شرح الحلقة الثّالثة المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 413

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

5

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الخامس

الأقل والأكثر

الإستصحاب

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

اشارة

1 - التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر

2 - الأقلّ والأكثر في الأجزاء

3 - الأقلّ والأكثر في الشرائط

4 - الدوران بين التعيين والتخيير العقلي

5 - الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي

6 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

ص: 5

ص: 6

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر

درسنا فيما سبق حالة الشكّ في أصل الوجوب ، وحالة العلم بالوجوب وتردّد متعلّقه بين أمرين متباينين.

فالأولى هي حالة الشكّ البدوي التي تجري فيها البراءة الشرعيّة.

والثانية هي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي التي تجري فيها أصالة الاشتغال.

والآن ندرس حالة العلم بالوجوب وتردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر ، وهي على قسمين :

القسم الرابع من أقسام الشكّ هو الشكّ في الأقلّ والأكثر.

تقدّم معنا سابقا تقسيم الشكّ إلى أقسام هي :

1 - الشكّ البدوي في التكليف ، كالشكّ في الوجوب أو الشكّ في الحرمة ، وهذا الشكّ مجرى لأصالة البراءة العقليّة عند المشهور ، ومجرى لأصالة البراءة الشرعيّة على مسلك حقّ الطاعة.

2 - الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، وهذا مجرى لأصالة الاشتغال والاحتياط.

3 - الدوران بين المحذورين ، إمّا بنحو الشكّ البدوي وإمّا بنحو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، كما تقدّم سابقا ، وهذا مجرى لأصالة البراءة عقلا وشرعا في القسم الأوّل ، ومجرى لأصالة التخيير العقلي في الثاني دون البراءة الشرعيّة.

4 - الشكّ في التكليف بين الأقلّ والأكثر ، وذلك بأن يكون نفس التكليف معلوما تفصيلا ولكن يدور أمره بين أجزاء قليلة أو كثيرة.

وهذا النحو من الشكّ في الأقلّ والأكثر على قسمين :

الأوّل : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، وهو يعني أنّ ما يتميّز به

ص: 7

الأكثر على الأقلّ من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا مستقلاّ عن وجوب الأقلّ ، كما إذا علم المكلّف بأنّه مدين لغيره بدرهم أو بدرهمين.

القسم الأوّل : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين.

وهذا يعني أنّ هناك واجبا وهو وجوب الأقلّ ، وهناك واجب آخر وهو وجوب الأكثر ، بحيث يكون كلّ منهما مستقلا عن الآخر ، فإنّه على تقدير كون الواجب هو الأكثر فهذا يعني وجود وجوب آخر غير الأقلّ ؛ لأنّ ما يتميّز به الأكثر عن الأقلّ يجعله وجوبا مستقلا.

كما إذا علم باشتغال ذمّته لشخص وتردّد أمره بين كون الواجب عليه درهما أو درهمين ، فإنّه على تقدير كون الأكثر هو الواجب فهو مستقل عن الأقلّ ؛ لأنّ الدرهمين غير الدرهم وهكذا العكس ، فكلّ واحد مستقلّ عن الآخر.

الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وهو يعني أنّ هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهو إمّا متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الصلاة وتردّدت الصلاة عنده بين تسعة أجزاء وعشرة.

القسم الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين :

وهذا يعني أنّ هناك وجوبا واحدا وتكليفا واحدا واجب الامتثال والإطاعة ، بحيث تكون هناك مخالفة واحدة وعصيان واحد ، أو امتثال وإطاعة واحدة.

وهذا يعني أيضا أنّ وجوب الأكثر ليس مستقلاّ عن وجوب الأقلّ ، بل هو الأقلّ وزيادة ؛ إذ لا معنى لوجوب الزيادة لوحدها مستقلّة عن الأقلّ ، بل وجوبها مرتبط بالأقلّ أيضا.

مثاله : أن يعلم بوجوب الصلاة ولكنّه لا يعلم هل الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء فقط أو هي مركّبة من عشرة أجزاء ، فهنا الشكّ في الجزء العاشر لا يعني أنّه هو الواجب دون سائر الأجزاء ؛ لأنّ العشرة مرتبطة بالتسعة إذ لا يتصوّر عشرة من دون تسعة ، فلو كان هذا الجزء دخيلا لم يكف امتثال الأقلّ وإن لم يكن دخيلا كفى امتثاله من دون العاشر.

أمّا القسم الأوّل : فلا شكّ في أنّ وجوب الأقلّ فيه منجّز بالعلم ، وأنّ وجوب

ص: 8

الزائد مشكوك بشكّ بدوي ، فتجري عنه البراءة عقلا وشرعا أو شرعا فقط ، على الخلاف بين المسلكين.

أمّا القسم الأوّل أي الشكّ في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فهنا يقال : إنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا وعلى كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب لو كان الدرهم فقط فالأقلّ هو الثابت بنحو مستقلّ ، وإن كان الثابت هو الدرهمين فالأقلّ أي الدرهم ثابت أيضا ضمن الدرهمين ؛ إذ لا يعقل وجود درهمين من دون الدرهم ، فيكون الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير للعلم به.

وأمّا وجوب الأكثر فإنّه على تقدير كون الواجب هو الأقلّ فهو غير ثابت ، وعلى تقدير كون الواجب هو الدرهمين فهو ثابت ، وحيث لا يدري ما هو الثابت منهما فيكون الأكثر مشكوكا شكّا بدويّا ، فتجري فيه البراءة العقليّة والشرعيّة على رأي المشهور ، وتجري فيه البراءة الشرعيّة دون العقليّة على مسلك حقّ الطاعة.

وأمّا القسم الثاني : فتندرج فيه عدّة مسائل نذكرها تباعا :

* * *

ص: 9

ص: 10

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء

اشارة

ص: 11

ص: 12

1 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء

وفي مثل ذلك قد يقال : بأنّ حاله حال القسم الأوّل ، فإنّ وجوب الأقلّ منجّز بالعلم ، ووجوب الزيادة - أي ما يشكّ في كونه جزءا - مشكوك بدوي فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الأقلّ والأكثر بطبعه ، فإنّ كلّ دوران من هذا القبيل يتعيّن في علم بالأقلّ وشكّ في الزائد.

إذا تردّد أمر الواجب المركّب من أجزاء بين الأقلّ والأكثر كما إذا علم بوجوب الصلاة وشكّ في كونها مركّبة من تسعة أجزاء فقط أو أنّها مركّبة من عشرة أجزاء ، فهنا مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في دخالة الجزء وعدم دخالته ، كما إذا شكّ في كون السورة جزءا من الصلاة أو ليست بجزء ، فإنّه على تقدير كونها جزءا فتكون الصلاة مركّبة من عشرة أجزاء مثلا ، وأمّا على تقدير كونها ليست جزءا فالصلاة مركّبة من تسعة أجزاء.

فهل هذا الدوران كالدوران بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين يقتصر فيه على وجوب الأقلّ وتجري البراءة عن وجوب الأكثر ، أو أنّه من الدوران بين المتباينين حيث يعلم إجمالا بالجامع بينهما فيجب الاحتياط؟

قد يقال : إنّ حكم هذه المسألة كحكم المسألة السابقة ؛ لأنّ وجوب الأقلّ معلوم تفصيلا سواء كان الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ، فيعلم بوجوب تسعة أجزاء على كلّ حال ، فهو منجّز على كلا التقديرين ولا شكّ فيه.

وأمّا وجوب الأكثر ( أي الجزء المشكوك دخالته ) فهو على بعض التقادير واجب وعلى التقدير الآخر غير واجب ، فيكون مشكوكا شكّا بدويّا فتجري فيه البراءة.

وبتعبير آخر : أنّ القاعدة الأوّليّة في الأقلّ والأكثر هي كون الأقلّ معلوما تفصيلا ،

ص: 13

والأكثر مشكوك بدوا وهو مجرى للبراءة ، وهذه القاعدة لا يرفع اليد عنها إلا بوجود مانع يمنع من جريان البراءة.

وعليه ينصبّ البحث هنا في أنّه هل هناك مانع من جريان البراءة أو لا؟

ولكن قد يعترض على إجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام ، ويبرهن على عدم جريانها بعدّة براهين :

وهنا ذكرت عدّة موانع عن جريان البراءة ، وهذا يعني أنّ الحكم في المسألة هو الاحتياط ولزوم الإتيان بالأكثر ، وسوف نستعرض هذه الموانع لنرى مدى مانعيّتها من جريان البراءة ، وهنا ذكرت ستّة براهين للمنع من جريان البراءة ، وهي :

البرهان الأوّل :

وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الزائد لينفى ذلك بأنّ وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الأقلّ ، فكيف يجعل طرفا مقابلا له في العلم الإجمالي؟ بل هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد ، ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد لكونه جزءا من أحد طرفي العلم الإجمالي.

البرهان الأوّل : أن يقال : إنّه لا يمكن إجراء البراءة هنا ؛ لأنّه يوجد علم إجمالي منجّز ، ومع وجوده لا مجال للبراءة ؛ لأنّ موردها الشكّ البدوي.

وهذا العلم الإجمالي ليس هو العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الأقلّ ووجوب العاشر ، أي أنّه ليس دائرا بين التسعة والعاشر ، ليقال بأنّ وجوب الأقلّ معلوم على كلّ حال والعاشر مشكوك فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ العاشر لا يمكن أن يقع طرفا مستقلا للعلم الإجمالي بنحو يكون بديلا عن الأقلّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي معناه أنّ كلا طرفيه صالح لأن يكون هو التكليف المعلوم بالإجمال ، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين مثلا كان كلّ واحد من الإناءين صالحا لأن يكون هو النجس ، وكذا فيما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة.

وفي مقامنا لا يعقل أن يكون الجزء العاشر صالحا لأن يكون هو التكليف المعلوم بالإجمال بنحو يجعله بديلا عن وجوب الأقلّ ؛ إذ لا معنى لوجوب العاشر فقط دون الأقلّ.

ص: 14

وبتعبير آخر : إنّ كون الشيء طرفا للعلم الإجمالي معناه كونه صالحا لأن يكون هو المنجّز بدلا عن الطرف الآخر ، وهنا العاشر لوحده لا يمكن أن يكون هو المنجّز بنحو بديل عن التسعة ؛ إذ لا معنى لوجوب العاشر دون التسعة.

وهكذا نصل إلى أنّ العلم الإجمالي ليس دائرا بين وجوب الأقلّ ووجوب الزائد لوحده ، بل هو دائر بين وجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر ، أي بين وجوب التسعة والتي هي كلّ واحد مترابط ، وبين وجوب العشرة والتي هي كلّ واحد مترابط أيضا ، وهذا يعني الدوران بين متباينين وكلّ واحد منهما صالح لأن يكون هو المنجّز ؛ إذ كما يمكن أن يكون الوجوب متعلّقا بالتسعة كذلك يمكن أن يكون متعلّقا بالعشرة المركّبة من التسعة والزيادة.

ومثل هذا العلم الإجمالي منجّز فيجب الاحتياط بالإتيان بالعشرة لكي يعلم ببراءة ذمّته يقينا ، حيث إنّها مشتغلة يقينا بالتكليف ؛ لأنّ الاكتفاء بالأقلّ من دون الإتيان بالجزء العاشر لا يجعل الذمّة بريئة.

ولا يمكن هنا نفي الجزء العاشر الزائد بنحو مستقلّ ؛ لأنّه مرتبط بالأجزاء التسعة المكوّنة لوجوب الأكثر ونفيه ضمن نفي وجوب الأكثر غير ممكن أيضا ؛ لأنّه طرف للعلم الإجمالي والذي يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في طرفيها للتعارض بينهما.

وقد أجيب على هذا البرهان بوجوه :

منها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛ لأنّه جزء الواجب وجزء الواجب مقدّمة له.

ثمّ إنّه قد ذكرت عدّة أجوبة على هذا البرهان نذكر منها ما يلي :

الجواب الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري كما هو ظاهر عباراته من أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الأكثر.

وتوضيحه : أنّ الأقلّ إن كان هو الواجب فالأقلّ واجب نفسي ، وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛ لأنّه داخل في الأكثر ؛ إذ هو من المقدّمات الداخليّة

ص: 15

لتحقّق الأكثر ، وعليه فيكون وجوب الأقلّ معلوما على كلّ تقدير ؛ لأنّه إمّا واجب نفسي ، وإمّا واجب غيري ، فيكون وجوبه معلوما على كلا التقديرين ، فهو منجّز قطعا ، ولا شكّ في ذلك.

وأمّا الأكثر فهو إنّما يكون واجبا على تقدير تعلّق المعلوم بالإجمال به بحيث يكون هو المعلوم إجمالا لا وجوب الأقلّ ، وهذا التقدير غير معلوم فيكون مشكوكا بدوا فتجري عنه البراءة.

ولا مانع من جريان البراءة هنا لانحلال العلم الإجمالي إما حقيقة وإمّا حكما ؛ وذلك لأنّنا إذا قلنا : إنّ الأقلّ معلوم تفصيلا فيسري العلم من الجامع إلى الفرد ، ويكون الفرد الثاني مشكوكا بدوا لزوال العلم الإجمالي فهذا انحلال حقيقي ، وإذا قلنا : إنّ الأصل الترخيصي يجري في وجوب الأكثر دون الأقلّ ؛ لأنّ الأقلّ منجّز على كلّ تقدير فلا مورد لجريان الأصل فيه فيجري الأصل في الأكثر من دون معارض فهذا انحلال حكمي.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّه إن أريد به هدم الركن الثاني من أركان تنجيز العلم الإجمالي.

فالجواب عليه : أنّ الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقا للجامع المعلوم بالإجمال كما تقدّم (1) ، وليس الأمر في المقام كذلك لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم التفصيلي وجوب الأقلّ ولو غيريّا ، وإن أريد به هدم الركن الثالث بدعوى أنّ وجوب الأقلّ منجّز على أي حال ولا تجري البراءة عنه فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض.

فالجواب عليه : أنّ الوجوب الغيري لا يساهم في التنجيز كما تقدّم في مباحث المقدّمة (2).

ويرد عليه : أنّ الانحلال المذكور تارة يراد به الانحلال الحقيقي ، وأخرى يراد به الانحلال الحكمي.

ص: 16


1- تحت عنوان : أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، عند بيان الركن الثاني.
2- في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

فإن أريد به الانحلال الحقيقي بدعوى أنّ الركن الثاني منهدم وأنّ العلم سرى من الجامع إلى الفرد ، فهذا يتوقّف على إثبات أنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي ، أو على الأقلّ يصلح لأن يكون مصداقا له مع عدم وجود ميزة وخصوصيّة في المعلوم الإجمالي ، وإلا اشترط إحرازها في المعلوم التفصيلي.

وفي مقامنا لا يمكن أن يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّه يوجد ميزة في المعلوم الإجمالي لا يحرز وجودها في المعلوم التفصيلي فيكون هناك شبهة مصداقيّة للانحلال ، فلا يمكن التمسّك بدليل الانحلال فيها ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ لإثبات مصداقه وهو ممنوع.

والوجه في ذلك : أنّ المعلوم التفصيلي هو وجوب الأقلّ على كلّ تقدير سواء كان نفسيّا أم غيريّا ، بينما المعلوم إجمالا هو وجوب الأقلّ نفسيّا أو وجوب الأكثر نفسيّا ، والأوّل ليس مصداقا للثاني.

نظير ما إذا علم إجمالا بوجود إنسان طويل في المسجد ، ثمّ علم تفصيلا بوجود زيد في المسجد ولكنّه لا يعلم هل هو طويل أو قصير؟ فهذا لا يوجب الانحلال الحقيقي لوجود ميزة وخصوصيّة في المعلوم بالإجمال غير محرزة في المعلوم التفصيلي ، وهنا كذلك فإنّ ميزة النفسيّة المعلومة إجمالا غير محرزة تفصيلا ؛ لأنّ الأمر فيه مردّد بين النفسي والغيري.

وإن أريد به الانحلال الحكمي بدعوى أنّ الركن الثالث منهدم ، أي أنّ الأصول الترخيصيّة تجري لنفي وجوب الأكثر ولا تعارضها الأصول الترخيصيّة في الأقلّ ؛ لأن الأقلّ منجّز على كلّ تقدير ، فلا مورد للأصول الترخيصيّة فيه ، فهذا يتوقّف على إثبات كون الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير ، إلا أنّ هذا لا يمكن إثباته هنا.

والوجه في ذلك : أنّ الأقلّ لو كان واجبا نفسيّا فهو منجّز ، لكنّه لو كان واجبا غيريّا فهو غير منجّز بمنجّز مستقلّ ، بل منجّزيّته ضمن منجّزيّة الأكثر ؛ لأنّ الواجب الغيري لا ينجّز التكليف على ذمّة المكلّف بقطع النظر عن الواجب المرتبط به ، فلا يكون وجوب الأقلّ منجّزا على كلّ تقدير ، وإنّما يكون منجّزا على تقدير كونه واجبا نفسيّا فقط.

وأمّا على تقدير كونه واجبا غيريّا فالمنجّزيّة لوجوب الأكثر والتي يترشّح منها

ص: 17

وجوب غيري للمقدّمات والأجزاء ، ولذلك لا يعاقب على ترك المقدّمات زائدا على ترك الواجب.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب المقدّمة لا يكون منجّزا إلا بفرض منجّزيّة ذي المقدّمة نفسه ، وهنا إذا فرضنا كون الأقلّ واجبا غيريّا من باب كونه مقدّمة داخليّة للأكثر ، فلا يكون منجّزا إلا بعد إحراز منجّزيّة الأكثر ، والمفروض أنّ وجوب الأكثر ومنجّزيّته مشكوكة للعلم الإجمالي إمّا بوجوبه أو بوجوب الأقلّ ، وحيث إنّه لا يعلم بوجوبه فلا يعلم بوجوب الأقلّ الغيري بل هو مشكوك ، وحينئذ لا يكون وجوب الأقلّ معلوما على كلّ تقدير لكي لا تجري فيه الأصول الترخيصية ، بل هو معلوم على بعض التقادير فقط ، فحاله حال وجوب الأكثر فإنّه معلوم على بعض التقادير أيضا ، ولذلك تكون الأصول الترخيصيّة نسبتها إليهما على حدّ واحد فتجري فيهما معا ، ويقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما ، فيكون العلم الإجمالي على منجّزيّته ولم ينهدم ركنه الثالث.

ومنها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقلّ ؛ لأنّه واجب نفسا إمّا وحده أو في ضمن الأكثر ، وهذا المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم بالإجمال فينحلّ العلم الإجمالي به.

الجواب الثاني : ما يستفاد أيضا من كلمات الشيخ الأنصاري من دعوى الانحلال الحقيقي بتقريب : أنّ العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف النفسي الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي ؛ وذلك لأنّ الواجب إمّا أن يكون هو الأقلّ فقط فهذا من الواضح كونه واجبا نفسيّا ؛ لأنّه واجب استقلالي برأسه ، وإمّا أن يكون في ضمن وجوب الأكثر ، وهذا واجب نفسي أيضا ؛ لأنّ الوجوب الضمني واجب نفسي لا غيري ، أي أنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب ينحلّ بالتضمّن إلى وجوبات نفسيّة ضمنيّة بعدد الأجزاء ، فوجوب التسعة والتي هي الأقلّ واجبة ضمنا بالوجوب النفسي.

وحينئذ نقول : إنّ الخصوصيّة والميزة الموجودة في المعلوم الإجمالي وهو كون الواجب نفسيّا يعلم بوجودها تفصيلا في الأقلّ ؛ لأنّه واجب نفسيّا إما مستقلاّ وإمّا ضمنا ، ولذلك يسري العلم من الجامع إلى الفرد فيتنجّز ، بينما الفرد الآخر مشكوك بدوا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

ص: 18

وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبة نذكر فيما يلي مهمّها :

الجواب الأوّل : أنّ الجامع المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسي الاستقلالي إمّا للأقلّ أو للأكثر ، وما هو معلوم بالتفصيل في الأقلّ هو الوجوب النفسي ولو ضمنا ، فلا انحلال.

وأورد على هذا الجواب بإيرادات عديدة نذكر أهمّها :

الأوّل : أنّ المعلوم بالإجمال يشتمل على خصوصيّة وميزة غير محرزة الوجود في المعلوم بالتفصيل ، وذلك لأنّ المعلوم إجمالا هو الوجوب النفسي الاستقلالي إما للأقلّ وإمّا للأكثر ؛ لأنّ الأمر مردّد بين وجوب الأقلّ بحدّه وبين وجوب الأكثر بحدّه ، يعني إمّا هذا بنحو مستقلّ وإمّا ذلك بنحو مستقلّ ، ففي الدقّة يوجد خصوصيّتان معلومتان بالإجمال إحداهما كون الواجب نفسيّا ، والأخرى كونه استقلاليّا.

وأمّا المعلوم بالتفصيل فهو وجوب الأقلّ النفسي المردّد بين الاستقلالي والضمني ؛ لأنّ الواجب النفسي إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي استقلالي ، وإن كان الواجب النفسي هو الأكثر فالأقلّ واجب نفسي ضمني ، وحينئذ لا تكون خصوصيّة الاستقلاليّة محرزة الوجود في الأقلّ المعلوم تفصيلا مع أنّها محرزة ودخيلة قطعا لكون العلم الإجمالي مشتملا عليها ، وحيث إنّه لا توجد ميزة كذلك فلا يصلح المعلوم التفصيلي للانحلال الحقيقي.

وبتعبير آخر : إنّ حدّ الاستقلاليّة دخيل في المعلوم الإجمالي ، وهذا الحدّ لا بدّ من إحرازه تفصيلا لكي يحصل الانحلال الحقيقي.

وفي مقامنا لا يحرز وجود هذا الحدّ تفصيلا للتردّد بين الاستقلاليّة والضمنيّة فلا انحلال إذن.

ويلاحظ : أنّ الاستقلاليّة معنى منتزع من حدّ الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلّق به ، والحدّ لا يقبل التنجّز ولا يدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ويتنجّز ذات الوجوب المحدود ، فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسي الاستقلالي وإن لم يكن منحلاّ ، ولكنّ معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة لعدم قابليّة حدّ الوجوب للتنجّز ، والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود بقطع النظر عن حدّ

ص: 19

الاستقلاليّة هو الذي ينجّز معلومه ويدخله في العهدة ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي المشار إليه.

ويرد عليه : أنّ حدّ الاستقلاليّة منتزع من الوجوب ، ومعناها أنّ هذا الوجوب لا يتعدّى إلى أكثر ممّا تعلّق به ولا يشمل غيره ، وليست حدّا لمتعلّق الوجوب أي للأقلّ أو للأكثر ، فهنا أمران :

1 - أن نقول : إنّ حدّ الاستقلاليّة حدّ لنفس الأقلّ ولنفس الأكثر ، فيكون المراد أنّ الأقلّ بهذا الحدّ هو الواجب فيكون الإتيان بالجزء العاشر مخلاّ بتحقّق الأقلّ ؛ لعدم الحفاظ على استقلاليّته ، وإمّا من جهة الأكثر فيكون حدّ الاستقلاليّة أنّه يجب الإتيان بالعشرة لا أقلّ فيكون العاشر جزءا دخيلا وعدم وجوده يخلّ بالأكثر.

وحينئذ يكون الأمر دائرا بين كون العاشر مانعا أو جزءا ، وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّه إن كان الواجب هو الأقلّ بحدّه الاستقلالي فالعاشر مانع وإن كان الواجب هو الأكثر بحدّه الاستقلالي فالعاشر جزء.

2 - أن نقول : إنّ حدّ الاستقلاليّة حدّ لنفس الوجوب ، أي أنّه منتزع من وجوب الأقلّ أو وجوب الأكثر ، بمعنى أنّ وجوب الأقلّ أو الأكثر واجب لنفسه لا لغيره ، فهذا صحيح ، إلا أنّ حدّ الاستقلاليّة وإن كان معلوما بالإجمال ولكنّه لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّه وصف ينتزع من وجود الأقلّ أو الأكثر ، فوجوده في طول وجودهما ، وهذا يعني أنّ الذمّة تشتغل بذات الوجوب لا بحدّه.

وحينئذ نقول : إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالوجوب النفسي الاستقلالي للأقلّ أو للأكثر ، غير منحلّ حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إمّا استقلاليّا وإمّا ضمنيّا ؛ لعدم إحراز الميزة الموجودة في العلم الإجمالي.

إلا أنّ المقصود من العلم الإجمالي كونه منجّزا ومدخلا للعهدة والذمّة ، فإذا لم يكن منجّزا لمعلومه فلا أثر له ، وحيث إنّ حدّ الاستقلاليّة غير قابل للتنجيز والدخول في العهدة فلا أثر للعلم الإجمالي به ، وعليه فيكون العلم الإجمالي منجّزا للوجوب النفسي دون الاستقلاليّة ، وهذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة للعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي على كلّ تقدير ، أي سواء كان استقلاليّا أم ضمنيّا.

والحاصل : أنّ حدّ الاستقلاليّة حيث لا يمكن دخوله في العهدة فوجوده وعدمه

ص: 20

على حدّ واحد ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي به مانعا من الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي وإن لم تحرز فيه خصوصيّة الاستقلاليّة ؛ لأنّ إحرازها وعدم إحرازها لا أثر له في عالم الاشتغال والدخول في العهدة.

الجواب الثاني : أنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فمتعلّقه الأقلّ مطلقا من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان ضمنيّا فمتعلّقه الأقلّ المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم التفصيلي بوجوب التسعة على الإجمال ليس إلا نفس ذلك العلم الإجمالي بعبارة موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

الإيراد الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن انحلال العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فالواجب هو التسعة مطلقا أي لا بشرط من حيث الزيادة ، فسواء ضمّ إليها العاشر أم لا فالتسعة الواجبة متحقّقة ، وأمّا إذا كان وجوب الأقلّ ضمنيّا فالواجب هو التسعة المقيّدة بالعاشر أي بشرط الجزء العاشر والزيادة.

وهذا يعني أنّ وجوب الأقلّ يدور أمره بين كونه مطلقا أو كونه مقيّدا ، والإطلاق والتقييد وصفان متقابلان ؛ لأنّ أحدهما مباين للآخر ، إلا أنّ هذا العلم التفصيلي لا يحقّق الانحلال ؛ لأنّه نفس العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه ، إذ العلم بوجوب الأقلّ إمّا مطلقا وإمّا مقيّدا عبارة أخرى وموجزة ومختصرة عن العلم الإجمالي إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، والشيء لا ينحلّ بنفسه بل بغيره.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بوجوب الأقلّ مطلقا عبارة عن العلم بوجوب التسعة ، والعلم بوجوب الأقلّ مقيّدا عبارة عن العلم بوجوب العشرة ، فكان العلم التفصيلي عين العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه وإن اختلفت الألفاظ والتعبيرات ، إلا أنّ الحقيقة شيء واحد.

ويلاحظ هنا أيضا : أنّ الإطلاق - سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد أو لحاظ عدم دخل القيد - لا يدخل في العهدة ؛ لأنّه يقوّم الصورة الذهنيّة ، وليس له محكي ومرئي يراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة ، بخلاف التقييد.

فإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ؛ لأنّ

ص: 21

الإطلاق لا يقبل التنجّز ، وإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة ، فهو منحلّ.

ولكن سيظهر ممّا يلي أنّ دعوى الانحلال غير صحيحة.

ويرد عليه : أنّ حدّ الإطلاق - سواء كان معناه لحاظ عدم القيد أم كان معناه عدم لحاظ القيد - لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق والتقييد وصفان للصور الذهنيّة فهما لحاظان ذهنيّان ، لا وجود لهما في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يوجد المفهوم والطبيعة الواجدة للجزء العاشر أو توجد الماهيّة والطبيعة الفاقدة لهذا الجزء ، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع من الخارج هذين الوصفين ويجعلهما حدّين للصور الذهنيّة.

وحينئذ نقول : إنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة إمّا الأجزاء التسعة وإمّا الأجزاء العشرة أي ذات الطبيعة ، وأمّا وصف الإطلاق فلا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّه لا يوجد له مرئي ومحكي في الخارج بخلاف التقييد فإنّه يحكي عن الخارج وجودا أو عدما.

وعليه ، فإن أريد من العلم الإجمالي بوجوب التسعة المطلقة أو بوجوب التسعة المقيّدة إثبات التنجيز المردد بين الأمرين ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل التنجيز فالعلم الإجمالي به لا يكون منجّزا ؛ لأنّه ليس دائرا بين تكليفين ، أو لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير ، فلا يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّ الجامع بين التنجيز واللاتنجيز لا يكون منجّزا.

وإن أريد من هذا العلم الإجمالي إثبات التنجيز للقدر الذي يمكن دخوله في العهدة ويمكن اشتغال الذمّة به وهو ذات الطبيعة فهذا وإن كان ممكنا وصحيحا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة للعلم التفصيلي بوجوب التسعة أي الأقلّ على كلّ تقدير ، فيكون الأكثر مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة.

إلا أنّ هذا الانحلال غير تامّ كما سيأتي توضيحه في الجواب الثالث عن البرهان الأوّل.

ومنها : أنّه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصيّاته التي لا تصلح للتنجّز - من قبيل حدّ الاستقلاليّة والإطلاق - فهناك علم إجمالي ولكنّه لا يصلح للتنجيز.

ص: 22

وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجّز فلا علم إجمالي أصلا ، بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشكّ بدوي في وجوب الزائد.

فالبرهان الأوّل ساقط إذن ، كما أنّ دعوى الانحلال ساقطة أيضا ؛ لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود علمين لو لا الانحلال ، مع أنّه لا يوجد إلا ما عرفت.

الجواب الثالث : وهو الصحيح في الجواب عن دعوى وجود العلم الإجمالي المنجّز الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي المدّعى إمّا أن تلاحظ فيه الخصوصيّات جميعا ، بما فيها تلك الحدود التي لا تقبل التنجيز والدخول في العهدة ولا تصلح لاشتغال الذمّة بها ، من قبيل وصفي الاستقلاليّة والإطلاق ؛ لأنّهما حدّان منتزعان ولا وجود لهما في الخارج ، وإمّا ألاّ تلاحظ فيه إلا الخصوصيّات التي تقبل التنجيز والدخول في العهدة واشتغال الذمّة.

فإن قيل بالأوّل فهذا العلم الإجمالي غير منحلّ بالعلم التفصيلي بالأقلّ ؛ لأنّه لا يحرز وجود مثل هذه الخصوصيّات في الأقلّ ؛ إذ الاستقلاليّة أو الإطلاق مشكوكان والأقلّ مردّد بينهما ، فهناك ميزة في الجامع المعلوم بالإجمال لا يحرز وجودها في المعلوم بالتفصيل ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي الموجود غير منجّز ؛ لأنّ الخصوصيّات المشتمل عليها والدخيلة فيه بحسب الفرض غير منجّزة ولا تصلح للتنجيز أصلا ، ولذلك لا يكون لمثل هذا العلم الإجمالي أثر ، وبالتالي يسقط عن الاعتبار إذ لا منجّزيّة له ؛ لأنّ الغرض من العلم الإجمالي إثبات التنجيز وهذا غير متحقّق في مقامنا.

وإن قيل بالثاني فالعلم الإجمالي المذكور لا وجود له ؛ وذلك لأنّ ما يقبل التنجيز والدخول في العهدة هو الأقلّ أو الأكثر ، أي التسعة أو العشرة ، وهذا معناه أننا نعلم بوجوب التسعة تفصيلا ولو ضمن العشرة ، ونشكّ في العاشر فتجري البراءة عنه ، كما هو مقتضى الدوران بين الأقلّ والأكثر.

وبهذا نثبت أنّ البرهان الأوّل ساقط ؛ لعدم وجود علم إجمالي.

ومن هنا يعرف أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي ساقطة أيضا ؛ لأنّ هذه الدعوى تستبطن الاعتراف بكون العلم الإجمالي الأوّل منجّز ثمّ ينحلّ بالعلم التفصيلي المذكور ، مع أنّنا أثبتنا أنّه لا وجود للعلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّ العلم إذا دار بين الأقلّ

ص: 23

والأكثر لم يكن منجّزا أصلا ؛ لأنّه عبارة عن علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي بالأكثر.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقلّ ؛ لأنّه إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول ؛ إذ لا يعقل ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ وترك الأكثر بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعيّة ولا يمكن التأمين بلحاظها.

وهكذا نعرف أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الأصل الآخر.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي من الانحلال الحكمي لهذا العلم الإجمالي ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ إذ الأصل المؤمّن يجري لنفي وجوب الأكثر من دون معارض ، لأنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الأقلّ ؛ لأنّ جريانه فيه غير ممكن ، بتقريب : أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ ولكن بشرط الإتيان بالأكثر فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ فلا يعقل ترك الأقلّ حالة الإتيان بالأكثر ، فكيف يتمّ التأمين من ناحيته مع أنّه لا بدّ من الإتيان به ولا يمكن تركه تكوينا وواقعا حالة الإتيان بالأكثر؟ فيكون التأمين عنه كذلك بلا أثر وبلا فائدة ، بل غير معقول في نفسه ، ولا يمكن صدوره من الشارع.

وإن أريد بجريان الأصل المؤمّن عن الأقلّ التأمين حالة ترك الأقلّ عند ترك الأكثر أيضا ، أي أنّ المكلّف مؤمّن في ترك الأقلّ إذا ترك الأكثر أيضا ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ لأنّ التأمين المذكور يعني التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ ترك الأقلّ وترك الأكثر معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة.

ومن الواضح أنّ التأمين عن المخالفة القطعيّة غير معقول ، ولا يمكن صدوره من الشارع ؛ لما تقدّم في الجزء السابق من عدم إمكان الترخيص لا الواقعي ولا الظاهري في موارد العلم التفصيلي بحكم العقل ، ولا يمكن ذلك في موارد العلم الإجمالي عقلائيّا.

ص: 24

وبهذا يظهر أنّ الأصل المؤمّن عن الأقلّ مستحيل ولا معنى له فلا يجري ، ولذلك يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الأكثر لا معارض له ، وبه يتحقّق الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي.

وهذا بيان صحيح في نفسه ، ولكنّه يستبطن الاعتراف بالركنين الأوّل والثاني ومحاولة التخلّص بهدم الركن الثالث ، مع أنّك عرفت أنّ الركن الثاني غير تامّ في نفسه.

وهذا الجواب وإن كان صحيحا في نفسه لكنّه يستلزم مسبقا الاعتراف بوجود علم إجمالي منجّز وتامّ ، ثمّ يصار إلى إسقاطه عن المنجّزيّة بعدم ركنه الثالث.

إلا أنّ مثل هذا العلم الإجمالي المنجّز لا وجود له كما تقدّم في الجواب الثالث ، أو منحلّ انحلالا حقيقيّا كما تقدّم في الجوابين الأوّل والثاني ، وحينئذ لا مجال للانحلال الحكمي أصلا.

البرهان الثاني :

البرهان الثاني : والبرهان الثاني يقوم على دعوى أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وذلك ضمن النقاط التالية :

أوّلا : أنّ هذا الواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر للمولى غرض معيّن من إيجابه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات في متعلّقاتها.

ثانيا : أنّ هذا الغرض منجّز لأنّه معلوم ، ولا إجمال في العلم به ، وليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر وإنّما يشكّ في أنّه هل يحصل بالأقلّ أو بالأكثر؟

ثالثا : يتبيّن ممّا تقدّم أنّ المقام من الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال كما تقدّم.

البرهان الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث ذكر نظير هذا الكلام في بحث التعبّدي والتوصّلي عند الشكّ فيهما ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعبّديّا أو توصّليّا.

وهذا البرهان يبتني على جعل المورد من موارد الشكّ في المحصّل لكن بلحاظ الغرض لا بلحاظ نفس التكليف ، ولا بلحاظ الخروج عن العهدة ، إذ الشكّ في المحصّل تارة يكون بلحاظ التكليف ، وذلك عند الشكّ فيما هو المكلّف به ، وأخرى

ص: 25

يكون بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف عند الشكّ في أنّ هذا مصداق للمكلّف به أو ذاك ، وثالثة يكون بلحاظ تحقيق الغرض المطلوب من التكليف.

ومقامنا من القسم الثالث من الشكّ في المحصّل ، وتوضيحه :

أوّلا : أنّ التكليف كما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة كذلك يدخل في العهدة الغرض ؛ لأنّ كلّ تكليف فيه غرض بناء على ما هو الصحيح عند مذهب العدليّة من أنّ الأحكام الشرعيّة كلّها تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتها ، وفي مقامنا حيث إنّ التكليف معلوم ولو إجمالا فيدخل في العهدة ، فكذلك الغرض معلوم ويدخل في العهدة.

والواجب هنا وإن كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر إلا أنّه على كلا التقديرين يعلم بوجود الغرض المولوي واشتغال الذمّة به.

وثانيا : أنّ الغرض يجب تحصيله كما أنّ التكليف يجب تحصيله أيضا ، وذلك على أساس حكم العقل بحقّ الطاعة ولزوم الامتثال ، فإنّ هذا الحكم لا يختصّ بالتكليف ، بل يشمل الغرض المطلوب من التكليف أيضا ، فالغرض واجب إذن فيجب تحصيله أيضا.

وثالثا : أنّ هذا الغرض الواجب تحصيله بحكم العقل ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كما هو حال التكليف ، فإنّ التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر والأقلّ معلوم تفصيلا والأكثر مشكوك بدوا فتجري عنه البراءة.

بينما الغرض شيء واحد لا ترديد فيه ولا إجمال ، وهذا الغرض الواحد يشكّ في تحقّقه وحصوله بالأقلّ ؛ لأنّه لا يعلم هل يتحقّق بالأقلّ أو أنّه يتحقّق بالأكثر.

وبكلمة أخرى : أنّ الواجب مركّب من أجزاء لا يعلم هل هي تسعة أو عشرة؟ فيكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، إلا أنّ الغرض ليس مركّبا بل هو بسيط ، وهذا يعني أنّ الأمر يدور بين وجوده أو عدمه أي أنّه هذا الغرض البسيط والواحد هل يوجد بالأقلّ أو يوجد بالأكثر؟

ورابعا : إنّ المورد ما دام من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الغرض ، وما دام هذا الغرض واحدا وبسيط أولا يعلم بتحققه عند الإتيان بالأقلّ ، إذ بمجرّد الإتيان بالأقلّ لا يعلم بفراغ الذمّة يقينا وخروجها عن عهدة الغرض ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر ؛ لأنّه هو الذي يؤدّي إلى فراغ الذمّة يقينا من الغرض.

ص: 26

والحاصل : أنّ الشكّ في المحصّل معناه لزوم الاحتياط استنادا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحيث إنّنا نعلم بالغرض ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات ، وحيث إنّنا لا نعلم ببراءة الذمّة من الغرض عند الإتيان بالأقلّ لاحتمال أن يكون الأكثر هو المحصّل للغرض دون الأقلّ فيجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

ووجوب الإتيان بالأكثر لا من باب الاحتياط في التكليف بلحاظ الشكّ فيما هو المكلّف به ، ليقال بأنّ الأقلّ معلوم يقينا والأكثر مشكوك فينفى بالبراءة ، بل وجوب الأكثر هنا من باب الاحتياط في تحصيل الغرض المطلوب والذي هو أمر آخر اشتغلت به الذمّة إضافة إلى التكليف ، فالذمّة هنا مشغولة بالتكليف ومشغولة بالغرض ، والتكليف يكفي فيه الأقلّ لجريان البراءة عن الزائد ، بينما الغرض لا يكفي فيه إلا الأكثر عند الشكّ في تحصيله ؛ لأنّه أمر وحداني بسيط وليس مركّبا كالتكليف.

ويلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه من قال بأنّ الغرض ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كنفس الواجب؟

بأن يكون ذا مراتب وبعض مراتبه تحصل بالأقلّ ولا تستوفى كلّها إلا بالأكثر ، ويشكّ في أنّ الغرض الفعلي قائم ببعض المراتب أو بكلّها ، فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.

ويرد على هذا البرهان أمران :

الأمر الأوّل : أن ننكر كون الغرض واحدا بسيطا في جميع الموارد ، بل تارة يكون واحدا وأخرى يكون متعدّدا وذا مراتب ، وحينئذ نقول : كما يحتمل في مقامنا أن يكون الغرض واحدا وبسيطا ، وبالتالي حيث يعلم بوجوده واشتغال الذمّة به يقينا ويشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فيجب الإتيان بالأكثر من باب الفراغ اليقيني.

فكذلك يحتمل أن يكون الغرض متعدّدا ؛ وذلك لأنّ الغرض عبارة عن الحسن والقبح الذاتيّين في المتعلّق أو المصلحة والمفسدة فيه ، فيحتمل أن يكون الغرض المطلوب مترتّبا على جميع الأفعال بنفسها لكونه حسنة مثلا ، بأن يكون كلّ جزء وكلّ فعل فيه مصلحة بذاته لكونه حسنا ، فيكون لدينا مجموعة من المصالح لا مصلحة واحدة فقط.

فإذا كان كلّ واحد منهما محتملا ، فيعقل حينئذ أن يكون الغرض كالتكليف

ص: 27

والواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إذا كان الغرض ذا مراتب متعدّدة ، وبعض هذه المراتب تحصل بالأقلّ بينما يحصل الجميع بالأكثر ، فنحن نشكّ في كون الغرض الفعلي هو الغرض القائم ببعض المراتب أو هو الغرض القائم بكلّ المراتب نتيجة الشكّ في كون الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو الواجب فالغرض قائم ببعض المراتب ، وإن كان الأكثر هو الواجب فالغرض قائم بكلّ المراتب ، ولكن حيث إنّ الغرض القائم ببعض المراتب معلوم تفصيلا ودخيل في العهدة يقينا على كلّ تقدير فيكون الزائد عن ذلك مشكوكا بدوا فتجري عنه البراءة.

وبهذا يظهر أنّه من الممكن تصوير الغرض متعدّدا وذا مراتب فلا يتمّ فيه البرهان المذكور.

نعم ، إذا كان الغرض واحدا وبسيطا فيتمّ البرهان ، إلا أنّ معرفة كون الغرض واحدا أو متعدّدا ليس ميسورا للمكلّف لعدم اطّلاعه على الملاكات ، وإنّما عهدته على الشارع ؛ لأنّه الأعرف بملاكاته ، ولذلك لا بدّ من بيان ذلك شرعا ، فإذا لم يتبيّن ذلك كان المكلّف شاكّا في كون الغرض واحدا أو متعدّدا ، فيكون شاكّا فيما اشتغلت به ذمّته وهل هي مشتغلة بغرض واحد أو بغرض متعدّد؟ والأوّل ذو مئونة زائدة بخلاف الثاني فيكون من الأقلّ والأكثر أيضا.

وهذا نقاش صغروي ؛ لأنّه مبني على التسليم بوجود غرض منجّز ولكنّه مردّد بين كونه غرضا وحدانيّا بسيطا ، أو كونه غرضا مركّبا وذا مراتب.

وثانيا : أنّ الغرض إنّما يتنجّز عقلا بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدّي المولى لتحصيله التشريعي ، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو ذلك.

فما لم يثبت هذا التصدّي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجّز وما دام مؤمّنا عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.

الأمر الثاني : وهو نقاش كبروي أي إنكار وجود غرض منجّز في المقام ، وتوضيحه أن يقال : إنّ الغرض إنّما يتنجّز مع فرض وصوله إلى المكلّف كالتكليف ، فما لم يصل الغرض إلى المكلّف فلا يكون منجّزا وبالتالي لا تشتغل به الذمّة ، ولا يدخل في العهدة ؛ إذ يقبح العقاب على ترك شيء لم يصل إلى المكلّف.

ص: 28

فحال الغرض كحال التكليف تماما ، فكما لا عقاب على ترك تكليف غير واصل ، فكذلك لا عقاب على ترك تحصيل غرض غير واصل.

وأمّا كيفيّة وصول الغرض إلى المكلّف فهذا إنّما يكون بتصدّي الشارع لتحصيله ، فإنّه إذا تصدّى المولى لإبراز تحصيل الغرض - إمّا ابتداء ومباشرة بأن جعل الحكم على وفقه ، وإمّا بالإخبار عن كونه مطلوبا ومحبوبا للمولى - فحينئذ يحكم العقل بلزوم تحصيله ، ويكون التقريب المذكور صحيحا وتامّا ؛ لأنّ الغرض قد دخل في العهدة واشتغلت به الذمّة يقينا فيجب إبراؤها اليقيني ، وهذا لا يتمّ إلا بالإتيان بالأكثر ؛ لأنّ الأقلّ وإن كان معلوما على كلّ تقدير لكنّه من جهة الغرض لا يحرز كونه محصّلا للغرض.

وأمّا إذا لم يتصدّ المولى لإبرازه بنحو من الأنحاء فلا يتنجز ولا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ، حتّى وإن علم به المكلّف من طريق آخر غير طريق الشرع ، وحينئذ لا يتمّ التقريب المذكور ، بل يكون الغرض على فرض وجوده معلوما ضمن الأقلّ ، ويشكّ في وجوده ضمن الأكثر فتجري البراءة لنفيه.

وفي مقامنا لم يثبت التصدي المولوي لإبراز الغرض وأنّه ضمن الأكثر ؛ إذ المفروض أنّه لا يوجد دليل ولا أصل ولا شيء من أنحاء التنجيز يثبت الأكثر ، بل الأصل يثبت التأمين والتعذير من ناحية الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ معلوم تفصيلا على كلّ حال.

وما دام الأمر كذلك فلا موجب ولا مبرّر لإثبات كون الغرض في الأكثر ، بل هو مشكوك ، وبما أنّ الأقلّ معلوم تفصيلا فيعلم بتحقّق الغرض به ، فيكون الشكّ في وجوب الغرض بالأكثر شكّا بدويّا وهو مجرى للبراءة لا للاحتياط.

فتبيّن أنّ الغرض ما دام غير ثابت ولا واصل ولا منجّز ولم يتصدّ المولى لإبرازه فلا يحكم العقل بلزوم تحصيله والاحتياط من ناحيته ؛ لأنّه والحال هذه يكون مشكوكا بدوا.

البرهان الثالث :

أنّ وجوب الأقلّ منجّز بحكم كونه معلوما ، وهو مردّد بحسب الفرض بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقلّ يسقط هذا

ص: 29

الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلاليّا ؛ لحصول الامتثال ، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنيّا ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة مترابطة ثبوتا وسقوطا ، فما لم تمتثل جميعا لا يسقط شيء منها.

وهذا يعني أنّ المكلّف الآتي بالأقلّ يشكّ في سقوط وجوب الأقلّ والخروج عن عهدته ، فلا بدّ له من الاحتياط.

وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد ، حتّى يقال : إنّه شكّ في التكليف ، بل إنّما هو رعاية للتكليف بالأقلّ المنجّز بالعلم واليقين ، نظرا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

البرهان الثالث : ويقوم على أساس إبراز أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت الذمّة به يقينا ، والذي يكون مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال العقلي.

وحاصله : أنّنا لو سلّمنا بانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقلّ وشكّ بدوي في وجوب الأكثر ، إلا أنّه مع ذلك يجب الإتيان بالأكثر ولا يكفي الاقتصار على الأقلّ.

ببيان : أنّ الأقلّ بحسب الفرض معلوم وجوبه تفصيلا ، إلا أنّه مع ذلك مردّد بين كونه واجبا استقلاليّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ وحده أو واجبا ضمنيّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ ضمن الأكثر ، وهذا معناه اشتغال الذمّة يقينا بالأقلّ على كلا التقديرين ، ويجب إخراجها عن عهدته وإبراؤها منه يقينا ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعليه فإذا اقتصر في الامتثال والخروج عن العهدة بالإتيان بالأقلّ وحده ، سوف يعلم ببراءة ذمّته ممّا اشتغلت به على تقدير كون الأقلّ الذي اشتغلت به الذمّة هو الأقلّ الاستقلالي ، وأمّا على تقدير كون الأقلّ الداخل في العهدة هو الأقلّ الضمني فالذمّة لا تزال مشتغلة به ولم تخرج عن عهدته ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة حيث إنّها مترابطة فيما بينها في عالم الثبوت فهي مترابطة فيما بينها أيضا بلحاظ عالم الامتثال والسقوط والخروج عن العهدة ، إذ الوجوب الضمني لا يمتثل إلا ضمنا ، أي أنّ الأقلّ الضمني لا يتحقّق امتثاله إلا بلحاظ كونه ضمنيّا ، وهذا لا يتأتّى إلا بالإتيان بالأكثر لكي يتحقّق عنوان الضمنيّة للأقلّ.

ص: 30

وبهذا ظهر أنّ المكلّف وإن كان يعلم بوجوب الأقلّ على كلّ حال ، إلا أنّه بلحاظ تحصيل الخروج عن العهدة للتكليف الذي اشتغلت به الذمّة لا بدّ له من الاحتياط والإتيان بالأكثر.

ووجوب الأكثر هنا ليس بابه باب الاحتياط في الإتيان بالتكليف الزائد ليقال : إنّ احتمال التكليف الزائد مجرى للبراءة ، بل بابه باب الاحتياط في الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت به الذمّة.

فالأكثر في نفسه ليس واجبا وإنّما يجب بلحاظ كونه مقدّمة لتحقيق الامتثال والفراغ اليقيني.

والجواب على ذلك : أنّ الشكّ في سقوط تكليف معلوم إنّما يكون مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشكّ في الإتيان بمتعلّقه ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ - سواء كان استقلاليّا أو ضمنيّا - قد أتي بمتعلّقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلّقة إلا الأقلّ ، وإنما ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيّته المانعة عن سقوطه مستقلاّ عن وجوب الزائد.

وهكذا يرجع الشكّ في السقوط هنا إلى الشكّ في ارتباط وجوب الأقلّ بوجوب زائد.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ الشكّ في سقوط التكليف المعلوم دخوله في العهدة على نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في الإتيان بالتكليف ، أي أنّه لا يعلم هل أتى بمتعلّق التكليف أو لا؟

فهنا سوف يشكّ في أنّه امتثل المأمور به أو لا ، وبالتالي سوف يشكّ في سقوط التكليف وخروجه عن عهدته أو أنّه لا يزال مشغول الذمّة به ، وهذا الشكّ هو مورد قاعدة الاشتغال اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني.

الثاني : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في أنّ التكليف هل هو متعلّق بهذا المقدار الذي أتى به أو أنّه متعلّق بشيء آخر أيضا زائدا عليه؟ فهنا يعلم بأنّ ما أتى به متعلّقا للتكليف يقينا وأنّ الذمّة مشتغلة به يقينا ، إلا أنّه يشكّ في اشتغاله بشيء آخر

ص: 31

زائدا عليه يكون على فرض وجوده وثبوته واشتغال الذمّة به مانعا من الخروج عن العهدة وعن سقوط التكليف ، وهذا النحو من الشكّ يرجع إلى الشكّ في تكليف زائد عمّا هو معلوم ويكون مجرى لأصالة البراءة.

وفي المقام إذا كان الشكّ من النحو الأوّل جرت فيه أصالة الاشتغال العقلي ، وأمّا إذا كان من النحو الثاني فهو مجرى لأصالة البراءة العقليّة أو الشرعيّة ، ولذلك نقول :

إنّ وجوب الأقلّ المعلوم يقينا اشتغال الذمّة به إمّا استقلالا وإمّا ضمنا قد أتى به المكلّف وامتثله وبالتالي قد سقط التكليف بالأقلّ ؛ لأن التكليف متعلّق بالأقلّ وقد أتى به ، فلا شكّ في امتثاله للمتعلّق.

إلا أنّه هنا يشكّ في سقوط التكليف من ناحية أخرى ، وهي أنّ الأقلّ لو كان وجوبه ضمنيّا فهو لا يسقط بالامتثال الاستقلالي للأقلّ ، بمعنى أنّ الإتيان بالأقلّ الاستقلالي يمنع من تحقّق الامتثال فيما لو كان الأقلّ واجبا ضمنا ؛ لأنّ الواجب الضمني لا يتحقّق ولا يمتثل إلا بالإتيان به ضمنا.

وهذا النحو من الشكّ مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في كون الأقلّ مستقلاّ عن الزائد أو هو مرتبط بالزائد ، أي أنّ التكليف هل هو متعلّق بالمقدار الذي أتى به فقط ، أو أنّه متعلّق بشيء آخر زائد على ذلك؟ وهذا يجعل المورد من القسم الثاني لا الأوّل ، ولذلك نقول :

ومثل هذا الشكّ ليس مجرى لأصالة الاشتغال ، بل يكون مؤمّنا عنه بالأصل المؤمّن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى أنّ ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقلّ ، بل بمعنى أنّه يجعل المكلّف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

بعد أن تبيّن أنّ الشكّ في مقامنا من الشكّ في وجوب الأقلّ المرتبط بوجوب الزائد ، نقول : إنّ وجوب الزائد المشكوك يجري فيه الأصل المؤمّن ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد على التكليف المعلوم ، فيثبت أنّ ما تعلّق به التكليف واشتغلت به الذمّة يقينا وهو الأقلّ قد امتثل ؛ لأنّ المكلّف قد أتى بالأقلّ.

وأمّا الأكثر أي وجوب الزائد فهو منفي بالأصل المؤمّن ، وهذا الأصل ينفي لنا

ص: 32

وجوب الأكثر ، بمعنى أنّ الذمّة لم تشتغل به يقينا ولم يدخل في العهدة ، وبالتالي لم يتعلّق به التكليف.

ولا يراد بهذا الأصل المؤمّن إثبات سقوط وجوب الأقلّ ليقال بأنّه من الأصل المثبّت بتقريب أنّ جريان البراءة عن الأكثر لازمه ثبوت وجوب الأقلّ ، وحيث إنّه امتثله فيتحقّق سقوط وجوبه.

بل المراد بهذا الأصل أنّ المكلّف ليس مطالبا بأكثر من الإتيان بالأقلّ في مقام إسقاط التكليف والخروج عن العهدة ، من جهة أنّ الزائد مؤمّن عنه ، فلا حاجة إلى الإتيان به في مقام الخروج عن عهدة التكليف ، بل الخروج كذلك يتحقّق بالإتيان بالأقلّ فقط.

البرهان الرابع :

وهو علم إجمالي يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها كالصلاة ، إذ يقال بأنّ المكلّف إذا كبّر تكبيرة الإحرام ملحونة وشكّ في كفايتها حصل له علم إجمالي إمّا بوجوب إعادة الصلاة ، أو حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها ؛ لأنّ الجزء إن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده وإلا وجبت عليه الإعادة ، فلا بدّ له من الاحتياط ؛ لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة عن حرمة قطع هذا الفرد.

البرهان الرابع : ما ذكره المحقّق العراقي ، من إبراز علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه مختصّ في الموارد التي يكون الواجب فيها مركّبا بنحو لا يجوز قطعه عند الشروع فيه ، وبنحو لا تجري فيه قاعدة ( لا تعاد ) ، كما في الصلاة والحجّ مثلا.

فإنّ المكلّف إذا شكّ في أوّل الصلاة أنّ تكبيرة الإحرام الملحونة هل تكفي لتحقّق المأمور به أو لا بدّ من التكبيرة الصحيحة؟

أو شكّ في أنّ الاستقبال للقبلة هل يكتفى فيه بالبناء على النظر العرفي التسامحي أو لا بدّ فيه من الدقّة؟

وعليه فإذا كبّر تكبيرة ملحونة أو استقبل القبلة من دون بناء على الدقّة فلو كان ذلك كافيا لوجب عليه الإتمام ؛ لأنّه شرع في تكليف يحرم قطعه ، وإذا لم يكن كافيا بأن كان الواجب هو التكبيرة الصحيحة أو الاستقبال الدقيق وجب عليه الإعادة من

ص: 33

جديد ؛ لأنّه لا يكون قد دخل في الصلاة أصلا. فيكون الأمر دائرا بين وجوب الإتمام أو وجوب الإعادة أي وجوب الإتمام مع الأقلّ أو وجوب الإعادة مع الأكثر ، هذا هو التصوير الفنّي والصحيح لهذا المانع.

وأمّا ما ذكره المحقّق العراقي من دوران الأمر بين وجوب الإعادة وحرمة القطع فهو يتصوّر فيما إذا كان الشكّ في السورة وكونها جزءا من الصلاة أو لا ، فإنّه إذا شرع في الصلاة وقرأ الحمد من دون السورة ثمّ ركع - وهذا يعني تجاوز المحلّ لأنّه قد دخل في الركن - سوف يعلم إجمالا : إمّا بحرمة قطع هذه الصلاة ووجوب إتمامها بأن لم تكن السورة جزءا من الصلاة ، وإمّا بوجوب القطع والإعادة بأن كانت السورة جزءا من الصلاة وقد تركها عمدا بحسب الفرض لا نسيانا أو جهلا.

وهذا العلم الإجمالي الدائر بين حرمة القطع ووجوب الإعادة منجّز ويجب الاحتياط تجاهه ، وذلك بأن يتمّ ما بيده من صلاة ثمّ يأتي بصلاة جديدة مع الأكثر فيكون قد امتثل كلا الطرفين.

وهذا العلم الإجمالي ليس منحلاّ لا حقيقة ولا حكما.

أمّا الأوّل فواضح ، إذ لا علم لنا بأحد الفردين.

وأمّا الثاني فلأنّ الأصل المؤمّن الجاري لنفي وجوب الإعادة معارض بالأصل المؤمّن لنفي حرمة القطع ، فإنّ كلاّ من وجوب الإعادة وحرمة القطع يعتبر تكليفا زائدا عن الواجب المأمور به وهو الصلاة.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين الأقلّ والأكثر قبل الشروع في الصلاة حيث يشكّ في وجوب السورة وعدمها ، ولكنّه بعد الشروع في الصلاة وتجاوز المحلّ أي بعد الدخول في الركن كالركوع سوف ينقلب هذا العلم الإجمالي إلى العلم الإجمالي بين وجوب الإتمام أو حرمة القطع ، وبين وجوب الإعادة والاستئناف.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التي يجوز للمكلّف بحسب وظيفته الفعليّة الاقتصار عليها في مقام الامتثال ؛ إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك.

وواضح أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة

ص: 34

عن وجوب الزائد ، وإلا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعني أنّ احتمال حرمة القطع مترتّبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل أن يستتبع أصلا معارضا له.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي الدائر بين وجوب إعادة الصلاة وبين حرمة قطعها منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري لنفي وجوب الإعادة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة لا تجري لنفي حرمة قطع الصلاة.

وتوضيحه : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي يجوز الاكتفاء بها والاقتصار عليها في مقام الامتثال ولو ظاهرا ، فلكي تثبت حرمة القطع لا بدّ أوّلا من إثبات كون الصلاة التي أتى بها وشرع فيها من دون الإتيان بالسورة ممّا يمكن ويصحّ الاكتفاء بها عمليّا ، إلا أنّ إثبات ذلك فرع كون السورة مؤمّنا عنها ، وهذا إنّما يثبت بجريان البراءة عن الزائد والاكتفاء بالأقلّ ، فإنّه إذا كان الأقلّ كافيا كانت الصلاة صحيحة وبالتالي يحرم قطعها.

والوجه في ذلك : أنّ دليل حرمة قطع الصلاة هو الإجماع والذي هو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو الصلاة الصحيحة ولو ظاهرا ، والتي يصحّ الاكتفاء بها في الامتثال ، ولا شمول لهذا الدليل لأكثر من هذا المقدار ، بل يعلم بعدم الشمول ؛ لأنّ الصلاة إذا لم يصحّ الاكتفاء بها فلا معنى لحرمة قطعها ؛ لأنّها لا تكون صلاة بالدقّة.

وحينئذ نقول : إنّ حرمة قطع الصلاة مترتّبة ومتفرّعة على جريان البراءة أوّلا لنفي وجوب الزائد ، فهي في طول جريان البراءة إذ قبل جريانها لا يعلم بحرمة قطع الصلاة ؛ لأنّه إذا ترك السورة وكانت جزءا من الصلاة فهذا يعني أنّ صلاته باطلة ، والصلاة الباطلة لا يحرم قطعها إجماعا.

ولذلك لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الأكثر والزائد مع البراءة لنفي حرمة قطع الصلاة ؛ لأنّ البراءة الثانية للزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فتكون الحرمة ثابتة قطعا لثبوت موضوعها ، ومعه لا مجال لجريان البراءة عنها ؛ إذ لا مورد للبراءة في حالة العلم.

وبتعبير آخر : إنّ احتمال حرمة القطع والذي يكون موردا للبراءة فرع عدم جريان

ص: 35

البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّه لو جرت البراءة عن وجوب الزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فصارت ثابتة قطعا ، وإذا لم تجر البراءة كذلك فحرمة القطع محتملة ومشكوكة فتكون مجرى للبراءة.

وهذا يعني أنّه لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الزائد مع البراءة لنفي حرمة القطع ، بل إحداهما فقط هي الجارية ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منحلاّ حقيقة.

والحكم في مثل هذا المورد يختلف باختلاف الأصل الجاري في المقام ، فقد يكون الأصل الجاري هو البراءة عن وجوب الزائد فيكون الحكم وجوب الإتمام وحرمة القطع ، وهذا يكون في مثل الشكّ في جزئيّة السورة.

وأمّا في مثل صحّة التكبيرة الملحونة أو صحّة الاستقبال العرفي المسامحي دون الدقّي والصحيح ، فهنا إذا لم تكن التكبيرة الملحونة كافية فهو لم يشرع في الصلاة أصلا ليحرم قطعها ، وإذا كانت كافية فيحرم قطعها فيشكّ في حرمة القطع فتجري عنها البراءة ، وتتعارض مع البراءة الجارية بلحاظ وجوب الإعادة ؛ لأنّها مشكوكة أيضا فيحكم بالاحتياط أي الإتمام ثمّ الإعادة.

البرهان الخامس :

وحاصله تحويل الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامّين من وجه بدلا عن الأقلّ والأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن مقدّمتين :

البرهان الخامس : وهو مختصّ في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر في الواجبات العباديّة لا التوصّليّة ؛ لأنّ الواجبات العباديّة حيث إنّها تشتمل زائدا على الإتيان بالمتعلّق كون الإتيان به بداعي القربة لله تعالى ، فيمكن فيها انقلاب الأقلّ والأكثر إلى العامّين من وجه ، فيكون لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر جهة افتراق عن الآخر وهناك مادّة اجتماع ، وإذا دار الأمر كذلك فيتنجّز خصوص مادّة الاجتماع دون مادّتي الافتراق ، ومادّة الاجتماع هنا هي الإتيان بالأكثر المشتمل على الزائد.

وأمّا كيفيّة تصوير هذا المطلب فهذا يتّضح ضمن المقدّمتين التاليتين :

الأولى : أنّ الواجب تارة يدور أمره بين المتباينين كالظهر والجمعة ، وأخرى بين العامّين من وجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي ، وثالثة بين الأقلّ والأكثر.

ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الأولى الموجب للجمع بين

ص: 36

الفعلين ، وتنجيزه في الحالة الثانية الموجب ؛ لعدم جواز الاقتصار على إحدى مادّتي الافتراق ، وأمّا الحالة الثالثة فهي محلّ الكلام.

المقدّمة الأولى : أنّ التردّد في الواجب على أنحاء ثلاثة :

1 - أن يكون الواجب مردّدا بين المتباينين ، كأن يعلم بوجوب الصلاة مثلا ويتردّد أمرها بين الظهر أو الجمعة ، وهنا لا إشكال في كون هذا العلم الإجمالي منجّزا لطرفيه بمعنى وجوب الإتيان بالظهر والجمعة ، كما تقدّم في مباحث العلم الإجمالي.

2 - أن يكون الواجب مردّدا بين العامّين من وجه ، كأن يعلم بوجوب الإكرام مثلا ويتردّد أمره بين إكرام العالم أو إكرام الهاشمي ، فهنا العالم يشمل الهاشمي وغير الهاشمي ، والهاشمي يشمل العالم وغير العالم ، فيجتمعان في العالم الهاشمي ، ويفترق الهاشمي عن العالم في الهاشمي غير العالم ، ويفترق العالم عن الهاشمي في العالم غير الهاشمي ، ومثل هذا العلم الإجمالي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع أي وجوب إكرام العالم الهاشمي ، ولا يصحّ الاكتفاء بإحدى مادّتي الافتراق.

3 - أن يكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كأن يعلم بوجوب الصلاة ولا يدري أنّها تسعة أجزاء أو عشرة ، وحكم هذا الدوران يتحدّد على أساس أن الأقلّ والأكثر هل هما من العلم التفصيلي بالأقلّ والشكّ البدوي في الأكثر ، أو هما من المتباينين ، أو هما من العامّين من وجه؟

وسوف نرى أنه بالإمكان إرجاعهما إلى العامّين من وجه.

الثانية : أنّ الواجب المردّد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان عباديّا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالأقلّ وامتثاله على تقدير تعلّقه بالأكثر هي العموم من وجه.

ومادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأقلّ واضحة ، وهي أن يأتي بالتسعة فقط.

وأمّا مادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر فلا تخلو من خفاء في النظرة الأولى ؛ لأنّ امتثال الأمر بالأكثر يشتمل على الأقلّ حتما ، ولكن يمكن تصوير مادّة الافتراق في حالة كون الأمر عباديّا والإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلّق بالأكثر على وجه التقييد على نحو لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ فقط لما انبعث عنه ، ففي

ص: 37

مثل ذلك يتحقّق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون امتثالا للأمر بالأقلّ على تقدير ثبوته.

المقدّمة الثانية : أنّ مورد تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر تارة يكون الواجب المردّد توصّليّا ، وأخرى يكون عباديّا.

فإن كان توصّليّا فلا كلام في أنّ الزائد تجري فيه البراءة ؛ لأنّ الأقلّ معلوم على كلّ تقدير.

وإن كان تعبّديّا كالصلاة فهنا تكون النسبة بين امتثال الأقلّ وامتثال الأكثر العموم والخصوص من وجه ، أي أنّ الأقلّ يفترق عن الأكثر ، والأكثر يفترق عن الأقلّ ، ويجتمع كلّ منهما معا.

أمّا مادّة افتراق الأقلّ عن الأكثر فواضحة وهي فيما إذا أتى بالتسعة فقط ، فإنّه لا ينطبق عليها عنوان الأكثر.

وأمّا مادّة الاجتماع بينهما فهي الإتيان بالعشرة بقصد امتثال الأمر الواقعي ، لا بقصد امتثال الأقلّ بخصوصه ، ولا بقصد امتثال الأكثر بخصوصه ، فإنّ الإتيان بالعشرة بقصد امتثال مطلق الأمر ينطبق على الأقلّ والأكثر معا.

وأمّا مادّة افتراق الأكثر عن الأقلّ فقد يقال : إنّ هذا غير معقول إذ لا يمكن تصوّر الأكثر من دون الأقلّ ؛ لأنّ العشرة لا تتحقّق إلا بالتسعة ، إلا أنّ الصحيح إمكان ذلك استنادا إلى المبنى الفقهي المشهور من أنّ الإتيان بالأكثر بقصد التقييد يمنع من انطباقه على الأقلّ ، بمعنى أنّه يقصد الإتيان بالأكثر بعنوان امتثال الأمر المتعلّق بالأكثر بحيث إنّه لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ لما كان امتثله وانبعث نحوه ، فيكون الإتيان بالأكثر بهذا القيد امتثالا للأمر بالأكثر دون الأقلّ ؛ لأنّه قصد عدم امتثاله والانبعاث عنه.

نظير ما لو علم بصدور أمر بالصلاة مردّد بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه إذا قصد امتثال الأمر الواقعي يكون قد جمع بين الوجوب والاستحباب ، وإذا قصد الاستحباب بخصوصه فلا ينطبق على الوجوب وكذا العكس ، وهذا ما يسمّى بقصد الأكثر على نحو التقييد لا على نحو التطبيق.

وحينئذ يقال : إنّ العلم الإجمالي يدور بين العامّين من وجه ، وفي مثل ذلك يتنجّز

ص: 38

مادّة الاجتماع ولا يكتفى بإحدى مادّتي الافتراق ، فيجب الإتيان بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي.

ويثبت على ضوء هاتين المقدّمتين أنّ العلم الإجمالي في المقام منجّز إذا كان الواجب عباديّا كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر العباديّين ينقلب إلى الدوران بين العامّين من وجه والذي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع.

والجواب : أنّ التقييد المفروض في النيّة لا يضرّ بصدق الامتثال على كلّ حال حتّى للأمر بالأقلّ ما دام الانبعاث عن الأمر فعليّا.

والجواب عن هذا البرهان أن يقال : إنّ المبنى الفقهي المبتني عليه هذا البرهان غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا ننكر أن يكون هناك نحوان من قصد الامتثال : أحدهما بعنوان التطبيق ، والآخر بعنوان التقييد ، وإنّما هناك نحو واحد فقط ، وهو قصد امتثال الأمر والانبعاث الفعلي نحو المأمور به الناشئ من تعلّق الأمر به.

والدليل على ذلك هو : أنّ المستند لوجوب الانبعاث عن الأمر وقصد امتثاله هو الإجماع ، وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن منه وهو قصد القربة مطلقا ، أو قصد الامتثال والانبعاث الفعلي عن الأمر ، ولذلك فإذا أضاف قيدا زائدا على ذلك وهو كون الانبعاث والامتثال للأمر بنحو التقييد لخصوص الأكثر لا يكون مضرّا في صدق الانطباق على الأقلّ حقيقة وفي صدق تحقّق الانبعاث والامتثال للأمر.

البرهان السادس : وهو يجري في الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة ، والزيادة هي الإتيان بفعل بقصد الجزئيّة للمركّب مع عدم وقوعه جزءا له شرعا.

وحاصل البرهان : أنّ من يشكّ في جزئيّة السورة يعلم إجمالا إمّا بوجوب الإتيان بها وإمّا بأنّ الإتيان بها بقصد الجزئيّة مبطل ؛ لأنّها إن كانت جزءا حقّا وجب الإتيان بها ، وإلا كان الإتيان بها بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة.

وهذا العلم الإجمالي منجّز وتحصل موافقته القطعيّة بالإتيان بها بدون قصد الجزئيّة ، بل لرجاء المطلوبيّة أو للمطلوبيّة في الجملة.

البرهان السادس : وهو يبتني على قاعدة فقهيّة صحيحة ، ومفادها أنّ الإتيان

ص: 39

بالجزء بقصد الجزئيّة مانع ومبطل للمركّب ، فيما إذا لم يكن هذا الجزء المأتي به جزءا واقعا ، فهذا البرهان يختصّ في المركّبات العباديّة التي تعتبر الزيادة فيها على تقدير عدم ثبوتها واقعا مانعة ومبطلة للمركّب إذا قصد الجزئيّة حين الإتيان بها ، وحينئذ سوف يكون الدوران بين الأقلّ والأكثر في مثل هذه الموارد من الدوران بين العامّين من وجه ، والتي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا لمورد الاجتماع.

وحاصل البرهان أن يقال : إذا شكّ المكلّف في وجوب السورة وعدم وجوبها ، فهذا الشكّ ابتداء من الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إمّا أن تجب تسعة أجزاء أو عشرة ، إلا أنّه بالالتفات إلى كون السورة جزءا أو زيادة ، فسوف يحصل له علم إجمالي إمّا بوجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة لاحتمال كونها جزءا دخيلا في المركّب واقعا ، وإمّا بوجوب تركها وحرمة الإتيان بها بقصد الجزئيّة ؛ لأنّها حينئذ سوف تكون زيادة مبطلة للمركّب على تقدير عدم جزئيّتها واقعا.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين العامّين من وجه ، فيكون منجّزا لمورد الاجتماع ، ولا يصحّ الاكتفاء بأحد موردي الافتراق.

وبيان ذلك : أمّا مورد افتراق الأقلّ فهو الإتيان بالمركّب من دون الإتيان بالسورة لكونها زيادة مبطلة.

وأمّا مورد افتراق الأكثر فهو الإتيان بالمركّب مع الاتيان بالسورة بقصد الجزئيّة.

وأمّا مورد الاجتماع فهو الإتيان بالمركّب مع الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد المطلوبيّة للوجوب ، أو بقصد مطلق المطلوبيّة الأعمّ من الوجوب والاستحباب.

فإذا أتى بمورد الاجتماع تحقّقت الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، وبذلك يثبت وجوب الإتيان بالأكثر.

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ؛ وذلك لأنّ هذا الشاكّ في الجزئيّة يعلم تفصيلا بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة حتّى لو كانت جزءا في الواقع ؛ لأنّ ذلك منه تشريع ما دام شاكّا في الجزئيّة فيكون محرّما ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة ، وهذا يعني كونه زيادة.

والجواب عن ذلك أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حكما ، وذلك لجريان أصل البراءة عن وجوب الزيادة أي السورة بلا معارض.

ص: 40

وتقريبه : أنّ هذا الشاكّ يعلم تفصيلا أنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة على كلّ تقدير ، أي سواء كان الواجب في الواقع هو الأقلّ أم كان هو الأكثر.

أمّا على تقدير كون الواجب هو الأقلّ فواضح ؛ لأنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطل حتما ؛ لأنّه يكون قد أتى بما ليس بواجب ، وما ليس بجزء بهذا القصد.

وأمّا على تقدير كون الأكثر هو الواجب واقعا فكذلك يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطلا ؛ لأنّه لا يعلم بوجوب الأكثر وإنّما هو شاكّ في وجوبه ، ومع الشكّ في وجوبه يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة تشريعا محضا وهو محرّم ؛ لأنّه ينسب إلى الشريعة ما لا يعلم أنّه منها ؛ لأنّ الفرض كونه شاكّا في وجوب الأكثر.

يبقى وجوب الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، وهذا الوجوب غير معلوم ، بل هو مشكوك بدوا ، فتجري فيه البراءة بلا معارض ؛ لأنّ معارضه وهو البراءة عن وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة على كلا التقديرين لا يجري ؛ لأنّ وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة معلوم كونه مبطلا ومانعا تفصيلا ، ومع العلم به كذلك لا مجال لجريان البراءة عنه.

يبقى احتمال أن تكون السورة واجبة بالوجوب الضمني ، وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كون السورة واجبة ضمنا فرع أن يكون الأمر بالمركّب متعلّقا بالأكثر ، فإنّه إذا كان متعلّقا بالأكثر كان هناك وجوب ضمني لكلّ جزء من أجزائه حتّى السورة ، إلا أنّ المفروض أنّ وجوب الأكثر مشكوك فيكون الوجوب الضمني للسورة مشكوكا فتجري فيه البراءة من دون معارض كما تقدّم.

وبهذا اتّضح أنّه ليس هناك مانع من جريان البراءة في مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء ؛ لأنّ كلّ ما ذكر من أدلّة وبراهين للمنع غير تامّة.

وبهذا ينتهي البحث عن مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

* * *

ص: 41

ص: 42

الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

اشارة

ص: 43

ص: 44

2 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

والتحقيق فيها - على ضوء المسألة السابقة - هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّ مرجع الشرطيّة للواجب إلى تقيّد الواجب بقيد وانبساط الأمر على التقيّد ، كما تقدّم في موضعه (1) ، فالشكّ فيها شكّ في الأمر بالتقيّد.

والدوران إنّما هو بين الأقلّ والأكثر إذا لوحظ المقدار الذي يدخل في العهدة ، وهذا يعني وجود علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد فتجري البراءة عنه.

إذا شكّ في وجوب شرط مع الواجب ، كما إذا شكّ في وجوب الطهارة مع الصلاة ، فهذا من الشكّ في الأقلّ والأكثر في الشرائط ، بمعنى أنّ الواجب هل هو الصلاة فقط ، أو الصلاة مع الطهارة؟

والتحقيق في ذلك أن يقال : إنّ البراءة تجري لنفي الشرط الزائد المشكوك ، كما هو الحال في الشكّ في الجزء الزائد تماما.

والوجه في ذلك : أنّ مرجع الشكّ في الشرطيّة للواجب إلى الشكّ في أنّ المأمور به هل هو ذات الطبيعة أو حصّة خاصّة من الطبيعة؟ لأنّ الشرطيّة للواجب معناها تقيّد الواجب بقيد ، وتعلّق الأمر بذات الواجب وبالتقيّد بذلك القيد لا بذات الواجب فقط ؛ لأنّ القيد يحصّص الواجب إلى حصّتين ، الأولى الصلاة من دون القيد والثانية الصلاة مع القيد ، بحيث يكون المأمور به هو الحصّة الخاصّة من الواجب لا الواجب كيفما اتّفق.

وحينئذ يكون الشكّ في الشرط مرجعه في الحقيقة إلى الشكّ في الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الواجب ، وهذا يعني أنّه دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ ذات الواجب

ص: 45


1- بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

معلوم على كلّ تقدير سواء كان الشرط موجودا أم لا ، ويشكّ في وجوب زائد وهو تقيّد الواجب بهذا القيد فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه تكليف زائد مشكوك.

وبهذا يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ انحلالا حقيقيّا ؛ لأنّ ما يدخل في العهدة على كلّ تقدير هو ذات الواجب ، ويشكّ في دخول شيء زائد في العهدة وهو التقيّد الناشئ من الشكّ في وجوب الشرط.

والحاصل : أنّ الشكّ في دخالة الشرط كالشكّ في دخالة الجزء في كونه مجرى للبراءة.

غاية الأمر الفرق بينهما من جهة أنّ الجزء يكون بنفسه مأمورا به بنحو الوجوب الضمني المترشّح عليه من الأمر بالمركّب ، بينما الشرط لا يكون بنفسه مأمورا به ، بل المأمور به هو تقيّد الواجب بهذا الشرط لا الشرط نفسه ، وإنّما الشرط يفيدنا في تحصيص الواجب إلى حصّتين حصّة مطلقة وحصّة مقيّدة ، ثمّ ينصبّ الأمر على الحصّة المقيّدة والتي هي بالتحليل العقلي تقسّم إلى جزءين ذات الواجب والشرط ، فهو جزء تحليلي للواجب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعا إلى متعلّق الأمر كما في الشكّ في اشتراط العتق بالصيغة العربيّة واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو إلى متعلّق المتعلّق ، كما في الشكّ في اشتراط الرقبة التي يجب عتقها بالإيمان أو الفقير الذي يجب إطعامه بالهاشميّة.

ثمّ إنّ الحكم الذي ذكرناه عند الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط وهو جريان البراءة ، لا يختلف سواء كان الشكّ في الشرطيّة راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق.

أمّا النحو الأوّل أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق الأمر ، كما إذا شكّ في اشتراط الصلاة بالطهارة ، فإنّ الطهارة هنا شرط للمادّة أي لمتعلّق الأمر وهو الصلاة في المثال ، لا للوجوب ؛ لأنّ الوجوب ثابت على كلّ تقدير عند زوال الشمس سواء كان متطهّرا أم لا ، وإنّما الواجب عند الزوال هو الصلاة مع الطهارة لا بدونها ، فهذا الشرط شرط للمادّة أي للواجب.

وأمّا النحو الثاني أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق المتعلّق وهو الموضوع ، كما إذا

ص: 46

شكّ في اشتراط الإيمان في الرقبة التي يجب عتقها ، فإنّ العتق متعلّق للوجوب ، والرقبة متعلّق للعتق ، والإيمان متعلّق بالرقبة لا بالوجوب ولا بالعتق ، فهي شرط في الموضوع.

وكذا وجوب إطعام الفقير الذي شكّ في اشتراط الهاشميّة فيه ، فإنّ الهاشميّة شرط لمتعلّق المتعلّق أي للموضوع ؛ لأنّ الحكم هو الوجوب المتعلّق بالإطعام فهو المادّة أو متعلّق الأمر ، والإطعام متعلّق بالفقير فهو متعلّق المتعلّق والهاشميّة شرط في الفقير أي الموضوع.

ففي هذين النحوين يكون الشكّ في الشرطيّة مجرى للبراءة ؛ لأنّ مرجعه كما قلنا إلى الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الطبيعة المعلومة على كلّ تقدير.

هذا هو الصحيح في المسألة ، إلا أنّ المحقّق العراقي له تفصيل في المقام وهو :

وقد ذهب المحقّق العراقي - قدس اللّه روحه - (1) إلى عدم جريان البراءة في بعض الحالات المذكورة.

ومردّ دعواه إلى أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها : تارة تتطلّب من المكلّف في حالة إرادته الإتيان بالأقلّ أن يكمّله ويضمّ إليه شرطه ، وأخرى تتطلّب منه في الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الأقلّ الناقص رأسا وإلغاءه إذا كان قد أتى به ودفعه إلى الإتيان بفرد آخر كامل واجد للشرط.

ومثال الحالة الأولى : أن يعتق رقبة كافرة فإنّ شرطيّة الإيمان في الرقبة تتطلّب منه أن يجعلها مؤمنة عند عتقها ، وحيث إنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فالشرطيّة لا تقتضي إلغاء الأقلّ رأسا بل تكميله ، وذلك بأن يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.

ومثال الثاني : أن يطعم فقيرا غير هاشمي فإنّ شرطيّة الهاشميّة تتطلّب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الإتيان بفرد جديد من الإطعام ؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميّا.

وهنا تفصيل للمحقّق العراقي يفرّق على أساسه بين الشرط الراجع إلى المتعلّق والشرط الراجع إلى متعلّق المتعلّق ، فتجري البراءة في النحو الأوّل دون الثاني ، ولكن

ص: 47


1- نهاية الأفكار 3 : 399.

يمكن إرجاع تفصيله إلى مطلب آخر لعلّه هو مراده فنقول : أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها واقعا على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يضمّ شيئا زائدا على ما أتى به ، بحيث إنّ الأقلّ لا يكفي ، بل لا بدّ من تكميله بضمّ الزائد إليه لكي تتحقّق الشرطيّة.

كما إذا قيل أعتق رقبة وشكّ في شرطيّة الإيمان في الرقبة ، فهنا إذا أراد أن يعتق رقبة غير مؤمنة فشرطيّة الإيمان المحتملة لا تتطلّب منه أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ويأتي برقبة مؤمنة غير الرقبة التي يريدها ، بل تتطلّب منه أن يضمّ إلى هذه الرقبة الكافرة شرطا زائدا عليها وهو شرط الإيمان ، وذلك بأن يجعل هذا الكافر مؤمنا ، فإنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فيكون واقعا تحت الاختيار ويصحّ تعلّق الأمر به ، ولذلك إذا جعل هذا الكافر مؤمنا عند إرادة عتقه فلا يكون قد جاء بمتعلّق آخر ، وإنّما نفس المتعلّق الذي تحت يده غاية الأمر أنّه ضمّ إليه شيئا زائدا وأكمله بالشرط المحتمل ، وأوضح منه ما إذا كان الشرط المحتمل في العتق هو قصد القربة.

الثاني : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ، ويأتي بمتعلّق آخر غير هذا ، وذلك بأن يكون الشرط المحتمل الثبوت غير ممكن جعله وضمّه إلى ما بيده ، بل لا بدّ من كونه موجودا في نفسه من قبل ، فهو خارج عن إرادته واختياره.

كما إذا قيل : أكرم الفقير ، وشكّ في شرطيّة الهاشميّة فيه ، فهنا إذا أراد أن يكرم فقيرا غير هاشمي فلا يمكنه أن يضمّ إليه شرط الهاشميّة ؛ لأنّ الهاشميّة ليست دخيلة تحت إرادة المكلّف ولا يمكنه جعلها ، ولذلك تكون هذه الشرطيّة على تقدير ثبوتها تستدعي من المكلّف أن يصرف نظره عن المتعلّق الذي يريد إكرامه فيما إذا لم يكن واجدا للشرط ، وعليه أن يبحث عن فرد آخر يكون واجدا لهذا الشرط في نفسه ؛ لأنّ هذا الفرد يباين ويغاير الفرد السابق.

فاتّضح على ضوء هذا التفصيل أنّ الشرطيّة تارة تكون واقعة تحت إرادة المكلّف واختياره فلا تتطلّب منه إلا ضمّ الزائد إلى نفس المتعلّق ، وأخرى لا تكون تحت اختياره وإرادته فهنا تتطلّب منه أن يأتي بمتعلّق آخر واجد للشرط ؛ لأنّ المتعلّق الذي

ص: 48

بيده لا يمكن أن يضمّ إليه الشرط ؛ لأنّه غير ممكن له وخارج عن اختياره ، وحينئذ نقول :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة ؛ لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في إيجاب ضمّ أمر زائد على ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقا للمطلوب في الجملة ، وهذا معنى العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الزائد ، فالأقلّ محفوظ على كلّ حال والزائد مشكوك.

وفي الحالة الثانية : لا تجري البراءة عن الشرطيّة ؛ لأنّ الأقلّ المأتي به ليس محفوظا على كلّ حال ، إذ على تقدير الشرط لا بدّ من إلغائه رأسا ، فليس الشكّ في وجوب ضمّ أمر زائد إلى ما أتى به ليكون من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

الفرق بين الصورتين :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة والمحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ ما في يده يحتمل فيه أن يكون محقّقا للمأمور به وكافيا في الامتثال والخروج عن العهدة ، وذلك على تقدير ألا يكون الشرط ثابتا ، ويحتمل ألاّ يكون كافيا كذلك إلا بضمّ الشرط إليه.

وهذا معناه أنّه يشكّ في وجوب شيء زائد عمّا في يده ، فما في يده معلوم الوجوب على كلّ تقدير سواء كان هو الواجب فقط أم كان هو مع الشيء الآخر ، وأمّا الشيء الزائد وهو الشرطيّة فهي مشكوكة فتجري فيها البراءة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة عن الفعل الذي بيده لا معنى لها ؛ لأنّه معلوم الوجوب تفصيلا ، فهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة ، والذي ينحلّ بالدقّة إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد والذي تجري عنه البراءة.

فمثلا إذا كان الشكّ في شرطيّة قصد القربة في العتق للرقبة ، فعتق الرقبة معلوم تفصيلا ويشك في وجوب شيء آخر زائدا عليه وهو قصد القربة فتجري البراءة عنه بلا معارض.

وأمّا الحالة الثانية : فلا تجري البراءة عن الشرطيّة المحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ الفرد المأتي به والذي لا يكون واجدا للشرطيّة - على تقدير ثبوت الشرطيّة واقعا - لا يكون محقّقا للمأمور به ، من جهة أنّه ليس مصداقا له رأسا لا من جهة أنّه فاقد لشيء زائد ،

ص: 49

إذ المفروض أنّ هذا الشيء الزائد لا يمكنه إيجاده ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، ولذلك لا بدّ من الإتيان بفرد آخر يكون واجدا في نفسه للشرط.

وهذا معناه أنّه يشكّ في مصداق الواجب هل هو هذا الفرد الفاقد للشرط أو ذاك الفرد الواجد للشرط؟ وهذا علم إجمالي دائر بين المتباينين وليس هناك قدر متيقّن ومعلوم على كلّ حال ، بل إمّا هذا الواجب أو ذاك.

وفي مثل ذلك يكون العلم الإجمالي منجّزا للإتيان بالأكثر ؛ لأنّه يتحقّق المأمور به على كلا التقديرين ، بخلاف ما لو أتى بالأقلّ فإنّه على تقدير يكون محقّقا وعلى تقدير آخر لا يكون محقّقا ، فيكون الشكّ فيما هو المحقّق للمأمور به فيجب الاحتياط.

وهذا التحقيق لا يمكن الأخذ به ، فإنّ الدوران في كلتا الحالتين دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الملحوظ فيه إنّما هو عالم الجعل وتعلّق الوجوب ، وفي هذا العالم ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ، ويشكّ في عروضه على التقيّد ، فتجري البراءة عنه ، وليس الملحوظ في الدوران عالم التطبيق خارجا ليقال : إنّ ما أتي به من الأقلّ خارجا قد لا يصلح لضمّ الزائد إليه ولا بدّ من إلغائه رأسا على تقدير الشرطيّة.

والصحيح : أنّ هذا التفصيل وإن كان تحقيقا في المقام لكنّه خارج عن محلّ البحث ، وذلك لأنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر تارة يلحظ في عالم الجعل والتشريع ، وأخرى يلحظ في عالم التطبيق والامتثال.

فإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم التطبيق والامتثال كان هذا التفصيل وجيها.

وإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم الجعل والتشريع فلا يتمّ هذا التفصيل ؛ لأنّ عالم الجعل والتشريع هو عالم تعلّق الحكم بموضوعه ، فإذا قيل : أكرم الفقير أو اعتق رقبة كان وجوب الإكرام عارضا على موضوعه وهو ذات الفقير ، وكذلك وجوب العتق عارض على ذات الرقبة ، فإذا شكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير أو شرطيّة الإيمان وقصد القربة في العتق أو الرقبة ، كان هذا الشكّ من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّ وجوب الأقلّ وهو ذات الفقير أو ذات الرقبة معلوم الوجوب تفصيلا ؛ لأنّه هو معروض الحكم ، ويشكّ في وجوب شيء زائد عليه وهو تقيّد

ص: 50

الفقير بالهاشميّة أو تقيّد الرقبة بالإيمان أو تقيّد العتق بقصد القربة ؛ لأنّ الشكّ في الشرطيّة مرجعه - كما قلنا - إلى الشكّ في التقيّد ؛ لأنّ الشرط على تقدير ثبوته يكون محصّصا للواجب إلى حصّتين فهو أمر بالواجب وأمر بالتقييد بالقيد ، وحيث إنّ ذات الواجب معلوم ؛ لأنّه هو معروض الحكم فيكون الشكّ في التقيّد شكّا في تكليف زائد فتجري عنه البراءة.

واللحاظ الأوّل خارج عن محلّ البحث والكلام ؛ لأنّنا نريد أن نحدّد المقدار الداخل في الذمّة والذي اشتغلت به في مرحلة سابقة عن الامتثال والتطبيق ، وهذا إنّما يكون بتحديد الموضوع الذي انصبّ عليه الحكم ، ولذلك لا بدّ من ملاحظة الدوران في عالم الجعل والتشريع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المقدار الداخل في العهدة.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط تجري فيه البراءة مطلقا ، سواء كان الشرط راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق ، وسواء كان الشرط ممّا يمكن إيجاده للمكلّف أم كان ممّا لا يمكن إيجاده.

وبهذا يتمّ الكلام حول الشكّ في الشرطيّة.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشكّ في الشرطيّة ووجوب التقيّد بين أن يكون القيد المشكوك أمرا وجوديّا وهو ما يعبّر عنه بالشرط عادة ، أو عدم أمر وجودي ويعبّر عن الأمر الوجودي حينئذ بالمانع.

فكما لا يجب على المكلّف إيجاد ما يحتمل شرطيّته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عمّا يحتمل مانعيّته ، وذلك لجريان الأصل المؤمّن.

الشكّ في المانعيّة : ذكرنا فيما تقدّم أنّه إذا شكّ في شرطيّة شيء فتجري البراءة لنفي الشرطيّة.

ثمّ إنّ هذه الشرطيّة على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا وجوديّا ، وهذا ما يسمّى بالشرط عادة كالأمثلة المتقدّمة سابقا ، فإنّ الشكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير مثلا شكّ في أمر وجودي ؛ لأنّ الهاشميّة صفة وجوديّة ، ويكون الشكّ فيها راجعا إلى تقيّد الواجب بهذا القيد ، والذي تجري عنه البراءة كما تقدّم.

الثاني : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا عدميّا أو عدم أمر وجودي ، وهذا ما

ص: 51

يسمّى بالمانع على تقدير وجود هذا الأمر ، كما إذا شكّ في مانعيّة الضحك أو البكاء في الصلاة ، أو شكّ في مانعيّة لبس الجلد المشكوك في الصلاة ، فإنّ الشكّ هنا مرجعه إلى تقيّد الواجب بعدم هذا الأمر الوجودي ، فتجري فيه البراءة لأنّه شكّ في تكليف زائد عمّا هو متيقّن وهو ذات الواجب.

* * *

ص: 52

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

ص: 53

ص: 54

3 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

وذلك بأن يعلم بوجوب متعلّق بعنوان خاصّ أو بعنوان آخر مغاير له مفهوما غير أنّه أعمّ منه صدقا ، كما إذا علم بوجوب الإطعام إمّا لطبيعي الحيوان أو لنوع خاصّ منه كالإنسان ، فإنّ الحيوان والإنسان كمفهومين متغايران وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

المراد من التخيير العقلي أن يكون متعلّق الأمر عنوانا واحدا كلّيّا له حصص ومصاديق متعدّدة في الخارج ، ونسبته إلى حصصه على حدّ واحد ، كعنوان الإنسان مثلا ، فهو أمر تعييني بحسب مفهومه ولحاظه ولكنّه تخييري بحسب مصداقه.

كما إذا قيل : أكرم العالم ، فإنّ الإكرام له حصص كثيرة في الخارج ، فيكون اختيار أحدها ناتجا من حكم العقل ، وهنا إذا علم بوجوب الإكرام للعالم وشكّ في كونه متعلّقا بالعالم مطلقا أو بالفقيه خاصّة ، فهنا الشكّ في ذلك ناتج عن التخيير العقلي بين أفراد العالم ، فلو كان الواجب مطلق العالم لكفى غير الفقيه ، ولو كان الواجب خصوص الفقيه لم يجز غيره.

والنسبة بين العالم والفقيه بلحاظ مفهوميهما هي نسبة التباين ؛ لأنّ كلّ المفاهيم متباينة في عالم الذهن ؛ لأنّ لكلّ مفهوم صورة ذهنيّة تختلف عن الصورة الذهنيّة للمفهوم الآخر حتّى وإن كان بينهما تساو في الخارج.

نعم ، النسبة بين العالم والفقيه في الخارج وبلحاظ عالم الصدق هي العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّ كلّ فقيه عالم ، ولكن ليس كلّ عالم فقيها.

والحاصل : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يعني أن يشكّ في كون المتعلّق للأمر هل هو الحصّة الخاصّة المعيّنة منه أو أي حصّة يختارها؟ فيكون داخلا في الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الحصّة الخاصّة عبارة عن الحصّة وزيادة ، وهي كونها متشخّصة ومتعيّنة بحدود

ص: 55

وخصوصيّات لا يكفي عنها غيرها ، بخلاف مطلق الحصّة فإنّه لا يجب إلا كونها حصّة للمتعلّق ، وأمّا الخصوصيّات والمشخّصات فهي غير داخلة فيها.

وهذا يعني أنّه يعلم بوجوب الحصّة على كلّ تقدير ، سواء كانت مطلقة أو كانت معيّنة ويشك في كونها معيّنة بحصّة لا تنطبق إلا على نفسها ولا يجزي عنها غيرها ، وهذا يعني أنّ الدوران المذكور ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر فتجري عنه البراءة.

والصحيح أن يقال : إنّ التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ، ولكن بنحو اللف والإجمال.

وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرّد إجمال اللحاظ وتفصيليّته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيفما اتّفق أو بوجوب إطعامه ، فإنّ مفهوم الإكرام ليس محفوظا في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع ، غير أنّ أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

والتحقيق في حال الدوران المذكور أن يقال : إنّ التغاير بين العنوانين والمفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ ، أي في عالم الصور الذهنيّة كما في التغاير بين الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ؛ لأنّ النوع مركّب عقلا من الجنس والفصل ، فالجنس داخل في تركيب النوع ومحفوظ فيه ، ولكنّه بنحو الإجمال من دون ظهور واضح لذلك.

كما في الدوران بين الحيوان والإنسان أو بين العالم والفقيه ، فإنّ الحيوان والعالم جنس والفقيه والإنسان نوع ؛ لأنّ الانسان هو الحيوان الناطق ، والفقيه هو العالم بالفقه ، فكل واحد منهما ينطوي على الجنس أي الحيوان ويحتوي عليه ولكن بنحو الإجمال لا التفصيل وبنحو اللفّ لا النشر والظهور.

وأخرى يكون التغاير بين العنوانين والمفهومين إضافة للتغاير في عالم اللحاظ في عالم الملحوظ أيضا ، أي في عالم الصور الذهنيّة وحدودها ، وفي نفس الملحوظ والمرئي في هذه الصور فإنّه مختلف ومتغاير أيضا.

كما فيما إذا علم بوجوب إكرام زيد أو بوجوب إطعامه ، فهنا الإكرام والإطعام

ص: 56

كمفهومين بلحاظ عالم الجعل متغايران وكذا نفس الإكرام كملحوظ ومرئي يغاير الإطعام ، وليس أحدهما محفوظا في الآخر ومندمجا فيه ؛ إذ الإكرام لا يتركّب من الإطعام ولا الإطعام يتركّب من الإكرام كما هو الحال في الجنس والنوع.

نعم ، يوجد بين هذين المفهومين عموم وخصوص مطلق من حيث الصدق الخارجي ، فإنّ كلّ إطعام إكرام ولكن ليس كلّ إكرام إطعاما.

وفي الصورتين تجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ العلم الإجمالي الدائر بين المفهومين منحلّ ، إلا أنّ الانحلال يختلف ، ففي الصورة الأولى يكون الانحلال حقيقيّا بينما في الصورة الثانية يكون الانحلال حكميّا ، ولذلك نقول :

فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة إذا أخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل في العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ؛ لأنّ تباين المفهومين إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، وهما من خصوصيّات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ذات الملحوظ ، وهو مردّد بين الأقلّ وهو الجنس ، أو الأكثر وهو النوع.

أمّا الحالة الأولى : وهي حالة كون التغاير بين المفهومين في الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ والصور الذهنيّة ، أي في عالم التحليل العقلي كما في الجنس والنوع. فهنا يكون الانحلال حقيقيّا لسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

ففي قولنا : أكرم العالم إذا شكّ في أنّه مطلق العالم أو خصوص الفقيه ، فإنّ الفقيه هو العالم بالفقه وهذا معناه أنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم على كلّ تقدير ، سواء كان المطلوب والمتعلّق هو مطلق العالم بأي حصّة منه أو خصوص الفقيه.

والوجه في ذلك : أنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة هو ذات الملحوظ لا الحدود اللحاظيّة ، فإنّها ممّا لا تقبل الدخول في العهدة ، وهنا ذات الملحوظ مردّدة بين العالم أو العالم الفقيه ، وهذا من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حقيقة ، والذي ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ أي العالم ، وشكّ بدوي بالأكثر أي الفقيه.

نعم ، إذا أخذنا الحدود واللحاظات الذهنيّة فالعالم والفقيه متباينان بلحاظ أنّ هذا جنس وذاك نوع ، ولكن بالتحليل الذهني نرى أنّ التباين بلحاظ الإجمال والتفصيل فقط ، أو بلحاظ اللفّ والنشر ، إلا أنّ هذه الحدود لا تدخل في العهدة ولا تشتغل بها

ص: 57

الذمّة فلا تكون منجّزة ، كغيرها من الحدود التي لا تدخل في العهدة كالإطلاق والاستقلاليّة.

وأمّا الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ لا في كيفيّة لحاظهما ، ومن هنا كان الدوران فيها دورانا بين المتباينين ؛ لأنّ الداخل في العهدة إمّا هذا المفهوم أو ذاك ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي ثابت.

ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقا ، ولا تعارضها البراءة عن وجوب أعمّهما وفقا للجواب الأخير من الأجوبة المتقدّمة على البرهان الأوّل في المسألة الأولى من مسائل الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا الحالة الثانية : وهي حالة كون التباين بين المفهومين موجودا في عالم اللحاظ وكيفيّته وفي عالم ذات الملحوظ والمرئي ، كما في مثال الدوران بين وجوب الإطعام أو الإكرام ، ففي عالم اللحاظ يختلف فيه الإكرام عن الإطعام ، وفي عالم الملحوظ يتغايران كذلك.

نعم ، في عالم الصدق الخارجي يكون الإكرام أعمّ صدقا من الإطعام ؛ لأنّه يشمله ويشمل غيره ، فالتباين إذن موجود ، فيكون هناك علم إجمالي دائر بين المتباينين : إمّا وجوب الإطعام وإمّا وجوب الإكرام ، فالداخل في العهدة إمّا هذا وإمّا ذاك.

وحيث إنّهما متباينان لحاظا وملحوظا فسوف يشكّ في متعلّق الوجوب ، وهل هو هذا المفهوم أو ذاك المفهوم المباين له؟ فالعلم الإجمالي موجود إذن.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري في أحدهما من دون معارض لها ، فتجري البراءة عن المفهوم الأخصّ من الآخر بلحاظ عالم الصدق الخارجي ، أي عن وجوب الإطعام في مثالنا ، ولا تجري البراءة عن المفهوم الأعمّ صدقا وهو الإكرام ، ولذلك تسقط المنجّزيّة لانهدام الركن الثالث.

وأمّا كيفيّة انهدام هذا الركن فبأن يقال :

وذلك : أنّ البراءة عن وجوب الأعمّ ليس لها دور معقول لكي تصلح للمعارضة ؛ لأنّه إن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهو غير معقول ؛ لأنّ نفي الأعمّ يتضمن نفي الأخصّ لا محالة.

وإن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ بما يتضمّنه من ترك الأخصّ فهذا

ص: 58

مستحيل ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة ثابتة في هذه الحالة ، والأصل العملي يؤمّن عن المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وجه الانحلال : أن البراءة لا يمكن جريانها عن المفهوم الأعمّ صدقا في الخارج ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين من ناحية الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهذا غير معقول ؛ إذ الإتيان بالأخصّ يتضمّن الإتيان بالأعمّ قطعا ، فكيف يمكنه الإتيان بالأخصّ من دون الإتيان بالأعمّ؟ إذ لو فرض أنّه لن يأتي بالأعمّ فهذا يعني أيضا عدم الإتيان بالأخصّ ؛ لأنّ الأخصّ ينتفي إذا انتفى الأعمّ ، والأعمّ يثبت إذا ثبت الأخصّ.

وإن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين عن الأعمّ حالة عدم الإتيان بالأخصّ فهذا لا يكون معقولا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك الأخصّ وترك الأعمّ أيضا فهذا يعني أنّه ترك الواجب المأمور به ، فيكون الأصل مؤمنا في هذه الحالة عن العقاب حالة المخالفة القطعيّة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الأصل يراد به التأمين من ناحية احتمال المخالفة فقط ، ولا يمكنه إثبات التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها محرّمة عقلا أو عقلائيّا ولا شكّ فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان البراءة عن الأعمّ فتجري البراءة عن الأخصّ بلا معارض ، وبهذا يتحقّق الانحلال الحكمي.

* * *

ص: 59

ص: 60

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ص: 61

ص: 62

4 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ونتكلّم في حكم هذا الدوران على عدّة مبان في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام :

التخيير الشرعي هو التخيير الثابت بحكم الشارع وذلك بأن يجعل عدّة بدائل على نحو يكون امتثال أحدها محقّقا للمأمور به ؛ لأنّه أحد الموضوعات التي تعلّق بها الأمر مباشرة ، ولكن على سبيل البدل كما هو الحال في خصال كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان حيث إنّها متباينة ولا يوجد بينها جامع حقيقي.

كما إذا ورد حكم وتردّد متعلّقه بين أن يكون أمرا واحدا على سبيل التعيين أو عدّة أمور على سبيل البدل ، كما إذا ورد الأمر بالكفّارة في مورد وشكّ في كونها إحدى الخصال الثلاث على سبيل البدل أو كونها واحدة منها على سبيل التعيين.

وتفصيل الكلام في هذا المورد أن نستعرض المباني في حقيقة التخيير الشرعي لنتكلّم عن حكم المسألة بلحاظ كلّ مبنى بنحو مستقلّ.

والمباني المذكورة في تصوير التخيير الشرعي نذكر منها ثلاثة :

1 - كون التخيير الشرعي عبارة عن وجوبين أو وجوبات مشروطة ، أي كلّ واحد منها مشروط بترك الآخر.

2 - كون التخيير الشرعي كالتخيير العقلي متعلّقا بأمر واحد كلّي له حصص متعدّدة.

3 - كون التخيير الشرعي عبارة عن غرضين لزوميّين متزاحمين في مقام التحصيل والاستيفاء بحيث يكون استيفاء أحدهما مفوّتا لاستيفاء الآخر من حيث الملاك.

فأوّلا : نبدأ بالمبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين ، وشرط كلّ منهما ترك متعلّق الآخر ، وهذا يعني أنّ ( العتق ) مثلا الذي علم

ص: 63

وجوبه إمّا تعيينا أو تخييرا واجب في حالة ترك ( الإطعام ) بلا شكّ ، ويشكّ في وجوبه حالة وقوع الإطعام فتجري البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عمليّا.

المبنى الأوّل : وهو المعروف من رجوع التخيير الشرعي إلى وجوب كلّ واحد من البدائل مشروطا بترك الآخر.

ففي مثال الخصال الثلاث يجب العتق إذا ترك الإطعام والصيام ، ويجب الصيام إذا ترك العتق والإطعام ، ويجب الإطعام إذا ترك العتق والصيام.

فإذا شكّ في مورد بوجوب العتق تعيينا أو وجوبه تخييرا بينه وبين غيره من الخصال ، فهنا يقال : إنّ وجوب العتق معلوم فيما إذا ترك الصيام والإطعام ، إمّا لكونه واجبا تعيينيّا وإمّا لكونه واجبا تخييريّا ، وأمّا إذا أطعم أو صام فسوف يشكّ في وجوب العتق لاحتمال كونه واجبا تعيينيّا ؛ لأنّه حينئذ يجب الإتيان به حتّى لو أطعم أو صام ؛ لأنّ الواجب التعييني لا يجزي غيره عنه ، إلا أنّ الشكّ في وجوب العتق حال الإطعام أو الصيام شكّ في تكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي.

وتكون النتيجة هي عدم وجوب العتق التعييني ، وهذا يعني عمليّا التخيير بين الخصال الثلاث كلّ منها مشروط بترك الآخر.

ولا يتعارض أصل البراءة عن وجوب العتق بأصل البراءة عن وجوب العدلين الآخرين ؛ إذ لا معنى لجريانها عنهما حالة جريانها في وجوب العتق ؛ لأنّ لازمها الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

والحاصل : أنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة المشكوكة ، وهذه المئونة موجودة في طرف التعيين لا التخيير ؛ لأنّ التعيين معناه أنّه لا يجزي غير العتق عنه بخلاف التخيير فإنّه يجزي غيره عنه ، ولذلك لو أطعم فسوف يتمسّك في وجوب العتق أيضا وعدم وجوبه فتجري البراءة لنفي وجوبه ، وأمّا لو ترك الإطعام والصيام فسوف يعلم بوجوب العتق قطعا على كلا التقديرين.

وقد يقال - كما في بعض إفادات المحقّق العراقي - (1) إنّ كلاّ من الوجوب

ص: 64


1- نهاية الأفكار 3 : 288 - 289.

التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة يفقدها الآخر ، فيكون كلّ منهما مجرى للأصل النافي ويتعارض الأصلان.

قد يقال : كما عن المحقّق العراقي كلاما يثبت فيه أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من الدوران بين المتباينين ، والذي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا وموجبا للاحتياط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الوجوب التعييني للعتق فيه مئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التخييري ، والوجوب التخييري بين العتق وغيره فيه حيثيّة ومئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التعييني ، وعليه فكما تجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التعييني كذلك تجري لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التخييري ، وبالتالي تتعارض البراءتان وتتساقطان ويحكم بالمنجّزيّة.

وتفصيل ذلك أن يقال :

أمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي الإلزام بالعتق حتّى ممّن أطعم ، وهي حيثيّة لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.

أمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي حيثيّة إلزاميّة ، وتوضيحها : أنّ وجوب العتق ثابت سواء أطعم وصام أم لا ، وهذا يعني أنّه إذا أطعم وصام فيبقى وجوب العتق ثابتا ولا ينتفي ؛ لأنّ الوجوب التعييني لا يجزي غيره عنه ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة حيث إنّها مشكوكة لعدم العلم بالوجوب التعييني فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين من ناحيتها ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة ليست موجودة في الوجوب التخييري ؛ لأنّه إذا أطعم أو صام فلا يجب عليه العتق ، حيث إنّ الوجوب التخييري معناه أنّه إذا أتى بأحد البدائل كفى وسقط وجوب البقيّة ، وهذه الحيثيّة ناظرة إلى جهة الامتثال والإطاعة ، فإنّه إذا أطعم سوف يشكّ في كونه محقّقا للامتثال والإطاعة وحده أم يجب ضمّ العتق إليه أيضا ، فهو شكّ في وجوب زائد فيمكن نفيه بالبراءة التي تثبت جواز ترك العتق ممّن أطعم ، بخلافه على الوجوب التخييري فإنّه إذا أطعم لا شكّ في جواز ترك العتق حيث إنّ كلّ واحد مشروط وجوبه بترك الآخر.

وأمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التخييري للعتق أو الإطعام التي يجري

ص: 65

الأصل النافي للوجوب التخييري تأمينا عنها فهي تحريم ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمّ تتحقّق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقة بنفس ترك العتق ، ولا يكون هناك بأس في ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ؛ لأنّه من ضمّ ترك المباح إلى ترك الواجب. فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك العتق.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري فهي حيثيّة إلزاميّة وتوضيحها : أنّ وجوب العتق إنّما يثبت فيما إذا ترك وجوب الإطعام والصيام ، فوجوب العتق ليس ثابتا مطلقا ، بل معلّق على ترك البديلين الآخرين ، وعليه فإذا ترك العتق لا يكون قد ارتكب حراما بمجرّد تركه ، وإنّما يكون ترك العتق محرّما فيما إذا ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ؛ لأنّه حينئذ يكون قد ترك جميع البدائل فتتحقّق المخالفة القطعيّة وهي محرّمة.

وهذه حيثيّة إلزاميّة ناظرة إلى جهة العصيان والمخالفة ، وهي حرمة ترك العتق الذي ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ، وهذه ليست موجودة في الوجوب التعييني للعتق ؛ لأنّه بناء على الوجوب التعييني يكون ترك العتق محرّما مطلقا سواء ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام أم لا ، كما أنّه لا مدخليّة لضمّ فعل الغير إلى فعله في الامتثال ، إذ يكون ضمّ كلّ من فعل الغير إلى فعله أو ترك الغير إلى تركه من باب ضمّ الفعل أو الترك المباح إلى ترك أو فعل الواجب.

والحاصل : أنّ الوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة وهي حرمة ضمّ ترك العتق إلى ترك الإطعام والصيام ، وهذه الحرمة مشكوكة ؛ لأنّه لا يعلم بالوجوب التخييري فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين عنها.

وحينئذ يكون في كلّ من الوجوب التعييني والوجوب التخييري حيثيّة زائدة عن الآخر فتكون مجرى للبراءة ، فتجري البراءتان معا ، وتتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بالبراءتين معا ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة ؛ لأنّ البراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم تعني أنّه يجوز ترك العتق ، والبراءة عن حرمة ترك الإطعام حين ترك العتق تعني جواز ترك الإطعام ، والجمع بينهما تعني جواز ترك العتق والإطعام معا وهو مخالفة قطعيّة ، والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن التساقط.

ص: 66

والنتيجة : منجّزيّة العلم الإجمالي للوجوب التعييني والوجوب التخييري ، وتتحقّق الموافقة القطعيّة بالإتيان بمتعلّق الوجوب التعييني ؛ لأنّه يحقّق كلا الأمرين فيكون ممتثلا للطرفين.

ولا يكتفى بالإتيان بإحدى البدائل الأخرى وترك العتق المحتمل كونه تعيينيّا ؛ لأنّه يكون قد امتثل أحد طرفي العلم الإجمالي ، فتبقى ذمّته مشغولة بالطرف الآخر.

وهذا البيان وإن كان يثبت علما إجماليّا بإحدى حيثيّتين إلزاميّتين ، ولكن هذا العلم غير منجّز بل منحلّ حكما ، لجريان البراءة الأولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ؛ لأنّ فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعيّة ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعيّة ، بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فإنّه فرض المخالفة الاحتماليّة.

والجواب عن ذلك : أنّ هذا الكلام وإن كان يبرز لنا وجود حيثيّتين إلزاميّتين يعلم بإحداهما إجمالا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي غير منجّز لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة تجري في أحد الطرفين من دون معارض لها ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر لا يعقل جريانها.

فهذا الكلام يتمّ للمنع عن الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي وأنه لا يوجد علم إجمالي بين المتباينين ، وإنّما هناك علم إجمالي بين الأقلّ والأكثر والذي مرجعه إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر.

فبهذا الكلام يثبت أنّه يوجد علم إجمالي ؛ لأنّه يوجد في كلّ من الوجوب التخييري والوجوب التعييني حيثيّة إلزاميّة زائدة غير موجودة في الآخر ، ولذلك لا يعلم بأحدهما على كلّ تقدير ، بل كلّ واحد منهما مشكوك.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي - ولو سلّم أنّه دائر بين المتباينين - منحلّ انحلالا حكميّا ؛ لأنّ البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني تجري بلا معارض ، فيثبت لنا التأمين من جهة ترك العتق حال الانتقال إلى الإطعام أو الصيام.

وأمّا البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري - التي هي حرمة ضمّ ترك الإطعام والصيام إلى ترك العتق - فلا تجري ؛ لأنّ هذه الحيثيّة الزائدة معلومة الحرمة

ص: 67

وليست مشكوكة ، والبراءة موردها الشكّ لا العلم ، فالمكلّف إذا ترك الإطعام والصيام وترك العتق أيضا يعلم بأنّه قد خالف قطعا كلا الوجوبين التخييري والتعييني ، ولا شكّ عنده في هذه الحرمة ليحتمل جريان البراءة عنها. إذن لو سلّم بوجود حيثيّة زائدة إلا أنّها ليست مشكوكة بل معلومة الحرمة.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي مشكوكة ؛ لأنّه يحتمل إذا ترك العتق أن يجزي عنه الإطعام أو الصيام فيما لو كان الواجب المتعلّق في ذمّته هو الوجوب التخييري لا التعييني ، ويحتمل عدم الإجزاء لو كان الداخل في ذمّته الوجوب التعييني ، وحيث إنّه يشكّ فيما هو الداخل في عهدته فسوف يشكّ في أنّه إذا أطعم أو صام هل يجب عليه العتق أيضا أو لا؟ فتجري البراءة للتأمين عنه لأنّ مورد جريانها هو التأمين عن المخالفة الاحتماليّة ، وهنا تحتمل المخالفة حال ترك العتق.

وأمّا إذا ترك العتق مضافا إلى ترك الإطعام والصيام فهذه الحيثيّة الزائدة لا يحتمل كونها مخالفة لتجري فيها البراءة ، بل يقطع بالمخالفة المحرّمة فلا تجري البراءة لكونها لا تجري للتأمين عن المخالفة القطعيّة المعلومة الحرمة.

وثانيا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والحكم حينئذ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين إكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصّة.

المبنى الثاني : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي ، فالشارع وإن ذكر البدائل إلا أنّ ذكرها ليس من باب تعلّق الأمر بها ، وإنّما من باب كونها مصاديق للمأمور به وهو الجامع الانتزاعي الكلّي كعنوان ( أحدها ) مثلا.

وحينئذ إذا دار الأمر بين وجوب أحد هذه البدائل تعيينا وبين وجوبه تخييرا بينه وبين سائر البدائل ، فسوف يكون حكمه حكم المسألة السابقة من الانحلال الحقيقي ، فيما إذا كان أحد المفهومين أعمّ من الآخر في عالم الصدق الخارجي وفي ذات الملحوظ والمرئي كالعالم والفقيه ، أو الانحلال الحكمي فيما إذا كانا متغايرين في عالم اللحاظ والملحوظ أيضا ، ولكنّهما في عالم الصدق الخارجي بينهما عموم وخصوص مطلق.

ص: 68

وهذا يعني أنّ البراءة تجري عن الوجوب التعييني ، ولا تعارضها البراءة عن الوجوب التخييري إذ لا معنى لجريانها عن الوجوب التخييري ؛ لأنّه يعني الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

وثالثا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميّين للمولى غير أنّهما متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يعجّز المكلّف عن استيفاء الآخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

والحكم هنا أصالة الاشتغال ؛ لأنّ مرجع الشكّ في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ إلى الشكّ في أنّ الإطعام هل يعجّز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ، فيكون من الشكّ في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال؟

المبنى الثالث : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي مرجعه إلى وجود غرضين لزوميّين أو أغراض لزوميّة بعدد البدائل بحيث يكون لكلّ واحد من البدائل غرض خاصّ به ، إلا أنّ هذه الأغراض متزاحمة في مقام التحصيل ، أي أنّ تحصيل أحدها يجعل المكلّف عاجزا عن تحصيل الغرض من الآخر ، ولذلك يكون كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

وهذا شبيه بالمبنى الأوّل من جهة كون أحد البدائل واجبا فيما لو ترك الآخر ، ولكنّهما يختلفان من جهة أنّ المبنى الأوّل يفترض وجود غرض واحد يمكن استيفاؤه بأحد هذه البدائل ، بينما هذا المبنى يفترض تعدّد الغرض ، إلا أنّه لا يمكن استيفاء جميع هذه الأغراض بسبب عجز المكلّف عن ذلك ، إذ بمجرّد تحصيل الغرض الأوّل يصبح عاجزا عن تحصيل الغرض الثاني.

وعليه فإذا دار الأمر بين الوجوب التعييني لأحد البدائل وبين الوجوب التخييري ، فهذا يعني الدوران في أنّ الغرض هل هو متعلّق بهذا البدل بنحو التعيين بحيث لا يكون الإتيان بغيره معجّزا للمكلّف عن تحصيل الغرض منه ، أو أنّ الغرض متعلّق بكل واحد من البدائل ويكون الإتيان بأحدها معجّزا عن تحصيل الغرض في الآخر؟

ولذلك فإذا أتى بالإطعام سوف يشكّ في أنّه يعجّز المكلّف عن تحصيل الغرض

ص: 69

الموجود في العتق على تقدير كون الواجب تخييرا ، أو أنّه لا يعجّزه عن تحصيل الغرض من العتق فيما إذا كان وجوب العتق تعيينا.

وهذا مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في القدرة على تحصيل الغرض بعد العلم بوجوده ، وفي مثل هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال الموجبة للإتيان بالعتق بعد الإطعام ؛ لأنّ القدرة موجودة ابتداء ويشكّ في ارتفاعها بعد الإطعام.

وهذا الحكم - لو تمّ المبنى - صحيح ، إلا أنّ المبنى غير تامّ كما تقدّم في محلّه.

* * *

ص: 70

ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

اشارة

ص: 71

ص: 72

5 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

فرغنا من المسائل الأساسيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر.

1 - دور الاستصحاب في هذا الدوران

قد يتمسّك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لإثبات وجوب الاحتياط وأخرى لإثبات نتيجة البراءة.

أمّا التمسّك به على الوجه الأوّل فبدعوى : أنّا نعلم بجامع وجوب مردّد بين فردين من الوجوب ، وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالإتيان بالأقلّ ، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فإذا أتى المكلّف بالأقلّ شكّ في سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

التنبيه الأوّل : في جريان الاستصحاب وعدمه ، فهل يجري في الدوران بين الأقلّ والأكثر أو لا؟ وهنا قولان :

قد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة الاحتياط ووجوب الإتيان بالأكثر.

وقد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة البراءة والاكتفاء بالأقلّ.

أمّا القول الأوّل : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر ، فتقريبه أن يقال : إنّ المكلّف يعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، وعلى التقديرين فهو يعلم بوجوب الجامع بينهما كوجوب الصلاة المردّد بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فذمّة المكلّف مشغولة يقينا بالجامع ، ولو سلّمنا ما تقدّم

ص: 73

سابقا من جريان البراءة لنفي وجوب الزائد ووجوب الإتيان بالأقلّ ، إلا أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في سقوط الجامع المعلوم إجمالا من جهة أنّ الإتيان بالأقلّ يوجب سقوط التسعة على تقدير كون الجامع هو الأقلّ ، ولكنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب سقوط العشرة على تقدير كون الجامع هو الأكثر ، وهذا يعني أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في براءة ذمّته من الجامع ، وهذا الشكّ وإن كان مجرى للبراءة ولكنّه مجرى للاستصحاب أيضا ، لتوفّر أركانه في المقام للعلم السابق بالجامع والشكّ اللاحق في سقوطه فيستصحب بقاؤه.

والنتيجة هي وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر من جهة الاستصحاب الحاكم على البراءة كما سيأتي في محلّه.

وهذا الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّه دائر بين الفردين الطويل والقصير ، حيث إنّ الفرد القصير مرتفع جزما والفرد الطويل باق جزما ، والجامع يشكّ في كونه متمثّلا في القصير فيرتفع أو متمثّلا في الطويل فهو باق ، فيشكّ في بقائه وارتفاعه ، وحيث إنّه معلوم الحدوث ومشكوك البقاء فتجري استصحابه.

والجواب على ذلك : أنّ استصحاب جامع الوجوب إن أريد به إثبات وجوب العشرة - لأنّ ذلك هو لازم بقائه - فهذا من الأصول المثبتة ؛ لأنّه لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب.

وإن أريد به الاقتصار على إثبات جامع الوجوب ، فهذا لا أثر له ؛ لأنّه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا أنّ العلم به لا ينجّز سوى الأقلّ ، والأقلّ حاصل في المقام بحسب الفرض.

والجواب : أنّ استصحاب جامع الوجوب لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه إن أريد باستصحاب جامع الوجوب - بعد الإتيان بالأقلّ - إثبات أنّ الأكثر هو الذي اشتغلت به الذمّة ، حيث إنّ الأقلّ لم يسقط به وجوب الجامع فيتعيّن وجوب الأكثر ؛ لأنّ الجامع لا يزال باقيا ولا معنى لبقائه في الأقلّ ؛ لأنّه قد ارتفع وسقط بالإتيان به فيكون باقيا في الأكثر ، فهذا من الأصل المثبت وهو غير حجّة ؛ لأنّ إثبات وجوب الأكثر باستصحاب الجامع لازم عقلي لبقاء الجامع ، إذ المفروض أنّ الجامع مردّد بين الأقلّ

ص: 74

والأكثر ، فإذا أتى بالأقلّ وبقي وجوب للجامع فهذا يعني أنّه باق في الأكثر ؛ إذ لا يوجد غير الأكثر بعد استثناء الأقلّ ، إلا أنّ هذا لازم عقلي وليس شرعيّا ، والملازمة العقليّة لا تثبت بالأصل.

وإن أريد باستصحاب الجامع التعبّد ببقاء الجامع من دون تعيين للفرد ، فهذا هو نفس العلم الإجمالي السابق والذي كان عبارة عن علم تفصيلي وجداني بالجامع وشكّ في الفرد ، ومع فرض وجود العلم الوجداني بالجامع يكون التعبّد به لغوا وتحصيلا للحاصل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ هذا الجامع المتعبّد ببقائه لا أثر له ؛ لأنّ البراءة تجري عن الزائد كما تقدّم سابقا.

وأمّا التمسّك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو في صدر عصر التشريع.

ولا يعارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقلّ ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ فهو غير صحيح ؛ لأنّ فرض ترك الأقلّ هو فرض المخالفة القطعيّة ، ولا يصحّ التأمين بالأصل العملي إلا عن المخالفة الاحتماليّة.

وأمّا القول الثاني : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات نتيجة البراءة ، والاكتفاء بالأقلّ فتقريبه :

إمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، حيث يلتفت إلى بداية عصر التشريع فيقال : إنّه لم يجعل الشارع وجوبا للأكثر ، بل هو مشكوك فيجري استصحاب عدم جعل الأكثر.

وإمّا بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى ما قبل دخول الوقت ، فإنّه قبل زوال الشمس لم يكن الأكثر مجعولا ولا فعليّا ولو من جهة عدم تحقّق قيوده وشروطه وموضوعه ، ثمّ بعد الزوال - حيث يعلم بوجوب الصلاة فعلا عليه - يشكّ في كون الوجوب متعلّقا بالأكثر فيجري استصحاب عدمه الثابت قبل الزوال.

وبهذا الاستصحاب يتبيّن لنا أنّ الزائد غير واجب وهذا يعني أنّه يجوز الاكتفاء بالأقلّ.

وقد يعترض على استصحاب عدم وجوب الزائد لنفي وجوب الأكثر ، بأنّه معارض

ص: 75

باستصحاب عدم وجوب الأقلّ الاستقلالي ، فإنّه وإن كنّا نعلم بوجوب الأقلّ بعد جريان البراءة لنفي الزائد كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ هذا الأقلّ مردّد بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وإثبات كونه استقلاليّا يعني صدور تشريع خاصّ بالأقلّ ، وهذا الأمر مشكوك الصدور في عصر التشريع فيجري استصحاب عدم جعل الأقلّ الاستقلالي ، أو يجري استصحاب عدم فعليّة الأقلّ أيضا ولو قبل دخول الوقت.

وحينئذ يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، إذ الأخذ بهما معا غير معقول والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وجوابه : أنّ استصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي - سواء كان على مستوى الجعل أم كان على مستوى المجعول - لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه لا معنى لجريانه ؛ لأنّه :

إن أريد باستصحاب عدم الأقلّ إثبات أنّ الأكثر هو متعلّق الوجوب ؛ لأنّ الوجوب دائر بينهما فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ، فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حالة فعل الأكثر ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ ، مضافا إلى أنّه خلف المراد من الاستصحاب وهو إثبات الأقلّ دون الأكثر.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حين ترك الزائد والأكثر أيضا ، فهذا مستحيل أيضا ؛ لأنّه إذا ترك الزائد وترك الأقلّ يكون قد وقع في المخالفة القطعيّة ، ففي حالة تركه للزائد لا يمكن تأمينه عن ترك الأقلّ بالأصل العملي ؛ لأنّه يكون من باب التأمين عن المخالفة القطعيّة بالأصل ، وهذا غير ممكن لأنّ المخالفة القطعيّة معلومة الحرمة قطعا ؛ ولأنّ الأصل العملي إنّما يجري لإثبات التأمين من جهة المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان استصحاب عدم الأقلّ.

فالصحيح هو جريان استصحاب عدم جعل الأكثر أو عدم فعليّة الأكثر ، وتكون النتيجة تأكيدا لنتيجة البراءة.

2 - الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

إذا تردّد أمر شيء بين كونه جزءا من الواجب أو مانعا عنه ، فمرجع ذلك إلى

ص: 76

العلم الإجمالي بوجوب زائد متعلّق إمّا بالتقيّد بوجود ذلك الشيء أو بالتقيّد بعدمه. وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئيّة مع أصالة البراءة عن المانعيّة ، فيجب على المكلّف الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الإتيان بذلك الشيء ومرّة بدونه.

هذا فيما إذا كان في الوقت متّسع ، وإلا جازت المخالفة الاحتماليّة بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

التنبيه الثاني : فيما إذا دار الأمر بين كون شيء جزءا أو مانعا :

مثاله ما إذا شكّ في أنّ كلمة ( آمين ) أو ( التكفير ) مثلا هل هو جزء من الصلاة أو مانع من الصلاة؟

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى العلم الإجمالي بوجوب زائد ، وهذا الوجوب الزائد يتردّد أمره بين تقيّد المركّب بأمر وجودي بناء على الجزئيّة ، أو تقيّده بأمر عدمي بناء على المانعيّة ؛ لأنّ الجزئيّة معناها كون وجود التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب ، والمانعيّة معناها كون عدم التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب. فيعود الدوران في الحقيقة بين شيئين متباينين ؛ لأنّ وجود التأمين أو التكفير مغاير لعدم التكفير أو التأمين ، إذ الوجود والعدم لا يجتمعان ، بل هما متباينان.

وفي مثل ذلك يكون لدينا علم إجمالي منجّز لدورانه بين المتباينين ؛ لأنّ البراءة عن كونه جزءا تتعارض مع البراءة عن كونه مانعا ، فتجب الموافقة القطعيّة وتحرم المخالفة القطعيّة.

ولكن حيث إنّ المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة غير ممكنتين ؛ لأنّ هذا الأمر المردّد بين الجزئيّة أو المانعيّة يتردّد في الحقيقة بين وجوده أو عدمه ، والوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان فلا تمكن المخالفة أو الموافقة ، إلا أنّ هذا إنّما هو في الفعل الواحد للمركّب ، ولكن بلحاظ تكرار المركّب يمكن فيه الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالفعل الأوّل مع الجزء ويأتي بالفعل الثاني من دون الجزء.

ولذلك يحكم في هذه الصورة بوجوب الاحتياط بتكرار العمل مرة واجدا للشيء ، وأخرى فاقدا له ، وبهذا تتحقّق الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّها ممكنة ومقدور عليها ، ولا يكفيه الموافقة الاحتماليّة عندئذ.

ص: 77

وهذا بخلاف ما إذا دار الأمر بين كونه جزءا أو ليس جزءا كالسورة ، فإنّ الموافقة القطعيّة تحصل بالإتيان بالمركّب مرّة واحدة واجدة للجزء لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد رجاء المطلوبيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من حكم الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة إنّما هو على تقدير سعة الوقت للتكرار ، وأمّا لو كان الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا للفعل مرّة واحدة فيكون المكلّف مخيّرا في الإتيان به مع الجزء أو بدونه ؛ لأنّه مضطرّ عمليّا إلى ذلك ، إذ لا يمكنه ترك المركّب رأسا ولا يمكنه تكراره بحسب الفرض لضيق الوقت ، فيتعيّن الإتيان به مع أحدهما ، وهنا سوف تتحقّق المخالفة الاحتماليّة في مقابل الموافقة الاحتماليّة.

وهذه المخالفة الاحتماليّة يؤمّن عنها بملاك الاضطرار ؛ لأنّه يؤمّن عن المخالفة القطعيّة فمن الأولى أن يؤمّن عن المخالفة الاحتمالية كما هو واضح ؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها.

وقد يقال : إنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجّز ولا يمنع عن جريان البراءتين معا ، بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي صيغة الميرزا (1) القائلة : بأنّ تعارض الأصول مرهون بأداء جريانها إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ، فإنّ جريان الأصول في المقام لا يؤدّي إلى ذلك ؛ لأنّ المكلّف لا تمكّنه المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، إذ في حالة الإتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها أيضا ، فلا يلزم من جريان الأصلين معا ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإن قيل : ألا تحصل المخالفة القطعيّة لو ترك المركّب رأسا؟

قلنا : نعم تحصل ، ولكن هذا ممّا لا إذن فيه من قبل الأصلين حتّى لو جريا معا.

قد يقال : إنّ حكم هذه المسألة هو التخيير لا الاحتياط بتكرار العمل.

والوجه في ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور وإن كان دائرا بين المتباينين إلا أنّه في الدقّة دائر بين المحذورين ، وقد تقدّم أنّه في موارد الدوران بين المحذورين لا مانع من جريان البراءة عنهما ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة.

ص: 78


1- فوائد الأصول 4 : 26 - 27.

والمفروض أنّ المنع عن جريان البراءة في الطرفين إنّما هو لأجل أداء جريانها فيهما معا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم يؤدّ جريانها فيهما إلى ذلك فلا محذور في جريانها.

وفي موردنا لا يمكن أن تتحقّق المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشيء المشكوك على تقدير كونه جزءا فهذا يعني وجوب الإتيان به ، وعلى تقدير كونه مانعا فهذا يعني حرمة الإتيان به ، فيدور الأمر بين كون هذا الشيء واجبا أو محرّما ، وهذا من الدوران بين المحذورين والذي يحكم فيه بالتخيير عقلا وبجريان البراءة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّ التأمين عنهما لن يؤدّي عمليّا إلى المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يأتي بالمركّب واجدا للجزء أو يأتي به فاقدا للجزء ، فهناك مخالفة احتماليّة لا قطعيّة ، فالمورد من موارد جريان البراءة ، ولا يمكن للمكلّف أن يأتي بالمركّب واجدا وفاقدا لهذا الشيء ؛ لأنّه مستحيل.

ولا يقال هنا : إنّ المخالفة القطعيّة ممكنة وذلك بأن يترك الصلاة رأسا فيكون قد خالف العلم الإجمالي قطعا.

لأنّه يقال : إنّ هذه المخالفة القطعيّة مخالفة للعلم التفصيلي وهو وجوب المركّب لا للعلم الإجمالي ، مضافا إلى أنّ هذه المخالفة لم تنشأ من جريان البراءة في الطرفين ، وإنّما نشأت من خلال ترك الواجب المعلوم تفصيلا.

ولكن يمكن أن يقال على ضوء صيغة الميرزا : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ممكنة أيضا فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّما بقصد القربة على تقدير الجزئيّة ، فإنّ المخالفة القطعيّة حينئذ تحصل بالإتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الأصلين معا مؤدّيا إلى الإذن في ذلك ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

والجواب أن يقال : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي الدائر بين وجوب الشيء على تقدير كونه جزءا وبين حرمته على تقدير كونه مانعا ، ممكنة فيما إذا كان هذا الشيء على تقدير جزئيّته ممّا يشترط فيه قصد القربة بأن كان من الواجبات التعبّديّة لا التوصّليّة.

فإنّنا إذا فرضنا أنّ ( التأمين أو التكفير ) على تقدير الشكّ في الجزئيّة والمانعيّة يشترط

ص: 79

في جزئيّتهما الإتيان بهما بقصد القربة ، فهنا يمكن للمكلّف المخالفة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالشيء لا بقصد القربة فإنّه على تقدير كونه جزءا فقد خالف ؛ لأنّه لم يأت بالجزء بقصد القربة والذي هو شرط في تحقّق الجزئيّة بحسب الفرض.

وعلى تقدير كونه مانعا فلم يتركه أي أنّه أوجد المانع مع أنّ المطلوب منه إعدام المانع ، فقد خالف أيضا (1).

وبهذا يكون جريان البراءة عن كونه جزءا وجريان البراءة عن كونه مانعا مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، فالركن الرابع محفوظ ولذلك تتعارض البراءتان وتتساقطان ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ الأوّل مخالفة قطعيّة والثاني ترجيح بلا مرجّح.

فالصحيح ما ذكرناه من لزوم الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الشيء ومرّة من دونه.

3 - الأقلّ والأكثر في المحرّمات

كما قد يعلم إجمالا بواجب مردّد بين التسعة والعشرة ، كذلك قد يعلم بحرمة شيء مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه.

ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :

التنبيه الثالث : فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

كما إذا علم بحرمة التصوير وشكّ في أنّ هذه الحرمة مختصّة بتصوير الرأس أو أنّها شاملة لتصوير تمام الشكل ، فهنا يدور الأمر بين المتباينين إمّا حرمة تصوير الرأس فقط ، وإمّا حرمة تصوير تمام الشكل.

وهنا الحكم نفس الحكم المتقدّم في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الوجوبات

ص: 80


1- قد يقال : إنّ قصد القربة لمّا كان دخيلا في الشيء المردّد كما هو الفرض فكما لا تتحقق الجزئيّة بالإتيان به من دون قصد القربة كذلك لا تتحقق المانعية لأن المانع ليس هو ذات الشيء بل هو معه مضافا إلى قصد القربة ، ولذلك لا يبطل الصلاة الإتيان به من دون قصد الجزئيّة حتى لو كانت مانعيته معلومة قطعا.

من جريان البراءة لنفي التكليف الزائد ، إلا أنّ الأقلّ والأكثر في المحرّمات يختلف عن الأقلّ والأكثر في الواجبات من جهة تصوير الأقلّ والأكثر ، ومن جهة أنّ هذا الدوران هل يشمل الموارد الأربعة للدوران أي الأجزاء والشرائط والتعيين والتخيير العقلي أو الشرعي أو لا؟

ولذلك سوف نتحدّث عن هاتين الجهتين ، فنقول :

فأوّلا : وجوب الأكثر هناك كان هو الأشدّ مئونة ، وأمّا حرمة الأكثر هنا فهي الأخفّ مئونة ، إذ يكفي في امتثالها ترك أي جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقلّ في باب الواجب.

الجهة الأولى : في تصوير الأقلّ والأكثر.

تقدّم في باب الواجبات أنّ الأكثر يشتمل على مئونة زائدة ، ففي الدوران بين التسعة أو العشرة كان وجوب الأكثر أي العشرة فيه مئونة زائدة ، وهي لزوم ضمّ الجزء العاشر إلى التسعة ولا يكفي الإتيان بالتسعة فقط ، وحيث إنّ هذا الوجوب مشكوك فتجري عنه البراءة.

وأمّا في باب المحرّمات فالأكثر لا يشتمل على المئونة الزائدة ، وإنّما الأقلّ هو الذي يشتمل على المئونة الزائدة ؛ وذلك لأنّه في الدوران بين حرمة تصوير الرأس أو حرمة تصوير تمام الشكل ، تكون حرمة تصوير الرأس والتي هي الأقلّ ثابتة سواء صوّر الرأس فقط أم صوّره مع تمام البدن ، بينما حرمة الأكثر وهي تصوير تمام الشكل ثابتة فيما إذا صوّر جميع الأعضاء فقط ، وهذا يعني أن الحرمة الأولى لا تنتفي إلا بعدم تصوير الرأس سواء صوّر غيره أم لا ، بينما الحرمة الثانية تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكل.

ولذلك فإذا صوّر الرأس فقط سوف يشكّ في حرمته ؛ لأنّ الحرام لو كان هو تصوير الرأس فالحرمة ثابتة ، وأمّا لو كان الحرام هو تصوير تمام البدن فلا حرمة في تصوير الرأس فقط ، وحينئذ تكون حرمة تصوير الرأس وحده مشكوكة فتجري عنها البراءة ، وحيث إنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة والتكليف الزائد فيكون الأقلّ هنا مشتملا على المئونة الزائدة نظير الأكثر في الواجبات ، بينما الأكثر هنا وهو حرمة تصوير تمام الشكل ليس فيه مئونة زائدة ؛ لأنّها تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكّ فهي نظير الأقلّ في الواجبات.

ص: 81

وبذلك تثبت حرمة تصوير الشكل بتمامه ؛ لأنّها الحرمة المتيقّنة على كلّ تقدير ؛ لأنّه إذا صوّر تمام الشكل يكون قد ارتكب الحرام سواء كان الحرام تصوير تمام البدن أم كان الحرام تصوير الرأس فقط ؛ لأنّ الرأس داخل في تمام الشكل.

وأمّا إذا صوّر الرأس فقط فهو شكّ في حرمة زائدة مضافا إلى حرمة تصوير الكلّ ، وحيث إنّ حرمته مشكوكة فتجري عنها البراءة.

فالفارق الأوّل بين الواجبات والمحرّمات هو في المئونة الزائدة وفي تصوير جريان البراءة ، فهناك تجري لنفي المئونة الزائدة في الأكثر بينما هنا تجري لنفي المئونة الزائدة في الأقلّ.

وثانيا : أنّ دوران الحرام بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ حرمة الأكثر في قوّة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييرا ، وحرمة الأقلّ في قوّة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعيينا ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الأجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

الجهة الثانية : في كون الدوران من أي أقسام الأقلّ والأكثر؟

والصحيح فيها : أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ حرمة الأكثر - أي حرمة تصوير تمام الشكل - يكفي في الاجتناب عنها ترك أي جزء من الأجزاء كاليد أو الرأس ونحوهما ، فهي نظير الوجوب التخييري الذي يكفي في امتثاله أن يمتثل أيّ فرد من الأفراد المخيّر بينها عقلا أو شرعا ، ففي مقام الامتثال للحرمة أو للوجوب التخييري يكفي ترك أي جزء أو فعل أيّ فرد.

وأمّا حرمة الأقلّ - أي حرمة تصوير الرأس خاصّة - فهذه لا يكفي فيها ترك أيّ جزء آخر كاليد أو الساق ، بل لا بدّ فيها من ترك الرأس سواء ضمّ إليه ترك الأعضاء الأخرى أم لا ، لأنّ ضمّ ترك الأجزاء الأخرى إلى ترك الرأس يكون من باب ضمّ ترك ما ليس بحرام إلى ترك الحرام ، وأمّا فعل الأجزاء الأخرى مع ترك الرأس فهو من باب ضمّ فعل المباح إلى جانب ترك الحرام ، فهذا نظير الوجوب التعييني للعتق مثلا ، والذي

ص: 82

لا يمتثل إلا بالعتق ولا يكفي الإطعام أو الصيام عنه ، ومخالفته تتحقّق بترك العتق سواء أطعم وصام أم لا ؛ لأنّ ضمّهما أو تركهما يكون من ضمّ أو ترك المباح.

فالتصوير الصحيح للدوران بين الأقلّ والأكثر هو الدوران بين التعيين أي حرمة تصوير الرأس خاصّة أو التخيير أي حرمة تصوير تمام البدن.

ولا يدخل المورد في الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر ، بنفس البيان الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق ، بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييري.

الجهة الثالثة : أنّ حكم هذا الدوران هو الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ البراءة عن وجوب الأقلّ - حرمة تصوير الرأس - تجري من دون معارض.

وأمّا البراءة عن وجوب الأكثر - حرمة تصوير تمام الشكل - فلا تجري ؛ لأنّه لا معنى لجريانها ولا أثر ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأكثر - حرمة تصوير تمام الشكل - التأمين عن حرمة تصوير تمام الشكل ، بإثبات أنّ الحرمة في الأقلّ - أي حرمة تصوير الرأس - فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال الإتيان بتصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ تصوير الرأس مع تصوير تمام الأعضاء الأخرى معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة ، والبراءة لا مورد لها في حال المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها معلومة الحرمة وليست مشكوكة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال ترك تصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بتمام الشكل يتضمّن حتما الإتيان بتصوير الرأس ، وهذا مخالفة قطعيّة أيضا.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر أنّه إذا ترك تصوير الرأس وترك تصوير سائر الأعضاء أيضا فهو مؤمّن بالبراءة ، فهذا لا معنى له ؛ لأنّه في هذه الحالة يقطع بالتأمين حيث إنّه لم يرتكب شيئا من التصوير لا الجزء ولا الكلّ ، والبراءة لا تجري في موارد القطع.

وبهذا يظهر أنّ البراءة عن وجوب الأقلّ ذي المئونة الزائدة تجري بلا معارض ،

ص: 83

والنتيجة عدم حرمة تصوير الرأس خاصّة ، وإنّما يحرم تصوير تمام الشكل.

وأمّا الانحلال الحقيقي فهو غير متصوّر هنا ؛ لأنّ العلم الإجمالي دائر في الحقيقة بين المتباينين لا الأقلّ والأكثر. وهذا فارق ثالث بين الأقلّ والأكثر في الواجبات وبين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

فهناك كان يمكن تصوير الانحلال الحقيقي في بعض الموارد ، وأمّا هنا فلا يمكن تصوير الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الطرفين هنا متباينان لأنّ حرمة الأكثر عبارة عن حرمة إيجاد المجموع بعنوانه الخاصّ ، وهذه الحرمة ترتفع بانتفاء أي جزء من المجموع على سبيل التخيير ، بينما حرمة الأقلّ عبارة عن إيجاد هذا الجزء بخصوصه وهذه الحرمة لا ترتفع إلا بانتفاء هذا الجزء فقط على سبيل التعيين ، فهناك تباين وتغاير بين الطرفين ولذلك لا انحلال حقيقي. وإنّما الانحلال الحكمي هو المتعيّن.

4 - الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر

كما يمكن افتراض الشبهة الحكميّة للدوران بين الأقلّ والأكثر ، كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعيّة ، بأن يكون مردّ الشكّ إلى الجهل بالحالات الخارجيّة لا الجهل بالجعل ، كما إذا علم المكلّف بأنّ ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا؟ فتجري البراءة عن مانعيّته أو عن وجوب تقيّد الصلاة بعدمه بتعبير آخر.

التنبيه الرابع : في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر.

كما يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الحكميّة للأقلّ والأكثر وهو ما كنّا نتحدّث عنه سابقا ، كموارد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو التعيين والتخيير ، حيث كان الشكّ فيها بلحاظ عالم الجعل ، أي أنّ هذا المشكوك هل هو جزء أو شرط أو مانع؟ فالشكّ في أصل ثبوت الجزئيّة والمانعيّة والشرطيّة ، وهناك قلنا : إنّ الحكم هو البراءة عن الأكثر الذي يتضمّن المئونة الزائدة.

كذلك يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بأصل الشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة ، وشكّ في أنّ هذا الأمر الموجود في الخارج هل هو مصداق للشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة المعلومة أم ليس مصداقا لها؟ فإنّ الشكّ في المصداق الخارجي شكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.

ص: 84

مثاله : أن يعلم بأنّ اللباس المصنوع ممّا لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس الموجود أمامه هل هو مصنوع ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل لحمه؟ فهنا يشكّ في أنّه مانع من الصلاة أم لا ، والشكّ في المانعيّة شكّ في أمر زائد ؛ لأنّ المانعيّة معناها كما تقدّم تقيّد المركّب بعدم شيء ، خلافا للشرطيّة التي تعني تقيّده بوجود شيء.

وهذا الشكّ شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ المانعيّة على مستوى الجعل معلومة ، إلا أنّ مصداقها مشكوك.

والحكم هنا هو جريان البراءة ؛ لأنّ الشكّ في مانعيّة هذا اللباس معناه الشكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه يشكّ في تقيّد الصلاة بعدم هذا اللباس فتجري البراءة للتأمين عن هذا اللباس المشكوك ، وبالتالي تجوز الصلاة فيه.

وأمّا لو شكّ في الشبهة الموضوعيّة للشرطيّة فهنا يختلف الحكم ، فإذا علم بشرطيّة الطهارة مثلا ، وشكّ في أنّ ما فعله هل هو طهارة أم لا؟ فهنا يكون الشكّ في المحصّل للمأمور به ، فيجب الاحتياط والإتيان بالطهارة يقينا ، وهكذا الحال في الشكّ في الجزئيّة وأنّه هل أتى بها أم لا؟

إلا أنّ هذا على عمومه غير صحيح ، لإمكان تصوير الشبهة الموضوعيّة بين الأقلّ والأكثر في الشرطيّة وفي الجزئيّة أيضا والذي يكون مجرى للبراءة.

وقد يقال - كما عن الميرزا قدس سره (1) : إنّ الشبهة الموضوعيّة للواجب الضمني لا يمكن تصويرها إلا إذا كان لهذا الواجب تعلّق بموضوع خارجي كما في هذا المثال.

قد يقال : كما عن المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - ذهب إلى أنّ تصوير الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر إنّما تكون في المانعيّة وفي الشرطيّة التي لها متعلّق في الخارج ، كما في مثالنا السابق ، فإنّ اللباس الذي يشكّ في كونه ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل ، موضوع خارجي يشكّ في تعلّق المانعيّة به.

وأمّا إذا لم يكن للواجب تعلّق بموضوع خارجي ، فلا يتصوّر فيه الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما في القراءة الواجبة فإنّه لا يوجد شيء في الخارج يتعلّق به وجوب

ص: 85


1- فوائد الأصول 4 : 200.

القراءة ، وإنّما يراد بوجوب القراءة إيجاد شيء في الخارج ، وهكذا بالنسبة للطهور أيضا.

ففي هذه الحالة يشكّ في تحقّق الواجب وعدم تحقّقه ، وحيث إنّه معلوم اشتغال الذمّة به فتجري أصالة الاشتغال.

ولكنّ الظاهر إمكان تصويرها في غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلّف نفسه ، كما إذا فرضنا أنّ السورة كانت واجبة على غير المريض في الصلاة ، وشكّ المكلّف في مرضه ، فإنّ هذا يعني الشكّ في جزئيّة السورة مع أنّها واجب ضمني لا تعلّق له بموضوع خارجي ، والحكم هو البراءة.

والجواب : أنّ ما فرض الميرزا عدم إمكان تصويره يمكن تصويره ، وذلك بأن نفرض أنّ السورة واجبة على الصحيح وليست واجبة على المريض ، أي أنّ هذا الواجب الضمني مختصّ ببعض حالات المكلّف لا في جميع حالاته ، وحينئذ فإذا شكّ المكلّف في كونه مريضا فهذا شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشخص الموجود في الخارج لا يدري هل هو مريض أم لا؟ فهنا سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبه ، وبذلك يتحقّق تصوير تعلّق الشكّ في الواجب الضمني بالشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشكّ في المرض سوف يؤدّي إلى الشكّ في أنّ وجوب السورة متعلّق به أو لا؟ وهذا يعني أنّه بالإمكان تصوير الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة للجزء الذي هو واجب ضمني مع أنّ نفس الجزء لا تعلّق له بموضوع خارجي.

وفي مثل ذلك تجري البراءة أيضا ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه عند ما يشكّ في مرضه سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبها أي في الجزئيّة ، فتجري البراءة لأنّها تكليف زائد مشكوك كما تقدّم.

5 - الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط

اشارة

كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ المكلّف في جزئيّة شيء أو شرطيّته مثلا للواجب.

وقد يتّفق العلم بجزئيّة شيء أو دخالته في الواجب بوجه من الوجوه ، ولكن يشكّ في شمول هذه الجزئيّة لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في إطلاق جزئيّتها لحالة المرض أو السفر.

ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر بلحاظ هذه الحالة

ص: 86

بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة.

وهذا على العموم لا إشكال فيه ، ولكن قد يقع الإشكال في حالتين من هذه الحالات وهما :

حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة نسيان الجزء.

وحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة تعذّره.

ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي تباعا :

التنبيه الخامس : الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط.

إذا علم بجزئيّة شيء أو بشرطيّته في الواجب فتارة يعلم بأنّه واجب مطلقا وفي جميع الحالات ، كما في ( الفاتحة ) فإنّها واجبة على كلّ حال ، وأخرى يعلم بأنّه ليس واجبا مطلقا وإنّما في بعض الحالات ، كما في القيام أو الركوع أو السجود فإنّها تسقط عند العجز عن القيام أو الركوع أو السجود وينتقل إلى بدلها وهو الجلوس والإيماء ، وثالثة يشكّ في أنّ هذا الجزء أو الشرط هل هو واجب مطلقا وفي جميع الحالات أو في بعض الحالات فقط؟

كما إذا علم بوجوب السورة وكونها جزءا واجبا من الصلاة ولكن شكّ في أنّها واجبة بنحو مطلق وفي جميع الحالات ، أو أنّها واجبة في بعض الحالات دون البعض الآخر كالسفر أو المرض أو الخوف فإنّها تسقط.

فإنّ مرجع هذا الشكّ إلى أنّ جزئيّتها هل هي مطلقة أو مقيّدة ببعض الحالات ، وتسمّى هذه الحالة بحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة.

والحكم هنا على وجه العموم أنّ هذه الجزئيّة حيث إنّه لا دليل على إطلاقها وشمولها لكلّ الحالات ، فسوف يصل الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الموقف والوظيفة ، وهنا تجري الأصول المؤمّنة كالبراءة ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في تكليف زائد بالنسبة للمريض أو المسافر ، حيث إنّه يعلم بوجوب الصلاة ويشكّ في كون الأجزاء هي الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّه يشكّ في وجوب السورة وعدمها فهو شكّ في تكليف زائد.

إلا أنّه قد وقع الإشكال في حالتين من حالات الشكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة ، هما :

ص: 87

1 - حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة النسيان.

2 - حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة التعذّر.

أ - الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان

إذا نسي المكلّف جزءا من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثمّ التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به.

فإن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ؛ لأنّه فاقد للجزء ، من دون فرق بين افتراض النسيان في أثناء الوقت وافتراض استمراره إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى أنّ الأصل اللفظي في كلّ جزء يقتضي ركنيته أي بطلان المركّب بالإخلال به نسيانا.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي ، فقد يقال بجواز اكتفاء الناسي بما أتى به ؛ لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان والأقلّ واقع والزائد منفيّ بالأصل.

الصورة الأولى : فيما إذا شكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة لحالة النسيان.

فإذا نسي المكلّف أن يأتي بالجزء كالسورة مثلا ثمّ التفت بعد ذلك إلا أنّه قد أتى بالمركّب من دون السورة نسيانا ، فهل يحكم بصحّة صلاته أو ببطلانها؟

والجواب كما عن المشهور هو :

إن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحالة النسيان فمقتضى إطلاقه لذلك كون هذا الجزء ركنا واجبا في المركّب لا بدّ من الإتيان به ، ويكون الإخلال به ولو سهوا ونسيانا موجبا لبطلان المركّب وبالتالي تجب الإعادة ، فالسورة مثلا التي نسيها إن كان لدليلها إطلاق على كون السورة واجبة في جميع الحالات وأنّها لا تسقط بحال ، فهذا يعني أنّ جزئيّتها تشمل النسيان ، وهذا النوع من الأجزاء الواجبة يسمّى بالركن كما هو الحال بالنسبة للتكبيرة والركوع والسجود والفاتحة والتسليم.

وحينئذ لا يكون هناك فرق بين أن يتذكّر في الوقت أو يستمرّ نسيانه إلى أن يخرج من الوقت ، فتجب الإعادة في الأوّل والقضاء في الثاني.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لفظي يشمل حالة النسيان ، بل كان الدليل الدالّ عليها يثبت أصل جزئيّتها من دون نظر إلى كونها مطلقة أو مقيّدة بحالة من

ص: 88

الحالات ، فهنا يكون القدر المتيقّن من جزئيّتها هو حالة التذكّر ، وأمّا حالة النسيان فهي مشكوكة الجزئيّة فيها كما هو بالنسبة للسورة أو الجهر أو الإخفات.

فهنا حيث لا يوجد أصل لفظي يتمسّك بإطلاقه فسوف ينتهي الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الوظيفة والموقف ، وحينئذ قد يقال إنّ البراءة تجري في المقام ؛ لأنّ من نسي السورة إلى أن فرغ من صلاته سوف يشكّ في وجوب الإعادة وعدم وجوبها نتيجة الشكّ في أنّ السورة جزء مطلقا ، أم أنّها في بعض الحالات ، وهذا الشكّ يرجع إلى الدوران بين الأقلّ والأكثر أي بين وجوب السورة حال التّذكر الذي هو الأقلّ ، أو وجوبها مطلقا للمتذكّر والناسي والذي هو الأكثر ، فتجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الأكثر ؛ لأنّ وجوبها على المتذكّر معلوم على كلّ حال ويشكّ في وجوبها على الناسي.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ النسيان تارة يستوعب الوقت كلّه ، وأخرى يرتفع في أثنائه.

والتحقيق في هذه الصورة أن يقال : إنّه تارة يتذكّر في أثناء الوقت فيكون النسيان مرتفعا في الأثناء وغير مستمرّ.

وأخرى لا يتذكّر إلا أن يخرج الوقت بحيث يكون النسيان مستمرّا ومستوعبا للوقت كلّه.

فلا بدّ من استعراض كلّ واحدة من هاتين الحالتين لمعرفة حكم الناسي في كلّ منهما.

ففي الحالة الأولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة إليه ؛ لأنّ الناسي لا يكلّف بما نسيه على أي حال ، بل هو يعلم إمّا بصحّة ما أتى به أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشكّ في وجوب استقلالي جديد وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه حتّى لو منعنا من البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

أمّا الحالة الأولى : وهي فيما إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فالحكم فيها صحّة ما أتى به.

ص: 89

والوجه في ذلك : أنّ المكلّف الذي نسي الجزء حتّى انتهى الوقت لا يمكن تكليفه بهذا الجزء في أثناء الوقت ؛ إذ لا يمكن توجيه خطاب للناسي بالجزء الذي نسيه ؛ لأنّ هذا خلف كونه ناسيا ، ولذلك لا يكلّف بالأكثر جزما في أثناء الوقت بسبب النسيان المانع من ذلك ، وعليه فلا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الأكثر لا يكلّف به الناسي إمّا لعجزه وإمّا لرفع التكليف بالنسيان استنادا إلى حديث الرفع.

وحينئذ يكون الدوران في هذه الحالة بين كون ما أتى به من صلاة فاقدة للجزء الذي نسيه صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وبين لزوم القضاء بالإتيان بصلاة واجدة للجزء خارج الوقت ؛ لأنّ الفرض هنا استيعاب النسيان لتمام الوقت.

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى الشكّ في تكليف زائد ، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة إلى علم تفصيلي بالأقلّ - بناء على إمكان تكليفه بالأقلّ - وشكّ بدوي في الأكثر فتجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ قد امتثله فعلا والأكثر مشكوك ، وهذا من العلم الإجمالي بعد امتثال أحد طرفيه والذي لا يكون علما إجماليّا في الحقيقة ، بل مشكوك في تكليف زائد ابتداء.

وأمّا بناء على عدم إمكان تكليف الناسي بالأقلّ كالأكثر فالأمر أوضح ؛ لأنّه حال نسيانه لم يكن مكلّفا بشيء وبعد ارتفاع النسيان خارج الوقت يشكّ في وجوب القضاء فتجري البراءة عنه.

وهذا الكلام يتمّ حتّى لو أنكرنا جريان البراءة في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّه هنا لا يوجد تكليف بالأكثر حقيقة ، والأقلّ متحقّق فعلا.

وأمّا في الحالة الثانية فالتكليف فعلي في الوقت ، غير أنّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان أو بالصلاة التامّة فقط.

والأوّل معناه اختصاص جزئيّة المنسي بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئيّة لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامّة تعيينا هو من أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ، ويمثّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثّل الصلاة التامّة الأكثر ، وتجري البراءة وفقا للدوران المذكور.

وأمّا الحالة الثانية : وهي فيما إذا ارتفع النسيان في أثناء الوقت بحيث كان فيه متّسع للأداء ، فالحكم هنا هو البراءة والاكتفاء بما أتى به.

ص: 90

وجهه أن يقال : إنّ المكلّف الذي أتى بالصلاة الناقصة نسيانا ثمّ ارتفع عذره في الوقت سوف يتشكّل لديه علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما كونه مكلّفا بالصلاة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء فقط ، بحيث يكون الإخلال بجزء منها ولو نسيانا موجبا للإعادة في الوقت ؛ لأنّ ما أتى به ليس هو المأمور به ، والآخر كونه مكلّفا بالجامع بين الصلاتين التامّة والناقصة ، بمعنى أنّ الإتيان بصلاة واجدة لجميع الأجزاء حال التذكّر كالصلاة الفاقدة للجزء حال النسيان في كونهما مصداقين للجامع المأمور به.

وهذا الشكّ مرجعه في الدقّة إلى أنّ جزئيّة الجزء المنسي هل هي مختصّة بحال التذكّر فقط ، فلا تشمل الناسي ، أو أنّها مطلقة وشاملة لحال النسيان أيضا ، فالناسي كالمتذكّر في وجوب الإعادة عند فقدان الجزء ، غاية الأمر يختلفان في العقاب وعدمه؟

فإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مختصّة بالمتذكّر فصلاة الناسي للجزء صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وهو وجوب الجامع بين الصلاتين لا خصوص إحداهما.

وإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مطلقة وشاملة فصلاة الناسي باطلة وغير صحيحة وتجب عليه الإعادة.

والحاصل : أنّ المكلّف بعد ارتفاع النسيان يعلم إجمالا إمّا بوجوب الصلاة التامّة فقط أو بوجوب الجامع بين الصلاتين ، وهذا العلم الإجمالي يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي والذي هو أحد أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ التكليف لو كان هو الجامع بين الصلاتين فهذا معناه أنّه تجزي إحدى الصلاتين عن الأخرى ، ولكن كلّ واحدة في موردها فالصلاة التامّة واجبة ومجزية عن المأمور به حال التذكّر ، والصلاة الناقصة مجزية كذلك حال النسيان ، ولو كان التكليف هو الصلاة التامّة فقط فهذا يعني لزوم الإتيان بها عند القدرة عليها ، ولذلك إذا لم يرتفع العذر لم يكن مكلّفا بها ، ولكن مع ارتفاعه - كما في مقامنا - يصبح قادرا على الإتيان بالصلاة التامّة والمفروض أنّها تكليفه فتجب الإعادة والإتيان بالصلاة التامّة.

فيدور الأمر بين وجوب الصلاة التامة تعيينا وبين وجوبها تخييرا بينها - حال التذكّر - وبين الصلاة الناقصة حال النسيان ، فهو من الدوران بين التعيين والتخيير.

وفي مثل هذه الحالة قلنا بأنّ البراءة تجري هنا عن الوجوب التعييني بلا معارض ؛

ص: 91

لأنّ جريانها عن الوجوب التخييري لا معنى له ، فهنا تجري البراءة عن وجوب الإتيان بصلاة تامّة تعيينا ، ولا تعارض بجريان البراءة عن وجوب الجامع بين الصلاتين ؛ لأنّ التأمين عن الجامع يراد به أحد أمور كلّها باطلة :

أن يكون المراد بالتأمين عن الجامع بعد امتثال أحد طرفيه أنّه موجود في الطرف المتحقّق فعلا فهو من الأصل المثبت.

أن يكون المراد بذلك أنّه يجوز ترك الجامع بكلا طرفيه فهذا مستحيل هنا ؛ لأنّ أحد طرفيه متحقّق فعلا.

أن يكون المراد بذلك أنّه لا يجب شيء من الصلاتين فهذا مخالفة قطعيّة لا تجري فيها البراءة.

وبهذا ظهر أنّ الوجه هنا هو التفصيل بين استيعاب الوقت وعدم استيعابه ، وإن كانت النتيجة واحدة فيهما إلا أنّ ملاكها مختلف.

بخلاف ما ذهب إليه المشهور من التفصيل بين كون دليل الجزئيّة فيه إطلاق لحال النسيان فتجب الإعادة أو القضاء ، وبين ما إذا لم يكن فيه إطلاق فلا تجب الإعادة ؛ لأنّه من الأقلّ والأكثر.

فإنّه في الصورة الأولى يصحّ ما حكموا به إلا أنّ الصورة الثانية قد يستشكل فيها كما عن الشيخ.

ولكن قد يقال - كما في إفادات الشيخ الأنصاري (1) وغيره - بأنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كان بالإمكان أن يكلّف الناسي بالأقلّ ، فإنّه يدور عنده أمر الواجب حينئذ بين الأقلّ والأكثر ، ولكنّ هذا غير ممكن ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ إن خصّص بالناسي فهو محال ؛ لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسيا ، فلا يمكن لخطاب موجّه إلى الناسي أن يصل إليه ، وإن جعل على المكلّف عموما شمل المتذكّر أيضا مع أنّ المتذكّر لا يكفي منه الأقلّ بلا إشكال.

وعليه فلا يمكن أن يكون الأقلّ واجبا في حقّ الناسي وإنّما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشكّ في سقوطه بالأقلّ ، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.

ص: 92


1- راجع فرائد الأصول 2 : 363 ، وكفاية الأصول : 418.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أثار شبهة هنا حاصلها أنّ الناسي لا يمكن تكليفه لا بالأقلّ ولا بالأكثر ، ولذلك لا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر أو التعيين والتخيير ، بل يكون من موارد الشكّ في براءة الذمّة بعد العلم باشتغالها بتكليف ، والذي هو مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال ، وتوضيح ذلك أن يقال :

إنّ ما تقدّم من كلام حول ما إذا كان هناك إطلاق في دليل الجزئيّة ، وما إذا لم يكن إطلاق فيه ، وحول ما إذا كان مستوعبا للوقت أم لا ، إنّما يتمّ فيما إذا أمكن تكليف الناسي بالأقلّ وتوجيه خطاب له بذلك ، فإنّه والحال هذه سوف يكون الأقلّ معلوم الدخول في العهدة تفصيلا وقد أتى به ، ويشكّ في اشتغال ذمّته بتكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وتأتي التفصيلات المذكورة سابقا.

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان تكليف الناسي لا بالأكثر كما هو واضح ؛ لأنّ المفروض كونه ناسيا فيكون عاجزا عقلا أو لا تكليف عليه شرعا من الإتيان بالأكثر ، ومع العجز أو رفع التكليف لا يكون هناك تكليف ، ولا بالأقلّ أيضا ؛ وذلك لأنّ التكليف إنّما يكون لغرض الباعثيّة والمحرّكيّة ، فلو قيل بصدور خطاب بحقّ الناسي متعلّق بالأقلّ ، فهذا الخطاب إمّا أن يتوجّه إلى الناسي بعنوان كونه ناسيا ، وإمّا أن يتوجّه إلى طبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر.

فإن كان موجّها للناسي بعنوانه فهذا يجعل الناسي متذكّرا ؛ لأنّ وصول الخطاب إلى الناسي بأنّه مكلّف بالأقلّ يجعله متذكّرا لما نسيه فيصبح متذكّرا لا ناسيا ، وإذا لم يصل الخطاب إليه فلا تكليف عليه بالأقلّ ، وإن كان موجّها للناسي بنحو العموم والشمول لطبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر ، فهذا يعني أنّ المتذكّر سوف يشمله هذا الخطاب ، وبالتالي سوف يصحّ منه الاكتفاء بالأقلّ اعتمادا على هذا العموم ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المتذكّر للجزء لا يمكنه تركه عمدا ؛ لأنّ تركه كذلك مبطل.

والحاصل : أنّه لا يوجد معنى معقول لتكليف الناسي لا بالأقلّ ولا بالأكثر.

وحينئذ تكون النتيجة أنّه بعد الفراغ من الصلاة الناقصة ثمّ تذكره للجزء المنسي في الوقت سوف يشكّ في براءة ذمّته من الصلاة التي اشتغلت بها يقينا ، وهذا الشكّ مجرى لأصالة الاشتغال لا البراءة ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بأصل الصلاة من دون

ص: 93

تعيين لها بالأقلّ أو بالأكثر ؛ لأنّهما لا يدخلان في ذمّته كما تقدّم ، ويشكّ في فراغها بما أتى به ، فهو شكّ في الفراغ اليقيني.

والجواب : أنّ التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعي المكلّف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكّر على الأقلّ ؛ لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منع عدم إمكان الوصول إلى الناسي ؛ لأنّ موضوع التكليف هو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر أنّ الناسي يرى نفسه آتيا بأفضل الحصّتين من الجامع مع أنّه إنّما تقع منه أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.

والجواب : أنّنا نختار الشقّ الثاني ، أي بأن يكون هناك تكليف يشمل بعمومه أو بإطلاقه الناسي كما يشمل المتذكّر ، وذلك بأن يجعل التكليف على طبيعي المكلّف متعلّقا بجامع الصلاة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة حال التذكّر.

فيقال مثلا : ( تجب على طبيعي المكلّف أو على عموم المكلّفين الصلاة الجامعة بين إحدى حصّتين : إمّا الصلاة الناقصة حال النسيان وإمّا الصلاة التامّة حال التذكّر ).

وحينئذ يكون الناسي مخاطبا بعنوان عامّ بالصلاة الناقصة وكذا المتذكّر يكون مطالبا بالصلاة التامّة حال كونه متذكّرا ، ولا يلزم من ذلك ما ذكره الشيخ من الإشكالين.

أمّا أنّه لا يلزم محذور جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة فلأنّ الصلاة الناقصة وإن كانت واجبة على طبيعي المكلّف إلا أنّها واجبة فيما إذا تحقّقت حال النسيان لا مطلقا ، والمتذكّر يفترض أنّه غير ناس فيكون مخاطبا بالحصّة الأخرى من الصلاة أي الصلاة التامّة ، فلا تجزيه الصلاة الناقصة ؛ لعدم تحقّق شرطها وقيدها ، لا لأنّ التكليف مختصّ بالناسي إذ المفروض أنّ التكليف مطلق يشمل الناسي والمتذكّر ، وإنّما متعلّق التكليف أي الصلاة كانت مقيّدة بحالة النسيان.

وأمّا أنّه لا يلزم محذور في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي ، فلأنّنا فرضنا أنّ الخطاب ليس مختصّا بالناسي ليقال بأنّه يستحيل وصوله إليه ؛ لأنّ وصوله إليه يعني التفاته إلى نسيانه فيصبح متذكّرا ، بل الخطاب موجّه إلى طبيعي المكلّف من أوّل الأمر ، فهذا المكلّف يعلم بوجود خطاب بحقّ الناسي وأنّه تجب عليه الصلاة الناقصة وبحقّ المتذكّر أيضا وأنّه تجب عليه الصلاة التامّة ، غاية الأمر أنّ هذا الناسي حينما

ص: 94

يأتي بالصلاة يعتقد أنّه متذكّر وأنّه يأتي بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ واقع الحال كونه ناسيا وأنّه يأتي بالصلاة الناقصة.

وهذا الأمر سوف يتبيّنه فيما بعد التذكّر إمّا في الوقت وإمّا في خارجه ، إلا أنّ هذا الاشتباه لا يضرّ ؛ لأنّه اشتباه في المصداق لا اشتباه في الموضوع المأمور به والمتعلّق للتكليف ، إذ متعلّق التكليف إحدى الصلاتين التامّة أو الناقصة كلّ واحدة في موردها وهو قد حقّق إحدى هاتين الصلاتين بظنّ امتثال الأخرى ، إلا أنّ ما حقّقه قد تعلّق به الأمر أيضا.

فهو من قبيل الأمر بالصلاة إمّا في المسجد أو في البيت فصلّى في البيت بظنّ أنّه المسجد ، فهذه الصلاة مأمور بها وإن اعتقد بأنّها الأفضل فتبيّن أنّها الأقلّ فضلا ، فإنّ هذا لا يضرّ ؛ لأنّه لم يكن متعلّقا للأمر ، وهذا ما يسمّى بأنّ القيد خارج ولكن التقيّد داخل أي أنّه ليس مأمورا بالقيد ، وإنّما بالتقيّد فقط والتقيّد متحقّق ؛ لأنّه أتى بالصلاة الناقصة حال كونه ناسيا (1).

وهذا الجواب أفضل ممّا ذكره عدد من المحقّقين (2) في المقام من حلّ الإشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ بافتراض خطابين :

أحدهما متكفّل بإيجاب الأقلّ على طبيعي المكلّف ، والآخر متكفّل بإيجاب الزائد على المتذكّر.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) عن إشكال الشيخ بنحو آخر مفاده :

ص: 95


1- وهناك صياغة أخرى للجامع وذلك بأن يقال : ( إن الصلاة واجبة على طبيعي المكلّف بمقدار ما يتذكّره منها ) ، فإنّ عنوان ( ما يتذكّره ) جامع لأي مقدار من الأجزاء يأتي به ، فالناسي يتذكر الصلاة الناقصة وغير الناسي يتذكّر الصلاة التامّة. ولا يمكن للمتذكّر لكامل الأجزاء أن يأتي بالصلاة الناقصة ؛ لأنّه يكون قد أخلّ به عمدا مع تذكّره له فيكون مخاطبا بشيء ولكنّه لم يمتثله عمدا فصلاته باطلة. ولا يرد محذور توجيه الخطاب للناسي ؛ أنّ الخطاب متوجّه إلى عنوان المتذكّر ، والناسي متذكّر لسائر الأجزاء الأخرى أيضا فهو مكلف بها فقط ، وأمّا الجزء الذي نسيه فهو ليس مكلّفا بها لعدم دخوله في العنوان المتعلّق به التكليف أي عنوان ( ما يتذكّره ).
2- منهم المحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 418 ، والمحقّق النائيني في فوائد الأصول 4 : 214.

أنّه إذا استحال توجيه خطاب للناسي بعنوانه الخاصّ فيمكننا توجيه خطاب عامّ لمطلق المكلّفين يكون شاملا للناسي وللمتذكّر ، ويكون متعلّق هذا الخطاب الصلاة الناقصة أي الأقلّ ، وبذلك يندفع محذور استحالة توجيه الخطاب لخصوص الناسي.

وأمّا محذور اكتفاء المتذكّر بالأقلّ فهذا يندفع بأن يوجّه خطاب آخر متعلّقه الصلاة التامّة لخصوص المتذكّر أي بعنوانه الخاصّ.

والحاصل أنّه يوجد خطابان : أحدهما لمطلق المكلّف متعلّق بالصلاة الناقصة ، والآخر خطاب لخصوص المتذكّر متعلّق بالصلاة التامّة.

إذ نلاحظ على ذلك : أنّ الأقلّ في الخطاب الأوّل هل هو مقيّد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيّد بلحاظ المتذكّر ومطلق بلحاظ الناسي ، أو مهمل؟

والأوّل خلف ؛ إذ معناه عدم كون الناسي مكلّفا بالأقلّ.

والثاني كذلك ؛ لأنّ معناه كون المتذكّر مكلّفا بالأقلّ ، وسقوط الخطاب الأوّل بصدور الأقلّ منه.

والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطاب آخر يخصّ المتذكّر.

والرابع غير معقول ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب ، فلا يمكن انتفاؤهما معا.

إلا أنّ ما ذكره من جواب لا يمكن قبوله ؛ وذلك لأنّ الخطاب الأوّل الشامل لطبيعي المكلّف والمتعلّق بالأقلّ أي بالصلاة الناقصة لا معنى له ؛ لأنّ المراد منه لا يخلو من أحد احتمالات أربعة :

الأوّل : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد أي متعلّق بالصلاة التامّة ، بالنسبة للناسي والمتذكّر معا.

وهذا خلف المفروض ؛ لأنّ لازم ذلك كون الناسي كالمتذكّر مخاطبا بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ المطلوب إثبات كونه مخاطبا بالصلاة الناقصة ليجوز له الاكتفاء بها.

الثاني : أن يكون الخطاب بالأقلّ مطلقا من حيث الزائد ، أي يوجد خطاب شامل للناسي والمتذكّر متعلّق بالصلاة فقط الأعمّ من الناقصة والتامّة.

ص: 96

وهذا باطل ؛ لأنّ لازمه جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة كالناسي ، فإذا أتى بها سقط الخطاب أو سقطت فاعليّته بالامتثال للأقلّ.

وحينئذ يجب عليه خصوص الزائد بعد الانتهاء من الأقلّ ، وهذا لا معنى له ؛ إذ لا معنى لوجوب السورة مثلا بعد الانتهاء من الصلاة ؛ لأنّ السورة واجبة أثناء الصلاة لا بعدها ، وإعادة الصلاة من جديد بحيث تكون شاملة للجزء لا مبرّر لها ؛ لأنّ سائر الأجزاء الأخرى قد امتثلها بالإتيان بالصلاة الناقصة ، وبالتالي سقط الأمر بها فلا موجب لإعادتها مرّة ثانية.

وهذا خلف كون المتذكّر مكلّفا بصلاة تامّة من أوّل الأمر لا بصلاتين ، ولا بصلاة وجزء بعدها.

الثالث : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد بلحاظ المتذكّر ومطلقا من ناحيته بلحاظ الناسي ، وهذا يعني أنّه يوجد خطاب واحد لا خطابان.

وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كلام الشيخ يأتي هنا وأنّه كيف يكون الناسي مخاطبا بالأقلّ بعنوانه الخاصّ؟

ولا جواب لهذا الإشكال إلا ما ذكرناه من كيفيّة جعل خطاب واحد شامل للناسي والمتذكّر ، بحيث يكون الناسي تكليفه الأقلّ بينما المتذكّر تكليفه الأكثر ، ومع هذا الخطاب الواحد لا نحتاج إلى خطاب آخر مستقلّ مجعول على عنوان المتذكّر بخصوصه ؛ لأنّه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل.

الرابع : أن يكون الخطاب بالأقلّ مهملا من حيث الزائد لا هو مقيّد به ولا هو مطلق من ناحيته.

وفيه أنّه غير معقول ؛ لأنّ النظر إن كان إلى عالم الثبوت والجعل فالتقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت والجعل تقابل النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي ؛ لأنّه يعني ارتفاع الإطلاق والتقييد وهذا يعني ارتفاع النقيضين وهو محال.

وإن كان النظر إلى عالم المجعول والصياغة فالإهمال غير معقول أيضا ، وإنّما يتصوّر الإجمال فقط ، إلا أنّ هذا لا يحلّ الإشكال المذكور سابقا ؛ إذ يبقى السؤال في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي بالأقلّ ، ولا حلّ له إلا ما ذكرناه من جواب.

ص: 97

وعلى هذا الأساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد.

وبهذا ظهر أنّ هذا الجواب لا ينفع لحلّ المشكلة التي أثارها الشيخ ، وإنّما الحلّ ما ذكرناه من جواب.

وبذلك يتّضح لنا أنّ المقام من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يشكّ أنّ تكليفه هذه الصلاة التي أتى بها فقط ، أو تكليفه مضافا إليها وجوب الإعادة مع الجزء الذي نسيه فتجري البراءة عنه ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد.

بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام أحقّ بالبراءة من حالات الدوران المذكور. وهو أنّ العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علما إجماليّا منجّزا ، وهذه الدعوى لئن قبلت في تلك الحالات فهناك سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام وعدم إمكان افتراض علم إجمالي منجّز هنا.

وهو أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر في المقام إنّما يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض أنّه قد أتى بالأقلّ في حالة النسيان ، وهذا يعني أنّه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم إجمالا بوجوب زيارة أحد الإمامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الإجمالي غير منجّز بلا شكّ ، حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين فضلا عمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر.

وخلافا لذلك حالات الدوران الاعتياديّة ، فإنّ التردّد فيها يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، فإذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجّزا.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ مقامنا أولى وأحقّ بجريان البراءة من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ وذلك لوجود امتياز في المقام غير موجود في تلك الحالات.

وتوضيح ذلك : أنّه في حالات الدوران بين الأقلّ والأكثر في جميع أنحائه قلنا بجريان البراءة : إمّا للانحلال الحقيقي وإمّا للانحلال الحكمي.

إلا أنّه في بعض الحالات حيث يكون الطرفان متباينين مفهوما ومتّحدين مصداقا ،

ص: 98

قد يثار إشكال في كون هذا الدوران من موارد العلم الإجمالي المنجّز لكلا الطرفين ، ومع ذلك قلنا بجريان البراءة عن الأكثر وعدم جريانها عن الأقلّ ؛ لأنّه لا يوجد معنى معقول لجريانها عن الأقلّ فيكون الركن الثالث مهدوما.

وأمّا في مقامنا فيوجد سبب خاصّ وامتياز يجعل المورد مجرى للبراءة بلا إشكال أو محذور ، حتّى لمن استشكل هناك فإنّه يقبل جريان البراءة هنا من دون إشكال.

والوجه في ذلك : أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر إنّما يحصل للناسي بعد الفراغ عن الإتيان بالأقلّ ؛ لأنّ ارتفاع النسيان كان بعد الفراغ من الصلاة كما تقدّم ، وحينئذ سوف يكون التردّد ناشئا بين طرفين ، أحدهما قد تحقّق وامتثل فعلا ، وبالتالي سوف يكون التردّد في طرف واحد ، وهذا يجعله من الشكّ البدوي ؛ لأنّ الموجود فعلا طرف واحد يشكّ في وجوبه.

وهذا نظير العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ، والذي تحقّق أحد طرفيه قبل حصوله ، كما إذا زار المكلّف أحد المرقدين الطاهرين ثمّ شكّ في أنّه يجب عليه زيارة المرقد الذي زاره أو مرقد آخر غيره ، فإنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين المتباينين ولكنّه لمّا كان أحد طرفيه متحقّقا ومفروغا عن امتثاله فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ البراءة سوف تجري عن الطرف الموجود من دون معارض ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر الذي امتثله لا معنى لها ، أو لأنّ المطلوب من العلم الإجمالي أن يكون صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، والحال أنّه في الطرف الممتثل لا يكون قابلا للتنجيز ؛ لأنّه امتثله فعلا.

فإذا كان العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين والذي امتثل فيه أحد الطرفين قبل حدوث العلم الإجمالي غير منجّز ، فمن الأولى ألاّ يكون التردّد بين الأقلّ والأكثر في مقامنا منجّزا أيضا.

ووجه الأولويّة أنّه في موارد العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين قد تثار شبهة وجود علم إجمالي آخر منجّز ، بينما هنا لا يمكن ذلك ؛ لأنّ التردّد هنا إنّما يحدث بعد امتثال أحد الطرفين دائما ، بينما في موارد العلم الإجمالي قد يقال بحدوث العلم الإجمالي قبل امتثال أحد الطرفين ، وذلك بالالتفات إلى حالة ما قبل البلوغ أو حالة صدور التشريع مثلا.

ص: 99

وبهذا ينتهي الكلام عن الحالة الأولى وهي حالة النسيان ، وتبيّن أنّ الحكم فيها هو البراءة في كلتا الصورتين ، أي استيعاب النسيان لتمام الوقت أو ارتفاعه في أثنائه وإن اختلف الملاك في جريانها.

ب - الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر

إذا كان الجزء جزءا حتّى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكلّ المشتمل عليه لا يطالب بالناقص.

وإذا كان الجزء جزءا في حالة التمكّن فقط فهذا يعني أنّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه ، وأنّ العاجز يطالب بالناقص.

والتعذّر تارة يكون في جزء من الوقت ، وأخرى يستوعبه.

الصورة الثانية : فيما إذا كان عاجزا عن الإتيان بالجزء ، فهنا يقال : إذا كان الدليل الدالّ على الجزئيّة مطلقا وشاملا لحالة العجز والتعذر فهذا يعني أنّ الجزء لا يتحقّق المركّب من دونه ، فإذا كان المكلّف عاجزا عنه فلازمه كون المكلّف عاجزا عن الإتيان بالمركّب ، ومع العجز عن الإتيان به لا تكليف عليه ، والنتيجة أنّه لا يجب عليه شيء.

أمّا الكلّ فلأنّه متعذّر ، وأمّا سائر الأجزاء الأخرى فلأنّه ليس مخاطبا بالأجزاء الأخرى بنحو مستقلّ عن الجزء المتعذّر ، بل مخاطب بها ضمن ذلك الجزء ، فالتعذّر عن البعض يعني التعذّر عن الكلّ أيضا ، من قبيل شرطيّة الطهارة في الصلاة فإنّها إذا تعذّرت - سواء المائيّة أم الترابيّة - فلا تكليف عليه بالصلاة حينئذ.

وأمّا إذا كان دليل الجزئيّة دالاّ على الجزئيّة حال التمكّن فقط ، فهذا معناه الأمر بالجامع بين الصلاة الناقصة حال التعذّر وبين الصلاة التامّة حال التمكّن ، فإذا عجز عن جزء كان مكلّفا بسائر الأجزاء فيجب عليه الإتيان بها.

وهذا من قبيل جزئيّة القيام أو السورة في الصلاة فإنّ الدليل دلّ على جزئيّتها حال التمكّن ، وأمّا حال التعذّر فيصلّي من جلوس أو يصلّي من دون السورة.

وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا شكّ في أنّ جزئيّة هذا الجزء هل هي شاملة لحالتي التعذّر والتمكّن ، أو أنّها مختصّة في حال التمكّن فقط؟ فهنا هل يسقط وجوب الباقي أو لا؟

والجواب : أنّه تارة يكون التعذّر والعجز مستوعبا لتمام الوقت وأخرى لا يكون

ص: 100

كذلك ، بل يعلم بارتفاعه في أثنائه ، فلا بدّ من الحديث عن كلّ حالة لنرى ما هو حكمها؟ ولذلك نقول :

ففي الحالة الأولى يحصل للمكلّف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة ، أو بوجوب الصلاة التامّة عند ارتفاع العجز ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع ، وإلا كان متعلّقا بالصلاة التامّة عند ارتفاع التعذّر.

وتجري البراءة حينئذ عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين الأقلّ والأكثر.

ويلاحظ : أنّ التردّد هنا بين الأقلّ والأكثر يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، خلافا لحال الناسي ؛ لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان التعذّر في جزء من الوقت ، وذلك بأن كان يعلم بأنّه سوف يرتفع عذره في أثناء الوقت ، كما إذا كان عاجزا فعلا عن القيام أو عن قراءة السورة أو عن الطهارة ، ولكنّه يعلم بأنّه سوف يصبح قادرا على القيام أو سوف يتمكّن من التعلّم أو سوف يحصل على الماء أو التراب فيما بعد ، والمفروض أنّه لا يعلم بأنّ هذا الجزء جزئيّته مطلقة أم مقيّدة بحال التمكّن فقط.

فهنا سوف يحصل للمكلّف علم إجمالي من أوّل الأمر دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة أيضا بعد ارتفاع العجز ، والآخر وجوب الصلاة التامّة فقط بعد ارتفاع العجز والتعذّر.

والوجه في ذلك : أنّ جزئيّة الجزء المتعذّر عنه إن كانت ساقطة حال التعذّر - بأن كان دليل الجزئيّة مختصّا بحال التمكّن فقط - فهنا تكليفه إمّا الصلاة الناقصة حال العجز أو الصلاة التامّة بعد ارتفاعه أي يكون مخيّرا بين إحدى الصلاتين ، وهذا معناه أنّه مخاطب بالجامع بين الصلاتين لا بإحداهما بالخصوص.

وإن كانت جزئيّة الجزء المتعذّر عنه ثابتة حتّى في حال التعذّر - بأن كان دليل الجزئيّة شاملا لحالتي العجز والتمكّن - فهنا تكليفه وجوب الصلاة التامّة فقط تعيينا بعد ارتفاع عذره ؛ لأنّ الصلاة الناقصة ليست مطلوبة في هذه الحالة.

وعليه فيكون المورد من موارد الأقلّ والأكثر ، أي التعيين والتخيير ؛ لأنّ وجوب

ص: 101

الجامع يعني كونه مخيّرا بين إحدى الصلاتين كلّ في موردها ، ووجوب الصلاة التامّة فقط يعني كون الواجب عليه تعيينا هو هذه الصلاة ولا تجزي عنها الصلاة الناقصة حتّى في حال العجز.

والحكم في مثل ذلك هو جريان البراءة عن الوجوب التعييني ؛ لأنّه ذو مئونة زائدة ، ولا تجري البراءة عن الوجوب التخييري ؛ إذ لا معنى لجريانها عنه كما تقدّم سابقا ، وبالتالي يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ حكما.

وبهذا يظهر أنّ العاجز عن الجزء الذي يعلم بارتفاعه فيما بعد كالناسي الذي يرتفع نسيانه في الوقت أيضا ، من جهة أنّ حكمهما هو البراءة عن التكليف الزائد والاكتفاء بالصلاة الناقصة.

إلا أنّهما يختلفان في مسألة ، وهي أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للناسي الذي ارتفع عذره في الأثناء إنّما يحصل بعد الفراغ من الصلاة الناقصة كما تقدّم ؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى كونه ناسيا إلا بعد الفراغ من الصلاة.

وأمّا الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للعاجز فهو موجود قبل الإتيان بالصلاة الناقصة ؛ لأنّ العاجز يلتفت إلى كونه عاجزا عن الجزء من أوّل الأمر وقبل الشروع في الصلاة.

وهذا الفرق يجعل الناسي أحسن حالا من العاجز ؛ لأنّ الدوران كان بعد امتثال أحد الطرفين فلا شبهة في جريان البراءة عن الطرف الآخر ؛ لأنّه يكون شكّا في الزائد بدوا ، وأمّا هنا فالدوران قبل الامتثال فيمكن أن يقال بوجود علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه منحلّ حكما لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة لا يعقل جريانها عن الوجوب التخييري.

وفي الحالة الثانية يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت أو بوجوب القضاء إذا كان للواجب قضاء ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلا كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجّز.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان العجز والتعذّر مستوعبا لتمام الوقت ، بأن كان يعلم بأنّه لن يرتفع عجزه عن القيام في هذا اليوم ، بل سوف يستمرّ أيّاما ، فهنا سوف

ص: 102

يحصل للمكلّف العاجز عن القيام علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة في الوقت ، والآخر وجوب الصلاة التامّة خارج الوقت أي بعد ارتفاع عذره.

والوجه في ذلك : أنّ دليل الجزئيّة إن كان مطلقا حتّى لحالة العجز فلا تكليف عليه بالصلاة أصلا في الوقت ؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بالصلاة التامّة فيه ، والمفروض أنّ الصلاة الناقصة لا تكفي ، وإن كان مختصّا بحالة التمكّن فقط فهو مكلّف بالصلاة الناقصة حال العجز في الوقت.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين المتباينين فيكون منجّزا لهما ، وبالتالي يجب الاحتياط بالإتيان بالصلاة الناقصة في الوقت والصلاة التامّة خارج الوقت ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة حينئذ.

وليعلم أنّ الجزئيّة في حال النسيان أو في حال التعذّر إنّما تجري البراءة عند الشكّ فيها إذا لم يكن بالإمكان توضيح الحال عن طريق الأدلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يقوم دليل خاصّ على إطلاق الجزئيّة أو اختصاصها ، من قبيل حديث « لا تعاد الصلاة إلا من [ خمسة ] » (1).

وهنا تنبيه ، وحاصله أن يقال : إنّ ما تقدّم من كلام كان بلحاظ الأصول العمليّة حين الانتهاء إليها.

وأمّا مقتضى الأصل اللفظي في المقام فهو يتحدّد وفقا لما يدلّ عليه هذا الدليل ، ومعه لا مجال للأصول العمليّة أصلا ، وهذا واضح ؛ لأنّ الأصول العمليّة تحدّد الوظيفة عند الشكّ في الحكم وعدم وجود دليل عليه ، فمع وجود الدليل المحرز على الحكم الشرعي يؤخذ به ويرتفع موضوع الأصل حقيقة.

فالكلام إذن عن الأصل اللفظي ، وهذا يمكن بيانه بأحد الوجوه التالية :

الوجه الأوّل : أن يقوم دليل من الخارج يدلّ على أنّ هذه الجزئيّة للجزء مطلقة أو أنّ جزئيّة الجزء مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، من قبيل الحديث المشهور « لا تعاد الصلاة إلا من خمس ... » فإنّه يدلّ على أنّ هذه الأجزاء الخمسة تجب إعادة

ص: 103


1- وسائل الشيعة 4 : 312 ، أبواب القبلة ، ب 9 ، ح 1.

الصلاة فيها أي بسببها ، فإذا لم تكن موجودة كلاّ أو بعضا فالصلاة تجب أن تعاد ، وهذا معنى كون جزئيتها مطلقة وشاملة لحالتي النسيان والتعذّر أيضا.

وأمّا غير هذه الخمس فالصلاة لا تعاد فيها أي أنّه إذا نسيها أو تعذّرت فلا تجب إعادة الصلاة بسببها ، وهذا يعني أنّ جزئيّتها مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، فلا تجب الإعادة ويكتفى بما أتى به من صلاة ناقصة.

ثانيا : أن يكون لدليل الجزئيّة إطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذّر فيؤخذ بإطلاقه ، ولا مجال حينئذ للبراءة.

الوجه الثاني : أن يكون لنفس الدليل الدالّ على جزئيّة الجزء إطلاق يشمل حالتي النسيان والعجز ، فهنا يؤخذ بإطلاق هذا الدليل لإثبات كون المركّب الفاقد للجزء غير مأمور به ، وأنّه لا بدّ من الإعادة مع الجزء عند ارتفاع النسيان أو العجز ، من قبيل : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » الدالّ على أنّ جزئيّة الفاتحة مطلقة لجميع الحالات وليست مختصّة بحال دون آخر.

ثالثا : ألاّ يكون لدليل الجزئيّة إطلاق بأن كان مجملا من هذه الناحية ، وكان لدليل الواجب إطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأسا.

ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئيّة مقيّدا لإطلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث إنّ دليل الجزئيّة لا يشمل حال التعذّر أو النسيان فيبقى إطلاق دليل الواجب محكّما في هاتين الحالتين ودالاّ على عدم الجزئيّة فيهما.

الوجه الثالث : ألاّ يكون هناك دليل من الخارج يدلّ على الإطلاق لهذا الجزء ، ولا يكون نفس دليل الجزئيّة مطلقا أيضا بأن كان مجملا ، فهنا سوف نواجه دليلين هما : دليل جزئيّة الجزء المجمل ، ودليل الأمر بالمركّب الواجب.

أمّا دليل الأمر بالمركّب الواجب فهو من قبيل قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) الدالّ بإطلاقه على وجوب إقامة الصلاة بأركانها المقوّمة لها في جميع الحالات ، وهذه الأركان المقوّمة للصلاة هي : ( تكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والسجود والتسليم ) ، فهذه تجب إقامتها مطلقا في جميع الحالات ، سواء كان الجزء موجودا أم لا وسواء نسيه أو عجز عنه أم لا.

وأمّا دليل الأمر بالجزء فهو مقيّد لإطلاق الأمر بالصلاة الشامل للصلاة مع هذا الجزء وللصلاة من دونه ، ويخصّصه بالصلاة المقيّدة بهذا الجزء.

ص: 104

ولكن حيث إنّ دليل الجزئيّة مجمل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو جزئيّة الجزء في حال التمكّن منه وفي حال تذكّره فقط لا مطلقا ، إذ لا إطلاق فيه.

وعليه فيكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بحال التمكّن من هذا الجزء وفي حال تذكّره فقط ، وأمّا في غير هاتين الحالتين أي في حالة التعذّر والنسيان فلا يكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بالجزء ؛ لأنّ المقدار الثابت تقيّده بذلك الجزء هو حالتا التذكّر والنسيان ؛ لأنّهما القدر المتيقّن لدليل الجزئيّة المجمل.

وفي غير هاتين الحالتين يشكّ في أصل وجود المقيّد للإطلاق ، وفي مثل ذلك يتمسّك بالإطلاق ؛ لأنّه حجّة ولا يرفع اليد عمّا يكون حجّة إلا بحجّة أخرى ، والمفروض أنّ الحجّة الأخرى وهي التقييد لم تثبت فالإطلاق إذن مستحكم في المقام ، فيثبت بمدلوله المطابقي وجوب إقامة ماهيّة الصلاة ، أي الصلاة بأركانها المقوّمة لها ، وهذا يدلّ بالالتزام على أنّ الجزء ليس جزءا في حالتي النسيان والعجز ؛ لأنّه منفي بالإطلاق.

وهذا يعني أنّه شامل للموردين ، ولازمه سقوط جزئيّة الجزء في حالتي التعذّر والنسيان ، ووجوب الإتيان بالمركّب الفاقد لهذا الجزء في الحالتين المذكورتين. وهذا المعنى نتيجته الاختصاص لا الإطلاق.

* * *

ص: 105

ص: 106

الاستصحاب

اشارة

1 - أدلّة الاستصحاب

2 - الاستصحاب أصل أو أمارة؟

3 - أركان الاستصحاب

4 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب

5 - عموم جريان الاستصحاب

6 - تطبيقات

ص: 107

ص: 108

أدلّة الاستصحاب

اشارة

الاستصحاب قاعدة من القواعد الأصوليّة المعروفة ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع (1).

والمهمّ الآن استعراض أدلّة هذه القاعدة ، ولمّا كان أهمّ أدلّتها الروايات فسنعرض فيما يلي عددا من الروايات التي استدلّ بها على الاستصحاب كقاعدة عامّة :

الاستصحاب من أهمّ القواعد الأصوليّة المتأصّلة والمعروفة عند الأصحاب ، وإن اختلفت كلمات القدماء عن المتأخّرين في التعبير عنه.

والاستصحاب هو الحكم بإبقاء ما كان أو مرجعيّة الحالة السابقة ، أي أنّ ما وجد سابقا يحكم ببقائه لاحقا عند الشكّ به.

وأمّا الفرق بين الاستصحاب وغيره من القواعد كقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع فقد تقدّم الكلام عنه في الحلقة السابقة وخلاصته أن يقال :

أوّلا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وهو من جهتين :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ اليقين والشكّ في الاستصحاب يختلف متعلّقهما بلحاظ الزمان ، فاليقين متعلّق بالزمان السابق والشكّ متعلّق بالزمان اللاحق ، بخلاف اليقين والشكّ في قاعدة اليقين ، فإنّ متعلّقهما واحد أي أنّ نفس ما تعلّق به اليقين موضوعا وزمانا هو أيضا ما تعلّق به الشكّ ، بمعنى أنّ الشكّ سرى إلى اليقين فصار اليقين مشكوكا.

ص: 109


1- بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنواني : تعريف الاستصحاب ، والتمييز بين الاستصحاب وغيره.

الثانية : من حيث الملاك ، فإنّ الملاك في الاستصحاب هو أنّ الغالب فيما وجد أن يبقى ، بينما الملاك في قاعدة اليقين هو أنّ الغالب في اليقين أن يكون صحيحا ومطابقا للواقع.

ثانيا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع ، وهو من جهتين أيضا :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ المتعلّق في الاستصحاب متّحد ذاتا بين اليقين والشكّ بالنسبة للقضيّة ، بينما المتعلّق في قاعدة المقتضي والمانع متعدّد ذاتا ، فإنّ اليقين متعلّق بالمقتضي والشكّ متعلّق بالمانع.

الثانية : من حيث الملاك ، فملاك الاستصحاب غلبة ما يوجد يبقى ، بينما ملاك القاعدة غلبة عدم وجود المانع أو غلبة وجود المقتضى عند وجود المقتضي.

والآن نريد أن نتحدّث عن أدلّة الاستصحاب ، وهي ثلاثة :

1 - حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ.

2 - حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة.

3 - حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات.

أمّا حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ فهي تتوقّف على أمرين :

أوّلا : أنّ الحالة السابقة تفيد الظنّ ببقائها.

ثانيا : أنّ مثل هذا الظنّ حجّة شرعا.

إلا أنّ كلا الأمرين غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الحالة السابقة بمجرّد حدوثها لا تفيد الظنّ ببقائها ، بل يختلف ذلك بحسب تلك الحالة ونوعيّتها ، وهل هي ممّن له قابليّة البقاء أو لا؟

وأمّا الظنّ المستفاد من الحالة السابقة الحادثة فهو إمّا أن يكون ظنّا نوعيّا ، وإمّا أن يكون ظنّا شخصيّا ، والأوّل يحتاج إلى حجّيّة مطلق الظنّ ، والذي لم يتمّ كما تقدّم في محلّه ، والثاني يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير ثابت.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة فهي تتوقّف على أمرين أيضا :

الأوّل : إثبات أنّ العقلاء يبنون على بقاء الحالة السابقة من باب الاستصحاب لا من ملاك آخر.

الثاني : إثبات عدم الردع الكاشف عن الإمضاء.

ص: 110

أمّا الأوّل فقد يسلّم به رغم وجود احتمالات كثيرة في تفسير هذا البناء غير احتمال بقاء الحالة السابقة ، إلا أنّها لا تضرّ ما دام هذا البناء منعقدا بالفعل عندهم على أساس الظنّ الناشئ من ذلك ، لا على أساس الاطمئنان أو الاحتياط كما ادّعى البعض.

وأمّا الثاني فقد يناقش في إمضاء الشارع لهذه السيرة ، بمعنى أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تردع عن العمل بالسيرة العقلائيّة المنعقدة على الاستصحاب ، ومعها لا تكون مثل هذه السيرة حجّة.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات فهي العمدة في المقام ، ولذلك سوف نستعرض أهمّ الروايات التي استدلّ بها الأصحاب على هذه القاعدة فنقول :

الرواية الأولى :

رواية زرارة : قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء » ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (1).

وتقريب الاستدلال : أنّه حكم ببقاء الوضوء مع الشكّ في انتقاضه تمسّكا بالاستصحاب.

الاستدلال بهذه الرواية على الاستصحاب واضح ؛ لأنّ الإمام علیه السلام قد حكم فيها ببقاء الوضوء الذي كان على يقين منه على حاله عند الشكّ في ارتفاعه وانتقاضه ، مستندا في ذلك على الاستصحاب حيث عبّر عن ذلك بقوله : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » ، الدالّ على أنّ الوضوء يحكم ببقائه وعدم انتقاضه بسبب كونه متيقّنا به في السابق ، ومجرّد الشكّ به لا يوجب ارتفاعه وانتقاضه.

إلا أنّه توجد بعض الإشكالات ، من قبيل احتمال كون المقصود منها قاعدة

ص: 111


1- وسائل الشيعة 1 : 245 ، أبواب نواقض الوضوء ، ب 1 ، ح 1.

المقتضي والمانع ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الوضوء إنّما يكون لأجل الشكّ في وجود المانع والرافع له كالنوم مثلا.

والصحيح : أنّ الوضوء من الأفعال التي لها استمراريّة ودوام ؛ لأنّ المقصود به الطهارة لا خصوص الغسل والمسح ، وعليه فيكون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، أي أنّه تيقّن بالوضوء وشكّ في الوضوء أيضا.

وقد يستشكل أيضا بأنّه لما ذا لم يستصحب عدم النوم فإنّه أصل موضوعي مقدّم على استصحاب نفس الوضوء والذي هو مسبّب عن عدم النوم؟

والصحيح : أنّ الأصل السببي ليس حاكما ومقدما على الأصل المسبّبي دائما ، وإنّما إذا كانا متخالفين فقط دون المتوافقين ، وسيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض.

وبهذا يظهر أنّ دلالة الرواية على الاستصحاب واضحة.

يبقى أنّ هذه الرواية هل تدلّ على الاستصحاب في باب الوضوء خاصّة أو أنّها تعمّ جميع الأبواب أيضا؟

وظهور التعليل في كونه بأمر عرفيّ مركوز يقتضي كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة لا قاعدة مختصّة بباب الوضوء ، فيتعيّن حمل ( اللام ) - في اليقين والشكّ - على الجنس لا العهد إلى اليقين والشكّ في باب الوضوء خاصّة.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها وإثبات كلّيّتها فلاحظ.

قد يستشكل على عموم هذه القاعدة بأنّها مختصّة بباب الوضوء استنادا إلى أنّ ( اللام ) للعهد لا للجنس ، حيث إنّ الإمام علیه السلام ذكر « وإلا فإنّه على يقين من وضوئه » فاليقين هنا متعلّق بالوضوء ، ثمّ ذكر « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » فأشار إلى اليقين المذكور سابقا والمعهود بذكره اللفظي وأنّه يحرم نقضه بالشكّ ، فتكون الرواية دالّة على الاستصحاب في باب الوضوء فقط أو في باب الطهور لو حملنا الوضوء على الطهور ، وليس فيها دلالة على عموم القاعدة لكلّ الأبواب الفقهيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ تعليله بالقول « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » إشارة إلى شيء مرتكز عند العقلاء ويبنون عليه في حياتهم العمليّة من عدم نقض ما هو متيقّن

ص: 112


1- تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

بالشكّ ؛ لأنّ هذا التعليل لبقاء الحكم بالوضوء لدى السائل يفترض كون هذا الأمر مقبولا عنده بما هو إنسان عرفي ، وهذا يعني ارتكازيّة الاستصحاب في حياة العقلاء.

وهذه الارتكازيّة توجب إلغاء خصوصيّة المورد وعدم اختصاص القاعدة بباب الوضوء ، ولذلك تكون ( اللام ) فيها للجنس لا للعهد ، وهذا أيضا يفترض أوّلا ثبوت السيرة العقلائيّة على العمل بالاستصحاب كما ليس ببعيد ، وبذلك تكون القاعدة عامّة لكلّ الأبواب.

وهناك تفصيلات أخرى في الرواية من جهة فقه الرواية أو من جهة كيفيّة الاستدلال بها على القاعدة ، أو من جهة كلّيّة القاعدة ودلالة الرواية على الاستصحاب دون غيره ونحو ذلك ، وقد تقدّم الكلام عنها في الحلقة السابقة فلتراجع.

الرواية الثانية :

اشارة

وهي رواية أخرى لزرارة كما يلي :

1 - قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا ، وصليت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : « تعيد الصلاة وتغسله ».

2 - قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : « تغسله وتعيد الصلاة ».

3 - قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة ».

قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

4 - قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟

قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ».

5 - قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟

قال : « لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك ».

ص: 113

6 - قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » (1).

وتشتمل هذه الرواية على ستّة أسئلة من الراوي مع أجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء في الجواب على السؤال الثالث والسادس ، غير أنّا سنستعرض فقه الأسئلة الستّة وأجوبتها جميعا ؛ لما لذلك من دخل في تعميق فهم موضعي الاستدلال من الرواية.

وهذه الرواية تدلّ على الاستصحاب على أساس الفقرتين الثالثة والسادسة ، حيث صرّح الإمام علیه السلام فيهما باليقين والشكّ اللذين هما ركنا الاستصحاب.

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أنّ راويها زرارة لا يسأل عادة إلا من المعصوم ، ولذلك لا مجال للتشكيك في سندها المؤيّد بمضمونها الناطق صريحا بأنّها صادرة من المعصوم.

وهي تشتمل على فقرات ستّة وأجوبتها ، وإنّما ذكرت بطولها هنا لما في الحديث عن فقراتها من فائدة ومدخليّة في فهم وتعميق الاستدلال بفقرتي الرواية الدالّتين على الاستصحاب ، ولذلك سوف نستعرض فقه الاسئلة الستّة وأجوبتها.

ففي السؤال الأوّل : يستفهم زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه ثمّ نسي ذلك وصلّى فيه ، وتذكّر الأمر بعد الصلاة ، وقد أفتى الإمام بوجوب إعادة الصلاة لوقوعها مع النجاسة المنسيّة ، وغسل الثوب.

أمّا السؤال الأوّل : فكان عمّن علم بالنجاسة تفصيلا وعلم بمكانها تفصيلا أيضا ولكنّه لم يطهّر الموضع من أجل عدم وجود الماء لديه ، فكان تأخيره لذلك عن عذر مقبول شرعا ، ثمّ إنّه بعد أن وجد الماء نسي أن يطهّر موضع النجاسة وصلّى بالثوب النجس ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة تذكّر أنّه صلّى بالثوب النجس.

وهنا حكم الإمام علیه السلام ببطلان الصلاة ووجوب إعادتها بعد غسل الثوب وتطهيره من النجاسة.

ص: 114


1- تهذيب الأحكام 1 : 432 / 1335. الاستبصار 1 :292- 293 / 641.

وهذا ممّا لا كلام لنا فيه وهو متناسب مع القواعد والأصول أيضا ؛ لأنّ شرطيّة الطهارة للثوب أو البدن تشمل الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، وكلاهما مفقود هنا ؛ لأنّ الثوب نجس واقعا ، ولم يدخل في الصلاة بالثوب الطاهر ظاهرا أيضا ، بل بثوب نجس ، غاية الأمر كونه عن نسيان فلا إثم عليه لذلك ، لكنّه لم يحقّق الشرطيّة المطلوبة.

وفي السؤال الثاني : سأل عمّن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخّص موضعه ، فدخل في الصلاة باحتمال أنّ عدم التشخيص مسوّغ للدخول فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص.

وقوله : « فطلبته ولم أقدر عليه » إنّما يدلّ على ذلك ، ولا يدلّ على أنّه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فإنّ عدم القدرة غير حصول التشكيك في الاعتقاد السابق ، ولا يستلزمه ، وقد أفتى الإمام بلزوم الغسل والإعادة لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة إجمالا.

وأمّا السؤال الثاني : فكان عمّن علم بأنّ النجاسة قد أصابت الثوب ولكنّه لم ير الموضع الذي وقعت عليه النجاسة ، فهنا يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة الثوب وشكّ في المكان الذي تنجّس من الثوب ، ثمّ إنّه قد فحص عن الموضع فلم يقدر على العثور عليه لكي يطهّره بخصوصه ، فاعتقد نتيجة ذلك أنّه يجوز له الصلاة بهذا الثوب ما دام قد فحص عن مكان النجاسة ولم يعثر عليها ، مع أنّه يجب عليه في هذه الحالة الاجتناب عن الصلاة بهذا الثوب لعلمه بوقوع النجاسة عليه ، فإنّ الجهل بالموضع تفصيلا لا يضرّ ولا يزيل العلم بوقوع النجاسة على الثوب.

وهنا حكم الامام علیه السلام بوجوب الإعادة وغسل الثوب كالسؤال السابق ولنفس النكتة أيضا.

ولا يتوهّم هنا أنّ قوله : « فطلبته فلم أقدر عليه » يدلّ على زوال اليقين السابق بالنجاسة ، حيث إنّه بعد أن فحص لم يعثر على النجاسة فزال اعتقاده بها فصلّى لأجل ذلك ، وبالتالي تكون الفقرة دالّة على قاعدة اليقين.

بل الصحيح أنّ قوله هذا إنّما يدلّ على أنّه قد سوّغ لنفسه الصلاة بهذا الثوب لأجل أنّه فحص ولم يعثر على الموضع ، فبرّر صلاته بالثوب النجس بأنّه قد فحص عن الموضع ليطهّره فلم يعثر عليه.

ص: 115

وليس في هذا القول دلالة على زوال اعتقاده السابق بوقوع النجاسة ، وإلا لكان المناسب لذلك أن يعبّر عنه بقوله : « فلم أره » فإنّه يحتمل الوجهين.

وأمّا عدم الإصابة للموضع تفصيلا فليس فيه دلالة على قاعدة اليقين لا بالمطابقة ولا بالاستلزام ، بل غاية ما يستفاد منه أنّه حاول بالفحص العثور على الموضع لكنّه لم يقدر على ذلك ، وهذا معناه العلم الإجمالي بأصل النجاسة والشكّ في موضعها.

وفي السؤال الثالث : افترض زرارة أنّه ظنّ الإصابة ففحص فلم يجد فصلى فوجد النجاسة ، فأفتى الإمام بعدم الإعادة ، وعلّل ذلك بأنّه كان على يقين من الطهارة فشكّ ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ.

وهذا المقطع هو الموضع الأوّل للاستدلال ، وفي بادئ الأمر يمكن طرح أربع فرضيّات في تصوير الحالة التي طرحت في هذا المقطع.

وأمّا السؤال الثالث : فكان عمّن ظنّ أنّ ثوبه قد أصابته النجاسة ففحص عن ذلك فلم يجد شيئا ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها وجد النجاسة على ثوبه.

وهنا حكم الإمام بصحّة الصلاة ووجوب غسل الثوب للأعمال اللاحقة ، وعلّل ذلك بقاعدة الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه كان على يقين بالطهارة أوّلا ثمّ شكّ في زوالها بسبب الظنّ في إصابة الثوب للنجاسة فلم يفحص ولم يجد النجاسة فصار شاكّا في أنّ ثوبه هل لا يزال طاهرا أم لا؟

فهنا لا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ ، وهذا الحكم بعدم لزوم إعادة الصلاة كان تطبيقا لقاعدة الاستصحاب بشكل واضح وجلي.

وأمّا الحكم بلزوم غسل الثوب فمن أجل أنّه صار متيقّنا من نجاسته بعد أن فرغ من الصلاة ووجد النجاسة عليه ، وهذه الفقرة هي الموضع الأوّل للاستدلال على الاستصحاب ، ولذلك لا بدّ من تنقيح الكلام فيها واستعراض ما يحتمل أن يقال فيها ، ومن هنا توجد احتمالات أربعة يمكن افتراضها بادئ الأمر منشؤها أمران :

الأوّل : قوله : « فنظرت ولم أر شيئا » حيث إنّه يحتمل فيه القطع بعدم الإصابة ويحتمل فيه مجرّد عدم العلم بالإصابة.

الثاني : قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » حيث إنّه يحتمل فيه رؤية النجاسة التي ظنّها

ص: 116

قد وقعت أوّلا قبل الدخول بالصلاة ، ويحتمل فيه أيضا رؤية نجاسة أخرى غيرها.

وعليه فتكون الاحتمالات المتصوّرة أربعة :

1 - القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

2 - القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

3 - عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

4 - عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان ، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بأنّ النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أوّلا.

وهذه الفرضيّة غير منطبقة على المقطع جزما ؛ لأنّها لا تشتمل على شكّ لا قبل الصلاة ولا بعدها ، مع أنّ الإمام قد افترض الشكّ وطبّق قاعدة من قواعد الشكّ.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد أن فحص ولم ير شيئا ، فدخل في الصلاة ثمّ بعد الفراغ من الصلاة وجد نجاسة وعلم يقينا بأنّها نفس النجاسة التي ظنّ أنّها قد أصابت الثوب.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين ، يقين قبل الصلاة بعدم النجاسة ، ويقين بالنجاسة بعد الصلاة ، ولا يوجد شكّ أبدا ، ولذلك من المستبعد أن تكون هي المقصودة من سؤال زرارة لعدم انسجامها مع جواب الإمام حيث إنّه قد طبّق قاعدة من قواعد الشكّ - سواء كانت هي الاستصحاب أو قاعدة اليقين - وهذا التطبيق يفترض وجود الشكّ إمّا قبل الصلاة وإمّا بعدها وإما في أثنائها ، مع أنّه لا وجود للشكّ أصلا بناء على هذه الفرضيّة ، وعليه فتكون ساقطة إثباتا وإن كانت محتملة ثبوتا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشكّ عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في أنّها تلك النجاسة أو نجاسة متأخّرة.

وهذه الفرضيّة تصلح لإجراء الاستصحاب فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف على يقين من عدم النجاسة قبل ظنّ الإصابة فيستصحب ، كما أنّها تصلح

ص: 117

لإجراء قاعدة اليقين فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف كان على يقين من الطهارة بعد الفحص وقد شكّ الآن في صحّة يقينه هذا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد الفحص عنها وعدم وجدانها ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها رأى نجاسة واحتمل أن تكون عين النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب أو تكون نجاسة أخرى غيرها متأخّرة عن الصلاة أو في أثنائها.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني بعدم وجود النجاسة بعد الفحص وقبل الصلاة ، والشكّ بعد الفراغ من الصلاة بأنّ النجاسة الموجودة هل هي نجاسة سابقة على الصلاة أو أنّها نجاسة طرأت عليه حين أو بعد الصلاة؟

ولذلك يكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة المشتملة على الشكّ ، إلا أنّ هذه الكبرى كما يحتمل فيها أن تكون كبرى الاستصحاب ، كذلك يحتمل فيها أن تكون ناظرة إلى قاعدة اليقين.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا لاحظنا اليقين السابق على ظنّ الإصابة فهو يقين راسخ بطهارة الثوب ، ثمّ حصل الظنّ بالإصابة واليقين بعدمها ثمّ الصلاة ، ثمّ رؤية النجاسة المحتمل سبقها على الصلاة وتأخّرها عنها ، فالشك هنا معناه أنّ النجاسة إن كانت سابقة على الصلاة فهذا يعني أنّ طهارة الثوب قد انتقضت قبل الدخول في الصلاة ، فيكون قد صلّى بثوب نجس واقعا فصلاته باطلة.

وإن كانت متأخّرة عنها أو في أثنائها فطهارة الثوب قبل الصلاة لم تنتقض برؤية النجاسة بعد الفراغ ، وهذا معناه أنّه قد صلّى بثوب طاهر فصلاته صحيحة.

فيشكّ الآن بعد الفراغ من الصلاة في صحّة صلاته وبطلانها ، بسبب الشكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة ، فيكون حكم الإمام بعدم الإعادة مستندا إلى استصحاب طهارة الثوب المتيقّنة سابقا قبل ظنّ الإصابة ؛ لأنّ اليقين لا ينتقض بالشكّ ، فيكون ظرف جريان الاستصحاب هو حين السؤال.

ويمكن أيضا أن يكون ظرف جريان هذا الاستصحاب هو حين ظنّ الإصابة ؛ لأنّه عند ما ظنّ الإصابة شكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة فيستصحب بقاءها ، وأمّا

ص: 118

حين الصلاة فلا يحتاج إلى الاستصحاب ؛ لأنّه بعد أن فحص ولم يجد شيئا حصل له العلم بعدم الإصابة وبعد الفراغ من الصلاة حصل له اليقين بالنجاسة المحتمل تقدّمها وتأخّرها عن الصلاة.

وأمّا إذا لاحظنا اليقين الحاصل من الفحص بعد ظنّ الإصابة فسوف يختلف الحال ؛ لأنّ الشكّ بأنّ هذه النجاسة سابقة على الصلاة أو متأخّرة عنها ، معناه أنّ النجاسة لو كانت موجودة قبل الصلاة فيقينه بعدم الإصابة الحاصل من الفحص وعدم الوجدان غير صحيح بل مخطئ ، إذ المفروض أنّ النجاسة موجودة قبل الصلاة بعد ظنّ الإصابة ، ولا يمكن اجتماع النجاسة وعدمها في وقت واحد.

وأمّا لو كانت طارئة حين الصلاة أو بعدها فاليقين بعدم الإصابة قبل الصلاة على حاله ، أي أنّه صحيح غير مخطئ ، غاية الأمر يكون قد ارتفع وانتقض بطروّ النجاسة.

وعليه فيحتمل أن يكون تطبيق الإمام لكبرى اليقين والشكّ يراد به قاعدة اليقين والتي يكون الشكّ فيها هادما لليقين ، والشكّ هنا على أحد الفرضين يكون هادما لليقين فيحتمل كون نظر الإمام إليه.

وحيث إنّ كلا الأمرين محتمل في نفسه ثبوتا فالاستدلال بهذا المقطع بناء على هذه الفرضيّة يحتاج إلى استظهار الأمر الأوّل دون الثاني ، واستظهاره يحتاج إلى دليل يدلّ عليه من نفس السؤال ، وهذا غير ممكن ؛ لأنّ السؤال يحتمل الأمرين معا ، فيكون مجملا غير صالح للاستدلال.

الفرضيّة الثالثة عكس الفرضيّة السابقة ، بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجدان النجاسة بأنّها ما فحص عنه.

وفي مثل ذلك لا يمكن إجراء أي قاعدة للشكّ فعلا في ظرف السؤال لعدم الشكّ ، وإنّما الممكن جريان الاستصحاب في ظرف الفحص والإقدام على الصلاة.

الفرضيّة الثالثة : أن يفرض عدم حصول اليقين بعدم الإصابة عند الفحص عنها وعدم وجدانها ، بل كانت الإصابة لا تزال محتملة ، ثمّ صلّى وبعد الفراغ وجد النجاسة وتيقّن أنّها نفس النجاسة التي كانت مظنونة قبل الدخول في الصلاة.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل هو اليقين بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني هو اليقين بالنجاسة بعد الفراغ من الصلاة وأنّها نفس

ص: 119

النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب قبل الدخول في الصلاة ، والشكّ حين ظنّ الإصابة والفحص وعدم الوجدان للنجاسة وحين الصلاة إلى أن فرغ منها.

وعليه فيكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة ، إلا أنّ الكلام في أنّ هذه القاعدة هل هي قاعدة الاستصحاب أو أنّها قاعدة اليقين؟

والجواب : أنّ هذه القاعدة هي الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، والوجه في ذلك هو : أنّ قاعدة اليقين تفترض وجود شكّ سرى إلى اليقين وهدمه ، والشكّ المتصوّر على هذه الفرضيّة هو الشكّ في إصابة النجاسة للثوب حين ظنّ النجاسة ؛ لأنّه بقي شاكّا ومحتملا للإصابة حتّى بعد الفحص وعدم الوجدان ، إلا أنّ هذا الشكّ لا يمكن أن يكون هادما لليقين بطهارة الثوب السابق على ظنّ الإصابة ، إذ حتّى على فرض اليقين بالنجاسة حين ظنّ الإصابة والفحص لا ينهدم اليقين ، بل ينتقض ويرتفع حكمه كما هو واضح.

وأمّا الاستصحاب فهو يجري حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص واحتمال الإصابة وفي أثناء الصلاة ؛ لأنّه في كلّ هذه الفترة كانت النجاسة مشكوكة ، فيستصحب بقاء طهارة الثوب إلى حين الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة.

ومجرّد العلم بأنّ هذه النجاسة كانت موجودة قبل الدخول في الصلاة لا يمنع من جريان الاستصحاب لتوفّر كلا ركنيه حينها.

نعم ظرف جريان الاستصحاب هو حين الفحص والدخول في الصلاة ، لا في ظرف السؤال ؛ إذ لا شكّ عنده حينه.

وتصحيح الإمام للصلاة مبني على أنّ شرطيّة الطهارة للثوب تشمل الطهارة الظاهريّة أيضا لا خصوص الواقعيّة ، وهنا المكلّف حينما دخل في الصلاة كان ثوبه طاهرا بالاستصحاب ، فالشرطيّة متحقّقة.

نعم بعد رؤية النجاسة ينتقض هذا الاستصحاب لانهدام ركنيه ، فيحتاج إلى تطهير الثوب للأعمال اللاحقة التي يراد الإتيان بها بهذا الثوب.

الفرضيّة الرابعة عكس الفرضيّة الأولى ، بافتراض الشكّ حين الفحص وحين الوجدان.

ص: 120

ولا مجال هنا لقاعدة اليقين ؛ إذ لم يحصل شكّ في خطأ يقين سابق ، وهناك مجال لجريان الاستصحاب حال الصلاة وحال السؤال معا.

الفرضيّة الرابعة : أن يفرض حصول الشكّ في الإصابة بعد الفحص عنها وعدم رؤية شيء ، أي أنّه بعد أن ظنّ الإصابة وفحص ولم ير شيئا بقي محتملا للإصابة وشاكّا فيها ، ويفرض أيضا الشكّ في أنّ النجاسة التي وجدها بعد الفراغ من الصلاة هل هي النجاسة التي ظنّ إصابتها أو أنّها نجاسة أخرى طارئة؟

وهذه الفرضيّة تشتمل على شكّين ويقين : الشكّ الأوّل حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص ، والشكّ الثاني بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة ، والشكّ في أنّها سابقة أو متأخّرة ، واليقين هو اليقين بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة.

وهذه الفرضيّة تنسجم مع جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ.

إلا أنّ هذا الجواب لا يمكن تطبيقه على قاعدة اليقين بناء على هذه الفرضيّة ؛ لأنّه لا يوجد يقين سرى إليه الشكّ بحيث يكون هادما له من حين حدوثه.

نعم يطبّق على قاعدة الاستصحاب فقط من ناحيتين :

الأولى : أن يكون جوابه ناظرا إلى الشكّ الحاصل حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص ، بحيث يكون المراد أنّ اليقين بطهارة الثوب الثابت قبل ظنّ الإصابة لا ينبغي نقضه بالشكّ الحاصل بعد الظنّ والفحص.

وعليه فيكون المكلّف قد دخل في الصلاة بثوب طاهر تعبّدا بالاستصحاب ، فالشرطيّة متحقّقة ظاهرا. وهذا يكفي لتسويغ الشروع في الصلاة ، فظرف جريان الاستصحاب هو حال الصلاة.

الثانية : أن يكون جوابه ناظرا إلى الشكّ الحاصل بعد الفراغ من الصلاة وحين رؤية النجاسة ، حيث إنّه شكّ في أنّها سابقة على الصلاة أو متأخّرة عنها ، فيكون المقصود من الكبرى هو أنّ الصلاة صحيحة إلى ما بعد الفراغ منها ، حيث إنّه قد أتى بها وهو على طهارة تعبّديّة استصحابيّة ؛ لأنّ الشكّ في أنّ النجاسة متقدّمة على الصلاة أو متأخّرة عنها يعني الشكّ في إتيانه للصلاة كاملة بالطهارة التعبّديّة الظاهريّة ، وعليه فظرف جريان الاستصحاب هو حال السؤال عن صحّة الصلاة ووجوب إعادتها.

ص: 121

ومن هنا يعرف أنّ الاستدلال بالمقطع المذكور على الاستصحاب موقوف على حمله على إحدى الفرضيّتين الأخيرتين ، أو على الفرضيّة الثانية مع استظهار إرادة الاستصحاب.

وبهذا يظهر أنّ الفقرة الثالثة صالحة للاستدلال على الاستصحاب ؛ لأنّ الفرضيّة الأولى ساقطة عن الاعتبار والفرضيّتين الثالثة والرابعة صالحتان للاستدلال ، وأمّا الثانية فتصلح لو استظهر إرادة الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

وفي السؤال الرابع : سأل عن حالة العلم الإجمالي بالنجاسة في الثوب ، وأجيب بلزوم الاعتناء والاحتياط.

وأمّا السؤال الرابع : فهو سؤال عن العلم الإجمالي ومنجّزيّته لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ وذلك لأنّ زرارة قد افترض العلم بإصابة النجاسة للثوب ولكنّه جهل الموضع الذي أصابته ، فكان سؤاله حول ما إذا كان هذا العلم الإجمالي منجّزا لوجوب الاجتناب عن الثوب حال الصلاة أو عن وجوب تطهيره.

فأجابه الإمام بأنّ هذا العلم الإجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعيّة ، أي أنّه يجب الاحتياط إمّا بالاجتناب عن الثوب ، وإمّا بلزوم تطهير المكان الذي يحتمل إصابة النجاسة له.

وهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ لا دلالة فيه على شيء لا الاستصحاب ولا قاعدة اليقين.

ومورد هذا السؤال هو حال الشروع في الصلاة بمعنى أنّه هل يجوز الشروع في الصلاة بهذا الثوب أم لا؟

وفي السؤال الخامس : سأل عن وجوب الفحص عند الشك ، وأجيب بالعدم.

وأمّا السؤال الخامس : فهو سؤال عن وجوب الفحص عند الشكّ في إصابة النجاسة للثوب.

وأجابه الإمام بأنّ الفحص غير واجب ، نعم الأفضل الفحص لكي يذهب الشكّ من النفس.

ويحتمل أيضا أن يكون السؤال حول وجوب الموافقة القطعيّة والاعتناء عند الشكّ ، وتفريعا له على السؤال السابق.

ص: 122

والجواب هنا أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال.

والوجه في عدم وجوب الفحص والاحتياط هو التمسّك بأصالة الطهارة ، فإنّها تثبت الطهارة الظاهريّة للثوب ، وهي كافية للدخول في الصلاة ؛ لأنّها أحد فردي الشرطيّة.

وليس في هذه الفقرة نظر للاستصحاب ولا لغيره ؛ إذ لا يوجد يقين سرى إليه الشكّ لكي تطبّق قاعدة اليقين ، ولا يوجد سؤال عن حكم الصلاة بهذا الثوب المشكوك لكي تطبّق قاعدة الاستصحاب باعتبار أنّ الثوب مسبوق بالطهارة اليقينيّة قبل الشكّ ، وإنّما السؤال عن تكليف الشخص وأنّه هل يجب عليه الاحتياط والفحص والتفتيش والنظر أم لا؟

وفي السؤال السادس : يقع الموضع الثاني من الاستدلال بالرواية ، حيث إنّه سأل عمّا إذا وجد النجاسة في الصلاة ، فأجيب بأنّه إذا كان قد شكّ في موضع منه ثمّ رآه قطع الصلاة وأعادها ، وإذا لم يشكّ ثمّ رآه رطبا غسله وبنى على صلاته لاحتمال عدم سبق النجس ، ولا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

وأمّا السؤال السادس : فكان سؤالا عمّا إذا وجد النجاسة أثناء الصلاة.

وأجابه الإمام مفصّلا بين صورتين :

الأولى : أن يكون قبل الدخول في الصلاة قد شكّ في إصابة النجاسة للثوب في إحدى جهاته ، ثمّ في أثناء الصلاة وجد النجاسة في ذاك الموضع الذي شكّ في إصابة النجاسة له.

وهنا حكم الإمام بقطع الصلاة ووجوب إعادتها ؛ وذلك لأنّه بعد رؤيته للموضع النجس يتبيّن له أنّه قد دخل في الصلاة بثوب نجس.

الثانية : ألاّ يكون شاكّا بالإصابة أصلا فدخل في الصلاة ، ثمّ رأى على ثوبه نجاسة رطبة في الأثناء ، وهنا حكم الإمام بوجوب التطهير وإكمال الصلاة والبناء على صحّة ما مضى منها.

والوجه فيه احتمال أن تكون النجاسة المرئيّة رطبة قد وقعت عليه في الأثناء مع احتمال سبقها أيضا ، ولكن ما دام شاكّا في الأمر يجب البناء على اليقين وعدم نقضه بالشكّ.

ص: 123

وهنا محلّ الاستدلال بهذه الفقرة حيث طبّق الإمام علیه السلام كبرى الاستصحاب مصحّحا على أساسها الصلاة ؛ لأنّه كان على يقين من الطهارة قبل الصلاة ويشكّ في ارتفاعها قبل الشروع إلى حين رؤية النجاسة فيستصحب بقاء الطهارة إلى حين الرؤية.

ويحتمل أن يراد بالشقّ الأوّل صورة العلم الإجمالي ، وبالشقّ الثاني المبدوء بقوله : « وإن لم تشكّ » صورة الشكّ البدوي.

ويحتمل أن يراد بالشقّ الأوّل صورة الشكّ البدوي السابق ثمّ وجدان نفس ما كان يشكّ فيه ، وبالشقّ الثاني صورة عدم وجود شكّ سابق ، ومفاجأة النجاسة للمصلّي في الأثناء.

ولكلّ من الاحتمالين معزّزات.

ثمّ إنّه يوجد احتمالان في تفسير الشكّ في الشقّين :

الأوّل : أن يراد من قوله : « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » صورة العلم الإجمالي بالإصابة ، أي أنّه علم بالإصابة وشكّ في موضعها ، ففحص فلم يجد فدخل في الصلاة فوجدها في ذاك الموضع أثناء الصلاة ، فهنا يجب قطع الصلاة وإعادتها على القاعدة ، لمنجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة قبل الشروع بالصلاة إمّا للتطهير وإمّا للاجتناب عن الثوب في الصلاة.

وحينئذ يكون المراد من قوله : « وإن لم تشكّ » أي لم يكن لديك علم إجمالي سابق على الصلاة ، وإنّما كان هناك شكّ بدوي بالإصابة فدخلت في الصلاة ، ثمّ رأيت النجاسة فهنا يطهّر الموضع ويكمل صلاته على القاعدة أيضا ؛ لأنّه دخل في الصلاة وهو على طهارة ظاهريّة استصحابيّة.

الثاني : أن يراد بقوله : « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » صورة الشكّ البدوي بالإصابة قبل الشروع بالصلاة ، ثمّ رؤية نفس النجاسة المشكوكة في الأثناء ، أي أنّه علم بأنّ هذه النجاسة كانت موجودة من أوّل الأمر ، فهنا تجب الإعادة من جديد لوقوع الصلاة مع النجاسة.

وحينئذ يكون المراد من قوله : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته » صورة العلم بالطهارة قبل الشروع ثمّ رؤية النجاسة في الأثناء رطبة ، فهنا لا تجب الإعادة بل يطهّر الموضع

ص: 124

ويكمل الصلاة ؛ لاحتمال أن تكون النجاسة طارئة ولا ينبغي نقض اليقين بالطهارة حين الشروع باحتمال كون النجاسة موجودة من أوّل الأمر ؛ لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

ثمّ إنّ لكلّ واحد من هذين الاحتمالين ما يؤيّده ويعزّزه.

أمّا الاحتمال الثاني فيؤيّده أمور :

1 - قوله « إذا شككت ... » الظاهر في الشكّ البدوي لا العلم الإجمالي وإلا لعبّر بالعلم.

2 - أنّه إذا حمل قوله « إذا شككت ... » على الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي كان المراد من هذه الفقرة نفس المراد من الفقرة الثانية ، فيكون تكرارا لا فائدة منه.

3 - أنّ قوله « إذا شككت ... » متفرّع عن السؤال الخامس الذي فرض فيه الشكّ بالإصابة من أوّل الأمر ، فمقتضى تفرّعه عليه كون المراد الشكّ البدوي.

وأمّا الاحتمال الأوّل فيؤيّده أمران :

1 - قوله « إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » حيث أضاف الشكّ إلى الموضع لا إلى الإصابة ، وهذا يعني أنّ الإصابة معلومة وإنّما الشكّ في موضعها ، وهذا يعني العلم الإجمالي.

2 - حكم الإمام بالإعادة معناه العلم بأنّ النجاسة التي رآها كانت موجودة من أوّل الأمر وقبل الشروع ، وهذا لا ينسجم مع الشكّ البدوي بالإصابة ؛ لاحتمال أن تكون النجاسة المرئيّة طارئة في الأثناء أيضا ، وإنّما ينسجم مع كون الشكّ بالإصابة شكّا مقرونا بالعلم الإجمالي من أوّل الأمر.

والصحيح هو الاحتمال الثاني أي صورة الشكّ البدوي بالإصابة.

والنتيجة المفهومة واحدة على التقديرين وهي : أنّ النجاسة المرئيّة في أثناء الصلاة إذا علم بسبقها بطلت الصلاة ، وإلا جرى استصحاب الطهارة وكفى غسلها وإكمال الصلاة.

وعلى أيّ حال فالنتيجة واحدة سواء حملنا الشكّ على الشكّ البدوي أم على الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ المراد النهائي والمشترك بين الاحتمالين هو أنّ النجاسة التي رآها في أثناء الصلاة إن علم بكونها نجاسة موجودة من أوّل الأمر وقبل

ص: 125

الشروع بالصلاة فالصلاة باطلة وتجب إعادتها ، وإن لم يعلم بسبقها كذلك فالصلاة صحيحة بمعنى أنّه يجب البناء على صحّة ما مضى ولزوم تطهير الثوب وإكمال الصلاة والاكتفاء بها ، استنادا إلى استصحاب اليقين بالطهارة للثوب ، وعدم جواز نقض اليقين لمجرّد احتمال سبق النجاسة على الصلاة.

وقد ادّعي في كلمات الشيخ الأنصاري (1) وقوع التعارض بين هذه الفتوى في الرواية والفتوى الواقعة في جواب السؤال الثالث إذا حملت على الفرضيّة الثالثة ، إذ في كلتا الحالتين وقعت الصلاة في النجاسة جهلا إمّا بتمامها كما في مورد السؤال الثالث ، أو بجزء منها كما في مورد السؤال السادس ، فكيف حكم بصحّة الصلاة في الأوّل وبطلانها في الثاني؟!

وهنا إشكال للشيخ الأنصاري حاصله : أنّ الشقّ الأوّل من الفقرة السادسة لو حمل على الشكّ البدوي ، فهو يتناقض مع الفقرة الثالثة إذا حملت على الفرضيّة الثالثة ، والوجه في ذلك : أنّ الإمام حكم هنا بعدم صحّة الصلاة ووجوب إعادتها عند افتراض الشكّ البدوي بإصابة النجاسة للثوب ثمّ رؤيتها في أثناء الصلاة.

بينما هناك حكم الإمام بصحّة الصلاة التي فرغ منها رغم وقوعها كاملة مع النجاسة ، حيث إنّه رأى النجاسة بعد الفراغ من الصلاة ، وهذه النجاسة التي رآها كانت مشكوكة حين الشروع في الصلاة.

ففي صورة الشكّ بالإصابة قبل الشروع بالصلاة ثمّ رؤية النجاسة المشكوكة حكم الإمام بحكمين مختلفين ، أحدهما وجوب الإعادة عند رؤية النجاسة في الأثناء ، والآخر عدم الإعادة عند رؤية النجاسة بعد الفراغ من الصلاة ، فكيف تكون الصلاة الواقعة بتمامها مع النجاسة جهلا أحسن حالا من الصلاة التي وقع بعضها مع النجاسة جهلا؟!

وهذا شاهد ومؤيّد لما تقدّم من احتمال كون المراد من الشكّ هنا هو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي لا الشكّ البدوي.

والجواب : أنّ كون النجاسة قد انكشفت وعلمت في أثناء الصلاة قد يكون له دخل في عدم العفو عنها ، فلا يلزم من العفو عن نجاسة لم تعلم أثناء الصلاة العفو عن نجاسة علمت كذلك.

ص: 126


1- فرائد الأصول 3 : 61.

وجوابه : أنّه يوجد فارق بين الصورتين وهو : أنّه في الفقرة الثالثة بناء على الفرضيّة الثالثة كان شاكّا بالإصابة فصلّى ، وبعد تماميّة الصلاة والفراغ منها رأى النجاسة ، فرؤية النجاسة إذن حصلت بعد الفراغ من العمل.

بينما في الشقّ الأوّل من الفقرة السادسة على تفسير الشك بالشك البدوي كان شاكّا بالإصابة وصلّى ، ثمّ رأى النجاسة في الأثناء ، فرؤية النجاسة إذن حصلت حين العمل لا بعد الفراغ منه.

وعليه يكون حكم الإمام بالصحّة هناك وعدمها هنا مبنيّا على هذه النكتة ، أي نكتة الفراغ من العمل وعدم الفراغ منه ، وهذه نكتة عرفيّة أيضا.

وبتعبير آخر : أنّ أدلّة مانعيّة النجاسة للثوب من صحّة الصلاة تشمل ثلاث حالات :

1 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم بها كذلك.

2 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم فيها في الأثناء.

3 - حالة وجود النجاسة قبل الشروع والعلم بها بعد الفراغ من العمل.

أمّا الحالة الأولى فهي مشمولة لأدلّة المانعيّة والبطلان بلا شكّ.

وأمّا الحالة الثالثة فقد دلّت الأخبار على خروجها واستثنائها من وجوب الإعادة.

وأمّا الحالة الثانية فهي تحتمل كونها ملحقة بالأولى أو بالثالثة ، وهنا ألحقها الشارع بالأولى دون الثالثة ، إذ لا ملازمة بين العفو عن النجاسة التي لم تعلم إلا بعد الفراغ من العمل والعفو عن النجاسة التي علمت أثناءه بعد أن كان الجميع داخلا تحت أدلّة المانعيّة ، غاية الأمر رخّص الشارع في العفو عن بعض الحالات دون البعض الآخر.

هذا حاصل الكلام في فقه الرواية.

وأمّا تفصيل الكلام في موقعي الاستدلال فيقع في مقامين :

المقام الأوّل :

في الموقع الأوّل ، والكلام فيه في جهات :

الأولى : أنّ الظاهر من جواب الإمام تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين ؛ وذلك لأنّ تطبيق الإمام لقاعدة على السائل متوقّف على أن يكون كلامه ظاهرا في تواجد أركان تلك القاعدة في حالته المفروضة ، ولا شكّ في ظهور كلام

ص: 127

السائل في تواجد أركان الاستصحاب من اليقين بعدم النجاسة حدوثا والشكّ في بقائها.

وأمّا تواجد أركان قاعدة اليقين فهو متوقّف على أن يكون قوله : « فنظرت فلم أر شيئا ... » مفيدا لحصول اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة بسبب الفحص وعدم الوجدان ، وأن يكون قوله : « فرأيت فيه ... » مفيدا لرؤية نجاسة يشكّ في كونها هي المفحوص عنها سابقا ، مع أنّ العبارة الأولى ليست ظاهرة عرفا في افتراض حصول اليقين حتّى لو سلّمنا ظهور العبارة الثانية في الشكّ.

المقام الأوّل : في الفقرة الثالثة وكيفيّة دلالتها على الاستصحاب ، والكلام فيها يقع في عدّة جهات :

الجهة الأولى : في أنّ المقصود من الكبرى ( وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ) الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، وهذا الأمر يمكن استظهاره من نفس السؤال ، وذلك بأن يقال : إنّ استظهار الاستصحاب أو قاعدة اليقين من جواب الإمام علیه السلام متوقّف على إثبات مطلب ، وهو أن تكون أركان القاعدة أو الاستصحاب متوفّرة في سؤال السائل ومفهومة عنده ليكون جواب الإمام منسجما مع سؤال السائل ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من ظهور كلام السائل في أركان القاعدة أو الاستصحاب.

وبناء على هذا نقول : أمّا أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق ، فيمكن استظهارها من كلام السائل بوضوح ؛ وذلك لأنّه افترض في سؤاله أنّه ظنّ إصابة النجاسة للثوب والذي يدلّ بالمفهوم والملازمة على أنّ الثوب كان متيقّن الطهارة قبل طروّ الظنّ المذكور.

فالركن الأوّل إذن - وهو اليقين بالحدوث - متوفّر ، وأمّا الشكّ في بقاء الطهارة فيدلّ عليه ما افترضه من الفحص وعدم الوجدان للنجاسة ، والذي يفيد أنّه لم يتيقّن النجاسة لا أكثر فهو لا يزال شاكّا ومحتملا لها ، وحيث إنّ كلا الركنين متوفّر فيجري الاستصحاب.

وأمّا أركان قاعدة اليقين من اليقين الذي سرى إليه الشكّ ، فاستظهارهما يتوقّف على أن يكون قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) دالاّ على اليقين بعدم الإصابة وأنّه حين

ص: 128

الشروع في الصلاة كان متيقّنا بعدم نجاسة الثوب نتيجة الفحص وعدم الرؤية ، وعلى أن يكون قوله : ( فرأيت فيه ... ) دالاّ على الشكّ في أنّ هذه النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي نفس النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها قبل الشروع أو أنّها نجاسة أخرى طارئة.

فإذا تمّ استظهار هذين المقامين كانت أركان قاعدة اليقين تامّة ومتوفّرة في سؤال السائل ، فيكون جواب الإمام ناظرا إلى القاعدة.

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان استفادة ذلك ؛ لأنّ القول الأوّل لا يستفاد منه عرفا اليقين بعدم النجاسة لا بالمطابقة ولا بالالتزام ؛ لأنّ عدم وجدان النجاسة بعد الفحص كما يحتمل فيه حصول اليقين بعدم النجاسة كذلك يحتمل فيه عدم الظنّ بالإصابة ، أي أنّ الظنّ بالإصابة قد زال بعد الفحص وعدم الرؤية ، وحلّ مكانه الشكّ والاحتمال للإصابة لا أكثر ، وحيث إنّ كلا الأمرين محتمل فلا يمكن تعيين أحدهما من القول المذكور.

وأمّا القول الثاني : وهو الشكّ في أنّ هذه النجاسة كانت سابقة أو أنّها طارئة ، فيمكن التسليم به ؛ لأنّ قوله : ( فرأيت فيه ) يحتمل فيه كلا الأمرين.

فالركن الثاني وهو الشكّ متوفّر إلا أنّ الركن الأوّل وهو اليقين الذي سرى إليه هذا الشكّ وهدمه غير متوفّر.

وبهذا يتعيّن النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

الجهة الثانية : أنّ الاستصحاب هل أجري بلحاظ حال الصلاة أو بلحاظ حال السؤال؟

وتوضيح ذلك : أنّ قوله : « فرأيت فيه » إن كان ظاهرا في رؤية نفس ما فحص عنه سابقا فلا معنى لإجراء الاستصحاب فعلا ، كما أنّ قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » إذا كان ظاهرا في حصول اليقين بالفحص فلا معنى لجريانه حال الصلاة.

الجهة الثانية : في أنّ الاستصحاب هل يجري حال الصلاة أو حال السؤال؟

والجواب عن هذا السؤال يرتبط بتفسير ما ورد في كلمات زرارة أوّلا وآخرا.

فقوله أوّلا : ( فنظرت فلم أر شيئا ) إذا كان ظاهرا في حصول اليقين بعدم النجاسة بعد الفحص فهذا يعني أنّه لا شكّ لديه حال الصلاة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب

ص: 129

حينئذ ، بل يتعيّن أن يكون قوله : ( فرأيت فيه ) مفيدا للشكّ في أنّ هذه النجاسة التي رآها إمّا كانت سابقة على الصلاة أو طارئة وبالتالي يكون جريان الاستصحاب حال السؤال.

وإن كان قوله أخيرا : ( فرأيت فيه ) ظاهرا في رؤية النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها ، فهذا يعني حصول العلم بسبق النجاسة على الصلاة ، والعلم أيضا بأنّه قد أوقع الصلاة كاملة مع النجاسة ، وهذا يمنع من جريان الاستصحاب حال السؤال لأنّه يعلم بانتقاض الطهارة بعد الصلاة.

وعليه فيتعيّن أن يكون قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) مفيدا للشكّ في الإصابة واحتمالها ، لا الجزم بعدم النجاسة ، ولذلك يكون الاستصحاب جاريا حال الصلاة عند الشروع فيها.

فالحاصل : أنّ تعيين مورد جريان الاستصحاب وأنّه حال الصلاة أو حال السؤال مرتبط باستظهار أحد هذين التفسيرين لكلام زرارة ، ولذلك نقول :

والصحيح : أنّه لا موجب لحمل قوله : « فرأيت فيه » على رؤية ما يعلم بسبقه ، فإنّ هذه عناية إضافيّة تحتاج إلى قرينة عند تعلّق الغرض بإفادتها ، ولا قرينة ، بل حذف المفعول بدلا عن جعله ضميرا راجعا إلى النجاسة المعهود ذكرها سابقا يشهد لعدم افتراض اليقين بالسبق.

وعليه فالاستصحاب جار بلحاظ حال السؤال ، ويؤيد ذلك أنّ قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » وإن لم يكن له ظهور في حصول اليقين ، ولكنّه ليس له ظهور في خلاف ذلك ؛ لأنّ إفادة حصوله بمثل هذا اللسان عرفيّة ، فكيف يمكن تحميل السائل افتراض الشكّ حال الصلاة وإفتاؤه بجريان الاستصحاب حينها؟

والصحيح : هو أنّ الاستصحاب يجري حال السؤال لا حال الصلاة ، والوجه في ذلك هو : أنّ إجراء الاستصحاب حال الصلاة معناه أنّ قوله : ( فرأيت فيه ) ظاهر في رؤية نفس النجاسة التي ظنّ إصابتها والتي فحص عنها ولم يجدها ، إلا أنّ هذا الاستظهار بعيد ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه ؛ وذلك لأنّ إرادة رؤية نفس النجاسة السابقة من هذا التعبير وحده لا تكفي بل لا بدّ من ذكر ما يدلّ على ذلك ، كأن يقول مثلا : « فرأيتها فيه » أو يقول : « فوجدته فيه » كما هو الحال في السؤال

ص: 130

السابق ، فعدول زرارة عن مثل هذا التعبير إلى التعبير المذكور في السؤال يدلّ على أنّه لا يريد إفادة رؤية نفس النجاسة السابقة ، وإنّما رأى نجاسة فقط وهي مشكوكة من حيث السبق أو التأخّر.

بل هناك قرينة على أنّ المراد رؤية نجاسة ما لا نفس النجاسة السابقة ، وهي حذف المفعول من قوله : ( رأيت ) ؛ لأنّه لو كان يريد إفادة رؤية نفس النجاسة السابقة لجعل المفعول ضميرا متعلّقا بالفعل ، فحذفه يشهد على عدم إرادته إفادة ذلك ، ولا أقلّ من الشكّ والاحتمال وهو كاف في المقام.

ويؤيّد ما ذكرناه أنّ قوله : ( فنظرت فلم أر شيئا ) وإن كان يحتمل فيه حصول اليقين بعدم النجاسة ويحتمل فيه نفي الظنّ وبقاء الشكّ بالإصابة ، إلا أنّ حمله على حصول اليقين ليس فيه مخالفة عرفيّة ؛ لأنّ مثل هذا اللسان والتعبير ورد كثيرا في إفادة حصول اليقين.

وعليه فلما ذا نحمّل زرارة أنّه يسأل عن الشكّ حال الصلاة رغم أنّ تعبيره المذكور فيه ظهور عرفي بحصول اليقين بعدم الإصابة ، بينما لا نحمّله السؤال عن الشكّ بعد الفراغ من الصلاة رغم أنّ تعبيره هناك ظاهر عرفا في رؤية نجاسة ما لا يعلم سبقها وعدمه؟

فالمتعيّن إذن هو كون الشكّ حال السؤال وجريان الاستصحاب في هذا الظرف ، وأمّا حال الصلاة فليس بعيدا أن يكون قد دخل الصلاة على يقين بعدم الإصابة بسبب الفحص وعدم الوجدان.

وليس في مقابل تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال السؤال إلا استبعاد استغراب زرارة من الحكم بصحّة الصلاة حينئذ ؛ لأنّ فرض ذلك هو فرض عدم العلم بسبق النجاسة ، فأيّ استبعاد في أن يحكم بعدم إعادة صلاة لا يعلم بوقوعها مع النجاسة؟

فالاستبعاد المذكور قرينة على أنّ المفروض حصول اليقين للسائل بعد الصلاة بسبق النجاسة ، ومن هنا استغرب الحكم بصحّتها ، وهذا يعني أنّ إجراء الاستصحاب إنّما يكون بلحاظ حال الصلاة لا حال السؤال.

وأمّا المشهور : فذهب إلى أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة لا حال السؤال ، والوجه عندهم هو : أنّنا إذا أجرينا الاستصحاب حال السؤال ، فهذا يعني أنّنا افترضنا

ص: 131

اليقين بعدم الإصابة عند الفحص وعدم الوجدان ، والشكّ عند رؤية النجاسة بعد الصلاة في أنّها نجاسة سابقة على الصلاة أو طارئة ، إلا أنّ هذا لا يتناسب مع استغراب زرارة لحكم الإمام بعدم الإعادة ؛ وذلك لأنّ الحكم بصحّة الصلاة وعدم إعادتها يكون مطابقا للأصول والقواعد حيث إنّه بعد الفراغ من العمل شكّ في أنّه هل أتى بالصلاة مع النجاسة أو لا؟

وفي مثل هذا المورد تجري قاعدة الفراغ والتجاوز والصحّة ، فيكون الحكم بالصحّة هو المتوقّع والمترقّب ، وحينئذ ما الداعي لأن يستغرب زرارة هذا الحكم بقوله ( ولم ذلك؟ ) بل استغرابه بعيد خصوصا وأنّه ذاك الإنسان المتفقّه العالم؟!

وأمّا إذا أجرينا الاستصحاب حال الصلاة فيكون قد دخل في الصلاة بطهارة استصحابيّة تعبّديّة ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة رأى النجاسة وتيقّن بأنّها نفس النجاسة التي فحص عنها ولم يجدها ، وظلّ شاكّا بإصابتها أو ظانّا بذلك.

وحينئذ يكون حكم الإمام بعدم الإعادة مستغربا ؛ لأنّه مخالف للقواعد التي تجري في المقام ، إذ المفروض أنّه لمّا تيقّن بأنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة كانت موجودة قبل الشروع بها ، فسوف تكون الصلاة باطلة ؛ لأنّها وقعت مع النجاسة واقعا ، فالحكم بالصحّة يكون مستغربا ، ولذلك سأل عن علّة ذلك ، فأجيب بأنّه قد صلّى وهو على يقين من الطهارة ولا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ.

وبهذا يظهر أنّ استغراب زرارة قرينة على أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة لا حال السؤال.

ويؤيّد ذلك : أنّه في السؤال الثاني سأله عن العلم الإجمالي بالإصابة والجهل بالموضع ثمّ الفحص وعدم الوجدان وبعد الصلاة رأى النجاسة وأنّها نفس النجاسة المعلومة إجمالا ، وأجابه الإمام بالإعادة.

وفي مقامنا لمّا سأله عن الظنّ بالإصابة والفحص وعدم الوجدان ثمّ وجدان النجاسة بعد الصلاة وأنّها نفس النجاسة المظنونة أجابه الإمام بعدم الإعادة.

فكأنّ زرارة وجد أنّ حال الظنّ بالإصابة كحال العلم الإجمالي بالإصابة يجب أن يكون حكمهما واحدا ، فلمّا اختلف الحكم استغرب وسأل عن تعليله.

ولكن يمكن الردّ على هذا الاستبعاد : بأنّه لا يمتنع أن يكون ذهن زرارة مشوبا

ص: 132

بأنّ المسوّغ للصلاة مع احتمال النجاسة الظنّ بعدمها الحاصل من الفحص ، وحيث إنّ هذا الظنّ يزول بوجدان النجاسة بعد الصلاة على نحو يحتمل سبقها كان زرارة يترقّب ألاّ يكتفي بالصلاة الواقعة.

فإن تمّ هذا الردّ فهو ، وإلا ثبت تنزيل الرواية على إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ، ويصل الكلام حينئذ إلى الجهة الثالثة.

ويرد عليه : أنّ وجه الاستغراب من حكم الإمام بعدم الإعادة يمكن أن يكون شيئا آخر وهو : أنّ زرارة لمّا ظنّ الإصابة ثمّ فحص ولم يجدها ظنّ بعدمها وصلّى ، ثمّ رأى النجاسة واحتمل سبقها على الصلاة ، فكانت رؤيته للنجاسة مع احتمال سبقها رافعا للظنّ بعدم الإصابة قبل الصلاة والذي على أساسه سوّغ لنفسه الدخول في الصلاة ، فلمّا ارتفع المسوّغ اعتقد أنّ حكم صلاته هو البطلان واللازم إعادتها ، فلمّا حكم الإمام بصحتها وعدم لزوم إعادتها استغرب ذلك ؛ لأنّ المبرّر الذي اعتقده قد ارتفع ، فكيف تكون صحيحة؟ (1).

فإن لم يتمّ هذا الوجه وادّعي جريان الاستصحاب حال الصلاة كما هي مقالة المشهور فهنا سوف نواجه إشكالا نطرحه في الجهة الثالثة.

ص: 133


1- هذا وجه ، فإن تمّ فهو ، وإلا فيمكن ذكر وجوه أخرى في المقام : منها : إنّ هذه الرواية من القوي جدّا كونها عن الإمام الباقر عليه السلام وهذا يعني أنّها في أوائل حياة زرارة ، أي قبل تفقّهه وتعلّمه ، فيكون سؤاله واستغرابه نتيجة عدم علمه بالقواعد والأصول. ويؤيّده سؤاله عن أشياء لا تخفى على إنسان متعلّم ، كسؤاله عن وجوب الفحص عند الشكّ البدوي وكسؤاله عن منجّزيّة العلم الإجمالي. ومنها : يحتمل أن يكون زرارة قد اخترع هذه الأسئلة من أجل إشباع البحث في المسألة زيادة في التفقّه والتعلّم ، ولذلك شقّق المسألة إلى فروع وصور من أجل استدراج الإمام لإعطائه المزيد من القواعد والأصول والنكات الكلّية العامّة. ومنها : يحتمل أنّه بعد أن فحص ولم يجد حصل له الاطمئنان بعدم الإصابة ، فلمّا وجد النجاسة بعد الصلاة واحتمل سبقها استغرب حكم الإمام بعدم الإعادة ، باعتبار أنّ الاطمئنان والذي هو حجّة عنده قد زال وارتفع فلم يبق ما يبرّر الحكم بالصحّة ولذلك سأل عن علّة ذلك. وبهذا يكون جريان الاستصحاب حال السؤال.

الجهة الثالثة : أنّا إذا افترضنا كون النجاسة المكشوفة معلومة السبق ، وأنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ حال الصلاة ، فكيف يستند في عدم وجوب الإعادة إلى الاستصحاب؟ مع أنّه حكم ظاهري يزول بانكشاف خلافه ، ومع زواله وانقطاعه لا يمكن أن يرجع إليه في نفي الإعادة.

الجهة الثالثة : أنّنا إذا قلنا بمقالة المشهور : من أنّ الاستصحاب يجري حال الصلاة ، فهذا معناه أنّه بعد ظنّ الإصابة والفحص وعدم الوجدان ظلّ شاكّا ومحتملا للإصابة فأجرى الاستصحاب بلحاظ اليقين السابق بطهارة الثوب ، فدخل في الصلاة بطهارة استصحابيّة ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة رأى النجاسة وتيقّن أنّها النجاسة التي ظنّها وفحص عنها سابقا.

وحينئذ يطرح سؤال وهو : أنّ الإمام حكم بصحّة الصلاة وعدم وجوب إعادتها استنادا إلى كبرى عدم نقض اليقين بالشكّ أي ( الاستصحاب ) ، مع أنّ الاستصحاب حكم ظاهري تعبّدي يعمل به عند الشكّ وعدم العلم ، ويرفع اليد عنه عند العلم وانكشاف الخلاف ، وفي مقامنا حيث علم بسبق النجاسة فهذا يعني أنّ الاستصحاب الذي كان جاريا في هذه الفترة قد زال وارتفع ؛ لانكشاف خلافه وأنّ الواقع هو النجاسة.

وعليه فكيف يستند الإمام في الحكم بعدم الإعادة إلى الاستصحاب عند ما سأله زرارة مع أنّه حين السؤال كان الاستصحاب قد انتقض وانهدم؟

وبهذا يتبيّن أنّ حمل الاستصحاب على فترة ما قبل الشروع في الصلاة لا يتناسب مع تطبيق الإمام للاستصحاب والحكم بعدم الإعادة مستندا إليه ، وهذا يعزّز ما تقدّم من أنّ الاستصحاب يجري حال السؤال.

وقد أجيب على ذلك تارة بأنّ الاستناد إلى الاستصحاب في عدم وجوب الإعادة يصحّ إذا افترضنا ملاحظة كبرى مستترة في التعليل وهي إجزاء الحكم الظاهري عن الواقع.

وأجيب عن هذا الإشكال بوجهين :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري ، من أنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب يصحّ بناء على أنّ الحكم الظاهري يجزي عن الحكم الواقعي ، فالإمام وإن لم يذكر ذلك في

ص: 134

جوابه لكنّه اعتمد عليه في تعليله ، واكتفى بذكر كبرى الاستصحاب مشيرا به إلى تلك الكبرى المستترة (1).

وأخرى بأنّ الاستناد المذكور يصحّ إذا افترضنا أنّ الاستصحاب أو الطهارة الاستصحابيّة بنفسها تحقّق فردا حقيقيّا من الشرط الواقعي للصلاة ، بأن كان الشرط الواقعي هو الجامع بين الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة ، إذ بناء على ذلك تكون الصلاة واجدة لشرطها حقيقة.

الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ، من أنّ الاستناد إلى الاستصحاب في تعليل الحكم بالصحّة وعدم الإعادة نكتته أنّ الاستصحاب ونحوه من الأصول المنقّحة للموضوع ، تفيد توسعة دائرة موضوع الحكم الواقعي لشرطيّة الطهارة في الصلاة.

وبهذا يكون الاستصحاب أو استصحاب الطهارة ناظرا إلى دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة وموسّعا له ، بمعنى كونه موجدا لفرد حقيقي من أفراد الطهارة التي هي شرط للصلاة ، بحيث يكون الشرط حقيقة هو الجامع بين الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة ، والاستصحاب يحقّق أحد هذين الفردين ، فيكون المكلّف قد صلّى صلاة واجدة لشرطها ، لأنّه أوجد أحد فرديه.

ولذلك يكون الاستناد إلى الاستصحاب معقولا ومبرّرا شرعا ؛ لأنّه عند ما أجرى الاستصحاب حال الصلاة ثبت له الطهارة الظاهريّة ، فيجري استصحابها حال

ص: 135


1- وفيه : أنّ تعليل عدم الإعادة بذلك وإن كان ممكنا ولكنّه لا دليل عليه في كلام الإمام ، مع أنّ الإمام علّل الحكم بكبرى مرتكزة عند السائل وأركانها مذكورة في سؤاله ، ولا يوجد في السؤال إلا الاستصحاب فقط ، فلا بدّ أن يكون التعليل مستندا إليه بنفسه لا بما هو مصداق لكبرى محذوفة ، هذا أوّلا. وثانيا : مضافا إلى أنّ هذا يجعل الرواية غامضة ، فيها كثير من العنايات والتقدير والحذف وهو خلاف الظاهر. وثالثا : إنّ الإجزاء يحتاج إلى حيثيّة كاشفة بأن يكون الحكم الظاهري وافيا بتمام الملاك في الحكم الواقعي ، أو بأن يكون وافيا ببعض الغرض والبعض الآخر لا يمكن تداركه مجدّدا ، وهاتان الحيثيّتان غير موجودتين ؛ لأنّ الاستصحاب انكشف بطلانه وعدم مطابقته للواقع ، فما أتى به لم يكن وافيا بالغرض ، والمفروض أنّه بالإمكان تدارك الغرض الواقعي بتمامه إذ لم يفرض ضيق الوقت أو انتهاؤه.

الصلاة إلى حين الفراغ منها ، وتعليل الإمام ناظر إلى أنّه قد صلّى بطهارة استصحابيّة ، وهي تحقّق موضوع الطهارة فلا تجب الإعادة لذلك.

ولا يضرّ انكشاف الخلاف بعد ذلك ؛ لأنّ رؤية النجاسة والعلم بأنّها كانت سابقة على الصلاة معناه أنّ الطهارة الواقعيّة لم تكن محقّقة حال الصلاة ، وأمّا الطهارة الظاهريّة فكانت ثابتة حينها ، وهي كافية بحسب الفرض (1).

الجهة الرابعة : أنّه بعد الفراغ عن دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب نقول : إنّه ظاهر في جعله على نحو القاعدة الكلّيّة ، ولا يصحّ حمل اليقين والشكّ على اليقين بالطهارة والشكّ فيها خاصّة ؛ لنفس ما تقدّم من مبرّر للتعميم في الرواية السابقة ، بل هو هنا أوضح ؛ لوضوح الرواية في أنّ فقرة الاستصحاب وردت تعليلا للحكم ، وظهور كلمة ( لا ينبغي ... ) في الإشارة إلى مطلب مركوز وعقلائي.

وعلى هذا فدلالة المقطع المذكور على المطلوب تامّة.

الجهة الرابعة : في أنّ الاستصحاب المستفاد من هذه الرواية هل هو قاعدة عامّة كلّيّة تصلح للجريان في مختلف الأبواب الفقهيّة ، أو هو قاعدة خاصّة في باب الطهارة فقط؟

والجواب : أنّه قاعدة كلّيّة وعامّة ، والوجه في ذلك أمور :

1 - أنّ قوله : « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين أبدا بالشكّ » اللام فيه للجنس لا للعهد ؛ لأنّ الأصل في اللام أن تكون للجنس إلا إذا دلّت القرينة على العهد ، والقرينة هنا غير موجودة ، وما هو موجود لا يصلح أن يكون قرينة على العهد ؛ لأنّ هذه الجملة وردت تعليلا للحكم ، والتعليل المذكور كان على أساس نكتة مرتكزة عند العرف والعقلاء من أنّ اليقين لا ينتقض أبدا بالشكّ.

ص: 136


1- وفيه : أنّه نحو من التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة كالاستصحاب ونحوه من الأصول الموضوعيّة ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في الجزء السابق. مضافا إلى أنّ التوسعة المذكورة معناها إجزاء بعض الأحكام الظاهريّة عن الأحكام الواقعيّة ، والمفروض أنّ الإجزاء يعتمد على إحدى نكتتين ، الأولى كون الأمر الظاهري وافيا بتمام الملاك ، والثانية كونه وافيا ببعض الملاك بنحو لا يمكن تدارك البعض الآخر ، وكلا النكتتين غير موجودتين في المقام ؛ لإمكان الإعادة في الوقت وتدارك تمام الملاك.

2 - أنّ كلمة ( أبدا ) تفيد التأبيد ، أي أنّ اليقين دائما لا ينتقض بالشكّ سواء كان اليقين بالوضوء أو اليقين بغيره ، ولا يتناسب التأبيد بكون اليقين خصوص اليقين بالوضوء ؛ لأنّ اختصاصه بالوضوء يغني عن ذكر كلمة ( أبدا ) التي جيء بها لإفادة مطلب آخر وهو التأكيد على التعميم والإطلاق.

3 - أنّ المورد وإن كان هو الوضوء أو الطهارة إلا أنّ التعليل لم يذكر فيها ذلك ، وحيث إنّه تعليل بأمر مرتكز وعرفي فهو يقتضي التعميم تبعا لمناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المورد لا يخصّص الوارد العامّ والمطلق.

4 - وهو الأهمّ أنّ التعليل المذكور قد ورد في عدّة روايات ، وهذا يعني أنّه ليس مختصّا بباب الوضوء ، وإنّما هو كبرى كلّيّة عامّة تجري في مختلف الأبواب والمسائل التي يتوفّر فيها اليقين والشكّ.

وفي هذه الرواية هناك وضوح في التعميم ؛ لأنّ كبرى الاستصحاب وردت في التعليل صريحا بخلاف الرواية السابقة ، مضافا إلى أنّ كلمة ( لا ينبغي ) تفيد أنّ اليقين معلوم بأنّه لا ينقض بالشكّ ، أي أنّ هذا الأمر مرتكز عند العرف والعقلاء.

وبهذا تكون هذه الفقرة دالّة على الاستصحاب بما هو قاعدة كلّيّة عامّة.

المقام الثاني :

المقام الثاني : في الموقع الثاني من الاستدلال وهو قوله : « وإن لم تشكّ ... » في جواب السؤال السادس.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ عدم الشكّ هنا تارة يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة ، وأخرى بمعنى عدم الشكّ الفعلي الملائم مع الغفلة والذهول أيضا.

المقام الثاني : في النقطة الثانية من الاستدلال على الاستصحاب ، وهي قوله :

« وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وكيفيّة الاستدلال بهذا القول أنّ قوله : « وإن لم تشكّ » يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون المراد من عدم الشكّ حصول القطع بعدم النجاسة قبل الصلاة ، بمعنى أنّه قبل الشروع في الصلاة تيقّن من عدم النجاسة فدخل في الصلاة وهو على يقين.

الثاني : أن يكون المراد من عدم الشكّ أنّه لم يحصل له شكّ أصلا في النجاسة ،

ص: 137

بمعنى أنّه لمّا دخل في الصلاة لم يكن ملتفتا إلى النجاسة أصلا ، بل كان ذاهلا وغافلا عن وجودها أو عدمها.

فعلى الأوّل : تكون أركان الاستصحاب مفترضة في كلام السائل وكذلك أركان قاعدة اليقين.

أمّا الافتراض الأوّل فواضح.

وأمّا الافتراض الثاني فلأنّ اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب الفرض من قوله : « وإن لم تشكّ ... » والشكّ في خطأ ذلك اليقين قد تولّد عند رؤية النجاسة أثناء الصلاة مع احتمال سبقها.

وعليه فكما يمكن تنزيل القاعدة في جواب الإمام على الاستصحاب كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين.

أمّا على الأمر الأوّل : وهو حصول اليقين بعدم النجاسة قبل الشروع في الصلاة ، فهو يجعل الفقرة قابلة للتطبيق على الاستصحاب وعلى قاعدة اليقين أيضا ، لتوفّر أركانهما معا في سؤال زرارة.

والوجه في ذلك : أمّا تطبيقها على الاستصحاب فواضح ؛ لأنّه كان على يقين من عدم النجاسة من أوّل الأمر مضافا إلى يقينه بعدم النجاسة حال الصلاة ، فدخل في الصلاة فوجد نجاسة وشكّ في أنّها سابقة على الصلاة أو أنّها طارئة في الأثناء ، فهذا الشكّ لا ينبغي له أن ينقض به اليقين السابق بالطهارة من أوّل الأمر أو عدم النجاسة حال الصلاة.

وأمّا تطبيقها على قاعدة اليقين فلأنّ اليقين بعدم النجاسة الحاصل حال الصلاة من المحتمل أن يكون مخطئا ؛ وذلك لأنّه وجد نجاسة في أثناء الصلاة ومن المحتمل أن تكون سابقة عليها ، وهذا الاحتمال على فرض ثبوته يجعل اليقين بعدم النجاسة حال الصلاة منهدما ومخطئا ؛ لأنّه قد انكشف خلافه ، فيكون الشكّ ساريا إلى اليقين وهو معنى قاعدة اليقين.

وبهذا يظهر أنّه بلحاظ احتمال طروّ النجاسة أثناء الصلاة يكون جواب الإمام منطبقا على الاستصحاب ، وبلحاظ احتمال سبق النجاسة على الصلاة يكون جوابه منطبقا على قاعدة اليقين.

ص: 138

ولذلك فكما يمكن الاستدلال بهذه الفقرة على الاستصحاب كذلك يمكن الاستدلال بها على قاعدة اليقين. هذا من الناحية النظريّة الثبوتيّة.

وأمّا إثباتا فيمكننا استظهار التطبيق على الاستصحاب ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

غير أنّه يمكن تعيين الأوّل بلحاظ ارتكازيّة الاستصحاب ومناسبة التعليل ، والتعبير ب- ( لا ينبغي ) لكون القاعدة مركوزة ، وأمّا قاعدة اليقين فليست مركوزة.

هذا مضافا إلى أنّ استعمال نفس التركيب الذي أريد منه الاستصحاب في جواب السؤال الثالث في نفس الحوار يعزّز - بوحدة السياق - أن يكون المقصود واحدا في المقامين.

ثمّ إنّه يمكننا أن نستظهر الاستصحاب من هذه الفقرة وذلك لقرينتين :

القرينة الأولى : كون الاستصحاب مرتكزا عند العرف والعقلاء لثبوت البناء العقلائي على العمل بالاستصحاب ، والإمام في جوابه أفاد تطبيق مطلبا مرتكزا لدى العرف كما يدلّ عليه التعليل ، فإنّ التعليل المذكور يفيد أنّ ما ذكره الإمام مفهوم لدى العرف ومرتكز عندهم ، خصوصا مع ملاحظة التعبير بكلمة ( لا ينبغي ) الصريح بأنّ ما ذكره الإمام مركوزا في أذهان العرف والعقلاء.

والحاصل أنّ جواب الإمام ناظر إلى أمر عرفي ، والاستصحاب مركوز لدى العرف ، بخلاف قاعدة اليقين فإنها ليست مركوزة لدى العرف والعقلاء ؛ إذ لم يثبت قيام السيرة والبناء العقلائي على العمل بها.

فارتكازيّة الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، وتعليل الإمام وتعبيره الظاهرين بكون ما أفاده أمرا مركوزا يعيّن الاستصحاب.

القرينة الثانية : أنّ التعبير الذي استخدمه الإمام في هذه الفقرة هو نفس التعبير الذي استخدمه في الفقرة الثالثة ، وحيث إنّنا في الفقرة الثالثة أثبتنا كون المراد هو الاستصحاب فيكون المراد هنا هو الاستصحاب أيضا ، والدالّ على ذلك هو وحدة السياق الظاهر في وحدة المعنى ، إذ من البعيد جدّا أن يستخدم الإمام في حوار واحد تعبيرين متطابقين تماما في معنيين مختلفين من دون الإشارة إلى ذلك ، خصوصا مع ملاحظة أنّ الإمام في مقام تفهيم زرارة علّة الحكم ، فلا بدّ والحال هذه أن يكون تعبيره واضحا ومفهوما لدى زرارة ، وبما أنّ زرارة قد فهم من هذا التعبير الاستصحاب

ص: 139

بمقتضى الفقرة الثالثة فلا بدّ أن يفهم الاستصحاب هنا أيضا ، فلو كان نظر الإمام إلى قاعدة اليقين لكان ينبغي ألاّ يكتفي بهذا المقدار ، بل لا بدّ من التعبير بنحو آخر لا يحتمل الشكّ والتردّد.

وعلى الثاني : يكون الحمل على الاستصحاب أوضح ، إذ لم يفترض حينئذ في كلام الإمام اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة لكي تكون أركان قاعدة اليقين مفترضة ، فيتعيّن بظهور الكلام حمل القاعدة المذكورة على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب.

وهكذا تتّضح دلالة المقطع الثاني على الاستصحاب أيضا.

وأمّا على الأمر الثاني : وهو عدم حصول اليقين بعدم النجاسة حال الصلاة ، وإنّما كان غافلا عن وجودها أو عدمها ، فهذا يتناسب مع حمل جواب الإمام على الاستصحاب لا على قاعدة اليقين ، فهنا دعويان :

الأولى : تناسب كلام الإمام مع الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ السائل كان على يقين من طهارة الثوب أوّلا ثمّ دخل في الصلاة من دون الالتفات إلى النجاسة أو إلى عدمها ، وفي الأثناء وجد نجاسة واحتمل سبقها على الصلاة وطروّها في الأثناء ، فهذا يعني أنّه يشكّ في أنّ يقينه السابق بالطهارة قد انتقض قبل الشروع في الصلاة أو أنّه لم ينتقض ، بل كان شروعه في الصلاة عن طهارة وإنّما انتقض في الأثناء ، وفي مثل ذلك لا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ ، أي أنّ اليقين السابق بالطهارة لا ينبغي نقضه حال الشروع لمجرّد احتمال سبق النجاسة ، فأركان الاستصحاب تامّة وكلام الإمام ينطبق عليها.

الثانية : عدم تناسب كلام الإمام مع قاعدة اليقين ؛ وذلك لعدم توفّر أركانها إذ لا يوجد يقين بعدم النجاسة حال الصلاة ، ليكون الشكّ الحاصل من رؤية النجاسة أثناء الصلاة من المحتمل نقضه لهذا اليقين.

وأمّا اليقين بالطهارة الموجود من أوّل الأمر فلا ينهدم بالشكّ ، إذ حتّى لو كان على يقين من النجاسة قبل الصلاة فهذا لا يعني أنّ اليقين بالطهارة من أوّل الأمر لم يكن صحيحا ، وإنّما يعني أنّ آثاره قد ارتفعت فقط.

وعليه فيكون كلام الإمام على هذا الفرض أوضح في الانطباق على

ص: 140

الاستصحاب ، إذ لا احتمال لتطبيقه على قاعدة اليقين أصلا ، مع أنّها لو كانت محتملة ثبوتا إلا أنّ القرائن الإثباتيّة تؤيّد الحمل على الاستصحاب أيضا.

وبذلك يظهر أنّ هذه الفقرة صالحة للدلالة على الاستصحاب كالفقرة الثالثة.

وبهذا ينتهي الكلام عن الرواية الثانية ، وقد ظهر تماميّة الاستدلال بها.

الرواية الثالثة :

اشارة

وهي رواية زرارة عن أحدهما علیه السلام قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين؟ قال :

« يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشك باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » (1).

وهذه الرواية صحيحة أيضا وإن كانت مضمرة حيث إنّ إضمارات زرارة لا خدشة فيها من حيث الإرسال في عدم الرواية مباشرة عن المعصوم ، والمراد من أحدهما هنا الإمام الباقر أو الصادق علیهماالسلام .

ثمّ إنّ مفاد هذه الرواية هو السؤال عن حالة الشكّ بين الاثنتين والأربع في الصلاة ، والجواب أنّه يبني على الاثنتين ؛ لأنّه متيقّن من الإتيان بهما فلا بدّ أن يضيف ركعتين.

ثمّ يفيده الإمام مطلبا آخر وهو أنّ من يشكّ بين الثلاث والأربع وقد تيقّن من الثلاث فيبني على الثلاث ويأتي بركعة رابعة.

وبعد ذلك يطبق الإمام على ما ذكر أنّه لا ينقض اليقين بالشكّ.

وهذا التعبير هو مورد الاستدلال كما تقدّم في الروايتين السابقتين.

ولذلك سوف نذكر تقريب الاستدلال والاعتراضات التي توجّه على ذلك مع الإجابة عنها ، فنقول :

ص: 141


1- الاستبصار 1 : 373 / 3.

وفقرة الاستدلال في هذه الرواية تماثل ما تقدّم في الروايتين السابقتين وهي قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ ... ».

وتقريبه : أنّ المكلّف في الحالة المذكورة على يقين من عدم الإتيان بالرابعة في بادئ الأمر ، ثمّ يشكّ في إتيانها ، وبهذا تكون أركان الاستصحاب تامّة في حقّه ، فيجري استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وقد أفتاه الإمام على هذا الأساس بوجوب الإتيان بركعة عند الشكّ المذكور ، واستند في ذلك إلى الاستصحاب المذكور معبّرا عنه بلسان « ولا ينقض اليقين بالشكّ ».

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على الاستصحاب على أساس الفقرة المذكورة في سياق تعليله للحكم بأنّه لا ينقض اليقين بالشكّ ، فإنّ السائل سأله عن مسألة ، والإمام أيضا أفاده حكم مسألة أخرى ، وكلتا المسألتين تشتركان في وجود حالة سابقة متيقّنة وحالة لاحقة مشكوكة ، فإنّ الركعتين أو الثلاث محرزة للمكلّف والشكّ في الإتيان بالرابعة أو بالثالثة والرابعة ، فأركان الاستصحاب تامّة بلا إشكال من جهة عدم الإتيان بالرابعة أو الثالثة والرابعة ، وهذا الأمر يعبّر عنه الإمام بعدم نقض اليقين بالشكّ كما تقدّم في الروايتين السابقتين على أساس أنّ هذه القاعدة أمر مرتكز في الذهن العرفي ، ولذلك فإنّ الإمام يطبّقها على مصاديقها.

ولكن يبقى على هذا التقريب أن يفسّر لنا النكتة في تلك الجمل المتعاطفة بما استعملته من ألفاظ متشابهة من قبيل : عدم إدخال الشكّ في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر ، فإنّ ذلك يبدو غامضا بعض الشيء.

إلا أنّ هذا التقريب يواجه مشكلة لا بدّ من حلّها وهي : أنّ كلام الإمام إن كان ناظرا إلى قاعدة الاستصحاب كما هو الصحيح ، فباعتباره قاعدة مركوزة عند العقلاء والعرف فيكفي في التعبير عنها الإشارة إلى أركانها ، وقد ذكر الإمام ذلك بقوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » ، وحينئذ فما هي الحاجة لذكر تلك الجمل الأربع وما هي النكتة في هذا التطويل والتكرار؟ إذ يبدو في بادئ الأمر أنّ ذكرها لا مناسبة له مع الاستصحاب ، بل لعلّ الإمام يريد أن يذكر مطلبا غير الاستصحاب ، ولذلك أكّد وكرّر ؛ لأنّ هذا المطلب الجديد ليس مرتكزا عند العقلاء فاحتاج إلى شرح وتكرار من أجل أن يصبح مرتكزا عندهم.

ص: 142

والحاصل : أنّ هذا الاستدلال عليه أن يفسّر الوجه في هذا التطويل والتكرار وإبراز النكتة التي يريدها الإمام منها.

هذا فيما يرتبط بالاستدلال ، وأمّا الإشكالات فهي :

وقد اعترض على هذا الاستدلال المذكور باعتراضات :

الأوّل : دعوى أنّ اليقين والشكّ في فقرة الاستدلال لا ظهور لهما في ركني الاستصحاب ، بل من المحتمل أن يراد بهما اليقين بالفراغ والشكّ فيه ، ومحصّل الجملة حينئذ أنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ ، ولا ينبغي رفع اليد عن ذلك بالشكّ ومجرّد احتمال الفراغ ، وهذا أجنبي عن الاستصحاب.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري وحاصله : أنّ قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ليس ظاهرا في الاستصحاب ، بل في قاعدة البناء على اليقينيّة أي البراءة اليقينيّة عند الشغل اليقيني ؛ وذلك لأنّ المكلّف يعلم يقينا باشتغال ذمّته من أوّل الأمر بأربع ركعات ، فلا بدّ له أن يحصّل الفراغ اليقيني والبراءة اليقينيّة بأنّ ذمّته قد فرغت ممّا اشتغلت به.

وهذا يعني أنّ الشاكّ بين الثلاث والأربع وقد أحرز الثلاث يجب عليه الاحتياط بالإتيان بالركعة الرابعة لكي تحصل له البراءة اليقينيّة.

وهذا التعبير ورد في بعض الروايات أيضا كقوله : « إذا شككت فابن على اليقين » أي يجب الاحتياط حتّى يحصل الفراغ اليقيني.

ويكون المحصّل النهائي للرواية أنّه لا بدّ من الحصول على اليقين بفراغ الذمّة وبراءتها ممّا اشتغلت به ، ولا يجوز له الاعتماد على الشكّ والاحتمال في الفراغ والبراءة.

وبهذا يظهر أنّ الرواية لا ظهور لها في الاستصحاب ، بل فيما ذكرنا ، ولا أقلّ من احتمال ذلك ، فتكون مجملة ومع إجمالها لا يصحّ الاستدلال بها على الاستصحاب.

وعلى هذا يكون ذكر الإمام لتلك الجمل من باب التأكيد على هذه القاعدة من أجل أن تصبح قاعدة مرتكزة في الأذهان ، وأنّه لا بدّ من تحصيل اليقين وعدم خلط اليقين والشكّ أو إدخال أحدهما بالآخر.

ص: 143

والجواب : أنّ هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية ، لظهورها في افتراض يقين وشكّ فعلا ، وفي أنّ العمل بالشكّ نقض لليقين وطعن فيه ، مع أنّه بناء على الاحتمال المذكور لا يكون اليقين فعليّا ، ولا يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين ، بل هو نقض لحكم العقل بوجوب تحصيله.

والجواب عن هذا الاعتراض : أنّه لا يمكن استظهاره من الرواية ، بل ظاهرها مخالف لهذا الاحتمال. والوجه في ذلك : أنّ الرواية ظاهرة في أمرين :

أحدهما : أنّ الرواية ظاهرة في افتراض يقين وشكّ موجودين بالفعل لا تقديرا ، ويدلّ على ذلك قوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » الظاهر في وجود يقين وشكّ فعلا لدى المكلّف ، بل هذا ما صرّح به السائل عند افتراضه لإحراز الثالثة والشكّ في الرابعة ، أو عند إحراز الركعتين والشكّ في الأربع.

والآخر : أنّ قوله : « ولا ينقض - ولا يدخل - ولا يخلط - إلى آخره » ظاهر في أنّ العمل بالشكّ والبناء عليه سوف ينقض اليقين ويهدمه ، وهذا معناه أنّه يوجد يقين سابق على الشكّ بحيث يكون الشكّ متأخّرا عن اليقين والبناء عليه طعن في اليقين وإلغاء له.

وما ذكر في الاعتراض من ظهور الرواية أو احتمال ظهورها في قاعدة « الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لا ينسجم مع هذين الظهورين أصلا وذلك : أنّ قاعدة الفراغ اليقيني حكم عقلي بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ وبراءة الذمّة ممّا اشتغلت به يقينا ، وهذا يعني أنّ اليقين ليس موجودا فعلا وإنّما يراد إيجاده وتحصيله لكي تفرغ الذمّة ، فاليقين لم يفرغ عن وجوده ، وهذا مخالف لظهور الرواية في وجود يقين بالفعل لا تقديرا ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ البناء على الشكّ يعني أنّ المكلّف لم يراع حكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل اليقين بالفراغ وبراءة الذمّة ، وهذا يعني أنّ البناء على الشكّ ينقض حكم العقل ، بينما الرواية ظاهرة في أنّ البناء على الشكّ ينقض اليقين نفسه.

وثالثا : أنّ ظهور الرواية في كون البناء على الشكّ ينقض اليقين يفترض مسبقا وجود يقين فعلا لكي يكون العمل بالشكّ نقضا له ؛ لأنّ هذا التعبير : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » يشتمل على موضوع وحكم ، والمفروض أن يكون الموضوع متحقّقا

ص: 144

قبل الحكم نظرا لطبيعة العلاقة بين الحكم والموضوع ، فلا بدّ من فرض ثبوت اليقين أوّلا ثمّ الحكم عليه بأنّ البناء على الشكّ يكون ناقضا له ، وأمّا إذا لم يكن لدينا يقين مفترض الثبوت فلا يكون البناء على الشكّ نقضا له فعلا ، بل على تقدير وجوده ، وهذا مخالف لظهور الرواية في فرض اليقين الفعلي.

بل لو حملنا الرواية على قاعدة الفراغ اليقيني فإنّ البناء على الشكّ يكون ناقضا لليقين الذي يراد إيجاده وتحصيله ، فتكون نسبة النقض على نحو المجاز لا الحقيقة ، وهذا مخالف لظاهر الرواية والتعبير إذ لا قرينة على المجاز فيها.

وبهذا يظهر أنّه لا يمكن استظهار قاعدة الفراغ من هذه الرواية ، بل ولا احتمال ذلك ، فالرواية ظاهرة في الاستصحاب فقط.

الثاني : أنّ تطبيق الاستصحاب على مورد الرواية متعذّر ، فلا بدّ من تأويلها ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب ليست وظيفته إلا إحراز مؤدّاه والتعبّد بما ثبت له من آثار شرعيّة.

وعليه : فإن أريد في المقام باستصحاب عدم إتيان الرابعة التعبّد بوجوب إتيانها موصولة كما هو الحال في غير الشاكّ ، فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ، ولكنّه باطل من الناحية الفقهيّة جزما ؛ لاستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة.

وإن أريد بالاستصحاب المذكور التعبّد بوجوب إتيان الركعة مفصولة ، فهذا يخالف وظيفة الاستصحاب ؛ لأنّ وجوب الركعة المفصولة ليس من آثار عدم الإتيان بالركعة الرابعة لكي يثبت باستصحاب العدم المذكور ، وإنّما هو من آثار نفس الشكّ في إتيانها.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري أيضا.

وتوضيحه : أنّ هذه الرواية لا يمكن حملها على الاستصحاب ، ولذلك لا بدّ من التأويل وحملها على قاعدة الفراغ اليقيني.

والوجه في ذلك : هو أنّ الاستصحاب حكم ظاهري تعبدي يثبت ويحرز المؤدّى ويفيد التعبّد بآثاره الشرعيّة ، فما يكون من الآثار الشرعيّة للمؤدّى المستصحب يؤخذ به ويعامل معه معاملة المتيقّن به.

ص: 145

وعلى هذا فاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة الوارد في كلام الإمام يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون المراد بهذا الاستصحاب التعبّد بوجوب الإتيان بالركعة الرابعة موصولة بما قبلها من الركعات من دون فصل بينهما لا بالتشهّد والتسليم ولا بتكبيرة الإحرام ، حيث إنّ الاستصحاب يجعل المكلّف كغير الشاكّ تعبّدا ، ووظيفة غير الشاكّ هو الركعة المتّصلة لا المنفصلة كما هو واضح.

وهذا الاحتمال يتطابق مع الوظيفة العمليّة التي يقتضيها الاستصحاب ، حيث إنّه يتعبّد بأن يعامل الشاكّ نفسه معاملة المتيقّن ، فكما أنّ من تيقّن بعدم الإتيان بالرابعة يجب عليه الإتيان بها موصولة ، فكذلك من جرى الاستصحاب بحقّه وثبت لديه بالتعبّد عدم الإتيان بالرابعة ، فيكون الإتيان بالركعة متّصلة من آثار الاستصحاب الشرعيّة التي يمكن التعبّد بها.

إلا أنّ الإتيان بالركعة موصولة مخالف لمذهبنا وموافق لمذهب العامّة ، إذ لا يقول أحد من الفقهاء بوجوب الركعة الموصولة ، وهذا يعني أنّ الرواية على هذا الاحتمال إمّا أن تكون ساقطة لموافقتها للعامّة فيجب حملها على التقية ، وإمّا أنّها لا تدلّ على الاستصحاب وإن كانت ظاهرة فيه فيجب التصرّف بظهورها ، وحملها على مطلب آخر يتلاءم مع ما هو مسلّم به على مذهبنا كقاعدة الفراغ اليقيني مثلا.

الثاني : أن يكون المراد بهذا الاستصحاب التعبّد بوجوب الإتيان بالركعة مفصولة ، أي أنّه لا بدّ أن يفصل بين الركعات الثلاث وبين هذه الركعة بالتشهّد والتسليم وتكبيرة الإحرام.

وهذا موافق لمذهبنا ومخالف لمذهب العامّة.

إلا أنّ الإتيان بالركعة المفصولة حينئذ لا يكون موافقا ومتلائما مع الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب كما ذكرنا يفيد التعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على اليقين ، بحيث إنّه ينزل أو يجعل الشاكّ كغير الشاكّ من حيث الوظيفة العمليّة التعبّديّة والتي تقتضي لزوم كون الركعة موصولة لا مفصولة.

وعليه فيكون الإتيان بالركعة المفصولة غير مرتبط بالاستصحاب ، بل هو من لوازم وآثار نفس الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة ؛ لأنّ من يشكّ في الإتيان بالرابعة يجب

ص: 146

عليه الإتيان بها ظاهرا لقاعدة الاشتغال اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني ، فإنّه بناء على هذه القاعدة إن جيء بالركعة موصولة فمن المحتمل ألاّ يكون قد أفرغ ذمّته ؛ لاحتمال أن يكون قد أتمّ الرابعة قبلها فتكون

الركعة الموصولة خامسة ، وهي مبطلة لاشتمالها على الركوع والذي تكون زيادته مبطلة سهوا وعمدا.

وأمّا إن جيء بالركعة مفصولة بالتشهّد والتسليم ، فهنا إن كان ما في يده هي الرابعة فقد أنهى الصلاة بالتشهّد والتسليم وتكون الركعة زائدة على الصلاة ، وزيادتها غير مضرّة ؛ لأنّها مفصولة عن الصلاة ، وإن كانت الثالثة فيكون محتاجا إلى الركعة المذكورة لتميم صلاته ، واشتمالها على زيادة التشهّد والتسليم غير مضرّة ؛ لأنّها زيادة مغتفرة لدلالة الروايات على العفو عن مثل هذه الزيادة ، مضافا إلى أنّ التشهّد والتسليم زيادتهما غير العمديّة ليست مضرّة.

وبهذا يظهر أنّ حمل الرواية على الاستصحاب يعتبر مخالفة للمذهب ممّا يجعل الرواية واردة مورد التقية ، وبالتالي لا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب ، للعلم بأنّ أصالة الجهة والجدّيّة فيها غير تامّة.

بينما حمل الرواية على الركعة المفصولة كما هو الصحيح لا يدلّ على الاستصحاب ؛ لأنّها ليست من آثار ولوازم التعبّد بالاستصحاب شرعا ، وإنّما هي من آثار نفس الشكّ بالإتيان بالرابعة والذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال العقلي.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بأجوبة :

منها : ما ذكره المحقّق العراقي (1) من اختيار الشقّ الأوّل ، وحمل تطبيق الاستصحاب المقتضي للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدّيّة الكبرى وواقعيّتها.

فأصالة الجهة والجدّ النافية للهزل والتقية تجري في الكبرى دون التطبيق.

ثمّ إنّه قد أجيب على هذا الاعتراض بعدّة أجوبة :

الجواب الأوّل على الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي وحاصله : أنّنا نختار الشق الأوّل ، أي أنّ الرواية تدلّ على وجوب الإتيان بالركعة الموصولة استنادا إلى كبرى الاستصحاب.

ص: 147


1- مقالات الأصول 2 : 352.

وما ذكر من مخالفة الركعة الموصولة للمذهب صحيح ، إلا أنّ هذا لا يمنع من الأخذ بدلالة الرواية على كبرى الاستصحاب وإنّما يمنع من الأخذ بتطبيق الاستصحاب على المورد المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّه يوجد في الرواية مطلبان :

الأوّل : إفادة كبرى الاستصحاب بقول : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » ، فإنّ هذا التعبير يراد به قاعدة الاستصحاب لورود نظير هذا التعبير في روايات أخرى دالّة على الاستصحاب.

الثاني : إفادة تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور في الرواية من إحراز الثلاث ركعات والشكّ في الرابعة ، والحكم بوجوب الإتيان بالركعة الموصولة.

أمّا المطلب الأوّل فلا محذور من الأخذ به ، بل إنّ هذا التعبير لا يتناسب إلا مع كبرى الاستصحاب ، فهذا التعبير ظاهر جدّا في الاستصحاب ، وظهوره الجدّي على نحو الحقيقة والواقع لا التقية.

وأمّا المطلب الثاني أي تطبيق الاستصحاب على المورد واستفادة الركعة الموصولة فلا يمكن الأخذ به ، لمخالفته للمذهب من الناحية الفقهيّة وموافقته لمذهب العامّة ، فيكون محمولا على التقية.

وبهذا ظهر أنّ أصالة الجدّ والجهة تجري في الكبرى ، أي في أصل استفادة كبرى الاستصحاب من هذه الرواية ، إلا أنّ التطبيق على المورد لا يمكن جريان أصالة الجهة والجدّ فيه ؛ لأنّ نتيجة التطبيق مخالفة للقواعد المقرّرة فقهيّا عندنا مع موافقته لمذهب العامّة.

وبهذا يفصّل بين الكبرى والتطبيق ، والاستدلال بالرواية على الاستصحاب تامّ ؛ لأنّنا نريد من الرواية أن تكون دالّة على كبرى الاستصحاب وهي كذلك ، إذن فلا محذور من الأخذ بها.

وهذا التفكيك بين الكبرى والتطبيق مضافا إلى أنّه لا مانع منه ولا محذور فيه ، توجد شواهد تاريخيّة عليه من قبيل ما ذكره الإمام الصادق في حواره مع المنصور بالنسبة ليوم العيد حيث قال : « ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا وإن أفطر أفطرنا » فإنّ الكبرى صحيحة وهي كون الحكم لإمام المسلمين في مسألة هلال العيد ، إلا أنّ تطبيقها على المنصور كان تقية كما هو واضح.

ص: 148

فإن قيل : إنّ الكبرى إن كانت جدّيّة فتطبيقها صوري ، وإن كانت صوريّة فتطبيقها بما لها من المضمون جدّي ، فأصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ في التطبيق.

كان الجواب : أنّ أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري ، إذ لا أثر لها للعلم بعدم كونه تطبيقا جادّا لكبرى جادّة على أي حال ، فتجري أصالة الجهة في الكبرى بلا معارض.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي ذكر هنا إشكالا وأجاب عنه وحاصلهما :

أمّا الإشكال : فما ذكر من حمل الكبرى على الجدّيّة ، وحمل التطبيق على التقية ، لا موجب له بل هو ترجيح بلا مرجّح ، إذ كما أنّ أصالة الجدّ تجري في الكبرى فيكون التطبيق صوريا محمولا على التقية ، كذلك يمكن أن تكون الكبرى صوريّة بينما التطبيق يكون جدّيّا ؛ لأنّ النتيجة على النحوين واحدة.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا قلنا : إنّ الرواية دالّة على كبرى الاستصحاب جدّا وواقعا ، فيكون تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور في الرواية صوريا ومخالفا للواقع وبالتالي يحمل على التقية ، فالنتيجة على هذا عدم إرادة الركعة الموصولة جدّا.

وهكذا إذا قلنا بأنّ الرواية من أوّل الأمر دالّة على أنّ كبرى الاستصحاب صوريّة ، أي أنّ إرادة الاستصحاب غير جدّيّة وواقعيّة ، بل لأجل التقية وموافقة العامّة الذين يطبّقون الاستصحاب في مثل هذا المورد.

فإنّ جديّة تطبيق الاستصحاب على المورد المذكور واستفادة الركعة الموصولة لا مانع من الأخذ بها ما دامت أصل الكبرى غير مرادة في المقام جدّا ، إذ النتيجة على هذا هي عدم إرادة الركعة الموصولة جدّا من باب عدم استفادة الكبرى وعدم جريانها أصلا.

وهذا يعني أنّ أصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ في التطبيق ، فلا مرجّح لإحداهما على الأخرى.

وعليه فكما يمكن استفادة كبرى الاستصحاب من الرواية لو حملت الكبرى على الجدّ كذلك لا يمكن استفادة الاستصحاب منها لو حملت أصالة الجدّ على التطبيق ، وبالتالي تكون الرواية مردّدة ومجملة وغير صالحة للاستدلال.

ص: 149

وأمّا الجواب فهو : أنّ أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري أصلا فلا تصلح للمعارضة.

والوجه في ذلك : أنّ التطبيق معلوم أنّه لا أثر له واقعا وجدّا ، إذ على كلّ حال يعلم بأنّ الركعة الموصولة ليست مرادة جدّا سواء كانت في الكبرى أم في التطبيق.

وعليه فما دام يقطع بعدم وجود الأثر فلا يمكن جريان أصالة الجدّ في التطبيق ومعارضتها لأصالة الجدّ في الكبرى ؛ لأنّ المعارضة فرع كون التطبيق جدّيّا.

وهنا نقطع بعدم هذا الأثر في التطبيق ؛ لأنّه تطبيق صوري غير جادّ على كلّ حال ، فلا شكّ لدينا لتجري أصالة الجدّ وإنّما نقطع بعدم الجدّيّة فلا تجري ؛ لعدم تحقّق موضوعها وهو الشكّ.

ولذلك تجري أصالة الجدّ في الكبرى لوجود أثر لها ، وهو استفادة كبرى الاستصحاب ، ولا تجري في التطبيق ؛ لأنّه لا أثر لجريانها فيه ، إذ لا يمكن الحكم بالركعة الموصولة على كلّ تقدير.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الحمل على التقية في الرواية بعيد جدّا ، بملاحظة أنّ الإمام قد تبرّع بذكر فرض الشكّ في الرابعة ، وأنّ الجمل المترادفة التي استعملها تدلّ على مزيد الاهتمام والتأكيد بنحو لا يناسب التقيّة.

والصحيح : أنّ ما ذكره المحقّق العراقي من اختيار الشقّ الأوّل من كلام الشيخ الأنصاري لا يمكن المساعدة عليه لكونه مخالفا لظهور الرواية.

والوجه في ذلك : أنّ الرواية تشتمل على أمرين لا يتناسب شيء منهما مع اختيار الشقّ الأوّل.

وتوضيحه أن يقال : إنّ الرواية قد فرضت أنّ الإمام هو الذي تبرّع بذكر السؤال الثاني « وهو الشكّ في الرابعة بعد إحراز الثالثة » وهذا الافتراض لا يتناسب مع ما استظهره المحقّق العراقي من كون المورد محمولا على التقيّة ؛ إذ لو كان المورد تقيّة فلا معنى لأن يوقع الإمام نفسه اختيارا في محذور التقيّة ما دام مستغنيا عنه بالسكوت ، مضافا إلى أنّ الجمل المتعاطفة التي ذكرت في ذيل الرواية ظاهرها التأكيد على مطلب مهم ، وهذا التطويل لا يتناسب مع كون المورد تقيّة ، بل المناسب في هذا المورد أن يختصر ويوجز.

فالحمل على التقيّة لا قرينة عليه ، بل الظاهر خلافه ، خصوصا مع ملاحظة الجواب

ص: 150

عن السؤال الأوّل الظاهر جدّا في كون الركعتين مفصولتين ، فمن البعيد أن يكون جوابه الأوّل عن الركعتين المفصولتين وجوابه الثاني عن الركعة الموصولة ، فإنّ وحدة السياق والتفريع والترتيب بين السؤالين تقتضي كونهما من ناحية الحكم شيئا واحدا.

ولذلك فالمتعيّن هو الشقّ الثاني وعدم دلالة الرواية على الاستصحاب.

ومنها : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه من أنّ عدم الإتيان بالركعة الرابعة له أثران :

أحدهما : وجوب الإتيان بركعة ، والآخر : مانعيّة التشهّد والتسليم قبل الإتيان بهذه الركعة (1).

ومقتضى استصحاب العدم المذكور التعبّد بكلا الأثرين ، غير أنّ قيام الدليل على فصل ركعة الاحتياط يخصّص دليل الاستصحاب ويصرفه إلى التعبّد بالأثر الأوّل لمؤدّاه دون الثاني.

فإجراء الاستصحاب مع التبعيض في آثار المؤدّى صحيح.

الجواب الثاني على الاعتراض الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وحاصله : أنّنا نختار كون الركعة مفصولة لا موصولة.

ولا يرد على ذلك أنّ الرواية حينئذ لا تكون ناظرة إلى الاستصحاب.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يترتّب عليه بإطلاقه أثران شرعيّان هما :

1 - وجوب الإتيان بالركعة الرابعة حيث إنّه يثبت بالاستصحاب تعبّدا عدم الإتيان بها.

2 - كون هذه الركعة متّصلة بما قبلها من ركعات ، وهذا يعني عدم جواز الفصل بينها وبين الركعات السابقة بالتشهّد والتسليم ، بل يمنع الإتيان بهما كذلك.

والإمام حينما أجرى الاستصحاب بقوله : « ولا تنقض اليقين بالشكّ » كان المفروض ترتيب هذين الأثرين الشرعيّين ، بمقتضى الإطلاق وعدم التقييد.

إلا أنّه يوجد لدينا دليل من الخارج ينصّ على عدم لزوم كون ركعة الاحتياط عند الشكّ بين الثالثة والرابعة مفصولة لا موصولة ، فهذا الدليل يخصّص إطلاق جريان

ص: 151


1- كفاية الأصول : 450.

الاستصحاب في المورد ويخرج من دائرته الأثر الثاني ، فيبقى الأثر الأوّل مشمولا للاستصحاب دون الثاني.

وهذا التبعيض في شمول الاستصحاب لبعض الآثار دون البعض الآخر لا إشكال فيه ؛ لأنّ الاستصحاب في نفسه يقتضي ترتب كلا الأثرين ، غاية الأمر يوجد مانع من ترتيب الأثر الثاني فيخرج ، وأمّا الأثر الأوّل فلا مانع من ترتيبه فيبقى داخلا.

وعليه فلا محذور في حمل الرواية على الاستصحاب ؛ لأنّ ما يبقى داخلا من أثر للمؤدّى يتناسب مع الاستصحاب ، وأمّا الأثر الذي لا يتناسب مع الاستصحاب فهو خارج عن مفاد الرواية لقيام الدليل من الخارج على انتفائه وعدم إمكان التعبّد به.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم إذا كانت ثابتة في الواقع على تقدير عدم الإتيان بالرابعة ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب مع التبعيض في مقام التعبّد بآثار مؤدّاه ؛ لأنّ المكلّف يعلم حينئذ وجدانا بأنّ الركعة المفصولة التي يأتي بها ليست مصداقا للواجب الواقعي ؛ لأنّ صلاته التي شكّ فيها إن كانت أربع ركعات فلا أمر بهذه الركعة ، وإلا فقد بطلت بما أتى به من المانع بتشهّده وتسليمه ؛ لأنّ المفروض انحفاظ المانعيّة واقعا على تقدير النقصان.

ويرد عليه : أنّ الأثر الثاني لعدم الإتيان بالركعة الرابعة والذي هو مانعيّة التشهّد والتسليم على نحوين :

الأوّل : أن تكون مانعيّتهما ثابتة في الواقع ، أي أنّ الحكم الواقعي مفاده أنّ التشهّد والتسليم قبل الرابعة مانعان من صحّة الصلاة واقعا سواء علم المكلّف أم لا ، فهنا لا يكفي إجراء الاستصحاب لإثبات الركعة المفصولة على أساس التبعيض في آثار المؤدّى من شموله للأثر الأوّل دون الثاني ، بل لا يمكن إجراء الاستصحاب على هذا الفرض ؛ وذلك لأنّ المكلّف يكون على علم وجدانا بوجوب الركعة الموصولة بناء على المانعيّة الواقعيّة للتشهّد والتسليم.

وبالتالي سوف يكون على علم وجدانا أيضا بأنّ الركعة الموصولة التي يأتي بها ليست مصداقا للمأمور به واقعا ، إذ على تقدير كون الركعات أربعا حين شكّه بين الثلاث والأربع سوف تكون هذه الركعة غير مأمور بها ، وإنّما هو مأمور بالتشهّد

ص: 152

والتسليم فقط ، فإضافة الركعة والحال هذه بلا أمر وبلا موجب ، وعلى تقدير كون الركعات ثلاثا فالتشهد والتسليم اللذان أوقعهما قبل هذه الركعة الرابعة يمنعان من صحّة الصلاة ؛ لأنّ المانعيّة واقعيّة على هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّه بناء على المانعيّة الواقعيّة للتشهّد والتسليم سوف يعلم - إذا جاء بالركعة مفصولة - إمّا ببطلان صلاته من جهة الإتيان بالتشهّد والتسليم قبل الرابعة على فرض ما بيده هو الثالثة ، وإمّا بأنّ هذه الركعة لا أمر بها وليست مصداقا للواجب الواقعي المأمور به على فرض ما بيده هو الرابعة.

وفي كلتا الحالتين تكون صلاته باطلة ويكون عالما وجدانا بذلك ، وعليه فلا يمكن إجراء الاستصحاب وإثبات التبعيض في آثاره.

وأمّا إذا لم يثبت التبعيض فيقطع من أوّل الأمر بوجوب الركعة الموصولة لا المفصولة ، ويكون إتيانه بالركعة منفصلة مبطلا لصلاته على كلّ تقدير.

وإذا افترضنا أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم ليست من آثار عدم الإتيان في حالة الشكّ ، فهذا يعني أنّ الشكّ في الرابعة أوجب تغيّرا في الحكم الواقعي وتبدّلا لمانعيّة التشهّد والتسليم إلى نقيضها ، وذلك تخصيص في دليل المانعيّة الواقعيّة ، ولا يعني تخصيصا في دليل الاستصحاب كما ادّعي في ( الكفاية ).

الثاني : أن نفترض أنّ مانعيّة التشهّد والتسليم مبطلة في حال الإتيان بهما قبل الركعة الرابعة عند العلم بأنّ ما يأتي به هو الرابعة ، وأمّا إذا كان شاكّا في أنّ ما يأتي به هو الرابعة فلا يكون هناك مانعيّة.

وهذا يعني أنّ المانعيّة هنا صارت من آثار الشكّ. وعليه فيلزم تغيّر وتبدّل الحكم الواقعي للمانعيّة إلى عدم المانعيّة ، فالتشهّد والتسليم الزائدان المانعان من صحّة الصلاة واقعا ، أصبحا هنا في فرض الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة غير مانعين بعد إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة.

وحينئذ لا يكون رفع اليد عن مانعيتهما هنا من باب التخصيص في دليل الاستصحاب بتطبيقه على الأثر الأوّل دون الأثر الثاني ، بل يكون ذلك من باب التخصيص في دليل المانعيّة الواقعيّة ، والذي يفترض ثبوته في مرحلة سابقة على إجراء الاستصحاب ، لقيام الدليل الخاصّ على عدم المانعيّة في حالة الشكّ.

ص: 153

والحاصل : أنّ المانعيّة تكون ثابتة واقعا في حالة العلم بأنّ ما يأتي به هو الرابعة ، وأمّا عند الشكّ في ذلك فلا يكون هناك مانعيّة.

وهذا الافتراض يجعل التخصيص في دليل المانعيّة لا في آثار الاستصحاب ، وهذا خلافا لما افترضه صاحب ( الكفاية ) من كون التخصيص في دليل الاستصحاب.

مضافا إلى أنّه على هذا سوف يكون الجواب المذكور متطابقا مع ما ذكره الميرزا في المعالجة الثالثة والتي سوف نذكرها مع النقاش فيها.

ومنها : ما ذكره المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - من افتراض أنّ عدم الإتيان بالرابعة مع العلم بذلك موضوع واقعا لوجوب الركعة الموصولة ، وأنّ عدم الإتيان بها مع الشكّ موضوع واقعا لوجوب الركعة المفصولة.

وعلى أساس هذا الافتراض إذا شكّ المكلّف في الرابعة فقد تحقّق أحد الجزءين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجدانا وهو الشكّ ، وأمّا الجزء الآخر وهو عدم الإتيان فيحرز بالاستصحاب.

وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات وجوب الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتا على النحو المذكور.

الجواب الثالث على الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من اختيار الشقّ الثاني أي الحمل على الركعة المفصولة ، ولا يرد الإشكال المتقدّم من أنّها ليست من آثار الاستصحاب.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الرواية ظاهرة في تطبيق الاستصحاب على المورد لظهور قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » في ذلك ، وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وأمّا كونها موصولة أو مفصولة ، فهذا لا مدخليّة للاستصحاب به ، بل تعيين كيفيّة الإتيان بالركعة الرابعة راجعة إلى الشارع ، وهنا الشارع أمر بفردين من الركعة الرابعة أو بنحوين منها هما :

الأوّل : وجوب الإتيان بالركعة الرابعة موصولة على من علم وتيقّن وجدانا بأنّه لم يأت بالرابعة ، فموضوع الركعة الموصولة هو العلم بعدم الإتيان ، وهذا ما تدلّ عليه الأدلّة والروايات الأوّليّة.

الثاني : وجوب الإتيان بالركعة الرابعة مفصولة على من شكّ في الإتيان بها ،

ص: 154

فموضوع الركعة المفصولة هو الشاكّ بعدم الإتيان ، وهذا تدلّ عليه أخبار ركعات الاحتياط.

وفي مقامنا المفروض أنّ المكلّف شاكّ في الإتيان بالركعة الرابعة ، وهذا يعني عدم وجوب الركعة الموصولة عليه لانتفاء موضوعها وهو العلم الوجداني ، وهذا الشكّ يحقّق أحد جزئي موضوع وجوب الركعة المفصولة ؛ لأنّ موضوعها مركّب من جزءين ، الأوّل عدم الإتيان بالرابعة ، والثاني الشكّ في الإتيان بها.

أمّا الجزء الأوّل فهو ثابت وجدانا لفرض الشكّ ، وأمّا الجزء الثاني فهذا ما يتكفّل به الاستصحاب ؛ لأنّه يثبت لنا تعبّدا عدم الإتيان بالرابعة ؛ لأنّ الشكّ في الإتيان بها مسبوق بالعدم.

وبهذا يتحقّق لنا موضوع وجوب الركعة المفصولة ؛ لأنّ أحد الجزءين ثابت بالوجدان وهو عنوان الشكّ في الإتيان بالرابعة والثاني ثابت بالتعبّد وهو عدم الإتيان بالرابعة ، فتجب الركعة المفصولة لتحقّق موضوعها الواقعي.

وأمّا نسبة الركعة المفصولة إلى الاستصحاب كما هو ظاهر التعليل في الرواية فمن أجل أنّه حقّق الجزء الآخر من موضوعها بالتعبّد ، إذ الجزء الأوّل وهو الشكّ محقّق في نفسه وجدانا ، فكان التعليل بالاستصحاب ؛ لأنّه أثبت الجزء الأخير من الموضوع والذي عليه العمدة في ترتب الحكم ، وفي الدقّة الاستصحاب لا يثبت الركعة المفصولة ، وإنّما يثبت الجزء الأخير من موضوعها المفترض ثبوته واقعا في الشريعة.

وبتعبير آخر : أنّ أدلّة ركعة الاحتياط الدالّة على وجوب كونها مفصولة توجب الانقلاب والتبدّل والتغيّر في الحكم الواقعي لوجوب الإتيان بالركعة الرابعة الدالّ على وجوب الإتيان بها موصولة. فيصير هناك فردان أحدهما الرابعة الموصولة عند عدم الشكّ ، والرابعة المفصولة عند الشكّ.

ويمكننا أن نبيّن المطلب بنحو آخر وهو : أنّ الاستصحاب وإن كان مفاده التعبّد ببقاء المستصحب والمؤدّى كما هو الحال عند عدم الشكّ ، والذي يعني وجوب الإتيان بالرابعة موصولة ؛ لأنّ المتيقّن هو عدم الإتيان بالرابعة موصولة فهو الذي يستصحب.

إلا أنّنا لا بدّ أن نرفع اليد عن هذا الإطلاق لدلالة أدلّة ركعات الاحتياط على

ص: 155

كونها مفصولة ، وهذا يعني أنّ القيد وهو كونها موصولة يجب رفع اليد عنه ، فيبقى الاستصحاب دالاّ على وجوب الإتيان بالرابعة وتكون أدلّة ركعات الاحتياط دالّة على كونها مفصولة.

ولا يشكل هنا : بأنّ الاستصحاب يلغي الشكّ تعبّدا ويجعل المورد معلوما تعبّدا بناء على مسلك الميرزا من جعل العلميّة والطريقيّة ، وهنا إذا ألغينا الشكّ فسوف يرتفع أحد جزأي موضوع الركعة المفصولة المركّب موضوعها من الشكّ ومن عدم الإتيان بالرابعة. فإنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الإتيان بالرابعة فسوف نصبح على علم تعبّدي بعدم الإتيان بها ، فيرتفع الشكّ فينتفي موضوع الركعة المفصولة ويتحقّق موضوع الركعة الموصولة ، وهذا لا يمكن الأخذ به لمخالفته لمذهبنا وموافقته لمذهب العامّة.

لأنّه يجاب : أنّ الأمارات والأصول إنّما تقوم مقام القطع الموضوعي بناء على المسلك الصحيح ، فيما إذا لم تؤدّ إلى إلغاء الدليل المحكوم وذلك بانتفاء كلّ آثاره ، وإلا فلا تكون حاكمة عليه.

وهنا إذا أردنا العمل بالاستصحاب وتقديمه على الحكومة فسوف ينتفي الشكّ ، وانتفاؤه يعني انتفاء جميع الآثار المترتّبة عليه في المقام ، ولذلك لا يكون الاستصحاب حاكما على المورد ومثبتا للعلم التعبّدي ؛ لأنّ حكومته تقتضي إلغاء آثار المحكوم ( أي الشكّ ) ، والمفروض أنّه لا يشترط في الحكومة ألاّ يكون الدليل الحاكم رافعا لجميع آثار الدليل المحكوم وإلا لصار الدليل المحكوم هو المقدّم ، ومقامنا من هذا القبيل ؛ ولذلك يتقدّم الشكّ على الاستصحاب ويعمل بآثار الشكّ لا بآثار الاستصحاب.

ومن هنا يظهر أنّ الرواية ليست محمولة على التقية وليس فيها ما يخالف المذهب ، بل تحمل على الاستصحاب بلحاظ أحد الجزءين أي عدم الإتيان بالرابعة ، وأمّا الجزء الآخر وهو كونها مفصولة فيترتّب نتيجة تحقّق موضوع وجوب الركعة المفصولة واقعا كما بيّناه.

وهذا التصحيح للاستصحاب في المورد وإن كان معقولا ، غير أنّ حمل الرواية عليه خلاف الظاهر ؛ لأنّه يستبطن افتراض حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة على الموضوع المركّب من عدم الإتيان والشكّ ، وهذا بحاجة إلى البيان ، مع أنّ

ص: 156

الإمام اقتصر على بيان الاستصحاب على الرغم من أنّ ذلك الحكم الواقعي المستبطن هو المهمّ ، إذ مع ثبوته لا بدّ من الإتيان بركعة مفصولة حينئذ سواء جرى استصحاب عدم الإتيان أو لا ، إذ تكفي نفس أصالة الاشتغال والشكّ في وقوع الرابعة للزوم إحرازها ، فالعدول في مقام البيان عن نكتة الموقف إلى ما يستغنى عنه ليس عرفيّا.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره الميرزا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّه خلاف الظاهر من الرواية.

وتوضيحه : أن افتراض وجود حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة موضوعه مركّب من جزءين هما الشكّ وعدم الإتيان بالرابعة ، وإن كان معقولا في نفسه بل هو صحيح أيضا لدلالة الأخبار عليه ، إلا أنّ كلام الإمام وتعليله لا يتناسب معه ؛ وذلك لأنّ كلام الإمام ظاهر في بيان التعليل للحكم بوجوب الركعة الرابعة المفصولة.

وهنا المناسب بل المتعيّن أن يكون التعليل بأنّه يوجد حكم واقعي على وجوب الركعة المفصولة ، فعدم ذكره مع كونه في مقام البيان والتفهيم وذكر العلّة في غير محلّه.

وأمّا القول بأنّه قد ذكر الاستصحاب الذي يثبت أحد جزأي الموضوع أي ( عدم الإتيان بالرابعة ) ، فيكون قد اكتفى بهذا المقدار عوضا عن ذكر الحكم ؛ لأنّ الموضوع يتحقّق بكلا جزأيه :

أحدهما وجدانا وهو الشكّ ، والآخر تعبّدا وهو عدم الإتيان بالرابعة ، فهذا غير تامّ ؛ لأنّ الاستصحاب لا مدخليّة له في وجوب الركعة المفصولة بعنوانه الخاصّ ليكون التعليل به موجّها ؛ وذلك لأنّه إذا كان هناك حكم واقعي بوجوب الركعة المفصولة مترتّب على عنواني الشكّ وعدم الإتيان بالرابعة ، فهذا الحكم ثابت سواء جرى الاستصحاب في المقام أم لا ؛ لأنّ الجزء الأوّل من الموضوع وهو الشكّ ثابت بالوجدان ، والجزء الآخر منه وهو عدم الإتيان بالرابعة كما يثبت بالاستصحاب أي استصحاب عدم الإتيان بالرابعة كذلك يثبت على أساس قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، إذ المكلّف يعلم من أوّل الأمر باشتغال ذمّته بالركعة الرابعة والآن يشكّ في فراغ ذمّته منها ، فتطبّق القاعدة ويثبت بها عدم الإتيان بالرابعة ولزوم

ص: 157

الاحتياط بالإتيان بها ، فمن الممكن أن يكون التعليل ناظرا إلى هذه القاعدة لا إلى الاستصحاب.

ويكون الاستناد إلى الاستصحاب عندئذ والعدول عن النكتة والعلّة الصحيحة للحكم إليه في غير محلّه ، ولا يقبله العرف ، بل هو مخالف للفهم العرفي.

مضافا إلى استلزامه الحذف والتقدير ، وهما عناية زائدة لا قرينة عليهما في المقام والأصل عدمهما.

ومن هنا يمكن أن يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينة على حمل الرواية على ما ذكر في الاعتراض الأوّل ، وإن كان خلاف الظاهر في نفسه. وبالحمل على ذلك يمكن أن نفسّر النهي عن خلط اليقين بالشكّ وإدخال أحدهما بالآخر بأنّ المقصود التنبيه بنحو يناسب التقيّة على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة.

والتحقيق : أن يقال : إنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري في الاعتراض الأوّل من حمل الرواية على قاعدة ( الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) ، وإن كان مخالفا لظاهر الرواية من ناحيتين كما تقدّم ، إلا أنّه يتعيّن حملها عليه بقرينة الاعتراض الثاني.

فإنّ كلّ المعالجات التي ذكرت لحلّ هذا الإشكال غير تامّة ، ولا حلّ له إلا بالقول بأنّه استند إلى قاعدة الفراغ اليقيني ؛ لأنّ استفادة الاستصحاب لا تتناسب مع الركعة المفصولة واستفادة الركعة الموصولة مخالفة للمذهب.

وحينئذ يكون المراد أنّه ما دام يعلم باشتغال ذمّته بأربع ركعات وقد أحرز ثلاثا فيجب عليه الإتيان بالرابعة ، وأمّا كيفيّة الإتيان بهذه الرابعة فهذا يعلم من روايات أخرى دلّت على أنّ هذه الركعة يجب أن تكون مفصولة ؛ لأنّ الإتيان بها موصولة لا يحقّق الفراغ اليقيني.

إذ لو كان ما في يده هو الرابعة فإقامة ركعة موصولة يجعل الصلاة باطلة ؛ لأنّها تصبح خمس ركعات ، ولو كان ما في يده هو الثالثة فالركعة الموصولة مصحّحة للصلاة ، فليس هناك فراغ يقيني وإنّما فراغ احتمالي.

بخلاف ما لو أتى بها مفصولة ، فإنّه لو كان في الثالثة فالفصل بينها وبين الرابعة بالتشهّد والتسليم والتكبير مغتفر لدلالة الروايات على ذلك ، ولو كان في الرابعة

ص: 158

فإقامة ركعة مفصولة لا يضرّ أصلا ؛ لأنّ الصلاة قد تمّت قبل هذه الإضافة وعليه فيتحقّق الفراغ اليقيني.

وبهذا التفسير نستطيع أن نحلّ ما طرحناه من إشكال في وجه التطويل والتكرار بذكر الجمل المتعاطفة ، فإنّ ذكرها حينئذ من باب الإشارة والتنبيه والإلفات إلى أنّ هذه الركعة لا بدّ أن تكون مفصولة ، وإنّما لم يصرّح الإمام بذلك لاحتمال كونه في مقام التقيّة ، فإنّ الإشارة إلى الركعة المفصولة بهذه الجمل يتناسب مع التقيّة.

وبهذا يظهر أنّه لا دلالة في الرواية على الاستصحاب أصلا.

الثالث : أنّ حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر ، لأنّ الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتّى لو بني على إضافة الركعة الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق ؛ لأنّ الواجب إيقاع التشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الإتيان بالرابعة يثبت وجوب الإتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لإثبات كونها رابعة بذلك الاستصحاب ؛ لأنّ كونها كذلك لازم عقلي للمستصحب ، فلا يثبت ، فلا يتاح للمصلّي إذا تشهّد وسلّم حينئذ [ أن يحرز ] أنّه قد أوقع ذلك في آخر الركعة الرابعة.

الاعتراض الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي ، وحاصله : أنّ حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر إمّا من جهة انتفاء الشكّ الذي هو أحد ركني الاستصحاب ، وإمّا من جهة عدم ترتّب الأثر الشرعي على المستصحب والذي هو أحد شروط جريان الاستصحاب.

أمّا انتفاء الشكّ فلأنّ المكلّف حيث يشكّ بين الثالثة والرابعة فهذا يعني أنّه لا يعلم هل ما بيده هو الثالثة أو هو الرابعة؟ لكنّه يقطع بعدم وجود الرابعة ويقطع أيضا بوجود الثالثة ، وهذا معناه أنّه يوجد لديه علم إجمالي مردّد بين فردين أحدهما مقطوع العدم والآخر مقطوع الوجود ، ومثل هذا العلم الإجمالي لا يجري فيه الاستصحاب لانتفاء الشكّ.

وأمّا انتفاء الأثر الشرعي فإنّنا لو أجرينا الاستصحاب فإنّه لا يكفي للحكم بصحّة الصلاة التي يوقعها حتّى على فرض كون الركعة التي سوف يأتي بها موصولة ، وذلك بلحاظ التشهّد والتسليم ، فإنّ وجوب التشهّد والتسليم كما يستفاد من الأدلّة مترتّب

ص: 159

على أن تكون الركعة التي يأتي بها هي الرابعة ، أي كونها متّصفة بحيثيّة الرابعة أو بتعبير آخر مترتّب على رابعيّة الركعة بنحو مفاد ( كان ) الناقصة ، والاستصحاب هنا إنّما يثبت لنا عدم الإتيان بالركعة الرابعة فيجب الإتيان بالركعة الرابعة ، أي يجب إيجاد الركعة الرابعة بنحو مفاد كان التامّة ، ولا يثبت كونها متّصفة بالرابعة إلا على أساس اللازم العقلي ، فيكون من الأصل المثبت.

وبتعبير آخر أنّ الاستصحاب يثبت لنا عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، ولكنّه لا يثبت لنا أنّ الركعة التي يأتي بها هي الركعة المتّصفة بالرابعة إلا على أساس اللازم العقلي.

وعليه فعند ما يأتي بالتشهّد والتسليم بعد هذه الركعة سوف لا يحرز أنّه أوقعهما بعد الركعة الرابعة ، بل يشكّ في ذلك ، وبما أنّ ذمّته مشغولة يقينا بالإتيان بهما بعد الرابعة فلا بدّ أن يحرز فراغها يقينا ، وهذا لا يتأتّى إلا بالإعادة من جديد.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ؛ لأنّ إثبات الركعة المفصولة ليس من آثار الاستصحاب كما تقدّم ، وإثبات الركعة الموصولة ولو تقيّة لا يمكن المصير إليه ؛ لأنّه لا يصحّح الصلاة إلا على أساس اللازم العقلي والأصل المثبت وهو ليس حجّة.

وقد أجاب السيّد الأستاذ على ذلك بأنّ المصلّي بعد أن يستصحب عدم الإتيان ويأتي بركعة يتيقّن بأنّه قد تلبّس بالركعة الرابعة ويشكّ في خروجه منها إلى الخامسة فيستصحب بقاءه في الرابعة.

وأجاب عنه السيّد الخوئي بأنّ الاستصحاب على هذا الفرض يجري ويترتّب عليه الأثر الشرعي.

والوجه فيه : أنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الإتيان بالرابعة وقلنا بوجوب الإتيان بها موصولة فسوف يحصل له اليقين بأنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ؛ لأنّ المكلّف حينما يأتي بهذه الركعة سوف يعلم إجمالا بأنّه قد دخل في الركعة الرابعة إمّا الآن أي بهذه الركعة فيما لو فرض أنّ ما أتى به من ركعات كان ثلاثا ، وإمّا في الركعة السابقة لو كانت الركعات السابقة على هذه الركعة أربعا ، فهذا العلم الإجمالي يحقّق له أصل الدخول في الرابعة ، إلا أنّه سوف يشكّ في أنّه هل خرج من الرابعة إلى الخامسة أو أنّه لا يزال في الرابعة؟ من جهة أنّ ما أتى به إن كان

ص: 160

ثلاث ركعات فهو لا يزال في الرابعة ، وإن كان أربع ركعات فقد دخل في الخامسة ، وهنا يجري استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو استصحاب عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، وعلى أساس هذا الاستصحاب الثاني سوف يحصل المكلّف على علم تعبّدي بأنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، وهذا يكفي لتصحيح الصلاة ؛ لأنّه ليس من الأصل المثبت أو اللازم العقلي.

والحاصل : أنّه يوجد لدينا استصحابان :

الأوّل : استصحاب عدم الإتيان بالرابعة.

والثاني : استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، ولذلك سوف يحرز تعبدا بأن التشهد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فتكون صلاته صحيحة.

ونلاحظ على هذا الجواب : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ؛ لأنّه يعلم إجمالا بأنّه إمّا الآن أو قبل إيجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

ويرد على هذا الجواب : أنّ استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة لو سلّم جريانه ، فهو معارض باستصحاب عدم دخوله في الرابعة أيضا.

والوجه فيه هو : أنّ المكلّف كما يعلم بأنّه قد دخل في الرابعة إمّا الآن حين الإتيان بالركعة المبنيّة على الاستصحاب وإمّا قبلها ، كذلك يعلم بأنّه لم يدخل في الرابعة إمّا الآن وإمّا قبل الإتيان بهذه الركعة ؛ لأنّه إن كان قد أتى بثلاث ركعات قبل هذه الركعة فهو لم يدخل في الرابعة ، وإن كان قد أتى بأربع ركعات فهو الآن لم يدخل في الرابعة بل في الخامسة ، وحيث إنّه يشكّ فيستصحب عدم إتيانه بالرابعة.

وهذا الاستصحاب يتعارض مع الاستصحاب الذي ذكره السيّد الخوئي ، ومع التعارض يحكم بتساقطهما ، وبعد التساقط لا يحرز أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، فتبقى ذمّته مشغولة فتجب الإعادة كما ذكر المحقّق العراقي.

وهذه المسألة ذكر نظيرها السيّد الخوئي عند الشكّ في يوم العيد ، فإنّه بعد يوم الشكّ سوف يحصل له علم بدخول يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب

ص: 161

دخول يوم العيد ، لكنّه ذكر أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الدخول في يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب عدم الدخول ويتعارض الاستصحابان ويتساقطان.

مضافا إلى أنّنا لو سلّمنا بجريان استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة ، وأنّه لا معارض له ، إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد ؛ لأنّه لا يثبت أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة إلا بنحو الأصل المثبت ، إذ غاية ما يثبت بالاستصحاب المذكور أنّه لم يدخل في الخامسة أو لم يخرج من الرابعة ، أمّا أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فهذا لازم عقلي ؛ لعدم الخروج من الرابعة أو لعدم الدخول في الخامسة وهو من الأصل المثبت ، والذي لا يكون حجّة.

كما يلاحظ على أصل الاعتراض : بأنّ إثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس أمرا محالا ، بل محتاجا إلى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلا على الإثبات المذكور.

ويرد على اعتراض المحقّق العراقي : أنّ الأصل المثبت أو اللازم العقلي إنّما لا يكون حجّة لعدم الدليل على حجّيّته ، وأمّا لو فرض قيام الدليل على حجّيّته ، فلا مانع من التعبّد بثبوت اللازم العقلي حينئذ وكونه حجّة.

وليس هناك دليل على استحالة التعبّد باللازم العقلي ليكون كلّ لازم عقلي منتفيا ولا يثبت شرعا ، وعليه فإذا دلّ الدليل في مورد خاصّ على التعبّد باللازم العقلي فيؤخذ به. وهذا مقبول على نحو الكبرى.

وأمّا في مقامنا فقد ذكر المحقّق العراقي بأنّ هذه الرواية تعتبر دليلا خاصّا على ثبوت اللازم العقلي ؛ لأنّ تطبيق الاستصحاب في هذا المورد يتوقّف على ثبوت اللازم العقلي ، فيدور الأمر بين إلغاء الاستصحاب وبين الأخذ به بما له من أثر عقلي ، ثمّ أشكل عليه ولم يقبله.

الرواية الرابعة :

وهي رواية عبد اللّه بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر : إنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : « صلّ فيه ولا

ص: 162

تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (1).

وهذه الرواية وإن كانت مرويّة عن الأب وهو مجهول ، إلا أنّ الابن كان حاضرا وهذا يعني أنّه سمع المحاورة ، وهذا يكفي ؛ لأنّ عبد اللّه بن سنان من الرواة الأجلّة.

ومفادها : أنّه أعاره الثوب وهو طاهر ، ثمّ شكّ في نجاسته من جهة أنّه يشرب الخمر ونحوه ، وهنا حكم الإمام بالطهارة معلّلا ذلك بأنّك قد أعرته إيّاه وهو طاهر.

وأمّا دلالتها على الاستصحاب فيقال في تقريبها :

ولا شكّ في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة في مقام التعليل ، إذ قال : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » ، فتكون دالّة على الاستصحاب.

نعم ، لا عموم في مدلولها اللفظي ، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل ، وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابيّة المركوزة عرفا.

وهذه الرواية واضحة الدلالة في الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه قد أخذ الحالة السابقة في التعليل ، أي بملاحظة كونه أعاره إيّاه وهو طاهر ولم يستيقن أنّه نجّسه ، فينبغي له الحكم ببقاء الطهارة ، ولا ينتقض يقينه بالطهارة بمجرّد الشكّ في أنّه نجّسه بسبب شربه للخمر ما دام لم يستيقن أنّه قد أصابه الخمر.

وليست ظاهرة في قاعدة الطهارة ؛ لأنّه لا يشترط في البناء على الطهارة أن يكون هناك حالة سابقة متيقّنة ، فسواء كان هناك يقين سابق بالطهارة أم لا فعند الشكّ في النجاسة العرضيّة يبني على الطهارة.

إلا أنّ الإمام هنا أورد الحالة السابقة في تعليله للحكم بالطهارة ، وهذا يدلّ على كون النكتة في حكمه هو وجود هذه الحالة السابقة ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب لا قاعدة الطهارة.

يبقى أنّ هذه القاعدة المستفادة من الرواية قد يقال باختصاصها بالمورد ، إلا أنّ الصحيح إمكان تعميمها وذلك بملاحظة أمرين :

ص: 163


1- وسائل الشيعة 3 : 521 ، أبواب النجاسات ، ب 74 ، ح 1.

الأوّل : أنّ هذه الفقرة وردت في التعليل والتعليل يعمّم حكم المورد لكلّ حالة من هذا القبيل.

الثاني : أنّ هذه الفقرة تتطابق بالمفاد والمدلول مع ما تقدّم من كبرى ( لا تنقض اليقين بالشك ) مع الاختلاف بالألفاظ ، وهذا يعني الإشارة إلى قاعدة مركوزة عرفا ، وهي ما تقدّمت الإشارة إليها من كونها كبرى الاستصحاب فالاستدلال تامّ.

هذا هو المهمّ من روايات الباب ، وهو يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب.

وبعد إثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات :

إذ نتكلم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها أمارة أو أصلا.

وكيفيّة الاستدلال بها.

ثمّ في أركانها.

ثمّ في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار.

ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكلّ مورد.

ثمّ في جملة من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها.

فالبحث إذن يكون في خمسة مقامات كما يلي :

وبهذا ينتهي الكلام عن أدلّة الاستصحاب التي كان مهمّها هو الروايات ، فإنّ ما ذكرناه منها يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب ، فلا حاجة للتطويل بذكر سائر ما ذكروه من أدلّة وروايات.

وبعد ذلك يقع البحث في عدّة أمور :

1 - كون الاستصحاب أمارة أو أصلا.

2 - كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب على الأحكام الشرعيّة.

3 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب من الآثار واللوازم الشرعيّة والعقليّة والتكوينيّة.

4 - الموارد التي تشملها قاعدة الاستصحاب ، وهل هو يجري في مطلق الشبهات أو خصوص الحكميّة أو الموضوعيّة؟

5 - بعض التطبيقات التي وقع الخلاف أو الشكّ فيها.

* * *

ص: 164

الاستصحاب أصل أو أمارة

اشارة

ص: 165

ص: 166

الاستصحاب أصل أو أمارة

قد عرفنا سابقا (1) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات والحكم الظاهري في باب الأصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّيّة المحتمل كان أصلا ، وكلّما كان الملحوظ قوّة الاحتمال وكاشفيّته محضا كان المورد أمارة.

تقدّم في الجزء السابق الفرق بين الأمارات والأصول ، وتوضيحه مختصرا أن يقال : إنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات عند اشتباهها وعدم تمييز المكلّف لها.

فحقيقة الحكم الظاهري كونه حكما مجعولا لحلّ هذا التزاحم من تقديم الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك فالحكم الظاهري حكم طريقي لا حقيقي ، أي أنّه طريق للكشف عن الأهمّ واقعا بنظر الشارع.

وعلى هذا الأساس فإنّ الأهمّيّة التي يلاحظها الشارع تتصوّر على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يلحظ قوّة المحتمل ونوعيّة الحكم المحتمل كأن يلحظ الشارع أهمّيّة ملاكات الإلزام فيجعل الاحتياط أو يلحظ نوع الأحكام الترخيصيّة بأن كانت ملاكاتها هي الأهمّ فيجعل البراءة ، وهذا ما يسمّى بالأصول العمليّة المحضة ، فالأهمّيّة هنا لوحظت على أساس المرجّح الكيفي.

الثاني : أن تلحظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة بأن يلحظ الشارع كثرة المطابقة للواقع في هذا الكاشف ، فموارد الإصابة فيه أكثر من موارد الخطأ ولذلك يكون المرجّح هنا كمّيّا ، فيجعل الحجّيّة له من هذا الباب ، كخبر الثقة مثلا الذي جعلت له الحجّيّة على أساس كثرة الإصابة في أخبار الثقات فالملاحظ هو المرجّح الكمّي ، ولا مدخليّة

ص: 167


1- في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

للكيفيّة فإنّ خبر الثقة كما يحكي عن الوجوب يحكي عن الحرمة ويحكي عن الإباحة والحلّيّة وما إلى ذلك ... وهذا ما يسمّى بالأمارات.

الثالث : أن تلحظ قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل معا أي يلحظ المرجّحين الكمّي والكيفي ، ويكون جعل الحكم الظاهري على أساس هذين الأمرين معا ، أي أنّ هذا النحو ليس فيه كثرة المطابقة للواقع بحيث تكون هي ملاك الأهمّيّة ، وليس فيه نوع واحد من الأحكام يحكي عنه دائما بحيث تكون نوعيّة المحتمل هي الملاك ، وإنّما فيه من المرجّحين ، كما هو الحال في قاعدة الفراغ حيث لوحظ فيها كثرة الإصابة ؛ لأنّ الأغلب صحّة العمل عند الشكّ في صحّته بعد الفراغ منه ولوحظ فيها أنّ هذا العمل قد فرغ منه بحيث لو لم يفرغ منه فلا ترجيح لهذه القاعدة ، وهذا ما يسمّى بالأصول المحرزة أو التنزيليّة.

وعلى هذا نريد أن نعرف من أي قسم يكون الاستصحاب ، فهل هو أمارة أو أصل محض أو أصل محرز؟

وهذا يتطلّب أن نعرف حقيقة الاستصحاب وما هو الملاك الموجود فيه وما هو المحتمل وما هو الكاشف لنرى على أي أساس جعلت له الحجّيّة.

وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبة في تعيين هويّتها ودخولها تحت أحد القسمين ؛ وذلك لأنّ إدخالها في نطاق الأمارات يعني افتراض كاشفيّة الحالة السابقة وقوّة احتمال البقاء مع أنّ هذه الكاشفيّة لا واقع لها - كما عرفنا في الحلقة السابقة (1) - ولهذا أنكرنا حصول الظنّ بسبب الحالة السابقة.

بعد أن عرفنا ملاك الأصل والأمارة نبحث في أنّ الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب هل تدخل في نطاق الأصول أو أنّها تدخل في نطاق الأمارات؟

والجواب : أنّه يوجد صعوبة في تحديد هويّة هذه الكبرى.

ووجه الإشكال هو : أنّنا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى داخلة في الأمارات فهذا يعني افتراض قوّة الاحتمال ووجود الكاشفيّة الظنّيّة في أنّ الحالة السابقة إذا وجدت فهي تبقى ، وهذا معناه ملاحظة الشارع للمرجّح الكمّي ، أي أنّ الأغلب هو وجود الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

ص: 168


1- تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

إلا أنّ هذه الكاشفيّة الظنّيّة لا واقع لها في الاستصحاب ؛ لأنّ أغلبيّة البقاء ليست مسلّمة مضافا إلى أنّ البقاء ليس مظنونا ، ولذلك ننكر إفادة الحالة السابقة بمجرّد حدوثها للظنّ بالبقاء ؛ لأنّ هذا يختلف باختلاف الحالة السابقة ، فمن الحالات السابقة إذا حدثت يعلم ببقائها ، ومنها إذا حدثت يعلم بارتفاعها.

وأمّا تعامل الناس على أساس البقاء عند الحدوث فهو إمّا لأجل الغفلة أو لأجل العادة والألفة.

ومن هنا يشكل إدخال الاستصحاب في الأمارات ؛ لعدم إحراز الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

وإدخالها في نطاق الأصول يعني أنّ تفوّق الأحكام المحتملة البقاء على الأحكام المحتملة الحدوث في الأهمّيّة أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع أنّ الأحكام المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهويّة والنوعيّة ، فهي تارة وجوب ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ، وكذلك الأمر فيما يحتمل حدوثه ، فلا معنى لأن يكون سبب تفضيل الأخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الأحكام التي يحتمل بقاؤها.

وأمّا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى تدخل في الأصول ، فهذا يعني افتراض قوّة المحتمل ونوع الحكم الذي يحكي عنه الاستصحاب ، بمعنى أنّ الحالة السابقة كان يوجد فيها نوع واحد من الأحكام ، ولذلك رجّح الشارع الحكم بالبقاء تبعا لأهمّيّة هذا النوع ، على أساس المرجّح الكيفي.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ لأنّ الحالة المحتملة البقاء ليس لها هويّة محدّدة ومشخّصة من جهة نوعيّة الحكم ؛ لأنّها تارة تكون وجوبا ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ورابعة ...

إلى آخره. فلا يمكن أن يكون الترجيح وملاحظة الأهمّيّة بنظر الشارع قائما على أساس الاهتمام بنوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه ليس واحدا ، نظير الحالة المحتملة الحدوث ابتداء ، فإنّها تختلف من حيث نوعيّة الأحكام المحتمل ثبوتها ، ولذلك لا يدخل في الأصول لعدم نوعيّة الحكم المحتمل.

وبعبارة أخرى : أنّ ملاك الأصل - وهو رعاية أهمّيّة المحتمل - يتطلّب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محدّدا ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في أصالة

ص: 169

الحلّ ، ونوع الحكم الإلزامي الملحوظ في أصالة الاحتياط ، وأمّا إذا كان نوع الحكم غير محدّد وقابلا للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ الملاك في الأمارات هو ملاحظة أهمّيّة الكاشف والاحتمال ، وهذا غير محرز في الحالة السابقة ، والملاك في الأصول هو ملاحظة أهمّيّة نوع الحكم المحتمل وهذا يعني افتراض نوع واحد من الأحكام ، كملاحظة نوع الحكم بالترخيص في البراءة أو ملاحظة نوع الحكم بالإلزام في الاحتياط ، وأمّا إذا كان الحكم مختلفا ومتعدّدا كما هو الحال في الحالة السابقة التي تحتمل أوجها متعدّدة من الأحكام فلا يحرز وجود الملاك ، فلا تدخل في الأصول كما لا تدخل في الأمارات.

ومن هنا نواجه مشكلة في هويّة الاستصحاب لا بدّ من حلّها لوجود ثمرات تترتّب على ذلك من أهمّها ثبوت اللوازم العقليّة والتكوينيّة أو عدم ثبوتها.

وحلّ الإشكال : أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام الظاهريّة تقرّر دائما نتائج التزاحم بين الأحكام والملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ عند الاختلاط ، فبالإمكان أن نفترض أنّ المولى قد لا يجد في بعض حالات التزاحم قوّة تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسيّة في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وحلّ الإشكال هو : أنّنا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة سواء الأمارات أم الأصول مجعولة في مقام التزاحم الحفظي عند اختلاط الملاكات والأحكام وعدم تمييزها من أجل إبراز ما هو الأهمّ من هذه الملاكات بنظر الشارع.

إذن فالأحكام الظاهريّة تعالج مسألة التزاحم الحفظي. وعليه فكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة المحتمل ونوع الحكم كما في الأصول ، وكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف كما في الأمارات ، كذلك يمكن أن نفترض الترجيح بشيء آخر لا بنوع المحتمل ولا بقوّة الاحتمال ، وإنّما على أساس وجود نكتة نفسيّة ذاتيّة تقتضي بنظر الشارع ترجيح أحد الحكمين على الآخر عند التزاحم بينهما.

وبتعبير آخر : إذا لم توجد ملاكات الترجيح بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ الاحتمال ، فبالإمكان أن يلجأ الشارع إلى الترجيح على أساس نكات نفسيّة وذاتيّة رآها أنّها تكفي وتصلح لأن تكون ملاكا لترجيح أحد الحكمين على الآخر ، فليس الأمر

ص: 170

محصورا بالملاكين السابقين للترجيح ولبيان الأهمّ ، بل يوجد ملاك آخر أيضا من الممكن أن يفرض الترجيح على أساسه ، ولذلك نقول :

ففي محلّ الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشكّ في البقاء لا يجد أقوائيّة لا للمحتمل إذ لا تعيّن له ، ولا للاحتمال إذ لا كاشفيّة ظنّيّة له ، ولكنّه يرجّح احتمال البقاء لنكتة نفسيّة ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العامّ إلى الأخذ بالحالة السابقة.

ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الأساس عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ؛ لأنّ النكتة النفسيّة ليست هي الداعي لأصل جعله ، بل هي الدخيلة في تعيين كيفيّة جعله.

وفي مقامنا نقول : إنّ الشارع عند ما يجعل الاستصحاب ويتعبّدنا ببقاء الحالة السابقة لا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة قائما على أساس أهمّيّة نوع الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد نوع واحد من الأحكام ؛ لأنّ الحالة السابقة تتناسب مع جميع الأحكام ، ولا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة على أساس قوّة الاحتمال والكاشف ؛ لأنّه لا يوجد كاشفيّة ظنّيّة مفادها أنّ كلّ ما يوجد فهو يبقى.

وهذا يعني أنّ الشارع قد رجّح بقاء الحالة السابقة على أساس ملاكات ونكات نفسيّة ذاتيّة رآها موجودة عند النوع الإنساني ، ولعلّها هي ( الميل العرفي والطبع العامّ على الأخذ بالحالة السابقة ).

إلا أنّ هذه النكتة النفسيّة الذاتيّة النوعيّة لا تجعل الاستصحاب يثبت لنا أحكاما واقعيّة ، بل لا يخرج الحكم المجعول أي نفس الاستصحاب عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ، أمّا كونه حكما ظاهريّا فلأنّ المفروض فيه الشكّ في الحكم الواقعي ، وأمّا كونه طريقيّا فلأنّه مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة فهو طريق إليها.

وأمّا ما ذكر من النكتة النفسيّة فهي وإن كانت دخيلة في كيفيّة جعل الاستصحاب من حيث إنّها المرجّح لأهمّيّة احتمال البقاء ، إلا أنّها ليست هي الداعي والغرض والملاك لجعل الاستصحاب ، إذ الغرض من جعله هو علاج التزاحم الحفظي بين الملاكات ، وهذه النكتة دورها تعيين وترجيح أحد الاحتمالين أي بقاء الحالة السابقة لا ارتفاعها.

ص: 171

وعلى هذا الأساس يكون الاستصحاب أصلا ؛ لأنّ الميزان في الأصل الذي لا تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوّة الاحتمال محضا سواء كان الملحوظ فيه قوّة المحتمل أو نكتة نفسيّة ؛ لأنّ النكتة النفسيّة قد لا تكون منطبقة إلا على المدلول المطابقي للأصل فلا يلزم من التعبّد به التعبّد باللوازم.

وعلى هذا نعرف أنّ الاستصحاب أصل عملي ، ولكنّه ليس أصلا عمليّا محضا وليس أمارة أيضا ، بل هو برزخ بينهما ، والسرّ في ذلك هو أنّ الاستصحاب من جهة يشبه الأمارات ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد من الأحكام وإنّما يثبت به أحكام متعدّدة ومختلفة ، ومن جهة أخرى يشبه الأصول ؛ لأنّه لا يثبت به لوازمه غير الشرعيّة.

ومن هنا يمكننا أن نعطي ضابطا آخر للأصول والأمارات وهو : إن كان الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف فقط كان الحكم الظاهري المجعول إمارة ، وتثبت لوازمه الشرعيّة وغيرها ؛ لأنّ قوّة الكاشف والاحتمال نسبته إلى المدلول المطابقي والالتزامي على حدّ واحد.

وإن لم يكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال ، بل كان بلحاظ نوعيّة الحكم المحتمل أو كان بلحاظ نكات نفسيّة نوعيّة فيكون الحكم الظاهري المجعول أصلا عمليّا ، ولا تكون لوازمه غير الشرعيّة حجّة.

والاستصحاب من القسم الثاني ؛ لأنّ الترجيح فيه لم يكن على أساس قوّة الاحتمال إذ لا ظنّ بالبقاء دائما ، ولا على أساس نوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد ، وإنّما على أساس النكتة النفسيّة ، وهذه النكتة لا تجعل لوازم الاستصحاب غير الشرعيّة حجّة ؛ لأنّه بالإمكان أن يتعبّدنا الشارع بالمدلول المطابقي فقط دون اللوازم الأخرى ما دام لا يوجد كاشفيّة في البين.

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهّم أنّ النقطة السابقة تؤثّر في كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب ، وبالتالي في كيفيّة علاج تعارضه مع سائر الأدلّة.

فإن افترضنا أنّ الاستصحاب أمارة ، وأنّ المعوّل فيه على كاشفيّة الحالة السابقة ، كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليليّة خبر الثقة ، ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الأمارة الاستصحابيّة وما يعارضها من أصالة الحلّ مثلا ،

ص: 172

فيقدّم الاستصحاب بالأخصّيّة على دليل أصالة الحلّ ، كما وقع في كلام السيّد بحر العلوم انسياقا مع هذا التصوّر.

قد يقال : إنّ تحديد هويّة الاستصحاب من كونه أصلا أو أمارة يؤثّر على كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب وعلى كيفيّة علاج التعارض بينه وبين الأدلّة الأخرى ؛ لأنّه يوجد لدينا فرضيّتان :

الفرضيّة الأولى : أن يكون الاستصحاب أمارة فالاستدلال على الحكم الشرعي به يختلف عمّا لو كان أصلا ؛ لأنّه لو كان أمارة فيكون الدليل على الحكم الشرعي هو نفس الاستصحاب كخبر الثقة ، ولو كان أصلا فالدليل على الحكم الشرعي هو الأدلّة والروايات الدالّة على الاستصحاب لا الاستصحاب نفسه ؛ لأنّه يكون حكما شرعيّا تعبّديّا ، هذا من ناحية كيفيّة الاستدلال.

وأمّا من ناحية التعارض بينه وبين سائر الأدلّة وعلاج هذا التعارض ، فقد يقال أيضا - كما عن السيّد بحر العلوم والإمام الخميني - : إنّ الاستصحاب لو كان أمارة بحيث كان الملحوظ فيه قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الحالة السابقة ، فيكون الدليل هو نفس الحالة السابقة ، لأنّها هي الكاشفة عن البقاء ، كما هو الحال في خبر الثقة ، فإنّ الدليل هو كونه ثقة ؛ لأنّ الوثاقة هي الحيثيّة الكاشفة عن الصدق والمطابقة للواقع.

وحينئذ يجب أن تلاحظ النسبة بين نفس الحالة السابقة وبين دليل أصالة الحلّ والبراءة ، كما هو الحال بالنسبة لخبر الثقة حيث تلحظ النسبة بين خبر الثقة وبين الأدلّة الدالّة على أصالة الحلّ والبراءة وغيرهما عند التعارض.

وفي هذه الحالة يتقدّم الاستصحاب بمعنى الحالة السابقة ؛ لأنّه أخصّ من دليل أصالة الحلّ والبراءة ، إذ دليل أصالة الحلّ يشمل كلّ مورد شكّ في حليّته وحرمته سواء كان له حالة سابقة أم لا ، بينما الحالة السابقة التي هي الأمارة الكاشفة لا تجري إلا إذا كان هناك حالة سابقة مشخّصة ، فتكون أخصّ من دليل أصالة الحلّ فتقدّم لذلك.

وإن افترضنا الاستصحاب أصلا عمليّا وحكما تعبّديّا مجعولا في دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقّن عند الشكّ نفس ذلك الدليل ، لا أماريّة الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب وأصالة الحلّ يجب أن تلحظ النسبة بين دليل

ص: 173

الاستصحاب - وهو مفاد رواية زرارة مثلا - ودليل أصالة الحلّ ، وقد تكون النسبة حينئذ العموم من وجه.

الفرضيّة الثانية : أن يكون الاستصحاب أصلا عمليّا فهذا يعني أنّه حكم ظاهري تعبّدي مجعول من الدليل الدالّ عليه ، فيكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ليس الاستصحاب نفسه أو الحالة السابقة ، وإنّما الدليل الدالّ على الاستصحاب.

ولذلك عند التعارض بين الاستصحاب وغيره من الأمارات والأصول لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب - والتي هي الروايات المتقدّمة الذكر كصحيحة زرارة وغيرها - وبين الدليل الدالّ على أصالة الحلّ أو البراءة أو خبر الثقة نفسه ؛ لأنّ التعارض إنّما يكون بين الأدلّة لا بين المؤدّى والمحكي فيها مباشرة.

وحينئذ ، فإذا لاحظنا النسبة بين دليل أصالة الحلّ وبين دليل الاستصحاب ، وجدنا أنّها العموم والخصوص من وجه ؛ وذلك لأنّ دليل أصالة الحلّ يفيد حلّيّة كلّ مشكوك الحلّية والحرمة ، سواء كان له حالة سابقة أم لا ، ودليل الاستصحاب يفيد جريان الاستصحاب في كل مورد له حالة سابقة ، سواء كانت الحالة السابقة هي الحلّيّة أو الحرمة أو شيئا آخر غيرهما كالعدالة والطهارة ونحو ذلك ، فيجتمعان في مشكوك الحلّيّة والحرمة الذي له حالة سابقة ويقع التعارض بينهما ، ولا يتقدّم أحدهما على الآخر بنفسه. نعم ، إذا وجدت المرجّحات الأخرى في أحدهما فيقدّم.

وهذا التوهّم باطل فإنّ ملاحظة نسبة الأخصّيّة والأعمّيّة بين المتعارضين وتقديم الأخصّ من شئون الكلام الصادر من متكلّم واحد خاصّة ، حيث يكون الأخصّ قرينة على الأعمّ بحسب أساليب المحاورة العرفيّة.

ولمّا كانت حجّيّة كلّ ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه ، كان الخبر المتكفّل للكلام الأخصّ مثبتا لارتفاع الحجّيّة عن ظهور الكلام الأعمّ في العموم ، وليست الأخصّيّة في غير مجال القرينيّة ملاكا لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد أنّه إذا دلّت بيّنة على أنّ كلّ ما في الدار نجس ، ودلّت أخرى على أنّ شيئا منه طاهر قدّمت الثانية للأخصّيّة ، بل يقع التعارض إذ لا معنى للقرينيّة مع فرض صدور الكلامين من جهتين.

ويرد على هذا القول : أنّ التقديم بملاك الأخصّيّة والأظهريّة أو التخصيص

ص: 174

والتقييد ، إنّما يكون فيما إذا كان هناك كلام صادر من متكلّم واحد ، دون ما إذا كان الكلام صادرا من متكلّمين أو من جهتين مختلفتين ، وهذا يعني أنّه يشترط وحدة المتكلّم إمّا شخصا وإمّا نوعا.

أمّا شخصا فواضح ، وأمّا نوعا فكالأئمّة المعصومين علیهم السلام ، فإنّ كلام أوّلهم كلام آخرهم.

وعليه فيجب إحراز هذا الأمر ليتمّ التقديم بملاك القرينيّة العرفيّة ، حيث يكون الأخصّ ونحوه من القرائن العرفيّة قرينة على تحديد المراد من العامّ بحسب الفهم العرفي العامّ ، وبحسب ما هو متعارف عليه في المحاورات.

والوجه في ذلك : هو أنّ حجّيّة كلّ ظهور فرع انعقاد ظهور للكلام وعدم وجود قرينة على خلافه ، فما لم ينعقد للكلام ظهور فلا يمكن التمسّك بحجّيّته ، وإذا كان هناك قرينة على خلافه فلا يكون ما ظهر منه سابقا على القرينة حجّة.

وعليه فيكون الكلام الأخصّ ونحوه رافعا لحجّيّة الكلام الأعمّ في العموم ؛ لاختلال شرط الحجّيّة.

ثمّ إنّ هذا التقديم بملاك الأخصّيّة ونحوها إنّما هو بملاك القرينيّة فقط ، ولذلك إذا لم يكن أحد الكلامين قرينة على الآخر فلا يكون الأخصّ مقدّما على الأعمّ ، من قبيل ما إذا قامت بيّنتان إحداهما تثبت نجاسة تمام ما في الدار بينما الأخرى تثبت طهارة أحد المواضع من الدار ، فهنا وإن كانت النسبة بين البيّنتين هي العموم والخصوص المطلق إلا أنّ الخاصّ لا يتقدّم على العامّ ؛ لأنّه ليس قرينة على تحديد المراد من العامّ ؛ لأنّ العامّ صادر من جهة والخاصّ صادر من جهة أخرى لا تتّحد مع الجهة الأولى لا شخصا ولا نوعا ، ولذلك يكون بين البيّنتين تعارض ، ولا مجال للجمع العرفي بينهما ؛ لأنّ مجال الجمع العرفي هو ما يكون قرينة أو ما يصلح للقرينيّة ، وهذا يستلزم صدور الكلام من متكلّم واحد ليكون كلامه مفسّرا بعضه للبعض الآخر.

وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بأماريّة الاستصحاب أو أصليّته ، لا معنى لتقديمه بالأخصّيّة الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الأصل أو دليل حجّيّة الأمارة ، فإن كان أخصّ قدّم بالأخصّيّة ؛

ص: 175

لأنّ مفاد الأدلّة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخصّ من الآخر قدّم بالأخصّيّة.

وبناء عليه نقول : إنّ الاستصحاب سواء قلنا بأنّه أمارة أو أصل ، لا مجال لأن تلحظ النسبة بينه وبين ما يعارضه من أدلّة ليقال بتقديمه بملاك الأخصّيّة ، بل على كلا التقديرين لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على الأصل المعارض له أو الأمارة المعارضة له ، فإن كان أخصّ قدّم بملاك الأخصّيّة ، وإلا فلا. فهنا دعويان :

الأولى : عدم ملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب أو الحالة السابقة وبين ما يعارضه.

الثانية : لزوم ملاحظة النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على معارضه.

أمّا الأولى فلأنّ الاستصحاب أو الحالة السابقة ليست كلاما صادرا من الشارع ، وإنّما هو دليل لإثبات المنجّزيّة أو المعذّريّة مستفاد من الأدلّة الدالّة عليه.

وأمّا الثانية فلأنّ النسبة تلحظ بين الكلامين الصادرين من متكلّم واحد ، وهنا الدليل الدالّ على الاستصحاب كرواية زرارة كلام صادر من الشارع ، والدليل على أصالة الحلّ كرواية ( كلّ شيء حلال حتّى تعلم أو تعرف ... ) كلام صادر من الشارع أيضا ، فيصحّ أن يكون أحدهما قرينة على الآخر لو كان أخصّ منه فيقدّم عليه لملاك الأخصّيّة.

وكذا يمكن أن تلحظ النسبة بين نفس الاستصحاب وبين نفس أصالة الحلّ أو البراءة.

* * *

ص: 176

أركان الاستصحاب

اشارة

ص: 177

ص: 178

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلّته المتقدّمة أربعة أركان وهي :

اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر عملي مصحّح للتعبّد بها.

وسنتكلّم عن هذه الأركان فيما يلي تباعا إن شاء اللّه تعالى.

هناك أربعة أركان للاستصحاب بمعنى أنّ جريانه متوقّف على هذه الأربعة ، فلو اختلّ واحد منها لم يجر الاستصحاب ، لذلك لا بدّ من بسط الحديث حول هذه الأركان لنرى مدى دلالة الروايات عليها ، وأنّه هل يمكن استفادتها من الأدلّة المتقدّمة أم لا؟

وهذه الأركان على ما ذكر المشهور هي :

1 - اليقين بالحدوث ، فلا بدّ أن يكون هناك يقين بحدوث الحالة السابقة ، أي كون الحالة السابقة متيقّنة.

2 - الشكّ في البقاء ؛ لأنّه لو كان البقاء معلوما أو كان الارتفاع معلوما فلا معنى للاستصحاب.

3 - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، أو وحدة الموضوع الذي يتعلّق به الشكّ واليقين ؛ لأنّه لو كان مختلفا وكان لكلّ منهما متعلّق يختلف عن الآخر لم يجر الاستصحاب.

4 - وجود أثر عملي يصحّح التعبّد ببقاء الحالة السابقة عند استصحابها ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي لكان جريان الاستصحاب لغوا لا فائدة منه ، فلا بدّ من كون المستصحب إمّا حكما أو موضوعا لحكم أو جزء موضوع ونحو ذلك ممّا يكون له أثر عملي.

وتفصيل الكلام في هذه الأركان أن يقال :

ص: 179

أ - اليقين بالحدوث

اشارة

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ مجرّد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعليّة الحكم الاستصحابي لها ، وإنّما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ؛ وذلك لأنّ اليقين قد أخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات ، وظاهر أخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعيّة لا الطريقيّة إلى صرف ثبوت الحالة السابقة.

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، وهذا معناه لزوم كون الحالة السابقة متيقّنة ، ومجرّد حدوث الحالة السابقة واقعا لا يكفي لجريان الاستصحاب والتعبّد بالبقاء فعلا ، والوجه عندهم في استفادة هذا الركن هو ظاهر أخذ اليقين في لسان الأدلّة التي دلّت على كبرى الاستصحاب ، كصحاح زرارة ثلاث المتقدّمة حيث ورد فيها « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » أو « ... وقد أحرز الثلاث ».

فهذه الروايات أخذت عنوان اليقين ، وظاهر أخذ اليقين عنوانا أنّه مأخوذ على نحو الموضوعيّة أي كونه جزءا من الموضوع ، فيكون الموضوع مركّبا من الحدوث واليقين ولا يكفي الحدوث فقط ؛ لأنّ الظاهر من أخذ القيد أو العنوان كونه دخيلا في الموضوع واقعا بنفسه ، لا بما هو طريق كاشف ومرآة حاكية عن المتعلّق الذي هو حدوث الحالة السابقة ، فإنّه وإن كان ممكنا ولكنّه على خلاف الظاهر.

وعلى هذا فلا بدّ من اشتراط اليقين بالحدوث ولا يكفي الظنّ بالحدوث أو نفس الحدوث الواقعي من دون يقين به.

نعم ، في رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة علّل الحكم الاستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله : « لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » لا باليقين بها ، وهو ظاهر في ركنيّة المتيقّن لا اليقين.

وتصلح أن تكون قرينة على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقيّة إذا تمّ الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّيّة.

إلا أنّ كلام المشهور يواجه مشكلة ، وهي أنّه ورد في صحيحة ابن سنان تعليل الحكم المستصحب بأنّه كان على طهارة أي بنفس الحدوث لا باليقين بالحدوث ، كما

ص: 180

يظهر من قوله : « لأنّك أعرته إياه وهو طاهر » ، فكان الحكم ببقاء الطهارة الاستصحابيّة مبتنيا على ركنيّة نفس كونه طاهرا في السابق ، وهذا معناه عدم ركنيّة اليقين فلا تكون له موضوعيّة ، بل يكون طريقا كاشفا عن ثبوت الحالة السابقة ، وهذا يعني أنّ كلّ طريق كاشف عن الحدوث والثبوت يقوم مقام اليقين.

وحينئذ فنحن بين أمرين :

إمّا أن تكون رواية ابن سنان قرينة مفسّرة لحمل اليقين في الروايات السابقة على كونه طريقا كاشفا عن الحدوث ، والركن هو نفس حدوث الحالة السابقة في جميع الروايات ، وذكر اليقين كان من أجل المثال الأوضح والأبرز للطريق الكاشف عن الحدوث ، وبالتالي يتمّ الجمع بين الروايات ويكون مفاد الجميع واحدا.

وإمّا ألاّ تصلح هذه الرواية للقرينيّة فيقع التعارض بين الروايات ، والحكم هو التساقط والأخذ بالقدر المتيقّن وهو ركنيّة ( اليقين بالحدوث ) ؛ لأنّ اليقين لا شكّ في أخذه وإنّما الشكّ في أخذ غيره أيضا.

وأمّا إذا لم نأخذ بالقدر المتيقّن فهل يكون لدينا قاعدتان متشابهتان أم لا؟

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المفاد واحد والملاك واحد ، فالعرف يرى وحدة القاعدة وعليه لا بدّ من علاج لهذا التعارض بين الأخبار.

وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنيّة اليقين بالحدوث وهي : أنّه إذا كان ركنا فكيف يمكن إجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالأمارة إذا دلّت الأمارة على حدوثه وشككنا في بقائه؟!

مع أنّه لا يقين بالحدوث ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة ثوب وشكّ في تطهيره ، أو على نجاسة الماء المتغيّر في الجملة وشكّ في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر.

وهنا إشكال بناء على كون الركن هو اليقين بالحدوث ، وحاصله : أنّه إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بغير اليقين كما إذا دلّت الأمارة على ثبوت شيء ، ثمّ شككنا في بقائه ، فهل يمكن إجراء الاستصحاب هنا مع أنّه لا يقين بالحدوث أم لا؟ مع أنّه لا إشكال عندهم إثباتا في جريان الاستصحاب في مثل قيام الأمارة على الحدوث دون الأصل العملي.

ص: 181

مثال ذلك : أن تقوم الأمارة - كخبر الثقة مثلا - على نجاسة الثوب ثمّ يشكّ بعد ذلك في تطهيره ، فهل يجري استصحاب بقاء نجاسته أم لا؟

وكما إذا قامت الأمارة - كخبر الثقة مثلا - على أنّ الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة نجس ، ثمّ شككنا في بقاء هذه النجاسة بعد زوال التغيّر من نفسه ، فهل يجري استصحاب بقاء كونه نجسا أيضا إلى ما بعد زوال التغيّر أم لا؟

وهذا الإشكال لا يرد فيما إذا كان الركن هو الحدوث ، فإنّه كما يتحقّق الحدوث باليقين كذلك يتحقّق بالأمارة ؛ لأنّها معا طريقان معتبران شرعا ، فأحدهما يحقّق الحدوث وجدانا والآخر يحقّقه تعبّدا ، وإذا تحقّق الموضوع ترتّبت عليه الآثار الشرعيّة ومنها جريان الاستصحاب.

وقد أفيد في جواب هذه المشكلة عدّة وجوه :

الوجه الأوّل : ما ذكرته مدرسة المحقّق النائيني - قدس اللّه روحه - (1) من أنّ الأمارة تعتبر علما بحكم لسان دليل حجّيّتها ؛ لأنّ دليل الحجّيّة مفاده جعل الطريقيّة وإلغاء احتمال الخلاف تعبّدا ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي لحكومة دليل حجّيّتها على الدليل المتكفّل لجعل الحكم على القطع.

ومعنى الحكومة هنا أنّ دليل الحجّيّة يحقّق فردا تعبّديّا من موضوع الدليل الآخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الأمارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، وحكومة دليل حجّيّتها على دليله.

وهذا الإشكال وجدت عدّة أجوبة عليه لتخريج قيام الأمارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، بحيث يكون ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين كافيا لجريان الاستصحاب مع الاحتفاظ بركنيّة اليقين بالحدوث ، وأهمّ هذه الوجوه هو :

الوجه الأوّل : ما ذكرته مدرسة الميرزا بناء على تصوّرات الميرزا في حقيقة الحكم الظاهري.

وحاصله : أنّ دليل الحجّيّة مفاده جعل العلميّة والطريقيّة للأمارات ، بخلاف الأصول فإنّ مفاد دليلها جعل الوظيفة العمليّة وتحديدها.

وهذا يعني أنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل الأمارة علما تعبّدا ويلغي احتمال الخلاف

ص: 182


1- فوائد الأصول 3 : 21 - 22.

في موردها ، ولذلك تكون الأمارات على أساس دليل الحجّيّة هذا حجّة كما هو الحال في العلم الوجداني فهي تقوم مقام القطع الطريقي والموضوعي أيضا.

وعلى هذا الأساس فمقتضى جعل الحجّيّة للأمارة هو كونها علما ، وهذا يعني إلغاء الشكّ تعبّدا ، وصيرورة المكلّف عالما بالحدوث تعبّدا.

والسرّ في ذلك هو أنّ أدلّة جعل الحجّيّة للأمارة حاكمة على سائر الأدلّة الأخرى التي أخذ في موضوعها العلم ، ومعنى حكومتها كذلك أنّها توجد فردا تعبّديّا من أفراد الموضوع ، أي أنّها تدّعي وجود فرد آخر من العلم وهو العلم التعبّدي إلى جانب العلم الوجداني ، فكلّ ما أخذ في موضوعه العلم فهو يشمل هذين الفردين.

وعلى هذا فالأمارة التي تثبت نجاسة الثوب تعني أنّ المكلّف صار عالما بنجاسته تعبّدا ، ويجب عليه ترتيب آثار هذا العلم سواء كان على نحو الطريقيّة أم على نحو الموضوعيّة.

ولذلك تكون الأمارة المثبتة للحدوث كالعلم الوجداني المثبّت للحدوث كلاهما يحقّقان اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب ، فيجري الاستصحاب عند الشكّ في البقاء في الحالتين معا ، لتحقّق ركنه وهو اليقين بالحدوث ، فإنّه أعمّ من اليقين الوجداني ومن اليقين التعبّدي الثابت على أساس دليل حجّيّة الأمارة الحاكم على الأدلّة التي جعل الحكم فيها على القطع واليقين والعلم.

وقد تقدّم - في مستهلّ البحث عن الأدلّة المحرزة من هذه الحلقة - المنع عن وفاء دليل حجّيّة الأمارة بإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي ، وعدم صلاحيّته للحاكميّة ؛ لأنّها فرع النظر إلى الدليل المحكوم ، وهو غير ثابت ، فلاحظ.

ويرد عليه : ما تقدّم سابقا في مباحث القطع عند الحديث عن الأدلّة المحرزة من أنّ الأمارات لا تقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يفي بإثبات ذلك فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو قيامها مقام القطع الطريقي ، والسرّ في ذلك أنّ مهمّ أدلّة الحجّيّة هو السيرة العقلائيّة وهي غير قائمة على العمل بالقطع الموضوعي إذ لا وجود له في حياتهم إلا نادرا.

مضافا إلى أنّ حكومة دليل الحجّيّة يحتاج إلى إثبات كونه ناظرا إلى الدليل المحكوم ، وهذا النظر غير محرز في المقام ، فلا تثبت حكومته ، خصوصا وأنّ الدليل

ص: 183

على الحجّيّة هو السيرة وهي غير الشارع فلا تتحقّق الحكومة ؛ لأنّها تختصّ في الكلامين الصادرين من المتكلّم الواحد ؛ لأنّ الحكومة من أقسام القرينيّة المفسّرة للمراد الجدّي كما تقدّم وسيأتي في بحث التعارض.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه (1) وحاصله - على ما قيل في تفسيره - : أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا في دليل الاستصحاب ، بل يكفي في جريان الاستصحاب الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث والثبوت وإن لم يحرز ثبوته وحدوثه ، فيتعبّد بالبقاء على هذا التقدير.

وهذا يستفاد من أدلّة الاستصحاب حيث إنّ مفادها هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، أي أنّ ما كان ثابتا فهو باق تعبّدا ، فالثبوت كما يتحقّق بالعلم كذلك يتحقّق بالأمارة ؛ لأنّ اليقين المأخوذ في لسان الدليل مأخوذ على نحو المرآتيّة والكاشفيّة ، وهذه الجهة لليقين لا إشكال في قيام الأمارة مقامه فيها ؛ لأنّ المتيقّن من دليل حجّيّتها هو قيامها مقام القطع الطريقي ، أي ما يكون طريقا وكاشفا ومرآة عن الحكم الواقعي.

فكأنّه قال : ما قامت عليه الحجّة ثبوتا فهو باق تعبّدا على أساس أنّ دليل الاستصحاب يتعبّدنا بالملازمة ابتداء بين الحدوث والبقاء.

وقد اعترض السيّد الأستاذ (2) على ذلك ، بأنّ مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة الواقع لزم كونه دليلا واقعيّا على البقاء ، وهو خلف كونه أصلا عمليّا ، ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز فكلّما تنجّز الحدوث تنجّز البقاء ، لزم بقاء بعض أطراف العلم الإجمالي منجّزة حتّى بعد انحلاله بعلم تفصيلي ؛ لأنّها كانت منجّزة حدوثا ، والمفروض أنّ دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجّز.

وأشكل عليه السيّد الخوئي بما حاصله : أنّ الملازمة بين الحدوث والبقاء التي

ص: 184


1- كفاية الأصول : 460 - 461.
2- مصباح الأصول 3 : 97 - 98.

يتعبّدنا بها دليل الاستصحاب لا معنى محصّل لها ؛ لأنه إن كان المقصود من هذه الملازمة هو الملازمة الواقعيّة بين الحدوث والبقاء ، فيكون المراد من التعبّد الاستصحابي حينئذ أنّ ما كان حادثا واقعا فهو باق واقعا ، فهذا معناه أنّ الاستصحاب أصبح كاشفا تعبّديّا عن الواقع على أساس هذه الملازمة ، وهذا يجعله داخلا ضمن الأمارات التي تجعل من أجل حيثيّة الكشف فيها.

وهذا خلف كون الاستصحاب أصلا عمليّا ، إذ كونه أصلا يعني أنّه لا يوجد كشف فيه عن الواقع.

وإن كان المقصود من هذه الملازمة هو الملازمة الظاهريّة أي مرحلة التنجّز ، فيكون المراد من التعبّد بهذه الملازمة هو أنّ كلّ ما قام عليه المنجّز ظاهر حدوثا وثبوتا فهو باق على منجّزيّته تعبّدا واستصحابا ، فإذا قامت الأمارة ونحوها ممّا يثبت المنجّزيّة ثبوتا وحدوثا فهذا المنجّز باق تعبّدا فيما إذا شكّ في بقاء منجّزيّته.

إلا أنّ هذا يلزم منه أن تكون أطراف العلم الإجمالي منجّزة بقاء حتّى مع انحلال هذا العلم بعلم تفصيلي ببعض الأطراف ؛ لأنّ المفروض أنّها منجّزة حدوثا بالعلم الإجمالي ويشكّ بعد انحلاله في بقاء منجّزيّتها فتستصحب.

فلو قام لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، فهذا يعني ثبوت المنجّزيّة لهما على أساس منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، ثمّ لو قام لدينا علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء بعينه فهنا سوف ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء وشكّ في نجاسة الآخر.

وهنا بمقتضى ما تقدّم في بحث العلم الإجمالي تجري الأصول المؤمّنة في الإناء الآخر ، وبالتالي يخرج عن المنجّزيّة ، إلا أنّه بناء على كون الاستصحاب يعبّدنا ببقاء ما تنجّز سابقا على أساس الملازمة الظاهريّة بين الحدوث والبقاء فسوف يكون هذا الإناء منجّزا بقاء أيضا ؛ لأنّه كان منجّزا سابقا ويشكّ في بقاء هذه المنجّزيّة لاحقا وبقاء بعد زوال العلم الإجمالي فيجري استصحاب المنجّزيّة. إلا أنّ هذا لا يلتزم به أحد.

وعليه فلم يتحصّل معنى لهذه الملازمة التي يجعلها الشارع ويعبّدنا بها.

وهذا الاعتراض غريب ؛ لأنّ المراد بالملازمة بين الحدوث الواقعي

ص: 185

والبقاء الظاهري ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى التعبّد بالبقاء منوطا بالحدوث ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر.

ويجاب عن هذا الإشكال : بأنّ الملازمة الثابتة تعبّدا بين الحدوث والبقاء ليست هي الملازمة الواقعيّة وليست هي الملازمة الظاهريّة أيضا ، وإنّما هي الملازمة بين الحدوث الواقعي وبين البقاء الظاهري.

بمعنى أنّ ما كان ثابتا واقعا وشكّ في بقائه فهو باق ظاهرا ، وبالتالي يكون مفاد التعبّد الاستصحابي بهذه الملازمة هو التعبّد بالبقاء ظاهرا مشروطا بثبوت الحدوث واقعا.

وعليه فلا يلزم كون الاستصحاب أمارة ؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقع ولا يكشف عنه ، بل يثبت بقاء المنجّزيّة ظاهرا وهذا المقدار يفي به الأصل العملي.

ولا يلزم منه النقض المذكور ؛ لأنّ العلم الإجمالي بعد انحلاله بالعلم التفصيلي يعني زوال المنجّز الواقعي عن الطرف الآخر ، فلا يكون هناك منجّز لهذا الطرف بعد الانحلال لكي يتعبّد ببقائه ظاهرا ؛ لأنّ هذا الطرف بعد الانحلال صار مشكوكا بدوا ، وهذا يعني عدم تنجّزه بعد الانحلال فلا يجري استصحاب بقاء التنجّز ؛ لأنّه يعلم بارتفاعه عنه بعد الانحلال.

فهذا الإشكال نشأ من تحديد معنى الملازمة بأحد هذين الاحتمالين مع أنّه يوجد احتمال ثالث لهذه الملازمة وهو ما ذكرناه ، وعلى هذا الأساس فلا إشكال في معنى الملازمة على فرض استظهارها من دليل الاستصحاب.

والصحيح أن يقال : إنّ مردّ هذا الوجه إلى إنكار الأساس الذي نجمت عنه المشكلة - وهو ركنيّة اليقين - المعتمدة على ظهور أخذه إثباتا في الموضوعيّة ؛ فلا بدّ له من مناقشة هذا الظهور وذلك بما ورد في ( الكفاية ) (1) من دعوى : أنّ اليقين باعتبار كاشفيّته عن متعلّقه يصلح أن يؤخذ بما هو معرّف ومرآة له ، فيكون أخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الأساس ، ومرجعه إلى أخذ الحالة السابقة.

وهذه الدعوى لا بدّ أن تتضمّن ادّعاء الظهور في المعرفيّة ؛ لأنّ مجرّد إبداء

ص: 186


1- كفاية الأصول : 461.

احتمال ذلك بنحو مساو للموضوعيّة يوجب الإجمال وعدم إمكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين.

والصحيح أن يقال : إنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من عدم ركنيّة اليقين بالحدوث ، وإنّما التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء ، مرجعه في الحقيقة إلى إنكار كون اليقين بالحدوث ركنا مقوّما للاستصحاب بحيث يكون دخيلا فيه على نحو الموضوعيّة ، وإنّما أخذ في لسان الروايات بما هو طريق وآلة ومعرّف وكاشف عن متعلّقه ، ولذلك فلا موضوعيّة لليقين ؛ لأنّ غيره من الطرق يؤدّي الدور نفسه من الكشف عن متعلّقه والطريقيّة إليه ، ولذلك يكون مراد صاحب ( الكفاية ) من هذا الوجه إثبات أنّ الركن هو نفس الحالة السابقة والحدوث ، ولا مدخليّة لليقين في ذلك ، ومن هنا تقوم الأمارة بنفس الدور المطلوب من اليقين.

وهذه الدعوى لا يكفي فيها مجرّد الاحتمال ، بل لا بدّ من استظهار كون اليقين المأخوذ في الروايات مأخوذا على نحو الطريقيّة والكاشفيّة والمرآتيّة ، إذ لو لم يستظهر ذلك وكان يحتمل كلا الأمرين ، فمع الشكّ سوف يقتصر على القدر المتيقّن وهو دخالة اليقين بنفسه في الاستصحاب ، وأمّا الأمارة فهي مشكوكة في أنّها تقوم بنفس الدور أم لا من جهة الشكّ والاحتمال في أنّ اليقين موضوع أو طريق.

وبهذا ظهر أنّ الوجه الذي يريده صاحب ( الكفاية ) هو أنّ اليقين بالحدوث ليس ركنا من باب دعوى استظهار أنّ اليقين المأخوذ في لسان أدلّة الاستصحاب هو اليقين الطريقي ، أي ما يكون كاشفا ومرآة وطريقا لا اليقين الموضوعي.

ولذلك تقوم الأمارة الدالّة على الحدوث بنفس ما يقوم به اليقين الدالّ على الحدوث ؛ لاشتراكهما معا في صفة الكاشفيّة والمرآتيّة والطريقيّة.

وأمّا ما ذكره من كون الاستصحاب يعبّدنا بالملازمة بين الحدوث والبقاء على تقدير الحدوث فهذا لا يعني إلغاء ركنيّة الحدوث ، بل يعني التعبّد بالبقاء على تقدير ثبوت الحدوث ، فإذا كان الحدوث ثابتا فعند الشكّ يكون باقيا أيضا تعبّدا.

ويرد عليها : أنّ المقصود بما ادّعي إن كان إبراز جانب المرآتيّة الحقيقيّة لليقين بالنسبة إلى متيقّنه ، فمن الواضح أنّها إنّما تثبت لواقع اليقين في أفق نفس المتيقّن الذي يرى من خلال يقينه متيقّنه دائما ، وليست هذه المرآتيّة ثابتة لمفهوم اليقين ،

ص: 187

فمفهوم اليقين كأيّ مفهوم آخر إنّما يلحظ مرآة إلى أفراده لا إلى متيقّنه ؛ لأنّ الكاشفيّة الحقيقيّة التي هي روح هذه المرآتيّة من شئون واقع اليقين لا مفهومه.

ويرد على ذلك : أنّ اليقين المعرّف والمرآة عن المتعلّق يحتمل فيه أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من اليقين بما هو صفة من الصفات القلبيّة النفسانيّة أي من المعاني ذات الإضافة التي تحتاج إلى متعلّق ، فيكون اليقين حاكيا ومرآة لمتعلّقه حقيقة وواقعا ؛ لأنّه لا ينفكّ عنه.

فهذا وإن كان صحيحا ولكنّه يصدق على اليقين بالحمل الشائع لا اليقين بالحمل الأوّلي.

وتوضيحه : أنّ اليقين إن لوحظ بالحمل الأوّلي فهو مفهوم يتصوّره الذهن بنحو الاستقلاليّة عن متعلّقه كسائر المفاهيم التي يتصوّرها الذهن ، فمفهوم الإنسان مثلا عبارة عن تلك الصورة الذهنيّة التي تمثّل حقيقة الإنسان التي يتركّب منها وهي الحيوان الناطق ، وهكذا مفهوم اليقين الذي يتصوّره الذهن بالحمل الأوّلي عبارة عن تلك المرتبة من التصديق والإذعان النفسي والتي هي صفة قلبيّة.

وأمّا إن لوحظ بالحمل الشائع أي بواقعه فاليقين يحتاج دائما إلى المتعلّق ، وعليه فالذي يحصل له يقين فهو يرى من خلال يقينه هذا المتعلّق أي المتيقّن ، فيكون اليقين حاكيا ومرآة للمتيقّن ، كما هو الحال بالنسبة لواقع الإنسان فإنّه يحكي عن الأفراد الخارجيّة كزيد وعمرو ... فيرى الإنسان في زيد كما يرى اليقين في المتيقّن.

وهذا يعني أنّ المرآتيّة والحكاية صفة لليقين بما هو ملحوظ بالحمل الشائع ، أي واقع اليقين لا مفهوم اليقين ، بينما في مقامنا المأخوذ في لسان الروايات هو اليقين كمفهوم ، أي تلك الصورة الذهنيّة المتصوّرة بنحو الاستقلاليّة ، وهذه لا حكاية لها عن المتيقّن وليست مرآة له ، ولذلك لا يصحّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من المرآتيّة والحكاية ؛ لأنّها تثبت لليقين بالحمل الشائع أي بواقعه ، ولذا لا يمكن ترتيب المرآتيّة والحكاية على مفهوم اليقين.

ويدلّ على ذلك أنّ الظاهر من ألسنة الروايات أنّ اليقين المذكور فيها هو مفهوم اليقين ، أي تلك الصفة التي لها استحكام في النفس ، ولذلك يكون العمل بالشكّ

ص: 188

نقضا لليقين أي ينقض ما هو مستحكم ومبرم ، لا أنّه ينقض المتعلّق والمتيقّن فإنّه ثابت في أفق نفس المتيقّن حتّى لو كان خطأ وغلطا.

ولذلك لا يكون اليقين طريقا وكاشفا ومرآة ، بل تلك الصفة النفسانيّة فيكون اليقين موضوعيّا.

وإن كان المقصود أخذ اليقين معرّفا وكناية عن المتيقّن فهو أمر معقول ومقبول عرفا ، ولكنّه بحاجة إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك لا خاصّة ولا عامّة ، أمّا الأولى فانتفاؤها واضح ، وأمّا الثانية فلأنّ القرينة العامّة هي مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة وهي لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض.

الثاني : أن يكون المراد من اليقين المتيقّن ، بمعنى أنّ اليقين الوارد في ألسنة الروايات قد أخذ معرّفا عن المتيقّن بنحو الكناية والتي هي من أفراد المجاز بسبب علاقة الإضافة بينهما.

فهذا وإن كان معقولا في نفسه إذ لا محذور في إطلاق اليقين وإرادة المتيقّن على أساس ملاحظة اليقين بالحمل الشائع ، ومقبولا في العرف على أساس أنّ أهل اللغة والمحاورات العرفيّة يستعملون مثل ذلك من باب المجاز والكناية للمناسبة والعلاقة بين الأمرين.

إلا أنّ إرادة هذا المعنى من الروايات الدالّة على الاستصحاب تحتاج إلى وجود قرينة معيّنة لهذا الاستظهار ، إذ المستظهر بدوا من هذه الألسنة التي ورد اليقين فيها كونه بما هو صفة استحكام في النفس ، أي بما هو ملحوظ بالحمل الأوّلي كمفهوم ذهني يتصوّر مستقلاّ عن متعلّقه.

وهذه القرينة المدّعاة إمّا أن تكون قرينة خاصّة ، وإمّا عامّة ، وكلاهما منتف هنا.

أمّا القرينة الخاصّة فانتفاؤها واضح ؛ إذ لا يوجد في الروايات التي ذكرت كبرى الاستصحاب ما يدلّ على أنّه مأخوذ بالحمل الشائع ، أي حاكيا عن متعلّقه وكناية عن المتيقّن.

وأمّا القرينة العامّة فهي وحدة المناط أو مناسبات الحكم والموضوع ، والتي هي من القرائن العرفيّة العامّة التي تعطي ضوءا وتفسيرا للمقصود والمراد الجدّي في كلام المتكلّم ، والتي من شأنها التوسعة أو التضييق أيضا.

ص: 189

وفي مقامنا حيث ورد « لا تنقض اليقين بالشكّ » فكما يمكن على أساس مناسبات الحكم والموضوع أن يكون المراد من اليقين هو المتيقّن ؛ لكون التعبير بهذا اللفظ تعبيرا عما هو مركوز في الذهن العرفي ، والذي لا يأبى حمل اليقين على المتيقّن ، فكذلك يمكن أن تكون هذه المناسبة بين الحكم والموضوع معيّنة لكون اليقين المذكور في الروايات هو اليقين الموضوعي ، أي يكون له موضوعيّة في نفسه.

لأنّ الشكّ الذي يحرم أن يكون ناقضا لليقين هو تلك الصفة التي تحدث في النفس من التردّد والحيرة ، لا الشكّ بمعنى المشكوك ، إذ المشكوك لا ينقض المتيقّن ؛ لأنّهما أمران تكوينيّان خارجيّان متحقّقان بالفعل ، ولا يمكن لأحدهما أن يرفع الآخر وينقضه.

وإنّما يكون الشكّ بعنوانه ناقضا لليقين بعنوانه أيضا ، فإنّهما من الصفات النفسانيّة القلبيّة التي تتوارد على النفس فيكون أحدهما ناقضا للآخر وهادما له وحالاّ مكانه ، وبهذا يتعيّن حمل اليقين على معناه الأوّلي أي الصورة الذهنيّة بالحمل الأوّلي.

مضافا إلى أنّ اليقين يختلف عن العلم ، فإنّه يشتمل على الاستحكام والتصديق والإذعان بخلاف العلم ، فإنّه عبارة عن الصورة الذهنيّة التي تقبل التصديق والإذعان ، فالتعبير باليقين ظاهر ، بل نصّ في الموضوعيّة لا الطريقيّة والمرآتيّة.

وكان الأولى بصاحب ( الكفاية ) أن يستند في الاستغناء عن ركنيّة اليقين إلى ما لم يؤخذ في لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب.

فالأفضل والأحسن أن يستند صاحب ( الكفاية ) في إلغاء ركنيّة اليقين بالحدوث إلى الروايات التي ذكرت نفس الحدوث والحالة السابقة ، لا إلى ما ذكره من تفسير لليقين فإنّه غير تامّ في نفسه ، ولا يحلّ مشكلة تخريج جريان الاستصحاب في الموارد التي يثبت الحدوث فيها بالأمارة.

الوجه الثالث : أنّ اليقين وإن كان ركنا للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه في الموضوعيّة إلا أنّه مأخوذ بما هو حجّة ، فيتحقّق الركن بالأمارة المعتبرة أيضا باعتبارها حجّة.

الوجه الثالث : ما اختاره مشهور المحقّقين بعد صاحب ( الكفاية ) من أنّ اليقين بالحدوث ركن في الاستصحاب لدلالة ظاهر أخذه في الروايات على كونه مأخوذا

ص: 190

بنحو الموضوعيّة ، فلا بدّ من أن يكون دخيلا بعنوانه في الاستصحاب ، إلا أنّ اليقين له جهات أربع ، وهي :

1 - جهة الصفتيّة والتي هي الإذعان والتصديق القلبي.

2 - جهة الكاشفيّة والطريقيّة عن المتعلّق.

3 - جهة المحرّكيّة والباعثيّة نحو الغرض أو المقصود.

4 - جهة المنجّزيّة والمعذّريّة أي الحجّة.

وهنا اليقين مأخوذ بما هو حجّة ومنجّز للحالة السابقة والحدوث ؛ لأنّ هذا هو المهمّ من جهات اليقين ، ولذلك فيكون مأخوذا بما هو مصداق لعنوان الحجّة ، وعليه فالأمارة الدالّة على الحدوث تكفي لجريان الاستصحاب أيضا ؛ لأنّها تحقّق مصداقا آخر لعنوان الحجّة.

وهذا يعني الورود أي أنّ دليل حجّيّة الأمارات يكون واردا على الحكم الذي أخذ في موضوعه اليقين بمعنى الحجّة ؛ لأنّه يوجد فردا حقيقيّا من أفراد الحجّة.

وهنا لا يشترط النظر أو إحرازه ؛ لأنّ الورود أمر تكويني واقعي سواء كان الدليل ناظرا إليه أم لا ؛ لأنّ الأمر الواقعي يتحقّق بوجود سببه وعلّته ولا يشترط معرفة المتكلّم بذلك.

والحاصل النهائي أن يقال : إنّ مفاد دليل الاستصحاب على هذا المعنى هو ( لا تنقض الحجّة بالشكّ ) ، وكما أنّ اليقين يكون مصداقا للحجّة فكذلك الأمارة تحقّق مصداقا حقيقيّا للحجّة ، فتكون الأمارة الدالّة على الحدوث دالّة على حدوث الحجّة كاليقين ، وهذه الحجّة يتعبّدنا الاستصحاب ببقائها وعدم جواز نقضها.

ويختلف هذا الوجه عن سابقه بالاعتراف بركنيّة اليقين ، وعن الأوّل بأنّ دليل حجّيّة الأمارة على هذا يكون واردا على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه يحقّق فردا من الحجّة حقيقة ، وأمّا على الوجه الأوّل فدليل الاستصحاب حاكم لا وارد.

والفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين السابقين هو : أنّ هذا الوجه يعترف بركنيّة اليقين بالحدوث ، لكنّه يعطي اليقين معنى يشمل الأمارة أيضا وهو الحجّة.

بينما الوجه الثاني أنكر ركنيّة اليقين بالحدوث على أساس أنّ اليقين الوارد في لسان الأدلّة هو ما يكون مرآة وكاشفا وطريقا إلى المتعلّق والمتيقّن ، وهذا ما يشمل

ص: 191

الأمارات أيضا فيكون التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء ؛ لأنّ العمدة على الحدوث والثبوت للحالة السابقة لا على اليقين بها.

وهذا الوجه يعتبر أنّ دليل حجّيّة الأمارات وارد على دليل الاستصحاب ؛ لأنّ المأخوذ في دليل الاستصحاب هو اليقين كمصداق للحجّة ، فالموضوع في الحقيقة هو ما يكون حجّة ، واليقين يحقّق هذا الموضوع باعتباره فردا ومصداقا حقيقيّا له ، وكذلك دليل الأمارة الذي يعتبر الأمارة حجّة شرعا مفاده جعل المنجّزية والمعذّريّة حقيقة فهي فرد ومصداق للحجّة حقيقة ولكن بلسان التعبّد.

بينما على الوجه الأوّل كان دليل حجّيّة الأمارات حاكما على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه كان يوجد فردا تعبّديّا من أفراد العلم ، فهو ينظر إلى الأحكام التي أخذ في موضوعها العلم ويوسّع دائرتها لتشمل العلم الوجداني والعلم التعبّدي أيضا ، ولذلك نحتاج هنا إلى إحراز النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم بخلاف الورود ، فإنّه لا يحتاج إلى النظر.

ويرد على هذا الوجه : أنّ ظاهر أخذ شيء كونه بعنوانه دخيلا ، فحمله على دخل عنوان جامع بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.

ويرد على هذا الوجه : أنّ أخذ شيء موضوعا ظاهره كون هذا الشيء بنفسه وبعنوانه الخاصّ هو الدخيل في هذا الموضوع ، لا أنّه دخيل في الموضوع بما هو مصداق وفرد من عنوان آخر لم يذكر ولم تدلّ عليه قرينة.

نعم مع وجود القرينة اللفظيّة أو اللبّيّة على ذلك يمكن الأخذ به ، إلا أنّ هذه القرينة منتفية في المقام ؛ لأنّ القرينة اللفظيّة غير موجودة ، والقرينة اللبّيّة التي يمكن ادّعاؤها هنا هي كون العرف لا يفرّق بين اليقين وغيره من الطرق المعتبرة شرعا لإثبات التنجيز كالأمارة ، إلا أنّها في خصوص المقام لا يمكن قبولها ، وذلك للفرق بين اليقين والعلم ، فإنّ العلم يمكن فيه هذه الدعوى دون اليقين المشتمل على التصديق والإذعان دون العلم.

ولأنّ الشكّ المقابل لليقين لا يمكن حمله إلا على ما يقابل اليقين من مراتب الكشف والتصديق الشامل للظنّ أيضا ، إذ حمله على ما يقابل الحجّة يلزم منه رفع اليد عن اليقين عند تحقّق حجّة على التنجيز ، وهذا يشمل الأصول أيضا ولا يمكن الالتزام به.

ص: 192

والتحقيق أن يقال : إنّ الأمارة تارة تعالج شبهة موضوعيّة كالأمارة الدالّة على نجاسة الثوب ، وأخرى شبهة حكميّة كالأمارة الدالّة على نجاسة الماء المتغيّر ، وعلى التقديرين تارة ينشأ الشكّ في البقاء من شبهة موضوعيّة كما إذا شكّ في غسل الثوب أو زوال التغيّر ، وأخرى ينشأ من شبهة حكميّة كما إذا شكّ في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف أو ارتفاع النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه ، فهناك إذن أربع صور :

والتحقيق في الجواب عن الإشكال المذكور أن يقال : إنّ الأمارة تارة تعالج شبهة موضوعيّة ، وأخرى شبهة حكميّة هذا من جهة الحدوث ، وأمّا من جهة الشكّ في البقاء فهو تارة ينشأ من شبهة موضوعيّة ، وأخرى من شبهة حكميّة ، فهنا صور أربع :

الأولى : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة أيضا ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الثوب ثمّ شكّ في تطهيره بالماء أو عدم تطهيره.

الثانية : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر بالنجس ، ثمّ شكّ في بقاء التغيّر أو عدم بقائه.

الثالثة : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة حكميّة ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الثوب ثمّ غسل بالماء المضاف وكان حصول التطهير بالماء المضاف مشكوكا ، أي لا يعلم هل يكفي لحصول الطهارة أم لا؟

الرابعة : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون منشأ الشكّ في البقاء شبهة حكميّة أيضا ، كما إذا قامت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر بالنجس ثمّ شكّ في ارتفاع النجاسة عن الماء لمجرّد زوال التغير من نفسه ، أي أنّ ارتفاع التغيّر هل يكفي في حصول الطهارة أم لا؟

وسوف نتحدّث عن كلّ صورة لنرى أنّ الأمارة هل تكفي في جريان الاستصحاب أم لا؟

الأولى : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة

ص: 193

موضوعيّة أيضا ، كما إذا أخبرت الأمارة بتنجّس الثوب وشكّ في طروّ المطهّر.

وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعيّة ليرد الإشكال القائل بأنّه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين :

الصورة الأولى : أن تقوم الأمارة على شبهة موضوعيّة كما إذا شكّ في نجاسة الثوب فأخبرت الأمارة كخبر الثقة مثلا بأنّ الثوب متنجّس ، ثمّ شكّ في بقاء النجاسة بنحو الشبهة الموضوعيّة أيضا بأن شكّ في أنّ هذا الثوب المتنجّس هل طهّر بالماء أم لا؟

والوجه في كون الشبهة موضوعيّة حدوثا وبقاء هو أنّ الموضوع المشكوك جزئي متشخّص في الخارج ، والحكم معلوم فيهما أيضا فإنّ ملاقاة الشيء للنجس يسبّب النجاسة وتطهيره بالماء يرفعها أيضا ولا شكّ فيهما.

فهنا إذا أردنا استصحاب بقاء نجاسة الثوب الثابتة بالإمارة جرى الإشكال ؛ لأنّها ليست متيقّنة ، فنحتاج إلى إحدى التخريجات المذكورة ، إلا أنّه بالإمكان التعويض عن هذا الاستصحاب بإجراء استصحاب آخر بأحد وجهين لا يرد عليهما الإشكال ، وبالتالي لا نحتاج إلى ما ذكر من التخريجات ، وذلك بأن يقال :

الأوّل : أن نجري الاستصحاب الموضوعي ، فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح أنّ نجاسة الثوب مترتّبة شرعا على موضوع مركّب من جزءين :

أحدهما ملاقاته للنجس ، والآخر عدم طروّ الغسل عليه.

والأوّل ثابت بالإمارة والثاني بالاستصحاب ؛ لأنّ أركانه فيه متوفّرة بما فيها اليقين بالحدوث ، فيترتّب على ذلك بقاء النجاسة شرعا.

النحو الأوّل : أن نجري الاستصحاب الموضوعي ، أي استصحاب عدم غسل الثوب بالماء ، أو عدم طروّ المطهّر للثوب ، فإنّ أركان هذا الاستصحاب تامّة ، أمّا اليقين بعدم غسل الثوب بالماء فهو ثابت للشكّ في تطهير الثوب بعدم قيام الأمارة على تنجّسه ، فإنّه يعلم قبل طروّ هذا الشكّ بأنّ الثوب لم يغسل بالماء ، وأمّا الشكّ في البقاء فهو ثابت وجدانا أيضا ؛ لأنّه يشكّ في تطهيره بالماء أي أنّه يشكّ في غسله بالماء ، فيستصحب عدم غسله بالماء.

وهذا الاستصحاب يحقّق أحد جزأي موضوع نجاسة الثوب ؛ لأنّ نجاسة الثوب

ص: 194

موضوعها مركّب من جزءين : أحدهما : ملاقاة الثوب للنجس ، والآخر : عدم غسل الثوب بالماء ، أو عدم طروّ المطهّر عليه.

والجزء الأوّل وهو الملاقاة ثابت بقيام الأمارة على حدوث النجاسة للثوب.

والجزء الثاني وهو عدم الغسل أو عدم طروّ المطهّر ثابت بالاستصحاب الموضوعي المذكور لتماميّة أركانه.

فتكون النتيجة حينئذ هي بقاء نجاسة الثوب ، وهي نفس النتيجة المتوخّاة من إجراء استصحاب بقاء النجاسة الحادثة بالأمارة ، والتي يرد عليها الإشكال المتقدّم.

الثاني : أنّ الأمارة التي تدلّ على حدوث النجاسة في الثوب تدلّ أيضا بالالتزام على بقائها ما لم يغسل ؛ لأنّنا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء ما لم يغسل ، فما يدلّ على الأوّل بالمطابقة يدلّ على الثاني بالالتزام.

ومقتضى دليل حجّيّة الأمارة التعبّد بمقدار ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، فإذا شكّ في طروّ الغسل كان ذلك شكّا في انتهاء أمد البقاء التعبّدي الثابت بدليل الحجّيّة فيستصحب ؛ لأنّه معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

النحو الثاني : أنّ يقال : إن الأمارة الدالّة على الحدوث بالمطابقة تدلّ على البقاء بالالتزام ، وحيث إنّ دليل حجّيّة الأمارة يعبّدنا بالحدوث وبما يترتّب عليه من لوازم شرعيّة فهو يعبّدنا بالبقاء أيضا ، فإذا شكّ في البقاء جرى استصحابه. وتوضيح ذلك : أنّ خبر الثقة يدلّ على نجاسة الثوب أي ملاقاته للنجس ، وهذا مدلول مطابقي ، ويوجد مدلول التزامي مفاده أنّ هذه النجاسة باقية ومستمرّة في عمود الزمان ما لم يعلم بارتفاعها بطروّ المطهّر للثوب ، وهذا المدلول الالتزامي حجّة تعبّدا كالمدلول المطابقي ؛ لأنّ مداليل الأمارات حجّة كما تقدّم في محلّه.

وعليه فنحن على علم وجدانا بالملازمة بين الحدوث والبقاء أي نعلم بأنّه توجد ملازمة بين حدوث النجاسة وبين بقائها ما لم ترتفع بالمطهّر والغسل بالماء ، فإذا شككنا في طروّ المطهّر على الثوب ، فهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ تلك الملازمة بين الحدوث والبقاء هل ارتفعت وانتهى أمدها أم أنّها لا تزال مستمرّة وباقية؟

وحينئذ نجري استصحاب الملازمة ؛ لأنّها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء ، وتكون النتيجة أنّ النجاسة لا تزال باقية في الثوب تعبّدا على أساس الاستصحاب ، وهذا

ص: 195

استصحاب للنجاسة الظاهريّة المغيّاة بالغسل بسبب الشكّ في حصول الغسل.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من استصحاب نفس النجاسة الحادثة بالأمارة ، والتي يرد عليها ما تقدّم من إشكال ، والتي تحتاج إلى إحدى التخريجات المذكورة آنفا.

الثانية : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة موضوعيّة ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر وشكّ في بقاء التغيّر.

وهنا يجري نفس الوجهين السابقين ، حيث يمكن استصحاب التغيّر ، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهريّة المغيّاة بارتفاع التغيّر للشكّ في حصول غايتها.

الصورة الثانية : أن تقوم الأمارة على شبهة حكميّة ، كما إذا أخبر الثقة : ( بأنّ الماء إذا تغيّر بأوصاف النجاسة فهو يتنجّس ) ، ثمّ يشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعيّة ، بأن شكّ في بقاء التغيّر أو زواله عن الماء المتغيّر.

وهنا الحدوث الثابت بالأمارة عبارة عن شبهة حكميّة ؛ لأنّ الأمارة تخبر عن حكم كلّي على موضوع كلّي وهو : ( أنّ كلّ ماء تغيّر بأوصاف النجاسة فهو يتنجّس ) فإنّ هذه قضيّة كلّيّة بموضوعها ومحمولها ، وهي ليست موجودة في الخارج بكلّيّتها ، وإنّما في عالم التشريع والجعل.

وأمّا البقاء المشكوك فهو هذا الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة بالفعل هل زال عنه التغيّر أم لا؟ فهو شبهة موضوعيّة ؛ لأنّ الموضوع متشخّص وجزئي وموجود فعلا في الخارج.

فإذا أردنا استصحاب نفس النجاسة الحادثة عند التغيّر فيرد الإشكال ؛ لأنّها غير متيقّنة إذ حدوثها كان ثابتا بالأمارة لا باليقين ، ولذلك نجري الاستصحاب بأحد الوجهين السابقين :

الأوّل : الاستصحاب الموضوعي أي الاستصحاب الذي يحقّق لنا أحد جزأي موضوع الحكم بالنجاسة ، وهو استصحاب بقاء التغيّر المعلوم عند قيام الأمارة على التغيّر ، والمشكوك بقاؤه بسبب الشكّ في زوال التغيّر.

ومع استصحابه يتحقّق أنّ التغيّر لا يزال ثابتا وباقيا ، والجزء الآخر وهو ملاقاة الماء

ص: 196

للنجس ثابتة بالأمارة ، فيتنقّح كلا الجزءين للحكم بالنجاسة ؛ لأنّ موضوعها مركّب من ملاقاة الشيء للنجس ، وبقاء التغيّر بأوصاف النجاسة.

الثاني : الاستصحاب الظاهري أي استصحاب النجاسة الثابتة ظاهرا على أساس الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فإنّ دليل الأمارة كما يعبّدنا بالحدوث فهو يعبّدنا بالبقاء على أساس حجّيّة المدلولين المطابقي والالتزامي معا ، وهنا المدلول المطابقي هو حدوث التغيّر للماء ونجاسته ، والمدلول الالتزامي هو بقاء النجاسة ما لم يعلم بارتفاعها بزوال التغيّر ، وحيث يشكّ في زوال التغيّر فهذا يعني الشكّ في حصول الغاية التي تنتهي عندها هذه الملازمة فيجري استصحاب بقاء أمدها واستمرارها.

وتكون النتيجة بقاء النجاسة أيضا.

الثالثة : أن تعالج الأمارة شبهة موضوعيّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة حكميّة ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الثوب وشكّ في بقائها عند الغسل بالماء المضاف.

وفي هذه الصورة يتعذّر إجراء الاستصحاب الموضوعي ؛ إذ لا شكّ في وقوع الغسل بالماء المضاف ، وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق.

الصورة الثالثة : أن تقوم الأمارة على شبهة موضوعيّة كما إذا أخبر الثقة بنجاسة الثوب ، فهنا الحدوث الثابت بالأمارة عبارة عن شبهة موضوعيّة ؛ لأنّها تعالج أمرا جزئيّا موجودا بالفعل في الخارج وهو الثوب ، ثمّ يشكّ في بقاء هذه النجاسة من باب الشكّ في حكم الماء المضاف ، وأنّه هل يكفي الغسل بالماء المضاف أم لا؟

فهنا بعد أن غسلنا الثوب بالماء المضاف كماء الرمان مثلا نشكّ في حصول الطهارة للثوب.

ووجه الشكّ هنا هو أنّ المطهّريّة هل تتحقّق بالماء المضاف أو أنّه يشترط أن تكون بالماء المطلق فقط؟ فالشكّ في البقاء شبهة حكميّة ؛ لأنّه لا يعلم ما هو حكم الماء المضاف من حيث المطهّريّة وعدمها؟

وفي هذه الصورة لا يمكننا إجراء الاستصحاب الموضوعي المتقدّم سابقا أي استصحاب عدم غسل الثوب بالماء المضاف ؛ لأنّنا نعلم بأنّ الثوب قد غسل بالماء المضاف ولا شكّ لدينا في ذلك ، أو استصحاب عدم الغسل بالماء المطلق ؛ لأنّنا نعلم

ص: 197

بأنّه لم يغسل بالماء المطلق ، وفي حالة العلم لا يجري الاستصحاب كما هو واضح لعدم الشكّ.

والحاصل : أنّه لا يوجد موضوع مشكوك من حيث البقاء ؛ لأنّ الثوب كان نجسا ثمّ غسل بالماء المضاف ، وهذا يعني أنّه لم يغسل بالماء المطلق فهو معلوم الارتفاع ، ولا شكّ في حدوثه فضلا عن الشكّ في بقائه ، وأمّا غسله بالماء المضاف فهو معلوم الحدوث ولا شكّ في بقائه ليجري استصحابه.

فينحصر الشكّ في البقاء هنا من ناحية الشكّ في الحكم أي أنّ حكم الماء المضاف مشكوك فهل هو مطهّر أم لا؟

فيتعيّن جريان الاستصحاب الحكمي ، ولذلك نقول :

ولكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني ؛ لأنّ الأمارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاما عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهّر الواقعي ، وعلى هذا الأساس يكون التعبّد الثابت على وفقها بدليل الحجّيّة تعبّدا مغيّا بالمطهّر الواقعي أيضا ، فالتردّد في حصول المطهّر الواقعي ولو على نحو الشبهة الحكميّة يسبّب الشكّ في بقاء التعبّد المستفاد من دليل الحجّيّة والذي هو متيقّن حدوثا ، فيجري فيه الاستصحاب.

وأمّا الاستصحاب الحكمي المتقدّم سابقا فهو يجري هنا للعلم به حدوثا والشكّ به بقاء.

وتوضيحه : أنّ الأمارة الدالّة مطابقة على نجاسة الثوب تدلّ بالالتزام على أنّ هذه النجاسة باقية ومستمرّة ما لم يغسل واقعا. وهذه الملازمة بين الحدوث والبقاء معلومة عند قيام الأمارة على نجاسة الثوب.

وعلى هذا فنحن نعلم بالقضيّة القائلة : إنّ هذا الثوب النجس نجاسته باقية ومستمرّة ما لم ينته الأمد ، أو ما لم تحصل الغاية التي ترتفع عندها النجاسة ، وهي حصول المطهّر الواقعي لهذا الثوب.

فإذا غسلنا الثوب بالماء المضاف - والمفروض أنّ حكمه من حيث المطهّريّة مشكوك - فسوف نشكّ في أنّ الغاية التي ترتفع عندها النجاسة هل تحقّقت أم لا؟

والوجه في ذلك : أنّ الماء المضاف لو كان مطهّرا واقعا فالنجاسة ارتفعت لحصول

ص: 198

غايتها أو لانتهاء أمدها ، وإن لم يكن مطهّرا فالملازمة لا تزال على حالها ، وهذا معناه أنّنا نشكّ في بقاء الملازمة بعد العلم بحدوثها فيجري استصحابها ، وبذلك يثبت لدينا البقاء التعبّدي للملازمة والذي أثره هو الحكم ظاهرا بنجاسة الثوب.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من إجراء استصحاب النجاسة الثابتة بالأمارة مباشرة ، والتي يأتي فيها ما تقدّم من الإشكال.

الرابعة : أن تعالج الأمارة شبهة حكميّة ويكون الشكّ في البقاء شبهة حكميّة أيضا ، كما إذا دلّت على تنجّس الثوب بملاقاة المتنجّس ، وشكّ في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.

الصورة الرابعة : أن تقوم الأمارة على علاج شبهة حكميّة مفادها أنّ ملاقاة الثوب للمتنجّس حكمها هو النجاسة ، كما إذا أخبر الثقة بأنّ ملاقاة الثوب ونحوه للمتنجّس يؤدّي إلى تنجّسه ، فإنّ هذه شبهة حكميّة ؛ لأنّ موضوعها كلّي وحكمها كلّي ، أي أنّه لو فرض تحقّق الملاقاة بين الثوب والمتنجّس فالحكم هو نجاسة الثوب ، ثمّ يشكّ في بقاء نجاسة الثوب بنحو الشبهة الحكميّة أيضا ، كما إذا شكّ في حكم مطهّريّة الماء المضاف ، أي أنّ الثوب لو فرض غسله بالماء المضاف فهل تحصل المطهّريّة أم لا؟ فهذا شكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكميّة ؛ لأنّ الموضوع والحكم فيها كلّيّان قد افترض وجودهما.

وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة ، فإنّ النجاسة المخبر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرّة مغيّاة بطروّ المطهّر الشرعي ، وعلى هذا فالتعبّد على طبق الأمارة يتكفّل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهرا ، ولمّا كانت الغاية مردّدة بين مطلق الغسل والغسل بالمطلق فيقع الشكّ في حصولها عند الغسل بالمضاف ، وبالتالي يقع الشكّ في بقاء التعبّد المغيّى المستفاد من دليل الحجّيّة فيستصحب.

وعلاج هذه الصورة هو نفس علاج الصورة الثالثة ، بمعنى أنّ الاستصحاب الموضوعي لا يجري بينما الاستصحاب الحكمي يجري.

أمّا عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فلأنّ الغسل المفترض وقوعه هو غسل الثوب بالماء المضاف لا بالماء المطلق ، ولذلك لا يجري استصحاب عدم غسله بالماء

ص: 199

المضاف ؛ لأنّه معلوم الحدوث ولا شكّ فيه ، ولا يجري استصحاب عدم غسله بالماء المطلق ؛ لأنّه معلوم الارتفاع ولا شكّ فيه ، وإذ لم يكن في البين شكّ فلا يجري الاستصحاب كما هو واضح.

وأمّا جريان الاستصحاب الحكمي فلأنّ الأمارة الدالّة بالمطابقة على تنجّس الثوب الملاقي للمتنجّس تدلّ بالالتزام على أنّ هذا التنجّس باق ومستمرّ إلى أن يحصل المطهّر الواقعي أو المعتبر شرعا.

وهذا يعني أنّ دليل حجّيّة الأمارة كما يعبّدنا بالمدلول المطابقي وهو تنجّس الثوب ، فكذلك يعبّدنا بثبوت هذه الملازمة ظاهرا ، وهذه الملازمة مغيّاة بحصول المطهّر الواقعي أو الشرعي ، أي أنّها لا ترتفع إلا عند حصول غايتها وانتهاء أمد استمرارها وبقائها.

وعليه فلو غسل الثوب المتنجّس بالماء المضاف سوف يشكّ في تحقّق الغاية التي ترتفع عندها تلك الملازمة.

والوجه في ذلك : هو أنّ المطهّر الشرعي والواقعي هل هو مطلق الغسل الشامل للغسل بالماء المطلق والماء المضاف ، أو أنّه الغسل بالمطلق المختصّ بالغسل بالماء المطلق فقط؟ فإذا غسل بالماء المضاف سوف يشكّ في بقاء الملازمة من جهة الشكّ في تحقّق غايتها ، وحيث إنّ أصل الملازمة معلوم الحدوث عند قيام الأمارة فيجري استصحاب بقائها ، حيث إنّ البقاء مشكوك من جهة الشكّ في حكم الماء المضاف من حيث المطهّريّة.

ويثبت لدينا حينئذ البقاء الظاهري للملازمة والتي أثرها بقاء تنجّس الثوب ؛ لأنّ الرافع لهذه الملازمة مشكوك تحقّقه بنحو الشبهة الحكميّة.

وهذه النتيجة هي نفس النتيجة المطلوبة من إجراء الاستصحاب في بقاء التنجّس الثابت بالأمارة مباشرة ، والذي يرد عليه ما تقدّم من الإشكال.

ففي كلّ هذه الصور يمكن التفادي عن الإشكال بإجراء الاستصحاب الموضوعي ، أو استصحاب نفس المجعول في دليل الحجّيّة ، وجامع هذه الصور أن يعلم بأنّ للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غاية ورافعا ، ويشكّ في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة.

ص: 200

والحاصل : أنّه في هذه الصور الأربعة أمكننا تفادي الإشكال المتقدّم من عدم جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على الحدوث ما دام الركن هو اليقين بالحدوث ؛ وذلك لأنّنا لم نستصحب الحكم الحادث بالأمارة مباشرة ، وإنّما أجرينا استصحابا آخر ، وهو إمّا الاستصحاب الموضوعي في بعض الصور ، وإمّا الاستصحاب الحكمي في بعضها الآخر ، وإمّا كلا الاستصحابين معا.

والوجه في ذلك : أنّ الحكم المدلول عليه بالأمارة إن كان له مدلول التزامي يمكن التعبّد به كالمدلول المطابقي ، وكان هذا المدلول الالتزامي عبارة عن قضيّة كلّيّة أو يعالج شبهة حكميّة جرى استصحاب هذه الملازمة وهذا هو الاستصحاب الحكمي ، وإن كان المدلول عليه بالأمارة موضوعا له أمد وغاية ورافع ثمّ شكّ في تحقّق هذا الرافع والغاية ، جرى استصحاب عدم تحقّقه ، وهذا هو الاستصحاب الموضوعي.

ويجمعهما أن يكون لمدلول الأمارة غاية ورافع وأمد ثمّ يشكّ في تحقّقه ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة وإمّا بنحو الشبهة الحكميّة ، فإنّه يجري الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي أو كلاهما ، كما تقدّم آنفا.

نعم ، قد لا يكون الشكّ على هذا الوجه ، بل يكون الشكّ في قابليّة المستصحب للبقاء ، كما إذا دلّت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال وشكّ في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال ، فإنّ الأمارة هنا لا يحتمل أنّها تدلّ مطابقة أو التزاما على أكثر من الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ التعبّد على وفقها المستفاد من دليل الحجّيّة لا يحتمل فيه الاستمرار أكثر من ذلك.

وفي مثل هذا يتركّز الإشكال ، لأنّ الحكم الواقعي بالوجوب غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجّيّة غير محتمل البقاء ، ويتوقّف دفع الإشكال حينئذ على إنكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل رواية عبد اللّه بن سنان المتقدّمة.

استدراك : هناك صور أخرى لا يجري فيها ما ذكرناه من الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي ، والجامع لهذه الصور أن يقال : أن تقوم الأمارة على الحدوث ثمّ يشكّ في البقاء من جهة الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة هل له القابليّة للاستمرار والبقاء أو لا؟

ص: 201

أو الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة حدوثا لم يكن له غاية وأمد ورافع مفترض شرعا لكي يكون استمراره مغيّا به ، فيكون الشكّ في بقائه من جهة أخرى غير الشكّ في تحقّق الرافع ، والغاية بنحو الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة.

مثال ذلك : أن تقوم الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى زوال الشمس ، ثمّ بعد تحقّق الزوال نشكّ في بقاء وجوب الجلوس أيضا.

فهاهنا دليل حجّيّة الأمارة يعبّدنا بالمدلول المطابقي وهو وجوب الجلوس إلى الزوال ، أي أنّ هذا الوجوب ثابت ومستمرّ إلى الزوال ، فإذا تحقّق الزوال ارتفع وجوب الجلوس المذكور للعلم بتحقّق غايته فعلا.

ولا يوجد مدلول التزامي لهذه الأمارة لكي يعبّدنا به دليل الحجّيّة ؛ لأنّ وجوب الجلوس بعد الزوال غير معلوم إذ هو مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، بل وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال المدلول عليه بالمطابقة يعلم بانتفائه ؛ لأنّه مقيّد بالزوال ، ووجوب آخر غيره مماثل له يحتاج إلى دليل خاصّ.

وعليه فلا يوجد لدينا أكثر من وجوب الجلوس إلى الزوال ، وهذا ثابت بالأمارة.

وهنا التعبّد بدليل الحجّيّة للأمارة لا يفيدنا أكثر من ذلك ، فإذا شككنا في وجوب الجلوس بعد الزوال فهذا الشكّ لا يمكن علاجه لا بأصل موضوعي ولا بأصل حكمي.

أمّا الأصل الموضوعي فلأنّ الوجوب قبل الزوال علم بارتفاعه بعد الزوال ، فالمشكوك وجوب آخر لم يكن حادثا سابقا.

وأمّا الأصل الحكمي فلأنّ دليل الحجّيّة للأمارة لا يعبّدنا بأكثر من الملازمة بين الوجوب والبقاء إلى الزوال ، وأمّا بعد الزوال فالشكّ في أمر آخر غير ما هو ثابت بالملازمة.

ولا يمكن علاج هذا الشكّ إلا بما تقدّم سابقا من تخريجات إن تمّت ؛ لأنّ الإشكال هنا مستحكم ، إذ لو كان اليقين بالحدوث ركنا في الاستصحاب فلا يمكن جريان استصحاب وجوب الجلوس قبل الزوال إلى ما بعد الزوال ؛ لأنّ حدوث هذا الوجوب لم يكن باليقين ، بل بالأمارة أي أنّه لا يقين بالحدوث.

ولو كان اليقين بالحدوث معرّفا ونحو ذلك فالأمارة الكاشفة عن الوجوب إنّما

ص: 202

تكشف عنه مقيّدا ومحدّدا بالزوال لا أكثر ، أي أنّ الوجوب لا يحتمل بقاؤه بعد الزوال بل يعلم بارتفاعه ، والشكّ في وجوب آخر غير ما قامت عليه الأمارة.

والأفضل في علاج هذا الإشكال هو ما ذكرناه من إنكار ركنيّة اليقين بالحدوث استنادا إلى رواية عبد اللّه بن سنان التي ذكرت الحالة السابقة فقط ، والتي تصلح لحمل اليقين في سائر الروايات على اليقين الطريقي لا الموضوعي.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الأوّل من أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 203

ص: 204

الشكّ في البقاء

اشارة

ص: 205

ص: 206

ب - الشكّ في البقاء

والشكّ في البقاء هو الركن الثاني ، وذلك لأخذه في لسان أدلّة الاستصحاب.

وقد يقال : إنّ ركنيته ضروريّة بلا حاجة إلى أخذه في لسان الأدلّة ، لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، فإن فرض الشكّ في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين ، فلا بدّ إذن من فرض الشكّ في البقاء.

ولكن سيظهر أنّ ركنيّة الشكّ في البقاء بعنوانه لها آثار إضافيّة لا تثبت بالبرهان المذكور ، بل بأخذه في لسان الأدلّة ، فانتظر.

الركن الثاني هو الشكّ في البقاء : ويدلّ عليه أمران :

الأوّل : الروايات الدالّة على الاستصحاب حيث أخذ في لسانها عنوان الشكّ كما في ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) ، وكما في ( كان على يقين ثمّ شكّ ) ، فإنّ الظاهر كون الشكّ في البقاء لا في نفس اليقين.

والثاني : على ما قيل : من أنّ ركنيّة الشكّ ضروريّة ومفروغ عنها ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليها أو أخذها في لسان الأدلّة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ لأنّه مجعول في مقام الشكّ في الواقع.

وعليه فإن كان الشكّ راجعا إلى نفس الحدوث فهذا يعني أنّ اليقين والشكّ متعلّقان بشيء واحد في زمان واحد ، وهو مورد قاعدة اليقين التي يكون الشكّ فيها ساريا إلى نفس اليقين ، وإن كان الشكّ متعلّقا بالبقاء فهو مورد الاستصحاب ، وهو المطلوب.

إلا أنّ الصحيح وجود فرق بين النحوين من الاستدلال ، ولا يكفي الدليل الثاني لإثبات كون الشكّ راجعا الى البقاء ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من لزوم أخذ الشكّ وكونه غير سار إلى اليقين ، وأمّا كونه متعلّقا بالبقاء فهذا لا يثبت به.

ص: 207

مضافا إلى وجود بعض الآثار والثمرات التي لا تترتّب إلا إذا كان عنوان الشكّ بالبقاء مستظهرا من نفس روايات الاستصحاب كما سيأتي لاحقا.

وتتفرّع على ركنيّة الشكّ في البقاء قضيّتان :

ثمّ بعد التسليم والفراغ عن ركنيّة الشكّ في البقاء يوجد هنا ثمرتان مترتّبتان على ذلك وهما :

الأولى : أنّ الاستصحاب لا يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد المردّد حالة القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما إذا علمنا بوجود جامع الإنسان في المسجد وهو مردّد بين زيد وخالد ، ونشكّ في بقاء هذا الجامع ؛ لأنّ زيدا نراه الآن خارج المسجد ، فإن كان هو المحقّق للجامع حدوثا فقد ارتفع الجامع ، وإن كان خالد هو المحقّق للجامع فلعلّه لا يزال باقيا.

وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع أثر شرعي. ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء خالد بلا شكّ.

القضيّة الأولى : في جريان الاستصحاب في الفرد المردّد وعدم جريانه ، وتوضيحه :

المقصود من الفرد المردّد هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، حيث يعلم بالجامع ويشكّ بالفرد ، كما إذا علم بدخول الإنسان إلى المسجد ولكنّه مردّد بين كونه متمثّلا بزيد أو بخالد ، ثمّ يعلم بخروج زيد من المسجد ، فهنا سوف يشكّ في بقاء الجامع من جهة الشكّ في الفرد الذي حقّق هذا الجامع ، فإنّه إذا كان زيد هو المحقّق لجامع الإنسان فحيث إنّ زيدا يعلم بخروجه من المسجد فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه سوف يعلم بخروج الجامع أيضا ، إذ لا وجود له إلا ضمن زيد ، وأمّا وجوده ضمن خالد فيكون مشكوك الحدوث فضلا عن البقاء ، ولكن إذا كان خالد هو المحقّق لجامع الانسان ، فحيث إنّه لا يعلم بخروج خالد من المسجد ؛ لأنّ الخارج هو زيد فسوف يحتمل بقاء جامع الإنسان في المسجد لعدم العلم بخروج خالد منه.

ص: 208


1- في النقطة الثالثة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : استصحاب الكلّي.

وفي هذه الحالة يقال : إنّ استصحاب الجامع يجري إذا كان هناك أثر شرعي مترتّب عليه بقاء ، فلو فرض وجود حكم شرعي مترتّب على موضوع الإنسان كأن قيل مثلا : ( تصدّق على الفقير إذا كان هناك إنسان في المسجد ) ، فهاهنا حيث إنّ جامع الإنسان معلوم الحدوث في المسجد ويشكّ في ارتفاعه عند خروج زيد بسبب الشكّ في كون الإنسان الموجود هو زيدا أو خالدا ، فيجري استصحاب بقاء جامع الإنسان ويترتّب عليه الأثر المفروض ، وهذا ما يسمّى باستصحاب القسم الثاني من الكلّي والذي تقدّم سابقا وسيأتي أيضا.

وأمّا استصحاب الفرد فلا يجري وذلك :

أمّا استصحاب بقاء زيد في المسجد فهو غير تامّ الأركان ؛ للعلم بخروجه من المسجد ، فلا شكّ في البقاء فضلا عن أنّه لا علم بحدوثه تفصيلا.

وأمّا استصحاب بقاء خالد في المسجد فهو غير تامّ أيضا ؛ لأنّه وإن كان لا يعلم بارتفاعه فهو محتمل البقاء إلا أنّه لا يقين بحدوثه ليجري استصحاب بقائه. نعم ، هو مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، وهذا يعني أنّ اليقين ليس فعليّا بل هو تقديري ، وسيأتي البحث حول هذه النقطة عند الحديث عن استصحاب الكلّي.

فكلّ واحد من زيد وخالد لا يمكن جريان الاستصحاب فيهما بعنوانهما الخاصّ ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب.

وأمّا استصحاب الفرد المردّد بين زيد وخالد فهل يجري استصحابه أم لا؟

والجواب :

ولكن قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة إذا كانت مترتّبة على وجود الأفراد بما هي أفراد أمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول : إنّه على إجماله يشكّ في خروجه من المسجد ، فيستصحب.

قد يقال : إنّ استصحاب الفرد المردّد يجري فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على وجود الأفراد بما هي أفراد لا على الأفراد بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع ، فلو فرض وجود أثر شرعي مترتّب على عنوان دخول زيد أو خالد إلى المسجد فباستصحاب الفرد المردد سوف يترتّب هذا الأثر.

ص: 209

فلو فرض وجود حكم على عنوان زيد وخالد كما إذا فرض ( تصدّق بدرهم إذا كان زيد في المسجد وتصدّق بدرهمين إذا كان خالد في المسجد ).

فهنا إذا جرى استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، سوف يثبت لدينا وجود أحد هذين الفردين في المسجد ، وهذا علم إجمالي منجّز فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالتصدّق مرّتين مرّة بدرهم ومرّة بدرهمين.

والوجه في جريان هذا الاستصحاب : هو أنّ الفرد المردّد على إجماله معلوم الحدوث ؛ وذلك لأنّه يعلم بدخول شخص أو فرد إلى المسجد ثمّ بعد خروج زيد منه سوف يشك في ارتفاع هذا العنوان الإجمالي فيستصحب بقاؤه ، والمفروض أنّ لبقائه أثرا شرعيّا مترتّبا على الأفراد بما هي أفراد لا بما هي تعيّنات للكلّي ، وحيث لا يعلم أي الفردين هو الداخل والباقي ، فسوف يحصل لدينا علم إجمالي منجّز لكلا الأثرين.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الاستصحاب لا محصّل له ؛ لأنّنا حينما نلحظ الأفراد بعناوينها التفصيليّة لا نجد شكّا في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض ، وإذا لاحظناها بعنوان إجمالي وهو عنوان الإنسان الذي دخل إلى المسجد فالشكّ في البقاء ثابت.

فإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذّر ، إذ لعلّ الفرد هو زيد ، وزيد لا شكّ في بقائه فيكون الركن الثاني مختلاّ.

وإن أريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي فالركن الثاني محفوظ ، ولكنّ الركن الرابع غير متوفّر ؛ لأنّ الأثر الشرعي غير مترتّب بحسب الفرض على العنوان الإجمالي ، بل على العناوين التفصيليّة للأفراد.

والصحيح : أنّ استصحاب الفرد المردّد لا محصّل ولا معنى له ؛ وذلك لأنّ الفرد المردّد إمّا أن يراد به واقع الفرد المردّد أو مفهوم الفرد المردّد.

فإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا الأفراد بعناوينها التفصيليّة كزيد بعنوانه الخاصّ وخالد كذلك ، فنكون أردنا من استصحاب الفرد المردّد التوصّل إلى استصحاب بقاء زيد أو خالد ، فهذا الاستصحاب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجد لدينا شكّ في بقاء زيد للعلم بخروجه من المسجد ، ولا يوجد علم بدخول خالد فهو مشكوك الحدوث لا البقاء.

ص: 210

وإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا العنوان الإجمالي للفرد وهو الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد من دون تعيين وتشخيص هويّته ظاهرا ، فهذا الاستصحاب وإن كان يتوفّر فيه اليقين والشكّ ؛ لأنّ الفرد بالعنوان الإجمالي معلوم الحدوث ومشكوك البقاء عند خروج زيد ، إلا أنّه مع ذلك لا يجري لاختلال ركنه الرابع.

وبتعبير آخر : إنّ أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي أي بقاء زيد أو خالد بعنوانهما ، فهذا الاستصحاب لا يمكن إجراؤه لاختلال الركن الثاني بالنسبة لزيد إذ لا شكّ في بقائه ، ولاختلال الركن الأوّل بالنسبة لخالد إذ لا يقين بحدوثه ليتعلّق الشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في بقائه على تقدير حدوثه.

وإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي أي الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد ، فهو وإن كان متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء إلا أنّ الركن الرابع مختلّ ؛ وذلك لأنّ المفروض كون الأثر الشرعي مترتّبا إمّا على الأفراد بعناوينها التفصيليّة الخاصّة ، وإمّا عليها بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع الكلّي ، ولا يوجد أثر شرعي مترتّب على عنوان الفرد المردّد ؛ لأنّه لا وجود له في نفسه في الخارج وإنّما الموجود في الخارج الفرد بعنوانه الخاصّ.

فظهر أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب في الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي ولا بعنوانه الإجمالي.

ومن هنا نعرف أنّ عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنيّة الشكّ في البقاء الثابتة بظهور الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ إذ لا يأبى العقل عن تعبّد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.

وعلى هذا تظهر الثمرة الأولى بين كون الشكّ الذي هو ركن في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء المستفاد من أدلّة الاستصحاب ، وبين كون الشكّ الركن هو الشكّ المقوّم للحكم الظاهري.

فإن قيل : إنّ الركن هو الشكّ في البقاء استنادا إلى ظاهر الأدلّة التي أخذ في لسانها عنوان الشكّ ، فلا يمكن جريان استصحاب الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي

ص: 211

ولا بعنوانه الإجمالي ؛ لأنّه لا يوجد شكّ في البقاء على أحد الوجهين ولا يوجد يقين بالحدوث على الوجه الآخر.

وأمّا إن قيل : إنّ الركن هو الشكّ المستفاد من كون الاستصحاب حكما ظاهريّا وهو متقوّم بالشكّ ، فهذا الشكّ لا يشترط أن يكون متعلّقا بالبقاء لعدم الدليل على ذلك ، حيث لم يستند في ركنيّته إلى الروايات ، بل إلى هذا البرهان ، وهو لا يثبت أكثر من ركنيّة الشكّ فقط.

ولذلك فيمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد بعنوانه الواقعي أي واقع الفرد الذي دخل إلى المسجد ، ولا يوجد محذور أو مانع عقلي في أن يعبّدنا الشارع بالحكم ببقاء هذا الفرد ، وإلغاء احتمال الارتفاع وإن كان من الممكن أن يكون منطبقا على الفرد المعلوم خروجه والمقطوع ارتفاعه.

فيكون مفاده التعبّد بالبقاء وإلغاء احتمال الارتفاع ، وبالتالي تترتّب الآثار على الفرد الواقعي المستصحب بقاؤه ، وحيث إنّه مردّد بين فردين فيتكوّن علم إجمالي منجّز ، فيجب ترتيب الآثار على كلا الفردين ، ولكن حيث يعلم بخروج زيد فالآثار المترتّبة عليه ترتفع فتبقى الآثار المترتّبة على خالد.

وهذا يتصوّر على المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع ، كما هو مسلك المحقّق العراقي.

والقضيّة الثانية : هي أنّ زمان المتيقّن قد يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، وقد يكون مردّدا بين أن يكون نفس زمان المشكوك أو الزمان الذي قبله.

ففي الحالة الأولى يصدق الشكّ في البقاء بلا شكّ.

وأمّا الحالة الثانية فمثالها أن يحصل له العلم إجمالا بأنّ هذا الثوب إمّا تنجّس في هذه اللحظة أو كان قد تنجّس قبل ساعة وطهّر ، فالنجاسة معلومة التحقّق في هذا الثوب أساسا ولكنّها مشكوكة فعلا ، وزمان المشكوك هو اللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك ولعلّه ساعة قبل ذلك.

القضيّة الثانية : في جريان الاستصحاب مع عدم اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك.

وتوضيحه : أنّ زمان المتيقّن تارة يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، كما

ص: 212

إذا علم بنجاسة الثوب صباحا ثمّ شكّ في تطهيره عند الزوال ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب لتماميّة أركانه.

أمّا اليقين بالحدوث فهو ثابت عند الصباح ، وأمّا الشكّ في البقاء فهو ثابت عند الزوال ، وزمان المتيقّن أي الصباح متّصل بزمان المشكوك أي الزوال ، إذ لا يوجد فترة زمنيّة لم يكن فيها الثوب متّصفا بأحد الأمرين أي اليقين بالنجاسة والشكّ في بقائها ، وزمان المتيقّن أيضا سابق على زمان المشكوك ومتقدّم عليه.

وأخرى يكون زمان المتيقّن مشكوك الاتّصال بزمان المشكوك ، أي أنّه مردّد بين أن يكون زمانه سابقا على زمان المشكوك أو أنّهما حدثا معا ، كما إذا علم إجمالا بأنّ الثوب قد تنجّس إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، إلا أنّه إذا كان قد تنجّس قبل ساعة فيحتمل ارتفاع النجاسة عنه وذلك لاحتمال تطهيره قبل هذا الآن ، وأمّا إن كان قد تنجّس الآن فنجاسته مستمرّة ، وهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين.

فهنا أصل حدوث النجاسة في الثوب معلوم من حيث إنّها قد حدثت في الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فالشكّ ليس في حدوثها وإنّما الشكّ والترديد في تاريخها ، وأمّا زمان المشكوك فهو في هذا الآن الزماني أي اللحظة الحاضرة الحاليّة ؛ لأنّه إن كانت النجاسة حادثة قبل ساعة فيحتمل ارتفاعها بالطهارة الآن ؛ لأنّه يحتمل طروّ الطهارة على الثوب قبل هذا الآن ، وإن حدثت في هذا الآن فهذا يعني أنّ النجاسة لا تزال باقية ؛ لأنّها حدثت بعد الطهارة المعلومة سابقا.

وحينئذ حيث إنّ زمان المشكوك هو اللحظة الحاليّة وحيث إنّ زمان المتيقّن مردّد ، أي أنّه يحتمل أن يكون سابقا على زمان المشكوك ومتّصلا به ، ويحتمل أن يكون نفس زمان المشكوك ، فهذا يعني أنّ زمان المتيقّن لم يتّصل بزمان المشكوك أو على الأقلّ لا يحرز اتّصاله به وسبقه عليه ، وهذا يسبّب مشكلة في جريان الاستصحاب كما يظهر من اشتراط اتّصال الزمانين وعدم انفصالهما في جريان الاستصحاب.

وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ من المحتمل وحدة زمانيّ المشكوك والمتيقّن ، وعلى هذا التقدير لا يكون أحدهما بقاء للآخر ، فالشكّ إذا لم يحرز كونه شكّا في البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري

ص: 213

الاستصحاب في كلّ الحالات التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين زمان المشكوك وما قبله.

وهنا إشكال ذكره صاحب ( الكفاية ) وهو ما يسمّى بشبهة انفصال زمان اليقين عن الشكّ.

وحاصله : أنّ الاستصحاب في الحالات المذكورة - التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين أن يكون سابقا على زمان المشكوك أو نفس زمان المشكوك والتي تسمّى بتوارد الحالتين - لا يمكن إجراؤه وذلك لاختلال ركنه الثاني وهو عنوان ( الشكّ في البقاء ).

ببيان : أنّ زمان المتيقّن لو فرض سابقا على زمان المشكوك فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ عنوان الشكّ في البقاء يكون محقّقا ، حيث إنّه على هذا الفرض يكون قبل ساعة لدينا يقين ثمّ الآن نشكّ في بقائه.

وأمّا لو فرض كون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك ، أي أنّه في هذا الآن الزماني واللحظة الحاضرة هل الثوب تنجّس الآن أو لا يزال متنجّسا سابقا؟ فإذا تنجّس الآن فهذا يعني أنّه متنجّس بنجاسة غير مشكوكة البقاء ؛ بل مشكوك الحدوث ؛ لأنّ النجاسة المشكوكة البقاء هي نجاسة أخرى غير هذه التي يشكّ في حدوثها الآن ، إلا أنّ هذه النجاسة المشكوكة البقاء إنّما هي مشكوكة كذلك على تقدير حدوث هذه النجاسة قبل ساعة لا حدوثها الآن ، فالشكّ في البقاء تقديري لا فعلي.

والحاصل : حيث إنّنا نحتمل أن يكون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك فهذا يعني أنّنا لا نحرز عنوان ( الشكّ في البقاء ) ؛ لأنّ النجاسة الحادثة الآن ليست بقاء لنجاسة سابقة وإنّما هي نجاسة جديدة طارئة ، ولأنّ النجاسة المشكوكة ليست هي هذه النجاسة التي تحدث الآن ، بل يفترض أن تكون نجاسة أخرى غيرها موجودة قبل الآن ، وهذه النجاسة السابقة غير معلومة لكي يتعلّق الشكّ ببقائها.

ففي مثل هذا الفرض لا نحرز عنوان الشكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثاني.

ومن هنا تظهر لنا الثمرة الثانية بين المسلكين في الاستدلال على الشكّ بالبقاء.

ص: 214

فإذا أخذنا بالروايات فلا بدّ من إحراز عنوان الشكّ بالبقاء وهو غير محرز في المقام ، فالإشكال وارد لاختلال الركن الثاني.

وإذا أخذنا بذاك البرهان فإنّه يفترض ضرورة وجود الشكّ لا أكثر ، ولا يقتضي لزوم كون الشكّ في البقاء ، وعنوان الشكّ هنا محرز وجدانا فيجري الاستصحاب لتماميّة الأركان من اليقين بالحدوث والشكّ.

ويمكن دفع الاستشكال : بأنّ ( الشكّ في البقاء ) بعنوانه لم يؤخذ صريحا في لسان روايات الاستصحاب ، وإنّما أخذ ( الشكّ ) بعد ( اليقين ) ، وهو يلائم كلّ شكّ متعلّق بما هو متيقّن الحدوث سواء صدق عليه ( الشكّ في البقاء ) أو لا.

وجواب الإشكال : أن يقال : إنّ عنوان الشكّ في البقاء لم يؤخذ صريحا في روايات الاستصحاب ، وإنّما المأخوذ فيها عنوان الشكّ بعد اليقين ، أي لا بدّ أن يكون لدينا عنوانان ( اليقين والشكّ ) وكلاهما متعلّقان بموضوع واحد أو بقضيّة واحدة ، فإذا كان لدينا يقين بنجاسة الثوب فلا بدّ أن يكون لدينا شكّ في نجاسته أيضا لكي يجري الاستصحاب ، فالركن هو أن يتعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين.

وفي مقامنا حيث نعلم بنجاسة الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة فعنوان اليقين بالحدوث متحقّق ، وحيث إنّنا نعلم بطروّ المطهّر قبل هذا الآن ، فهذا يعني أنّنا نشكّ في نجاسة هذا الثوب وطهارته في هذا الآن فيجري الاستصحاب.

إلا أنّ استصحاب النجاسة المتيقّنة يتعارض باستصحاب الطهارة المعلومة أيضا قبل هذا الآن ، وهذا يعني أنّه في موارد توارد الحالتين يجري كلّ من استصحاب النجاسة واستصحاب الطهارة ويتعارضان ويتساقطان.

فظهر أنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) لم يذكر صريحا في الروايات ، بل المأخوذ فيها عنوان الشك فقط ، وهذا ثابت بالبرهان المذكور أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدّي إلى أنّ الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل التعارض.

فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في المتقدّم منهما ، فهو يعلم إجمالا بالحدث إمّا الآن أو قبل ساعة ويشكّ في الحدث فعلا ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن

ص: 215

وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن وما قبله ، فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة.

وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ثمّ إنّ الإشكال المتقدّم إن تمّ في مقامنا وقلنا بأنّ الاستصحاب لا يجري لعدم إحراز عنوان الشكّ في البقاء ، فسوف يرد نفس هذا الإشكال في سائر موارد توارد الحالتين ، فيكون الاستصحاب ساقطا من نفسه لا أنّه يسقط بسبب التعارض ، وأمّا إن لم يتمّ الإشكال وقبلنا العلاج الذي ذكرناه فالاستصحاب في موارد توارد الحالتين تام ويجري إلا أنّه يسقط بسبب المعارضة.

وتوضيح ذلك : إذا علم المكلّف بالطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر ، فهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين ، أي أنّه يعلم بطروّ الحدث ويعلم بحصول الطهارة ولكنّه لا يدري أيّهما المتقدّم والمتأخّر ، فإن كان الحدث هو المتقدّم فهذا يعني أنّه الآن على طهارة ، وإن كانت الطهارة هي المتقدّمة فهذا يعني أنّه الآن محدث.

والسؤال هنا هل يجري استصحاب الحدث في نفسه وكذا استصحاب الطهارة في نفسها أو لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الصياغة للركن الثاني للاستصحاب ؛ وذلك إن كان الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فسوف لا يجري كلا هذين الاستصحابين ؛ لأنّه يشترط حينئذ أن يكون زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن ، أي أنّه متأخّر عنه ، وهذا الشرط لا يحرز تحقّقه في المقام ، وذلك أنّ المكلّف يعلم إجمالا في هذا الآن واللحظة الحاضرة إمّا أنّه محدث الآن وإمّا أنّه قد أحدث قبل ساعة مثلا.

ففي هذا الآن يشكّ فعلا في الحدث ؛ لأنّ الحدث إن كان قبل ساعة فقد ارتفع بطروّ الطهارة عليه ، وإن كان الحدث الآن فهو باق لتأخّره عن الطهارة ، فزمان الشكّ هو الآن واللحظة الحاضرة بينما زمان المتيقّن مردّد بين أن يكون الآن وبين أن يكون قبل ساعة ، ولذلك لا يحرز اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك ؛ لأنّ زمانه إمّا الآن أو قبل ساعة.

وهذا يعني أنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) غير محرز ؛ إذ على تقدير كون الحدث

ص: 216

متحقّقا قبل ساعة فالشكّ في الحدث يكون بقاء ، ولكنّه على تقدير كونه متحقّقا الآن فالشكّ في الحدث ليس بقاء.

فبناء على كون الركن هو الشكّ في البقاء لا يجري استصحاب الحدث ؛ لأن هذا العنوان غير محرز.

وأمّا بناء على كون الركن ما ذكرناه من كون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ اليقين متعلّق بالحدث والشكّ متعلّق بالحدث أيضا.

وهكذا يقال بالنسبة للطهارة حيث إنّ المكلّف يعلم بالطهارة إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فهو على شكّ فعليّ الآن لكن زمان المتيقّن لا يحرز كونه متّصلا بزمان المشكوك ؛ لأنّه مردّد بين هذا الآن وبين ما قبل ساعة ، فإن كان الآن فلا اتّصال وإن كان قبل ساعة فهناك اتّصال ، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز كون الشكّ شكّا في البقاء ، بينما يجري لو أنكرنا ركنيّة الشكّ في البقاء.

والنتيجة : أنّه في حالة توارد الحالتين إن قلنا بركنيّة الشكّ في البقاء سوف لا يجري استصحاب الحدث أو الطهارة ، فيكون الاستصحاب ساقطا في نفسه لعدم توفّر أركانه ، وإن قلنا بركنيّة تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين فسوف يجري كلا الاستصحابين ولكنّهما يتعارضان ويتساقطان.

وبهذا ظهر أنّ من ثمرات القول باتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك هو عدم جريان الاستصحاب في نفسه في موارد توارد الحالتين ، وسيأتي مزيد تفصيل للمسألة لاحقا.

ثمّ إنّ هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة أخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين بالشكّ ، ويفرّع على ذلك : بأنّه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا لليقين باليقين ، فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب.

وقد مثّل لذلك : بما إذا علم بطهارة عدّة أشياء تفصيلا ثمّ علم إجمالا بنجاسة بعضها ، فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي لمّا كان مردّدا بين تلك الأشياء فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون معلوم النجاسة ، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع اليد عن

ص: 217

الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.

الصياغة الثانية لركنيّة الشكّ هي ما ذكره الميرزا من كون الركن هو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، ففي كلّ حالة يحرز ذلك يجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ، أو كان يحتمل ذلك فلا يجري الاستصحاب.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّه القدر المفروغ عنه ، فإذا علم بالنجاسة ثمّ علم بالطهارة بعدها فلا إشكال في أنّ اليقين بالطهارة ينتقض باليقين بالنجاسة ؛ لأنّه نقض لليقين باليقين.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ احتمال صدق عنوان نقض اليقين باليقين معناه أنّه لا يحرز كون رفع اليد هنا من باب نقض اليقين بالشكّ ، وما دام هذا العنوان غير محرز فلا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه أو لعدم تحقّق موضوعه ؛ وذلك لأنّ الحكم وهو حرمة النقض إنّما تثبت على موضوعها فقط وهو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فما لم يحرز ذلك سوف لا يحرز موضوع الحرمة فلا تثبت.

ثمّ ذكروا مثالا لذلك وهو : فيما إذا علم بطهارة عشرة إناءات بنحو تفصيلي ثمّ علم إجمالا بنجاسة إناء منها.

فهنا لا يجري استصحاب الطهارة في أيّ واحد من الإناءات ، وذلك لعدم إحراز عنوان نقض اليقين بالشكّ ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال يحتمل انطباقه على كلّ واحد من هذه العشرة ، فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون هو النجس فيكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ ، وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يمكن إجراء الاستصحاب لعدم إحراز موضوعه أو أركانه ، وهو كون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، ولذلك فلا يجري استصحاب الطهارة في كلّ واحد من هذه الإناءات العشرة في نفسه لعدم تماميّة أركانه ، لا أنّه يجري ويسقط بالمعارضة مع الاستصحاب في الآخر.

ص: 218

وأمّا إذا لم نأخذ بهذه الصياغة وأخذنا بما تقدّم من كون الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فكلّ واحد معلوم الطهارة سابقا ويشكّ في نجاسته لاحقا فيجري الاستصحاب ، ولكن لا يمكن الأخذ بالاستصحاب فيها جميعا ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد العشرة ، ولا يمكن الأخذ به في بعضها دون البعض الآخر فتتعارض وتتساقط.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي ليس متعلّقا بالواقع بل بالجامع ، فلا يحتمل أن يكون أيّ واحد من تلك الأشياء معلوم النجاسة.

ويرد على هذا : أوّلا : أنّنا لو سلّمنا هذه الصياغة إلا أنّ المثال المذكور غير تامّ ؛ لأنّ أركان الاستصحاب فيه تامّة حتّى على الصياغة الجديدة ، حيث إنّنا كنا على يقين بطهارة كلّ واحد من الإناءات العشرة ، فاليقين بالحدوث متحقّق ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدها ، وهذا العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح والمختار متعلّق بالجامع لا بالواقع ، أي أنّنا نعلم بوجود كلّي النجاسة وجامع النجاسة بين هذه العشرة ، ولكن كلّ فرد منها مشكوك كونه النجس بخصوصيّاته ، وهذا يعني أنّنا إذا أخذنا كلّ إناء وحده فقد كنّا على يقين من طهارته ثمّ شككنا فيها فيجري استصحاب بقائها ؛ لأنّ رفع اليد عنه معناه رفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بالشكّ ، فهو من نقض اليقين بالشكّ.

ولا يحتمل أن يكون من باب نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ اليقين بالنجاسة متعلّق بالجامع لا بالفرد ولا يسري هذا العلم من الجامع إلى الفرد إلا بعد حصول العلم التفصيلي.

وعليه فيجري الاستصحاب في كلّ الإناءات ولكنّه لا يمكن الأخذ به فيها جميعا ، ولا في بعضها دون البعض بسبب العلم الإجمالي المنجّز فيقع التعارض بينها ويحكم بتساقطها.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحو يلائم مع الشكّ فيه أيضا ، ودليل الاستصحاب مفاده أنّه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا ، وهذا يشمل محلّ الكلام حتّى لو انطبق العلم الإجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضا.

ص: 219

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع كما هي مقالة المحقّق العراقي ، إلا أنّه مع ذلك يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه في المقام ؛ وذلك لأنّ العلم بالفرد ليس علما وجدانيّا ، وإنّما هو علم إجمالي.

وهذا العلم الإجمالي على ما فسّره المحقّق العراقي يتلاءم مع الشكّ ، أي أنّه يجتمع مع الشكّ أيضا ، فكلّ واحد من الإناءات يحتمل فيه أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، لكن رفع اليد عن الحالة السابقة فيه يعتبر نقضا لليقين بالشكّ لا باليقين ، فيجري الاستصحاب فيه مع ملاحظة الشكّ المصاحب لليقين.

وحيث إنّ دليل الاستصحاب مفاده عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة التي يصدق عليها أنّها من باب رفع اليقين بالشكّ ، فالمهمّ حينئذ كون البقاء مشكوكا أو كون رفع اليد مشكوكا سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ، إذ لا يضرّ وجوده ما دام عنوان النقض بالشكّ متحقّق وما دام النقض لم يستند إلى اليقين.

وبتعبير آخر : أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة حيث يكون رفع اليد عنها يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، فما دام هذا العنوان موجودا حرم النقض وجرى الاستصحاب لإثبات البقاء التعبّدي ، سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ؛ لأنّ وجوده إلى جانب الشكّ لا يضرّ ، وإنّما الذي يضرّ هو أن يكون النقض مستندا إلى اليقين نفسه فإنّه حينئذ لا يجري الاستصحاب.

وفي مقامنا حيث إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالواقع عبارة عن العلم المشوب بالشكّ لا العلم وحده ، فيكون كلّ واحد من الأفراد - وإن كان من المحتمل انطباق الواقع عليه - مشكوك البقاء ، ويكون رفع اليد عن حالته السابقة - أي الطهارة في موردنا - نقضا لليقين السابق بالشكّ اللاحق ، إذ لا يوجد يقين لكي ننقض به اليقين السابق ، وإنّما الموجود هو اليقين المشوب بالشكّ لا اليقين وحده. وما دام الشكّ موجودا فيصدق نقض اليقين بالشكّ.

نعم ، هذا الاستصحاب يجري في كلّ الأطراف ولذلك يقع التعارض والتساقط بسبب العلم الإجمالي المنجّز.

فإن قيل : بل لا يشمل ؛ لأنّنا حينئذ لا ننقض اليقين بالشكّ بل باليقين.

كان الجواب : أنّ ( الباء ) هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشكّ ، وإلا

ص: 220

للزم إمكان النقض بالقرعة أو الاستخارة ، بل يراد بذلك أنّه لا نقض في حالة الشكّ وهي محفوظة في المقام.

قد يقال : إنّنا إذا سلّمنا بكون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع أي بالفرد غاية الأمر كون هذا العلم مشوبا بالشكّ ، فإنّه حينئذ سوف يكون رفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ فرد من الإناءات يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ كلّ فرد يحتمل أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، فيحتمل أن يكون رفع اليد عن الطهارة السابقة فيه رفعا باليقين لا بالشكّ ، ودليل الاستصحاب ينهى عن نقض اليقين بالشكّ ، أي إذا كان الشكّ هو الذي استندنا إليه بالنقض فيكون هناك حرمة ، وأمّا إذا لم يكن المستند هو الشكّ فلا حرمة سواء كان هناك شكّ أم لا ، وهنا نستند في النقض إلى اليقين المجتمع مع الشكّ لا إلى الشكّ نفسه ، فلا حرمة ، وبالتالي لا يجري الاستصحاب.

والجواب على ذلك : أنّ هذا يتمّ فيما إذا كانت الباء في كلمة ( بالشكّ ) بمعنى السبب ، فيكون المعنى أنّه لا يجوز نقض اليقين ورفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بسبب الشكّ ، إلا أنّ الصحيح أنّها بمعنى المورد والظرف ، أي أنّه في مورد الشكّ وظرفه لا يجوز النقض سواء كان النقض مستندا إلى نفس الشكّ أو إلى اليقين المجتمع معه.

وفي المقام اليقين الإجمالي مشوب بالشكّ فيصدق كون النقض في ظرف الشكّ.

ولو كانت ( الباء ) بمعنى السبب للزم جواز نقض اليقين بالقرعة أو بالاستخارة ؛ لأنّه ليس نقضا لليقين بالشكّ ، وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا (1).

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني :

وقد يقال : إنّ الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة

ص: 221


1- بل إنّ أصل الكلام مغالطة ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان عبارة عن العلم المصاحب للشكّ إلا أنّ حقيقته هذه ليست بمعنى التركيب الحقيقي من الجزءين المذكورين ، وإنّما هو تركيب تحليلي ؛ إذ لا يوجد إلا صورة واحدة بالتحليل تنقسم إلى ما ذكر ، وعليه فالمستند إلى هذه الصورة بقسميها لا إلى أحدهما بخصوصه ؛ إذ لا وجود له مستقلّ عن الآخر ، وما ذكر من النقض بالقرعة والاستخارة لا يتمّ ؛ لأنّ الروايات حصرت نقض اليقين باليقين فقط فلا يشملهما الجواز كما لا يشملهما التحريم.

الحكميّة ، كما إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء أو حرمة المقاربة بعد زوال التغيّر أو النقاء من الدم ؛ وذلك لأنّ النجاسة والحرمة وكلّ حكم شرعيّ ليس له وجود وثبوت إلا بالجعل ، والجعل آني دفعي ، فكلّ المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون أن يكون البعض منه بقاء للبعض الآخر ومترتّبا عليه زمانا.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل ، وعليه فلا شكّ في البقاء بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلا ، بل المتيقّن حصّة من الجعل والمشكوك حصّة أخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة أو الحرمة.

قد يقال : إنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الشبهات الحكميّة بناء على أخذ ركنيّة الشكّ سواء كانت بعنوان الشكّ بالبقاء أم كانت بعنوان الشكّ بما تعلّق به اليقين.

وتوضيح ذلك : أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة يعني الشكّ في الحكم ، والشكّ في الحكم إن كان مباشرة وبلا توسّط الشكّ بالموضوع أو بقيوده فهذا يعني الشكّ في النسخ ، والذي يجري فيه استصحاب عدم النسخ ، إلا أنّ موارد هذا النحو من الشكّ قليلة جدّا ونادرة.

فلا بدّ أن يكون الشكّ في الحكم ناشئا من الشكّ في الموضوع بمعنى أنّ هناك بعض القيود والخصوصيّات التي يشكّ في دخالتها كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، ولذلك يشكّ في الموضوع وبالتالي يشكّ في الحكم.

كما إذا علمنا بنجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجس ثمّ زالت هذه الأوصاف من نفسها من دون تطهير بالماء ، فهنا سوف نشكّ في أنّ هذا الماء الذي زال التغيّر عنه هل هو نجس أم طاهر؟ فهذا شكّ في الحكم.

وكما إذا علمنا بحرمة مقاربة المرأة الحائض أثناء نزول الدم ، إلا أنّه بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها سوف نشكّ في أنّه يجوز مقاربتها أم لا؟ فهذا شكّ في الحكم أيضا.

فهل يجري استصحاب الحكم السابق أي استصحاب بقاء نجاسة الماء حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه؟ وهل يجري استصحاب بقاء حرمة وطء المرأة حتّى بعد انقطاع الدم عنها وقبل اغتسالها؟

ص: 222

قد يقال : إنّه لا يجري ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني.

وبيانه : أنّ الأحكام الشرعيّة عالمها الجعل والتشريع ؛ لأنّها اعتبارات شرعيّة تصدر من الشارع على موضوعها المفترض والمقدر الوجود ، وهذا يعني أنّ الحكم بكلّ حصصه موجود في عالم الجعل ، ولا يوجد تدرّج فيها ، بمعنى أنّه يوجد في آن واحد بكلّ حصصه دفعة واحدة ، وليس هناك ترتّب في الزمان بين بعض هذه الحصص مع البعض الآخر.

فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها ( أي الماء المتغيّر فعلا والماء الذي زال عنه التغيّر من نفسه بعد أن كان متغيّرا ) وحرمة مقاربة المرأة الحائض بتمام حصصها ( أي المرأة التي يسيل منها الدم والتي انقطع عنها الدم قبل طهرها واغتسالها ) ، وحينئذ فإمّا أن نعلم بهذا الحكم الموجود في عالم الجعل فلا يكون لدينا شكّ ، وإمّا ألاّ نعلم به فلا يقين ، وإمّا أن نعلم ببعض حصصه دون البعض الآخر ، فيكون لدينا يقين بالبعض الذي علم به ولا شكّ فيه وجهل بالبعض الآخر ولا علم فيه.

وفي مقامنا نعلم ببعض الحصص ونشكّ بالبعض الآخر ، وحيث إنّه لا ارتباط ولا ترتّب لبعض الحصص على بعضها الآخر في عالم الجعل ، فما يكون معلوما ليس مشكوكا وما يكون مشكوكا ليس معلوما ؛ لأنّ المتيقّن حصّة والمشكوك حصّة أخرى لا ارتباط لها بالحصّة الأولى في عالم الجعل ، لأنّ الحصص في عالم الجعل كلّها متقارنة ودفعيّة.

نعم ، في عالم المجعول يوجد ترتّب في الزمان بين الحصص ؛ لأنّ الماء يكون غير متغيّر ثمّ يتغيّر ثمّ يزول التغيّر من نفسه ، إلا أنّ الوجود الخارجي للحصص ليس هو الموضوع للحكم ، وإنّما الموضوع له هو ما يكون في عالم الجعل وهو غير مترتّب ، بل دفعي.

وعليه فلا يجري الاستصحاب لاختلال الركن الثاني ؛ إذ لا علاقة ولا ارتباط للشكّ باليقين أو للمشكوك بالمتيقّن.

وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم الجعل فقط ، فإنّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول ، فإنّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض

ص: 223

الخارجيّة ، فيتمّ بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ويجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ هذا الكلام يتمّ فيما إذا انحصر الحكم في عالم الجعل والتشريع ، وأمّا إذا قلنا : إنّه يوجد الحكم في عالم المجعول والفعليّة فلا يتمّ هذا الكلام.

والصحيح : أنّ الحكم وإن كان تشريعه في عالم الجعل إلا أنّ وجوده لا ينحصر هناك ، وإلا لأصبحت كلّ الأحكام ذهنيّة ، بل الحكم تابع لموضوعه فإذا ثبت موضوعه في عالم الخارج كان الحكم فعليّا ، وإذا لم يثبت الموضوع في الخارج ظلّ الحكم منصبّا على الموضوع الموجود في عالم التشريع والجعل فقط.

فوجوب الحجّ على المستطيع حكم منصبّ على الاستطاعة في عالم الجعل والتشريع ، إلا أنّه إذا وجد في الخارج إنسان مستطيع فإنّ الحكم ينصبّ عليه فيقال : هذا الإنسان المستطيع يجب عليه الحجّ.

وفي مقامنا نجاسة الماء المتغيّر وحرمة وطء المرأة الحائض يتّصف بهما في الخارج الماء المتغيّر بالفعل والمرأة الحائض بالفعل ، فإذا زال التغيّر عن هذا الماء الموجود فعلا وانقطع الدم عن المرأة الموجودة في الخارج ، سوف يكون الشكّ في نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر والشكّ في حرمة وطء المرأة التي انقطع عنها الدم شكّا في بقاء النجاسة السابقة والحرمة السابقة ؛ لأنّ موضوع الحكم لا يزال موجودا وهو واحد ، غاية الأمر زالت عنه بعض القيود والخصوصيّات والتي كانت هي المنشأ للشكّ في الحكم بقاء وارتفاعا.

وحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه ، أمّا اليقين بالحدوث فلأنّ هذا الماء كان نجسا عند ما كان متغيّرا ، وهذه المرأة كان يحرم مقاربتها عند ما كان الدم يسيل منها ، ثمّ بعد زوال التغيّر وانقطاع الدم نشكّ في بقاء نجاسة هذا الماء وفي بقاء حرمة وطء هذه المرأة ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة ؛ لأنّ الركن الثاني متوفّر وهو الشكّ في البقاء أو كون الشكّ متعلّقا بما تعلّق به اليقين وهو هذا الماء وهذه المرأة.

وسيأتي فيما بعد مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن التفصيل المذكور في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة وعدم جريانه في الشبهات الحكميّة.

* * *

ص: 224

وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة

اشارة

ص: 225

ص: 226

ج - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة

وهذا هو الركن الثالث ، والوجه في ركنيّته أنّه مع تغاير القضيّتين لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، بل في حدوث قضيّة جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق ، بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه.

وقد طبّق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعيّة ، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة ، وواجه في كلّ من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي :

الركن الثالث : هو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّه إذا لم تكن القضيّة واحدة ، بل كانت القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة ، فلا يصدق كون الشكّ شكّا في البقاء أو شكّا في شيء تعلّق به اليقين ، بل يكون شكّا في قضيّة جديدة أي في الحدوث.

فمثلا إذا كنّا على يقين من طهارة الثوب ، فلا بدّ أن يكون الشكّ شكّا في طهارة هذا الثوب أيضا ، وأمّا إذا كان الشكّ شكّا في طهارة الإناء فهذا الشكّ ليس بقاء للمتيقّن السابق وليس متعلّقا به أصلا ، وإنّما هو شكّ في الحدوث ابتداء ، وهو مجرى لأصالة البراءة ونحوها من الأصول المؤمّنة ، وعليه فهذا الركن ليس ركنا مستقلاّ في مقابل الركن الثاني ، بل هو من تفريعاته ولازم له ومستنبط منه ، بل هو نفسه وتعبير آخر عنه.

وهذا الركن يواجه بعض الإشكالات والصعوبات إن من جهة تطبيقه على الشبهات الموضوعيّة أو من جهة تطبيقه على الشبهات الحكميّة ، ولذلك سنتحدّث عن كلّ واحدة منهما لنرى ما هي المشاكل والصعوبات التي تواجه الاستصحاب بناء على هذا الركن؟

ص: 227

أوّلا : تطبيقه في الشبهات الموضوعية :

جاء في إفادات الشيخ الأنصاري - قدّس اللّه روحه - (1) التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع ، إذ مع تبدّل الموضوع لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، فلا يمكنك مثلا أن تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا ؛ لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبق.

وهذه الصياغة سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصل وجود الشيء بقاء ؛ لأنّ موضوع الوجود الماهيّة ولا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في وجودها بقاء لا يمكن إحراز بقاء الموضوع ، فكيف يجري الاستصحاب؟

البحث الأوّل : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الموضوعيّة.

ذكر الشيخ الأنصاري أنّ الركن الثالث عبارة عن إحراز بقاء الموضوع ، فما لم يحرز بقاء الموضوع - سواء أحرز عدم بقائه أم احتمل ذلك - فلا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مع تبدّل الموضوع وتغيّره لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، وإنّما شكّ في الحدوث ، وهو شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له.

ومثّل لذلك : بما إذا كنّا على يقين من نجاسة خشبة ، ثمّ بعد احتراقها وصيرورتها رمادا شككنا في نجاستها ، فهذا الشكّ ليس شكّا في بقاء نجاسة الخشبة إذ الخشبة لم تبق ، وإنّما هو شكّ في موضوع جديد وهو نجاسة الرماد ، وهذا شكّ بدوي لا حالة سابقة متيقّنة له ، فلا يجري الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع المتيقّن.

وهذه الصياغة تسبّب الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة أيضا.

أمّا الاستشكال في جريانه في الشبهات الموضوعيّة فلأنّنا لو فرضنا ترتّب أثر شرعي على حياة زيد ، كبقاء العلاقة الزوجيّة أو عدم تقسيم تركته ، وكنّا على يقين من حياته فإذا شككنا في بقائه حيّا تعذّر جريان الاستصحاب هنا بناء على أنّ الركن هو بقاء الموضوع ؛ لأنّ الموضوع غير محرز.

ص: 228


1- فوائد الأصول 3 : 290 - 291.

والوجه في ذلك : هو أنّ زيدا عبارة عن ماهيّة والماهيّة يعرض عليها الوجود فيقال : ( زيد موجود ) ، فإذا شككنا في وجود زيد فهذا يعني أنّنا نشكّ في ماهيّته ، إذ لا بقاء للماهيّة إلا بالوجود ، فمع الشكّ في بقاء وجودها يعني أنّنا لم نحرز الماهيّة ، إذ لو كانت الماهيّة محرزة فهي موجودة فلا شكّ في بقاء وجودها ، وإذا لم تكن الماهيّة محرزة فهي غير موجودة ، فعند الشكّ في بقاء وجود الماهيّة لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع أي ( ماهيّة زيد ).

وبتعبير آخر : أنّ ماهيّة زيد معروضة للوجود ولا بقاء لها إلا بالوجود ، كما أنّ أصل حدوثها يكون بالوجود ، وعليه فإذا شككنا في بقاء وجودها فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز الموضوع وهو ( ماهيّة زيد ) ، إذ لو كانت ماهيّته محرزة فهي موجودة فلا شكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم توفّر الركن الثاني ، ولو كانت ماهيّته غير محرزة فهذا يعني أنّنا نشكّ في بقاء الموضوع وعدمه ، ومع الشكّ كذلك لا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع.

وكذلك سبّبت الاستشكال أحيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانويّة المتأخّرة عن الوجود كالعدالة ؛ وذلك لأنّ زيدا العادل تارة يشكّ في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيّا ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ؛ لأنّ موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء ، وأخرى يشكّ في بقاء زيد حيّا ويشكّ أيضا في بقاء عدالته على تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري استصحاب بقاء العدالة مع أنّ موضوعها غير محرز؟

وكذلك يرد الاستشكال بناء على أخذ بقاء الموضوع في بعض الشبهات الموضوعيّة الأخرى ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في بقاء بعض أعراض الموضوع والماهيّة والشيء لا في أصل بقاء وجود الماهيّة والشيء.

فإذا كان لدينا يقين بعدالة زيد - والعدالة من الصفات الثانويّة المتأخّرة في وجودها عن وجود الماهيّة والشيء ؛ لأن الشيء يوجد أوّلا ثمّ يتّصف بالعدالة ونحوها - ثمّ شككنا في بقاء عدالته ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد مع إحراز بقاء زيد على قيد الحياة ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ وذلك لإحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ،

ص: 229

فإنّ زيدا الحي هو الذي يتّصف بصفة العدالة أو بعدمها ، وهنا لدينا يقين بأنّ زيدا الحي كان عادلا ثمّ نشكّ في بقاء عدالته فيجري استصحاب بقائها لتماميّة أركان الاستصحاب.

الصورة الثانية : أن يشكّ في بقاء عدالة زيد ويشكّ أيضا في بقاء زيد على قيد الحياة ، فلو كان زيد ميّتا فلا معنى لبقاء عدالته ؛ لأنّها صفة يتّصف بها الحي لا الميّت ، وإن كان زيد حيّا فهو مشكوك العدالة ، أي أنّ الشكّ في بقاء عدالته إنّما هو على تقدير بقاء حياته.

فهنا لا يجري استصحاب بقاء العدالة ؛ وذلك لعدم إحراز بقاء الموضوع وهو حياة زيد ؛ إذ لعلّ زيدا ميّت فلا معنى لعدالته إذ لا موضوع لها ، فكيف يجري استصحاب بقاء العدالة والحال أنّ موضوعها غير محرز؟ مع أنّها صفة متأخّرة عن وجود الموضوع ، أي أنّها تثبت للموضوع والماهيّة الموجودة.

وبتعبير آخر : أنّ صفة العدالة على نحو مفاد ( كان ) الناقصة ، أي أنّها صفة للشيء والماهيّة بعد الفراغ عن ثبوت ووجود الماهيّة ، فإذا كانت الماهيّة مشكوكة وغير محرزة الوجود فسوف يشكّ في بقاء هذه الصفة ، إلا أنّه لا يجري استصحابها ؛ لأنّ موضوعها غير محرز ، إذ كيف يجري استصحاب بقائها على فرض كون الموضوع والماهيّة غير ثابتة؟ مع أنّها عرض يحتاج إلى الموضوع دائما ولا توجد من دونه ، ولذلك لا بدّ من إحراز موضوعها أوّلا ثمّ استصحاب بقائها ثانيا.

وعليه فلا بدّ من جريان استصحاب بقاء زيد حيّا في مرتبة سابقة لكي يتحقّق الموضوع.

وأمّا الاستشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فسيأتي التعرّض له ضمن الإشكال على الصياغة الثانية لهذا الركن.

وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة ، وهي لا مبرّر لها. ومن هنا عدل صاحب ( الكفاية ) (1) عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر.

ص: 230


1- كفاية الأصول : 486.

وأمّا افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط إحراز بقائه فلا موجب لذلك.

والجواب : أنّ هذه الاستشكالات كما هو واضح نشأت من صياغة الركن الثالث على هذا النحو أي إحراز بقاء الموضوع.

مع أنّ هذه الصياغة لا مبرّر لها لعدم أخذها بعنوانها في لسان الأدلّة ، وإنّما هي متفرّعة عن الركن الثاني أي كون الشكّ في البقاء ، وهذا يكفي فيه افتراض الركن الثالث بنحو آخر.

ومن هنا صاغ المحقّق الخراساني الركن الثالث بنحو آخر وهو وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، فإنّه على أساس هذه الوحدة سوف يكون الشكّ شكّا في البقاء لا في الحدوث ، أو شكّا فيما تعلّق به اليقين لا بشيء آخر مغاير له.

وبناء على هذه الصياغة الثانية لا ترد الإشكالات المذكورة آنفا ؛ لأنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة محفوظة ، أمّا الشكّ في نجاسة الرماد فهو شكّ في النجاسة التي كانت متيقّنة سابقا في الخشب ؛ لأنّ الميزان في الوحدة هو الوحدة العرفيّة لا الوحدة بالدقّة العقليّة والفلسفيّة ، والعرف يرى أنّ هذا الرماد هو نفس ذلك الخشب ، غاية الأمر أنّ صورته قد تغيّرت وأمّا المادّة فهي واحدة لكنّها الآن صارت بشكل وصورة أخرى.

وأمّا الشكّ في العدالة بقاء فهو شكّ في أنّ زيدا الذي كان حيّا وعادلا بالأمس مثلا هل لا يزال عادلا أم لا؟ فالمتيقّن والمشكوك واحد وهو عدالة زيد الحي فإنّه سابقا كان متيقّن والآن مشكوك فيجري الاستصحاب.

وأمّا ما ذكره الشيخ من كون المستصحب من الأعراض كالحياة أو العدالة أو النجاسة ، والعرض لا بدّ له من موضوع ومحلّ ليعرض عليه ، فلا بدّ أوّلا من إحراز بقاء المعروض والمحلّ ثمّ إجراء الاستصحاب ، فهذا لا موجب ولا مبرّر له لعدم الدليل على ذلك بهذا العنوان.

ثانيا : تطبيقه في الشبهات الحكميّة :
اشارة

وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكميّة نشأت بعض المشاكل أيضا ، إذ لوحظ أنّا حين نأخذ بالصياغة الثانية له التي اختارها صاحب ( الكفاية ) نجد أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة

ص: 231

الحكميّة إلا في حالات الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل ؛ - أي النسخ بمعناه الحقيقي.

وأمّا حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن أن ينشأ شكّ في نفس القضيّة المتيقّنة ، وإنّما يشكّ في بقاء حكمها حينئذ إذا تغيّرت بعض القيود والخصوصيّات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين :

البحث الثاني : في تطبيق هذا الركن في الشبهات الحكميّة.

ثمّ إنّ هذا الركن بصياغته الثانية التي ذكرها الآخوند تواجه بعض الصعوبات والمشاكل عند تطبيق الاستصحاب في موارد الشبهات الحكمية.

والوجه في ذلك : أنّ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة لا يعقل افتراضها في الشبهات الحكميّة إلا بأن يكون هناك علم بالجعل ثمّ يشكّ في بقاء هذا الجعل ، وهذا يعني الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل حقيقة ، فيجري استصحاب بقاء الجعل أو عدم النسخ ، فهنا الشكّ في بقاء الحكم بنفسه لا في موضوعه أو قيوده أو بعض الخصوصيّات ، وهذا الشكّ يعني الشكّ في أنّ الشارع هل رفع اليد عن هذا الحكم ونسخه أم لا؟

وقد تقدّم سابقا أنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال تصويره بحقّ المولى عزّ وجلّ ، فلا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم بنحو آخر وهو : أن يكون الشكّ لا بمعنى النسخ ورفع الجعل ابتداء ، وإنّما يشكّ في بقاء الحكم نتيجة تغيّر الموضوع أو بعض الخصوصيّات والقيود المأخوذة في الموضوع ، وحينئذ لا يكون هناك قضيّة واحدة بين المتيقّن والمشكوك ؛ لأنّ المتيقّن هو الحكم على هذا الموضوع بهذه القيود والخصوصيّات ، والمشكوك هو الحكم على الموضوع الذي فقد أو تغيّرت بعض قيوده وخصوصيّاته ، فكيف يجري الاستصحاب والحال هذه؟

وهنا قبل أن نجيب عن هذا الاستشكال لا بدّ من تصوير كيفيّة الشكّ في الحكم ، وهي على نحوين :

أمّا بأن تكون خصوصيّة ما دخيلة يقينا في حدوث الحكم ويشكّ في إناطة بقائه ببقائها فترتفع الخصوصيّة ويشكّ حينئذ في بقاء الحكم ، كالشكّ في نجاسة الماء بعد زوال تغيّره.

ص: 232

وأمّا بأن تكون خصوصيّة ما مشكوكة الدخل من أوّل الأمر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضيّة المتيقّنة ؛ إذ لا يقين بالحكم بدونها ، ثمّ ترتفع فيحصل الشكّ في بقاء الحكم.

وفي كلّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

النحو الأوّل : أن تكون هناك خصوصيّة دخيلة يقينا في حدوث وثبوت الحكم ولكن يشكّ في كونها دخيلة في بقائه أيضا ، بحيث يكون ارتفاعها فيما بعد سببا للشكّ في بقاء الحكم ؛ لأنّها لو كانت دخيلة بقاء فقد ارتفع الحكم وإن لم تكن دخيلة بقاء فالحكم باق على حاله.

مثاله : نجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة ، فإنّه يعلم أنّ التغيّر دخيل في ثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، ولكن لا يعلم كون التغيّر دخيلا كذلك بقاء ، بحيث لو زال التغيّر فيما بعد من نفسه فهل تبقى النجاسة أو ترتفع؟ فهنا الشكّ في بقاء الحكم نشأ من الشكّ في الخصوصيّات لا من الشكّ في ارتفاع الحكم من نفسه بالنسخ.

النحو الثاني : أن تكون هناك خصوصيّة موجودة ولكن يشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم من أوّل الأمر ، فيفرض كونها موجودة في موضوع الحكم وقيوده حدوثا ، ثمّ ترتفع فيما بعد فيشكّ في ارتفاع الحكم للشكّ في كونها دخيلة في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط.

مثاله : وجوب صلاة الجمعة فإنّه يشكّ من أوّل الأمر في كون وجوبها هل هو الأعمّ من عصر الحضور وعصر الغيبة أو هو مختصّ بعصر الحضور؟ وعلى كلّ حال لا بدّ من فرض وتقدير دخالة عصر الحضور في الموضوع ، إذ هو القدر المتيقّن ، ولكن بعد عصر الحضور سوف يشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة ؛ لأنّ هذه الخصوصيّة لو كانت دخيلة حدوثا وبقاء فقد ارتفعت الآن فلا وجوب وإلا فالوجوب باق على حاله.

وهذان النحوان من الشكّ يشكل جريان الاستصحاب فيهما من أجل الاستشكال في إمكان تطبيق الركن الثالث أي وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وذلك لأنّ موضوع الحكم المتيقّن في المثال الأوّل هو الماء المتغيّر بينما الموضوع المشكوك هو الماء الذي زال عنه التغيّر ، وموضوع الحكم المتيقّن في المثال الثاني هو صلاة الجمعة في

ص: 233

عصر الحضور بينما الموضوع المشكوك هو صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، وهذا يعني أنّ القضيّة المتيقّنة مغايرة للقضيّة المشكوكة وليست نفسها.

كما أنّا حين نأخذ بالصياغة الأولى لهذا الركن نلاحظ أنّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيّات المفروضة الوجود في مقام جعله.

وكذلك يرد الإشكال المذكور على الصياغة الأولى لهذا الركن أي إحراز بقاء الموضوع ؛ وذلك لأنّ الموضوع عبارة عن جميع ما أخذ مفترض الوجود في عالم الجعل ، فكلّ الخصوصيّات والحيثيّات والقيود والشروط المتصوّرة في عالم الجعل كلّها دخيلة في الموضوع ، فلا بدّ من إحرازها ليتحقّق بذلك إحراز بقاء الموضوع ، وهذا يعني أنّ الشكّ في بقاء الموضوع ينشأ من الشكّ في كون هذه الخصوصيّات المفترضة في الموضوع هل هي محفوظة أم لا؟ إذ لو كانت هذه القيود والخصوصيّات كلّها محفوظة فهذا يعني إحراز بقاء الموضوع ، وبالتالي يحرز بقاء الحكم ؛ لأنّه لا شكّ حينئذ ، فلا بدّ من فرض الشكّ في كون هذه الخصوصيّات والقيود وكلّ ما أخذ في عالم الجعل وقدّر وفرض هل هو محفوظ في هذا الموضوع أم لا؟ ولذلك فإنّ الموضوع الذي كنّا على يقين من حدوث الحكم فيه غير الموضوع الذي نشكّ فيه فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع ، وإذا كان هو نفسه فلا يجري الاستصحاب لعدم الشكّ.

ولأجل حلّ المشكلة المذكورة نقدّم مثالا من الأعراض الخارجيّة فنقول :

إنّ الحرارة لها معروض وهو الجسم ، وعلّة وهي النار أو الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدّد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدّد بتعدّد الأسباب والحيثيّات التعليليّة ، فإذا كانت حرارة الماء مستندة إلى النار حدوثا وإلى الشمس بقاء لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء.

والتحقيق في الجواب عن الإشكال المذكور أن يقال : إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلا إشكال ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة أو لأنّ الموضوع لا يزال باقيا.

ص: 234

وقبل بيان ذلك نتعرّض لتقديم مثال من الأعراض الخارجيّة التكوينيّة ليلقي ضوءا على ما نحن بصدده ، ولذلك نقول : إنّ الحرارة تعرض على الجسم فهي العرض والجسم هو المعروض.

وللحرارة علّة توجدها كالنار أو الشمس أو الكهرباء ، فالنار مثلا علّة للحرارة فهي حيثيّة تعليليّة.

ثمّ إنّ الحرارة تتعدّد وتتكثّر في الخارج بتعدّد الأجسام التي تعرض عليها ، فكلّما وجد جسم في الخارج وتعرّض للنار أو الشمس أو الكهرباء فالحرارة تعرض عليه ، فالتعدّد يكون بلحاظ المعروض ولذلك تكون حرارة الجسم الخشبي مغايرة لحرارة الماء أو الحجر ، مع أنّ العلّة في الجميع قد تكون واحدة كالنار ، وقد تكون متعدّدة كالنار للخشب والشمس للماء.

وهذا يعني أنّ التعدّد في الحرارة لا يكون بلحاظ التعدّد في العلّة والسبب التي هي الحيثيّات التعليليّة ؛ لأنّها قد تتعدّد ولا يكون هناك تعدّد في الحرارة في الخارج ، وقد لا تتعدّد ويحصل التعدّد في الحرارة في الخارج ، فالعمدة أو السبب في حصول التعدّد هو تعدّد المعروض.

ولذلك فإذا كان لدينا ماء فأشعلنا تحته النار فتحدث فيه الحرارة ، ثمّ إذا رفعنا النار من تحته وسلّطنا عليه الشمس أو الكهرباء فالحرارة الموجودة الآن بلحاظ مرحلة البقاء مستندة إلى الشمس أو الكهرباء لا إلى النار ، ولكنّ حرارة الماء واحدة لم تتغيّر ؛ لأنّ المعروض لا يزال ثابتا لم يتغيّر ، وإنّما تغيّرت الحيثيّات التعليليّة وهي لا توجب التعدّد والتغيّر للحرارة.

وعليه فحرارة الماء حدوثا استندت إلى النار ولكنّها استندت إلى الشمس بقاء إلا أنّها حرارة واحدة مستمرّة ، أي لها حالة استمراريّة حدوثا وبقاء لا أنّها انقطعت ثمّ حدثت حرارة أخرى مكانها ، بل الحرارة التي كانت موجودة سابقا لا تزال موجودة لاحقا.

والحاصل : أنّ العرض يتعدّد بلحاظ تعدّد المعروض لا بلحاظ تعدّد العلّة والسبب والحيثيّات التعليليّة.

ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة مثلا ، فإنّ لها معروضا وهو الجسم

ص: 235

وعلّة وهي التغيّر بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلا ، والضابط في تعدّدها تعدّد معروضها لا تعدّد الحيثيّات التعليليّة.

فالخصوصيّة الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن كانت على فرض دخالتها بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ، ولا تستوجب دخالتها كحيثيّة تعليليّة مباينة الحكم بقاء للحكم حدوثا ، كما هو الحال في الحرارة أيضا ، وإن كانت الخصوصيّة الزائلة مقوّمة لمعروض الحكم كخصوصيّة البوليّة الزائلة عند تحوّل البول بخارا ، فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.

وفي الشبهات الحكميّة نقول : إنّ الحكم يعرض على الموضوع ؛ لأنّ الأحكام وإن كانت اعتباريّة بالحمل الأوّلي وبلحاظ عالم الجعل إلا أنّها موجودات حقيقيّة بالحمل الشائع وبلحاظ عالم المجعول.

فالنجاسة العارضة على الماء المتغيّر مثلا موجودة حقيقة في عالم المجعول والفعليّة ، فهي تعرض على الماء الموجود في الخارج المتغيّر بأوصاف النجاسة ، والماء المتغيّر فعلا هو معروضها ، وعلّتها هي التغيّر.

وعليه فالنجاسة تتعدّد في الخارج بلحاظ تعدّد المعروض أي كلّما وجد ماء تغيّر فهو نجس كالحرارة العارضة على الجسم ، وسببها هو التغيّر كما أنّ سبب الحرارة هو الشمس أو النار ، ولكنّ التغيّر حيثيّة تعليليّة لا تتعدّد النجاسة بسببها ، بل تتعدّد بلحاظ الماء.

وحينئذ نقول : إنّ الخصوصيّة - التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت فيما بعد ، والذي كان ارتفاعها وزوالها هو السبب في حصول الشكّ في بقاء الحكم - إن كانت بمثابة السبب والعلّة والحيثيّة التعليليّة أو الشرط فوجودها ضروري لحدوث الحكم وعروضه على الموضوع ، إلا أنّ زوالها لا يضرّ في بقاء الحكم واستمراره ، ولا يؤثّر زوالها في كون الحكم الحادث مباينا للحكم الباقي ، نظير النار والشمس بالنسبة للحرارة ، فإنّ الحرارة إن كانت حادثة بالنار فلا يضرّ زوال النار وبقاء الحرارة بالشمس ؛ لأنّ النار والشمس حيثيّتان تعليليّتان لا يوجبان التعدّد والمباينة في العرض.

وأمّا إن كانت هذه الخصوصيّة بمثابة المقوّم للمعروض بحيث يكون المعروض -

ص: 236

وجودا وعدما - متوقّفا على وجود تلك الحيثيّة وعدمها ، فهنا إذا كانت هذه الحيثيّة موجودة حدوثا فالمعروض موجود فالعرض ثابت له ، فإذا ارتفعت هذه الحيثيّة بقاء فهذا يعني أنّ المعروض مرتفع أيضا فيرتفع العرض ؛ لأنّ العرض لا يثبت من دون معروضه ، من قبيل نجاسة البول فإنّ النجاسة عارضة على الجسم المتّصف بالبوليّة إلا أنّ هذه الحيثيّة مقوّمة لهذا السائل ، بحيث إذا ارتفعت وصار السائل بخارا مثلا يرتفع المعروض أيضا فيرتفع العرض بارتفاع معروضه ، ولذلك فالحكم بالنجاسة الثابت للجسم المتّصف بالبوليّة مغاير ومباين للحكم بالنجاسة للجسم الذي ارتفعت عنه هذه الحيثيّة وصار بخارا ، وهذا ما يسمّى بالحيثيّة التقييديّة.

وعليه فكلّما كانت الخصوصيّة غير المحفوظة من الموضوع أو من القضيّة المتيقّنة حيثيّة تعليليّة فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثا وبقاء ، ومعه يجري الاستصحاب.

وكلّما كانت الخصوصيّة مقوّمة للمعروض كان انتفاؤها موجبا لتعذّر جريان الاستصحاب ؛ لأنّ المشكوك حينئذ مباين للمتيقّن.

وعليه : نستنتج قاعدة عامّة كلّيّة مفادها : أنّ الخصوصيّة التي كانت موجودة في الموضوع أو في القضيّة المتيقّنة إن كانت من الحيثيّات التعليليّة ، فارتفاعها لاحقا وبقاء لا يضرّ في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ ارتفاعها لا يوجب تعدّد الحكم كما أنّ وجودها لا يوجب تعدّد الحكم أيضا ، وهذا معناه أنّ الحكم الذي كان متيقّنا سابقا هو نفس الحكم المشكوك بقاء وليس مغايرا له.

فتغيّر وتبدّل الحيثيّة التعليليّة لا يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة فيجري الاستصحاب ، وأمّا إن كانت الخصوصيّة المذكورة من الحيثيّات التقييديّة - بأن كانت مقوّمة للمعروض بحيث يكون وجودها سببا لوجود المعروض وارتفاعها سببا لارتفاع المعروض - فهنا زوال هذه الحيثيّة بقاء يوجب التغيّر والتبدّل في الموضوع أو القضيّة المتيقّنة.

فيكون المعروض المتيقّن الحكم سابقا مغايرا للمعروض اللاحق والذي يشكّ في حكمه بقاء ، ولذلك لا يجري الاستصحاب لعدم إحراز وحدة الموضوع ، أو لأنّ هذه الحيثيّة توجب كون المتيقّن غير المشكوك فلم تتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

ص: 237

ومن هنا يبرز السؤال التالي :

كيف نستطيع أن نميّز بين الحيثيّة التعليليّة والحيثيّة التقييديّة المقوّمة لمعروض الحكم؟

بعد أن عرفنا أنّ الحيثيّة والخصوصيّة الموجب ارتفاعها الشكّ في بقاء الحكم على نحوين :

الأوّل : الحيثيّة التعليليّة ، التي لا توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وبالتالي لا توجب التعدّد والتغيّر في المعروض فيجري الاستصحاب لتوفّر أركانه.

الثاني : الحيثيّة التقييديّة ، التي تكون مقوّمة للمعروض بحيث يكون المعروض الواجد لها مباينا للمعروض الفاقد لها ، أي أنّها توجب التغيّر والتبدّل في الموضوع والقضيّة المتيقّنة ، وبالتالي المعروض. فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثالث.

فلا بدّ أن نعرف الضابط الذي على أساسه نميّز الحيثيّة التعليليّة عن الحيثيّة التقييديّة ، فما هو الملاك والميزان لذلك هل هو العقل أو العرف أو الشرع؟

فقد يقال بأنّ مرجع ذلك هو الدليل الشرعي ؛ لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك.

فإذا ورد بلسان ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيّة تعليليّة ، وإذا ورد بلسان ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهمنا أنّ التغيّر حيثيّة تقييديّة.

وعلى وزان ذلك ( قلّد العالم ) أو ( قلّده إن كان عالما ) ، وهكذا.

قد يقال : إنّ الضابط والميزان لتحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع ؛ وذلك لأنّ أخذ الحيثيّة في الحكم من شئون الشارع وتحت سلطانه ؛ لأنّ الحكم الشرعي هو ذاك الاعتبار الشرعي المجعول في عالم الجعل واللحاظ على موضوعه بتمام الحيثيّات والخصوصيّات ، وكذلك بالنسبة لكيفيّة أخذ هذه الحيثيّة بنحو التعليل أو التقييد ، فإنّه أيضا راجع إلى الشارع.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من النظر إلى الدليل الشرعي وملاحظة ما ورد في لسانه ، وهنا إذا كان لسان الدليل - الذي وردت فيه هذه الحيثيّة - بنحو الشرط أو جزء الموضوع ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة الواردة فيه قد أخذت بنحو الحيثيّة التعليليّة ، كما إذا

ص: 238

قيل : ( الماء إذا تغيّر تنجّس ) ، فهنا التغيّر كان شرطا لنجاسة الماء فهو العلّة والسبب لحدوث النجاسة ، ولذلك إذا زال التغيّر فالحكم السابق المتيقّن ليس مباينا للحكم اللاحق المشكوك ، بل يعتبر الثاني بقاء للأوّل فيجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان لسان الدليل بنحو الوصف أو القيد أو اللقب ، فهذا يعني أنّ الحيثيّة المأخوذة فيه حيثيّة تقييديّة ، كما إذا قيل : ( الماء المتغيّر متنجّس ) فهنا التغيّر أخذ قيدا ووصفا للماء ، وهذا يعني أنّ الماء المتّصف بهذا الوصف هو المحكوم بالنجاسة ، فإذا زال هذا الوصف ارتفع الحكم بالنجاسة عن الماء ، فإذا شكّ في نجاسته فهذا يعني الشكّ في حكم آخر غير الحكم السابق ؛ لأنّ الحكم السابق انتفى بانتفاء قيده ، فيكون الشكّ اللاحق شكّا في الحدوث لا في البقاء ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا نظير ما إذا ورد ( قلّد العالم ) ، وورد ( الشخص إن كان عالما فقلّده ).

فإنّ الأوّل يدلّ على أخذ حيثيّة العلم بما هي حيثيّة تقييديّة ؛ لأنّها وصف وقيد للإنسان ، فيكون التقليد مختصّا بالعالم ، فإذا زال العلم عنه وشكّ في جواز تقليده لم يجر الاستصحاب ؛ لأنّ جواز التقليد عن الفاقد ليس بقاء للحكم بجواز تقليد العالم ، بل هو فرد آخر منه ، بخلاف الثاني فإنّ العلم أخذ حيثيّة تعليليّة بمعنى أنّ العلّة والسبب لجواز تقليد هذا الشخص هو العلم ، فإذا زال عنه هذا الوصف وشكّ في بقاء تقليده جرى استصحابه ؛ لأنّ الحكم اللاحق على فرض ثبوته يعتبر بقاء للحكم السابق.

وهكذا نعرف أنّ المرجع في تحديد وتعيين كيفيّة أخذ الحيثيّة من كونها تعليليّة أو تقييديّة هو الشارع.

والصحيح : أنّ أخذ الحيثيّة في الحكم بيد الشارع وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبإمكانه أن يجعل التغيّر قيدا للماء ، وبإمكانه أن يجعله شرطا في ثبوت النجاسة تبعا لكيفيّة تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل.

غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ، بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء كما تقدّم (1).

ص: 239


1- تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الميزان والضابط ليس هو الدليل الشرعي ، والوجه في ذلك هو : أنّ ما ذكر من كون الحيثيّة بيد الشارع صحيح ، وكذلك نحو أخذها علّة تارة وقيدا أخرى ، إلا أنّ هذا يتمّ بلحاظ عالم الجعل والتشريع الذي هو عالم اللحاظ المولوي للحكم وموضوعه.

فالشارع يلحظ جميع الحيثيّات والخصوصيّات التي يرى دخالتها في ثبوت الحكم ، ولكن يلحظها بما هي مفاهيم وصور ذهنيّة ، كلّ صورة مغايرة ومباينة للأخرى ، كالماء والتغيّر والنجاسة.

فإنّ الصورة الذهنيّة للماء مغايرة للصورة الذهنيّة للتغيّر والنجاسة ، وبعد لحاظه لها بإمكانه أن يجعل هذه الحيثيّة تعليليّة بأن يأخذها شرطا وعلّة وسببا لثبوت الحكم بالنجاسة على الماء ، وبإمكانه أن يجعلها قيدا ووصفا للموضوع الذي يريد الحكم عليه بأنّه نجس ، وذلك تبعا لما يراه مناسبا في صياغة الحكم على موضوعه ، ولما يراه مناسبا في كيفيّة تنظيم هذه المفاهيم المتباينة فيما بينها.

غير أنّ هذا لا علاقة له بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ، وذلك لما تقدّم من أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لا يجري بلحاظ عالم الجعل ؛ لأنّه لا معنى له إلا من ناحية الشكّ في النسخ والذي يعتبر حالة نادرة من جهة ، وحالة غير ابتلائيّة فعلا من ناحية أخرى.

وإنّما يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، أي يكون الشكّ في الحكم ناتجا ومسبّبا عن كون حيثيّة ما موجودة في موضوع الحكم ثمّ ارتفعت وزالت ، فيشكّ في بقاء الحكم نتيجة الشكّ في كون هذه الحيثيّة التي كانت موجودة ثمّ ارتفعت ، هل هي مؤثّرة في ارتفاع الحكم بقاء أو لا؟

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة عالم المجعول لا عالم الجعل ، وفي عالم المجعول كما تقدّم يكون الحكم عارضا على الموضوع الموجود فعلا ، وهذا الموضوع له حدوث وله بقاء ؛ لأنّه تارة يكون واجدا لهذه الحيثيّة وأخرى يكون فاقدا لها ، والحكم المشكوك في حالة الفقدان للحيثيّة ليس مغايرا للحكم المتيقّن سابقا حالة وجود هذه الحيثيّة ، بل يكون على فرض ثبوته بقاء واستمرارا للحكم السابق.

ص: 240

وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ننظر إلى الحيثيّة بما هي موجودة في الخارج وعالم المجعول لا عالم الجعل والذهن.

وعليه فالمعروض محدّد واقعا ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل ، بل مدى قابليّته للاتّصاف بالحكم خارجا.

فالتغيّر مثلا لا يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغيّر سبب الاتّصاف.

والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم بما هو عالم أو من علمه بحسب الحقيقة.

فالتغيّر حيثيّة تعليليّة ولو أخذت تقييديّة جعلا ودليلا ، والعلم حيثيّة تقييديّة لوجوب التقليد ولو أخذ شرطا وعلّة جعلا ودليلا.

وعلى هذا نقول : إنّ الحكم عرض محدّد وكذا المعروض محدّد في الواقع ، تبعا لما لاحظه الشارع في عالم الجعل واللحاظ ، أي أنّ الشارع صبّ حكمه على المعروض المحدّد.

وأمّا الحيثيّات والخصوصيّات الداخلة أو الخارجة بالنسبة للمعروض ، فهذه لا يتّبع فيها كيفيّة أخذها في عالم الجعل واللحاظ ، بل خروجها ودخولها يتّبع فيه مدى قابليّتها للاتّصاف بالحكم في الخارج ، فإذا كانت قابلة لاتّصاف الحكم فهي داخلة وإلا فهي خارجة.

وبهذا يكون الميزان والضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أي خارجة أو تقييديّة أي داخلة هو مدى قابليّتها لاتّصاف الحكم بها في الخارج.

فمثلا التغيّر المأخوذ في موضوع الحكم بالنجاسة على الماء إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإن لم يكن قابلا لذلك فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ التغيّر لا يتّصف بالنجاسة ؛ إذ لا يقال : ( التغيّر نجس ) وإنّما يقال : ( الماء نجس ) ، فإذن ما هو داخل ذات الماء فقط ، والتغيّر علّة لذلك ، سواء كان مأخوذا في لسان الدليل شرطا وعلّة أم كان مأخوذا قيدا ووصفا ؛ لأنّ الاعتبار بلحاظ عالم الخارج لا بلحاظ عالم الجعل واللحاظ.

ص: 241

والاجتهاد أو العلم المأخوذ في موضوع الحكم بتقليد الشخص العالم إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإلا فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ الاجتهاد أو العلم يصحّ اتّصافه بالحكم فيقال : قلّد العلم أو الاجتهاد ، أو يقال : قلّد من يكون عالما ، ولا يقال : ( قلّد الشخص ) على الإطلاق.

وهذا يعني أنّه حيثيّة تقييديّة سواء أخذ في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا وعلّة أم وصفا وقيدا.

وبهذا يظهر أنّ الضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو كونها قابلة للاتّصاف بالحكم في الخارج أو غير قابلة لذلك ، وليس الضابط لذلك كونها مأخوذة في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا أو قيدا ؛ لأنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلحاظ عالم المجعول والخارج لا عالم الجعل واللحاظ.

وهنا نواجه سؤالا آخر وهو : أنّ المعروض واقعا بأي نظر نشخّصه؟ هل بالنظر الدقيق العقلي ، أو بالنظر العرفي؟

مثلا : إذا أردنا في الشبهة الحكميّة أنّ نستصحب اعتصام الكرّ بعد زوال جزء يسير منه - فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء - فكيف نشخّص معروض الاعتصام؟

فإنّنا إذا أخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا أنّ المعروض غير محرز بقاء ؛ لأنّ الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكّل جزءا من المعروض بهذا النظر ، وإذا أخذنا بالنظر العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء ؛ لأنّ العرف يرى أنّه نفس الماء السابق.

والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكريّة بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعيّة.

وهنا سؤال آخر : بعد أن عرفنا أنّ الضابط في تحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو ملاحظة المعروض في الخارج ومدى اتّصاف الحيثيّة بالحكم ، نريد أن نشخّص هذا الضابط ؛ وذلك لأنّ تشخيص المعروض الخارجي إمّا أن يكون بالنظر العقلي الدقيق ، وإمّا أن يكون بالنظر العرفي المسامحي ، فإنّ هذين النظرين يختلفان في النتيجة.

ص: 242

وبيان ذلك : إذا كان لدينا ماء بقدر كرّ فهو محكوم بالاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجاسة ما لم يحصل التغيّر ، فإذا أخذنا من هذا الماء مقدارا يسيرا جدّا - كقبضة اليد مثلا - فشككنا في بقائه على صفة الاعتصام أو زوالها عنه بسبب فقدانه لذلك الجزء اليسير من الماء.

فهل يجري استصحاب الاعتصام بنحو الشبهة الحكميّة ، بأن يقال : إنّ هذا الماء كان معتصما والآن نشكّ في بقائه على الاعتصام بسبب فقدانه مقدارا يسيرا من الماء ، فيجري استصحاب الاعتصام؟ أو أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّ الماء الذي كان معتصما هو الماء الواجد لهذا الجزء اليسير الذي أخذ منه ، والماء المشكوك كونه معتصما هو الماء الفاقد لهذا المقدار ، فلم يتّحد الموضوع أو القضيّة المتيقّنة والمشكوكة؟

وهنا الجواب يختلف باختلاف الميزان والضابط الذي على أساسه نشخّص المعروض في الخارج ، فنقول : إن كان الميزان هو النظر العقلي الدقيق ، كان الماء المحكوم بالاعتصام يقينا غير الماء المشكوك الاعتصام ، فالموضوع غير محرز أو المعروض ليس متّحدا ؛ لأنّ الجزء اليسير من الماء المأخوذ يعتبر جزءا من الماء ويشكّل جزءا من الكرّ المحكوم بالاعتصام ، فمع فقدانه يفقد الكرّ وبالتالي الاعتصام.

وإن كان الميزان هو النظر العرفي المسامحي ، فالماء أي المعروض للاعتصام لا يزال باقيا على حاله ؛ لأنّه يقال عرفا إنّ هذا الماء الفاقد لمقدار يسير لا يزال على الاعتصام ، بحيث إنّه يرى عرفا أنّ هذا الماء هو نفس ذلك الماء واستمرار له.

ونفس هذا الكلام يجري في الشبهات الموضوعيّة ، فيما إذا أردنا أن نستصحب بقاء الكرّيّة لهذا الماء بعد العلم بالكرّيّة ثمّ أخذ مقدار منه ، فإنّه يشكّ في بقاء الموضوع بناء على النظر العقلي الدقيق فلا يجري الاستصحاب ، بينما يكون الموضوع واحدا بناء على النظر العرفي المسامحي فيجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ المتّبع هو النظر العرفي ؛ لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفي منزّل على الأنظار العرفيّة ، فالاستصحاب يتّبع صدق النقض عرفا ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.

والجواب : أنّ الميزان في تشخيص المعروض في الخارج هو النظر العرفي المسامحي.

والوجه في ذلك هو : أنّ دليل الاستصحاب عبارة عن خطاب بأمر عرفي ؛ لأنّ

ص: 243

كبرى الاستصحاب أي ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) عبارة عن قاعدة مرتكزة في الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ ما يراه العرف نقضا لليقين بالشكّ يكون حراما ، وتشخيص كون هذا نقضا أو ليس نقضا بيد العرف ؛ لأنّ الاستصحاب منزّل على الفهم العرفي وعلى صدق النقض عرفا.

وعلى هذا الأساس فالمعروض الذي يشترط بقاؤه والحفاظ عليه هو ذاك المعروض الذي يراه العرف ثابتا ومحفوظا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الثالث من أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 244

الأثر العملي

ص: 245

ص: 246

د - الأثر العملي

والركن الرابع من أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية :

الركن الرابع من أركان الاستصحاب هو وجود أثر عملي يمكن التعبّد به.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّ الأثر العملي يعتبر شرطا مصحّحا لجريان الاستصحاب ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي فلا يصحّ جريان الاستصحاب.

ثمّ إنّ هذا الركن توجد ثلاث صياغات له :

الأولى : أن ينتهى إلى التعبّد بأثر عملي ، ولعلّ هذا ما يظهر من مدرسة الميرزا.

الثانية : أن يكون المستصحب ذا أثر قابل للتنجيز أو التعذير ، ولعلّ هذا ما يختاره السيّد الشهيد.

الثالثة : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، وهو المشهور بينهم كما يظهر من ( الكفاية ) وغيرها.

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الصياغات سوف تظهر لاحقا.

الأولى : أنّ الاستصحاب يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثر عملي ، إذ لو لم يترتّب أيّ أثر عمليّ على التعبّد الاستصحابي كان لغوا ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.

الصياغة الأولى : أن يكون التعبّد الاستصحابي مؤدّيا إلى التعبّد بأثر عملي ، أي أنّ جريان الاستصحاب متقوّم بوجود الأثر العملي لكي يصحّ التعبّد الاستصحابي ، إذ لو لم يكن هناك أي أثر عملي في البين لم يصحّ التعبّد بالاستصحاب في مثل تلك الموارد ؛ لأنّ شموله للموارد التي لا يوجد فيها أثر عملي لغو ولا فائدة منه.

ولذلك فمقدّمات الحكمة تصرف الإطلاق في دليل الاستصحاب من الموارد التي

ص: 247

لا أثر عملي فيها إلى الموارد التي يوجد فيها أثر عملي ، فيكون الدليل مقيّدا بمقيّد لبّي متّصل به ، والذي يعني أنّ ظهور الدليل لا ينعقد في الإطلاق أصلا ومن أوّل الأمر ، بل ينعقد في المقيّد ابتداء.

وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة إلى أيّ استدلال سوى ما ذكرناه ، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتّى فيما إذا لم يكن المستصحب أثرا شرعيّا ، أو ذا أثر شرعي ، أو قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من الوجوه ، على شرط أن يكون لنفس التعبّد الاستصحابي به أثر يخرجه عن اللغويّة ، كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي - لا حكم له - تمام الموضوع لحكم شرعي ، وقلنا بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى أنّ المجعول فيه الطريقيّة ، فإنّ بالإمكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وإن لم يكن للمستصحب أثر.

وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.

وهذه الصياغة واسعة جدّا فهي تشمل كلّ الموارد ما عدا تلك التي يكون جريانه فيها لغوا ولا فائدة منه.

والدليل على هذا الركن بهذه الصياغة هو التمسّك بإطلاق أدلّة الاستصحاب الشاملة ، لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ في كلّ الحالات ما عدا الحالات التي لا يوجد فيها أثر يصحّ التعبّد به وإلا لكان لغوا ، فمحذور اللغويّة ومقدّمات الحكمة تقتضي هذه الصياغة.

ثمّ إنّ صياغة الركن بهذا النحو تجعل الاستصحاب يجري في كلّ الموارد ، سواء كان هناك أثر شرعي مترتّب على المستصحب ، أم كان المستصحب نفسه حكما شرعيّا ، أو موضوعا لحكم شرعي ، أم كان المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، أم لم يكن المستصحب شيئا من هذه الأمور أصلا شرط أن يكون هناك أثر على نفس التعبّد الاستصحابي لكي يخرج عن اللغويّة ويصحّ التعبّد به ، فيما إذا كان الأثر مترتّبا على نفس اليقين الاستصحابي لا على المستصحب.

مثال ذلك : أن يكون القطع بالموضوع الخارجي تمام الموضوع لحكم شرعي ، من دون أن يكون لنفس الموضوع الخارجي أثر شرعي ، فإنّنا لو فرضنا مثل هذا الموضوع

ص: 248

فيكون القطع به هو تمام الموضوع ولا مدخليّة لهذا الموضوع الخارجي في موضوع الحكم.

فهنا إذا حصل لنا قطع وجداني بالموضوع الخارجي فلا إشكال في ترتّب الحكم المفترض ثبوته على هذا القطع.

وأمّا إذا لم يكن لدينا قطع فعلا بل كان لدينا قطع بالموضوع الخارجي سابقا والآن نشكّ ببقائه ، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟

والجواب : أنّه على هذه الصياغة سوف يجري الاستصحاب ؛ لأنّه ينتهى به إلى التعبّد بأثر عملي ؛ لأنّنا إذا استصحبنا بقاء ذاك اليقين السابق فنصبح على يقين تعبّدي بذاك الموضوع الخارجي ، وهنا إذا قلنا - كما هي مقالة مدرسة الميرزا - إنّ المجعول في الاستصحاب هو العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة وإنّ الاستصحاب كالأمارات يقوم مقام القطع الموضوعي ، فسوف يترتّب الحكم الثابت للقطع الحقيقي على القطع الثابت بالاستصحاب ، فيكون للتعبّد الاستصحابي نفسه أي لليقين التعبّدي أثر عملي يصحّح التعبّد به ، بينما نفس المستصحب أي ذاك الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

وهذا معنى ما يقال : إنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي دون القطع الطريقي في بعض الموارد ، فإنّ هذا المورد يقوم فيه الاستصحاب نفسه أي اليقين التعبدي المفاد من دليل الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، حيث فرضنا أنّ القطع تمام الموضوع لحكم ، ولكنّه لم يقم مقام القطع الطريقي ؛ لأنّ الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

الثانية : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر على نفس التعبّد الاستصحابي.

ولا فرق في قابليّة المستصحب للمنجّزيّة والمعذّريّة بين أن تكون باعتباره حكما شرعيّا أو عدم حكم شرعي ، أو موضوعا لحكم أو دخيلا في متعلّق الحكم ، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا إثباتا ونفيا.

الصياغة الثانية : أن يكون الاستصحاب ذا أثر تنجيزي أو تعذيري ، بمعنى أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو التعذير ، فإذا لم يكن المستصحب قابلا لذلك لم

ص: 249

يجر الاستصحاب حتّى لو فرض وجود أثر على نفس التعبّد الاستصحابي ، فإنّ هذا الأثر وحده لا يكفي في جريان الاستصحاب ما دام المستصحب غير قابل للتنجيز أو التعذير.

ثمّ إنّ كون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير يشمل عدّة موارد :

الأول : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا كاستصحاب نجاسة الماء أو استصحاب وجوب الجمعة بعد زوال التغيّر أو بعد عصر الحضور.

الثاني : أن يكون المستصحب عدم حكم شرعي كاستصحاب عدم وجوب الحجّ عند الشكّ في تحقّق الاستطاعة.

الثالث : أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعيّ كاستصحاب عدالة زيد التي هي موضوع لجواز الصلاة خلفه أو لقبول شهادته.

الرابع : أن يكون المستصحب دخيلا في متعلّق الحكم نفيا أو إثباتا كاستصحاب طهارة الثوب الدخيلة إثباتا في الصلاة ، أو استصحاب عدم الطهارة كذلك ، فإنّ الطهارة ثبوتا وانتفاء دخيلة في الواجب كالصلاة.

فهذه الاستصحابات كلّها ممّا يترتّب على المستصحب فيها أثر تنجيزي أو تعذيري ، فاستصحاب الحكم منجّز تارة إن كان الحكم إلزاميّا كالوجوب والحرمة ، ومعذّر أخرى بأن كان الحكم الجواز ، واستصحاب عدم الحكم معذّر ؛ لأنّه ينفي التكليف ، واستصحاب الموضوع تارة يكون منجّزا بأن كان موضوعا لحكم إلزامي ، وأخرى يكون معذّرا بأن كان موضوعا لحكم ترخيصي.

واستصحاب ما يكون دخيلا في متعلّق الحكم أي الواجب تارة يكون منجّزا كاستصحاب طهارة الثوب أو عدم طهارته ، فإنّ استصحاب طهارته تجعل المكلّف معذورا لو دخل في الصلاة بهذا الثوب ثمّ تبيّن نجاسته فيما بعد ، واستصحاب نجاسته تجعل المكلّف ملزما بتطهيره أو تبديله وعدم جواز الصلاة فيه.

ومدرك هذه الصيغة التي هي أضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ؛ لأنّ مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي ؛ لأنّه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه ، وإنّما هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض أنّ اليقين - بحسب طبعه - له

ص: 250

اقتضاء عملي لينقض عملا ، والاقتضاء العملي لليقين إنّما يكون بلحاظ كاشفيّته ، وهذا يفترض أن يكون اليقين متعلّقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب.

والدليل على صحّة هذه الصياغة هو أنّ النقض الوارد في كبرى الاستصحاب ليس هو النقض الحقيقي وإنّما هو النقض العملي.

أمّا أنّ النقض الحقيقي غير ممكن أن يكون هو المراد ، فلأنّ النقض الحقيقي معناه أنّ الشارع حكم ببقاء اليقين عند الشكّ أو أنّه نهى عن نقض اليقين عند الشكّ.

وهذا المعنى غير معقول ؛ لأنّ اليقين منتقض حقيقة وتكوينا بسبب حصول الشكّ ، إذ لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ معا ، ففرض حصول الشكّ معناه انتقاض اليقين من نفسه ، فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع بعدم نقض اليقين ؛ لأنّه يكون من النهي عن شيء واقع لا محالة ، وهو خارج عن قدرة المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النقض هنا واقع لا محالة لفرض الشكّ فلا يعقل النهي عن النقض الحقيقي لليقين ؛ لأنّه لما انتقض تكوينا بالشكّ فصار عدم نقضه تكليفا بما لا يطاق ولا يقدر المكلّف عليه.

وأمّا النقض العملي فهو المعقول فيكون المراد أنّ آثار اليقين لا يجوز نقضها ورفع اليد عنها بسبب الشكّ.

ومن الواضح أنّ الفرض المذكور لا يتمّ إلا إذا كان اليقين متعلّقا بشيء له أثر عملي تنجيزي أو تعذيري لكي يصحّ النهي عن نقضه ، وعليه فلا بدّ من فرض أن يكون لليقين اقتضاء عملي بالفعل لكي يصحّ نقضه بالشكّ ، وبالتالي يصحّ النهي الشرعي عنه ، وفرض الاقتضاء العملي لليقين لا يكون بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّ النقض العملي يقابله الجري العملي والجري العملي بلحاظ اليقين لا يكون بلحاظ اليقين نفسه ، بل بلحاظ المتيقّن ، وهذا يفترض أن يكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف وطريق عن المتعلّق.

وبهذا يكون النقض العملي لليقين بلحاظ كاشفيّته متوجّها في الحقيقة إلى آثار المتيقّن التنجيزيّة أو التعذيريّة ، فيكون دليل الاستصحاب شاملا لكلّ الموارد التي يكون فيها تنجيز وتعذير بلحاظ المتيقّن.

ص: 251

ولذلك لا بدّ من فرض المستصحب نفسه ذا أثر تنجيزي أو تعذيري لكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف ، ولا يصحّ جريان الاستصحاب في الموارد التي لا يكون فيها للمستصحب أي أثر ، بل كان الأثر بلحاظ نفس التعبّد الاستصحابي أي اليقين التعبّدي ؛ لأنّ هذا يعني ملاحظة اليقين الموضوعي وملاحظته كذلك معناها فرض النقض الحقيقي والذي تقدّم أنّه غير معقول.

وهذا البيان يتوقّف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشادا إلى عدم إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فإنّ المولى قد ينهى عن شيء إرشادا إلى عدم القدرة عليه كما يقال في : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) ، غاية الأمر أنّ الصلاة غير مقدورة للحائض حقيقة ، والنقض غير مقدور للمكلّف ادّعاء واعتبارا ، لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق.

وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقيّة ، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي.

إلا أنّ ما ذكرناه - من كون النقض هو النقض العملي لا الحقيقي - متوقّف على استظهار أن يكون المراد من النهي عن النقض هو النهي الحقيقي أي الحرمة الشرعيّة ، ولو بقرينة تعلّق النهي باليقين ، حيث قلنا : إنّ النهي عن نقض اليقين غير معقول ؛ لأنّ الانتقاض حاصل تكوينا لطروّ الشكّ فعلا ، فلا يمكن توجيه خطاب للمكلّف ينهاه عن نقض اليقين فإنّه غير مقدور له ، فالبيان المتقدّم يتمّ إذا كان المستظهر النهي الشرعي أي الحرمة التكليفيّة.

وأمّا إذا استظهر عرفا كون المراد من النهي هنا النهي الإرشادي فلا يتمّ ما ذكرناه ، بل يتمّ ما تقدّم في الصياغة الأولى لهذا الركن ؛ لأنّه بناء على النهي الإرشادي يكون المراد أنّ الشارع يرشدنا إلى عدم إمكان نقض اليقين بحسب عالم الاعتبار ، أي أنّه يرشدنا إلى أنّ النقض صار غير مقدور لنا بسبب أنّ الشارع قد عبّدنا ببقاء اليقين ، فيكون النقض خارجا عن قدرة المكلّف بسبب التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض.

فكما أنّ عدم القدرة والعجز التكويني عن الفعل أو الترك لا يمكن تعلّق التكليف

ص: 252

به فكذلك العجز الشرعي عن الفعل أو الترك ، فإنّه لا يكون المكلّف بلحاظه قادرا على الفعل أو الترك تعبّدا وإن كان قادرا على ذلك تكوينا.

فإذا قيل : ( لا تطر في الهواء ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور للمكلّف تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على الطيران واقعا فلا يمكن النهي عنه شرعا والتعبّد بعدمه.

وإذا قيل : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور عليه شرعا ، أي أنّ الحائض بهذا الوصف لا يمكنها الإتيان بالصلاة ، فالصلاة غير مقدورة ولا يمكن للحائض الإتيان بها حقيقة ؛ لأنّ الصلاة يشترط فيها الطهارة وهي غير مقدورة للحائض حقيقة ، فإذا صلّت الحائض فهذه الصلاة ليست هي الصلاة المطلوبة شرعا ؛ لأنّها فاقدة للطهارة فهي لم تصلّ أصلا وإن أتت بشيء يشبه صورة الصلاة ، فواقعا وحقيقة لم تصلّ ولا تقدر على الصلاة.

وفي مقامنا إذا حملنا النقض على الإرشاد أي أنّ الشارع يرشدنا إلى أنّه لا يمكننا أن ننقض اليقين بالشكّ ، كان النقض غير مقدور لنا بسبب تعبّد الشارع ببقاء اليقين ، فعدم قدرتنا ليست تكوينيّة بل هي بسبب التعبّد والادّعاء الشرعي بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، ولذلك يكون اليقين باقيا على حاله ، وبالتالي تتمّ الصياغة الأولى بناء على استظهار جعل الطريقيّة والعلميّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي رحمه اللّه .

والحاصل : إننا أمام استظهارين :

الاستظهار الأوّل : أن يكون النهي تكليفيّا فهنا تتمّ الصياغة الثانية.

والاستظهار الثاني : أن يكون النهي إرشاديّا فتتمّ الصياغة الأولى.

ولكي نعيّن الصياغة الثانية لا بدّ من استظهار النهي التكليفي لا الإرشادي.

غير أنّه يكفي لتعيّن الصيغة الثانية في مقابل الأولى إجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه ، والمتيقّن ما تقرّره الصيغة الثانية.

نعم ، يكفي لتعيّن الصيغة الثانية أن يكون الدليل مجملا ، فالنقض المنهي عنه في كبرى الاستصحاب كما يحتمل فيه النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة كذلك يحتمل فيه النهي الإرشادي ، فإذا لم يكن لدينا دليل على تعيين أحد الاحتمالين وقع التعارض بين الاستظهارين ويحكم بتساقطهما ، وصيرورة الدليل مجملا ، وعند إجمال الدليل يقتصر فيه على القدر المتيقّن من النقض.

ص: 253

وهنا القدر المتيقّن هو كون النقض مسندا إلى اليقين بلحاظ كونه طريقيّا أو كاشفا وطريقا إلى المتعلّق ؛ لأنّ هذا هو المتيقّن من دليل الحجّيّة أي قيامها مقام القطع الطريقي ، وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي فيحتاج إلى الدليل الخاصّ وهو مفقود بحسب الفرض.

وعليه فنحصل على نفس نتيجة الصيغة الثانية من خلال إجمال الدليل والاقتصار فيه على القدر المتيقّن وهو النهي عن نقض اليقين بلحاظ كاشفيّته التي هي آثار المتيقّن ، فيكون المراد أنّه لا يجوز نقض اليقين بلحاظ آثار متيقّنه ، وبالتالي لا بدّ أن نفترض كون الآثار مترتّبة على المستصحب.

وأمّا الآثار المترتّبة على نفس الاستصحاب فهذه لا يشملها الدليل إلا إذا كان النقض مسندا إلى اليقين ذاته أي كان اليقين موضوعيّا ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود في المقام لإجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين.

الثالثة : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي. وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين السابقتين.

ومن هنا وقع الإشكال في كيفيّة جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلّق الأمر قيدا وجزءا ، - من قبيل استصحاب الطهارة - مع أنّ الواجب ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا يترتّب عليه حكم شرعي ؛ لأنّ الوجوب يترتّب على موضوعه لا على متعلّقه.

الصياغة الثالثة : وهي الصياغة المشهورة عندهم ومفادها : أنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة وكاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ استصحاب وجوب الجمعة استصحاب لحكم شرعي ، واستصحاب عدالة زيد استصحاب لموضوع يترتّب عليه حكم شرعي كجواز الصلاة خلفه وقبول شهادته.

ولذلك فهذه الصياغة أضيق من الصيغتين السابقتين ؛ لأنّ الصياغة الأولى تشمل كلّ أثر عملي يترتّب على الاستصحاب ، سواء كان هذا الأثر للمستصحب أم للاستصحاب نفسه ؛ ولأنّ الصياغة الثانية تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب دون الاستصحاب نفسه ، وأمّا هذه الصياغة فهي لا تشمل إلا إذا

ص: 254

كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، ولا تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري سواء في المستصحب أو في الاستصحاب نفسه.

ومن هنا يرد إشكال على هذه الصياغة وهو أنّ المستصحب إذا كان قيدا أو شرطا أو جزءا من متعلّق الأمر ، فاللازم عدم جريان الاستصحاب لأنّ ما ذكر لا ينطبق عليها عنوان الحكم أو الموضوع.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( تجب الصلاة ) فهنا الوجوب تعلّق بالصلاة ، وموضوع الوجوب هو الإنسان البالغ العاقل فيمكن جريان الاستصحاب في الوجوب أو البلوغ أو العقل عند الشكّ بها.

وأمّا بالنسبة للصلاة فهي مركّبة من قيود وشروط وأجزاء ، فالركوع والسجود ونحوهما أجزاء للصلاة ، والطهارة من الحدث والخبث شرط في الصلاة ، والاستقبال قيد أو شرط فيها.

وعلى هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في الطهارة ؛ لأنّها قيد للواجب وليست موضوعا للوجوب ولا حكما أيضا ، فكيف أجرى الإمام استصحاب طهارة الثوب في رواية زرارة الثانية في الفقرة الثالثة منها حيث قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة » ، قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

والحال أنّ متعلّق الأمر ليس حكما شرعيّا كالصلاة فإنّها ليست حكما ، بل الحكم هو الوجوب وليست موضوعا للحكم الشرعي ، وإنّما الموضوع هو المكلّف ، فأجزاؤها وقيودها وشروطها لا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأنّها تحقّق الامتثال وكيفيّته فقط وليست حكما ولا موضوعا للحكم.

وقد يدفع الإشكال بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط للأمر ، فهو موضوع لعدمه ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا الدفع بحاجة من ناحية إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملا لعدم الحكم أيضا ، وبحاجة من ناحية أخرى إلى التسليم بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط لنفس الأمر لا لفاعليّته على ما تقدّم (1).

ص: 255


1- في البحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

وقد يجاب عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّ متعلّق الأمر وإن لم يكن بنفسه حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنّه باعتبار آخر يكون وجوده دخيلا في الأمر ومن قيوده ، وذلك بأن يقال : إنّ الأمر إن وجد متعلّقه فهو يسقط ، فالأمر بالصلاة يسقط إذا أوجد المكلّف الصلاة ، وأمّا إذا لم يوجد الصلاة فالأمر بها باق ، وعليه فيكون استصحاب الطهارة باعتباره يرجع إلى تحقّق الصلاة بكامل شروطها وقيودها دخيلا في الموضوع ؛ لأنّه إذا كانت الصلاة عن طهارة فالمتعلّق متحقّق فالأمر ساقط.

وبهذا يكون وجود المتعلّق موضوعا لعدم الأمر والوجوب ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا من قبيل : الأمر بالعقيقة الذي أخذ فيه عدم إيجاد الأضحيّة ؛ لأنّ من ضحّى يسقط عنه الأمر بالعقيقة ، ولذلك فمن يحجّ ويذبح الأضحيّة يترتّب على ذلك سقوط الأمر بالعقيقة ؛ لأنّه أخذ في موضوع الأمر بها عدم الأضحيّة ، فمن شكّ في أنّه ضحّى أم لا وجرى استصحاب الأضحيّة أو استصحاب عدمها كان لهذا الاستصحاب مدخليّة في سقوط الأمر بالعقيقة أو بقائه ، مع أنّ المستصحب نفسه ليس إلا متعلّقا ؛ لأنّه جزء من أجزاء الحجّ وليس موضوعا ولا حكما.

وهذا الدفع للإشكال يتوقّف على أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من كون المستصحب حكما أو موضوعا الأعمّ من موضوع الحكم وموضوع عدم الحكم ، وهذا الأمر لا يبعد التسليم به وقبوله.

الثاني : أن يكون الأمر ساقطا إذا امتثل متعلّقه ، بمعنى أنّ امتثال المتعلّق مسقط للأمر. وهذا الأمر قد تقدّم الكلام عنه سابقا ، وقلنا : إنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل هما يسقطان التكليف عن الفاعليّة والمحرّكيّة لا عن مبادئه وملاكاته. فمن أدّى الصلاة يسقط التكليف عن تحريكه للصلاة لا أنّه يسقط التكليف رأسا ، وأنّه لا خطاب موجّه إليه ولو من ناحية المبادئ والملاكات. ولذلك لا يكون هذا الدفع تامّا.

والأولى في دفع الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة ، إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :

ص: 256

فالأحسن في الجواب عن هذا الإشكال هو رفض هذه الصياغة التي نشأ منها الإشكال ؛ لأنّ هذه الصياغة لا دليل عليها سوى أحد أمرين ، وكلاهما غير تامّ.

الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن حكما شرعيّا ولا موضوعا لحكم شرعي كان أجنبيّا عن الشارع فلا معنى للتعبّد به شرعا.

والجواب عن ذلك : أنّ التعبّد الشرعي معقول في كلّ مورد ينتهى فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا يختصّ بما ذكر ، فإنّ التعبّد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي إلى ذلك أيضا.

الأمر الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن موضوعا لحكم شرعي ، ولا حكما شرعيّا ؛ فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع به ؛ لأنّه والحال هذه يكون أجنبيّا عن الشارع ، والتعبّد الشرعي إنّما يكون فيما إذا كان الشيء ممّا تناله يد الشارع بما هو شارع ، والشارع بهذا اللحاظ لا يجعل إلا الحكم وموضوعه ، فبإمكانه أن يعبّدنا بالموضوع أو بالحكم بقاء ، وأمّا غيرهما فلا تطالهما يد التعبّد ، وبالتالي يكون شمول دليل الاستصحاب لغير الموضوع والحكم لغوا ولا فائدة منه.

وجوابه : أنّ التعبّد الشرعي يعقل في كلّ مورد ينتهى فيه إلى أثر عملي تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب ؛ لأنّ محذور اللغويّة أو مقدّمات الحكمة تفترض أن يكون المستصحب ذا أثر عملي ، إذ لو لم يكن كذلك كان التعبّد به لغوا وبلا فائدة وهو يتنافى مع الحكمة ومقدّماتها.

ثمّ إنّ الأثر العملي التنجيزي والتعذيري لا يختصّ في الموارد التي يكون المستصحب فيها حكما أو موضوعا ، بل يشمل كلّ مورد يترتّب عليه هذا الأثر ، ومنها استصحاب المتعلّق أو قيوده وشروطه وأجزائه ؛ لأنّها ممّا يترتّب عليها الأثر العملي.

فإذا عبّدنا الشارع بتحقّق الامتثال كان لهذا التعبّد أثر عملي تعذيري فيما إذا انكشف فيما بعد خلاف الواقع ، وإذا عبّدنا بعدم تحقّق الامتثال كان له أثر عملي تنجيزي في لزوم الإتيان بالمتعلّق أو بقيوده وشروطه وأجزائه.

الثاني : أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا ، فلا بدّ أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.

ص: 257

الأمر الثاني : أنّ يدّعى أن مفاد دليل الاستصحاب عبارة عن جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب ظاهرا ، أي أنّ الشارع يجعل حكما مماثلا لمفاد دليل الاستصحاب ، فإن كان المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ أمكن جعل الحكم المماثل على وفق ذلك ؛ لأنّ الشارع يمكنه جعل الموضوع والحكم بلحاظ كونه مشرّعا دون غيرهما ، وأمّا إذا لم يكن المستصحب حكما ولا موضوعا لحكم فلا يمكن التعبّد الاستصحابي عندئذ ؛ لعدم إمكان جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب.

والجواب عن ذلك : أنّه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاء ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي إرشادا إلى بقاء اليقين السابق ، أو بقاء المتيقّن السابق ادّعاء.

وعلى كلّ حال فلا يلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل أن يكون أمرا قابلا للتنجيز والتعذير لكي يتعلّق به التعبّد على أحد هذه الأنحاء.

وجوابه : أنّ جعل الحكم المماثل بعنوانه الخاصّ لم يرد في أدلّة الاستصحاب ، فلا يمكن استفادته منها بالخصوص ، وعليه فإمّا أن يدّعى أنّ جعل الحكم المماثل هو المستفاد من جعل الحكم الظاهري عموما ، وهذا ما تقدّم سابقا عدم صحّته ، وإمّا أن يدّعى ذلك في خصوص الاستصحاب ، وهذا لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأنّ أدلّة الاستصحاب مفادها عدم نقض اليقين بالشكّ ، لا جعل الحكم المماثل بعنوانه.

وعدم نقض اليقين بالشكّ يوجد فيه ثلاثة احتمالات كلّها لا تتناسب مع جعل الحكم المماثل ، وهي :

1 - أن يكون المراد النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة ، وهي لا يمكن أن تتوجّه نحو النقض الحقيقي لليقين ، بل إلى النقض العملي بلحاظ كاشفيّة اليقين ، من أجل تنجيز الحالة السابقة بقاء ، أي الآثار التي كانت مترتّبة على الحالة السابقة ( المتيقّن ) حدوثا فهي لا تزال ثابتة بقاء.

2 - أن يكون المراد الإرشاد إلى عدم القدرة على نقض اليقين ، فاليقين السابق لا يزال باقيا على حاله تعبّدا ، ولذلك لا يتمكّن المكلّف من نقضه ، وعليه فيكون الشاكّ

ص: 258

فعلا كالمتيقّن ، وهذا إنّما يتمّ على مباني الميرزا ومدرسته من جعل العلميّة والطريقيّة لا جعل الحكم المماثل.

3 - أن يكون المراد الإرشاد إلى بقاء المتيقّن السابق على حاله تعبّدا وادّعاء ، فيكون المستصحب كالمتيقّن ، وهذا يجعل الاستصحاب أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا.

وعلى هذه الاحتمالات الثلاثة لا يستفاد جعل الحكم المماثل ليلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل المستفاد من دليل الاستصحاب على جميع هذه الوجوه أن يكون المستصحب أمرا قابلا للتنجيز أو التعذير ، لكي يصحّ أن يتعلّق به التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض حقيقة أو حكما ، ولا يختصّ ذلك بكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الرابع من أركان الاستصحاب ، وبه أيضا ينتهي الكلام عن أركان الاستصحاب.

* * *

ص: 259

ص: 260

مقدار ما يثبت الاستصحاب

ص: 261

ص: 262

مقدار ما يثبت الاستصحاب

لا شكّ في أنّ المستصحب يثبت تعبّدا وعمليّا بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، كما إذا كان المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، أو حكما شرعيّا واقعا بدوره موضوعا لحكم شرعيّ آخر. وقد يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه بدوره موضوع لحكم آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجّس فإنّها موضوع لطهارة الطعام وهي موضوع لحلّيّته.

بعد الفراغ عن تواجد أركان الاستصحاب الأربعة لا إشكال في جريان الاستصحاب ، وفي ثبوت الحالة السابقة المستصحبة تعبّدا بنظر الشارع وعمليّا بلحاظ المكلّف ، فإنّنا إذا استصحبنا بقاء عدالة زيد ثبت لدينا شرعا عدالته فعدالته ثابتة تعبّدا ، وكذلك يجب ترتيب الآثار من المكلّف بلحاظ هذه العدالة.

وهذه الآثار واللوازم تقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، وهي على أنواع :

1 - أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ أثرها الشرعي هو جواز الصلاة خلفه أو قبول شهادته.

2 - أن يكون المستصحب حكما شرعيّا واقعا موضوعا لحكم شرعيّ آخر ، كاستصحاب ملكيّة زيد ، فإنّها حكم شرعي وضعي ، وهي بدورها موضوع لجواز تصرّفه في ملكه وعدم جواز تصرّف غيره فيه إلا بإذنه.

3 - أن يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه موضوع لحكم آخر ، كاستصحاب طهارة الماء الذي هو موضوع لطهارة الطعام المتنجّس الذي غسل به ، وهذا الحكم أي طهارة الطعام موضوع لحكم آخر ، وهو حلّيّة أكله.

ص: 263

القسم الثاني : الآثار واللوازم العقليّة التي يكون ارتباطها بالمستصحب تكوينيّا وليس بالجعل والتشريع ، كنبات اللحية اللازم تكوينا لبقاء زيد حيّا ، وموته اللازم تكوينا من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين انهدامه ، وكون ما في الحوض كرّا اللازم تكوينا من استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة ، وهكذا.

القسم الثاني : الآثار العقليّة ، وهي على أنواع :

1 - أن تكون اللوازم والآثار العقليّة مترتّبة على نفس المستصحب ، كاستصحاب بقاء زيد حيّا بعد مرور فترة طويلة على غيابه ، فإنّه يثبت بهذا الاستصحاب بقاء حياته ، ولازم بقائه على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة كونه كبير السنّ أو ذا لحية.

فإنّ كبر السنّ ونبات اللحية من الآثار التكوينيّة لبقائه على قيد الحياة ، وهذه الآثار ليست شرعيّة بل هي آثار ولوازم تكوينيّة تثبت بالملازمة العقليّة بينها وبين بقائه على قيد الحياة.

2 - أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة على المستصحب مع الواسطة التكوينيّة ، كاستصحاب بقاء زيد إلى جانب الجدار إلى حين انهدام الجدار ، فإنّ هذا الاستصحاب يثبت وقوع الجدار عند ما كان زيد إلى جانبه.

وأمّا أنّه مات فهذا الأثر إنّما يثبت لو ضممنا إلى وقوع الجدار كونه قد وقع عليه ، وكون هذا الوقوع بحيث يسبّب الوفاة عادة ، فتكون النتيجة أنّه قد مات ، وهذا أثر غير شرعي بل هو أثر تكويني ثبت بالملازمة بينه وبين وقوع الجدار مع ضمّ تلك الوسائط العاديّة.

3 - أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة مع الواسطة العقليّة ، كاستصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّنا إذا كنّا نعلم بوجود كرّ من الماء في الحوض ثمّ أخذنا منه مقدارا من الماء أدّى إلى الشكّ في بقاء الكرّ من الماء في الحوض أو زواله ، فهنا نجري استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، ولازم ذلك كون ما في الحوض من الماء كرّا ، فإنّ هذا لازم غير شرعي ، بل هو أثر عقلي لوجود كرّ من الماء في الحوض.

وبعبارة أخرى : أنّ ما ثبت بالاستصحاب هو أصل وجود كرّ من الماء في الحوض ،

ص: 264

والأثر الذي يراد إثباته هو كون ما في الحوض من الماء متّصفا بالكرّيّة ، وهذا يعني أنّ ما يثبت هو مفاد ( كان ) التامّة أي أصل وجود الشيء ، وما يراد التوصّل إليه من الآثار هو مفاد ( كان ) الناقصة أي اتّصاف هذا الشيء بتلك الصفة ، ومن الواضح أنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة.

نعم لو أردنا استصحاب اتّصاف الماء الموجود في الحوض بالكرّيّة بأن نقول : هذا الماء كان متّصفا بالكرّيّة والآن نشكّ في بقاء اتّصافه فيجري استصحاب هذا الاتّصاف ، لكان هذا الاستصحاب من أوّل الأمر ناظرا لمفاد ( كان ) الناقصة مباشرة ، من دون توسّط ( كان ) التامّة في ذلك ، وبالتالي يكون الأثر المترتّب على ذلك هو كون هذا الماء معتصما لا ينفعل بالنجاسة لمجرّد الملاقاة من دون تغيّر ، وهذا الأثر شرعي لا عقلي ، فيكون الاستصحاب تامّا.

بعد هذا نبحث في كلّ من القسمين لنرى مدى انطباق دليل الاستصحاب عليهما.

أمّا القسم الأوّل : فلا خلاف في ثبوته تعبّدا وعمليّا بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا : إنّ مفاده : الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء المتيقّن ، أو الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء نفس اليقين ، أو النهي عن النقض العملي لليقين بالشكّ.

أمّا القسم الأوّل وهو الآثار الشرعيّة فهي تثبت بالاستصحاب بلا خلاف بينهم ، فيكون الاستصحاب مثبتا لتلك الآثار تعبّدا ، أي أنّ مفاده هو التعبّد ببقاء تلك الآثار الشرعيّة ولزوم الجري العملي على وفقها مهما كان مفاد هذا التعبّد ، أي أنّ الآثار الشرعيّة تثبت تعبّدا وعمليّا على جميع المسالك في تفسير مفاد دليل الاستصحاب وهي :

1 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبدنا ببقاء المتيقّن على أساس كون النهي إرشادا إلى أنّ آثار المتيقّن لا يمكن نقضها بسبب حكم الشارع ببقائها تعبّدا ، فيكون الشارع قد نزّل المشكوك منزلة المتيقّن ، فيكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

2 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين نفسه ، فيكون النهي عن النقض نهيا إرشاديّا إلى أنّ اليقين السابق لا ينتقض عند الشكّ بسبب حكم الشارع

ص: 265

ببقائه ، فالمكلّف على يقين فعلا ولكن ادّعاء وتنزيلا لا حقيقة وواقعا ، فينزّل الشاكّ منزلة المتيقّن ، وبهذا يصبح الاستصحاب كالأمارات ؛ لأنّ مفاده جعل العلميّة والطريقيّة.

3 - أن يكون مفاد دليل الاستصحاب التعبّد ببقاء الآثار ولزوم الجري العملي على طبق اليقين ، وهذا يعني أنّ النهي عن النقض لا يتوجّه إلى اليقين حقيقة ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل ينصبّ على النقض العملي لآثار اليقين والتي تعني كونه كاشفا عن المتعلّق والمتيقّن ، فيكون المفاد التعبّد ببقاء الآثار العمليّة للحالة السابقة المتيقّنة في مرحلة الجري العملي ، ولذلك يكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

وتفصيل الكلام بناء على هذه المسالك أن يقال :

أمّا على الأوّل : فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقة بل تنزيلا ، ومرجعه إلى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من أدلّة التنزيل ، ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي للمنزّل عليه إلى المنزّل إسراء واقعيّا أو ظاهريّا تبعا لواقعيّة التنزيل أو ظاهريّته وإناطته بالشكّ.

وعليه فإطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعيّة للمستصحب بالاستصحاب.

أمّا على المسلك الأوّل وهو ما اختاره صاحب ( الكفاية ) من تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، فهذا معناه أنّ الشارع قد حكم ببقاء المتيقّن عند الشكّ وعبّدنا بذلك ، وهذا الحكم بالإبقاء ليس إبقاء حقيقيّا ، إذ من الواضح أنّ المتيقّن الآن مشكوك واقعا وتكوينا ، بل الإبقاء هنا تعبّدي وتنزيلي.

والتنزيل على نحوين :

الأوّل : التنزيل الواقعي أي إسراء الآثار الشرعيّة المترتّبة على المنزّل عليه إلى المنزّل ، وهذا يكون في الموارد التي لم يفترض فيها الشكّ ، كما في « الطواف في البيت صلاة » فهذا تنزيل واقعي بحيث تكون الآثار الشرعيّة للصلاة سارية إلى الطواف.

الثاني : التنزيل الظاهري أي إسراء الأحكام والآثار الشرعيّة للمنزّل عليه إلى المنزّل ظاهرا ، وهذا يفترض الشكّ ليكون التنزيل ظاهريّا.

ص: 266

وأمّا حدود هذا التنزيل وهل هي تشمل جميع الآثار والأحكام الشرعيّة أو بعضها فقط؟ فهذا يحتاج إلى مراجعة دليل التنزيل لتحديد المقدار الناظر إليه.

وفي مقامنا يكون تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن تنزيلا ظاهريّا لفرض الشكّ.

وعلى هذا فالمقدار الذي يثبت بدليل الاستصحاب هو الآثار والأحكام الشرعيّة الثابتة للمتيقّن ، فإنّها تسري إلى المشكوك ؛ لأنّ التنزيل يكون من الشارع بما هو شارع لا بما هو خالق ، ولذلك فلا تترتّب إلا الآثار التي تطالها يد الشارع بما هو كذلك ، وهي الآثار الشرعيّة دون اللوازم والآثار العقليّة ؛ لأنّها ليست من أحكام الشارع بما هو شارع.

فإن قيل : هذا يصحّ بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب مباشرة ، ولا يبرّر ثبوت الأثر الشرعي المترتّب على ذلك الأثر المباشر ؛ وذلك لأنّ الأثر المباشر لم يثبت حقيقة لكي يتبعه أثره ؛ لأنّ التنزيل ظاهري لا واقعي ، وإنّما ثبت الأثر المباشر تنزيلا وتعبّدا ، فكيف يثبت أثره؟

قد يقال : إنّه بناء على هذا المسلك تثبت الآثار الشرعيّة ، غير أنّ هذه الآثار كما تقدّم على ثلاثة أنحاء ، فما يثبت منها هو الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب مباشرة ، أي استصحاب الحكم الشرعي والموضوع للحكم الشرعي.

وأمّا الآثار الشرعيّة الطوليّة التي لا تترتّب على المستصحب مباشرة ، بل كانت من آثار ولوازم آثار المستصحب فلا تثبت ، كما هو الحال بالنسبة لاستصحاب طهارة الماء الموضوع لطهارة الطعام المغسول به الموضوع لجواز أكله وحلّيّته ، فإنّ الحلّيّة ليست من الآثار الشرعيّة المباشرة لطهارة الماء ، بل هي من آثار طهارة الطعام ، التي هي الأثر الشرعي المباشر لطهارة الماء ، فهذه الآثار ليست مشمولة لدليل الاستصحاب بناء على هذا المسلك.

وبتعبير آخر : أنّ الآثار الشرعيّة على قسمين : آثار مباشرة ، وآثار غير مباشرة.

أمّا الآثار المباشرة كاستصحاب عدالة زيد التي يترتّب عليها الحكم بجواز الصلاة خلفه ، وكاستصحاب وجوب الجمعة مثلا ، فلا إشكال في ثبوتها بالتنزيل المذكور ؛ لأنّها القدر المتيقّن من أدلّة التنزيل.

وأمّا الآثار غير المباشرة كثبوت حلّيّة الطعام التي موضوعها طهارة الطعام التي

ص: 267

تثبت باستصحاب طهارة الماء ، فهذه ليست من آثار طهارة الماء المستصحبة فكيف يتمّ التنزيل بلحاظها؟

إذ المفروض هنا أنّ التنزيل ظاهري لأخذ الشكّ في دليل الاستصحاب ، وليس تنزيلا حقيقيّا ، والتنزيل الظاهري مفاده جعل الحكم المماثل على طبق المؤدّى ، فالمستصحب منزّل منزلة المتيقّن ، ولذلك فالآثار المترتّبة على المستصحب تثبت وهذا يختصّ بالآثار الشرعيّة المباشرة ؛ لأنّها المترتبة على المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة الطولية أو غير المباشرة فهي ليست مترتّبة على المستصحب ، بل على آثار المستصحب فلا يشملها دليل التنزيل ، إلا بالقول : إنّ دليل التنزيل يثبت جميع الآثار الشرعيّة المباشرة أو مع الواسطة ، وهذا لا يمكن قبوله ؛ لأنّه يشمل الآثار الشرعيّة المترتّبة على الواسطة العقليّة أيضا ، وهذا لا يقوله أصحاب هذا المسلك.

وبكلمة ثالثة : أنّ الآثار المباشرة مترتّبة على المستصحب نفسه ، فإذا ثبت المستصحب حقيقة أو تعبّدا تثبت هذه الآثار ، وأمّا الآثار غير المباشرة فهي مترتّبة على آثار المستصحب ، وهذه الآثار ليست ثابتة حقيقة بل هي ثابتة بالتعبّد والتنزيل ، والتنزيل هنا ظاهري لا واقعي.

ومعنى ذلك أنّ ما هو ثابت لنا هو طهارة الطعام ظاهرا بينما حلّيّته مترتّبة على طهارة الطعام واقعا ، فالطهارة الظاهريّة ليست من لوازمها الحلّيّة ، بل الحلّيّة لازم للطهارة الواقعيّة وهي غير ثابتة ، فلم يتحقّق موضوعها.

كان الجواب : أنّه يثبت بالتنزيل أيضا ، إذ ما دام إثبات الأثر المباشر كان إثباتا تنزيليّا فمرجعه إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني تنزيلا ، وهكذا.

والجواب : أنّ الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الطوليّة يمكن إرجاعها إلى آثار شرعيّة مباشرة ، وذلك بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب ما دام يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة الواقع المتيقّن ، فهذا يعني أنّ استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس يترتّب عليه طهارة الطعام ، وحينئذ تكون طهارة الطعام ثابتة بالتنزيل ، وهذا يعني أنّ طهارة الطعام ثابتة ظاهرا بالتنزيل فيترتّب عليها أثرها الشرعي المباشر وهو حلّيّة هذا الطعام.

ص: 268

والوجه في ذلك : أنّ دليل الاستصحاب الذي مفاده جعل الحكم المماثل تنزيلا يستفاد منه عدّة تنزيلات ، أي أنّه ينحلّ إلى تنزيلات متعدّدة من جهة الموضوع ومن جهة المحمول.

فالموضوع الذي هو طهارة الماء ثبت بالتنزيل وترتّب عليه أثره الشرعي أي طهارة الطعام المغسول به ، وهذا المحمول أي طهارة الطعام ثبت بالتنزيل فيترتّب عليه أثره الشرعي المباشر ، أي حلّيّة الطعام.

ولا وجه للتفصيل بين هذين التنزيلين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

وبتعبير آخر : أنّ دليل التنزيل عامّ من جهة الموضوع ومن جهة المحمول ، إذ لا دليل على اختصاصه بالموضوع فقط ، ولذلك تثبت الآثار المباشرة للموضوع وتثبت الآثار المباشرة للمحمول أيضا.

وأمّا على الثاني : فقد يستشكل بأنّه لا تنزيل في ناحية المستصحب على هذا التقدير ، وإنّما التنزيل والتعبّد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه كون اليقين بالحالة السابقة باقيا تعبّدا بلحاظ كاشفيّته.

ومن الواضح أنّ اليقين بشيء إنّما يكون طريقا إلى متعلّقه لا إلى آثار متعلّقه ، وإنّما يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ، واليقين المتولّد هو الذي له طريقيّة إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقيّة كلّ يقين تختصّ بمتعلّقه فكذلك منجّزيّته ومحرّكيّته.

وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة إنّما يقتضي توفير المنجّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة ، لا بالنسبة إلى آثارها الشرعيّة.

وأمّا على المسلك الثاني وهو ما اختارته مدرسة الميرزا من أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو تنزيل الشكّ منزلة اليقين أي أنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فإنّه على هذا المسلك يكون التنزيل بلحاظ نفس اليقين لا المتيقّن ، أي هنا تعبّد وتنزيل بلزوم الجري العملي على وفق اليقين أو التعبّد ببقاء نفس اليقين السابق.

وأمّا الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ، فهذه لا يمكن استفادتها من دليل الاستصحاب على أساس هذا المسلك ؛ وذلك لأنّ ما يقتضيه الحكم ببقاء اليقين أو الجري العملي على وفق كون الحالة السابقة لا تزال باقية تعبّدا لا حقيقة ، حيث

ص: 269

لوحظ اليقين هنا بما هو كاشف وطريق إلى متعلّقه لا بما هو موضوع ، إذ لا يصحّ إسناد النقض إليه كما تقدّم.

وبهذا يكون التعبّد ببقاء اليقين الكاشف والطريقي تعبّدا ببقاء المتعلّق ؛ لأنّ اليقين إنّما يكون طريقيّا وكاشفا عن متعلّقه فقط ، وأمّا آثار متعلّقه فهذه لا يكشف عنها اليقين ابتداء ولا تقع في طريق كاشفيّة اليقين ؛ لأنّ الكشف عن المتعلّق لا يعني الكشف عن آثاره المترتّبة عليه ، فيكون اليقين الذي نستفيده من دليل التعبّد الاستصحابي طريقيّا وكاشفا عن تلك الحالة السابقة فقط.

وأمّا الآثار الشرعيّة التي تترتّب على المتعلّق فهذه لا يمكن إثباتها بناء على هذا المسلك ؛ لأنّ طريقيّة اليقين وكاشفيّته إنّما تكون بلحاظ متعلّقه فيكون هذا اليقين محرّكا ومنجّزا بلحاظ ما يقتضيه متعلّقه فقط ؛ لأنّها هي التي تمّ عليها المحرّك والمنجّز.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين وعدم جواز نقضه ، وهذا يكون بلحاظ الجري العملي على وفق ما يقتضيه اليقين الكاشف والطريقي ، لا اليقين الموضوعي ؛ لأنّ إسناد النقض إليه غير معقول.

وعلى هذا فالكاشفيّة والطريقيّة لليقين تكون بلحاظ كشفه عن متعلّقه ، فالتعبّد ببقاء اليقين يعني التعبّد بوجود المحرّك والمنجّز بلحاظ الحالة السابقة التي حكم ببقاء اليقين بها ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست آثارا لكاشفيّة اليقين ، بل هي آثار للمتيقّن نفسه ، فلم تكن داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين المتولّد من الاستصحاب ، وهذا يعني أنّ الاستصحاب غاية ما ينظر إليه هو ثبوت الحالة السابقة دون غيرها.

وبكلمة ثالثة : أنّ اليقين متعلّق بالمؤدّى والمستصحب بحسب كاشفيّته وطريقيّته ، والتعبّد الاستصحابي المستفاد منه الحكم ببقاء اليقين على أساس جعل العلميّة والطريقيّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي يعبّدنا بأنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فيثبت المؤدّى والمستصحب ؛ لأنّه واقع في طريق الكاشفيّة والطريقيّة لليقين ، وهذا التعبّد يقتضي الجري العملي على وفق المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين ؛ لأنّ اليقين لا يكشف إلا عن المتعلّق وبالتالي لا يكون محرّكا ومنجّزا إلا للمتعلّق.

فإن قيل : أليس من يكون على يقين من شيء يكون على يقين من آثاره أيضا؟

ص: 270

كان الجواب : أنّ اليقين التكويني بشيء يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وأمّا اليقين التعبّدي بشيء فلا يلزم منه اليقين التعبّدي بآثاره ؛ لأنّ أمره تابع امتدادا وانكماشا لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدلّ على أكثر من التعبّد باليقين بالحالة السابقة.

قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة تترتّب أيضا ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل العلميّة والطريقيّة ، وهذا يعني أنّ المكلّف يصبح عالما بالحالة السابقة تعبّدا ، ومن الواضح أنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا ، فيكون العلم متعلّقا بالحالة السابقة وبآثارها الشرعيّة مطلقا.

وجوابه : أنّ الملازمة بين ثبوت شيء وثبوت آثاره ولوازمه ملازمة تكوينيّة واقعيّة ، فإذا كان لدينا علم وجداني بالشيء فهذا الشيء صار ثابتا واقعا وتكوينا ، وبالتالي تترتّب آثاره ولوازمه تبعا للملازمة التكوينيّة بينهما.

وأمّا إذا كان لدينا يقين تعبّدي كما في مقامنا ، فاليقين التعبّدي يتحدّد بالمقدار الذي يدلّ عليه الدليل سعة وضيقا ، فإن كان دليل التعبّد يستفاد منه التعبّد بجميع الآثار فيؤخذ بها ، وإن لم يكن له مثل هذه الدلالة فيقتصر فيه على المقدار المتيقّن الذي يدفع به محذور اللغويّة من التعبّد لا أكثر.

وهنا دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين بالحالة السابقة فيثبت هذا المقدار فقط ، باعتبار اليقين كاشفا عن متعلّقه ، وبالتالي تترتّب الآثار الشرعيّة المباشرة دفعا لمحذور اللغويّة من التعبّد ، وأمّا سائر الآثار الشرعيّة فهذه لا تثبت إلا بالملازمة التكوينيّة وهذه سببها غير موجود ، أو بشمول دليل التعبّد لها بالمطابقة وهذا أيضا غير موجود.

والتحقيق : أنّ تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل ، وصغراه وهي الموضوع ، فاليقين التعبّدي بموضوع الأثر بنفسه منجّز لذلك الأثر والحكم وإن لم يسر إلى الحكم.

والتحقيق أن يقال : إنّ المنجّزيّة تترتّب على أمرين :

الأوّل : وصول الكبرى وهي الجعل.

والثاني : تحقّق الصغرى وهي الموضوع.

فمثلا وجوب الحجّ على المستطيع إنّما يكون منجّزا فيما إذا وصل الجعل إلى

ص: 271

المكلّف ، بأن علم بوجوب الحجّ على المستطيع ، وفيما إذا تحقّقت الاستطاعة في الخارج ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوب الحجّ فلا يكون الحجّ منجّزا عليه ولو كان مستطيعا ، وكذا إذا علم بوجوب الحجّ ولم يكن مستطيعا فلا يكون الوجوب منجّزا عليه.

وفي مقامنا نقول : إنّ اليقين التعبّدي المستفاد من دليل الاستصحاب يثبت لنا الموضوع أي الصغرى ، وأمّا الأثر والحكم الشرعي فهو ثابت بالوجدان.

فمثلا نحن نعلم بأنّ من كان عادلا تجوز الصلاة خلفه وتقبل شهادته. وهذا يعني أنّنا نعلم بالأثر والحكم وجدانا ، وأمّا الصغرى وهي كون زيد عادلا فهذا ما يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّنا كنّا على يقين من عدالة زيد وعند استصحابها تثبت لنا عدالته تعبّدا.

وبهذا تتحقّق المنجّزيّة لوصول الجعل بالعلم الوجداني ولوصول الموضوع بالعلم التعبدي.

ولا نحتاج لإثبات الحكم والأثر إلى إثبات كون اليقين التعبّدي متعلّقا بالأثر والحكم ليقال بأنّ اليقين التعبّدي يثبت لنا الحالة السابقة فقط ولا يسري إلى آثارها وأحكامها الشرعيّة.

وعلى هذا تكون الآثار الشرعيّة ثابتة ومنجّزة لتحقّق كلا جزأي موضوع المنجّزيّة من الجعل والموضوع ، فإنّ الأوّل ثابت بالوجدان ، والثاني ثابت بالتعبّد.

فإن قيل : إذا كان اليقين بالموضوع كافيا لتنجّز الحكم المترتّب عليه ، فما ذا يقال عن الحكم الشرعي المترتّب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع أنّه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم الأوّل؟

فإن قيل : إنّ ما ذكرتموه يتمّ في الآثار الشرعيّة المباشرة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجعل معلوم وجدانا والصغرى ثابتة تعبّدا ، وأمّا الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الآثار والأحكام المترتّبة على الحكم ، وكذا الأثر الشرعي للمستصحب لا على المستصحب نفسه ، فهذه كيف يمكن تنجّزها مع أنّ موضوعها - أي الحكم الشرعي - لم يثبت بدليل التعبّد الاستصحابي؟

لأنّ التعبّد الاستصحابي يثبت به الموضوع فقط لا الأثر الشرعي ، فتترتّب الآثار الشرعيّة الثابتة للموضوع دون الآثار الشرعيّة الثابتة للأثر الشرعي ؛ لأنّه غير ثابت

ص: 272

وجدانا كما هو واضح ، وغير ثابت تعبّدا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إثباته كما تقدّم ، فيقتصر على المقدار الثابت تعبّدا لا أكثر.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني الذي أخذ في موضوعه الحكم الأوّل لا يفهم من لسان دليله إلا أنّ الحكم الأوّل بكبراه وصغراه موضوع للحكم الثاني ، والمفروض أنّه محرز كبرى وصغرى ، جعلا وموضوعا ، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني ، فيتنجّز الحكم الثاني كما يتنجّز الحكم الأوّل.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني المترتّب على الحكم الأوّل بحيث يكون الحكم الأوّل جزءا من موضوعه ، لم يؤخذ في دليل الاستصحاب ، ولا نريد إثباته بالتعبّد الاستصحابي ، وإنّما يثبت لتحقّق كبراه وصغراه.

فمثلا إذا أردنا إثبات حلّيّة الطعام وجواز أكله التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الطعام ، التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الماء المغسول به الثابتة بالاستصحاب ، نقول : إنّ هذا الحكم الثاني كبراه ثابتة وجدانا ؛ لأنّنا نعلم بالجعل الثابت في عالم التشريع القائل بأنّ الطعام الطاهر يجوز أكله ، لدلالة الأخبار والروايات على ذلك.

وأمّا صغراه أي الموضوع وهو ثبوت ووجود طعام طاهر فعلا ، فهذه ثابتة بالتعبّد الاستصحابي ، حيث إنّ استصحاب طهارة الماء يثبت به موضوع طهارة الطعام ؛ لأنّه أثر شرعي معلوم جعلا بالوجدان ومعلوم موضوعا بالاستصحاب. وهذا يعني أنّ الاستصحاب أحرز به أو تنجّز به طهارة الطعام التي هي الصغرى للحكم بحلّيّة الطعام وجواز أكله. وبالتالي يكون الحكم الثاني ثابتا لثبوت جعله وجدانا ، ولثبوت صغراه تعبّدا فيكون منجّزا.

ولذلك نقول : إنّنا لا نريد بالاستصحاب إثبات الحكم الثاني ابتداء ، ليقال إنّ دليل الاستصحاب غير شامل له ، وإنّما نريد بالاستصحاب إثبات أحد جزأي موضوع منجّزيّة الحكم الثاني وهي الصغرى ؛ لأنّ الكبرى أي الجعل معلومة بالوجدان.

فكما قلنا بالنسبة للأثر الأوّل نقوله بالنسبة للأثر الثاني ؛ لأنّ الاستصحاب يثبت به تمام موضوع الأثر الأوّل ، وبالتالي يثبت به جزء موضوع الأثر الثاني أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

ص: 273

وهذا المضمون هو معنى ما يقال : إنّ أثر الأثر الشرعي أثر أيضا ، فإذا ثبت الأثر الشرعي يثبت أثره الشرعي الثاني وهكذا (1).

ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث ، فإنّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجّزا للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلا في دائرة اقتضائه العملي ، فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.

وأمّا على المسلك الثالث الذي اخترناه من كون دليل الاستصحاب ناظرا إلى النهي عن النقض العملي لليقين ، فمقتضى النهي المذكور كون الآثار الشرعيّة الثابتة للمتعلّق لا يجوز نقضها ؛ لأنّ إسناد النقض إلى اليقين ليس حقيقة بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل إلى اليقين بما هو كاشف وطريق.

وهذا يفترض وجود آثار ثابتة للمتعلّق ينهى عن نقضها عمليّا ، فتثبت الآثار العمليّة الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجري العملي على وفق المستصحب يعني ثبوت الموضوع وتنجّزه ، وإذا تحقّق الموضوع تعبّدا ترتّب حكمه الشرعي عليه ؛ لأنّ الحكم معلوم وجدانا بلحاظ عالم الجعل ، فيكون ثبوت الحكم داخلا في دائرة التعبّد الاستصحابي بالجري العملي على طبق الموضوع.

وبتعبير آخر : أنّ مقتضى النهي عن النقض العملي لليقين كون المتيقّن ثابتا ومنجّزا وهو الموضوع ، فإذا ثبت الموضوع تعبّدا وكان الحكم معلوما بالوجدان بلحاظ عالم الجعل تحقّقت المنجّزيّة للحكم الشرعي المترتّب على هذا الموضوع فيثبت الحكم ، وبالتالي يدخل في دائرة النهي عن النقض العملي.

هذا بالنسبة للآثار المباشرة ، وكذا الحال بالنسبة للآثار الطوليّة غير المباشرة ، فإنّ التعبّد بالجري العملي على وفق المتيقّن يثبت جزء الموضوع للحكم الثاني تعبّدا كما تقدّم آنفا.

ص: 274


1- قدّمنا الإشكال وجوابه على قوله : ( ومنه يعرف .. ) ؛ لأنّه الأنسب بالترتيب كما هو واضح.

الأصل المثبت

ص: 275

ص: 276

[ الأصل المثبت ]

وأمّا القسم الثاني ، فلا يثبت بدليل الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد إثبات اللوازم العقليّة بما هي فقط فهو غير معقول ، إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي ، وإن أريد إثبات ما لهذه اللوازم من آثار وأحكام شرعيّة فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المتقدّمة.

أمّا على الأوّل فلأنّ التنزيل في جانب المستصحب إنّما يكون بلحاظ الآثار الشرعيّة لا اللوازم العقليّة كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

وأمّا على الأخيرين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّدا لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي ، واليقين التعبّدي بالمستصحب ليس يقينا تعبّديا باللازم العقلي.

وأمّا اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كنبات اللحية وكبر السنّ والهرم المترتّبة على استصحاب حياة زيد بعد فترة طويلة من السنين ، وكإثبات موته باستصحاب بقائه تحت الجدار إلى انهدامه ، وكإثبات كرّيّة الماء الموجود باستصحاب وجود الكرّ من الماء ، فهذه اللوازم لا تثبت بالاستصحاب ، وهذا ما يسمّى بالأصل المثبت ، ويقال عادة : إنّ الأصل المثبت لا يثبت.

والوجه في عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المراد إثباتها بالاستصحاب هو : أنّه إن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة بما هي هي من دون الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، فهذا لغو ولا فائدة منه ، إذ لا معنى لأن يعبّدنا الشارع بنبات اللحية في حين لا يوجد أثر شرعي مترتّب عليها ؛ لأنّ مثل هذا التعبّد يكون لغوا ومخالفا لمقدّمات الحكمة.

ص: 277


1- في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

وإن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة وإثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها بأن كان المنظور من إثبات اللوازم العقليّة هو التوصّل إلى إثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، كأن يفرض وجود حكم شرعي مترتّب على نبات اللحية كأن يقال : ( إذا كان لزيد لحية فيجب التصدّق ) ، فهذا معقول في نفسه ، إذ لا محذور في أن يعبّدنا الشارع بثبوت مثل هذا الأثر المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ الثبوت للأثر ولموضوعه ظاهري ادّعائي لا حقيقي.

إلا أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إفادة ذلك على المسالك الثلاثة المتقدّمة في تفسير التعبّد الاستصحابي.

أمّا على المسلك الأوّل القائل بالتنزيل للمشكوك منزلة المتيقّن فواضح ؛ لأنّ التنزيل من الشارع إنّما يكون بلحاظ الآثار التي تقع تحت سلطان الشارع بما هو شارع ، وهذا يفترض كون الآثار المراد التنزيل بلحاظها آثارا شرعيّة كالحكم وموضوعه ؛ لأنّها هي التي يمكن للشارع التنزيل بلحاظها ؛ لأنّها أحكامه هو.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فهي من أحكام العقل لا الشرع ، ولا معنى لأن يعبّدنا الشارع بثبوت الآثار العقليّة ؛ لأنّها خارجة عن نطاق التشريع ، فيكون هناك قصور من ناحية هذه الآثار العقليّة ؛ لأنّ الملاحظ في التنزيل كون المنزّل مشرّعا ، فيكون هناك انصراف لبّي في دليل الاستصحاب عن اللوازم العقليّة واختصاصه باللوازم الشرعيّة فقط.

وأمّا على المسلك الثاني القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة ، فالمستفاد منه كما تقدّم أنّ الحالة السابقة هي المنجّزة ؛ لأنّها هي التي تعلّق بها اليقين دون غيرها ، فما يثبت هو الحالة السابقة فقط دون الآثار مطلقا ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين الاستصحابي ؛ لأنّ متعلّقه هو الموضوع المستصحب.

وأمّا الآثار فهي متعلّقة لليقين المتولّد من اليقين بالمتعلّق والموضوع ، إلا أنّ ثبوت اليقين التعبّدي بالمتعلّق لا يلزم منه ثبوت اليقين التعبّدي بالآثار ؛ لأنّ الملازمة تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

نعم ، قلنا : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة وكذا الآثار الشرعيّة غير المباشرة التي تكون الواسطة فيها شرعيّة يمكن إثباتها بما تقدّم من تحقّق موضوع الحجّيّة والمنجّزيّة ، حيث

ص: 278

إنّ الجعل معلوم وجدانا والموضوع أي الصغرى تثبت بالاستصحاب ؛ لأنّه يثبت تمام الموضوع للأثر المباشر وجزء الموضوع للأثر غير المباشر.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فلا يتحقّق فيها موضوع المنجّزيّة لا بتمامه ولا بجزئه ؛ لأنّ استصحاب الموضوع المتيقّن ليس هو تمام الموضوع للأثر العقلي ، وليس أيضا جزء الموضوع له.

فمثلا استصحاب حياة زيد ليست هي تمام الموضوع لوجوب التصدّق وليست جزء الموضوع له أيضا ؛ لأنّ وجوب التصدّق موضوعه نبات اللحية لا حياة زيد ، ونبات اللحية لم يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّ اليقين لم يتعلّق بها ، وإنّما هي ثابتة بالملازمة العقليّة والتي لا يقين بها.

وأمّا على المسلك الثالث القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد بالجري العملي على طبق اليقين بلحاظ كاشفيّته عن المتعلّق ؛ لأنّ النقض ليس حقيقيّا بل عمليّا ، فأيضا لا تثبت اللوازم العقليّة ولا آثارها الشرعيّة ، لما تقدّم من أنّ موضوع الأثر الشرعي هو نبات اللحية في المثال والتي هي لازم عقلي ، وهذا اللازم العقلي لا يقين به مباشرة ، وإنّما اليقين متعلّق بحياة زيد ، وهي ليست تمام الموضوع ولا جزأه ، فلا يكون اليقين التعبّدي بحياة زيد يقينا تعبّديّا بنبات لحيته أيضا ؛ لأنّ الملازمة بينهما تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ الأصل المثبت غير معتبر ، بمعنى أنّ الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقليّة للمستصحب ، ولا الآثار الشرعيّة لتلك اللوازم.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ الأصل المثبت غير معتبر ولا يكون حجّة في إثبات اللوازم العقليّة لا هي نفسها ولا آثارها الشرعيّة المترتّبة عليها.

أمّا عدم ثبوتها هي نفسها فقط فلأنّه لغو ولا فائدة من التعبّد بها كما تقدّم.

وأمّا عدم ثبوت لوازمها الشرعيّة أيضا ، فلأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لها ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين ، وليس المستصحب تمام الموضوع ولا جزأه بالنسبة لها ؛ لأنّ تمام موضوعها هو اللازم العقلي ، وهو لا يثبت تعبّدا بالاستصحاب ؛ لأنّه لا يقين به.

ولا ملازمة أيضا بين اليقين التعبّدي بالمستصحب واليقين التعبّدي بآثاره العقليّة ؛ لأنّ الملازمة واقعيّة تكوينيّة مترتّبة على اليقين الوجداني فقط.

ص: 279

نعم ، إذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي كحكم العقل بالمنجّزيّة مثلا فلا شكّ في ترتّبه ؛ لأنّ الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتّب عليه كلّ لوازمه الشرعيّة والعقليّة على السواء.

وهنا يوجد استثناءان من عدم حجّيّة الأصل المثبت أو اللوازم العقليّة :

الأوّل : لم يذكره هنا لوضوحه وهو فيما إذا كان اليقين متعلّقا باللازم العقلي من أوّل الأمر ثمّ شكّ في بقائه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب لإثبات بقائه تعبّدا.

كما إذا كنّا على يقين من نبات لحية زيد ثمّ شككنا في بقائها ، وكان هناك أثر شرعي مترتّب عليها فيجري استصحابها ويترتّب الأثر الشرعي ؛ لأنّه أثر شرعي للمؤدّى المستصحب.

وكما إذا كنّا على يقين بأنّ هذا الماء متّصف بالكرّيّة ثمّ شككنا في بقاء اتّصافه بها بعد أخذ مقدار يسير منه ، فيجري استصحاب بقاء اتّصافه بالكرّيّة ويترتّب عليه الحكم الشرعي بالاعتصام وعدم الانفعال بمجرّد الملاقاة ، خلافا لما إذا كنّا على يقين بوجود كرّ فاستصحبنا أصل وجود الكرّ ، فإنّ إثبات اتّصاف الماء بالكرّيّة يكون لازما عقليّا كما تقدّم ؛ لأنّ المتيقّن مفاد ( كان ) التامّة ، والمراد إثباته مفاد ( كان ) الناقصة وهي لازم عقلي.

الثاني : ما ذكره الشهيد هنا وهو : أن يكون اللازم العقلي مترتّبا على نفس التعبّد الاستصحابي أي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، كحكم العقل بالمنجّزيّة والحجّيّة ، فإنّ هذا الحكم العقلي مترتّب وثابت لنفس الاستصحاب فيقال :

الاستصحاب حجّة ومنجّز ومعذّر ، فإذا جرى الاستصحاب في مورد ثبتت المنجّزيّة أو المعذّريّة التي هي حكم عقلي ، وصار هذا الشيء المستصحب حجّة ومنجّزا أو معذّرا.

وهذه المنجّزيّة ليست من الآثار العقليّة للمستصحب نفسه ؛ لأنّ حياة زيد ليست من آثارها التكوينيّة المنجّزيّة كما هو واضح ، وإنّما المنجّزيّة من الآثار العقليّة التي يحكم بها العقل عند إحراز الحكم الشرعي أو موضوعه ، فهي حكم عقلي منصبّ على نفس الحكم.

وعليه فيكون هذا اللازم العقلي ثابتا ؛ لأنّه مترتّب على الاستصحاب نفسه ،

ص: 280

والاستصحاب نفسه ثابت بدليل محرز وهو الأخبار المتقدّمة الدالّة عليه ، وحيث إنّ الأخبار من جملة الأمارات ، وحيث إنّ الأمارات لوازمها حجّة سواء الشرعيّة أو العقليّة ، فما يثبت بالأمارة هو الأعمّ من المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي ، والمدلول المطابقي للأخبار هو الاستصحاب ، والمدلول الالتزامي لها هو حجّيّته ومنجّزيّته فتكون المنجّزيّة ثابتة بالدليل المحرز أي الأمارة.

وكذا يمكن تصوير ثبوت اللازم العقلي فيما إذا كان مترتّبا على نفس الحجّيّة أي المنجّزية والمعذّريّة كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية أي لزوم الامتثال وحرمة العصيان ، فإنّهما لازمان عقليّان مترتّبان على نفس المنجّزيّة والمفروض أنّ المنجّزيّة ثابتة للاستصحاب يقينا ؛ لأنّها ثابتة بالدليل المحرز فهي مقطوعة وجدانا ، واللازم العقلي لا إشكال في ثبوته عند القطع الوجداني.

هذا كلّه على تقدير عدم ثبوت أماريّة الاستصحاب كما هو الصحيح على ما عرفت.

وأمّا لو قيل بأماريّته واستظهرنا من دليل الاستصحاب أنّ اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفيّة ، كان حجّة في إثبات اللوازم العقليّة للمستصحب وأحكامها أيضا ، وفقا للقانون العامّ في الأمارات على ما تقدّم سابقا (1).

ثمّ إن ما تقدّم من عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب إنّما يأتي على القول بأنّ الاستصحاب أصل عملي تنزيلي ومحرز.

وأمّا على القول بأماريّة الاستصحاب لوجود الحيثيّة الكاشفة فيه فيكون من جملة الأمارات التي تكون لوازمها الشرعيّة والعقليّة حجّة كما تقدّم في الجزء السابق ، حيث تقدّم أنّ مثبتات الأمارة حجّة بينما مثبتات الأصول ليست حجّة.

والوجه في ذلك : ما تقدّم من أنّ المجعول في الأمارات هو العلميّة والطريقيّة وتتميم الكشف بناء على تصوّرات المشهور ، بينما المجعول فيها قوّة الاحتمال الكاشف التي نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد على ما اخترناه هناك.

ص: 281


1- عند عرض المبادئ العامّة لبحث الأدلّة المحرزة في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة.

إلا أنّ أحدا لم يقل بأنّ الاستصحاب أمارة سوى السيّد الخوئي ، ولكنّه رغم ذلك لم يذهب إلى حجّيّة مثبتات الأمارات كما تقدّم عنه سابقا ، فالنتيجة العمليّة واحدة حينئذ سواء كان أصلا أم لا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الأصل المثبت واللوازم الشرعيّة والعقليّة.

* * *

ص: 282

عموم جريان الاستصحاب

اشارة

ص: 283

ص: 284

عموم جريان الاستصحاب

بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحقّقين في إطلاقها لبعض الحالات ، ومن هنا نشأ التفصيل في القول به ، ولعلّ أهمّ التفصيلات المعروفة قولان :

بعد الفراغ عن استفادة كبرى الاستصحاب من الروايات المتقدّمة ، وقع الكلام بينهم في أنّ هذه القاعدة هل هي عامّة وشاملة لكلّ الموارد التي يوجد فيها يقين وشكّ أم أنّها مختصّة ببعض تلك الموارد؟

ومن هنا وجدت عدّة تفصيلات :

منها : ما تقدّم من اختصاص الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فقط ، فلا يجري في الشبهات الموضوعيّة.

ومنها : عكس السابق ، أي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة.

ومنها : جريانه في الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل الشرع دون الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل العقل.

ومنها : جريانه في موارد الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي.

وهناك تفصيلات تفريعيّة مرجعها إلى أحد هذه التفصيلات ، وسوف نتحدّث عن اثنين من هذه التفصيلات فقط :

أحدهما : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (1) من التفصيل بين موارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع. والالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

ومدرك المنع من جريانه في الأوّل أحد وجهين :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري الذي قال : إنّ أوّل من

ص: 285


1- فرائد الأصول 3 : 51.

التفت إلى هذا التفصيل هو المحقّق الخوانساري ، ولعلّ المحقّق الحلّي سبقهم إلى ذلك في ( المعارج ) ، وعلى كلّ حال فالتفصيل يتّجه إلى أنّ الاستصحاب لا يجري إذا كان الشكّ في المقتضي. وأمّا إذا كان الشكّ في الرافع فيجري الاستصحاب.

فهنا دعويان إحداهما إيجابيّة وهي جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع ، وهي صحيحة لا كلام فيها.

والأخرى سلبيّة وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، وهي غير مقبولة عندنا.

وقبل الدخول في الاستدلال على هذه الدعوى والنقاش فيها لا بدّ من تعيين المراد من المقتضي والرافع.

فالمقتضي يراد به ألاّ يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار والامتداد في عمود الزمان ، فيشكّ في بقائه من جهة الشكّ في انتهاء استعداده وقابليّته للاستمرار ، ككبير السنّ الذي يشكّ في بقائه حيّا ، فإنّ منشأ الشكّ هو أنّ كبر السنّ لا يوجب استمرار الحياة وامتدادها ، وكخيار الغبن الذي يشكّ في بقائه من جهة انتهاء زمانه حيث يشكّ أنّه هل له القابليّة والاستعداد للاستمرار والامتداد أم لا؟

وأمّا الرافع فهو أن يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار في عمود الزمان ، وإنّما ينشأ الشكّ في بقائه نتيجة الشكّ في طروّ المانع والمزيل والرافع لهذا الاستمرار والاستعداد ، كالشاب الفتى ، الذي يشكّ في بقائه حيّا من جهة وجود مانع من استمرار الحياة كالقتل أو الغرق ونحو ذلك ، وكالطهارة أو النجاسة التي تستمرّ إلى وجود الرافع والمزيل.

وأمّا مدرك هذا التفصيل فيمكن أن يستدلّ عليه بوجهين كلاهما غير تامّ :

الأوّل : أن يدّعى بأنّ دليل الاستصحاب ليس فيه إطلاق لفظي ، وإنّما ألغيت خصوصيّة المورد في قوله : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بقرينة الارتكاز العرفي وكون الكبرى مسوقة مساق التعليل الظاهر في الإشارة إلى قاعدة عرفيّة مركوزة ، وليست هي إلا كبرى الاستصحاب ، ولمّا كان المرتكز عرفا من الاستصحاب لا يشمل موارد الشكّ في المقتضي ، فالتعميم الحاصل في الدليل بضمّ هذا الارتكاز لا يقتضي إطلاقا أوسع من موارد الشكّ في الرافع.

ص: 286

الوجه الأوّل : أن يقال : إنّ روايات الاستصحاب ليس فيها إطلاق لفظي ، لكي يتمسّك بهذا الإطلاق في كلّ الموارد حتّى موارد الشكّ في المقتضي ، بل روايات الاستصحاب واردة في موارد خاصّة ، وهي موارد الشكّ في الرافع ؛ لأنّ بعضها كان في الشكّ في حصول النوم الرافع للطهارة وبعضها كان في الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب الطاهر.

إلا أنّنا ألغينا خصوصيّة الطهارة الحدثيّة أو الخبثيّة وعمّمنا الاستصحاب كقاعدة كلّيّة عامّة تجري في كلّ الموارد ، إلا أنّ هذه الموارد ليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ وذلك لأنّ التعميم كان مستندا على أساس كون كبرى الاستصحاب ظاهرة في التعليل بأمر مركوز عند العرف والعقلاء ؛ لأنّها مسوقة مساق بيان العلّة والسبب للحكم بالبقاء.

والوجه في كونها عرفيّة مركوزة هو التعبير ب- ( لا ينبغي ) أو ( لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ) فإنّ الأولى قرينة على أنّ العرف والعقلاء لا يفعلون ذلك ، والثانية فيها ذكر لفظي للتأبيد الذي يفيد العموم.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة ما هو المركوز عند العقلاء لنرى مدى سعة هذا التعميم؟

ومن الواضح أنّ العرف والعقلاء إنّما يجرون الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ لأنّهم إنّما يحكمون ببقاء الشيء عند ما يشكّون في بقائه بعد علمهم باستعداده وقابليّته للبقاء.

والحاصل : أنّه لا يوجد إطلاق لفظي ليتمسّك به ، والإطلاق والتعميم وإلغاء خصوصيّة المورد يفيد أنّه يجري في سائر الموارد التي هي من هذا القبيل ، أو التي ارتكز عند العرف جريان الاستصحاب فيها ، وليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع.

وهذا البيان يتوقّف - كما ترى - على عدم استظهار الإطلاق اللفظي في نفسه ، وظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين ) و( الشكّ ) في الجنس.

والجواب عن هذا البيان : أنّه متوقّف على أمرين :

الأوّل : عدم استظهار الإطلاق اللفظي من أدلّة الاستصحاب ، إذ لو استظهر الإطلاق اللفظي لأمكن التمسّك به ؛ لتعميم القاعدة لكلّ الموارد سواء الشكّ في المقتضي أم الرافع.

ص: 287

الثاني : عدم ظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) في الجنس ، إذ لو كانت ظاهرة في الجنس لأمكن التمسّك بهذا الظهور لاستفادة التعميم ، فكلّ يقين لا ينقض بكلّ شكّ.

وكلا هذين الأمرين غير تامّ.

أمّا الأوّل ، فلأنّ بعض أدلّة الاستصحاب يمكن أن يستفاد منها الإطلاق اللفظي كما في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن علیه السلام قال : « إذا شككت فابن على اليقين » ، قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم ».

فهذه ظاهرة في الإطلاق اللفظي ، حيث لم يكن هناك مورد خاصّ فيها ، بل كانت ابتداء من الإمام علیه السلام .

وأمّا الثاني ، فلأنّ الروايات التي كان لها مورد خاصّ ، قد استفدنا منها التعميم والإطلاق من خلال استظهار أنّ ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) ، وأنّها ( لام ) الجنس لا ( لام ) العهد ، والدليل على هذا الاستظهار هو نفس كون هذه الكبرى مركوزة في الذهن العرفي ، فإنّ هذا الارتكاز يلغي خصوصيّة المورد ، وبالتالي يتعيّن كون ( اللام ) للجنس فيهما ، فيتمسّك بالعموم الذي تدلّ عليه هذه ( اللام ) الشامل لموارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

الثاني : أن يسلّم بالإطلاق اللفظي في نفسه ، ولكن يدّعى وجود قرينة متّصلة على تقييده ، وهي كلمة ( النقض ) حيث إنّها لا تصدق في موارد الشكّ في المقتضي.

الوجه الثاني : أنّنا لو سلّمنا بوجود الإطلاق اللفظي ، إلا أنّه يوجد أيضا قرينة لفظيّة متّصلة بهذا الإطلاق ، والقرينة المتّصلة تمنع من أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق ، بل ينعقد الظهور على وفق هذه القرينة المتّصلة ، وهذه القرينة توجب تقييد الإطلاق بموارد الشكّ في الرافع دون المقتضي.

والقرينة هي كلمة ( النقض ) ، فإنّ النقض يحمل على الشيء الذي له صفة إحكام واستقرار ، وهذا يفترض كون الشيء المنقوض مستحكما في نفسه ، وهذا معناه كون الشيء له القابليّة والاستعداد في نفسه لو لا الرافع والمانع. إذ في موارد الشكّ في المقتضي لا يوجد مثل هذا الاستحكام والاستعداد ؛ لأنّه يشكّ في أصل ذلك.

ص: 288

وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة السابقة (1) ، واتّضح أنّ كلمة ( النقض ) لا تصلح للتقييد.

والجواب : أنّ كلمة ( النقض ) وإن كان معناها يفترض الاستحكام والإبرام إلا أنّها مسندة إلى اليقين نفسه لا إلى المتيقّن ، ومن الواضح أنّ اليقين فيه استحكام ؛ لأنّه التصديق وإذعان النفس واستقرارها ، فلا تكون هذه الكلمة دالّة على التقييد إلا إذا استظهر كونها مسندة إلى المتيقّن ، وهذا غير تامّ كما تقدّم سابقا.

والقول الآخر : ما ذهب إليه السيّد الأستاذ (2) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة واختصاصه بالشبهات الموضوعيّة ، وذلك - بعد الاعتراف بإطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين من الشبهات - بدعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي وطوّره السيّد الخوئي رحمه اللّه ، وحاصله : أنّ دليل الاستصحاب شامل في نفسه لكلا القسمين تمسّكا بالإطلاق ، فيشمل الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة.

أمّا الشبهات الموضوعيّة فيجري فيها استصحاب الموضوع واستصحاب الحكم الجزئي المترتّب على هذا الموضوع ، فإذا كان لدينا طعام طاهر ثمّ شككنا في بقاء طهارته جرى استصحاب طهارته وجرى استصحاب جواز أكله ؛ لأنّه متيقّن أيضا.

وأمّا في الشبهات الحكميّة الكلّيّة كوجوب صلاة الجمعة حال الغيبة ، أو طهارة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر من نفسه ، فهنا لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مبتلى بالمعارض ، أو أنّ الاستصحاب يجري لكنّه يسقط بالمعارضة.

وهذا مختصّ في الحكم الإلزامي لا الترخيصي ، فإنّ استصحاب الحكم الترخيصي لا معارض له فيجري ؛ لأنّه في الحكم الإلزامي إذا أجري استصحاب بقاء الحكم المجعول فيعارضه استصحاب عدم الجعل ، بينما في الحكم الترخيصي إذا أجري استصحاب عدم المجعول فلا يكون استصحاب عدم الجعل معارضا له بل مؤيّدا.

ص: 289


1- في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.
2- مصباح الأصول 3 : 36.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم الشرعي - كما تقدّم في محلّه (1) - ينحلّ إلى جعل ومجعول ، والشكّ فيه تارة يكون مصبّه الجعل وأخرى يكون مصبّه المجعول.

فالنحو الأوّل من الشكّ يعني أنّ الجعل قد تعلّق بحكم محدّد واضح بكلّ ما له دخل فيه من الخصوصيّات ، غير أنّ المكلّف يشكّ في بقاء نفس الجعل ويحتمل أنّ المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل.

توضيح التفصيل المذكور : أنّ الحكم الشرعي ينحلّ إلى الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وإلى الحكم بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو عبارة عن الحكم الإنشائي والاعتبار المولوي وتشريع الحكم على المكلّف.

وأمّا الحكم بلحاظ عالم المجعول فهو عبارة عن الحكم الفعلي الذي يكون محرّكا وباعثا للمكلّف ، فإنّ الحكم إنّما يصير فعليّا فيما إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه وقيوده في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون بلحاظ عالم الجعل وأخرى بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو يكون بأصل تشريع الحكم ، أي أنّ المولى هل شرّع هذا الحكم أم لا؟ كالشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّ الموضوع محدّد ومعروف بكلّ خصوصيّاته ، وكذا الحكم لا شكّ في قيوده وشروطه وإنّما يشكّ في أصل جعله على المكلّف.

ويتصوّر أيضا في الموارد التي يعلم فيها بأصل الجعل والتشريع ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ الشارع قد جعل هذا الحكم بكلّ ما له من خصوصيّات على موضوعه المحدّد من جميع الحيثيّات ، ولكنّه يشكّ في الحكم من جهة احتمال أن يكون الشارع قد ألغاه ورفع اليد عنه ، وهذا يسمّى بالشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي.

والنحو الثاني من الشكّ يعني أنّ الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه ، غير أنّ الشكّ في مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم مثلا هل أنّ المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر حتّى إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطة بفترة التغيّر

ص: 290


1- بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

الفعلي؟ فالمجعول مردّد بين فترة طويلة وفترة قصيرة ، وكلّما كان المجعول مردّدا كذلك كان الجعل مردّدا لا محالة بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة للفترة القصيرة معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافيّة مشكوك.

وأمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم المجعول فمعناه أنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل معلوم وثابت ولا يشكّ في إلغائه ونسخه ، وإنّما يشكّ في حدود المجعول والمنشأ به أي المقدار الذي جعله الشارع وأنشأه.

فمثلا يعلم المكلّف بأنّ الشارع قد جعل الحكم بالنجاسة على الماء المتغيّر ، ولكنّه لا يدري حدود هذا الجعل والمقدار المنشأ شرعا ، فهل هذا الجعل يشمل الماء المتغيّر حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه ، أو أنّه يختصّ بحال التغيّر فعلا؟ وهذا الشكّ والترديد ليس في أصل الجعل والحكم بالنجاسة ، وإنّما هو بلحاظ مقدار المجعول سعة وضيقا.

فالمجعول مردّد بين الفترة الطويلة التي هي الحكم بالنجاسة إلى ما بعد التغيّر أيضا ، وبين الفترة القصيرة وهي الحكم بالنجاسة في فترة التغيّر الفعلي ، فقط ، وهذا معناه أنّ المجعول مردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة في الفترة القصيرة معلوم ، ويشكّ في المقدار الزائد وهي فترة زوال التغيّر من قبل نفسه.

ففي النحو الأوّل من الشكّ - إذا كان ممكنا - يجري استصحاب بقاء الجعل.

وأمّا في النحو الثاني من الشكّ فيوجد استصحابان متعارضان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول أي بقاء النجاسة في الماء بعد زوال التغيّر مثلا ؛ لأنّها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد أي عدم جعل نجاسة الفترة الإضافيّة مثلا ، لما أوضحناه من أنّ تردّد المجعول يساوق الشكّ في الجعل الزائد.

وهذان الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة.

أمّا النحو الأوّل من الشكّ أي الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، فيجري استصحاب عدم جعل الحكم بلا إشكال فيما إذا كان الشكّ في أصل الجعل والتشريع ، وأمّا إذا كان الشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي فيجري استصحاب عدم النسخ أيضا على القول بأنّ النسخ بمعناه الحقيقي ممكن ، حيث يوجد معنيان للنسخ

ص: 291

أحدهما محال لاستلزامه الجهل وهو النسخ المستلزم للعلم بعد الجهل ، والآخر ممكن وهو أن يكون الحكم مؤقّتا بوقت لم يذكره الشارع فعند انتهاء أمده يرتفع ، فيكون الشكّ بمعنى أنّ هذا الحكم هل انتهى وقته أم أنّه مطلق من حيث الزمان؟

وأمّا النحو الثاني من الشكّ أي الشكّ بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، فهنا يجري استصحابان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، حيث إنّ المكلّف يعلم بحدوث النجاسة للماء المتغيّر فعلا الموجود في الخارج ، ثمّ يشكّ في بقاء هذه النجاسة من أجل الشكّ في أنّ زوال التغيّر من نفسه هل يوجب ارتفاع النجاسة أو لا؟ فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ النجاسة معلومة الحدوث ، ومشكوكة البقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد ، أي عدم جعل الحكم بالنجاسة على المقدار الزائد وهو الفترة الإضافيّة الطويلة ، حيث تقدّم أنّ مرجع الشكّ في المجعول إلى التردّد في كون الحكم منصبّا على الفترة القصيرة أي الأقلّ ، وهي فترة التغيّر الفعلي أو على الفترة الطويلة أيضا وهي فترة زوال التغيّر من نفسه ، وهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فيجري الأصل المؤمّن أي استصحاب عدم جعل النجاسة على الفترة الإضافيّة ؛ لأنّها مشكوكة بينما الفترة القصيرة معلومة.

وحينئذ يقع التعارض بين هذين الاستصحابين ؛ لأنّ الأوّل ينجّز النجاسة للفترة الإضافيّة المشكوكة ، بينما الثاني يؤمّن عنها فيحكم بتساقطهما ، وهذا معناه عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّه دائما معارض.

ولكي نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغي أن نفهم كيف يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكميّة بحدّ ذاته قبل أن نصل إلى دعوى معارضته بغيره؟

فنقول : إنّ استصحاب المجعول نحوان :

أحدهما : استصحاب المجعول الفعلي التابع لفعليّة موضوعه المقدّر الوجود في جعله ، وهو لا يتحقّق ولا يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء إلا بعد تحقّق موضوعه خارجا ، فنجاسة الماء المتغيّر لا تكون فعليّة إلا بعد وجود ماء متغيّر بالفعل ، ولا تتّصف بالشكّ في البقاء إلا بعد أن يزول التغيّر عن الماء فعلا.

ص: 292

وحينئذ يجري استصحاب النجاسة الفعليّة ، واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقّف جريانه - كما ترى - على وجود الموضوع ، وهذا يعني أنّه لا يجري بمجرّد افتراض المسألة على وجه كلّيّ والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر ، ويقضي ذلك بأنّ إجراء الاستصحاب من شأن المكلّف المبتلى بالواقعة خارجا لا من شأن المجتهد الذي يستنبط حكمها على وجه كلّي ، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب في حقّه عند تماميّة الأركان لا أنّ المجتهد يجريه ويفتي المكلّف بمفاده.

وقبل الجواب عن شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل يجب أن نذكر المراد من استصحاب المجعول ، فإنّ تنقيح ذلك يلقي ضوءا على حلّ هذه الشبهة ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول قد يراد به أحد معنيين :

الأوّل : استصحاب المجعول الفعلي الموجود في الخارج ، أي استصحاب الحكم المجعول الجزئي.

الثاني : استصحاب المجعول تقديرا ، أي استصحاب الحكم المجعول الكلّي.

أمّا النحو الأوّل : أي استصحاب المجعول الفعلي ، فهذا يفترض أن يكون الموضوع فعليّا ، وفعليّة الموضوع معناها وجود الموضوع في الخارج بوجود كلّ قيوده وشروطه وخصوصيّاته ، فلا بدّ أن يكون الموضوع محقّق الوجود في الخارج لكي يكون الحكم فعليّا.

وحينئذ يمكن أن يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء الذي هو الركن الثالث من أركان الاستصحاب ، أي تكون هناك قضيّة واحدة متيقّنة ومشكوكة.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر إنّما تكون فعليّة ، فيما إذا وجد في الخارج ماء واتّصف بالتغيّر بأوصاف النجاسة فعلا ، فيصدق حينئذ اليقين بالحدوث ، ثمّ إذا زال التغيّر من نفسه عن هذا الماء فعلا فتغيّرت الأوصاف فهنا يصدق الشكّ في البقاء ؛ وذلك لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة وهي الماء الموجود في الخارج فعلا ، والذي كان متيقّن النجاسة عند اتّصافه بالتغيّر الفعلي ، ثمّ صار مشكوك النجاسة عند ما زال عنه التغيّر فعلا ، ولهذا يكون الماء الثاني امتدادا واستمرارا للماء الأوّل ، أي الحصّة الثانية وهي الماء الذي زال عنه التغيّر هي بقاء للحصّة الأولى أي الماء الذي كان متغيّرا ؛ لأنّ

ص: 293

الماء يوجد أوّلا ثمّ يتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فهناك طولية بين الحصّتين في عمود الزمان.

وبما أنّ أركان الاستصحاب تامّة لوجود يقين بحدوث النجاسة وشكّ في بقائها ، والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة للطوليّة بين الحصّتين في الخارج ، فيجري استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، أي النجاسة الفعليّة الثابتة للماء الموجود في الخارج.

إذا النحو الأوّل من استصحاب المجعول يتمّ فيما إذا كان الموضوع موجودا فعلا في الخارج.

وأمّا إذا لم يكن الموضوع موجودا فعلا في الخارج بل كان مفروض ومقدّر الوجود ، فلا يجري استصحاب المجعول الفعلي ؛ لأنّ الالتفات إلى الموضوع في عالم الجعل واللحاظ المولوي يعني أنّ الموضوع كلّي فيكون الحكم الثابت له كلّيّا أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم المراد استصحابه وهو الحكم المجعول الفعلي لا يقين بحدوثه ؛ لأنّ اليقين بحدوثه إنّما يتحقّق إذا وجد الموضوع فعلا في الخارج لا ما إذا كان مفترض الوجود ، ولذلك فلا يجري الاستصحاب بهذا اللحاظ.

ومن هنا نعرف أنّ استصحاب المجعول الفعلي إنّما هو من شئون المكلّف لا من شئون المجتهد.

وبيانه : أنّ الماء المتغيّر فعلا يعلم به من كان لديه ماء متغيّر فعلا وهو المكلّف ، ثمّ يزول هذا التغيّر فعلا ، والذي يكون امتدادا للماء الأوّل.

وأمّا المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعيّة فهو يفترض وجود الماء المتغيّر ، ويفترض وجود الماء الذي زال عنه التغيّر ، أي أنّه يفترض الحصّتين معا ، وهاتان الحصّتان موجودتان معا في عالم الافتراض والتقدير ، وليست إحداهما امتدادا للأخرى ، ولذلك لا تكون القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة واحدة ؛ لأنّهما موجودتان في عرض واحد ، ولذلك لا يتمكّن المجتهد من إجراء استصحاب الحكم المجعول الفعلي ، وإنّما يفتي المكلّف بإجراء هذا الاستصحاب اذا تمّت أركانه عنده.

وهذه النتيجة التي نحصل عليها مخالفة للوجدان العرفي والفقهي ، حيث إنّه يرى أنّ إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم المجعول الفعلي حقّ للمكلّف وللمجتهد معا ، فكما يحقّ للمجتهد أن يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة التي يكون

ص: 294

الموضوع فيها كلّيّا أي مفترض الوجود ، كذلك يجريه فيما إذا كان الموضوع جزئيّا وفعليّا أي محقّق الوجود.

ولا تفصيل بين هذين النحوين فقهيّا ، ولذلك يكون هذا المرتكز قرينة على أنّ المراد من استصحاب المجعول ليس هذا النحو ؛ لأنّه يؤدّي إلى نتيجة غير مقبولة فقهيّا.

والنحو الآخر لاستصحاب المجعول : هو إجراء الاستصحاب في المجعول الكلّي على نحو تتمّ أركانه بمجرّد التفات الفقيه إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر وشكّه في شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال التغيّر.

وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقّف على وجود الموضوع خارجا ، ومن هنا كان بإمكان المجتهد إجراؤه والاستناد إليه في إفتاء المكلّف بمضمونه.

ولا شكّ في انعقاد بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب.

وأمّا النحو الثاني من استصحاب المجعول فهو أن يكون الموضوع مفترض ومقدّر الوجود في عالم التشريع فيكون كليا وحكمه كلي أيضا.

وذلك بأن يلتفت المجتهد - حين استنباطه الحكم الشرعي - إلى الماء المتغيّر فيفترض وجوده ، فيكون الحكم بالنجاسة ثابتا له ، ثمّ يفترض زوال التغيّر عن الماء من نفسه فيحصل له شكّ في بقاء ذاك الحكم ، فيجري استصحابه لتماميّة أركانه ، حيث إنّه يوجد للمجتهد يقين بحدوث الحكم بالنجاسة الكلّي على كلّي الماء المتغيّر ، ثمّ يشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي لزوال التغيّر تقديرا وافتراضا عن ذلك الماء ، فاليقين بالحدوث موجود والشكّ في البقاء موجود والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة ، وهي الماء المفترض الوجود الذي اتّصف بالتغيّر ثمّ زال عنه التغيّر.

وعلى هذا سوف يجري استصحاب المجعول الكلّي سواء وجد في الخارج ماء متغيّر بالفعل أم لا ؛ لأنّ موضوع هذا الاستصحاب هو الماء المقدّر الوجود.

ولذلك يتمكّن المجتهد من إجراء الاستصحاب بنفسه ومن ثمّ إفتاء المكلّف ببقاء المجعول ، ولا يحتاج إلى أن يجري هذا الاستصحاب نفس المكلّف.

والدليل على ذلك : هو البناء الفقهي والارتكاز العرفي على جريان مثل هذا

ص: 295

الاستصحاب ، فإنّ هذا البناء يعتبر دليلا على تماميّة أركان الاستصحاب بحقّ الفقيه.

وهذا النحو هو المراد من استصحاب بقاء المجعول الذي أراده السيّد الخوئي ، حيث أبرز له استصحابا آخر معارضا له وهو استصحاب عدم الجعل لهذا الحكم الكلّي.

غير أنّه قد يستشكل في النحو المذكور بدعوى : أنّ المجعول الفعلي التابع لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعا لموضوعه ، وأمّا المجعول الكلّي فليس له حدوث وبقاء ، بل تمام حصصه ثابتة ثبوتا عرضيّا آنيّا بنفس الجعل بلا تقدّم وتأخّر زماني.

وهذا يعني أنّا كلّما لاحظنا المجعول على نهج كلّيّ لم يكن هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء ليجري الاستصحاب. فأركان الاستصحاب إنّما تتمّ في المجعول بالنحو الأوّل لا الثاني.

وقد أشرنا سابقا (1) إلى هذا الاستشكال وعلّقنا عليه بما يوحي بإجراء استصحاب المجعول على النحو الأوّل ، غير أنّ هذا كان تعليقا مؤقّتا إلى أن يحين الوقت المناسب.

إلا أنّ المحقّق العراقي استشكل على إجراء الاستصحاب بالنحو الثاني بدعوى عدم تماميّة أركانه.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا لاحظنا المجعول الفعلي أي الحكم الجزئي فهذا تابع لفعليّة موضوعه ، والفعلية تكون بلحاظ عالم الخارج ، فلا بدّ من وجود ماء في الخارج يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فإذا اتّصف بالتغيّر فعلا ثبت له الحكم بالنجاسة ، وهذا حكم جزئي لكون موضوعه جزئيّا ، وإذا زال التغيّر شككنا في بقاء هذا الحكم فيجري استصحابه لتماميّة أركان الاستصحاب فيه من اليقين بحدوث هذا الحكم الجزئي والشكّ في بقائه ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ؛ لأنّ الوحدة إنّما تصدق فيما إذا كان الشكّ شكّا في البقاء والذي يعني كون الحصّة الثانية امتدادا للحصّة الأولى ، وهذا يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، فلكي يصدق الشكّ في البقاء لا بدّ من فرض الطوليّة في الزمان بين القضيّتين ، وهذا حاصل في موارد استصحاب المجعول الفعلي الجزئي.

ص: 296


1- تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

وأمّا إذا لاحظنا المجعول على نهج كلّي أي افترضنا الموضوع وافترضنا ثبوت الحكم الكلّي له ، ثمّ افترضنا الشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي نتيجة زوال التغيّر ، فهنا لا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه ؛ وذلك لأنّ الشكّ المفترض لا يصدق عليه أنّه شكّ في البقاء للحكم المفترض ؛ لأنّ الحكم الكلّي ينصبّ في عالم الجعل على موضوعه الكلّي بتمام حصصه في عرض واحد ، أي أنّ الشارع يتصوّر تمام الحصص من الموضوع في مرتبة واحدة ويجعل الحكم.

فهو إمّا أن يكون قد جعل الحكم على تمام الحصص معا أو لا يكون كذلك ، بل جعله على هذه الحصّة دون تلك.

ولذلك عند ما نشكّ في ثبوت الحكم للحصّة الثانية فهو حكم غير الحكم الثابت للحصة الأولى ؛ لأنّ الثانية ليست بقاء للأولى ؛ لأنّ صدق الشكّ في البقاء يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، وهذه الطوليّة لا تصدق إلا في عالم الخارج ؛ لأنّ الماء في الخارج هو الذي يتّصف بالتغيّر وبعدمه.

وأمّا في عالم التصوّر واللحاظ الذهني فنفرض سائر الحصص معا في آن واحد فلا طوليّة بينها ، وإنّما هي في عرض واحد ، ولذلك لا يصدق الشكّ في البقاء والوحدة بين القضيّتين ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والفقهي.

وبهذا تحصّل : أنّ إجراء استصحاب الحكم الفعلي تامّ في نفسه ، لكنّه يبتلي بأنّه من حقّ المكلّف لا المجتهد. وأمّا إجراء استصحاب الحكم الكلّي المجعول فهو غير تامّ الأركان.

ونحن قد أشرنا إلى هذا الاستشكال عند الكلام عن الركن الثاني من أركان الاستصحاب ، وهناك قلنا بأنّه يجري استصحاب الحكم المجعول الفعلي الجزئي ، غير أنّ هذا لا يحلّ المشكلة التي أثارها المحقّق العراقي هنا ، ولذلك لا بدّ من تعميق الكلام أكثر فنقول :

وأمّا الصحيح في الجواب فهو : أنّ المجعول الكلّي وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلا يمكن أن ينظر إليه بنظرين :

أحدهما : النظر إليه بما هو أمر ذهني مجعول في أفق الاعتبار.

ص: 297

والآخر : النظر إليه بما هو صفة للماء الخارجي.

فهو بالحمل الشائع أمر ذهني وبالحمل الأوّلي صفة للماء الخارجي.

وبالنظر الأوّل ليس له حدوث وبقاء ، لأنّه موجود بتمام حصصه بالجعل في آن واحد.

وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء ، وحيث إنّ هذا النظر هو النظر العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول بالنحو الثاني لتماميّة أركانه.

والجواب عن إشكال المحقّق العراقي أن يقال : إنّ المجعول الكلّي ليس شيئا زائدا عن الجعل ، فالمجعول الكلّي هو الجعل نفسه ؛ وذلك لأنّه لا يوجد للحكم حقيقتان إحداهما بلحاظ عالم الجعل والأخرى بلحاظ عالم المجعول ، وإنّما هناك حقيقة واحدة هي الحكم الثابت في عالم الجعل والتشريع ، وهذا قد تتحقّق صغراه في الخارج فيطلق عليه المجعول إلا أنّه لا حقيقة له مستقلّة زائدة عن أصل الجعل.

وعلى هذا الأساس فالمجعول الكلّي الذي هو الجعل عبارة عن تلك القضيّة الحقيقيّة التي بالتحليل ترجع إلى قضيّة تقديريّة شرطيّة ، فإذا قيل : ( الماء المتغيّر نجس ) كان المفاد ( أنّه كلّما وجد ماء متغيّر فهو نجس ).

وهذه القضيّة يمكن النظر إليها بنظرين ولحاظين هما :

1 - أن ينظر إليها بالحمل الشائع أي بلحاظ نفس حقيقة هذا الجعل ، فهي بهذا اللحاظ تكون صورة ذهنيّة موجودة في نفس الشارع ، أي في عالم الاعتبار والتشريع ؛ وذلك لأنّ الحمل الشائع عبارة عن الواقع الذي توجد فيه القضيّة ، وواقع القضيّة المجعولة هو نفس الجعل ؛ لأنّه لا يوجد شيء زائد على الجعل.

2 - أن ينظر إليها بالحمل الأوّلي أي بلحاظ عنوان القضيّة ، فهي بهذا اللحاظ تحكي عن المفاهيم التالية ( الماء والتغيّر والنجاسة ) بحيث تكون النجاسة صفة للماء المتغيّر ، فإنّ الماء المتغيّر الموجود في الخارج يتّصف بالنجاسة ، فتكون هذه القضيّة حاكية عن هذه المفاهيم بما هي موجودة في الخارج بحيث يلحظ الوجود الخارجي سواء وجد فعلا ماء متغيّر أم لا.

فإذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الشائع فهذه القضيّة موجودة دفعة واحدة في نفس الشارع بحيث تلحظ تمام الحصص والأفراد في عرض واحد ، ولذلك لا

ص: 298

يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ هذا الجعل إمّا أن يوجد في نفس الاعتبار والتشريع أو لا يوجد.

وأمّا إذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الأوّلي أي بما هي حاكية عن هذه المفاهيم ، فهذه المفاهيم موجودة في الخارج ، وفي الخارج يكون هناك ماء ثمّ يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، ولذلك يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ الحصص توجد في طول بعضها فتكون الثانية امتدادا واستمرارا وبقاء للأولى.

ومن هنا كان الاستصحاب تامّ الأركان بلحاظ القضيّة المجعولة بالحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

والمستفاد من دليل الاستصحاب تطبيقه على ما يفهمه العرف ، والعرف إنّما يجري الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ؛ لأنّه يفهم القضيّة المجعولة بما هي حاكية عن المفاهيم بوجوداتها الخارجيّة ، ولا يفهم القضيّة المجعولة بما هي موجودة في واقعها أي نفس عالم الاعتبار والتشريع.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ نفس المفصّل لم يدّع أنّ الاستصحاب غير تامّ الأركان ، وإنّما ادّعى أنّه يجري ولكنّه يسقط بالمعارضة.

إذا اتّضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بأنّه في تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي في الشبهة الحكميّة لا يعقل تحكيم كلا النظرين ؛ لتهافتهما.

فإن سلّم بالأخذ بالنظر الثاني تعين إجراء استصحاب المجعول ، ولم يجر استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر لا نرى جعلا ومجعولا ولا أمرا ذهنيّا ، بل صفة لأمر خارجي لها حدوث وبقاء.

وإن ادّعي الأخذ بالنظر الأوّل فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا يجري في نفسه ، لا أنّه يسقط بالمعارضة.

والجواب عن شبهة المعارضة أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب عند تطبيقه على الحكم الكلّي في الشبهات الحكميّة يحتمل فيه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي والحمل الشائع معا ، وهذا مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى التناقض والتهافت ، إذ لا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين معا ؛ لأنّ الملحوظ في أحدهما هو نفس الشارع بينما الملحوظ في

ص: 299

الآخر المفاهيم في واقعها ، فلا يمكن أن يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى الحكم الكلّي بهذين النظرين معا ؛ لأنّ أحدهما تصوّري والآخر تصديقي ، وسيأتي بيانه مفصّلا.

الثاني : أن يطبّق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي ، فهنا يجري استصحاب المجعول الكلّي ، ولا يجري استصحاب عدم جعل الزائد ؛ لأنّه بهذا اللحاظ لا يوجد إلا المجعول الكلّي الذي هو نفس الجعل ولا يوجد جعل ومجعول كلّ على نحو مستقلّ ، وهذا المجعول الكلّي ينظر إليه بما هو صفة لأمر خارجي ، ولذلك كان هذا الجعل أو المجعول الكلّي يتّصف بالحدوث والبقاء ؛ لأنّ الأمر الخارج له حدوث وبقاء حيث إنّ وجوده في واقعه الذي هو الخارج يكون على أساس الطوليّة بين حصصه.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فلا يجري ؛ لأنّ هذا الاستصحاب المنظور فيه القضيّة أي ( المجعول الكلّي ) بلحاظ نفس الاعتبار والتشريع أي الحمل الشائع لا الأوّلي ، وبهذا اللحاظ لا يوجد حدوث وبقاء ، بل إمّا أن يجعل أو لا.

الثالث : أن يطبّق الاستصحاب في الشبهات الحكميّة على المجعول الكلّي بالحمل الشائع ، أي بلحاظ واقع هذه القضيّة المجعولة والذي هو نفس الشارع وعالم الاعتبار والتشريع ، وبهذا اللحاظ سوف لا يجري استصحاب بقاء المجعول الكلّي ؛ لأنّه في هذا اللحاظ توجد الحصص في عرض واحد وليس هناك طوليّة بينهما ليعقل الشكّ في البقاء.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فهو يجري هنا ؛ لأنّ الجعل لإحدى الحصّتين معلوم ، بينما الجعل للحصّة الأخرى مشكوك حدوثه فيستصحب عدمه.

وبهذا ظهر : أنّه لا تعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب الجعل ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول إنّما يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الأوّلي ، بينما استصحاب عدم الجعل يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الشائع.

فإذا جرى استصحاب المجعول لا يجري استصحاب عدم الجعل ، وإذا جرى استصحاب عدم الجعل لا يجري استصحاب المجعول ، إذ جريانهما معا معناه النظر إلى المجعول الكلّي بلحاظين ونظرين معا وهو مستحيل.

ص: 300

وحيث إنّ المرجع هو العرف وهو يرى جريان الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ، فيجري استصحاب المجعول بلا معارض.

إن قيل : لما ذا لا نحكّم كلا النظرين ونلتزم بإجراء استصحاب عدم الجعل الزائد تحكيما للنظر الأوّل في تطبيق دليل الاستصحاب ، وإجراء استصحاب المجعول تحكيما للنظر الثاني ، ويتعارض الاستصحابان؟

إن قيل - كما هي مقالة صاحب التفصيل المذكور - : لما ذا لا يجري كلا الاستصحابين معا؟ وذلك بأن ننظر إلى القضيّة المجعولة تارة بالحمل الأوّلي فيجري استصحاب المجعول ، وأخرى بالحمل الشائع فيجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما منجّز للحكم والآخر ينفيه ، فيحكم بتساقطهما.

كان الجواب : أنّ التعارض لا نواجهه ابتداء في مرحلة إجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين ، وإنّما نواجهه في مرتبة أسبق أي في مرحلة تحكيم هذين النظرين ، فإنّهما لتهافتهما ينفي كلّ منهما ما يثبته الآخر من الشكّ في البقاء ، ومع تهافت النظرين في نفسيهما يستحيل تحكيمهما معا على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى التعارض بين الاستصحابين ، بل لا بدّ من جري الدليل على أحد النظرين وهو النظر الذي يساعد عليه العرف خاصّة.

كان الجواب : أنّ تحكيم كلا النظرين في نفسه مستحيل بقطع النظر عن المعارضة التي تحصل فيما بعد هذا التحكيم ، بمعنى أنّ المعارضة ثابتة في مرحلة سابقة والتي هي مرحلة المدلول التصوّري ، فلا يمكننا غضّ النظر عن هذه المعارضة والالتزام بإيقاعها في مرحلة متأخّرة ، والتي هي مرحلة المدلول التصديقي أي مرحلة التطبيق.

وحينئذ نقول : إنّ المعارضة لمّا كانت ثابتة في مرحلة المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون مفاده ونظره إلى كلا اللحاظين والنظرين ؛ لأنّ شموله لهما معا يؤدّي إلى الاستحالة والتهافت لما تقدّم منّا سابقا ، بأنّ أحدهما ينظر إلى القضيّة المجعولة بما هي في نفس الشارع والآخر ينظر إلى القضيّة في واقعها ، والأخذ بهما يؤدّي إلى التهافت ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن أو أحدهما ينفي ما يثبته الآخر أو بالعكس.

ص: 301

فلو أخذنا بالنظرين معا كان نفس المدلول التصوّري للاستصحاب يستحيل التعبّد به ؛ لأنّه تعبّد بالمتنافيين ، ولذلك لا تصل النوبة إلى مرحلة المدلول التصديقي التي هي مرحلة تطبيق الاستصحاب.

ومن هنا كان لا بدّ من تعيين أحد النظرين ، وهذا الأمر يلاحظ فيه الفهم العرفي ؛ لأنّ كبرى الاستصحاب كما تقدّم مركوزة في الفهم العرفي ، والعرف هنا يرى تحكيم النظر الأوّلي والحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

* * *

ص: 302

تطبيقات

استصحاب الحكم المعلّق

اشارة

ص: 303

ص: 304

تطبيقات

1 - استصحاب الحكم المعلّق

قد نحرز كون الحكم منوطا في مقام جعله بخصوصيّتين ، وهناك خصوصيّة ثالثة يحتمل دخلها في الحكم أيضا ، وفي هذه الحالة يمكن أن نفترض أنّ إحدى تلك الخصوصيّتين معلومة الثبوت والثانية معلومة الانتفاء ، وأمّا الخصوصيّة الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة ، وهذا الافتراض يعني أنّ الحكم ليس فعليّا ، ولكنّه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصيّة الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلّق والقضيّة الشرطيّة.

فإذا افترضنا أنّ الخصوصيّة الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصيّة الثالثة حصل الشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة ؛ لاحتمال دخل الخصوصيّة الثالثة في الحكم.

وهنا تأتي الحاجة إلى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلّق.

بيان الحكم المعلّق : تقدّم أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة بالمصطلح المتعارف عليه معناه كون خصوصيّة ما موجودة سابقا ثمّ ارتفعت ، ويشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه من جهة الشكّ في كون هذه الخصوصيّة حيثيّة تقييديّة أو تعليليّة ، وهذا الاستصحاب الحكمي يسمّى باستصحاب الحكم المنجّز ؛ لأنّ الحكم كان ثابتا ومنجّزا في السابق لتحقّق سائر الخصوصيّات فيه ، ثمّ يشكّ في بقائه فيستصحب بقاء الحكم المنجّز.

وهناك نحو آخر من الشكّ في الحكم وهو ما إذا فرض وجود خصوصيّتين يعلم بدخالتهما في الحكم ، وهناك خصوصيّة ثالثة يشكّ في دخالتها ، فهنا نقول :

إذا كانت إحدى الخصوصيّتين - المعلوم كونهما دخيلتين - مرتفعة والأخرى ثابتة ، وفرضنا أنّ الخصوصيّة الثالثة المشكوك دخالتها ثابتة أيضا ، فهنا لا يكون الحكم ثابتا

ص: 305

وفعليّا ؛ لأنّ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة سائر القيود المأخوذة فيه ، وهنا إحدى الخصوصيّتين غير فعليّة ، ولكن هذا الحكم على تقدير ثبوت الخصوصية المرتفعة فعلا يصبح فعليا.

وهذا يعني أنّنا نعلم بثبوت الحكم بنحو القضيّة التعليقيّة أو الشرطيّة حيث نقول : ( لو وجدت تلك الخصوصيّة لصار الحكم فعليّا ) ، فنحن إذن نعلم بهذه القضيّة أو نعلم بالحكم المعلّق.

ثمّ إذا فرضنا بعد ذلك أنّ الخصوصيّة التي كانت مرتفعة قد وجدت ، إلا أنّ الخصوصيّة الثالثة التي نشكّ في كونها دخيلة في الحكم قد ارتفعت ، فهنا سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أو ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّنا كنّا على يقين من تلك القضيّة والحكم التعليقي عند ثبوت الخصوصيّة الثالثة ، فلمّا ارتفعت هذه الخصوصيّة المشكوك دخالتها في الحكم شككنا في بقاء ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّها لو كانت دخيلة فحيث إنّها الآن قد ارتفعت فترتفع القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي ، وإن لم تكن دخيلة جرى استصحاب تلك القضيّة.

ومثل هذا الاستصحاب يسمّى باستصحاب الحكم التعليقي ، أي أنّ الحكم الذي كان متيقّنا حدوثه هو الحكم التعليقي لا التنجيزي ، ثمّ يشكّ في بقائه ، فهل يجري استصحابه أم لا؟

ومثال ذلك : حرمة العصير العنبي المنوطة بالعنب وبالغليان ، ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها ، فإذا جفّ العنب ثمّ غلى كان موردا لاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان.

مثال ذلك : ما اشتهر عندهم من حرمة العصير العنبي المنوطة بخصوصيّتين معلومتين هما : العنب والغليان ، فلو كان لدينا عنب وغلى كان حراما بلا شكّ.

ولكن لو كان لدينا عنب ولم يغل فهنا الحرمة ليست فعليّة ، وإنّما نعلم بالحرمة التعليقيّة أي على تقدير كون هذا العنب غلى فهو حرام ، فالحرمة المعلومة هنا هي الحرمة التعليقيّة.

ثمّ لو أنّ هذا العنب جفّ بحيث زالت عنه خصوصيّة الرطوبة التي نشكّ في دخالتها في الحكم ، وأغلي هذا العنب الجاف ، فهنا سوف نشكّ في ثبوت تلك

ص: 306

الحرمة التعليقيّة ؛ لأنّها كانت ثابتة للعنب على تقدير غليانه ، والآن قد غلى لكن بعد أن زالت منه الرطوبة سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أي الحرمة التعليقيّة ، فهل يجري استصحاب هذه الحرمة التعليقيّة أم لا؟

وبتعبير آخر : نحن نعلم بالقضيّة الشرطيّة والحرمة التعليقيّة في حالة وجود العنب الرطب الذي لم يغل ، ثمّ بعد زوال الرطوبة وصيرورة العنب جافّا لو أغليناه سوف نشكّ في بقاء الحرمة التعليقيّة ، حيث يقال : إنّ هذا العنب الجاف الذي غلى لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ، وهذه القضيّة ( أي أنّه لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ) معلومة يقينا عند ما كان العنب رطبا ولم يغل ، والآن يشكّ في بقاء هذه القضيّة بعد صيرورة العنب جافّا مع غليانه ، فهل يجري استصحابها أم لا؟

المشهور قبل الميرزا النائيني هو جريان الاستصحاب التعليقي المذكور ، وبالتالي تثبت الحرمة.

إلا أنّ الميرزا وجّه اعتراضا على هذا الاستصحاب فصار المشهور بعده عدم جريان هذا الاستصحاب.

ولذلك لا بدّ من استعراض هذه الاعتراضات لنرى مدى إمكانيّة منعها عن جريان الاستصحاب في نفسه أوّلا ، ثمّ بعد فرض تماميّة هذا الاستصحاب فهل يوجد استصحاب آخر معارض له أم لا؟

ولذلك فالاعتراضات على نحوين :

1 - اعتراضات تمنع من أصل جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه.

2 - اعتراضات تمنع من جريان هذا الاستصحاب ؛ لوجود الاستصحاب المعارض له.

وقد وجّه إلى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :

الاعتراض الأوّل : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة ؛ لأنّ الجعل لا شكّ في بقائه والمجعول لا يقين بحدوثه ، والحرمة على نهج القضيّة الشرطيّة أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود ولا أثر للتعبّد به ، ومن أجل هذا الاعتراض بنت مدرسة المحقّق النائيني على عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق.

ص: 307

الاعتراض الأوّل : ما ذهبت إليه مدرسة الميرزا من عدم جريان مثل هذا الاستصحاب هنا ؛ وذلك لأنّه : إن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم الجعل أي استصحاب بقاء الجعل في عالم التشريع ، فهذا الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّنا نعلم بجعل الحرمة في عالم التشريع ، ولا نشكّ في ارتفاع هذا الجعل ، فالركن الثاني غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم المجعول ، أي استصحاب بقاء الحرمة الفعليّة المجعولة على العنب المغلي فهذا لا يجري أيضا ؛ لأنّه لم تثبت لنا الحرمة الفعليّة فلا يقين بحدوثها ، حيث إنّ ثبوتها تابع لفعليّة جميع القيود والخصوصيّات المأخوذة والدخيلة في الحكم.

وفي مقامنا لم تتحقّق هذه القيود ، فالركن الأوّل غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم على نهج القضيّة الشرطيّة ، أي استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان التي كانت ثابتة حال العنبيّة ويشكّ في بقائها عند جفافه وغليانه ، فهذا الاستصحاب أيضا لا يجري في نفسه ؛ لأنّ هذه القضيّة الشرطيّة أو الحرمة التعليقيّة أثر انتزاعي ينتزعه العقل بعد ملاحظة جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود الذي هو الغليان ؛ لأنّ هذا الجعل وكلّ جعل شرعيّ يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة ، أي يكون الموضوع مقدّر الوجود.

وهذه القضيّة الحقيقيّة ينتزع العقل منها القضيّة الشرطيّة بالتحليل.

فالشارع إنّما جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ، والعقل هو الذي ينتزع القضيّة الشرطيّة.

فاستصحاب القضيّة الشرطيّة لا يفيدنا ولا أثر شرعا للتعبّد بها ؛ لأنّها مستبطنة في نفس القضيّة الجعليّة والتي لا تكون منجّزة لمجرّد العلم بها فضلا عن استصحابها ؛ لما تقدّم من كون المنجّزيّة تابعة للعلم بالكبرى والصغرى لا لإحداهما فقط.

وهنا الكبرى ثابتة لأنّنا نعلم بالقضيّة الجعليّة إلا أنّ الصغرى وهي الموضوع لا علم بتحقّقها ، ولذلك لا يكون هنا أثر ولا فائدة من التعبّد الاستصحابي بها ، فالركن الرابع مختلّ.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد معنى محصّل لإجراء الاستصحاب هنا ، لا في الجعل ؛

ص: 308

لأنّه إنّما يشكّ به بلحاظ النسخ وهذا مقطوع العدم فلا شكّ في البقاء ، ولا في المجعول الفعلي ؛ لأنّه لم يكن متيقّن الحدوث ؛ إذ الحرمة لم تكن فعليّة بحسب الفرض المذكور ، ولا في نفس القضيّة الشرطيّة التعليقية ؛ لأنّها ليست موضوعا للأثر الشرعي التنجيزي أو التعذيري.

وإنّما ما هو موضوع الأثر هو القضيّة الحقيقية أي الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون أمرا مجعولا من الشارع فيصحّ التعبّد ببقائه ، وأمّا الحكم المجعول على نهج القضيّة الشرطيّة فهو أمر عقلي تحليلي انتزاعي ، وليس موضوعا للأثر التنجيزي أو التعذيري ؛ لأنّه ليس مجعولا للشارع.

وعلى هذا الأساس ذهبت مدرسة الميرزا إلى عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق في نفسه ، إمّا لعدم تماميّة الأركان أو لعدم الفائدة منه.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّا نستصحب سببيّة الغليان للحرمة ، وهي حكم وضعي فعلي معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

والردّ على هذا الجواب : أنّه إن أريد باستصحاب السببيّة إثبات الحرمة فعلا ، فهو غير ممكن ؛ لأنّ الحرمة ليست من الآثار الشرعيّة للسببيّة ، بل من الآثار الشرعيّة لذات السبب الذي رتّب الشارع عليه الحرمة.

وإن أريد بذلك الاقتصار على التعبّد بالسببيّة فهو لغو ؛ لأنّها بعنوانها لا تصلح للمنجّزيّة والمعذّريّة.

وأجيب على الاعتراض المذكور بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّا نجري الاستصحاب بلحاظ السببيّة التي هي حكم وضعي كالشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة ، وهي واقعة تحت سلطان الشارع جعلا ووضعا ، فيقال :

إنّ سببيّة الغليان للحرمة معلومة حدوثا عند ما كان العنب رطبا ، والآن بعد أن صار جافّا نشكّ في بقاء هذه السببيّة فيجري استصحابها. هذا ما ذكره الشيخ الأنصاري.

ويرد عليه : أنّ استصحاب السببيّة إن أريد به إثبات الحرمة الفعليّة فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الحرمة من اللوازم العقليّة وليست من اللوازم الشرعيّة للسببيّة ؛ لأنّ الشارع جعل الحرمة على الغليان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، والعقل بالتحليل ينتزع عنوان السببيّة

ص: 309

ويجعل هناك ملازمة بين الحرمة والغليان ، وإن أريد إثبات التعبّد الشرعي بهذه السببيّة حيث إنّها كانت معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء فالاستصحاب يجري ، لكنّه لا أثر له شرعا ؛ لأنّ الأثر الشرعي ليس مجعولا على عنوان السببيّة فلا تكون دخيلة في العهدة ، وإنّما الأثر الشرعي مجعول على الغليان.

وبتعبير آخر : أنّ الأحكام الوضعيّة كالسببيّة ونحوها من الأحكام الوضعيّة المنتزعة من أحكام العقل لا الشرع ، فإثبات هذا العنوان بنفسه لا أثر له شرعا لعدم جعله شرعا ، وإثباته للتوصّل به إلى الحكم التكليفي الذي له أثر شرعا لا يتمّ إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

والجواب الآخر لمدرسة المحقّق العراقي (1) ، وهو يقول : إنّ الاعتراض المذكور يقوم على أساس أنّ المجعول لا يكون فعليّا إلا بوجود تمام أجزاء الموضوع خارجا ، فإنّه حينئذ يتعذّر استصحاب المجعول في المقام ، إذ لم يصبح فعليّا ليستصحب.

ولكنّ الصحيح : أنّ المجعول ثابت بثبوت الجعل ؛ لأنّه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع لا بوجوده الخارجي ، فهو فعلي قبل تحقّق الموضوع خارجا.

وقد أردف المحقّق العراقي ناقضا على المحقّق النائيني : بأنّه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلّي قبل أن يتحقّق الموضوع خارجا؟!

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي ، وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين :

الأوّل : جواب حلّي ، مفاده : أنّ الاعتراض المذكور مبني على التفكيك بين الجعل والمجعول ، بمعنى وجود نحوين من الحكم : أحدهما في عالم الجعل ، والآخر في عالم المجعول.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ الجعل والمجعول بالنسبة للحكم شيء واحد ؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي عبارة عن تلك القضيّة الجعليّة التي واقعها عالم الجعل والتشريع ، وهي بهذا المعنى توجد فعلا ؛ لأنّ الشارع حينما يجعل الحكم يجعله على موضوعه الموجود فعلا في لحاظه ونفسه ، فالحكم فعلي تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل والتشريع.

ص: 310


1- مقالات الأصول 2 : 400.

ولا تتوقّف فعليّة الحكم على فعليّة الموضوع في الخارج ، إذ لا يوجد في الخارج حكم وراء الحكم في عالم الجعل.

وما ذكره الميرزا نشأ من قياس القضايا الجعليّة على القضايا الحقيقيّة التكوينيّة ، كالحكم على النار بالحرارة ، فإنّه في القضايا التكوينيّة يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في الخارج ، فالنار لا تتّصف بالحرارة إلا في الخارج لا في الذهن.

إلا أنّ هذا لا يسري إلى القضايا الجعليّة ؛ لأنّ فعليّتها تكون بجعلها وتشريعها على موضوعها الفعلي أيضا في عالم الجعل والتشريع الذي هو وعاء وواقع هذه القضايا.

وعلى هذا يجري الاستصحاب في نفسه فيقال : إنّ الحرمة كانت فعليّة ومتيقّنة للعنب عند ما كان رطبا ، وبعد جفافه يشكّ في بقاء الحرمة له عند غليانه فيجري استصحابها.

والثاني بالنقض ومفاده : أنّه لو كانت فعليّة الحكم تابعة لفعليّة الموضوع في الخارج ، لزم عدم جريان استصحاب الحكم المجعول الكلّي الذي يكون الموضوع فيه مقدّر الوجود.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر لا يمكن استصحابها ؛ لأنّ الموضوع مقدّر الوجود فيها ، والمفروض أنّ الحكم الفعلي تابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، وهذا يعني أنّه لن يتمكّن المجتهد من إجراء هذا الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب الفعلي الجزئي والذي هو من شئون المكلّف لا المجتهد.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والارتكاز الفقهي.

ونلاحظ على الجواب المذكور : أنّ المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدّم في الواجب المشروط (1) ، إلا أنّ المجعول حينئذ لا يجري فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ إذ لا شكّ في البقاء ، وإنّما الشكّ في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقا (2).

ص: 311


1- في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- في بيان جريان الاستصحاب في المجعول ، ضمن البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديرا وافتراضا لا يرى للمجعول فعليّة لكي يستصحب.

ويرد على جواب المحقّق العراقي أنّ الحكم المجعول يمكن أن ينظر إليه بأحد نظرين :

فتارة ينظر إليه بالحمل الشائع أي ينظر إلى الحكم بما هو أمر ذهني واقعه وموطنه نفس الشارع وعالم الاعتبار ، فهنا الحكم المجعول موجود في نفس الشارع دفعة واحدة ؛ لأنّ الشارع يتصوّر في لحاظه تمام ما له دخل من القيود والخصوصيّات ويجعل الحكم عليها ، فالحكم المجعول فعلي في هذا اللحاظ تبعا لفعليّة الموضوع فيه أيضا.

وحينئذ فالشكّ في الحكم المجعول بهذا اللحاظ والنظر غير معقول ؛ لأنّ الحصص تكون عرضيّة دفعيّة وليس فيها ترتّب وطوليّة ، فلا تتمّ أركان استصحاب الحكم المجعول ؛ لأنّ الحصّة المشكوكة في هذا اللحاظ ليست بقاء للحصّة المتيقّنة ، بل هي حصّة مستقلّة عنها ومغايرة لها ، ولذلك يكون الشكّ في الحكم شكّا في الجعل الزائد ، بمعنى أنّ الشارع هل جعل الحكم على هذه الحصص جميعا أو على هذه الحصّة دون تلك؟ وحينئذ يجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، كما تقدّم في الجواب عن التفصيل المتقدّم.

وأخرى ينظر إلى الحكم المجعول بالحمل الأوّلي أي بما هو عنوان ومفهوم ، فإنّ القضيّة الجعليّة إذا نظر إليها كعنوان فهي تحكي عن وصف لأمر خارجي ؛ لأنّ الحرمة تكون صفة للعنب المغلي الموجود في الخارج ؛ لأنّه في عالم الذهن لا يوجد إلا صورة العنب والغليان لا واقعهما ، فلكي تثبت الحرمة لا بدّ من وجود العنب أوّلا ثمّ الغليان ثانيا ، ولذلك يكون هناك ترتّب وطوليّة ، بحيث يكون العنب الجافّ استمرارا وبقاء للعنب عند ما كان رطبا ، ولذلك فالحكم المجعول على العنب الرطب المغلي يتيقّن به إذا كان الغليان متحقّقا ، فإذا شكّ فيما بعد في بقاء هذا الحكم المجعول جرى استصحابه.

وكذلك يجري الاستصحاب فيما لو قدّر وجود الموضوع في الخارج ، وذلك بأن

ص: 312

التفت المجتهد إلى ذهنه ولحاظه وافترض فيه العنب المغلي ، فإنّه يحكم عليه بالغليان ، ويكون الحكم فعليّا بهذا المعنى أيضا ، ويجري استصحاب بقائه عند الشكّ فيه.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره المحقّق العراقي من كون الحكم المجعول فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل واللحاظ صحيح إن نظرنا إلى الحكم المجعول بالحمل الشائع.

وما ذكره الميرزا من عدم كون الحكم فعليّا إلا بفعليّة موضوعه في الخارج صحيح أيضا إذا نظرنا إلى الحكم بالحمل الأوّلي ، إلا أنّه هنا يكفي افتراض وجود الموضوع في الخارج لا وجوده الفعلي فقط ، كما تقدّم سابقا.

ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فإنّ المجتهد يفترض تحقّق الموضوع بالكامل فيشكّ في البقاء مبنيّا على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرّد افتراض جزء الموضوع؟

وبكلمة أخرى : أنّ كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شيء ، وكفاية الثبوت التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجا ولا تقديرا شيء آخر.

وممّا تقدّم يعرف الجواب عن النقض الذي نقضه المحقّق العراقي على الميرزا.

وحاصله : أنّ المجتهد لا إشكال في إجرائه لاستصحاب الحكم المجعول بمجرّد الافتراض والتقدير ، فيمكن للمجتهد أن يلحظ تحقّق الموضوع في ذهنه ويقدّر وجوده في الخارج فيثبت له الحكم كذلك ، ثمّ إذا شكّ في بقاء هذا الحكم أجرى استصحاب بقائه.

فالماء المتغيّر المحكوم بالنجاسة يكون حكمه فعليّا بمجرّد تصوّر وتقدير وجود الماء المتغيّر في الخارج ، فإذا افترض المجتهد زوال التغيّر حصل له شكّ في بقاء هذا الحكم فيجري استصحاب بقائه.

فهذا الاستصحاب يقول به الميرزا أيضا ، ولا يعتبر نقضا عليه ؛ لأنّه لم يرفض هذا الاستصحاب وإنّما رفض إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقدّر والمفترض وجوده جزء الموضوع لا تمامه.

فالعنب إنّما يتّصف بالحرمة فيما لو غلى ، وأمّا قبل أن يغلي فلا يتّصف بالحرمة ، وعليه فتقدير العنب وافتراض وجوده لا يكفي لثبوت الحكم بالحرمة وفعليّته ، بل لا بدّ

ص: 313

من افتراض الغليان أيضا ، ومع افتراض الغليان للعنب لا يمكن تصوّر الشكّ في البقاء من ناحية العنب ؛ لأنّه لم يعد موجودا بعد الغليان ، إذ الموجود حينئذ هو العصير ، وقبل الغليان الموجود هو العنب فقط ، فلا حرمة.

ولذلك قال الميرزا : إنّ الاستصحاب بالنسبة للحكم المجعول لا يجري ؛ لأنّه بالنسبة للمجعول لا يقين بالحدوث ، أي أنّ الحكم ليس فعليّا لكي يجري استصحابه ، وبالنسبة للجعل فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه يعلم بثبوت الحرمة للعنب المغلي.

وبتعبير آخر : أنّ الاستصحاب الذي نقض به المحقّق العراقي هو استصحاب الحكم المجعول على الموضوع المقدّر الوجود.

بينما الاستصحاب الذي نظر إليه المحقّق النائيني ومنع جريانه هو استصحاب الحكم على مستوى الجعل أو المجعول على جزء الموضوع المقدّر الوجود لا على تمامه.

ففرق بين أن نقول : إنّ الاستصحاب يجري سواء كان الموضوع محقّقا في الخارج أم كان مفترض الوجود في الذهن ، وبين أن نقول : إنّ الاستصحاب لا يجري فيما إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع ؛ لأنّ الأوّل معناه ملاحظة الحكم بالحمل الأوّلي ، فهو حكم وصفة لأمر خارجي ، وهذا الأمر الخارجي إمّا أن يكون وجوده محقّقا وإمّا أن يكون مقدّرا ، وفي الحالتين يكون الحكم فعليّا.

وأمّا الثاني فمعناه أنّنا لاحظنا الحكم مع جزء موضوعه ، ومن الواضح أنّ الحكم لا يثبت ولا يكون فعليّا إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع لا تمامه.

والتحقيق : أنّ إناطة الحكم بالخصوصيّة الثانية في مقام الجعل ، تارة تكون في عرض إناطته بالخصوصية الأولى بأن قيل : ( العنب المغلي حرام ) ، وأخرى تكون على نحو مترتّب وطولي بمعنى أنّ الحكم يقيّد بالخصوصيّة الثانية ، وبما هو مقيّد بها يناط بالخصوصيّة الأولى بأن قيل : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فإنّ العنب هنا يكون موضوعا للحرمة المنوطة بالغليان ، خلافا للفرضيّة الأولى التي كان العنب المغلي بما هو كذلك موضوعا للحرمة.

وتحقيق الجواب على الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ الشارع في مقام الجعل للحكم

ص: 314

على موضوعه إذا كان هذا الموضوع مركّبا من عدّة قيود وخصوصيّات ، يمكنه أن يأخذ هذه القيود كلّها في عرض واحد ، ويمكنه أن يجعلها في طول بعضها ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يأخذ كلّ الخصوصيّات في عرض واحد ثمّ يجعل الحكم عليها ، ففي مقامنا يأخذ العنبيّة والغليان ثمّ يجعل الحرمة عليهما فيقول : ( العنب المغلي حرام ) ، أو يقول : ( إذا كان هناك عنب وغلى فهو حرام ).

الثاني : أن يأخذ بعض الخصوصيّات في طول البعض الآخر ثمّ يجعل الحكم ، فيكون الحكم مقيّدا أوّلا ببعض الخصوصيّات ثمّ يقيّد المجموع بخصوصيّة أخرى ، كأن يقال : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فهنا قيّدت الحرمة أوّلا بالغليان ثمّ قيّد المجموع بالعنبيّة.

ففي الفرضيّة الأولى كان الموضوع هو العنب المغلي أي العنب المقيّد بالغليان هو موضوع الحرمة.

بينما في الفرضيّة الثانية كان الموضوع هو العنب والحكم هو الحرمة المقيّدة بالغليان.

وعلى هذا الأساس سوف تختلف النتيجة من جهة جريان الاستصحاب وعدم جريانه على النحو التالي :

ففي الحالة الأولى يتّجه الاعتراض المذكور ، ولا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّها أمر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضيّة الشرطيّة التي وقع العنب موضوعا لها ؛ لأنّها مجعولة من قبل الشارع بما هي شرطيّة ومرتّبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضيّة الشرطيّة حدوثا يقينا ويشكّ في استمرار ذلك بقاء فتستصحب.

ففي الحالة الأولى : أي فيما إذا كانت القيود عرضيّة وكان الحكم مجعولا على الموضوع المقيّد ، فهنا لا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، كما قال الميرزا لا في عالم الجعل ولا في عالم المجعول ولا في نفس هذه القضيّة الشرطيّة.

ص: 315

أمّا في عالم الجعل فلأنّ الحكم قد جعل على ( العنب المغلي ) لا على نفس العنب ، فلم تثبت الحرمة فعلا.

وأمّا في عالم المجعول والفعليّة فلأنّ المتحقّق فعلا هو أحد جزأي الموضوع أي العنب فقط دون الغليان ، فلا ثبوت للحرمة فعلا.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة فهذه القضيّة ليست مجعولة للشارع ، وإنّما هي أمر منتزع من جعل الشارع يحكم به العقل ، ولا أثر للتعبّد بها لا هي نفسها لأنّه لا أثر لها شرعا ، ولا لازمها أي الحرمة لأنّ الحرمة لم تجعل على هذه القضيّة : ( العنب إذا غلى ) ، وإنّما جعلت على نفس العنب المغلي.

وأمّا في الحالة الثانية : أي فيما إذا كانت القيود طوليّة ، وكان الحكم بما هو مقيّد ببعض هذه القيود مجعولا على الموضوع ، فهنا يجري الاستصحاب سواء في عالم الجعل أم المجعول أم نفس القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ).

أمّا جريان الاستصحاب في عالم الجعل فلأنّ العنب تمام الموضوع المقدّر والمفترض الوجود للحكم ، فيمكن فرض وجوده فيكون الحكم فعليّا له على تقدير الغليان ، فإذا شكّ في بقاء هذا الموضوع لارتفاع خصوصيّة مشكوكة الدخل جرى استصحاب بقاء الحكم الفعلي بهذا اللحاظ.

وأمّا جريانه في عالم المجعول فلأنّ المفروض وجود العنب في الخارج ، فيعلم بثبوت الحكم له على تقدير الغليان ثمّ يشكّ في بقائه لما ذكر ، فيجري استصحاب بقاء هذا الحكم أي الحرمة على تقدير الغليان.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة : ( العنب إذا غلى حرم ) فيجري استصحابها أيضا ؛ وذلك لأنّها كانت متيقّنة حدوثا عند افتراض وجود العنب أو عند وجود العنب فعلا في الخارج ، ويشكّ في ارتفاعها بسبب ارتفاع خصوصيّة يشكّ في دخالتها فيجري استصحاب بقاء هذه الشرطيّة.

والفرق بين النحوين أنّه على النحو الأوّل لم تكن هذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ، بل كانت منتزعة من الجعل ، أي الذي حكم بها هو العقل ولذلك لا يجري استصحابها لا هي ولا لازمها.

بينما على هذا النحو فهذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ العنب

ص: 316

هو تمام الموضوع والحكم المجعول شرعا هو ( الحرمة على تقدير غليانه ) وهذا هو نفس الشرطيّة المتيقّنة على تقدير وجود العنب أو عند وجوده في الخارج.

وبهذا يظهر أنّه يمكن تصوير جريان الاستصحاب التعليقي أي استصحاب القضيّة الشرطيّة ، سواء في عالم الجعل أو في عالم المجعول ، فيما إذا كانت القيود مأخوذة شرعا بنحو طولي ترتّبي.

الاعتراض الثاني : أنّا إذا سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة فلا نسلّم جريان الاستصحاب مع ذلك ؛ لأنّه إنّما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجّز ، وأمّا ما يقبل التنجّز فهو الحكم الفعلي ، فما لم يكن المجعول فعليّا لا يتنجّز الحكم ، وإثبات فعليّة المجعول عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذّر ؛ لأنّ ترتّب فعليّة المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقلي وليس شرعيّا.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني أيضا ، وحاصله : أنّنا لو سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ، أي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء بالتصوير المتقدّم ، فإنّه مع ذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الرابع ؛ إذ لا أثر ولا فائدة من التعبّد بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك : أنّه يشترط في الاستصحاب ترتّب أثر تنجيزي أو تعذيري على المستصحب ، فما لم يوجد مثل هذا الأثر يكون التعبّد الاستصحابي لغوا.

ثمّ إنّ ما يكون قابلا للتنجيز أو التعذير إنّما هو الحكم الفعلي لا الحكم التعليقي المشروط.

وفي مقامنا إذا كان لدينا عنب وغلى صارت حرمته فعليّة ، وكذلك لو قدّرنا العنب والغليان ، فعند الشكّ يجري استصحاب الحرمة ؛ لأنّها كانت فعليّة يترتّب عليها الأثر الشرعي أي المنجّزيّة.

وأمّا لو كان لدينا عنب فقط أو قدّرنا وجود العنب فقط فالحرمة لا تكون فعليّة ، وإنّما هي مشروطة بالغليان ، وهذه الحرمة المشروطة لا تكون منجّزة حتّى لو كانت معلومة وجدانا فضلا عن استصحابها ؛ لأنّ هذا العنب يجوز تناوله بلا إشكال ، وإنّما تثبت حرمته لو فرض وجود الغليان أو كان الغليان متحقّقا فعلا ، وعليه فلا أثر شرعا لاستصحاب هذه الحرمة المشروطة.

ص: 317

ومجرّد استصحاب الحكم المشروط لا يثبت فعليّة المشروط عند تحقّق الشرط ، أي أنّ استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان إلى ما بعد جفاف العنب لا يثبت لنا فعليّة الحرمة فيما إذا تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحرمة المشروطة يثبت لنا بقاء هذه الحرمة المشروطة على تقدير الغليان فقط ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة فهذا لا يثبت بالاستصحاب وإنّما يثبت على أساس الملازمة العقليّة بين هذه الحرمة المشروطة وبين تحقّق الشرط في الخارج ، فإنّه إذا تحقّق الشرط في الخارج وغلى العنب الجافّ ، حكم العقل بحرمته ، فتكون الحرمة فعليّة على أساس حكم العقل لا على أساس الاستصحاب.

وبتعبير آخر : أنّ ما يثبت لنا باستصحاب الحرمة المشروطة إلى ما بعد الجفاف هو بقاء هذه الحرمة ، وحينئذ فإن اقتصرنا على ذلك لم يكن الاستصحاب جاريا ؛ لأنّ الحرمة المشروطة ليس لها أثر تنجيزي أو تعذيري فيكون التعبّد بها لغوا.

وإن أردنا من استصحابها التوصّل إلى فعليّة الحرمة عند تحقّق الغليان ، فهذا وإن كان معقولا إلا أنّ فعليّة الحرمة لازم عقلي لاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بالحرمة الفعليّة فيما إذا تحقّق الغليان فيما بعد.

وأمّا الشارع فهو حكم بالحرمة على تقدير الغليان للعنب ، ولذلك لو كان لدينا عنب وغلى تثبت الحرمة الفعليّة ؛ لأنّها مجعولة من الشارع.

وأمّا هنا فلا يوجد لدينا عنب غلى وإنّما يوجد لدينا عنب جافّ أي ( الزبيب ) ، وهذا العنب الجافّ لا يعلم من الشارع جعل الحرمة له على تقدير الغليان ، وإنّما ثبت بالاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ، والاستصحاب لا يثبت أكثر من هذا المقدار أي بقاء الحرمة المشروطة ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة عند تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ فهي من حكم العقل ، فيكون من الأصل المثبت.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه يكفي في التنجيز إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ؛ لأنّ وصول الكبرى والصغرى معا كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال.

والجواب على الاعتراض الثاني :

ص: 318

أوّلا : أنّ ما ذكر من كون المنجّز هو الحكم الفعلي غير صحيح ، إذ هو ناشئ من تصوّرات الميرزا للحكم وكونه ينحلّ إلى الجعل والمجعول ، فالحكم في عالم الجعل ليس منجّزا ؛ لأنّه عبارة عن تلك القضيّة التشريعيّة الجعليّة ، وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع فيكون الحكم منجّزا ، ولذلك يرد إشكال الأصل المثبت والملازمة العقليّة ؛ لأنّ المستصحب هو الحكم المشروط وهو ليس فعليّا ، وإنّما يصبح فعليّا عند تحقّق الشرط بحكم العقل لا الشرع.

إلا أنّ هذا المبنى غير تامّ لما تقدّم منّا من أنّ منجّزيّة الحكم تابعة لوصول الكبرى والصغرى معا ، فإنّه يكفي حينئذ أن تصل إحداهما تعبّدا ، والأخرى وجدانا.

وفي مقامنا حيث يجري استصحاب تلك القضيّة الشرطيّة التعليقيّة - بناء على ما ذكرناه في ردّ الاعتراض الأوّل من كون القيدين طوليّين - فيثبت لنا بالتعبّد الاستصحابي وصول الكبرى أي ( حرمة العنب الجافّ إذا غلى ) ؛ لأنّ هذه الكبرى كانت معلومة وجدانا عند ما كان العنب رطبا وشكّ في بقائها بعد صيرورته جافّا فجرى استصحابها.

وأمّا الصغرى وهي الغليان فالمفروض أنّها ثابتة بالوجدان ؛ لأنّنا وضعنا هذا العنب الجافّ على النار وغلى ، وبذلك تكون الحرمة منجّزة لوصول كبراها بالتعبّد وصغراها بالوجدان.

وثانيا : أنّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفّله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري ، وتحوّل هذا الحكم الظاهري إلى فعليّ عند وجود الشرط لازم عقلي لنفس الحكم الاستصحابي المذكور لا للمستصحب ، وقد مرّ بنا سابقا (1) أنّ اللوازم العقليّة لنفس الاستصحاب تترتّب عليه بلا إشكال.

وثانيا : إذا قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل للحكم الواقعي المشكوك - بناء على مسلك جعل الحكم المماثل - فسوف يثبت لنا عند استصحاب تلك القضيّة التعليقيّة الشرطيّة حكم مشروط ظاهري ، وهو حرمة العنب الجافّ إذا غلى.

ص: 319


1- في نهاية البحث الوارد تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

وهذا الحكم المشروط الظاهري يصبح حكما فعليّا فيما إذا تحقّق الشرط ، أي أنّ الحرمة تصبح فعليّة إذا تحقّق الغليان.

وهذا الحكم الفعلي وإن كان لازما عقليّا ، إلا أنّه لازم عقلي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، وقد تقدّم سابقا أنّ اللوازم العقليّة إذا كانت لنفس الاستصحاب فهي تثبت بلا إشكال ؛ لأنّ الدليل على الاستصحاب أمارة وهي الإخبار.

ولكنّ الكلام في كيفيّة كون الحرمة الفعليّة لازما عقليّا للاستصحاب لا للمستصحب.

والجواب : أنّ الفعليّة وصيرورة الحكم منجّزا ليست من شئون الثبوت الواقعي للشيء بل من لوازم العلم به ، فالحرمة للعنب الرطب لا تكون فعليّة إذا كان هناك عنب رطب وغلى واقعا من دون أن نعلم بذلك ، وهذا يعني أنّها ليست من لوازم الشيء ، بل من لوازم العلم به.

وهنا الحرمة للعنب الجافّ التي جرى استصحابها لا تكون فعليّة لمجرّد ثبوتها الظاهري ، بل تكون فعليّة لو علمنا بها وعلمنا بتحقّق الغليان أيضا ، وحيث إنّ الغليان ثابت لدينا بالوجدان ؛ لأنّ العنب الجافّ قد وضع فعلا على النار وغلى ، فتكون الحرمة الفعليّة ثابتة للعلم بالحكم المشروط ظاهرا ، إذ من الواضح أنّ غليان العنب الجافّ وحده لا يكفي للحرمة من دون علم بالحكم ولو ظاهرا ، ولذلك تكون الحرمة الفعليّة من شئون العلم بالحكم المستفاد من دليل الاستصحاب ، فهي لازم عقلي لنفس الاستصحاب الذي يولّد لنا هذا الحكم المشروط الظاهري ، وهذا اللازم العقلي حجّة ؛ لأنّ لوازم الاستصحاب العقليّة حجّة لأنّ دليله أمارة.

الاعتراض الثالث : أنّ استصحاب الحكم المعلّق معارض باستصحاب الحكم المنجّز ، ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلّقة على الغليان سابقا كذلك يعلم بالحلّيّة الفعليّة المنجّزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.

الاعتراض الثالث : يتّجه إلى إبراز المعارض لاستصحاب الحكم المعلّق بعد التسليم والفراغ عن تماميّة أركانه ، فلو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي إلا أنّه مع ذلك لا يمكن الأخذ به لوجود المعارض له ، وهو الاستصحاب التنجيزي أي استصحاب الحكم المنجّز.

ص: 320

ففي مثال العنب المتقدّم ، فكما نعلم بالحرمة التعليقيّة عند تحقّق العنب وكونه رطبا والتي مفادها ( أنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، فكذلك نعلم بالحلّيّة الفعليّة التنجيزيّة التي مفادها ( إنّ هذا العنب فعلا حلال ) حيث إنّ موضوع الحرمة غير ثابت فعلا ؛ لعدم وجود الغليان فعلا.

وعليه فكما يجري استصحاب الحرمة التعليقيّة فيما بعد جفاف العنب وغليانه ، حيث يشكّ في بقاء تلك الحرمة ، فكذلك يجري استصحاب الحلّيّة المنجّزة الفعليّة فيما بعد الجفاف والغليان للشكّ في ارتفاع هذه الحلّيّة وبقائها.

وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما ينفي ما يثبته الآخر عن نفس الموضوع ، فيحكم بتساقطهما ، وبالتالي يرجع إلى الأصول العمليّة الجارية في المقام كأصالة الحلّيّة أو أصالة الطهارة أو أصالة البراءة.

وهذا الاعتراض يظهر من السيّد المجاهد صاحب ( المناهل ) ، حيث قدّم بعد إبراز التعارض استصحاب الحلية الفعلية.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (1) من أنّه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما أنّ الحرمة كانت معلّقة فتستصحب بما هي معلّقة ، كذلك الحلّيّة كانت في العنب مغيّاة بالغليان فتستصحب بما هي مغيّاة ، ولا تنافي بين حلّيّة مغيّاة وحرمة معلّقة على الغاية.

وأجيب على هذا الاعتراض بأجوبة أهمّها :

الجواب الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ هذين الاستصحابين يمكن الأخذ بهما معا ولا تعارض بينهما.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحلّيّة يثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان ؛ وذلك لأنّنا نعلم بأنّ هذا العنب حلال قبل غليانه ، إلا أنّ هذه الحلّيّة ليست مطلقة ، بل هي مغيّاة إلى حين غليانه ، ثمّ بعد صيرورة العنب جافّا وشككنا في بقاء هذه الحلّيّة جرى استصحابها فتثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان.

وأمّا استصحاب الحرمة المعلّقة التي كانت ثابتة للعنب الرطب والتي يثبت بقاؤها

ص: 321


1- كفاية الأصول : 468 - 469.

للعنب الجافّ ، فهي حرمة معلّقة على الغليان ، وهذا معناه أنه بعد صيرورة العنب جافّا ثبت لنا حلّيّته الفعليّة المنجّزة ولكن قبل غليانه ، أي أنّه ما دام لم يتحقّق الغليان فهذه الحلّيّة ثابتة للعنب الجافّ ، وكذلك تثبت لنا حرمته المعلّقة على الغليان ، ولا يلزم التعارض بينهما ؛ لأنّه قبل الغليان ليس لدينا إلا الحلّيّة ؛ لأنّ قيد الحرمة لم يتحقّق ، وبعد الغليان ليس لدينا إلا الحرمة لتحقّق قيدها وارتفاع الحلّيّة لانتهاء أمدها بتحقّق الغاية.

وبهذا يظهر أنّه يمكن الأخذ بالاستصحابين معا ؛ لأنّهما لن يجتمعا معا وبالتالي لن يحصل التعارض بينهما.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الحلّيّة التي نريد استصحابها هي الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنّها مغيّاة لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه الحلّيّة.

ويرد عليه : أنّ الحلّيّة الفعليّة التي يدّعى معارضتها لاستصحاب الحرمة التعليقيّة ليست هي الحلّيّة الثابتة للعنب حينما كان رطبا ، بل هي الحلّيّة الثابتة للعنب بعد أن جفّ وصار زبيبا ؛ وذلك لأنّ الحلّيّة الثابتة للعنب الرطب يعلم كونها مغيّاة بالغليان ، وأمّا حلّيّة العنب بعد جفافه فهذه لا يعلم كونها مغياة بالغليان ، إذ من المحتمل أن تكون هذه الحلّيّة مطلقة حتّى بعد الغليان.

فلو أريد استصحاب الحلّيّة قبل الجفاف فهي حلّيّة مغيّاة يقينا ، وأمّا إن أريد استصحاب الحلّيّة بعد الجفاف وقبل الغليان فهي حلّيّة فعليّة ومنجّزة ولا يعلم كونها مغيّاة ، ولذلك يرد الإشكال من ناحية استصحاب الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف ؛ لأنّها منجّزة وفعليّة ولا يعلم كونها مغيّاة فتتعارض مع استصحاب الحرمة التعليقيّة.

فإن قيل : إنّ الحلّيّة الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنّها مغيّاة ، ونشكّ في تبدّلها إلى الحلّيّة غير المغيّاة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلّيّة المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.

فإن قيل : لا يوجد لدينا إلا حلّيّة واحدة هي حلّيّة العنب قبل جفافه وقبل غليانه ، وهذه الحلّيّة يعلم كونها مغيّاة بالغليان ؛ لأنّ هذا العنب الرطب لو غلى لحرم ، فحلّيّته الفعليّة مقيّدة ومغيّاة بالغليان ، ثمّ بعد جفاف هذا العنب وصيرورته زبيبا وقبل غليانه

ص: 322

فحلّيّته فعليّة أيضا ، ولكنّنا نشكّ في أنّ هذه الحلّيّة الفعليّة هل هي نفس الحلّيّة التي كانت قبل الجفاف والتي هي الحلّيّة المغياة ، أو أنّها تبدّلت إلى حلّيّة أخرى منجّزة ومطلقة وغير مغيّاة بالغليان؟

ووجه الشكّ هو أنّ الرطوبة هل هي حيثيّة دخيلة على وجه التقييد في ثبوت الحرمة للعنب ، أو أنّها ليست دخيلة كذلك؟

ومع هذا الشكّ نجري استصحاب الحلّيّة المغيّاة ؛ لأنّها كانت متيقّنة قبل الجفاف ونشكّ في زوالها وحدوث حلّيّة أخرى مكانها ، فيثبت لنا الحلّيّة المغيّاة أيضا بعد الجفاف ، فإذا غلى هذا الزبيب جرى استصحاب حلّيّته المغيّاة وحرمته التعليقيّة معا ولا تعارض بينهما.

كان الجواب : أنّ استصحابها لا يعيّن حال الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت أنّها مغيّاة إلا بالملازمة ، للعلم بعدم إمكان وجود حلّيّتين ، وما دامت الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغيّاة فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

كان الجواب : أنّ استصحاب الحلّيّة المغيّاة الثابتة للعنب قبل جفافه إلى ما بعد جفافه لا يثبت لنا أنّ هذه الحلّيّة مغياة أيضا إلا بضمّ مقدّمة عقليّة ، وهي أنّه لا يوجد لدينا حلّيّتان إحداهما للعنب قبل جفافه والأخرى للعنب بعد جفافه ، إذ لو كان لدينا حلّيّتان فما هو المانع أن تكون الحلّيّة الأولى مغيّاة والثانية غير مغيّاة ، وعليه فإثبات الحلّيّة المغيّاة إلى ما بعد الجفاف والغليان لا يكون إلا بواسطة الملازمة العقليّة بين هذه الحلّيّة والحلّيّة السابقة ، وأنّ الثانية هي نفس الأولى واستمرار لها استنادا إلى ثبوت حكم واحد للشيء الواحد وإن تغيّرت بعض أحواله المشكوك دخالتها كالرطوبة والجفاف.

ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يثبت به اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كما تقدّم سابقا ، ولذلك فلا تثبت الحلّيّة المغيّاة بعد الجفاف ، وإنّما القدر المتيقّن ثبوت الحلّيّة ، وأمّا كونها مغيّاة أم لا فهذا غير معلوم ، ولذلك فإذا غلى هذا العنب بعد جفافه وشكّ في بقاء حلّيّته جرى استصحاب ذات الحلّيّة المعلومة لا الحلّيّة المغيّاة ، وبالتالي سوف تتعارض مع الحرمة المعلّقة.

ص: 323

والجواب الآخر : ما ذكره الشيخ الأنصاري (1) والمحقّق النائيني (2) من أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي.

ويمكن أن يقال في توجيه ذلك : أنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة للحكم إمّا أن يثبت فعليّة الحكم عند تحقّق الشرط ، وإمّا ألاّ يثبت ذلك ، فإن لم يثبت لم يجر في نفسه ، إذ أي أثر لإثبات حكم مشروط لا ينتهي إلى الفعليّة.

وإن أثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلّق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه ، وفقا للقاعدة المتقدّمة في الحلقة السابقة (3) القائلة :

إنّه كلّما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس قدّم الأصل الأوّل على الثاني.

الجواب الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني من حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي فيقدّم الأوّل على الثاني ، ولا معارضة بينهما.

ووجه الحكومة أن يقال : إنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة القائلة : ( بأنّ العنب إذا غلى حرم ) تارة يراد بها إثبات فعليّة الحرمة عند تحقّق الشرط وأخرى لا يراد بها ذلك.

فإن لم يكن المراد بها إثبات الحرمة الفعليّة ، بل اقتصر على إثبات نفس هذه القضيّة التي يستفاد منها الحكم المشروط والمعلّق ، فمثل هذا الاستصحاب لا يجري في نفسه لاختلال ركنه الرابع ؛ لأنّه لا يوجد أثر تنجيزي أو تعذيري مترتّب على الحكم المشروط ؛ لأنّه لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّ ذلك من شئون الحكم الفعلي.

وإن أريد باستصحاب هذه القضيّة الشرطيّة التوصّل إلى إثبات الحكم الفعلي أي الحرمة الفعليّة عند تحقّق الشرط الذي هو الغليان ، فحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه كما تقدّم ، وبالتالي يكون هذا الاستصحاب حاكما على استصحاب الحليّة

ص: 324


1- فرائد الأصول 3 : 223.
2- فوائد الأصول 4 : 473.
3- في النقطة الخامسة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات الشكّ السببي والمسبّبي.

التنجيزيّة ؛ لأنّ ملاك الحكومة موجود هنا وهو كون أحد الأصلين ينظر إلى موضوع الأصل الآخر وينقّحه إثباتا أو نفيا ، فالاستصحاب التعليقي ينقّح موضوع الاستصحاب التنجيزي فيكون حاكما عليه.

وبيان ذلك :

فإنّ مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب [ الحكم ] المعلّق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ، والمفروض أنّ استصحاب [ الحكم ] المعلّق يثبت حرمة فعليّة ، وهو معنى نفي الحلّيّة الفعليّة ، وأمّا استصحاب الحلّيّة الفعليّة فلا ينفي الحرمة المعلّقة ولا يتعرّض إلى الثبوت التقديري.

توضيح الحكومة : أنّ الاستصحاب التنجيزي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

والاستصحاب التعليقي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

إلا أنّ الاستصحاب التعليقي مورده إثبات الحرمة التعليقيّة ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت التقديري للحرمة ، وهذا يعني أنّه ينظر إلى الحرمة والحلّيّة معا ، بمعنى أنّه إذا تحقّق الغليان فالحرمة ثابتة ، وإذا لم يتحقّق الغليان فلا حرمة بل الحلّيّة ثابتة.

وأمّا الاستصحاب التنجيزي فمورده إثبات الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت الفعلي للحكم فهو ناظر إلى الحلّيّة فقط ، ولا نظر فيه إلى الحرمة التعليقيّة أصلا.

وعليه : فالاستصحاب التعليقي يعالج موضوع الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يثبت الحرمة الفعليّة بعد الغليان ، وهذا معناه نفي الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، بينما الاستصحاب التنجيزي لا يعالج موضوع الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّه لا ينظر إلى الحرمة التعليقيّة لا سلبا ولا إيجابا ، وإنّما يثبت الحلّيّة الفعليّة فقط ، وأمّا هل أنّه توجد حرمة تعليقيّة أو لا؟ فهذا ليس موردا لنظره.

ومن هنا كان الاستصحاب التعليقي مقدّما على الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يعالج مورده دون العكس.

وبتعبير آخر أنّ الشكّ الموجود في الاستصحاب التنجيزي مسبّب عن الشكّ في الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّ الاستصحاب التعليقي يثبت الحرمة الفعليّة عند تحقّق

ص: 325

الغليان ، وبذلك يرتفع الشكّ في الحلّيّة التي هي مورد جريان الاستصحاب التنجيزي.

ولا يقال : إنّ الاستصحاب التنجيزي إذا جرى ثبت به الحلّيّة الفعليّة ، وبالتالي لا شكّ في الحرمة التعليقيّة ، لأنّه لا يوجد ملازمة وسببيّة بين ثبوت الحلّيّة الفعليّة وعدم ثبوت الحرمة المعلّقة ، بل يجتمعان معا.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعليّة باستصحاب القضيّة المشروطة ، ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق على هذا الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكما عليه.

ويرد على ذلك : أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الفعليّة من شئون الحكم في عالم المجعول دون عالم الجعل ، كما يظهر من مدرسة الميرزا التي فرّقت بين الجعل والمجعول ، واعتبرت الفعليّة للحكم المجعول.

إلا أنّه تصوّر غير صحيح ؛ لأنّ الفعليّة والمنجّزيّة يكفي فيها وصول الكبرى والصغرى معا ، فإذا وصلتا معا وجدانا أو وجدانا وتعبّدا تحقّق موضوع المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال.

وعليه ففي مقامنا : لا يشترط في منجّزيّة الاستصحاب التعليقي أن يثبت لنا الحرمة الفعليّة ، بل يكفي أن يوصل الكبرى وهي القضيّة الشرطيّة التي مفادها : ( أنّ العنب إذا غلى حرم ).

وأمّا المنجّزيّة والفعليّة فهي تابعة لاجتماع الصغرى مع الكبرى لدى المكلّف ، وهذا متحقّق ؛ لأنّ المكلّف يعلم وجدانا بالغليان إذ المفروض أنّ هذا العنب الجافّ قد غلى فعلا ، فالصغرى واصلة إليه وجدانا ، والكبرى وهي الجعل الشرعي تثبت بالاستصحاب ، حيث إنّه يثبت الحرمة التعليقيّة على الغليان ، فإذا ضمّت الصغرى إلى الكبرى تحقّقت المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الامتثال.

ولذلك لا يكون الاستصحاب التعليقي ناظرا إلى مورد الاستصحاب التنجيزي ورافعا له ليكون حاكما ومقدّما عليه ؛ لأنّه لا يثبت لنا الحرمة الفعليّة لترتفع الحلّيّة الفعليّة ، وإنّما يثبت لنا القضيّة الشرطيّة من دون التعرّض للفعليّة والمنجّزيّة أصلا ، فلا نظر فيه إلى مورد الأصل الآخر.

ص: 326

ومن هنا كان كلّ من الأصلين جاريا في مورده ، وبالتالي يقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما (1).

ص: 327


1- ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد دفع هذا الاعتراض الثالث وكانت النتيجة عنده أنّ الاستصحاب التعليقي يجري من دون معارض ، فليراجع هناك.

ص: 328

استصحاب عدم النسخ

ص: 329

ص: 330

2 - استصحاب عدم النسخ

تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى مبادئ الحكم ، ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل ، وعليه فالشكّ في النسخ بالنسبة إلى عالم الجعل يتصوّر على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال إلغاء المولى له.

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى احتمال أنّ الجعل تعلّق بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده.

معنى النسخ : تقدّم في الحلقة السابقة أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بحقّ المولى عزّ وجلّ ؛ لاستلزامه الجهل ؛ وذلك لأنّ معناه أنّه كان يعتقد وجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ المبادئ ثمّ ينكشف عدم ذلك ، فهذا المعنى يتصوّر بحقّ الموالي العرفيّين فقط ، هذا بلحاظ الحكم في عالم المبادئ.

نعم ، النسخ بلحاظ الحكم في عالم الجعل والاعتبار معقول بحقّ المولى ، وذلك بأن يجعل الحكم مطلقا ثبوتا لمصلحة في نفس إرادة الحكم بهذا النحو ، ولكنّه يكون مقيّدا في علم اللّه تعالى بأمر محدّد أخفاه اللّه عزّ وجلّ ، ولم يذكره إثباتا لمصلحة وحكمة ولو هي إبراز هيبة الأحكام ولزوم احترامها.

وعلى هذا الأساس سوف يكون الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في النسخ بمعنى الشكّ في بقاء الجعل أو إلغائه ، فهل الشارع ألغى هذا الجعل أم لا؟

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى أنّ ما جعله

ص: 331


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : إمكان النسخ وتصويره.

الشارع هل هو شامل لجميع الأزمنة أم هو مختصّ ببعضها فقط ، فيكون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بهذا الزمان دون ذاك؟

وحيث إنّ الزمان الذي قيّد به قد انتهى فيشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه ؛ لأنّه لو كان مقيّدا لارتفع الآن ، وإن لم يكن مقيّدا فهو باق ومستمر.

فإذا كان الشك من النحو الأوّل فلا شكّ في إمكان إجراء الاستصحاب ؛ لتماميّة أركانه ، غير أنّ هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على أساس أن ترتّب المجعول على الجعل ليس شرعيّا بل عقليّا ، فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

أمّا النحو الأوّل : بأن كان الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل مرجعه إلى احتمال إلغاء المولى لهذا الجعل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ ؛ لتماميّة أركان الاستصحاب حيث يعلم يقينا بثبوت الحكم ويشكّ في بقائه.

وهنا شبهة وهي أنّ استصحاب عدم النسخ بلحاظ عالم الجعل إن أريد به إثبات بقاء الجعل فقط فهذا لا أثر له ؛ لأنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل ليس فعليّا ، وما يدخل في العهدة هو الحكم المجعول الفعلي.

وإن أريد به إثبات الحكم المجعول الفعلي فهذا وإن كان ممكنا ولكنّه لا يتمّ إلا على أساس الملازمة العقليّة بين بقاء الجعل وبقاء الحكم الفعلي بعد ثبوت الموضوع وقيوده ، وهذا يجعله من الأصل المثبت.

والحاصل : أنّ إثبات الجعل فقط لا يفيد ؛ لأنّه ليس منجّزا ؛ لأنّ المنجّزيّة من شئون الحكم الفعلي ، وإثبات المجعول وفعليّته باستصحاب الجعل تثبت على أساس الملازمة العقليّة لا الشرعيّة.

والجواب : أنّا لسنا بحاجة إلى إثبات شيء وراء الجعل في مقام التنجيز ؛ لما تقدّم من كفاية وصول الكبرى والصغرى ، وعليه فالاستصحاب يجري خلافا للأصل اللفظي بمعنى إطلاق الدليل ، فإنّه لا يمكن التمسّك به لنفي النسخ بهذا المعنى.

والجواب عن هذه الشبهة : أنّ المنجّزيّة لا تحتاج إلى إثبات المجعول الفعلي ، إذ لا يوجد شيء حقيقي وراء الجعل ، وإنّما المجعول أمر وهمي اعتباري ، ولذلك فيكفي في المنجّزيّة وصول الكبرى أي الجعل والصغرى أي الموضوع.

ص: 332

ولذلك ففي مقامنا يجري الاستصحاب لإثبات الكبرى وعدم النسخ ، والمفروض أنّ الصغرى واصلة للمكلّف وجدانا فتتحقّق المنجّزيّة بذلك ، وهذا ليس على أساس الملازمة العقليّة ، بل من باب تحقّق موضوع المنجّزيّة بجزأيها ، غاية الأمر أنّ الصغرى ثابتة وجدانا والكبرى تعبّدا.

ولا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق الدليل الدالّ على الحكم لإثبات بقاء الحكم وعدم نسخه في عالم الجعل ؛ لأنّنا لم نفرض احتمال كون الحكم مقيّدا بزمان أو نحوه من القيود ، وإنّما فرضنا احتمال رفع الشارع يده عن الحكم بعد أن جعله مطلقا وشاملا لكلّ الأزمنة ، فالإطلاق إنّما يصحّ التمسّك به فيما إذا كان أصل الحكم ثابتا وشكّ في وجود قيد فيه ، وهنا الشكّ في أصل ثبوت الحكم وبقائه لا في قيد زائد لينفى بالإطلاق.

وإذا كان الشكّ من النحو الثاني فلا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفيه ، ولكنّ جريان الاستصحاب موضع بحث ، وذلك لإمكان دعوى أنّ المتيقّن ثبوت الحكم على المكلّفين في الزمان الأوّل ، والمشكوك ثبوته على أفراد آخرين ، وهم المكلّفون الذين يعيشون في الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدّد إلا بالنسبة لشخص عاش كلا الزمانين بشخصه.

وأمّا النحو الثاني : بأن كان الشكّ في سعة المجعول وضيقه ، وهذا مرجعه إلى احتمال كون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده ، فهنا لا إشكال في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفي هذا القيد وإثبات الإطلاق ، بأن يقال : إنّ الجعل مفاده مطلق ، فلو كان مقيّدا بزمان لكان اللازم نصب قرينة على ذلك ، فمع عدم وجودها تنفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والوجه في صحّة هذا الإطلاق : أنّ الشكّ هنا في مفاد الدليل لا في أصل ثبوته ، أي أنّه بعد الفراغ عن ثبوت الدليل وعدم رفع اليد عنه يشكّ في مفاده سعة وضيقا من حيث الزمان ، فيتمسّك بالإطلاق لإثبات العموم والشمول لجميع الأزمنة وعدم اختصاصه بزمان دون آخر ؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى مئونة زائدة ، وهي غير موجودة في المقام.

وأمّا الاستصحاب أي استصحاب بقاء الجعل إلى الزمان المشكوك فقد استشكل

ص: 333

فيه الشيخ الأنصاري بدعوى : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة فيه ؛ لأنّ المتيقّن هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الأوّل والمشكوك هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الثاني ، فالموضوع متعدّد ؛ لأنّ المعروض مختلف ، ومع تعدّد المعروض والموضوع لا يحرز كون الشك متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، فلا يجري الاستصحاب.

نعم ، يجري الاستصحاب بلحاظ الأشخاص الذين عاشوا الزمانين ؛ لأنّ الحكم كان متيقّن الثبوت بالنسبة لهم ، ثمّ يشكّون في بقائه فيستصحب.

وعلاج ذلك : أنّ الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولا على نحو القضيّة الخارجيّة التي تنصبّ على الأفراد المحقّقة خارجا مباشرة ، بل على نحو القضيّة الحقيقيّة التي ينصبّ فيها الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه الحالة لا فارق بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعا إلا من ناحية الزمان وتأخّر الموضوع للقضيّة المشكوكة زمانا عن الموضوع للقضيّة المتيقّنة ، وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشكّ المفروض شكّا في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.

وعلاج هذه الشبهة أن يقال : إنّ الملحوظ في عالم الجعل لو كان الأشخاص والأفراد الموجودين في الخارج فعلا لكان لهذا التوهّم مجالا ، حيث يكون الزمان المتيقّن ثبوت الحكم فيه هو الأشخاص المغايرين للأشخاص الذين يشكّ في ثبوت الحكم بحقّهم ، إلا أنّ الصحيح هو أنّ الحكم يجعل في عالم التشريع على نهج القضيّة الحقيقية لا القضيّة الخارجيّة.

وهذا يعني ملاحظة الموضوع مقدّر ومفترض الوجود ، وهو طبيعي الإنسان المكلّف لا خصوص الأشخاص الذين يعيشون في زمان الجعل والتشريع أو غيرهم.

وعلى هذا فالحكم مجعول على موضوعه المقدّر الوجود والذي يكون مقدّر الوجود في جميع الأزمنة والأمكنة ، ولذلك يرى للقضيّة حدوث وبقاء بهذا اللحاظ ؛ لأنّ موضوعهما واحد ومعروضهما واحد ، وهو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر كان يعلم بثبوت هذا الجعل والحكم في زمان ثمّ يشكّ في بقائه في زمان آخر ، فالاختلاف بلحاظ الزمان تقدّما وتأخّرا لا بلحاظ الموضوع والمعروض.

ص: 334

وهذا المقدار من انحفاظ الموضوع يكفي لأن ينتزع عنواني الحدوث والبقاء عرفا ، فيقال : هذا الحكم والجعل كان معلوما حدوثه وثبوته على طبيعي المكلّف في ذاك الزمان ؛ والآن يشكّ في بقائه على طبيعي المكلّف في الزمان اللاحق ، فيستصحب ؛ لأنّ الشكّ المفروض يعتبر شكّا في بقاء الحكم الذي كان متيقّنا ثبوته سابقا.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة لطبيعي المكلّف.

وهذا الاستصحاب استصحاب تنجيزي ؛ لأنّه يثبت لنا الحكم المجعول الكلّي بقاء بحقّ طبيعي المكلّف المقدّر الوجود ، فلا إشكال في جريانه.

وبالإمكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار إلى الفرد المكلّف المتأخّر زمانا ويقال : إنّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم.

وهناك علاج آخر : وهو أن نجري الاستصحاب التعليقي حيث إنّ أركانه تامّة ، فيقال : إنّ هذا الشخص الموجود في الزمان اللاحق لو كان موجودا في الزمان السابق لكان الحكم شاملا له وثابتا بحقّه ، والآن حيث إنّه موجود فعلا في الزمان اللاحق فنشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي بالنسبة له فيجري استصحابها ، حيث إنّها كانت متيقّنة الحدوث في الزمان اللاحق لكلّ شخص وجد فيه فعلا أو تقديرا ومشكوكة البقاء في الزمان اللاحق فتستصحب ، فيثبت الحكم المعلّق بشأنه ويصبح منجّزا عند تحقّق الصغرى وجدانا.

وبتعبير آخر : يمكننا أن نشير إلى الفرد المكلّف الموجود في الزمان اللاحق ونقول : إنّ هذا الفرد لو كان موجودا في الزمان السابق فالحكم ثابت بحقّه ، والآن بما أنّ هذا الفرد موجود فعلا في الزمان المتأخّر فيشكّ في بقاء ذلك الحكم المعلّق بشأنه فيجري استصحابه ؛ لأنّ هذا الحكم المعلّق كان معلوم الحدوث سابقا على فرض وجود هذا الشخص سابقا ، ومشكوك البقاء بعد الالتفات إلى وجود ذاك الشخص فعلا ، فالمعروض واحد وهو ذاك الفرد المكلّف ، ولكن يشكّ في الحكم بحقّه نتيجة الاختلال في الزمان بين الحدوث والبقاء.

ص: 335

وهذا العلاج لا يرد عليه الإشكال المتقدّم من تعدّد المعروض في الخارج ؛ لأنّ المعروض في هذا الاستصحاب هو الفرد الخارجي وهو واحد.

ولكن توجد مشكلة أخرى يواجهها الاستصحاب في المقام ، سواء أجري بصيغته التنجيزيّة أو التعليقيّة ، وهي : أنّه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلّفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموما بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.

ثمّ إنّ استصحاب عدم النسخ بكلتا صيغتيه أي الاستصحاب التنجيزي أو الاستصحاب التعليقي يواجه مشكلة تقدّمت ، وهي أنّه معارض باستصحاب عدم التكليف الثابت لكلّ فرد فرد ولو في فترة ما قبل البلوغ ، وهذا الاستصحاب منجّز ؛ لأنّه يثبت عدم التكليف فعلا لا تعليقا ، حيث إنّ هذا الشخص لم يكن مكلّفا قبل البلوغ فعلا أو قبل تحقّق قيود التكليف في الخارج.

والآن حيث يشكّ في النسخ بعد صيرورته مكلّفا ، أو بعد تحقّق قيود التكليف سوف يشكّ في ارتفاع عدم التكليف وتبدّله إلى التكليف فيستصحب ذلك العدم ، وهذا الاستصحاب يتعارض مع استصحاب عدم النسخ الذي يثبت التكليف.

والجواب ما تقدّم سابقا عند الحديث عن الاعتراض الثالث على الاستصحاب التعليقي ، فإنّ هذا الاعتراض شبيه بذاك.

* * *

ص: 336

استصحاب الكلّي

اشارة

ص: 337

ص: 338

3 - استصحاب الكلّي

استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيّين إذا كان له أثر شرعي ، والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل إجراء استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارة وفي باب الموضوعات أخرى.

المقصود من استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع فيما إذا كان لهذا الجامع على إجماله أثر شرعي تنجيزي أو تعذيري ، سواء كان هذا الجامع بين حكمين أم بين موضوعين.

أمّا الجامع بين الحكمين فمثاله أن يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فالجامع بينهما هو كلّي الوجوب.

وأمّا الجامع بين الموضوعين فمثاله أن يعلم بوجوب إكرام إمّا خالد وإمّا زيد ، فإنّه يعلم بالجامع بينهما وهو كلّي الإنسان.

ومن الجامع بين الموضوعين أيضا ما إذا علم بخروج البول أو المني ، فإنّه يعلم بكلّي الحدث.

ومن الجامع بين الحكمين أيضا موارد الأقلّ والأكثر ، كوجوب العتق بنفسه أو وجوبه مخيّرا بينه وبين الإطعام أو الصيام.

والبحث هنا يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل جريان مثل هذا الاستصحاب ، بمعنى أنّه قد يمنع من جريان الاستصحاب في نفسه بدعوى عدم تماميّة أركانه من ناحية الشكّ في البقاء أو من ناحية عدم وجود الأثر.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه تارة يستشكل في جريان الاستصحاب بالنسبة

ص: 339

للجامع بين الحكمين ، وأخرى بالنسبة للجامع بين الموضوعين ، فالكلام في الجهة الأولى يقع في مقامين :

أمّا في باب الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذ : إنّ المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب ، وهو باطل ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يعقل جعله ؛ إذ يستحيل وجود الجامع إلا في ضمن فرده ، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطّا للاستصحاب ليكون مصبّا للتعبّد الاستصحابي.

المقام الأوّل : في بيان الإشكال على جريان استصحاب الكلّي بين الحكمين ، فإذا علم بوجوب الجمعة أو الظهر أو علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو استحبابه ، فالجامع على الأوّل هو كلّي الوجوب وعلى الثاني هو كلّي الطلب أو الإرادة أو المحبوبيّة.

وعليه فإذا بنينا على أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب - والذي هو أحد المسالك في تفسير حقيقة الحكم الظاهري - كان المفاد بدليل التعبّد الاستصحابي هو جعل المماثل لهذا الجامع ظاهرا ، وهذا باطل.

والوجه في بطلانه هو أنّه :

إن أريد من جعل المماثل إثبات بقاء الجامع بحدّه الجامعي أي بعنوانه الخاصّ من دون النظر إلى وجوده ضمن الأفراد فهذا مستحيل ؛ لأنّ الجامع لا يوجد أصلا مستقلاّ عن الفرد فكيف يبقى بدونه؟!

وإن أريد منه إثبات بقائه ضمن أحد فرديه فهو معقول ، إلا أنّه لا يثبت بالتعبّد الاستصحابي ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب ، إذ لا علم بحدوث هذا الفرد بخصوصه ولا ذاك ، فكيف يجري استصحاب بقاء الجامع ضمن الفرد؟

والحاصل : أنّ إثبات بقاء الجامع مستقلاّ عن الفرد مستحيل ؛ لأنّ الجامع يستحيل وجوده من دون الفرد.

وإثبات بقاء الجامع ضمن الفرد وإن كان معقولا ، إلا أنّه لا يقين بوجود الفرد بخصوصه فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه.

ص: 340

وإثبات بقاء الجامع ضمن أحد الفردين على الترديد محال أيضا ؛ لأنّه لا وجود لأحد الفردين بهذا العنوان ، كما تقدّم سابقا من أنّ الفرد المردّد بمفهومه وبواقعه لا وجود له.

وهذا الاعتراض يتوقّف على قبول المبنى المشار إليه ، أمّا إذا أنكرناه وفرضنا أنّ مفاد دليل الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنى من المعاني فيمكن افتراض إبقائه بقدر الجامع ، فيكون بمثابة العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع.

والجواب : أنّ هذا الإشكال وارد على مسلك جعل الحكم المماثل ، وأمّا إذا أنكرنا هذا المسلك كما هو الصحيح ، وبنينا على أنّ المجعول هو إبقاء اليقين بأحد المعاني الثلاثة المتقدّمة فلا يتمّ هذا الإشكال.

فلو قلنا : إنّ المجعول في الاستصحاب هو إبقاء اليقين بمعنى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، أو قلنا : إنّ المجعول هو إبقاء اليقين بمعنى أنّ الشاكّ كالمتيقّن ، أو قلنا : إنّ المجعول هو إبقاء اليقين بلحاظ الجري العملي ، فهذا الإشكال لا يرد ؛ لأنّه يمكن للشارع إبقاء اليقين بلحاظ الجامع من جهة العلميّة والطريقيّة كما هي مقالة الميرزا ، حيث يكون مفاد الاستصحاب التعبّد ببقاء اليقين فالشاكّ عنده كالمتيقّن ، وكذا يمكن إبقاؤه بلحاظ الجامع من جهة المعذّريّة والمنجّزيّة والأثر العملي ، لو كان المفاد هو إبقاء اليقين بلحاظ الأثر العملي.

ويحتمل أن يراد من عبارة ( بمعنى من المعاني ) الإشارة إلى المسالك في حقيقة الحكم الظاهري عموما لا إلى خصوص دليل الاستصحاب ، فيكون المقصود حينئذ أنّه تارة نقول إنّ المجعول في الحكم الظاهري هو العلميّة والطريقيّة ، وأخرى نقول : إنّ المجعول هو المنجّزيّة والمعذّريّة ، وثالثة نقول : إنّ المجعول فيه هو إبراز شدّة الاهتمام المولوي.

فإنّه على هذه المسالك كلّها يمكن التعبّد الاستصحابي بلحاظ الجامع ؛ إذ يعقل التعبّد بالعلم بلحاظ الجامع أو التعبّد بالمنجّزيّة والمعذّريّة بلحاظ الجامع أو إبراز شدّة الاهتمام بلحاظ الجامع.

فيكون التعبّد الاستصحابي بلحاظ الجامع على هذه المسالك كالعلم الإجمالي المتعلّق بالجامع ، فإنّه يكون منجّزا لمقدار الجامع فقط دون الأفراد. وكذلك الحال هنا

ص: 341

يكون الاستصحاب منجّزا لمقدار الجامع فقط دون الأفراد بلا فرق بينهما ، فإذا صحّ هناك يصحّ هنا أيضا.

وأمّا في باب الموضوعات : فالاعتراض ينشأ من أنّ الأثر الشرعي مترتّب على أفراد الجامع لا على الجامع بعنوانه ، فلا يترتّب على استصحابه أثر.

المقام الثاني : في بيان الإشكال الوارد على استصحاب الجامع بين الموضوعين ، فإذا علم مثلا بوجود زيد أو عمرو في المسجد فيعلم بوجود كلّي الإنسان ، فإذا شكّ في بقائه جرى استصحابه ، إلا أنّ هذا الاستصحاب للكلّي ما ذا يراد به؟

فإن أريد به إثبات الكلّي بعنوانه الخاصّ من دون النظر إلى الأفراد ، فهذا وإن كان يجري فيه الاستصحاب ، إلا أنّ المفروض أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما تنصبّ على الموضوعات والطبائع والماهيّات بما هي حاكية عن الخارج لا بما هي موجودة في الذهن.

وهذا يعني أنّ الأثر الشرعي المفروض ترتّبه على هذا الاستصحاب إنّما هو للإنسان الموجود في الخارج لا للإنسان الموجود في الذهن ، وعليه فاستصحاب كلّي الإنسان بما هو كذلك يعني النظر إلى الإنسان بما هو موجود في الذهن لا الخارج ، وهو بهذا اللحاظ ليس موضوعا للأثر الشرعي فلا يجري استصحابه.

وإن أريد به إثبات الكلّي بما هو موجود في الخارج ، فمن الواضح أنّ الكلّي في الخارج لا يوجد مستقلاّ عن الفرد ؛ إذ لا وجود للإنسان في الخارج إلا في أفراده ، فإذا نظر إلى الخارج فلا يرى إلا الفرد لا الإنسان ، فيكون الاستصحاب من استصحاب الفرد وهو لا يقين بحدوثه فلا يجري.

وحاصل الإشكال : أنّ الاستصحاب إنّما يجري لو كان هناك أثر شرعي على المستصحب.

وفي مقامنا المستصحب هو الكلّي والطبيعي والماهيّة ، وهي ليست موضوعا للأثر الشرعي بما هي موجودة في الذهن ، بل بما هي موجودة في الخارج ، وما هو موجود في الخارج إنّما هو الفرد لا الطبيعي ، فاستصحاب الكلّي لا يجري لا بنفسه وعنوانه ؛ لأنّه لا أثر شرعي له. ولا بوجوده الخارجي ؛ لأنّ الكلّي في الخارج موجود ضمن الفرد وهو لا يقين بحدوثه.

ص: 342

والجواب : أنّه إن أريد أنّ الحكم الشرعي في لسان دليله مترتّب على العنوانين التفصيليّين للفردين فيرد عليه : أنّا نفرض الحكم فيما إذا رتّب في لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين ، كحرمة المسّ المرتّبة على جامع الحدث.

والجواب عن هذا الإشكال أن يقال أوّلا : ما ذا يراد من عدم ترتّب الأثر الشرعي على الجامع؟

فإن كان المراد أنّ الجامع لم يرد في الأدلّة الشرعيّة أثر يترتّب عليه أصلا ، وإنّما الآثار الشرعيّة كلّها مترتّبة على الأفراد بعنوانها التفصيلي ، ولذلك لا يجري الاستصحاب بلحاظه. فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ بعض الأحكام الشرعيّة مترتّبة على نفس عنوان الكلّي والجامع دون الأفراد ، كما هو الحال في حرمة مسّ المصحف وكلماته المترتّبة على نفس عنوان الحدث الكلّي ، لا على الحدث الأصغر بعنوانه ولا على الحدث الأكبر كذلك.

وإن سلّم ترتّب الحكم في دليله على الجامع وادّعي أنّ الجامع إنّما يؤخذ موضوعا بما هو معبّر عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني ، فلا بدّ من إجراء الاستصحاب فيما أخذ الجامع معبّرا عنه ومرآة له وهو الخارج ، وليس في الخارج إلا الفرد.

وإن كان المراد أنّ الجامع يمكن أن يؤخذ في لسان الدليل موضوعا للأثر ، ولكنّه إنّما يؤخذ كذلك بما هو مرآة وحاك عن الخارج لا بما هو مفهوم في الذهن ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة تترتّب على ما في الذهن بقصد التوصّل إلى الخارج ، إذ لو كانت مترتّبة على ما في الذهن بقيد الوجود الذهني لم يكن هناك باعثيّة ومحرّكيّة في الخارج.

وعليه فالمقصود من إجراء الاستصحاب للجامع كونه معبّرا وكاشفا وحاكيا عن الخارج ، والحال أنّ الموجود في الخارج ليس إلا الفرد لا الجامع ؛ لأنّه لا وجود للكلّي في الخارج مستقلاّ عن الفرد ، وإنّما وجوده بوجود الأفراد ، والفرد لا يقين بحدوثه فلا يجري الاستصحاب.

فيرد عليه : أنّ موضوع الحكم وإن كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره أمرا ذهنيّا ، إلا أنّ الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضا ، ولا معنى لجريانه في الخارج ابتداء بلا توسّط عنوان من العناوين ؛ لأنّ

ص: 343

الاستصحاب حكم شرعي ولا بدّ أن ينصبّ التعبّد فيه على عنوان ، وكما أنّ العنوان التفصيلي يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج كذلك العنوان الإجمالي الكلّي.

فجوابه : سلّمنا أنّ الكلّي والجامع إنّما يترتّب عليه الحكم بما هو مرآة للخارج لا بما هو مفهوم ذهني ، إلا أنّه مع ذلك يجري فيه الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب حكم شرعي كغيره من الأحكام الشرعيّة التي تنصبّ على العناوين والمفاهيم الذهنيّة بما هي حاكية عن الخارج لا بما هي أمر ومفهوم ذهني.

وعليه فكما أنّ الاستصحاب يجري بلحاظ العناوين الجزئيّة التفصيليّة بقصد حكايتها عن الخارج ، فكذلك يجري بلحاظ العناوين الكلّيّة الإجماليّة بقصد حكايتها عن الخارج أيضا ، ولا فرق بين العنوان التفصيلي وبين العنوان الكلّي الإجمالي من هذه الناحية.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا علمنا بعدالة زيد ثمّ شككنا في بقائه جرى استصحاب بقاء العدالة ، ولكنّ استصحاب العدالة هذا يجري بلحاظ الصورة الذهنيّة للعدالة الحاكية عن الخارج ، لا بلحاظ العدالة الموجودة في الخارج ؛ إذ لا يمكن أن ينصبّ الاستصحاب مباشرة وابتداء على الخارج من دون توسّط عنوان ومفهوم ؛ لأنّ الاستصحاب حكم شرعي والأحكام الشرعيّة تنصبّ على الصور الذهنيّة الحاكية عن الخارج ، لا على الصور الذهنيّة بما هي أمر ذهني ولا على الخارج مباشرة.

وهكذا الحال لو علمنا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد فعلمنا بجامع الإنسان ، فإنّ استصحاب بقاء كلّي الإنسان في المسجد يجري بلحاظ الإنسان الكلّي بما هو حاك عن الخارج ، لا بما هو أمر ذهني ، ولا بالخارج مباشرة الذي يحكي عنه هذا الكلّي ليشكل بأنّه ليس متيقّنا.

وبهذا يظهر أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من جريانه بلحاظ العنوان والمفهوم ، سواء كان هذا العنوان تفصيليّا أم كان عنوانا إجماليّا ، ما دام كلا العنوانين يحكيان عن الخارج ، ويراد بإجراء الاستصحاب فيهما التوصّل إلى الخارج ؛ لأنّه يمتنع جريان الاستصحاب بلحاظ الخارج ابتداء ؛ لأنّ الاحكام لا تتعلّق بالخارج مباشرة ، بل بالصور الذهنيّة الحاكية والكاشفة والتي تكون مرآة عن الخارج.

ص: 344

وبما ذكرناه ظهر الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي ، مع أنّ التوجّه في كلّ منهما إلى إثبات واقع خارجي واحد حيث إنّ الكلّي موجود بعين وجود الفرد.

وهذا الفارق هو أنّ الاستصحاب باعتباره حكما منجّزا وموصّلا للواقع فهو إنّما يتعلّق به بتوسّط عنوان من عناوينه وصورة من صوره ، فإن كان مصبّ التعبّد هو الواقع المرئي بعنوان تفصيلي مشير إليه فهذا استصحاب الفرد ، وإن كان مصبّه الواقع المرئي بعنوان جامع مشير إليه فهذا هو استصحاب الكلّي ، على الرغم من وحدة الواقع المشار إليه بكلا العنوانين.

والذي يحدّد إجراء الاستصحاب بهذا النحو أو بذاك كيفيّة أخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.

وأمّا الفارق بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي فقد ظهر ممّا تقدّم ، وحاصله : أنّ الاستصحاب بما أنّه حكم شرعي فلا بدّ أن يتعلّق بالعنوان الحاكي عن الخارج ، غير أنّ العنوان الذي كان مصبّ الاستصحاب تارة تكون حكايته عن الخارج حكاية تفصيليّة وأخرى تكون حكاية إجماليّة.

فإن كانت حكايته تفصيليّة ، فهذا معناه أنّ العنوان الذي كان مصبّا للاستصحاب يشير إلى الواقع المرئي به إشارة تامّة تفصيليّة بكلّ خصوصيّاته ومشخّصاته التي يتميّز بها عن غيره.

وإن كانت حكايته إجماليّة ، فهذا يعني أنّ العنوان الذي كان مصبّا للاستصحاب يشير إلى الواقع المرئي به إشارة إجماليّة عنوانيّة لا نظر فيها إلى المشخّصات والخصوصيّات.

وهذا يعني أنّ الفارق بينهما هو في كيفيّة الإشارة إلى الواقع المرئي بهما.

ولكنّهما مع ذلك يشتركان في حكايتهما عن الواقع الخارجي ، فالواقع الخارجي واحد فيهما بمعنى أنّهما يحكيان عنه ، ولكنّهما يختلفان في كيفيّة هذه الحكاية من حيث التفصيل والإجمال أو الوضوح في الرؤية والغموض فيها.

وأمّا أنّه متى يجري استصحاب الفرد أو استصحاب الكلّي؟

فهذا يرتبط بالأثر الشرعي وكيفيّة أخذه في لسان الدليل ، فإنّه إن كان منصبّا على

ص: 345

الواقع الخارجي بمشخّصاته جرى استصحاب الفرد دون الكلّي ، وإن كان منصبّا عليه على إجماله جرى استصحاب الكلّي دون الفرد.

وعلى هذا الضوء يتّضح أنّ التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي لا تتوقّف على دعوى التعدّد في الواقع الخارجي ، وأنّ للكلّي واقعا وسيعا منحازا عن واقعيّات الأفراد - على طريقة الرجل الهمداني في تصوّر الكلّي الطبيعي - وهي دعوى باطلة ؛ لما ثبت في محلّه من أنّ الكلّي موجود بعين وجود الأفراد.

وبما ذكرناه من تفسير لحقيقة الكلّي يتّضح بطلان التفسيرات الأخرى المدّعاة وهي :

التفسير الأوّل الكلّي الهمداني : والمقصود به أنّ الكلّي الطبيعي له وجود مستقلّ عن وجود أفراده لا في عالم الخارج ، بل في عالم آخر ، وله وجود مع أفراده في الخارج أيضا ، ويقال : إنّ هذا الرجل الهمداني قد ادّعى رؤية الإنسان الكلّي يمشي في جبال همدان.

فعلى هذا المسلك تكون نسبة الكلّي إلى أفراده كنسبة الأب الواحد إلى أبنائه المتعدّدين ، أي أنّه موجود مستقلّ عن الأفراد بوجود منحاز في واقعه وعالمه.

وبالتالي يتمّ تخريج استصحاب الكلّي من دون إشكال ؛ وذلك لأنّ الكلّي موجود في نفسه لا في أفراده لكي يشكل بأنّه لا يقين بالحدوث.

إلا أنّ أصل هذا المبنى باطل وفاسد لما تقدّم في مباحث الكلّي من الحكمة من أنّ الكلّي لا وجود له إلا ضمن أفراده ، فنسبته إليها نسبة الآباء إلى الأبناء فكلّ أب مختصّ بابن موجود بوجوده.

كما أنّه لا موجب لإرجاع الكلّي في مقام التفرقة المذكورة إلى الحصّة ، ودعوى أنّ كلّ فرد يشتمل على حصّة من الكلّي ومشخّصات عرضيّة ، واستصحاب الكلّي عبارة عن استصحاب ذات الحصّة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصّة مع المشخّصات ، بل الصحيح في التفرقة ما ذكرناه.

التفسير الثاني الكلّي برأي المحقّق العراقي : والمقصود به الحصّة الموجودة مع الفرد ، فإنّ كلّ فرد موجود في الخارج يشتمل على الحصّة من الجامع ، ويشتمل على الخصوصيّات والمشخّصات التي تميّزه عن غيره من الأفراد.

ص: 346

وعليه ، فإذا لوحظ الفرد بتمام مشخّصاته فهو من استصحاب الفرد ، وإذا جرّد عن هذه الخصوصيّات فلا يوجد إلا الحصّة من الجامع فيكون من استصحاب الكلّي ، ولذلك فاستصحاب الكلّي مغاير لاستصحاب الفرد من جهة ملاحظة المشخّصات وعدمها ، ولا يتوقّف استصحاب الكلّي على ملاحظة المشخّصات ، بل على ملاحظة الحصّة فقط.

وفيه ، أنّ الحصّة أيضا مغايرة للكلّي ؛ لأنّ الكلّي عبارة عن صرف الوجود للجامع ، والحصّة عبارة عن وجود الجامع في الخارج ولكن مجرّدا عن المشخّصات ، وهذا يعني أنّه يوجد في الحصّة شيء زائد وهو التعيّن للجامع في الخارج وإن كان مجرّدا عن المشخّصات.

الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلّي :

يمكن تقسيم الشكّ في بقاء الكلّي إلى قسمين :

أحدهما : الشكّ في بقاء الكلّي غير الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

والآخر : الشكّ في بقائه الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

ومثال الأوّل : أن يعلم بدخول الإنسان ضمن زيد في المسجد ويشكّ في خروجه.

ومثال الثاني : أن يعلم بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر ، ويشكّ في ارتفاعه بعد الوضوء ، فإنّ الشكّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الأكبر.

الجهة الثانية في بيان أقسام استصحاب الكلّي :

يمكن تقسيم الشكّ في بقاء الكلّي إلى قسمين رئيسين بحسب التقسيم المنطقي ، هما :

الأوّل : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي غير ناشئ من الشكّ في حدوث الفرد ، بل يكون الفرد معلوم الحدوث ولكنّه مشكوك البقاء ، ولذلك يشكّ في بقاء الكلّي.

مثاله : أن يعلم بدخول زيد إلى المسجد فيعلم بدخول الإنسان أيضا ؛ لأنّ الكلّي كما تقدّم يوجد في الخارج ضمن أفراده ولا وجود له مستقلّ عن وجود الأفراد ، ثمّ يشكّ في خروج زيد من المسجد ، وهذا الشكّ يسبّب الشكّ في بقاء الكلّي ؛ لأنّه لو

ص: 347

كان خارجا فلا وجود للكلّي في المسجد ، وإن كان لا يزال في المسجد فالكلّي موجود أيضا.

الثاني : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي ناشئا من الشكّ في حدوث الفرد ، بمعنى أنّه يعلم بوجود الكلّي ضمن أحد الفردين أو الأفراد ، ثمّ يعلم بارتفاع أحد الفردين ويشكّ في بقاء الكلّي ضمن الفرد الآخر على تقدير كونه هو الحادث ، فهنا الشكّ في البقاء كان لأجل الشكّ في الفرد الحادث ، فإنّه إذا كان الفرد الحادث هو الفرد الذي علم بارتفاعه فلا بقاء للكلّي ، وإذا كان الفرد الحادث هو الفرد الآخر فالكلّي موجود.

مثاله : أن يعلم بالحدث ضمن أحد فرديه أي الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر ، ثمّ بعد الوضوء يشكّ في بقاء كلّي الحدث من جهة أنّ الحادث لو كان هو الحدث الأصغر فقد ارتفع بالوضوء فيرتفع الكلّي ، ولو كان هو الحدث الأكبر فالكلّي لا يزال موجودا ؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء.

وسوف نتكلّم عن كلا هذين القسمين بالتفصيل فنقول :

أمّا القسم الأوّل فله حالتان :

الأولى : أن يكون الكلّي معلوما تفصيلا ويشكّ في بقائه ، كما في المثال المذكور حيث يعلم بوجود زيد تفصيلا. وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على الجامع جرى استصحاب الكلّي.

أمّا القسم الأوّل من الشكّ في بقاء الكلّي - وهو الشكّ غير الناشئ من حدوث الفرد - فهو على نحوين ، أو له حالتان :

الحالة الأولى : أن يكون الكلّي معلوما تفصيلا ويشكّ في بقائه ، كما إذا علم بدخول زيد إلى المسجد ثمّ يشكّ في خروجه ، فإنّه يعلم بدخول كلّي الإنسان على وجه تفصيلي من دون ترديد بين أفراده حيث يعلم بوجوده ضمن زيد ، ثمّ يشكّ في بقائه من أجل الشكّ في خروج زيد من المسجد.

وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الفرد جرى استصحاب الفرد ؛ لأنّه يعلم بدخول زيد ويشكّ في خروجه فيستصحب.

وإذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي كأن قيل مثلا : ( إذا كان في

ص: 348

المسجد إنسان فيجب التصدّق ) ، فهنا يجري استصحاب الكلّي أيضا ؛ لأنّه كان معلوم الحدوث تفصيلا ويشكّ في ارتفاعه فيستصحب.

واستصحاب الكلّي في هذه الحالة جار على كلّ حال ، سواء فسّرنا استصحاب الكلّي وفرّقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون المستصحب الوجود السعي للكلّي على طريقة الرجل الهمداني ، أو الحصّة ، أو الخارج بمقدار مرآتيّة العنوان الكلّي ، على ما تقدّم في الجهة السابقة ، إذ على كلّ هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامّة.

وهذا الاستصحاب للكلّي يجري على جميع المسالك في تفسير الكلّي لتماميّة أركانه.

أمّا على مسلك الرجل الهمداني لتفسير الكلّي من كونه الوجود السعي والمنحاز فواضح ؛ لأنّ الكلّي له وجود سعي مستقلّ عن وجود الأفراد ، والمفروض أنّ الكلّي يعلم بحدوثه ويشكّ في بقائه فيستصحب.

وأمّا على مسلك المحقّق العراقي لتفسير الكلّي وكونه عبارة عن الحصّة ، فحيث يعلم بدخول زيد يعلم بدخول حصّة من الإنسان أيضا ، فإذا شكّ في الخروج يشكّ في ارتفاع هذه الحصّة فتستصحب.

وأمّا على المسلك المختار من كون الكلّي عبارة عن المفهوم والعنوان الذي يكون مرآة وحاكيا عن الخارج ، فحيث إنّ هذا العنوان معلوم الحدوث عند دخول زيد ومشكوك البقاء للشكّ في خروجه ، فيجري الاستصحاب بلحاظ هذا العنوان الذي يحكي عن الخارج.

ولذلك فهذا النحو ممّا لا إشكال فيه على جميع المباني المتصوّرة في حقيقة الحكم الظاهري وفي ما هو المجعول في الاستصحاب.

الثانية : أن يكون الكلّي معلوما إجمالا ويشكّ في بقائه على كلا تقديريه ، كما إذا علم بوجود زيد أو خالد في المسجد ، ويشكّ في بقائه - سواء كان زيدا أو خالدا - فيجري استصحاب الجامع إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا عليه.

الحالة الثانية : أن يكون الكلّي معلوما إجمالا ضمن أحد فردين ، ثمّ يشكّ في بقائه لا من أجل الشكّ في حدوث الفرد ، بل من أجل الشكّ في بقاء الفرد ، كما إذا

ص: 349

علم بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا يعلم بدخول كلّي الإنسان ثمّ يشكّ في بقائه لأجل الشكّ في بقاء الفرد حيث لا يعلم بخروجه ، بل هو مشكوك البقاء والخروج ، فالشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في بقاء الفرد على كلا التقديرين ، أي أنّه سواء كان زيد هو الداخل فهو مشكوك الخروج أم كان الداخل هو عمرو فهو مشكوك الخروج أيضا.

وهنا يجري استصحاب الكلّي إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا عليه لتماميّة أركانه فيه.

ولا إشكال في ذلك بناء على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الوجود السعي له على طريقة الرجل الهمداني ، وبناء على المختار من إرجاعه إلى استصحاب الواقع بمقدار مرآتيّة العنوان الإجمالي.

وأمّا بناء على إرجاعه إلى استصحاب الحصّة فقد يستشكل بأنّه لا يقين بحدوث أيّ واحدة من الحصّتين ، فكيف يجري استصحابها؟

اللّهم إلا أن تلغى ركنيّة اليقين وتستبدل بركنيّة الحدوث.

واستصحاب الكلّي في هذه الحالة يجري بلا إشكال على مبنى الرجل الهمداني وعلى المبنى المختار.

أمّا على مبنى الرجل الهمداني فيجري استصحاب الكلّي ؛ لأنّه موجود بوجود منحاز عن الأفراد ، فهو موجود مستقلّ عن الأفراد.

وأمّا على المبنى المختار فلأنّ الكلّي عبارة عن العنوان الإجمالي للواقع ، فيمكن أن يشار إلى الواقع الإجمالي بهذا العنوان ، وحيث إنّه معلوم حدوثا على إجماله ويشكّ في بقائه كذلك ، فيجري استصحابه ؛ لأنّه لا يشترط العلم بالخصوصيّات والمشخّصات الفرديّة.

وأمّا على مبنى المحقّق العراقي فقد يستشكل في جريان استصحاب الكلّي بمعنى الحصّة ؛ وذلك لأنّ هذه الحصّة لا يعلم بحدوثها ضمن زيد ولا يعلم بحدوثها ضمن عمرو ، والمفروض أنّ الحصّة من الكلّي الموجودة في زيد مغايرة للحصّة من الكلّي الموجودة ضمن عمرو ، فلا يقين بحدوث الحصّة فكيف يجري استصحابها؟

ص: 350

ولكن يجاب عن ذلك : أنّه إذا أنكرنا ركنيّة اليقين بالحدوث وقلنا بكفاية الحدوث ، فهنا الحصّة موجودة وحادثة على كلّ حال ، أي سواء كانت ضمن زيد أم ضمن عمرو ، ويشكّ في بقائها فتستصحب.

وكذا لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي متعلّق بالواقع لا بالجامع ، فإنّه يعلم بدخول واقع الفرد والحصّة في المسجد ويشكّ في بقائها فتستصحب.

ويسمّى هذا القسم في كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

وهذا القسم بكلا نحويه يسمّى عندهم بالقسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الكلّي يجري على كلّ المسالك والمباني المتصوّرة في حقيقة الحكم الظاهري وفي حقيقة المجعول في الاستصحاب.

وكذا يجري استصحاب الفرد أمّا في النحو الأوّل فواضح ؛ لأنّه معلوم تفصيلا حدوثا ومشكوك بقاء.

وأمّا في النحو الثاني فيجري استصحاب الفرد الواقعي بأن يشار إلى الفرد الحادث واقعا فيقال : يعلم بحدوث الفرد الواقعي ويشكّ في بقائه فيستصحب ، هذا إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع.

وإذا قلنا : إنّ العلم الإجمالي متعلّق بالجامع فيجري استصحاب الفرد بناء على إلغاء ركنيّة اليقين بالحدوث والاكتفاء بالحدوث ، فإنّه حينئذ يعلم بحدوث الفرد ويشكّ في بقائه فيستصحب ، وأمّا إذا احتفظنا بركنيّة اليقين فيشكل جريان استصحاب الفرد بمعنى المشخّصات كما هو مبنى المحقّق العراقي ، ولكنّه يجري بناء على أنّ الفرد هو الحصّة على مبنى المشهور كما هو الصحيح في معنى الفرد.

وأمّا القسم الثاني فله حالتان أيضا :

الأولى : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبّب للشكّ في بقاء الكلّي مقرونا بالعلم الإجمالي ، كما في المثال المتقدّم لهذا القسم ، فإنّ الشكّ في الحدث الأكبر مقرون بالعلم الإجمالي بأحد الحدثين.

والصحيح : جريان الاستصحاب في هذه الحالة إذا كان للجامع أثر شرعي ، ويسمّى في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.

ص: 351

أمّا القسم الثاني من الشكّ في بقاء الكلّي - وهو الشكّ الناشئ من حدوث الفرد - فهذا له حالتان :

الحالة الأولى : أن يعلم إجمالا بحدوث أحد الفردين ، وأحدهما طويل من حيث البقاء والآخر قصير ، فلو كان الكلّي حادثا بحدوث الفرد القصير فهو مرتفع للعلم بارتفاع الفرد القصير ، وإن كان حادثا ضمن الفرد الطويل فهو لا يزال باقيا ، فيشكّ في بقاء الكلّي نتيجة الشكّ في حدوث الفرد إجمالا.

مثاله : ما إذا علم بالحدث المردّد بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، ثمّ يتوضّأ ، فإنّه إذا كان كلّي الحدث متحقّقا ضمن الحدث الأصغر فقد ارتفع بسبب الوضوء الرافع للحدث الأصغر ، وإذا كان كلّي الحدث متحقّقا ضمن الحدث الأكبر فهو لا يزال باقيا ؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء.

ومثّلوا له بالعلم بدخول حيوان إلى الغرفة ذي خرطوم المردّد بين البقّ والفيل ، وبعد ثلاثة أيّام يشكّ في بقاء كلّي الحيوان في الغرفة ؛ لأنّه لو كان حادثا في البقّ فهو لا يعيش أكثر من ثلاثة أيّام ، وأمّا لو كان حادثا في الفيل فهو لا يزال باقيا ، فيشكّ في بقاء الكلّي وهذا الشكّ مسبّب عن حدوث الفرد إذ لا يعلم أي الفردين هو الحادث.

وهذا القسم اصطلحوا عليه في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.

والكلام هنا في جريان استصحاب الكلّي حيث إنّ استصحاب الفرد لا يجري لعدم اليقين بالحدوث.

والصحيح هو جريان استصحاب الكلّي وفاقا للمشهور ، حيث يعلم بحدوث الكلّي ويشكّ في بقائه فيستصحب.

وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بوجوه :

منها : أنّه لا يقين بالحدوث ، وهو اعتراض مبنيّ على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة ، وحيث لا علم بالحصّة حدوثا فلا يجري الاستصحاب لعدم اليقين بالحدوث ، بل لعدم الشكّ في البقاء إذ لا شكّ في الحصّة بقاء ، بل إحدى الحصّتين معلومة الانتفاء ، والأخرى معلومة البقاء.

الاعتراض الأوّل : أنّ الاستصحاب لا يجري لاختلال ركنه الأوّل وهو اليقين بالحدوث ؛ وذلك لأنّ الكلّي إن كان بمعنى الحصّة فهذا معناه أنّ الكلّي في هذه

ص: 352

الحصّة غير الكلّي في تلك الحصّة ، وعليه فالحصّة ضمن الفرد القصير غير معلومة الحدوث ، والحصّة ضمن الفرد الطويل غير معلومة الحدوث أيضا ، فلا يجري استصحاب الحصّة في أيّ منهما ؛ لعدم اليقين بحدوثها ؛ لأنّ الحدوث مردّد بين هذه أو تلك.

بل يمكن أن يقال : إنّ الركن الثاني مختلّ أيضا ؛ لأنّ الحصة لا شكّ في بقائها ، بل هي إمّا معلومة الارتفاع أو معلومة البقاء ، وحيث لا شكّ فلا يجري الاستصحاب.

والوجه في ذلك : هو أنّ الحصّة ضمن الفرد القصير معلومة الارتفاع ؛ لأنّ المفروض أنّه توضّأ فارتفع الحدث الأصغر ، والحصّة ضمن الفرد الطويل لا تزال باقية ؛ لأنّ الحدث الأكبر لا يرتفع بالوضوء.

وقد تقدّم أنّ استصحاب الكلّي ليس بمعنى استصحاب الحصّة ، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ما يرى بالعنوان الإجمالي للجامع ، وهذا معلوم بالعلم الإجمالي حدوثا.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض إنّما يرد على تفسير الكلّي بالحصّة كما هي مقالة المحقّق العراقي.

وأمّا على التفسير الصحيح للكلّي من كونه العنوان الإجمالي الذي يحكي عن الواقع ، فلا يرد هذا الاعتراض ؛ وذلك لأنّ الواقع الذي يريه هذا العنوان ويحكي عنه معلوم حدوثا ؛ لأنّه يحكي عن الفرد الخارجي حكاية إجماليّة مطابقة للجامع دون الخصوصيّات والمشخّصات ، وهذا الواقع الخارجي بهذا المقدار - أي بمقدار الجامع - معلوم حدوثا ومشكوك بقاء فيستصحب.

وبتعبير آخر : أنّ ما نراه كصورة ذهنيّة حاكية عن الخارج ليس هو إلا العنوان الإجمالي ، ككون ما في الخارج حيوانا ذا خرطوم ، أو لكون ما في الخارج حدثا ، وهذا المقدار هو الجامع والكلّي وهو معلوم حدوثا ومشكوك بقاء فيستصحب.

وأمّا الفرد بمشخّصاته أو الحصّة ضمن أحد الفردين ، فهذا لا علم بحدوثه تفصيلا فلا يجري استصحابه.

ومنها : أنّه لا شكّ في البقاء ؛ لأنّ الشكّ ينبغي أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، ولمّا كان اليقين هنا علما إجماليّا ، والعلم الإجمالي يتعلّق بالمردّد ، فلا بدّ أن

ص: 353

يتعلّق الشكّ بالواقع على ترديده أيضا ، وهذا إنّما يتواجد فيما إذا كان الواقع مشكوك البقاء على كلّ تقدير ، مع أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الفرد القصير من الجامع لا شكّ في بقائه.

الاعتراض الثاني : أنّ الاستصحاب لا يجري لاختلال الركن الثاني ، وهو الشكّ في البقاء ؛ وذلك لأنّه يشترط في الاستصحاب أن يكون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، واليقين هنا متعلّق بالفرد المردّد حيث يعلم إجمالا بحدوث أحد الفردين ، والعلم الإجمالي معناه العلم بالواقع على ترديده ، فاللازم أيضا أن يكون الشكّ في البقاء متعلّقا بالواقع المردّد أيضا ، والشكّ في الواقع المردّد معناه الشكّ في البقاء على كلا التقديرين ، أي سواء كان الحادث هذا الفرد فيشكّ في بقائه أم كان ذاك فيشكّ في بقائه ، إلا أنّه في مقامنا لا يكون الشكّ مردّدا ؛ لأنّه على تقدير حدوث الفرد القصير فيعلم بالارتفاع ، وعلى تقدير حدوث الفرد الطويل فيعلم بالبقاء ، فيكون الشكّ في البقاء مسبّبا عن الشكّ في حدوث أحد الفردين فقط وهو الفرد الطويل دون الفرد القصير.

وبذلك لا يكون الشكّ في البقاء متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين بالحدوث.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع المردّد ، بل بالجامع وهو مشكوك ، إذ يكفي في الشكّ في بقاء الجامع التردّد في كيفيّة حدوثه.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض مبني على كون العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع كما هي مقالة المحقّق العراقي.

والصحيح : أنّ العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ، وعليه فالجامع معلوم الحدوث إجمالا ضمن أحد فرديه ، ويشكّ في بقائه لأجل الشكّ في أيّ الفردين هو الحادث فيستصحب ؛ لأنّه يكفي لتحقّق الركن الثاني كون الشكّ في البقاء متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين بالحدوث ، وهذا المقدار من الحدوث أي حدوث الجامع معلوم ، ويشكّ في بقائه فيستصحب.

ولا يشترط في الشكّ في البقاء أكثر من ذلك.

وبتعبير آخر : أنّ الشكّ في البقاء يشترط فيه أن يكون شكّا في بقاء ما تعلّق به اليقين ، واليقين هنا متعلّق بحدوث الجامع فقط من دون تعيين لحدوثه ضمن هذا الفرد

ص: 354

أو ذاك ، ولذلك يكفي أن يشكّ في بقاء الجامع بسبب الشكّ في كيفيّة حدوث الجامع ، وأنّه هل هو حادث ضمن هذا أو ذاك؟ ولا يشترط أن يشكّ في البقاء ضمن أحد الفردين بخصوصه ؛ لأنّ هذا المقدار ممّا لا يقين بحدوثه.

ومنها : أنّ الوجود القصير للكلّي لا يحتمل بقاؤه ، والوجود الطويل له لا يحتمل ارتفاعه ، وليس هناك في مقابلهما إلا المفهوم الذهني الذي لا معنى لاستصحابه.

الاعتراض الثالث : أنّ الاستصحاب للكلّي لا يجري ؛ وذلك لأنه إن أريد استصحاب الكلّي ضمن الفرد القصير ، فهذا الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّه يقطع بارتفاع الفرد القصير وبالتالي يقطع بارتفاع الكلّي ، فلا شكّ في البقاء.

وإن أريد استصحاب الكلّي ضمن الفرد الطويل ، فهذا الفرد يعلم ببقائه فلا يجري الاستصحاب فيه ؛ إذ لا شكّ في البقاء أيضا.

وإن أريد استصحاب الكلّي ضمن أحد الفردين ، فهذا العنوان بواقعه لا وجود له ، إذ لا وجود في الخارج لأحد الفردين كما هو مردّد ، وإنّما الموجود في الخارج هذا الفرد أو ذاك ، ومفهوم هذا العنوان وهو الصورة الذهنيّة لأحد الفردين ليس مصبّا للاستصحاب ؛ لما تقدّم من أنّ الاستصحاب لا يجري في المفهوم الذهني بما هو أمر ذهني من دون أن يكون حاكيا ومرآة عن الخارج.

والحاصل : أنّ استصحاب الكلّي هنا ليس له معنى محصّل ؛ لأنّ استصحابه ضمن هذه الحصّة القصيرة لا يجري للعلم بارتفاعه فيها ، واستصحابه ضمن الحصّة الطويلة لا يجري للعلم ببقائه فيها على تقدير حدوثها ، واستصحابه ضمن الصورة الذهنيّة لا يجري ؛ لأنّها بواقعها لا تحكي عن شيء وبمفهومها ليست محطّا للاستصحاب.

والجواب : أنّ الشكّ واليقين إنّما يعرضان [ على ] الواقع الخارجي بتوسّط العناوين الحاكية عنه ، فلا محذور في أن يكون الواقع بتوسّط العنوان التفصيلي مقطوع البقاء أو الانتفاء ، وبتوسّط العنوان الإجمالي مشكوك البقاء ، ومصبّ التعبّد الاستصحابي دائما العنوان بما هو حاك عن الواقع تبعا لأخذه موضوعا للأثر الشرعي بما هو كذلك.

نعم إذا أرجعنا استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة أمكن المنع عن

ص: 355

جريانه في المقام ؛ لأنّه يكون من استصحاب الفرد المردّد نظرا إلى أنّ إحدى الحصّتين مقطوعة الانتفاء فعلا.

والجواب : أنّ هذا الاعتراض إنّما يتمّ لو كان المراد من الكلّي الحصّة كما هي مقالة المحقّق العراقي ، فإنّه على هذا المبنى حيث لا يوجد لنا علم بحدوث الفرد القصير بخصوصه ولا بحدوث الفرد الطويل كذلك ، فلا يعلم بحدوث الحصّة لا ضمن هذا بخصوصه ولا ضمن ذاك كذلك ، فلا يجري استصحاب الكلّي عندئذ.

وأمّا جريان الاستصحاب بلحاظ الحصّة المعلومة إجمالا ضمن أحد الفردين فهو من استصحاب الفرد المردّد ؛ لأنّ إحدى الحصّتين يعلم بارتفاعها على تقدير حدوثها ، والأخرى يعلم ببقائها على تقدير حدوثها ، فإن كان المقصود من استصحاب الحصّة واقع الحصّة المردّدة فهذه لا وجود لها في الخارج ؛ لأنّ الحصّة في الخارج معيّنة ، وإن كان المقصود منها مفهوم الحصّة المردّدة فقد تقدّم أنّ الاستصحاب لا يجري في المفاهيم الذهنيّة بما هي كذلك ، بل بما هي حاكية عن الخارج.

إلا أنّ الصحيح كما تقدّم أنّ الكلّي معناه العنوان الإجمالي الذي يحكي عن الواقع بهذا المقدار ، وعليه فاليقين والشكّ إنّما يتعلّقان ويعرضان على الواقع الخارجي بتوسّط عنوان ومفهوم ذهنيّ حاك عن الخارج ، ولا يعرضان على الخارج مباشرة وابتداء ؛ لأنّ ما في الذهن لا يعرض على الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ واليقين اذا لوحظ فيهما العنوان التفصيلي فلا مجال لإجراء الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ اليقين على تقدير تعلّقه بالعنوان التفصيلي الحاكي عن الحصّة القصيرة فهو معلوم الارتفاع فلا شكّ في البقاء ، وإن لوحظ تعلّقه بالعنوان التفصيلي الحاكي عن الحصّة الطويلة فهو معلوم البقاء فلا شكّ أيضا.

إلا أنّه لا مانع من أن يتعلّقا بالعنوان الإجمالي الذي هو الكلّي والجامع كما تقدّم سابقا ، وهنا اليقين بلحاظ العنوان الإجمالي معلوم الحدوث ، إذ يعلم بالحدث على إجماله أو بالحيوان ذي الخرطوم على إجماله ، والشكّ في البقاء متعلّق بهذا العنوان الإجمالي أيضا ؛ لأنّه على تقدير كون الحادث هو الفرد القصير فهو مرتفع وعلى

ص: 356

تقدير كون الحادث هو الفرد الطويل فهو باق ، وبذلك يصدق عنوان الشكّ في البقاء بلحاظ الجامع ، فيجري الاستصحاب فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الجامع لا الفرد.

وبهذا يظهر أنّ العنوان الإجمالي الذي هو مجرى الاستصحاب معلوم الحدوث على إجماله ومشكوك البقاء كذلك فيجري استصحابه.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي يحكم عليه استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل الأمد ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث هذا الفرد.

الاعتراض الرابع : أنّ استصحاب الكلّي لو سلّم جريانه ، فمع ذلك لا يمكن الأخذ به لكونه معارضا بما هو حاكم عليه.

وتوضيحه : أنّ استصحاب الكلّي مسبّب عن الشكّ في كون الفرد الحادث هو الفرد الطويل ، إذ لو كان الفرد الحادث هو الفرد القصير فهو مقطوع الارتفاع فلا يجري الاستصحاب من ناحيته ، فالشكّ في بقاء الكلّي إذن مسبّب عن الشكّ في الفرد الحادث وكونه الطويل لا القصير.

إلا أنّ هذا الاستصحاب معارض ومحكوم لاستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ؛ لأنّه مشكوك الحدوث فيستصحب عدم حدوثه الثابت ولو في الأزل ، وهذا الاستصحاب ينقّح لنا موضوع استصحاب الكلّي ؛ لأنّ الفرد القصير مرتفع وجدانا للعلم بانتهاء أمده ، والفرد الطويل مرتفع تعبّدا بهذا الاستصحاب ، وعليه فلا يجري استصحاب الكلّي إذ لا موضوع له - وهو الشكّ في البقاء - حيث يعلم بانتفاء الفردين معا ، والكلّي لا يوجد في الخارج مستقلاّ عن الأفراد.

وبتعبير آخر : أنّ استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ينقّح موضوع استصحاب الكلّي وينفيه ؛ لأنّ الشكّ الذي هو مورد استصحاب الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل فهو أصل مسبّبي ، بينما الشكّ في استصحاب عدم الفرد الطويل ليس مسبّبا عن ذاك الشكّ ، بل هو يعالج ذاك الشكّ فهو أصل سببي ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي ، إمّا للحكومة كما هي مقالة الميرزا أو للقرينيّة كما سيأتي في محلّه.

ص: 357

والجواب : أنّ التلازم بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلّي عقلي وليس شرعيّا ، فلا يثبت باستصحاب عدم الأوّل نفي بقاء الثاني.

والجواب : أنّ الأصل السببي إنّما يكون مقدّما على الأصل المسبّبي فيما إذا كانت السببيّة والملازمة بينهما شرعيّة لا عقليّة ، وإلا فيكون من الأصل المثبت ، وهو ليس حجّة في نفسه فضلا عن تقدّمه على غيره.

ففي مثال الثوب المتنجّس المغسول بالماء المستصحب الطهارة يكون استصحاب طهارة الماء أصلا سببيّا مقدّما على استصحاب بقاء نجاسة الثوب ؛ لأنّ طهارة الماء سبب ولازم شرعي لطهارة المغسول به.

وأمّا هنا فبقاء الكلّي أو انتفاؤه ليس مسبّبا شرعيّا عن حدوث الفرد الطويل أو عدم حدوثه ، وإنّما الملازمة بينهما إثباتا أو انتفاء عقليّة ؛ لأنّ إثبات الكلّي بقاء فرع إثبات كون الفرد الطويل هو الحادث لا القصير ، وإثبات انتفائه فرع إثبات كون الفرد الطويل ليس هو الحادث بل القصير ، وهذا الإثبات إن كان وجدانيّا فالملازمة تثبت للعلم الوجداني بها ، وأمّا إن كان تعبّديّا كما في مقامنا فلا تثبت ؛ لأنّها تكون من اللوازم العقليّة للمستصحب ، والذي هو من الأصل المثبت.

وعليه فاستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يمكنه إثبات انتفاء الجامع ؛ لأنّ هذا الانتفاء مستند إلى الملازمة العقليّة لا الشرعيّة ، ومع كون الملازمة عقليّة فلا يكون الأصل السببي مقدّما على الأصل المسبّبي ؛ لأنّ سببيّته لا تثبت في نفسها. ولذلك لا يكون استصحاب عدم الفرد الطويل معارضا لاستصحاب بقاء الكلّي.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل إلى ظرف الشكّ في بقاء الكلّي ؛ لأنّ عدم الكلّي عبارة عن عدم كلا فرديه ، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء فعلا بالوجدان والفرد الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلا باستصحاب عدمه ، فهذا الاستصحاب بضمّه إلى الوجدان المذكور حجّة على عدم الكلّي فعلا ، فيعارض الحجّة على بقائه المتمثّلة في استصحاب الكلّي.

الاعتراض الخامس : أنّ استصحاب بقاء الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل من جهة الأثر الشرعي المفروض ترتّبه على الكلّي ؛ وذلك لأنّ استصحاب الكلّي نريد به إثبات بقاء الكلّي في ظرف ارتفاع الفرد القصير من أجل إثبات الأثر

ص: 358

الشرعي المترتّب على الكلّي ، والمفروض أنّ الكلّي إنّما يثبت بقاؤه بإثبات بقاء أحد فرديه ؛ لأنّ الكلّي لا يوجد ولا يبقى إلا ضمن الفرد ، ولكن انتفاء الكلّي لا يكون إلا بانتفاء كلا فرديه في الخارج.

وعليه فإثبات بقاء الكلّي غير ممكن لعدم العلم بحدوث الفرد الطويل ، وأمّا إثبات انتفائه فهو ممكن ؛ لأنّ كلا فرديه منتفيان.

أمّا الفرد القصير فهو منتف وجدانا لانتهاء أمده.

وأمّا الفرد الطويل فهو منتف تعبّدا بالاستصحاب أي باستصحاب عدم الفرد الطويل ، فإذا ضممنا الوجدان إلى التعبّد كانت النتيجة أنّه لا وجود للأفراد في الخارج ، ومع عدم وجودها لا يمكن بقاء الكلّي ؛ لأنّ وجوده في نفسه مستقلاّ عن الأفراد مستحيل.

وبذلك يكون استصحاب عدم الفرد الطويل محقّقا لموضوع عدم الكلّي بعد ضمّه إلى الوجدان ، فيكون معارضا لاستصحاب بقاء الكلّي ؛ لأنّ الأوّل ينفي وجود الكلّي وبالتالي ينفي موضوع الأثر الشرعي ، بينما الثاني يثبت موضوع الأثر الشرعي ، ومع التعارض يحكم بالتساقط.

وبتعبير آخر : إنّ انتفاء الكلّي يتحقّق بانتفاء كلا فرديه ، وهنا الفرد القصير منتف بالوجدان والفرد الطويل منتف بالتعبّد الاستصحابي ، فإذا ضممنا الوجدان إلى التعبّد تنقّح عدم الكلّي ، وبذلك يرتفع موضوع الأثر الشرعي المترتّب على الكلّي ، وبالتالي يكون استصحاب الكلّي معارضا بهذا الاستصحاب ؛ لأنّ هذا يثبت موضوع الأثر وذاك ينفيه ومع التعارض يحكم بالتساقط.

والتحقيق : أنّه تارة يكون وجود الكلّي بما هو وجود له كافيا في ترتّب الأثر على نحو لو فرض - ولو محالا - وجود الكلّي لا في ضمن حصّة خاصّة لترتّب عليه الأثر.

وأخرى لا يكون الأثر مترتّبا على وجود الكلّي إلا بما هو وجود لهذه الحصّة ولتلك الحصّة على نحو تكون كلّ حصّة موضوعا للأثر الشرعي بعنوانها.

والتحقيق في الجواب : أنّ استصحاب الكلّي واستصحاب عدم الفرد الطويل لا معارضة بينهما ؛ وذلك لعدم وحدة الموضوع فيهما ، فإنّ مورد جريان أحدهما

ص: 359

يختلف عن مورد جريان الآخر ، فإذا جرى استصحاب الكلّي لم يجر استصحاب عدم الفرد الطويل من جهة عدم تحقّق موضوعه ، وكذا العكس ، ولا حكومة بينهما أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأثر الشرعي المترتّب على الكلّي يمكن تصوّره بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي بما هو في نفسه ، أي على نحو صرف الوجود ، سواء كان موجودا في الفرد والحصّة أم لم يكن موجودا فيهما ، وإن كان وجوده لا في ضمن الفرد أو الحصّة محالا ، إلا أنّ الغرض هو بيان أنّ الأثر تابع للكلّي بصرف وجوده وليس مترتّبا على الكلّي الموجود في الفرد أو الحصّة بهذا القيد.

الثاني : أن يكون الأثر الشرعي مترتّبا على عنوان الكلّي بما هو في الحصّة والفرد أي على نحو مطلق الوجود ، فكلّ فرد أو حصّة من الكلّي تكون موضوعا للأثر الشرعي تبعا لوجود الكلّي فيها أي تبعا لمطلق وجوده فيها.

والفرق بين النحوين أنّ الأثر الشرعي على الأوّل واحد ؛ لأنّه مترتّب على الكلّي بنحو صرف وجوده ، وصرف الوجود لا يتعدّد ولا يتكثّر ، وبالتالي لا يتعدّد الحكم والأثر ؛ لعدم تعدّد معروضه ، بينما على الثاني يكون الأثر الشرعي متعدّدا ومتكثّرا ؛ لأنّه تابع لمطلق وجود الكلّي فكلّ وجود للكلّي له أثر ، وهذا يعني أنّ كلّ فرد وحصّة له أثر شرعي لوجود الكلّي فيه ، فيتعدّد الحكم والأثر لتعدّد المعروض.

وعلى هذا نقول :

فعلى الأوّل يجري استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر ، ولا يمكن نفي صرف الوجود للكلّي باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمّه إلى الوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود للكلّي بانتفاء هذه الحصّة وتلك عقلي وليس شرعيّا.

وعلى الثاني لا يجري استصحاب الكلّي في نفسه ؛ لأنّه لا ينقّح موضوع الأثر ، بل بالإمكان نفي هذا الموضوع باستصحاب عدم الفرد الطويل الأمد مع ضمّه إلى الوجدان القاضي بعدم الفرد الآخر ؛ لأنّ الأثر أثر للحصص فينفى بإحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبّد والوجدان.

أمّا النحو الأوّل : وهو ما إذا كان الأثر مترتّبا على الكلّي بنحو صرف الوجود ،

ص: 360

فهنا يجري استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر وهو صرف الوجود ؛ لتماميّة أركان الاستصحاب فيه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء والأثر الشرعي.

ولا يجري استصحاب عدم الفرد الطويل في نفسه ؛ لأنّ الأثر الشرعي ليس مترتّبا على هذه الحصّة بالخصوص ليكون استصحاب عدمها منقّحا لعدم موضوع الأثر ، بل الأثر مترتّب على صرف الوجود وهو غير هذه الحصّة أو تلك.

ولا يمكن أيضا نفي موضوع الأثر بضمّ استصحاب عدم الفرد الطويل إلى عدم الفرد القصير الثابت بالوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود بانتفاء كلا الفردين لازم عقلي وليس لازما شرعيّا ، فيكون انتفاؤه من الأصل المثبت وهو ليس حجّة.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان الأثر مترتّبا على الكلّي بنحو مطلق الوجود ، فهنا لا يجري استصحاب الكلّي لعدم تماميّة أركانه ؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر الشرعي هو الكلّي الموجود في هذه الحصّة أو تلك ، لا الكلّي بنحو صرف الوجود ، وهذا يعني أنّ الحصّة هي موضوع الأثر ، والمفروض أنّ الحصّة ضمن الفرد القصير يعلم بارتفاعها وجدانا ، والحصّة ضمن الفرد الطويل يعلم بارتفاعها تعبّدا بالتعبّد الاستصحابي.

ولذلك يكون استصحاب عدم الفرد الطويل منقّحا لنفي موضوع الأثر بعد ضمّ الوجدان إليه ؛ لأنّه إذا لفّقنا بينهما سوف ينتفي وجود الكلّي بنحو مطلق الوجود في هذه الحصّة وتلك ، وبالتالي ينتفي الأثر الشرعي لانتفاء موضوعه.

وأمّا استصحاب الكلّي بنحو صرف الوجود فهو لا ينقّح موضوع الأثر ، إذ لا يثبت الكلّي لا ضمن هذه الحصّة ولا ضمن تلك.

وبهذا يظهر : أنّنا إذا لاحظنا الكلّي بنحو صرف الوجود جرى استصحاب الكلّي وترتّب عليه الأثر ، وإذا لاحظناه بنحو مطلق الوجود جرى استصحاب عدم الفرد الطويل لنفي موضوع الأثر بعد ضمّ الوجدان إليه.

وبذلك يتّضح أنّه لا وجه للمعارضة أو لحكومة أحد الاستصحابين على الآخر ؛ لأنّهما لن يجتمعا معا في مورد واحد.

وأمّا الحالة الثانية من القسم الثاني فهي : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبّب للشكّ في بقاء الكلّي شكّا بدويّا.

ص: 361

ومثاله : أن يعلم بوجود الكلّي ضمن فرد ويعلم بارتفاعه تفصيلا ، ويشكّ في انحفاظ وجود الكلّي في ضمن فرد آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع الفرد الأوّل أو قبل ذلك ، ويسمّى هذا في كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي ، وقد يتخيّل جريانه على أساس تواجد أركانه في العنوان الكلّي ، وإن لم تكن متواجدة في كلّ من الفردين بالخصوص.

الحالة الثانية : أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّبا عن الشكّ في حدوث الفرد ، ولكنّ الشكّ في حدوث الفرد ليس شكّا مقرونا بالعلم الإجمالي ، بل شكّ بدوي بالحدوث.

مثاله : أن يعلم بدخول زيد إلى المسجد فيعلم بدخول كلّي الإنسان ، ثمّ يعلم بخروج زيد من المسجد ، ولكن يشكّ في ارتفاع كلّي الإنسان وبقائه من أجل الشكّ في أنّ عمرا هل دخل المسجد أيضا مع زيد أو قبله أو لم يدخل المسجد أصلا؟ فيشكّ في بقاء الكلّي ضمن فرد آخر غير الفرد الذي علم حدوثه ضمنه.

وهذا الشكّ في البقاء مسبّب عن الشكّ البدوي في الفرد ؛ إذ لا علم تفصيلا ولا إجمالا بدخول عمرو أيضا إلى المسجد.

وهذا القسم يسمّى في كلمات الأصوليّين بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وقد يقال : إنّ استصحاب الكلّي في هذا القسم يجري لتماميّة أركانه بلحاظ الكلّي ، إذ هو معلوم الحدوث ومشكوك البقاء فيستصحب ، نعم بلحاظ الفرد لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه بلحاظ الفرد الأوّل لا شكّ في البقاء للعلم بارتفاعه ، وبلحاظ الفرد الثاني لا يقين بالحدوث إذ هو مشكوك الحدوث ابتداء.

وهذا القول إنّما يتصوّر بناء على كون الكلّي له وجود مستقلّ عن الأفراد كما هي مقالة الرجل الهمداني ، ولذلك عبّر السيّد الشهيد عنه بالتخيّل.

ولكن يندفع هذا التخيّل بأنّ العنوان الكلّي وإن كان هو مصبّ الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع ، فلا بدّ أن يكون متيقّن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فان في واقعه ومرآة للوجود الخارجي.

ومن الواضح أنّه بما هو كذلك ليس جامعا للأركان ، إذ ليس هناك واقع خارجي يمكن أن نشير إليه بهذا العنوان الكلّي ونقول بأنّه متيقّن الحدوث مشكوك

ص: 362

البقاء لنستصحبه بتوسّط العنوان الحاكي عنه وبمقدار حكايته ، خلافا للحالة السابقة التي كانت تشتمل على واقع من هذا القبيل.

والصحيح : عدم جريان الاستصحاب حتّى على ما اخترناه في حقيقة الكلّي من كونه العنوان الحاكي عن الواقع ، فضلا عن كون الكلّي هو الحصّة.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا قلنا : إنّ الكلّي عبارة عن الحصّة فالحصّة التي يعلم بحدوث الكلّي فيها يعلم بارتفاعها ، والحصّة التي يشكّ في بقاء الكلّي فيها مشكوكة الحدوث ، فلم تتمّ أركان الاستصحاب لا في هذه الحصّة ولا في تلك.

وأمّا على ما ذكرناه من كون الكلّي هو العنوان الحاكي إجمالا عن الواقع ، فالاستصحاب إنّما يجري فيه بقدر حكاية هذا العنوان عن الواقع ، إذ من الواضح أنّ الاستصحاب لا يجري بلحاظ العنوان بما هو أمر ذهني كما تقدّم سابقا.

وعليه فالعنوان الكلّي يحكي حدوثا عن الفرد الذي علم تفصيلا بارتفاعه ، وهذا يعني أنّ حكايته بلحاظ الحدوث لا شكّ في بقائها ؛ لأنّه يعلم بارتفاعها ، وأمّا حكايته عن الفرد المشكوك حدوثه فهي غير معلومة الحدوث ؛ لأنّ هذا الفرد لا يقين بحدوثه.

ولذلك فلا يصدق على المقام أنّه يوجد حكاية معلومة الحدوث ومشكوكة البقاء ليجري استصحابها.

وبتعبير آخر : إنّ العنوان الكلّي الذي يكون مجرى للاستصحاب هو العنوان الحاكي عن الخارج ، فلا بدّ أن تكون الحكاية متيقّنة الحدوث ومشكوكة البقاء لكي تستصحب ، وهنا الحكاية بمقدار الحدوث وإن كانت معلومة إلا أنّها معلومة الارتفاع أيضا ؛ لأنّ الفرد الذي علم بحدوثه علم بارتفاعه أيضا ، فلم يبق إلا الفرد الآخر والحكاية عنه مشكوكة الحدوث ابتداء ، فلم يصدق أنّه يوجد عنوان متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

وهذا خلافا للحالة السابقة فإنّه كان يصدق لدينا وجود عنوان متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء ، إذ لا علم بارتفاع الفرد الذي كان حادثا تفصيلا ؛ لأنّه لا يعلم أيّ الفردين هو الحادث ، ولذلك يعلم بأصل الحدوث إجمالا ضمن أحد الفردين ، ويشكّ في ارتفاعه عند ارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر ، فيستصحب لتماميّة أركان الاستصحاب بلحاظ العنوان الكلّي دون الفرد ، كما تقدّم.

* * *

ص: 363

ص: 364

الاستصحاب في الموضوعات المركّبة

اشارة

ص: 365

ص: 366

4 - الاستصحاب في الموضوعات المركّبة

إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطا وتمّت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا إشكال. وأمّا إذا كان الموضوع مركّبا من عناصر متعدّدة ، فتارة نفترض أنّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقيّد أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم كعنوان ( المجموع ) أو ( اقتران هذا بذاك ) ، ونحو ذلك.

وأخرى نفترض أنّ هذه العناصر بذواتها أخذت موضوعا للحكم الشرعي بدون أن يدخل في الموضوع أيّ عنوان من ذلك القبيل.

تارة يكون الموضوع بسيطا أي ليس أمرا مركّبا من أجزاء كالعدالة مثلا ، وأخرى يكون الموضوع مركّبا من أجزاء كطهارة الماء ونجاسته والصلاة ، ونحو ذلك.

فإن كان الموضوع بسيطا جرى الاستصحاب لتماميّة أركانه ، فعدالة زيد إن كانت متيقّنة الثبوت وشكّ في بقائها جرى استصحابها ، وإن كانت متيقّنة الارتفاع وشكّ في حدوثها جرى استصحاب عدمها. وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أصوليّا.

وإن كان الموضوع مركّبا من أجزاء وعناصر متعدّدة ومتغايرة كطهارة الماء ونجاسته ، فإنّ موضوع الحكم بالنجاسة مركّب من جزءين الماء والملاقاة ، وكذا الحكم بالانفعال للماء القليل فإنّه مركّب من الملاقاة والرطوبة ، وهكذا.

فهنا توجد حالتان :

الأولى : أن تكون هذه العناصر والأجزاء لوحظت بنحو التقيّد والاتّصاف ، أي تقيّد هذا الجزء بذاك ، أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعا للحكم كعنوان اقتران هذا بذاك ، أو عنوان مجموع الجزءين أو الأجزاء ، والتي هي نسبة منتزعة من ضمّ هذا الجزء إلى ذاك أو انضمامه إليه.

كأن يقال مثلا : إنّ ملاقاة الماء للرطب النجس توجب الانفعال.

ص: 367

الثانية : أن تكون هذه العناصر والأجزاء لوحظت بذواتها أي بما هي في نفسها من دون ملاحظة اتّصافها بالجزء الآخر أو اقترانها به ، وإنّما كان وجود هذا الجزء بذاته ووجود ذاك الجزء الآخر بذاته في زمان واحد تمام الموضوع للحكم الشرعي ، كأن يقال : إن وجد ماء قليل وكانت الملاقاة مع النجس متحقّقة أيضا في نفس الزمان فيحكم بالانفعال.

والحاصل : أنّ تركّب الموضوع على نحوين :

1 - أن تلحظ الأجزاء بما هي مقترنة ومتّصفة ومقيّدة بعضها بالبعض الآخر.

2 - أن تلحظ الأجزاء بما هي في نفسها من دون ملاحظة اتّصافها واقترانها بالأجزاء الأخرى.

ففي الحالة الأولى لا مجال لإجراء الاستصحاب في ذوات الأجزاء ؛ لأنّه إن أريد به إثبات الحكم مباشرة فهو متعذّر ؛ لترتّبه على العنوان البسيط المتحصّل ، وإن أريد به إثبات الحكم بإثبات ذلك العنوان المتحصّل فهو غير ممكن ؛ لأنّ عنوان الاجتماع والاقتران ونحوه لازم عقلي لثبوت ذوات الأجزاء فلا يثبت باستصحابها.

فالاستصحاب في هذه الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصّل ، فمتى شكّ في حصوله جرى استصحاب عدمه حتّى ولو كان أحد الجزءين محرزا وجدانا ، والآخر معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء فعلا.

أمّا في الحالة الأولى : وهي حالة أخذ الاقتران أو التقيّد أو الاتّصاف بين الجزءين أو الأجزاء موضوعا للحكم - فهنا لا يجري استصحاب ذات الجزء ، والوجه في ذلك هو : أنّه إن أريد باستصحاب ذات الجزء إثبات الحكم الشرعي ابتداء ومباشرة من دون إثبات ذلك العنوان البسيط المنتزع والمتحصّل من مجموع الأجزاء والذي هو عنوان الاتصاف أو الاقتران أو التقيّد ، فهذا غير ممكن بحسب الفرض ؛ إذ المفروض أنّ الحكم مترتّب على العنوان البسيط المنتزع والمتحصّل لا على ذوات الأجزاء ، فاستصحاب الجزء بذاته لا يجري ؛ لأنّه لا يترتّب عليه أثر تنجيزي أو تعذيري.

وإن أريد بذلك إثبات ذاك العنوان البسيط المتحصّل الذي هو موضوع الحكم فهذا معقول في نفسه ، إلا أنّ ترتّب ذلك العنوان على استصحاب ذات الجزء لازم عقلي

ص: 368

وليس لازما شرعيّا ، فيكون ثبوته على أساس الملازمة العقليّة من الأصل المثبت ، حيث إنّ انضمام هذا الجزء إلى ذاك ينتزع منه عقلا عنوان الاقتران والاتّصاف والتقيّد.

نعم ، يمكن جريان الاستصحاب بلحاظ نفس العنوان المتحصّل ، أي عنوان الاتّصاف والتقيّد بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الاتّصاف والتقيّد ثابتا سابقا وشكّ في بقائه وارتفاعه فيستصحب بقاؤه.

الثاني : ألاّ يكون هذا العنوان ثابتا في السابق وشكّ في حصوله فيستصحب عدمه.

وبذلك ظهر أنّه لو كان أحد الجزءين ثابتا بالوجدان فلا يكفي ثبوت الجزء الآخر بالتعبّد الاستصحابي حتّى لو كانت أركانه فيه تامّة من اليقين بالحدوث سابقا والشكّ في البقاء لاحقا ؛ وذلك لأنّ الحكم ليس مترتّبا على نفس عنوان الجزءين بذاتيهما ، وإنّما مترتّب على عنوان الاتّصاف والاقتران والتقيّد المنتزع من ضمّ هذا إلى ذاك ، وهذا العنوان لازم عقلي لثبوت ذات الجزءين.

فمثلا إذا كان لدينا ماء قليل وشكّ في الملاقاة للنجس جرى استصحاب عدمها ، وكذا لو كان لدينا شيء ملاق للنجس وشكّ في كون الملاقاة مع الرطوبة جرى استصحاب عدمها ، وبالتالي لا يحكم بالانفعال والتنجّس ، وإنّما يحكم بالطهارة على أساس قاعدة الطهارة أو على أساس استصحاب الطهارة إن كانت متيقّنة سابقا.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء ثبوتا أو عدما إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها.

وأمّا في الحالة الثانية : وهي حالة ما إذا كان الحكم مترتّبا على نفس عنوان الأجزاء - أي ذات الأجزاء - فهنا يجري الاستصحاب بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون أحد الجزءين معلوما وجدانا والجزء الآخر مشكوك ، ويفترض أنّ حالته السابقة هي عدم الثبوت ، فهنا يجري استصحاب عدم حصوله ، وبالتالي ينتفي الحكم لانتفاء موضوعه.

الثاني : أن يكون أحد الجزءين معلوما وجدانا والجزء الآخر مشكوك ، ولكن حالته السابقة هي الثبوت والشكّ في بقائه ، فهنا يجري استصحاب بقائه ، وبالتالي يثبت

ص: 369

الحكم لثبوت موضوعه المركّب من جزءين ، حيث إنّ أحدهما ثابت بالوجدان والآخر ثابت بالتعبّد ، فبضمّ الوجدان إلى التعبّد يثبت الموضوع ويترتّب عليه حكمه ، حيث إنّ الحكم مترتّب على ذات الجزءين لا على ذاك العنوان المتحصّل منهما كعنوان الاتّصاف أو التقيّد أو الاقتران.

ومن هنا يعلم بأنّ الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركّب وعناصره بشرط ترتّب الحكم على ذوات الأجزاء أوّلا ، وتوفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ثانيا.

وبهذا يعلم أنّ جريان الاستصحاب في الأجزاء بالنسبة للموضوع المركّب أو بالنسبة للعناصر التي تركّب منها الموضوع موقوف على تحقّق أمرين :

1 - أن يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان المنتزع منها.

2 - أن يكون لهذا الجزء حالة سابقة متيقّنة ويشكّ في بقائها.

فإذا تحقّق هذان الأمران جرى الاستصحاب ، وتنقّح بذلك الموضوع للحكم نفيا أو إثباتا ، وإذا اختلّ أحدهما لم يجر الاستصحاب.

هذا على نحو الإجمال ، وأمّا تحقيق المسألة على وجه كامل فالبحث في ثلاث نقاط :

إحداهما : في أصل هذه الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب في أجزاء الموضوع ضمن الشرطين.

والنقطة الثانية : في تحقيق صغرى الشرط الأوّل ، وأنّه متى يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء؟

والنقطة الثالثة : في تحقيق صغرى الشرط الثاني ، وأنّه متى يكون الشكّ في البقاء محفوظا؟

وتحقيق الحال بالنسبة للحالة الثانية يقع ضمن ثلاث نقاط :

النقطة الأولى : في أصل الكبرى القائلة بأنّ الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع ضمن الشرطين السابقين ، أي :

1 - أن يكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء.

2 - أن يكون للجزء المشكوك حالة سابقة متيقّنة ويشكّ في بقائها.

ص: 370

والبحث هنا في أصل إثبات هذه الكبرى في مقابل إنكارها ، حيث توجد شبهة تعترض هذه الكبرى لا بدّ من حلّها أوّلا.

النقطة الثانية : في تحقيق حال صغرى الشرط الأوّل أي كون الموضوع هو ذوات الأجزاء ، فالبحث هنا يقع في إعطاء الضابطة الكلّيّة التي على أساسها نميّز كون الموضوع هو ذوات الأجزاء ، وهذا البحث صغروي.

النقطة الثالثة : في تحقيق حال صغرى الشرط الثاني - أي تماميّة أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء - حيث يقع البحث هنا حول انحفاظ الشكّ في البقاء وعدمه ، وهذا بحث صغروي أيضا.

أمّا النقطة الأولى : فالمعروف بين المحقّقين أنّه متى كان الموضوع مركّبا وافترضنا أنّ أحد جزأيه محرز

بالوجدان أو بتعبّد ما ، فبالإمكان إجراء الاستصحاب في الجزء الآخر ؛ لأنّه ينتهي إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم المترتّب على الموضوع المركّب.

أمّا النقطة الأولى : فالمعروف بين الأصوليّين جريان الاستصحاب هنا ، أي فيما إذا كان الموضوع مركّبا وكان الحكم منصبّا على ذوات الأجزاء ، فإذا افترضنا أنّ أحد جزأي الموضوع ثابت ومحرز إمّا وجدانا وإمّا بتعبّد ما جرى الاستصحاب في الجزء الآخر ؛ لتماميّة أركانه فيه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، والانتهاء إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم الشرعي في المقام ، حيث إنّ المفروض أنّ الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من ذوات الأجزاء.

فمثلا إذا أحرز كون الماء قليلا إمّا وجدانا بأن علمنا بذلك ، وإمّا تعبّدا بأن أخبر الثقة بذلك ، وشككنا في حصول الجزء الآخر كالملاقاة وكانت متيقّنة سابقا جرى استصحابها ، ويترتّب على ذلك تنجّز الحكم بالانفعال والنجاسة.

وقد يواجه ذلك باعتراض وهو : أنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل الحكم المماثل للمستصحب ، والمستصحب هنا - وهو الجزء - ليس له حكم ليجعل في دليل الاستصحاب مماثله ، وما له حكم - وهو المركّب - ليس مصبّا للاستصحاب.

ويشكل على استصحاب الجزء - بناء على أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل للمستصحب - بأنّ المستصحب - وهو الجزء - لا يترتّب عليه حكم

ص: 371

لكي يجعل حكم مماثل له بدليل الاستصحاب ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من الجزءين لا على خصوص هذا الجزء أو ذاك ، وهذا يعني أنّ المستصحب ليس فيه أثر عملي فلا يجري استصحابه.

وما يترتّب عليه الحكم - وهو الموضوع المركّب - لم يجر استصحابه بحسب الفرض ؛ لأنّه غير متيقّن سابقا.

والحاصل : أنّ ما جرى استصحابه ليس له أثر عملي ، وما له أثر عملي لم يجر استصحابه.

وهذا الاعتراض يقوم على الأساس القائل بجعل الحكم المماثل للمستصحب في دليل الاستصحاب ، ولا موضع له على الأساس القائل بأنّه يكفي في تنجيز الحكم وصول كبراه ( الجعل ) وصغراه ( الموضوع ) كما عرفت سابقا ، إذ على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذا أثر عمليّ إلى التعبّد بالحكم المماثل ، بل مجرّد وصول أحد الجزءين تعبّدا مع وصول الجزء الآخر بالوجدان كاف في تنجيز الحكم الواصلة كبراه ؛ لأنّ إحراز الموضوع بنفسه منجّز لا بما هو طريق إلى إثبات فعليّة الحكم المترتّب عليه ، وبهذا نجيب على الاعتراض المذكور.

والجواب : أنّ هذا الإشكال نشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل ، فإنّه على هذا المبنى لا بدّ أن يكون للمستصحب أثر عملي يترتّب عليه لكي يعقل جعل الحكم المماثل له بدليل الاستصحاب ، وحيث إنّ الجزء وحده لا يترتّب عليه أثر فالتعبّد الاستصحابي به غير ممكن ؛ إذ لا يمكن جعل حكم مماثل للحكم المجعول على هذا الجزء ؛ لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على هذا الجزء أيّ حكم ، وإنّما الحكم مترتّب على الموضوع المركّب من الجزءين.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ، بل الصحيح ما تقدّم من أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين بأحد المعاني الثلاثة المتقدّمة ، وعليه فيكفي الانتهاء إلى الأثر العملي التنجيزي أو التعذيري على المستصحب.

مضافا إلى أنّ التنجيز يكفي فيه وصول الكبرى والصغرى ، أي الجعل والموضوع.

وفي مقامنا الكبرى واصلة أي ( الجعل ) حيث نعلم بأنّ الماء القليل إذا لاقى النجاسة فإنّه ينفعل بملاقاتها ، يبقى وصول الصغرى أي ( الموضوع ) وهنا أحد جزأي

ص: 372

الموضوع واصل إمّا وجدانا وإمّا تعبّدا ككون الماء قليلا إمّا بالعلم وإمّا بالأمارة ، والجزء الآخر ثابت ومحرز بالاستصحاب ، وبذلك يتحقّق وصول الموضوع ، والمفروض أنّ الجعل واصل فتتحقّق المنجّزيّة.

ولا نحتاج إلى أن يكون المستصحب ذا أثر عمليّ لكي يجعل حكم مماثل له.

وبهذا يظهر : أنّ وصول الموضوع كاف لحصول المنجّزيّة ، ولكن وصول الموضوع كذلك إنّما يثبت المنجّزيّة لأنّ الكبرى واصلة أيضا ، لا أنّ الموضوع نفسه هو الذي يثبت المنجّزيّة والفعليّة للحكم ، وإلا لكان الاستصحاب بالنسبة للجزء الآخر من الأصل المثبت ؛ لأنّ الفعليّة لا تترتّب على هذا الجزء بخصوصه ، بل بعد ضمّ الجزء الآخر إليه يحكم العقل بالفعليّة ، كما هو مسلك المحقّق النائيني.

وأمّا إذا أخذنا بفكرة جعل الحكم المماثل في دليل الاستصحاب فقد يصعب التخلّص الفنّي من الاعتراض المذكور ، وهناك ثلاثة أجوبة على هذا الأساس :

وأمّا إذا أخذنا بمسلك جعل الحكم المماثل ، فيشترط أن يكون المستصحب ذا أثر عمليّ يترتّب عليه لكي يؤدّي التعبّد الاستصحابي به إلى جعل حكم مماثل للحكم المترتّب عليه ، وبذلك يكون الاعتراض واردا على هذا المسلك ، ويصعب التخلص منه فنّيّا.

وما ذكر جوابا على ذلك غير تامّ ، ونذكر هنا ثلاثة أجوبة على أساس هذا المسلك هي :

الجواب الأوّل : أن الحكم بعد وجود أحد جزأي موضوعه وجدانا لا يكون موقوفا شرعا إلا على الجزء الآخر ، فيكون حكما له ، ويثبت باستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهرا.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مجرّد تحقّق أحد الجزءين وجدانا لا يخرجه عن الموضوعيّة وإناطة الحكم به شرعا ؛ لأنّ وجود الشرط للحكم لا يعني بطلان الشرطيّة ، فلا ينقلب الحكم إلى كونه حكما للجزء الآخر خاصّة.

الجواب الأوّل : أنّ الحكم الشرعي وإن كان مترتّبا على ذات الجزءين لا على أحدهما بالخصوص ، إلا أنّه بعد أن كان أحد الجزءين ثابتا ومحرزا بالوجدان أو بالتعبّد صار الحكم الشرعي موقوفا على حصول الجزء الآخر ، فيكون الحكم حكما للجزء

ص: 373

الآخر ، وعليه فباستصحاب الجزء الآخر يثبت الحكم المماثل لهذا الحكم الموقوف على هذا الجزء ، فكان الاستصحاب ممّا يمكن جعل الحكم المماثل على المستصحب.

وفيه : أنّ هذا مبني على أنّ الحكم المشروط ينقلب إلى الحكم المطلق بعد تحقّق شرطه ، وهذا باطل كما تقدّم بيانه في بحث الحكم المشروط ، وعليه فمجرّد ثبوت أحد الجزءين بالوجدان لا يعني أنّ هذا الجزء خرج عن كونه جزءا من موضوع الحكم الشرعي ، وبالتالي فالحكم الشرعي لا يزال مترتّبا على ذات الجزءين لا على الجزء الآخر فقط ، فاستصحاب الجزء الآخر ممّا لا يترتّب عليه حكم شرعي فكيف يجعل الحكم المماثل له بالاستصحاب؟!

الجواب الثاني : أنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب ينحل تبعا لأجزاء موضوعه ، فينال كلّ جزء مرتبة وحصّة من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضي جعل الحكم المماثل لتلك المرتبة التي ينالها ذلك الجزء بالتحليل.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التقسيط تبعا لأجزاء الموضوع غير معقول ؛ لوضوح أنّ الحكم ليس له إلا وجود واحد لا يتحقّق إلا عند تواجد تلك الأجزاء جميعا.

الجواب الثاني : أنّ الحكم وإن كان مترتّبا على الموضوع المركّب ، إلا أنّه ينحلّ تبعا لأجزاء الموضوع ، فكلّ جزء من الموضوع يناله حصّة ومرتبة من الحكم ، وعليه فالجزء الآخر الذي يراد إجراء استصحابه - بناء على جعل الحكم المماثل - يثبت باستصحابه مرتبة من الحكم مماثلة لتلك المرتبة التي حصل عليها عند انحلال الحكم.

وفيه : أنّه وقع خلط بين انحلال الحكم بلحاظ الموضوع وبلحاظ المتعلّق ، فالحكم ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بلحاظ المتعلّق أي أنّه كلّما تحقّق المتعلّق كان له حكم خاصّ به ، ففي قولنا : ( أكرم العالم ) يتعدّد وجوب الإكرام بتعدّد وجود العالم في الخارج ، وكذا في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) تتعدّد الحرمة بتعدّد الشرب.

وأمّا بلحاظ الموضوع فلا يتعدّد الحكم ؛ لأنّ الحكم واحد وهو بحسب الفرض مترتّب على ذات الجزءين لا على أحدهما بالخصوص ، وهذا يعني أنّه إذا وجدت الأجزاء جميعا ثبت الحكم وإن لم تثبت لم يكن للحكم وجود أصلا ، لا أنّه يوجد بعض الحصص والمراتب من الحكم ، وإلا لصار الحكم مترتّبا على كلّ جزء جزء بخصوصه وهو خلف المفروض.

ص: 374

الجواب الثالث : أنّ كلّ جزء موضوع لحكم مشروط ، وهو الحكم بالوجوب مثلا على تقدير تحقّق الجزء الآخر ، فاستصحاب الجزء يتكفّل جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا الحكم المشروط ليس مجعولا من قبل الشارع ، وإنّما هو منتزع عن جعل الحكم على الموضوع المركّب ، فيواجه نفس الاعتراض الذي واجهه الاستصحاب في الأحكام المعلّقة.

الجواب الثالث : أنّ الحكم وإن كان مترتّبا على الموضوع المركّب ، إلا أنّه ينحلّ إلى الحكم المشروط بتعدّد الأجزاء ، فيقال : إنّ الملاقاة توجب النجاسة بشرط كون الماء قليلا ، والماء القليل يحكم بانفعاله بشرط تحقّق الملاقاة للنجس ، وهكذا. فكلّ جزء من أجزاء الموضوع يثبت له حكم مشروط.

وعليه ، فاستصحاب الجزء الآخر يترتّب عليه حكم مماثل لهذا الحكم المشروط فيجري استصحابه.

وفيه : أوّلا : أنّ الحكم المشروط هنا ليس مجعولا من الشارع ، بل هو أمر منتزع من جعل الحكم على موضوعه المركّب ، وهذا يعني أنّه لم يثبت الحكم المشروط لكلّ جزء من الأجزاء شرعا.

وثانيا : لو سلّمنا بالحكم المشروط لكلّ جزء من الأجزاء إلا أنّ ترتّب الحكم الفعلي على استصحاب الجزء يبتلي بنفس الإشكال المتقدّم في الاستصحاب التعليقي - بناء على كون الفعليّة والمنجّزيّة تابعة لتحقّق الموضوع في الخارج - حيث إنّه باستصحاب الجزء يثبت الحكم المشروط فقط ، وهذا وحده لا يكفي للمنجّزيّة والفعليّة ، وإنّما تثبت المنجّزيّة والفعليّة بعد ضمّ الجزء الآخر إليه فينتزع من المجموع تحقّق الموضوع والفعليّة ، وهذا لازم عقلي فيكون من الأصل المثبت.

وبهذا يظهر أنّ هذا الإشكال لا يمكن الجواب عنه إلا بإنكار مسلك جعل الحكم المماثل.

وأمّا النقطة الثانية : فقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) : أنّ الموضوع تارة يكون مركّبا من العرض ومحلّه كالإنسان العادل ، وأخرى مركّبا من عدم العرض

ص: 375


1- فوائد الأصول 4 : 504 - 505.

ومحلّه كعدم القرشيّة والمرأة ، وثالثة مركّبا على نحو آخر كالعرضين لمحلّ واحد مثل الاجتهاد والعدالة في المفتي ، أو العرضين لمحلّين كموت الأب وإسلام الابن.

وأمّا النقطة الثانية - وهي إعطاء الضابط الكلّي لكون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء لا على العنوان الانتزاعي المتحصّل منها - فقد ذكر المحقّق النائيني أنّ النسبة بين الأجزاء لا تخلو من أحد أمور ثلاثة هي :

أوّلا : أن تكون النسبة بين الجزءين نسبة العرض إلى محلّه ، كالإنسان العالم أو العادل ، كما إذا قيل : أكرم الإنسان العالم أو العادل ، فهنا الحكم منصبّ على الموضوع المركّب من الجزءين ، والنسبة بينهما نسبة العرض إلى محلّه ؛ لأنّ الإنسان محلّ لعروض العلم والعدالة.

ثانيا : أن تكون النسبة بين الجزءين نسبة عدم العرض إلى محلّه ، كالمرأة وعدم القرشيّة بالنسبة للحيض ورؤية الدم بعد الخمسين ، فالحكم بعدم كون ما يخرج من الدم بعد الخمسين حيضا موضوعه المرأة وعدم القرشيّة ، وهنا المرأة محلّ لعروض عدم القرشيّة.

ثالثا : أن تكون النسبة بين الجزءين أو الأجزاء نسبة العرضين لمحلّ واحد ، أو نسبة العرضين لمحلّين مختلفين.

أمّا الأوّل فمثاله اشتراط العدالة والاجتهاد في المفتي ، فإنّ العدالة والاجتهاد عرضان على المفتي.

أمّا الثاني فمثاله اشتراط موت الأب وإسلام الابن للحكم بإرث الولد من أبيه ، فهنا الموت عرض على الأب والإسلام عرض على الابن ، فهما عرضان لمحلّين مختلفين ، وهكذا بالنسبة للبلوغ ووقت الصلاة على المكلّف ، فإنّ البلوغ عرض للمكلّف ووقت الصلاة كزوال الشمس عرض على الزمان ، فهنا ثلاث حالات من التركيب بين الأجزاء.

ففي الحالة الأولى : يكون التقيّد مأخوذا ؛ لأنّ العرض يلحظ بما هو وصف لمحلّه ومعروضه وحالة قائمة به ، فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إذا كان له حالة سابقة.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كانت النسبة بين الأجزاء نسبة العرض إلى محلّه

ص: 376

كالعدالة والإنسان ، فهنا يكون الموضوع المركّب مأخوذا بنحو التقيّد والاتّصاف.

والوجه في ذلك : أنّ العرض يلحظ في معروضه بما هو حالة قائمة به ووصف يحلّ فيه ، فلا يرى ذات العرض وذات المعروض ، وإنّما يرى التقيّد والاتّصاف المنتزع منهما وهو الإنسان العادل لا الإنسان بذاته ولا العدالة بذاتها ، بل الحصّة الخاصّة من الإنسان والعدالة ، فلا الإنسان بأيّ وصف كان ولا العدالة في أيّ محلّ كانت.

ومن هنا لا يجري الاستصحاب بلحاظ ذات الجزء ؛ لأنّه ليس هو موضوع الحكم ، إذ الموضوع هو ذاك العنوان المنتزع والمتحصّل ، وهذا لا يثبت باستصحاب ذات الجزء إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

نعم ، إذا كان التقيّد له حالة سابقة متيقّنة ثمّ شكّ في بقائها وارتفاعها جرى استصحابها ، كما إذا كانت عدالة زيد متيقّنة وشكّ في بقائها فيجري استصحاب اتّصاف زيد بالعدالة ويترتّب عليها الحكم ؛ لأنّ المستصحب هو اتّصاف زيد بالعدالة وتقيّده بها لا العدالة ذاتها ولا زيد ذاته.

وفي الحالة الثانية : يكون تقيّد المحلّ بعدم العرض مأخوذا في الموضوع ؛ لأنّ عدم العرض إذا أخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له ، وهو ما يسمّى بالعدم النعتي تمييزا له عن العدم المحمولي الذي يلاحظ فيه العدم بما هو ، ويترتّب على ذلك أنّ الاستصحاب إنّما يجري في نفس التقيّد والعدم النعتي ؛ لأنّه الدخيل في موضوع الحكم ، فإذا لم يكن العدم النعتي واجدا لركني اليقين والشكّ ، وكان الركنان متوفّرين في العدم المحمولي لم يجر استصحابه ؛ لأنّ العدم المحمولي لا أثر شرعي له بحسب الفرض.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كانت النسبة بين الجزءين نسبة عدم العرض إلى محلّه ، كالمرأة مع عدم القرشيّة ، فهنا أيضا يكون الموضوع المركّب مأخوذا بنحو التقيّد والاتّصاف.

والوجه في ذلك هو : أنّ عدم العرض كعدم القرشيّة إذا أخذ قيدا في الموضوع الذي يحلّ فيه العرض وهو المرأة التي تعرض عليها القرشيّة ، فهذا معناه أنّ عدم العرض مأخوذ وصفا ونعتا للمحلّ ، فكما تلحظ المرأة مع العرض ويكون العرض وصفا لها كذلك عند ما تلحظ المرأة مع عدم العرض يكون العدم وصفا لها ، وهذا ما يسمّى بالعدم النعتي.

ص: 377

وهناك عدم آخر يسمّى بالعدم المحمولي ، والفرق بينهما هو : أنّ العدم النعتي يلحظ فيه العدم بما هو وصف للمحلّ ، ولذلك لا بدّ من افتراض الموضوع والمحلّ أوّلا ثمّ يعرض عليه العدم ، من باب القضيّة المعدولة المحمول ، فيقال : المرأة غير القرشيّة ، وهذا العدم لا يثبت إلا بعد فرض تحقّق الموضوع.

وأمّا العدم المحمولي فهو ملاحظة العدم بما هو في نفسه غير مأخوذ وصفا للمحلّ ، وبذلك يثبت هذا العدم سواء كان الموضوع متحقّقا أم لا ، فيقال : ليست المرأة قرشيّة بنحو القضيّة السالبة التي تصدق حتّى مع عدم وجود الموضوع ، ولذلك يكون مرادفا للعدم الأزلي الثابت منذ القدم.

ويترتّب على ذلك : أنّ الاستصحاب إنّما يجري في نفس التقيّد والاتّصاف بالعدم النعتي ؛ لأنّه هو الدخيل في موضوع الحكم ، ولا يجري في العدم المحمولي أو العدم الأزلي.

فإذا كانت أركان الاستصحاب متوفّرة بلحاظ العدم النعتي جرى الاستصحاب ويترتّب عليه الحكم لثبوت موضوعه.

كما إذا قيل : أكرم الإنسان غير الفاسق ، وكان زيد متّصفا بعدم الفسق سابقا وشكّ في بقائه وارتفاعه ، فهنا يستصحب اتّصافه بعدم الفسق والذي هو العدم النعتي ، ويترتّب عليه وجوب الإكرام.

وأمّا إذا لم تكن أركان الاستصحاب متوفّرة في العدم النعتي فلا يجري استصحاب اتّصافه بهذا العدم ، كما إذا لم يكن عدم الفسق متيقّنا سابقا بل كان مشكوكا ، فهنا لا يجري استصحاب العدم النعتي لعدم اليقين بحدوثه.

وأمّا العدم المحمولي فاستصحابه لا يجري سواء كانت أركان الاستصحاب فيه تامّة أم لا ، أمّا إذا لم تكن تامّة فواضح ، وأمّا إذا كانت تامّة فلأنّ المفروض أنّ الأثر الشرعي مترتّب على العدم النعتي لا العدم المحمولي فيختلّ الركن الرابع.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني (1) إلى عدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقّن قبل وجود الموضوع ، ويسمى باستصحاب العدم الأزلي.

فإذا شكّ في نسب المرأة وقرشيّتها لم يجر استصحاب عدم قرشيّتها الثابت

ص: 378


1- فوائد الأصول 4 : 507.

قبل وجودها ؛ لأنّ هذا عدم محمولي وليس عدما نعتيّا ؛ إذ إنّ العدم النعتي وصف والوصف لا يثبت إلا عند ثبوت الموصوف ، فإذا أريد إجراء استصحاب العدم المحمولي لترتيب الحكم عليه مباشرة فهو متعذّر ؛ لأنّ الحكم مترتّب بحسب الفرض على العدم النعتي لا المحمولي ، وإذا أريد بذلك إثبات العدم النعتي - لأنّ استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتي - فهذا أصل مثبت.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني إلى عدم جريان استصحاب العدم النعتي ، وإلى عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان عدم العرض متيقّنا قبل وجود الموضوع.

ففي مثال المرأة وعدم القرشيّة بحيث كان عدم القرشيّة وصفا ونعتا للمرأة ، فالحكم مترتّب على الموضوع الموصوف بهذا العدم ، فإذا فرضنا عدم القرشيّة قبل وجود المرأة فهذا العدم لا يجري استصحابه لا بلحاظ العدم النعتي ولا بلحاظ العدم المحمولي.

أمّا عدم جريان الاستصحاب بلحاظ العدم النعتي فلأنّ المفروض أنّ العدم النعتي لا يثبت إلا بعد ثبوت الموضوع ووجوده ، فقبل وجود الموضوع لا يكون هذا العدم نعتيّا ، بل يكون أزليّا وهو مرادف للعدم المحمولي.

والوجه في ذلك : أنّ العدم النعتي وصف للموضوع والوصف لا يثبت إلا بعد ثبوت الموصوف لا قبله ، كما هو الحال بالنسبة للقضيّة المعدولة : ( المرأة غير القرشيّة ) ، فإنّ ثبوت ( غير القرشيّة ) يفترض مسبقا ثبوت المرأة ، وهي في الفرض غير ثابتة.

وأمّا عدم جريان الاستصحاب بلحاظ العدم الأزلي فلأنّ هذا العدم الأزلي يثبت لنا العدم المحمولي ، أي يثبت لنا تحقّق العدم في نفسه من دون ملاحظة الموضوع ، أي سواء كان الموضوع موجودا أم لا.

وحينئذ نتساءل عن الأثر المترتّب عليه ، وعمّا يراد بالعدم المحمولي الذي ثبت باستصحاب العدم الأزلي الثابت قبل ثبوت الموضوع؟ فإن أريد به إثبات الحكم الشرعي مباشرة وابتداء فهو خلف المفروض ؛ إذ المفروض أنّ الحكم مترتّب على العدم النعتي لا على العدم المحمولي فلا يجري استصحابه ؛ لأنّه لا أثر شرعي له.

وإن أريد باستصحاب العدم الأزلي وثبوت العدم المحمولي التوصّل بذلك إلى إثبات العدم النعتي ، على أساس أنّ العدم إذا كان ثابتا قبل ثبوت الموضوع فهو مستمرّ

ص: 379

أيضا حتّى بعد ثبوته تعبّدا ، فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ ثبوت العدم النعتي بعد تحقّق الموضوع بهذا الاستصحاب لازم عقلي ، إذ ما دام العدم ثابتا منذ الأزل فباستصحابه يثبت أيضا إلى ما بعد تحقّق الموضوع ؛ لأنّه عند تحقّق الموضوع لا يعلم بارتفاع هذا العدم فيبقى ، ولازم بقائه إلى حين تحقّق الموضوع كون الموضوع متّصفا به.

وهذه الملازمة عقليّة لما تقدّم من كون الملازمة بين مفاد كان التامّة وكان الناقصة عقليّة لا شرعيّة.

وأمّا في الحالة الثالثة : فلا موجب لافتراض أخذ التقيّد واتّصاف أحد جزأي الموضوع بالآخر ؛ لأنّ أحدهما ليس محلاّ وموضوعا للآخر ، بل بالإمكان أن يفرض ترتّب الحكم على ذات الجزءين ، وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجزء لتوفّر الشرط الأوّل.

وأمّا الحالة الثالثة : وهي ما إذا كانت النسبة بين الأجزاء أو الجزءين نسبة العرضين إلى المحلّ الواحد أو نسبة العرضين إلى المحلّين المختلفين ، فهنا كما يمكننا فرض أخذ التقيّد والاتّصاف في الموضوع المركّب من الأجزاء ، كذلك يمكننا فرض كون ذوات الأجزاء هي تمام الموضوع المركّب من دون أخذ الاتّصاف والتقيّد.

والوجه في ذلك : أنّ العرضين الملحوظين في محلّ واحد أو في محلّين ليس أحدهما محلاّ للآخر ، فالعدالة ليست محلاّ للاجتهاد ولا العكس ، وكذا الموت والإسلام ليس أحدهما محلاّ للآخر ، ولذلك لا موجب للتقيّد والاتّصاف بل هو أمر ممكن ، بأن كان أحد العرضين مأخوذا في طول اتّصاف المحلّ بالعرض الأوّل فيكون العرض الثاني وصفا وقيدا للمحلّ المتّصف والمقيّد بالعرض الأوّل ، ويمكن أن يكون الموضوع مركّبا من ذوات الأجزاء أيضا بأن كانت في عرض واحد جميعا حين عروضها على المحلّ ، فيكون المحلّ مركّبا من ذوات الأجزاء.

وبذلك يكون جريان الاستصحاب في الجزء وعدم جريانه متوقّفا على استظهار التقيّد والاتّصاف أو عدم استظهار ذلك.

فإن استظهر التقيّد والاتّصاف لم يجر استصحاب ذات الجزء ؛ لأنّه لا يثبت الاتّصاف والتقيّد إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

وإن استظهر التركيب من ذوات الأجزاء جرى استصحاب ذات الجزء إذا كانت

ص: 380

له حالة سابقة متيقّنة ثبوتيّة أو عدميّة ، لترتّب الحكم أو نفيه ؛ لأنّ المفروض حينئذ كون الحكم مترتّبا على ذوات الأجزاء.

هذا موجز عمّا أفاده المحقّق النائيني رحمه اللّه نكتفي به على مستوى هذه الحلقة ، تاركين التفاصيل والمناقشات إلى مستوى أعلى من الدراسة.

هذا كلّه على طبق تصوّرات الميرزا النائيني ، وهناك مناقشات وتفاصيل لا داعي للتعرّض لها الآن.

وأمّا النقطة الثالثة فتوضيح الحال فيها : أنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب فيه تارة يكون معلوم الثبوت سابقا ويشكّ في بقائه إلى حين إجراء الاستصحاب.

وأخرى يكون معلوم الثبوت سابقا ويعلم بارتفاعه فعلا ، ولكن يشكّ في بقائه في فترة سابقة هي فترة تواجد الجزء الآخر من الموضوع.

ومثاله : الحكم بانفعال الماء ، فإنّ موضوعه مركّب من ملاقاة النجس للماء وعدم كريّته ، فنفترض أنّ الماء كان مسبوقا بعدم الكرّيّة ويعلم الآن بتبدّل هذا العدم وصيرورته كرّا ، ولكن يحتمل بقاء عدم الكرّيّة في فترة سابقة ، هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء.

وأمّا النقطة الثالثة : وهي إعطاء الضابط الكلّي لمعرفة متى يكون الشكّ في البقاء محفوظا فيبحث حول تماميّة أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء وعدم تماميّتها.

وتوضيح الحال هنا أن يقال : إنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب بلحاظه على نحوين :

فتارة يكون هذا الجزء معلوم الثبوت سابقا ومشكوك البقاء لاحقا أي إلى حين إجراء الاستصحاب.

مثاله : أن يعلم بكون الماء قليلا ثمّ يشكّ في بقائه على القلّة أو صيرورته كرّا ، والمفروض أنّ الحكم بانفعال الماء بالنجاسة يشترط فيه أن يكون الماء قليلا وإن تتحقّق الملاقاة للنجس ، وهنا نفترض تحقّق الملاقاة وجدانا أو تعبّدا أي بالعلم أو بالأمارة ، وأمّا الجزء الآخر فهو متيقّن سابقا ومشكوك لاحقا إلى حين إجراء الاستصحاب.

ص: 381

وأخرى يكون الجزء معلوم الثبوت سابقا ومعلوم الارتفاع فعلا ، ولكنّه مشكوك الارتفاع في فترة سابقة محدّدة هي الفترة التي تحقّق فيها الجزء الأوّل.

مثاله : انفعال الماء بالنجاسة الذي موضوعه الماء القليل والملاقاة للنجاسة ، فهنا يعلم بتحقق الملاقاة في فترة معيّنة ، ولكن يشكّ في كون الماء قليلا حين الملاقاة أي في تلك الفترة ، مع أنّه يعلم بثبوت القلّة سابقا ويعلم بارتفاعها فعلا.

فالحالة السابقة التي كانت متيقّنة - وهي كون الماء قليلا - يعلم بارتفاعها فعلا الآن ، ولكن يشكّ فيها في فترة محدّدة سابقة وهي فترة تحقّق الملاقاة ، فهل كانت الملاقاة متحقّقة عند ما كان الماء قليلا أو أنّها تحقّقت بعد تبدّلها وصيرورته كرّا؟

ولذلك يشكّ في الحكم ؛ لأنّه إن كانت الملاقاة متحقّقة عند كونه قليلا فيحكم بالانفعال ، وإن تحقّقت عند صيرورته كرّا فيحكم بالاعتصام.

ففي الحالة الأولى لا شكّ في توفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيجري الاستصحاب.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان الجزء متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا إلى زمان إجراء الاستصحاب ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب لتوفّر أركانه من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيستصحب بقاء القلّة ويحكم بالانفعال.

وأمّا في الحالة الثانية فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الجزء بدعوى عدم توفّر الركن الثاني وهو الشكّ في البقاء ؛ لأنّه معلوم الارتفاع فعلا بحسب الفرض ، فكيف يجري استصحابه؟

وقد اتّجه المحقّقون في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان النسبي ، أي زمان الجزء الآخر ، فيقال : إنّ الجزء المراد استصحابه إذا لوحظ حاله في عمود الزمان المتّصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء للعلم بارتفاعه فعلا.

وإذا لوحظ حاله بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان ، مثلا عدم الكرّيّة في المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه إلى الآن ، ولكن يشكّ في بقائه إلى حين وقوع الملاقاة فيجري استصحابه إلى زمان وقوعها.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الجزء المراد استصحابه معلوم الثبوت سابقا

ص: 382

ومعلوم الارتفاع فعلا ، ولكنّه مشكوك البقاء في فترة وجود الجزء الآخر - فهنا قد يقال بعدم جريان الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه ، حيث إنّ الركن الثاني وهو الشكّ في البقاء غير محفوظ ؛ لأنّه يعلم بارتفاع الحالة السابقة الآن بالفعل ، فلا موجب لاستصحابها ، إذ كيف يجري استصحابها مع العلم بارتفاعها؟

وقد أجاب المحقّقون عن هذا الاستشكال بالتمييز بين نحوين من الزمان :

1 - الزمان المطلق ، وهو ملاحظة الزمان في نفسه على امتداده ، أي ملاحظة عمود الزمان.

2 - الزمان النسبي ، وهو ملاحظة الزمان بالنسبة للجزء الآخر ، أي أنّه في زمن تحقّق الجزء الآخر هل كان الجزء المعلوم ارتفاعه الآن متحقّقا أم لا؟

فإذا لوحظ الزمان في نفسه على امتداده فهو متّصل إلى الآن الفعلي ، وفي هذا الآن الفعلي لا يشكّ في بقاء الجزء ، بل يعلم بارتفاعه فلا يجري استصحابه.

وأمّا إذا لوحظ الزمان النسبي أي لوحظ الشكّ في زمن حصول ذاك الجزء ، فهذا غير معلوم الارتفاع ؛ لأنّه من المحتمل أن يكون الجزء الثاني متحقّقا عند تحقّق الجزء الأوّل ، فيكون الشكّ في البقاء محفوظا.

ففي مثال الملاقاة وعدم الكرّيّة ، فصحيح أنّ عدم الكرّيّة الذي كان معلوما قبل تحقّق الملاقاة قد ارتفع الآن ، إلا أنّ هذا معناه ملاحظة الزمان في نفسه وعلى امتداده ، وأمّا إذا لاحظنا زمان تحقّق الملاقاة ففي هذه الزمان يحتمل بقاء عدم الكرّيّة فيه ويحتمل ارتفاعها أيضا ، ولكن لا يعلم ببقائها أو ارتفاعها وبذلك يكون الشكّ في البقاء محفوظا فيجري الاستصحاب.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه - وهو عدم الكرّيّة في المثال - معلوما ، وكان زمان تواجد الجزء الآخر - وهو الملاقاة في المثال - معلوما أيضا ، فلا شكّ لكي يجري الاستصحاب.

ولهذا لا بدّ أن يفرض الجهل بكلا الزمانين ، أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصّة ، أو بزمان تواجد الجزء الآخر خاصّة ، فهذه ثلاث صور ، وقد اختلف المحقّقون في حكمها.

والتحقيق في هذه الحالة أن يقال : إنّ زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه وهو عدم

ص: 383

الكرّيّة في المثال المذكور إن كان معلوما ، وكان زمان الملاقاة أيضا معلوما ، فلا يوجد لدينا شكّ لكي يجري الاستصحاب بل نعمل بحسب علمنا على النحو التالي :

فتارة يفترض كون الملاقاة في الساعة الأولى وارتفاع الكرّيّة إمّا قبلها أو بعدها ، فإن كان ارتفاع عدم الكرّيّة في الثانية فهذا يعني أنّه في الساعة الأولى يحكم بالانفعال وفي الساعة الثانية يحكم بالاعتصام ، وتترتّب الآثار الشرعيّة عليهما.

وإن كان الارتفاع قبل تحقّق الملاقاة فيحكم بالاعتصام في كلّ الساعات ، وهذا واضح ؛ ولذلك لا بدّ من افتراض الجهل لكي يصدق عنوان الشكّ ، والجهل هنا يتصوّر على ثلاث صور :

الصورة الأولى : أن يفرض الجهل بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة ، والجهل بزمان الملاقاة أيضا.

الصورة الثانية : أن يفرض العلم بزمان الملاقاة كالساعة الواحدة مثلا ، ويجهل تاريخ ارتفاع عدم الكرّيّة فهل هو قبل الواحدة أو بعدها أو معها؟

الصورة الثالثة : أن يفرض العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة كالساعة الواحدة مثلا ، ولكن زمان الملاقاة مجهول هل هو قبل أو بعد أو مع زمان الارتفاع؟

فهذه ثلاث صور تفترض للشكّ في البقاء ، وأمّا حكمها فهو :

فذهب جماعة من المحقّقين منهم السيّد الأستاذ (1) إلى جريان الاستصحاب في الصور الثلاث ، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة.

وذهب بعض المحقّقين إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما :

وذهب بعض المحقّقين (2) إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما :

صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع.

وذهب صاحب ( الكفاية ) (3) إلى جريان الاستصحاب في صورة واحدة ، وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء الآخر ، وأمّا في صورتي الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب.

ص: 384


1- مصباح الأصول 3 : 177.
2- منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول 4 : 508 - 510.
3- كفاية الأصول : 477 - 478.
فهذه أقوال ثلاثة :

وأمّا حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدم جريانه كلاّ أو بعضا فهو على أقوال ثلاثة ، هي :

القول الأوّل : ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه اللّه من جريان الاستصحاب في جميع الصور الثلاث وإذا كان لهذا الاستصحاب معارض سقط بالمعارضة.

ففي الصورة الأولى - أي الجهل بزمان الملاقاة والجهل بزمان الارتفاع - يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين ارتفاع عدم الكرّيّة ، ويجري استصحاب عدم ارتفاع عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة ، وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ استصحاب عدم الملاقاة يثبت أنّ الملاقاة حصلت بعد الكرّيّة لا قبلها ، واستصحاب عدم الارتفاع يثبت أنّ الارتفاع حصل بعد الملاقاة لا قبلها ، فالأوّل يترتّب عليه الحكم بالطهارة والثاني يترتّب عليه الحكم بالنجاسة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع إلى أصالة الطهارة.

وفي الصورة الثانية - أي الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه مع العلم بزمان الملاقاة - يجري استصحاب عدم ارتفاع القلّة ، ويحكم بالنجاسة والانفعال حيث يتحقّق كلا الجزءين أي الملاقاة والقلّة.

وفي الصورة الثالثة - أي الجهل بزمان الملاقاة مع العلم بزمان الارتفاع - يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين العلم بالارتفاع ، ويحكم بالطهارة حيث تكون الملاقاة متحقّقة بعد ارتفاع القلّة وتحقّق الكرّيّة.

القول الثاني : ما ذهب إليه جملة ممّن علّق على ( الكفاية ) من جريان الاستصحاب في صورتين هما :

صورة الجهل بالزمانين وصورة الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، فيجري كلا الاستصحابين في الصورة الأولى ويحكم بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة الطهارة ، ويجري في الصورة الثانية استصحاب عدم الارتفاع إلى حين تحقّق الجزء المعلوم فيحكم بالانفعال لتوفّر كلا الجزءين.

وأمّا في صورة العلم بزمان الارتفاع والجهل بزمان الملاقاة فلا يجري الاستصحاب لكونه من الأصل المثبت ، أي أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الارتفاع لا يجري في نفسه ؛ لأنّه من الأصل المثبت.

ص: 385

القول الثالث : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من جريان الاستصحاب في صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة خاصّة ، فيستصحب القلّة أو عدم الكرّيّة إلى حين الملاقاة ويحكم بالانفعال لتوفّر كلا الجزءين.

وأمّا في صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان الملاقاة مع العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب في نفسه ، لعدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ كما سيأتي لاحقا.

أمّا القول الأوّل : فقد علّله أصحابه بما أشرنا إليه آنفا ، من أنّ بقاء الجزء المراد استصحابه إلى زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك ، حتّى لو لم يكن هناك شكّ في بقائه إذا لوحظت قطعات الزمان بما هي ، كما إذا كان زمان الارتفاع معلوما ، ويكفي في جريان الاستصحاب تحقّق الشكّ في البقاء بلحاظ الزمان النسبي ؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على وجوده في زمان وجود الجزء الآخر لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.

أمّا القول الأوّل : وهو ما ذهب إليه السيّد الخوئي من جريان الاستصحاب في الجزء المراد استصحابه في جميع الصور.

فدليله ما تقدّم منّا سابقا ، حيث ذكرنا أنّه لا بدّ من ملاحظة الزمان النسبي لا الزمان في نفسه بما هو ، وعليه فالجزء المراد استصحابه وهو عدم الكرّيّة إذا لوحظ بالنسبة إلى الجزء الآخر أي الملاقاة فهو مشكوك البقاء في الصور الثلاث فيجري استصحابه.

أمّا في صورة الجهل بالزمانين فواضح ، حيث يصدق الشكّ في بقاء القلّة بلا إشكال.

وأمّا في صورة الجهل بتاريخ ارتفاع القلّة وتحقّق الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة ، فأيضا يصدق الشكّ في بقاء القلّة وعدم الكرّيّة بالنسبة إلى زمان تحقّق الملاقاة ، حيث إنّه في زمان تحقّق الملاقاة لا يعلم ببقاء القلّة أو ارتفاعها فيستصحب بقاؤها.

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الارتفاع مع الجهل بتاريخ الملاقاة ، فهنا وإن كان الشكّ لا يصدق إذا لوحظ الزمان في نفسه أي إذا لوحظت القطعات الزمانيّة ، حيث إنّ هذا الشكّ يعلم بارتفاعه في تلك القطعات ، إلا أنّه بلحاظ زمان الملاقاة يصدق

ص: 386

عنوان الشكّ لأنّ زمان الملاقاة لمّا لم يكن معلوما فيحتمل تقدّمه أو تأخّره عن زمان الارتفاع ، ومع هذا الاحتمال يصدق عنوان الشكّ في بقاء القلّة وعدم الكرّيّة بالنسبة إلى زمان الملاقاة المجهول ، وهذا المقدار من الشكّ كاف لجريان الاستصحاب.

وبهذا يظهر أنّ استصحاب عدم الكرّيّة يجري في جميع الصور إلا أنّه في بعضها يكون معارضا كما في الصورة الأولى ؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي مترتّب على وجود هذا الجزء في زمان وجود الجزء الآخر ، أي لا بدّ من ملاحظة الزمان النسبي ، وليس الأثر الشرعي مترتّبا على وجود الجزء في نفس عمود الزمان بعنوانه الخاصّ.

ونلاحظ على هذا القول : إنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة في المثال إذا كان معلوما فلا يمكن أن يجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة ؛ لأنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّبا على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، أو على عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة ، بمعنى أنّ كلا الجزءين لوحظا في زمان واحد دون أو يقيّد أحدهما بزمان الآخر بعنوانه.

ويرد على هذا القول : إنّ الاستصحاب لا يجري في الصورة الثالثة وهي صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب عدم ارتفاع عدم الكرّيّة أي استصحاب بقاء القلّة ، لا يجري إلا إذا كان هناك أثر شرعي يترتّب عليه ، وهنا الحكم الشرعي وهو الانفعال المنصب على الموضوع المركّب من الجزءين أي القلّة والملاقاة ، يحتمل فيه وجهان :

الوجه الأوّل : إن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في زمان الملاقاة بما هو كذلك ، أي بلحاظ الزمان المتّصف والمقيّد بأنّه زمان الملاقاة ، فيقال : ( إذا أحرز عدم الكرّيّة وأحرز كونها ثابتة في نفس الزمان الذي ثبتت فيه الملاقاة فيحكم بالانفعال ) ، وهذا معناه أنّ الحكم منصبّ على العنوان المنتزع والمتحصّل وهو كون هذا الجزء متّصفا ومقيّدا بذاك.

الوجه الثاني : أن يكون الحكم الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في واقع زمان الملاقاة ، أي بلحاظ الزمان الواقعي للملاقاة يكون عدم الكرّيّة ثابتا من دون أن يتّصف أو يقيّد به ، بمعنى أنّه يكفي ثبوت الجزءين - عدم الكرّيّة والملاقاة - في

ص: 387

زمان واحد واقعا ، وإن لم يصدق بحسب الظاهر عنوان الاتّصاف والتقيّد بين الجزء ، فيقال : ( إذا ثبت عدم الكرّيّة وثبتت الملاقاة في زمان واحد واقعا فيحكم بالانفعال ).

فعلى الأوّل : لا يجري استصحاب بقاء الجزء في جميع الصور ؛ لأنّه يفترض تقيّده بزمان الجزء الآخر بهذا العنوان ، وهذا التقيّد لا يثبت بالاستصحاب ، وقد شرطنا منذ البداية في جريان استصحاب الجزء في باب الموضوعات المركّبة عدم أخذ التقيّد بين أجزائها في موضوع الحكم.

فعلى الأوّل بأن كان الحكم الشرعي مترتّبا على عنوان اتّصاف وتقيّد عدم الكرّيّة بزمان الملاقاة ، فهذا لا ينفع فيه إجراء استصحاب ذات الجزء في الصور الثلاث ؛ وذلك لأنّ استصحاب ذات الجزء إنّما يثبت به الجزء فقط ، أي عدم الكرّيّة ولا يثبت به عدم الكرّيّة المتّصف والمقيّد بزمان الملاقاة ، والمفروض أنّ الحكم مترتّب على عنوان التقيّد والاتّصاف لا على ذات الجزء ، وهذا معناه أنّه لا أثر شرعي لاستصحاب ذات الجزء فلا يجري.

وإن أريد التوصّل باستصحاب ذات الجزء إلى إثبات كون هذا الجزء متّصفا ومقيّدا بزمان الملاقاة ، فهذا يتمّ من خلال الملازمة العقليّة فيكون الاستصحاب من الأصل المثبت فلا يجري.

وهذا تقدّم سابقا حيث اشترطنا في جريان استصحاب الجزء في الموضوعات المركّبة ألاّ يكون الحكم مترتّبا على العنوان المنتزع والمتحصّل الذي هو عنوان الاتّصاف أو التقيّد.

وعلى الثاني : لا يجري استصحاب بقاء الجزء فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوما ولنفرضه الظهر ؛ لأنّ استصحاب بقائه إلى زمان وجود الملاقاة - التي هي الجزء الآخر في المثال - إن أريد به استصحاب بقائه إلى الزمان المعنون بأنّه زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، فهذا الزمان بهذا العنوان وإن كان يشكّ في بقاء عدم الكرّيّة إلى حينه ، ولكنّ المفروض أنّه لم يؤخذ عدم الكرّيّة في موضوع الحكم مقيّدا بالوقوع في زمان الجزء الآخر بما هو كذلك.

وعلى الثاني بأن كان الحكم مترتّبا على عدم الكرّيّة الثابت في واقع زمان الملاقاة

ص: 388

من دون تقيّد واتّصاف أحدهما بالآخر ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّ استصحاب عدم الكرّيّة في صورة العلم بزمان ارتفاعه لا يجري.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب بقاء القلّة أو عدم الكرّيّة - الذي يعلم بزمان ارتفاعه كالظهر مثلا - إن أريد به إثبات بقاء القلّة وعدم الكرّيّة إلى الزمان المتّصف والمقيّد بأنّه زمان الملاقاة واقعا والذي يشكّ فيه لأنّه مجهول ، فزمان الملاقاة - حيث إنّه مجهول فيحتمل تقدّمه أو تأخّره أو مقارنته لزمان ارتفاع القلّة وعدم الكرّيّة - وإن كان يصدق عنوان الشكّ في بقاء عدم الكرّيّة إلى حين تحقّق الملاقاة واقعا ، إلا أنّ رفع اليد عن عدم الكرّيّة يحتمل فيه أن يكون من باب رفع اليد عن اليقين باليقين لا الشكّ من جهة العلم بزمان ارتفاعه المحتمل أن يكون قبل تحقّق الملاقاة ، وبالتالي لا يصدق كونه من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ ، وقد تقدّم سابقا أنّه إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة باليقين ولو احتمالا كفى ذلك في المنع عن جريان الاستصحاب.

ولا يمكننا هنا أن نجري استصحاب عدم الكرّيّة إلى حين زمان الملاقاة بما هو مقيّد ومتّصف به ؛ لأنّه خلاف الفرض ، إذ المفروض هنا أنّ الحكم ليس مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بالآخر.

وإن أريد به استصحاب بقائه إلى واقع زمان الملاقاة على نحو يكون قولنا : ( زمان الملاقاة ) مجرّد مشير إلى واقع ذلك الزمان ، فهذا هو موضوع الحكم ، ولكن واقع هذا الزمان يحتمل أن يكون هو الزوال للتردّد في زمان الملاقاة ، والزوال زمان يعلم فيه بارتفاع عدم الكرّيّة ، فلا يقين إذن بثبوت الشكّ في البقاء في الزمان الذي يراد جرّ المستصحب إليه.

وإن أريد باستصحاب عدم الكرّيّة أو القلّة إلى واقع زمان الملاقاة من دون التقيّد والاتّصاف بينهما ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه لأنّ موضوع الحكم الشرعي هو ثبوت عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة بحيث يكون عنوان ( زمان الملاقاة ) عنوانا مشيرا إلى الزمان الواقعي ، إلا أنّ واقع زمان الملاقاة مردّد بين زمانين قبل الزوال وبعده ، وهذا التردّد يعني أنّ زمان الملاقاة لو فرض كونه هو الزوال أيضا فهذا معناه عدم تحقّق موضوع الحكم الشرعي ؛ لأنّ الزوال هو الزمان الذي يعلم فيه بارتفاع عدم الكرّيّة ،

ص: 389

وبالتالي لا يصدق عنوان الشكّ في البقاء ولا يجري الاستصحاب للعلم بالارتفاع حين الزوال ، فيصدق عنوان نقض الحالة السابقة المتيقّنة باليقين لا بالشكّ.

ولو فرض أنّ زمان الملاقاة هو قبل الزوال فاستصحاب عدم الكرّيّة إلى هذا الزمان الواقعي تامّ الأركان ؛ لأنّه يصدق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ.

وحيث إنّ الأمر مردّد بين نقض اليقين باليقين أو نقضه بالشكّ ، فلا يصدق جزما نقض اليقين بالشكّ والذي هو مورد جريان الاستصحاب ؛ لاحتمال كونه من نقض اليقين باليقين ، وقد تقدّم أنّ شرط جريان الاستصحاب كون رفع اليد عن الحالة السابقة من باب نقض اليقين بالشكّ لا باليقين ولو احتمالا أيضا.

وعلى هذا الضوء نعرف : أنّ ما ذهب إليه القول الثاني من عدم جريان استصحاب بقاء الجزء في صورة العلم بزمان ارتفاعه هو الصحيح بالبيان الذي حقّقناه.

ولكنّ هذا البيان يجري بنفسه أيضا في بعض صور مجهولي التاريخ ، كما إذا كان زمان التردّد فيهما متطابقا ، كما إذا كانت الملاقاة مردّدة بين الساعة الواحدة والثانية ، وكذلك ارتفاع عدم الكرّيّة بحدوث الكرّيّة ، فإنّ هذا يعني أنّ ارتفاع عدم الكرّيّة بحدوث الكرّيّة مردّد بين الساعة الأولى والثانية ، ولازم ذلك أن تكون الكرّيّة معلومة في الساعة الثانية على كلّ حال ، وإنّما يشكّ في حدوثها وعدمه في الساعة الأولى ، ويعني أيضا أنّ الملاقاة متواجدة إمّا في الساعة الأولى أو في الساعة الثانية ، فإذا استصحبت عدم الكرّيّة إلى واقع زمان تواجد الملاقاة فحيث إنّ هذا الواقع يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية ، يلزم على هذا التقدير أن نكون قد تعبّدنا ببقاء عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية مع أنّه معلوم الانتفاء في هذه الساعة.

وأمّا القول الثاني : الذي يرى جريان الاستصحاب في صورتين هما : صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والارتفاع وصورة الجهل بتاريخ الارتفاع مع العلم بتاريخ الملاقاة ، وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع مع الجهل بزمان الملاقاة. فهو صحيح بالنسبة إلى عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوما وكان زمان الملاقاة مجهولا ، لنفس البيان الذي تقدّم في القول الأوّل.

ص: 390

وأمّا بالنسبة لجريان الاستصحاب في الصورتين الأوّليّين فلا يتمّ ؛ إذ في بعض شقوق مجهولي التاريخ لا يجري استصحاب عدم الكرّيّة ، كما اذا كان كلا الزمانين مجهولين ولكن نفرض أنّ زمان الملاقاة يحتمل تطابقه مع زمان الارتفاع ، كما إذا كان زمان الملاقاة مردّدا بين الساعة الأولى والثانية وكان زمان الارتفاع مردّدا أيضا بين هاتين الساعتين ، فإنّه يلزم من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الملاقاة إمّا متواجدة في الساعة الأولى وإمّا في الساعة الثانية.

الثاني : أنّ ارتفاع عدم الكرّيّة يعلم به في الساعة الثانية على كلّ تقدير ، أي سواء حصلت في الساعة الأولى أو في الثانية ، وهذا معناه أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة صار معلوما.

وحينئذ نقول : إنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة على نحوين :

فتارة يراد استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، فيكون الاتّصاف والتقيّد مأخوذا في الموضوع المركّب ، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب ذات الجزء كما تقدّم في بداية هذا البحث.

وأخرى يراد استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة من دون التقيّد والاتّصاف بهذا الزمان ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ، إلا أنّه يلزم منه أنّنا إذا أجرينا استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة فحيث من المحتمل أن يكون واقع زمان الملاقاة هو الساعة الثانية ؛ لأنّه مردّد بين الأولى والثانية ، وحيث إنّ الساعة الثانية يعلم فيها بارتفاع عدم الكرّيّة وحدوث الكرّيّة فيها ، فيكون هذا الاستصحاب يعبّدنا ببقاء عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية مع أنّه في هذه الساعة يعلم وجدانا بارتفاع عدم الكرّيّة وحدوث الكرّيّة فيها.

وبالتالي لا يكون رفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة - أي عدم الكرّيّة - من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ ، بل يحتمل أن يكون من باب رفع اليد عن اليقين باليقين ، وهذا الاحتمال كاف للمنع من جريان الاستصحاب كما تقدّم في محلّه.

وبذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب بالنسبة لعدم الكرّيّة في مثل هذا الفرض ، والوجه في ذلك : كون الزمانين من المحتمل تطابقهما معا.

ومن هنا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه القول الثالث - من عدم جريان استصحاب بقاء

ص: 391

عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع هذا العدم معا - هو الصحيح.

وأمّا صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها إلى واقع زمان الملاقاة ، إذ لا علم بارتفاع هذا العدم في واقع هذا الزمان جزما.

وأمّا القول الثالث : الذي ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين أي زمان الملاقاة وزمان الارتفاع ، وفي صورة العلم بارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة هو الصحيح ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ استصحاب عدم الكرّيّة في الصورتين المذكورتين إن أريد به إثبات عدم الكرّيّة المتّصف بزمان الملاقاة فهو لا يجري ؛ لأنّه من الأصل المثبت ، وإن أريد به إثبات عدم الكرّيّة في واقع زمان الملاقاة فهو لا يجري ؛ لأنّه من باب نقض اليقين باليقين ولو احتمالا.

وأمّا في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان عدم الكرّيّة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة أي زمان الملاقاة بما هو كذلك ، وإلا لكان من الأصل المثبت ، وأمّا إثباته إلى واقع زمان الملاقاة فيجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّه لا يصدق عليه نقض اليقين باليقين ولو احتمالا ، بل هو من باب نقض اليقين بالشكّ قطعا ؛ لأنّ زمان الارتفاع أوسع من زمان الملاقاة ؛ إذ يحتمل أن يكون قبله أو بعده أو معه ، وحينئذ يكون رفع اليد عنه إلى زمان واقع الملاقاة من باب رفع اليد عن اليقين بالشكّ.

ولكنّنا نختلف عن القول الثالث في بعض النقاط ، فنحن مثلا نرى جريان استصحاب عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين ، مع افتراض أنّ فترة تردّد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردّد حدوث الملاقاة في المثال المذكور ، فإذا كانت الملاقاة مردّدة بين الساعة الأولى والثانية ، وكان تبدّل عدم الكرّيّة بالكرّيّة مردّدا بين الساعات الأولى والثانية والثالثة ، فلا محذور في إجراء استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة ؛ لأنّه على أبعد تقدير هو الساعة الثانية ولا علم بالارتفاع في هذه الساعة لاحتمال حدوث الكرّيّة في الساعة الثالثة ، فليس من المحتمل أن

ص: 392

يكون جرّ بقاء الجزء إلى واقع زمان الجزء الآخر جرّا له إلى زمان اليقين بارتفاعه أبدا.

ولكن هناك اختلاف في بعض الشقوق والنقاط بين القول الثالث وبين ما نختاره.

فمثلا في صورة الجهل بالزمانين قلنا بعدم جريان الاستصحاب إلا أنّه في بعض الشقوق والفروض يمكن إجراؤه ، وذلك فيما إذا افترضنا أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة أوسع من زمان الملاقاة.

وتوضيحه : أنّنا إذا فرضنا أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّيّة مردّد بين الساعة الأولى والثانية والثالثة ، وفرضنا أنّ زمان الملاقاة مردّد بين الساعة الأولى والثانية فقط ، أمكن جريان استصحاب عدم الكرّيّة إلى واقع زمان الملاقاة ؛ وذلك لأنّ واقع زمان الملاقاة على أبعد تقدير هو الساعة الثانية ، وفي هذا الزمان لا يعلم بارتفاع عدم الكرّيّة ، لاحتمال أن يكون الارتفاع قد حدث في الساعة الثالثة ، فيكون رفع اليد عن عدم الكرّيّة يصدق عليه أنّه من باب نقض اليقين بالشكّ لا باليقين ولو احتمالا.

وحينئذ يجري الاستصحاب في صورة مجهولي التاريخ في بعض شقوقها.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم الكرّيّة لا يجري حتما في صورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة مع الجهل بزمان الملاقاة ، ويجري حتما في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة.

وأمّا في صورة الجهل بالزمانين فيجري في بعض الفروض ولا يجري في البعض الآخر ، والضابط لذلك أنّ زمان الارتفاع أنّ فرض كونه أوسع من زمان الملاقاة جرى الاستصحاب ، وأنّ فرض كونه أضيق أو مساويا لزمان الملاقاة لم يجر الاستصحاب.

* * *

ص: 393

ص: 394

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

اشارة

ص: 395

ص: 396

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين

بقي علينا أن نشير إلى أنّ ما اخترناه وإن كان قريبا جدّا من القول الثالث الذي ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) ، غير أنّه - قدّس اللّه نفسه - قد فسّر موقفه واستدلّ على قوله ببيان يختلف بظاهره عمّا ذكرناه ، إذ قال : ( بأنّ استصحاب عدم الكرّيّة إنّما لا يجري في حالة الجهل بالزمانين ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ).

تنبيه : هذا التنبيه يعقده السيّد الشهيد لبيان الشبهة التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) وهي التي تسمّى بشبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين.

وحاصله أن يقال : تقدّم أنّ الصحيح عندنا هو عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرّيّة في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع عدم الكرّيّة ، وأمّا في صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، وهذا كان رأي صاحب ( الكفاية ) ولكنّنا نختلف معه في بعض النقاط والشقوق كما ذكرنا آنفا.

إلا أنّ هناك فارقا آخر بين مختارنا ومختار صاحب ( الكفاية ) ، فإنّه ذهب إلى مختاره بناء منه على أنّ عدم جريان الاستصحاب في صورة الجهل بالزمانين كان لأجل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين حيث قال : ( إنّ استصحاب عدم الكرّيّة إنّما لا يجري في حالة الجهل بالزمانين ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ) بخلاف ما ذكرناه نحن من توجيه عدم جريان الاستصحاب في هذه الحالة ؛ لأنّه إما يكون من الأصل المثبت أو من باب نقض اليقين باليقين ولو احتمالا ، ولهذا يمكننا جعل ضابطة عامّة وهي : أنّ زمان الارتفاع إذا كان أوسع من زمان التردّد جرى الاستصحاب بخلاف ما إذا كان مساويا أو أقلّ.

ص: 397

وعلى كلّ حال فقد وقع كلامه محلاّ للأخذ والردّ بينهم ، نتيجة الاختلاف في تفسير مراده من ذلك ، وهنا يوجد تفسيران لكلامه ، أو بتعبير آخر يوجد توضيحان لتطبيق كلامه على صورة الجهل بالزمانين ، وإلا فإن ثبت كون الزمانين منفصلين تماما فلا معنى لجريان الاستصحاب ، ولذلك فالكلام إنّما هو في الصغرى والتطبيق ، بمعنى أنّ انفصال الزمانين هل هو متحقّق في محلّ كلامنا أو لا؟

وقد فسّر هذا الكلام بما يمكن توضيحه كما يلي :

إذا افترضنا أنّ الماء كان قليلا قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان ، حدثت في إحداهما الكرّيّة وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة ، فهذا يعني أنّ كلاّ من حدوث الكرّيّة والملاقاة معلوم في إحدى الساعتين بالعلم الاجمالي ، فهناك معلومان إجماليّان وإحدى الساعتين زمان أحدهما والساعة الأخرى زمان الآخر.

وعليه فالملاقاة المعلومة إذا كان قد حدثت في الساعة الثانية فقد حدثت الكرّيّة المعلومة في الساعة الأولى ، واستصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة على هذا التقدير يعني أنّ زمان الشكّ الذي يراد جرّ عدم الكرّيّة إليه هو الساعة الثانية ، وزمان اليقين بعدم الكرّيّة هو ما قبل الزوال ، وأمّا الساعة الأولى فهي زمان الكرّيّة المعلومة إجمالا.

وهذا يؤدّي إلى انفصال زمان اليقين بعدم الكرّيّة عن زمان الشكّ فيه بزمان اليقين بالكرّيّة ، وما دام هذا التقدير محتملا فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

التفسير الأوّل لكلام صاحب ( الكفاية ) : ففي مثال الكرّيّة والملاقاة نقول : إذا علمنا بعدم الكرّيّة أو بقلّة الماء عند الزوال ، ثمّ مرّت ساعتان على الزوال حصل فيهما الكرّيّة والملاقاة ولكنّنا لا نعلم متى حصلت كلّ واحدة منهما؟ فالكرّيّة والملاقاة معلومتان ولكن تاريخهما مجهول ، فإحدى الساعتين زمان للكرّيّة والساعة الأخرى زمان للملاقاة ، وهذا معلوم إجمالا ؛ لأنّه لا يعلم الزمان بالتحديد.

وفي مثل هذه الحالة يوجد لنا احتمالان :

الأوّل : أن يكون زمان الملاقاة في الساعة الأولى بعد الزوال وزمان الكرّيّة في الساعة الثانية ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة أو القلّة المعلومة يقينا قبل الزوال وعنده

ص: 398

إلى زمان الملاقاة ، ينتج أثرا شرعيّا وهو انفعال الماء بالنجاسة ، ومثل هذا الاستصحاب لا إشكال في جريانه لاتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ إذ لم يفصل شيء بين الزمانين.

الثاني : أن يكون زمان الملاقاة في الساعة الثانية من الزوال وزمان الكرّيّة الساعة الأولى ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة المتيقّنة عند الزوال إلى حين الملاقاة في الساعة الثانية لا يجري ؛ وذلك لأنّه قد فصل بين هذين الزمانين بحدوث الكرّيّة في الساعة الأولى للزوال ، ممّا يعني عدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ ، ومع انفصالهما وعدم اتّصالهما لا يجري الاستصحاب.

وحيث إنّ كلا الاحتمالين وارد للعلم الإجمالي وعدم وجود المرجّح ، فلا أقلّ من احتمال عدم اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ ، وهذا يكفي لمنع جريان الاستصحاب ؛ لأنّه يشترط فيه إحراز اتّصال الزمانين ليصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فمع هذا الاحتمال يكون المورد من موارد الشبهة المصداقيّة.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الساعة الأولى على هذا التقدير هي زمان الكرّيّة واقعا لا زمان الكرّيّة المعلومة بما هي معلومة ؛ لأنّ العلم بالكرّيّة كان على نحو العلم الإجمالي من ناحية الزمان وهو علم بالجامع ، فلا احتمال للانفصال إطلاقا.

ويرد على هذا التفسير إشكالان :

الأوّل : أنّ ما ذكر من احتمال الانفصال لو كانت الملاقاة في الساعة الثانية والكرّيّة في الساعة الأولى غير تامّ ، وذلك لأنّ الانفصال الذي يكون مانعا هو الوجود الواقعي مع العلم به لا الوجود الواقعي فقط.

فمثلا إذا علمنا تفصيلا بكون زمان الكرّيّة هو الساعة الأولى فيكون زمان الشكّ منفصلا عن زمان اليقين ؛ لأنّ عدم الكرّيّة الثابتة قبل الزوال أو عنده عند ما يراد استصحاب بقائها إلى الساعة الثانية التي هي ساعة الملاقاة ، فهذا سوف يتخلّله العلم بالكرّيّة في الساعة الأولى ؛ لأنّها موجودة واقعا ويعلم بها ، وبذلك ينقطع استصحاب عدم الكرّيّة عند الساعة الأولى للعلم بوجودها الواقعي.

وأمّا إذا كانت الكرّيّة موجودة واقعا ولكنّ المكلّف لم يعلم بها ، فهنا لا مانع عنده

ص: 399

من جريان استصحاب عدم الكرّيّة الثابت قبل الزوال إلى زمان الملاقاة أي إلى الساعة الثانية ، وهذا سوف يتخلّله الوجود الواقعي للكرّيّة إلا أنّه لا يضر في الاستصحاب ؛ لأنّ الوجود الواقعي يجتمع مع الشكّ ، فيصدق أنّه في الساعة الأولى شاكّ في الكرّيّة أيضا ، ولذلك لا يكون هناك انفصال ، بل الاتّصال موجود حتّى لو كانت الكرّيّة موجودة واقعا ما دام لم يعلم بها.

ففي مقامنا العلم الإجمالي ليس علما تفصيلا ؛ لأنّه علم بالجامع وشكّ في الفرد ، فهو علم يجتمع مع الشكّ ؛ لأنّ العلم متعلّق بالجامع والشكّ متعلّق بالواقع أي بالفرد ، وعليه فالكرّيّة على الفرض المذكور وإن كانت موجودة في الساعة الأولى ، إلا أنّها ليست معلومة بالتفصيل في هذه الساعة ؛ لأنّ العلم هنا إجمالي لا تفصيلي ، وهذا يعني أنّ العلم بها إجمالا في هذه الساعة يجتمع مع الشكّ بها أيضا ، ولذلك لن يتحقّق الانفصال بل الاتّصال موجود.

وبتعبير آخر : أنّ العلم التفصيلي بوجود الكرّيّة في الساعة الأولى يزيل الشكّ بها ، ومع زوال الشك ينقطع الاتّصال بين زمان المتيقّن وزمان المشكوك ، ولكنّ العلم الإجمالي بوجودها في هذه الساعة لا يزيل الشكّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي يجتمع مع الشكّ والتردّد والحيرة ، ومع عدم زوال الشكّ فالاتّصال بين الزمانين لا ينقطع أصلا ، وهذا الإيراد حلّي.

وثانيا : أنّ البيان المذكور لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتّى في الصورة التي اختار صاحب ( الكفاية ) جريان الاستصحاب فيها ، وهي صورة الجهل بزمان حدوث الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة وأنّه الساعة الثانية مثلا ؛ لأنّ الكرّيّة معلومة بالإجمال في هذه الصورة ويحتمل انطباقها على الساعة الأولى ، فإذا كان انطباق الكرّيّة المعلومة بالإجمال على زمان يوجب تعذّر استصحاب عدم الكرّيّة إلى ما بعد ذلك الزمان ، جرى ذلك في هذه الصورة أيضا وتعذّر استصحاب عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية ، لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ بزمان العلم بالكرّيّة.

ويرد ثانيا بالنقض :

فإنّنا لو قبلنا مقالة صاحب ( الكفاية ) في مجهولي التاريخ ومنعنا من جريان

ص: 400

الاستصحاب بسبب وجود احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ وعدم إحراز اتّصالهما ، للزم المنع عن جريان الاستصحاب أيضا في صورة الجهل بزمان الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وهي الصورة التي

اختار فيها صاحب ( الكفاية ) جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها إلى زمان الملاقاة.

والوجه في ذلك هو : أنّه في صورة الجهل بزمان الكريّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وأنّه في الساعة الثانية مثلا ، فهنا لدينا احتمالان :

الأوّل : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة فيما بعد الساعة الثانية أي بعد زمان الملاقاة ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم الكرّيّة الثابت قبل أو عند الزوال إلى زمان الملاقاة فيحكم بالانفعال ، وهذا الاستصحاب يجري لأنّ زمان اليقين متّصل بزمان الشكّ.

الثاني : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة قبل الساعة الثانية أي قبل زمان الملاقاة ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية قد تخلّله وجود الكرّيّة ، فينقطع الاتّصال بين الزمانين ، وما دام كلا الاحتمالين واردا فلا يعلم بالاتّصال بين الزمانين فيكون من الشبهة المصداقيّة.

ولكنّ صاحب ( الكفاية ) قبل في هذه الصورة جريان استصحاب عدم الكرّيّة بينما لم يقبله في مجهولي التاريخ ، مع أنّ المانع لو كان هو وجود الكرّيّة الواقعي فهو مانع في المقامين ؛ لأنّ احتمال سبق وجودها الواقعي على زمان الملاقاة موجود في الصورتين ، ومع الاحتمال لا يحرز الاتّصال ، ولو كان المانع هو الوجود الواقعي المعلوم فهو غير موجود في الصورتين معا ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع لا بالواقع ولذلك فهو يجتمع مع الشكّ والتردّد دون العلم التفصيلي.

وهناك تفسير آخر لكلام صاحب ( الكفاية ) أكثر انسجاما مع عبارته :

ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه ، وهو الماء الذي كان قليلا قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان حدثت في إحداهما الكرّيّة وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة ، وحاصل التفسير : أنّ ظرف اليقين بعدم الكرّيّة في هذا المثال هو ما قبل الزوال ، وظرف الشكّ مردّد بين الساعة الأولى بعد الزوال والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

ص: 401

فتارة نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات الزمان وبصورة مستقلّة عن الملاقاة ، وأخرى نأخذه بما هو مقيس إلى زمان الملاقاة ومقيّد به.

التفسير الثاني لكلام صاحب ( الكفاية ) : أنّنا إذا أخذنا المثال السابق أي العلم بعدم الكرّيّة قبل الزوال ثمّ العلم بعد الزوال بحصول الكرّيّة وبحصول الملاقاة ، ولكن لا يعلم زمانهما بالتحديد ، ولا يعلم المتقدّم منهما والمتأخّر ، فأحدهما حدث إمّا الساعة الأولى وإمّا الساعة الثانية ، والآخر كذلك ، فهنا لدينا يقين وشكّ.

أمّا اليقين فهو اليقين بعدم الكرّيّة وهذا ظرفه قبل الزوال.

وأمّا الشكّ فهو مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية بعد الزوال ، فظرف الشكّ وإن كان بعد الزوال يقينا لكنّه مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

أحدهما : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو في عمود الزمان ، أي بما هو مضاف إلى عمود الزمان والقطعات الزمانيّة بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا عدم الكرّيّة مقيس إلى الزمان مطلقا.

والآخر : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو مضاف إلى الملاقاة ومقيّد بزمان الملاقاة ، وهنا عدم الكرّيّة مضاف إلى حصّة خاصّة من الزمان وهي زمان الملاقاة.

والاستصحاب الذي نريد إجراءه هو استصحاب عدم الكرّيّة الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي ويكون منجّزا لا مطلقا حتّى ولو لم يكن له أثر أصلا.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الاستصحاب في كلّ من هذين الاحتمالين ، فنقول :

فإذا أخذناه بالاعتبار الأوّل ، وجدنا أنّ الشكّ فيه موجود في الساعة الأولى وهي متّصلة بزمان اليقين مباشرة ، فبالإمكان أن نستصحب عدم الكرّيّة إلى نهاية الساعة الأولى ، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا ؛ لأنّ الحكم الشرعي وهو انفعال الماء ليس مترتّبا على مجرّد عدم الكرّيّة ، بل على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة.

أمّا الاحتمال الأوّل : وهو ما إذا لاحظنا عدم الكرّيّة منسوبا ومضافا ومقيسا إلى قطعات الزمان أي إلى عمود الزمان بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا نجد أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة موجود في الساعة الأولى ؛ لأنّنا لا نعلم بحدوث الكرّيّة في هذه الساعة ، وإنّما نعلم إجمالا بحدوث الكرّيّة المردّد بين الساعة الأولى والثانية ، فحدوثها في

ص: 402

الساعة الأولى إذن مشكوك ، والساعة الأولى متّصلة بما قبلها ، أي أنّ زمان الشكّ وهو الساعة الأولى متّصل بزمان اليقين وهو عدم الكرّيّة إلى الزوال ، وحينئذ لا مانع من جريان الاستصحاب لإثبات عدم الكرّيّة تعبّدا في الساعة الأولى بعد الزوال.

إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد في ترتيب الأثر الشرعي وهو انفعال الماء وتنجّسه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على الانفعال إنّما يفترضه في صورة عدم الكرّيّة مع الملاقاة لا في صورة عدم الكرّيّة مطلقا وإن لم يكن هناك ملاقاة أصلا ، وهذا معناه أنّ هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه أثر شرعي فيمتنع جريانه لذلك.

وهكذا أيضا لا يمكننا ترتيب الأثر الشرعي من جهة استصحاب عدم الملاقاة في الساعة الأولى ؛ وذلك لأنّ زمان الملاقاة وإن كان معلوما يقينا في الساعة الثانية ؛ لأنّ الملاقاة مردّدة بين الساعة الأولى أو الثانية بنحو مانعة الخلو ، فإذا كانت في الأولى فهي موجودة في الثانية بقاء ، وإذا كانت في الثانية فهي موجودة فيها حدوثا ، ولذلك فهي معلومة يقينا في الساعة الثانية ، ولكنّ هذا المقدار لا يفيد ؛ لأنّه قبل الساعة الثانية يفترض الشكّ فيها فيجري استصحاب عدمها ، وهذا معناه أنّه في الساعة الأولى تثبت عدم الملاقاة بالاستصحاب ، ويثبت بالاستصحاب الذي ذكرناه قبل قليل عدم الكرّيّة ، فلم يتحقّق موضوع الحكم الشرعي أيضا.

وإذا أخذنا عدم الكرّيّة بالاعتبار الثاني أي مقيسا ومنسوبا إلى زمان الملاقاة ، فمن الواضح أنّ الشكّ فيه إنّما يكون في زمان الملاقاة ، إذ لا يمكن الشكّ قبل زمان الملاقاة في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة ، وإذا تحقّق أنّ زمان الملاقاة هو زمان الشكّ ترتّب على ذلك أنّ زمان الشكّ مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية تبعا لتردّد نفس زمان الملاقاة في الساعتين ، وهذا يعني عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ؛ لأنّ زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشكّ محتمل الانطباق على الساعة الثانية ، ومع انطباقه عليها يكون مفصولا عن زمان اليقين بالساعة الأولى.

وأمّا الاحتمال الثاني : وهو ملاحظة عدم الكرّيّة مضافا ومقيسا إلى زمان الملاقاة ، والذي هو موضوع الحكم الشرعي بالانفعال ؛ لأنّه متى ما تحقّقت الملاقاة وعدم الكرّيّة معا حصل الانفعال.

ص: 403

فهنا نجد أنّ تحقّق الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق قبل زمان الملاقاة ، بل لا بدّ من تحقّقه في ظرفه لكي يترتّب الأثر الشرعي المطلوب ، وهذا معناه أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة لا بدّ أن يكون موجودا في زمان الملاقاة ، ولكن زمان الملاقاة مردّد بين الساعة الأولى والثانية ، ممّا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة مردّد أيضا في هذين الزمانين أيضا تبعا لتردّد زمان الملاقاة فيهما.

وحينئذ يحتمل أن يكون زمان الملاقاة وبالتالي زمان الشكّ في عدم الكرّيّة هو الساعة الأولى ، كما يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية.

فإن كان زمانهما الساعة الأولى فهذا معناه أنّ زمان الشكّ متّصل بزمان اليقين ولم يفصل بينهما شيء ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة المضاف والمنسوب إلى الملاقاة في الساعة الأولى ، فيثبت أنّ الملاقاة حصلت في الساعة الأولى وعدم الكرّيّة بالاستصحاب أيضا موجود في الساعة الأولى.

وأمّا إن كان زمانهما الساعة الثانية فهذا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة قد انفصل عن زمان اليقين بها ؛ لأنّ اليقين بعدم الكرّيّة إنّما هو إلى الزوال فقط والشكّ فيها في الساعة الثانية ، ممّا يعني أنّه في الساعة الأولى قد حصلت الكرّيّة فانفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين.

وبما أنّنا نحتمل كلا هذين الأمرين بسبب التردّد في حدوث الكرّيّة والملاقاة بين الساعة الأولى والثانية ، وحيث إنّ أحد الاحتمالين على تقديره لا يجري الاستصحاب ، فنحن نحتمل عدم جريان الاستصحاب من جهة عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين على أحد التقديرين.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الأثر الشرعي إذا كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة أي على اجتماع أحدهما بالآخر ، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في هذا العدم المقيّد بالملاقاة لا يكون إلا في زمان الملاقاة ، وأمّا الشكّ - قبل زمان الملاقاة - في عدم الكرّيّة فهو ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة.

ولكنّ الصحيح أنّ الأثر الشرعي مترتّب على عدم الكرّيّة والملاقاة بنحو

ص: 404

التركيب بدون أخذ التقيّد والاجتماع ، وإلا لما جرى استصحاب عدم الكرّيّة رأسا كما تقدّم ، وهذا يعني أنّ عدم الكرّيّة بذاته جزء الموضوع.

الإيراد الأوّل على التفسير الثاني :

أنّنا نسلّم كون الأثر الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، أي بما هو مضاف ومنسوب ومقيس إلى الملاقاة لا في مطلق الزمان ، وهذا معناه أنّه لا بدّ من اجتماع عدم الكرّيّة والملاقاة معا.

ومن هنا قد يقال بأنّ معنى اجتماعهما معا هو كون عدم الكرّيّة مقيّدا بالملاقاة ، وحينئذ يأتي ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق إلا في زمان الملاقاة لا قبلها.

فإذا شكّ في عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ، فهذا الشكّ ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد في زمان الملاقاة ليجري استصحابه ؛ لأنّ عدم الكرّيّة إن لم يكن في زمان الملاقاة فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي.

وإذا كان عدم الملاقاة مشكوكا في نفس زمان الملاقاة ، فحيث إنّ زمان الملاقاة مردّد بين الساعتين الأولى والثانية فيحتمل حينئذ انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ ، وبالتالي لا يحرز الاتّصال فلا يجري الاستصحاب أيضا.

إلا أنّ هذا القول مبني على أن يكون اجتماع عدم الكرّيّة مع الملاقاة بنحو التقييد والتقيّد ، وهذا غير تامّ في نفسه ، وإنّما هو بمعنى التركيب بين الجزءين ، أي وجود الجزءين ذاتهما من دون تقيّد أحدهما بالآخر.

والوجه في ذلك : ما تقدّم سابقا من أنّه لو كان عنوان التقيّد أو أي عنوان انتزاعي آخر مأخوذا في الموضوع ، فلا يمكن إثباته باستصحاب ذات الجزء ؛ لأنّه لا يثبت التقيّد إلا بالملازمة فيكون من الأصل المثبت ، أو من نقض اليقين باليقين كما تقدّم ، وحينئذ يمتنع جريان الاستصحاب في تمام الصور والفروض.

فالصحيح إذن كون ذات عدم الكرّيّة أحد الجزءين وذات الملاقاة الجزء الآخر من دون أخذ شيء آخر معهما.

وعلى هذا فنقول :

[ و ] لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان الملاقاة أو قبل زمانها ، غير أنّه في

ص: 405

زمانها يكون الجزء الآخر موجودا أيضا ، وعليه فعدم الكريّة مشكوك منذ الزوال وإلى زمان الملاقاة.

وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب فعلا إلا إذا استمرّ هذا العدم إلى زمان الملاقاة ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة من حين ابتداء الشكّ في ذلك الزمان الواقعي للملاقاة ، وبهذا نثبت بالاستصحاب عدما للكرّيّة متّصلا بالعدم المتيقّن ، وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب على هذا العدم إلا في مرحلة زمنيّة معيّنة قد تكون متأخّرة عن زمان اليقين.

بعد أن أثبتنا أنّ ذات الجزءين هو الموضوع للأثر الشرعي فنقول : إنّ عدم الكرّيّة لمّا كان بذاته جزء الموضوع ، فلا فرق فيه بين ما إذا كان في زمان الملاقاة ابتداء ، وبين ما إذا كان سابقا على زمان الملاقاة ولكنّه يبقى إلى زمان الملاقاة ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يثبت عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ابتداء ، إمّا بالعلم به وإمّا بالاستصحاب.

الثاني : أن يثبت عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ولكنّنا نجري الاستصحاب فيه إلى زمان الملاقاة فيكون في زمان الملاقاة موجودا أيضا.

وفي هذين النحوين يترتّب الأثر الشرعي ، غاية الأمر أنّه يترتّب في النحو الأوّل مباشرة ومن دون فاصل زمني ، بينما يترتّب في النحو الثاني في حين حصول الملاقاة لا من حين جريان استصحاب عدم الكرّيّة.

فمثلا عدم الكرّيّة الثابت قبل الزوال يمكن جريان استصحابه ؛ لأنّه مشكوك بعد الزوال ، وهذا يعني أنّنا نجرّ بقاء عدم الكرّيّة إلى حين تحقّق الملاقاة واقعا ، وحينئذ سوف يترتّب الأثر الشرعي بعد العلم بالملاقاة والذي يفرض كونه متأخّرا إلى الساعة الثانية ؛ لأنّه يعلم بالملاقاة فيها يقينا إمّا الآن وإمّا من الساعة الأولى وإلى الآن أيضا ، وباستصحاب عدم الكرّيّة إلى الزمان الواقعي للملاقاة سوف نثبت عدما للكرّيّة متّصلا بزمان العدم المتيقّن ؛ لأنّ زمان العدم المتيقّن هو ما قبل الزوال وهذا لم يفصل بينه وبين عدم الكرّيّة شيء ؛ لأنّها مشكوكة بعد الزوال من دون أن يفصل بينهما شيء ، وهذا العدم نجرّه ونبقيه إلى زمان الملاقاة ، فيتحقّق الأثر الشرعي من حين العلم بالملاقاة ، وهو وإن كان متأخّرا إلا أنّه لا يضرّ.

ص: 406

والوجه في ذلك هو :

فإنّ المناط اتّصال المشكوك الذي يراد إثباته استصحابا بالمتيقّن ، لا اتّصال فترة ترتب الأثر بالمتيقّن ، فإذا كنت على يقين من اجتهاد زيد فجرا ، وشككت في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ، ولم يكن الأثر الشرعي مترتّبا على اجتهاده عند الطلوع ، إذ لم يكن عادلا وإنّما أصبح عادلا بعد ساعتين ، أفلا يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد طلوع الشمس؟ فكذلك في المقام.

وبعد أن جرى الاستصحاب سوف يتأخّر ترتّب الأثر الشرعي عن الجزء المستصحب بانتظار حصول الجزء الآخر إلا أنّ هذا لا يضرّ ؛ وذلك لأنّ المناط في جريان الاستصحاب هو اتّصال المشكوك بالمتيقّن أي اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لا اتّصال الأثر بالمتيقّن ؛ لأنّه مع انفصال المشكوك عن المتيقّن وعدم اتّصالهما فلن نحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وأمّا الأثر فيشترط وجوده ، وأمّا كونه يترتّب مباشرة أو يتأخّر إلى حين حصول الجزء الآخر فهذا ليس شرطا.

ويدلّ على ذلك : أنّ الاستصحاب يجري في كثير من الأحيان مع كون الأثر متأخّرا عن المستصحب ، فمثلا إذا كنّا على يقين من اجتهاد زيد في الفجر ثمّ بعد طلوع الشمس شككنا في بقاء اجتهاده ، ولكن نفرض أنّ الأثر الشرعي المطلوب من استصحاب بقاء اجتهاده لا يترتّب إلا بعد ساعتين من طلوع الشمس ؛ لأنّه بعد ساعتين نعلم بأنّه عادل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب بقاء الاجتهاد ، وبضمّه إلى العدالة الحاصلة بعد ساعتين يترتّب الأثر الشرعي كجواز تقليده مثلا ، مع أنّ هذا الأثر لم يترتّب على المستصحب مباشرة أي عند طلوع الشمس ؛ لأنّه زمان جريان الاستصحاب وإنّما يترتّب بعد ذلك بساعتين.

وفي مقامنا يقال كذلك ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة وإن كان يثبت عدم الكرّيّة بعد الزوال ، إلا أنّ الأثر الشرعي لا يترتّب إلا بعد العلم بحصول الملاقاة ، وهذا إنّما يكون في الساعة الثانية ، وهذا لا مانع منه ما دام زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن حين إجراء الاستصحاب ، وهو هنا كذلك ، فإنّ عدم الكرّيّة المتيقّنة قبل الزوال والمشكوكة بعد الزوال زمانهما متّصل ولا انفصال فيه.

ثانيا : أنّ ما ذكر لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيما إذا كان

ص: 407

زمان حدوثها مجهولا مع العلم بتاريخ الملاقاة ، كما إذا كان عدم الكرّيّة وعدم الملاقاة معلومين عند الزوال وحدثت الملاقاة بعد ساعة ، ولا يدرى متى حدثت الكرّيّة ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة يجري عند صاحب ( الكفاية ) ، مع أنّه يواجه نفس الشبهة الآنفة الذكر ؛ لأنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة إنّما هو في زمان الملاقاة بحسب تصوّر هذه الشبهة أي بعد ساعة من الزوال ، مع أنّ زمان اليقين بعدم الكرّيّة هو الزوال.

الإيراد الثاني على التفسير الثاني :

أنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) على هذا التفسير لو تمّ فهو يتمّ أيضا في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان عدم الكرّيّة ، مع أنّه بنى فيها على جريان الاستصحاب ، والحال أنّ نفس الشبهة التي صوّرها هناك تأتي هنا أيضا.

وبيانه : أنّنا إذا كنّا نعلم بعدم الكرّيّة وبعدم الملاقاة قبل الزوال ، ثمّ عند الزوال حدثت الكرّيّة والملاقاة ولكن تاريخ الملاقاة معلوم وهو بعد الزوال بساعة مثلا ، وأمّا تاريخ الكرّيّة فهو مجهول ومردّد بين أن يكون قبل زمان الملاقاة أو بعده.

فهنا إذا كان زمان حدوث الكرّيّة بعد الملاقاة ، سوف يجري استصحاب عدم الكريّة المتيقّن قبل الزوال إلى زمان حدوث الملاقاة ؛ لأنّه في فترة الزوال وإلى ساعة حصول الملاقاة فهو مشكوك فيجري استصحابه ؛ لأنّ زمانه متّصل بزمان المتيقّن.

ولكن إذا كان زمان حدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، فهنا لن يجري استصحاب عدم الكريّة ؛ لأنّ هذا العدم يعلم بانتقاضه يقينا بحدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، واستصحابه في أوائل الزوال لا يفيد ؛ لأنّ الذي يفيد هو عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، وهذا يحتمل انتقاضه بطروّ الكرّيّة فلم يتحقّق استصحاب عدم الكرّيّة المقيّد أو المنسوب إلى الملاقاة.

أو يقال بأنّ زمان الكرّيّة لمّا كان مجهولا ومردّدا بين كونه قبل زمان الملاقاة أو بعده ، فالذي ينفع استصحابه هو عدم الكرّيّة المنسوب والمقيّد بالملاقاة ، وهذا لا يكون إلا في زمان العلم بالملاقاة ، وهو بعد ساعة من الزوال ، وأمّا من حين الزوال وإلى تمام الساعة الأولى منه فهذا الزمان وإن كان يجري فيه استصحاب عدم الكرّيّة ، إلا أنّه لا يفيد ؛ لأنّه في هذه الفترة لا يترتّب الأثر الشرعي وإنّما يترتّب بعد الساعة الأولى الذي هو زمان الملاقاة.

ص: 408

وبهذا ظهر أنّ هذه الشبهة تمنع من جريان الاستصحاب في تمام الصور لو قيل بها.

ولا نرى حاجة للتوسّع أكثر من هذا في استيعاب نكات الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.

كما أنّ ما تقدّم من بحوث الاستصحاب أحاط بالمهمّ من مسائله ، وهناك مسائل في الاستصحاب لم نتناولها بالبحث هنا - كالاستصحاب في الأمور التدريجيّة والأصل السببي والمسبّبي - وذلك اكتفاء بما تقدّم من حديث عن ذلك في الحلقة السابقة.

وبذلك نختم الكلام عن الأصول العمليّة.

* * *

ص: 409

ص: 410

الفهرس

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر... 5

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر... 7

1 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء... 11

البرهان الأوّل ... 14

البرهان الثاني ... 25

البرهان الثالث ... 29

البرهان الرابع ... 33

البرهان الخامس ... 36

البرهان السادس ... 39

2 - الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط... 43

3 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي... 53

4 - دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي... 61

5 - ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر... 71

1 - دور الاستصحاب في هذا الدوران... 73

2 - الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة... 76

3 - الأقلّ والأكثر في المحرّمات... 80

4 - الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر... 84

5 - الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط... 86

أ - الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان... 88

ب - الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر... 100

ص: 411

الاستصحاب... 107

أدلّة الاستصحاب... 109

الرواية الأولى ... 111

الرواية الثانية ... 113

الرواية الثالثة ... 141

الرواية الرابعة ... 162

الاستصحاب أصل أو أمارة... 165

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب... 172

أركان الاستصحاب... 177

أ - اليقين بالحدوث... 180

ب - الشكّ في البقاء... 205

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني ... 221

ج - وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة... 227

د - الأثر العملي... 247

مقدار ما يثبت الاستصحاب... 261

الأصل المثبت... 275

عموم جريان الاستصحاب... 283

تطبيقات استصحاب الحكم المعلّق... 303

1 - استصحاب الحكم المعلّق... 305

الاعتراض الأول... 308

الاعتراض الثاني ... 317

الاعتراض الثالث ... 320

2 - استصحاب عدم النسخ... 331

3 - استصحاب الكلّي... 339

القسم الأوّل له حالتان ... 348

القسم الثاني له حالتان أيضا ... 351

ص: 412

4 - الاستصحاب في الموضوعات المركّبة... 367

النقطة الأولى ... 371

النقطة الثانية ... 375

النقطة الثالثة ... 381

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين... 395

الفهرس... 411

ص: 413

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.