقيل بالإباحة (2). وقيل : بالحظر (3). وتوقّف شيخ الأشاعرة (4) ، وفسّر تارة بعدم الحكم (5) ، واخرى بعدم العلم بالحكم (6).

قلت : إنّ التفسير الأوّل يلائم مذهب الأشاعرة بعدم حكم للعقل في أمثال المقام ، كما عن الحاجبي (7) وأضرابه ، والتفسير الثاني يلائم كون هذا البحث إحدى مسألتي التنزّل والمماشاة ، كما لا يخفى.

وإذ قد عرفت هذه الامور فالمنقول من حجج المبيحين امور :

أحدها : ما نقله الشيخ في محكيّ العدّة (8) : من أنّ تلك الأفعال منفعة بلا مضرّة. أمّا إنّها منفعة فبالفرض ، وأمّا إنّها بلا مضرّة ؛ لأنّها لو كانت فيها مضرّة آجلا أو عاجلا لوجب على الحكيم اللطيف نصب أمارة مفيدة للعلم ولا أقلّ من الظنّ المفيد للوثوق عليها والمفروض عدمها.

ص: 411


1- تقدّم ثانيها في الصفحة : 403.
2- ذهب إليه المرتضى في الذريعة 2 : 809 وفي العدّة 2 : 742. نسبه إلى أكثر المتكلمين من البصريين وفي المناهج : 208 نسبه إلى كثير من الامامية.
3- قال الشيخ : ذهب كثير من البغداديين وطائفة من أصحاب الامامية إلى انها على الحظر. العدة 2 : 742.
4- كما نسب إليه في المناهج : 208 والفصول : 346 واختاره الشيخان. انظر مختصر كتاب اصول الفقه : 43 والعدة 2 : 742.
5- نسبه في المناهج : 208 إلى الرازي.
6- كما فسّر به النراقي في المناهج : 208.
7- انظر المختصر وشرحه : 77 - 78.
8- العدّة 2 : 746 - 747.

والجواب عنه - على ما نبّه به الشيخ (1) والمحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي (2) - منع لزوم نصب أمارة عليها ، لم لا يجوز أنّه تعالى قد وكلنا على أنفسنا بعد وضوح طريقة العقلاء في الإطاعة والعصيان.

وهذا الجواب عن الشيخ كما ترى يناقض ما أورده في الإجماع : من أنّ طريق ثبوت الإجماع منحصر في سلوك سبيل اللطف (3) ، بل هذا هو بعينه ما أورد عليه السيّد (4). ومن العجب! أنّ السيّد قد احتجّ للقول بالإباحة بهذه الحجّة (5). اللّهمّ إلاّ أن يوجّه بأنّ اللطف ربما يقول بوجوبه الشيخ على اللّه تعالى بعد ما يقتضي التكليف ، لا قبل ملاحظة ما يقتضي التكليف. إلاّ أن فيه ما لا يخفى.

وبالجملة فالسيّد والشيخ متعاكسان في المسألتين ، بل ربما يعدّ هذا من الشيخ من وجوه التأييد لاعتبار الإجماعات المنقولة في كلماته رحمه اللّه (6).

وثانيها : أنّ الأشياء المشتملة على المنفعة لو لم تكن مباحة لزم أن يكون إيجادها عبثا منه تعالى (7) ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (8).

ص: 412


1- العدّة 2 : 746 - 747.
2- الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، ذيل قول العضدي : « لا حكم لأفعال العقلاء قبل الشرع » ، الورقة : 99.
3- انظر العدّة 2 : 602 و 628.
4- لم يرد « السيّد » في ( ش ).
5- الذريعة 2 : 810 - 811.
6- في ( ط ) : « في كلامه ، فتدبّر ».
7- انظر الذريعة 2 : 819 ، والعدة 2 : 747.
8- لم ترد عبارة « تعالى عن ذلك علوّا كبيرا » في ( ش ).

وفيه : أنّ سخافته بحيث لا يخفى على أحد ، إذ غاية ما يمكن للقول (1) عدم العلم بالفائدة ، ولا يلزم منه عدم الفائدة ، وإلاّ فالفائدة فيها معلومة لمن تدبّر وتبصّر.

وثالثها : ما احتجّ به بعض الأجلّة (2) ، وهو : أنّ ضرورة العقل قاضية بالإباحة في الظاهر عند عدم ما يدلّ على الخلاف ، من غير فرق بين المشتمل على المنفعة وغيره ، لظهور أنّ التكليف بأقسامه الأربعة مشروط بالعلم والبيان عقلا وعادة ، وإذ ليس فليس ، ولا نعني بالإباحة إلاّ ذلك.

وفيه - بعد الغضّ عمّا أشرنا إليه سابقا في تحرير محلّ النزاع من انحصار عناوين القوم فيما يشتمل على المنفعة ، ومن أنّ الحكم بالإباحة حكم واقعيّ - أنّه إن أراد قضاء ضرورة العقل بالإباحة بمعنى عدم الحرج والمؤاخذة فمسلّم ، إلاّ أنّه لا يجديه ، لوقوعه في غير محلّ النزاع ، كما صرّح به العضدي (3) حيث حكم بعدم النزاع في الإباحة بهذا المعنى حتى عند الأشعري. وإن أراد الإباحة بمعنى الإذن والترخيص كما قد يقال باستظهاره من نفي الأحكام الأربعة وإثباته. ففيه : أنّه لا نسلّم قضاء الضرورة (4) بالإباحة بهذا المعنى.

وما تخيّله : من اشتراط التكليف بأقسامه الأربعة بالعلم فهو كذلك ، إلاّ أنّ الإباحة بهذا المعنى - أيضا - من الأحكام التكليفيّة ويحتاج إلى العلم عقلا وعادة. ولو سلّم فانتفاء الأربعة لا يلازم إثبات الإباحة ، لوجود الواسطة وهو

ص: 413


1- في ( ط ) : « ما يمكن القول به ».
2- الفصول : 347.
3- شرح مختصر الاصول : 78.
4- في ( ط ) : « لقضاء ضرورة العقل ».

عدم الحكم ، فإنّ الأحكام وإن كانت منحصرة في الخمسة ، إلاّ أنّه لا ينهض دليل على ثبوتها في جميع الأشياء بحسب حكم العقل ، فتدبّر.

ورابعها : ما استند إليه جملة من المتأخّرين (1) ، وهو استقرار طريقة العقلاء بعدم الاجتناب عنها وحكمهم بلحوق المتحرّز عنها بأصحاب السوداء والجنون ، واستحقاق المقتصر في التنفّس على قدر الحاجة للذمّ عقلا.

وفيه : أنّ محلّ الكلام على ما مرّ يشمل فيما لو كان المفسدة مشكوكة ؛ لأنّ انتفاء أمارة المفسدة لا ينافي الشك بوجودها (2). ولا نسلّم استقرار طريقة العقلاء في محلّ الشكّ بالإباحة لو لم نقل بأنّ سجيّة كلّ عاقل يحكم بالاجتناب عند الشكّ ، لعدم العلم بالإذن عند الشك. وأمّا إلحاق المتحرّز بأصحاب السوداء والجنون فهو إنّما يثمر في إبداء الاحتمال ، لا العمل بمقتضاه بعد حصول الشكّ (3).

وبالجملة ، لا دلالة في الدليل المذكور على الإباحة في جميع الصور ، بل العقلاء يقتصرون على الظنّ بالسلامة ولو بتحصيل الظنّ من بعض السوالف (4) ، والامور الغير المعتبرة من التسويلات النفسانيّة كما هو مشهور (5).

ص: 414


1- منهم المحقّق القمّي في القوانين 2 : 9.
2- كذا ، والظاهر : في وجودها ، وكذا في الموارد الآتية.
3- في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما قد يمكن الاستشعار من قولهم أصحاب السوداء ، على ما لا يخفى ».
4- السوالف ، جمع السالفة ، لغة عاميّة يقصد بها القصص وأمثالها.
5- في ( ط ) زيادة ما يلي : « كما هو مشهود من ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ، مثلا لو فرضنا نزول بليّة مساوية النسبة في الكلّ فالنفس تحتال في إخراجها منها لا على وجه يكون مردّدا في الواقع ، بل في تحصيل الظنّ بالخروج ، كما لا يخفى ».

وقد يحتجّ للقول بالإباحة بأقيسة مشهورة وأمثلة عرفيّة (1) ، كالاستظلال بحائط الغير والاستضاءة من نوره والاصطلاء بناره. وليس على ما ينبغي ، للقطع بالفرق من حصول الإذن فيها دون غيرها كما لا يخفى.

واحتجّ القائل بالحظر بوجهين :

الأوّل : ما مرّ الإشارة إليه مرارا : من أنّ ارتكاب تلك الأفعال تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فإنّ العبد في مقام العبوديّة لا يملك شيئا حتى نفسه فكيف لغيرها! والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه قبيح فيحرم التصرّف فيها (2).

والجواب عنه : أنّ قبح التصرّف في ملك الغير مطلقا عقلا (3) ممنوع ، بل ما يستلزم (4) التضرّر للمالك أو في صورة منع المالك وإن لم يستلزم ضررا بالنسبة إلى المالك ، فإنّ التصرّف في ملك الغير لا يستقلّ العقل بإدراك حكمه بعنوان نفسه ، بل من حيث أوله إلى عنوان آخر يستقلّ العقل بإدراك حكمه كالظلم ونحوه ، وعند انتفاء التضرّر أو عدم المنع لا قبح فيه ، لعدم رجوعه إلى عنوان قبيح. نعم ، في الصورتين المذكورتين يرجع إلى الظلم.

أمّا الأولى : فظاهر.

وأمّا الثانية : فلأنّه بعد تسليم تسلّط المالك على ملكه وعدم إذنه في التصرّف ومنعه منه بعد التصرّف فيه بغير إذنه ظلما ، فإنّه وضع الشيء

ص: 415


1- كما احتجّ بها المحقّق القمّي في القوانين 2 : 9.
2- انظر الذريعة 2 : 821 ، والمختصر وشرحه للعضدي : 77.
3- لم يرد « عقلا » في ( ط ).
4- في ( ش ) : « ما لا يستلزم » ، وفي ( ط ) : « ما لم يستلزم ».

في غير محلّه ، ومن المعلوم تعاليه ، تعالى عن الضرر والمنع اقتراحا كما في غيره من الملاّك. ولك أن تقول : إنّ التضرّر في حقّه تعالى ممتنع غير معقول ، وكذلك المنع الاقتراحي. إلاّ أن يحتمل أن يكون بواسطة ضرر متعلّق بنا ، فإنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض الراجعة إلينا دفعا للعبث والاستكمال في حقّه تعالى. ومع هذا الاحتمال لا يجوز الإقدام على ارتكاب مثل تلك الأفعال.

ومع ذلك فلا يستقيم وجها آخر في قبال ثاني الوجهين ، لأوله حقيقة إليه ، كما ستعرف.

الثاني : ما استند إليه الشيخ في العدّة (1) : من أنّ في ارتكاب تلك الأفعال إقداما بما لا يؤمن النفس من ضررها ، وهو قبيح.

ولتحقيق الحال في هذا الاحتجاج محلّ آخر ، إلاّ أنّه لا بدّ من الإشارة إليه إجمالا.

فنقول : لا كلام في قبح الإقدام بما يعلم التضرّر كما لا كلام في قبحه فيما لو ظنّ بالضرر. وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالسلامة يكفي في رفع القبح أو لا بدّ من دفع الضرر الموهوم ، وعلى تقدير الكفاية فهل الشكّ في الضرر يجب الاحتراز عنه عقلا أو لا؟

وقد يقال : بأنّه لا قبح في العقول في عدم التحرّز عن الضرر الموهوم ، وغاية ما يقال به (2) هو الاستحسان العقلي ، ولا يزيد على استحبابه عقلا.

ص: 416


1- العدّة 2 : 742.
2- في ( ط ) : « وإنّما غاية ما يمكن القول به ».

إلاّ أنّه بمعزل عن التحقيق - على ما يظهر من بعضهم (1) - حيث إنّ الموارد التي يستكشف منها حال العقلاء في أمور معادهم ومعاشهم من اكتفائهم بالظنّ في السلامة إنّما هو بواسطة انسداد طرق العلم لهم (2) بحيث لو اقتصروا على المنافع المعلومة والمضارّ المعلومة لزم اختلال نظامهم. وذلك لا ينافي حكمهم بالوجوب فيما لا يعارضه ما هو أقوى منه أو مساو له. وأمّا الضرر المشكوك فلا ينبغي الشك بوجوب التحرّز عنه عقلا ، بل ويظهر ذلك من كلمات المتكلّمين أيضا ، كما يلوح عند حكمهم بوجوب شكر المنعم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ الظاهر من الفقهاء - بل كاد أن يكون إجماعا منهم - عدم لزوم الاجتناب عنه ، كما فيما لو شكّ في وجوب السفر مع العلم بعدم ترتّب الضرر على تركه ، وكما لو شكّ في الوضوء بترتّب الضرر عليه ، فإنّهم مطبقون على عدم الاعتناء بهذا الشكّ إلاّ عن جماعة من المتأخّرين ، أوّلهم الفاضل الهندي في شرح (3) الشرح على ما حكاه الأستاذ (4).

وبالجملة ، فالذي يظهر منهم عدم لزوم الاحتراز شرعا. ولا ينافيه أيضا خلاف بعض المتأخّرين (5) ؛ لأنّهم - على ما صرّح به الفاضل - إنّما قالوا به بواسطة زعمهم أنّ موضوع الخوف الصادق مع (6) الشكّ في الحكم بالإفطار والتيمّم

ص: 417


1- لم نعثر عليه.
2- في ( ش ) : « طريق العلم بهم ».
3- وهو المناهج السوية في شرح الروضة البهية ، ولكن لم نعثر عليه بعد الفحص التام في المواضع المناسبة.
4- لم يرد « على ما حكاه الأستاذ » في ( ش ).
5- وهو الفاضل الهندي.
6- في ( ش ) بدل « مع » : على.

ونحوهما يغاير موضوع الضرر ، وإلاّ فموضوع الضرر لا يقضي بتقييد الإطلاقات في صورة الشكّ كما يقضي به عند العلم أو الظنّ.

فالفاضل لو سلّم انحصار المقيّد في الضرر ، كما هو كذلك - على ما بيّنّاه في محلّه مستقصى من أنّ الخوف طريق إلى الضرر - لا يقول بوجوب دفع الضرر المشكوك ، ولا يحكم بتقييد ما دلّ على وجوب الصوم - مثلا - عند الشكّ في الضرر ، والعقل لصرافته يحكم بالوجوب ، فلا بدّ من توجيه وتوفيق.

والذي يظهر لي في الجواب - على ما أفاده الأستاذ - أن يقال : إنّ الضرر المنفيّ في الشريعة المقيّد لموضوعات أحكام الشرع عبادة ومعاملة هو الضرر الدنيوي ، كما يظهر من ملاحظة حكمهم بسقوط الصوم والوضوء في موضوع الضرر وعدم لزوم العقد الضرريّ مثلا. ولا يصحّ أن يكون الضرر الأخرويّ مقيّدا لإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم الشرعي ؛ لأنّ المراد بالضرر الأخرويّ - على ما يستفاد من كلمات المتكلّمين وجملة من الأخبار - ليس إلاّ العقاب ، وهو من توابع الحكم الشرعي ، فلو فرض تقييد موضوعه بهذا الضرر لزم الدور.

والعقل وإن كان مستقلاّ في لزوم دفع الضرر ولو كان دنيويّا إلاّ أنّه بعد ملاحظة انضمامه بحيثيّة تجريديّة لا مطلقا ، ففيما لو عارضه ما هو أقوى منه لا قبح في عدم الاجتناب. والموارد التي لا يجب الاجتناب فيها بأجمعها إنّما هو بواسطة تعارض الضرر بما هو أقوى منه (1) ولو كان الكاشف عن التعارض وجود ما يعارضه حكم الشرع ، كيف! والشارع يحكم بوجوب شيء ولو كان مشتملا على ضرر قطعيّ كما صرّح به جماعة منهم الشهيد في القواعد (2) في مقام نفي التقيّة

ص: 418


1- لم ترد عبارة « لا قبح - إلى - أقوى منه » في ( ش ).
2- انظر القواعد والفوائد 2 : 58 ، القاعدة (208).

عن الدماء وإظهار كلمة الكفر ، فإنّه ربما يكون مباحا ، وقد يكون حراما فيحرم على المكلّف إظهار كلمة الكفر ولو انجرّ إلى قتله يقينا ، لكن فيما لو كان المأمور بإظهار الكفر ممّن يعتدّ بشأنه بحيث لو أظهر كلمة الكفر احتمل وقوع ثلمة في الدين مثلا.

وبالجملة ، فبعد ما لاحظنا طريقة الشرع من عدم الاعتبار بالضرر المقطوع ولو في بعض المقامات مع قطع العقل بلزوم الاحتراز فيه - ولا يذهب وهم إلى تناقض بين حكمي الشرع والعقل ، لظهور أنّ حكم العقل إنّما هو في صورة الانفراد وعدم التعارض - لا إشكال ولا تنافي أيضا في المقام ، بل بطريق أولي ، فيجوز أن يحكم الشارع بعدم ترتيب (1) آثار الضرر المشكوك بأصالة عدم الضرر ونحوها من الأمارات الشرعيّة في مواردها.

وحكم العقل بلزوم الاجتناب أيضا في محلّه. ولا ينافيه ما تقدّم من التطابق أيضا ، لاختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما لا يخفى ؛ ولذا تراهم يتمسّكون في مقام نفي الحكم المشتمل على الضرر بأدلّة شرعيّة من غير أن يلتفتوا إلى حكم العقل بوجوب الاجتناب. فرفع الضرر الدنيوي ولزوم الاجتناب عنه في الأحكام الشرعيّة حكم شرعيّ ، ولا مانع من تخصيص الشارع حكمه باعتبار اختلاف مصالح الحكم بمورد دون آخر.

ومن هنا يعلم وجه لزوم الاجتناب فيما إذا اشتمل أحد الإنائين على السمّ في الشبهة المحصورة ، حيث إنّه لا دليل شرعا على جواز الارتكاب من الاصول العمليّة كما يظهر ذلك في محلّه إن شاء اللّه. والعقل لصرافته يحكم بلزوم الاجتناب من غير ما يقضي بخلافه ولو بواسطة اختلاف الموضوع. كما أنّه يظهر لزوم

ص: 419


1- في ( ش ) : « ترتّب ».

الاجتناب فيما نحن فيه ؛ لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ولو في صورة الشكّ ممّا لا يعارضه شيء ، فأكل الفاكهة وشمّ الورد وإن اشتمل على أمارة المنفعة وخلا عن أمارة المفسدة ، إلاّ أنّه ليس عدم الضرر به في الدنيا مقطوعا به والعقل مستقلّ بوجوب الاجتناب ، وحيث إنّه لا شرع كما هو المأخوذ في العنوان - أي عنوان المسألة - فلا تعارض أيضا.

ثمّ إنّ المراد من قولهم : « قبل الشرع » - بعد ما عرفت من أنّ الكلام في حكم العقل - ظاهر ، يعنون به قبل ملاحظة الشرع ، فلا حاجة إلى بعض التطويلات الواقعة في كلام جملة منهم في المقام.

تذنيب

قد ذكر المحقّق القمّي في آخر المبحث كلاما طويلا (1) مرجعه إلى أنّ اعتبار أصالة الإباحة على القول بها في أمثال زماننا الذي قد كشف الشارع الحكيم عن حال جملة من الأشياء المشتملة على أمارة المنفعة الخالية عن أمارة المضرّة (2) - كشرب الفقّاع واستماع الغناء وأمثال ذلك - ظنّي فالقول بحجّيّتها موقوف على اعتبار الظنّ واستقلال العقل بحجّيّته. وفرّع عليه الحكم بكونها من المستقلاّت العقليّة ، وعلى ذلك بنى الأمر في الردّ على الفاضل التوني والسيّد الشارح - رضوان اللّه عليهما - حيث حكم الأوّل : بأنّ النزاع في الملازمة قليل الجدوى بل عديمها ، إذ ما من مورد لحكم العقل إلاّ وقد ورد من الشارع فيه آثار كثيرة

ص: 420


1- القوانين 2 : 12.
2- في ( ط ) : « المفسدة ».

وأخبار وافرة (1) واستجوده الثاني (2). فزعم أنّ أصالة حجّيّة كلّ ظنّ إنّما هي من ثمرات مسألة الملازمة ، إذ بعد إحراز حكم العقل بحجّيّة الظنّ وتطابق الحكمين - كما هو المقصود بالبحث في الملازمة - فالظنّ حجّة شرعيّة وأيّة ثمرة أعظم منها ، إذ عليها تدور رحى الفقه من الطهارات إلى الديات.

واعترض عليه بعض من تأخّر عنه (3) بمنع مقدّمات الانسداد على ما قرّره المورد.

ولعمري! إنّه اعتراض بارد ومنع فاسد ، إذ لا يناط ترتّب الثمرة على صحّة المذهب كما لا يخفى ، بل إن كان ولا بدّ من الاعتراض فليعترض : بأنّ جماعة - منهم السيّد علم الهدى (4) والعلاّمة (5) رحمه اللّه (6) - نقلوا الإجماع على حجّيّة الظنّ في مورد الانسداد ، فلا ثمرة أيضا. إلاّ أنّه أيضا (7) بمعزل عن الصواب ، كما لا يخفى.

والتحقيق فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة فيها تتميم لما تقدّم أيضا.

فنقول : قد تقدّم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا ، وقد مرّ فيه الكلام على وجه يليق بالمقام. وأمّا الضرر الأخروي فلا شكّ في كونه واجب الدفع أيضا ،

ص: 421


1- الوافية : 174.
2- شرح الوافية : 222.
3- انظر الفصول : 351.
4- لم نعثر عليه ، نعم اعترف بالعمل بالظن عند تعذّر العلم ، كما حكى عنه الشيخ في الفرائد 1 : 388 ، وانظر رسائل الشريف المرتضى 3 : 39.
5- انظر المختلف 3 : 26.
6- في ( ط ) بدل « رحمه اللّه » : « آية اللّه ».
7- لم يرد « أيضا » في ( ش ).

بل العقل حكمه فيه أشدّ والنقل إبلاغه أبلغ ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « ألف ألف ضربة من السيف أحسن من الموت على الفراش » (1) في مقام الجهاد ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى (2) ، ولا يصلح لمعارضته شيء مع وجوده - بخلاف الضرر الدنيوي - فإنّه مع احتمال العقاب لا يعقل معارضته بشيء آخر ، إلاّ أن يرتفع العقاب ، فلا كلام في أنّ العقل يستقلّ بوجوب دفع الضرر سيّما إذا كان أخرويا ، إلاّ أنّ الحكم العقلي في المقام وأمثاله إنّما هو مجرّد إرشاد وإراءة للمصلحة (3) إذ لا تشريع منه (4) وطلب وجوبيّ أو ندبيّ على اختلاف مراتب المصالح.

والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو إرشادي ، إذ لا حكم تشريعيّ كما هو توهّمه بعضهم ، وإذ هو فاسد ؛ لأنّ المراد من الإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيان ذلك (5) ليس إلاّ بيان حقيقة الفعل وآثاره المترتّبة عليه من مدح أو ذم أو نحوهما من غير أن يكون مفيدا لإيجاب أو استحباب أو تحريم (6) ،

ص: 422


1- الوسائل 11 : 11 ، الباب الأوّل من أبواب الجهاد ، الحديث 23 ، وفيه : « ألف ضربة ... ».
2- في ( ش ) : « ممّا لا يخفى ».
3- في ( ش ) : « إرادة لمصلحة ».
4- في ( ط ) : « أو تشريع منه ».
5- العبارة في ( ط ) هكذا : « والحكم الشرعي المطابق لحكم العقل أيضا هو حكم إرشادي أو حكم تشريعي. قد يتوهّم - كما عن بعضهم - أنّ حكم العقل في أمثال المقام وكذا حكم الشرع حكم تشريعيّ. وليس على ما توهّمه ؛ لأنّ المراد بالإرشاد في الأوامر والنواهي المسوقة لبيانه ليص. .. ».
6- في ( ش ) : « للإيجاب أو الاستحباب أو التحريم ».

فلا يترتّب على مخالفة الأوامر الإرشاديّة إلاّ ما يترتّب على نفس الفعل من آثاره ، ولا على إطاعتها إلاّ ما يترتّب عليه في (1) نفسه من دون أن يترتّب على الإطاعة والعصيان فيهما (2) ما يترتّب عليهما في الأوامر (3) التشريعيّة من الفوائد المنوطة بهما ، والعقل في مقام الحكومة لا يزيد حكمه على هذا القدر كما لا يخفى (4) إذ ليس له سلطان المالكيّة. وأمّا الشرع وإن كان له سلطنة التشريع. إلاّ أنّ في بعض الأفعال ما يمنع عنه وبعضها ممّا لا يقبله كما في الأوامر الواردة في مقام الإطاعة والعصيان كقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (5) مثلا ، وفي مقام الاتّقاء عن النار كقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (6) وفي مقام طلب القرب (7) إليه ورفع الدرجة في الجنّة وأمثالها ؛ فإنّ تلك الامور غايات (8) في الأوامر الشرعيّة ، فالأمر بها لا يزيد على إفادة حسنها في نفسها من غير أن يحتاج إلى غاية أخرى فيها. وعلى هذا فلا يصحّ أن (9) يكون الأمر بها في الشريعة أمرا تشريعيّا.

ص: 423


1- لم يرد « في » في ( ش ).
2- كذا ، والظاهر : فيها.
3- لم يرد « الأوامر » في ( ش ).
4- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
5- النساء : 59.
6- البقرة : 24.
7- في ( ط ) زيادة : « بالنسبة ».
8- في ( ش ) زيادة : لسائر الأوامر الشرعيّة مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ونحوه من التكاليف.
9- في ( ط ) : « فلا يصلح لأن ».

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو كان الأوامر المترتّبة على تلك الامور وما يقاربها تشريعيّة يلزم التسلسل ، وبطلان التالي كالملازمة ضروريّ ، فلا يترتّب على مخالفة النهي عن معصية الرسول إلاّ ما يترتّب على معصية الرسول ، ولا عصيان في تلك المخالفة ؛ لما عرفت من لزوم التسلسل على تقديره.

فظهر من جميع ما مرّ : أنّ حكم العقل بوجوب شيء إنّما هو مجرّد إرشاد منه ، وحكم الشرع المطابق له قد يكون تشريعيّا كما في كثير من الشرعيّات ، وقد يكون إرشاديّا كما في وجوب دفع الضرر الاخروي المنتهى إلى العقاب وما يماثله ؛ وإذا تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : قد تقدّم في مباحث الظنّ اختلاف مشارب القائلين بالانسداد في كيفيّة الاستنتاج منه ، فتارة بالحكومة كما هو مشرب التحقيق ، واخرى بالكشف على ما مرّ تفصيل القول في بيان المراد منهما. وعلى التقديرين لا وجه لتفريع مسألة الظنّ على مسألة الملازمة.

أمّا على الأوّل : فلأنّ حكم العقل تارة في مقدّماته كقبح التكليف بما لا يطاق ، واخرى في نفس النتيجة وعلى التقديرين لا يتمّ ما ذكره.

أمّا الأوّل ، فلأنّ قبح التكليف راجع إلى فعل اللّه تعالى وخروج أفعاله تعالى عن مسألة التلازم والتطابق ممّا لا يدانيه ريبة ، فإنّ أفعاله تعالى ليس ممّا يتعلّق به حكم شرعيّ. وأمّا الحكم العقلي فيها (1) فليس على ما هو المتراءى منه كما تخيّله جهّال الأشاعرة على ما تقرّر في محلّه.

ص: 424


1- في ( ش ) : « وأمّا العقلي فيهما ».

وأمّا الثاني ، فلأنّ حكم العقل بالعمل بالظنّ - على ما عرفت - مرجعه إلى الاحتياط في المظنونات ، وهو من فروع الإطاعة والعصيان وقد تقدّم (1) في المقدّمة الممهّدة عدم تعلّق حكم شرعيّ بهما. فالظنّ حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح ، فكما أنّ العلم لا يقبل الجعل - كما ذكر في باب القطع - فكذا الظنّ ، فلا وجه لجريان مسألة التلازم فيه. سلّمنا كون الإطاعة والعصيان ممّا يقبل الحكم الشرعيّ على ما قد يتوهّم ، إلاّ أنّ الأدلّة الشرعيّة الآمرة بالإطاعة والناهية عن العصيان في الكتاب والسنّة فوق حدّ الإحصاء ؛ فلا ثمرة أيضا ، كما لا يخفى ذلك.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مرجع الاستنتاج على القول بالكشف إلى قياس استثنائيّ مركّب من منفصلة مانعة الخلوّ ، فينتج رفع التالي وضع المقدّم ، كأن يقال : المرجع إمّا الظنّ أو العلم أو البراءة أو الاحتياط ، والتوالي فاسدة للمفاسد المترتّبة عليها - كما هو المقرّر في محلّه - فينتج مرجعية الظنّ مثلا. وهذا الحكم العقلي البرهاني وإن كان حجّة شرعيّة أيضا ، إلاّ أنّه خارج عن مسألة التلازم والتطابق ، فإنّ الفاضل التوني (2) إنّما هو في مقام دفع الثمرة في الأحكام العقليّة التي تثبت من جهة التحسين والتقبيح العقليّين ، دون الاستلزامات العقليّة كوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ وأمثالهما.

ولو لا أنّ الكلام في ثمرة الحسن والقبح - فالأحكام العقليّة ولو كانت شرعيّة ممّا لا تعدّ ولا تحصى - فلا وجه للاقتصار على مسألة الظنّ ، فإنّ كثيرا

ص: 425


1- في ( ط ) : « تقرّر ».
2- الوافية : 174.

ما ثبت الحكم الشرعي بأدلّة عقليّة صرفة كاجتماع النقيضين على تقدير عدمه أو وجوده ، وأمثال ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المطلوب من حجّيّة الظنّ حال الانسداد هو كونه مناطا لجميع الأحكام الشرعيّة من الحكم بفسق المتخلّف عنه والحكم بعصيانه ونحو ذلك كما في الظنون الخاصّة ، فإنّ المتخلّف عن البيّنة (2) ولو كان مصادفا للواقع عاص في الظاهر. فالقائل بالظنّ المطلق لا بدّ له من التزام هذه الأحكام كما هو كذلك أيضا (3) فإنّهم ملتزمون بها ، كما لا يخفى على المطّلع بكلماتهم. والدليل الناهض بحجّيّة الظنّ لا يفي بذلك ، فإنّ غاية ما يتصوّر استفادته منه هو وجوب العمل بالظنّ بمعنى الاكتفاء بالامتثال الظنّي ، ولا دلالة فيه على حرمة التخلّف عنه ولو كان مصادفا للواقع ، فلا بدّ من إثبات كون الظنّ حجّة شرعيّة على ما هو الشأن في سائر الحجج الشرعيّة ولو بواسطة عنوان التجرّي والانقياد اللاحقين في حالتي المخالفة والموافقة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يتمّ القول بكونها ثمرة للملازمة ، للأدلّة الكثيرة الواردة في مقام التجرّي والانقياد شرعا [ كما لا يخفى ](4) لو لم نقل بأنّ التجرّي والانقياد أيضا من فروع الإطاعة والعصيان على ما قد توهّمه بعضهم (5) ، فتدبّر.

ص: 426


1- لم ترد عبارة « في مطاوي كلماتهم ومجاري استدلالاتهم » في ( ش ).
2- في ( ش ) زيادة : « خبر الواحد بناء على كونه من الظنّ الخاصّ ».
3- لم يرد « أيضا » في ( ش ).
4- لم يرد « كما لا يخفى » في ( ش ).
5- انظر تفصيل المسألة في فرائد الأصول 1 : 37 - 50.

تمّ الكلام في أصالة الإباحة ، والسلام على من اتّبع الهدى (1).

ص: 427


1- لم ترد « والسلام على من اتّبع الهدى » في ( ط ) ، وفيها زيادة ما يلي : « تمّ ما أفاده _ قدّس اللّه نفسه الزكيّة _ في مسائل الملازمة وأصالة الإباحة. ثمّ لا يخفى أنّه _ طاب ثراه _ قد خرج من قلمه الشريف ما يتعلّق بمسائل القطع والظنّ ، وما يتعلّق بمسائل البراءة والاستصحاب ، وكذا مسائل التعادل والتراجيح على النحو الأوفى. إلاّ أنّ المسائل المذكورة لمّا برز فيها ما أفاده بلا واسطة شيخه وأستاذه بل أستاذ الكلّ الشيخ مرتضى الأنصاري _ طيّب اللّه رمسه العالي _ واشتهر في غاية الاشتهار حتّى انحصر في عصرنا بحث المشتغلين في كلّ مجلس فيه أغنانا ذلك عن طبع ما برز منه رحمه اللّه بواسطة صاحب المطارح ، فصرفنا الهمّة من بعد ذلك إلى طبع مسألتي تقليد الميّت وتقليد الأعلم ، فإنّهما أنفع للمشتغلين ».

ص: 428

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الحياة في المفتي

اشارة

ص: 429

ص: 430

هداية

اختلفت كلمات أرباب النظر في اشتراط الحياة في المفتي.

فالمعروف بين أصحابنا الاشتراط.

والمنسوب إلى العامّة عدمه ، بل صرّح في المنهاج (1) بإجماعهم عليه ، حيث قال : جواز تقليد الميّت إجماعيّ في عصرنا.

وهو خيرة الأخباريّين من أصحابنا ، ومنهم أمينهم الأسترآبادي (2) والمحدّث الكاشاني في محكيّ السفينة (3) وفي مفاتيحه ظاهرا (4) والسيّد الجزائري (5) ، ووافقهم المحقّق القمّي (6) من المجتهدين.

وذهب بعضهم الى عدمه (7) مع عدم المجتهد الحيّ ، نقله فخر المحقّقين (8) عن والده واستبعده وحمل كلامه على محلّ آخر. وهو المحكيّ عن

ص: 431


1- لا يوجد لدينا.
2- الفوائد المدنيّة : 149.
3- سفينة النجاة المطبوع ضمن الأصول الأصيلة : 139.
4- مفاتيح الشرائع 2 : 152 ، المفتاح 491.
5- كشف الأسرار 2 : 77 - 92.
6- القوانين 2 : 265 - 273.
7- أي عدم اشتراط الحياة.
8- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، وعنه في الوافية : 300.

الأردبيلي (1) والشيخ سليمان البحراني (2) والشيخ عليّ بن هلال (3).

قلت : ولعلّه ليس تفصيلا في المقام ، فإنّ الكلام - على ما ستعرف - إنّما هو في الجواز عند التمكّن من استعلام حال الواقعة من الحيّ ، وأمّا عند عدمه فلبيان الحكم فيه محلّ آخر ، كما لو انقرض الاجتهاد ، العياذ باللّه.

وذهب الفاضل التوني (4) الى عدم الاشتراط فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ، فإنّه يجوز الأخذ بفتاويهم حيّا وميّتا. وأمّا إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات واللوازم الغير الظاهرة للملزومات فلا يجوز تقليده حيّا وميّتا.

وهو أيضا ليس من التفصيل في هذه المسألة وإنّما ذلك يعدّ تفصيلا في أصل التقليد. فالأولى عدّ الفاضل في عداد نظرائه من الأخباريّين.

ونقل السيّد صدر الدين في محكيّ شرح الوافية (5) عن بعض معاصريه التفصيل بين البدوي والاستمراري ، فلم يقل بالاشتراط في الثاني وقال به في الأوّل.

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب. وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم مقدّمة :

وهي : أنّه لا إشكال في اختلاف الفتوى والرواية في الأحكام واللوازم المترتّبة عليهما. أمّا الرواية المنقولة لفظا فمغايرتها واختلافها للفتوى أمر لا يكاد

ص: 432


1- مجمع الفائدة 7 : 547.
2- حكاه عنهما السيّد الصدر في شرح الوافية :2. 471.
3- حكاه عنهما السيّد الصدر في شرح الوافية :2. 471.
4- الوافية : 307.
5- شرح الوافية : 471.

يستريب فيه العاقل فضلا عن الفاضل. وأمّا المنقولة معنى فهي وإن كانت مفاد اللفظ الصادر عن الإمام عليه السلام لكنّه بشرط العلم أو الظنّ المعتبر بمساواة الألفاظ في الأصل والمنقول في الإفادة ، ولا يجوز التعويل في النقل على أمر قد اعتقده اجتهادا ، والملحوظ فيه إنّما هو بيان المراد من حديث واحد. إلى غير ذلك.

وأمّا الفتوى فهي عبارة عن الإخبار بأحكام اللّه بحسب الاعتقاد ، ومنشأ الاعتقاد إنّما يكون الخبر تارة وغيره تارة أخرى ، فيجوز الفتوى عند توقّفها على إعمال الظنون الاجتهاديّة في الأحاديث الواصلة إلى المجتهد والأخذ بمجامعها وحمل بعضها على بعض. إلى غير ذلك من الاختلافات التي يطّلع بها الخبير المتتبّع بين الفتوى والنقل للرواية معنى.

ومن هنا منع من الفتوى بعض من لم يمنع من الرواية معنى ، بل لعلّ النقل بالمعنى ممّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا ، فإنّ المخالف في هذه المسألة أبو بكر الرازي وأتباعه (1). بخلاف الفتوى ، فإنّ الأخباريّة بأجمعهم على المنع من الإفتاء ، فإنّه فرع الاجتهاد وهم ليسوا من أصحاب الاجتهاد كما هو المعروف من طريقهم. وكلمات جملة منهم ممّن اطلعنا عليها صريحة فيما ذكرنا ، فما يجوز عندهم من الفتوى عبارة عن نقل الحديث بالمعنى ، وما ليس كذلك فلا يجوّزونه ويلحقونه بالقول بالقياس والاستحسان ، ويعتقدون أنّ أرباب الفتاوى - بالمعنى الذي ذكرنا - خرجوا بذلك عمّا هو المأخوذ عن الأئمّة الأطهار ، وزعموا أنّهم في ذلك تبعوا العامّة في العمل بالرأي والاجتهاد المنهيّ عنه والاستحسان.

وليس المقام محلّ إبطال ذلك الزعم ، وإنّما المقصود أنّهم لمّا أرادوا الفرق بين الفتوى والنقل اعتقدوا فساد الأوّل زعما منهم أنّها داخلة في المنهيّ عنه.

ص: 433


1- انظر الإحكام للآمدي 2 : 115.

والكلام في المقام إنّما هو في جواز التقليد بعد الموت في هذه الفتاوى التي لا يقول الأخباري بها حال الحياة أيضا ممّا هي موقوفة على إعمال الاعتقادات في تشخيص مداليل الأدلّة.

ولا كلام لنا في الأخبار المنقولة بالمعنى على وجه لا يختلف الأصل والمنقول إلاّ في العبارة كما في الترجمة بالفارسيّة من مراعاة العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ، فإنّه لا يجوز نقل المطلق بالمقيّد وإن ظنّ الناقل أنّ المراد منه المقيّد ، فإنّ ذلك الظنّ منه اجتهاد لا يكون حجّة إلاّ له. ومن هنا يظهر أنّ خلاف الأخباريّين كما نقلناه ليس واردا في هذا المقام ، على ما عرفت من كلام التوني أيضا.

قال السيّد الجزائري (1) في مقام الاستدلال على ما ذهب إليه من عدم الاشتراط : إنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ومن فوائدها تقريب معاني الأخبار إلى أفهام الناس ؛ لأنّ فيها العامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن ... إلى غير ذلك. وليس كلّ أحد يقدر على بيان هذه الامور من مفادها ، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج إلى البيان وترتيبه على أحسن النظام والاختلاف بينهم مستند إلى اختلاف الأخبار أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة ، حتى لو نقلت تلك الأخبار لكانت موجبة للاختلاف ، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدّثين ، مع أنّ عملهم مقصور على الأخبار المنقولة ، وبالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه والتأليف في الحديث ، انتهى.

ص: 434


1- قاله في بعض رسائله ، ولا توجد لدينا كما قاله القمي أيضا في شرح الوافية ( مخطوط ) : 471 - 472.

ويظهر منه أنّ تجويزهم لذلك ليس إلاّ من جهة أنّ الفتوى عندهم هي الرواية المنقولة بالمعنى على وجه لو اعتقد اختلافهما ما كان يقول بذلك ، كما هو ظاهر من مساق كلامه.

وبالجملة ، أنّ المجتهدين قد خالف طريقتهم طريقة الأخباريّين في العمل بالظنون الاجتهاديّة التي هي منتهية إلى القطع ، والأخباريّون لا يعتقدون العمل بالظنون وإن كان عملهم على خلاف معتقدهم ، فيتخيّلون أنّ الفتوى عبارة عن الرواية المنقولة ، فحسبوا جواز الاعتماد عليها بعد الموت وقبله كالرواية. بخلاف المجتهدين ، فإنّهم يعتقدون الاختلاف بين الرواية والفتوى بما عرفت ، فلا يرون الجواز.

ومن هنا يظهر أيضا : أن لا وجه لاستدلال بعضهم بطريقة السلف ، فإنّهم كانوا يعملون بفتاوى عليّ بن بابويه عند إعواز النصوص ، فإنّ تلك الفتاوى ليست بمنزلة الفتاوى المعمولة عندنا ، فإنّ أمثالها من فتاوى أصحاب الأئمة إنّما هي في الأغلب مضامين الروايات كما يرى الأخباريّون في مطلق الفتاوى ، فهي أخبار منقولة بالمعنى وهي حجّة للمجتهد والمقلّد ، ومن اطّلع على حال السلف وكيفيّة الاستفتاء والإفتاء يقطع بما ذكرنا.

ويكفيك شاهدا في المقام ما قاله العمري بعد ما سئل عنه عن كتب الشلمغاني ، فإنّه قال : أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (1) فإنّه أفتى بنصّ الرواية.

ص: 435


1- كتاب الغيبة : 389 - 390 ، الحديث 355 ، والوسائل 18 : 72 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 79.

وليس ذلك راجعا إلى تفصيل التوني (1) ، فإنّه يعتقد ذلك في الفتاوى الموجودة. وهو خطأ وإنّما ذلك مختصّ في زمان الأئمة وما يقرب منه ، حيث إنّه لم يكن الفقه والاستنباط بهذه الصعوبة ، كما لا يخفى على المطّلع.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا في المقدّمة ، فالذي يدلّ على المختار وجوه :

الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم التي دلّت الأدلّة الأربعة بتمامها عليها ، خرج عنها فتوى الحيّ إجماعا ووفاقا منّا ومن القائلين بعدم الانسداد ، بقي الموارد المشكوكة تحت الأصل ومنها فتوى الميّت. ولا مخرج عن هذا الأصل سوى ما تخيله المجوّز ، وستعرف فساده.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الرجوع إلى الحيّ وفاقيّ ، فإنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم إذا قال بجواز تقليد الميّت لا يحكم بالمساواة بل المقدّم هو الأعلم ولو كان ميّتا.

قلت : إنّ التخيير عند التساوي يلازم التخيير عند الأعلميّة ، لعدم القائل بالتفصيل ؛ مع أنّ القائل بوجوب تقليد الأعلم لا يقول بجواز تقليد الميّت غالبا ، لاتّحاد المناط.

ولا وجه لمنع الفاضل التوني عن عموم الأدلّة الدالّة عليه واختصاصها للاصول (2). كيف! وعمومها ممّا لا ينبغي إنكاره ؛ مع أنّ منع العموم يوجب خللا في أمره وأمر نظرائه من الأخباريّة في موارد كثيرة ، كما لا يخفى.

ص: 436


1- الوافية : 307.
2- الوافية : 304.

وبالجملة فقد قرّرنا في محلّه : أنّ الحجّية متن كانت مشكوكة يجب القول بعدمها ، والمقام منه ، فإنّ قول الميّت مع قول الحيّ مشكوك الحجّيّة والشكّ فيهما كاف في الحكم بعدم الحجّيّة.

وممّا ذكرنا تعرف فساد ما قد يقال : إنّ الأصل الجواز فإنّ ذلك في مقام الشكّ في الحجّيّة ممّا لم يقل به أحد.

الثاني : ظهور الإجماع المحقّق من الطائفة المحقّة. ويمكن الاطّلاع عليه واستعلامه من كلمات أصحابنا الإماميّة في المسألة ، فإنّ نقل الاتّفاق والإجماع فوق حدّ الاستفاضة.

فعن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ بلا خلاف بين علماء الإمامية (1).

وعن المسالك : فقد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيرها باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله. قال : ولم يتحقّق إلى الآن خلاف في ذلك ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور (2).

وقال في محكيّ الرسالة المعمولة في المسألة : تحقّق بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه مخالفا في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع. ثم قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا

ص: 437


1- شرح الألفية ( رسائل المحقق الكركي ) 3 : 176.
2- المسالك 3 : 109.

الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصوليّة والفقهيّة قاطعين بما ذكرنا (1). وادّعى في محكيّ كتاب آداب العلم والتعلّم الإجماع على ذلك (2).

وعن المعالم العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ (3).

وعن شارع النجاة للمحقّق الداماد نفي الخلاف صريحا (4).

وهو الظاهر من العلاّمة في النهاية (5) ، حيث لم يذكر الخلاف بعد الفتوى ، مع أنّ عادته - سيّما في النهاية - على ذكر الخلاف.

وعن ابن أبي جمهور الأحسائي : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ووجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ؛ وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة وبه نطقت مصنّفاتهم الأصولية ، لا أعلم فيه مخالفا منهم (6).

وعن المقدّس الأردبيلي نسبته إلى الأكثر (7).

ولا يدلّ على وجود الخلاف بعد ما علمت من ذهابه إلى التفصيل الذي قد قلنا بأنّه ليس تفصيلا. فالنسبة إلى الأكثر بواسطة خلاف العلاّمة على

ص: 438


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
2- انظر منية المريد : 167.
3- المعالم : 248.
4- شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 10.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 444.
6- راجع « رسالة التقليد » للشيخ الانصاري : 33.
7- مجمع الفائدة 7 : 549.

ما حكاه الفخر (1) والشيخ الجليل عليّ بن هلال (2).

وعن الوحيد البهبهاني في فوائده : أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لا يكون قوله حجّة (3). وقال في موضع آخر : وربّما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة (4).

وقال بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين بعد اختياره ذلك : للإجماع المحقّق (5).

ولعمري! إنّ الإنصاف يقضي بعدم غرابة هذه الدعوى منه بعد ما سمعت كلام الأساطين المتتبّعين الماهرين في البعد (6) والتحصيل. وأمّا ما ذكره الشهيد في الذكرى (7) من خلاف البعض ، فهو كما يراه الشهيد الثاني من أنّ « العلماء » يعمّ العامّة والخاصّة (8) ، وبعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ. وهذا هو الشهيد الثاني فقد نسب القول (9) إلى الأكثر ، مع ما عرفت من ادّعائه الإجماع.

ص: 439


1- حكاه عن الفخر المحقق الثاني في حاشية الشرائع الورقة : 100.
2- انظر شرح الوافية : 471 ، ومناهج الأحكام : 301.
3- انظر الرسائل الفقهية : 7 - 8 و 16.
4- انظر الرسائل الفقهية : 7 - 8 و 16.
5- لعلّه المحقق الكلباسي في الجزء الثاني من إشارات الأصول ، لا يوجد لدينا.
6- كذا ، ولا نعرف القصد من ذلك.
7- الذكرى 1 : 44.
8- رسائل الشهيد الثاني 1 : 47.
9- أي القول بالجواز المنقول عن العامة ، حيث نسبه إلى الأكثر في المنية : 167 ، والمقاصد العلية : 51 - 52.

وبذلك يندفع ما قد يستكشف من العلاّمة الخلاف في التهذيب (1) - على ما حكي - حيث إنّه عبّر أنّ الأقرب كذا ، فإنّ أمثال هذه العبارة لا تنافي الإجماع ، ألا ترى عبارة العلاّمة في متابعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله للشرع السابق ، فإنّه يقول في التهذيب : الأقرب أنّه لم يكن متعبّدا بشرع (2) مع ظهور قيام الضرورة عندنا على عدم المتابعة.

وأمّا مخالفة الأخباريّين فقد عرفت أن ذلك بواسطة تخيّلهم أنّ الجائز من الفتوى لا يفارق النقل بالمعنى ، كما عرفت من كلام السيّد الجزائري (3) ، حيث إنّه صريح فيما ذكرنا. كما أنّ خلاف العامّة أيضا لا ينبغي أن يعدّ خلافا ، لاستقرار طريقتهم على بطلان الاجتهاد الخارج من الأربعة.

وبالجملة ، دعوى الإجماع على عدم الجواز من أصحابنا الإماميّة - سيّما على طريقة الحدس - ليس بعيدا. ومجرّد كون المسألة رباعيّة الأقوال لا ينافي الإجماع بعد ما عرفت من رجوع التفصيل إلى المنع كما في تفصيل العلاّمة (4) وإلى الجواز كما في تفصيل التوني (5) وكون القول الآخر للعامّة.

فما يظهر من بعض عوام الأخباريّة تقليدا لبعض الآخر منهم : من أنّه أين الإجماع في مثل المسألة؟ ممّا لا يصغى إليه ، لا سيّما بعد اعتراف بعض الأعاظم (6)

ص: 440


1- تهذيب الوصول : 289.
2- تهذيب الوصول : 178.
3- راجع الصفحة : 434.
4- راجع الصفحة : 432.
5- راجع الصفحة : 432.
6- لعل المراد منه الشهيد الثاني في كلامه المحكي عن الرسالة كما تقدم في الصفحة : 437.

بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط.

ولو سلّمنا عدم حصول القطع بالحكم على وجه يقطع في الموارد الإجماعيّة فيكفي في المسألة هذه الإجماعات المنقولة مع الشهرة المحقّقة قطعا ، فإنّ المسألة يكفي فيها ما يكفي في المسائل الفرعيّة ، لكونها ملحقا بها ، لاشتراكها معها فيما هو الخاصّة للمسائل الفرعيّة ، وهو أنّ المقلّد يعمل بها بعد أخذها من المفتي من دون حاجة إلى مقدّمة أخرى ، فهو ينتفع من المسألة لو كانت معلومة.

ولو سلّم كونها من المسائل الأصوليّة - كما يظهر من المحقّق القمّي (1) - فلا نسلّم أنّ الظنّ لا يكفي في الأصول بعد دلالة الدليل على اعتباره فيما إذا كان من الظنون الخاصّة. وأمّا الظنون المطلقة فقد حقّقنا في محلّه أنّها غير مختصّة بالفروع ، فإنّ قضيّة الانسداد هو لزوم تحصيل الظنّ بفراغ الذمّة الحاصل بالعمل بالظنّ في نفس الحكم الشرعي أو في المسألة الأصوليّة.

ولو سلّمنا عدم كفاية الظنّ في الأصول ، فنقول : إنّ هذه الإجماعات يستكشف منها - على وجه لا ينبغي الارتياب فيه - أنّ عند المجمعين دليلا معتبرا يدلّ على ذلك. وذلك يكفي في المقام ، إذ لا يلزم أن يكون الدليل معلوما على وجه التفصيل ، بل يكفي وجوده ولو إجمالا.

والعجم من القائلين بالظنون المطلقة كيف ساغ لهم ترك التعويل على مثل هذه الإجماعات في هذه المسألة مع أنّهم يكتفون في الفروع بما هو أدنى من ذلك!

ص: 441


1- القوانين 2 : 405.

الثالث : ما احتجّ به ثاني المحقّقين في حاشية الشرائع (1) - تبعا للعلاّمة (2) - وهو أنّ المفتي إذا مات سقط قوله بموته بحيث لا يعتدّ به ، وما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

أمّا الأولى فللإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع انعقاد الإجماع ؛ اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد الإجماع وصار قوله غير منظور إليه شرعا ولا معتدّا به.

أمّا الثانية فظاهرة.

ثم أورد على نفسه اعتراضا بقوله : إنّما انعقد الإجماع بموت الفقيه المخالف ، لأنّ حجّيّة الإجماع إنّما هي بدخول المعصوم في أهل العصر من أهل الحلّ والعقد ، وبموت الفقيه المخالف في الفرض يتبيّن أنّه غير الإمام ، فتعيّن دخول الإمام في الباقين ، ومن ثمّ انعقد الإجماع بموته ، ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى للميّت قول شرعا.

فأجاب عنه : بأنّه على هذا يلزم من موت الفقيه المخالف انكشاف خطأ قوله ، فلا يجوز العمل حينئذ من هذا الوجه (3).

أقول : وليس هذه الحجّة ممّا يعوّل عليها.

أمّا أوّلا : فلاختصاصها بما إذا كان قول الميّت مخالفا لأقوال معاصريه في حال حياته ، فإنّ انكشاف خطأ قوله بعد موته إنّما يكون فيما إذا كان جميع أهل عصره مخالفا له حتّى ينعقد الإجماع بعد موته على خلافه فيكشف عن خطأ قوله.

ص: 442


1- حاشية الشرائع ، الورقة : 99.
2- انظر نهاية الوصول : 444.
3- حاشية الشرائع : 99.

وأمّا إذا كان أهل عصره مختلفين في الفتوى فلا دليل على خطأ قوله ، إذ المفروض أنّ الموت لم يثبت كونه مبطلا لقوله ، وإنّما اتّفق كشف الموت عن بطلان قوله في الفرض السابق باعتبار تحقّق الإجماع وانعقاده على خلاف فتوى الميّت ، فيختصّ بصورة الكشف. بل وذلك ممّا لا كلام فيه ، حتّى أنّ الحيّ لو فرض كشف خطائه في فتواه ، فلا يجوز تقليده.

ومن هنا يظهر : أنّه لا سبيل إلى التمسّك بالإجماع المركّب في إتمام الدليل ، فإنّه لا مسرح له فيما إذا كان الحكم مستفادا من علّة معلوم الانتفاء في الطرف الآخر. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ تقليد الميّت تظهر الثمرة فيه فيما إذا لم يكن فتواه مطابقا لأحد من الأحياء ، إذ على تقدير المطابقة فلا تظهر الثمرة إلاّ على القول بلزوم تعيين المفتي في التقليد. ولعلّه لا دليل على التعيين عند مطابقة العمل للواقع ، فيقرّر الدليل حينئذ : بأنّ الأخذ بقول الموتى إذا كان موافقا لأقوال الأحياء ولو واحدا منهم فلا كلام فيه ، إذ ليس ذلك اعتمادا على الميّت ، لعدم دليل على التعيين ، وإذا لم يكن موافقا فهو خلاف الإجماع ، إمّا بسيطا كما إذا كان الكلّ على خلافه مع اتّفاقهم ، أو مركّبا (1) كما إذا كان أقوالهم مع اختلافها مخالفة له.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره مبنيّ على طريقة خاصّة في الإجماع يظهر ممّا ذكره فخر المحقّقين في بعض الفروع وغيره ، ولعلّها قريبة من طريقة اللطف في الإجماع ، ولذلك يمنع عن تحقّق الإجماع خلاف الواحد وينعقد بعد ارتفاع الخلاف. وهذه الطريقة ممّا لا دليل يقضي بها - كما هو المحرّر في محلّه -

ص: 443


1- في هامش المطبوع ما يلي : مبنيّ على القول بتحقّق الإجماع المركّب على هذه الطريقة بمجرّد انحصار القول في الموجودين ، منه رحمه اللّه.

بل المختار في الإجماع هو الوجه الذي لا ينافي فيه خلاف البعض ولا يحصل بالاجتماع أيضا.

لا يقال : إنّ الاحتجاج إنّما هو في قبال العامّة وهم يعتبرون في الإجماع الاجتماع ولا ينعقد مع مخالفة البعض ، ويدلّ على ذلك : أنّ المستدلّ يعتقد عدم الخلاف بين أصحابنا في ذلك.

لأنّا نقول : إنّه صرّح في الجواب عن الاعتراض : بأنّ الكلام إنّما هو في الإجماع على طريقة الإماميّة ، فراجعه (1).

واعترض في الوافية على الحجّة المذكورة بقوله : بأنّه منتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل ، وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر (2) ، انتهى.

أقول : إمّا أن يكون مراد المستدلّ إبطال قول الميّت بموته بواسطة إمكان انعقاد الإجماع على خلافه بعد موته ، بخلاف قبل الموت ، فإنّه لا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه اعتدادا بقوله كما هو صريح الاستدلال قبل الاعتراض. وإمّا أن يكون مراده إبطال قول الميّت بواسطة كونه على خلاف الإجماع ، كما هو ظاهر الجواب عن الاعتراض. وعلى التقديرين لا وجه للنقض بمعلوم النسب.

أمّا على الأوّل : فلأن مفروض المستدلّ أنّ خلاف الواحد مضرّ في حصول الإجماع ولو كان معلوم النسب ، فلا يمكن انعقاد الإجماع على خلافه حتّى يقال : بأنّ اللازم من الدليل المذكور عدم الاعتداد بقول معلوم النسب أيضا ، لإمكان انعقاد الإجماع على خلافه.

ص: 444


1- انظر حاشية الشرائع : 99.
2- الوافية : 301.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مناط الفساد إنّما هو ظهور بطلان القول ، فإن فرض وجود المناط في قول معلوم النسب فهو أيضا باطل ولا ينافي المطلوب. وإن لم يكن المناط موجودا فلا وجه للنقض ، لعدم الاشتراك حينئذ.

وأمّا ما أورده من حديث الجرح والتعديل وقبول شهادته بعد الموت ، فان أراد المعارضة بنفس قبول الشهادة مع قطع النظر عن إعمال فتواه في الشهادة ، فعلى التقريب الثاني فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، وعلى الأوّل فالفرق بين الشهادة والفتوى هو : أنّ المناط في الشهادة موجود بعد الموت مثل الرواية ، بخلاف الفتوى ، فإنّ الكلام في ذلك.

وإن أراد أنّ قبول شهادته يوجب الاعتماد على قوله في عدد الكبائر وفيما هو مناط التعديل من الملكة وحسن الظاهر إلى غير ذلك من الامور الاجتهاديّة ، ففيه : أنّ التعويل على شهادته في الجرح والتعديل ليس اعتمادا على مذهبه في عدد الكبائر ، بل إنّما هو بواسطة أنّ الألفاظ الواردة في مقام الشهادة تحمل على الواقع من غير ملاحظة مذهب الشاهد. نعم ، لو علم أنّ الجرح إنّما هو بواسطة شيء مبنيّ على مذهبه فعند المخالفة لمذهب المجتهد لا نسلّم وجوب الأخذ بشهادته في الجرح والتعديل.

ثمّ إنّ بعض الأجلّة اعترض على الدليل - بعد النقض بمعلوم النسب - : أنّ عدم الاعتداد بقوله في تحقّق الإجماع لا يلازم عدم الاعتداد به في مقام التقليد (1).

وفيه : أنّه لا مساس له بكلام المستدلّ على الثاني ، وعلى الأوّل فيمكن ادّعاء الأولويّة أو عدم القول بالفصل ، فتأمل.

ص: 445


1- الفصول : 421.

الرابع : أنّ الحجّة في حقّ المجتهد والمقلّد أمر واحد ، فإنّه نائب عنه في فهم النتائج المستفادة من الأدلّة التي هي موارد التقليد والبناء على القواعد والفحص عن المعارضات والترجيح بينها ، ومن المعلوم أنّ المعتبر في حقّ المقلّد ليس قوله وفتواه ، بل إنّما هو سبيل في الوصول إلى ما هو المعتبر في حقّه وهو فهمه وظنّه ، والإدراكات المتعلّقة بالقوى المتعلّقة بالبدن لا تبقى بعد خراب البدن ، فيرتفع ما هو الحجّة بعد الموت ، فلا وجه للاعتماد على قول الميّت وهو المطلوب.

أمّا المقدّمة الأولى - وهي اتّحاد الحجّة - فظاهرة ، فإنّ مجرّد القول ولو عند انتفاء الظنّ وزواله بواسطة زوال الملكة لهرم أو نحوه لا يكون مناطا لعمل المقلّد ، بل لا بدّ من مقارنته للظنّ الفعلي في حقّه. بل لو اطّلع على ظنّ المجتهد بدون توسّط القول كان ذلك حجّة له ومناطا لعمله. ولا ينافي ذلك عدم الالتفات إليه بواسطة عروض غفلة وذهول حاصل حال الإغماء والنوم ونحوه ، لوجود الظنّ في تلك الحالة في الخزانة.

وأمّا المقدّمة الثانية : فاستدلّ الوحيد البهبهاني عليها : بأنّ الظنّ هي الصورة الحاصلة في الذهن ، ولا يبقى تلك الصورة حال النزع لشدّتها وكثرة الاضطراب الواقع فيها ، بل ولا تبقى حال النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه (1)!

أقول : وهذا الاستدلال مبنيّ على أن يكون الذهن جزءا من البدن ويكون الصورة العلميّة محفوظة فيه على وجه لو حاول النفس إدراك تلك الصورة والالتفات إليها كان الذهن وسيلة في نيلها إليها. وهو غير معلوم لا وجدانا ولا

ص: 446


1- الرسائل الفقهيّة : 15.

برهانا ، بل المعقول عندنا هو : أنّ الذهن قوّة من قوى النفس الناطقة بها يدرك المعلومات ، وليس من أجزاء البدن ، فخراب البدن وانقطاع الروح منه لا يلازم ارتفاع الصور العلميّة ؛ ولا نضايق من القول بأنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري له دخل في حصول الإدراكات والملكات في هذه النشأة ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب القول بزوال تلك الإدراكات عند انخلاع النفس وخروجها من البدن ، إذ يحتمل أن يكون ذلك معدّا وانتفاء المعدّ لا يوجب انتفاء المعلول ، كيف! والقول به على وجه الإطلاق يوجب القول بما لا أظنّ أن يلتزم به أحد ، وهو زوال الصور العلميّة الثابتة للنفس في هذه النشأة ، مع أنّ المقصود الأصليّ من الإيجاد ربما يكون تحلية النفس بالصور العلمية من المعارف والاعتقادات الحقّة ، فإنّها كمال لقوّتيها - النظريّة والعمليّة -.

أمّا الأولى ، فظاهر. وأمّا الثانية ، فلأنّ تحصيل الملكات الفاضلة وتجريد النفس عن الصفات الرذيلة موقوف على الصور العلميّة ، كما لا يخفى. ولو سلّم فتلك الملكات أيضا في عرض الصور العلميّة ، فإنّها أيضا من الأعراض الحالّة في الحيوان الناطق في الظاهر ، فانقطاع الروح كما يقضي بارتفاع الأولى يقضي بارتفاع الثانية أيضا ، مع أنّ ذلك ظاهر الفساد.

اللّهم بالقول بالفرق بين الظنون الحاصلة من النظر والعلوم التي يقتضيها الفطريّة الإلهيّة التي فطره اللّه عليها. وهو كما ترى لا يساعده دليل ولا يوافقه اعتبار ، فإنّ النفوس الإنسانيّة في بدو الفطرة قبل حدوث العلقة بينها وبين أبدانها - كما صرّح به غير واحد من أرباب المعقول والمنقول (1) ونطقت به الآثار

ص: 447


1- راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 231 وشرح المنظومة : 303.

المعصوميّة (1) - خالية عن جميع الصور العلميّة ، ضروريّة كانت أو نظريّة علميّة أو ظنيّة ، ثمّ بواسطة قواها الظاهرة والباطنة يتحلّى بالعلوم الأوّليّة المستتبعة للعلوم النظريّة إلى أن يصل إلى حدّ يكون في ذلك الحدّ عقلا بالفعل ، فكلّ العلوم التي افيض عليها من المبدأ الفيّاض إنّما هي حادثة بعد تعلّق النفوس بالأبدان في هذه النشأة ؛ ولهذا كانت مزرعة للنشأة الآخرة.

وبالجملة ، فنحن لا نسلّم أنّ محالّ هذه الأعراض هي الأجسام الحيوانيّة بل يحتمل احتمالا قويّا أن يكون النفس محلاّ لها ، والمفروض بقاء النفس بعد خراب البدن ، فلا يلزم بقاء العرض مع ارتفاع الموضوع وهو الحيوان الناطق ، فعلى المستدلّ إقامة دليل على ذلك. ولا ينافي ما ذكرنا أن يكون للآلات الجسمانيّة مدخل في حصولها على وجه الإعداد ، غاية الأمر عدم حصولها بعد الموت ، وأين ذلك من زوال الحاصل؟ فلا أقلّ من الشكّ في بقاء تلك الصور ، والأصل قاض ببقائها.

وقد يظهر من بعضهم دعوى زوال الظنّ بعد الموت لا بواسطة أنّ الموت يوجب خراب البدن ، بل بواسطة كشف حجاب النفس عن الواقع واطّلاعها على اللوح المحفوظ بعد الموت. وهو الظاهر من المحقّق الداماد رحمه اللّه في توجيه كلام جدّه المحقّق الثاني حيث أراد السيّد دفع الاستصحاب القاضي بالبقاء ، حيث قال : إنّ الظنّ لمّا جاز أن يكون مخالفا للواقع والموت الجسماني الذي حقيقته انقطاع النفس عن البدن ورجوعها إلى عالم الملكوت الذي هو ميقات حقيقة الحقّ وانكشاف بطلان الباطل ، فيمكن أن يتحقّق به انكشاف خطأ ظنّه الذي كان

ص: 448


1- منها قوله تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) ، النحل : 78. وراجع الميزان 12 : 312.

حاصلا في الحكم في هذه النشأة ، فلا يبقى اعتقاده القائم بنفسه الذي وجب اتّباعه ، فاستصحاب بقاء الظنّ الحاصل له في الحياة بنحو حصوله فيها غير معقول ، إذ من شرائط الاستصحاب بقاء الموضوع على حاله ، فقياس حال الموت بحال الحياة غلط ناش عن عدم البصيرة (1) ، انتهى.

وظاهره تسليم أنّ الظنّ يمكن بقاؤه بعد الموت وإنّما يناقش في جريان الاستصحاب بواسطة احتمال انقلابه إلى خلافه لاحتمال مخالفته للواقع. وهذا الاحتمال لا يجدي في العلوم المطابقة للواقع والمعارف الحقّة ، كما هو ظاهر.

ثم إنّ ما ذكره إلى آخره لا ينهض بدفع الاستصحاب ، فإنّ مجرّد إمكان انقلاب الظنّ بخلافه لا يكون موجبا لعدم جريان الاستصحاب ، بل هو محقّق لجريانه كما لا يخفى. والقول : بأنّ الموت يوجب زوال الظنّ قطعا إمّا بواسطة كونه مخالفا للواقع وإمّا بواسطة انقلابه علما مطابقا للظنّ فلا يجري الاستصحاب مبنيّ على عدم جريان الاستصحاب في الأمور المختلفة شدّة وضعفا كالسواد المردّد بين انقلابه بياضا أو اشتداده ، والظاهر مساعدة العرف على جريان الاستصحاب في مثل المقام وإن كان الوجه عدم جريانه بملاحظة الدقّة.

إلاّ أنّه مع ذلك لا وجه للاستصحاب في المقام ، فإنّ جواز التقليد ربما يقال مترتّب على الظنون الحاصلة للمجتهد في حال الحياة ولم يدلّ دليل على جواز الرجوع إلى ظنّ المجتهد ولو كان باقيا بعد الموت.

وتوضيحه : أنّ جريان الاستصحاب في الظنّ باعتبار مطلق الاعتقاد الحاصل في ضمن العلم أو الظنّ إنّما يثمر في جواز التقليد بعد الموت فيما لو كان جواز التقليد ثابتا لمطلق الاعتقاد ، وليس كذلك ، بل المعلوم إنّما هو ثبوته للظنّ

ص: 449


1- انتهى ما قاله الميرداماد ، انظر شارع النجاة ، المطبوع ضمن ( اثني عشر رسالة ) : 10 - 11.

الحاصل حال الحياة بشرط بقائها ، فإنّ الوجه في المنع هو عدم العلم بالجواز فيما عدا الظنّ الحاصل في زمان الحياة ، بل ولو فرض بقاء الظنّ بعينه بعد الموت ما كنّا نقول بجواز اتّباعه كما عرفت في تقرير الأصل.

ثم إنّه ربما يستدلّ أيضا على ارتفاع الظنّ بعد الموت : بأنّ الإدراك إنّما هو من مقتضيات الصفراء ، وبعد الموت ترتفع جميع الأخلاط.

وهو على تقدير تسليمه لا يقضي بارتفاع الإدراك الحاصل وإنّما يقضي بعدم حصوله بعد ارتفاع ما يقضي به.

وقد يدّعى بداهة عدم بقاء الظنّ وزواله بعد الموت كما هو الظاهر من الوحيد البهبهاني رحمه اللّه (1).

ولعلّ مراده : أنّ من المشاهد المحسوس صيرورة العالم عاميا بعد اندراس علومه وانطماس ملكته بواسطة الهرم والكبر الموجبين لضعف القوى الحيوانيّة سواء كانت من القوى الإدراكيّة أو غيرها ، فكلّما يتزايد الهرم فيه يزداد الضعف في قواه إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على الكسب ، ثم يزداد إلى أن يصل إلى حدّ لا يقدر على حفظ مدركاته في السابق ، وكلّ ذلك بواسطة اختلال يقع في البدن ، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (2) فلو لا أنّ القوى الجسمانيّة التي ترتفع بعد الموت قطعا لها مدخل في الصور العلميّة حدوثا وبقاء لا معنى لزوال تلك الصورة بعد حدوث الضعف في تلك القوى. وتوضح ذلك ملاحظة حال من اختلّ دماغه بواسطة حدوث حادثة في هامّته كالضرب الشديد مثلا ، فإنّه يختلّ إدراكه ومدركاته أيضا.

ص: 450


1- انظر الرسائل الفقهية : 9 - 10.
2- النحل : 70.

وبالجملة ، فمدخليّة الأمور الجسمانيّة في حدوث الإدراك وبقائه على الوجه المذكور ظاهر ، إلاّ أنّه مع ذلك لا نجد من أنفسنا الحكم بارتفاع الصور العلميّة بعد الموت بعد ما عرفت من الأمارات المقتضية للبقاء ، فتدبّر.

ثمّ إنّه قد استدلّ المحقّق الثاني بما يقرب من الوجه المذكور ، وهو : أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظنّ الحاصل معها ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند فيخرج عن كونه معتبرا شرعا (1).

وتوضيحه : أنّ الأمارات الظنّية بنفسها لا تستلزم النتائج ، وإلاّ لكانت أدلّة ، فلا يجوز التعويل عليها ما لم يقترن معها ظنّ الفقيه على وجه الاستدامة الحكميّة كما في حال النوم والغفلة ؛ ولهذا لا يجوز العمل بها لمن لم يبلغ درجة الفقاهة ولا له بعد زوال ظنّه وتبدّله إلى نقيضه ، فالمعتبر حقيقة هو ظن الفقيه الحاصل من الأمارة ، ويمنع بقاء الظنّ بعد الموت.

واعترض عليه في الوافية (2) - بعد تسلّم زوال الاعتقادات - بمنع خلوّ الحكم عن السند ، قال : وهل هذا إلاّ عين المتنازع فيه؟ إذ نقول : إذا حصل للمجتهد العلم أو الظنّ بالحكم من دليل أو أمارة اقترن به علمه أو ظنّه فلم لا يجوز العمل بذلك الحكم؟

وحاصله : أنّه لا دليل على استدامة مقارنة الظنّ للحكم ، لم لا يكتفى باقترانه له في الجملة في حال الحياة؟ فدعوى لزوم المقارنة الدائميّة في مرتبة نفس المدّعى أو عينه.

ص: 451


1- حاشية الشرائع : 99.
2- الوافية : 302 - 303.

أقول : لا إشكال في أنّ القدر المعلوم حجّيته - على ما قلنا في تقرير الأصل - هو الظنّ على الوجه الّذي أفاده المحقّق الثاني فإنّه على تقدير البقاء أيضا قلنا : بأنّه ليس مناطا للعمل ، لكونه مشكوكا فيه. وعلى هذا التقرير لا وجه للمنع المذكور ، فإنّ من يقول بخلافه لا بدّ له من إقامة الدليل ، فإنّه موافق للأصل. لكن الكلام في إتمام هذا الدليل مع قطع النظر عن الأصل على وجه لو كان الأصل بخلاف ذلك يكون كافيا في قطع الأصل ، فاعتراض الفاضل التوني في محلّه كما هو قضيّة الإنصاف.

الخامس : ما استند إليه المحقّق المذكور ، وهو أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل هذا العصر عليهما بالنسبة إلى الأعصر السابقة كاد أن يكون ممتنعا (1).

أقول : إنّ معرفة الأعلم في السابقين ليس بأشكل من معرفته في الموجودين ، بل لعلّه أسهل. وعلى تقدير ذلك لا دليل على ثبوته فيكون ساقطا ، لامتناع التكليف بما لا يطاق ، وعلى تقدير السقوط لا يدلّ على عدم جواز تقليد الميّت.

والأولى أن يقال : إنّ وجوب تقليد الأعلم مع جواز تقليد الميّت يوجب عدم جواز تقليد الأحياء في الغالب ، إذ قلّ ما يتّفق أن يعلم بالأعلميّة في الأحياء حتى بالنسبة إلى الأموات ، فالإجماع على وجوب تقليد الأعلم في الأحياء دليل على أنّ الأموات لا عبرة بأقوالهم.

ص: 452


1- حاشية الشرائع : 99.

قال الشهيد (1) في رسالته المعمولة في المسألة : لو صحّ جواز تقليد الميّت يلزم من ذلك التزام شنيع ، وهو أنّه يتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأعلم من الأحياء والأموات عملا بما قرّرناه من القاعدة ، فلو فرض مجتهد حيّ يعلم قصور رتبته عن بعض من سلف من الفقهاء الأموات ولكن ليس في العصر سواه أو فيه غيره ولكنّه أعلم الأحياء ، يلزم على هذا عدم جواز الرجوع إليه والأخذ بقوله ، لوجوب تقليد الأعلم والفرض أنّ بعض الأموات أعلم منه وأنّ قولهم معتبر ، وهذا خلاف الإجماع.

لا يقال : هذا الفرض منفيّ بالإجماع على خلافه ، فبقي الكلام فيما لا إجماع عليه ، فإنّ مثل ذلك كاف في تخصيص العامّ والتمسّك بما عدا المخرج بالدليل.

لأنّا نقول : هذا باطل محال لزم من جواز تقليد الميّت من حيث اتّفق أو على وجه مخصوص ، وكلّ حكم لزم منه [ المحال ] فهو محال ، فيكون جواز تقليد الميّت على ذلك الوجه محالا ، وبه يتمّ المطلوب (2).

أقول : لمانع أن يمنع لزوم ذلك من تقليد الميّت ، فلعلّه ناش من لزوم تقليد الأعلم ، إلاّ أنّه خلاف الإنصاف ؛ لأنّ وجوب تقليد الأعلم عندهم مفروغ عنه ، فالإجماع المحكيّ على وجوب تقليد الأعلم لا بدّ من تخصيصه بالأحياء على وجه يظهر منه عدم الاعتداد بتقليد الأموات ، فيكون هذا الإجماع مثل الاجماعات المنقولة على عدم جواز تقليد الميّت ، إلاّ أنهما مختلفان بالصراحة والظهور.

ص: 453


1- أي الشهيد الثاني.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 40.

السادس : ما تمسّك به المحقّق المذكور أيضا (1) : من أنّ المجتهد إذا تغيّر اجتهاده وجب العمل بالآخر ولا يعلم الأخير في الميّت.

وفيه : أنّه إن اريد أنّه لا يمكن العلم بالتقديم والتأخير في الميّت على وجه الإطلاق فهو غير سديد ، ضرورة إمكان العلم بذلك في كثير من الموارد ، كما أنّه إذا علم تأخير تأليف الكتاب الموجود فيه الفتوى ونحوه. وإن اريد أنّه قد لا يمكن ذلك فهو لا ينهض مانعا من التقليد ، فإنّ الحيّ قد لا يمكن العلم بذلك في فتواه أيضا. وطريق الحلّ فيهما واحد ، وهو عند عدم إمكان العلم أو ما يقوم مقامه بالتعيين إمّا أن يكون متمكّنا من الرجوع إلى فتوى لا معارض لها من ذلك المفتي فلا بدّ من الرجوع إليه ، وإلاّ كان مخيّرا بحكم العقل.

ومنه يظهر الجواب عمّا أورده الشهيد الثاني رحمه اللّه : من أنّ كثيرا من الفتاوى المنقولة من الكتب غير مستند إلى أحد من المجتهدين فلعلّ المفتي بها ليس مجتهدا (2) ؛ فإنّ انحصار المانع في أمثال هذه الموانع دليل على الجواز على تقدير تسليم وجودها ؛ مع أنّ الظاهر أنّ أحدا من أرباب الكتب المتداولة لا ينسبون القول إلى من ليس مجتهدا.

لا يقال : إنّ تعيين المفتي من الشروط ، لأنّا نقول : لا دليل على ذلك كما يبيّن في محلّه.

ثم إنّهم قد ذكروا وجوها أخر كلّها مزيّفة. والعمدة في المقام هو الوجهان المقدّمان ، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

ص: 454


1- حاشية الشرائع : 99.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 28.

هداية

في ذكر احتجاج المجوّزين :

وهي كثيرة لا تحصى ، أقواها أمور ، منها : العقل والكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الأول فتقريره من وجوه :

أحدها : ما عوّل عليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (1) ومحصّله : أنّ رجوع العامي إلى المجتهد ليس تعبّدا كما يومئ إليه تعليلهم في وجوب الأخذ بالأعلم بأنّ الظنّ في طرفه أقوى ، مضافا إلى أنّه لا دليل على التعبّد. أمّا السيرة والإجماع فلا جدوى فيهما. أمّا الأولى ، فلأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا وعملهم إنّما هو بعلمهم. وأمّا الإجماع فهو موهون بذهاب فقهاء حلب على وجوب الاجتهاد عينا (2) وإنكار جملة من أصحابنا الأخباريّين للتقليد (3) ممّا لا يقبل الإنكار ، فأين الإجماع؟ بل التقليد اعتباره في حقّ العامي إنّما هو بواسطة الظنّ الثابت اعتباره بعد الانسداد على وجه العموم والكلّية بالبرهان العقلي ، ولا فرق بين الظنّ الحاصل من قول الحيّ وغيره ، كما هو قضيّة ضرورة العقل ، فمناط

ص: 455


1- القوانين 2 : 270.
2- كابن زهرة في الغنية 2 : 414 ، وابي الصلاح في الكافي : 511.
3- انظر هداية الأبرار : 203 - 204 ، والفوائد المدنيّة : 40 ، وانظر مفاتيح الأصول : 589 أيضا.

العمل بقول الحيّ موجود في قول الميّت ، بل ربما يكون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى. وبالجملة ، فلا فرق بين المجتهد والمقلّد في جواز العمل بالظن ، فإنّ المسوّغ للمجتهد هو موجود بعينه في حقّ المقلّد ، فلو دار أمره في الفروع بين حيّ وميّت وحصل له الرجحان في أنّ متابعة ذلك الميّت أقرب إلى حكم اللّه يجب اتّباعه ، بل وكيف يجوز للعالم الذي لا يجوّز ذلك منعه عنه إذا لم يحصل من قوله الظنّ بعدم الجواز؟ وعلى تقدير حصوله فلا يوجب ارتفاع الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فيدور الأمر بينهما. ومن هنا يظهر : أنّه لا وجه للقول : بأنّ الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة كلّ منهما أمارة ظنّية على عدم جواز الاعتماد على الميّت في الفروع ، إذ بعد تسليم إمكان انعقاد الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تكن متداولة في زمان المعصوم وإفادة المنقول منه - كالشهرة - الظنّ لا ترجيح لهذا الظنّ بالنسبة إلى الظنّ الحاصل في المسألة الفرعيّة لو لم نقل بأنّ الظنّ بالواقع أقوى ؛ لأنّ المقصود هو الوصول إلى الواقع.

أقول : فيه وجوه من النظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ منع السيرة استنادا إلى انفتاح باب العلم في حقّ الموجودين في زمان الأئمّة عليهم السلام ممّا لا يصغى إليه ، فإنّه إن أراد من الانفتاح إمكان الوصول لهم إلى الأحكام الواقعية علما فهو ممّا لا سبيل إلى إثباته بل المنصف يقطع بخلافه ضرورة. وإن أراد ما هو الأعمّ من العلم ومن الأمارة المعلومة الاعتبار فهو حقّ ، لكنّه ينهدم معه بنيان الكلام ، إذ ليست تلك الأمارة إلاّ قول العالم للجاهل وفتواه في غير مورد الرواية المنقولة لفظا ومعنى.

وأمّا منع الإجماع بخلاف الحلبيّين والأخباريّين فليس في محلّه ، لانقطاع الأوّل ، وقد عرفت أنّ إنكار الأخباريّ إنّما هو بواسطة حسبانه أنّ الفتوى أمر

ص: 456

مغاير لما هو جائز عنده ، ولذلك لو لم يكن الفتوى مبنيّة على الأنظار الدقيقة التي ما جعل اللّه لهم في ذلك حظّا ونصيبا لا نراهم مانعين منه.

وبالجملة ، فجواز تقليد العاميّ في الجملة معلوم بالضرورة للعاميّ وغيره ، وليس علم العاميّ بوجوب الصلاة في الجملة أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتّحاد طريقهما في حصول العلم من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي عليه واستقرار طريقة السلف المعاصرين للأئمة عليهم السلام والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا ، وذلك ظاهر جدّا لمن تدبّر.

هذا بالنسبة إلى أصل مشروعيّة التقليد وعلم المقلّد بوجوبه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّات التقليد : من أنّه هل يجب تقليد الحيّ أو الميّت أو الأخباريّ أو الاصوليّ إلى غير ذلك من الامور المختلف فيها ، فإمّا أن يكون ذلك العاميّ مرجّحا لأحدهما بواسطة اجتهاده في هذه المسألة على وجه اطمأنّ بأنّه هو الواقع في حقّه فلا كلام ، وإلاّ فإن لم يلتفت إلى ما هو القدر المتيقّن وتردّد بين الخصوصيّتين فحكمه التخيير عنده لو لم يسأل عن حاله في حال التردّد عن المجتهد مع عدم التفاته إلى وجوب السؤال ، وإن سأل فالمجتهد يفتيه بما هو الواقع عنده. وإن التفت إلى ما هو القدر المتيقّن

فعقله من باب الاحتياط يهديه ويرشده إلى الأخذ بالقدر المتيقّن.

فعقد المسألة إنّما هو لبيان تكليف المقلّد لو التفت إلى جهله في هذه المسألة مع عدم طريق ظاهريّ له فيها وسأل عن المجتهد. وإلاّ فالمقلّد لا مناص له من الرجوع إلى الحيّ فيما لو علم الاختلاف بين العلماء وتردّد بين الخصوصيّتين مع التفاته بالقدر المتيقّن ووجوب السؤال كما هو الحال في الأغلب. ولا ينافي ذلك فيما لو رجع إلى المفتي الواجد للمشكوك فيه وأفتاه بكفاية الفاقد للشرط ،

ص: 457

فإنّه بعد ما صار (1) عالما بواقع المسألة ، بل هداية العقل له إلى الواجد إنّما هو طريق ظاهري علاجا للشكّ في نفس الواقعة دفعا لما يلزم عليه الدور فيما لو رجع إلى الفاقد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ القول بمساواة المجتهد والمقلّد في أمثال زماننا الذي يتوقّف الاستنباط على مقدّمات لا ينال إليها إلاّ الأوحديّ من الناس يكاد يلحق بإنكار الضروريّات ، كيف! لو كانا متساويين لزم على المقلّد تحصيل الظنّ بعدم المعارض ، كالمجتهد ، فإنّ مناط العمل بالظنّ فيهما هو الدليل العقلي ، وهو لا يقتضي حجّيّة الظنّ مطلقا ولو كان قبل الفحص ، فإن قلت بوجوب الفحص فيهما يلزم منه تفسيق عامّة المقلّدين ، وإن قلت بعدمه فيهما فهو مخالف لما اعترف به الكلّ. وإن قلت بالفرق بينهما بواسطة الإجماع على العدم في المقلّد والوجوب في غيره ، قلنا : لعلّ اتّفاقهم على العدم بواسطة اعتقادهم أنّ العاميّ لا يقاس حاله بحال المجتهد لانفتاح باب العلم الشرعيّ في حقّه وهو الفتوى.

والإنصاف : أن القول بأن التقليد من باب الدليل العقلي في غاية الركاكة ، لأنّ هذا الدليل العقليّ وإن لم نقل بلزوم الاطّلاع على تفاصيل مقدّماته - كما أورده بعض الأفاضل (2) - وقلنا بأنّ مقدّماته ثابتة في الواقع ، فلا ينافي اعتقاد بعض العلماء خلافها ، فإنّ ذلك غير ضائر فيما هو الواقع كما أورده المورد المذكور ممّا ليس مستندا للعاميّ في عمله ورجوعه إلى المفتي ، فإنّ الداعي إلى ذلك ليس إلاّ ما هو المفطور في جميع الناس من رجوع الجاهل إلى العالم ، وذلك

ص: 458


1- كذا ، والظاهر : بعده صار.
2- لم نعثر عليه.

وإن كان بواسطة تحصيل المعرفة بالحكم ، إلاّ أنّ الأغلب عدم حصولها منه ، بل ولا يحصل الظنّ أيضا كما هو ظاهر لمن راجع وجدانه ، ومع ذلك فهو المقرّر من الأئمة عليهم السلام والمطابق لما عليه العمل من الأمّة قديما وحديثا ، فصار بذلك طريقا للجاهل. وهذا هو المسوّغ للمجتهد في ردعه العاميّ عن العمل بالظنّ الحاصل من قول الميّت.

كيف! ولو قيل بأنّ الظنّ هو الطريق في حقّ المقلّد يلزم منه إمّا تخريب أساس الشريعة ، أو فرض العاميّ مجتهدا ؛ لأنّ ذلك الدليل العقليّ لا يختصّ بالتقليد ، بل يعمّ سائر الأمارات الظنّية.

والقول بأنّ الإجماع إنّما قام على عدم جواز العمل بغير التقليد من الأمارات الظنّية مع أنّ المناط هو الظنّ بعد أنّه تناقض في حكمي العقل والشرع على وجه لا مصحّح له - كما بيّنا في وجه استثناء القياس - ممّا لا سبيل إلى إثباته ، فإنّ الإنصاف : أنّ المنع من غير التقليد إنّما هو بواسطة أنّ التقليد طريق خاصّ في حقّه ، وأمّا على تقدير الظنّ فلا نسلّم انعقاد الإجماع على عدم جواز العمل بما يستفاد للعاميّ من الأخبار على وجه ظنّي ، ومن المعلوم : أنّ ذلك يوجب بناء فقه جديد ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : إنّه يجب ردعه عن مثل هذه الظنون.

قلت : كيف يجوز للعالم ردعه مع عدم حصول الظنّ من قوله وكون الحكم مظنونا في حقّه؟ سلّمنا الإجماع على عدم جواز العمل بتلك الأمارات حتّى على تقدير كون التقليد ظنّيا لكنّه لا ينفع ؛ لأنّه ليس بديهيّا يعرفه العاميّ ، والاطّلاع على الإجماع ممّا يمنعه المستدلّ كما يظهر منه ، وإخبار المجتهد له ربما لا يوجب الظنّ.

ص: 459

وأمّا ثالثا : فلأنّ الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول والشهرة المحقّقة بين العلماء الماهرين المطّلعين على الأسرار الإلهيّة أقوى من الظنّ الحاصل من قول الميّت في المسألة الفرعيّة ، بل لا يكاد يقاس أحدهما بالآخر.

قوله (1) : إن الظن بالواقع يقدّم على الظن بالحكم الظاهري.

قلنا : قد فرغنا عن إبطال هذا القول - كالقول بلزوم الأخذ بالظنّ في الحكم الظاهري - في محلّه ، فإنّ نظر العقل في دليل الانسداد الذي هو العمدة في الأدلّة هو الحكم بلزوم تفريغ الذمّة ، ولا فرق في ذلك بين الواقع وبين أبداله.

لا يقال : إنّ أقربيّة هذا الظنّ في نظر المقلّد أوّل الكلام ، وعلى تقديره فلا دليل على لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة.

لأنّا نقول : إنّ أقربيّة هذه الظنون في نظر المجتهد هو المعيار ، فإنّ نظر المقلّد قد عرفت عدم انضباطه وعدم اعتباره ، ولا يمكن إلقاء عنانه في عنقه لئلاّ يتّبع كل ناعق وناهق. وأمّا لزوم الأخذ بهذه الأقربيّة ، فلأنّ دليل الانسداد لا يمكن أن يكون مفاده حجّيّة كلّ واحد من هذين الظنّين اللذين يقتضي اعتبار أحدهما عدم اعتبار الآخر.

فإمّا أن يقال : بأنّ كلّ واحد من هذين الظنّين خارج عن الدليل وهذا بعد كونه محالا - لأنّ الدليل العقلي غير قابل للتخصيص - مثبت للمطلوب ، وهو عدم اعتبار قول الميّت إذا صار مظنونا.

وإمّا أن يقال : بأنّ الأولى استعماله للظنّ في المسألة الأصولية لكونه بمنزلة المزيل للظنّ في المسألة الفرعيّة ، وهو أيضا مثبت للمطلوب.

ص: 460


1- أي المحقّق القمي قدس سره ، راجع القوانين 2 : 269.

وإمّا أن يقال : بأنّ اللازم هو الأخذ بالأقرب إلى الواقع وهو المدّعى ، وأمّا التخيير بين الظنّين عند الأقربيّة فممّا لا وجه له ، إذا العقل يحكم بالأخذ بأقوى الظنّين بالبديهة عند التعارض.

فإن قيل : إنّ الإجماع في المسألة الأصوليّة بعيد التحقّق ، فلا يحصل الظنّ من منقوله ، سيّما إذا لم يكن المسألة معنونة في زمان الأئمّة.

قلت : لا ريب في إمكان تحقّق الإجماع في الأحكام الشرعيّة أصوليّة كانت أو فروعيّة ، فإنّ كثيرا من المسائل الأصوليّة إجماعيّة ، مع أنّك قد عرفت أنّ المسألة فرعيّة لوجود المناط فيها وهو انتفاع المقلّد منها فيما لو كانت معلومة. وأمّا عدم تداول المسألة في زمان الأئمّة فستعرف أنّ كثيرا من المجوّزين إنّما استندوا في إثبات مقصودهم إلى السيرة المستمرّة في زمان الأئمة ، ونحن عند الإيراد على هذه الحجّة نبرهن على أنّ هذه المسألة ممّا كانت متداولة في زمن الأئمة عليهم السلام.

الثاني : من وجوه تقرير العقل : ما أفاده السيّد الجزائري في محكيّ منبع الحياة (1) وهو : أنّ قضيّة المنع صحّة إحدى صلاتي المقلّد وبطلان الأخرى إذا مات المجتهد بين الصلاتين ، ولازم هذا أن يكون شريكا للشارع في الأحكام الشرعيّة. وهذا لا ينطبق على أصولنا ؛ لأنّ علماءنا يحكون كلام الشارع ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم ، وإنّما يناسب هذا لو كان صادرا من رأيه كما كان الكوفي كذلك ، حيث قال في مسجد الكوفة : قال علي عليه السلام كذا ، وأنا أقول كذا.

ص: 461


1- حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 472.

والجواب عنه من وجهين :

الأوّل : النقض بحال الحياة فيما لو عرض للمجتهد الفسق أو الجنون أو الكفر أو تغيير الرأي إلى غير ذلك من أسباب العدول.

والثاني : الحلّ بأنّ هذا الكلام مبنيّ على أن يكون الفتوى هي الرواية المنقولة بالمعنى ، وقد قرّرنا الفرق بينهما ، ولذلك لا يجوز التقليد فيما طرأ الفسق بعد الفتوى مع جواز الأخذ بروايته حال العدالة كالأخذ بها حال الإفاقة فيما لو جنّ ، فالمجتهد تارة يكون أهلا لأن يطاع وتارة لا يكون ، وليس ذلك شراكة للشارع ، فإنّ هذه أحكام مأخوذة منه.

نعم ، من لا يبالي بالطعن على العلماء الصالحين - الّذين ينبغي أن يقال في حقّهم : لو لا هؤلاء لانطمست آثار الشريعة - والتعريض عليهم بما عرفت في ذيل كلام لا يبعد في حقّه دعوى اشتراكه للشارع. أترى أنّ الإمام عليه السلام يرضى بمقايسة حال مثل الشهيدين والمحقّقين وغيرهما من العلماء العاملين والفضلاء الكاملين بحال الكوفي ، حاشاهم! ثم حاشاهم!

الثالث : الاستصحاب وتقريره من وجوه ، فإنّه تارة يراد انسحاب الحكم المستفتى فيه ، وأخرى يراد انسحاب حكم المستفتي ، وثالثة يراد انسحاب حكم المفتي.

فعلى الأخير يقال : إنّ المجتهد الفلاني كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه والعمل مطابقا لأقواله وقد شكّ بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا فيستصحب كما أنّه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصحّة والشباب والشيب ونحوها.

وعلى الثاني يقال : إنّ للمقلّد الفلاني كان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني حال الحياة وبعد الموت نشك فيه ، فنستصحب الجواز المعلوم في السابق.

ص: 462

وعلى الأوّل يقال : إنّ هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلاني ونشكّ في ذلك فنستصحب ... إلى غير ذلك من وجوه تقريراته ، فإنّه يمكن أن يقال : المكتوب في الرسالة الفلانيّة كان جائز العمل ، فنستصحب جواز العمل به بعد الموت.

والجواب عن هذه الوجوه في الاستصحاب يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّه قد قرّرنا في مباحث الاستصحاب : أنّ جريانه موقوف على بقاء الموضوع على وجه اليقين ، إذ بدون العلم ببقاء الموضوع ليس من النقض من الموارد المنهيّ عنها في قوله : « لا تنقض » فإنّ عدم ترتيب أحكام « زيد » على ما لا يعلم أنّه « زيد » لا يعدّ من النقض في أحكامه بوجه ، فالقضيّة المعلومة في مورد الاستصحاب لا بدّ وأن تكون متّحدة مع القضيّة المعكوسة موضوعا ومحمولا حتّى يمكن انسحاب أحكام الموضوع من المحمول ونحوه في الزمان الثاني. وليس المراد بالموضوع مسندا إليه وموضوعا لتلك القضيّة ، بل المراد كلّ ما يمكن أن يجعل مبتدأ في العبارة ، إذ المناط من عدم صدق النقض عند عدم العلم بوجود ذلك مشترك في الكلّ. وهذا المعنى هو الداعي لأمين الأخباريّة حيث أنكر حجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة (1) فالتمسّك بالاستصحاب من بعض الأخباريّين من دون ملاحظة وجود المناط فيه إنّما هو خيانة منه للأمين. ونحن وإن قلنا بعدم استقامة ما ذكره على وجه الكلّية لجريانه على الوجه المذكور في الأحكام فيما إذا كان الشكّ في الرافع - كما أوضحنا سبيل ذلك في مباحث الاستصحاب - إلاّ أنّ إحراز ما ذكرنا من المناط من اتّحاد القضيّتين ممّا لا مناص عنه في صدق الأخبار الدالّة على الاستصحاب.

ص: 463


1- انظر الفوائد المدنيّة : 17 و 141.

وبالجملة ، فكما أنّ العلم باختلاف الموضوع يضرّ في جريان الاستصحاب ، كذا عدم العلم بوجوده أيضا يضرّ في جريانه ، إذ كما أنّ نفي الوجوب عن غير الصلاة مثلا ليس نقضا لوجوب الصلاة ، فكذلك نفي الوجوب عمّا لا يعلم أنّه صلاة أيضا ليس نقضا ، ولعلّه ظاهر.

وإذ قد عرفت هذه المقدّمة نقول : إنّ هذه الوجوه متقاربة جدّا ، كما لا يخفى على من أمعن النظر فيها. وجريان هذه الاستصحابات موقوفة على العلم ببقاء الموضوع ، ونحن لو لم ندّع العلم بارتفاع الموضوع في هذه الاستصحابات نظرا إلى أنّ المناط هو الظنّ وهو مرتفع بعد الموت ، فلا أقلّ إمّا من الشكّ في بقائه أو ارتفاعه على تقدير تسليم كون الموضوع هو الظنّ ، وإمّا من الشكّ في تعيين الموضوع ، وعلى التقديرين لا مسرح للاستصحاب.

فإن قلت : لا نسلّم أنّ الظنّ هو الموضوع حتّى يمكن القول بعدم العلم ببقائه بعد الموت مع أنّه غير مسلّم أيضا ، بل الموضوع هو القول الذي لا يعقل فيه القول بالارتفاع والبقاء ، ضرورة أنّه من الأمور الغير القارّة التي وجودها عبارة عن حدوثها ولا بقاء لها ، وكذلك لا وجه للنزاع في بقاء الرواية والعبارة ، فإنّها في وجه غير معقول البقاء ، وفي وجه غير معقول الارتفاع.

قلت : لا إشكال عند القائلين بالفتوى والتقليد والاجتهاد أنّ المدار في الفتوى هو الظنّ ، ولذلك لو زالت الملكة أو تغيّر اجتهاده وإن لم يكن هناك قول لا يجوز التعويل على القول السابق.

وتوضيحه : أنّ الأحكام الاجتهاديّة إنّما هي أحكام ظاهريّة - على ما صرّح به جميع أرباب الأصول - والظنّ في الأحكام الظاهريّة إنّما يكون موضوعا لما يترتّب على المظنون والبقاء ، فإنّه هو المقصود بحجّية الظنّ في الأمور الشرعيّة

ص: 464

والأحكام الفرعيّة ، فإنّه يكون وسطا في القياسيات التي يطلب فيها ترتيب آثار متعلّقات تلك الظنون التي قد كانت طرقا إليها في حدود أنفسها. مثلا : إنّ شرب الخمر المظنون حرمته بواسطة أمارة ظنّية معتبرة إنّما يستفاد الحكم فيه في مقام العمل والظاهر بواسطة الظنّ ، كأن يقال : إن شرب الخمر ممّا يظنّ حرمته بواسطة أمارة كذائيّة وكلّ ما يظنّ حرمته فيجب ترتيب آثار الحرمة الواقعيّة الّتي كان الظن طريقا إليه على ذلك المظنون ، فينتج وجوب ترتيب الآثار على هذه الحرمة المظنونة ، من لزوم الاجتناب عنها وغيرها من الأحكام ، وذلك ظاهر في الغاية.

نعم يتمّ كون القول موضوعا في المقام فيما إذا قلنا : بأنّ الفتوى هي عبارة عن نقل الحديث على وجه المعنى - كما زعمه الأخباريّ - وهو خلاف الواقع كما لا يخفى على المطّلع.

وأمّا حديث بقاء الظنّ بعد الموت وارتفاعه فالإنصاف - كما عرفت - أنّه [ لا ] مسرح للعقل فيه ؛ لتعارض الأمارات من الطرفين ، إلاّ أنّ المقصود في المقام غير منوط به أيضا ، إذ على القول بالبقاء أيضا لا يعلم سريان الحكم فيما إذا كان مستندا إلى الظنّ بعد الموت ، إذ القول به موقوف على أن يكون الظنّ موضوعا على وجه الإطلاق سواء كان بعد الموت أو قبله ، وذلك أيضا غير معلوم ؛ لأنّ دليل التقليد - على ما هو التحقيق - منحصر في الإجماع والضرورة والسيرة ، ولا ينفع شيء منها في تشخيص الموضوع.

وأمّا الإطلاقات الدالّة على التقليد - كما ادّعاها بعضهم - فلا دلالة فيها على التقليد أوّلا ، وعلى تقديره فلا يستفاد منها أنّ الموضوع هو الظنّ على وجه الإطلاق ، بل الظاهر من جملة من الأدلّة الخاصّة بل العامّة الآمرة بالرجوع إلى أهل العلم اعتبار الحياة ، كما ستعرف تفصيل القول في ذلك إن شاء اللّه.

ص: 465

فإن قلت : إنّ منع الاستصحاب في المقام بواسطة الإشكال في أمر الموضوع إنّما لا يلائم كلماتهم في جملة من الموارد ، فإنّهم يحكمون باستصحاب جواز نظر الزوج أو الزوجة لأحدهما بعد الموت ، مع أنّ الموضوع إنّما هو « الحيوان الناطق » وليس موجودا بعد الموت قطعا ، فإنّه جماد صرف. ويحكمون باستصحاب الملكيّة فيما لو انقلب الخمر المقلوب من الخلّ خلاّ في المرتبة الثانية ، مع أنّ الخلّيّة في الثانية ليست الخلّيّة الأولى ؛ لامتناع إعادة المعدوم. وكذا فيما لو فرض حياة المملوك بعد موته ، فإنّه [ ليست ] الملكيّة السابقة [ القائمة ](1) بالرقبة الأولى مع ظهور الاختلاف. وكذا يحكمون باستصحاب الكرّية بعد القطع باختلاف الموضوع ، فإنّ المشار إليه في قولك : « إنّ هذا الماء كان كرّا في السابق » قطعا يغاير الماء في السابق ، فلا منع في جريان الاستصحاب في المقام ، كأن يقال : « إنّ ذلك الرجل كان قبل موته جائز التقليد وبعد الموت يستصحب » وليس الاختلاف الحاصل في المقام أشدّ من الاختلاف في الموارد المذكورة.

قلت : بعد الغضّ عن جريان الاستصحاب في الموارد المذكورة ، أنّ ذلك يتمّ بناء على المسامحة العرفيّة في أمر الموضوع ، ولا نضايق نحن من جريان الاستصحاب في المقام على هذا التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في ثبوت ذلك التقدير ، فإنّ الإنصاف أنّ التسرّي إلى جميع موارد التسامح في العرف ممّا لا يجترى عليه ، سيّما في الموارد التي لا يساعدها المشهور أو أمارة أخرى من الأمارات.

وبالجملة ، فالاعتماد على الاستصحاب إنّما يشكل فيما إذا لم يكن القضيّة المعلومة متّحدة مع المشكوكة بحسب الدقّة.

ص: 466


1- العبارة في النسخ هكذا : « فانه بسيطة الملكية السابقة الفاقة ... ».

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما إذا لم يجر الاستصحاب في أصل الموضوع ولا مانع منه ، وبعد الاستصحاب الموضوعي لا مجال للشكّ أصلا.

قلت : إن أريد من استصحاب الموضوع وجريانه تصحيح الاستصحاب الحكمي - كما يظهر عن بعض الأجلّة في بعض الموارد - فهو كلام فاسد مختلّ النظام.

أمّا أولا : فلأنّ استصحاب الموضوع لا يجدي في ترتيب الأحكام الغير الشرعيّة ، وجريان الاستصحاب الحكمي ليس من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الموضوع حتّى يصحّ الاستصحاب على تقدير استصحاب الموضوع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستصحاب الموضوعي بعد جريانه لا حاجة إلى إجراء الاستصحاب الحكمي ، فإنّه بمنزلة المزيل. على أنّه لا معنى لاستصحاب الموضوع إلاّ ترتيب الأحكام التي منها الحكم المشكوك.

وإن أريد من استصحاب الموضوع ترتّب الحكم وهو جواز التقليد لا استصحابه ، فهو إنّما يجدي فيما إذا لم يكن من الأصول المثبتة - كما حرّر في محلّه - وما نحن بصدده منه.

وتوضيحه : أنّ استصحاب موضوع وجوب التقليد أو جوازه من دون أن يقصد ارتباطه بفتوى الميّت لا يجدي في الاعتماد على فتوى الميّت ، ومع إرادة إثبات الارتباط بوجه من الوجوه إلى الفتوى فهو من الأصول المثبتة ، فإنّ استصحاب الموضوع المطلق لا يتعيّن في شيء خاصّ إلاّ بعد إعمال مقدّمة عقليّة أو عاديّة ، وذلك نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق في الحوض لإثبات كرّية الماء المخصوص ، فإنّه لا يجدي في ذلك إلاّ بعد العلم بأنّ ذلك المطلق غير متحقّق إلاّ في الفرد الموجود.

ص: 467

وبالجملة ، الأحكام الثابتة للموضوع المطلق في الشريعة لا بدّ من حملها وترتيبها على الموضوع المستصحب ، وأمّا أحكام الموضوع الخاصّ فلا يترتّب على استصحاب الموضوع المطلق.

فإن قلت : إنّ جواز العمل وترتيب الأحكام السابقة إنّما هو من أحكام مطلق الموضوع ، إذ لا يراد في المقام إثبات أنّ القول هو الموضوع أو الشخص هو الموضوع أو غير ذلك ، ضرورة أنّ الاستصحاب لا يقضي بذلك ، بل المراد الأخذ بالأحكام السابقة حال الحياة المتفرّعة على موضوعها الواقعي وإن لم يكن معلوما لنا بالخصوص إلاّ أنّه معلوم على وجه الإجمال حال الحياة ، وبعد الموت نشكّ في وجود ما يترتّب عليه الأحكام فيستصحب ذلك المعلوم الإجمالي ويترتّب عليه أحكامه ، نظير استصحاب وجود الكرّ المطلق فيما إذا كان ممّا يترتّب عليه حكم ، كما لو نذر أن يعطي فقيرا درهما لو كان الكرّ مثلا موجودا.

قلت : نعم ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّ الموضوع هو الظنّ ، لعدم ترتيب هذه الأحكام على غيره في الشريعة عند انتفائه ، وهو غير معلوم الوجود ، وعلى تقدير الوجود فلا عبرة به أيضا ، لاحتمال مدخليّة الحياة فيه ، وأصالة عدم مدخليّة الحياة في الموضوع لا يجدي ؛ لأنّ ذلك لا يشخّص أنّ الموضوع هو الظنّ المطلق. وبعبارة ظاهرة : أنّ عدم جريان الاستصحاب موقوف على عدم العلم ببقاء الموضوع واحتمال ارتفاعه في الواقع ، وأصالة عدم المدخليّة لو كان مفاده في الشرع وجود الموضوع كان مجديا ولكنّه لا يترتّب على عدم المدخليّة وجود الموضوع إلاّ بواسطة مقدّمة عقليّة ، فتأمّل في المقام ، فإنّ الأمر بمكان من الغموض والخفاء.

وهذا تمام الكلام في الوجوه العقليّة. ولهم أيضا بعض الوجوه الأخر ، إلاّ أنّ الإنصاف إن التعرّض لها يوجب التعطيل فيما هو الأهمّ.

ص: 468

وأمّا الكتاب :

فالّذي يدلّ منه على مطلوبهم على ما زعموا آيات :

الأولى : قوله تعالى ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

والتقريب : أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر بعد الإنذار الواجب ، إمّا لأنّ الحذر لا يعقل جوازه بعد وجود المقتضي وعند عدمه لا يحسن. وإمّا لأنّ وجوب الإنذار المفروض في الآية مقدّمة للحذر يدلّ على وجوبه ؛ لأنّ وجوب المقدّمة دليل على وجوب ذيها. وإمّا لأنّ عدم وجوب الحذر على تقدير وجوب الإنذار يوجب اللغو ، نظير ما تمسّك في المسالك من قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) على وجوب اتّباع قولهنّ (2) ، والإنذار عبارة عن الإبلاغ مع التخويف ، وهو كما يصدق في الرواية ، فكذلك يصدق في الفتوى.

بل الظاهر أنّ دلالتها على وجوب قبول الفتوى أظهر من دلالتها على قبول الرواية ؛ لأنّ الحكاية بدون التخويف لا يسمّى إنذارا ومع التخويف لا دليل على اعتباره ؛ لأنّ التخويف موقوف على اجتهاد المنذر في الحكاية ، ولا دليل على لزوم متابعة الراوي إذا لم يكن فهمه في حق المنذر - بالفتح - حجّة. بخلاف المفتي ، فإنّ اعتقاده حجّة في حقّ المستفتي ، فلو قال : « أيّها الناس! اتّقوا اللّه في شرب الخمر » فإنّه يترتّب عليه المؤاخذة الإلهيّة فقد حصل التخويف ووجب التخوّف والحذر ، إمّا لوجود المقتضي ، وإمّا لوجوب الإنذار ، وإمّا للزوم اللغو. ويتمّ فيما لا يحصل معه التخوّف - إمّا لعدم التخويف أو لغيره - بعدم القول بالفصل.

ص: 469


1- التوبة : 122.
2- المسالك 9 : 194 ، والآية من سورة البقرة : 228.

وبالجملة ، فالآية ظاهرة في وجوب التفقّه ووجوب الإنذار ، وهما يستتبعان وجوب الحذر والقبول على أحد الوجوه الشامل بإطلاقه للرواية والفتوى كما عرفت. والإنذار كما يصدق في فتوى الحيّ ، فكذلك يصدق في فتوى الميّت بواسطة التخوّف الحاصل من مراجعة ما جعله علامة للتخويف كالرجوع إلى كتابه ، فإنّه يصدق أنّه « أنذر » ولو في زمان حياته وحصل للمقلّد « التخوّف » ولو بعد مماته ، فيجب اتّباعه ، فالآية بإطلاقها تدلّ على وجوب اتّباع فتوى الميّت لصدق الإنذار.

وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : لو فرضنا أنّ المجتهد قد أنذر في حال حياته ولم يتبعه المقلّد عصيانا ثمّ بدا له بعد موته اتّباعه ، فهل ترى عدم صدق « الإنذار » في مثله؟ وليس ذلك من التقليد الاستمراري بل هو تقليد بدويّ ، إذ المفروض عدم الأخذ بالفتوى في حال الحياة وعدم العمل أيضا.

فإن قلت : إنّ الآية ظاهرة في النفر إلى الجهاد كما تشهد به الآيات التي قبلها وبعدها ، فلا يدلّ على وجوب التفقّه والإنذار. نعم ربما يترتّب على النفر التفقّه من ملاحظة آثار رحمة اللّه على أوليائه وظهورهم على أعدائه وغير ذلك. ولا دليل على وجوب ما يترتّب على الفعل إذا لم يؤخذ الفعل الواجب مقدّمة له بل كان الترتّب اتّفاقيا ، كما هو ظاهر.

قلت : إنّ سوق الآية في آيات الجهاد لا ينافي ظهورها في وجوب التفقّه والإنذار الموقوف عليه الاستدلال ، مع ورود الأخبار الدالّة على إرادة وجوب التفقه من الآية (1) كما يستفاد من استدلال الإمام عليه السلام به ، كرواية الفضل

ص: 470


1- انظر تفسير نور الثقلين 2 : 282 ، وكنز الدقائق 4 : 312 ، ذيل الآية.

عن الرضا عليه السلام قال : إنّما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه وطلب الزيادة - إلى أن قال - ونقل أخبار الأئمّة إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال عزّ وجلّ : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ ... ) الآية (1).

ولا يخفى : أنّ اختصاص الأخبار بالذكر لا يدلّ على اختصاص الآية بالرواية دون الفتوى ، فلا ينافي ما هو مناط الاستدلال من دعوى الإطلاق.

والاستدلال بالآية في بعض الروايات على وجوب تحصيل معرفة الإمام بعد موت الإمام السابق (2) ، لا يدلّ على اختصاصه بمثله حتّى لا يشمل ما نحن فيه ، وهو ظاهر جدّا.

هذا غاية ما يمكن الانتصار للمستدلّ بالآية ، ومع ذلك فلا دلالة فيها على المطلوب.

وتوضيح المقام بعد تمهيد ، وهو : أنّ اعتبار التقليد يحتمل أن يكون من وجهين :

أحدهما : اعتباره من حيث إنّه طريق إلى الواقع وإنّ قول العالم هو المرجع للجاهل ، فإنّه يكون طريقا لما هو المطلوب في الأمور الغير المعلومة ، مثل رجوع الجاهل بصناعة إلى أهل تلك الصناعة في استعلام ما يتعلّق به غرضه منها.

الثاني : أن يكون معتبرا من حيث إنّه حكم ظاهريّ تعبّد به المولى وإن لم يحصل منه العلم ، ولا ينافي ذلك كون الحكمة في جعله طريقا هو كونه طريقا ظنّيا في العرف والعادة ، فيكون من الظنون النوعيّة أي الأمارات التي لا تدور مدار حصول الظنّ الفعلي منها وإن كان الوجه في جعله إفادته ذلك في الأغلب.

ص: 471


1- الوسائل 8 : 7 ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث 15.
2- انظر الكافي 1 : 378 ، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

ولا ريب أنّ هذين الوجهين مختلفان ، فالكلام المسوق لبيان أحدهما يغاير سوق الآخر ، فإنّ الأوّل غير محتاج إلى جعل وحكم سوى الإخبار عمّا هو ثابت في الواقع. بخلاف الثاني ، فإنّه لا بدّ فيه من إنشاء حكم ظاهريّ في موارد تلك الأمارة. ولعلّ ذلك غير خفيّ على الفطن.

فإن أريد من التمسّك بالآية إثبات الوجه الأوّل فهو حسن ، فإنّ في الآية دلالة على تقرير ما عليه العقلاء في استكشاف مطالبهم من الأمارات المفيدة لها ، إذ لا يستفاد من الآية إلاّ مطلوبية الحذر عقيب الإنذار في الجملة. وأمّا وجوب البناء على الإنذار فهو مبنيّ على ما هو المناط فيه عندهم من حصول المنذر فيه أو ما هو يقوم مقامه عندهم كالظنّ المتاخم للعلم على وجه لا يعتنى باحتمال خلافه في وجه ؛ ولذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلم ، فلا تكون الآية مخصّصة لما يدلّ على حرمة العمل بما وراء العلم ؛ ولذلك استشهد الإمام عليه السلام بالآية على وجوب النفر ليحصل معرفة الإمام ، كما في رواية عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول العامّة : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : « من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة قال عليه السلام : حقّ واللّه! قلت : فإنّ إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟ قال : لا يسعه ، إنّ الإمام إذا مات رفعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد وحقّ النفر على من ليس بحضرته ، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... ) الآية » (1) فإنّ من المعلوم : أنّ إمامة الإمام إنّما يطلب فيها العلم ولا يكفي فيها متابعة الغير من غير حصول العلم ، فلا دلالة في الآية إلاّ على لزوم التفقّه والإنذار من حيث إنّ الإنذار يوجب الحذر عند حصول العلم أو ما يقوم مقامه في العادة ، وهو ظاهر. لكن التقليد المطلوب إثبات جوازه للحيّ والميّت لا

ص: 472


1- الكافي 1 : 378 ، الحديث 2.

يراد منه ذلك الطريق العلمي أو ما يقوم مقامه ؛ وذلك ظاهر لمن أنصف من نفسه وراجع موارد التقليد وكلمات العلماء ، حيث إنّهم مطبقون على أنّ التقليد طريق خاصّ للمقلّد ونحن أيضا نتكلّم في مثل هذا التقليد.

وإن أريد إثبات الوجه الثاني - كما هو المفيد فيما نحن فيه - فالإنصاف عدم نهوض الآية على ذلك ، فإنّ المنساق منها هو المنساق من جميع الأدلّة الدالّة على لزوم إبلاغ الأحكام لاهتداء الناس إلى الواقع ، وليس مفاد الآية إلاّ مثل مفاد قول القائل : « أخبر زيدا بقيام عمرو لعلّه يقبل » ولا يستفاد من هذا الكلام إنشاء حكم في الظاهر لوجوب العمل بخبره وإن لم يوجب العلم.

وممّا يؤيّد ذلك ملاحظة لفظ « الحذر » في الآية ، فإنّ ذلك ليس من الأمور الاختياريّة ، بل هو أمر قهريّ ، لكنّه بعد حصوله فالعقل يحكم بوجوب دفعه وعلاجه في الموارد التي يحكم بوجوبه.

وبالجملة ، فالظاهر منها وجوب الإنذار الّذي يترتّب عليه الحذر الموجب لتحصيل العلم بالتكليف أو رفعه كما هو قضيّة حقيقة الحذر ، فتدبّر.

سلّمنا دلالة الآية على التقليد التعبّدي ، لكن لا يدلّ على تقليد الميّت ؛ لأنّ الظاهر على ذلك التقدير جواز الأخذ بإنذار الحيّ. وما يبدو في بعض الأنظار من الإطلاق فلعلّه مبنيّ على قاعدة اشتراك التكليف وليس المقام منه ، إذ ليس الشكّ في العموم والخصوص ، بل الشكّ في الحكم الشرعيّ كما هو ظاهر. وأمّا صدق الإنذار فيما إذا كان المنذر أوجد السبب ونصب العلامة فهو على خلاف الظاهر ، فإنّ السبب ليس إنذارا حقيقة.

وأمّا فيما لو عصى المكلّف بعد إنذاره في زمن الحياة ، فإن أخذه العاصي للعمل ثم لم يعمل به عصيانا فعلى القول بأنّ التقليد هو الأخذ يكون من التقليد

ص: 473

الاستمراري ، وعلى القول بأنّه العمل فلم يتحقّق تقليد سواء أخذه أو لم يأخذه. ولا نسلّم وجوب الحذر بعد الموت في الصورة المفروضة ، فإنّ الظاهر من الآية ترتّب الحذر على الإنذار فيما يصحّ انتزاع وصف « المنذريّة » من المنذر ، ولا يصحّ ذلك بعد الموت ، فتأمّل.

سلّمنا الإطلاق أيضا ، لكن الإنصاف أنّ الإجماعات المنقولة في صدر المسألة يكفي في تخصيص الآية وتقييدها بصورة الحياة.

ثم إنّ ما ذكرنا من تسليم الإطلاق إنّما هو مبنيّ على أن يكون وجه الاستدلال بالآية هو ما أفاده في المعالم (1) : من أنّ بعد انسلاخ كلمة الترجّي عن معناها تكون ظاهرة في محبوبيّة مدخولها للمتكلّم ؛ لأنّ ذلك يمكن أن يكون علاقة في المقام ، وإذا تحقّق حسن الحذر وجب ؛ لأنّ مع وجود المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن ؛ لأنّ العقاب إمّا معلوم الوجود فيجب الحذر ، أو معلوم العدم - إذ لا يعقل الشكّ في العقاب - فلا يحسن الحذر. ولا ينافي ذلك حسن الاحتياط ؛ لأنّه مع الأمن كما لا يخفى ، إذ بدونه فالاحتياط واجب.

وأمّا بناء على أن يكون وجه الاستفادة هو الملازمة العرفيّة بين وجوب الإنذار وحرمة الردّ ووجوب القبول فظاهر انتفاء الإطلاق ، وستعرف توضيحه في الآيات الآتية.

الثانية : قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) لأنّه لو فرض السؤال ومات المسئول بعد الجواب يلزم القبول لئلاّ يلغو وجوب السؤال ،

ص: 474


1- المعالم : 190.
2- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.

كما عرفت في استدلال الشهيد بحرمة كتمان ما في الأرحام على وجوب قبول قولهنّ (1). والإنصاف : أن لا دلالة في الآية على التقليد أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظاهر من سياق الآية هو إرادة علماء اليهود ، كما رواه علماء التفسير (2) ، فإنّ الآية واردة في مقام معرفة النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومن الظاهر أنّ ذلك لا يكفي فيه غير العلم ، ففي الآية إراءة طريق إلى ما يوجب العلم ، وهو الظاهر من قوله : ( إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فإنّه ظاهر في أنّ الوجه في وجوب السؤال هو تحصيل العلم.

ولئن أغمضنا عن ذلك ولم نأخذ بما هو اللائح من سياقها ، فهناك أخبار عديدة مشتملة على الصحيح وغيرها يدلّ على أنّ أهل الذكر هم الأئمّة عليهم السلام على وجه الحصر (3).

وأمّا ثانيا : فلأنّ بعد فرض الدلالة لا إطلاق فيها على وجه يشمل الميّت ، إذ من الظاهر ظهورها في الحيّ ، إذ لا يعقل السؤال من الميّت. وأمّا وجوب القبول فالمفروض أنّه مدلول التزامي لوجوب السؤال ، ولا يعقل الإطلاق والتقييد في المداليل الالتزامية ، إذ الموجب هو لزوم اللغويّة لولاه ويكفي في دفعه القبول حال الحياة في الأغلب.

الثالثة : آية الكتمان وهو قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ

ص: 475


1- راجع الصفحة : 469.
2- انظر مجمع البيان 3 : 362 و 4 : 40 ذيل الآية في سورتي النحل والأنبياء.
3- الكافي 1 : 210 باب أهل الذكر ، والوسائل 18 : 41 ، الباب 7 من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث 3 و 4 و 6 و 8 و 9 و 12 و 13 و 27 و 31.

وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1) دلّت الآية على وجوب الإظهار وحرمة الكتمان ، وهو يلازم وجوب القبول.

وفيه :

أولا : أنّ المورد ممّا لا يمكن تخصيصه في العمومات ، ومورد الآية كتمان اليهود لعلامات النبيّ صلى اللّه عليه وآله ومن المعلوم : أنّ ذلك لا بدّ فيه من العلم ، فلا دلالة فيها على التقليد التعبّدي.

وثانيا : سلّمنا لكنّه لا إطلاق بالنسبة إلى الميّت ، لعدم ما يوجبه.

الرابعة : آية النبأ (2) ، ويدلّ على دلالتها على التقليد استدلال العلماء بها على عدالة المفتي ، فلولا دلالتها لم يكن له وجه.

وفيه : أنّ النبأ هو الإخبار عن الواقع ، لا الإخبار عن الاعتقاد.

وأمّا وجه الاستدلال بها : فهو من حيث إنّ الإخبار عن الرأي ربما يكون كذبا ، فالعدالة معتبرة فيه من هذه الجهة.

وأمّا السنّة :

فما يمكن الاستيناس بها على المدّعى صنفان :

الأوّل : الأخبار الخاصّة الواردة في مقامات خاصّة ، مثل ما دلّ على الأمر بالرجوع إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » مشيرا إلى زرارة (3).

ص: 476


1- البقرة : 159.
2- الحجرات : 6.
3- الوسائل 18 : 104 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19.

وقوله عليه السلام حينما سأل ابن أبي يعفور عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما يمنعك عن الثقفي؟ » يعني محمّد بن مسلم (1).

وقوله للعقرقوفي : « عليك بالأسدي » يعني أبا بصير (2).

وقوله لعليّ بن مسيّب : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (3).

وقوله لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : « ربما أحتاج ولست في كلّ وقت ألقاك أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال : نعم » (4). وفيه دلالة واضحة على أنّ قبول قول الثقة مفروغ عنه وإنّما السائل سأل عن الصغرى.

وفي الكافي عن أحمد بن إسحاق ، قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام وقلت له : من أعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : العمري ثقة ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون » (5).

وقال الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (6).

ص: 477


1- الوسائل 18 : 105 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 23.
2- المصدر السابق : 103 ، الحديث 15.
3- المصدر السابق : 106 ، الحديث 27.
4- المصدر السابق : 107 ، الحديث 33 ، مع تفاوت يسير.
5- الكافي 1 : 330 ، الحديث الأوّل ، والوسائل 18 : 100 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.
6- المستدرك 17 : 315 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14.

وقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا » (1).

وجه الدلالة في هذه الأخبار : أنّ بعضها مختصّة بالفتوى وبعضها شاملة للرواية أيضا ، فيكون هذه الروايات أدلّة على التقليد وبإطلاقها تدلّ على جواز تقليد الميّت أيضا.

والجواب : أنّ قضية الإنصاف عدم دلالة جملة من هذه الأخبار على قبول قول المفتي. وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على قبول قول الميّت وفتواه.

أترى أنّ الأمر بالرجوع إلى « أبان » مع كونه حيّا يدلّ على أنّ الميّت ممّا يمكن الرجوع إليه؟ وعلى تقدير الدلالة فلا دلالة فيها على ما هو المطلوب في زماننا ، فإنّ جواز الرجوع إلى الأموات فيما إذا كانوا مثل هؤلاء الأجلاّء الذين يكون فتاويهم بمنزلة رواياتهم ، كما يستفاد من قول الشيخ أبي القاسم العمري في كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال » (2) فإنّه ينادي بأنّ فتاويهم إنّما هي متون الروايات ، فلا عبرة بقياس حال غيرهم بهم.

وأمّا الثاني : فهي الأخبار العامّة ، وهي كثيرة.

منها : ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع ، مثل رواية عمر بن حنظلة الواردة في الترجيحات : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم اللّه استخفّ » (3) الحديث. ومثل مشهورة أبي خديجة

ص: 478


1- الوسائل 18 : 107 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 107.
2- المصدر السابق : 103 ، الحديث 13.
3- المصدر السابق : 99 ، الحديث الأول.

« انظروا إلى رجل يعرف شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما » (1) ودلالتهما على التقليد إمّا من الأولويّة - كما قيل (2) - وإمّا لعدم القول بالفصل ، وإمّا بواسطة أنّ رفع الخصومة المترتّب (3) على القضاء فيكون موقوفا على قبول فتواه ويتمّ بالإجماع المركّب.

ومنها : ما يدلّ على وجوب الرجوع إليهم الشامل للرواية والفتوى بإطلاقه مثل قوله الحجّة - عجّل اللّه فرجه - على ما رواه المشايخ الثلاثة في الغيبة وإكمال الدين والاحتجاج في التوقيع الشريف لاسحاق بن يعقوب : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (4).

وجه الدلالة : أنّه عليه السلام أمر بالرجوع إلى رواة الأحاديث وهو بإطلاقه شامل للرواية والفتوى ، وعلى التنزّل فقوله عليه السلام : « فإنهم حجّتي عليكم » يوجب ذلك ؛ لأنّ الحجّة يقبل قوله وفتواه أيضا ، وهو دليل على اعتبار قوله بعد موته أيضا فإنّ الحجّة قوله معتبر مطلقا. ويؤيّده قوله : « وأنا حجّة اللّه » فإنّ ذلك يفيد أنّ حجّية من جعله حجّة إنّما هو من قبيل حجّية نفسه عليه السلام الموجب لاعتبار قولهم بعد موتهم أيضا.

ص: 479


1- الوسائل 18 : 4 الباب الأول من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.
2- قاله السيد المجاهد في مفاتيح الأصول : 598.
3- كذا والمناسب : « مترتب ».
4- كتاب الغيبة : 291 ، الحديث 247 ، وكمال الدين : 484 ، الحديث 4 ، والاحتجاج 2 : 283 ، وعنها في الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.

ومنها : ما هو صريح في جواز التقليد ، كرواية الاحتجاج عن تفسير الإمام عليه السلام في قوله تعالى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) (1) والرواية طويلة لا بأس بإيرادها ، وهو أنّه :

قال رجل للصادق عليه السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم ، فإنّ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا ، فإنّ اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علماءهم. وأمّا من حيث افترقوا فلا. قال بيّن لي يا بن رسول اللّه ، قال عليه السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام من وجهها بالشفاعات والتعصّب الشديد الذي يفارقون إليه أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم وعرفوهم يتعارفون (2) المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه ولا على الوسائط بينهم وبين اللّه ، فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل فيما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم. وكذلك عوام أمّتنا

ص: 480


1- البقرة : 78.
2- في التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام : « يقارفون ».

إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حلال الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفرف والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا. من قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منها عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره بجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم. وأخرى (1) يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو يذرهم (2) في نار جهنّم. ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وينتقصون بنا عند أعدائنا ثم يضعون أضعافه (3) من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله (4) المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا فضلّوا وأضلّوا ، أولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه اللّه على الحسين بن عليّ عليهما السلام (5) ، انتهى الحديث الشريف.

ص: 481


1- في التفسير : « آخرين ». والظاهر : آخرون.
2- في التفسير والاحتجاج : « زادهم ».
3- في التفسير والاحتجاج : يضيفون أضعافه وأضعاف أضعافه.
4- في المطبوعة فيقبلوا ، وما أثبتناه من التفسير والاحتجاج.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 299 ، الحديث 143 ، والاحتجاج 2 : 262.

وجه الدلالة : أنّ الإمام عليه السلام حكم بجواز تقليد من كان متّصفا بالصفات المذكورة من الصيانة لنفسه والحفظ لدينه ومخالفة الهوى وإطاعة المولى ، وحيث إنّه عليه السلام كان في مقام بيان الصفات التي يدور عليها جواز التقليد ولم يذكر الحياة فيها دلّ ذلك على عدم اعتبار الحياة في المفتي.

ثم إنّ في تقرير الإمام عليه السلام للسائل أيضا دلالة على جواز التقليد ، إذ لو لم يكن جائزا كان الوجه في الجواب عدم التزام أصل التقليد من غير حاجة إلى بيان الفرق.

ويؤيّد هذا الحديث ما عن المحاسن في محكيّ البحار قال أبو جعفر عليه السلام : وبقول العلماء فاتبعوا (1).

ومنها : ما يستظهر منه جواز الرجوع إلى فتوى الميّت بخصوصه مثل ما سبق (2) من قول العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال : « خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » فإنّ الأمر بعدم اتّباع ما رأوا لو كان بعد موتهم يشير إلى جواز الأخذ بما يراه غيرهم بعد موتهم ، وإلاّ لم يكن وجه لاختصاصهم بالحكم.

ومثل ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى ب- « يوم وليلة » عن أبي الحسن بعد أن نظر فيه وتصفّحه قال : « هذا ديني ودين آبائي » (3) وقول أبي جعفر عليه السلام : « رحم اللّه يونس! رحم اللّه يونس! » (4).

ص: 482


1- البحار 2 : 98 ، الحديث 51 ، وفيه فانتفعوا ، والمحاسن 1 : 419 ، الحديث 363.
2- سبق في الصفحة : 435.
3- الوسائل 18 : 71 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 75.
4- المصدر السابق ، الحديث 74.

ومنها : جميع الروايات التي تدلّ على عدم تغيّر أحكام اللّه تعالى بمرور الدهور وبمضيّ الأعوام والشهور ، كقوله عليه السلام : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) فإنّ موت المجتهد لو كان مؤثّرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحلّ اللّه وتحليل ما حرّم اللّه ، وهل هذا إلاّ مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان؟!

ومنها : الأخبار الدالّة على أنّ العلماء ورثة الأنبياء (2) ، وأنّ مدادهم أفضل من دماء الشهداء (3) ، وأنّ العلماء أفضل من انبياء بني اسرائيل (4) ... وغير ذلك ، فإنّ عموم المنزلة في الأخير وترجيح المداد على الدماء وكونهم ورثة الأنبياء ينافي سقوط قولهم عن درجة الاعتبار بعد مماتهم ... إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على ترحيم العلماء كقوله : « رحم اللّه خلفائي » (5).

فهذه جملة من الأخبار التي تدلّ على التسوية بين الحيّ والميّت في الفتوى. وأنت بعد ما أحطت بما تقدّم في وجه التقريب في هذه الأخبار تقدر على القول بأنّ المناط في هذه الروايات إنّما هو القول الّذي لا ينبغي التشكيك في بقائه ؛ لأنّ ذلك شكّ في أصل وجوده كما في غيره من الأمور الغير القارّة.

ص: 483


1- الكافي 1 : 58 ، الحديث 19 ، وانظر الوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
2- الكافي 1 : 32 ، الحديث 2 و 34 ، الحديث الأول ، والوسائل 18 : 53 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 2.
3- البحار 2 : 16 ، الحديث 35.
4- لم نعثر على هذا المضمون ، نعم جاء في البحار 2 : 22 ، الحديث 67 « علماء امتي كأنبياء بني إسرائيل » وراجع المستدرك 17 : 32 ، الحديث 30.
5- البحار 2 : 25 ، الحديث 83.

وبعد ذلك فلا فرق قطعا في حالتي الموت والحياة كالرواية. وعلى تقدير الشكّ فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ الموضوع وهو « القول » غير مرتفع قطعا وإنّما الشكّ في ارتفاع الحكم عن ذلك الموضوع ، فيستصحب الحكم.

وبالجملة ، فالرجوع إلى هذه الإطلاقات على تقدير عدم إجدائه في الحكم الواقعي فهو يجدي في الحكم الظاهري وجريان الاستصحاب.

والجواب :

أمّا عن أخبار الحكومة : فبأنّ بعد تسليم دلالتها على اعتبار الفتوى لا دلالة فيها على جواز الأخذ بقول الميّت ؛ لأنّ ذلك إمّا أن يكون مستفادا من الأولويّة أو بعدم القول بالفصل أو بواسطة التوقّف وعلى التقادير لا إطلاق فيها ، فإنّها كالأدلّة اللبيّة والقدر المتيقّن منها هو في صورة الحياة.

وأمّا عن التوقيع :

فأوّلا نقول : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالرواية كما عساه يظهر من قوله : « إلى رواة أحاديثنا » فإنّ أخذ عنوان الراوي لعلّه يومئ إليه ، والرواية لا بدّ من العمل بها بعد الموت وقبله ؛ مضافا إلى أنّ الظاهر من التعليل هو الاختصاص بالأحياء. والتشبّه لا يجدي ، ضرورة عدم المساواة في جميع الأحكام العقليّة بل الشرعيّة أيضا. وقبول قول الإمام بعد الموت بواسطة العلم بصدقه لدليل العصمة ، وليس من الأحكام الشرعيّة ، كما هو ظاهر.

وثانيا نقول : لا إشكال في أنّ قول الإمام عليه السلام : « وأمّا الحوادث الواقعة » ليس كلاما ابتدائيّا في المقام ، بل الظاهر أنّ هذه الفقرة إنّما كانت مذكورة في السؤال ، فحاول الإمام عليه السلام جواب جميع الفقرات على وجه التفصيل ، فقال : « وأمّا الحوادث الواقعة » ولا ريب أنّ عموم هذه الفقرة وخصوصها موقوف على العموم

ص: 484

والخصوص في كلام السائل ، فلو فرضنا أنّ قائلا يقول : « عندي من مال زيد كذا وكذا ، وهل يجب ردّه إلى وارثه - مثلا - أو لا؟ » فيقال في جوابه : « وأمّا أموال زيد فادفعها إلى وارثه » - مثلا - لا وجه للأخذ بعموم « الأموال » المستفادة من إضافة الجمع ، لاتّحاد المراد منها في السؤال والجواب. ولا وجه لاستكشاف مراد السؤال من عموم الجواب وخصوصه ، فلعلّ « الحوادث الواقعة » في السؤال عبارة عن قضايا مخصوصة لا ينبغي الحكم بتسرية حكمها إلى غيرها ، فيكون الرواية حينئذ من المجملات.

بل لقائل أن يقول : إن ظاهر حال السائل وهو « إسحاق بن يعقوب » الذي هو من الأجلّة ، كجلالة الواسطة وهو « الشيخ الجليل ابو القاسم بن روح » أحد الأبواب الأربعة : أن لا يكون السؤال عمّا هو الظاهر منها ، فإنّ ذلك ليس أمرا يخفى على مثل السائل والواسطة حتى يحتاج إلى إرسال التوقيع.

وربما يمكن الاستيناس لذلك ببعض فقرات السؤال الواردة في التوقيع كقوله عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » وقوله عليه السلام : « وأمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه وثبّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين اللّه وعزّ وجلّ وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح » (1) ... إلى غير ذلك.

وكيف كان ، فلا تطمئنّ النفس بأنّ « إسحاق بن يعقوب » ما كان مطّلعا على أحكام عباداته ومعاملاته حتى احتاج ذلك إلى المكاتبة إلى الحجّة مع شيوع التقليد والفتوى في ذلك الزمان ؛ وذلك ظاهر.

ص: 485


1- الاحتجاج 2 : 283 - 284.

وأمّا عن رواية الاحتجاج : فبأنّه لا ريب في شمول الرواية لأصول الدين ، فإنّ مورد السؤال إنّما هو فيه لو لم نقل باختصاصها بذلك ، كما هو الظاهر منها على ما هو قضيّة الإنصاف ، فلا يجوز حمل التقليد على ما لا يجوز في الأصول لاستلزامه تخصيص المورد ، وهو قبيح في الغاية ، بل لا بدّ من حملها على ما يوجب الاعتقاد ، وهو عند التحقيق ليس تقليدا بل هو اجتهاد. نعم ، مقدّماته حاصلة بواسطة حسن الظنّ بالعالم الذي أفاد متابعته ذلك الاعتقاد ، ولا يتفاوت في مثل ذلك الموت والحياة ، والكلام إنّما هو في التقليد التعبّدي ، وليس بين التقليدين قدر جامع يصحّ استعمال اللفظ فيه على وجه لا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فلا وجه لما يتوهّم : من أنّه يحمل اللفظ على العموم ، وعلى تقديره فليس فيه إطلاق بالنسبة إلى حال الموت ، إذ التفصيل بين الموردين لا بدّ أن يعلم من دليل خارج من هذا الكلام ، كقيام الإجماع على كفاية التقليد التعبّدي في الفروع ؛ ومع ذلك لا وجه للإطلاق ، كما هو ظاهر. ولا يلزم خلاف الظاهر في لفظ « التقليد » فإنّ ذلك من الاصطلاحات المتأخّرة ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الأخبار الدالّة على جواز فتوى الميّت.

أمّا عن الرواية الأولى : فبأنّ « الرأي » لا يراد منه الفتوى ، بل يحتمل إرادة ما رواه من مذاهب العامّة. سلّمنا ذلك كما لعلّه الظاهر ، لكنّه لا يدلّ على جواز الأخذ بفتاويهم بعد موتهم ، إذ لم يدلّ دليل على انقطاعهم في ذلك الزمان.

وأمّا عن الأخيرتين : فعدم دلالتهما على المطلوب أوضح ، إذ ترحيم يونس لا دلالة فيه على ما نحن فيه بوجه. نعم ، لو علم أنّ المكتوب في الكتاب إنّما كان من فتوى يونس وكان المقصود من عرضه على الإمام استعلام جواز العمل به كان ذلك دليلا. وأمّا قوله « هذا ديني ودين آبائي » أيضا ممّا لا دلالة فيه على المدّعى كما هو غير خفيّ.

ص: 486

وأمّا عن الروايات الدالّة على عدم تغيّر الأحكام - بعد أنّ الأولى الإعراض عن مثل هذه الاستدلالات الواهية - : أنّ التمسّك بأمثال هذه الروايات إنّما يتمّ إذا كان الشكّ في رفع الحكم الشرعي في موضوع ثبت فيه. وأمّا إذا كان الشكّ في ثبوت الحكم الشرعي في موضوع فالتمسّك بها يكون مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان! وهو ظاهر ، وإلاّ فاللازم أن يكون جميع الأمور المغيّرة لأوصاف الموضوعات التي بها تبدل حكمها محلّلا للحرام وبالعكس ، وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا عن أخبار المنزلة والتفضيل : فإنّ الظاهر منها أنّها واردة في مقام بيان الفضيلة وذكر علوّ درجاتهم ورفع مراتبهم ولا دخل لها بحجّية أقوالهم حتى يقال : بأنّ التنزيل يوجب الأخذ بأقوالهم بعد الموت أيضا.

ولعمري! أنّ أمثال هذه الاستدلالات توجب الوهن في الاعتماد على التمسّك بها ، فالأولى الإعراض عنها.

وأمّا دعوى معلوميّة المناط من هذه الأخبار ، فقد عرفت فسادها ، إذ لم يدلّ شيء منها على أصل التقليد ، فكيف يمكن تنقيح المناط منها؟ كدعوى تشخيص موضوع الحكم لترتيب الأحكام الظاهريّة ، فإنّ الظاهر أنّ ذلك ممّا لا يمكن الوصول إليه ، فإنّ دونه خرط القتاد!

وأمّا الإجماع :

فالمنقول منه لم نقف عليه. وأمّا المحقّق فيمكن استعلامه من أمور :

منها : الاعتداد بأقوال العلماء في الإجماع ولو كان بعد موتهم ، وذلك دليل على عدم سقوطها عن درجة الاعتبار عند العلماء ، وذلك أمر معلوم لمن راجع الكتب الفقهيّة وغيرها.

ص: 487

ومنها : حرص العلماء على ضبط أقوالهم ومصنّفاتهم ، كما يظهر ذلك من تدوين الكتب وتسطير الأساطير. ويؤيّده أنّ ذلك طريقة السلف والخلف حتى أنّ في بعض الأخبار حثّ على ذلك (1).

ومنها : متابعة بعضهم في المطالب للآخر في الاستدلال والفتوى ، وهو أمر معلوم ، كما يظهر من قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » وأمثال ذلك. ونقل بعضهم (2) أنّ جماعة ممّن تأخّر عن الشيخ كانوا يقلّدونه إلى أن بدا للحلّي الاعتراض على الشيخ في مطالبه ، ففتح باب الاجتهاد بعد ذلك.

ومنها : أنّ المحمدين الثلاث انتزعوا هذه الجوامع العظام من الأصول الأربعمائة وغيرها من الكتب ، ولم يستوفوا ما جاء في كلّ مسألة ولا ذكروه على نحو ما جاء ، بل كانوا إذا أرادوا الاستدلال على مسألة عمدوا إلى بعض ما جاء فيها وبعض ما يعارضه ممّا كان أخصر طريقا ، فذكروه وتركوا ما عدا ذلك قائما على أصوله وإن كان صحيح الإسناد. ومن تتبّع ما بقي من الأصول كالمحاسن عرف صحّة ذلك ، فإنّا وجدناه إذا عنون بابا من الأبواب وذكر فيه مثلا نحوا من عشرين خبرا وكان أكثرها من الصحاح عمد الكليني والشيخ إليها وانتزعوا بعضها وتركوا الباقي مع صحّتها محافظة على الاختصار ، ولو نقلوها برمّتها ، ربما فهموا منها غير ما عقلوه ، وربما عمدوا على الخبر الطويل يشمل على مسائل شتّى من أبواب متفرّقة فقطّعوه ووضعوا كلّ قطعة في الأبواب التي يناسبها ، وربما أرسلوا ما هو مسند اختصارا كما يقع كثيرا ، ومن هنا جاء الإضمار والقطع والإرسال وأنواع الاختلال ، فكان ما صنعوه من أقوى أنواع الاجتهاد ، ومع ذلك فعلماؤنا

ص: 488


1- انظر البحار 2 : 144 ، باب فضل كتابة الحديث وروايته.
2- انظر لؤلؤة البحرين : 276 ، الرقم 97.

قبلوا رواياتهم وعملوا بها واعتمدوا عليها وسكتوا عن الفحص عن الأصول القديمة والكتب السالفة ، وذلك من أعظم أنواع تقليد الأموات ، ولم نقف على أحد من أرباب العلم أنكر عليهم ، وذلك إجماع منهم على جوازه.

ومنها : اتّفاق المتأخّرين من أصحابنا على الاعتماد بالجرح والتعديل من علماء الرجال من دون فحص عن السبب ، وكم من أمر يكون سببا للوثاقة أو الجرح ولا يكون عند غيره. وإن شئت فانظر إلى « محمّد بن سنان » فإنّه اشتهر عندهم بالضعف ونقل السيّد الجليل ابن طاوس عن المفيد توثيقه (1) ؛ لأنّ السادة الأطهار عليهم السلام خصّوه بغرائب الأسرار التي لم يطلعوا عليها غيره. وإلى « عمر بن حنظلة » فإنّه لم يوثّق حتى وصلت النوبة إلى الشهيد ، فقال : « إنّي تحقّقت توثيقه من محلّ آخر » (2) وبعد التفتيش علم أنّ الشهيد رحمه اللّه إنّما استفاد توثيقه من رواية ضعيفة قاصرة السند حيث سأله رجل أنّ عمر بن حنظلة قد أتانا ، فقال عليه السلام : « إذن لا يكذب علينا » (3) وذلك دليل على أنّ تقليد الأموات من شعار المجتهدين أيضا فكيف بالمقلّدين؟ إلى غير ذلك ممّا يفيد إطباقهم على الأخذ بأقوال الأموات.

والجواب : أنّ دعوى الإجماع على هذه المسألة التي قد نقل غير واحد من الأساطين المهرة عدم (4) الخلاف فيها ليس إلاّ اجتراء على اللّه وافتراء على أمنائه فعهدتها على مدّعيها.

ص: 489


1- فلاح السائل : 12.
2- الرعاية : 131.
3- الوسائل 18 : 59 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 30.
4- كذا ، والظاهر أنّ كلمة « عدم » زائدة.

وأمّا الأمور التي يقفها (1) المدّعي فهي ممّا لا يزيح علّته ولا ينفع في غلّة (2) وإنّما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، فإذا قربت منها تراها موقدة لنار الغلّة ومزيدة للداء والعلّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإجماع على طريقة الحدس غير متوقّف على الاجتماع ، وعلى طريقة اللطف والبرهان فهو موقوف على الاجتماع ، إمّا في عصر واحد ، فلا حاجة أيضا إلى الاتّفاق في جميع الأعصار ، وإمّا في جميع الأعصار ، فلا بدّ من عدم الخلاف في جميعها لصدق الاجتماع. وذلك إنّما هو لأجل تحصيل الاتّفاق ولا ربط له بشيء من التقليد ، وذلك ظاهر لمن له عين البصارة فضلا من البصيرة.

وأمّا الثاني : فلأنّ فائدة تدوين الكتب لا تنحصر في التقليد بل منها يعرف مواقع الإجماع وكيفيّات الاستنباطات وأطوار الاستدلالات وأنواع الاستخراجات من الأدلّة وإشارات الأخبار والالتفات إلى الأسرار. نعم من لم يذق حلاوة التحقيق وما شمّ من رائحة التدقيق يعتقد أنّ مثل هؤلاء الأجلّة الذين لهم القدح المعلّى من قداح الفضل كان بعضهم يقلّد بعضا ، وإنّما هو قياس غير جائز ؛ ولنعم ما قيل : « كار پاكان را قياس از خود مگير » كيف! وهم صرّحوا في كتبهم الأصوليّة والفروعيّة بعدم جواز التقليد على ما عرفت فيما تقدم.

وأمّا الثالث : فلأنّ الموافقة في الرأي والدليل ليس تقليدا. وأمّا قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » فلا دلالة فيه على التقليد كما لا يظنّ ذلك ذو مسكة ، بل المراد أنّه وافقه في ذلك ولفظة « المتابعة » إنّما هو بواسطة تقدّم زمانيّ بينهما ،

ص: 490


1- كذا ولعلها : « يقولها ».
2- الغلّ : شدّة العطش.

وأين ذلك من التقليد؟ ومن هذا القبيل حال اتّباع الشيخ والسيّد وغيرهما. ولعمري! إنّها حكاية معجبة مضحكة ، كيف زعموا في حقّ الفحول؟

وأمّا الرابع والخامس : فلأنّ الاعتماد على الروايات المنقولة أو الجرح والتعديل ليس تقليدا كما هو ظاهر.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاعتماد على النقل فيما لا يظهر لنا خلافه من العدل والثقة لا ارتباط له بالتقليد. وأمّا احتمال الإرسال والقطع والإضمار وغيرها ممّا لا يعقل مدخليّته فيما نحن بصدده ، كما ذكره المستدلّ.

وأمّا الثاني : فقد أشرنا في الاعتراض على الفاضل التوني - حيث حاول نقض دليل المحقّق الثاني - إليه.

وتوضيحه : أنّ الاعتماد على الجرح والتعديل إمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على اعتقاد المعدّل والجارح (1) فيما يصير سببا لهما عنده ، فلو اعتقد أحد خمريّة مائع وشرب بقصد أنّه الخمر يحكم بفسقه بحسب اعتقاده أو اعتقد حرمة الماء فشربه فإنّه يحكم بفسقه ، وذلك اعتماد على اعتقاده بعد موته ، وهو يوجب تقليد الأموات بل ولو كانوا فسّاقا ، وهل هذا إلاّ عار وشنار! وإمّا أن يكون وجه التوهّم فيه : أنّه اعتماد على الشهادة بعد موته ، مع أنّ الموت لو كان مسقطا لقوله لم يكن وجه لاعتبار الشهادة. وإمّا أن يكون وجه التوهّم : أنّ العدالة والفسق موقوفتان على مسائل اجتهاديّة كعدد الكبائر أو معناها ومعنى العدالة ، وكلّ ذلك من الأمور المختلف فيها ، وذلك معلوم قطعا ، فتارة يكون واحد عند بعضهم فاسقا بواسطة ارتكابه ما هو كبيرة عنده دون غيره ، وتارة يكون عدلا بواسطة اعتقاده أنّ العدالة عبارة عن حسن الظاهر ، إلى غير ذلك. فالاعتماد على

ص: 491


1- في المطبوعة : « المجروح ». وهو سهو.

الجرح والتعديل من هؤلاء المختلفين في المسألة يوجب تقليدهم فيما اعتقدوا ، بل ويوجب ذلك مع عدم علمهم بفتواهم وأنت خبير بأنّ شيئا من ذلك ممّا لا يقبل التفوّه به.

أمّا الأوّل : فلأنّ مداره ليس على الواقع وإنّما هو منوط باعتقاده ، وما يحكم به من الأمور المترتّبة على ذلك ليس مربوطا بالتقليد كما لا يكاد يخفى على أوائل العقول.

وأمّا الثاني : فلأنّ المناط في الشهادة هو القول الموجود بعد الموت أيضا ، إذ حدوثه يكفي عن بقائه في الأزمنة المتأخّرة.

وأمّا الثالث : فهو مبنيّ على حمل العبارة الواقعة من المعدّل والجارح على الواقع ، أو على معتقده. فعلى الأوّل يعتمد عليه من هذه الجهة ، وعلى الثاني فالموافق له في الاعتقاد ربما يوافقه والمخالف له لا يوافقه ، ولعل إطباقهم على عدم الفحص عن حال المعدّل ورأيه إنّما هو دليل على حمل العبارة الواقعة في مقام التعديل والجرح على الواقع ، فلا وجه لحسبان أمثال ذلك دليلا على المطلوب. على أنّ ذلك يوجب التعويل على قول الفاسق على الأوّل كما أشرنا إليه ، والاعتماد على ما ليس معلوما على الثاني ، وهل هذا إلاّ بهت؟

وأمّا استفادة التوثيق من الأمور الاجتهاديّة فلا نسلّم أنّهم يعوّلون عليه من دون مراجعة إلى ما هو السبب في ذلك بعد علمهم بأنّ التوثيق إنّما نشأ من الاجتهاد ، كما يظهر من حال « عمر بن حنظلة » فإنّ جماعة من الأصحاب (1) أنكروا على الشهيد في توثيقه المستفاد من الخبر ، ونحن أيضا قد اعتمدنا على ما ذهب إليه الشهيد ، لاعتقاد الدلالة في الرواية.

ص: 492


1- انظر منتقى الجمان 1 : 19 ، ومنتهى المقال 5 : 128 - 129.

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما ذكره الشريف الجزائري في « منبع الحياة » : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث ، كما ذكرناه في صدر الباب (1). ولقد أجاد المولى البهبهاني في فوائده فيما أورد عليه بقوله : أوّلا ما تقول لو لم يكن كتب الفقه موجودة أو كانت موجودة لكن لم يوجد من يفهم كتبهم ، إذ فهم كتبهم على وجه الصحّة والإصابة لا يتحقّق للفضلاء فضلا عن العوامّ ؛ على أنّ الذي يفهمها لا يكاده أن يعثر على خلافاتهم ، مثل أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة وأنّ الكرّ ما ذا ... وهكذا إلى آخر كتبهم ، إذ لا يكاد يتحقّق مسألة وفاقيّة لا تكون من ضروري الدين أو ضروريّ المذهب ، والضروريّ لا تقليد فيه. أو تكون من غير الضروريّ لكن تنفع المقلّد من حيث عدم ارتباطها في مقام العمل بالمسائل الخلافيّة ، إذ جلّها لا يتمّ العمل إلاّ بضميمة الخلافيّات. مع أنّ الأخباريّين يمنعون عن العمل بفتاوى المجتهدين مطلقا والمجتهدون بالعكس. وأيضا ما يقولون في الوقائع الخاصّة والحوادث الجزئيّة التي ليست مذكورة في كتب الفقهاء بخصوصها؟ وغالب ما يحتاج الناس إليه من هذا القبيل ولا يستنبط من الكتب ، أو يستنبط لكن لا يقدر على استنباطه كلّ أحد ، بل ربما لا يقدر على استنباطه سوى المجتهد ، سيّما إذا تعلّق الواقعة بالوقائع المشكلة مثل القصر والإتمام والرضاع ، وغير ذلك من المعضلات. وأيضا العدالة مثلا يحتاج إليها في غالب الأحوال في المعاملات والعبادات والإيقاعات ، فلو لم يكن [ العادل ] موجودا أو لم يكن ممّن يعرف العدالة بأنّها هي الملكة أو عدم ظهور الفسق وأنّها هل تتحقّق باجتناب

ص: 493


1- لا توجد الرسالة عندنا ولكن حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 472 كما سلف الاشارة إليه في الصفحة : 434.

الكبائر أو الصغائر أيضا وأنّ من الكبائر الإصرار بالصغائر وأنّ الاصرار بما ذا يتحقّق؟ وأنّه هل يعتبر فيه اجتناب المنافيات للمروّة أم لا؟ وعلى تقديره فأيّ شيء هي؟ وأنّه لا بدّ من المعاشرة الباطنيّة أو تكفي الظاهريّة. وبالجملة ، لو لم يكن العادل أو من يعرف العدالة أو العادل ما ذا يصنعون؟ وهذه هي الشبهة المذكورة في لسان العامّة : « حسبنا الروايات والاجتهادات » (1).

وأطال رحمه اللّه في النقض والإبرام عليهم. وما أفاده وإن لم يكن خاليا عن النظر كما لا يخفى على من أمعن فيها (2) ، إلاّ أنّ فيه الجواب أيضا ، فتدبّر.

وقد يستدلّ على الجواز بالعسر والحرج ، وستعرف الكلام فيه.

ص: 494


1- الرسائل الفقهية : 24 - 26.
2- كذا ، والمناسب : « فيه ».

هداية

قد عرفت نسبة التفصيل إلى الفاضل التوني. ولا بأس بنقل كلامه ليتّضح مرامه ، قال بعد المنع عن عموم النهي عن التقليد واختصاصه بالأصول ، والمنع من انعقاد الإجماع في جواز التقليد (1) بزعم أنّها مسألة غير معهودة من أيّام الأئمة عليهم السلام ، والتمسّك بإطلاق الأخبار الخاصّة ، واندفاع العسر والحرج الموجبين للتقليد بمتابعة الميّت أيضا : والّذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة : أنّ من علم من حاله أنّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة - كابني بابويه وغيرهما من القدماء - يجوز تقليده حيّا كان أو ميّتا ، ولا يتفاوت حياته وموته في فتاويه. وأمّا من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم الغير البيّنة والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج فيشكل تقليده حيّا كان أو ميّتا ، فإنّ من تتبّع وظهر عليه كثرة اختلاف الفقهاء في الأحكام يعلم أنّ قليل الغلط في هذه الأحكام قليل ، مع أنّ شرط صحّة التقليد ندرة الغلط.

والسرّ فيه : أنّ مقدّمات هذه الأحكام لمّا لم يوجد فيها نصّ صريح كثيرا ما يشتبه فيها الظنّ بالقطعيّ. وربما يشتبه الحال فيتوهّم جواز الاعتماد على مطلق الظنّ فيها فيكثر فيها الاختلاف ، ولهذا قلّما يوجد في مقدّمات هذا القسم مقدّمة غير قابلة للمنع ، بل مقدّمة لم يذهب أحد إلى منعها وبطلانها. بخلاف الاختلاف الواقع في القسم الأوّل ، فإنّه يرجع إلى اختلاف الأخبار.

ص: 495


1- الصحيح : « المنع من انعقاد الاجماع على منع تقليد الميت ... » ، كما في الوافية :306- 307.

فإن قلت : فعلى هذا يبطل جواز اعتماد المجتهد في هذا القسم الثاني.

قلت : لا يلزم ذلك ؛ لأنّه إذا حصل له الجزم باللزوم والفرديّة يحصل له الجزم بالحكم الشرعيّ ومخالفة الحكم المقطوع به غير معقول ، فتأمّل.

قال : إذا عرفت هذا ، فالأولى والأحوط للمقلّد المتمكّن من فهم العبارات أن لا يعتمد على فتوى القسم الثاني من الفقهاء إلاّ بعد العرض على الأحاديث ، بل لو عكس أيضا كان أحوط (1) ، انتهى.

أقول : أمّا منع عموم النهي عن التقليد واتّباع غير العلم فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، كيف! وذلك من الأمور الضرورية وقد دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة.

فيكفي من الكتاب قوله تعالى ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) ولا سبيل لتوهّم الاختصاص فيه حيث إنّ الإنكار على مجرّد عدم الإذن كما هو ظاهر.

ومن السنّة رواية القضاة أربعة (3).

ومن الإجماع ما حكاه الوحيد البهبهاني من ضرورة صبيان الإماميّة ونسائهم على عدم الجواز (4).

وأمّا العقل ، فلا ريب أنّ في ذلك تقوّلا على اللّه العليم ، وهو ظلم في

ص: 496


1- الوافية : 307 - 308.
2- يونس : 59.
3- الوسائل 18 : 11 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
4- لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال في الرسائل الاصولية : 12 ، إنّ الأصل عدم حجيّة الظن وهو محلّ اتفاق جميع أرباب المعقول والمنقول.

حقّه تعالى المحرّم عقلا ؛ مضافا إلى قوله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1) ومرّ ذلك مفصّلا على وجه لا مزيد عليه في مباحث الظنّ.

مع أنّ دعوى اختصاص تلك النواهي يوجب هدم أساس الأخباريّين ( فإنّهم ) هم الذين يعتمدون على هذه العمومات عند إثبات كلّ مجهول ولو كان بينهما بعد المشرقين! كما هو ظاهر على من تدبّر كلماتهم في مطاويها.

وأفسد من ذلك ما قاله المحقّق القمي رحمه اللّه : من أنّ الاستدلال بعمومات حرمة العمل بالظنّ استدلال بالظنّ ، فمعنى قولنا : الأصل حرمة العمل بالظنّ إلاّ ظنّ المجتهد وإلاّ تقليد المجتهد الحيّ معناه أنّا نظنّ حرمة العمل بالظنّ ، فإذا حصل الظنّ للمقلّد بأنّ ما قاله الميّت هو حكم اللّه فكيف يقول : إنّي أظنّ أنّه ليس حكم اللّه (2)؟

فإنّ بعد الغضّ عمّا زعمه من أنّ ظواهر الكتاب غير معلوم جواز العمل بها إلاّ من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ - فإنّ ذلك قد فرغنا عن إبطاله في مباحث الظنّ - أنّ دليل ذلك الأصل لا ينحصر في الكتاب في آية منها ، بل وذلك يستفاد من الكتاب علما بواسطة تعاضد الظواهر ، بل الأخبار في ذلك متواترة حتى أنّ بعض المتأخّرين (3) قد تصدّى بجمعها. وقيل : إنّها خمسمائة رواية (4) ، والضرورة الدينيّة أيضا قد ادّعوها كالضرورة العقليّة. مع أنّ كلامه يناقض

ص: 497


1- الحاقّة : 44 - 46.
2- انظر القوانين 2 : 269 - 270.
3- لم نعثر عليه.
4- لم نعثر عليه.

ما أفاده في بعض إفاداته : من أنّه لا منافاة بين حصول الظنّ مع الظنّ بعدم جواز العمل به ، فلا منافاة بين حصول الظنّ من قول الميّت مع الظنّ بعدم جواز العمل بهذا الظنّ (1) كما عرفت فيما أفاده في الجواب عن الإجماع المنقول على عدم الجواز.

وأمّا المنع من انعقاد الإجماع على جواز التقليد فهو ممّا لا يسمع منه بعد ما ترى من إطباق الخلف والسلف على ذلك على وجه لا يستراب فيه المنصف.

وأمّا عدم تداولها بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام فهو أفسد من سابقه ، لما اعترف به من إطلاق الأمر بالرجوع إلى أصحاب الأئمّة عليهم السلام وإن كان دعوى الإطلاق فيها بعيدا عن الإنصاف ، لظهورها في الحياة كما عرفت. فقوله (2) : « لكن تخصيص الحي وإخراج الميّت يحتاج إلى دليل » مدخول : بأنّ ذلك على تقدير الإطلاق وليس في الأدلّة الخاصّة والعامّة بأسرها دلالة على التقليد التعبّدي فكيف بإطلاقها للميّت؟

وأمّا ما أفاده من التفصيل ، فهو ذهاب إلى ما ذهب إليه الظاهريّون ورجوع عمّا أسّسه العلماء الإلهيّون وهدم لبنيان الاجتهاد والفتوى ، كما نبّهنا عليه في أوّل المسألة ؛ مضافا إلى أنّ الحكم بقلّة الغلط في القسم الأوّل وكثرته في القسم الثاني غلط خارج عن حدّ الإنصاف ، فهل ترى أنّ مثل المفيد والشيخ وغيرهما من أصحاب القسم الثاني أكثر خطأ عن غيرهم من أصحاب القسم الأوّل على ما زعمه! والحكم بذلك إنّما هو رجم بالغيب.

ص: 498


1- لم نعثر عليه.
2- أي قول الفاضل التوني في الوافية : 306.

وأمّا اشتباه الظنّي بالقطعيّ وتوهّم الاعتماد على مطلق الظنّ وغير ذلك ، فهو ممّا ليس بضائر فيما نحن بصدده بعد ثبوت مشروعيّة التقليد بالضرورة ؛ مع أنّ باب الاشتباه غير منسدّ على القسم الأوّل ، فإنّ المستدلّ يعدّ نفسه منهم مع ما ترى في كلماته من الاشتباه ما لا يوجد في كلام غيره كما لا يخفى.

وأمّا قوله : « فالأولى والأحوط » (1) فهو يشعر بجواز تقليد غير القسم الأوّل أيضا. ولا وجه له بعد زعمه كثرة الخطأ في القسم الثاني ، فإنّ النادر عند العقل كالمعدوم ؛ مضافا إلى أنّ المتمكّن من فهم الخطابات كيف يعتمد على عرضه حتّى يأخذ بالموافق ويرفض المخالف؟ مع جواز أن يكون الخبر الموافق مقرونا في الواقع بمعارض أقوى أو مقيّد أو مخصّص ؛ مضافا إلى أنّه يجوز عنده أن يكون الموافق قد رفضه الأصحاب المطّلعون على دقائق أسرار الشريعة الذين وصل إليهم الأحكام الشرعيّة بواسطة العدول والثقات يدا بيد ، فإنّ علومهم مأخوذة من أفواه هؤلاء الرجال. أو يكون ذلك المعروض عليه مخالفا لما عليه الإماميّة ، إذ ليس ذلك أمرا عزيزا في أخبارنا كما هو ظاهر ، فلا خير في موافقته ، كما أنّه لا ضير في مخالفته ، إذ مع عدم سدّ هذه الاحتمالات لا يجوز الاعتماد ، ومع السدّ لا حاجة إلى ملاحظة الخبر ، إذ لا وجه للسدّ إلاّ بالقول برجوعه إلى المجتهد من دون ملاحظة دليل الواقع.

وبالجملة : أنّ ملاحظة العامّي - يعني الغير القادر على استنباط المسائل من المدارك - وجودها كعدمها. ولعلّ ذلك قول بوجوب الاجتهاد علينا ، إذ بدونه لا ينفع ما ذكره ، ثم إنّه إذا لم نجد موافقا أو مخالفا فما ذا نصنع؟

فإن قلت : لا بدّ من الرجوع إلى المفتي.

ص: 499


1- الوافية : 308.

قلت : ما الّذي دلّ على جواز رجوعه؟

فإن قلت : أدلّة التقليد من الإجماع والضرورة.

قلت : ذلك آت عند الوجود أيضا.

وإن قلت : إنّه لا يرجع إلى المفتي بل هو يعمل بما يريد.

قلت : ذلك خروج عن طاعة اللّه ورجوع إلى طاعة الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.

ثم إنّ قوله : بل « لو عكس كان أحوط » (1) ، فإن أراد منه تقديم الملاحظة وتأخيرها في الأخبار فهو ممّا لا يؤثّر فيما حكم به من الاحتياط ، وهو ظاهر. وإن أراد به أن يرجع إلى الأخبار أوّلا فما وجده صريحا أخذ به وما أشكل عليه رجع إلى فتاوى العلماء - لما زعمه الشريف الجزائري (2) : من أنّ كتب الفقه شرح لكتب الأخبار - فهو يجدي فيما لو فرض المقلّد صاحب الاقتدار على الاستنباط في تلك الأخبار الصريحة ، وإلاّ فالإشكال أيضا باق بحاله.

بقي الكلام فيما ذكره (3) : من أنّ العسر كما يندفع بالرجوع إلى الأحياء كذلك يندفع بالرجوع إلى الأموات. وهو ناظر إلى ما أفاده في المعالم (4) : من أنّ التقليد إنّما ساغ للإجماع المنقول والعسر والحرج بتكليف الخلق بالاجتهاد. وكلاهما لا يصلح دليلا في موضع النزاع ، لصراحة الأوّل في الاختصاص بتقليد الأحياء ، والعسر والحرج يندفعان بتقليد الأحياء.

ص: 500


1- الوافية : 308.
2- تقدّم في الصفحة : 434.
3- ذكره الفاضل التوني في الوافية : 306.
4- المعالم : 243.

ومحصّل مراده الاستناد إلى الأصل في الاستدلال على المطلب. وتقريره : أنّ تجويز الرجوع إلى الميّت لا بدّ له من دليل ، إذ بدونه يكون قولا بغير علم ولا دليل عليه ، إذ الإجماع مختصّ بالأحياء ، والعسر والحرج يكفي في دفعهما الرجوع إلى الأحياء. وما أدري كيف يقابل ذلك باندفاع العسر بالرجوع إلى الأموات؟ وهل هذا إلاّ خروجها عن قانون التوجيه؟

ص: 501

ص: 502

هداية

حكي عن ركن الدين محمّد بن عليّ الجرجاني (1) أنّه قال في هذا الباب : الأشبه أن يقال : إنّ المستفتي إن وجد المجتهد الحيّ لم يجز له الاستفتاء من الحاكي سواء كان عن حيّ أو ميّت ؛ لأنّه مكلّف بالأخذ بأقوى الظنّين ، فيتعيّن عليه كالمجتهد ، فإنّه يجب عليه الأخذ بأقوى الدليلين ، فإن لم يجده فلا يخلو إمّا أن يجد من يحكي عن الحيّ أو لا ، فإن وجده تعيّن أيضا. وإن لم يجد فإما أن يجد من يحكي عن الميّت أو لا ، فإنّ وجده وجب الأخذ من كتب المجتهدين الماضين.

أقول : وجه التفصيل أمران :

أحدهما : لزوم الأخذ بالمشافه مع الإمكان وعدم الاعتداد بنقل الواسطة أو الرجوع إلى الرسالة ونحوها. ولم يظهر لنا وجه ذلك ، فإنّ عموم وجوب الأخذ بالشهادة ممّا لا ينكر لو أغمضنا عن أصالة حجّية قول العادل مطلقا ، أو في خصوص المقام بواسطة جري السيرة المستمرّة الكاشفة عن رضى المعصوم على ذلك ، فغاية الأمر اعتبار التعدّد أيضا كما في الشهادة. وأمّا عدم الاعتداد إلاّ بالمشافه فلا وجه له.

الثاني (2) : جواز الرجوع إلى الميّت على تقدير عدم الحيّ. ولا مانع منه ،

ص: 503


1- حكاه السيد الصدر في شرح الوافية : 470.
2- وهو المنسوب إلى العلاّمة والمحقّق الأردبيلي ، انظر حاشية الشرائع للمحقق الكركي ، الورقة : 100 ومفاتيح الأصول : 625 ، ومجمع الفائدة 7 : 547.

نظير ما نبّهنا عليه في بعض مباحث الظنّ : من أنّ الواجب هو الرجوع إلى الوهميّات فيما لو فرض - العياذ باللّه - انسداد باب الظنون المطلقة أيضا.

ولا ينافي ذلك ما قلنا : من أنّ المناط هو الظنّ ، فإنّه يختلف موضوعات المكلّفين باختلاف الأوقات والأحوال. وقد عرفت أنّ ذلك ليس تفصيلا في الحقيقة ، إذ كلام المانعين إنّما هو في مقام وجود الحيّ. وليس من ذلك أثر في كلامهم ، كما هو ظاهر.

ومن هنا تعرف فساد الاستدلال على الجواز : بأنّه ربما لا يوجد مجتهد حيّ أو الاقتصار على الأحياء ربما يوجب العسر والحرج ، لانتشار المكلّفين في البلاد النائية مع انحصار المجتهد في واحد لا يصل أيدي الأغلب أو الغالب أو البعض إليه ، فإنّ هذه الفروض لو سلّم وقوعها - نظرا إلى ما هو المتنازع فيه مع إمكان خلوّ العصر عنه مجتهد حيّ على وجه الكفاية - لا ينافي ما نحن بصدده. كما لا وجه لما قد يوجد في كلام المحقّق القمي رحمه اللّه (1) بأنّ الدليل لا يفيد تمام المطلوب ، فتدبّر.

ص: 504


1- لم نعثر عليه.

هداية

في بيان التفصيل بين الاستدامة والابتداء في قبال قول المشهور بالمنع مطلقا.

قال السيّد الصدر في شرح الوافية - بعد ما نقل قول الشيخ سليمان والشيخ عليّ بن هلال وركن الدين الجرجاني - ما لفظه : ومال بعض المتأخّرين إلى عدم بطلان التقليد بموت المجتهد الذي قلّده في حياته وعدم جواز تقليد الميّت ابتداء بعد موته. وهو قريب (1) ، انتهى.

وهو صريح في أنّ ظاهر المشهور هو المنع مطلقا ، وإلاّ لا وجه لعدّ القول بالاستدامة تفصيلا في المسألة. ومراجعة الأدلّة التي قدّمناها قاضية بذلك أيضا ، ألا ترى أنّ قول السيّد الجزائري رحمه اللّه (2) في ما زعمه من الدليل : من « أن الحكم بصحّة صلاة من مات مجتهده بعد ما صلّى الظهر وبطلان صلاة عصره يوجب الشراكة مع الشارع » صريح في الردّ على الاستدامة. وكذا جواب القوم عنه - كالسيّد الكاظمي رحمه اللّه (3) بالنقض بطريان الفسق وأمثاله مثل ما إذا تغيّر الرأي في أثناء العمل. فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن حريم النزاع كان الوجه في الإيراد على الدليل المذكور أنّ ذلك خروج عن محلّ النزاع.

ص: 505


1- شرح الوافية : 471.
2- قاله في الرسالة التي لا توجد عندنا ، ونقله منها السيد الصدر في شرح الوافية : 472.
3- الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) مبحث الاجتهاد والتقليد ، ذيل الدليل الثامن للمجيزين.

ومثل ذلك في الدلالة على أنّ التفصيل بين الاستدامة والبقاء إنّما هو من أقوال المسألة التي نحن بصددها ما ذكره المحقّق الكاظمي رحمه اللّه في الجواب عن استدلال المجوّزين من العامّة وغيرهم : بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته وكذا فتواه ، حيث قال أوّلا : إنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فيحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة ، فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرّر عنده.

ثم قال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتّباعه فيما ظنّه واستنبطه ، لا في اعتبار خبره. وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله منذ حيّا ، انتهى.

وهذا الكلام من الصراحة بمكان لا يقبل الإنكار ؛ وكذا أكثر الأدلّة التي أقامها المانعون ممّا بيّنا على بقاء الظنّ يعمّ البدوي والاستمراري.

وقد يتوهّم : أنّ المشهور الذاهبين إلى عدم جواز تقليد الميّت إنّما كلامهم يختصّ بالابتداء ولا يتوجّه نظرهم إلى الاستمرار.

وهو وهم ناش عن قلّة التدبّر في كلمات المانعين والمجوّزين ، كما عرفت.

وأغرب من ذلك : أنّه قد يذكر في ذلك أقوال ، منها : القول بوجوب البقاء (1). ومنها : القول بحرمته ووجوب العدول (2). ومنها : القول بالتخيير بين البقاء والعدول (3). ومنها : القول بوجوب العدول لو كان الحيّ أعلم وإلاّ فالبقاء لازم (4).

ص: 506


1- ذهب إليه القزويني في ضوابط الأصول : 421.
2- وهو الظاهر من المحقق الثاني في حاشية الشرائع : 99 - 100 ، كما نسبه في المفاتيح : 624 ، إليه وإلى والده.
3- ذهب إليه صاحب الجواهر في الجواهر 21 : 402.
4- لم نعثر عليه.

والحقّ أنّه منحصر في هذه المسألة في قولين : قول باشتراط الحياة في الاستدامة ، وقول بعدم الاشتراط ، فإذا قلنا بالاشتراط فلا وجه لمسألة العدول لبطلان التقليد بواسطة انتفاء شرط آخر مثل تبدل الرأي أو عروض الفسق أو الجنون. وإذا قلنا بعدمه فيكون من موارد العدول وعدمه.

والأقوال في مسألة العدول لا ينبغي عدّها في أقوال هذه المسألة ، كما أنّ القول بوجوب تقليد الأعلم لا ينبغي عدّه في أقوال هذه المسألة ؛ مع أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا صار الحيّ أعلم بعد الموت ، إذ لو كان قبله لم يجز تقليده رأسا. وذلك نظير التفصيل المنقول عن العلاّمة الجرجاني ، حيث أخذ فيه القول بوجوب الأخذ مشافهة. وكيف كان ، فالمختار أيضا هو مختار المشهور ، إلاّ أنّ الأصل في المقام يخالف الأصل في التقليد البدوي.

وتوضيحه : أنّ قضيّة الأصل - على ما عرفت سابقا - هو المنع مطلقا ، لكونه قدرا معلوما. وليس في المقام كذلك إلاّ على القول بجواز العدول ، فإنّ الرجوع إلى الحيّ لا غائلة فيه على التقادير. بخلاف ما إذا قيل بعدم جواز العدول ، فإنّه يدور الأمر بين الغير الجائز والبقاء الغير الجائز ، فيكون قضيّة الأصل هو التخيير بين الاحتمالين عند عدم المرجّح لأحدهما ، وعلى تقديره فالأخذ بما فيه الترجيح.

ولا سبيل إلى القول بلزوم الأخذ بالبقاء على تقدير حرمة العدول ، فإنّ حرمة العدول في الصورة المفروضة ليست معلومة بل محتملة. كما أنّه لا سبيل إلى القول بلزوم العدول ؛ لأنّ جواز العدول وعدمه إنّما يتكلّم فيه ويبحث عنه فيما لو فرضنا صحّة التقليد. وأمّا فيما لو احتمل فساد التقليد أصلا لا وجه لاحتمال حرمة العدول ، فيكون قضيّة الأصل أيضا هو المنع ؛ وذلك : لأنّ احتمال حرمة العدول موجود بعد ، فلا يكون تقليد الحيّ معلوم الصحّة ،

ص: 507

فإنّ احتمال فساد أصل التقليد لا ينافي احتمال صحّة الملازم لاحتمال حرمة العدول الموجب للتخيير العقليّ.

ثم إنّه ذهب جماعة (1) من المعاصرين ومن قاربهم في العصر إلى التفصيل المذكور ، بل ربما يدّعي بعضهم كونه من المسلّمات. واستدلّوا على المنع في البدويّ بما عرفت من الأدلّة السابقة وعلى الجواز في الاستمراريّ بوجوه :

الأوّل : الاستصحاب وتقريره بوجوه :

منها : استصحاب الأحكام الثابتة في ذمّة المقلّد ، كحرمة العصير العنبي مثلا بواسطة التقليد قبل موت المجتهد.

ومنها : استصحاب الأحكام المتعلّقة بوجوب القصر عند ذهاب أربعة فراسخ مثلا. ومرجعه إلى استصحاب الملازمة الفعليّة ، فيكون من الاستصحاب التنجيزي كما حرّر في محلّه.

ومنها : استصحاب صحّة التقليد ، كما إذا شكّ في صحّة البيع مثلا.

ومنها : استصحاب حرمة العدول على القول بها.

والجواب : هو ما قدّمناه في استدلال المجوّزين على الإطلاق. وحاصله :

أنّا قد بيّنا في محلّه : أنّ من شرائط جريان الاستصحاب العلم ببقاء الموضوع وهو غير حاصل ، إمّا للعلم بارتفاعه على القول بارتفاع الظنّ أو عدم العلم ببقائه.

والعمدة في الاستدلال بهذه الاستصحابات الغفلة عمّا يدور عليه رحى الاجتهاد والميل عن طريق المجتهدين بسلوك سبيل وعر سلكه الظاهريّون الأخباريّون من أصحابنا ، وإن كان هؤلاء لا يرضون أيضا بالتمسّك بالاستصحاب ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 508


1- مثل الأصفهاني في الفصول : 422 ، والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول : 624.

وبيانه إجمالا : أنّ مناط الأحكام الظاهريّة عندنا معاشر المجتهدين هو الظنّ ، والقدر المعلوم من استتباعه الأحكام الظاهريّة هو ظنّ الحيّ سواء قلنا ببقاء الظنّ بعد الموت أو قلنا بارتفاعه ، وبعد ارتفاع الوصف لا يصحّ جريان الاستصحاب الحكمي ، والموضوعي أيضا غير مفيد كما حرّر في محلّه سابقا.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، فإنّ شمولها لوجوب الأخذ بقول المفتي فيما لو أخذه أوّلا ممّا لا ينبغي إنكاره.

والجواب عنه :

أوّلا : فبمنع دلالتها على أصل التقليد ، كما مرّ الوجه في ذلك مفصّلا.

وثانيا : لو سلّمنا دلالتها على التقليد فيمنع إطلاقها. أمّا فيما عدا آية النفر من الآيات الكتابية فلأنّ دلالتها من باب الملازمة العرفيّة ، ولا إطلاق في المداليل الالتزاميّة.

وأمّا فيها (1) ففي وجه تلحق بغيرها ، وفي وجه آخر فلو سلّم نهوضها على جواز التعويل على قول الأموات بعد موتهم فلا بدّ من تخصيصها - كغيرها من الأدلّة - على تقدير الدلالة بمعاقد الإجماعات التي قد عرفت فيما تقدّم زيادتها عن حدّ الاستفاضة ، مع كفاية ذلك بعد موافقته (2) للمتتبّع في كلمات الأصحاب ، مع عدم ظهور المخالف في المسألة ؛ لأنّها ملحقة بالفرعيّات ، ولم نقف من هؤلاء المجوّزين الاجتراء على مخالفته في الفروع الفقهيّة.

ص: 509


1- أي : آية النفر.
2- كذا ، وفي العبارة نقص.

فإن قلت : إنّ الإجماعات المتقدّمة مختصّة بالتقليد البدوي وليس إطلاقها في بيان حال التقليد الاستمراري ؛ لأنّها وقعت في قبال العامّة القائلين بالجواز ابتداء ؛ مضافا إلى أنّ التقليد هو البدويّ منه ، فلا ينصرف إطلاق لفظ « التقليد » إلى الاستمراري ، بل قد يقال : لا يمكن شمولها إلاّ مجازا ؛ لأنّ البقاء على التقليد ليس تقليدا بالمعنى المصدريّ.

قلت : أمّا كون هذه الإطلاقات في غير مقام بيان الاستمرار إنّما يظهر خلافه بملاحظة كلمات القائلين بعدم الجواز ، حيث إنّهم لا يظهر منهم جواز الاستمرار ولو واحدا ، ولو كان كذلك لكان ذلك شايعا في كلامهم ، وقد عرفت أنّ حدوثه إنّما هو من بعض المتأخّرين ، كما نصّ عليه السيّد الصدر (1). فالقول بأنّ هذه الاطلاقات ليست في مقام بيان الاستمرار إنّما هو قول بلا داع.

وأمّا دعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا ، فلا وجه لها ، وبيان ذلك يتوقّف على الإحاطة بمعاقد الإجماعات سواء كان الإجماع مصرّحا به في كلماتهم أو لا ، فنقول :

منها : ما ادّعي على عدم جواز التقليد ، ولا ريب في استواء صدق التقليد على الابتداء والاستدامة سواء فسّر بالعمل كما هو الظاهر ، فإنّه هو المعقول منه بعد عدم إرادة ما هو المراد منه في غير المقام من الاعتقاد ، الغير الثابت ، لعدم حصوله في الأغلب.

ولا يستلزم ذلك بطلان العمل الأوّل أو الدور ، نظرا إلى توقّف صحّة العمل على التقليد ، فالعمل الأوّل إمّا أن يكون صحّته بنفسه فهو دور ، وإمّا أن لا يكون

ص: 510


1- شرح الوافية : 471.

صحيحا فهو باطل. والوجه في ذلك هو ما أشرنا في محلّه ، وحاصله : أنّ التقليد من كيفيّات العمل وأنحائه ، وإنّما يصحّ انتزاعه من العمل فيما إذا كان العمل مطابقا لفتوى المجتهد من دون حاجة إلى سبق العمل ، فالمفروض يكون صحيحا بواسطة صحّة انتزاع التقليد من العمل الأوّل بعد وجود ما هو المعيار والمناط في الصدق المذكور ، فلا محذور ، إذ لم يفسّر به بل فسّر بالأخذ ، كما يراه البعض.

أمّا على الأوّل : فلأنّه يصدق على من يبقى على التقليد أنّه عامل بقوله ولو كان بعد موته ، فلو نهى المولى عبده عن العمل بقول زيد لا نرى فرقا بين العمل بقوله ابتداء في الحياة والممات وبين استدامة العمل بقوله حيّا وميّتا ، وذلك أمر مجزوم به. فدعوى عدم الشمول وضعا أو انصرافا غير مسموعة.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأخذ بقول الغير يصدق مع الاستمرار أيضا ، فإنّ استمرار الأخذ ليس خارجا عن حقيقة الأخذ ، بل هو أخذ ، كما أنّ استمرار الجلوس جلوس ، واستمرار القيام قيام.

وتوضيحه : أنّ الأفعال القابلة للامتداد في الوجود لا وجه للقول بأنّ الآن الثاني من وجوده ليس من حقيقة ذلك الفعل مع عدم ما يقضي بذلك عقلا ولا نقلا ، كما يشهد بذلك استقراء المصادر التي هي حقايق الأفعال.

وأمّا القول بأنّ « الأخذ » من الأفعال الآنيّة التي لا تقبل الامتداد ، فيكفي في بطلانه مراجعة الوجدان ومقايسة الأفعال الممتدّة معه ، فلا يصغى إليه. إلاّ أنّه لم نعثر على اشتمال معاقد الإجماعات على لفظ « التقليد » سوى ما ذكره الشهيد في الرسالة (1) ، على ما تقدّم.

ص: 511


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 41 ، راجع الصفحة : 453.

ومنها : الإجماع على أنّ الميّت لا قول له كما عن الأحسائي (1) ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ، فوجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة. ودلالته على نفي القول على عدم جواز التعويل بقوله ابتداء واستدامة ظاهرة لا تقبل الإنكار ، فإنّ الظاهر من نفي القول بعد العلم بثبوته قطعا هو نفي الآثار. ولا فرق في ذلك بين الاستدامة والابتداء.

ومنها : الإجماع على بطلان القول ، كما عن الشهيد في الرسالة (2). ودلالته صريحة في الغاية.

ومنها : ما أفاده في المسالك (3) : من أنّه صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا. وهذا نظير ما في المعالم : من أنّ العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ (4).

والإنصاف أنّ أمثال هذه المناقشات إنّما تنشأ من ضيق المجال في الاستدلال ، فإنّ شمول هذه العبارات للمطلوب على منار لا ينكره إلاّ العسوف ، بل لو كان ولا بدّ من المناقشة فليقل : بأنّه لا دليل على اعتبار هذه الإجماعات في المقام.

ص: 512


1- راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : 33.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 41.
3- المسالك 3 : 109.
4- المعالم : 248.

فنقول : إنّ الكلام في المقام إنّما هو في قبال من ذهب إلى عدم الجواز في الابتداء نظرا إلى هذه الإجماعات ، فإنّ لم يسلّم البرهان على اعتبارها فلا بدّ من تسرية المنع إلى هناك ، وإلاّ فالواجب الأخذ بإطلاق معقد الاجماع في المقام أيضا بعد وضوح فساد المنع المذكور. ويوضح ذلك ما ذكرنا في صدر الهداية من شمول الأدلّة وكلماتهم للاستمراريّ والبدويّ فراجعها.

الثالث : دعوى استقرار السيرة على البقاء على تقليد الأموات. ويظهر ذلك بملاحظة أحوال أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، فإنّ من المعلوم عدم التزامهم مع وفور قدسهم بالرجوع عمّا أخذوه تقليدا عمّن له الإفتاء بعد عروض موت المفتي ، ولو كان ذلك لكان بواسطة عموم البلوى منقولا معلوما ، ومثله يعطي العلم برضاء الإمام عليه السلام وتقريره الشيعة على البقاء.

والجواب عن ذلك المنع من استقرار السيرة في وجه وعدم جدواها فيما نحن فيه في وجه آخر. وتوضيحه : أنّ الناس في زمن أصحاب الأئمّة عليهم السلام بين أصناف ، فإنّهم بين العامل بما يسمعه شفاها عن المعصوم ، وبين العامل بالأخبار المنقولة عنهم مثل الفتاوى المنقولة عن المجتهدين ، وبين العامل بفتاوى المجتهدين في تلك الأزمنة ، ك- « أبان بن تغلب » و « محمّد بن مسلم » وأضرابهما ممّن له أهليّة الاجتهاد والإفتاء.

ولا ريب أنّ القسمين الأوّلين ليس عملهم من التقليد في شيء. وذلك هو الغالب في الموجودين في تلك الأزمنة وإن كان بلدهم بعيدا عن بلاد الأئمّة عليهم السلام كما يظهر من ملاحظة أحوالهم ومقايستها بأحوال المقلّدين النائين عن بلد المجتهد في الفتاوى المنقولة إليهم.

وأمّا القسم الثالث : فهم المقلّدون. ولا ريب في قلّة هذا القسم بالنسبة إليهم ، بل وفي نفسه أيضا ؛ لتيسّر الاجتهاد في تلك الأزمنة وعدم احتياجه إلى

ص: 513

ما يحتاج إليه في أمثال زماننا. فإن أريد استقرار سيرة القسمين الأوّلين على عدم الرجوع فمسلّم ذلك ولكن لا يرتبط بالمقام ، إذ لا إشكال في أنّ موت الإمام لا يوجب بطلان قوله كموت الراوي مثل موت الناقل لفتوى المجتهد في زماننا. وإن أريد استقرار سيرة القسم الثالث فلا نسلّم ذلك ، فإنّ الإنصاف أنّ دون إثبات استقرار سيرة المقلّدين بالمعنى المصطلح عليه على البقاء خرط القتاد! بل ولا يبعد دعوى السيرة على خلافه كما يشاهد في أمثال زماننا ، فإنّ بعد موت المرجع نرى اضطراب المتشرّعين من أهل تقليد ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فلا يقاس حال الموجودين في هذه الأزمنة وما يضاهيها من زمن الغيبة بحال أصحاب الأئمة عليهم السلام لما عرفت من افتراقهم الفرق الثلاث ، بخلافهم فإنّ الغالب فيهم التقليد ، كما ذكرنا. نعم ، يصحّ مقايسة حالهم بحالهم في الفتوى المنقولة إليهم مع عدم سماعهم من المجتهد بواسطة الثقات والعدول.

الرابع : أنّ الأمر بالرجوع عن الفتاوى المقلّد فيها يشمل على عسر أكيد وحرج شديد ، وهما منفيّان في الشريعة السمحة السهلة.

والجواب عن ذلك : أنّه إن أريد لزوم العسر والحرج في تعليم المسائل التي أفتى فيها الحيّ. ففيه : أنّه لا عسر فيه ، إذ لو كان كذلك لكان ساقطا عن البالغ في أوّل بلوغه ، على أنّ المخالفة ليست في جميع المسائل بل ولا في الغالب ، فإنّها قليلة جدّا ، وذلك يحصل بمطابقة الرسالة في أيّام معدودة ونحوها ممّا لا يعدّ عسرا إلاّ ممّن جبلت طبيعته على الاعتذار في انتهاضه على الأحكام الشرعيّة والقيام بوظائف الشريعة.

ص: 514

وإن أريد لزوم العسر في انتقاض الآثار المترتّبة على الأعمال الواقعة بمقتضى التقليد الأوّل عند المخالفة ، فذلك لو سلّم لزوم العسر فيه ، فنلتزم بعدم النقض في الآثار السابقة. وأمّا الأعمال اللاحقة ، فلا بدّ من أن يكون على مقتضى التقليد اللاحق.

مثلا : لو فرض أنّ الميّت كان يقول بطهارة الغسالة والمقلّد أيضا إنّما بنى على طهارتها في جملة من الأعوام والسنين ، ثمّ بعد ذلك رجع إلى تقليد الحيّ القائل بنجاستها ، فإنّه يقع في العسر فيما لو أراد إعمال هذه الفتوى بالنسبة إلى ما بنى على طهارته بمقتضى الفتوى الأولى. ولكنّه لا عسر في لزوم الاجتناب عن الغسالة بعد ذلك ، وأين ذلك من لزوم البناء على التقليد السابق على وجه الإطلاق؟ وقد فرغنا عن إبطال هذه الكلمات فيما قدّمنا في مسألة الإجزاء.

ثم اعلم أنّ القول بوجوب البقاء أردأ من القول بجواز البقاء ، فإنّ الوجه في عدم جواز العدول إمّا الإجماع ، وإمّا قاعده الاحتياط فإنّه هو القدر المعلوم ، وإمّا استصحاب وجوب الأخذ بالعمل السابق ، أو استصحاب وجوب نفس العمل ، أو غيره من تقادير الاستصحاب.

أمّا الأخير ، فقد عرفت ما فيه من وجوه المناقشة.

وأمّا الثاني ، فقد عرفت أيضا أنّ الاحتياط لا يقضي بالأخذ بقول الميّت ، فإنّ المسألة من موارد التخيير بناء على حرمة العدول ، وقضيّة الاحتياط هو الرجوع على تقدير جوازه.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ الإطلاقات المتقدّمة على تقدير صلوحها وشمولها للأخذ بقول الميّت على وجه الاستدامة لا يصلح دليلا في المقام ؛ لأنّ المفروض

ص: 515

شمول تلك الأدلّة لقول الحيّ أيضا ، فقضيّة المعارضة هو الرجوع إلى وجوه التراجيح المعمولة بين المتعارضين وهي مع الرجوع (1) لما عرفت من ذهاب المشهور إليه.

وبالجملة ، ففي مقام التعارض لا وجه للأخذ بالإطلاق ، فإنّ صورة المعارضة غير مشمولة للإطلاق ، كما ستعرف تفصيل ذلك بعيد المقام.

وأمّا الإجماع فعدم تحقّقه في المقام ظاهر.

ص: 516


1- كذا ، والعبارة ناقصة ظاهرا.

هداية

اشارة

إذا مات المجتهد ولم يكن في الأحياء من يجوز التعويل على قوله بواسطة عدم تدبّره في العلوم الشرعيّة أو بواسطة فقدان شرط من شروطه ، فهل الحجّة قول الميّت؟ أو لا حجّة فيه أصلا؟ وجهان بل قولان ، ذهب إلى الثاني المحقّق الثاني وتبعه في الرياض على ما نقل (1). وقد سبق في صدر الباب نسبة الأوّل إلى جماعة منهم المقدّس الأردبيلي.

ويمكن ابتناء الخلاف في ذلك على أنّ الحياة من الشروط المطلقة التي لو فرض انتفاؤها يسقط معه وجوب المشروط ، أو من الشروط عند الاختيار.

فعلى الأوّل لا يجوز أصلا ، بل ينقلب التكليف إلى أمر آخر. ولا ينافي ذلك أن يكون مقتضى الدليل في الفرض المذكور هو الرجوع إلى فتاوى الموتى ، فإنّ ذلك بواسطة اندراجه تحت عنوان آخر كما هو ظاهر في الغاية.

وعلى الثاني فلا وجه لسقوط المشروط ، فإنّ الاشتراط إنّما هو في حال الإمكان وعند التعذّر فالشرط باق بحاله. وعلى ذلك لا بدّ من ملاحظة التراجيح لو دار الأمر بينه وبين فقد سائر الشرائط كالإيمان والعدالة. ولعل الترجيح مع الأخذ بقول الميّت ، لوجود القائل ابتداء ، بخلاف قول الكافر والفاسق ونحوهما.

ص: 517


1- نقله السيّد المجاهد في المفاتيح : 625.

والأقرب هو الأوّل ، لإطلاق معاقد الإجماعات التي هي العمدة في دليل الاشتراط. وعلى ذلك فيجب إنكار حجّية قول الميّت من هذه الجهة والمصير إلى الأمارات المفيدة للظنّ بعد العجز عن الاحتياط أو فرض الإجماع على عدم وجوبه.

وأقرب الأمارات هي الشهرة لو أمكن تحصيلها كما إذا كان المقلّد من أهل تحصيلها. ثمّ بعد ذلك بالمنقولة منها بواسطة شهادة العدلين أو العدل لو لم يمكن العدلان. ثم الأخذ بأوثق الأموات كالمحقّق والشهيد وأضرابهما من أساطين الفقه. ثمّ الأخذ بمطلق الأموات. ثمّ الأخذ بمطلق الظنّ.

والوجه في ذلك جريان الدليل العقلي القاضي بالعمل بشيء يحتمله موضوع المكلّف على حسب اختلاف مراتب تكليفه ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم إجمالا ، وقد سبق تحقيقه في مباحث الظنّ.

فإن قلت : إنّ فرض انسداد باب العلم يوجب الرجوع إلى ما هو مفيد الظنّ بالنسبة إلى المقلّد ، ولعلّه يوافق الشهرة ، فلا وجه للترتيب المفروض.

قلت : إنّ المقلّد بعد اندراجه تحت موضوع الانسداد ، فإمّا أن يستقلّ عقله بالعمل بالظنّ أو لا يستقلّ ، فعلى الأوّل فلا حاجة إلى المسألة عمّا هو العالم ، فإنّه يعمل على حسب ما يستقلّ عقله. وعلى الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى غيره. والترتيب المذكور إنّما يفيده بعد الرجوع ، والغير إنّما يلزم عليه الرجوع إلى الأمور المذكورة لكونها الأقرب فالأقرب. لكنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض عدم استحقاق الإفتاء للغير ، فتأمّل.

واستدلّ في محكيّ مجمع الفائدة للقول الثاني بلزوم الحرج والضيق - المنفيّان عقلا ونقلا - والاستصحاب وبتحقّق الحكم وحصوله من الدليل ولم

ص: 518

يتغيّر بموت المستدلّ ، وقال بعد ذلك : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر - كما صرّح به في الذكرى (1) والجعفريّة (2) وكتب الأصول - وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا تحصل الراحة به (3) ، انتهى ما أفاده رحمه اللّه. أقول : هو كما أفاد لا تحصل به الراحة ، بل الظاهر أنّ الاستدلال المذكور لا يسمن ولا يغني ، ويظهر الوجه فيه ممّا ذكرنا في الهدايات على وجه التفصيل. وأمّا إجمالا فلزوم الأوّلين ممنوع. والثالث لا مجرى له. والرابع لو تمّ لدلّ على الجواز حال وجود الحيّ ؛ مضافا إلى ما عرفت من ابتنائه على مقدّمات لا يساعدها دليل ، كما هو ظاهر.

تنبيهان :

الأوّل : قال المحقّق الثاني في محكيّ تعليقاته على الشرائع : متى عرض للفقيه العدل الفسق - العياذ باللّه - أو جنون أو طعن في السنّ كثيرا بحيث اختلّ فهمه امتنع تقليده ، لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (4) ، انتهى.

أقول : وما أفاده في غاية الجودة ، لإطلاق ما دلّ على اشتراطها في الابتداء. وكذا الكلام في جميع ما يعتبر في الابتداء ، كالإسلام والإيمان والعلم.

ص: 519


1- الذكرى 1 : 44.
2- الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
3- مجمع الفائدة 7 : 547.
4- حاشية الشرائع : 99 - 100.

فإنّ زوال أحدها يوجب زوال التقليد وبطلانه. وهو الظاهر ممّن أطلق القول في الشروط المذكورة أيضا.

ويدلّ على ذلك الأخبار الدالّة على اعتبار الإيمان والعدالة ، كرواية الاحتجاج على ما تقدّم الكلام في دلالتها (1) كالرضويّ (2) الصريح في النهي عن غير الشيعة. ويؤيّده قول الشيخ أبي القاسم في جواب من سأل عن كتب الشلمغاني حيث نقل عن العسكريّ عليه السلام أيضا ذلك القول (3). فإنّ النهي عن الأخذ بما رأوا من غير استفصال بين الابتداء والاستمرار دليل على العموم.

ولا طعن في سند الرواية ، فإنّ « عبد اللّه الكوفي » يكفي في وثاقته كونه من خدّام الشيخ. ودلالتها أيضا ظاهرة. ولا عبرة باحتمال إرادة النهي عما رأوا من الاعتقاد الفاسد ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر ، فإنّه لا يتوهّم وجوب الأخذ بذلك ، فلا يكون موردا للسؤال ، بل الظاهر هو الآراء المنبعثة عن اجتهادهم. ولا يدلّ على جواز التقليد بالنسبة إلى الموتى ، لعدم العلم بموت جميع بني فضّال أو خصوص الشلمغاني حين السؤال ، فتأمّل في المقام.

الثاني : إذا قلّد الشخص في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فعمل على مقتضاه ، ثم مات مجتهده ، فإن قلّد مجتهدا آخر يوافق قوله قول الأوّل بقاء وعدولا فلا إشكال ؛ وكذا إذا كان مقتضى التقليد الأوّل البقاء والثاني الرجوع ، فإنّ هذه الواقعة كإحدى الوقائع التي لا بدّ فيها من التقليد ولا بدّ من الرجوع عن

ص: 520


1- تقدم في الصفحة : 484.
2- انظر الوسائل 18 : 109 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42 ، والظاهر أن الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام.
3- تقدم في الصفحة : 435.

التقليد الأوّل فيها. ويتفرّع على رجوعها الرجوع عن سائر الوقائع المقلّد فيها. ولو فرض الرجوع عنه في غيرها كان ذلك رجوعا عنها التزاما ، إذ لا محلّ لها بعد الرجوع عن غيرها جميعا.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان مقتضى الأوّل الرجوع ومقتضى الثاني البقاء ، فإنّه يرجع إلى التناقض في مقتضاهما ، فإنّ البقاء في هذه الواقعة يوجب الرجوع ولو عن هذه الواقعة.

والذي يسهّل الخطب عدم الأخذ بعموم الفتوى الثانية بالنسبة إلى مسألة البقاء والعدول ، للزوم تخصيص الأكثر لولاه ، ولأدائه إلى وجوب العدول مع أنّ المفتي لا يقول به. فالتعبير المذكور يكون في غاية الركاكة ، وبذلك نبّهنا في بعض مباحث الظنّ ، فراجعه.

ص: 521

ص: 522

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الكلام في اشتراط الأعلمية في المفتي

اشارة

ص: 523

ص: 524

هداية

إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة ، فمع علم المقلّد بالاختلاف على وجه التفصيل هل يجب الأخذ والعمل بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضا؟ قولان : المعروف بين أصحابنا وجماعة من العامّة هو الأوّل ، كما هو خيرة المعارج (1) والإرشاد (2) ونهاية الأصول (3) والتهذيب (4) والمنية (5) والدروس (6) والقواعد (7) والذكرى (8) والجعفريّة (9) وجامع المقاصد (10) وتمهيد القواعد (11) والمعالم (12) والزبدة (13) وحاشية المعالم (14) للفاضل الصالح ، وإليه

ص: 525


1- معارج الأصول : 201.
2- إرشاد الأذهان 2 : 138.
3- نهاية الأصول : 447.
4- تهذيب الوصول : 105.
5- منية المريد : 166.
6- الدروس 2 : 67.
7- قواعد الأحكام 3 : 419 - 420.
8- الذكرى 1 : 43.
9- الجعفريّة ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
10- جامع المقاصد 2 : 67.
11- تمهيد القواعد : 321 ، قاعدة 100.
12- المعالم : 246.
13- زبدة الأصول : 120.
14- لم نعثر عليه في الحاشية.

ذهب في الرياض (1) ، بل هو قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليّين كما عن النهاية (2) ، وفي المعالم : هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (3) ، وصرّح بدعوى الإجماع المحقّق الثاني (4) ، ويظهر من السيّد في الذريعة (5) كونه من مسلّمات الشيعة.

وحدث لجماعة (6) ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بين الفاضل والمفضول تبعا للحاجبي (7) والعضدي (8) والقاضي (9) وجماعة من الأصوليّين والفقهاء فيما حكي عنهم (10) وصار إليه جملة من متأخّري أصحابنا (11) حتى صار في هذا الزمان قولا معتدّا به. والأقرب ما هو المعروف بين أصحابنا وقبل الخوض ينبغي رسم أمرين :

أحدهما : أنّه لا يعقل الخلاف في وجوب رجوع العامي الغير البالغ رتبة الاجتهاد في هذه الواقعة إلى الأعلم والأفضل ، بل لا بدّ أن يكون الخلاف في مقتضى الأدلّة الشرعيّة. وتوضيحه : أنّ المقلّد إمّا أن يكون ملتفتا إلى الخلاف في

ص: 526


1- رياض المسائل 13 : 47.
2- نهاية الوصول : 447 ، وفيه : وهو قول جماعة من الأصوليّين.
3- المعالم : 246.
4- حاشية الشرائع : 99.
5- لم نعثر عليه بل الموجود فيه صريح في وجود الخلاف ، انظر الذريعة 2 : 801.
6- كالمحقق الاردبيلي حيث جوز ذلك في المحاكمات. انظر مجمع الفائدة 12 : 21 كما نسب إليه في القوانين ، والمحقق القمي في القوانين 2 : 246.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
8- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
9- حكى عنهم العلامة في نهاية الوصول : 447.
10- حكى عنهم العلامة في نهاية الوصول : 447.
11- مثل الاصفهاني في الفصول : 424 ، والنراقي في المناهج : 300.

هذه الواقعة أو لا. وعلى الثاني فلا كلام فيه في المقام ، وإنّما يبنى الكلام فيه على مسألة عمل الجاهل على الخلاف فيها. وعلى الأوّل فإمّا أن يستقلّ عقله بالتساوي فلا كلام أيضا ، إذ لا يعقل تكليفه بخلاف علمه ، وإمّا أن يكون متردّدا كغيرها من الوقائع المشكوك فيها ، فإذا حاول استعلام حال هذه الواقعة بالتقليد فلا يعقل لرجوعه إلى غير الأعلم على وجه التقليد وجه ؛ لأنّ استعلام حال هذه الواقعة من غير الأعلم لعلّه غير مفيد ، إذ لم يثبت جوازه بعد ، فإن كان ذلك منه على سبيل عدم المبالاة بأحكام الشريعة فالعياذ باللّه! وإن كان الاعتماد في الاستعلام المذكور هو قول غير الأعلم فهو دور ، فالمقلّد إذا كان ملتفتا لا بدّ له من الرجوع إلى الأعلم.

نعم ، المجتهد إنّما يجوز له الإفتاء بما ظنّه من الأدلّة الشرعيّة جوازا أو منعا ، فالكلام في المقام إنّما هو فيما يظهر من الأدلّة الشرعيّة للناظر فيها.

فالمجتهد لو بنى على الجواز يفتي به لو راجعه المقلّد ، كما أنّه يفتي بعدمه فيما لو بنى على عدمه.

الثاني : في تأسيس الأصل في المسألة فنقول :

إنّ الظاهر من كلّ من تعرّض المسألة ووصل كلامه إلينا أنّ الأصل مع المانعين. وتقريره : أنّه لا شك أنّ العمل بقول الغير ومطابقة العمل بقوله - وهو المعبّر عندهم بالتقليد - عمل بما وراء العلم ، سواء كان اعتباره بواسطة حصول الظنّ كما يراه البعض ، أو بواسطة التعبّد كما هو الظاهر على ما ستعرف الكلام فيه إجمالا ، وذلك ظاهر. والأصل المستفاد من الأدلّة القطعيّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا - على ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه - هو حرمة العمل بغير العلم ، خرج منه متابعة الفاضل بالاتّفاق من المجوّزين والمانعين ، فإنّه هو المجمع عليه ، فيبقى متابعة المفضول في عموم حرمة العمل بما وراء العلم.

ص: 527

ولم نقف (1) من لا يذعن بهذا الأصل سوى المحقّق القمي رحمه اللّه حيث إنّه أفاد في بعض إفاداته بأنّه لا أصل لهذا الأصل واشتغال الذمّة لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون أيضا ، والأصل عدم لزوم الزيادة (2).

وهذا الكلام منه رحمه اللّه ليس في محلّه ، ولذلك ترى المجوّزين مطبقين على أنّ ذلك إنّما هو بواسطة الدليل الوارد على هذا الأصل من استصحاب أو إطلاق ونحوهما. فإن أراد بذلك منع قيام الدليل على حرمة العمل بالظنّ فلا بدّ له من الرجوع إلى الكتاب والسنّة وكلمات العلماء ، فإنّ ذلك هو الحاكم بين مدّعي وجود الدليل وبين المنكر. وإن أراد أنّ انسداد باب العلم إنّما اقتضى جواز العمل بالظنّ ، فذلك يوجب الإغناء عن البحث في المسألة ، لدوران الأمر مدار الظنّ فربّما يحصل من الأعلم وربما يحصل من غيره ؛ مع أنّ المعلوم ممّا سبق عدم استقامة الكلام المذكور بواسطة عدم جريان مقدّمات الانسداد في حقّ المقلّد ، لقيام الضرورة الدينيّة على وجوب رجوع العامي إلى المجتهد. وعلمه بذلك ليس بأخفى من علمه بوجوب متابعة أحكام الشريعة ولو على الإجمال.

فإن قلت : إنّ مرجع الأصل المذكور إلى ملاحظة الاحتياط في هذه المسألة التي هي بمنزلة المسائل الأصوليّة من حيث ترتّب المسائل الفرعيّة عليها ، وقد يعارض ذلك بالاحتياط في المسألة الفرعيّة كما إذا كان فتوى الأدون موافقا للاحتياط ، والاحتياط في المسألة الفرعيّة مقدّم على الاحتياط فيما هو بمنزلة المدرك لها.

ص: 528


1- كذا ، والظاهر : على من لا يذعن.
2- القوانين 2 : 247.

قلت : إنّ بعد إعمال الاحتياط في المبنى لا يبقى الشكّ في المسألة الفرعيّة شرعا ، مثل استصحاب المزيل حيث يحكم بتقديمه على المزال ، فتدبّر.

وقد يدّعى أنّ الأصل هو الجواز من وجوه :

الأوّل : أنّ أصالة حرمة العمل بما وراء العلم قد انقطع بما دلّ على مشروعيّة التقليد في الجملة ، ولا ريب أنّه إذا كان المجتهدان متساويان في العلم كان كلّ منهما حجّة وكان المكلّف مخيّرا بينهما ، ويستصحب التخيير الثابت عند حدوث الشكّ في زواله بواسطة حصول الترقّي لأحدهما ، فيتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل.

ولا وجه لما يتوهّم من القلب لفرض من هو واجب التقليد عينا ثم تساوى مع غيره ، فإنّه يستصحب وجوبه التعييني ثمّ يتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، فإنّ استصحاب المثبت مقدّم على النافي ، كما قيل (1).

وفيه : أنّ مناط التخيير قبل التفاضل هو حكم العقل به بواسطة جريان مقدّماته وبعد حصول التفاضل يرتفع ما هو مناط الحكم بالتخيير قطعا ، ولا يجري في أمثال هذه الموارد الاستصحاب ، لارتفاع مناط الحكم قطعا.

وتوضيحه : أنّ مناط حكم العقل بالتخيير هو اجتماع أمور : أحدها عدم إمكان الجمع. وثانيها عدم إمكان الطرح. وثالثها عدم الأخذ بأحدهما على وجه التعيين لانتفاء المعيّن واستحالة الترجيح بلا مرجّح. فإذا فرض وجود أمر يحتمل أن يكون مرجّحا يرتفع الأمر الثالث فلا وجه للحكم بالتخيير لا حقيقة ولا استصحابا. أمّا الأول فظاهر ، وأمّا الثاني فلمّا قرّرنا في محلّه من عدم جريان

ص: 529


1- لم نعثر عليه.

الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لاختلاف الموضوع ، إذ على تقدير عدم الاختلاف في موضوع الحكم العقلي لا يعقل الشكّ فيه ؛ لأنّ العقل لا يحكم إلاّ بعد الإحاطة بحدود الموضوع وأطرافه وذلك أمر ظاهر.

الثاني (1) : أنّ الأمر دائر في المقام بين كون المكلّف به الرجوع إلى مطلق الفقيه حتى يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وبين أنّ يكون هو الرجوع إلى الأعلم ، ولا شكّ أنّ الثاني فيه كلفة ليست في الأوّل ، فمع عدم ما يلزمه من الدليل لا يجب الالتزام ؛ لأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون (2) ؛ وذلك كالشكّ في أنّ المطلوب هو مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة مع انتفاء الإطلاق في البين.

وفيه : منع كون المقام ممّا دار الأمر فيه بين الإطلاق والتقييد على وجه يجري فيه البراءة.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات :

أحدها : ما عرفت من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، ومرجعه إلى الأمر بالكلّي المردّد بين أفراده المخيّر فيها بحسب حكم العقل.

الثاني : أن يكون ذلك التخيير بحسب حكم الشرع كالتخيير بين الخصال.

الثالث : أن يكون التخيير عقليّا بواسطة المزاحمة ، والفرق بينه وبين الأوّل ظاهر فإنّ الأمر لم يعلم تعلّقه بغير الكلّي في الأوّل ، بخلاف الثالث فإنّ تعلّق الأمر بكلّ واحد منها معلوم مع قطع النظر عن المزاحمة ، وإنّما قلنا بالتخيير بواسطة المزاحمة مع اشتمال كلّ واحد من طرفي التخيير على المصلحة الفعليّة.

ص: 530


1- من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.
2- المستدرك 18 : 20 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 61 ، وفيه : « في سعة ما لم يعلموا. »

الرابع : أن يكون التخيير بين فعل الشيء وتركه بواسطة دوران حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم المرجّح في البين.

وإذ قد عرفت ذلك فلا بدّ من بيان أنّ ما نحن بصدده من أيّ هذه الأقسام؟

فنقول : لا إشكال في أنّ التخيير بين الأعلم وغيره ليس من القسم الثاني ، إذ لا دليل في الشرع بكون مفاده التخيير الشرعي بين الأعلم والأدون. ولا من القسم الأوّل ، إذ من المعلوم اعتبار الأدون عند عدم المعارضة ، وليس وجوب عتق الرقبة المؤمنة عند عدم تعارضه بوجوب المطلق معلوما. فلا بدّ أن يكون من القسم الثالث أو القسم الرابع ، ونحن لو سلّمنا جريان البراءة في القسمين الأوّلين فلا نسلّم أنّ القسمين الأخيرين يجري فيهما البراءة ، والوجه في ذلك عدم وفاء أدلّة البراءة به. وبيانه تفصيلا موكول إلى محلّه.

وأمّا إجمالا : فلأنّ الشكّ في المقام راجع إلى تعيين المكلّف به المردّد بين الشيئين ، ولا شكّ في لزوم الأخذ بما يحتمل معه الترجيح بحكم العقل ؛ مضافا إلى أنّ الأخذ بأصالة البراءة فيما نحن فيه ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ الأصل المقرّر في الأمارات الغير العلميّة هو عدم جواز التعويل عليها.

وتوضيحه : أنّ قياس ما نحن فيه مع المثال المعهود من دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد - كالعتق المردّد بين المؤمنة ومطلق الرقبة - قياس مع الفارق. والوجه فيه : أنّ عدم وجوب الزائد هناك موافق لأصل البراءة. بخلاف المقام ، فإنّ الشك الزائد لا يطابق الأصل ، بل الشكّ فيه إنّما يرجع إلى عروض التخصيص في عمومات النهي عن العمل بما وراء العلم ، وأصالة الحقيقة فيهما تقضي بالتحريم فيما لم يعلم تخصيصه بدليل قطعيّ ، كما هو المفروض في مقام تأسيس الأصل.

ص: 531

وممّا يدلّ على أنّ المقام ليس من موارد البراءة بواسطة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد هو أنّه من لوازم ذلك تعلّق الأمر بالمطلق القدر المشترك ، وهو إنّما يجدي في التكاليف الواقعيّة ، وأمّا فيما هو طريق إليها - كالتكليف فيما نحن فيه - فلا يعقل تعلّق الأمر بالقدر المشترك ، فإنّ القدر المشترك بين ما مفاده الوجوب وبين ما مفاده الحرمة لا يعقل أن يكون هو الطريق إلى الواقع.

وأمّا التخيير الشرعيّ بين الأخبار مع كونها طرقا إلى ما يستفاد منها فليس على القاعدة التي قرّرنا في الطرق ، فإنّ الأصل يقضي فيها بالتوقّف دون التخيير ، كما هو مذكور في بحث التعادل والتراجيح. بل وذلك لا يناسب الطريقة في الأخبار ، فإنّما هو يلائم القول بوجوب الأخذ بقول العادل في الأخبار والعالم في المقام تعبّدا شرعيّا من دون ملاحظة كونها طرقا موصلة إلى الواقع وإن كان ذلك بعيدا في الغاية كما يومئ إليها أمارات قد استوفيناها في مباحث الظنّ.

الثالث (1) : أنّ مقتضى الأصل في المقام هو التخيير ، لرجوع الأمر إلى الشكّ في كون الأعلميّة هل هي من المرجّحات أو لا ، والأصل عدم كونها منها.

وتوضيحه : أنّ المراد من عدم حجّية قول غير الأعلم لا وجه لأنّ يكون عدم الحجّية بحسب الشرع في حدّ ذاته ، ضرورة اعتباره عند عدم الأعلم ، بل المراد عدم الحجّية عند دوران الأمر بين الأخذ بفتوى الأعلم وقول غيره ، ووقوع التعارض بينهما بعد العلم بالحجّية في الجملة ، ولا ريب أنّ الحكم بتقديم الأعلم يحتاج إلى مرجّح والمرجّحية ليست من الأمور التي تطابق الأصل كنفس الحجّية ، فمتى ما شكّ فيها فالأصل عدمها ، ومعه يثبت التخيير ، وهو المطلوب.

ص: 532


1- من وجوه أصالة جواز تقليد المفضول.

وفيه : أنّ رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام إلى تخصيص العموم الذي دلّ على حرمة العمل بما وراء العلم بدون مخصّص ، فلا وجه لجريانه.

والوجه فيه : أنّ التخيير المطلوب في المقام إثباته إمّا التخيير العقلي أو الشرعي ، ولا سبيل إليهما. أمّا الأوّل : فلأنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو فرع التساوي في نظره ، والمفروض حصول الترجيح لأحدهما ولا سبيل إلى القول بعدم اعتبار هذا الترجيح ، إذ المدار هو حكم العقل ومع احتمال الترجيح لا حكم للعقل ، وأصالة العدم لا ترفع نفس الاحتمال الذي من لوازمه العقليّة عدم استقلال العقل بالتخيير لاحتمال الترجيح. وأمّا الثاني : فلعدم وفاء شيء من الأدلّة الشرعيّة بالتخيير بين قول الأعلم وغيره. وأمّا حكم الشرع بالتخيير بعد محكم العقل فهو إنّما هو في موضوع حكم العقل على الوجه الذي حكم به العقل ، فلا وجه لما عسى يتوهّم : من أنّ قضيّة الملازمة هو وجود الحكم الشرعي في مورد حكم العقل بالتخيير.

وكيف كان ، فلا محيص عن الالتزام بأنّ الأصل عدم اعتبار قول المفضول عند تعارضه بقول الفاضل ؛ لما عرفت في طيّ الكلمات المذكورة ، ولذلك تراهم مطبقين على الأصل المذكورة وإنّما زعم من زعم بواسطة الأدلّة الواردة القاطعة للأصول ، وإذ قد عرفت الأصل في المقام فلنذكر أدلّة الطرفين في هداية مستقلّة.

ص: 533

ص: 534

هداية

في ذكر احتجاج القائلين بالجواز.

وهو وجوه :

الأوّل : الأصل بتقريراته الثلاث كما عرفت فيما مرّ (1) ، مع ما فيها من عدم الاستقامة.

الثاني : إطلاقات الأدلّة كتابا وسنّة ، إذ لا أثر فيها على اشتراط الأعلميّة ، فيكون هذه الإطلاقات قاطعة للأصل على تقدير تسليم اقتضائه المنع.

الثالث : دعوى استقرار سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام على الأخذ بفتاوى أرباب النظر والاجتهاد من دون فحص عن الأعلميّة مع القطع باختلافهم في العلم والفضيلة. ويكفي في ذلك ملاحظة تجويز التكلّم بهشام (2) وأضرابه (3) دون غيرهم.

الرابع : في وجوب تقليد الأعلم عسرا لا يتحمّل في العادة ، فيكون منفيّا في الشريعة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأعلم في الأغلب منحصر في واحد أو في اثنين ، ومن المعلوم أنّ رجوع جميع أهل الاسلام إليه فيه عسر عليه وعليهم كما هو ظاهر (4).

ص: 535


1- راجع الصفحة : 529 و 530 و 532.
2- كذا ، والظاهر : لهشام.
3- انظر الكافي 1 : 171 ، الحديث 4 ، ورجال الكشي 2 : 554 ، الحديث 494.
4- لم يتعرض للثاني وهو نفي العسر في الشريعة ؛ لوضوحه.

الخامس : ما زعمه بعض الأجلّة (1) ، وهو : أنّه لو كان تقليد الأعلم واجبا لما كان الأخذ بفتاوى أصحاب الأئمّة مع إمكان الاستفتاء منهم عليهم السلام جائزا ، فإنّهم أولى بأن يؤخذ منهم من الأعلم.

السادس : ما استند إليه المحقّق القمّي رحمه اللّه (2) وحاصله : الاستناد إلى دليل الانسداد القاضي بوجوب الأخذ بقول العالم للعامّي ، من غير فرق بين الأعلم وغيره ، ضرورة حصول المناط وإمكانه في غير الأعلم أيضا.

والكلّ ممّا لا يجوز الاعتماد عليه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاقات المذكورة بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعيّة أصل التقليد - كما عرفت الوجه في ذلك فيما مرّ - أنّ هذه الإطلاقات بين أصناف :

صنف منها يكون دالاّ على جواز الأخذ بقول العالم على وجه يكون المراد به الجنس ، كآية السؤال (3) فإنّ المأمور به فيها هو وجوب السؤال عن جنس العالم ، كما هو ظاهر على من لاحظها. ونظيره قوله : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا (4).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بكلّ عالم على وجه العموم كآية النفر (5) فإنّها على ما هو المقرّر في توجيه الاستدلال بها يدلّ على وجوب

ص: 536


1- الفصول : 424.
2- القوانين 2 : 246.
3- النحل : 43.
4- الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
5- التوبة : 122.

الأخذ بقول المنذرين ، ونظيره قوله : « من عرف أحكامنا » (1) وقوله : « وأمّا من كان من العلماء صائنا لدينه فللعوام أن يقلّدوه » (2).

وصنف منها ما يدلّ على وجوب الأخذ بقول كلّ عالم على أيّ وجه اتّفق على وجه العموم البدلي ، مثل قوله : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا » (3) فإنّ مفاده وجوب الرجوع إلى العلماء على وجه يستفاد منه التخيير ، مثل الرواية المنقولة عند الجمهور : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (4).

لا ريب في أنّ الاستناد إلى الصنفين الأوّلين ممّا لا يجدي في المقام ، فإنّ المستفاد منها مشروعيّة جواز الرجوع إلى العلماء في أصل الشريعة ، ولا كلام لنا فيه ، إذ لا إشكال في أنّ قول الغير الأعلم حجّة وأنّه يجب الأخذ به في حدّ ذاته عند عدم معارضته بقول الأعلم ، وإنّما الكلام في أنّ من الجائز الأخذ به عند معارضته بقول الأعلم أو لا؟ ولا إشكال في أنّ هذه الواقعة خارجة عن مفاد الدليل المذكور فلا بدّ لها من دليل يوافقها.

وأمّا الصنف الثالث : فيمكن أن يكون دليلا للخصم ، لما عرفت من أنّه يستفاد منه التخيير ، فيمكن الاستناد إليه عند الشكّ في رجحان قول الأعلم على غيره.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك لا يجدي أيضا ، والوجه فيه : أنّ مجرّد إمكان الاستفادة لا يجدي في التمسّك بالإطلاق ، بل لا بدّ وأنّ يكون المطلق في مقام بيان الحكم المذكور.

ص: 537


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.
2- الوسائل 18 : 95 ، الباب 10 ، الحديث 20.
3- الوسائل 18 : 110 ، الباب 11 ، الحديث 45.
4- معاني الأخبار : 156 ، وانظر ميزان الاعتدال : 607 ، الرقم 2299.

والظاهر أنّ هذه الأقسام كلّها مسوقة لبيان جواز نفس التقليد من دون ملاحظة أمر آخر ، كقولك : فارجع إلى الأطبّاء ، أو إلى الطبيب ، أو إلى كلّ من يعالج مثلا ، فإنّ المفهوم منها بيان أصل المرجع ، وأمّا الواقعة المترتّبة على هذه الواقعة من وقوع التعارض بين أقوال الأطبّاء ، فلا يستفاد منها ؛ ولذلك لا يعدّ بيان المرجع عند التعارض قبيحا كما هو كذلك في المقبولة ، فإنّه بعد الأمر بالرجوع إلى العارف بالأحكام يصدى (1) لبيان المرجع عند التعارض ولذلك حسن استفسار السائل أيضا ، نعم يصحّ التعويل على هذه الاطلاقات عند عدم العلم بالاختلاف والتعارض ولا بأس به.

وأمّا الأخبار الخاصّة : فالاستناد إليها يتوقّف على دعوى العلم بوجود الاختلاف بين هؤلاء المفتين في العلم والفضيلة ، والعلم باطّلاع الناس على اختلافهم فيه ، والعلم باختلافهم في الفروع الفقهيّة. والإنصاف : أنّ إثبات ذلك فيمن أمر الإمام عليه السلام بالاستفتاء منهم في غاية الصعوبة ، بل لا يكون ذلك إلاّ تخرّصا على الغيب.

وأمّا السيرة (2) : فالمسلّم منها أنّهم مع عدم علمهم بالاختلاف في الفتاوى كانوا يرجعون بعضهم إلى بعض ، وأمّا مع العلم بالاختلاف إجمالا فلا نسلّم عدم فحصهم عن الفاضل وعدم رجوعهم إليه ، فكيف بما إذا علموا بالفضيلة والاختلاف تفصيلا! بل يمكن دعوى ندرة الاختلاف بين أصحاب الأئمّة أيضا. ولا ننكر أصل الاجتهاد في حقّهم ، بل نقول بالفرق بيننا وبينهم من [ حيث ](3) وجود أسباب الاختلاف في حقّنا دونهم ، فإنّ حالهم - كما مرّ مرارا - حال

ص: 538


1- كذا ولعلّه : يتصدّى.
2- وهو ثالث حجج القائلين بالجواز.
3- اقتضاها السياق.

المقلّدين في أمثال زماننا حيث إنّهم لا يختلفون في الفتاوى المنقولة عن مجتهدهم ، فإنّه كلّما يزداد بعد عهدنا عن مشكاة الإمامة ومصباح الولاية يزداد الحيرة والاختلاف فينا ؛ ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم » (1) فإنّ فيه دلالة على خلاف مراد المتمسّكين به.

أمّا أوّلا : فلأنّ لفظ « الاهتداء » يخالف اختلاف الهادين ، فلا بدّ من أن يكون الكلّ متّفقا في الكلمة. وأمّا ثانيا : فلأنّ التشبيه بالنجوم يفيد ذلك ، فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها إلى المقصود على اختلاف أوضاع المقاصد وهيئات الكواكب.

وكيف كان : فالإنصاف أنّ دعوى استقرار السيرة على جواز الرجوع إلى غير الأعلم عند العلم بالاختلاف وإمكان الرجوع إلى الأعلم - على وجه يكون شايعا معلوما للأئمّة بالعلم المعتاد المعتبر في حجّية السيرة - غير بيّنة ، ولم يقم دليل عليها أيضا ، فعهدتها على مدّعيها.

وأمّا لزوم الحرج (2) : فإن أريد لزومه في تشخيص موضوعه ، ففيه : أنّ تشخيص الأعلم ليس بأخفى من تشخيص نفس الاجتهاد فيما هو الموصل فيه أيضا. وإن أريد لزومه من حيث الانحصار ، ففيه : أنّ الواجب حينئذ الرجوع إلى الأعلم فيمن لا يلزم منه العسر. ولا يمكن إلحاق الغير بالإجماع ، لما عرفت مرارا من أنّ التفضيل بواسطة لزوم العسر ليس تفصيلا في الحقيقة ، لحكومة الأدلّة الدالّة على نفسه على جميع الأدلّة في الأحكام الواقعية. وإن أريد أنّ فتوى الأعلم فيها عسر. ففيه : أنّ فتوى غيره أيضا قد يكون فيه العسر.

ص: 539


1- المتقدم في الصفحة : 225.
2- وهو رابع حجج القائلين بالجواز.

وبالجملة : فلا وجه للاعتماد على هذه الوجوه كما هو ظاهر.

وأمّا الخامس : فهو من غرائب الاستدلال في المقام! إذ المقصود على ما عرفت عند العلم بالاختلاف ، والعلم بمخالفة الإمام مع غيره يوجب العلم ببطلان الغير ومع ذلك لا يجوز التقليد ، مضافا إلى أنّ قياس الإمام بغيره مما يشمئزّ منه أصحاب الإنصاف ، كما هو ظاهر.

وأمّا السادس : فهو مبنيّ على مقدّمات لم يساعد عليها بداهة ولا برهان ، بل قامت الضرورة الدينيّة على خلافه كما أومأنا إلى ذلك مفصّلا. ولو سلّم فالواجب هو الأخذ بالأعلم أيضا ، لما ستعرف في أدلّة المانعين.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ إهمال الغير الأعلم عند معارضته بالأعلم يوجب الحكم بمساواته بغير العالم أصلا. وقد قال تبارك وتعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وفيه : أنّ مساواة الأعلم وغيره أيضا يوجب الحكم بمساواة العالم وغيره. مع أنّ التمسّك بالآية في أمثال المقام ممّا لا وجه له أصلا كما لا يخفى ، إذ نفي المساواة من جميع الجهات ممّا لا سبيل إليه ولا ظاهر في البين يجدي في المقام ، فيكفي في نفي المساواة الاختلاف في بعض الجهات ، ولم يثبت كون المقام منها ، فتدبّر.

ص: 540


1- الزمر : 9.

هداية

في ذكر احتجاج المانعين :

وهو بعد الأصل - كما عرفت (1) تقريره - وجوه :

الأوّل : الإجماعات المنقولة صريحا في كلام المحقّق الثاني (2) - كما حكاه الأردبيلي عن بعضهم أيضا (3) - وظاهرا في كلام الشهيد الثاني (4) المؤيّد بنقل عدم الخلاف عند أصحابنا ، كما يظهر من السيّد في الذريعة (5) ، والبهائي حيث قال : وتقليد الأفضل معيّن عندنا (6) ، وفي المعالم : وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (7) المعاضدة بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب. وهو الحجّة في مثل المقام الملحق بالفرعيّات ، بل ولا يجوز الاجتراء في الإفتاء في مثل هذه المسألة التي بمنزلة الإفتاء في جميع الفقه بخلاف المنقول

ص: 541


1- انظر الصفحة : 527.
2- حاشية الشرائع : 99.
3- مجمع الفائدة 12 : 21.
4- انظر منية المريد : 166.
5- لم نعثر عليه بل الموجود فيه صريح في الاختلاف حيث قال : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض ... فقد اختلفوا ، انظر الذريعة 2 : 801.
6- زبدة الاصول ( مخطوط ) : 120.
7- المعالم : 246.

من الأصحاب ، كيف! ولا نرى منهم الاختلاف مع وجود ذلك فيما هو أهون من المقام ، كما لا يخفى على من تتبّع فتاويهم.

ولا وجه للوسوسة بعدم حجّية الإجماع المنقول في المقام كما عرفت ، والتعليل الفاسد في كلام المجمعين ليس بضائر بعد الاتّفاق الكاشف مع ما تعرف من صحّة التعليل أيضا.

الثاني : الأخبار الدالّة على ترجيح الأعلم على غيره.

منها : مقبولة عمر بن حنظلة حيث قال فيها : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » (1).

ومنها : رواية الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه السلام : « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف ، واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا » (2).

ومنها : قول أمير المؤمنين عليه السلام المنقول في نهج البلاغة : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك » (3) والتقريب في الكلّ ظاهر ، فإنّ الإمام قدّم قول الأفقه والأعلم على غيره عند العلم بالمعارضة والمخالفة ، وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ ظاهر المقبولة هو اختصاصها بالقضاء كما هو المصرّح به في صدرها ، حيث سأل الراوي عن رجلين بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فلا يستقيم الاستدلال بهما في الفتوى.

ص: 542


1- الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 ، الحديث 20.
3- نهج البلاغة : 434 ، الكتاب 53 من رسائله عليه السلام.

لأنّا نقول أوّلا : يتمّ المطلوب بالإجماع المركّب ، إذ لا قائل بالفصل بين وجوب قضاء الأعلم وتقليده ، وإن احتمل عدم تحقّقه في العكس.

وتوهّم : اختصاص الرواية بظاهرها بصورة تقارن الحكمين ولم يثبت الإجماع حينئذ ، مدفوع : بأنّ ذلك يوجب حمل الرواية على النادر ، إذ التقارن قلّما يتّفق مع إمكان دعوى الإطلاق أيضا. وثانيا : أنّ ظاهر المقبولة صدرا وذيلا فيما إذا كان الاشتباه في الحكم الشرعي الّذي مرجعه إلى الاختلاف في الفتوى ، دون الأمور الخارجية التي لا يكون رفع الاشتباه فيها بالرجوع إلى الأحاديث ، فتكون الرواية دليلا على الترجيح بالأعلميّة عند اختلاف أرباب الفتوى. ويرشد إلى ذلك : أنّ رفع الاشتباه في غيرها إنّما هو بالأمارات المفيدة للأمور الخارجيّة كالأيمان والبيّنات ونحوها. بخلاف الاشتباه في الحكم الشرعي ، فإنّ مرجع الاشتباه فيها بالرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة التي منها الأحاديث الواردة بينهم.

وتوضيح ذلك أيضا : أنّ المرجّحات المذكورة بعد ذلك أيضا من مرجّحات الاستنباط للحكم الشرعي ، مثل موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحوها. ويؤيّده :

أنّ النزاع في الأمور الخارجيّة لا وجه لاختلاف الحكمين فيه ، إذ لا يجوز نقض حكم الحاكم الأوّل للثاني ، فلا يعقل الاختلاف بينهما.

فإن قلت : لا وجه لحمل الرواية على التقليد أيضا ، فإنّ إعمال هذه المرجّحات ليس من مثال المقلّد أيضا ، ضرورة أنّ اللازم في حقّ المقلّد هو الأخذ بالفتوى من دون مراجعة إلى دليل الواقعة حتى يحتاج إلى إعمال المرجّحات.

قلنا : ذلك مبنيّ على اختلاف حال المقلّدين الموجودين في ذلك الزمان والموجودين في زماننا ، إذ يمكن أن يكون المقلّدون في ذلك الزمان من أرباب

ص: 543

الاجتهاد. ولا ينافي ذلك تقليدهم لحصول الاطمئنان لهم بأنّ المذكور في مقام الفتوى هو مضمون الرواية المسموعة عن الإمام ، ألا ترى أمر الصادق عليه السلام بعبد اللّه بن أبي يعفور - مع كونه من أصحاب الرواية - بالرجوع إلى الثقفي (1). فالظاهر أنّهم كانوا يعتمدون بما عندهم من الروايات ، وإذا احتاجوا في واقعة إلى حكم كانوا يسألون بعضهم بعضا فيعتمدون على جوابه وإن لم يكن لفظ الرواية ، تنزيلا لفتواهم منزلة رواياتهم ، مثل المقلّدين في زماننا.

وأمّا اجتماع الأوصاف المذكورة في الرواية ، فالظاهر من مساقها اكتفاء بعضها أيضا ؛ مضافا إلى انعقاد الإجماع على خلافه ولا يوجب نقضا في الاستدلال. كما أنّ مخالفة ترتيب المرجّحات أيضا للعمل لا يضرّ ما نحن بصدده.

فلا وجه للمناقشة في دلالة المقبولة ، كما لا وجه للمناقشة في سندها ، فإنّها مقبولة معمول بها. مثل المناقشة في الرواية الثانية.

نعم ، لو كان ولا بدّ من المناقشة فليناقش في الرواية المنقولة في نهج البلاغة (2) فإنّ الظاهر من مساقها الاستحباب.

الثالث (3) : أنّ فتوى الأعلم أقرب من غيرها فيجب الأخذ بها عند التعارض ؛ لأنّ الأخذ بالأقرب لازم عند التعارض. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلقضاء صريح العقل به.

واعترض عليه (4) تارة في الصغرى وأخرى في الكبرى.

ص: 544


1- الوسائل 18 : 105 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 23.
2- تقدمت في الصفحة : 542.
3- من وجوه احتجاج المانعين.
4- لم نعثر عليه.

أمّا الأوّل : فبأنّ الأقربيّة على وجه الإطلاق ممّا لا وجه لها ، إذ ربما يكون فتوى غيره أقرب بواسطة اعتضادها بالأمور الخارجيّة ، كموافقتها المشهور أو لفتوى أعلم الأموات أو غير ذلك ، فإذا فرض اطّلاع المقلّد على هذه المرجّحات يكون فتوى غير الأعلم أقرب.

وأمّا الثاني : فبأنّه لا دليل على اعتبار الأقربيّة في الأمارات التعبّدية التي منها قول المفتي في حقّ المستفتي. نعم ، لو كان اعتباره من باب الظنّ كان ذلك وجها. ولكنّه قد اعترف (1) مرارا بفساد هذه الدعوى.

ويمكن الجواب ، أمّا عن الأوّل : فبأنّ الأقربيّة تارة تكون بواسطة المرجّحات الداخليّة في ذات الأمارة ، نظير قوّة الدلالة في تعارض الأخبار وقوّة السند فيها. وتارة تكون بواسطة أمور خارجيّة عن ذات الأمارة ، مثل موافقة المشهور وأمثاله ممّا لا ربط له بنفس الأمارة وإن كان يوجب أقربيّة مضمونها إلى الواقع. والفرق بينهما ظاهر مذكور في محلّه في باب التعارض.

لا كلام في اعتبار المرجّح الداخلي في حقّ المجتهد. وأمّا المرجّحات الخارجيّة فقد تحقّق في محلّها أنّها معتبرة في حقّ المجتهد أيضا. وأمّا المقلّد فالإجماع بل الضرورة قضت على عدم اعتبار المرجّح الخارجي في حقّه. والسرّ فيه ظاهر ، حيث إنّه لو قلنا بذلك يلزم تديّن كلّ واحد من المقلّدين بغير ما تديّن به الآخر. بخلاف المرجّح الداخلي الذي منه الأعلميّة ، فإنّه معتبر في حقّه قطعا لانضباطه وعدم لزوم المحذور على تقديره ، مع حكم العقل بلزوم الأخذ بالأقرب. ولا يقاس ذلك بالشهرة ونحوها.

ص: 545


1- في النسخ : اعترفت.

والحاصل : أنّ الإجماع قام على عدم اعتبار ظنّ المقلّد في مقام الترجيح فيما إذا لم يكن مستندا بنفس الأمارة. نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّ فتوى غير الأعلم قد يكون بنفسها أقوى من فتوى الأعلم بواسطة زيادة حاصلة فيها من زيادة فحص وكثرة تتبّع لأقوال العلماء بعد اشتراكهما فيما هو المصحّح للاجتهاد والفتوى ، فلو لم نقل بأنّ ذلك يوجب الأعلميّة في هذه الواقعة الخاصّة لا يستقيم الاستناد إلى الدليل المذكور ، بل ولا يجري غيره من الأدلّة أيضا. أما الإجماعات المنقولة ، فلعدم الاطمئنان بشمولها للمقام. وأمّا الأخبار ، فيمكن دعوى عدم انصرافها إلى مثل المقام.

وهل يتخيّر بينهما نظرا إلى عدم الترجيح بينهما بواسطة اشتمال كلّ منهما على مرجّح داخليّ ، أو يقدّم الفاضل الأقوى نوعا نظرا إلى إطلاق معاقد الإجماعات والأخبار ، أو يقدّم المفضول نظرا إلى كونه أوثق شخصا؟ وجوه ، أوسطها الأوسط لو لم نقل : بأنّ ذلك يوجب أعلميّة المفضول في الواقعة الخاصّة ، فتدبّر.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ التقليد إنّما هو ليس من الأمارات التعبّدية المحضة التي لا يلاحظ فيها حال الواقع بوجه - كأن يكون مفادها في عرض الواقع على وجه يكون موضوعا لما يترتب عليها حتى لا يكون الأقربية إلى الواقع موجبا للأخذ بها عند المعارضة - ولا من الأمارات الثابتة بواسطة دليل الانسداد حتى يؤخذ بالطرف الراجح ولو كان من الأمور الخارجية ، بل المتحقّق : أنّ اعتبار التقليد في حقّ العاميّ إنّما هو من باب التعبّد لكن على وجه الطريقيّة ، فالملحوظ فيه هو الكشف عن الواقع قطعا. ولا إشكال في أنّ الأخذ بما هو الأقوى في هذه الأمارات لازم لحكم العقل.

ص: 546

والحاصل : أنّ التقليد إنّما هو معتبر من حيث إنّه يطابق الواقع في الأغلب وإن لم يكن مداره على حصول الظنّ في خصوصيّات الموارد ، وذلك يوجب الأخذ بالأقرب الأقوى نوعا إذا كان الأقربيّة مستندة إلى ذات الأمارة.

وقد يدّعى في المقام : أنّ بناء العقلاء على الرجوع إلى الأعلم. وهو في محلّه ، لما عرفت من أنّ بناء التقليد ليس على التعبّدية الصرفة ، فإنّ من المعلوم أنّ وجه بنائهم في أمورهم إنّما هو بواسطة إناطة أمورهم بالواقع المستكشف عندهم في الغالب بالإدراكات الظنّية.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : الظاهر من لفظ « الأعلم » على حسب الاشتقاق في اللغة هو اختلاف الفاضل والمفضول في مراتب الإدراك المختلفة شدّة وضعفا. ولكنّه ليس بمراد قطعا ، بل المراد منه : إمّا من هو أقوى ملكة أو أكثر خبرة من غيره ، وإمّا من هو أكثر معلوما من غيره.

والظاهر هو الأوّل وإن قيل بانفكاكه عن الثاني في الغالب. والوجه في ذلك : أنّ كثرة المعلومات مع ضعف الملكة الحاصلة منها الاستنباط ربما يكون موجبا لمزيد البعد عن الواقع ، كما نشاهد في أغلب أبناء زماننا من الغلبة. ويشير إلى ذلك تفسير « الفقه » بالعلم بالملكة (1) مع شيوعه في العرف والعادة ، وفي بعض الآثار ما يرشد إليه حيث قال : « أنتم أعلم الناس إذا علمتم وفهمتم معاني كلامنا » (2).

ص: 547


1- كذا ، ولعلّ المراد : العلم الحاصل بسبب الملكة.
2- الوسائل 18 : 84 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27 ، وفيه : « أفقه الناس » بدل « أعلم الناس ».

وبالجملة ، « الأعلم » من الأمور الخفيّة التي لا يعرفها العرف والعادة ، ولا مدخليّة لكثرة المعلومات في ذلك. نعم ، لو كان ذلك سببا لوثاقة فتواه بناء على الاختلاف (1) بين الأعلميّة والأوثقيّة كان الوجه ما عرفت من الوجوه.

فلو علم المقلّد بواسطة مراجعة أهل الخبرة إتقان أمر المفتي في الاستنباط واستحكام مباني اجتهاده على وجه يكون ذلك زائدا على ما هو المعتبر في الاستنباط ، فالواجب الرجوع إليه.

وهل الظنّ بذلك يقوم مقام العلم؟ الأقرب نعم ، لا لما يتوهّم من اعتبار الظنّ في أمثاله ، بل لما عرفت من كفاية احتمال وجود ما يحتمل المرجحيّة بين المتعارضين ، فكيف بالظنّ بوجوده!

وهل يجوز التعويل على الظنّ مع إمكان تحصيل العلم؟ الأقرب نعم إذا لم يحتمل أعلميّة الموهون بل يحتمل مساواتهما ، فإذا احتمل الأعلميّة فاللازم هو الفحص على القول بوجوبه كما ستعرف ، وعلى القول بعدمه فلا فحص.

الثاني : هل اللازم هو الأخذ بالأورع عند تساويهما في العلم والفضيلة أو يتخيّر بينهما؟ قولان :

ظاهر المنقول (2) من النهاية (3) والتهذيب (4) والذكرى (5) والدروس (6)

ص: 548


1- في النسخ : « اختلاف ».
2- نقله السيد المجاهد في المفاتيح : 630.
3- نهاية الوصول : 447.
4- تهذيب الوصول : 105.
5- الذكرى : 43.
6- الدروس 2 : 67.

والجعفريّة (1) والمقاصد العليّة (2) والمسالك (3) والتمهيد (4) وشرح الزبدة للفاضل الصالح (5) هو الأوّل.

وهو الأقوى ، لما عرفت من الأصل وبعض الأخبار ، ويزداد قوّة إذا فرض وثاقته بواسطة شدّة ورعه وبذل جهده ، فإنّه يندرج في عنوان الدليل العقلي أيضا.

وهل يتخيّر بين الأعلم والأورع؟ أو يقدّم الأوّل أو الثاني؟ وجوه.

الأقرب الثاني ؛ لأنّ المناط في الاستفتاء والعمل بقوله آكد فيه من غيره وإن كان أورع. اللّهم إلاّ أن يكون ذلك سببا لوثاقة فتواه بواسطة إعمال الفكر زائدا على ما هو المعتبر ، لو لم نقل بخروجه عن الفرض.

الثالث : إذا علم المقلّد كون زيد أعلم وعلم موارد الاختلاف تفصيلا بينه وبين غيره ، فقد عرفت وجوب الأخذ بالأعلم.

وإذا علم بالأعلم تفصيلا وبالاختلاف إجمالا ، فهل يجب تمييز المسائل المختلف فيها عن غيرها أو لا؟ وجهان :

الأظهر الوجوب إذا كان المعلوم بالإجمال غير ملحق بالشبهة الغير المحصورة ، فإنّ العلم الإجمالي على الوجه المذكور كالعلم التفصيلي من غير فرق. وأمّا إذا كان ملحقا بالشبهة الغير المحصورة فهو نظير ما إذا علم التفاضل ولم يعلم الاختلاف أصلا ، ولا دليل على وجوب الفحص عن الاختلاف سوى الأصل

ص: 549


1- الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقّق الكركي ) 1 : 80.
2- المقاصد العليّة : 51.
3- المسالك 13 : 345.
4- تمهيد القواعد : 321 ، قاعدة 100.
5- شرح الزبدة ( مخطوط ) : 261.

المنقطع بالسيرة المستمرّة على ما مرّ الوجه فيها ، فيجوز الأخذ بفتوى المفضول مع العلم بالتفاضل ؛ مضافا إلى أصالة عدم المعارض الغير المعارضة بأصالة عدم غيره ، إذ لا يترتّب عليها حكم مع جواز الرجوع إلى بعض الإطلاقات عند القائلين بدلالتها ، فتدبّر.

وإذا علم الاختلاف واحتمل الفاضل فهل يجب الفحص أو لا؟ وجهان ، بل لعلّه قولان ، يدلّ على عدم الوجوب أمران :

أحدهما : أنّهما أمارتان تعارضتا لا يمكن الجمع بينهما ولا طرحهما ولا تعيين أحدهما ، فلا بدّ من التخيير بينهما.

وفيه : أنّ احتمال التعيين موجود ولا يندفع بأصالة عدم التفاضل ؛ لأنّها بعد كونها أخذا بالأصل في تعيين الحادث لا يتمّ ، حيث إنّ التخيير العقلي عدمه من اللوازم العقليّة لوجود الاحتمال ، والأصل لا يجدي في رفع الاحتمال حقيقة.

وثانيهما : أصالة البراءة عن وجوب الفحص.

وفيه : أنّ وجوب الفحص في المقام بمنزلة الفحص عن نفس المرجع في الأحكام الشرعية. ويدلّ على الوجوب أمور :

منها : الأصل ، حيث إنّ قبل الفحص لا يعلم البراءة ، بخلافه بعد الفحص ، فالواجب هو الفحص.

ومنها : قوله في رواية داود بن الحصين « تنظر إلى أفقههما » (1) فإنّه في قوله : « تنظر » دلالة واضحة على وجوب الفحص ؛ مضافا إلى كونه معمولا به في جميع الطرق المتعارضة. ولعلّ وجوب الفحص موافق للقاعدة أيضا ، فإنّ التكليف معلوم إجمالا وإنّما الشكّ في كونه على وجه التعيين على تقدير التفاضل ، أو على

ص: 550


1- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20 ، وفيه ينظر.

وجه التخيير على تقدير عدمه ، ومنشأ الشكّ هو الاشتباه في المصداق مع انتفاء ما يشخّصه من الأصول وإمكان استعلامه ، فلا بدّ من الفحص حتّى يعلم المكلّف به أو ظنّ (1) به ، سواء كان من مطلق الظنّ أو غيره ، لكفاية احتماله على ما عرفت.

ومن هنا يعرف وجوب الفحص فيما لو علم بالتفاضل إجمالا بعد العلم بالاختلاف. وإن علم بالاختلاف إجمالا مع الشكّ في التفاضل ، فاللازم الفحص عن التفاضل ثمّ الأخذ بموارد الاتّفاق والتميز عن موارد الاختلاف فيما إذا كان كثيرا.

وإذا شكّ في التفاضل والاختلاف معا فلا يجب الفحص ؛ لأنّه مع العلم بالتفاضل قد عرفت عدم الوجوب ففي المقام أولى. فلو علم التفاضل والاختلاف إجمالا فالواجب هو الفحص ؛ لما عرفت. ولو علم بالتفاضل إجمالا مع الشك في الاختلاف فلا فحص.

والحاصل : أنّ مجموع الصور تسعة لا يجب الفحص مع الشكّ في الاختلاف ، سواء علم التفاضل تفصيلا أو إجمالا أو لم يعلم. ويجب الفحص من التفاضل فيما إذا علم الاختلاف تفصيلا أو إجمالا على وجه يعتدّ به سواء علم التفاضل إجمالا أو لم يعلم به.

الرابع : لو قلّد أحد المجتهدين بواسطة التفاضل ثمّ تعاكست النسبة بينهما - أو كانا متساويين في العلم - إمّا لاشتغال أحدهما بالمباحث العلمية دون الآخر أو لغير ذلك ، فهل يجب الرجوع عن تقليد الأوّل ، أو يجب البقاء عليه ، أو يتخيّر بينهما؟ وجوه :

ص: 551


1- كذا والمناسب : يظنّ.

والتحقيق : أنّه إن قلنا بجواز العدول فلا إشكال في وجوب الرجوع ، لوجود المقتضي - وهو التفاضل - وعدم المانع ، إذ لا مانع إلاّ احتمال حرمة العدول ، والمفروض جوازه فيجري فيه الأدلّة السابقة. وإن قلنا بحرمة العدول - كما لعلّه الأوفق ؛ لأنّه مقتضى الأخذ بالأصل - فيشكل الأمر ، نظرا إلى تعارض ما هو العمدة في المقامين : من الأصل والإجماعات المنقولة وعدم انصراف الأخبار إلى مثل المقام المسبوق بالتقليد ، فيحكم بالتخيير بينهما. إلاّ أنّه مع ذلك فالأقوى الرجوع إلى الأعلم ، والوجه أمران :

الأوّل : أنّ العمدة في دليل حرمة الرجوع هو الأصل المتعاضد بنقل الإجماع من العلاّمة (1) والعميدي (2). ولم يظهر عموم مقالتهم للمقام ، حتّى أنّ بعض مدّعي الإجماع هناك قد اختار الرجوع في المقام ، كالعميدي (3).

فالأظهر : أنّ الاجماعات المنقولة في وجوب تقليد الأعلم تشمل المقام من دون معارض ، فإنّ المعتمد من الإجماعات في العدول هو إجماع العلاّمة والعميدي وقد اختارا القول بالعدول في المقام. مع إمكان دعوى انعقادها فيما لو أريد العدول في الواقعة الّتي قلّد فيها ، مثل ما إذا عمل بقول المفتي في جواز البيع بالفارسيّة ثمّ باع على الوجه المذكور ، فإنّه يحرم عليه العدول عن التقليد الخاصّ وإن جاز له العدول في مبيع آخر. وأمّا إجماع العضدي والحاجبي (4) فعلى تقدير عمومه ممّا لا يزيح علّة. ومن هنا ينقدح جريان الأصل في المقام ، لأنّ احتمال حرمة البقاء أقوى من احتمال حرمة العدول.

ص: 552


1- نهاية الوصول : 447.
2- منية اللبيب : 369 - 370.
3- منية اللبيب : 370.
4- المختصر وشرحه : 485.

الثاني : أنّ الأمر وإن كان دائرا بين المحذورين ، إلاّ أنّه دائر في الحكم الظاهري بين التخيير والتعيين ، والأصل هو التعيين ، فتأمّل.

ومن هنا يظهر : أنّه لو قلّد المفضول بواسطة تعذّر الوصول إلى الفاضل فبعد التمكّن منه يجب الأخذ بالفاضل والعدول عن تقليده ، فكيف بالمسائل الّتي ما قلّد فيه المفضول!

الخامس : هل يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه تفصيل ، فإنّ القضاء إمّا أن يكون باستعمال أمور اجتهاديّة يلزم منه عمل المترافعين بقوله ، كترجيح البيّنة الداخلة على غيرها والحكم بردّ اليمين ، وكما إذا كان وجه النزاع هو اختلاف المجتهدين ، كما إذا ادّعى أحدهم ملكيّة عين مشتراة بالفارسيّة والآخر عدمها ونحوه. وإمّا أن لا يكون كذلك ، كما إذا كان رفع التشاجر بينهما موقوفا على سماع البيّنة من المدّعي أو حلف المنكر.

لا إشكال في جواز الترافع إلى المفضول في الثاني. وأمّا الأوّل : فإن كان بين الفاضل وغيره اختلاف في الفتوى فمع العلم بالاختلاف على جواز (1) الترافع إلى المفضول ، للأدلّة السابقة الدالّة على عدم جواز الأخذ بالمفضول مع وجود الفاضل. ولا دليل على أنّ القضاء لا يجوز من المفضول ولو عند الوفاق أو عدم احتياج الواقعة إلى إعمال الفتوى ، لإطلاق أدلّة القضاء. وذلك لا ينافي كون القضاء منصبا فيحتمل اعتبار الأعلميّة فيه تعبّدا لعدم كونه طريقا ، إذ مجرّد الاحتمال لا يكفي بعد وجود الدليل على وجه الإطلاق.

ص: 553


1- كذا ، والعبارة ناقصة ، ولعلّها في الأصل : فالمشهور - أو المعروف - عدم جواز الترافع ....

وهل للمفضول سائر الولايات : من التصرّف في أموال الأيتام والأوقاف الراجعة إلى الحاكم الشرعي ونحو ذلك؟ الأقرب نعم ، لإطلاق ما دلّ على ثبوت تلك المناصب. ويحتمل اختصاصها بالفاضل ، نظرا إلى كونها نيابة عن الإمام فلا بدّ من الاقتصار على مورد العلم بالإذن والفاضل معلوم النيابة والأصل عدم نيابة المفضول على الفاضل. إلاّ أنّه مدفوع بالإطلاق. نعم لو تحقّق مورد التفصيل كان ذلك وجها.

السادس : إذا ثبت فتوى الفاضل بطريق مفيد للعلم أو ما يقوم مقامه من الأمارات المقرّرة في الشريعة بالخصوص لإثبات أمثال ذلك كالبيّنة ونحوها لا إشكال في وجوب الأخذ بها وترك التعويل على فتوى المفضول المخالفة لها ، سواء كانت فتوى المفضول معلومة أو لا.

وهل يلحق بتلك الأمارات الخاصّة الظنون المطلقة على القول بها فيما إذا كان فتوى المفضول معلوما ، أو يؤخذ بها ، أو يتخيّر بينهما لوجود المرجّح في الطرفين؟ وجوه :

الأقرب العدم ؛ لأنّ حجّية مطلق الظنّ إنّما هو فرع عدم وجود الظنّ الخاصّ ، والمفروض اطّلاعه على فتوى المفضول التي هي الحجّة الشرعيّة على عدم تقدير المعارض. وفتوى الفاضل الثابت بالظنّ لا يصلح معارضا إلاّ على تقدير عدم اعتبار فتوى المفضول. وهو بعد غير ثابت ، فيرجع إلى عموم ما دلّ على وجوب الأخذ بها لو كان.

فإن قلت : إنّ ذلك يوجب طرح الظنون المطلقة عند معارضتها بالأمارات الثابتة من باب الظنون الخاصّة ؛ لأنّ اعتبار مطلق الظنّ في مورد الظنّ الخاصّ موقوف على انتفاء الظنّ الخاصّ ولا يرتفع إلاّ بعد المعارضة ولا يصلح للمعارضة إلاّ بعد حجّية الظنّ المطلق الموقوف على ارتفاع الظنّ الخاص.

ص: 554

قلت : إنّ الأخذ بالشهرة مثلا في قبال الخبر الواحد إمّا بواسطة خروج الخبر عن موضوع الحجّة كما إذا ارتفع الوثوق به بواسطة المخالفة ، وإمّا بواسطة العلم الإجمالي بتخصيص الأمارة الخاصّة بمضامين الأمارات الظنّية ، وأين ذلك من اعتبار الظنّ في قبال قول المفضول المعلوم حجّيته بالفرض؟

ولا يقاس ذلك بالظنّ بالأعلميّة ، فإنّه ظنّ بالمرجّح وهذا ظنّ بالحجّة. نعم ، لو تساويا في ذلك تعيّن الأخذ بالفاضل ، لكونه القدر المتيقّن. ومنه يظهر الكلام في غير الأعلميّة من المرجّحات.

السابع : إذا رجع المقلّد إلى الأعلم ، فإن أفتاه بوجوب تقليده فلا إشكال. وإن أفتى بجواز تقليده فهل للمقلّد الرجوع إلى غيره أو لا؟

حكى الأستاذ المحقّق دام مجده عن بعض معاصريه عدم الجواز ، ولم يظهر لنا وجه. فإن كان بواسطة أنّ غير الأعلم ربما يفتي بوجوب تقليد الأعلم فيلزم من وجوده عدمه ، فقد عرفت أنّه لا يجب أن يقلّد في هذه المسألة. وإن كان بواسطة أنّ العقل إنّما هداه إلى الأعلم فلا وجه للحكم بخلاف ما هداه إليه العقل ، ففيه : أنّ ذلك ليس اجتهادا منه في هذه الواقعة ، بل الرجوع إلى الأعلم في هذه الواقعة إنّما هو حكم ظاهريّ من العقل ، وليس مدركا للحكم الواقعي ، وبعد الفتوى يستعلم حكمه الواقعي ، فلا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم.

الثامن : لا دليل على وجوب تعيين المجتهدين في العمل بقولهم إذا كانوا متوافقين في الفتوى وإن كان بينهم تفاضل ، بعد كون كلّ واحد منهم حجّة شرعيّة مع انتفاء ما يوجب التعدية بالنسبة إلى قول الأعلم.

التاسع : المعتبر في الفحص هو الفحص عن حال العلماء الذين تيسّر للمقلّد الرجوع إليهم ، فلا يجب الفحص عن حال الموجودين في مشارق الأرض ومغاربها ، عملا بالسيرة ، واعتمادا على نفي العسر والحرج.

ص: 555

وهل الواجب هو الفحص عن حال من يدّعي الأعلميّة ولو لم يعلم قابليّته ، أو لا بدّ من الفحص فيمن يعلم قابليّته؟ الأقوى هو الأوّل ، ولكن الأقرب هو الثاني ، لعدم الاعتناء بمن لم يثبت قابليّته بعد ، كما يظهر ذلك بالسيرة. وإن كان ربما يقال : إنّ ذلك في الغالب بواسطة العلم الإجمالي بانتفاء الأعلميّة فيمن لم يعلم قابليّته ، وإذا يعتبر الرجوع إلى الأعلم فاللازم هو الرجوع إلى من هو أعلم من غيره فالأعلم ، فإنّ ذلك مقتضى الأدلّة السابقة.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه المسألة المهمّة على ما أفاده الأستاذ المحقّق المدقّق العليم العلاّمة - مدّ اللّه ظلّه على رءوس أرباب العلم والعمل - بمحمّد وآله الطاهرين.

ص: 556

بسم اللّه الرحمن الرحيم

مسألتان ملحقتان : تقليد الميت وتقليد الأعلم

اشارة

ص: 557

ص: 558

بسم اللّه الرحمن الرحيم

واعلم أنّ مسألتي تقليد الميّت وتقليد الأعلم اللتين ليستا بعنوان « الهداية » خارجتان عن أجزاء كتاب مطارح الأنظار وإن كانتا أيضا من إفادات المحقّق الثالث والعلاّمة الثاني ، الشيخ مرتضى الأنصاري ، التي حرّرها بعض الأساطين من تلامذته. ولعمري أنّهما في غاية الجودة والإتقان في الإفادة والتحرير ، ومن هنا أجبنا (1) التكرير ، هو المسك ما أكررته يتضوّع (2).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

[ الأقوال في اشتراط الحياة في المفتي ] :

وبعد فقد اختلف العلماء - بعد اتّفاقهم على جواز التقليد عند تعذّر العلم ، عدا بعض من فقهاء الحلب (3) ، كابن زهرة (4) وجملة من المعتزلة (5) - في اشتراط

ص: 559


1- كذا ، ولعله : « أحببنا ».
2- كذا ، والمناسب : كرّرته يتضوّع.
3- كذا ، والمناسب : حلب.
4- الغنية 2 : 414.
5- انظر الإحكام للآمدي 4 : 234 ، والمعتمد في اصول الفقه 2 : 360.

حياة المفتي في الاستفتاء والتقليد ، فالمعروف عند الإمامية والمشهور فيما بينهم - شهرة دعت جماعة من أجلاّء الأصحاب إلى نفي الخلاف ، أو دعوى الاجماع عليه (1) - هو الاشتراط ، فعن شرح الألفية (2) للمحقّق الثاني : لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية. وعن المسالك : قد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وفي غيرهما ، باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف (3) مشهور. وبمثله قال في آداب العلم والمتعلّم (4). وقال في محكي الرسالة المنسوبة إليه : نحن بعد التتبّع الصادق فيما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين مخالفا في ذلك ؛ فإنّهم قد ذكروا في كتبهم الاصوليّة والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا : من أنّه لا يجوز تقليد الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أحد فيه (5). وفي المعالم (6) نسبه إلى ظاهر الأصحاب ، ثمّ قال : والعمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع عن الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحي. وعن القاساني (7) الذي ستعرف خلافه في المسألة : الاعتراف بأنّه مختار

ص: 560


1- راجع مفاتيح الاصول : 618 - 624.
2- رسائل المحقق الكركي 3 : 176.
3- المسالك 3 : 109.
4- منية المريد : 167.
5- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
6- المعالم : 248.
7- مفاتيح الشرائع 2 : 52.

أكثر المجتهدين ، بحيث كاد أن يكون إجماعا بينهم. وعن صريح شارع (1) النجاة : نفي الخلاف في ذلك. وكذا عن ظاهر النهاية (2) ؛ بناء على أنّ عدم ذكر الخلاف هنا بعد الفتوى ذكر لعدم الخلاف في مثل المقام ، خصوصا من مثل الفاضل ، المتعرّض للخلاف في جميع المسائل ، سيّما في النهاية. وعن الكفاية (3) : نقل الاتفاق عن بعضهم. وبالإجماع صرّح ابن أبي جمهور الأحسائي (4) فيما حكي عنه ، حيث قال : لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره ؛ إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإمامية وبه نطقت مصنّفاتهم الاصوليّة والفروعيّة. ونسبه في محكي الذكرى (5) إلى ظاهر العلماء ، وفي محكي الجعفرية (6) ومجمع الفائدة (7) إلى الأكثر (8).

وبالجملة : لا يخفى على المتتبّع أنّ كلمات الأوائل والأواسط متّفقة في منع العمل بقول الموتى وأنّ القول به من الخصائص العامّة ، فمن ادّعى إجماعهم على ذلك - كما ادّعاه المحقّق النراقي في المناهج (9) والمولى البهبهاني (10)

ص: 561


1- شارع النجاة المطبوع ضمن اثني عشر رسالة : 10.
2- انظر رسائل الشهيد الثاني 1 : 47 - 48.
3- كفاية الأحكام 1 : 413.
4- راجع رسالة « التقليد » للشيخ الأنصاري : 33.
5- الذكرى 1 : 44.
6- رسائل المحقق الكركي 1 : 80.
7- مجمع الفائدة 7 : 549.
8- حكى عنهم مفاتيح الاصول : 618 - 619
9- المناهج : 301.
10- الرسائل الفقهيّة : 7 و 14.

على ما حكي عنه - لم يكن مغربا ، وإنّما المغرب من أنكره تمسّكا بصراحة بعض الكلمات - كما ستعرفه - وظهور الآخر في ثبوت الخلاف ؛ لأنّ الخلاف المصرّح به في بعض العبائر والمستظهر عن البعض الآخر لم يعلم كونه من أصحابنا ، بل الظاهر - كما اعترف به الشهيد الثاني في محكي الرسالة (1) - : أنّ الخلاف إنّما هو من العامّة ، وأغرب من ذلك إنكار حجيّة هذه الاجماعات - كما صدر عن الفاضل القمي (2) رحمه اللّه - بدعوى عدم إفادتها إلاّ الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره في المسائل الاصولية ، سيّما مثل هذه المسألة التي حدوث ابتلاء الناس بها وعدم تداولها في الصدر الأوّل ، تأييد لصدق دعوى الاجماع فيها ؛ لأنّ الدالّ على اعتبار الظنّ في الفروع إنّما يدلّ على اعتباره في التكاليف الفعليّة التي يعتقد بها المكلّف في الوقائع ، ومن الواضح أنّ الظنّ بحكم شيء من مدارك الفروع يؤول بالأخرة إلى الظنّ بالتكليف الفعلي ، وتحقيق ذلك مطلوب من محلّه.

وعلى تقدير عدم حجّيته مطلقا أو في مسألتنا - على فرض كونها أصوليّة - نقول : إنّ هذه الاجماعات - الشاهد على صدقها التتبّع واعتراف بعض الأعاظم (3) : بأنّه بعد الفحص الأكيد لم يطّلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط - تفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متّفق عليه بينهم في الحجيّة. ولا أقل من الأصل السالم عن معارضة ما توهّم دليلا على الجواز من الآيات والأخبار ، وذلك فإنّ عثورهم على تلك الأخبار والآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها ومصيرهم إلى ما تقتضيه الاصول

ص: 562


1- رسائل الشهيد الثاني 1 : 47.
2- القوانين 2 : 268.
3- لم نعثر عليه.

والضوابط من المنع مما يقتضي بعدم انقطاع حكم الأصل عندهم ، فيتطرّق الوهم في دلالتها على جواز تقليد الميّت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد.

فهذه الإجماعات تعدّ من الحجج في المسألة ، كلّ ذلك مع الاعتراف بكون مسألتنا هذه - أعني وجوب تقليد الحيّ عينا - من المسائل الاصولية ، والحقّ : أنّها مسألة فرعيّة ؛ لأنّها ممّا ينتفع به المقلّد على تقدير كونها من القطعيّات ، ولا ينتفع بها في الاجتهاد أصلا ورأسا وقد تقرّر في غير موضع أنّه المعيار في تميز (1) مسائل الأصول عن الفروع ، فلا عذر لمن أنكر حجيّة هذه الاجماعات مع كونه ممّن يقول بحجيّتها في الفروع ، فتأمّل.

بقي الكلام في نقل خلاف جملة من المتأخّرين ، وأشدّهم خلافا هم الأخبارية ، فذهب الاسترابادي (2) والقاساني (3) فيما حكي عنهما إلى الجواز مطلقا ، ونسبه الشهيد في محكي الذكرى (4) إلى بعض ، وهو المحكي عن القمّي (5) في حجّة الاسلام ، والجزائري في منبع الحياة (6) ، ووافقهم التوني (7) إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة كالصدوقين ، وإن كان يفتي بالمداليل الالتزامية الغير البيّنة فمنع عن تقليده حيّا

ص: 563


1- كذا ، والمناسب : تمييز.
2- الفوائد المدنية : 149.
3- مفاتيح الشرائع 2 : 52.
4- الذكرى 1 : 44.
5- لم نعثر عليه.
6- لا يوجد لدينا.
7- الوافية : 307.

كان أو ميّتا. وذهب الأردبيلي (1) والعلاّمة - فيما حكى (2) عنهما - إلى الجواز عند فقد المجتهد الحي مطلقا أو في ذلك الزمان والفاضل القمي رحمه اللّه (3) أناط الحكم مناط حصول الظن الأقوى ، سواء حصل من قول الميّت أو الحي ، فهو من المجوّزين مطلقا ولم أجد غيره من المجتهدين وافقه في كتابه ممّن يعتد بشأنه.

[ وجوه القول بعدم جواز تقليد الميت ] :

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه : هو المنع مطلقا. لنا على ذلك وجوه :

منها : ما سمعت من الإجماعات المعتضدة بظهور اتفاق الامامية على ذلك ؛ إذ قد عرفت أنّه لا خلاف بين قدماء الأصحاب والمتوسّطين بحكم التتبع وشهادة جملة من الفحول ، فانّ جريان عادتهم - سيّما العلاّمة - على ذكر المخالفين في المسائل مع عدم ذكر مخالف واحد معا في المسألة ممّا يعطي الجزم باتفاق كلمتهم في ذلك ، ودعوى صراحة الذكرى في خلاف بعض الأصحاب ، يدفعها ما عن رسالة (4) الشهيد الثاني : من أنّ العلماء يعمّ العامّة والخاصّة ، وبعض الأعم أعم من بعض الأخص ، مع أنّ خلاف نادر من أصحابنا غير قادح فيما ادعينا من الإجماع على طريقة المتأخّرين. ومنه يظهر ضعف توهّم الخلاف من كلام من جعل الحكم

ص: 564


1- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 547.
2- حكاه المحقّق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 625.
3- راجع القوانين 2 : 267 و 268.
4- حكى عنه في مفاتيح الاصول : 619.

- أي المنع - الأقرب ، كالعلاّمة في محكي التهذيب (1) ، أو نسبته إلى الأكثر (2) ؛ لأنّ المسألة إذا كانت من الخلافيات بين العامّة والخاصّة ، ونحو هذه الكلمات مما لا صراحة بل لا ظهور لها في تحقّق الخلاف بين الخاصّة ، وقد نسب الشهيد الثاني قول المشهور إلى الأكثر في المنيّة والمقاصد (3) ، ومع ذلك فقد اعترف بعدم الخلاف من الخاصّة في الرسالة (4) والمسالك (5) وآداب المعلّم (6) والمتعلّم ، وهذا ممّا يؤكّد كون هذه الكلمات إشارة إلى خلاف العامّة ، وأمّا الخلاف الذي نقلوه من العلاّمة - وقد سمعته - فلعلّه على فرض ثبوته - مع أنّه ممّا أنكره في الدين الشيخ السعيد (7) والمحقّق الثاني (8) فيما حكي عنهما (9) - نحمله على الاستعانة بكتب أموات من المتقدمين عند فقد المجتهد الحيّ ممّا لا يضرّنا ؛ لأنّ كلامنا الآن في قبال من أجاز العمل بقول الموتى مع وجود الحي. وأمّا المتأخّرون ، فلم ينقل منهم الخلاف أيضا سوى من عرفته (10) من الأخباريين وبعض المجتهدين. وخلاف الأخباريين ومن يقرب منهم في المشرب - أعني إنكار طريقة الاجتهاد

ص: 565


1- تهذيب الوصول : 103.
2- كما تقدّم عن الجعفريّة ومجمع الفائدة في الصفحة : 561.
3- منية المريد : 167 ، ومقاصد العلية : 51 - 52.
4- كما تقدم في الصفحة : 562.
5- المسالك 3 : 109.
6- منية المريد : 167.
7- حكاه عنه المحقق الثاني في حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100.
8- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100 ، وحكى عنهما في الوافية : 300.
9- حكاه عنهما الفاضل التوني في الوافية : 300.
10- في الصفحة : 563.

والتقليد - غير قادح في اتّفاق المجتهدين ؛ نظرا الى اختلال طريقتهم وعدم قولهم بالاجتهاد والتقليد رأسا ، واقتصارهم في استنباط الأحكام على الأخذ من كتب المحدّثين أحياء كانوا أو أمواتا ، وعدّهم الفتوى نقلا لمضمون الأخبار. ومن هنا اعتبر التوني (1) في التقليد كون المجتهد ممّن لا يعمل إلاّ بمداليل الأخبار الواضحة دون الالتزاميات الغير البيّنة التي يعمل بها المجتهدون ويفتون على حسب مقتضاها. وسوّى بين الحياة والممات كما هو الشأن في العمل بالأحاديث ، فإنّ نظره إلى تسويغ العمل بفتوى تكون نقلا لمضمون الأخبار حتى يكون العمل بها عملا بالخبر ، لا إلى عدم اشتراط حياة المفتي على فرض جواز العمل بالفتوى ، مثل ما يقول المجتهدون.

وكذا لا يقدح في الاتفاق المزبور خلاف الأردبيلي (2) لما ظهر وجهه في خلاف العلاّمة رحمه اللّه (3).

فبقي من المخالفين المجتهد الفاضل القمي رحمه اللّه وهو باعتبار فساد مستنده وعدم مشاركة غيره له في ذلك وإن شاركه في أصل الحكم في الجملة ، مما لا يقدح خلافه ، وليس هذا الكلام إلاّ في الردّ عليه.

وبالجملة : هذا الاتفاق ممّا ادّعاه غير واحد من الأتقياء الفحول وأعاظم أهل الاصول بعد أن بلغوا في الفحص والتتبّع ما هو المأمول ، فهو إمّا حجّة واضحة في المسألة ، أو يدفع مانعية ما يتوهّم مانعيته عن العمل بالأصل من الإطلاقات وعلى التقديرين ففيه الحجة.

ص: 566


1- الوافية : 307.
2- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 549.
3- مبادئ الوصول الى علم الاصول : 248.

ومنها الأصل ، وتقريره :

تارة بأنّ حجّية قول الغير حكم يحتاج الى دليل معتبر ، والمقدار الثابت منها إنّما هو حجّية قول الحي لكونه متفقا عليه بين الفريقين ، وأمّا قول الميّت فالأصل عدم حجّيته.

لا يقال : لا نسلّم تسالم الفريقين حجّية قول الحي : لأنّ القائلين بجواز تقليد الميّت : منهم من يرى وجوب اتّباع الظن الأقوى ، فقد يكون حاصلا من قول الميّت ، ومنهم من يوجب تقليد الأعلم. فإذا فرض كون الميّت أعلم لم يجز تقليد الحي عنده ، فتقليد الحي والميّت متساويان في الاحتياج إلى الدليل وعدم الإجماع ، وإجراء الأصل في أحدهما معارض باجرائه في الآخر.

لأنّا نقول : نفرض الكلام فيما إذا تساوى الحي والميّت من جميع الجهات ، فيتمّ الدليل فيه. وفي صورة رجحان الميّت في العلم أو في إفادة قوله الظن ، يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل ؛ لأنّ كلّ من يرى وجوب تقليد الميّت الأعلم أو الذي يفيد قوله الظن الأقوى عينا قال بوجوبه تخييرا في صورة المساواة ، والتفصيل بين الصورتين قول لا يقول به أحد من الفريقين.

وربما اجيب عن هذا الإيراد : بمنع وجوب تقليد الأعلم عند هؤلاء القائلين بجواز تقليد الميّت ، فإنّ صريح بعضهم عدم الوجوب (1). وأمّا وجوب متابعة الظن الأقوى فالقائل به إنّما هو بعض معاصري المجيب - أعني الفاضل القمي - ليس إلاّ ، فلا يقدح اختيار هذا المذهب في دعوى الإجماع على خروج قول الحي مطلقا - حتى في صورة كون الظنّ الحاصل من قول الميّت أقوى - من تحت الأصل.

ص: 567


1- مثل المحقّق القمي في القوانين 2 : 246 و 267.

وما ذكرنا في الجواب أحسن ؛ لأنّا لو بنينا على عدم قدح مخالفة هذا القائل في الإجماع على حجّية قول الحي مطلقا لم يبعد دعوى الإجماع المحقّق على بطلانه ؛ فانّ الظاهر أنّه لم يقل غيره بوجوب اتباع الظنّ الأقوى ، وتعيّن العمل بقول الميّت إذا كان الأقوى منه في نظر المقلّد ، فيخرج الكلام عن كونه استدلالا بالأصل ، فليتدبّر.

واخرى : بأنّ التقليد عمل بما وراء العلم وهو منفي بالآثار والاعتبار خرج قول الحي بالإجماع وبقي الباقي تحت الأصل.

وأجاب عنه صاحب الوافية : بمنع كون العمل بما وراء العلم منهيّا إلاّ في اصول العقائد (1) ، وهو عجيب! وليس من مشاكلته (2) وطريقة الأخبارية عجيبا ؛ لأنّ العقل القاطع عندهم ليس بحجّة.

وثالثة : بأنّ التقليد طريق جعلي للمكلّف بحيث لو لا دليل دلّ على اعتباره لما جاز الأخذ به كما عرفت ، ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في الطريق ولا يدري أنّه يجب الأخذ بهذا عينا أو مخيّرا بينها وبين غيره وجب الأخذ بما يحتمل وجوب الأخذ به عينا بحكم الاحتياط القاضي به العقل ؛ لأنّه لا ينافي احتمال كونه أحد فردي الواجب التخييري.

لا يقال : هذا الأصل إنّما يتمّ على مذهب من يبني على الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، وأمّا على مذهب من يبني على البراءة فلا يتم ذلك الأصل ؛ لأنّا نقول فرق بين الطريق وغيره ؛ فإنّ الأصل الأوّلي في الطرق الغير العلمية هي الحرمة إلاّ ما خرج بالدليل ، وفي غيره هي البراءة ، فمتى حصل الشكّ

ص: 568


1- الوافية : 304.
2- كذا في الأصل.

في حكم شيء من الطرق فالمرجع فيه هو المنع بخلاف ما إذا حصل الشك في حكم سائر الأشياء ، فإنّ المرجع فيها هي البراءة ، ومن هنا ينقدح كون الأصل مقتضيا للاشتراط عند فقد الإطلاق إذا شككنا في شرطيّة شيء لكون الشيء طريقا ، بخلاف ما إذا شككنا في شرطيّته في غير الطرق. وبالجملة : الأصل في الطرق الجعليّة غير الأصل في سائر الأشياء.

لا يقال : الاحتياط في هذه المسألة ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول الميّت موافقا للاحتياط.

لأنّا نقول : إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة المزيل والمزال كما يظهر بالتأمّل.

ورابعا (1) : بأنّ الذمّة مشغولة بالعبادة - كالصلاة مثلا - ولا يتفق الخروج من عهدتها إلاّ بتقليد الحي ؛ لأنّ تقليد الميّت معركة للآراء. فقاعدة الشغل واستصحابه يقتضيان المنع من تقليد الميّت.

هذا في العبادات ، وأمّا في المعاملات ، فأصالة عدم ترتّب الأثر محكّمة.

ويمكن تقرير أصول أخر تظهر بالتأمّل. ولا وارد على هذه الأصول من الأدلّة سوى الاستصحاب وظاهر الأخبار والآيات التي قد يتمسّك بها في إثبات جواز التقليد. وستعرف إن شاء اللّه فساد الاستدلال بها وبقاعدة الانسداد التي تمسّك بها الفاضل القمّي (2).

ومنها (3) : أنّ المفتي إذا مات سقط قوله عن درجة الاعتبار ولا يعتدّ بقوله أصلا ، ومن هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

ص: 569


1- عطف على ثالثة.
2- القوانين 2 : 265 - 270.
3- أي الأدلة الدالّة على عدم جواز تقليد الميت.

بيان الملازمة : أنّ مخالفة الحي لسائر أهل عصره يمنع عن انعقاد الاجماع على خلافه إجماعا ، بخلاف مخالفة الميّت ، فإنّها غير قادحة في انعقاده ، فلو كان قوله نحو قول الحي معتبرا شرعا لكان مخالفته قادحة أيضا كمخالفة الحي.

وهذه الحجة ذكرها المحقّق الشيخ علي في حاشية الشرائع (1) ، ثمّ اعترض على نفسه بما يرجع إلى منع الملازمة الثانية ، وحاصله :

أنّ انعقاد الإجماع على خلافه بموته ليس لأجل سقوط اعتبار قوله بموته ، بل لحصول العلم حينئذ بدخول المعصوم عليه السلام في الباقين الذي هو الباعث على حجيّة الإجماع عندنا. فلا دلالة في انعقاد الإجماع على خلافه بموته على أنّ الموت يوجب عدم اعتبار قوله بعد أن كان معتبرا في حال الحياة.

ثمّ أجاب عنه بما أجاد ، وحاصله : أنّ موت الفقيه حينئذ يكشف عن خطأ قوله في حال الحياة ، فلا يجوز العمل به.

وخلاصة الفرق بين هذا الجواب وبين الاستدلال : أنّ مقتضى الاستدلال : كون الموت مسقطا لاعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، وقضيّة الجواب : كونه كاشفا عن خطأ القول رأسا ، باعتبار حصول العلم بكون قوله خلاف قول المعصوم. فالتفت ولا تغفل.

وربما يتوهّم اختصاص هذا الدليل بما إذا كان قول الميّت مخالفا لإجماع علماء العصر ، فلا يقتضي عدم جواز التقليد فيها إذا لم يكن كذلك ، كما إذا كانوا مختلفين ، وكان قول بعضهم موافقا لقول الميّت.

وليس كذلك وإن كان بناء الاستدلال على فرض الكلام فيما إذا كان رأي المجتهد مخالفا لآراء سائر أهل العصر فمات ، فإنّ ممانعة قوله حال الحياة في هذا

ص: 570


1- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99 - 100.

الفرض عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وعدم المسابقة بعد الموت ، دليل واضح على كون الموت موجبا لسقوط اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، فالدليل وإن كان من مقدّماته فرض مخالفة قوله لسائر أهل العصر إلاّ أنّ النتيجة الحاصلة منها سقوط اعتبار القول بالموت مطلقا كما يظهر بالتأمّل.

هذا ، ولك أن تقرّر الدليل على وجه آخر ، وهو : أنّ قول الميّت إذا وافق قول أحد الأحياء فالعمل بقوله ليس تقليدا للميّت ، بل تقليد للحي ؛ بناء على عدم اعتبار تعيين المفتي في التقليد الذي هو شرط لصحّة العمل ، كما لعلّه الأقوى. وإن لم يوافق قول أحدهم كان مخالفا لأقوال أهل العصر ، ومعلوم البطلان بالإجماع بناء على حجيّته من باب اللطف ، فالتقليد للميّت دون الحيّ لا ينفكّ عن مخالفة الإجماع قطعا فتأمّل.

ثمّ إنّ صاحب الوافية بعد أن نقل هذا الدليل قال : وضعف هذا الوجه ظاهر ؛ لأنّه بعد عدم حجّيته على أصولنا ينتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا بشهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ، فتأمل. انتهى (1).

وتبعه في النقض بمعروف النسب غير واحد ممّن تأخّر عنه (2) ، وصورته واضحة ، وهي : أنّ انعقاد الاجماع على الخلاف مشترك الورود بين الحي والميّت بناء على ما هو التحقيق عند الإمامية في الإجماع : من كون حجّيّته من باب الكشف عن قول المعصوم لعدم منافاته لمخالفة الحي المعلوم النسب أيضا.

ص: 571


1- الوافية : 301.
2- منهم المحقّق القمي في القوانين 2 : 272 ، وانظر مفاتيح الأصول : 620.

والظاهر ، أنّه بعد التأمّل في جواب الشيخ علي رحمه اللّه عن الاعتراض الذي أورده على نفسه يظهر جواب هذا النقض أيضا ، فإنّ كون مخالفة معلوم النسب غير قادحة في انعقاد الاجماع لا ينافي كون الموت كاشفا عن خطأ قوله ، وهو الباعث لعدم الاعتداد بقوله.

توضيح المرام : أنّك عرفت أنّ الاستدلال بالدليل المزبور يتصور على وجهين :

أحدهما أن يقال : إنّ المجتهد ما دام كونه حيّا يعتبر قوله وإذا مات سقط اعتبار قوله بنفس الموت ، وذلك لأنّ المجتهد المخالف لأهل عصره في الرأي ما لم يمت يمنع مخالفته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وإذا مات فبموته يتحقّق الإجماع على خلافه ، وهذا يدلّ على اعتبار قوله في حال الحياة وعدم اعتباره في حال الممات ، إذ لو كان معتبرا أيضا مثل اعتباره قبل الموت لكان مانعا عن انعقاد الإجماع على خلافه ، وحيث لا يمنع علم أنّ قوله ميّت مثله لا اعتداد بشأنه.

وإن قرّر الاستدلال كذلك ، فهذا مبنيّ على كون الإجماع اتّفاق الكل ، بحيث يقدح في ثبوته مخالفة بعض آحاد الامّة ، سواء كان معلوم النسب أو مجهوله ، كما عليه العامّة. وحينئذ فالجواب عنه : بأنّ هذا الدليل لا يلائم مذهبنا في الإجماع : من عدم قدح خلاف مجهول النسب حيّا كان أو ميّتا جيّد ، إلاّ أنّه ليس من النقض في شيء ، بل هو منع لمبنى الاستدلال ، أعني قدح خلاف الحيّ في انعقاد الإجماع ، فتضعيف صاحب الوافية له : أوّلا بعدم حجّيته على أصولنا. وثانيا : بالنقض ، ضعيف خارج عن رسم الإيراد ، وراجع إلى إيراد واحد.

ص: 572

ثمّ إنّ هذا الجواب إنّما يناسب إذا كان المحجوج عليه بهذه الحجّة الخاصّة ، والمستدلّ إنّما احتجّ بها على العامّة القائلين بحجيّة الإجماع من جهة اتّفاق الامّة كلّها تعبّدا إذ لم يكن معتقدا بخلاف أحد من الخاصّة إلى زمانه ، بل كان معتقدا بوفاقهم كما اعترف به في شرح الألفيّة (1).

والثاني أن يقال : إنّ المجتهد المخالف لآراء أهل عصره ما دام كونه في الحياة لا يحصل العلم ببطلان قوله ؛ لاحتمال كونه معصوما ، وإذا مات كشف موته عن خطئه ؛ لظهور دخول المعصوم في الباقين.

فإن بني الاستدلال على ذلك كما يصرّح به الجواب عن الاعتراض الذي أورده على نفسه ، كان النقض المزبور أجنبيّا ؛ لأنّ إمكان تحقّق الإجماع مع خلاف بعض الأحياء المعروف النسب لا يمنع شيئا من مقدّمات الدليل من الصغرى أو الكبرى ؛ لأنّ المستدلّ غير منكر لذلك ، بل يعرف أنّ مناط حجيّة الإجماع إنّما هو القطع بدخول المعصوم عليه السلام كما هو صريح اعترافه (2) في تقرير الاعتراض ، وأنّه لو حصل القطع بدخوله عليه السلام في آحاد معيّنين كان الحجّة فيهم ، وإن كان بعض الأحيان على خلافهم ، لكن يقول : إنّ موت المجتهد المخالف دائم الكشف عن خطئه ، فلا يجوز الاعتماد بقوله.

قولك : إنّ خلاف الحيّ المعلوم النسب أيضا معلوم البطلان لمكان الإجماع على خلافه.

قلنا : لا يجوز الاعتماد على قوله أيضا ، ولا يلزم من منع تقليد نحو هذا الحي منع تقليد مطلق الحي.

ص: 573


1- انظر رسائل المحقّق الكركي 3 : 176.
2- أي اعتراف المحقّق الثاني ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 100.

نعم يرد على هذا التقرير : أنّ مفاد الدليل حينئذ ليس إلاّ عدم تقليد الميّت الذي كشف موته عن خطئه بأن كان سائر أهل عصره مخالفين له في الرأي وكان موته موجبا لكشف خطئه باعتبار حصول العلم بدخول المعصوم في الباقين ، وأمّا الميّت الذي لم يكشف موته عن خطئه بإمكان (1) الأحياء بعضهم موافقين له في الرأي ، فلا دلالة له على عدم جواز تقليده حينئذ ، ويمكن دفعه بما أشرنا إليه : من أنّ رأي الميّت إذا وافق رأي أحد الأحياء لم يكن العمل على طبق رأيه تقليدا له ؛ بل للحيّ. ولعلّه لذا فرض الكلام في أصل الاستدلال فيما إذا كان الميّت مخالفا لسائر أهل عصره ، فإنّ صورة موافقة بعض الأحياء يمكن إخراجها من محلّ البحث ؛ لقلّة جدواها ؛ بناء على عدم اختلاف التقليد باختلاف نيّة المقلّد ، ولا يخفى أنّ الاستدلال على الوجه الأوّل لو تمّ فإنما يفيد عدم الاعتداد بقوله مطلقا حتّى فيما إذا وافق بعض الأحياء ، كما بيّنا وجهه عند تقرير الدليل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الوافية (2) بعد النقض بقوله مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في الكبائر مع عدم ارتباطه بالجواب اشتباه واضح ؛ فإنّ مناط الجرح والتعديل على قبح أفعال المجروح وحسن أفعال المعدّل في نظره لا بحسب الواقع ، فلا يلزم من قبول الجرح والتعديل إلاّ الحكم بارتكاب المجروح والمعدّل ما رآه قبيحا وعدمه ، وهذا لا يستلزم قول الجارح والمعدّل في عدد الكبائر بعد أن لم يكن مناط الفسق والعدالة بمباشرة ما هو كبيرة في نظره ، ولعلّ وجه الاشتباه : أنّه زعم أنّ مناط الجرح والتعديل والفسق والعدالة ارتكاب الكبيرة الواقعيّة

ص: 574


1- كذا ، والأنسب : لإمكان أن يكون.
2- الوافية : 301.

والاجتناب عنها ، فتخيّل أنّ قبول شهادته في ذلك يستلزم قبول قوله : « إنّ هذه كبيرة » وعدم اعتبار قوله في كونها كبيرة يستلزم ردّ شهادته كما هو واضح.

واعترض صاحب الفصول (1) على هذه الحجّة - مضافا إلى ما عرفته من النقض - : بأنّ غاية ما يلزم منها عدم اعتبار قوله في انعقاد الإجماع ولا يلزم منه عدم اعتباره مطلقا حتى بالنسبة إلى جواز التقليد.

وهذا الاعتراض مبنيّ على تقرير الاستدلال بالوجه الأوّل ؛ فإنّ قضيّة التقرير الثاني : كشف الموت عن خطأ قوله رأسا.

وقد ظهر ممّا تلونا ضعف هذا الاعتراض على التقرير الأوّل أيضا ؛ فإنّه لو تمّ فإنّما يقتضي إسقاط الموت اعتبار القول بعد أن كان معتبرا ، من دون اختصاص له بمسألة انعقاد الإجماع ؛ نظرا إلى أنّ أقلّ مراتب اعتبار قول المجتهد ممانعته عن انعقاد الإجماع على خلافه ، فحيث لم يمنع من ذلك علم بفقدانه لجميع مراتب الاعتبار التي من جملتها - بل أعظمها - جواز التقليد.

وأيضا القائل باعتبار قول الميّت يدّعي : أنّ الموت من حيث هو لا مدخليّة له في اعتبار القول وعدمه ، وهذا الدليل يقتضي مدخليّة الحياة في الاعتبار في الجملة ، وبعدم القول بالفصل بين الموارد في ذلك يتمّ المدّعى ، فتأمّل.

ثمّ قال (2) : ولو قرّر الدليل : بأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الميّت فيكون قوله معلوم البطلان من الدين ، والعامي لا خبرة له بمواقع الإجماع ، فقد يؤدّي تقليده الأموات إلى التقليد في أمر معلوم البطلان فيجب التحرّز عن ذلك ، لكان أولى.

ص: 575


1- الفصول : 421.
2- أي صاحب الفصول.

وفيه نظر واضح ؛ لأنّ الإجماع قد ينعقد على خلاف الحي أيضا باعترافه ، فيجب التحرّز عن قول الحي أيضا إلاّ بعد العلم بأنّه غير مخالف للإجماع ، وكلّ ما يقال هنا يقال في تقليد الميّت حرفا بحرف.

ومنها (1) : أنّ دلائل الفقه لما كانت ظنّية لم تكن حجّيتها إلاّ باعتبار الظن الحاصل معها ، وهذا الظن يمنع بقاؤه بعد الموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ، فيخرج عن كونه معتبرا شرعا.

وهذا الدليل أيضا نقل عن المحقّق الشيخ علي رحمه اللّه في حواشي الشرائع (2) ، وأورده غير واحد ممّن تأخّر عنه بتقريرات مختلفة ، منهم : الشهيد الثاني (3) في رسالته ، والمير محمد باقر الداماد في بعض رسائله (4).

واعترض عليه صاحب الوافية (5) :

أوّلا : بمنع زوال الظن بعد الموت.

وثانيا : بمنع خلوّ الحكم عن السند على تقدير الزوال ، فلم لا يكفي اقتران الظن بالحكم في السابق سندا له.

ويدفع الأوّل : بأنّ الظن من الأعراض القائمة بالذهن ، وهو قوّة من قوى الحيوان الناطق ، وخاصّة من خواصّه متقوّم بالحياة كتقوّم أصل الحيوانيّة بها ، ويتقوّى بقوّة البدن ويضعف بضعفه ، فإذا عرض الموت الذي يفني جميع القوى

ص: 576


1- من الوجوه الدالة على عدم جواز تقليد الميت.
2- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99 ، وحكا عنه في الوافية : 302.
3- رسائل الشهيد الثاني 1 : 43.
4- أورده في رسالة شارع النجاة المطبوعة ضمن « اثني عشر رسالة » : 10 - 11.
5- الوافية : 302.

الحيوانية حتى القوى الدرّاكة انعدم تلك القوّة أيضا ؛ ولذا ترى أنّ الهرم وزيادة الطعن في السنّ يذهب بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها من القوى ، بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يفهم شيئا ، كما أخبر اللّه تعالى به في محكم كتابه : ( ... وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ... ) (1).

واستدلّ المولى البهبهاني رحمه اللّه (2) على زوال الظن - فيما حكي عنه - :

أوّلا : بالبداهة.

وثانيا : بأنّ الظنّ إنّما هو الصورة الحاصلة في ذهنه ، فحين الشدّة والاضطراب حالة النزع لا تبقى تلك الصورة قط ، بل وحين النسيان والغفلة أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت حيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه.

وهذا الاستدلال مبنيّ على كون الظنّ جزءا من الأجزاء البدنيّة. وهو غير واضح وإنّما الذي نتعقله ويساعد عليه الوجدان ، بل البرهان أيضا ، هو الذي ذكرنا : من كونه قوّة من قوى الحيوان الناطق يدرك بها الأشياء النظرية ، وبه قوامها وتعيّنها بالحياة ، وبقاء تركيب الأخلاط الأربعة في هذا البدن. ووجه ذلك ، أنّه قد تقرّر : أنّ لكلّ خلط من الأخلاط الأربعة أثر في النفس الناطقة ، مثل أنّ أثر الصفراء هو الإدراك وسرعة الانتقال وجودة الذهن ، وأثر البلغم هو البلادة وسوء الفهم وبطء الانتقال ، وأثر الدم هو الشهوة والغضب وهكذا ... ولا ريب أنّ هذه الآثار إنّما تظهر من الأخلاط الأربعة في حال الحياة ، فإنّ الموت عبارة عن فناء هذه الأخلاط كلّها في البدن وتجرّد النفس وخروجها عن الجسمانيات.

ص: 577


1- النحل : 70.
2- حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 620 ، وانظر الرسائل الفقهية : 15.

وبالجملة : لا خفاء ولا إشكال عند المحقّقين ، مثل المير (1) والثانيين (2) وأمثالهم : أنّ الموت يوجب زوال الظن ، وأنّه من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه بعد الموت واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

وزعم صاحب الفصول (3) - وفاقا لبعض من تقدّمه (4) - : أنّ سبب زوال الظن إنّما هو انكشاف حقائق الامور بعد الموت. ومنع عن قيام دليل قاطع على ذلك قبل قيام الساعة.

وأنت قد عرفت أنّ زوال الظنّ ليس لأجل انكشاف الواقع وانقلابه بالعلم ، بل لأجل فناء محلّه الذي هو الذهن المتقوّم بتركيب الأخلاط والقوى في البدن.

وأمّا انكشاف الأشياء عند النفس بعد الموت وعدمه فهو مقام آخر لا يتوقّف على أحد الطرفين بفوت المطلوب ، لأنّا لو لم نقل بالانكشاف لقلنا بزوال الظنّ أيضا ، لما ذكرنا.

ثمّ قال : سلمنا - يعني زوال الظنون وانكشاف واقع الأحكام للمجتهد - لكنّ الاعتقاد الراجح المحقّق في ضمن الظن ممّا يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطارئ فيستصحب بقاؤه ، لعدم القطع بزواله ، إذ التقدير تجويز موافقة علمه لظنه وزوال تجويز النقيض (5) انتهى.

وفيه :

أولا : ما عرفت ، لا ملازمة بين زوال الظن بعد الموت وانكشاف الوقائع ،

ص: 578


1- أي المحقّق الداماد.
2- أي المحقق الثاني والشهيد الثاني ، كما تقدم في الصفحة : 576.
3- الفصول : 420.
4- مثل الوحيد البهبهاني ، انظر الرسائل الفقهية : 9 - 15.
5- أي كلام الفصول.

فنقول : إنّ الظن قد زال قطعا ؛ لما ذكرنا. وحصول الاعتقاد الجديد الذي حصل له بعد الموت على فرض كونه موافقا للظن بحكم الاستصحاب - بناء على حجّيته في مثل المقام ، مع أنّ الاعتقاد الظنّي والاعتقاد الجزمي مرتبتان متضادّتان مختلفتان ، والأول قد ارتفع جدّا ، والثاني حادث جديد ، وإجراء الاستصحاب فيه مبنيّ على المسامحة وعدم التدقيق في البقاء والحدوث كما في استصحاب الألوان الضعيفة مع القطع بتكاملها [ و ](1) انقلابها إلى حالة الشدة على فرض بقائها - اعتقاد نشأ لا عن دليل ؛ لأنّ اعتقادات الموتى وعلومهم تحصل بالمكاشفة والشهود ، ولم يقم دليل على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام هذا النحو من الاعتقاد الخارج عن عالم الاجتهاد ، وقد تقرّر : أنّ استصحاب الموضوعات الغير الشرعيّة : كالحياة والعلم والظنّ ونحوهما ، إنّما هي عبارة عن إجراء أحكامها الشرعيّة عليها التي يعلم ثبوتها لها على فرض بقائها ، كحرمة نكاح الزوجة على فرض حياة بعلها مثلا ، فحيث كان المستصحب على فرض بقائه ممّا لم يقم دليل شرعيّ على ترتيب الحكم عليه ، لم يكن فائدة في استصحابها.

فبعد اللتيا والتي صار نتيجة كلامه : أنّ الاعتقاد الظنّي الحاصل للمجتهد في حال الحياة قد تكامل بالموت وبلغ حدّ الجزم ؛ بحكم الاستصحاب.

ومن الواضح : أنّ مجرّد ذلك لا يتمّ به المدّعى ، بل لا بدّ أن يكون دليل دلّ على أنّ جواز التقليد حكم من أحكام الاعتقاد الراجح ، كسبيّا كان أو كشفيّا. ثمّ إثبات بقاء الاعتقاد بعد الموت ليترتّب عليه حكمه الشرعي. ونحن نقول - كما ستعرف في ردّ الاستصحاب الذي يتمسّك به المجوّزون - : إنّ هذا الدليل مفقود ، وحينئذ فلا ينفع استصحاب بقاء الاعتقاد الراجح بعد الموت جدّا.

ص: 579


1- اقتضاها السياق.

ومن هنا ينقدح : أنّه لا يضرّنا الاعتراف ببقاء الظنّ نفسه من دون تكامل وتقلّب بالقطع أيضا ، وإن كان بناء أهل الاستدلال على الزوال ؛ ولعلّه لأجل معلوميّة ذلك عند المستدلّ بحيث لم يخطر بباله أنّ عاقلا يذهب إلى بقاء الظن.

فالأولى أن يقال : إنّ الدلائل الظنّية حجّيتها إنّما هي باعتبار الظنّ الحاصل منها للمجتهد الحي ، لكنّه لا يخلو عن مصادرة.

ويدفع الثاني (1) : بأنّ مناط الحجّية إذا كان هو الظنّ كان الحكم يدور مداره ؛ لأنّه يقع وسطا لقياس نتيجته القطعيّة المطلوبة ، ومن الواضح المقرر : أنّ الاستنتاج يحتاج إلى ثبوت الملازمة بين النتيجة وبين الوسط بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن انتفائه انتفاؤه.

بيان ذلك : أنّ الدليل ما كان بينه وبين مدلوله ملازمة واقعية بحيث يلزم من العلم به العلم به ، وهذا في غير الأدلّة الشرعيّة واضح ، وأمّا فيها ففي القطعيات منها أيضا لا إشكال في ثبوت الملازمة بينها وبين نتائجها واقعا ، وأمّا الظنّيات ، كخبر الواحد والشهرة وأمثالها ، فهي في أنفسها ليست من الأدلّة حقيقة ؛ لانتفاء الملازمة بينها وبين المطلوب منها ؛ لكنّها بملاحظة الدليل الثانوي الدالّ على حجيتها من العقل أو النقل صارت حجّة شرعيّة ، إمّا تعبّدا أو باعتبار ما فيها من الظنّ الذي يحصل للمجتهد. ومعنى صيرورتها حجّة دوران النتيجة معها على قياس دوران المطلوب مدار الحدّ الوسط في سائر القياسات مثل ما يقال : زيد متعفّن الأخلاط ، وكلّ متعفّن الأخلاط محموم. فكما أنّ الحكم بالحمّى في زيد يتوقّف على بقاء تعفّن الأخلاط ، كذلك الحكم بحرمة ما ظنّه المجتهد

ص: 580


1- أي الاعتراض الثاني لصاحب الوافية المذكور في الصفحة : 576.

واعتقده باجتهاده حراما يتوقّف على بقاء الظن ؛ لأنّه بمنزلة تعفّن الأخلاط في قولنا : هذا مظنون الحرمة ، وكلّ مظنون الحرمة حرام.

لا يقال : لا كلام في أنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي يستلزم المطلوب وجودا وعدما ، وإنّما الكلام في أنّ ذلك الوسط ما ذا؟ وأنت تدّعي : أنّه الظنّ المستمرّ إلى آن الحكم ، ونحن نقول : إنّه تعلّق الظنّ بالحكم في الجملة ، ونقول فيما إذا زال الظنّ بعد أن كان موجودا : إنّ هذا ممّا تعلّق بحرمته ظنّ المجتهد قبل ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام. والصغرى معلومة والكبرى يستدلّ عليها بما يستدلّ به على كبرى دليلك ، أعني : كلّ ما هو مظنون الحرمة بالظنّ الفعلي فهو حرام ؛ إذ لا فرق بين قولنا وقولك إلاّ أنّك تدّعي : أن ظنّ المجتهد وإخبار العدل مثلا علّة لحدوث حكم اللّه الثانوي وبقائه ، فيرتفع بارتفاعه ، ونحن ندّعي : أنّه علّة للحدوث خاصّة ، وأمّا البقاء ، فلا يكفي أصل حدوث الظنّ آناً ما في بقاء الحكم الثانوي ، فإن طالبتني بدليل لأطالبنّك به ، فقولك : إنّ الحكم بعد زوال الظنّ بالموت يبقى خاليا عن السند ، مصادرة واضحة كما قاله المعترض.

لأنّا نقول : دليلنا على كبرى قياسنا - يعني على بقاء اشتراط الظن مثلا في بقاء الحكم الثاني - عدم الدليل على أزيد من ذلك ، كما ستعرف في قدح مدارك التقليد ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ الظنّ بالحرمة مثلا غير مستلزم لها في ذاته ، والقدر الثابت من الملازمة الشرعيّة التي دعتنا إلى الاستدلال بها على الحكم الثانوي إنّما هي بينه وبين الظنّ بالحكم الأوّلي فعلا ، ومن ادّعى ثبوتها بينه وبين الظنّ بحكم اللّه الواقعي الأوّلي في أحد الأزمنة فهو مطالب بالدليل ؛ لأنّ كلامنا مبنيّ على الأخذ بالقدر المتيقّن فيما هو مخالف للأصل.

ص: 581

ومن هنا ظهر : أنّ الاعتراض الثاني ليس من آداب المناظرة ؛ لأنّ مطالبة الدليل من المنكر مع عدم إقامة الحجّة على الإثبات خروج عن قاعدة الاعتراض.

نعم ، يمكن أن يناقش على (1) الدليل المزبور : بأنّ تماميّته تتوقّف حينئذ على إعمال الأصل في المسألة ، فلا يكون استدلالا مع الإغماض عنه ، كما هو الشأن في كلّ مقام يجمع فيه بين الاستدلال بالأصل والدليل.

ومنها (2) : ما ذكره المحقّق (3) والشهيد (4) الثانيان : من أنّه لو جاز العمل بفتوى الفقيه بعد موته لامتنع في زماننا الإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف بالنسبة إلى الأعصار الماضية في هذا العصر غير ممكن.

وهذا الدليل بعين عباراته نقل (5) أيضا عن المحقّق المزبور ، والظاهر بل المتعيّن : أنّ الفقير المضطر امتنع أن يرجع إلى العمل بفتوى الميّت دون مطلق التقليد.

ووجه الملازمة على فرض واقعيّة الإجماع الذي ادعاه واضح ؛ لأنّ تقليد الميّت مشروط بأعلميّته ، ولا سبيل للمكلّف إلى العلم.

وأمّا المناقشة في ذلك : بإمكان تحصيل العلم بالأعلميّة والأورعيّة

ص: 582


1- كذا والظاهر زيادته.
2- أي من أدلّة منع جواز تقليد الميت.
3- حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99.
4- انظر رسائل الشهيد الثاني 1 : 40 - 41.
5- نقله في الوافية : 301 ، ومناهج الاصول : 621.

بالرجوع إلى الكتب والتصانيف الباقية ، كما في الوافية (1) وتبعه غيره (2) ؛ لأنّ الكتب والتصانيف كثيرا ما تقصر عن كشف مقدار فضيلة (3) ، ونحن قد رأينا فضل المصنّف على مصنّفه في زماننا وبالعكس.

وقد يستدل بالإجماع المزبور على المدّعى بعكس طريقة الاستدلال المذكور ، وهو : أنّ تربية الزمان مثل بعض الأموات الأعلام ، كالشيخ والمرتضى والعلاّمة والشهيد والكركي وأمثالهم من أجلاّء أهل التحقيق وكشف دقائق الفقه ودرك خفيّاته في كلّ عصر نادر ، بل معدوم ، فلو جاز تقليد الميّت وجب الاقتصار على فتاويهم ، وينسدّ باب الفتوى بين الأحياء له كما في ما بين العامة ، وهذا ممّا يمكن بالحدس الصائب القطع بعدم رضا صاحب الشريعة به ، وربما يكون في استقرار طريقة الخاصة على الاجتهاد دلالة واضحة على عدم الاعتداد بقول الميّت كائنا من كان ، فإنّ هذا ليس من مجرّد فضيلة الاجتهاد من دون مساس حاجة إليه.

ومنها : أنّ العمل بالفتوى المتأخّرة عند تعدّدها واختلافها واجب بالإجماع ، ولا يتميّز في الميّت فتواه الأول عن الأخيرة.

وهذا الدليل أيضا منقول (4) عن المحقّق ، وأجاب عنه صاحب الوافية (5) :

ص: 583


1- الوافية : 302.
2- انظر مفاتيح الأصول : 622 ، كذا والعبارة ناقصة ، ولعل سقط منها كلمة « مندفعة » ونحوها ، ليقع ما بعدها تعليلا له.
3- كذا ، والمناسب : الفضيلة.
4- نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : 622 ، وانظر حاشية الشرائع ( مخطوط ) : 99.
5- الوافية : 302.

بأنّه يمكن العلم بتقديم الفتوى وتأخّره في الميّت من كتبه وأنّه لا يتمّ إلاّ في ميّت تغيّر فتواه في مسألة واحدة.

ومنها : أنّ اجتهاد الحي أقرب إلى الواقع عن اجتهاد الميّت ؛ لأنّ الحي يقف غالبا على فتوى الميّت وعلى ما هو مستنده فيها ، فإذا أفتى بخلافها علم أنّه قد بلغ نظره إلى ما لم يكن قد بلغ إليه نظر الميّت. ولأنّ الرجوع من الخطأ إلى الصواب ممكن في حقّ الحي دون الميّت ؛ فيكون الأخذ بقول الحي أوثق.

ولا ينافي الأوّل كون الميّت أفضل وأحوط من الحي بالمدارك ، كما توهّم ؛ لأنّ أثر الفضل إنّما يظهر في الإمكان الابتدائية ، فيمكن ظهور خطئه في الاستدلال للمفضول ولو من جهة الإصابة بالمعارض الذي خفي على الفاضل.

وأمّا ما قيل (1) في الثاني : من أنّ الرجوع من الفتوى قد يكون من الحقّ إلى الباطل ، وهذا الباب مسدود في حق الأموات بخلاف الأحياء فلا يكون في إمكان الرجوع دلالة على أقربية القول عن الواقع إذا لم يرجع ؛ لأنّ عدم الرجوع مع إمكانه إنّما يقتضي تأكّد الظن بالواقع إذ كان الرجوع دائما عن الخطأ إلى الصواب. وحيث يمكن أن يتعاكس الأمر لم يكن فيه زيادة ظن ، فيمكن الجواب عنه :

بأنّ المدار على ما هو الغالب في رجوع المجتهدين ، ولا ريب أنّ أغلب موارد الرجوع رجوع عن الباطل ، وأمّا الرجوع عن الحق ففي غاية القلّة فليتأمّل.

ص: 584


1- لم نعثر عليه.

وقد استدل على المطلوب بوجوه أخر أعرضنا عن ذكرها ؛ لعدم اعتمادنا في إثبات المدعى على غير الأوّلين من الأصل والإجماعات المعتضدة بظهور الاتفاق ، ولابتنائها على أنّ الموت يوجب زوال الظن وقد عرفت الكلام في ذلك ، وأنّه لا بدّ وأن يرجع فيه بالأخرة إلى الأصل.

فقد تحقّق وتبيّن مما ذكرنا : أنّه على فرض عدم تماميّة حجج القول بالمنع لا يثبت دعوى المجوّزين أيضا إلاّ باقامة ما يعتمد عليه من الدليل.

[ وجوه القول بجواز تقليد الميّت ومناقشتها ] :

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

فمنها : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

ومنها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لما أجمعوا على النقل إلى السلف ، وعلى وضع الكتب.

بيان الملازمة : أنّه لا فائدة في هذين إلاّ العمل بأقوال السلف والاعتماد عليها في العبادات والمعاملات ، وليس هذا إلاّ التقليد. ولا ينافي ذلك كون الراجعين إلى كتبهم هم العلماء ؛ فإنّ العمل بقول الموتى على تقدير حرمته يساوي فيه العامي والعالم.

ومنها : أنّ كثير البلاد وكثير الأزمنة فاقدة للمجتهد الحي ، فلولا جاز العمل بقول الميّت لزم العسر والحرج (1).

ص: 585


1- لا يخفى ما في التعبير من الضعف.

وضعف هذين الوجهين ظاهر وجوابهما واضح ، ولقد أطال الكلام المولى البهبهاني (1) في تزييفهما. والظاهر أنّ إطالة الكلام في بقيّة الأدلّة أحسن منها فيهما ؛ لأنّ الرجوع إلى كتب السلف ليس للعمل بأقوالهم تعبّدا ، بل للاستعانة على فهم مدرك المسألة ، وأيّ نفع أعظم من ذلك؟ وأمّا لزوم العسر والحرج على تقدير الاقتصار على فتوى الأحياء فمنه (2) في غاية الوضوح ، وعلى فرض لزومهما أحيانا لا يقتضي فتح باب تقليد الأموات مطلقا بل يتقدّر بقدره كما هو الشأن في سائر الأحكام والتكاليف.

ومنها : الاستصحاب ويقرر : تارة بالنسبة إلى حال الفتوى ، واخرى بالنسبة إلى حال المفتي ، وثالثة بالنسبة إلى حال المستفتي لأنّ المجتهد في حال حياته كانت فتواه معتبرة وجائز التقليد فيها ، وكان هو ممّن يجوّز تقليده والأخذ منه ، وكان المقلّد ممن يصح له الاعتماد على قوله في عباداته ومعاملاته ، ويقتضي الاستصحاب بقاء الأحكام الثلاثة كلها إلى حال الموت ؛ للشك في ارتفاعها بالموت بعد القطع بثبوتها حال الحياة.

وهذه الاستصحابات يرجع بعضها إلى بعض يفيد كلّ واحد مفاد الباقي ؛ لأنّ الاستصحاب الثاني الراجع إلى حال المفتي ربما توهّم أنّه لا يفيد كون المفتي ممّن لا يجوز العمل بقوله إلاّ في حقّ من عاصره ؛ لامتناع تحقّق الجواز في حقّ المعدومين ، فيمتنع الاستصحاب لتعدّد الموضوع.

وفيه : أنّ أهليّة المفتي لجواز العمل بفتواه صفة ثابتة له ولو لم يوجد عامل فعلا فإنّه ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة وهي : « من دخل في عداد المكلّفين

ص: 586


1- انظر الرسائل الفقهية : 23 - 24.
2- كذا ، ولعلّه : فضعفه.

بأحكام اللّه تعالى فله الأخذ منه » وصدق الشرطيّة لا يتوقّف على فعليّة الشرط ، وهذه الأهليّة كانت متيقّنة الوجود في حال الحياة ، فلا يصار عنها بالشك الطارئ بعد الموت.

وكيف كان ، فالجواب عنها كلّها : أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب أو جريانه (1) على ما قرّر في موضعه وإلاّ لزم الحكم بوجود العرض لا في موضوع ، وموضوع المستصحب في المقام ، أعني جواز التقليد ، قد بيّنا أنّه الظن الفعلي القائم بنفس المجتهد الذي لا شبهة في زواله بالموت ، ونزيد هنا في البيان على سبيل الإيجاز ونقول - إن شاء اللّه - : إنّ في مجاري الأدلّة الظنّية حكمان (2) : حكم واقعيّ تعلّق به ظن المجتهد ، ثابت للأشياء الواقعيّة كالخمر والعصير ونحوهما ، من غير مدخليّة ظنّ المجتهد فيها وإلاّ لزم التصويب ، وحكم ظاهريّ قطعيّ جاء من الدليل الدال على اعتبار ذلك الظن ، ثابت للأشياء الخارجيّة من غير تعلّق الظنّ بحكمها الواقعي ، وهو وجوب العمل بمؤدّى الظن ، فالحكم الواقعي الأوّلي موضوعه ذات العصير والخمر مثلا ، وأمّا موضوع الظاهري الثانوي فهو العصير لا من حيث ذاته ، بل من حيث كونه مما ظن بنجاسته المجتهد ، ولا ريب أنّ الناس من العوام والخواصّ من المجتهد والمقلّد إنّما يتعبّدون في موارد الأدلّة الظنّية بذلك الحكم الثانوي الذي موضوعه حقيقة ظنّ المجتهد ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم الأصلي الأوّلي ليس بمعلوم ، وإنّما ظنّ به المجتهد ببعض الأمارات ، والتعبّد بأمر غير معلوم غير معقول ، فكما أنّ مدار عمل المجتهد على

ص: 587


1- الظاهر أنّ في العبارة سقطا وهو : « بقاء الموضوع » ؛ ليكون اسما ل- « أنّ » ، ويتم المقصود.
2- المناسب : حكمين.

ظنّه ، كذلك مدار عمل المقلّد على ظنّ مجتهده ؛ إذ لا فرق بينهما في التعبّد بذلك الحكم الظاهري القطعي الذي موضوعه الظنّ إلاّ أنّ المقلّد يجب عليه الرجوع إلى المجتهد لمعرفة موضوع ذلك الحكم.

فإن قيل :

لا نسلّم أوّلا : أنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد ، وأنّ موضوع حكمه الثانوي إنّما هو الظنّ ، بل هو متعبّد بقوله وفتواه أعني : إخباره عن حكم اللّه ، فيكون موضوع ذلك الحكم الثانوي هو قول المجتهد ، وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل بموت القائل كالرواية. نعم ، إذا فرض رجوع المجتهد عن قوله كان الموضوع منتفيا.

وثانيا : على فرض كونه متعبّدا بظنّه ، لا نسلّم زوال الظنّ بعد الموت لإمكان بقائه ، بأن لا ينكشف له حقيقة الحال.

وانكشف وظهر جوابه ، قلنا : التعبّد بظنّ المجتهد أو بقوله كلاهما مخالفان للأصل محتاجان إلى الدليل ، وقد ذكرنا غير مرّة : أنّ التعبّد بالظنّ ممّا لا كلام فيه ولا إشكال ، فيكون ثابتا من باب التعبّد المتيقّن. وأمّا التعبّد بمجرّد القول والإخبار عن حكم اللّه ولو مع زوال الظنّ ، فلم يقم عليه دليل معتبر ؛ لأنّ أدلّة مشروعيّة التقليد غير وافية بذلك كما ستعرف.

وأمّا ما ذكرت من إمكان بقاء الظنّ فنحن لا نتحاشى من ذلك ، ولكن نقول : إنّ المقلّد متعبّد بظنّ المجتهد الحي دون الميّت ، ومن ادّعى أكثر من ذلك طولب بالدليل ، وأنّى له بذلك بعد عدم قيام دليل معتبر على مشروعيّة أصل التقليد سوى الإجماع والسيرة والضرورة التي لا يحصل منها أمر يرتفع منه الاشتباه.

ص: 588

لا يقال : إذا كان موضوع الحكم هو الظنّ القائم بنفس الحي ، فالأمر كما تقول : من انتفاء موضوع الحكم بالموت ، لكنّه ليس ممّا دلّ عليه قاطع (1) سوى الأصل ، ومن المحتمل أن يكون الموضوع مطلق الظنّ إذا قلنا ببقائه بعد الموت أو بمجرّد القول ، فيبقى الموضوع. والمانع عن جريان الاستصحاب إنّما هو القطع بزواله ، فلا مانع من جريانه عند الشكّ في البقاء ، فإنّ الاستصحاب يحكم بوجوده ، وقد أشار صاحب الوافية (2) إلى هذا الكلام في جواب المير (3) ، حيث منع من استصحاب جواز التقليد باعتبار انتفاء الموضوع.

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الدليل على أنّ التقليد عبارة عن التعبّد بقول الحي موجود ، وهو ظاهر كلّ ما جعلوه دليلا على مشروعيّة التقليد من الكتاب والسنّة ؛ فإنّ الظاهر منها حجيّة قول الحي ؛ ولذا تمسّك بعض (4) بآية السؤال على عدم جواز تقليد الميت.

وثانيا : نقول : إنّه قد ثبت في محلّه أنّه إذا شكّ في موضوع الحكم ولم يظهر من دليله ما يدور الحكم مداره امتنع استصحاب ذلك الحكم عند زوال ما يتحمّل كونه موضوعا أو اعتباره في الموضوع. والسرّ في ذلك : أنّه متى حصل الشكّ في موضوع الحكم لم يعلم كون الحكم السابق الذي يراد استصحابه ما ذا ، والاستصحاب عبارة عن انسحاب اليقين السابق ، أي ما تيقّن به سابقا إلى زمان

ص: 589


1- كذا ، ولعله : « دليل قاطع ».
2- الوافية : 302.
3- أي : الداماد ، انظر الوافية : 302.
4- استدلّ به النراقي في مناهج الأحكام : 301.

الشك ، وإذا لم يحصل اليقين بالحكم السابق ولم يعلم أنّ القضيّة المتيقّنة ما ذا فلا مجرى للاستصحاب على ما هو التحقيق ، فلو شككنا مثلا في أنّ موضوع النجاسة هل هو « الماء » لكن التغيّر صار سببا لنجاسته كالملاقاة ، أو أنّه « الماء المتغيّر » أمّا يحكم بنجاسته للاستصحاب بعد زوال التغير على ما هو الحقّ المقرّر في محلّه ؛ لأنّ الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك غير شاملة لذلك ؛ إذ لو بنينا على طهارة ذلك الماء بعد زوال التغير لم نكن ناقضين لليقين بالشك ، وإنّما يكون كذلك لو كنّا متيقّنا (1) بأنّ هذا الماء كان نجسا ومع احتمال كون النجس هو المتغيّر دون الماء ، فإنّه لا يحصل يقين بذلك ، فلو لم يحكم بالنجاسة حينئذ لم يكن فيه نقض يقين بالشك. نعم إذا حصّلنا موضوع الحكم من دليله ثمّ شككنا في بقائه وارتفاعه باعتبار الشك في مقدار استعداد علّة ذلك الحكم تمّ الاستصحاب ، وذلك مثل أن كان دليل نجاسة الماء نحو قوله : « ينجس الماء إذا تغيّر » لا نحو قوله : « الماء المتغيّر نجس » فانّ الماء نفسه جعل في هذه القضيّة موضوعا للنجاسة ، واحتمال كون التغيّر علّة محدثة ومبقية حتى يرتفع الحكم بارتفاعه يدفع باستصحاب نجاسة الماء.

فإن قلت : هل يبقى عندك شيء من موارد الشك من حيث المقتضي تقول بجريان الاستصحاب فيه أم لا؟

قلنا : على كلامنا هذا لا يبقى من مواردها أصل إلاّ ما عرفت ممّا يكون الشك مسبّبا من الشك في كيفية عليّة العلّة ومقدار استعداده بعد إحراز موضوع الحكم من الدليل ، ومثل ما إذا كان سبب الشك احتمال مدخليّة خصوصيّة الزمان ، مثل أن أمر المولى بالقعود في المسجد - مثلا - ولا يدري أنّ المطلوب منه مقدار

ص: 590


1- كذا ، والمناسب : متيقّنين.

ساعة أو ساعتين ، فإنّ الظاهر جريان الاستصحاب فيه أيضا ؛ بناء على أنّ الزمان شيء لا يعتبر قيدا لموضوع الحكم وإن كان نظر الدقيق يجعله مثل سائر مقامات الشك من حيث الاقتضاء. وتحقيق كلّ ذلك مطلوب في محلّه.

نعم ، هنا كلام آخر قد ذكرنا [ ه ] (1) هناك وهو : أنّ القائل بجريان الاستصحاب في أمثال المقام ، المبهم فيها موضوع المستصحب في نظر الدقيق ، له أن يقول : إنّ العبرة في بقاء الموضوع وانتفائه إنّما هو بالصدق العرفي ، وأهل العرف يتسامحون في الحكم بالبقاء والانتفاء ، حتى أنّهم يشيرون إلى الكلب المستحيل ويقولون : إنّه كان نجسا والأصل بقاء النجاسة ، مع أنّ المشار إليه في الحالة اللاحقة إنّما هو الجماد الذي لا يطلق عليه الكلب الذي هو موضوع للنجاسة في الأدلة. وهكذا يشيرون إلى ميّت الإنسان ويقولون : إنّه كان يجوز النظر إلى عورته لزوجته في حال الحياة والأصل بقاؤه ، مع أنّ الحلّية كانت ثابتة للنظر إلى عورة الزوج الذي لا ريب في كونه إنسانا لا جمادا إلاّ أنّ المعتمد عندنا - كما قلنا في محله (2) - عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام.

وبالجملة : متى حصّلنا موضوع المستصحب من دليله وعلمنا تغيّره أو انتفاءه في الحالة الثانية أو لم نحصّل الموضوع وكنا في اشتباه في ذلك - كما إذا كان دليل الحكم لبيّا كالإجماع ونحوه - امتنع عندنا جريان الاستصحاب.

وامّا ما تخيّله التوني : من أنّ عدم العلم بتغيّر الموضوع يكفي في جريان الاستصحاب فلا يعتبر إحراز البقاء ، فبعيد من التحصيل في الغاية ؛ لأنّ وجود الموضوع ممّا لا بدّ منه في وجود المحمول حدوثا وبقاء إذ لا يتعقل الحكم بقيام

ص: 591


1- اقتضاها السياق.
2- انظر فرائد الاصول 3 : 157 ، و 292 - 300.

زيد مثلا مع عدم وجود زيد في الخارج فلا بدّ أوّلا من إحراز وجوده ثمّ الحكم ببقاء الحكم ، أي المحمول فيه ؛ للاستصحاب.

فإن قيل : إنّ وجود الموضوع نثبته بالاستصحاب أيضا فلا يقدح في استصحاب حكمه الشك في بقائه.

قلنا : استصحاب الموضوعات الخارجيّة لا يرجع إلى محصّل إلاّ الحكم بترتّب أحكامها عليها شرعا وجواز استصحاب الحكم ليس من أحكام الموضوع حتّى يترتّب عليه ، بل إنّما هو من أحكامها العقليّة ؛ لأنّ اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب أمر جاء من قبل حكم العقل بامتناع وجود المحمول لا في موضوع ، فليس حكما من أحكام موضوع الحكم حتى يترتّب على وجوده بالاستصحاب ، سلّمنا كونه مما يترتّب عليه بعد استصحابه باعتبار كونه حكما شرعيّا له ، لكن نقول : إذا كان موضوع الحكم ما يجري فيه الاستصحاب كان الحكم مترتّبا عليه من دون حاجة إلى استصحاب آخر يجري في نفس الحكم ، بل لا يبقى مع استصحاب الموضوع محلاّ (1) لجريان الاستصحاب في نفس الحكم ، فإجراء الاستصحاب في الحكم والموضوع ممّا لا يجتمعان في محلّ واحد.

فإن قلت : إذا كان الأمر كذلك ، فنحن نقول : إنّ جواز التقليد ثابت ، إمّا لقول المجتهد أو لظنّه مطلقا أو لظنّه ما دام حيّا ، ولا ندري زوال ذلك الموضوع بعد الموت ؛ لاحتمال كونه أحد الأوّلين فيستصحب ذلك ؛ إذا الأصل بقاء ما قد ثبت له جواز التقليد وباستصحابه يثبت جواز التقليد في حال الموت لكونه حكما من أحكامه شرعا.

ص: 592


1- كذا ، والمناسب : محلّ.

قلنا : كون الأصل بقاء موضوع الحكم لا يثبت كون الباقي من الامور المحتمل كونها موضوعا هو الموضوع إلاّ على الأصل المثبت الذي لا نقول به ، والذي يفيد في المقام هو الحكم بموضوعيّة ذلك القول الذي هو الباقي بعد الموت.

وأمّا بقاء الموضوع في العالم من غير إثبات كون الباقي أعني القول موضوعا فلا فائدة فيه جدّا ؛ إذ إثبات كون القول هو الموضوع مثلا بذلك الاستصحاب ، أعني استصحاب الموضوع أخذ بالأصل المثبت فتدبّر في المقام وراجع ما حرّر في الاستصحاب في نفي الأصول المثبتة.

ومنها : الآيات التي استدلّ بها على مشروعيّة التقليد غير واحد من الأصحاب (1) ، فإنّها تدلّ بإطلاقها على حجيّة قول الميّت للمقلّد نحو قول الحي.

الاولى : أية النفر المذكورة في سورة براءة ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2).

دلّت على وجوب الحذر عقيب الإنذار الواجب المراد به الفتوى خاصّة أو الأعمّ منها ومن الرواية من وجهين :

أحدهما : أنّ كلمة « لعلّ » بعد انسلاخها عن الترجّي تفيد مطلوبيّة مدخولها ومحبوبيّتها (3) ، وهو : الحذر عقيب الإنذار في المقام. وإذا ثبت رجحان الحذر وحسنه ثبت وجوبه ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لا يحسن على وجه الاستحباب أيضا ، بل لا يكاد يتحقّق موضوع الحذر مع انتفاء ما يكون سببا

ص: 593


1- مثل آيتي : السؤال والنفر ، انظر الفصول : 411 ، ومفاتيح الأصول : 594 - 597.
2- التوبة : 122.
3- كذا ، والمناسب : محبوبيّته.

للخوف والوجل مع أنّ ثبوت رجحان الحذر يكفي في إثبات وجوبه بالإجماع المركّب ، فإنّ من قال بجوازه قال بوجوبه.

وثانيهما : أنّ وقوع الإنذار غاية للنفر الواجب بدلالة كلمة « لو لا » يقتضي وجوبه وعدم رضا الآمر بانتفائها ، كما هو الشأن في جميع الغايات المترتّبة على فعل الواجبات ، سواء كانت من الأفعال أم لا ، كما في قولك : « تب لعلّك تفلح » وقوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) (1) وقوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2) وحينئذ ، فالحذر أيضا واجب لوقوعه غاية الإنذار الواجب.

هذا ، مع أنّ وجوب أصل الإنذار في ذاته يقتضي وجوب الحذر عقبه وإن لم يصرّح بكونه غايته ، وإلاّ كان الإنذار لغوا. وهذا مثل ما عن المسالك (3) : من الاستدلال على وجوب قبول قول النساء في العدّة بقوله تعالى : ( ... وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ... ) (4) بناء على أنّ حرمة الكتمان عليهنّ يقتضي وجوب قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام ، وإلاّ كان الإظهار لغوا ، وإذا دلّت الآية على وجوب الحذر عقيب الإنذار فيستدلّ بإطلاقها على وجوبه عقيب الإنذار الصادر من الموتى في حال حياتهم ، فإنّ مماتهم لا يوجب انتفاء صفة الإنذار عن الفتاوى الصادرة عنهم في حال الحياة ، بل كلّ من يبلغه تلك الفتوى يدخل في عنوان « النذر » (5) بالفتح فيجب الحذر لما ذكر.

ص: 594


1- طه : 44.
2- نور : 56.
3- المسالك 9 : 194.
4- البقرة : 228.
5- كذا ، والظاهر : « المنذر ».

والجواب عنها :

أولا : أنّ المراد بالنفر الواجب المشتمل عليه الآية إنّما هو النفر إلى الجهاد بقرينة قوله تعالى قبلها : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (1) ومن المعلوم أنّ المقصود من النفر إلى الجهاد ليس هو التفقّه والإنذار حتّى يجبان فيجب لأجل وجوبهما الحذر ، نعم قد يترتّبان عليه لما فيه من مشاهدة آيات اللّه وغلبة أوليائه على أعدائه وسائر ما يشتمل عليه حرب المؤمنين مع الكفّار ممّا يوجب قوّة الإيمان وتأكّد اليقين ، فيحصل بسببها بصيرة لهم في الدين فيخبرون بما شاهدوه قومهم المتخلّفة (2) إذا رجعوا إليهم ، فيكون التفقّه والإنذار المشتمل عليهما الآية من قبيل الفوائد المترتّبة على فعل الواجب لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا كون المراد بالنفر الواجب هو النفر للتفقّه لا للجهاد ، أنّ المراد بالتفقّه هنا هو أخذ الأحكام من الحجّة ، ويحتمل الروايات ، فالحذر الواجب ما كان عقيب الإنذار بطريق الرواية لفظا أو معنى ، فلا دلالة فيها على وجوبه عقيب الإنذار بالفتوى ؛ ولذا تمسّك الأصحاب بهذه الآية على حجيّة الخبر ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أنّ الاجتهاد لم يكن متعارفا زمن نزول الآية ، بل المتعارف فيه إنّما هو الرجوع إلى الحجّة ، فتحمل الآية على الغالب المتعارف ، وربما يؤيّده بآية (3) النفر ، فانّ الظاهر منها النفر إلى الحجّة خاصّة ، فلا يندرج فيها النفر إلى الرواة للاجتهاد.

ص: 595


1- التوبة : 122.
2- كذا في الأصل.
3- كذا ، والمناسب : وربما يؤيد بآية ... ، أو : يؤيّده آية ....

والثاني : استدلال الإمام عليه السلام بهذه الرواية على وجوب نقل الأخبار في بعض الروايات :

منها : ما عن فضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام (1) في حديث قال : « إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّه تعالى وطلب الزيادة والخروج عن كلّ ما اقترف العبد - إلى أن قال - : ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة على (2) كلّ صقع وناحية ، كما قال اللّه تعالى عزّ وجل : ( ... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ... ) » ونحوها غيرها ، فإنّ المستفاد من التعليل المزبور انحصار المراد بالتفقّه في تحمّل الأخبار ونقلها ، فلا يرد : أنّه على تقدير كون المراد به ما يشمل الفتوى تمّ الاستدلال أيضا.

وثالثا : لو سلّمنا كون المراد بالتفقّه ما يشمل الاجتهاد ، أنّ القدر المستفاد منها هو وجوب الحذر عند العلم بصدق المنذر ، وذلك لأنّ التفقّه عبارة عن معرفة الامور الواقعيّة ، وحيث لا يعلم أنّ الإنذار هل وقع في محلّه بمطابقة الامور الواقعيّة أم لا؟ لم يتحقّق موضوع الإنذار حتى يجب الحذر والقبول ، فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة. فإنّ قلت : لا نسلّم توقّف صدق الإنذار على علم المنذر واعتقاده بمطابقة الواقع ، فإنّ الإنذار نوع من الإخبار ، ومن الواضح أنّه لا يتوقّف على اعتقاد السامع بصدق الخبر ، فإطلاق قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يقتضي وجوب الحذر عقيب الإنذار في صورتي العلم وعدمه.

ص: 596


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 119 ، والوسائل 8 : 7 ، الباب الأوّل من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، الحديث 15.
2- كذا ، والمناسب : إلى ، كما في الوسائل.

قلنا : دعوى الإطلاق ممنوعة :

أمّا أوّلا ، فلأنّ الغالب في إنذار المنذر من أهل العلم وإخبارهم عن الأحكام حصول العلم للمنذرين ، فتنزّل الآية على ما هو الغالب المتعارف.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ مثل هذا الكلام عرفا وارد مورد (1) مقام آخر غير إنشاء حكم تعبّدي ظاهري ، أعني العمل بقول المنذر تعبّدا ، وهو إهداء الناس إلى الحقّ وتبليغ الجاهل إلى ما هو الصواب. وأما وجوب قبول الجاهل من المبلّغ مطلقا أو فيما إذا أفاد العلم ، مقام آخر يرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد. وهذا نظيره في المحاورات كثير ؛ فإنّ المقصود العرفي من الأمر تبليغ الحقّ إلى الجاهل وإرشاده ، والملازمة إلى ما كان في جهل منه ، وعلى ذلك ينزّل جميع ما ورد في حقّ الأنبياء والحجج من الأمر ببيان الحقّ وإظهار الأحكام ؛ فإن المقصود منها ليس إلاّ بلوغ الأحكام إلى الناس وخروجهم عن الجهالة ، لا تأسيس أساس التعبّد والعمل والتقليد.

وممّا يوجب وهن الإطلاق : أنّه لا شكّ في اشتمال التفقّه على معرفة الأصول والفروع ، كما يدلّ عليه استدلال المعصوم بهذه الآية في غير واحد من الروايات (2) على وجوب معرفة الحجّة إذا حدث على إمام العصر حادثة ولا يجوز الحذر عقيب الإنذار في الأصول بدون حصول العلم إجماعا إلاّ من قليل.

ورابعا : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقا ، سواء تحصّل العلم أم لا ، أنّك قد عرفت أنّ الإنذار الواجب إنّما هو الإنذار العلمي بالامور المعلومة

ص: 597


1- كذا ، وعلى كلمة « مورد » حرف « ظ ».
2- مثل ما ورد في الكافي 1 : 378 و 380 ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام ، الحديث 1 - 3.

الواقعيّة ، ضرورة كونه غاية للتفقّه المراد به معرفة حقائق الأحكام. والعلم بها كما ذكرنا ، فغاية ما تدلّ عليه حينئذ هو وجوب الحذر إذا كان المنذر عالما في إنذاره ، فالإنذار الظنّي خارج من تحتها ، والمهمّ إنّما هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية ، فإنّ الفتوى التي تكون عن علم ، غالبا - مع ندرته - من قبيل الضروريّات والإجماعات التي تفيد العلم للمقلّد أيضا ، فلا موضع يكون المفتي فيه عالما بما يفتي ولم يحصل للمقلّد ، ولو فرض إمكان ذلك ، فالقدر الثابت حينئذ جواز التقليد تعبّدا في حصول الفتوى التي تكون عن علم ، فيبقى جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاليا عن الدليل. اللّهم إلاّ أن يدفع ذلك بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من أجاز التقليد في صورة كون المفتي عالما أجازه في صورة الظنّ أيضا.

وخامسا : لو سلّمنا جميع ذلك وقلنا : إنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار مطلقا ، سواء كان الإنذار أي الفتوى علميّا أو ظنّيا ، وسواء أفاد العلم للمنذر أو لا ، أنّ ظاهرها اختصاص الحكم بإنذار الأحياء ؛ لأنّ الحياة لها مدخلية في حقيقة الإنذار والأمر بالتفقّه والإنذار متوجّه إلى الأحياء.

وسادسا : لو أغمضنا عن جميع ذلك ، وسلّمنا دلالة الآية على جواز تقليد الميّت ، أنّ ما تلونا من الإجماعات الشاهد على صدقها التتبّع كما عرفت ، مخصّصة لها.

فقد تلخّص مما ذكرنا : أنّ الآية لا دلالة لها على مشروعيّة أصل التقليد التعبّدي الذي نحن في صدد بيانه ، وعلى فرض دلالتها عليه فهي قاصرة الدلالة على جواز تقليد الأموات ، وعلى فرض تسليم دلالتها على ذلك فهي مخصّصة بما سمعت من الإجماعات.

ص: 598

الآية الثانية : آية الكتمان : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1).

والتقريب فيه نظير ما بيّنا في آية النفر : من أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الإظهار ، وهذا هو التقليد.

ويرد عليها جميع ما أوردنا على آية النفر عدا الأوّلين ؛ فإنّ الآية ساكتة عن وجوب التقليد التعبّدي ، وواردة في مقام بيان الحقّ وحرمة الكتمان ، وأمّا وجوب القبول على السامعين مطلقا حتى في غير صورة حصول العلم لهم فلا دلالة فيها على ذلك.

أو نقول : إنّ ظاهرها اختصاص وجوب القبول بصورة العلم تنزيلا على ما هو الغالب المتعارف في تبليغ الحقّ وإظهار الصواب من أهل العلم والخبرة. ويؤيّده : أنّ مورد الآية كتمان اليهود علامات النبي صلى اللّه عليه وآله بعد ما تبيّن لهم ذلك في الكتاب ، أعني التوراة ، ومن المعلوم أنّ آيات النبوّة يعتبر فيها حصول العلم. ولا يكتفى بالظن فيها. نعم لو وجب الإظهار على الظانّ وجب القبول منه تعبّدا ، وكذا لو وجب الإظهار على العالم الذي لا يفيد قوله العلم ؛ فإنّه أمكن جعل الآية حينئذ دليلا على وجوب القبول تعبّدا ، لكن وجوب القبول المستفاد التزاما من وجوب الإظهار المستفاد من حرمة الكتمان لا إطلاق فيه بحيث يشتمل (2) ما نحن فيه ؛ إذ يكفي في خروج وجوب الإظهار عن وجوب القبول في الجملة ، كما في قبول الروايات مطلقا وقبول الفتاوى من الأحياء.

ص: 599


1- البقرة : 159.
2- كذا ، والمناسب : يشمل.

الثالثة : آية السؤال ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1). والاستدلال بها موقوف على صدق السؤال على مراجعة كتب الأموات ، والقول بدلالتها على وجوب العمل بقول العلماء ابتداء من غير وساطة السؤال ، بناء على كون وجوبه مقدّميا ذريعة إلى العمل بقولهم ؛ لكونه حجّة ، فإنّ الواضح : أنّ حجيّة القول توجب وجوب السؤال ؛ لا أنّ وجوب السؤال يوجب الحجيّة ، فيكون الانتقال من وجوب السؤال إلى حجيّة القول من باب الاستدلال الإنّي.

وأوّل ما يرد على الاستدلال بهذه الآية هو : أنّ ظاهرها بشهادة السياق إرادة علماء اليهود كما عن ابن عباس وقتادة وغيرهما (2) ؛ فإنّ المذكور في سورة النحل ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ... ) (3) ، ومثله في سورة الأنبياء (4) من غير ذكر البينات والزبر.

وإن قطع النظر عن السياق ، فقد ورد في عدّة روايات (5) مشتملة على الصحيح والموثق تفسير « أهل الذكر » بالأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فإرادة وجوب الرجوع في أمر الدين إلى مطلق العلماء خروج عن قول المفسّرين وعن النصوص الواردة في تفسيرها.

ص: 600


1- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.
2- انظر تفسير مجمع البيان 3 : 362 ، ذيل الآية ، و 4 : 40 ذيل الآيتين من النحل والأنبياء.
3- النحل : 43 - 44.
4- الأنبياء : 7.
5- انظر الكافي 1 : 210 ، باب أنّ أهل الذكر ... هم الأئمة عليهم السلام.

ذكره بعض الأصوليّين (1) في مسألتي حجيّة الخبر الواحد وقول المفتي ، إغماضا عن سوق الآية وما ورد فيها.

وثانيا : أنّ الظاهر من الأمر بالسؤال عند عدم العلم إرادة تحصيل العلم لا وجوب السؤال للعمل بما يجيب المسئول تعبّدا ، وهو واضح ، فلا دلالة لها على أصل التقليد التعبّدي فضلا عن تقليد الميت.

وثالثا : أنّ الذكر عبارة عن العلم ، فلا دلالة فيها على وجوب السؤال عن المجتهدين المعتمدين على الظنون إلاّ في الفتاوى التي تكون عن علم ، والمدّعى هو إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنّية خاصّة أو مطلقا ، اللّهم إلاّ أن يدفع بالإجماع كما عرفت في آية النفر.

ورابعا : أنّ المراد ب- « العلماء » الأحياء ، ودعوى صدق « العلماء » على الأموات ممنوعة في الغاية ، إمّا لزوال العلوم والاعتقادات القائمة بالنفس بالموت وإن حصل بعده اعتقادات اخرى حضورية موافقها أو مخالفها ، أو لظهوره في الأحياء لعلّه لأجل ذلك استدلّ بعض الأصوليين (2) بهذه الآية على عدم جواز تقليد الميّت وإن كان ليس في محلّه ، نظرا إلى أنّ ظهور « العلماء » في الأحياء لا يوجب دلالة الآية على المنع من الرجوع إلى الأموات.

والإنصاف أنّ الآية تدلّ على وجوب عمل السائل بالتقليد.

ومن جملة الأدلّة إطلاق السنّة التي وردت في مشروعيته ، وهي طائفتان : طائفة منها ورد (3) في رجوع آحاد الناس إلى الأشخاص المعيّنين. والاخرى قد وردت في حجّية أقوال العلماء والرواة والمحدّثين.

ص: 601


1- انظر الفصول : 276 - 277.
2- استدلّ بها في الفصول : 419.
3- كذا ، والمناسب : وردت.

أمّا الاولى ، فهي أيضا قسمان : قسم دلّ على الرجوع إلى رواياتهم ، بحيث يظهر منه عدم الفرق بين الفتوى والرواية ، مثل ما ورد في حقّ زرارة من الأمر بالرجوع إليه ، كقوله عليه السلام : « إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس » (1) يشير إلى زرارة ، وقوله عليه السلام : « وأمّا ما رواه زرارة عن أبي [ جعفر عليه السلام ] فلا يجوز ردّه » (2) وفي حقّ محمد بن مسلم ، كقوله بعد السؤال عنه عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة : « فما منعك عن الثقفي - يعني محمد بن مسلم - فإنّه قد سمع عن أبي عليه السلام أحاديث وكان عنده وجيها » (3) وفي حقّ أبان كقوله : « ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما روى لك منّي فاروه عنّي » (4) وغير ذلك ممّا ورد في أمثال هؤلاء الأجلاّء في الدين الذين نطقت بعض النصوص في حقّ بعضهم : بأنّه لولاهم لاندرس آثار النبوّة ، مثل قول أبي محمّد في حقّ العميري (5) وابنه اللذين هما من النواب : « إنّهما ثقتان فما (6) أدّيا اليك عني - مخاطبا لأحمد بن إسحاق - فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (7).

ص: 602


1- الوسائل 18 : 104 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19.
2- نفس المصدر ، الحديث 17.
3- نفس المصدر ، الحديث 23.
4- نفس المصدر ، الحديث 30.
5- كذا في النسخ ، وقد أكثر هذا الاستعمال فيما يأتي ، والصحيح هو « العمري » إشارة إلى « عثمان بن سعيد العمري » وابنه « محمد بن عثمان بن سعيد العمري » رحمه اللّه. انظر معجم رجال الحديث 16 : 5. ترجمة محمد بن عثمان بن سعيد.
6- في النسخ : « فيما » وهو سهو.
7- الوسائل 18 : 100 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 4.

وقسم منهما دلّ على جواز الأخذ بفتواهم ، مثل قول الباقر عليه السلام لأبان : « اجلس في المسجد وأفت للناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك » (1). ونحوها ما ورد في النهي عن الإفتاء بغير علم وغير اطّلاع بالناسخ والمنسوخ ضرورة دلالتها على الجواز إذا كان المفتي جامعا لشرائط الفتوى.

وقسم يشتمل (2) الفتوى والرواية مثل قوله عليه السلام لشعيب العقرقوفي بعد السؤال عمّن يرجع إليه : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير (3) ، وقوله لعلي بن المسيب بعد السؤال عمّن يأخذ منه معالم الدين : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (4) ، وقوله عليه السلام لعبد العزيز بن المهدي (5) لمّا قال : ربما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ قال : نعم (6). وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع ، ومنه قول أبي [ محمد ] لعميري (7) وابنه ما سمعت ، وإن كان ظاهره في الرواية دون الفتوى.

وأمّا الطائفة الثانية ، فمنها ما يدلّ على وجوب قبول الحكم عند الترافع مثل قول الصادق عليه السلام - في خبر عمر بن حنظلة المتلقّى بالقبول - : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فارضوا به

ص: 603


1- المستدرك 17 : 315 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 14.
2- كذا ، والمناسب : يشمل.
3- الوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 15.
4- الوسائل 18 : 106 ، الحديث 27.
5- كذا ، والصحيح : « المهتدي ».
6- الوسائل 18 : 107 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 33.
7- كذا ، والصحيح : « للعمري ».

حاكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه بحكم اللّه استخفّ ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه عزّ وجلّ » (1) ، ومثل قوله أيضا في خبر أبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم [ بعضا ] إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم حكما ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » (2).

ووجه الاستدلال بها على التقليد : إمّا لأنّ قبول الحكم يستلزم قبول الفتوى بالإجماع المركّب أو بالأولويّة كما قيل (3) ، فتأمّل.

أو لأنّ الترافع قد يكون من جهة اختلاف المتحاكمين في حكم اللّه ( تعالى ) فيكون قبول الحكم حينئذ متوقّفا على اعتبار فتواه في بيان الحكم الشرعي ؛ إذ لو لا ذلك لما حصل فصل للخصومة وهو واضح.

ومنها : ما يدلّ على جواز الرجوع إليهم من غير تقييد بالرواية أو الفتوى ، فيكون بإطلاقه دليلا على جواز التقليد لأهله كما يكون دليلا على جواز العمل بالرواية لأهله ، مثل قول الحجّة ( عجّل اللّه فرجه ) - في التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب على ما عن كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي - : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (4) حيث إنّ الأمر بالرجوع إلى الرواة لو سلّم ظهوره

ص: 604


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 18 : 40 ، الباب الأول ، الحديث 5.
3- انظر مفاتيح الأصول : 598.
4- كتاب الغيبة : 291 ، الحديث 247 ، وكمال الدين : 484 ، الحديث 4 ، والاحتجاج 2 : 283 ، وعنها في الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.

في العمل بالرواية فمقتضى التعليل : « بأنّهم حجّة على الناس من قبل الإمام » وجوب الأخذ بفتاويهم أيضا ؛ لأنّ المجتهد يجب اتباعه في كلّ ما يخبر به ، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو دليله ، بل يقتضي ذاك التعليل وجوب الرجوع إلى أقوالهم بعد موتهم أيضا ؛ لأنّ موت الحجّة لا يوجب سقوط اعتبار قوله ، ويدل عليه أيضا قوله عليه السلام : « وأنا حجّة اللّه » عقيب التعليل المزبور الدالّ على كون حجّيتهم مثل حجّيته عليه السلام ، فإنّ حياة الحجّة ومماته سيّان في اعتبار قوله.

ومنها : ما نصّ على جواز تقليد الفقيه الجامع لسائر شرائط الفتوى كالعدالة ، مثل ما في محكي الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السلام في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ ... ) (1) الآية الواردة في ذمّ عوام اليهود والنصارى في متابعة علمائهم في إنكار آيات النبوّة وآثارها ، وهو طويل لا بأس بذكره على طوله تيمّنا وتبرّكا بذكره ، وهو : أنّه « قال رجل للصادق عليه السلام : وإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ ما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟

فقال عليه السلام : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة :

أمّا من حيث استووا فإنّ اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم [ بتقليدهم علماءهم ](2) وأمّا من حيث افترقوا فلا.

ص: 605


1- البقرة : 78.
2- لم يرد في المصدر.

قال : بيّن لي يا بن رسول اللّه.

قال عليه السلام : إنّ عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح (1) ، وبأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات [ والعنايات ](2) وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون [ به ](3) أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه [ من ](4) تعصّبوا له من أموال غيرهم [ وظلموهم من أجلهم ](5) وعرفوهم يقارفون المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى ؛ فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في [ حكايته ](6) ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم ، وكذلك عوام امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، [ و ] بالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالى

ص: 606


1- في المصدر : « الصراح ».
2- في الأصل : « والنسيانات ».
3- في الأصل : « اللّه ».
4- في الأصل : « لمن ».
5- في الأصل : « وظلمهم ».
6- من المصدر.

بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ، مخالفا لهواه (1) ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح [ والفواحش ](2) مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل [ عنّا ](3) أهل البيت (4) [ لذلك ](5) ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند أعدائنا (6) ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها فيتقبّله المسلّمون [ المستسلمون ](7) من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا. اولئك (8) أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد [ لعنه اللّه ](9)

ص: 607


1- في الأصل والاحتجاج : « على هواه ».
2- من المصدر.
3- في الأصل : « منّا ».
4- في الأصل زيادة : « صلوات اللّه عليهم أجمعين ».
5- في الأصل : « لتلك ».
6- في المصدر : « نصّابنا ».
7- من المصدر.
8- في المصدر : « وهم ».
9- لم يرد في المصدر.

على الحسين بن علي عليهما السلام (1). انتهى الحديث الشريف ، دلّ بموضعيه على مشروعية التقليد في حقّ العوام.

أحدهما : لمّا أشكل عليه ظاهر الآية الواردة في ذمّ تقليد عوام اليهود لعلمائهم لما وجده من المسلّمات عند الشيعة من تقليد عوامهم لعلمائهم ، أجاب عليه السلام بابداء الفرق بين التقليدين لا بإنكار أصل التقليد الذي كان هو الأولى بالجواب لو كان التقليد أمرا فاسدا من أصله ، وهذا تقرير منه عليه السلام لما اعتقده من مشروعيّة التقليد.

والثاني : قوله عليه السلام : فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ فإنّه صريح في حجّية قول الفقهاء في حقّ العوام وجواز اعتمادهم على أقوالهم ، ومطلق في الدلالة على الحجّية في حال الحياة والممات.

ومثل ما عن المحاسن في محكي البحار قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « فبقول العلماء فاتبعوا » (2) إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبّع ، فإنّ المستظهر من جميع هذه الأخبار هو : أنّ فتوى الفقيه وقوله حكم ثانويّ في حق غيرهم من العوام الغير البالغين حدّ الفقاهة ، فلا يتفاوت حينئذ بين حال الحياة والممات.

وقد يستدلّ على ذلك بدعوى استفادة المناط القطعي من هذه الأخبار ، وبيانه : أنّه قد ثبت من هذه الأدلّة حجّية قول الحي في حق المقلّد ، وهذا

ص: 608


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 299 ، وحكاه عنه الطبرسي في الاحتجاج 2 : 262 ، مع اختلاف أشرنا إلى أهمّ موارده.
2- المحاسن 1 : 419 ، الحديث 961 ، وعنه في البحار 2 : 98 ، الحديث 51 ، وفيه : « فانتفعوا ».

ليس إلاّ لأجل كون قوله خبرا عن الواقع وكاشفا عنه. ولا يخفى أنّ صفة الحكاية غير زائلة عنه بمفارقة الحياة.

والفرق بين هذا وبين الاستدلال الأوّل : أنّ الاستدلال الأوّل مبنيّ على اندراج تقليد الميّت تحت إطلاق الأدلّة ، وهذا مبنيّ على اختصاصها بتقليد الحيّ مع اشتراك تقليد الميّت له في المناط المستظهر من عمومها ، وظاهر الوافية (1) أو صريحها هو الأول والثاني مما ذكره بعض الأصوليين.

وقد يستدل أيضا بما دلّ : على « أنّ حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (2) بعد ملاحظة هذه الأخبار وغيرها ممّا دلّ على أنّ قول الفقيه حكم ثانويّ في حق المقلّد ؛ إذ لا فرق في تأييد الأحكام وعدم تغيّرها بتغيير الأحوال والأزمان بين الحكم الأوّلي والثانوي ، وقد استدلّ أيضا (3) زيادة على الأخبار المزبورة بخصوص ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى ب- « يوم وليلة » بعد موته ، من قول أبي الحسن عليه السلام - بعد أن عرضه أبو جعفر الجعفري عليه ونظر فيه وتصفّحه كلّه - : « هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كلّه » (4) ، وقول أبي جعفر عليه السلام بعد التصفّح من أوله إلى آخره : « رحم اللّه يونس » (5). فإنّ الأوّل نصّ في جواز العمل بكتابه وهو ميّت ، والثاني ظاهر في التقرير على العمل به.

ص: 609


1- انظر الوافية : 305 - 306.
2- يدلّ عليه ما في الوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 47.
3- انظر الوافية : 305.
4- الوسائل 18 : 71 ، الباب 17 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 75.
5- الوسائل 18 : 71 ، الباب 17 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 74.

وهذه الأخبار معظم ما يتمسّك بإطلاقها على جواز تقليد الميّت ، وبقيّة الوجوه لشدّة ضعفها ليس ممّا يصلح لتوهّم الخروج عن أصالة حرمة التقليد بسببها قوة (1) الوجه العقلي الذي ستسمع.

والإنصاف : أنّها غير ناهضة في إثبات المدّعى ؛ إذ قد عرفت في الجواب عن الآيات : أنّ المقصود المتعارف من الأمر بالرجوع إلى الرواة والمحدّثين والعلماء والموثّقين ليس إلاّ بلوغ الحقّ إلى الجاهل وعلمه بما كان في جهل منه ، وأمّا إنشاء حكم ثانويّ تعبديّ ، وهو العمل بقولهم من دون حصول العلم والاعتقاد ، فهو بمراحل عن ذلك ، فلا دلالة لها على شرعيّة أصل التقليد فضلا عن تقليد الميّت ، ولذا قال صاحب المعالم : إنّ المعتمد من أدلّة التقليد إنّما هو الإجماع والضرورة ، وهما قاصران عن الدلالة على جواز تقليد الميّت (2) ، وقد حقّقنا هذا المعنى في مسألة أخبار الآحاد ، ومما يؤكّد ما قلنا : من كون المقصود منها تعليم الجهّال بالأحكام الشرعيّة زيادة على ما هو الغالب المتعارف في أمثال هذه الخطابات اشتمال بعض الروايات الخاصّة ، مثل ما ورد في حقّ يونس (3) وزكريا بن آدم (4) على لفظ « الثقة » و « الأمانة » ؛ فانّ اعتبار وصف الوثاقة والأمانة في المسئول عنه والمأخوذ منه - كما يقتضيه سوق الرواية ولو بملاحظة سؤال عبد العزيز الراوي عن كون يونس ثقة ليؤخذ عنه معالم الدين ، لا عن أصل جواز الأخذ - ممّا يشعر أو يدلّ على أنّ المقصود من

ص: 610


1- في العبارة خلل.
2- معالم الدين : 247 - 248 ، نقلا بالمعنى.
3- مرّ في الصفحة : 603.
4- مرّ في الصفحة : 603.

الرجوع إلى الرواة والموثّقين هو الوصول إلى الواقع ، لا تحصيل موضوع حكم ثانويّ تعبديّ ، أعني : قول المفتي من حيث نفسه وكذا يؤكّد مورد رواية الاحتجاج (1) المصرّحة بجواز تقليد الفقهاء التي هي أوضح الأخبار وأصرحها دلالة بما هو من أصول الدين ، أعني : أمر النبوّة ، مع اتفاق الأصحاب على عدم جواز التقليد فيها.

ومع التنزّل عن جميع ذلك نجيب عن الأخبار الخاصة : بأنّ أمر الإمام عليه السلام بالأخذ من زرارة وأبان وإسحاق ويونس وزكريّا والعميري ونحوهم ممّن أدركوا شرافة حضوره عليه السلام وأخذوا معالم الدين عنه بالسماع والشفاهة لا يدلّ على جواز الأخذ بقول كلّ من يفتى باجتهاده تعبّدا ؛ لأنّهم كانوا وسائط بين الإمام وبين سائر الخلق ، مثل وسائط عصرنا بين المجتهدين والمقلّدين من العدول والموثّقين. والأخذ من الواسطة ليس من التقليد له في شيء. نعم ربما يفتي الواسطة باجتهاده مثل قول الشيخ أبي القاسم بن روح الجليل حين سأله (2) عن كتب الشلمغاني : « أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب ابن (3) فضّال ، حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا » (4). لكن اجتهاد مثل هذه الأشخاص مستند إلى السماع عن الإمام عليه السلام عموما أو خصوصا قطعا ، فالعمل باجتهادهم ورواياتهم في مرتبة واحدة

ص: 611


1- مرّ في الصفحة : 607.
2- كذا ، والمناسب : سئل.
3- كذا ، والصحيح : بني.
4- انظر البحار 2 : 252 ، الحديث 72 ، والوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 13.

يجب على المقلّد والمجتهد على حدّ سواء ، فلا يقاس بهم غيرهم من المفتين الذين يفتون بغير سماع عن المعصوم.

ومن هنا يظهر أنّ ما ورد في حق عمري مثلا : من « أنّ قوله قولي وكتابه كتابي » (1) وأمثال ذلك في حقّ أمثاله لا يفيد حجّية الفتوى من كلّ من يفتي باجتهاده. كما يظهر : أنّ أمر أبان بالإفتاء بين الناس لا يقتضي جواز تقليد غير الوسائط ، ومن هذا الباب ما قيل (2) في حقّ علي بن بابويه : من أنّ الأصحاب كانوا يعملون بفتاويه عند إعواز النصوص.

ومع تسليم جميع ما ذكر منه لا دلالة فيها على جواز تقليد الميّت ابتداء كما لا يخفى.

وأمّا الأخبار العامة ، فيرد على أخبار الحكومة - بعد تسليم دلالتها على حجّية الفتوى - : أنّها بالدلالة على عكس المقصود ، أعني عدم جواز تقليد الميّت أولى ؛ لأنّ الحكومة لمّا كانت من المناصب الزائلة بالموت فتشاركه الفتوى في المنصبية والارتفاع بما يوجب ارتفاعها ، وعلى ما في التوقيع من قوله : « والحوادث الواقعة فارجعوا فيها ... الخ » إنّ الاستدلال به موقوف على كون المراد بالحوادث الواقعة مواضع التقليد من المسائل العمليّة ، وهذا غير معلوم ؛ لأنّ « اللام » في الحوادث « لام » عهد ، إشارة إلى الحوادث التي سأل عن حكمها إسحاق ، وسؤاله ليس بيدنا حتّى ننظر في المراد بها. ومن هنا ينقدح امتناع حمل « اللام » على الاستغراق الموقوف عليه تماميّة الاستدلال ؛ لأنّ عموميّة الجواب وخصوصيّته تابعان لعموم السؤال وخصوصيّته ، فإذا جهلنا عبارة السؤال ولم نعلم

ص: 612


1- كمال الدين وتمام النعمة : 485.
2- قاله الشهيد السعيد في الذكرى 1 : 51.

أنّ المراد به ما ذا من العموم أو الخصوص من بعض الحوادث؟ امتنع حمل الجواب على شيء منهما ، بل قد يتقوّى كون المراد بالحوادث شبه المسائل الاعتقادية من الامور المشكلة ، وذلك لأن إسحاق بن يعقوب يقول : « سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ » وإسحاق من أجلاّء الأصحاب ، وشأنه أجلّ من أن يشكل عليه أمر المسائل العمليّة التي هي موارد التقليد ولا يعرف تكليفه فيها حتى يسأل عن حكمها زمن الغيبة ، ويكون ذلك عنده من المشكلات ، مع أنّ الرجوع إلى العلماء في العمليّات كان ضروريّا لأغلب العوام فضلا عن الخواص ، ومما يؤيّده : أنّ التوقيع الشريف يتضمّن جملة من المسائل العلميّة : منها : قوله عليه السلام : « وأمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه وثبّتك - : من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين اللّه عزّ وجل وبين أحد من قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي ، وسبيله سبيل ابن نوح » (1).

ومنها : قوله عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها السحاب عن الأبصار » (2) إلى غير ذلك مما اشتمل عليه التوقيع وليس من المسائل العملية مثل تكفير من قال : بأن الحسين بن علي عليهما السلام لم يقتل. فإنّ ملاحظة هذه الفقرات وأمثالها مضافا إلى جلالة قدر إسحاق عن أن يجهل التكليف في المسائل العمليّة التي يبتلي بها في كلّ ساعة أو يوم ممّا يفيد الظنّ بأنّ المراد ب- « الحوادث الواقعة » شيء وراء موارد التقليد ، قد خفي علينا باعتبار عدم ظفرنا بأصل السؤال وعبارته.

فإن قلت : سلّمنا بأنّ « الحوادث الواقعة » مجمل لكن عموم التعليل بقوله : « فإنّهم حجّتي عليكم » يدلّ على اعتبار قول الرواة والمحدّثين.

ص: 613


1- كمال الدين وتمام النعمة : 485.
2- كمال الدين وتمام النعمة : 485.

قلنا : لو سلّمنا ذلك ، فمن الواضح اختصاصه بقول الأحياء ؛ لأنّ مرجع الضمير هم الأحياء ، كما لا يخفى. وعلى ما في رواية الاحتجاج من قوله عليه السلام : « فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه (1) ... » : إنّ الاستدلال به موقوف على ثبوت الإطلاق بحسب الأحوال فيه ، بحيث يندرج فيه حالتا الحياة والممات ، وهو ممنوع :

أمّا أولا - فلأنّ كلمة « من » الموصولة ظاهرة في الأحياء ، فلو كان فيه إطلاق فإنّما هو بحسب حالات الأحياء ، فلا يتعدّى منها إلى حالة الموت.

وأمّا ثانيا - فلورود هذا الكلام [ في ](2) مقام بيان مشروعيّة أصل التقليد ردّا لتوهّم الرجل السائل من ظاهر الآية حرمة التقليد رأسا ، فلا إطلاق فيه بحيث يقتضي حجّية فتوى الميّت.

كل ذلك مع الغضّ عمّا في سند أكثر ما في هذه الأخبار من الضعف والإرسال ، خصوصا رواية الاحتجاج التي هي في أعلى مراتب الضعف ، وإلاّ فمن الواضح أنّ الخروج عن تحت الأصل المسلّم بين الكلّ بمثل هذه الضعاف سندا ودلالة مع مخالفة جلّ الأصحاب أو كلّهم ممّا لا يندرج تحت شيء من القواعد.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ بعض هذه الأخبار - وهو الأكثر - لا دلالة له على مشروعيّة أصل التقليد رأسا ، والبعض الآخر على فرض دلالته عليه لا إطلاق فيه يشمل حالتي الحياة والممات ، بل إمّا مختصّ بظاهره بالأحياء ، أو ساكت من حيث الحياة والممات ، فلو تمسّك حينئذ بالاستصحاب ، فقد ظهر جوابه بما لا مزيد عليه.

ص: 614


1- تقدّم في الصفحة : 607.
2- اقتضاها السياق.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ورد في كتاب يونس إذا نظر إليه : « هذا ديني ودين آبائي » فإنّ شيئا منهما لا يدلّ على كون ما في الكتاب حقّا صوابا مطابقا للواقع ، وأين هذا من الدلالة على جواز العمل بكتاب كلّ من أفتى في كتابه حسب الظنون الاجتهادية بامور يحتمل الصواب والخطأ ، وأيضا الظاهر أنّ ذلك الكتاب كان كتاب الرواية دون الفتوى.

وأمّا استدلال بعض (1) بما سمعت من أخبار « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » فهو أضعف من جميع الاستدلالات المزبورة لأنّ الحلال والحرام اسمان للحلال والحرام الواقعيين ، فلا يندرج فيهما التقليد التعبّدي الذي هو حكم ظاهري ، ولو سلّم صدقهما على ذلك فلا ريب أنّ تأبيد الأحكام لا يقتضي بقاءها بعد تغيّر العنوان وتبدّل المتعلّق ، فالوجوب الثابت للعمل بقول الحي لا يدلّ على وجوب العمل بقول الحيّ بحيث يدور مدار قول الحيّ ؛ فإن وجب العمل بقول الميّت أيضا فهو حكم آخر ثابت لموضوع آخر يحتاج إلى دليل آخر. ودعوى تنقيح المناط من هذه الأخبار : بأنّ المستظهر منها حجيّة قول الحيّ من حيث كونه حكاية عن الواقع ، وهذه الحيثية لا تفارق القول المزبور بمفارقته ، ففيه من الضعف الواضح ما ترى ؛ لأنّ مدخليّة الحياة في الحجيّة إمّا مظنون أو محتمل أو لا دافع لهذا الاحتمال لا من عقل ولا من نقل.

هذا تمام الكلام في الأدلّة اللفظية.

وقد استدلّ على الجواز بدليل عقلي وهو : أنّ قول الميّت مفيد للظنّ وكلّ ما يفيد الظنّ فهو حجّة في حقّ المقلّد.

ص: 615


1- مرّ في الصفحة : 609.

أمّا الصغرى فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلدليل الانسداد : من أنّ التكاليف باقية وباب العلم منسدّ في حق المقلّد ، والظنّ الخاصّ مفقود ؛ لأنّ الدليل على جواز الأخذ بقول المجتهد تعبّدا مفقود ؛ إذ الأدلّة اللفظية من الكتاب والسنّة غير واضحة الدلالة ؛ لما فيها من المناقشات إلى ما شاء اللّه كما ظهر جملة منها ، ولو سلّم فلا يحصل منها إلاّ الظنّ المعلوم عدم حجّيته في إثبات الطريق الشرعي ، والأدلّة اللبّية من الإجماع والضرورة والسيرة غير ثابتة ؛ لأنّ السلف المعاصرين للإمام كان باب العلم في حقّهم مفتوحا ، وكانوا يعملون به ، والإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء الحلب (1) والأخباريّين ، فلا مناص للعامي إلاّ الاعتماد على الظنّ كالمجتهد ؛ لأنّ الاقتصار على القدر المعلوم من الضرورة والإجماع من التكاليف يقتضي الخروج عن الدين ؛ لكونه في غاية القلّة. وإلزام الاحتياط يستلزم العسر والحرج.

وهذا الدليل احتجّ به الفاضل القمّي رحمه اللّه (2) على مختاره من جواز تقليد الميّت أو وجوبه إذا كان الظن الحاصل من قوله أقوى.

وفيه :

أولا : أنّه لو تمّ فانّما يقتضي تقليد الميّت إذا كان الظنّ الحاصل من قوله أقوى من قول الحيّ. وأمّا في صورة التساوي فلا إلاّ بضميمة دعوى عدم القول بالفصل ، لأنّ العمل بقول الميّت مع وجود الحي المساوي موقوف على حكم العقل بالتخيير بينهما ، والتخيير العقلي لا يجتمع مع احتمال المرجّح. وما ذكر من الأدلّة لو لم يقتض تعيّن قول الحيّ وترجّحه على قول الميّت ،

ص: 616


1- كذا ، والمناسب : حلب.
2- القوانين 2 : 265 - 270.

فلا أقلّ من قيام الاحتمال ، ومع قيامه لا يحكم العقل بالتخيير جدّا ، بل يأخذ بالقدر المتيقّن.

ودعوى الاجماع المركب أو عدم القول بالفصل إنّما يناسب ممّن يعترف بكون جواز أصل التقليد إجماعيّا ، وإلاّ فاتفاق طائفة من الأصحاب القائلين بجوازه على عدم القول بالفصل مع خلاف من يقدح خلافه في انعقاد الإجماع على أصل التقليد لا حجّية فيه ، مثل عدم حجّية اتّفاقهم على أصل التقليد ، والمفروض أنّ المستدلّ أحد مقدّمات دليله عدم ثبوت الإجماع على جواز التقليد. وحينئذ فلنا قلب الإجماع المركّب ؛ لأنّ الأخذ بقول الحيّ عند التساوي قضيّة الأصل الأوّلي المسلّم بين الكلّ فيتمّ في صورة الاختلاف في مقدار الظنّ بالإجماع المركّب من قول المجمعين على أصل التقليد ؛ لأنّ مخالفة نادر ممّن سبق إلى ذهنه الشبهة لا يقدح في ثبوت الإجماع عندنا معاشر المانعين ، فليتدبّر جيّدا.

وثانيا : أنّ إنكار الظنّ الخاصّ يمنع قيام الدليل على حجيّة قول المفتي في حق المقلّد تعبّدا مكابرة واضحة ؛ لأنّ جواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة من المذهب بل من الدين ، كسائر الأحكام الضروريّة ، مثل وجوب الصلاة والصوم يتحقّق موجبها من مسيس الحاجة وتوفّر الدواعي واستقرار طريقة السلف المعاصرين للإمام عليه السلام ، والخلف : من العالم والجاهل والشريف والوضيع إلى يومنا هذا عليه ، فإنكار نادر ممّن اختلّ طريقته كالأخباريين ليس إلاّ كإنكار من منع عن ثبوت التكاليف الشرعيّة في حقّ الواصلين إلى درجة اليقين من حيث عدم القدح في انعقاد الإجماع ، وأمّا إنكار بعض فقهاء حلب ، فمع عدم منافاته لانعقاد الإجماع في هذا اليوم على طريقة المتأخّرين من دورانه مدار الكشف ، فلعلّه لأجل بعض الشبهات السابق إلى أذهانهم.

ص: 617

ثمّ اعلم ، أنّه إذا فرغنا من وجوب التقليد على العامي واختلفنا في وجوب تقليد الحي وعدمه ، فوظيفة العامي أوّلا الرجوع إلى الحيّ حتّى على القول بجواز تقليد الميّت ، فلا يجوز له الرجوع إلى الميّت ابتداء ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المعالم (1). والسرّ في ذلك هو : أنّ العامي إذا علم أنّ تكليفه هو التقليد ، ولم يعلم أنّه مكلّف بتقليد الحي ، أو يجوز له تقليد الميّت وجب عليه بحكم العقل الأخذ بالقدر المتيقّن المعلوم ؛ لأنّ العمل بالمشكوك فيه لا بدّ له من دليل ، ولا دليل للعامي عليه من إجماع أو ضرورة أو نحو ذلك من القطعيّات ، وهذا واضح.

وثمرة البحث في جواز تقليد الميّت إنّما هي للمجتهد إذا سأله العامي عن حكم تقليد الميّت. وهذا الكلام في جميع الشروط الخلافية في المفتي.

ولو اختلفا في وجوب أصل التقليد ودار تكليف العامي بينه وبين العمل بالظنّ ، وجب عليه أوّلا : النظر في أدلّة التقليد ؛ لأنّ ذلك الدليل العقلي يتوقّف على فقد طريق شرعيّ له إلى الأحكام ، فلا يجوز له العمل بذلك الدليل إلاّ بعد الفحص واليأس عن قيام الدليل القطعي على حجيّة بعض الطرق ، كما لا يجوز العمل بأصل البراءة قبل الفحص عن المعارض ، ومن الواضح أنّ المقلّد ليس من أهل النظر في الأدلّة ، فينحصر تكليفه في الاحتياط أو الرجوع إلى الأحياء في أخذ مدارك التقليد ، ثمّ النظر فيها ، فإن بقي له بعد ذلك شكّ أخذ بالظنّ في هذه المسألة الأصوليّة.

فهذا الدليل على فرض تماميّته إنّما يجدي للمجتهد في الفتوى بتقليد الموتى مع حصول الظنّ ، دون العامي القاصر.

ص: 618


1- معالم الدين : 247 - 248.

وثالثا : أنّ غاية ما يلزم من تماميّة هذا الدليل : أنّ تكليف العامي هو العمل بالظنّ ، ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت ، ومن الإجماعات والشهرة والأخبار والآيات مانع بالنسبة إلى الظنّ الشخصي الحاصل له في خصوص المسألة الفرعيّة من قول الميّت ، وقد اشتهر بين الاصوليين : أنّه إذا تعارض الظنّ المانع والممنوع وجب الأخذ بظنّه المانع مطلقا ، سواء كان أضعف من الظنّ الممنوع أم أقوى ، وعلى القول بوجوب الأخذ بأقوى الظنّين منهما نقول : إنّ الظنّ المانع هنا أعني الظنّ الحاصل من الإجماعات ومصير الجلّ أو الكلّ المتعلّق بحرمة تقليد الموتى أبدا أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الحيّ فضلا عن الميّت.

وبالجملة : هذا الدليل على فرض تماميّته يقتضي وجوب الأخذ بفتوى الحيّ لأنّ الظنّ الحاصل من قول الميّت مظنون عدم اعتباره بملاحظة الإجماعات بالظنّ الأقوى.

ورابعا : أنّ مفاد هذا الدليل ، أعني : وجوب العمل بالظنّ على العامي ، سواء كان حاصلا من قول الحيّ أو الميّت ، مما لم أجد قائلا بها (1) سوى الفاضل القمّي رحمه اللّه ولذا ادعى غير واحد (2) من المطّلعين على قوله الإجماع المحقّق على خلافه ، ولعلّ سرّه : أنّ هذا القول منع لأصل التقليد رأسا مثل قول الأخباريين. فإنّ العمل بقول الميّت لأجل الظنّ الحاصل منه ليس تقليدا للميّت تعبّدا كما لا يخفى ، فهذا القول يمكن إبطاله باتّفاق كلّ من أجاز التقليد من حيث كونه تقليدا.

ص: 619


1- كذا ، والمناسب : به.
2- انظر الفصول : 415 ، ومناهج الأحكام والأصول : 301.

ثمّ من أعجب العجائب أنّ صاحب الوافية (1) استدلّ على جواز تقليد الميّت : بالعسر والحرج المنفيّين ، فهما يندفعان به ، قائلا : بأنّ العسر كما يندفع بتقليد الحيّ كذلك يندفع بتقليد الميّت.

وجوابه من الواضحات يعرفه القروي والبدوي.

هذا فراغ كلامنا عن وجوب تقليد الحي ، ومن شاء فليتخذ مع الحق سبيلا.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّه لا فرق عندنا وعند المشهور في اشتراط حياة المجتهد بين التقليد الابتدائي والاستمراري ، ولكن حدث لبعض مشايخنا في الأصول - كصاحب الفصول (2) وبعض من يقاربه في الزمان (3) - قول بالفصل بينهما ، فذهبوا إلى عدم الاشتراط في الثاني زاعمين أنّه غير مندرج تحت إطلاق كلمات المانعين ، ولم نجد لهذا التفصيل مصرّحا من الأوائل والأواسط ، غير أنّ شارح الوافية (4) نسبه إلى ميل بعض المتأخرين ثمّ استقربه ، بل الظاهر من كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات عدم الفرق بينهما كما ستعرف ، حتّى أنّ سوق كلام صاحب الوافية مما يشعر بحداثة ذلك التفصيل الذي مال إليه بعض المتأخّرين

ص: 620


1- الوافية : 305 - 306.
2- الفصول : 422.
3- مفاتيح الاصول : 624.
4- شرح الوافية : 471.

حيث لم ينسبه إلى أحد من المتقدّمين ، مع أنّ بناءه كان على استيفاء الأقوال ، كما يرشد إليه نقل قول الشيخ سليمان والعلاّمة الجرجاني والشيخ علي بن هلال (1) بجواز الأخذ من كتب المجتهدين بعد الأخذ بقول الحيّ أو قول من يحكي عنه ، وإن أردت أن تطمئن نفسك بصدق كلامنا هذا ، فعليك بالمراجعة إلى أدلّة المثبتين والمانعين تجد بعضها مطلقا بالنسبة إلى الابتداء والاستدامة وبعضها مصرّحا بعدم الفرق بينهما.

قال السيّد الجزائري - فيما حكي عن بعض رسائله في مقام الاستدلال على الجواز مطلقا - : الخامس - يعني من أدلة الجواز - : إذا أخذ المقلّد مسألة من الفقيه الحيّ ، وكان مصاحبا لذلك الفقيه مطّلعا على أحواله وتبدّل آرائه فأفتاه بحكم مستنده النصّ والإجماع ، فعمل به واستمرّ عليه إلى بعد صلاة المغرب ، فمات ذلك الفقيه بين الصلاتين فعمل بتلك الفتوى في صلاة العشاء ، فتكون بناء على ما قلتم صحيحة وصلاة العشاء باطلة ، فنحن نسأل من بطلان هذه الصلاة الموافق حكمها للنصّ والإجماع؟ ولا يستندون في إبطالها إلى شيء سوى موت ذلك الفقيه ، فحينئذ فاللازم كونه شريكا في الأحكام الشرعيّة ، وهذا لا ينطبق على أصولنا. نعم ، يوافق ما ذهب إليه الكرخي ، حيث يقول في مسجد الكوفة : قال علي وأنا أقول ، يعني خلافا لقوله. وأمّا علماؤنا ( رضوان اللّه عليهم ) فإنّهم يحكون كلامه ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم (2). انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

ص: 621


1- نقله السيّد الصدر في شرح الوافية : 470 - 471.
2- حكاه السيّد الصدر في شرح الوافية : 472.

وفيه من الصراحة في دخول البقاء على تقليد الحيّ بعد موته تحت النزاع ما ترى ، إذ لو لا ذلك لكان الاستدلال أجنبيّا حيث لا يلزم ذلك إلاّ جواز تقليد الميّت استدامة ، ومع خروجه عن تحت كلام المانعين كان التقريب ممتنعا.

وأصرح منه كلام السيّد المحقّق الكاظميني في شرحه على الوافية ، حيث تصدّى لجواب هذا الدليل بالنقض بما إذا تغيّر رأي المجتهد بين الصلاتين ، فلو كان البقاء على التقليد خارجا عن محلّ النزاع غير مشمول لإطلاق كلام المانعين ، كان الأولى (1) تسليم البقاء على التقليد ومنع استلزامه ثبوت المدّعى ، أعني التقليد الابتدائي.

ومثلهما في الصراحة ، بل وأصرح ما ذكره السيّد أيضا في الشرح المزبور في جواب استدلال المجوّزين من العامة : « بأنّ موت الشاهد لا يبطل شهادته ، وكذا فتواه » حيث قال :

أولا : أنّ الشاهد إذا شهد عند القاضي ثم مات قبل الحكم فحكم بعد ذلك بمقتضى تلك الشهادة فليس ذلك من القاضي اعتدادا بقول الميّت وشهادته ، بل بما أصاب من العلم المحرز عنده.

ثمّ لمّا رأى عدم نهوض هذا الجواب في الفرق بين قبول الشهادة والتقليد الاستمراري ، عدل عنه فقال : وأقرب من ذلك وأسلم منه هو : أنّ الكلام في تقليد الميّت واقتفاء أثره واتباعه فيما ظنّ واستنبطه لا في اعتبار خبره وذلك أنّ الأوّل قد يعارض بتقليد الميّت فيما تناوله حيّا (2) انتهى.

ص: 622


1- في الأصل : « أولى ».
2- لا يوجد لدينا.

فانّ هذا الكلام في غاية الصراحة في دخول الاستمراري تحت النزاع كالابتدائي.

وكيف كان ، فالحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو القول المشهور من عدم الجواز مطلقا.

لنا على ذلك أمران :

الأصل المقرّر فيما تقدّم بوجوه ثلاثة.

وإطلاق الإجماعات المزبورة الشاهد على صدقها التتبع في كتب السلف والخلف على ما سنبيّن من فساد توهّم عدم تناولها للاستمراري ، مضافا إلى بعض الوجوه المتقدمة : مثل انعقاد الإجماع على خلاف الميّت دون الحي ، ومثل دوران حجيّة قول المفتي مدار ظنّه الزائل بالموت على ما اتّضح هناك وغيرهما ، كما يظهر بالتأمّل ؛ فإنّ هذه الوجوه على فرض تماميّتها شاملة لمحلّ البحث بل لو سلّم عدم تماميّتها في نفسها فهي ما تشهد باندراج محلّ البحث تحت قول المانعين ؛ لأنّ عموم الحجيّة وإطلاقها دليل على عموم المحجوج له.

وللقول بالجواز أيضا وجوه :

منها : الاستصحاب ، وقد يقرّر تارة بالنسبة إلى نفس المسألة التي نحن فيها ، ويقال : إنّ المقلّد كان له تقليد مجتهده حال حياته ، وارتفاع هذا الحكم بموته غير معلوم ، والأصل يقتضي البقاء.

أو يقال : إنّ المجتهد كان ممّن يجوز الاعتماد على قوله ، والأصل البقاء إلى القطع بطروّ المزيل.

وهذان الاستصحابان قد ظهر جوابهما فيما تقدّم (1) بما لا مزيد عليه : من أنّ

ص: 623


1- راجع الصفحة : 587.

الجائز في حقّ المقلّد إنّما كان الأخذ بظنّ المجتهد الحي ، وإذا مات تغيّر الموضوع ، إمّا لزوال الظنّ ، كما حقّقنا وبرهنّا عليه ، أو لزوال الحياة. وتفصيل ذلك مطلوب من هنالك (1).

واخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعيّ الثابت في حقّه للواقعة المعيّنة الفرعيّة ، مثل حرمة العصير ونجاسة الغسالة وأمثالهما. ويقال : إنّ العصير قد كان محرّما عليه قبل موت مجتهده. والأصل بقاء الحرمة ؛ لعدم العلم بالمزيل. وهكذا الكلام في نجاسة الغسالة وسائر ما قلّده فيه من المسائل الفرعيّة ، مثل وجوب السورة ونحوها.

وجوابه أيضا يظهر من التأمّل في جواب الأوّل ؛ لأنّ حرمة العصير في حال حياة المفتي لمّا كانت مستندة إلى ظنّه فلا جرم من زوال موضوعها بالموت.

وبيان هذا الإجمال زيادة على ما سبقت إليه الإشارة الإجماليّة في التقليد الابتدائي : أنّ الحكم الثابت للموضوع كالعصير ، تارة يكون من جهة كونه عصيرا واخرى من حيث كونه ممّا تعلّق بحرمة ظنّ المجتهد الحي.

فإن كان الأوّل ، فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه عند الشك في طروّ ما يزيله ، ولكنّه منحصر في القطعيّات التي نعلم بالحكم الشرعي فيها من ضرورة أو إجماع ، إذ لا ملازمة بين الظنّ بالحكم وبين ثبوته في الواقع حتّى في نظر الظانّ إلاّ بعد قيام دليل قطعيّ يفيد الملازمة التي مرجعها إلى وجوب العمل بالظنّ تعبّدا. وحينئذ فالحكم يدور مدار ذلك الظنّ الذي دلّ ذلك الدليل القطعي على اعتباره.

ص: 624


1- كذا ، والأنسب : هناك.

وإن كان الثاني ، فإجراء الاستصحاب فيه ممتنع عند تغيّر الحيثيّة التي كان الحكم ثابتا للعصير من جهتها ؛ لأنّ المتيقّن في الزمان الأوّل - يعني قبل ممات المجتهد - إن كان حرمة العصير من حيث كونه متعلّق ظنّ الحيّ لا من حيث كونه عصيرا ، فإن أردت بقولك : « إنّ العصير قد كان حراما » : أنّه كان حراما من حيث ذاته ، فقد كذبت ؛ لأنّ حكم ذات العصير من حيث كونه عصيرا غير معلوم ، وإنّما ظنّ به المقلّد من قول المجتهد. وإن أردت به أنّه كان حراما من حيث تعلّق ظنّ المجتهد الحيّ به ومن جهة كون الاجتناب عنه من جزئيّات اتّباع ظنّ المجتهد الحيّ ، فمسلّم معلوم متيقّن في الزمان السابق ، لكن الموت يوجب تبدّل موضوع هذا الحكم الظاهر إمّا بزوال أصل الظنّ ، كما هو الحقّ ، أو بزوال الحياة إلى موضوع آخر ، ومن الواضح أنّ حكم شيء من الموضوعات لا ينسحب بسبب الاستصحاب إلى موضوع آخر ، وبعبارة اخرى : إن أردت استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين به في الزمن السابق ، وأن : أردت استصحاب الحكم الظاهري الذي موضوعه ظنّ الحيّ ، إمّا بدعوى كونه قول المفتي ، يعني إخباره عن الواقع كالرواية التي هي موضوع لوجوب عمل المجتهد بها ، أو بدعوى كونه مظنون المجتهد في أحد الأزمنة ، أو كونه ظنّ المجتهد سواء كان حيّا أو ميّتا مع دعوى بقاء الظنّ بعد الموت ، فمع قيام أدلّة واضحة على بطلان كلّ من هذه الاحتمالات - كما ظهر طائفة منها من تضاعيف الكلمات الماضية - نقول مماشاة : إنّ هذه الدعاوي ليست ممّا قام على شيء منها دليل واضح ، بل مقتضى أدلّة التقليد كون الموضوع ما قلنا : من ظنّ الحيّ ولو من جهة التمسّك بالأصل الذي قد عرفت عدم قيام دليل وارد عليه ، فغاية ما في الباب صيرورة حكم السابق مشكوكا ، وقد قرّرنا واخترنا في محلّه عدم حجّية الاستصحاب عند الشك في الموضوع.

ص: 625

ومنها : ظواهر الآيات والأخبار الدالّة على جواز التقليد ؛ فإنّ المستفاد منها ثبوت الحكم المقلّد فيه في زمن المقلّد ؛ إذ لم يشترط في وجوب الحذر الإنذار ، والمدلول عليه بآية النفر بقاء المنذر. ولم يقيّد إطلاق الأمر بالتعويل على أقوال العلماء بصورة بقائهم.

وفيه :

أوّلا : منع دلالتها على أصل التقليد ، وسند المنع بالنسبة إلى كلّ واحد منها قد مرّ سابقا (1).

وثانيا : منع إطلاقها بالنسبة إلى صورة البقاء وعدمه ، لأنّ ما عدا آية النفر لا يدلّ على وجوب [ قبول ](2) قول العالم إلاّ من باب الاستلزام العرفي ، من حيث إنّ الأمر بالسؤال والرجوع إلى العالم لو لم يقصد منه القبول بعد السؤال لكان لغوا. وهذا الاستلزام أمر معنويّ لا إطلاق فيه بالنسبة إلى شيء من الأحوال فضلا عن حالتي الحياة والموت.

وأمّا آية النفر فغاية ما يفيده ذيلها من قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وجوب القبول من المنذرين الأحياء ، فإمّا يدلّ على اشتراط وجوب الحذر ببقاء المنذرين كما نقول ؛ نظرا إلى تقدير الحذر مقدار الإنذار القائم بنفس الأحياء ، فهو المدّعى أو لا يدلّ على شيء من الاشتراط وعدمه ، بل على ثبوت الحكم في حال حياتهم في الجملة ، فإن كان الأوّل ، كانت الآية دليلا على اشتراط الحياة. وإن كان الثاني ، فلا بدّ في إثبات الحكم عند تغيّر هذه الحالة من التمسّك بالاستصحاب الذي قد عرفت جوابه ؛ لأنّ احتمال مدخليّة بعض الأحوال

ص: 626


1- راجع الصفحة : 593 - 615.
2- الزيادة اقتضاها السياق.

في الموضوع ما لم يدفع بالدليل يكفي في عدم جريانه عند تغيّر تلك الحالة.

والحاصل : أنّ الآية إنّما تدلّ على اشتراط الحياة أو ساكتة عنه ، وعلى التقديرين يسقط الاستدلال بالإطلاق.

وثالثا : أنّها على فرض دلالتها على جواز البقاء مخصّصة بما سمعت : من إطلاق معاقد الإجماعات التي هي على فرض حجّيتها يحتجّ بإطلاقاتها مثل إطلاق الرواية ؛ لأنّ البقاء على تقليد الحيّ بعد موته عمل بقول الميّت واستناد إليه ، كما هو ظاهر ، فيندرج تحت ما انعقد على بطلان العمل بقوله من الإجماعات الصريحة أو المستفادة من نفي الخلاف المستظهر بالتتبع ، مثل ما سمعت عن المسالك والمعالم وابن [ أبي ] الجمهور الأحسائي وغيرها ، ومنع كون البقاء على التقليد بعد الموت عملا بقوله مكابرة واضحة ، فإنّ العمل بقول الغير في العبادات عبارة عن تطبيقها على ما يقتضيه قوله من الكيفية فالانطباقات العارضة لأشخاص الأعمال المختلفة بتشخّصاتها يصدق على كلّ واحد منها : أنّه عمل بقول الغير ، كما يصدق العمل على كلّ واحد من معروضات تلك الانطباقات.

ومن هنا يظهر الكلام في الأخذ الذي اشتمل عليه بعض العبائر ، النافي للخلاف في عدم جوازه من الميّت ، كعبارة الألفيّة (1) المتقدّم إليها الإشارة ، لأنّ الأخذ والعمل والاعتماد والاستناد ونحوها من الأفعال القابلة للاستمرار ، مثل العقود والجلوس ابتداؤها واستمرارها سيّان في الاندراج تحت أساميها ؛ إذ ليست هي من الامور الآتية التي انحصر مصاديقها فيما يوجد منها في الآن الأوّل ، ألا ترى أنّه لو نهى عن الجلوس في دار الميّت وجب عليه الخروج

ص: 627


1- الألفية والنفليّة : 39.

عنها إذا كان قد جلس فيها حال حياة صاحبها ، وإلى هذا ينظر حكم الفقهاء بالضمان لو انقلبت يد الأمانة إلى العدوان.

ومما ذكرنا ظهر أيضا فساد ما في الفصول (1) : من منع صدق عنوان التقليد على البقاء بدعوى انصرافه إلى الابتدائي أو دعوى كونه حقيقة فيه ، فإنّ دعوى الانصراف لا مستند لها من غلبة ونحوها ، ودعوى التجوّز في الاستمراري يدفعها : أنّ التقليد إمّا عبارة عن نفس العمل أو الأخذ للعمل ، وقد عرفت : استمرار الأخذ أخذ ، واستمرار العمل عمل ، مضافا إلى قلّة جدوى هذه الدعوى بعد ندرة ما اشتمل على لفظ « التقليد » من العبارات الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كما قدّمنا ذكر طائفة منها في صدر المسألة ، فإنّها بين ما يدلّ على بطلان العمل وما يدلّ على عدم جواز الاستناد ، وما يدلّ على عدم جواز الأخذ.

نعم في محكي الرسالة المنسوبة إلى الشهيد الثاني : أنّه لا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ، فإنّهم ذكروا في كتبهم الأصولية والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا : من أنّه لا يجوز النقل عن الميّت ، وأنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أجد فيها (2).

ولم أجد غيره ما (3) اشتمل على لفظ « التقليد » غير ما سمعت من القاساني (4) : من نقل الإجماع عن ظاهر الاصوليين على عدم جواز تقليد الميّت.

ص: 628


1- الفصول : 422.
2- رسائل الشهيد الثاني 1 : 44.
3- كذا ، والمناسب : ممّا.
4- مفاتيح الشرائع 2 : 52.

فإن قلت : سلّمنا أنّ البقاء على التقليد تقليد ، وأنّ استمرار الأخذ أخذ ، لكن ندّعي أنّ القول ليس قول الميّت ، بل الحيّ ، فإنّ صدور القول عنه لمّا كان في حال الحياة فلا جرم من كونه منتسبا إلى الحيّ ؛ إذ الميّت ليس بقائل بصدور شيء عنه.

قلنا : فلا معنى حينئذ لقولهم : لا يجوز العمل بقول الميّت حتى في الابتداء ؛ لأنّ القول ينحصر على هذا التقدير في قول الحي. وأيضا ، لا وجه حينئذ لمنع شمول أدلّة التقليد لتقليد الميّت ابتداء ؛ فإنّ الأخذ بقول الميّت حقيقة أخذ بقول الحي مع أنّ المفصّلين معترفون بعدم الشمول.

والحاصل : هذا كلّه في دلالة الإجماعات وأمّا اعتبارها وحجّيتها في المقام ، فقد ظهر ما يدلّ عليه بما لا مزيد عليه : من أنّ هذه الإجماعات الشاهد على صدقها التتبع واعتراف أمثال الشهيد : بأنّه لا قائل من أصحابنا السابقين بجواز تقليد الميّت ، يوجب الكشف القطعي إمّا بدليل دلّ على دعوى واحد من المعتبرين الإجماع في المسألة ، فكيف عن هذه الإجماعات المستفيضة.

ومنها : السيرة فإنّ جريان عادة السلف والخلف على بقاء تقليد المجتهدين بعد موتهم أمر معلوم لا ينبغي أن ينكر وإلاّ لوصل إلينا العدول لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين ، ولم يعهد إلى الآن من أهالي أعصار الأئمة العدول إلى تقليد الحي بعد موت المجتهد.

وفيه من المنع ما ترى ، لأنّ الناس في زمن الأئمة كانوا بين أصناف ثلاثة :

فمنهم من كان يأخذ معالم دينه من الإمام بلا واسطة.

ومنهم من كان يأخذ بروايات الموثّقين من أصحابهم وبفتاويهم التي هي بمنزلة الرواية ويجتهد فيها.

ومنهم من كان يأخذ منهم الفتوى ويعمل بها تعبّدا.

ص: 629

ونحن ندّعي أنّ أغلب الناس - لو لم يكن كلّهم - كانوا بين القسمين الأوّلين ، وإن كان الثاني منهما أغلب ؛ لسهولة الاجتهاد في ذلك الزمان ، وإمكان تحصيل العلم أو الظنّ المعتمد ، وأيّ دليل دلّ على أنّ الفرقة الثالثة قد استمرّوا على تقليد مجتهديهم بعد موتهم وعلمه الامام ولم يردعهم؟

مضافا إلى أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربما يفارق تقليد عوامنا لعلمائنا من حيث إنّ ذلك التقليد كان أخذا من الواسطة ، فلا يقاس به الأخذ ممّن يفتي بظنونه الاجتهادية من دون الاستناد إلى السماع عن الإمام ؛ لأنّ الأخذ ممّن سمع عن الإمام عليه السلام أو ممّن سمع عن المجتهد من عدول زماننا ليس من التقليد له في شيء ، كما أوضحناه فيما تقدّم.

ومنها : لزوم العسر والحرج الشديدين لو الزم على (1) المقلّد بالعدول ، فإنّ تعلّم المسائل أمر صعب وموت المجتهد أمر ذائع ، فلو وجب العدول عن التقليد بموت المجتهد لزم العسر الواضح والحرج البيّن المنفيّان في الشريعة.

وجوابه : المنع ؛ لأنّ وجوب الرجوع مخصوص بموارد الخلاف ، وهي ليست بمثابة توجب العسر والحرج.

وأمّا الاطّلاع على الخلاف والوفاق فربما يمكن تحصيله في يوم أو يومين بمطالعة الرسالة أو السؤال ونحوهما وأيّ فرق بينه وبين من أراد التقليد في ابتداء بلوغه ، مع أنّ ابتداء التقليد فيه من الصعوبة ما ليست في العدول ، فلو كان في العدول حرج مسقط للتكليف لكان في ابتداء التقليد أشدّ وأولى. نعم لو ألزمنا عليه نقض الآثار السابقة الواقعة على حسب فتوى الأوّل التي تخالفها فتوى الثاني ، وتجديد الأعمال قضاء أو إعادة كما هو الحقّ عندنا - على ما سبق بيانه في

ص: 630


1- كذا ، والظاهر زيادة « على ».

مسألة الإجزاء - فإن اقتضى العدول العسر والحرج سقط التكليف به بالنسبة إلى خصوص نقض الآثار ، وأمّا البقاء على التقليد في تلك المسألة في مستقبل الزمان فلا ، لأنّ العسر الثابت في نقض الآثار لا يقتضي سقوط التكليف بالعدول بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة ، ومن هنا يظهر : أنّ الاستدلال بلزوم العسر والحرج بناء على وجوب نقض الآثار على تقدير العدول على جواز البقاء على التقليد ليس في محلّه.

وأمّا ما يقال : من أنّ عسر العدول ليس لما فيه نفسه بل في تكراره مقدار تكرار موت المجتهد لإمكان موت المجتهد الثاني الذي اختاره في التقليد أيضا ، ثمّ الثالث ، ثمّ الرّابع إلى ما شاء اللّه ، وأنّه الفارق بينه وبين الشروع في التقليد ابتداء ، ففيه :

أوّلا : أنّ العدول لكونه أمرا هيّنا يمكن الالتزام به في كلّ سنة مرّة أو مرّتين من غير أن يكون فيه حرج ، فكيف عن الالتزام به في تمام العمر كذلك.

وثانيا : أنّ العسر حينئذ يدور مدار شيء لا يعلمه إلاّ اللّه ، أعني موت المجتهد ، فليس للمقلّد ترك العدول الذي فيه مقتضى الوجوب ، لاحتمال أدائه إلى الحرج بسبب احتمال موت مجتهده الثاني والثالث.

ثمّ اعلم أنّ القائلين بالبقاء اختلفوا في وجوبه وجوازه ، وأكثرهم على الأوّل ، والتحقيق - على تقدير عدم وجوب العدول - : هو الثاني ، لأنّ عدم جواز العدول عن تقليد مجتهد إلى آخر لا دليل عليه معتدّا به سوى الإجماع وقاعدة الاحتياط التي مرجعها إلى الأخذ بالمتيقّن فيما خرج عن تحت أصالة حرمة التقليد ، وشيء منها لا يجيء في المقام ، أمّا الإجماع فظاهر ؛ لأنّ الإجماع - قد عرفت - على وجوب العدول هنا ، وأمّا الاحتياط - فلدوران

ص: 631

الأمر بين المحذورين - وجوب البقاء ، ووجوب العدول. ولو تمسّك باستصحاب الوجوب حينئذ ففيه ما عرفت في نظائره غير مرّة.

واستدلّ صاحب المفاتيح (1) على الجواز بالاستصحاب ، ثمّ أورد على نفسه : بأنّ هذا الجواز كان في ضمن الوجوب ، فإذا ارتفع الفصل ارتفع الجنس. ثمّ أجاب عنه : بأنّ الجواز حكم وضعيّ عبارة عن صحّة التقليد ، بمعنى كونه مجزيا عن اشتغال الذمّة. والوجوب حكم تكليفيّ ، ولا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر.

ثمّ أورد عليه أيضا : بأنّ الحكم الوضعي هنا إنّما استفيد من الحكم التكليفي ، فلا يتفاوتان.

ثمّ أجاب عنه :

أوّلا : بالمنع ، قائلا : بأنّ مجرّد الشك يكفينا في التمسّك بالاستصحاب.

وثانيا : بأنّ التبعيّة إنّما هي في ابتداء التقليد ، ونمنعه في التقليد الاستمراري.

وأنت إذا تأمّلت في أطراف هذا الكلام تجدها مواضع للنظر.

الثاني : الظاهر أنّ سائر شروط الإفتاء من الإيمان ، والإسلام ، والعدالة ، والعقل ، والعلم مثل الحياة في كونها شرطا في الابتداء والاستدامة ، وبه نصّ المحقّق الثاني في محكي حاشية الشرائع ، قال : ومتى عرض للفقيه العدل فسق - العياذ باللّه - أو جنون أو طعن في السن كثيرا بحيث اختل فهمه امتنع تقليده ؛ لوجود المانع. ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ؛ لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ ، وقد خرج

ص: 632


1- مفاتيح الأصول : 624.

عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان (1) ، انتهى.

واستظهر صاحب الفصول (2) جواز التقليد بقاء في الجنون الإطباقي ومطلقا في الأدواري ، واستشكل في صورة اختلال الفهم وهو بعيد عن الصواب ؛ لأنّ قضيّة الأصل عند الشك في الطريقية والحجّية هو الاشتراط ، ولا معارض لهذا الأصل ممّا يدلّ على عدم اشتراطها في البقاء سوى ما قد تخيّل : من عدم صدق التقليد على الاستدامة ، وعدم كون القول قول غير مجتهد أو قول مجنون ، وكلاهما قد ظهر جوابهما في البقاء على تقليد الميّت ؛ ولأنّ ظاهر الشرطيّة عند إطلاقها يقتضي ذلك ؛ إذ ليس في كلام الأصحاب المشترطين لهذه الامور في المفتي ما يظهر منه اختصاص الاشتراط بابتداء التقليد ، ولأنّ إطلاق ما دلّ على اعتبار بعض هذه الشروط - كالعدالة - من الأخبار نحو قوله عليه السلام في رواية الاحتجاج : « وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه ... الخ » يتناول الحالتين.

كما يتناولهما الرضوي الدالّ على اشتراط الإيمان : « لا تأخذوا معالم دينكم من غير شيعتنا ؛ فانّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه ورسوله ، وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه وبدّلوه ... » (3) وإن كان دعوى ظهوره في اشتراطه زمن الفتوى ممكنة.

ومثله الدالّة على اشتراطه مطلقا ، باستثناء دعوى الظهور المزبور ، ما عن كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد اللّه الكوفي - خادم الشيخ أبي

ص: 633


1- حاشية الشرائع ( مخطوط ) الورقة 99 ، وحكاه عنه في مفاتيح الأصول : 625.
2- الفصول : 423.
3- رجال الكشي 1 : 7 ، الحديث 4 ، والوسائل 18 : 109 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42 ، والحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام.

القاسم بن روح الذي هو من (1) أحد النوّاب - حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده ، فقال الشيخ : أقول فيها ما قاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال حيث قالوا : ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال : « خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (2) فإنّ النهي عن الأخذ بآراء الشلمغاني مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي والاستمراري يدلّ بعمومه على اعتبار الإسلام مطلقا.

وهذه الرواية ليس في سندها على ما اعترف به شيخنا - دام حراسته - من يتأمّل فيه سوى عبد اللّه الكوفي الذي يكفي في مدحه كونه خادم الشيخ أبي القاسم ، فيكون حسنا مع اعتضادها بإطلاق كلام الأصحاب.

وأمّا المناقشة في دلالتها : بأنّ المراد : ب- « ما رأوا » اعتقادهم الفاسد الذي أوجب خروجهم عن الحقّ بناء على كون كلمة « ما » مصدرية لا موصولة ، فلا تدلّ على حرمة الأخذ بفتاويهم في كتبهم ، فيدفعها غلبة الموصول مع أنّ المصدريّة أيضا تقتضي الحكم بعدم جواز أخذ جميع آرائهم المندرج فيها الفتوى ؛ لأنّ قرينة العهد مفقودة في المقام ، ثمّ في قول العسكري عليه السلام : « وذروا ما رأوا » دلالة على اشتمال كتبهم على الفتوى والرأي أيضا ؛ فلا يتوهّم اشتمالها على الروايات خاصّة ، كما أنّ فيه دلالة أيضا على أنّ العبرة في الرواية اتصاف الراوي بالإيمان حين تحمّلها ، فإنّ بني فضّال اختاروا الضلالة بعد أن كانوا على الهداية ، وفي الفتوى باتصاف المفتي حين العمل.

ص: 634


1- كذا ، والظاهر زيادة : « من ».
2- كتاب الغيبة : 389 ، الحديث 355 ، والوسائل 18 : 103 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 13.

لا يقال : قول الشيخ أبي القاسم : « أقول فيه ما قال العسكري صلوات اللّه عليه » ليس من الرواية في شيء ، بل إنّما هو قول صدر منه بالرأي والمقايسة ، فلا حجّية فيه حينئذ.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ فتاوى مثل هذا الشيخ الجليل حجّة مثل روايته ، كما عرفت غير مرّة ؛ لأنّه لم يكن يقول بغير سماع عن الإمام عليه السلام كما قال حين سئل عمّا يفتي به من المسائل : إنّك تقول فيها بالرأي أو سمعت عن الإمام عليه السلام؟ : « لئن أقع من السماء فتخطفني الطير خير من أن أقول ما لا أسمع » (1).

وثانيا : أنّ موضع الاستشهاد (2) قول الإمام عليه السلام في حقّ كتب بني فضّال الذي رواه الشيخ المزبور ، فيسقط الإيراد من رأسه.

والثالث : إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثم إذا مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا قائلا بالبقاء والعدول ، ثمّ إذا مات أيضا ذلك المجتهد ، فإن رجع إلى من يوافقه في الفتوى فيهما فهو ، وإن رجع إلى من يخالفه ، فإن كان مختار الثاني البقاء ومختار الثالث العدول ، عدل إلى تقليد الميّت في جميع المسائل الفرعيّة التي كان بانيا فيها على تقليد الأوّل بحكم الثاني ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإن كان العكس ، بأن كان مختار الثاني العدول ومختار الثالث البقاء ، ففي رجوع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسألة الأصولية التي كان مختار الثاني فيها هو العدول ولازمه العدول في جميع المسائل الفرعيّة التي عدل فيها من تقليد الأوّل إلى الثاني أو إلى الثالث

ص: 635


1- كتاب الغيبة : 322 ، الحديث 269 و 326 ، الحديث 273 ، والبحار 44 : 274 ، ذيل الحديث الأول.
2- في الأصل : « الاشتهار » ، وهو من سهو النساخ.

ثانيا ، أو إلى ما عداها خاصّة من تلك المسائل الفرعيّة وقضيّة البقاء فيها خاصّة دون المسألة الأصوليّة ، إشكال ، من حيث امتناع رجوع الأمر بالبقاء إليهما معا ؛ للتناقض وعدم وجود ما يرجّح أحدهما على الآخر ، لكنّ الذي يقوى في النظر ويقتضيه البداهة بعد التأمل إرجاع الأمر بالبقاء إلى خصوص المسائل الفرعيّة ، حذرا من لزوم تخصيص الأكثر اللازم على تقدير رجوعه إلى خصوص مسألة البقاء والحدوث ، فإذا قيل : إنّ الأمر بالبقاء يرجع إلى ما قلّده فيه في هذه المسألة الأصولية - وهو العدول - لزم اختصاص إطلاق الأمر بالبقاء بمسألة واحدة وخروج بقيّة المسائل عن تحته ، واستهجان هذا القسم من التخصيص واضح ؛ لأنّ العام إذا كان بينه وبين بعض أفراده مضادّة ومناقضة ، فمن دخوله تحته يلزم اجتماع النقيضين. مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ كلّ خبر عدل حجّة ، فدلّ بعض الأخبار على عدم حجّية الأخبار ، فمن دخول هذا الخبر تحت عموم ذلك الدليل يلزم أن يكون هذا الخبر حجّة ولا حجّة.

أمّا الأوّل : فمن جهة كونه مشمولا للدليل الدالّ على حجّية الخبر.

وأمّا الثاني : فمن جهة كونه نافيا لحجّيته مطلقا التي هي من جزئيّاتها ، فهو حجّة من حيث كونه خبرا ، وغير حجّة من هذه الحيثية أيضا. فلا بدّ من إخراج هذا الخبر عن تحت ذلك الدليل فتأمّل جيّدا.

وأيضا لا خفاء في أنّ مراد من يأمر بالبقاء ، هو البقاء على كيفيّات ما صدر عنه من الأعمال ، لا البقاء على ما يلزم منه تغيير تلك الكيفيات.

ومن هذا الباب ما يجاب به عن الإشكال في دلالة الآية على حجّية الأخبار : بأنّه يلزم من حجّيتها عدم الحجّية ؛ لصدق النبأ على دعوى الإجماع الذي ادّعي على عدم حجّيتها ، كما عن السيّد (1).

ص: 636


1- انظر رسائل الشريف المرتضى 1 : 24 و 3 : 209.

أو في حجّية الشهرة : بأن حجّيتها توجب عدم حجّيتها ؛ لقيام الشهرة على عدم الحجّية.

أو في حجّية الكتاب : بأنّه ظاهر جملة من الآيات حرمة العمل بالظن ، فيلزم من حجّيتها عدم حجّية الظنون الكتابيّة أيضا. إلى غير ذلك من نظائر المقام ، التي يلزم من الحكم باندراج بعض أفراده فيها خروج بقيّة الأفراد. فإنّ ذلك الفرد ممّا ينبغي القطع بعدم اندراجه تحت إطلاقه أو عمومه ، فالظاهر أنّ البقاء على تقليد المجتهد الثاني متعيّن.

الرابع : قد عرفت في صدر المسألة أنّ الأردبيلي ذهب - فيما حكي عنه - وكذا العلاّمة - على اختلاف فيه - إلى جواز تقليد الميّت مع فقدان الحي مطلقا أو في ذلك الأفق ، واستدلّ في محكي مجمع الفائدة (1) : بالضيق والحرج ، والاستصحاب ، وبحصول الحكم من الاستدلال ولم يتغير بموت المستدل ...

ثمّ قال : والظاهر أنّ الخلاف ظاهر كما صرّح به في الذكرى والجعفرية وكتب الأصول ، وليس بمعلوم كون المخالف مخالفا ؛ لبعد ذلك عن الذكرى المخصوص ببيان مسائل الأصحاب ، وعدم اختصاص دليل الطرفين بالمخالف ، ولكن مع ذلك لا يحصل الراحة به ، انتهى.

والتحقيق هو : أنّ وظيفة المقلّد بعد العجز عن الأخذ بقول الحي هو الاحتياط ؛ لأنّه طريق القطع بالبراءة بعد انسداد باب العلم وتعذّر العمل بالظنّ الخاص الذي هو قول الحيّ ، فإنّ أدلّة اشتراط الحياة : من الأصل ، وإطلاق الإجماعات ، وغيرها من الوجوه المتقدّم إليها الإشارة كما يقتضي عدم الفرق بين الابتدائي والاستمراري ، كذلك يقتضي عدم الفرق بين صورتي الاختيار والاضطرار من غير فرق أصلا ، مضافا إلى اقتضاء قاعدة الشرطيّة ذلك ،

ص: 637


1- مجمع الفائدة والبرهان 7 : 547.

فإن امتنع الاحتياط - لدوران الأمر بين المتباينين ونحوه كالحرج الشديد مثلا - أخذ بالشهرة المحقّقة ، ثمّ بالشهرة المحكيّة ، ثمّ بما دونها من الأمارات الظنّية مراعاة للأقوى فالأقوى ، حتى إذا انحصر أمره في العمل بقول الأموات لزم اتباع أعلم الأموات ؛ لأنّ وظيفة المقلّد حينئذ الاجتهاد ؛ لقضية الانسداد ، وبقاء التكليف بالبداهة ، كما اعترف به المولى البهبهاني (1).

والمراد بالأقوى ما حكم مجتهده بكونه أقوى ، لا ما هو أقوى في نظره ؛ لأنّه ليس له أهليّة لمعرفة أقوى الأمارات بحسب النوع ، فإن كان قد سأل عن مجتهده قبل أوان الاضطرار من حكم حالتها وأخذ منه المرجع : من الاحتياط ، أو الشهرة ، ونحوها ، لم يتعدّ عنه ولو كان الظنّ الشخصي الحاصل في المسألة على خلافه ؛ لأنّ الظنون الخارجيّة المستندة إلى امور أخر خارجيّة اتفاقيّة ، التي تحصل للمقلّد قبال ما جعله المرجع لمجتهده من الأمارات المفيدة للظنون نوعا وبحسب الذات لا عبرة بها جدا ، كما يأتي توضيحه في تقليد الأعلم.

وإن لم يكن قد سأل مجتهده قبل عروض الاضطرار عن حكمها ، ولم يكن في يده شيء من الأمارات التي عيّنه مجتهده في تلك الحالة ، فلا محيص له عن الاعتماد على ظنونه الشخصيّة بحكم العقل.

والحاصل : أنّ حكم المقلّد في حال الاضطرار هو العمل بأقوى الأمارات في نظر المجتهد من الشهرة المحققة ، ثم الإجماع المنقول ، ثمّ الشهرة المحكيّة ، ثمّ أعلم الأموات ، حافظا للترتيب بينها. فإن اقتدر على تعيينه بأن كان قد سأله قبل الاضطرار أو تمكّن من السؤال عن تشخيص أقواها لم تبعد عنها جدّا وإن ظنّ بخلافه. وإن عجز عن تعيين ذلك ، فالمتّبع هو الظنّ الشخصي من أي شيء حصل.

ص: 638


1- انظر الرسائل الفقهيّة : 27.

فهذا الحكم - أعني وجوب الأخذ بأقوى الأمارات على العامي - إنّما ينتفع به المجتهد إذا سأله العامي عن حال العجز من الأخذ بقول الحيّ ، وأمّا العامي فلا ينفع (1) بهذا ؛ لعدم تمكّنه من تميز (2) أقوى الأمارات الفرعيّة. وقد اعترف المحقّق الثاني والمولى البهبهاني بأكثر ما عيّنا من الأمارات عند فقد الحي على ما حكاه عنه صاحب المفاتيح (3) ، فراجع وتأمّل واللّه العالم.

الخامس : لا يجوز الرجوع إلى الفاسق ، أو الكافر ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد عند فقد المستجمع للشرائط ؛ للأصل وإطلاق كلام الأصحاب الشامل لحالتي الاختيار والاضطرار ؛ ولأنّ قضيّة الشرطيّة ذلك ، بل يجب عليه الاحتياط ، ثمّ العمل بالشهرة المحقّقة أو المحكيّة على قياس ما عرفت في تقليد الميّت عند تعذّر الأخذ من الحيّ ، لكن إن أدّى الأمر إلى العمل بقول أحدهم ففي تقديم قول الميّت ، أو تقديم قول الفاسق ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد ، احتمالات ليس عندي ما يرجّح إحداها على الآخر ، إلاّ أنّ إطلاق النواهي الدالّة على عدم الأخذ بقول الفاسق والمخالف من الأخبار يقتضي تعيين قول الميّت أو العامي ، وأمّا بالنسبة إليهما فالمتّبع هو الظنّ الشخصي إن كان ، وإلاّ فالتخيير. واللّه العالم.

السادس : إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فهل يتعيّن تقليد الأفضل أو يتخيّر بينه وبين تقليد المفضول؟ حدث لجماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بعد اتفاق من تقدّم عنه ظاهرا على تعيين الفاضل ، وهو خيرة

ص: 639


1- كذا ، والمناسب : فلا ينتفع.
2- كذا ، والمناسب : تمييز.
3- انظر مفاتيح الأصول : 625 - 626 ، والرسائل الفقهيّة : 27.

المعارج (1) والإرشاد (2) ونهاية الاصول (3) والتهذيب (4) والمنية (5) للعميدي والدروس (6) والقواعد (7) والذكرى (8) والجعفريّة (9) للمحقق الثاني وجامع المقاصد (10) وتمهيد الشهيد الثاني (11) والمعالم (12) والزبدة (13) وحاشية المعالم للفاضل المازندراني (14) ، وإليه ذهب صاحب الرياض (15) فيما حكي عنهم جميعا ووافقنا في ذلك جماعة من العامة (16) ونسبه في محكي المسالك (17) إلى الأشهر بين أصحابنا ،

ص: 640


1- معارج الأصول : 201.
2- إرشاد الأذهان 2 : 138.
3- نهاية الأصول ( مخطوط ) : 447.
4- تهذيب الوصول : 293.
5- منية اللبيب : 369.
6- الدروس 2 : 67.
7- القواعد والفوائد 1 : 321 ، القاعدة 114.
8- الذكرى 1 : 43.
9- رسائل المحقق الكركي 1 : 80.
10- جامع المقاصد 2 : 76.
11- تمهيد القواعد : 321 ، القاعدة 100.
12- معالم الدين : 246.
13- زبدة الاصول : 120.
14- لم نعثر عليه في الحاشية ، وحكاه في المفاتيح : 626.
15- رياض المسائل 13 : 50.
16- نسبه في فواتح الرحموت المطبوع ذيل المستصفى ( 2 : 404 ) إلى أحمد وكثير ممّن بعده.
17- المسالك 13 : 343.

وجعله في محكي التمهيد (1) هو الحق عندنا ، وفي المعالم (2) هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم ، وادّعى على ذلك الإجماع صريحا المحقق الثاني في محكي حاشية الشرائع (3) ، وكذا علم الهدى في محكي الذريعة (4) بناء على أنّ « عندنا » صريح من مثله في دعوى الإجماع.

وذهب صاحب الفصول (5) إلى القول الثاني ، أعني التخيير ، وفاقا للحاجبي (6) والعضدي (7) والقاضي (8) وجماعة من الاصوليين والفقهاء على ما حكي عنهم (9).

والحقّ الذي لا ينبغي الارتياب فيه هو الأوّل (10) ... عن لزوم تقليد الأفضل ، لكن العنوان الذي يتكلّم فيه الآن هو ما إذا علم اختلاف الفاضل والمفضول ، ثمّ التكلّم بعد الفراغ عن المسألة في أطرافها التي منها صورة الجهل بالاختلاف.

[ تقرير الأصل في المسألة ] :

وينبغي أوّلا تقرير الأصل في المسألة ، فنقول : لا شبهة في أنّ المسألة اصوليّة يبحث فيها عن الطريق الموصل إلى الأحكام الشرعيّة في حقّ المقلّد ،

ص: 641


1- تمهيد القواعد : 321 ، القاعدة 100.
2- معالم الدين : 246.
3- حاشية الشرائع ( مخطوط ) ، الورقة 99.
4- الذريعة 2 : 801 ، وليس فيه لفظ « عندنا ».
5- الفصول : 423.
6- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
7- انظر المختصر وشرحه للعضدي : 484.
8- حكى عنه الغزالي في المستصفى 2 : 391 ، وذهب نفسه إلى الأوّل.
9- حكى عنهم العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447.
10- لا يخفى ما في الكلام من الاختلال ، ولعلّ في الكلام سقطا.

فإنّ كون التقليد من الامور التعبّدية كما حقّقناه قبال من أنكره وجعل قول المجتهد واجب العمل باعتبار كونه أحد الامور المفيدة (1) ... كالفاضل القمّي لا ينافي كونه جعليّا إلى الواقع ، ولا ريب أنّ مرجع الطريق التعبّدي إلى العمل بما وراء العلم وترك تحصيل اليقين بالبراءة عن الشغل الثابت ، فإذا شككنا في أنّ هذا الشيء طريق تعبّديّ أم لا؟ كان قضيّة الأصل الأوّلي فيه العدم ، وقد أشرنا إلى ذلك في صدر المسألة. ولعلّ هذا الأصل اتّفاقيّ بين الأصحاب كما اعترف به شيخنا ( دام ظلّه العالي ) ولم أجد نكيرا له ، غير أنّ الفاضل القمّي رحمه اللّه - بعد أن أجاب عن الدليل العقلي الذي استدل به على تعيين الأعلم : « من أنّ الظن الحاصل من قوله أقوى » : بأن مدار التقليد إن كان على الظنّ ، فيدور مداره من قول أيّ شخص حصل ، وإن كان مبناه على التعبّد ، فلا معنى لملاحظة الأقوائيّة من الواقع - اعترض على القول بالتخيير : بأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ خرج الأقوى بالإجماع ولا دليل على العمل بالأضعف ، ثمّ أجاب عنه : بأنّا قد بيّنا سابقا أنّه لا أصل لهذا الأصل ، واشتغال الذمّة أيضا لا يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون ، والأصل عدم لزوم الزيادة (2).

وهذا الكلام لعلّه من متفرداته رحمه اللّه إذ لم أجد على (3) من يقول بكون مقتضى الأصل الأوّلي جواز العمل بمطلق الاعتماد الشامل للظن ، فإنّ كلّ من دخل في المسألة ذكر الأصل الذي قرّرنا ، مرسلا إرسال المسلّمات ، ولم يناقش أحد من

ص: 642


1- الظاهر وجود سقط في هذا المورد أيضا ، وفي الأصل على كلمة « المفيدة » علامة سقط من المتن لكن لم يذكر المقدار الساقط في الهامش.
2- القوانين 2 : 247.
3- كذا ، والمناسب : لم أعثر على ، أو : لم أجد من.

المجوّزين في هذا الأصل ، بل ادّعوا قيام الدليل الشرعي على خلافه ، ولعلّه رحمه اللّه أراد به الأصل الثانوي المستفاد من دليل الانسداد ، وقد عرفت في تقليد الميّت : أنّ بعض مقدّماته مثل انتفاء الظن الخاص في حق المقلّد ممنوع ، وأمّا ما ذكره أخيرا : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك المتحقّق في ضمن الأدون - فمع ابتنائه على كون التقليد حكما تعبّديا ثابتا من الأدلّة الشرعيّة مخالفا للأصل ، وهو مناف لما توهّمه : من أنّ الأصل هو جواز العمل بالظن - يعرف جوابه من الجواب عن الأصل الثاني من الاصول التي قد يتمسّك بها في إثبات التخيير.

ثمّ لا يتوهّم أنّ الاحتياط في هذه المسألة الاصولية ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا كان قول المفضول موافقا للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعيّة بقاعدة « المزيل والمزال » كما يظهر بالتأمّل.

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ للقائلين بالتخيير وجوه (1) :

[ وجوه القائلين بالتخيير ] :

الأوّل : الأصل المقرّر تارة باستصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر ، فإنّ زوال ذلك التخيير بحدوث الفضل في أحدهما غير معلوم فيستصحب.

واخرى بأنّ الشكّ في المسألة دائر بين التخيير والتعيين فيما علم وجوبه في الجملة ، أعني التقليد ، فيرجع إلى أصالة البراءة على القول بها في أمثال ذلك ، مثل ما إذا ثبت وجوب عتق الرقبة في الجملة وشكّ في وجوب عتق المؤمنة عينا ، أو التخيير بينها وبين الكافرة.

ص: 643


1- كذا ، والصحيح : وجوها.

وثالثة : بأنّ المرجحيّة أمر توقيفيّ كالحجيّة ، فلا بدّ في ثبوتها لشيء من قيام دليل شرعيّ عليها ، فمقتضى الأصل عدمها حتى ثبت (1).

وأنت إذا تأمّلت في الأصل الذي قرّرنا علمت أنّ هذه الاصول ممّا ليس في محلّها.

أمّا الأوّل ، فلأنّ التخيير الثابت في حال التساوي إنّما كان باعتبار القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ، ونحوه مما يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم ونحوه ممّا يشكّ في كونه مرجّحا ، فحيث زال القطع المزبور بحدوث ما يحتمل كونه مرجّحا ، أعني الفضل في أحدهما ، امتنع الاستصحاب ، نظير الحكم بنجاسة الحيوان المشكوك في طهارته ونجاسته شرعا باعتبار استصحاب النجاسة الحاصلة له حين التولّد بملاقاة الدم.

فان قلت : نحن لا نستصحب التخيير ، بل نستصحب جواز الرجوع إلى المفضول الثابت له قبل حدوث الفضل للآخر ، فإنّ هذا الجواز كان مناطه صفة الاجتهاد والعلم القائمين به ، وهما باقيان بعد حدوثه كما لا يخفى.

قلنا : هذا الجواز الإباحي المقابل للأحكام الأربعة (2) ، بل المراد به الوجوب التخييري ، وتسميته جوازا إنّما هو باعتبار الرخصة في تركه إلى بدل ، فالمحذور باق بحاله كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الشك في التعيين والتخيير يتصوّر في مقامات : أحدها : أن يكون التخيير المشكوك فيه التخيير العقلي العارض للأفراد عند

ص: 644


1- كذا ، والصحيح : يثبت.
2- المعنى غير مستقيم ، ولعلّه كان هكذا : هذا الجواز ليس الإباحي ....

تعلّق التكليف بالطبيعة ، ومرجعه إلى الشك في الإطلاق والتقييد ، مثل ما إذا ثبت وجوب طبيعة العتق وشكّ في تقييدها بالمؤمنة وعدمه.

والثاني : أن يكون التخيير شرعيّا مثل ما في الصوم والعتق والكفّارات.

والثالث : أن يكون التخيير عقليّا ناشئا من جهة تزاحم الواجبين العينيّين (1) ، ومرجع الشك في التعيين والتخيير حينئذ الشك في ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر وعدمه بعد القطع باشتمالها (2) على مصلحة الوجوب العيني لو خلا عن المعارضة والمزاحمة.

والبناء على التخيير للأصل على القول به ، إنّما هو في القسمين الأوّلين. وأمّا القسم الثالث ، فأصالة الاشتغال فيه محكّمة ، فإذا وجب انقاذ كلّ غريق عينا ودار الأمر بين إنقاذ العالم والجاهل وشكّ في رجحان العالم لم يكن الرجوع إلى أصل البراءة بالنسبة إلى تعيين العالم ؛ لأنّ الشك ليس في وجوبه العيني حتى يدفع بالأصل كما في عتق المؤمنة أو الصوم مثلا ؛ إذ المفروض أنّه لا شبهة في كونه واجبا عينيّا مثل إنقاذ الجاهل ، بل في ترجيح أحد العينيين على الآخر باعتبار تضمّنه شيئا يحتمل المرجحية ، فالمرجع حينئذ إلى الاحتياط أو التخيير العقلي الناشئ من جهة التساوي ، وحيث لا سبيل إلى التخيير لعدم حكم العقل به مع احتمال وجود المرجّح في أحد الجانبين تعين الاحتياط المبرئ للذمّة الحاصل في ضمن الأخذ بواحد (3) الاحتمالين.

ص: 645


1- كذا ، والمناسب : « التعيينيّين » ، وقد جرى المقرّر على هذا فيما يأتي كثيرا ، ولذلك لم نشر إلى كل مورد بخصوصه ، وإنما على القارئ الالتفات إليه.
2- كذا ، والمناسب : باشتمالهما.
3- كذا ، والمناسب : أحد ، أو : بواحد من ....

ثمّ إنّ الشكّ في التعيين والتخيير قد يرجع أيضا إلى الشكّ في ترجيح أحد الاحتمالين اللذين لا ثالث لهما على الآخر إذا لم يوافق أحدهما أصلا من الاصول ، مثل ما إذا دار حكم الشيء من (1) الوجوب والحرمة ، وكان في أحد الاحتمالين ما يحتمل كونه مرجّحا مثل موافقة الشهرة ، وهذا غير الشك في التعيين والتخيير الناشئ من التزاحم ، وعدم جريان أصل البراءة هنا أوضح من عدم جريانه في باب التزاحم ؛ لإمكان القول فيه : بأنّ الواجب بعد تزاحم الواجبين إنّما هو القدر المشترك بينهما ؛ لعدم إمكان الجمع ولا الطرح وانتفاء ما ثبت كونه مرجّحا في أحدهما ؛ بخلاف المقام ؛ فإنّ إرجاع التكليف إلى القدر الجامع بين الاحتمالين - أعني القدر المشترك بينهما - ممتنع ، فلا بدّ حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام الامتثال بالحكم الظاهري الذي هو التخيير النقلي ، أعني اختيار ما يحتمل ترجيحه لموافقة الشهرة ونحوها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الشك في التخيير والتعيين في مسألتنا هذه ليس من القسم الأول الراجع إلى الإطلاق والتقييد ، ولا من القسم الثاني الراجع إلى التخيير الشرعي ؛ لأنّ ثبوت الحكم ولو شأنا ليس مقطوعا به لكلّ واحد من الفردين المحتمل تعيين أحدهما في هذين القسمين ، بخلاف المقام فإنّ الحجّة الشأنيّة مقطوع ثبوتها لقول كلّ من المتعارضين.

وأيضا أنّا نعلم قطعا أنّ غير محتمل التعيين فيهما كالكافرة ليس بواجب عيني ، وقول كلّ واحد من المجتهدين المتخالفين مما يحتمل كونه هو الواقع

ص: 646


1- كذا ، والمناسب : بين.

المفروض وجوبه عينا ، فتعيّن كونه من أحد القسمين الأخيرين اللذين عرفت اقتضاء الأصل منهما (1) التعيين.

وهل هو من القسم الراجع إلى التزاحم أو القسم الراجع إلى تعارض الاحتمالين؟ والظاهر هو الأخير ؛ لأنّ حقيقة التقليد عبارة عن انجعال قول المجتهد طريقا تعبديّا للمقلّد إلى الواقع ، فعند اختلاف المجتهدين يقع المعارضة بين الطريقين ، فأحدهما يعيّن الواقع في الوجوب والآخر في الحرمة ، فالتخيير الذي يحكم به العقل حينئذ ليس من باب التخيير الناشئ من اشتمال كلّ من المتزاحمين لمصلحة التكليف ، كإنجاء النفس من الهلاك ؛ للقطع باختصاص المصلحة المقتضية لجعل الطريق أعني إصابة الواقع بأحدهما ، بل هو من باب التخيير الناشئ من تعارض احتمال مؤدّى أحد الطريقين كالوجوب لاحتمال مؤدى الآخر كالحرمة ، فالتخيير الذي يضطرّ إليه العقل بعد اليأس عن التوقّف الذي كان على وفق القاعدة في تعارض الأمارات والحجج - لو لا قيام الإجماع على خلافه - ليس إلاّ التخيير الذي يحكم عند دوران الأمر بين مؤداهما مع عدم موافقة الأصل لشيء منهما. وقد عرفت : أنّ القاعدة تقتضي في المسألة (2) الوقوف على ما يحتمل فيه الترجيح.

والحاصل : أنّه إذا تعارض الحجّتان علم بأنّ الطريق أحدهما ليس إلاّ ؛ لأنّ الطريق عبارة عمّا يجب الأخذ به فعلا ، ولا يمكن الاتّصاف بالوجوب الفعلي إلاّ أحد (3) المتعارضين ، وحيث لا سبيل للعقل إلى تعيينه فيتخيّر بينهما عند القطع

ص: 647


1- كذا في الأصل.
2- في الأصل : « مسألة ».
3- كذا ، والمناسب : لأحد.

بالتساوي ، فإذا قام احتمال الترجيح في أحدهما وقف عنده فلا يحكم بالتخيير ؛ لأنّه طريق للقطع بالبراءة عن التكليف الظاهري ؛ نظرا إلى عدم منافاة الأخذ به التخيير (1) ، ولا يجوز له البناء على البراءة كما بيّنا سرّه. ولعلّ هذا هو الوجه في اتّفاق ظاهر الأصحاب على أنّ الأصل الأوّلي هنا يقتضي الأخذ بقول الأفضل مع أنّ جماعة من المحقّقين ذهبوا في مسألة دوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو التخيير والتعيين إلى الإطلاق والتخيير. فهذا من الشواهد الواضحة على خروج ما نحن فيه - أعني وجوب تقليد الأعلم وجوازه - عن تحت المقامين ، فإنّ قضيّة الاندراج تحتهما حكمهم بأنّ قضيّة الأصل هنا الجواز كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ما في كلام الفاضل القمّي رحمه اللّه المتقدّم إليه الإشارة (2) : من أنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بالقدر المشترك ، أو الوجود في ضمن الأدون ؛ ضرورة انتفاء القدر المشترك هنا بحيث يكون جعله موضوعا للحجيّة نظير انتفائه في دوران الأمر.

ولعلّ نظره في هذا الكلام إلى إرجاع التقليد إلى أمر تعبّدي غير مربوط الحجّية (3) والطريقية ، كمتابعة قول العالم من حيث هو من حيث كونه طريقا إلى الواقع ، فزعم أنّ التقليد حينئذ واجب من الواجبات التعبديّة المحضة مثل إكرام العالم والإعانة عليه (4) ، وأنّ الشك في وجوب متابعة الفاضل عينا أو مخيّرا بينه وبين المفضول مثل الشك في وجوب عتق المؤمنة عينا أو مخيّرا بينها وبين الكافرة.

ص: 648


1- كذا ، والأنسب : للتخيير.
2- تقدّم في الصفحة : 643.
3- كذا ، والمناسب : بالحجيّة.
4- كذا ، والمناسب : وإعانته ، ولعلّ المراد : والإعانة على إكرامه.

وهو سهو بيّن ؛ لأنّ متابعة المقلّد للمجتهد ليست إلاّ كمتابعة المجتهد للراوي في الرواية ، فالفتوى والرواية طريقان للواقع الذي هو المطلوب من انجعالها طريقا ، فإذا تعارض الفتويان اشتبه الطريق والحجّية بغيره ، وقضيّته القياس حينئذ على ما قدّمناه في التعادل والتراجيح عند تعارض الطريقين هو التوقف ، لكن قام الإجماع على بطلانه فانحصر المناص في مطالبة الترجيح ثمّ الأخذ ولو احتمالا ، وإلاّ فالتخيير.

ثمّ اعلم : أنّ هذا الجواب عن الأصل المزبور إنّما يناسب مذهب من يعتمد على كلّ ظنّ في مقام ترجيح أحد الاحتمالين ولو لم يعتمد عليه في مقام ترجيح أحد الخبرين في التخيير الشرعي ، فمن أبى عن ذلك فليس في محلّه ، فالجواب عنه : أنّ البناء على التخيير لأصالة البراءة إنّما يتّجه عند الشك في ثبوت التكليف ، وأمّا إذا كان الشك في ارتفاع التكليف الثابت باعتبار الشك في طروّ التخصيص على دليل ذلك التكليف انعكس الأصل فيقتضي التعيين ، والكلام في وجوب تقليد الأعلم عينا أو تخييرا كلام في قدر الخارج عن تحت ما دلّ على عدم جواز العمل بما وراء العلم ، فالقدر المتيقّن الذي يجب الاقتصار عليه ليس إلاّ العمل بقول الأعلم وهذا واضح.

وأمّا الأصل الثالث فقد ظهر ضعفه أيضا ممّا بيّنا ؛ لأنّ الشكّ في ترجيح إحدى الحجّتين المتعارضتين على الاخرى شكّ في حجّية المرجع فعلا ، وأصالة عدم الحجّية حينئذ محكّمة بعد عدم قيام دليل عليها من نقل أو عقل.

أمّا النقل ؛ فلأنّ الدليل الدالّ على حجّية العالم لا يمكن تناله لصورة التعارض ؛ للقطع بمخالفة أحد المتعارضين للواقع وتعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلولا قيام الاتّفاق على بطلان الطرح والتوقّف لكان مقتضى القاعدة ذلك ، لكن بعد ملاحظة ذلك الاتّفاق فالعقل قاض بالتخيير.

ص: 649

وأمّا العقل ، فلأنّ العقل لا يذهب إلى جواز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح الظنّي في التخييرات التي تستند إلى حكمها لأجل التخيير ، خصوصا فيما كان الشكّ في ارتفاع التكليف الثابت بالأصل والعمومات ، أعني حرمة العمل بقول الغير وما قرع سمعك من أنّ المرجحيّة كالحجّية محتاجة إلى الدليل فإنّما هو في التخيير الشرعي الثابت بالدليل ، وستعرف أنّ مثل هذا الدليل موقوف في المقام.

وبالإحاطة بما ذكر تقدر إبطال كلّ أصل يتمسّك به في المقام على حجّية المفضول.

ومنها - أي من أدلة المثبتين - : إطلاقات الكتاب والسنّة الواردتين في مشروعيّة التقليد ؛ بناء على دلالتها عليها ، مثل آية السؤال ، وآية النفر ، وآية الكتمان. فإنّ « أهل العلم » (1) عام يتناول الفاضل والمفضول ، فالأمر بالسؤال منهم يدلّ على وجوب قبول كلّ واحد على حدّ سواء خصوصا بعد ملاحظة غلبة تفاوت مراتب العلم وندرة مساواة أهله فيه وشيوع الاختلاف بينهم ؛ فإنّ الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفين في الآراء والعلم دليلا (2) آخر على اشتراك الجمع في مصلحة الرجوع. وهكذا آية النفر ؛ فإن إيجاب الحذر عقيب الإنذار المتفقين من دون ما يدلّ على اختصاصه بإنذار الأفقه مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم يفيد حجّية إنذار كلّ منذر سواء كان أفضل أو مفضولا ، وهكذا الكلام [ بالنسبة ](3) إلى سائر ما سمعت في تقليد الميّت من الأخبار ، كرواية الاحتجاج ، والتوقيع

ص: 650


1- لعلّ المراد : أهل الذكر.
2- كذا ، والصحيح : دليل.
3- اقتضاها السياق.

الشريف ، وروايات الحكومة ، وخصوص ما ورد في حق زرارة وأبان والثقفي والعميري ويونس وأمثالهم ؛ فإنّ المستفاد منها وغيرها مما ورد في حجّية العلماء كقوله صلى اللّه عليه وآله : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وقوله صلى اللّه عليه وآله : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) عدم تعيين الأفضل ، فتخيّر (3) بينه وبين المفضول ، وبها يخرج عن حكم الأصل القاضي بالاقتصار على الأفضل.

وجوابها - بعد الغضّ عمّا في دلالتها على جواز أصل التقليد من المناقشات الواضحة المتقدم إلى جملة منها الإشارة - : أنّه ليس في شيء منها دلالة على مساواة الأفضل والمفضول عند اختلافهما في حكم المسألة ، لا من حيث الإطلاق ولا من حيث العموم ، ولا من حيثيّات اخرى ؛ فإنّ منها ما ورد في مقام جعل طائفة من العلماء مرجعا للجهّال القاصرين عن إدراك معالم الدين بأنفسهم ، فلا يدلّ إلاّ على انحصار الحجّة في هذه الطائفة وعدم جواز الرجوع إلى غيرهم ، وأمّا أنّ كلّ واحد منهم حجّة مطلقا أو عند فقد المعارض ، فهو بمعزل عن بيان ذلك.

ومن هذا القبيل قول اللّه عزّ وجل : ( ... فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (4) ، [ فإنّ ](5) إضافة اسم الجمع إلى الجمع لا يفيد إلاّ تعلّق الحكم بجنس الجمع ، فلا يستفاد منها إلاّ ثبوت الحجّية لجنس العلماء ، حتّى لو احتملنا اشتراط اتّفاقهم في أصل المرجعيّة وأنّهم إذا اختلفوا كان المرجع غيرهم لم يكن دفع هذا

ص: 651


1- البحار 2 : 22 ، الحديث 67.
2- معاني الأخبار : 156.
3- كذا ، والمناسب : فيتخيّر.
4- النحل : 43 ، والأنبياء : 7.
5- الزيادة اقتضاها السياق.

الاحتمال بالإطلاق أو العموم فضلا عمّا لو التزمنا بالحجّية عند الاختلاف واحتملنا ترجيع أحد المتخالفين على الآخر باعتبار ما فيه من المزيّة التي ليست في الآخر ، ألا ترى أنّه إذا قيل للمرضى : ارجعوا إلى أهل الطبّ في مقام بيان المرجع لم يستفد منه إلاّ عدم جواز الاستعلاج من غير هذا الجنس ، بحيث لو اختلف الأطبّاء في المعالجة فربما يتوقّف حينئذ في أصل مرجعيتهم رأسا ، فضلا عن مرجعيّة كلّ واحد على سبيل التخيير. وهذا مثل المطلقات الواردة في بيان حكم آخر التي لا يرتفع منها شيء من جهات الشكّ. ويؤيّده : أنّ السؤال ثانيا عن حكم اختلاف المرجع حينئذ ليس ممّا علم جوابه من الحكم الأوّل ، بحيث لو حكم بعدم كونهم مرجعا رأسا أو بمرجعيّة خصوص أحد المتخالفين عينا لم يكن منافيا لما تقدّم من الأمر بالرجوع إليهم كما لا يخفى.

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى كلّ واحد واحد عينا على قيام العام الاصولي ، فيستفاد منه : أنّ كلّ واحد من العلماء حجيّته شأنيّة لو لا المعارض ، وأمّا معه فلا دلالة فيه أيضا على حكم ؛ لأنّ الحكم بدخول المتعارضين معا تحته ممتنع ، وتعيّن أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، مثل ما إذا وجب إنقاذ كلّ غريق عينا ووقع المزاحمة بين الإنقاذين ، فإنّ الدليل الدالّ على إنقاذ الغرقى ممّا لا سبيل إلى تناوله لهما معا ، ولا لأحدهما المعيّن ، بل الغير المعيّن ، فيرجع الأمر في الترجيح أو التخيير إلى ما رآه العقل ، وقد عرفت فيما تقدّم آنفا أنّ شغل العقل في مثل هذا التخيير الوقوف عند ما يحتمل رجحانه على الآخر ، ولو سلّم حكمه بالتخيير حينئذ فهذا خروج عن الاحتجاج بالإطلاقات كما لا يخفى ، ومن هذا الباب آية النفر (1) وآية الكتمان (2) وقول الحجة - صلوات اللّه

ص: 652


1- التوبة : 122.
2- البقرة : 159.

عليه وعجّل اللّه فرجه - في التوقيع الشريف : « فارجعوا إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه » (1) ؛ فإنّ قضيّة الآيتين وجوب الحذر والقبول عقيب كلّ إنذار وإظهار ، وكذا قوله عليه السلام : « فإنّهم حجّتي » يدلّ على حجّية كلّ واحد من الرواة عينا بحسب الشأن الملحوظ فيه عدم المعارض ، وأمّا معا فلا يستفاد حجّية أحد المتعارضين منه تعيينا ولا تخييرا. نعم يحكم العقل فيه بالتخيير إذا علم بالتساوي في الاهتمام.

وبالجملة : هذا القسم والقسم الأوّل لا يتفاوتان في إفادة التخيير الشرعي بين الحجّتين المتعارضتين حتى يتناولا بإطلاقهما موضع النزاع ، أعني تعارض الفاضل والمفضول.

ومنها : ما لا يأبى عن الدلالة على التخيير الشرعي بينهما في نفسه لو لم يكن قد ورد في مقام بيان حكم آخر ، فالفرق بينه وبين الاولتين أنّهما قاصرتان عن إفادة التخيير شأنا بخلاف هذا القسم ؛ فإنّ له أهلية لذلك لو كان المقام مقتضيا له. ومن هذا القبيل قوله عليه السلام في خبر أبي خديجة المتقدم إليه الإشارة : « ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ... » (2) فإنّ إطلاق « الرجل » يتناول كلّ واحد من المتعارضين ، فيكون دليلا على التخيير الشرعي ؛ فإنّ امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض الأفراد مخيّرا بينهما ؛ لأنّ قاعدة الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل يقتضيان البناء على التخيير في مقام الامتثال ، ولا ينافي كونه تخييرا شرعيّا تسميته تخييرا عقليّا أيضا ؛ لأنّ المراد به استناد التخيير إلى حكم العقل المستند إلى الإطلاق وقبح الإغراء بالجهل.

ص: 653


1- الوسائل 18 : 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
2- الوسائل 18 : 4 ، الباب الأوّل ، الحديث 5.

ومثله ما في مقبولة عمر بن حنظلة : « لكن انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ... » (1) وقول العسكري ( صلوات اللّه عليه ) في رواية الاحتجاج المرويّة عن تفسيره عليه السلام : « وأمّا من كان من الفقهاء صائنا لدينه وحافظا لنفسه كاسرا لهواه تابعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه » (2) فإنّ الظاهر من الموصول جنس للفرد دون الجمع والاستغراق. والمعنى : أنّ للعوام تقليد أحد من الفقهاء الموصوفين بالأوصاف المزبورة ، وهذا يشمل بإطلاقه صورة الاختلاف كما مرّ. وروي : أنّ أبا الحسن عليه السلام كتب جوابا عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدين : « اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا كثير القدم في أمرنا » (3). وهذا أيضا يدلّ على التخيير ، مثل قوله : « انظروا إلى رجل ... » ؛ لأن الاعتماد على كلّ واحد من أفراد « الرجل » عينا لا يجوز الأمر به جدّا ، فينزّل على التخيير.

والجواب عن هذه الأخبار ونحوها مما يشاركها في إفادة التخيير : أنّها قد وردت نهيا عن الرجوع إلى فقهاء المخالفين ورواتهم وحكّامهم ، فلا يستفاد منها سوى جعل فقهاء الشيعة مرجعا لعوامهم ؛ لعدم ورودها على هذا التقدير في مقام بيان الحجّية العقليّة حتى يتمسّك بإطلاقها ، بل في مقام تشخيص طائفة المرجع من غيرها في الجملة. وممّا يدلّ على ذلك : أنّ عمر بن حنظلة سأل ثانيا عن حكم صورة الاختلاف ، فقال : « فإن اختار كلّ منهما - أي المتحاكمين -

ص: 654


1- الوسائل 18 : 99 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الاحتجاج 2 : 263 ، وانظر التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 143 ، الحديث 143.
3- الوسائل 18 : 110 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 45.

رجلا من أصحابكم فاختلفا في حكمكم ... » (1) ؛ إذ لو كان في قوله : « انظروا إلى من كان منكم » إطلاق متناول لصورة التعارض ، لم يكن لهذا السؤال ثانيا وجه ، ولكان تعيين الإمام عليه السلام الأعدل والأفقه عند المعارضة مخصّصا ، ولا يذهب إليه ذاهب.

وأولى بعدم الإطلاق من الجميع ما في رواية الاحتجاج الواردة في مقام بيان الفرق بين علماء اليهود وعلمائنا ، لا في مقام بيان التكليف الفعلي المحتاج إليه ؛ لأنّ الرجل السائل كان يعلم أنّ تكليف عوامنا هو الرجوع إلى علمائنا ، أشكل عليه ذمّ اللّه تعالى عوام اليهود على الرجوع إلى علمائهم ، فلا شيء فيه يقتضي الأخذ بإطلاق قوله : « أمّا من كان ... » بعد وروده في ذاك المقام.

وبالجملة ، الإنصاف أنّ الاستناد في حكم مخالف للأصل وللإجماعات المعتضدة بالشهرة إلى مثل هذه الإطلاقات التي كانت بمرأى من أصحابنا السابقين القائلين بعدم التخيير في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم اجتماعها لشرائط الحجيّة ؛ فإنّ رواية أبي خديجة ضعيفة - كما قيل - بسببه ، وعمر بن حنظلة لم يصرّح بكونه ثقة غير الشهيد الثاني (2) آخذا وثاقته من مكان آخر غير كتب الرجال ، ورواية الاحتجاج في أعلى مراتب الضعف ؛ لكونها من تفسير العسكري عليه السلام الذي لا يعمل بما فيه الأخباريّون ، وإن كان فيها شواهد الصدق موجودة.

ص: 655


1- العبارة في الوسائل هكذا : « ... فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما ، واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ... » الوسائل 18 : 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- انظر الرعاية في علم الدراية : 131.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الأخبار الواردة في نقل العلماء مثل النبوي صلى اللّه عليه وآله : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وأما النبوي المروي عن طرق العامة : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (2) ، فالاستدلال به بعد فرض حجّيته موقوف على العلم باختلاف أصحابه صلى اللّه عليه وآله في حكم المسألة ، وأنّى للمستدل بإثباته مع إمكان دعوى العلم أو الظنّ القوي بعدم الاختلاف ، كما هو الشأن في حقّ كلّ جماعة يأخذون معالم دينهم من شخص واحد سماعا من نبيّ أو وصيّ أو مجتهد ، بل في موضعين منه دلالة على اتفاق الصحابة : أحدهما مادة « الاهتداء » ؛ فإن الاهتداء إلى الحق والصواب عند اختلاف المعتمد عليهم لا يتيسّر إلاّ في متابعة أحدهم ، مع أنّه صلى اللّه عليه وآله أخبر بحصول الاهتداء بمتابعة الجميع. والثاني « التشبيه بالنجوم » ؛ فإنّها طرق قطعيّة يتوصّل بكلّ واحد منها السالك إلى المقصد ، فكما أنّ الوصول إلى الموضع المقصود ممكن في متابعة كلّ واحد من النجوم ، كذلك ينبغي أن يكون شأن الصحابة أيضا كذلك ، وإلاّ لعرى التشبيه عن المعنى فضلا عن الفائدة ، ولا ريب أنّ ذلك لا يتصوّر ولا يتعقّل عند اختلافهم في الأحكام ، وهذا واضح.

وأمّا الأخبار الخاصة الواردة في حقّ المعدومين من أصحاب الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) فبما ذكرنا ظهر الجواب عنها أيضا ؛ إذ لم يثبت أنّ معاصري الثقفي مثلا من أصحاب الأئمة عليهم السلام كان فيهم من يخالف قوله قول الثقفي فيما يفتي به من المسائل ، وكان أعلم وأفقه ، حتّى يثمر إطلاق قوله عليه السلام : « عليك بالثقفي » في جواز الاعتماد على قوله حينئذ. وهكذا الكلام في سائر

ص: 656


1- البحار 2 : 22 ، الحديث 67.
2- كنز العمال 1 : 199 ، الحديث 1002.

أصحابهم المأمور بالرجوع إليهم ك- : أبان ، وزرارة ، وزكريّا ، وعمري ، ويونس ونحوهم ، بل الظاهر من وثاقتهم واعتماد الإمام عليه السلام عليهم وتعيينهم المرجع كونهم أفضل من غيرهم أو مطابقة قولهم للواقع ، ومن هنا قال في الشرائع (1) وغيرها (2) : إنّ نصب المفضول للقضاء جاز من الإمام عليه السلام ؛ لأن نقصانه مجبور بنظره ( روحي وروح العالمين له الفداء ) : وفيه أيضا دلالة واضحة على أنّ المفضول من حيث هو لا يليق بشيء من مراتب القضاء والفتوى مع وجود الأفضل.

والحاصل : أنّ أصحاب الأئمة وإن لم يكونوا كأصحاب النبي في اتّفاق الكلمة واتّحاد القول ؛ نظرا إلى مساس الحاجة أحيانا إلى اختلافهم لتقيّة ونحوها دون اختلاف أصحابه صلى اللّه عليه وآله ، إلاّ أنّه كان في غاية القلّة ، فلو سلّمنا حينئذ مخالفة بعض هؤلاء المرجع لغيره الأفضل من الصحابة ، نقول : إنّ مجرّد المخالفة الواقعيّة لا يكفي في التمسّك بإطلاق الأمر لإثبات حجّية قوله عند علم المستفتي بالخلاف ، بل لا بدّ مع ذلك من ثبوت العلم بالخلاف ، لأنّا لا نقول بتعيين الأعلم عند الجهل بالخلاف كما ستعرف ، فحيث لم يثبت علم مقلّدي (3) لأن مثلا بالاختلاف بينه وبين غيره لم ينفع الإطلاق في شيء. نعم لمّا كان صورة الجهل بالاختلاف في الجملة مقطوعا بها ، كما يشهد به عدم جريان عادات المقلّدين بالفحص والبحث عن المعارض ، فلا جرم من دلالة هذه الأوامر على جواز تقليد المفضول عند الجهل بالاختلاف واللّه العالم.

ص: 657


1- الشرائع 4 : 69.
2- مثل العلاّمة في القواعد 3 : 420.
3- كذا في الأصل.

ومنها - يعني من أدلة المثبتين - : أنّه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل ، وقد دلّ الاعتبار والآثار في غير موضع من الكتاب على نفي الاستواء ، واجيب بأنّها بالدلالة على العكس أولى ؛ لأنّ المفضول جاهل في مقابل الأفضل في مقدار من العلم ، فلو جاز تقليده كما يجوز تقليد الأفضل ، كانا متساويين.

ولا يرد : أنّ المراد من قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ) (1) نفي مساواة العالم بكلّ شيء والجاهل عن كلّ شيء ، فلا ينفي مساواة العالم بالكلّ والجاهل بالبعض ؛ لأنّ سلب العلم بالكل تارة يتحقّق في ضمن السلب الكلّي واخرى في ضمن السلب الجزئي ، فالمراد بقوله ( لا يَعْلَمُونَ ) عدم العلم بما يعلمه العالمون بالكلّ سواء حصل العلم بالبعض أيضا أم لا ، مع أنّ العلم المطلق والجهل المطلق ممّا لا يكاد يوجد في شخصين من المكلّفين ، وتنزيل الآية على نفي المساواة بينهما تنزيل على الفرض المعدوم والنادر ، فالظاهر إرادة العلم والجهل الإضافيين ، وعليه يتمّ الجواب.

لكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من الاستدلالين ؛ لأنّ الظاهر كون المراد بنفي السماوات نفيها من جميع الجهات ؛ لا من كلّ جهة. فلا يلزم تفاوت العالم والجاهل في كلّ شيء ، بل يكفي اختلافهما في بعض الأشياء كالفضل والمرتبة أو أكثرها ، فليتدبّر في المقام.

ومنها : ما أشار إليه صاحب الفصول (2) : من أنّ تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الإمام عليه السلام تقليد أصحابه ، بل كان عليهم الأخذ منه عليه السلام

ص: 658


1- الزمر : 9.
2- انظر الفصول : 424.

بلا واسطة أو العمل برواياته ؛ لأنّ القائلين بوجوب تقليد الأعلم يوجبون الرجوع إلى الرواية عنه أيضا ، أمّا الملازمة فثابتة بالأولويّة ؛ لأنّ الإمام أولى بالاتباع عينا عن المجتهد الأعلم. وإلاّ بطلان التالي بالضرورة والبداهة ؛ لأن عوام زمن الإمام عليه السلام كانوا يأخذون معالم دينهم من الصحابة ولم يكونوا مقتصرين على الأخذ عن الإمام عليه السلام ، ورواية أبان بن تغلب كالصريحة في نفي ذلك والسيرة المستمرّة شاهدة عليه.

وجوابه : أنّ رجوعهم إلى الصحابة في الجملة مسلّم لكنّه غير مجد وإنّما المجدي الرجوع إليهم مع العلم بالاختلاف ، وهذا غير معلوم ، بل معلوم عدمه ، كيف لا مع أنّ مخالفة الإمام عليه السلام توجب القطع ببطلان الفتوى ، ولم نسمع أحدا يدّعي جواز التقليد مع العلم بالبطلان فضلا عن وقوعه.

هذا مع أنّ قياس المجتهد الأعلم بالإمام عليه السلام فيه ممّا يشمئز منه النفس كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره : من أنّه كان عليهم العمل بالرواية ، ففيه : أنّ المقلّد ليس له أهلية لذلك ، ولو فرض الكلام فيمن كان له التقليد والعمل بالرواية بناء على جوازهما في حقّ أصحاب الأئمة ؛ لعدم الفرق بين الفتوى والرواية في ذلك الزمان ، نقول : إنّ الأخذ بالفتوى المعارضة بالرواية حينئذ أخذ بأحد المتعارضين ، وهذا غير مربوط بالمقام كما لا يخفى.

ومنها : السيرة المستمرّة بين أهل التقليد من السلف إلى هذا الآن ، إذ من المعلوم : أنّ عوام كلّ عصر في كلّ مصر من يومنا هذا إلى زمن الأئمة عليهم السلام لم يكونوا ينادي (1) الرجل في طلب المجتهد الأعلم إلى الأطراف والجوانب ، بل

ص: 659


1- كذا في الأصل.

كانوا يعتمدون على قول كلّ فقيه جامع لشرائط الفتوى واختلاف مراتب العلم والآراء في طائفة الفقهاء والمجتهدين والرواة والمحدّثين لا يزال كان ثابتا. وكذلك إفتاء المفضولين من الصحابة ، ولم نسمع أنّ أحدا من الأئمة والصحابة منع من الأخذ بقول الفقيه وألزمهم بالرجوع إلى الأعلم ، مع أنّ التقليد من الامور المهمّة التي ينبغي كمال الاهتمام بشأنها. وقد تمسّك بها الحاجبي (1) والعضدي (2) وجماعة على ما حكي عنهم (3).

وجوابه أيضا يظهر ممّا قدّمنا في الأخبار الخاصّة (4) ؛ لأنّ اختلاف صحابة النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام كان نادرا في الغاية ، ومع ذلك فصورة العلم بالاختلاف كان أندر ، ومن أين ثبت أنّ الإمام عليه السلام أو بعض أصحابه قد علم بتقليد المفضول مع علم المقلّد بمعارضة قوله مع قول الأفضل منه ، ولم يمنعه كيف؟ مع أنّ العلم بذلك في زماننا مشكل ؛ فإنّا لم نجد أحدا يقلّد فقيها مع اعترافه وعلمه بأنّ غيره الأفقه مخالف له في الفتوى ؛ إذ الغالب الشائع في تقليد المفضول إنكار مقلّده أفضلية غيره عنه ، أو عدم اختلافهما فيما يفتيان لمقلّديهم ، أو عدم علمهم باختلافهما ، وإلى ما ذكرنا يشير ما عن النهاية (5) والمنية (6) من منع السيرة.

ص: 660


1- انظر المختصر وشرحه : 484.
2- انظر المختصر وشرحه : 484.
3- حكاه العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447 ، والسيّد العميدي في المنية : 349 ، وانظر مفاتيح الاصول : 628.
4- راجع الصفحة : 657.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 447.
6- منية اللبيب : 447 ، وحكى عنها السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 628.

ومنها : لزوم العسر والحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل ، خصوصا إذا كان المراد به من كان أفضل عصره ، كما لعلّه الظاهر من كلام المانعين.

وفيه : أنّ العسر المدعى به إمّا أن يكون في تشخيص الأعلم ، أو في الرجوع إليه من البلدان النائية ، أو في العمل بفتاويهم. والجميع كما ترى قول ظاهريّ غير أصيل :

أمّا الأول ، فلأنّ تشخيص الأعلم ليس إلاّ كتشخيص أصل المجتهد ، فكما أنّ معرفة أصل الاجتهاد في تشخيص المجتهد ليس فيها العسر والحرج ، كذلك معرفة أعلميّته من غيره. وحلّه : أنّ الأعلميّة موضوعة (1) من الموضوعات المعروفة كالاجتهاد ، يمكن إحرازها بالرجوع إلى أهل الخبرة ، خصوصا بعد ملاحظة اعتبار مطلق الظن في تشخيص الأعلميّة دون الاجتهاد ، كما سيأتي.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الرجوع إلى الأعلم يتقدّر بقدر الإمكان الغير البالغ حدّ العسر والحرج ، فإن اقتدر على أخذ فتاوى الأعلم المطلق من غير عسر بلا واسطة الرسالة أو العدول - كما هو الغالب بعد فتح باب تأليف الرسائل وإيصالها إلى البلدان النائية - تعيّن الأخذ بها ، وإلاّ تعيّن الرجوع إلى غيره مراعاة للأفضل فالأفضل.

والحاصل : أنّ المراد بالأفضل وإن كان أفضل أهل عصره إلاّ أنّ المناط مطّرد في الأفضل الإضافي بعد تعذّر الأخذ من المطلق ، فلا حرج حينئذ في شيء.

ص: 661


1- كذا ، والمناسب : الموضوع.

وأمّا الثالث ، فلأنّ الأعلميّة لا تقتضي صعوبة العمل بالفتوى ، بل ربّما يكون العمل بفتاوى غير الأعلم أصعب ، لكثرة إفتائه بالاحتياط باعتبار عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة مثل الأعلم ، خصوصا إذا كان خائضا في بحر التقوى والورع ، وهذا واضح.

وقد استدلّ على الجواز بوجوه أخر ضعيفة أعرضنا عنها ؛ لأنّ فيما ذكرنا غنية عن غيره.

[ وجوه القول بوجوب تقليد الأفضل ] :

حجّة المختار - زيادة عمّا سمعت من الأصل السالم عن المعارض ، والإجماعات - : الأخبار والاعتبار :

أمّا الأخبار : فمنها مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة ، « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث - إلى أن قال - : فإنّ كلّ واحد منها اختار رجلا من أصحابنا فتراضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر ... » (1).

دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم اللّه تعالى.

لا يقال : المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة الرجلين في دين أو ميراث ، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه.

ص: 662


1- الكافي 1 : 67 ، الحديث 10 ، ومن لا يحضره الفقيه 3 : 8 ، الحديث 3233 ، والتهذيب 6 : 301 ، الحديث 845 ، وعنها في الوسائل 18 : 75 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

لأنّا نقول :

أوّلا : أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم والفتوى ، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضا. وقد اعترف بهذا الإجماع صاحب المفاتيح (1) في ظاهر كلامه ؛ لأنّه اقتصر في المناقشة عليها : بأنّها لا تناول (2) غير صورة اختلاف الحكمين فلا بدّ من ضميمة الإجماع المركّب ، وهو ممنوع. فلو كان التفصيل بين الفتوى والحكم ممكنا عنده لكان منع دلالتها على المدّعى في اختلاف الفتوى أولى بالمناقشة. اللّهم إلاّ أن يكون الحكم المشتمل عليه الرواية عنده أعمّ من الفتوى ، فالمسألتان حينئذ من باب واحد متساويتا الأقدام في الاندراج تحت الحديث ، غير أنّ صورة عدم الاختلاف في الحكم الأعم من الفتوى يحتاج في ثبوت الحكم فيه إلى الإجماع المركّب الذي منعه. نعم ظاهر صاحب الإشارات (3) عدم ثبوت الاجماع المركّب ، حيث حمل الحكم على الحكم المصطلح أعني القضاء. ثمّ استدلّ في تعارض الفتوى بالفحوى وتنقيح المناط ، وفي غير هذه الصورة لعدم (4) القول بالفصل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا ( دام ظله العالي ) وهو كذلك. نعم ، الظاهر أنّه لا عكس ، فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم وإن كان الحق خلافه كما ستعرف.

ص: 663


1- مفاتيح الاصول : 628 ، وانظر الصفحة 632 أيضا.
2- كذا ، والأنسب : تتناول.
3- لم نعثر عليه.
4- كذا ، والمناسب : بعدم.

وثانيا : أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء أعني القضاء ، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى مثل قوله تعالى في غير موضع : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ ) (1) الآية. يدلّ على ذلك - زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الحكم » - : قول الراوي : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » فانّ المتبادر كونه بيانا لاختلاف الحكم ، ومن الوضح : أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافا في الحديث. نعم الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام اختلاف في الحديث ؛ نظرا إلى اشتراك الفتاوى ورواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام عليه السلام عموما أو خصوصا ، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافا في الحديث ، وكذا يدلّ عليه قول الإمام عليه السلام : « الحكم ما حكم به أصدقهما في الحديث » فإنّ صدق الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث ، دون القضاء. ودلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء ؛ لأنّ المتنازعين ربما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم المشروع ، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء. والظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة ، لا من جهة الاختلاف في الموضوع ومرجعه إلى الادّعاء والإنكار ، وإلاّ لما كان لاختيار كلّ منهما حكما وجه ؛ فإنّ فصل الخصومة حينئذ يحصل من حكم واحد.

واعلم أنّ جمع الحكمين والحكّام في مسألة أو نزاع يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع.

والثاني : أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطأ.

والثالث : أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض ، ومن الباقين إنفاذ

ص: 664


1- سورة المائدة : 44 و 45 و 47.

حكمه وإمضائه ، ولا ريب أنّ الفرض الغالب المتعارف من جميع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين.

وأمّا الصورة الاولى فبعيدة في الغاية ، ولم نسمع وقوع ذلك في شيء من الأزمنة.

ولو جهلنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شيء من الصور.

أمّا على الأخيرتين فواضح ؛ لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين والمفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلاّ من أحدهم.

وأمّا على الصورة الاولى ، فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ، ينافيه ما فيها بعد ذكر المرجّحات « قال : فقلت : إنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك » فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات والأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين :

أحدهما : أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين ، والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعا.

والثاني : أنّه إذا تعارض الحكمان ولم يكن في أحد الحاكمين مزيّة على الآخر في شيء من الأوصاف المزبورة ، فالمرجع حينئذ هو أسبق الحكمين ، بل لا يبقى في صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر. ولو حمل الرواية على ما إذا كان الحكمان يتساقطان حينئذ فلا وجه للأخذ بالمرجّحات.

ومن هنا ظهر أنّ ما حكاه شيخنا ( دام ظلّه العالي ) عن الشهيد : من حمل الرواية على هذه الصورة إنكارا على من تمسّك بها لتقديم حكم الأعلم والأورع

ص: 665

ليس في محلّه مع أنّه قدس سره اعترف في محكي المسالك (1) بدلالة الرواية نصّا على تقديم الأعلم في الفتوى لا بدّ من حمل الحكم المذكور على المعنى اللغوي ، أي الحكم بما أنزل اللّه ، وهو الفتوى ؛ فإنّها تنطبق على جميع الصور المزبورة في غاية الوضوح ، فإنّ اختلاف الفتاوى لا ينافي شيئا من المقاصد الثلاثة ، كما أنّ السبق واللحق في الفتاوى المتعارضة لا عبرة بهما جدّا ؛ ولذا تمسّك بهذه الرواية غير واحد من الأعاظم على تعيين الأعلم ، مثل الفاضل الهندي (2) والفاضل المازندراني (3) على ما حكي عنهما (4).

ومنها : رواية داود بن حصين عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى قول أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا ، وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر » (5).

ومنها : خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « عن رجل يكون بينه وبين آخر منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟ قلت : كلّ منهما الذي اختاره الخصمان. فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه » (6).

والتقريب منهما ما قدّمناه في المقبولة.

ص: 666


1- انظر المسالك 13 : 344 - 345.
2- كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) 2 : 320 - 321.
3- شرح الزبدة : 261.
4- حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : 627.
5- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20.
6- الوسائل 18 : 88 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 45.

ومنها : المروي عن نهج البلاغة (1) عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في كتابته (2) إلى مالك الأشتر ، نقله صاحب المفاتيح وكان الذي يحضرني من نسخته مغلوطا ؛ ولذا أعرضنا عن ذكره ، والقدر المعلوم منه أمر المالك (3) باختيار الأبصر والأفضل للحكم بين الناس.

وأمّا الدليل الاعتباري العقلي ، فهو أنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى من قول غيره ، فيجب العمل به عينا ؛ لأنّ العدول من أقوى الأمارتين إلى أضعفهما غير جائز.

أمّا الصغرى فوجدانيّة ؛ لأنّ لزيادة العلم تأثيرا آخر في إصابة الواقع.

وأمّا الكبرى ، فمع إمكان دعوى الاتّفاق عليها - كما يظهر من تتبع أقوال العلماء في تعارض الأخبار - يشهد بها بداهة العقل. وقد يتمسّك بهذه الحجّة في محكي النهاية (4) والتهذيب (5) والمنية (6) والمعالم (7) وكشف اللثام (8) وشرح الزبدة للفاضل المازندراني (9).

ص: 667


1- نهج البلاغة : 434 ، الكتاب 53.
2- كذا في المصدر.
3- كذا ، والأنسب : مالك ، ولعلّه اخذ بمعناه الوصفي ، كما هو المألوف في تعبيراتهم : كالتقي والمحسن والمرتضى ، ونحوها.
4- نهاية الوصول : 447.
5- تهذيب الوصول : 105.
6- منية اللبيب : 369.
7- معالم الدين : 246.
8- كشف اللثام ( الطبعة الحجرية ) 2 : 320 - 321 ، حكاه عنه في المفاتيح : 626.
9- شرح الزبدة ( المخطوط ) : 261.

واورد عليه :

تارة بمنع الصغرى ، واخرى بمنع الكبرى.

أمّا منع الصغرى ، فقد صدر عن جماعة من المحقّقين : كالنراقي (1) ، والقمّي (2) ، وصاحب المفاتيح (3) ، والفصول (4). وقد سبقهم على ذلك الشهيد الثاني في محكي المسالك (5) ، حيث قال - بعد تقرير الدليل المزبور - :

وفيه نظر ؛ لمنع كون الظن بقول الأعلم مطلقا أقوى ؛ فإنّ مدارك الظن لا تنضبط ؛ خصوصا في المسائل الشرعيّة ، فكثيرا ما يظهر رجحان ظنّ المفضول على ظنّ الفاضل في كثير من المسائل الاجتهادية. وفرق بين أقوال المفتين وأدلّة المستدل ؛ لأنّ المستدلّ يمكنه ترجيح بعض الأدلّة على بعض ، بخلاف العامي بالنسبة إلى الأقوال ، انتهى.

وربّما يلوح ذلك من الأردبيلي أيضا في محكي مجمع البرهان ، حيث قال : لا شكّ أنّه لو قطع النظر عن جميع الامور الخارجيّة يحصل الظن بقول الأعلم (6) ؛ فإنّ التقييد بقطع النظر عن الامور الخارجيّة يدلّ على أنّه بملاحظتها ربّما يتعاكس الأمر فيحصل القوّة في الظنّ الحاصل من قول غير الأعلم ، ولعلّ هذا مراد غيره من النافين أيضا ، فإنّهم لا ينكرون كون الأعلميّة مستلزمة للظن الأقوى في ذاتها

ص: 668


1- مناهج الأحكام والاصول : 300.
2- القوانين 2 : 246 - 247.
3- مفاتيح الاصول : 626.
4- الفصول : 423 - 424.
5- المسالك 13 : 344 - 345.
6- مجمع الفائدة والبرهان 12 : 21.

مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، قال في محكي المفاتيح (1) : إنّ إطلاق كون الظنّ بقول الأعلم ممنوع إذ مع كون قول غير الأعلم موافقا لقول مجتهد آخر حيّ أو ميّت أو أكثر سيّما إذا زعمهم المقلّد أعلم ، فكيف يحصل الظنّ الأقوى من قول الأعلم ، بل مع تجويزه موافقة بعض المجتهدين للأدون لا يصير الظنّ بقوله أدون. وكذلك لو لم يكن ذلك الموافق للأدون أعلم من الأعلم ، بل ولا المتساوي أيضا. ومن هذا يظهر عدم ترتّب فائدة على التمسّك بعدم أعلميّة الغير ، مع أنّه لا يمكن هذه الدعوى إذا لوحظت فتاوى الأموات ، انتهى.

ويقرب منه ما ذكره رحمه اللّه في القوانين (2) ، حيث قال - بعد أن ذكر الدليل المزبور وادّعى كون تشبيههم المقام بأمارتي المجتهد قياسا - : والتحقيق : أنّهم إن أرادوا أنّ عمل المقلّد بظنّ مجتهده إنّما هو لأجل أنّه محصّل للظن بحكم اللّه الواقعي ، والمجتهدان المختلفان أمارتان على ذلك الحكم كأمارتي المجتهد عليه.

ففيه : أنّه لا يتمّ على الإطلاق ؛ فإنّ مقلّدا كان في بلده مجتهدان : أحدهما أعلم من الآخر وهما مختلفان في الفتوى وفرض في عصره وجود مجتهدين آخرين في بلاد آخر ، فكيف يحصل الظنّ بأنّ قول أعلم المجتهدين في بلده هو حكم اللّه الواقعي دون من هو أدون منه؟ مع احتمال أن يكون بعض المجتهدين الذين في البلاد الآخر مخالفا لذلك الأعلم وموافقا للأدون مع كونه مساويا للأعلم

ص: 669


1- لم نعثر عليه في المفاتيح ، بل هو موجود في مناهج الأحكام والاصول : 300 ، والظاهر أنّه سهو القلم ويؤيّد ذلك ما جاء في الصفحة : 671 ، قال : وأمّا ما ذكر الفاضلان النراقي والقمّي ...
2- القوانين 2 : 246.

في العلم ، أو أعلم منه؟ إلى آخر ما قال وأطال في إثبات هذا المرام ، أعني : إمكان حصول الظنّ الأقوى من قول الأدون بملاحظة المرجّحات الخارجيّة ، كموافقة أعلم آخر ، أو المشهور ، أو غير ذلك.

وقال في الفصول : إنّ المقلّد قد يقف على مدارك الفريقين فيترجّح في نظره فتوى المفضول (1).

والجواب : أنّهم إن أرادوا من منع الصغرى إثبات التسوية بين الأعلم والأدون من حيث الظنّ في حدّ ذاتهما مع قطع النظر عن الامور الخارجيّة ، فهذه مكابرة واضحة تشهد بخلافها البداهة والوجدان ؛ إذ لا شكّ في أنّ لزيادة العلم والبصيرة بمدرك المسألة ومعارضاتها وطريق الاستنباط زيادة تأثير في إصابة الواقع ، كما اعترف به المولى الأردبيلي ، وإلاّ لم يتفاوت بين العالم والجاهل أيضا ، كما لا يخفى.

وإن أرادوا أنّ قول الأدون ربما ينضمّ إلى الظنّ الحاصل منه بعض الظنون الاخرى المستندة إلى امور خارجيّة فيقوى لأجل ذلك ، بحيث يفوق على الظنّ الحاصل من قول الأعلم ويساويه.

ففيه : أنّ الظنون التي تحصل للمقلّد بملاحظة الامور الخارجيّة ممّا لا عبرة به أصلا على القول بكون التقليد من الظنون الخاصّة الثابت حجّيتها من الأدلّة الشرعيّة ؛ وذلك لوجوه :

الأوّل : أنّه لا دليل على اعتبار هذه الظنون في مقام تقوية الأمارة وترجيحها على معارضها بعد أن كان مقتضى الأصل عدم الاعتبار ؛ فإنّ قوة

ص: 670


1- الفصول : 424.

الأمارة إمّا تحصل باعتبار ما فيها نفسها من الأوصاف المقربة للواقع كالأعلميّة والأورعيّة والأوثقيّة ونحوها من المرجّحات الداخليّة والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك ، أو باعتبار تعاضدها بمثلها ، أو بأقواها من الأمارات المعتبرة الثابت حجّيتها بدليل قاطع ، والمفروض عدم كونها كذلك أيضا ؛ فإنّ الشهرة مثلا على القول بأنّ وظيفة المقلّد هو التقليد دون العمل بمطلق الظنّ ، ليس من الأمارات المعتبرة في حقّ المقلّد فمن أين يحصل بسببها قوّة في قول الأدون تتكافأ قوّة الظنّ الموجودة في قول الأعلم.

وأمّا ما ذكره الفاضلان النراقي (1) والقمّي (2) رحمهما اللّه : من أنّ موافقة قول المفضول أحيانا لقول المجتهدين الآخر ربّما توجب القوّة في الظنّ الحاصل من قوله.

ففيه : أنّ ذلك المجتهد المفروض موافقة قوله لقول الأدون إن كان أعلم ممّن فرض أعلميّته عن الأدون أو لا تعيّن عليه العمل بقوله ، وإلاّ فلا أثر في موافقته جدّا ؛ لأنّ توافق أقوال المجتهدين ليس كتعارض الأخبار في الغلبة على المعارض ؛ لأنّ مناط القوّة والضعف في كلّ منهما شيء وراء المناط في الآخر ، فالمدار في قوّة الأقوال حسن نظر صاحبها ومهارته في تميّز (3) الصواب والخطأ في الامور الاجتهادية ، ومناط قوّة الرواية تحرّز الراوي عن الكذب واكتناف الرواية بما يؤكّد الظنّ بصدورها ، فإذا توافق الأدونان لم يترتّب على موافقتهما شيء لا يترتّب على صورة المخالفة ، فالظنّ الحاصل من قول الأعلم المعارض

ص: 671


1- المناهج : 300.
2- القوانين 2 : 246.
3- كذا ، والمناسب : تمييز.

لهما حينئذ باقى أيضا على قوته الشأنية الذاتية والسرّ في ذلك : أنّ الأنظار المتقاربة والأفهام المتشابهة لا يحصل من توافقها ظنّ يترجّح على الظنّ الحاصل من قول أصوبهم في الإنكار.

ومن هنا انقدح الفرق بين تعاضد الأخبار وتوافق الأقوال ؛ فإنّ الأوّل ربّما يوجب تقديم المتعاضدين على معارضهما الأصحّ ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ وجوده وعدمه سيّان في وجوب الأخذ بغيرهما إذا كان أقوى.

فإن قلت : قد ذكرت فيما تقدّم : أنّ الأصل في التخييرات العقليّة الأخذ بكلّ ما يحتمل كونه مرجّحا وإن لم يقم دليل دلّ على مرجّحيته ، وعليه بنيت تقديم قول الأعلم ، ولا ريب أنّ موافقة قول الأدون ؛ للامور الخارجيّة المفيدة للظنّ ممّا يحتمل كونه مرجّحا ، فلا وجه لعدم الأخذ بها.

قلنا : ما ذكرنا إنّما هو فيما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين ، لا بين المتباينين كما في المقام.

فإن قلت : بناء الأصحاب في التعادل والتراجيح على ترجيح الأخبار بالمرجّحات الخارجيّة التي لم يقم دليل على حجّيتها إذا لم يكن قد قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس ، وقول المجتهد أيضا طريق ظنّيّ للمقلّد ، فما الفارق بينهما؟

قلنا :

أوّلا : أنّ ترجيح الأخبار بمطلق المرجّحات أمر مستفاد من إشارات أخبار التراجيح وتلويحاتها ، ومثل هذه الأخبار مفقودة في المقام.

وثانيا : أنّ حجّية الأخبار إنّما هي لأجل إفادتها الظنّ في نظر العاملين بها كالمجتهدين ، وحيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظنّي اعتبر نظرهم في طلب المرجّحات عند التعارض.

ص: 672

وأمّا حجيّة أقوال العلماء للعوام فليست لأجل إفادتها الظنّ في نظر القاصرين ، بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا ، فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجّحات.

والحاصل : أنّ الشارع لمّا وجد العوام قاصري النظر في الامور العلميّة جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبّديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة للواقع وأمرهم بالرجوع إليهم من غير النظر والفحص عن شيء ، فكأنّه صار نظرهم عنده ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات.

والثاني : أنّ ظنون المقلّد التي تحصل له من غير الطريق الشرعي المعيّن له ممّا لا يكاد ينضبط بضابط ، فربما يحصل له الظنّ من قول عاميّ آخر ، أو من الرمل والجفر والنجوم ونحوها ، وربّما يترجّح في نظره المفضول بملاحظة حسبه ونسبه واشتهاره بين العوام ، فإما نجوّز له الاعتماد على كلّ ظنّ خارج عن الطريق المخصوص في مقام الترجيح ، أو نمنع عن الاعتماد عليها مطلقا ؛ لأنّ المناط منقّح ، والفارق مفقود ولا سبيل إلى الأوّل لأدائه [ إلى ](1) مفاسد عظيمة في هذا الدين ، وإلى الهرج والمرج كما لا يخفى على المنصف فتعيّن الثاني.

والحاصل : أنّ تأكّد الظن الموجود في طرف الأعلم لا يعارضه شيء من الظنون الداخليّة ؛ لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تساوي الفاضل والمفضول في جميع الجهات غير الفضل ، فيجب اتباعه بحكم العقل القاطع بوجوب العمل بأقوى الأمارتين.

ص: 673


1- الزيادة اقتضاها السياق.

الثالث : إمكان دعوى الاتّفاق على سقوط إنكار العوام والمقلّدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات ، حتّى الترجيح. نعم ، قضية ما أسّسه الفاضل القمّي رحمه اللّه من الأصل كون المقلّد كالمجتهد في الأخذ بالأمارات كائنا ما كان ، ولكنّه لم أجد موافقا له في ذلك ، كما مرّ غير مرّة ؛ فإنّ كلّ من أجاز التقليد جعله من الظنون الخاصّة الثابت حجيتها بالدليل ، لا من الظنون المطلقة الناشئة من الدليل الرابع في حق المقلد.

وبالجملة ، ما ذكره الجماعة في منع صغرى الدليل المزبور بعد تسليمه مما لا يقدح في تماميّته ؛ لأنّ حصول الأقوى من الأدون بملاحظة موافقته لبعض الامور وعدمه سيّان في عدم مصادمته ومقاومته لقول الأعلم. نعم ، يمكن المناقشة في الصغرى بوجه آخر ؛ لأنّ قول المفضول ربما يكون مفيدا للظنّ الأقوى من حيث الأمور الداخلية ، مثل أن يكون قوّة الظن مستندة إلى فحصه وبذل جهده زيادة عمّا يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص ؛ فإنّ هذا الظن مستند إلى قول المفضول نفسه ، فيكون معتبرا لحصوله من الطريق الشرعي.

ولا يتوهم : أنّ الأعلميّة تنافي نقصان فحص الأعلم عن فحص المفضول ؛ لأنّ التعدّي عن المقدار المعتبر من الفحص ليس بواجب على المجتهد ؛ فقد يقتصر الأعلم على ذلك المقدار ويتعدّى المفضول عنه فيحصل الظن من قوله أقوى من الظن الحاصل من قول الأعلم المقتصر على القدر الواجب من الفحص ؛ لأنّ ذلك غير مناف أيضا للأعلميّة ؛ فإنّ زيادة العلم إنّما تجدي عند التساوي من جميع الجهات الداخلية المفيدة للظن. وستعرف الكلام في هذا الفرض وأنّه يحتمل فيه وجوه ثلاثة.

وربّما اجيب عن منع الصغرى :

ص: 674

أوّلا : بأنّ فرض حصول الظن من قول الأدون نادر في الغاية وإن كان ممكنا سيّما في حقّ المتجزّي ومن دونه من المحصلين البالغين رتبة من العلم ، وبناء الشرع على الغالب ، فينزل عليه ما دلّ على وجوب الأخذ بأقوى الأمارتين.

وفيه : أنّ دليله المعتمد عليه إنّما هو العقل ، وهو غير فارق بين الغالب والنادر.

وثانيا : أنّه إذا ثبت وجوب تقليد الأعلم يحصل الظنّ الأقوى من قوله ، فيثبت فيما عداه من الصور ؛ لعدم القول بالفصل. ثمّ قال : لا يقال : يمكن معارضة هذا بمثله فيما لو حصل الظنّ الأقوى من قول المفضول.

لأنّا نقول : هذا حسن لو لم ينعقد الإجماع على عدم تعيين تقليد المفضول مطلقا ، وأمّا معه كما هو الظاهر ، فلا.

سلّمنا ، لكن نقول : حيث حصل التعارض وجب الرجوع إلى الترجيح ، ومعلوم أنّه (1) مع ما دلّ على وجوب العمل بقول الأعلم.

وأمّا منع الكبرى ، فهو صريح القوانين والمفاتيح ، وربّما نقل عن مناهج النراقي (2) أيضا.

وحاصله : أنّ تعيين الأعلم لقوّة الظنّ الحاصل من قوله ، إنّما يتمّ إذا كان المناط في التقليد حصول الظنّ لا التعبّد ، فعلى تقدير كونه تعبّدا محضا راجعا إلى نحو من السببيّة المطلقة - كالعمل بالبيّنة عند القائلين بها تعبّدا - فلا وجه لملاحظة قوّة الظن وضعفه ، بل بحسب الاعتماد على أحدهما تخييرا كما في البيّنة

ص: 675


1- أي الترجيح.
2- انظر القوانين 2 : 246 - 247 ، ومفاتيح الأصول : 626 ، ومناهج الأحكام والاصول : 300.

المتعارضة. وإلى هذا أشار في القوانين حيث قال بعد منع الصغرى : ودعوى كون المدار على ظنّ المقلّد الحاصل من أيّ شيء وإن أرادوا أنّ ذلك - مشير (1) إلى التقليد - حكم آخر ينوب مناب الحكم الواقعي تجوّز العمل بالظنّ وإن لم يحصل الظن بالحكم الواقعي كالتقيّة النائية عن مرّ الحق ، فلا دليل على وجوب الترجيح ؛ فإنّ الذي ثبت من الدليل : أنّه إذا لم يكن للمقلّد العلم بحكم اللّه الواقعي يجوز العمل بظن كلّ من تمكّن من استنباط الحكم من هذه الأدلّة ، وأمّا إن ظنّ هذا الشخص هل هو كاشف عن الواقع أم لا فلا يحتاج إليه على هذا الفرض ، وحينئذ فلا دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى لاعتبار الأقوى والأقرب والأرجح ؛ لأنّ قولنا : « حكم اللّه الظاهري هو ما كان أرجح » لا بدّ له من متعلّق ومن بيان أرجحيّته في أيّ شيء (2) ، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

وجوابهم : ثبوت الواسطة بين ما زعموه من الظنّ الشخصي والتعبّد المحض ؛ لأنّ حجّية الأمارات تارة تناط بحصول الظنّ الشخصي واخرى بحصول الظنّ النوعي.

وأيضا أنّ كلّ الأمارات الشرعيّة أو جلّها حجّيتها إنّما هي من أجل إفادتها الظنّ شأنا ونوعا ، لا شخصا وفعلا ، ولا تعبّدا محضا ، يدلّ على ذلك في المقام :

أوّلا : الأصل المقرّر في نظائر المقام ، كما مرّ غير مرّة ؛ لأنّ البناء على التعبّد المحض يقتضي البناء على التخيير فيما إذا اختلفت الأمارتان بحسب الظنّ النوعي ؛ بخلاف البناء على كون حجّيتها من جهة الظن النوعي ؛ فإنّ مقتضاه متابعة الأقوى خاصّة اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، كما ظهر وجهه غير مرّة.

ص: 676


1- كذا ، والمناسب : مشيرا.
2- القوانين 2 : 246 - 247.

وثانيا : اشتمال جملة من الأخبار الخاصة التي هي عمدة أدلة شرعيّة التقليد على قدح المفتي بالوثاقة وصدق الحديث ، وهذا يفصح عن كون اعتبار الفتوى من جهة إفادتها الظنّ نوعا.

والحاصل : أنّه لا إشكال في أنّ بناء التقليد ليس على السببية المحضة والتعبّد المحض ، وما ذكروه : من عدم ملاحظة مراتب الظنون ، إنّما يتّجه في الامور التعبّدية المحضة الراجعة إلى السببية المطلقة ، وأمّا في الطرق المعتبرة من حيث إفادتها الظنّ نوعا لا شخصا ؛ فلا ضرورة قضاء بداهة العقول بمراعاة أقوى الأمارتين التي حجّيتهما من جهة الظن النوعي.

وبالجملة : ليس الأمر كما توهّمه الفاضل القمّي رحمه اللّه من كون التقليد أحد الظنون المطلقة الشخصيّة حتّى يتّجه الأخذ بقول الميّت والمفضول إذا كان الظن الحاصل منه أقوى من الحيّ الأعلم ، ولا كما زعمه المانعون عن الكبرى : من كونه تعبّدا محضا حتّى ينهدم أساس الأخذ بأقوى الأقوال نوعا ؛ بل أمر بين الأمرين ، وقصد بين الإفراط والتفريط. واللّه العالم.

وربما استدلّ على وجوب تقليد الأعلم بأمور أخر زيادة عمّا ذكرنا :

منها : ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح (1) : من أنّ تقليد المفضول مع وجود الأفضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح. وهذا في الحقيقة دليل من الأدلّة المستدل بها على كبرى القياس المزبور ، ويحتاج في تقريبه إلى فرض سقوط الظنون الخارجيّة التي تحصل للمقلد عن الاعتبار ، كما هو الحقّ ، وإلاّ فمن الواضح عدم جريانه إذا تساوى الظنّان أو كان الظنّ الحاصل

ص: 677


1- حكاه عنهما في مفاتيح الاصول : 626 ، وانظر كشف اللثام ( ط. الحجريّة ) 2 : 320، وشرح الزبدة ( المخطوط ) : 261.

من قول الأدون أقوى ؛ لأنّ المناط في الرجحان والمرجوحيّة في حكم العقل هو الرجحان الشخصي متى لم يقم دليل قطعي عنده على عدم الاعتداد به ، ومن ذلك يظهر : أنّ منع الأردبيلي في محكي المجمع (1) عن الملازمة المزبورة استنادا إلى إمكان وجود الرجحان في قول المفضول أحيانا ليس بقادح في الاستدلال.

ومنها : ما عن الفاضل في النهاية (2) من أنّ الأعلم له مزية ورجحان على الأدون ، فيقدّم كما قدّم في الصلاة. وهذا إن رجع إلى قاعدة الأخذ بأقوى الأمارتين فهو ، وإلاّ - كما هو الظاهر من التنظير بالصلاة - فلا نرى له وجها. ومع ذلك فلا يفيد إلاّ الاستحباب.

ولو قال مكان قوله : « كما قدم في الصلاة » ، « كما قدم في الإمامة » لكان أولى.

ومنها : أنّ تجويز تقليد المفضول تسوية بينه وبين الأفضل وينفيها قوله تعالى : ( ... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ) (3). وربما عكس الاستدلال به على الجواز ، كما أشرنا إليه في ذكر حجج المثبتين ، وإلى ما فيه من المناقشة.

وهذا ختم الكلام في تنقيح أصل المسألة. بقي الكلام في أطرافها ويتمّ في بيان امور :

الأوّل : لا يذهب عليك أنّه على فرض تماميّة أدلّة المجوّزين يجوز للعامي الرجوع إلى الأدون ابتداء من دون الرجوع إلى الأعلم ؛ لأنّ المسألة من الخلافيّات التي وظيفتها الاجتهاد أو التقليد ، ولا سبيل للمقلّد إلى الأوّل ؛

ص: 678


1- مجمع الفائدة 12 : 21.
2- نهاية الوصول : 447.
3- الزمر : 9.

لقصوره عن فهم أدلّة القولين ، فتعيّن الثاني. وتقليد أحد المفضولين بتقليد المفضول الآخر يؤدّي إلى الدور والتسلسل كما لا يخفى ، فثمرة البحث في تقليد الأعلم إنّما تعود إلى المجتهد إذا سأله العامي عن جواز تقليد المفضول. نعم ، إذا كان المقلّد غافلا عن الخلاف في المسألة فيرجع (1) إلى الأدون ، صح (2) عمله على القول بجواز تقليده ؛ بناء على صحة عبادات الجاهل.

ومثله من تمكّن عن نيّة القربة في العبادات من الملتفتين إلاّ أنّه فرض لم نتحقّق إمكانه ؛ فإنّ الالتفات إلى الخلاف يستلزم الشكّ في صحّة العبادة التي قلّد فيها الأدون ، فكيف يتحقّق الجزم بالقربة.

والثاني : الأعلم من كان أقوى ملكة وأشدّ استنباطا بحسب القواعد المقرّرة ، ونعني به من أجاد في فهم الأخبار مطابقة والتزاما إشارة وتلويحا ، وفي فهم أنواع التعارض وتميّز (3) بعضها عن بعض ، وفي الجمع بينهما بإعمال القواعد المقرّرة لذلك مراعيا للتقريبات العرفيّة ونكاتها ، وفي تشخيص مظانّ الاصول اللفظية والعمليّة ، وهكذا إلى سائر وجوه الاجتهاد وأمّا أكثر (4) الاستنباط وزيادة الاستخراج الفعلي مما لا مدخليّة له.

كتبه العبد الحقير الفقير زين العابدين بن محمّد شريف القزويني في دار الخلافة طهران ، في شهر رجب المرجب 1308 ه ، قد يرجى من الناظرين أن يطلبوا المغفرة لباني هذا الكتاب وكاتبيه ووالديهم.

ص: 679


1- كذا ، والأنسب : فرجع.
2- كذا ، ولعله : وصحّ ....
3- كذا ، والمناسب : تمييز.
4- كذا ، والمناسب : أكثريّة.

ص: 680

الفهرس

ص: 681

ص: 682

الفهرس

القول في المفهوم والمنطوق

7 - 126

هداية - في بيان امور ترتبط بالمقام ... 9

الأوّل : أن المفهوم والمنطوق وصفان منتزعان من المدلول من حيث هو مدلول... 9

الثاني : هل المدلول منحصر في المفهوم والمنطوق أو لا؟ ... 10

الثالث : هل يدخل المدلولات الثلاث في المنطوق أو المفهوم؟ ... 11

الرابع : تعريف المنطوق والمفهوم ... 12

الخامس : تقسيم المنطوق إلى صريح وغيره ... 18

هداية - الكلام في مفهوم الجملة الشرطية ... 21

ذكر احتجاج القائلين بالمفهوم ... 28

ذكر احتجاج منكري المفهوم ... 30

ص: 683

هداية - هل النزاع في ثبوت المفهوم مختص بموارد الوصايا والأوقاف والأقارير أو يشمل الأعمّ منها؟ 37

هداية - وجوب تطابق المفهوم والمنطوق في جميع القيود المعتبرة في الكلام والاعتبارات اللاحقة له ، إلاّ في النفي والاثبات 41

هداية - حكم تعدّد الشرط ... 47

هداية - حكم تعدّد الأسباب واتحاد الجزاء ... 51

وجه القول بعدم التداخل والتفصّي عمّا يرد على مقدمات هذا الوجه ... 58

فائدتان - الأولى : حكم تعدّد الفعل في الخارج في التداخل السببي أو المسبّبي... 75

الثانية : حكم توارد الأسباب الشرعية على مسبّب واحد غير الفعل ... 76

هداية - الكلام في مفهوم الوصف ... 79

ذكر احتجاج منكري المفهوم ... 85

ذكر احتجاج المثبتين ... 86

تنبيهات - الأوّل : يشترط في ثبوت المفهوم عدم كون الوصف واردا مورد الغالب 88

الثاني : اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات 91

الثالث : التفصيل بين ما كان الوصف علّة وبين غيره ... 91

هداية - الكلام في مفهوم الغاية ... 93

المقام الأوّل : هل تدخل الغاية في المغيّا أم لا؟ ... 96

المقام الثاني : هل ينتفي الحكم المغيّا بعد حصول الغاية أم لا؟ ... 98

ص: 684

هداية - الكلام في مفهوم ما يفيد الحصر ... 105

هداية - الكلام في مفهوم اللقب ... 121

هداية - الكلام في مفهوم العدد ... 123

تذنيب - صور أخذ العدد في متعلق الحكم ... 125

القول في العموم والخصوص

127 - 238

هداية - الكلام في حجية العام المخصّص في الباقي ... 131

هداية - عدم صحة التعويل على العام عند عروض الاشتباه في أفراد المخصّص لو أخذ عنوانا 135

هداية - صحة التعويل على العام عند عروض الاشتباه في أفراد المخصص لو لم يؤخذ عنوانا 143

تنبيهات ... 148

هداية - تسرية إجمال المخصّص إلى العام ... 151

هداية - هل يجوز الأخذ بالعام قبل الفحص عن المخصّص ... 157

احتجاج القائلين بعدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص ... 161

احتجاج المجوّزين ... 172

تذنيب - الكلام في مقدار الفحص ... 179

هداية - إمكان شمول الخطاب للمعدومين على وجه الحقيقة ... 183

توضيح المرام بعد رسم امور : ... 183

الأول : تحرير العنوان ... 183

ص: 685

الثاني : معنى الخطاب ... 184

الثالث - هل النزاع عقليّ أو لغويّ؟ ... 186

الأقوال في المسألة ... 189

هل تشمل الخطابات القرآنية المعدومين والغائبين؟ ... 191

تنبيهات - الأوّل : عدم الفرق بين المعدوم والغائب عن مجلس الخطاب في عدم تحقّق المخاطبة 192

الثاني : هل تترتّب ثمرة عملية على هذه المسألة؟ ... 194

الثالث : شرطية اتحاد الصنفين في اشتراك المشافهين وغيرهم ... 198

الرابع : الكلام في اشتراك كل الامّة في الخطابات الشرعية ... 200

هداية - تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ... 205

هداية - تخصيص العام بمفهوم الموافقة وبلحن الخطاب ... 213

هداية - تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ... 219

هداية - الخاصّ المخالف لحكم العام قد يكون بيانا له وقد يكون ناسخا ... 227

التنبيه على امور مهمّة ... 231

القول في المطلق والمقيّد

239 - 291

هداية - تعريف المطلق ... 241

هداية - هل التقييد يوجب مجازا في المطلق أم لا؟ ... 249

تذنيب - عدم الفرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة أو النهي بها في تشخيص مداليل اللفظ 258

ص: 686

هداية - طريق إثبات الشياع والسريان في معنى اللفظ ... 259

هداية - شروط حمل المطلق على الإطلاق ... 263

هداية - صور حمل المطلق على المقيّد وعدمه ... 271

تنبيه : طريق استفادة اتحاد التكليف في المطلق والمقيد وتعدّده ... 274

تذنيبان - الأول : الكلام في دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد ... 277

الثاني : الكلام في الفرق بين الواجب والمستحبّ في حمل المطلق على المقيّد ... 281

هداية - حكم المطلق والمقيّد في الأحكام الوضعيّة ... 287

تذنيب يشتمل على فوائد ... 288

القول في المجمل والمبيّن

293 - 315

هداية - تعريف المجمل والمبيّن ... 295

تقسيمات المجمل ... 296

هداية - عدم الإجمال في آية السرقة ... 301

هداية - هل التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان يلازم الاجمال أم لا؟ ... 303

هداية - الكلام في أن مثل قوله « لا صلاة إلاّ بطهور » مجمل أم مبيّن؟ ... 307

تذنيبان - الأوّل : عدم الإشكال في بيان خصوص قوله صلى اللّه عليه وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » 313

الثاني : وجوه التصرّف في ما لو تعذّر الحمل على نفي الذات ... 314

ص: 687

القول في الأدلّة العقليّة

317 - 427

أصل - تعريف الدليل العقلي ... 319

أصل - الكلام في حجية الحكم العقلي المبنيّ على القول بالحسن والقبح العقليين... 327

تنقيح البحث في مقامين :

الأول : في إدراك العقل الحسن والقبح ... 333

الثاني : في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ... 335

المراد من قضيّة « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع » ... 344

أدلّة صاحب الفصول على نفي الملازمة الواقعيّة بين حكم العقل والشرع والتفصّي عنها 346

بيان أدلّة صاحب الفصول في إثبات الملازمة الظاهريّة وما يرد عليها ... 365

الوجوه الدالّة على الملازمة الواقعيّة بين حكمي العقل والشرع ... 371

التحقيق في الكلّية القائلة بأن « كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل »... 375

الاستدلال بآية « التعذيب » في نفي الملازمة والجواب عنه ... 378

أصل - هل الحسن والقبح ذاتيّان أو لا؟ ... 391

الأقوال والمختار في المسألة ... 391

تنبيهان - الأوّل : منشأ النزاع ... 396

الثاني : ثمرة النزاع ... 397

أصل - الكلام في أنّ الأصل في الأفعال الاختياريّة عقلا هل هو الإباحة الخطر أو الحظر؟ 399

ص: 688

ينبغي رسم امور :

الأوّل : الفرق بين هذه المسألة ومسألة أنّ الأصل العملي في مقام الشكّ في التكليف هو البراءة أو الاحتياط؟ 399

الثاني : تحرير محلّ النزاع ... 403

الثالث : بيان الأقوال في المسألة ... 411

حجج المبيحين وما يرد عليها ... 411

حجج القائلين بالحظر وما يرد عليها ... 415

تحقيق المسألة ... 416

تذنيب - هل القول بحجّية أصالة الاباحة موقوف على اعتبار الظن؟ ... 420

الكلام في اشتراط الحياة في المفتي

429 - 521

هداية - هل يشترط الحياة في المفتي؟ ... 431

احتجاج القائلين بعدم جواز تقليد الميت ... 436

هداية - في ذكر احتجاجات المجوّزين وما يرد عليها ... 455

العقل ... 455

الكتاب ... 469

السنة ... 476

الإجماع ... 487

هداية - الكلام في التفصيل المنسوب إلى الفاضل التوني في المقام ... 495

ص: 689

هداية - الكلام في تفصيل الجرجاني في المسألة ... 503

هداية - في بيان التفصيل بين الاستدامة والابتداء ... 505

احتجاجات القائلين بهذا التفصيل وما يرد عليها ... 508

هداية - إذا مات المجتهد ولم يكن في الأحياء من يجوز التعويل على قوله فهل الحجّة قول الميّت أو لا؟ 517

تنبيهان - الأول : بطلان التقليد من الفقيه الذي عرض له الفسق أو ... 519

الثاني : حكم من قلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فعمل على مقتضاه ثم مات مجتهده 520

الكلام في اشتراط الأعلمية في المفتي

523 - 556

هداية - هل يجب الأخذ بفتوى الفاضل أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضا؟... 525

ينبغي رسم أمرين :

الأول : الكلام في مقتضى الأدلة الشرعيّة لا في وجوب رجوع العامي إلى الأعلم 526

الثاني : تأسيس الأصل في المسألة ... 527

هداية - في ذكر احتجاج القائلين بالجواز ... 535

هداية - في ذكر احتجاج المانعين ... 541

تنبيهات - الأول : المراد من لفظ « الاعلم » ... 547

الثاني : هل اللازم هو الأخذ بالأورع عند تساويهما في العلم والفضيلة؟ ... 548

ص: 690

الثالث : إذا علم بالأعلم تفصيلا وبالاختلاف إجمالا هل يجب تمييز المسائل المختلف فيها؟ 549

الرابع : حكم ما لو قلّد أحد المجتهدين بواسطة التفاضل ثم تعاكست النسبة بينهما 551

الخامس : هل يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الفاضل؟... 553

السادس : حكم المقلّد في ما لو اطلع على فتوى الفاضل بالظن المطلق وعلى فتوى المفضول بالعلم 554

السابع : لو أفتى الأعلم بجواز تقليده فهل للمقلّد الرجوع إلى غيره أو لا؟... 555

الثامن : لا دليل على وجوب تعيين المجتهدين في العمل بقولهم إذا كانوا متوافقين في الفتوى وإن كان بينهم تفاضل 555

التاسع : ما يعتبر في الفحص عن حال العلماء ... 555

مسألتان ملحقتان : تقليد الميت وتقليد الأعلم

557 - 679

الأقوال في اشتراط الحياة في المفتي ... 559

وجوه القول بعدم جواز تقليد الميّت ... 564

وجوه القول بجواز تقليد الميّت ومناقشتها ... 585

تنبيهات - الأول : الكلام في التفصيل بين التقليد الابتدائي والاستمراري ... 620

الثاني : الكلام في كون ساير شروط الإفتاء أيضا شرطا في الابتداء والاستدامة 632

ص: 691

الثالث : الكلام في من مات مجتهده فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهدا فمات ذلك المجتهد أيضا 635

الرابع : في كلام الاردبيلي في جواز تقليد الميّت مع فقدان الحيّ مطلقا أو في ذلك الافق 637

الخامس : عدم جواز الرجوع إلى الفاسق أو الكافر ، أو العامي المسبوق بالاجتهاد عند فقد المستجمع للشرائط 639

السادس : إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة فهل يتعيّن تقليد الأفضل؟... 639

تقرير الاصل في المسألة ... 641

وجوه القائلين بالتخيير بين تقليد الفاضل والمفضول والكلام فيها ... 643

وجوه القول بوجوب تقليد الأفضل وهو المختار ... 662

الفهرس ... 681

ص: 692

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.