شرح الحلقة الثّالثة المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 429

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

4

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الرابع

الأصول العملية

البراءة

العلم الإجمالي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

خصائص الأصول العمليّة

ص: 5

ص: 6

خصائص الأصول العمليّة

عرفنا فيما تقدّم (1) أنّ الأصول العمليّة نوع من الأحكام الظاهريّة الطريقيّة المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعيّة أو التعذير عنها ، وهو نوع متميّز عن الأحكام الظاهريّة في باب الأمارات ، وقد ميّز بينهما بعدّة وجوه :

تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة تصدر من الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة للأحكام ؛ لبيان ما هو الأهمّ من هذه الملاكات عند عدم تمييز المكلّف لها ، وقلنا : إنّها على قسمين : الأمارات والأصول.

وتقدّم أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها أحكام طريقيّة يراد بها التوصّل للحكم الواقعي ، فهي لا تشتمل على مبادئ وملاكات زائدة عن ملاكات ومبادئ الأحكام الواقعيّة ، بل هي إبراز لما هو الأهمّ من ملاكات الواقع بداعي تنجيزها إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، أو التعذير عنها إن كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ.

إلا أنّ الحكم الظاهري المجعول في باب الأمارات يختلف عنه في باب الأصول وإن اتّحدا في كونهما حكما ظاهريّا ، وأمّا حقيقة كلّ منهما وتمييز أحدهما عن الآخر فهذا ما سوف نبحث فيه الآن.

ولذلك نقول : اختلفت كلماتهم في الفرق بين الأمارات والأصول على أقوال :

الأوّل : أنّ الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل ، فالمجعول في الأوّل الطريقيّة مثلا ، وفي الثاني الوظيفة العمليّة أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون تضمّن لجعل الطريقيّة.

الاتّجاه الأوّل : ذكرت مدرسة الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري أنّ الفارق بين الأمارات

ص: 7


1- في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

والأصول ينشأ من نوعيّة وسنخ المجعول في كلّ منهما ، وذلك بأن يقال : إنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة والعمليّة والكاشفيّة ، أي أنّ الشارع نزّل الأمارة منزلة العلم في الكاشفيّة والطريقيّة ، فهي وإن كانت كاشفيّتها وطريقيّتها ناقصة تكوينا ، إلا أنّ الشارع بجعله الحجّيّة لها تمّم هذا الكشف ، كما هو الحال في خبر الثقة مثلا.

بينما المجعول في باب الأصول أحد أمرين :

1 - أن يكون المجعول تحديد الوظيفة العمليّة فقط في مقام الشكّ من دون أن يكون هناك أيّة كاشفيّة أو تنزيل ، وإنّما يلحظ الشكّ فقط ويعالجه ، كما هو الحال في الأصول العمليّة المحضة ، كالبراءة والاحتياط ، فإنّ المجعول في الأوّل المعذّريّة وفي الثاني المنجّزيّة عن المورد المشكوك من دون أن يكون فيهما كاشفيّة أو تنزيل أصلا.

2 - أن يكون المجعول التنزيل أي أنّ الشارع ينزّل الأصل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي فقط الذي هو الخصوصيّة الثالثة لليقين ، بناء على تقسيمات الميرزا وتصوّراته ، فهذا النحو من الأصول العمليّة قد لوحظ فيه أن يكون باعثا ومحرّكا تماما كاليقين ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث يقال : إنّ الشارع قد نزّل مؤدّى الاستصحاب أي الحكم المستصحب منزلة اليقين ، فكأنّ الحكم ثابت واقعا ، وهو يستدعي الجري العملي على طبقه.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك ، ومرّ بنا أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي.

وحاصل فذلكة الموقف : أنّه لم يرد عنوانا ( الأمارة ) و ( الأصل ) في دليل ليتكلّم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأي نحو اتّفق ، وإنّما نعبّر بالأمارة عن تلك الحجّة التي لها آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة لمؤدّاها ، ونعبّر بالأصل عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار.

وقد عرفنا سابقا أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة لا يفي بإثبات تلك الآثار للأمارة.

ويرد عليه : أنّ هذا الفرق بينهما لا ينظر إلى حقيقة الأمارة والأصل ، وإنّما ينظر إلى كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في موارد الأمارة والأصل فقط ، مع أنّه لا شكّ بوجود فارق جوهري وثبوتي يختلف على أساسه الأصل عن الأمارة ، سواء كان لسان جعله

ص: 8

عنوان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، أم كان بلسان الطريقيّة والكاشفيّة ، فإنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة.

والحاصل أنّ عنواني الأمارة والأصل لو كانا واردين في دليل شرعي - كالأخبار - كان لهذه التفرقة وجه ؛ لأنّ الشارع يكون على هذا الأساس قد فرّق بينهما في الواقع وأنّه يوجد ملاك واقعي للفرق بينهما ، فيكون ما ذكره الميرزا من الفارق الظاهري صحيحا ؛ لأنّه لا يطالب بالكشف عن الفارق الثبوتي ما دام الشارع قد قال بوجوده واقعا. إلا أنّهما لم يردا في الأخبار كذلك ، وعليه فلا مبرّر للتفرقة بينهما بأي نحو اتّفق.

وإنّما عنوانا الأمارة والأصل من المصطلحات الأصوليّة للتعبير عن نحوين من الحكم الظاهري فيقال : إنّ الحكم الظاهري الذي يثبت به المدلول الالتزامي بحيث تترتّب الأحكام الشرعيّة على لوازمه الشرعيّة والعقليّة يعبّر عنه بالأمارة ، بينما الحكم الظاهري الذي لا يثبت به إلا المدلول المطابقي فقط أو هو مع المدلول الالتزامي الشرعي دون العقلي يعبّر عنه بالأصل.

ومن هنا ارتكز عندهم أنّ مثبتات الأمارة حجّة سواء كانت هذه اللوازم شرعيّة أم عقليّة ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة إلا إذا كانت اللوازم شرعيّة فقط.

وحينئذ يبحث عن حقيقة المجعول في الأمارة والأصل من أجل بيان النكتة الثبوتيّة في كلّ منهما والتي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، فالبحث ينبغي أن ينصبّ حول هذا الفارق الثبوتي والذي هو من المخترعات الأصوليّة.

وقد تقدّم أنّ مجرّد كون المجعول في الأمارة الطريقيّة والكاشفيّة والعمليّة دون الأصل لا يكفي لتبرير حجّيّة مثبتات الأمارة دون الأصل ؛ وذلك لأنّ هذه التفرقة لا تنظر إلى النكتة الثبوتيّة ، وإنّما هي مجرّد صياغة إثباتيّة فقط.

وعليه فلو كان الأصل مجعولا بلسان الطريقيّة والكاشفيّة أيضا لم تكن مثبتاته حجّة ، بينما تكون مثبتات الأمارة حجّة حتّى لو كانت مجعولة بلسان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، وهذا يعني أنّ الفارق أعمق من ذلك.

الثاني : أنّ الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشكّ موضوعا للأصل العملي ، وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجّيّة المجعولة للأمارة.

ص: 9

وهذا الفرق مضافا إلى أنّه لا يفي بالمقصود غير معقول في نفسه ؛ لأنّ الحجّيّة حكم ظاهري ، فإن لم يكن الشكّ مأخوذا في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الأمارة حجّة على العالم غير معقول.

ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجّيّة الأمارة موردا لا موضوعا ، غير أنّنا لا نتعقّل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من الأخذ.

الاتّجاه الثاني : في بيان الفرق بين الأمارة والأصل ما يقال : من أنّ الشكّ قد أخذ في موضوع الأصل ، بينما لم يؤخذ في موضوع الأمارة ، فالفرق نشأ من هذه الجهة.

فمثلا البراءة والاحتياط أخذ في موضوعهما الشكّ في التكليف أو الشكّ في المكلّف به ، بينما خبر الثقة مثلا لم يؤخذ في موضوعه الشكّ.

وفيه أوّلا : أنّه لا يفي بالمقصود من التفرقة بين الأمارة والأصل من حيث حجّيّة مثبتات الأمارة ولوازمها الشرعيّة والعقليّة وعدم حجّيّة اللوازم العقليّة للأصل ؛ وذلك لأنّه لا يكشف عن النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، إذ مجرّد كون الشكّ مأخوذا في الأصل دون الأمارة ليس إلا صياغة اعتباريّة فقط ؛ لأنّه لو فرض عدم أخذ الشكّ في موضوع الأصل مع ذلك لم تكن لوازمه العقليّة حجّة ، ولو فرض أخذ الشكّ في موضوع الأمارة كانت لوازمها حجّة أيضا.

وثانيا : أنّ أخذ الشكّ وعدمه غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المجعولة في الأمارات والأصول حكم ظاهري ، غايته إثبات التنجيز أو التعذير عن الحكم الواقعي ، فلو لم يؤخذ الشكّ في موضوعه كما هو المدّعى في الأمارات لزم إطلاقها.

وهذا يعني أنّ الأمارة حجّة حتّى على العالم بالحكم الشرعي الواقعي ، ومن الواضح أنّ جعل الأمارة حجّة على العالم بالحكم غير معقول في نفسه ؛ لأنّ هذه الأمارة إن كانت موافقة بحسب مؤدّاها للمعلوم كانت الحجّيّة للعلم فجعلها كذلك للأمارة لغو ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ؛ لأنّ معناها أنّ من تنجّز عليه التكليف فهو منجّز عليه ، وإن كانت مخالفة للمعلوم ومع ذلك كانت حجّة فلازمه كون الأمارة رادعة عن العمل بالعلم ، والردع عن العمل بالعلم مستحيل ؛ لأنّ حجّيّة العلم يستحيل جعلها ويستحيل رفعها ، كما تقدّم.

ص: 10

ومن هنا لم يكن هناك معنى للتفرقة بين الأمارة والأصل بأخذ الشكّ وعدمه ، إذ لا يمكن تعقّل ذلك في نفسه.

فإن قيل : بأنّ الشكّ مأخوذ في الأصل موضوعا بينما الشكّ مأخوذ في الأمارة موردا لا موضوعا ، بمعنى أنّ الشكّ مأخوذ في الأمارات والأصول من حيث المورد والظرف ؛ لأنّهما حكم ظاهري وهو مجعول في مقام الشكّ في الحكم الواقعي غير أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الأصل أيضا دون الأمارة.

كان الجواب : أنّ هذا - لو سلّم - فهو يتخلّص من الاعتراض السابق ، إلا أنّه مع ذلك ليس صحيحا ؛ لأنّ الحكم الظاهري الذي يجعله الشارع إمّا أن يكون قد لوحظ فيه الشكّ أو لا.

فإن كان الشكّ ملحوظا فيه كان معناه أنّ الشكّ موضوع للحكم الظاهري سواء في ذلك الأمارة والأصل ؛ لأنّ معنى لحاظه كونه قيدا.

وإن لم يكن الشكّ ملحوظا من قبل الشارع كان الحكم الظاهري مطلقا سواء في ذلك الأمارة والأصل ، وإطلاقه يعني شموله لحالة العلم فيأتي الإشكال السابق.

وبتعبير آخر : أنّ الحكم الظاهري نوع واحد في عالم الجعل والثبوت الذي هو عالم التشريع ولحاظ الحكم والموضوع ، وهذا النوع الواحد إمّا أن يلاحظ فيه الشكّ أو لا ، فإن لوحظ كان مقيّدا وإن لم يلاحظ كان مطلقا ، ولا يمكن فرض نوعين من الحكم الظاهري في مقام الجعل والثبوت أحدهما أخذ ولوحظ فيه الشكّ دون الآخر.

نعم ، يمكن فرض ذلك في عالم الإثبات والصياغة الاعتباريّة كما هو مفاد الاتّجاه الثالث ، فيأتي فيه الإشكال الذي سنورده عليه.

الثالث : أنّ الفرق بينهما ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل ، وعدم أخذه في لسان دليل حجّيّة الأمارة ، بعد الفراغ عن كونه مأخوذا في موضوعهما ثبوتا معا.

وهذا الفرق لا يفي أيضا بالمقصود. نعم ، قد يثمر في تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل بالحكومة.

هذا ، مضافا إلى كونه اتّفاقيا ، فقد يتّفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل

ص: 11

الحجّيّة كما لو بني على ثبوت حجيّة الخبر بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلا حينئذ؟!

الاتّجاه الثالث : يذهب إلى التفرقة بين الأمارة والأصل على أساس ما هو المأخوذ في دليل حجّيّة كلّ منهما.

فإن كان المأخوذ في لسان الدليل الشكّ كان الحكم الظاهري أصلا ، وإن لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان الدليل كان أمارة ، فالأصل هو ما أخذ الشكّ موضوعا في لسان دليله بينما الأمارة لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان دليلها ، هذا في مرحلة الإثبات والصياغة.

وأمّا في مرحلة الثبوت ومقام الجعل والتشريع فلا فرق بين الأمارة والأصل في كون الشكّ مأخوذا في موضوعهما معا ؛ لأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ويرد على هذا الاتّجاه ، أوّلا : أنّه لا يفي بما تقدّم من كون مثبتات الأمارة ولوازمها العقليّة حجّة دون الأصل ؛ لأنّه مجرّد صياغة إثباتيّة ولا يبرز النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف.

نعم ، لعلّ هذه التفرقة تنفع في حلّ مشكلة تقدّم الأمارات على الأصول بالحكومة ، وذلك بأن يقال : إنّ الحكومة التي هي نوع من التخصيص والتقييد ولكن بلسان رفع الموضوع إنّما تجري بين الدليلين اللفظيّين ؛ لأنّ القرينة من شئون الألفاظ ، وحيث إنّ هذا الاتّجاه يفرّق بين الأمارة والأصل بلحاظ عالم الصياغة والدليل ، فهو ناظر إلى كيفيّة صياغة الدليل لفظا من كون الشكّ موجودا في موضوع دليل الأصل دون الأمارة.

وعلى هذا يقال : إنّ الأمارة حيث لم يؤخذ في موضوع دليلها الشكّ فهي مطلقة من هذه الناحية إثباتا لا ثبوتا ، ومفادها جعل العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة لكلّ ما ليس بعلم ، فتشمل موارد الأصل أيضا ، فإذا كان هناك أمارة في مورد الأصل تقدّمت عليه ؛ لأنّها ترفع موضوعه بجعل العمليّة للمورد الذي قامت عليه ، وبالتالي يرتفع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل.

وثانيا : أنّ هذه التفرقة ليست تامّة في تمام الموارد ، بل هي مجرّد اتّفاق محض ؛

ص: 12

وذلك لأنّه إذا اتّفق وجعل الدليل خاليا من الشكّ كان أمارة ، وأمّا إذا كان الشكّ مأخوذا في الدليل كان أصلا ، وهذا قد يتّفق في بعض الحجج والأمارات كخبر الثقة حيث إنّ بعض أدلّته كآية : ( النبأ ) و ( النفر ) لم يؤخذ في لسانها الشكّ فيكون الخبر أمارة ، بينما بعض أدلّته الأخرى كآية : ( السؤال ) أخذ في لسانها الشكّ فيكون من ناحيتها أصلا ، فهل يلتزم بكونه أصلا مع ذلك أو كونه أصلا وأمارة في آن واحد؟!

الرابع : ما حقّقناه في الجزء السابق (1) من أنّ الأصل العملي حكم ظاهري لوحظت فيه أهمّيّة المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلّة الحجّيّة الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال محضا.

وقد عرفنا سابقا أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الأمارة على الأصل من حجّيّة مثبتاتها.

الاتّجاه الرابع : ما هو الصحيح والمختار من أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في مقام الشكّ والاشتباه بين التكاليف لدى المكلّف ، تارة يجعله بلحاظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى بلحاظ أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فإذا لوحظت في الحكم الظاهري أهمّيّة المحتمل أي نوعيّة الحكم المنكشف في هذا الحكم كان أصلا عمليّا ، فمثلا البراءة والاحتياط لوحظت فيهما قوّة المحتمل من نفي التكليف والمعذّريّة في البراءة ، ومن أهمّيّة الإلزام في الاحتياط وذلك عند الاختلاط والاشتباه والتزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها.

وإذا لوحظت أهمّيّة الاحتمال أي قوّة الكاشف كان الحكم الظاهري أمارة ، كخبر الثقة مثلا فإنّ الملاحظ فيه قوّة الكاشفيّة في الخبر الذي يأتي به الثقة بقطع النظر عن نوعيّة المحتمل والحكم الذي يحكي عنه.

وإذا لوحظت قوّة الاحتمال والمحتمل معا كان أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث لوحظ فيه قوّة الكاشفيّة الناشئة من غلبة أنّ ما يوجد يبقى ، ولوحظ فيه قوّة المحتمل أيضا من توفّر أركان الاستصحاب في القضيّة المستصحبة.

ص: 13


1- في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد تحت عنوان : الأمارات والأصول.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر ما هو المرتكز عند الأصوليّين من تقديم الأمارات على الأصول ، ومن كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة دون الأصل ، وذلك على أساس أنّ الكاشفيّة الموجودة في الأمارة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد ، فهي كما تكشف عن المؤدّى تكشف عن كلّ لوازمها بنسبة واحدة ، فحينما تجعل الحجّيّة لها على أساس قوّة الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلولين معا.

بينما في الأصل لم يلحظ إلا أنّ هذا الحكم الذي يحكي عنه الأصل ثابت ، وأمّا لوازمه ومثبتاته فلم تجعل لها الحجّيّة ؛ لعدم نظر دليل الحجّيّة ؛ إليها ، ومعه يمكن للشارع أن يتعبّد بالمدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي ظاهرا وإن كانا متلازمين واقعا.

وعلى هذا الأساس أيضا تتقدّم الأمارة على الأصل ؛ لأنّها أخصّ من الأصل ونصّ في موردها ، فتقدّم بنكتة الأخصّيّة والنصّيّة على ما سوف يأتي تحقيقه في بحث التعارض.

* * *

ص: 14

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة

اشارة

ص: 15

ص: 16

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة

وتنقسم الأصول العمليّة إلى شرعيّة وعقليّة.

فالشرعيّة هي ما كنّا نقصده آنفا ، ومردّها إلى أحكام ظاهريّة شرعيّة نشأت من ملاحظة أهمّيّة المحتمل.

والعقليّة وظائف عمليّة عقليّة ، ومردّها في الحقيقة إلى حقّ الطاعة إثباتا ونفيا ، فحكم العقل مثلا بأنّ ( الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) مرجعه إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى الذي يستقلّ به العقل إنّما هو حقّ الطاعة القطعيّة ، فلا تفي الطاعة الاحتماليّة بحقّ المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان - على مسلك المشهور - مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّة ، بينما يرجع حكم العقل بمنجّزيّة التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة ، وهكذا.

تنقسم الأصول العمليّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي الأحكام الظاهريّة المجعولة بلحاظ أهمّيّة المحتمل ونوعيّة الحكم كالاحتياط والبراءة ، فإنّها أصول عمليّة جعلها الشارع لتحديد الموقف العملي والوظيفة عند الشكّ والاشتباه أو المجعولة بلحاظ أهمّيّة الاحتمال والمحتمل معا ، من قبيل الاستصحاب فإنّه أصل عملي محرز أو تنزيلي مجعول شرعا ، فهذه الأصول كلّها تعبّدات محضة أنشأها الشارع.

الثاني : الأصول العمليّة العقليّة وهي الأحكام التي يدركها العقل العملي ، فيحكم بأنّ هذا ما ينبغي أن يكون عند الشكّ البدوي في الحكم الشرعي ، أو عند الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، فالعقل هو الذي يحدّد وظيفة المكلّف العمليّة في مثل هذه الموارد.

ص: 17

والملاك الكلّي في هذه الأصول العقليّة واحد ، وهو تحديد دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى عقلا ، وأنّ حقّ الطاعة هل يثبت في هذا المورد أم لا؟

ومن أمثلة هذه الأصول العقليّة :

أوّلا : قاعدة الاشتغال اليقيني التي تجري في الشبهات الموضوعيّة عند الشكّ في المكلّف به ، فهذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، وأنّ هذه الدائرة هل تختصّ بالامتثال اليقيني فقط أو تشمل الامتثال الاحتمالي أيضا؟ فيقال : إنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى لا يكفي فيه الامتثال والطاعة الاحتماليّة ، بل لا بدّ من الامتثال اليقيني ؛ لكي يعلم بفراغ الذمّة وخروجها عن عهدة حقّ الطاعة ، وأمّا الطاعة الاحتماليّة فلا تفي بفراغ الذمّة وخروجها يقينا عن العهدة وحقّ الطاعة.

وثانيا : قاعدة البراءة العقليّة على مسلك المشهور ، حيث ذهبوا إلى أنّ العقل يحكم في موارد الشبهات الحكميّة البدويّة بالبراءة والتأمين ، فإنّ هذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة لا تشمل إلا التكاليف المقطوعة أي المعلومة يقينا ، وأمّا التكاليف المظنونة والمشكوكة والمحتملة فهي ليست موردا لحقّ الطاعة.

وثالثا : قاعدة الاحتياط العقلي في موارد الشبهات الحكميّة على المسلك المختار ، فإنّها حكم عقلي مرجعها إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى تشمل كلّ انكشاف للتكليف ، سواء كان بنحو قطعي أم ظنّي أم كان احتمالا فقط.

وهكذا البحث في سائر الأصول العمليّة العقليّة كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّ العقل يحكم بلزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة فيها ، وليس ذلك إلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة تشمل كلّ انكشاف للتكليف الأعمّ من القطعي وغيره.

وكذا قاعدة التنجيز العقلي في موارد التعارض أو الدوران بين المتباينين ، فإنّ مردّها إلى دائرة حقّ الطاعة أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الأصول العمليّة العقليّة من المدركات العقليّة التي يستقلّ العقل بها في موارد الشكّ في الحكم الشرعيّ ، والتي مرجعها إلى حقّ الطاعة سعة وضيقا.

وللقسمين مميّزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام شرعيّة ، والأصول العمليّة العقليّة

ص: 18

ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة.

ثمّ إنّه توجد فوارق نظريّة وعمليّة بين الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة ، نذكر منها ما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة مرجعها إلى حكم الشارع فلا بدّ أن تكون صادرة من الشارع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد هذه الوظائف التي يرجع إليها المكلّف عند الشكّ في التكليف ، فمدركها الآيات والروايات أو الإجماع أو السيرة.

بينما الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى حكم العقل العملي بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، أي أنّ العقل يستقلّ بالحكم في تحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف الشاكّ في التكليف ، وهذا الحكم العقلي أساسه الذي يستند عليه هو دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا وإثباتا ونفيا.

وهذا فارق نظري بين القسمين.

ثانيا : أنه ليس من الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله ، فقد يوكل الشارع أمر تحديد الوظيفة العمليّة للشاكّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافا للأصل العملي العقلي ، فإنّه لا بدّ من افتراضه بوجه في كلّ واقعة من وقائع الشكّ في حدّ نفسها.

ثانيا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ مورد مشكوك ؛ وذلك لأنّها أحكام شرعيّة مجعولة من قبل الشارع ، وعليه فيمكن للشارع أن يجعل حكما شرعيّا فيحدّد على أساسه الوظيفة العمليّة للشاكّ في هذه الواقعة ، ويمكنه ألاّ يتدخّل مباشرة وذلك بأن يوكل أمر تحديد الوظيفة العمليّة إلى حكم العقل ، فلذلك يكون جعلها ممكنا كعدم جعلها أيضا.

وأمّا الأصول العمليّة العقليّة فمن الضروري أن تكون موجودة في كلّ واقعة من الوقائع المشكوكة سواء منها البدويّة أم المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ وذلك لأنّها من مدركات العقل العملي المستقلّ بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، ففي كلّ واقعة يحكم العقل إمّا بلزوم الامتثال والإطاعة وإمّا بالتأمين والمعذّريّة ، وإمّا بالتخيير ولا تخلو واقعة من أحد هذه الأحكام العقليّة.

ثمّ إنّ هذا الحكم العقلي قد يبقى بأن يصدر من الشارع حكما مؤيّدا ومرشدا

ص: 19

لحكم العقل ، أو يسكت عنه كذلك ، أو يصدر من الشارع ما يخالف حكم العقل هذا ، وفي هذه الحالة يستحيل أن يكون حكم العقل قطعيّا ؛ لأنّه لا يمكن أن يصدر من الشارع ما يخالف أحكام العقل القطعيّة ، بل يكون ظنّيّا ، وحينئذ يكون صدور الحكم الشرعي متقدّما على حكم العقل الظنّي ؛ لأنّه يكون إرشادا إلى عدم حجّيّة مثل هذا الحكم.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة قد تردّ إلى أصلين ؛ لأنّ العقل إن أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة المشكوكة حكم بأصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة ، ولكن قد يفرض أصل عملي عقلي ثالث وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة يمكن إرجاعها إلى أصلين فقط ، وذلك بأن يقال : إنّ الأصول العقليّة مرجعها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا أو إثباتا ونفيا ، وحينئذ نقول : إنّ العقل تارة يدرك أنّ حقّ الطاعة منتف في هذه الواقعة المشكوكة فيحكم بالبراءة والتأمين ، وليس هناك شيء آخر ، فمثلا إذا كانت الشبهة بدويّة حكم العقل بالتأمين بناء على مسلك المشهور باعتبار أنّ حقّ الطاعة مختصّ بالتكاليف الثابتة بالقطع فقط ، وأخرى يدرك ثبوت حقّ الطاعة فيحكم بالتنجيز كما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّه يحكم بالاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة فيكون حقّ الطاعة أوسع من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

ثمّ إنّه قد يفرض وجود أصل عملي عقلي ثالث ، وهو أصالة التخيير وذلك فيما إذا كانت الواقعة المشكوكة يدور أمرها بين محذورين كالوجوب والحرمة ، فإنّ العقل لا يحكم بالاحتياط إذ يستحيل الجمع بين المحذورين معا ؛ لأنّه من اجتماع الضدّين معا على موضوع واحد ، ولا يحكم بالبراءة ؛ لأنّ المكلّف عمليّا إمّا أن يفعل أو يترك ، فلا يمكن التأمين عنهما معا لثبوت أحدهما واقعا فيلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة ولو التزاما كما سيأتي في محلّه ، فحينئذ يحكم بالتخيير.

وقد يعترض على افتراض هذا الأصل : بأنّ التخيير إن أريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال الذمّة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ؛ لأنّ الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروري الوقوع ، وإن أريد به

ص: 20

أنّه لا يلزم المكلّف عقلا بفعل ولا ترك ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة.

وسيأتي (1) تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن شاء اللّه تعالى.

إشكال وجوابه : إلا أنّ هذا الأصل العملي الثالث وجّه إليه اعتراضات منها هذا الاعتراض وحاصله : أنّ التخيير المفترض في موارد دوران الأمر بين المحذورين ما ذا يراد به؟

فإن أريد به كون التكليف داخلا في العهدة والذمّة على نحو التخيير - بمعنى أنّ المكلّف يجب عليه تكليف ما في هذه الواقعة التي يدور أمرها بين الوجوب والحرمة ، فجامع التكليف داخل في العهدة ، والذمّة مشتغلة به إلا أنّ المكلّف مخيّر بينهما في مقام الامتثال فله أن يختار الحرمة أو الوجوب - فهذا غير معقول ؛ وذلك لأنّ الجامع بين الفعل والترك والذي يدخل في العهدة ضروري الوقوع ؛ وذلك لأنّ المورد يدور بين المحذورين فالمكلّف إمّا فاعل أو تارك لا محالة ، وحينئذ لا نحتاج إلى الحكم بالتخيير ؛ إذ لا فائدة منه عمليّا فيكون مثل هذا الأصل العقلي لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وإن أريد به كون المكلّف غير ملزم بشيء من هذين التكليفين أي أنّه لا يدخل في عهدته ولا تشتغل ذمّته بشيء منهما لا بنحو التفصيل ولا بنحو الجامع ، فهذا عين البراءة ؛ لأنّ البراءة معناها التأمين عن التكليف المشكوك ، وحينئذ يلغي جعل التخيير ؛ لأنّ البراءة تفي بالمقصود منه.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد معنى محصّل للتخيير العقلي في هذا المورد.

والجواب عنه سيأتي مفصّلا عند الكلام عن دوران الأمر بين المحذورين ، وحاصله : أنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف المشكوك في موارد الشبهات البدويّة ، وأمّا الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري فيها البراءة للعلم بأصل التكليف والذي يعتبر بيانا إجماليّا ، ولذلك لا يمكن إجراء البراءة هنا ما دام العلم الإجمالي بالجامع موجودا ، وإنّما تجري أصالة التخيير العقلي والتي نتيجتها عمليّا كالبراءة.

ص: 21


1- في البحث الثالث من أبحاث الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ ، تحت عنوان الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا حصر عقلي لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحابا مثلا.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا يمكن حصرها عقلا ، وذلك لما تقدّم من أنّها أحكام شرعيّة يجعلها الشارع في موارد الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، ولهذا تكون تابعة لكيفيّة جعلها شرعا وللصياغة والأسلوب التي تصاغ به هذه الأصول العمليّة ، وعليه فقد يجعل الشارع البراءة أو الاحتياط والاشتغال وقد يجعل الاستصحاب أو التخيير ونحو ذلك.

هذا كلّه بحسب الموضوعات الخارجيّة أي بلحاظ النظر إلى عالم الخارج ، وأمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع فالشارع عند تصوّره الحكم المشكوك إمّا أن يؤمّن عنه ، أو يجعله منجّزا فهي محصورة من هذه الناحية عقلا.

إلا أنّه بلحاظ الوقائع الخارجيّة فقد تكون في الواقعة خصوصيّة معيّنة يلاحظها الشارع فلا يجعل البراءة أو الاحتياط ، بل يجعل بل يجعل الاستصحاب أو التخيير ، إلا أنّ النتيجة عمليّا بالنسبة للمكلّف واحدة ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل التعارض بينها لا ثبوتا - كما هو واضح - ولا إثباتا ؛ لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها ، ولا تناقض بين إدراكين عقليّين.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فيعقل التعارض بينها إثباتا بحسب لسان أدلّتها ، ولا بدّ من علاج ذلك وفقا لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل فيها التعارض لا ثبوتا ولا إثباتا.

أما ثبوتا فلأنّ الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى مدركات العقل العملي بما ينبغي أن يكون في حال الشكّ في التكليف الواقعي ، فالعقل تارة يدرك أنّ ما ينبغي أن يكون هو الاحتياط وشغل الذمّة على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة وشمولها للمورد كما في حالات الشكّ في المكلّف به والعلم الإجمالي ، وأخرى يدرك بأنّ ما ينبغي أن يكون هو البراءة والتأمين عن الواقعة المشكوكة على أساس عدم شمول حقّ الطاعة للمورد كما في حالات الشبهات البدويّة ، وحينئذ لا يقع التعارض بين هذين الإدراكين ؛ لأنّ لكلّ منهما موضوعا يختلف عن الآخر فيستحيل اجتماعهما معا.

ص: 22

وأمّا إثباتا فلأنّ الأصول العقليّة لا فرق فيها بين مقام الإثبات والثبوت ، بمعنى أنّ مقام إثباتها هو نفسه عين مقام ثبوتها وإدراكها ، والوجه في هذا الاتّحاد بين المقامين هو : أنّ المدركات العقليّة لا تصدر من العقل ولا يحكم بها إلا بعد تحقّق موضوعها مع كلّ الخصوصيّات والقيود ؛ لأنّ الموضوع بمثابة العلّة للحكم العقلي ، فإذا أدرك العقل تمام الموضوع بجميع خصوصيّاته وحيثيّاته أصدر حكمه ، وإن لم يلاحظ ذلك فإنّه لا يصدر حكما ، وما دام الأمر كذلك فإذا صدر الحكم العقلي إثباتا فهو ناشئ عن ملاحظة الموضوع ثبوتا ، وقد قلنا : إنّ ملاحظة الموضوع وإدراكه عقلا يختلف حاله بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر ثبوتا فكذلك إثباتا.

من هنا يقال : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت لا ترتفع إلا إذا ارتفع موضوعها حقيقة ولا وجه للاستثناء أو التخصيص أو التقييد لها بعد تحقّق موضوعها ؛ لأنّه بمثابة العلّة وهي إذا تحقّقت تحقّق معلولها.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فالتعارض يمكن تصوّره إثباتا لا ثبوتا ، فهنا دعويان :

الأولى : أنّ التعارض مستحيل ثبوتا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم الملتفت عند ما يريد تشريع هذه الأحكام الشرعيّة لا بدّ أن يتصوّر موضوعها ، فلكلّ واحد منها موضوع يختلف عن الآخر ، ولذلك يستحيل أن يجعل حكمين ظاهريّين مختلفين على موضوع واحد ؛ لأنّه تناقض يستحيل افتراضه بحقّ الشارع الحكيم.

الثانية : أنّ التعارض معقول إثباتا أي بلحاظ مرحلة صياغة دليل الحكم الظاهري ، فهنا يمكن أن يفرض التعارض بلحاظ ألسنة هذه الأدلّة ؛ لأنّ التعارض كما سيأتي من شئون عالم اللفظ ، فقد يكون الدليل الذي يدلّ على الاحتياط يفترض موضوعا هو نفسه موضوع البراءة أو الاستصحاب ؛ لأنّ كلاّ منهما موضوعه الشكّ فيمكن تصوّر التعارض بينها ، وهذا التعارض لا بدّ من عرضه على القواعد المقرّرة في باب التعارض لنرى أنّه من التعارض المستقرّ أو غير المستقرّ وكيفيّة علاجه.

خامسا : أنّه لا يعقل التصادم بين الأصول العمليّة الشرعيّة والأصول العمليّة العقليّة ، فإذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير ، فإن كان الأصل العقلي معلّقا على

ص: 23

عدم ورود أصل شرعي على الخلاف كان هذا واردا ، وإلا امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في مورده.

خامسا : أنّه يستحيل تعقّل التصادم والتعارض بين الأصول العمليّة العقليّة والأصول العمليّة الشرعيّة ، ومن هنا يقال : إنّ ما حكم به العقل يحكم به الشرع أيضا هذا واقعا ، وأمّا إذا فرض ظاهرا وجود تعارض بين أصلين أحدهما عقلي والآخر شرعي على موضوع واحد فهنا صور :

1 - أن يكون كلّ من الحكمين ينجّز الواقعة فهنا لا إشكال ولا تصادم أصلا.

2 - أن يكونا معذّرين عن الواقعة فكذلك لا تصادم.

3 - أن يكون الأصل العقلي منجّزا ، والأصل الشرعي معذّرا.

4 - أن يكون الأصل العقلي معذّرا ، والأصل الشرعي منجّزا.

ففي الصورتين الثالثة والرابعة تارة يفرض أنّ حكم العقل معلّق على عدم ورود أصل شرعي عملي ، وأخرى يفرض كونه مطلقا من هذه الناحية.

فإن كان الأصل العقلي معلّقا على عدم ورود أصل شرعي كان ورود الأصل الشرعي على نفس موضوع الأصل العقلي رافعا للحكم العقلي لارتفاع قيده ، فيكون واردا عليه.

وإن لم يكن الأصل العقلي معلّقا على ذلك ، بل كان مطلقا فهنا إمّا أن نلتزم بأنّ هناك خطأ في مدركات العقل العملي أو نلتزم بعدم صحّة هذا الأصل الشرعي.

هذا كلّه في غير الحكمين القطعيّين كما هو واضح.

* * *

ص: 24

الأصول التنزيليّة والمحرزة

ص: 25

ص: 26

الأصول التنزيليّة والمحرزة

الأصول العمليّة الشرعيّة : تارة تكون مجرّد وظائف عمليّة بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو إلزامي بدون نظر بوجه إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه أصول عمليّة بحتة.

وأخرى تبذل فيها عناية إضافيّة إذ تطعّم بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

تقسّم الأصول العمليّة الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي تحدّد الوظيفة العمليّة والموقف اتّجاه الواقعة المشكوكة ، من دون النظر إلى الأحكام الواقعيّة ، أي لا يوجد فيها شيء من الكاشفيّة والطريقيّة أصلا ، وإنّما تجعل لأجل التنجيز أو التعذير فقط ، كما هو الحال في البراءة والاحتياط فإنّ المنظور في البراءة التأمين والتعذير عن الواقعة المشكوكة ، والمنظور في الاحتياط تنجيزها ، ولا نظر فيهما إلى الحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، لا بنحو إجمالي ولا بنحو تفصيلي ، وهذه تسمّى بالأصول العمليّة المحضة أو البحتة.

ثانيهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي - مضافا إلى أنّها تحدّد الوظيفة والموقف تجاه الواقعة المشكوكة - يوجد فيها عناية زائدة على ذلك وهي كونها ناظرة إلى الواقع بنحو من الأنحاء ، كما هو الحال في قاعدة الاستصحاب والفراغ ، فإنّ الاستصحاب كما أنّه يحدّد موقف الشاكّ كذلك فيه نظر إلى الواقع ؛ لأنّه يعتمد على أنّ الغالب فيما يوجد أن يبقى ، فينزّل المستصحب منزلة المتيقّن من حيث الآثار المترتّبة عليه.

والمنظور في قاعدة الفراغ مثلا أنّ الغالب الإتيان بالفعل على وجهه الصحيح استنادا إلى غلبة الانتباه والتذكّر أثناء العمل ، ومن هنا لا تجري القاعدة إذا ثبت الغفلة والنسيان.

ص: 27

فهذه الأصول تسمّى بالأصول التنزيليّة أو المحرزة ؛ لأنّه يوجد فيها عناية إضافية وهي النظر إلى الأحكام الواقعيّة.

وهذه العناية يمكن تصويرها بأحد وجهين :

أحدهما : أن يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحلّ وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر أن قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك حلال » أو « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم ... » يتكفّل تنزيل مشكوك الحليّة ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلة الطاهر الواقعي ، خلافا لمن يقول : إنّ دليل هذين الأصلين ليس ناظرا إلى الواقع ، بل ينشئ بنفسه حليّة أو طهارة بصورة مستقلّة ، ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيليّة بالأصل التنزيلي.

الوجه الأوّل : أنّ هذه العناية هي تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فينزّل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي ، فالوجوب الظاهري كالوجوب الواقعي ، وكذا الطهارة الظاهريّة كالطهارة الواقعيّة.

وتوضيحه : أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحلّيّة أي « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » و « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » مفاده تنزيل مشكوك الحلّيّة والطهارة منزلة معلومهما.

فمشكوك الطهارة محكوم ظاهرا بالطهارة أي نفس الطهارة الواقعيّة وليست طهارة أخرى مستقلّة في نفسها ، وهذا المعنى يستظهر من دليلهما بناء على كون الجملة إخباريّة عن كون كلّ شيء طاهرا بما في ذلك المشكوك ، فيكون مفادها أنّ معلوم الطهارة ومظنونها ومشكوكها ومحتملها على حدّ سواء ، ولا يخرج إلا ما كان معلوم القذارة والنجاسة فقط ، فيكون المشكوك كالمعلوم محكوم ظاهرا بالطهارة الواقعيّة ، كما أنّ معلوم الطهارة محكوم واقعا بالطهارة الواقعيّة ، فصار الظاهر كالواقع من حيث كونهما معا طاهرين واقعا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ دليل أصالة الطهارة أو الحلّيّة مفاده الإنشاء لا الإخبار فهذا يعني أنّ هذا الدليل يجعل وينشئ طهارة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الطهارة ، وكذلك يجعل وينشئ حلّيّة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الحلّيّة ، وهذا يعني أنّه لا نظر في

ص: 28

هاتين الأصالتين إلى الحكم الواقعي ، ولسانهما لا يستفاد منه التنزيل لمشكوك الحلّيّة أو الطهارة منزلة معلومهما ، فيكونان على هذا أصلين عمليّين بحتين.

ويسمّى الأصل العملي على القول الأوّل بالأصل التنزيلي بناء على هذه العناية.

وقد تترتّب على هذه التنزيليّة فوائد ، فمثلا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة تنزيلي ترتّب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا طهارة مدفوعه ظاهرا ؛ لأنّها مترتّبة على الحلّيّة الواقعيّة ، وهي ثابتة تنزيلا فكذلك حكمها ، وأمّا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيليّا ، بل إنشاء لحلّيّة مستقلّة فلا يمكن أن ننقّح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.

وأمّا الثمرة العمليّة بين القولين فهي :

إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل تنزيلي بالنحو المتقدّم أي أنّها تثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا فعند ما نطبّقها على حيوان مشكوك الحلّيّة سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع طهارة مدفوع هذا الحيوان ؛ لأنّ طهارة مدفوعه موضوعها الحيوان المحلل الأكل ، والمفروض أنّ هذا الحيوان المشكوك قد ثبتت حلّيّته الواقعيّة ظاهرا ببركة أصالة الحلّيّة ، فالموضوع متحقّق فيترتّب الحكم بطهارة مدفوع هذا الحيوان.

فلا فرق بين كون هذا الحيوان حلالا واقعا لقيام الدليل المحرز على حلّيّته ، وبين كونه حلالا ظاهرا استنادا على أصالة الحلّيّة ؛ لأنّه في كلا الحالين سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة إلا أنّها في الأوّل ثابتة وجدانا وفي الثاني ثابتة تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يترتّب الحكم الشرعي ؛ لأنّ موضوعه محرز فيحكم بطهارة مدفوعه ؛ لأنّ الحلّيّة الواقعيّة ثابتة.

وأمّا إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل علمي بحث وليس فيها أي نحو من التنزيل ، فسوف يثبت بها حلّيّة ظاهريّة مجعولة بنحو الاستقلال على عنوان مشكوك الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة الظاهريّة تختلف عن الحلّيّة الواقعيّة ، وحينئذ لا يتنقّح موضوع طهارة المدفوع ؛ لأنّ موضوعها هو الطهارة الواقعيّة وهي ليست ثابتة لا وجدانا ، ولا تعبّدا وتنزيلا.

وهكذا الحال بالنسبة لأصالة الطهارة.

ص: 29

والآخر : أن ينزّل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، بأن تجعل الطريقيّة في مورد الأصل ، كما ادعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقّق النائيني (1) والسيّد الأستاذ (2) على فرق بينهما ، حيث إنّ الأوّل اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط ، والثاني اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفيّة ، فلم يبق على مسلك جعل الطريقيّة فرق بين الاستصحاب والأمارات في المجعول على رأي السيّد الأستاذ.

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز.

الوجه الثاني : أنّ هذه العناية هي تنزيل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، ومثاله المعروف الاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب أصل مركّب من أركان أربعة : اليقين السابق ، والشكّ اللاحق ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، والأثر العملي ، وفيه أيضا احتمال كاشف وهو غلبة ما يوجد يبقى.

وحينئذ يقال : إنّ دليل التنزيل تارة ينزّل الأصل نفسه أي الاستصحاب بأركانه منزلة اليقين.

وأخرى ينزّل الاحتمال المقوّم لهذا الأصل والذي على أساسه كان كاشفا منزلة اليقين.

وفي كلا الموردين يكون التنزيل منزلة العلم بلحاظ الطريقيّة ؛ لأنّ للعلم أربع جهات ، هي :

1 - الصفتيّة ، وهي كونه نورا يبعث على الإذعان واستقرار النفس.

2 - الكاشفيّة عن متعلّقه بحيث يكون منيرا وكاشفا عما انصبّ عليه.

3 - الجري العملي أي الباعثيّة والمحرّكيّة فعلا أو تركا.

4 - المنجّزيّة والمعذّريّة وهو معنى الحجّيّة.

والاستصحاب المنزّل منزلة العلم - إمّا في نفسه أو للاحتمال المقوّم له - يوجد فيه قولان :

أحدهما : للمحقّق النائيني حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو تنزيله

ص: 30


1- فوائد الأصول 4 : 486.
2- مصباح الأصول 2 : 38 ، و 3 : 154.

منزلة العلم بلحاظ الجري العملي فقط ، بخلاف الأصل العملي المحض فإنّ المجعول فيه المنجّزيّة والمعذّريّة فقط ، وبخلاف الأمارة فإنّها مجعولة بلحاظ الطريقيّة والكاشفيّة.

والآخر : للسيّد الخوئي حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة والكاشفيّة لا مجرّد الجري العملي.

فعلى القول الثاني لا يبقى فرق بين الاستصحاب وسائر الأمارات ، ولذلك ذهب السيّد الخوئي إلى أنّ الاستصحاب أمارة ، إلا أنّه يختلف عن سائر الأمارات في أنّ الشكّ أخذ في لسان دليله ، بينما لم يؤخذ في لسانها مع وحدة المجعول فيهما ، ولذلك تتقدّم سائر الأمارات عليه بالحكومة ، فإذا قامت الأمارة ارتفع الشكّ فيرتفع موضوع الاستصحاب.

وهذا الأصل المأخوذ فيه هذه العناية يسمّى بالأصل المحرز.

وهذه المحرزيّة قد يترتّب عليها بعض الفوائد في تقديم الأصل المحرز على غيره ، باعتباره علما وحاكما على دليل الأصل العملي البحت ، على ما يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

والثمرة هي : أنّ الأصل المحرز يتقدّم على الأصل البحت وذلك على أساس الحكومة ، وتوضيحه : أنّ الاستصحاب لمّا كان المجعول فيه تنزيله منزلة العلم ، إمّا بلحاظ الجري العملي وإمّا بلحاظ الكاشفيّة كما تقدّم ، فإذا قام الاستصحاب في مورد فهو يحقّق العلم تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يرتفع الشكّ فلا يجري الأصل العملي المحض ؛ لأنّ موضوعه وهو الشكّ ارتفع بتحقّق العلم (1).

وهناك معنى آخر للأصول العمليّة المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الأمارات والأصول ، وهو أنّه كلّما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتا أهمّيّة المحتمل فهو أصل عملي ، فإن لوحظ منضمّا إليه قوّة الاحتمال أيضا فهو أصل عملي محرز ، كما في قاعدة الفراغ وإلا فلا.

والمحرزيّة بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّة في مثبتاتها ، إلا أنّ

ص: 31


1- وهذا النحو يسمّى بالحكومة الميرزائيّة ، وإلا فلا يوجد حكومة بالدقّة ؛ لأنّها من شئون عالم الألفاظ كما سيأتي ، والحال أنّ دليل الاستصحاب كغيره من أدلّة الأصول العمليّة قد أخذ في لسانه الشكّ وعدم العلم ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

استظهارها من دليل القاعدة يترتّب عليه بعض الآثار أيضا ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الأماريّة والكشف نهائيّا ، ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكّر حين العمل.

الوجه الثالث : ما اختاره السيّد الشهيد من تفسير لحقيقة الحكم الظاهري ، وتوضيحه : أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في عالم التشريع والواقع عند الشكّ والاشتباه ، تارة يلاحظ أهمّيّة الاحتمال الكاشف فيجعل الحجّيّة لهذه الكاشفيّة ، كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة وحجّيّة الظهور.

وأخرى يلاحظ أهمّيّة المحتمل أي نوع الحكم كالتسهيل أو التنجيز فيجعل الحجّيّة للحكم الظاهري على أساس أهمّيّة المحتمل ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي ؛ لأنّه يحدّد الموقف والوظيفة العمليّة للشاكّ من تنجيز أو تعذير ، فإذا لم يلاحظ شيئا آخر مع أهمّيّة المحتمل سمّي بالأصل العملي البحت.

وثالثة يلاحظ أهمّيّة المحتمل منضمّا إليها شيئا آخر وهو قوّة الاحتمال الكاشف أيضا ، كما هو الحال في الاستصحاب وقاعدة الفراغ ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي التنزيلي أو المحرز.

فالفرق بين الأصل العملي المحض والأصل المحرز والتنزيلي هو كون الأوّل لوحظ فيه ثبوتا أهمّيّة المحتمل فقط ، بينما الثاني لوحظ فيه أهمّيّة المحتمل والاحتمال أيضا.

فقاعدة الاستصحاب لوحظ فيها نوع المحتمل أي نفس القضيّة المستصحبة المتواجد فيها الأركان الأربعة للاستصحاب ، ولوحظ فيها قوّة الاحتمال الكاشف أي غلبة أنّ ما يوجد يبقى.

وقاعدة الفراغ لوحظ فيها نوع المحتمل وهو العمل الذي تمّ الفراغ منه ، وقوّة الاحتمال الكاشف وهو غلبة التذكّر والالتفات إلى الإتيان بالعمل على وجهه الصحيح.

إلا أنّ المحرزيّة الثابتة لقاعدة الفراغ لا تجعل مثبتات القاعدة حجّة ، ولذلك إذا حكم بصحّة الوضوء الذي صلّى بعده الظهر استنادا إلى قاعدة الفراغ لا يعني ذلك أنّ الوضوء ثابت الآن ليجوز له الدخول بصلاة العصر بهذا الوضوء ؛ وذلك لأنّ

ص: 32

القاعدة غايتها التسهيل عن العمل الذي فرغ منه وهو صلاة الظهر في المثال لا أكثر ، وأمّا العصر فلم يبدأ بها فيختلّ أحد ركني القاعدة فلا تجري.

نعم ، ثبوت المحرزيّة لقاعدة الفراغ واستظهارها من أدلّتها يترتّب عليه بعض الآثار :

منها : أنّ قاعدة الفراغ لا تجري إذا انهدم ركنها الثاني ؛ لأنّه ينهدم به الكاشف الذي لوحظ عند جعل هذه القاعدة ، فإذا فرغ من العمل وشكّ في صحّته ولكنّه مع ذلك علم بأنّه لم يكن منتبها أثناء العمل ، بل كان غافلا وساهيا فهنا أماريّة الكشف تسقط فيزول الاحتمال الكاشف فلا تجري القاعدة ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من توفّر كلا الركنين في القاعدة لتجري ، فإذا انتفى أحدهما ارتفعت.

* * *

ص: 33

ص: 34

مورد جريان الأصول العمليّة

ص: 35

ص: 36

مورد جريان الأصول العمليّة

لا شكّ في جريان الأصول العمليّة الشرعيّة عند الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه كما في أصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه كما في أصالة البراءة. ولكن قد يشكّ في التكليف الواقعي ويشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة عليه بنحو الشبهة الموضوعيّة كالشكّ في صدور الحديث ، أو بنحو الشبهة الحكميّة كالشكّ في حجّيّة الامارة المعلوم وجودها.

ذكرنا أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام ظاهريّة يجعلها الشارع عند الشكّ في التكليف الواقعي ، وهي على قسمين : أصول تنزيليّة وأصول محضة ، ويكون جعلها إمّا بداعي تنجيز الواقع على المكلّف وهذا هو الاحتياط ، وإمّا بداعي التعذير عنه كما في البراءة ونحوها.

فموضوع الأصل ومورد جريانه إذا هو الشكّ في التكليف الواقعي.

ولكن قد يفرض نحو آخر من الشكّ وهو أنّ يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة وعدم قيامها عند الشكّ في الحكم الواقعي ، وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في التكليف الواقعي فقد يقوم عنده حجّة ظاهريّة تعالج له الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك ، وقد لا يقوم عنده حجّة ظاهريّة على ذلك ، وقد يشكّ في قيام مثل هذه الحجّة الظاهريّة وعدم قيامها.

والشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة يتصوّر بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الموضوعيّة ، فهو يعلم بالحكم ولكنّه اشتبه عليه مصداقه ، فمثلا يعلم أنّ الشارع قد جعل الحجّيّة لخبر الثقة فهو يعلم بالحكم ، ولكنّه يشكّ في أنّ هذا الخبر الذي يعالج الواقعة المشكوكة هل هو خبر ثقة أو لا؟ فهذا شكّ في تحقّق المصداق ، أو كأن يشكّ في صدور الخبر من

ص: 37

الشارع في هذه الواقعة وعدم صدوره بعد العلم بأنّ هناك أخبارا قد صدرت تعالج الشكّ.

الثاني : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الحكميّة ، أي أنّ هذه الأمارة الموجودة هل جعل الشارع الحجّيّة لها أو لا؟ فهو يعلم بأنّ الموضوع متحقّق في الخارج ، ولكنّه لا يدري ما هو حكمه هل هو حجّة أو لا؟ كالشهرة مثلا فإنّها أمارة تكوينيّة تفيد الظنّ ، وتعالج الشكّ في الواقعة المشكوكة ولكن لا يعلم هل جعل الشارع الحجّيّة لها أم لا؟

فتحصّل من ذلك أنّ هناك نحوين من الشكّ : أحدهما : الشكّ في الحكم الواقعي ، والثاني : الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة.

والسؤال هنا هو :

فهل يوجد في هذه الحالة موردان للأصل العملي ، فنجري البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك ، ونجري براءة أخرى عن الحجّيّة أي الحكم الظاهري المشكوك ، أو تكفي البراءة الأولى؟

وبكلمة أخرى : أنّ الأصول العمليّة هل يختصّ موردها بالشكّ في الأحكام الواقعيّة ، أو يشمل مورد الشكّ في الأحكام الظاهريّة نفسها؟

فهل يوجد موردان للأصل العملي؟

أحدهما الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الواقعي ، فنجري البراءة مثلا للتأمين عن الواقع والآخر الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الظاهري ، فنجري البراءة للتأمين عن هذه الحجّيّة المشكوكة والتي هي حكم ظاهري.

وبتعبير آخر : هل مورد الأصل العملي هو الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي فقط ، أو يشمل الشكّ في الحكم الظاهري أيضا؟

قد يقال بأنّنا في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين ، إذ يوجد احتمالان صالحان للتنجيز ، فنحتاج إلى مؤمّن عن كلّ منهما :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي ولنسمّه بالاحتمال البسيط.

والآخر : احتمال قيام الحجّة عليه ، وحيث إنّ الحجّيّة معناها إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك - كما عرفنا سابقا عند البحث عن حقيقة

ص: 38

الأحكام الظاهريّة (1) - فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليف واقعي متعلّق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمّ هذا بالاحتمال المركّب.

وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي ، بل لا بدّ من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب أيضا ببراءة ثانية.

قد يجاب على ذلك : قال بأنّنا في المثال المذكور أي عند ما نشكّ في قيام الحجّيّة الشرعيّة سواء بنحو الشبهة الموضوعيّة أم بنحو الشبهة الحكميّة ، نحتاج إلى إجراء براءتين ، ولا تكفي البراءة الواحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه في المثال يوجد احتمالان يصلحان للتنجيز ، فلا بدّ من إجراء البراءة في كلّ منهما لتحقّق موضوعها فيهما :

الأوّل : احتمال التكليف الواقعي ، فإنّ هذه الواقعة المشكوكة يحتمل وجود حكم إلزامي منجّز فيها ، وهذا يسمّى بالاحتمال البسيط.

الثاني : احتمال التكليف الظاهري ، فإنّه يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة ، وهذا يعني أنّه يحتمل صدور ما يكون منجّزا ظاهرا لهذه الواقعة ، بناء على ما تقدّم في تفسير حقيقة الحكم الظاهري من أنّه يجعل من أجل الحفاظ على ما هو الأهمّ بنظر الشارع من الملاكات والأحكام الواقعيّة ، وهذا معناه أنّه مع احتمال وجود مثل هذه الحجّة الظاهريّة فيحتمل وجود المنجّز للملاك الواقعي ، فيكون هذا الاحتمال مساويا لاحتمال التكليف أيضا ، إذ لا فرق بين المنجّزيّة الواقعيّة والظاهريّة من حيث دخول التكليف في العهدة والذمّة ، وهذا الاحتمال يسمّى بالاحتمال المركّب.

وحينئذ نقول : إنّ جريان البراءة في الاحتمال البسيط يكفي للتأمين عن احتمال التكليف الواقعي الذي يحتمل كونه منجّزا ، ولكنّها لا تكفي لإثبات التأمين عن احتمال التكليف والمنجّز الظاهري الذي يحتمل قيام الحجّة الشرعيّة عليه ، ولذلك نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي هذا الاحتمال المركّب.

وقد يعترض على ذلك : بأنّ الأحكام الظاهريّة كما تقدّم في الجزء

ص: 39


1- في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

السابق (1) - متنافية بوجوداتها الواقعيّة ، فإذا جرت البراءة عن الحجّيّة المشكوكة وفرض أنّها كانت ثابتة يلزم اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين.

اعتراض على إجراء براءة ثانية عند الشكّ في الحجّة الظاهريّة ، بأنّه تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية.

فكما أنّ الوجوب والحرمة الواقعيّين متنافيان بلحاظ الملاكات والمبادئ ، كذلك الأحكام الظاهريّة فإنّه لا يمكن اجتماع البراءة مع الاحتياط ؛ وذلك لما عرفنا في حقيقة الحكم الظاهري من أنّها خطابات لتعيين ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الشكّ والاشتباه.

وهذا يعني أنّ البراءة تكشف عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، بينما الاحتياط يكشف عن كون ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، وحيث لا يمكن الجمع بين هذين النحوين من الملاكات لتنافيهما فيكون اجتماع البراءة والاحتياط مستحيلا ؛ لأنّه يؤدّي إلى التكاذب بلحاظ الواقع الذي يحكيان عنه.

ومن هنا يشكل على إجراء البراءة الثانية ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المشكوكة المحتمل كونها منجّزة للواقعة المشكوكة إذا كانت ثابتة شرعا فهذا يعني أنّ الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما البراءة تحكي عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ فيقع التكاذب والتنافي بينهما ، فجريان البراءة عن الحجّة المشكوكة يلزم منه اجتماع المتنافيين.

نعم ، إذا لم تكن الحجّيّة المشكوكة ثابتة فلا تثبت إلا ملاكات الترخيص ، إلا أنّنا حيث لا نقطع بعدم الحجّيّة وإنّما نحتملها فنحن نحتمل التكاذب والتنافي ، واحتمال اجتماع المتنافيين ، كالقطع باجتماعهما مستحيل.

وجواب الاعتراض : أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ؛ لأنّها مترتّبة على الشكّ فيها ، فكما لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريّين طوليّين من هذا القبيل.

وما تقدّم سابقا من التنافي بين الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة ينبغي أن

ص: 40


1- في مباحث التمهيد أيضا تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

يفهم في حدود الأحكام الظاهريّة العرضيّة ، أي التي يكون الموضوع فيها نحوا واحدا من الشكّ.

الجواب عن هذا الاعتراض بأنّه لا اجتماع لحكمين ظاهريّين متنافيين إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة كنسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ، فكما أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي كذلك البراءة الثانية مورد جريانها الشكّ في الحجّة المشكوكة ، وكما أنّ الحكم الظاهري مبادئه هي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة كذلك البراءة الثانية مبادئها الحفاظ على الأحكام الظاهريّة.

وحينئذ نقول : إنّه كما لا منافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري كذلك لا منافاة بين البراءة الثانية وبين الحجّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لأنّ البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّيّة ، بينما الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها يكون موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، ولذلك لم يجتمع حكمان ظاهريّان على موضوع واحد ، بل الموضوع فيهما مختلف.

وعلى هذا فيمكن أن يجعل الشارع براءة ثانية عند الشكّ في الحجّيّة الظاهريّة ، وذلك إذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وثانيا : أنّ ما تقدّم في الجزء السابق من أنّ الأحكام الظاهريّة متنافية بوجوداتها الواقعيّة لا بوصولها ، كان يقصد منه أنّ الشارع لا يصدر منه حكمان ظاهريّان على موضوع واحد سواء وصلا إلى المكلّف أم لا ؛ لأنّ التنافي بينهما واقعي بقطع النظر عن مرحلة الوصول ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري يكشف عن الواقع ، فإذا جعل البراءة والاحتياط على موضوع واحد حصل التكاذب والتنافي بلحاظ الواقع ؛ لأنّهما يكشفان عن كون الأهمّ بنظر الشارع الترخيص والإلزام وهما متكاذبان لا يمكن اجتماعهما ولحاظهما معا ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

إلا أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في الأحكام الظاهريّة العرضيّة أي التي يكون موضوعها وموردها واحدا ، فالبراءة والاحتياط المجعولان عند الشكّ في الحكم الواقعي مستحيلان ؛ لأنّهما في عرض واحد وعلى موضوع واحد.

ص: 41

وأمّا البراءة الثانية المجعولة عند الشكّ في الحجّيّة المشكوكة فلا تنافي الحجّيّة المشكوكة على تقدير ثبوتها ؛ وذلك لعدم وحدة الموضوع بينهما ، إذ موضوع البراءة الثانية الشكّ في الحجّيّة ، بينما موضوع الحجيّة على تقدير ثبوتها الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يعني أنّ البراءة الثانية في طول الحجّيّة ، فإذا ثبتت الحجّيّة ارتفع موضوع البراءة ، وإذا جرت البراءة الثانية فهذا يعني أنّ الحجّيّة غير ثابتة بحقّ المكلّف وغير واصلة إليه ، وبالتالي لا تناف بينهما لاختلاف الموضوع فيهما ، وشرط التنافي وحدة الموضوع.

وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمّنة عن الحجّيّة المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية ؛ إذ لا يحتمل العقاب إلا من ناحية التكليف الواقعي وقد أمّن عنه.

وهنا اعتراض آخر على إجراء البراءة عن الحجّة المشكوكة مفاده أنّها لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد إجراء البراءة الثانية فقط من دون إجراء البراءة الأولى التي موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي فهذه البراءة لا تنفع شيئا ؛ لأنّه من دون التأمين مسبقا عن الحكم الواقعي لا يفيدنا التأمين عن الحجّة المشكوكة ، إذ مع فرض ثبوت التأمين عن الحجّة المشكوكة إلا أنّ هذا لا يؤمّن عن الحكم الواقعي المشكوك والذي من المحتمل أن يكون منجّزا ، فالتأمين المراد إثباته بالبراءة الثانية لا يكفي ما دام الشكّ في الحكم الواقعي موجودا والذي يعني أنّ احتمال المنجّزيّة لا يزال على حاله ، فجعلها يكون لغوا إذ لا أثر لها.

وإن أريد إجراء البراءة الثانية بعد إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فهذه البراءة لا فائدة منها أيضا ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ؛ لأنّه مع إجراء البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك يثبت التأمين من ناحية الحكم المشكوك ، فالمكلّف إذا ترك الواجب أو فعل الحرام حينئذ يكون معذورا لقيام المؤمّن الشرعي عنده فلا يكون مستحقّا للعقاب ، وعليه فلا داعي لإجراء براءة ثانية عن الحجّة المشكوكة ؛ لأنّه قد ثبت لديه مسبقا التأمين وعدم استحقاق العقاب ، والمطلوب من البراءة حين إجرائها إثبات هذا الأمر لا أكثر ، فمع ثبوتهما يكون إجراؤها لغوا

ص: 42

وتحصيلا للحاصل ، ولذلك لا تجري البراءة في المكروهات والمستحبّات ؛ إذ لا إلزام ولا عقاب فيهما ليؤمّن عنهما.

وبهذا يظهر أنّه لا معنى محصّل لإجراء براءة ثانية ، بل تكفي البراءة الأولى.

والجواب على ذلك : أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليف واقعي واصل إلى مرتبة من الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّيّة المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأوّل لا يلازم التأمين عن الثاني.

ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفا وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعة منه ، وكلّما احتملت تكليفا واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه.

والجواب على هذا الاعتراض أنّ البراءة الثانية المراد إجراؤها عن الحجّيّة المشكوكة تختلف عن البراءة الأولى التي تجري عن الحكم الواقعي المشكوك ، ووجه الاختلاف بينهما هو الاختلاف في التأمين عن الاحتمال المنجّز.

وتوضيحه : أنّ البراءة الأولى تجري لنفي التكليف المشكوك والتأمين عنه عند احتماله ، بينما البراءة الثانية تنفي المنجّز عن هذا التكليف ، فيوجد احتمالان :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي بذاته ، والآخر : احتمال قيام الحجّة والمنجّز على هذا التكليف ؛ والثاني يعني أنّه إذا ثبتت الحجّيّة وتمّت المنجّزيّة فهذا يعني الكشف عن اهتمام المولى بملاكات الإلزام ، ولذلك أصدر إلزاما ظاهريّا للحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة.

وحينئذ نقول : إنّ الاحتمال الأوّل على فرض ثبوته فهو يثبت الحكم الواقعي ابتداء ، فتكون المنجّزيّة لذات التكليف والبراءة الجارية هنا تؤمّن المكلّف من هذه الناحية.

بينما الاحتمال الثاني على فرض ثبوته فهو يثبت الحجّة والمنجّز الشرعي الظاهري ، والذي يعني أنّ ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظر المولى من غيرها ، فالمنجّزيّة هنا لأجل هذا الأمر ، والبراءة عند ما يراد إجراؤها هنا تؤمّن عن المنجّزيّة وعن التكليف بهذا المعنى ، أي أنّ المولى لا يهتمّ باحتمال التكليف ، وإنّما المهمّ بنظره ملاكات الترخيص والتسهيل.

ص: 43

ولهذا كان للبراءة الثانية فائدة سواء جرت البراءة الأولى أم لا ، وليست لغوا وتحصيلا للحاصل أو لا أثر لها ، بل تفيد شيئا جديدا لم يكن موجودا حين إجراء البراءة الأولى ، وهو التأمين لنفي الاهتمام المولوي بملاكات الإلزام ، فالتأمين الثاني ليس نفس الأوّل ، والتأمين الأوّل لا يلزم منه حصول التأمين الثاني.

ومن هنا نتعقّل أن يقول الشارع : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وعلم بعدم قيام الحجّة الظاهريّة عليه فهو في سعة منه ، بينما يقول في مجال آخر : إنّه كلّما احتمل المكلّف التكليف وشكّ أو لم يعلم بعدم الحجّة الظاهريّة عليه فاللازم عليه الاحتياط.

وحينئذ فالمراد من إجراء البراءة الثانية التأمين من جهة الاحتياط الذي من الممكن أن يكون ثابتا عند الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة ، بينما البراءة الأولى تفيد التأمين من جهة نفس الحكم الواقعي ، فهناك منجّزيّتان محتملتان إحداهما منجّزيّة الحكم الواقعي والأخرى منجّزيّة الاحتياط الظاهري والبراءة الأولى تجري للتأمين عن المنجّزيّة الأولى ، والبراءة الثانية تجري للتأمين عن المنجّزيّة الثانية ، ولا تلازم بين المنجّزيّتين وليست إحداهما نفس الأخرى كما هو واضح.

ولكنّ التحقيق مع ذلك : أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّيّة المشكوكة ، وذلك بتوضيح ما يلي :

أوّلا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ؛ لأنّ موضوعهما معا الشكّ في الواقع ، خلافا للبراءة عن الحجّيّة المشكوكة فإنّها ليست في درجتها كما عرفت.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ البراءة الأولى تغني عن البراءة الثانية ، فإذا جرت البراءة لنفي التكليف الواقعي المشكوك كفى ذلك في إثبات التأمين ونفي المنجّزيّة ، وبالتالي نفي الحجّيّة المشكوكة ، ولا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي الحجّيّة المشكوكة.

والدليل على ذلك يتّضح من مجموع أمور :

الأوّل : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة حكمان ظاهريّان عرضيّان ، فهنا دعويان :

ص: 44

أمّا أنّهما حكمان ظاهريّان فلأنّ البراءة والحجّيّة المشكوكة كلاهما يعالجان الشكّ ويحدّدان الموقف والوظيفة العمليّة للمكلّف في طرف الشكّ ، وأمّا أنّهما عرضيّان فلأنّ موضوعهما معا واحد ، وهو الشكّ في الحكم الواقعي ؛ لأنّ البراءة الأولى يراد إجراؤها عن الحكم الواقعي المشكوك للتأمين عنه ، والحجّيّة المشكوكة يراد بها على فرض ثبوتها تنجيز الحكم الواقعي المشكوك أيضا ، فهما إذا حكمان ظاهريّان عرضيّان.

وأمّا البراءة الثانية فهي حكم ظاهري ولكنّها ليست في عرض الحجّيّة المشكوكة ؛ وذلك لأنّ موضوعهما مختلف ، فالحجّيّة المشكوكة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي كما تقدّم ، بينما البراءة الثانية موضوعها الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ، فهي إذا في طول الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّها متأخّرة رتبة عنها من حيث الموضوع.

ثانيا : أنّ الحكمين الظاهريّين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعيّين ، سواء وصلا أم لا ، كما تقدّم في محلّه.

الأمر الثاني : أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية واقعا ، ولذلك كما أنّه يستحيل وجود حكمين واقعيّين على موضوع واحد كذلك يستحيل صدور حكمين ظاهريّين على موضوع واحد ، سواء وصلا معا إلى المكلّف أم لا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم لا يصدر منه تشريعين متنافيين على واقعة واحدة.

وهذا الأمر واضح في الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّه يلزم منه اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة والمصلحة والمفسدة على شيء واحد ، وأمّا في الأحكام الظاهريّة فلأنّها كما تقدّم تكشف عن الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في نظر الشارع عند الشكّ والاشتباه ، فيستحيل أن يكون المهمّ بنظره الإلزام والترخيص معا للتكاذب والتنافي بينهما.

ثالثا : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتا للحجّيّة المشكوكة على ضوء ما تقدّم.

الأمر الثالث : أنّ البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة بما أنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وفي عرض واحد ، كما تقدّم في الأمرين السابقين ، فهذا يعني أنّه يستحيل اجتماعهما ، ولذلك إذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، وعليه فإذا جرت البراءة الأولى

ص: 45

لنفي الحكم الواقعي المشكوك كان معناه أنّه يستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّه على فرض ثبوتها سوف يثبت حكمان ظاهريّان عرضيّان على شيء واحد ، وهو مستحيل بمقتضى الأمر الثاني وتنافيهما - كما قلنا - ثبوتي أي بلحاظ مرحلة الواقع والتشريع سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

رابعا : أنّ مقتضى المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجّيّة واقعا ونفيها.

الأمر الرابع : أنّ المنافاة بين البراءة الأولى والحجّيّة المشكوكة تستلزم أنّه إذا جرت البراءة عن الحكم الواقعي المشكوك كان من المستحيل ثبوت الحجّيّة المشكوكة واقعا ، أي أنّ ثبوت البراءة يقتضي نفي الحجّيّة المشكوكة واقعا ؛ للاستحالة المتقدّمة في الأمر الثاني والثالث.

خامسا : أنّ الدليل الدالّ على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام على نفي الحجّيّة المشكوكة.

الأمر الخامس : أنّ الدليل الذي يدلّ على البراءة كحديث الرفع مثلا أو الآيات الكريمة له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو البراءة والتأمين والذي معناه أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ واقعا.

والثاني : المدلول الالتزامي وهو أنّ ملاكات الإلزام ليست هي الأهمّ بنظر الشارع في هذه الواقعة ، والذي معناه أنّ الشارع لم يصدر منه ما ينجّز الواقع ، فتكون الحجّيّة المشكوكة منفية بالمدلول الالتزامي لدليل البراءة.

وهذا يعني : أنّنا بإجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل نفي الحجّيّة المشكوكة ، فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها وإن كان لا محذور فيه أيضا.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم هي : أنّنا إذا أجرينا البراءة الأولى عن التكليف الواقعي المشكوك فسوف يثبت أوّلا التأمين ، والذي يعني أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ بنظر الشارع واقعا.

وسوف يثبت ثانيا أنّ الحجّيّة المشكوكة منتفية على أساس أنّ دليل البراءة يدلّ بالالتزام على أنّ ملاكات الإلزام ليست مهمّة بنظر الشارع ؛ ولأنّها تنافي ثبوت البراءة واقعا ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان عرضيّان ، وحينئذ لا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية عند

ص: 46

الشكّ في الحجّيّة المشكوكة ؛ إذ لا موضوع لهذه البراءة أصلا ؛ لأنّ هذه الحجّيّة قد انتفت مسبقا ، فلا معنى للشكّ فيها مجدّدا ، فيكون إجراء براءة ثانية للتأمين عن شيء غير ثابت أصلا.

ولذلك لا معنى ولا فائدة من البراءة الثانية لمحذور اللغويّة وانتفاء الموضوع.

وما ذكره السيّد الشهيد من أنّه لا محذور في إجرائها لكن لا حاجة لذلك فيه مسامحة واضحة.

ويمكن تصوير وقوع الأحكام الظاهريّة موردا للأصول العمليّة في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم الظاهري لتماميّة أركان الاستصحاب فيه وعدم تماميّتها في الحكم الواقعي ، كما إذا علم بالحجّيّة وشكّ في نسخها فإنّ المستصحب هنا نفس الحجّيّة لا الحكم الواقعي.

بعد أن عرفنا أنّ البراءة الثانية لا تجري عند الشكّ في قيام الحجّة لعدم إمكانيّة تصوير معقول لها ، إلا أنّه يمكن إجراء الاستصحاب في الأحكام الظاهريّة فيما إذا كانت أركانه تامّة فيها.

فمثلا إذا علم بقيام الحجّة الظاهريّة على الحكم الواقعي المشكوك ثمّ شككنا في نسخها ، فهنا يمكننا إجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري دون الواقعي.

وتوضيحه : أنّ الحكم الواقعي مشكوك ابتداء فلا يجري فيه الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه فيه ، بناء على القول بأنّ الاستصحاب لا يجري عند الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وأمّا الحكم الظاهري فأركان الاستصحاب فيه تامّة ؛ لأنّه متيقّن سابقا ومشكوك لاحقا مع وحدة القضيّة فيهما ووجود الأثر العملي التنجيزي لهذا الاستصحاب ، فيجري استصحاب بقاء الحجّيّة عند الشكّ في نسخها (1).

ص: 47


1- طبعا النسخ معناه انتهاء سعة المجعول بلحاظ عمود الزمان ؛ لأنّ النسخ بمعناه الحقيقي محال على المولى ؛ لأنّه يلزم منه الجهل تعالى اللّه عن ذلك. فإذا علمنا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لأمارة ما ثمّ شككنا في نسخ هذه الحجّيّة وعدمه فيجري استصحاب بقاء حجّيّتها ، ومن الواضح أنّ الحجّيّة حكم ظاهري إلا أنّ أركان الاستصحاب تامّة بلحاظها ، وأمّا بالنسبة للحكم الواقعي فهو مشكوك ابتداء ولا يقين سابق فلا يجري استصحابه.

ص: 48

1 - الوظيفة العمليّة

اشارة

في حالة الشكّ

1 - الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

4 - الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

الوظيفة في حالة الشكّ البدوي

1 - الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

2 - الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

ص: 49

ص: 50

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ

اشارة

كلّما شكّ المكلّف في تكليف شرعيّ ولم يتأتّ له إقامة الدليل عليه إثباتا أو نفيا فلا بدّ من تحديد الوظيفة العمليّة تجاهه. ويقع الكلام أوّلا في تحديد الوظيفة العمليّة تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أي تدخّل من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها ، وليس هو إلا الأصل العملي العقلي.

ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :

ذكرنا مرارا أنّ المكلّف الذي اختلطت عليه الملاكات ولم يميّز بينها نتيجة الشكّ والاشتباه ، لا بدّ له من الاستناد إلى أصل يحدّد له الموقف العملي تجاه هذا الواقع المشكوك من أجل التنجيز أو التعذير عنه ، وذكرنا أنّ الأصول العمليّة التي يلجأ إليها المكلّف على قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة العقليّة ، وهي التي يدركها العقل ويحكم بها على أساس إدراكه لثبوت حقّ الطاعة أو عدم ثبوته.

والآخر : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي التي يجعلها الشارع لعلاج الشكّ وتحديد موقف المكلّف.

ومن خلال ما تقدّم ظهر لدينا أنّ الأصول العقليّة متقدّمة على الأصول الشرعيّة ، لأنّها موجودة في كلّ واقعة بحدّ ذاتها ، بينما الأصول الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ واقعة.

فالبحث ينبغي إذا أن ينصبّ حول مقامين :

الأوّل : في تحديد الوظيفة العمليّة العقليّة ، أي الأصل الذي يحكم به العقل بقطع النظر عن وجود أصل شرعي إثباتا أو نفيا ، فيبحث عن مقتضى الأصل

ص: 51

الأوّلي بلحاظ الواقعة المشكوكة بحدّ ذاتها.

الثاني : في تحديد الوظيفة العمليّة الشرعيّة ، أي الأصل الذي جعله الشارع في الواقعة المشكوكة فقد يكون مطابقا للأصل العقلي وقد يكون مخالفا له.

ومن أجل تحديد الأصل العملي العقلي يوجد مسلكان :

المسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، والذي يؤمّن بالبراءة كأصل أوّلي.

والمسلك المختار القائل بأنّ العقل يحكم بالاحتياط على أساس حقّ الطاعة للمولى.

وحينئذ لا بدّ من استعراض المسلكين لنرى ما هو الصحيح منهما ، فنقول :

1 - مسلك قبح العقاب بلا بيان :

اشارة

إنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المسلك المشهور ، وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّه لا مقتضي للتحرّك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذ عقاب على ترك ما لا مقتضي لإيجاده وهو قبيح.

وقد عرفت في حلقة سابقة (2) أنّ هذا الكلام مصادرة ؛ لأنّ عدم المقتضي فرع ضيق دائرة حقّ الطاعة وعدم شمولها عقلا للتكاليف المشكوكة ؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجودا ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

المسلك الأوّل : هو المسلك المشهور القائل بأنّ العقل يحكم بقبح العقاب مع عدم البيان ، والذي مفاده أنّه مع عدم بيان التكليف للمكلّف يقبح عقابه على عدم التحرّك عنه فعلا أو تركا ، فيكون العقل حاكما بالتأمين ونافيا للعقاب مع عدم علم المكلّف بالتكليف ، وهو المطلوب.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه منها :

ص: 52


1- فوائد الأصول 3 : 365.
2- في بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الأوّليّة في حالة الشكّ.

الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه من أنّ التكاليف إنّما تكون محرّكة للمكلّف فيما إذا كانت واصلة إليه ، وأمّا وجودها الواقعي من دون وصول فلا يكفي للتحرّك ، كما هو الحال في الأمور التكوينيّة ، فإنّ الإنسان إذا علم بوجود الأسد في مكان فإنّه يتحرّك عنه فلا يقترب من المكان ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوده فلن يتحرّك عنه ، بل يقتحم ذلك المكان ، وهذا يعني أنّ الوجود الواقعي ليس هو المحرّك ، بل المحرّك هو الوصول والعلم.

وفي مقامنا إذا لم يعلم المكلّف بالتكليف فلن يكون لديه مقتضي التحرّك عنه فعلا أو تركا ؛ لأنّ مقتضي التحرّك كما تقدّم هو الوصول والعلم ، والمفروض انتفاؤه هنا ، وحينئذ فإن عوقب على ترك التحرّك عمّا يقتضيه التكليف كان العقاب ثابتا من دون مقتضي لثبوته.

ومن الواضح أنّ ثبوت العقاب مع عدم ثبوت موجبه ومقتضيه قبيح ، إذ لازمه العقاب على ترك التحرّك عن تكليف لا يعلم بوجوده ، وهو محال صدوره من الشارع الحكيم ، وأمّا إذا علم بالتكليف ومع ذلك لم يتحرّك عنه فهو مستحقّ للعقاب ؛ لأنّه قد ترك التحرّك عن التكليف الواصل إليه والمعلوم عنده ، فيكون العقاب ثابتا لثبوت مقتضيه وموجبه ، وبالتالي لا يكون قبيحا.

وهكذا يتّضح أنّ التحرّك فرع وجود موجب ومقتضي التحرّك ، وأنّ استحقاق العقاب مترتّب على ذلك نفيا وإثباتا ، وأنّ وصول التكليف والعلم به هو الذي يحقّق مقتضي التحرّك ، ومع عدم الوصول والعلم لا يكون مقتضي التحرّك واستحقاق العقاب ثابتا.

والجواب عنه : أنّه مصادرة على المطلوب ، أي أنّ الدليل عين المدّعى.

وتوضيح ذلك : أنّ العقل عند ما يواجه واقعة مشكوكة ينصبّ حكمه حول وجود حقّ الطاعة أو عدم وجوده ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى بحكم مولويّته هل يشمل كلّ انكشاف للتكليف ، أم يختصّ بالتكاليف المعلومة فقط؟

فإن قيل باختصاصه بالتكاليف المعلومة كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة ضيقة ، وإن قيل بشموله كان معناه أنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة.

وحينئذ نقول : إنّ وجود مقتضي التحرّك وعدم وجوده فرع تحديد دائرة حقّ

ص: 53

الطاعة سعة وضيقا في مرحلة سابقة ، فإن قيل بسعتها وشمولها للتكاليف المشكوكة أيضا كان مقتضي التحرّك موجودا ، وبالتالي يحكم العقل باستحقاق العقاب على ترك التحرّك ، وإن قيل بضيقها واختصاصها بالتكاليف المعلومة فمقتضى التحرّك عند الشكّ وعدم العلم غير موجود فلا استحقاق للعقاب.

وهكذا يتّضح أنّ مصبّ البحث إنّما هو في تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا ، لنرى أنّ مقتضي التحرّك موجود أم لا.

وأما الاستدلال على البراءة بأنّ مقتضي التحرّك غير موجود في التكاليف المشكوكة من دون البحث عن دائرة حقّ الطاعة أوّلا فهو مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ المطلوب وهو إثبات البراءة بعدم التحرّك مترتّب على ثبوت ضيق دائرة حقّ الطاعة والتي لم يسلّم بضيقها بعد.

الثاني : الاستشهاد بالأعراف العقلائيّة ، وقد تقدّم (1) أيضا الجواب بالتمييز بين المولويّة المجعولة والمولوية الحقيقية.

الدليل الثاني : الاستدلال على البراءة وكونها الحكم الأوّلي عند الشكّ في التكليف بما هو متعارف عند العقلاء ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على أنّ كلّ آمر يتعامل مع مأموريه وفق الطرق والأساليب التي من شأنها أن تنجّز التكليف على مأموره ، بحيث يستحقّ العقاب على مخالفة التكليف.

والعقلاء يرون أنّ الآمر لا يحقّ له أن يعاقب عبيده على مخالفة تكليف لم يصلهم فينجّز بشأنه ، بل يرونه قبيحا وظلما ، وهذا يعني أنّ القاعدة من المرتكزات العقلائيّة مضافا إلى كونها عقليّة أيضا.

وعلى هذا فتكون التكاليف المعلومة والواصلة هي المنجّزة والتي يستحقّ المكلّف العقاب على مخالفتها ؛ لأنّ الشارع قد أمضى هذا البناء العقلائي إذ لم يعلم بوجود طريق خاصّ للشارع في هذا الصدد.

والجواب : أنّ هذا مبني على كون المولويّة الشرعيّة كالمولويّة العرفيّة ، إلا أنّه غير تامّ ؛ وذلك :

أوّلا : أنّ نفس المولويّة مفهوم كلّي مشكّك وليست بمعنى واحد ، أي أنّها تختلف

ص: 54


1- في نفس البحث من الحلقة الثانية وتحت نفس العنوان.

سعة وضيقا من وال إلى آخر ، فيحقّ لكلّ وال أن يضع الطريق الذي يختاره حجّة ومنجّزا بينه وبين مأموريه ، ولذلك يعقل أن يتّفق مع مواليه على أنّ كلّ انكشاف واحتمال للتكليف فهو منجّز عليهم ، وبالتالي فكلّ من يخالف سوف يكون مستحقّا للعقاب بحكم العقل وإن لم يكن التكليف معلوما لديه.

وبهذا يكون حقّ المولويّة مختلفا سعة وضيقا في نفسه ، فلا بدّ أن نبحث في أنّ الشارع هل جعل حقّ مولويّته وطاعته واسعا ليشمل كلّ انكشاف ، أم جعله ضيّقا مختصّا بالتكاليف المعلومة فقط؟

وثانيا : أنّ نفس قياس المولويّة العرفيّة على المولويّة الحقيقيّة قياس مع الفارق ؛ وذلك لأنّ المولويّة العرفيّة مجعولة من الغير بينما المولويّة الحقيقيّة ذاتيّة للشارع بحكم خالقيّته لنا.

وحينئذ يمكن أن تكون المولويّة المجعولة في حدود التكاليف المعلومة فقط ، بينما تكون المولويّة الحقيقيّة الذاتيّة شاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

والخلط بين المولويّتين هو الذي أدّى إلى قياس إحداهما على الأخرى.

الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه (1) من أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبوديّة ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب ، وأنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زىّ العبوديّة ألاّ يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلما للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

الدليل الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه من إرجاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى قاعدة العدل والظلم العقليّين.

وبيانه : أنّ العقل يحكم بقبح الظلم وحسن العدل ، وكلّ ما يدخل فيهما يحقّق الصغرى ، فالكذب ظلم إذا فهو قبيح ، والصدق والإحسان عدل فهما حسن ، وهكذا.

ص: 55


1- نهاية الدراية 4 : 84.

وهذه القاعدة من مدركات العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون عند ما يواجه قضيّة ما.

وفي مقامنا نقول : إنّ المكلّف إذا خالف ما قامت عليه الحجّة من تكاليف المولى كان خارجا عن زيّ العبوديّة فيكون ظالما لمولاه ، حيث لم يطعه حيث تجب طاعته ، فيكون مستحقّا للذمّ والعقاب ؛ لأنّه فعل قبيحا وظلما ، وأمّا إذا خالف ما لم تقم الحجّة عليه من تكاليف كأن فعل في مورد الحرمة أو ترك في مورد الوجوب مع عدم قيام الدليل والحجّة عليهما ، فلا يكون خارجا عن زيّ العبوديّة ولا يكون ظالما لمولاه ، لأنّه ليس من رسم العبوديّة أن يطيع العبد مولاه فيما لا يعلمه من تكاليف أو يخالفه في تكاليفه الواقعيّة الثابتة في نفس الأمر واللوح المحفوظ مع جهله بها ، ولذلك لا تكون مخالفته هنا ظلما ولم يفعل قبيحا ، بل يقبح حينئذ عقابه وذمّه.

فإذا ثبت ذلك ظهر أنّه ما لم يقم البيان والعلم لدى المكلّف على التكاليف فلا يكون تركه ومخالفته الواقعيّة مع عدم وصولها إليه ظلما وقبحا ، بل الظلم والقبح أن يؤاخذ على ذلك ويعاقب.

وبهذا ظهر أنّ مرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى كونها فردا ومصداقا للقضيّة العقليّة التي يدركها العقل العملي من حسن العدل وقبح الظلم ، بحيث يدور الأمر حول تحقّق الظلم وعدم تحقّقه.

والتحقيق : أنّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموما ، وأنّها كلّها تطبيقات له ، وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلا أنّه لا محصّل له ؛ لأنّنا إذا حلّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقّ في المرتبة السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي ، فلو لا أنّ للمنعم حقّ الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره ، فكون شيء ظلما وبالتالي قبيحا مترتّب دائما على حقّ مدرك في المرتبة السابقة ، وهو في المقام حقّ الطاعة.

فلا بدّ أن يتّجه البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف

ص: 56

الواصلة بالوصول الاحتمالي ، أو يختصّ بما كان واصلا بالوصول القطعي ، بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه؟

والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال أن يقال : إنّ الادّعاء المذكور من أنّ الأساس للأحكام العقليّة هو قبح الظلم ، وأنّ كلّ الأحكام العقليّة التي يدركها العقل العملي ترجع في عمومها إلى كون الظلم متحقّقا أم لا ، بمعنى أنّ كلّ الأحكام العقليّة تكون تطبيقات للظلم فإذا ثبت كونها مصداقا له كانت قبيحة ، وإلا فلا ، فهذا الادّعاء على شهرته بين الأصوليّين وغيرهم إلا أنّه لا معنى محصّل له.

وبيانه : أنّ قبح الظلم الذي هو الأساس في الأحكام العقليّة من القضايا البديهيّة المسلّمة ، إلا أنّ مفهوم الظلم نفسه عبارة عن الاعتداء على حقّ الغير أو سلب الغير حقّه ، وهذا يفترض مسبقا ثبوت الحقّ للغير ليكون سلبه والاعتداء عليه ظلما وبالتالي قبيحا.

وحينئذ نقول : إنّ الحقّ الثابت للمولى يكون الاعتداء عليه ظلما وقبيحا ؛ لأنّ هذا الحقّ ثابت للمولى بحكم مولويّته وخالقيّته وإنعامه على عبيده ، بحيث لزمهم الشكر على ذلك بحكم العقل وترك الشكر يعتبر ظلما وقبحا ، وهذا كلّه واضح ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ هذا الحقّ الثابت للمولى والذي أدركه العقل العملي ما هو؟

والجواب : أنّ هذا الحقّ هو لزوم الطاعة للمولى على عبيده شكرا منهم له على خلقه وإنعامه.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ لنرى ما هو الواجب على العبيد التزامه وأداء مراسم الشكر والطاعة فيه؟

وبهذا يتّجه البحث مجدّدا إلى أنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى هل دائرته تختصّ في لزوم إطاعته بما علم المكلّف من التكاليف أي التكاليف الواصلة للمكلّف عن طريق القطع فقط ، أو أنّها تشمل كلّ ما يحتمله المكلّف من تكاليف للمولى أي التكاليف المنكشفة لديه ولو بنحو الاحتمال؟

فإن قيل بالأوّل ثبت أنّ العقاب مع عدم البيان ووصول التكليف لدى المكلّف قبيح وظلم ، وإن قيل بالثاني لم يكن عقابه على ترك ما يحتمله وجوبه أو فعل ما

ص: 57

يحتمل حرمته قبيحا وظلما وإن لم يكن عالما به ؛ لأنّ المفروض على هذا الاحتمال أنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ انكشاف وأنّ العبد مطالب بالإطاعة في ذلك.

وهكذا يكون هذا الدليل كالدليل السابق في كونه مصادرة على المطلوب ، إذ الدليل عين المدّعى المتنازع فيه والذي لم يفرغ عنه بعد.

الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (1) أيضا تعميقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على أساس مبنىّ له في حقيقة التكليف ، حاصله : أنّ التكليف إنشائي وحقيقي ، فالإنشائي ما يوجد بالجعل والإنشاء وهذا لا يتوقّف على الوصول ، والحقيقي ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك وهذا متقوّم بالوصول ؛ إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرّد إنشائه باعثا ومحرّكا ، وإنّما يكون كذلك بوصوله ، فكما أنّ بعث العاجز غير معقول كذلك بعث الجاهل.

وكما يختصّ التكليف الحقيقي بالقادر كذلك يختصّ بمن وصل إليه ليمكنه الانبعاث عنه ، فلا معنى للعقاب والتنجّز مع عدم الوصول ؛ لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا بيان لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

الدليل الرابع : ما ذكره المحقّق الأصفهاني كتعميق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، مستندا في ذلك على أساس مبنى له في تفسير حقيقة التكليف والحكم ، وحاصله أن يقال : إنّ التكليف أو الحكم الواقعي على قسمين :

الأوّل : الحكم الإنشائي ، ويراد به الحكم الذي يجعل وينشأ في عالم التشريع والواقع واللوح المحفوظ ، وهذا الحكم يشترك فيه العالم والجاهل والغافل والملتفت ، وهذا الحكم في هذه المرتبة لا يتوقّف ثبوته على وصوله لدى المكلّف كما هو واضح ، بل هو ثابت بمجرّد جعله وإنشائه.

الثاني : الحكم الحقيقي ، وهو الحكم الذي ينشأ ويجعل بداعي البعث والتحريك ، وهذا الحكم يتقوّم بالوصول إلى المكلّف ؛ لوضوح أنّ البعث والتحرّك من المكلّف لا يتحقّق إلا بأن يكون التكليف واصلا وفعليّا ، ولا يكفي مجرّد إنشائه وجعله لتحقّق التحرّك والبعث خارجا.

ص: 58


1- نهاية الدراية 4 : 83.

وحينئذ نقول : إنّ الحكم الحقيقي والتكليف مقيّد عقلا بالقدرة عليه ، ولذلك لا يعقل تكليف العاجز غير القادر على البعث والتحرّك ؛ لأنّه طلب للمحال وهو محال ، وكذلك يكون التكليف مقيّدا بمن وصل إليه التكليف ؛ لأنّ من لم يصل إليه التكليف لا يمكنه التحرّك والانبعاث ، ففعليّة الحكم الواقعي الحقيقي مقيّدة بوصول الحكم والتكليف لدى المكلّف ، فإذا لم يصل إليه فلا معنى لذمّه وعقوبته ؛ لأنّه يكون عقابا على ترك التحرّك والانبعاث مع عدم وصول التكليف إليه ، والذي هو الداعي للتحرّك والانبعاث.

وبتعبير آخر : أنّ التكليف مع عدم وصوله لا يكون منجّزا على المكلّف ، وبالتالي لا يكون فعليّا فلا تحرّك ولا انبعاث إذ لا مقتضي لهما ، وعليه فالعقاب على المخالفة في هذا المورد قبيح كما هو الحال في مخالفة العاجز وعدم تحرّكه ، فإنّ عقابه قبيح.

إلا أنّ قبح العقاب هنا لا لأجل أنّه لا بيان للتكليف ؛ إذ البيان الواقعي للتكليف ثابت في مرحلة الإنشاء كما تقدّم ؛ لأنّ الحكم محفوظ بحقّ العالم والجاهل كما قلنا ، بل لا عقاب على المخالفة ؛ لأنّه لا تكليف أصلا على من لم يصل إليه الحكم ؛ لأنّنا قلنا : إنّ الحكم الحقيقي هو المتقوّم بالوصول ، فمع عدم الوصول لا تكليف حقيقة ، بمعنى أنّ الداعي الذي من أجله كان الحكم غير متحقّق ، إذ لا بعث ولا تحريك وهما أساس الحكم الحقيقي ، فمع عدمهما ينعدم الحكم الحقيقي ويبقى الحكم الإنشائي.

غير أنّ الحكم الإنشائي لا يفيد ؛ لأنّه لم يجعل بداعي البعث والتحريك ، فعدم انبعاث وتحرّك المكلّف لأجل أنّ الحكم الموجود هو الحكم الإنشائي وهو لم يجعل بداعي التحرّك والبعث ، والحكم الذي فيه هذا الداعي هو الحكم الحقيقي ، وهذا متقوّم بالوصول ، فمع عدم وصوله لا يثبت التحرّك والبعث ، وبالتالي ينتفي ثبوت هذا الحكم الحقيقي.

والحاصل : أنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلّف لا من ناحية قبح العقاب بلا بيان ، إذ البيان موجود واقعا بالحكم الإنشائي ، بل لأنّه لا تكليف حقيقة إذ لا وصول للحكم كما هو المفروض.

ص: 59

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ حقّ الطاعة إن كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثيّة التكليف ومحرّكيّته مولويّا مع الشكّ معقولة أيضا ؛ وذلك لأنّه يحقّق موضوع حقّ الطاعة.

وإن لم يكن حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على مخالفتها ؛ لأنّه ليس مولى بلحاظها ، بلا حاجة إلى هذه البيانات والتفصيلات.

وهكذا نجد مرّة أخرى أن روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ الوصول الذي يتقوّم به الحكم الحقيقي ما المراد منه؟ هل المراد منه الوصول القطعي أو الوصول الأعمّ منه ومن الاحتمالي الذي يجتمع مع الشكّ أيضا؟

فإن قيل : إنّ الوصول معناه مطلق الوصول الأعمّ من القطعي والاحتمالي ، فهذا يعني أنّ المحرّكيّة والباعثيّة التي يجعل التكليف من أجلها موجودة في حالة الشكّ في التكليف واحتماله ؛ لأنّه بحسب الفرض يكون الوصول موجودا باحتمال التكليف ، وحينئذ يكون المطلوب من المكلّف التحرّك والانبعاث عمّا يقتضيه الوصول الاحتمالي للتكليف ، وبالتالي يكون مستحقّا للعقوبة على مخالفته لهذا الاحتمال فلا يكون عقابه قبيحا ؛ وذلك لأنّ موضوع حقّ الطاعة ثابت ومتحقّق بالوصول الاحتمالي ، فالعقاب كان حقّا للمولى ؛ لأنّه يعقل على هذا الفرض إيجاد الباعثيّة والمحرّكيّة المولويّة في فرض الوصول الاحتمالي ما دام حقّ الطاعة شاملا للتكاليف الواصلة بمطلق الوصول الشامل للشكّ والاحتمال ، وبهذا لا يكون الاستدلال المذكور تامّا.

وأمّا إن قيل بأنّ الوصول معناه الوصول القطعي للتكليف بحيث لا يشمل الظنّ والشكّ والاحتمال ، كان معناه أنّ حقّ الطاعة موضوعه التكاليف المقطوعة فقط ولا يشمل غيرها ، أي أنّ حقّ الطاعة لا يطال هذه التكاليف المحتملة والمشكوكة ، فهي خارجة تخصّصا.

وحينئذ يكون العقاب على مخالفة التكاليف المشكوكة قبيحا ؛ لا لأنّه لا بيان ولا

ص: 60

علم أو لا ثبوت للتكليف ، بل لأنّه لا حقّ للمولى على عبده في أن يطيعه في هذه الموارد ؛ لأنّها خارجة عن موضوع حقّ الطاعة تخصّصا ، وبالتالي لا تحتاج إلى هذا الاستدلال والتفصيلات السابقة.

ومن هنا يظهر أنّ الأساس في هذا البحث هو أنّ حقّ الطاعة هل دائرته واسعة فتشمل كلّ انكشاف وكلّ وصول للتكليف ، أم أنّ دائرته ضيّقة ومختصّة بالانكشاف والوصول القطعي فقط؟

وهذا يفترض أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ قبل الاستدلال المذكور ؛ لأنّ تحديده يغنينا عن كلّ هذه الاستدلالات.

وثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ادّعي كونه متقوّما بالوصول ، إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب مثلا الناشئ من إرادة ملزمة للفعل ومصلحة ملزمة فيه ، فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع الشكّ أيضا حتّى لو قلنا بأنّه غير منجّز وأنّ المكلّف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلا ؛ لأنّ شيئا من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.

وإن أراد به ما كان مقرونا بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقول بدون وصول ، إلا أنّ ذلك لا ينهى البحث ؛ لأنّ الشك في وجود جعل بمبادئه من الإرادة والمصلحة الملزمتين موجود على أي حال ، حتّى ولو لم يكن مقرونا بداعي البعث والتحريك ، ولا بدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز أو لا؟

وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاح ، ولا يغني عن بحث واقع الحال.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ذكر أنّه متقوّم بالوصول ما هو المراد به؟

فإن كان المقصود من التكليف الحقيقي هو ذاك الجعل الشرعي الذي ينشئه الشارع على الموضوع بعد وجود المبادئ والملاكات والإرادة ، أي الحكم الناشئ عن وجود مصلحة ملزمة في الفعل مثلا كما في الوجوب وعن وجود ملاك ملزم وعن وجود شوق مولوي له ، فهذا المعنى من الواضح عدم كونه متقوّما بالوصول ، بل هو

ص: 61

ثابت بحقّ العالم والجاهل ومن وصل إليه التكليف ومن لم يصل إليه ؛ وذلك لأنّ هذه المبادئ والمصالح والملاكات ثابتة في عالم التشريع والواقع.

فالتكليف إذا ثابت واقعا لثبوت مناشئه سواء كان منجّزا على المكلّف بأن وصل إليه أم لم يكن منجّزا عليه بأن لم يكن واصلا إليه ، بل كان جاهلا أو شاكّا فيه ؛ إذ الجعل والإرادة والملاك والمصلحة يكفي في ثبوتها واقعا لحاظها من الشارع ولا مدخليّة لوصولها إلى المكلّف في ذلك.

فعلى هذا التقدير لا يتمّ ما ذكر من انتفاء التكليف الحقيقي عند عدم وصوله ؛ لأنّ الوصول لا مدخليّة له في ثبوت هذا التكليف بالتفسير الذي ذكرناه.

وإن كان المقصود من التكليف الحقيقي ما يكون ناشئا من مصلحة وملاك وشوق ولكن مقرونا بداعي البعث والتحريك أيضا ، فهذا لو سلّم وفرض معقوليّته وكونه متوقّفا على الوصول كما ذكر المحقّق الأصفهاني في استدلاله ، ولكن لا نسلّم أنّه إذا لم يصل التكليف بهذا المعنى فلا يكون ثابتا كما أراده المستدلّ ، بل من الممكن أن يكون ثابتا حتّى مع عدم وصوله ؛ وذلك لأنّ عدم وصول التكليف إنّما يقتضي انتفاء التحريك والبعث ، فلا بعث ولا تحريك للمكلّف نحو الفعل المتعلّق لهذا الحكم ، إلا أنّ المكلّف في هذه الصورة لا يزال يحتمل ويشكّ في أنّ المصلحة والملاك والمبادئ والإرادة التي هي المنشأ للتكليف الحقيقي هل لا تزال موجودة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ انتفاء البعث والتحريك لا يلزم منه انتفاء المصلحة والإرادة ، بل قد تنتفيان وقد تثبتان حتّى على تقدير عدم كون التكليف محرّكا وباعثا.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث مجدّدا حول إمكانيّة منجّزيّة هذا الاحتمال وعدم منجّزيّته ، فهل يكفي الاحتمال للمبادئ والإرادة في التنجيز أو لا يكفي؟ فإنّ هذا بحث آخر مستقلّ عن السابق.

فإن قيل بعدم كفايته ثبت المطلوب للمستدلّ ، وإن قيل بكفايته لم يتمّ ما ذكره حتّى وإن كان هذا التكليف الذي انتفى منه البعث والتحريك لا يطلق عليه عنوان التكليف الواقعي ، فإنّ إطلاق هذه التسمية وعدم إطلاقها مجرّد اصطلاحات وصياغات اعتباريّة ، فوجودها وانتفاؤها لا ينهى البحث الذي طرحناه والذي مرجعه في حقيقة الأمر إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، بمعنى أنّ الاحتمال هل يكفي لتنجيز

ص: 62

التكليف أم لا بدّ من القطع به ليتنجّز؟ فيعود البحث إلى سعة أو ضيق حقّ الطاعة.

2 - مسلك حقّ الطاعة :

وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار ، ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا ، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة ، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقا.

وعليه فالقاعدة العمليّة الأوّليّة هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ على ما تقدّم في مباحث القطع ، فلا بدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعا ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعيّة.

المسلك الثاني : هو مسلك حقّ الطاعة.

وهذا المسلك مفاده أنّ اللّه تعالى بحكم كونه خالقا ومنعما ورازقا فله على عباده وجوب الشكر وأداء الطاعة لكلّ أوامره ونواهيه ، وهذا الحقّ يؤمن به العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون.

وبناء على هذا المسلك نؤمن بأنّ حقّ الطاعة للمولى ثابت في مطلق الوصول والانكشاف للتكاليف سواء كان بنحو القطع أم الظنّ أم الشكّ أم الاحتمال ، فإنّ التكليف المحتمل يجب على المكلّف امتثاله ويكون مستحقّا للعقاب عقلا على مخالفته ، وهذا يعني أنّ القاعدة الأوّليّة عند الشكّ البدوي هي قاعدة الاحتياط العقلي وأصالة اشتغال الذمّة ما لم يحرز المكلّف الفراغ اليقيني.

وهذا الحقّ الثابت للمولى مدرك للعقل العملي من دون برهان عليه ؛ لأنّه من شئون الخالق والمنعم فلا يحتاج إلى الاستدلال والبرهنة ، بل بمجرّد الإيمان بوجود الخالق والمنعم يحكم العقل بأنّ للمولى حقّ الطاعة على عباده.

وأمّا أنّ هذا الحقّ واسع وليس ضيّقا ، بمعنى أنّه يشمل كلّ انكشاف ووصول للتكاليف ، فهذا أيضا لا برهان عليه ؛ لأنّه من شئون المولى أيضا ، بمعنى أنّه إذا ثبتت المولويّة فيثبت معها أنّ الدائرة واسعة أيضا ، هذا كلّه على أساس ما يدركه العقل ؛ إلا أنّ هذا الحكم العقلي ليس مطلقا بل هو معلّق ومقيّد على عدم صدور الترخيص الجادّ

ص: 63

من المولى ؛ لوضوح أنّ المولى إذا رخّص جادّا في ترك ما يحتمل منجّزيّته فلا يحكم العقل بالمنجّزيّة ولزوم الإطاعة ؛ لأنّ العقل إنّما حكم بالمنجّزيّة حفاظا على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، فإذا المولى نفسه أجاز وتنازل عن حقه فينتفي موضوع حكم العقل ، وحينئذ يتّجه البحث حول ما إذا صدر هذا الترخيص الشرعي الجادّ أم لا ، وهذا البحث يسمّى على مسلكنا بالبحث عن البراءة الشرعيّة ، خلافا للمشهور الذي آمن بالبراءة العقليّة والذي تقدّم عدم تماميّته.

* * *

ص: 64

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

اشارة

ص: 65

ص: 66

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

والقاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الأولى هي البراءة الشرعيّة ، ويقع الكلام عن إثباتها في مبحثين :

أحدهما في أدلّتها ، والآخر في الاعتراضات العامّة التي قد توجّه إلى تلك الأدلّة بعد افتراض دلالتها.

بعد أن عرفنا القاعدة العمليّة الأوّليّة بحكم العقل هي أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي ، والتي قلنا : إنّها معلّقة على عدم وجود الترخيص الجادّ من الشارع ، يقع الكلام في أنّ الشارع هل صدر منه ترخيص جادّ أم لا؟

والجواب : أنّ الترخيص الشرعي صدر منه ، وبالتالي يكون موضوع حكم العقل مرتفعا من باب رفع الموضوع حقيقة ، وبذلك نلتقي في النتيجة العمليّة مع ما ذهب إليه المشهور من البراءة.

والكلام في البراءة الشرعيّة يقع في بحثين :

الأوّل : حول الأدلّة التي ذكرت للاستدلال على البراءة الشرعيّة من الكتاب والسنّة.

الثاني : حول الاعتراضات العامّة التي تواجه هذه الأدلّة بعد الفراغ عن دلالتها.

أدلّة البراءة الشرعيّة

وقد استدلّ عليها بالكتاب الكريم والسنّة :

* * *

ص: 67

ص: 68

أدلّة البراءة من الكتاب

اشارة

ص: 69

ص: 70

أدلّة البراءة من الكتاب

أمّا من الكتاب الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) ، بدعوى أنّ اسم الموصول يشمل التكليف بالإطلاق كما يشمل المال والفعل ، فيدلّ على أنّه لا يكلّف بتكليف إلا إذا آتاه ، وإيتاء التكليف معناه عرفا وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

استدلّ على البراءة الشرعيّة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فآيات عديدة :

منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وتوضيح الاستدلال بها على البراءة أنّ الآية وردت بعد إيجاب الإنفاق على الزوج لزوجته ، فموردها المال ، إلا أنّ اسم الموصول عامّ وهو بعمومه وإطلاقه يكون شاملا لكلّ من المال والفعل والتكليف ، فيكون المراد منه هو الجامع لا خصوص أحدها.

وحينئذ يكون المراد هو : أنّ اللّه لا يكلّف نفسا بمال إلا بقدر ما آتاها ، أي ما رزقها وأعطاها ، ولا يكلّف نفسا بفعل إلا بقدر ما أعطاها من قدرة عليه ، ولا يكلّف بتكليف إلا بتكليف آتاها ، وإتيان التكليف للنفس هو إيصاله إليها ؛ لأنّ كلّ شيء يؤتى بحسبه.

وحينئذ فإذا أوصل التكليف للنفس فتكون مكلّفة وتستحقّ العقاب على المخالفة ، وأمّا إذا لم يوصل التكليف إليها فلا تستحقّ العقاب على المخالفة ، وهذا يعني أنّه مع عدم البيان لا يكون التكليف واصلا ، فلا يستحقّ العقاب على مخالفته بل يكون قبيحا عقابه على ذلك.

ص: 71


1- الطلاق : 7.

والتكليف الوارد في الآية هو الكلفة ، بمعنى إدخال الشيء في العهدة والذمّة واشتغالها به.

والمورد وإن كان هو المال إلا أنّه لا مبرّر لتخصيص اسم الموصول المطلق به ، إذ المورد لا يخصّص الوارد.

والإيتاء الوارد في الآية يتضمّن الإعطاء ، فبالنسبة للمال يكون الإعطاء معناه الرزق ، وبالنسبة للفعل يكون القدرة ، وبالنسبة للتكليف يكون الوصول والإيصال ؛ لأنّ معنى الإيتاء لغة هو إعطاؤه الشيء وفيضه أيضا ، وهذا يعني الوصول بالنسبة للتكليف.

وقد اعترض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1) على دعوى إطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ؛ لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

اعتراض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه على هذا الاستدلال بما حاصله : أنّ إرادة الجامع بين المال والفعل والتكليف من اسم الموصول ، بحيث يكون مطلقا وشاملا لكلّ هذه المعاني يلزم منه محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وبيانه : أنّ النسبة بين الفعل ( يكلّف ) واسم الموصول ( ما ) بناء على كون المراد المال أو الفعل هي نسبة المفعول به ، أي نسبة الفعل إلى ما تعلّق به وانصبّ عليه ، بينما النسبة بين الفعل واسم الموصول بناء على إرادة التكليف هي نسبة المفعول المطلق ، أي نسبة الفعل إلى الحالة أو النوع التي صدر فيها الفعل من دون نظر إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الفعل.

وحينئذ نقول : إنّ نسبة المفعول به تختلف عن نسبة المفعول المطلق ، فإنّ الأولى نسبة شيء إلى شيء آخر يغايره ، حيث إنّ الكلفة المستفادة من الفعل ( يكلّف ) تغاير المال أو الفعل ، بينما الثانية نسبة الشيء إلى بعض حالاته وأنواعه أو كيفيّته فهي من نسبة الشيء إلى نفسه ؛ لأنّ التكليف واحد في الفعل وفي اسم الموصول.

ص: 72


1- فرائد الأصول 3 : 21 - 22.

ومن الواضح أنّ الجمع بين هاتين النسبتين في استعمال واحد غير معقول ؛ لأنّه يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين في آن واحد ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ اللفظ عبارة عن آلة ومرآة للمعنى ، بحيث يفنى في المعنى ، فإن كان مرآة وفانيا في هذا المعنى فكيف يمكن إفناؤه مجدّدا أو كونه مرآة أخرى لمعنى آخر في آن واحد؟

وبهذا يظهر أنّ إرادة الجامع بين هذه المعاني يلزم منها محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في آن واحد وهو غير معقول ، وعليه فلا بدّ أن يكون المراد من اسم الموصول أحد هذه المعاني ، وحيث إنّ المال هو مورد الآية فهو القدر المتيقّن وغيره مشكوك فيقتصر عليه ، فلا يتمّ حينئذ الاستدلال بالآية على البراءة.

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) من أخذ الجامع بين النسبتين.

ويرد عليه : أنّه إن أريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ؛ لما تقدّم في مبحث المعاني الحرفيّة (2) من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين النسب ، وإن أريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين إلا أنّها تلائم المفعول المطلق والمفعول به معا ، فلا معيّن لإرادتها من الكلام على تقدير تصوّر نسبة من هذا القبيل.

الجواب الأوّل عن هذا الاعتراض ما ذكره المحقّق العراقي ، من كون اسم الموصول مستعملا في الجامع بين النسبتين أي المفعول به والمفعول المطلق كعنوان المفعول مثلا ، فإنّه ينطبق على كلا النسبتين ، فتكون إرادة المال والفعل والتكليف باعتبارها مصاديق وتعيّنات لهذا الجامع ، وبالتالي لا يكون اللفظ مستعملا إلا في معنى واحد لا أكثر وهو الجامع.

إلا أنّ هذا الجواب غير تامّ ؛ وذلك لأنّ هذا الجامع المراد استعمال اسم الموصول فيه ما هو المقصود منه؟

فإن أريد الجامع الحقيقي المنتزع من الأنواع المتغايرة ولكن يوجد بينها حيثيّة مشتركة ذاتيّة كما هو الحال في انتزاع الإنسان والحيوان من زيد وعمرو أو هما مع

ص: 73


1- مقالات الأصول 2 : 153.
2- من مباحث تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

الحصان والفرس ، فهذا الجامع لا يمكن تصويره في النسب ، وذلك لما تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة من كون كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ولا تنفكّ عنهما ، وإلا لم تتحقّق النسبة ، ولذلك لا يمكن تصوّر الجامع ؛ لأنّه يكون بعد إلغاء ما به الامتياز والإبقاء على ما به الاشتراك ، وفي عالم النسب كلّ نسبة تمتاز عن الأخرى بطرفيها وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها فما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك ، فإذا ألغينا الطرفين يعني إلغاء النسبة نفسها فالجامع الحقيقي غير معقول.

وكذا الحال بالنسبة للجامع العرضي فإنّه أيضا يحافظ على الحيثيّة المشتركة العرضيّة لا الذاتيّة ، كالبياض المنتزع من الثلج والحليب ونحوهما.

وإن أريد من الجامع افتراض وجود نسبة ثالثة مغايرة للنسبتين السابقتين ومباينة لهما ، ولكنّها في نفس الوقت تلائم كلا الأمرين من المفعول المطلق والمفعول به ، فهذه النسبة غير معقولة في نفسها ؛ لأنّها لمّا كانت مباينة ومغايرة للنسبتين كما هو المفروض فكيف تكون في نفس الوقت ملائمة لهما بحيث تنطبق عليهما أيضا؟!

ولو سلّم ذلك وفرض إمكان تصوّر هكذا نسبة في عالم الثبوت إلا أنّه لا دليل على إرادتها من اسم الموصول إثباتا ، إذ كما أنّ اسم الموصول يصلح للمفعول به والمفعول المطلق يصلح لهذه النسبة أيضا بحسب الفرض ، لكن ما هو الدليل والمعيّن الذي من خلاله يمكننا الجزم بأنّ اسم الموصول هنا مستعمل في هذه النسبة الثالثة ، مع أنّ المتيقّن هو استعماله في المال أي المفعول به ؛ لأنّه مورد الآية ، وهذا يجعل الآية ظاهرة فيه أو على الأقلّ ليس خارجا عن موردها ، فكيف يمكن الجمع بين إرادة هذه النسب كلّها من اسم الموصول؟

الثاني : وهو الجواب الصحيح وحاصله : أنّ مادّة الفعل في الآية هي الكلفة بمعنى الإدانة ، ولا يراد بإطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذا مفعول به ، فلا إشكال.

والجواب الثاني ما هو الصحيح ، وحاصله : أنّ الاعتراض نشأ من تفسير مادّة الفعل الوارد في الآية بمعنى الحكم ، فإنّ مادّة الفعل هي التكليف حيث هو المصدر لفعل ( كلّف يكلّف ) ، والأصوليّون اعتادوا على التعبير عن الحكم الشرعي بالتكليف ، ومن هنا نشأ الاعتراض حيث فسّر اسم الموصول بما يشمل التكليف والمادّة هي

ص: 74

التكليف أيضا ، فصارت النسبة بين اسم الموصول والفعل نفسه نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ، أي إلى طور أو نوع أو حالة أو كيفيّة من الفعل ، بينما شمول اسم الموصول للمال أو الفعل من باب المفعول به أي نسبة الفعل إلى المغاير.

وحينئذ وقع الإشكال بأنّه كيف يجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

ولكنّ الصحيح أنّ مادّة الفعل الوارد في الآية والتي هي التكليف ليست بمعنى الحكم بل بمعنى الإدانة والتحميل ، والتكليف الوارد في اسم الموصول بمعنى الحكم ، وعليه فيكون اسم الموصول مستعملا في معنى واحد وهو نسبة المفعول به ، وبإطلاقه وعمومه يشمل المال والفعل والتكليف بمعنى الحكم.

ويكون المعنى حينئذ : أنّ اللّه لا يكلّف نفسا أي لا يدينها ولا يحمّلها إلا تكليفا أي حكما آتاها أي أوصله لها ، فليس المراد من مادّة الفعل واسم الموصول شيئا واحدا ليقال : إنّ النسبة بينهما هي المفعول المطلق ، بل المراد من أحدهما معنى يغاير المعنى المراد من الآخر ، فالنسبة هي المفعول به ؛ لأنّ المفعول المطلق نسبة الشيء إلى حالته أو نوعه ، بينما نسبة الفعل إلى المفعول به نسبة المغاير إلى المغاير.

ثمّ إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة : إن كانت بمعنى نفي الكلفة بسبب التكليف غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة أدلّة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدّعى من أدلّته. والظاهر هو الحمل على المورديّة لا السببيّة ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا ، فالاستدلال بالآية جيّد.

ثمّ بعد الفراغ عن استفادة البراءة من الآية الكريمة توجد عدّة بحوث لا بدّ من التعرّض لها :

البحث الأوّل : في النسبة بين البراءة والاحتياط.

وهنا لا بدّ من تحديد المعنى المستفاد من الآية الدالّ على البراءة ، فإنّه يوجد معنيان لاستفادة البراءة من نفي الكلفة في الآية هما :

الأوّل : أن يكون المراد من نفي الكلفة الذي هو معنى البراءة نفيها بسبب التكليف غير المأتي ، أي أنّه بسبب عدم إتيان التكليف للمكلّف فلا كلفة عليه ، بل يكون بريئا ،

ص: 75

فهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت الكلفة بسبب آخر كوجوب الاحتياط فيما لو تمّت أدلّته متنا وسندا ؛ لأنّه يكون سببا مستقلاّ لإثبات الكلفة غير السبب الأوّل المنتفي ، فيكون ثبوت الاحتياط غير معارض بالبراءة المستفادة من الآية ؛ لأنّها ثابتة بسبب عدم إتيان التكليف لا أكثر ، والكلفة الثابتة بالاحتياط كلفة مستقلّة ناشئة من سبب آخر غير الكلفة المنفية بالبراءة ، ولذلك لا تعارض بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ كلاّ منهما ينظر إلى جهة مغايرة للآخر.

الثاني : أن يكون المراد من نفي الكلفة أنّه في مورد عدم إيتاء التكليف لا كلفة ولا إدانة ، فهذا المعنى بنفسه ينفي وجوب الاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط يثبت الكلفة في مورد عدم إيتاء التكليف والبراءة تنفيها ، فكلاهما ناظران إلى موضوع واحد ، وهو أنّه في فرض عدم إيتاء التكليف ما هو الحكم؟

فالبراءة تقول : إنّه لا كلفة ولا إدانة بينما الاحتياط يقول : إنّه يوجد كلفة وإدانة ، فيقع التعارض بينهما حينئذ.

والحاصل : أنّنا إذا حملنا البراءة المستفادة من الآية على السببيّة كان الاحتياط ثابتا بلا معارض ، وإن حملناها على المورديّة كان الاحتياط والبراءة متعارضين.

والظاهر هو حمل البراءة ونفي الكلفة على المورديّة لا السببيّة.

ووجهه : أنّ الآية موردها المال والتكليف لا يكون بسبب المال وإنّما يكون في مورده ، فوجوب النفقة على الزوج ثابت في مورد المال لا بسبب المال ، أي أنّ المال ليس هو السبب في جعل التكليف على الزوج بالإنفاق وإنّما هو المورد لهذا الجعل ، وكذا الحال بالنسبة للفعل الذي يشمله اسم الموصول بإطلاقه ، فإنّ التكليف لا يكون بسبب الفعل وإنّما في مورده ، فيقال : إنّ فلانا مكلّف بالقيام بالعمل الفلاني فيما إذا كان قادرا على فعله أي في مورد قدرته لا في حال عجزه ، لا أنّ تكليفه بالقيام يكون بسبب الفعل.

وهكذا الحال بالنسبة للتكليف فإنّ الشارع لا يكلّف العبد ولا يدينه في مورد الجهل وعدم إيتاء التكليف ، وإن كان معنى السببيّة معقولا في نفسه ، إلا أنّ وحدة المراد والسياق في الجميع تقتضي الحمل على المورديّة.

وبهذا يظهر أنّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة بمعنى التأمين ونفي العقاب في

ص: 76

مورد عدم العلم بالحكم الواقعي جيّد ولا غبار عليه ، ولا يكون الاحتياط على تقدير تماميّة أدلّته رافعا للبراءة ، بل يكون معارضا لها ، وسيأتي في محلّه.

وبالنسبة إلى مدى الشمول فيها لا شكّ في شمولها للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

البحث الثاني : في كون البراءة جارية في الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

وهنا لا شكّ في أنّ الآية تشمل كلا الموردين ؛ لأنّ المأخوذ في لسانها إنّما هو نفي الكلفة عند عدم إيتاء الحكم والحكم ينطبق على الوجوب والحرمة معا ، فلا مبرّر لتخصيصها بالوجوب أو الحرمة ؛ لأنّ لسانها عامّ ومطلق.

نعم ، بعض الأدلّة الأخرى للبراءة يختصّ بإحدى الشبهتين كما سيأتي ، حيث إنّ موردها ذلك ، وأمّا هذه الآية فهي ابتداء تثبت البراءة عند الجهل وعدم وصول التكليف ، وهذا يشمل كلا الشبهتين أي الوجوبيّة والتحريميّة.

بل للشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا ؛ لأنّ الإيتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ليختصّ بالشبهات الحكميّة ، بل بمعنى الإيتاء التكويني ؛ لأنّه المناسب للمال والفعل.

البحث الثالث : في شمول البراءة للشبهات الموضوعيّة والحكميّة.

لمّا كانت هذه الآية تفيد جريان البراءة عند الشكّ في التكليف فقد يتصوّر اختصاصها بالشبهات الحكميّة فقط ؛ لأنّه فيها يشكّ بالتكليف ، دون الشبهات الموضوعيّة ، إلا أنّ الصحيح أنّ الشبهات الموضوعيّة أيضا يشكّ فيها بالتكليف. وبيان ذلك : تارة يشكّ المكلّف في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وعدمه ، فهنا يشكّ في الحكم والتكليف ، فيصدق عدم الإيتاء والوصول فتجري البراءة جزما.

وأخرى يشكّ في أنّ هذا المائع خمر أو لا ، فهذا شكّ في الموضوع ابتداء ولكنّه عمليّا ينتج منه الشكّ في الحكم ؛ لأنّه إن كان خمرا فهو حرام وإن كان ماء فهو حلال ، فيعود الشكّ إلى الحكم فتجري البراءة أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في جريان البراءة فيهما عند الشكّ ، بل لا معنى للقول باختصاصها في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشبهة الموضوعيّة يعود الشكّ فيها إلى الشكّ في الحكم.

ص: 77

مضافا إلى أنّ لسان الآية هنا هو أنّه مع عدم الإيتاء فلا كلفة ولا إدانة ، والإيتاء هنا ليس بمعنى الإتيان من الشارع بما هو شارع ليقال باختصاصه بالحكم ؛ لأنّه هو الذي يأتي من الشارع.

بل الإيتاء هنا هو الإيتاء التكويني ؛ لأنّ مورد الآية هو المال وإيتاء المال يعني رزقه للعبد في الخارج ، فلا يمكن أن يكون الإيتاء التكويني خارجا ؛ لأنّه القدر المتيقّن من الإيتاء في الآية.

وعليه ، فإمّا أن يكون المراد مطلق الإيتاء الشامل للتكويني والتشريعي ، وإمّا أن يكون خصوص الإيتاء التكويني ، ولا يمكن تخصيصها بالإيتاء التشريعي فقط ؛ لأنّ هذا بخلاف ظاهر الآية وموردها.

كما أنّ الظاهر عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.

البحث الرابع : في اختصاص جريان البراءة بعد الفحص.

قد يقال : إنّ الآية مطلقة فهي تنفي الكلفة عند عدم إيتاء التكليف ، وهذا شامل لما إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم ولما إذا لم يفحص عنه.

إلا أنّ هذا الإطلاق يجب رفع اليد عنه ؛ وذلك لأنّ الإيتاء ليس معناه الإيصال المباشر للحكم ، بل معناه تشريع الحكم وإيصاله للمكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، بأن يجعل في مظانّ العثور عليه كالكتاب والسنّة.

وهذا يعني أنّ المكلّف مطالب بالبحث عن التكليف في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فإذا وجده كان التكليف قد أتاه من الشارع ، وإن لم يجده فيتحقّق عدم الإيتاء.

وبتعبير آخر : أنّ العرف يرى أنّ الإيتاء الذي هو الوصول يكفي فيه مرتبة من مراتب الوصول والتي منها إيتاء التكليف في مصادره ومظانّه ، فتختصّ البراءة بعد الفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1).

وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة ( رسول ) على المثال للبيان.

الآية الثانية قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ مفادها نفي

ص: 78


1- الإسراء : 15.

العذاب مع عدم بعث الرسول ، إلا أنّ الاستدلال بها على البراءة لا يتمّ إذا اقتصرنا على موردها وهو الرسول ؛ لأنّنا نريد أن نثبت البراءة بعد بعث الرسول لا قبله ، ولذلك يحمل الرسول فيها على مطلق البيان للتكليف ، إذ التكليف كما يأتي من الرسول كذلك يأتي من الإمام أيضا ومن الاحتياط ؛ لأنّه يصدق في مورد الاحتياط أنّه بعث وبيان التكليف.

وعليه فمع عدم بيان التكليف بأي نحو من أنحاء البيان ولو بالاحتياط ظاهرا تثبت البراءة وإلا فلا.

والبيان هنا كما يتمّ من الشرع يتمّ من العقل أيضا كما في الملازمات العقليّة ، كوجوب السورة أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

وقد يعترض على ذلك تارة بأنّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من أنّ الآية إنّما يتمّ الاستدلال بها لو كان المراد من نفي العذاب قبل بعث الرسول ومطلق البيان هو نفي الاستحقاق للعذاب ، فيكون المراد أنّه من عدم بعث البيان فلا يستحقّ المكلّف العذاب.

إلا أنّ الآية يحتمل كونها ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لا نفي الاستحقاق ، بمعنى أنّه قبل بعث البيان يكون المكلّف مستحقّا للعذاب على المخالفة ، ولكنّ اللّه تعالى تفضّلا منه على عباده عفا عنهم العذاب فعلا ، وهذا يستلزم أن يكون التكليف المشكوك الذي لم يقم عليه البيان منجّزا بمنجّز سابق على أساس حكم العقل مثلا.

وحينئذ لا يتمّ الاستدلال ؛ إذ لعلّه لا يعفو عنهم بعد بعث الرسول ومطلق البيان ، وعلى الأقلّ يدور الأمر بين الاحتمالين ، فتكون مجملة وقدرها المتيقّن بعث الرسول خاصّة دون غيره ؛ لأنّه مورد الآية ، فلعلّه يعاقبهم بعد تماميّة البيان من حكم العقل أو بعد بيان الاحتياط مثلا.

وأخرى بأنّها ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للأمم السالفة ، وهذا غير محلّ البحث.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري من أنّ الآية ناظرة إلى نفي العذاب

ص: 79

الدنيوي عن الأمم السابقة قبل بعث الرسل ، بمعنى أنّ اللّه لا يعذّب في الدنيا الناس قبل أن يبعث الرسل كما هو حال فرعون مثلا.

وهذا المعنى أجنبي عن محلّ الكلام ؛ لأنّ كلامنا في العذاب الأخروي عند مخالفة التكليف المشكوك ، وهذا لا نظر للآية فيه لا نفيا ولا إثباتا ، فلا يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّ المراد من البراءة التأمين ونفي العقاب في الآخرة لا في الدنيا.

هذا هو الظاهر من الآية بحسب سياقها ومقتضاها ، ولا أقلّ من الإجمال وهو يمنع من تماميّة الاستدلال أيضا.

والجواب على الأوّل : أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامّة للشارع التي لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.

والجواب عن الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ ظاهر الآية نفي استحقاق العقاب لا مجرّد الفعليّة فقط ؛ وذلك لأنّ هذا التركيب : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... ) ظاهره أنّه ليس من طريقة الشارع ولا يتناسب وشأنه أن يعذّب الناس قبل إرسال الرسل إليهم ، أي أنّ التعذيب لا يتناسب وشأن الشارع ؛ لأنّه ليس من عادته وطريقته أن يعذّب قبل إرسال الرسل ، وإنّما عادته وطريقته والذي يتناسب وشأنه هو التعذيب بعد إتمام الحجّة وبعث الرسل ، وهذا يدلّ على أنّ الناس لا تستحقّ العقاب قبل البعث ؛ لأنّ استحقاقهم للعذاب والحال هذه يتنافى مع شأن ومسلكيّة الشارع.

ولو فرض أنّ الآية ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لم يكن هذا التعبير صحيحا ؛ لأنّه مع نفي الفعليّة فقط يكون الاستحقاق ثابتا أي أنّهم يستحقّون العذاب ، وهذا معناه أنّ من شأن الشارع ومن المناسب له أن يعذّبهم ولكنّه لم يفعل ذلك تفضّلا منه ورحمة ، وحينئذ ينبغي التعبير عن ذلك بنحو يدلّ على أنّهم يستحقّون وأنّ الشارع عفا عنهم ، وأمّا نفي العذاب بنحو مطلق فهو يدلّ عرفا على نفي العذاب من أساسه ، وأنّه لا يوجد ما يوجب العذاب حتّى يعذّبهم (1).

ص: 80


1- وممّا ينبّه على ذلك أنّ أمثال هذا التركيب يدلّ عرفا على نفي الشأنيّة والمناسبة كقولك : ما كنت لأعذّب عبدي على مخالفة فعل لم يصل إليه ، فهذا يدلّ على أنّه لا يستحقّ العذاب على المخالفة مع عدم وصول التكليف إليه لا أنّه يستحقّه إلا أنّ سيّده عفا عنه فقط.

ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافا إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيويّة ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الأخروي ، إذ وردت في سياق : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (1) ، فإنّ هذا شأن عقوبات اللّه في الآخرة لا في الدنيا.

وأمّا الجواب على الاعتراض الثاني فهو أنّه لا معنى لنفي الشأنيّة والاستحقاق عن الأمم السابقة فقط ، بل هذا اللسان يشمل الأمم السابقة واللاحقة ؛ لأنّ نفي الاستحقاق والشأنيّة إنّما هو بلحاظ الناس جميعا ، ولا معنى لتخصيصه بفئة خاصّة دون أخرى ؛ لأنّ لازمه أنّ الشارع ليس من شأنه أن يعذّب الأمم السابقة ، وإنّما من شأنه أن يعذّب الأمم اللاحقة عند عدم بعث الرسل ، وهذا غير معقول على الشارع ؛ لأنّ طريقة الشارع والمناسب لشأنه إمّا العذاب وإمّا عدم العذاب ولا معنى لفرض طريقتين مختلفتين للشارع ، إحداهما بلحاظ الأمم السابقة والأخرى بلحاظ الأمم اللاحقة ، بل الشارع يعطي قانونا كلّيّا عامّا يشمل كلّ الناس في كلّ زمان ومكان وهو من السنن الإلهيّة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، فالآية تشمل جميع الناس.

والمنفي إن كان العذاب الدنيوي على فرض التسليم بذلك إلا أنّه لا معنى للوقوف عليه ؛ لأنّ عدم الشأنيّة والمناسبة كما ينفي العذاب الدنيوي ينفي العذاب الأخروي أيضا ، إذ لا فرق بينهما ، والنكتة فيهما واحدة وهي أنّ العذاب ليس من شأن المولى سواء كان في الدنيا أم في الآخرة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ ظاهر الآية وسياقها يدلّ على نفي العذاب الأخروي لا الدنيوي ؛ وذلك لأنّها وردت في سياق استعراض عدد من القوانين والسنن الإلهية من قبيل :

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) فإنّها ناظرة إلى أنّه في يوم القيامة والحساب لا تحاسب نفس عن نفس ، ولا تغني إحداهما عن الأخرى ، ولا تعاقب بدلا عنها ، وهذا السياق يتناسب مع العقوبات الأخرويّة لا الدنيويّة ، فيكون قوله : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) بمقتضى وحدة السياق أنّه لا يعذّب في الآخرة إلا بعد بعث الرسل.

ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلا ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله : ( وَما

ص: 81


1- فاطر : 18.

كُنَّا ) ، وهذا بنكتة إفادة الشأنية والمناسبة ، ولا يتعيّن أن يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصّة.

ثمّ إنّ المنشأ لتوهّم أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي ونفيه عن الأمم السابقة هو ورود التعبير بالنفي بصيغة الماضي : ( وما كنّا ) حيث يحمل على الزمان الماضي ، ويقال : إنّه في الماضي لم نعذّب الناس إلا بعد بعث الرسل ، ولذلك حمل نفي العذاب عنهم على العذاب الدنيوي لا الأخروي ؛ لأنّه لم يأت زمانه بعد ، إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ، فإنّ هذا التعبير لا ينبغي حمله على الماضي خاصّة بل يشمل تمام الأزمنة ، وبالتالي يكون ناظرا إلى العذاب الأخروي ؛ لأنّنا قلنا : إنّ هذا التعبير كما هو شأن التعابير العرفيّة ينفي الشأنيّة والمناسبة ، وهذا يعني أنّ هذه الطريقة ليست من شأننا ولا تتناسب مع مقام الشارع ، فهي تفيد قانونا عامّا وكلّيّا يسري على تمام الناس في الماضي والحاضر والمستقبل ، فيكون العذاب المنفي ليس خصوص الدنيوي ، بل لعلّه مختصّ بالأخروي كما تقدّم.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة (1) : من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثال لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.

والتحقيق أن يقال : إنّه مع ذلك لا يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة ؛ وذلك لأنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف حالة عدم وصوله إلى المكلّف ، لا التأمين عنه عند عدم صدوره من الشارع فقط.

والآية الكريمة ناظرة إلى حالة الصدور فقط ، وتنفي استحقاق العذاب عند عدم صدور التكليف فقط ، وليس فيها نظر إلى حالة صدور التكليف من الشارع مع عدم وصوله إلى المكلّف مع توفّر الدواعي لوصوله ووجود المانع من ذلك ، ويدلّ على ذلك أنّ بعث الرسول يكون لبيان الأحكام فهو مثال لصدور الأحكام من الشارع كالكتاب ، فإذا لم يصدر الحكم من الشارع لا في الكتاب ولا في السنّة تجري البراءة ، وأمّا مع صدوره فيهما وعدم وصول الحكم إلى المكلّف لسبب ما فهذا لا تنظر إليه الآية.

ص: 82


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

والذي ينفعنا في المقام نفي العذاب وإثبات البراءة والتأمين عند عدم وصول التكليف أو عند الشكّ في ذلك ؛ لأنّ كلّ الأحكام قد بيّنت من الشارع وصدرت عنه كما هو مفاد كثير من الآيات ، وهذا المفاد غير ظاهر من الآية كما تقدّم ، إذ قد يصدر الحكم ويكون البيان تامّا عليه ولكنّه لم يصل إلى المكلّف ، ففي هذه الحالة ما هو الحكم والتكليف ووظيفة المكلّف؟

ثمّ إنّ البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضا.

النسبة بين البراءة والاحتياط بلحاظ هذه الآية :

ثمّ إنّه على تقدير الاستدلال بالآية على البراءة فيكون مفادها أنّه مع عدم إرسال الرسول الذي هو مطلق البيان تكون البراءة ثابتة ، وأمّا إذا ثبت البيان فالبراءة تنتفي لانتفاء موضوعها.

وحينئذ نقول : إذا تمّ الاستدلال من الأخبار على وجوب الاحتياط في مورد الشكّ في التكليف فهذا يعني أنّ البيان قد تمّ من الشارع ؛ لأنّ البيان كما تقدّم أعمّ من البيان بلسان الرسول أو الإمام أو الاحتياط ، وهنا المفروض ثبوت الاحتياط فيكون موضوع البراءة منتفيا ، وهذا يعني أنّ الاحتياط مقدّم على البراءة ؛ لأنّه بيان وهي مقيّدة بعدم البيان بحسب الفرض.

والحاصل : أنّنا حتّى لو استفدنا البراءة من الآية إلا أنّها لا تقاوم ولا تعارض أدلّة الاحتياط على تقدير تماميّة هذه الأدلّة كما سيأتي في محلّه.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كاف في إطلاق العنان.

الآية الثالثة : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ ... ) وهذه الآية مفادها تعليم النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيفيّة المحاجّة مع اليهود الذين حرموا بعض المأكولات.

ص: 83


1- الأنعام : 145.

وحاصله : أن يواجههم بالاستدلال على نفي التحريم بأنّه لم يجد ما حرّموه على أنفسهم محرّما في الشريعة ، وهذا يعني أنّ عدم الوجدان للحكم يكفي للحكم بالإباحة والحلّيّة ، وأنّه لا إلزام من جهته وهذا معناه ثبوت البراءة والتأمين عن الحكم المشكوك بمجرّد عدم وجدانه في الشريعة ، وإلا لما صحّ استدلال النبي على عدم الحرمة بمجرّد عدم وجدان الحكم في الشريعة.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ عدم وجدان النبي صلی اللّه علیه و آله فيما أوحي إليه يساوق عدم الحرمة واقعا.

وهنا عدّة اعتراضات على الاستدلال بالآية ، هي :

الاعتراض الأوّل : أنّ عدم وجدان النبي للحكم مساوق لعدم صدوره من الشارع واقعا ، فإذا لم يجد النبي هذا الشيء محرّما في الشريعة فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع مثل هذا التحريم ، فيكون نظرها إلى الواقع وأنّ هذا الشيء مباح أو حلال واقعا ، لا مجرّد جعل حكم ظاهري بالإباحة والحلّيّة على الشيء الذي لم يجده النبي في الشريعة.

وبتعبير آخر : أنّ عدم وجدان النبي معناه عدم صدوره وجعله ؛ لأنّه هو المبلّغ عن اللّه تعالى أحكامه ، فإذا لم يكن هذا الحكم موجودا بين يديه فهذا يعني أنّه لم يصدر من الشارع أصلا.

إذا فالآية أجنبيّة عن المطلوب ، إذ نحن نريد إجراء البراءة التي هي حكم ظاهري عند الشكّ في التكليف ، بينما الآية مفادها النفي الواقعي والإباحة والحلّيّة الواقعيّة لهذا الشيء بمجرّد عدم وجدان النبي له الكاشف عن عدم الصدور والجعل واقعا ، ومحلّ كلامنا في عدم الوصول إلى المكلّف.

وثانيا : أنّه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعا فعلى الأقلّ يساوق عدم صدور بيان من الشارع ، إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبي ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان؟

الاعتراض الثاني : أنّنا لو سلّمنا وتنزّلنا عن كون عدم الوجدان مساوقا لعدم الوجود الواقعي وقلنا بأنه يعني عدم الوصول ، إلا أنّه أيضا لا يتمّ الاستدلال بالآية

ص: 84

على البراءة ، وذلك للفرق بين عدم وجدان النبي وبين عدم وجداننا.

وهو أنّ عدم وجدان النبي للحكم لا مبرّر له إلا عدم صدور البيان بشأنه ؛ إذ لو صدر البيان من الشارع لوصل إلى النبي ؛ لأنّه هو المبلّغ لأحكام الشارع ، فمن البعيد أو من غير المعقول صدوره من اللّه تعالى وعدم وصوله إلى النبي فيكون عدم وجدان النبي مساوقا لعدم الصدور إن لم نقل بأنّه مساوق لعدم الوجود الواقعي.

إلا أنّ هذا المعنى لا يتحقّق بالنسبة إلينا دائما ؛ لأنّنا قد نشكّ في الحكم نتيجة عدم صدوره ، وأخرى نشكّ به نتيجة عدم وصوله بعد فرض صدوره من الشارع إجمالا ، والاحتمال الثاني هو الغالب في حقّنا ؛ لأنّ أحكام الشريعة تامّة ، فمع عدم وجداننا للحكم لا يعني هذا عدم صدوره ، بل لعلّه صدر من الشارع ولكنّه لم يصلنا لأجل ضياعه أو اختفائه علينا ، فعدم وجداننا أعمّ من عدم الصدور ؛ لأنّه يتلائم مع عدم الوصول أيضا ، بينما عدم وجدان النبي فهو على الأقلّ يتلاءم مع عدم الصدور إن لم نقل مع عدم الوجود الواقعي.

وعليه فلا يتمّ استفادة البراءة ؛ لأنّنا نريد بها التأمين عن الحكم المشكوك عند عدم وصوله أيضا ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثالثا : أنّ إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصل عملي قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها إلا بمخصّص واصل.

الاعتراض الثالث : أنّ الآية الكريمة من المحتمل أن تكون ناظرة إلى شيء آخر غير البراءة أو الإباحة الظاهريّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الآية تفيد أنّ عمومات ما دلّ على الحلّيّة والإباحة الواقعيّة للمأكولات ولما أخرج من الأرض لا يرفع اليد عنها إلا مع وجود مخصّص قطعي واصل إلى المكلّف ، فيكون العامّ هو الحجّة لإفادة الحلّيّة والإباحة لا البراءة.

فمثلا قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1) يدلّ على أنّ كلّ شيء مباح وحلال للإنسان إلا ما دلّ عليه الدليل الخاصّ القطعي ، ولا يرفع اليد عن هذا الدليل الاجتهادي لمجرّد الشكّ في المخصّص مع عدم وصوله

ص: 85


1- البقرة : 59.

القطعي ، فتكون الإباحة والحلّيّة الثابتة بهذا العموم إباحة وحلّيّة واقعيّة.

بينما المطلوب الاستدلال بالآية على الحلّيّة والإباحة والتأمين الظاهري عند عدم وجدان ما يصلح دليلا على الحكم المشكوك ، فالآية ناظرة إلى شيء آخر ولا أقلّ من احتمال ذلك فتكون مجملة ، وبالتالي لا يتمّ الاستدلال بها.

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الحلقة السابقة (2).

الآية الرابعة للاستدلال على البراءة ، قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... ) بتقريب أنّ اللّه سبحانه وتعالى نفى الإضلال بعد الهداية حتّى يبيّن للناس.

والمعنى المتحصّل هو أنّ الإضلال والخذلان لا يكون إلا بعد البيان ، وأمّا قبل البيان فلا إضلال ولا عذاب ، وهذا يعني التأمين من العقاب مع عدم البيان.

وفي مقامنا إذا لم يبيّن التكليف لهم - وبيانه لهم يعني وصوله إليهم - فلا عقاب عليهم وهو يعني البراءة ، فالاستدلال تامّ.

يبقى الكلام في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل هي معارضة لأدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها ، أو أنّ أدلّة الاحتياط مقدّمة وحاكمة عليها باعتبارها بيانا؟

وهذا الأمر مرتبط بتفسير قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ، وهنا يوجد احتمالان في تفسير هذا الاتّقاء هما :

وما يتّقى إن أريد به ما يتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعيّة للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطة بعدم بيان الواقع ، وإن أريد به ما يتّقى ولو بعنوان ثانوي ظاهري كعنوان المخالفة الاحتماليّة كان دليل وجوب الاحتياط واردا على هذه البراءة ؛ لأنّه بيان لما يتّقى بهذا المعنى.

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) العنوان الأوّلي ، وحينئذ يكون المعنى : أنّ اللّه لا يعاقب ولا يخزي قوما إلا بعد أن يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّها هي التي يجب على الناس اتّقاؤها وعدم مخالفتها ، وذلك

ص: 86


1- التوبة : 115.
2- في بحث الأصول.

بالالتزام بها وامتثالها ، فإذا بيّن لهم هذه الأحكام ووصلت إليهم فمع مخالفتها يستحقّون العقاب ؛ لأنّهم خالفوا الأحكام الواقعيّة للمولى ومخالفتها توجب العقاب ، وأمّا إذا لم يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة التي يجب عليهم اتّقاؤها فمع المخالفة الواقعيّة لها في هذه الحالة لا يستحقّون العقاب ؛ لأنّه لا عقاب إلا على مخالفة الأحكام الواقعيّة ، فتكون البراءة المستفادة من الآية بناء على هذا التفسير سنخ براءة ثابتة في مورد عدم بيان الحكم الواقعي ، وعليه فتكون أدلّة الاحتياط على فرض تماميّتها معارضة لهذه البراءة ؛ لأنّ موضوعهما واحد وهو عدم وصول التكليف الواقعي.

وبتعبير آخر : أنّ البراءة ثابتة مع عدم البيان على الواقع والاحتياط أيضا على فرض تماميّته ثابت في هذا المورد فيتعارضان.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( ما يَتَّقُونَ ) ما يشمل العنوان الثانوي الظاهري أيضا ، فيكون المعنى أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي والحكم الثانوي المجعول في ظرف الشكّ في الواقع ، والذي هو حكم ظاهري طريقي ، تكون البراءة ثابتة ؛ إذ لا خزي ولا عقاب مع عدم بيان هذين النحوين من الحكم ، وأمّا مع بيان الحكمين الواقعي أو الظاهري فالعقاب والخزي ثابت.

أمّا العقاب على الأوّل فواضح ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الامتثال والطاعة لتكاليف المولى الواقعيّة ، ويحكم باستحقاق العقاب على مخالفتها ؛ لكون المخالفة خروج عن زيّ العبوديّة وتعدّ على حدود المولى.

وأمّا العقاب على الثاني فلأنّه طريق كاشف عن الواقع فهو ينجّز الواقع ، وتكون المخالفة هنا احتماليّة لا قطعيّة ، إذ لعلّ هذا الحكم الظاهري مخطئ غير مصيب للواقع ؛ لما تقدّم في محلّه من أنّ الأحكام الظاهريّة قد تصيب وقد تخطئ بناء على مذهب التخطئة ، فيكون العقاب حينئذ ثابتا في مورد المخالفة القطعيّة بأن يبيّن الحكم الواقعي ويخالفه ، وثابتة أيضا في مورد المخالفة الاحتماليّة بأن يبيّن الحكم الظاهري ويخالفه.

وحينئذ تكون البراءة المستفادة من الآية على هذا التفسير سنخ براءة مورودة للاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط على فرض تماميّة أدلّته معناه وصول الحكم الظاهري الذي

ص: 87

يجب اتّقاؤه وعدم مخالفته لا لنفسه ، بل لكونه ينجّز الواقع كما تقدّم بيانه في الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري (1).

ص: 88


1- والصحيح من هذين الاحتمالين برأي السيّد الشهيد هو الأوّل ؛ لأنّه الظاهر من الآية حيث إنّ الإضلال والخزي والعقاب لا يكون إلا بمخالفة الواقع قطعا ، وأمّا مخالفة الظاهر فهي لا توجب ذلك دائما ، بل قد توجبه إذا كان الحكم الظاهري مصيبا للواقع وقد لا توجبه إذا كان مخطئا ، وحيث إنّ الآية رتّبت الإضلال على بيان ما يتّقى ، فهذا يعني أنّها ناظرة إلى أنّه بمجرّد البيان لما يجب اتّقاؤه وعدم الالتزام به يترتّب الإضلال ، وهذه الكلّيّة لا تتحقّق إلا مع مخالفة الواقع دون الظاهر. إلا أنّ السيّد الأستاذ يرى أنّ الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ البيان المأخوذ في لسان الآية مطلق وهو بذلك يشمل كلّ نوع من أنواع البيان الأعمّ من الظاهري والواقعي ؛ لأنّ كلا الحكمين يجب اتّقاؤه ومخالفته توجب العقاب.

أدلّة البراءة من السنّة

اشارة

ص: 89

ص: 90

أدلّة البراءة من السنّة

واستدلّ من السنّة بروايات :

منها : ما روي عن الصادق علیه السلام من قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1). وفي الرواية نقطتان لا بدّ من بحثهما :

أمّا السنّة فقد استدلّ بها على البراءة بروايات عديدة منها :

الرواية الأولى : قوله علیه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ». وتقريب الاستدلال أنّ الإطلاق مساوق للسعة والتأمين فيكون المعنى أنّ التأمين ثابت في كلّ شيء ما لم يرد فيه نهي ، فإذا ورد النهي ارتفع التأمين ، وهذا هو معنى البراءة فإنّ مفادها التأمين في حالة عدم ورود النهي.

إلا أنّ هذا الاستدلال يتوقّف على تحقيق نقطتين :

الأولى : أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود أو الصدور لئلاّ يفيد في حالة احتمال صدور البيان من الشارع مع عدم وصوله؟

النقطة الأولى : في أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول أو بمعنى الصدور؟

فإن كان بمعنى الوصول تمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ إذ يكون المعنى حينئذ أنّه مع عدم وصول البيان على التكليف فهو في سعة منه سواء كان في الواقع صادرا أم لا.

فإذا وصل التكليف إلى المكلّف ثبت الورود فلا سعة ولا تأمين.

وأمّا إذا لم يصل فهو في سعة ومؤمن حتّى لو احتمل صدور التكليف في الواقع ، لكنّه لم يصل لسبب من الأسباب كالضياع أو الاختفاء ونحوهما.

ص: 91


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 317 / 937.

وإن كان بمعنى الصدور لا يتمّ الاستدلال على البراءة المطلوبة ؛ وذلك لأنّ المعنى على هذا يكون أنّه إذا صدر التكليف ثبت الورود ، وأمّا إذا لم يصدر فهو في سعة منه ، وحينئذ إذا لم يصل التكليف لكن احتمل صدوره واختفاؤه لسبب ما فلا يمكن ثبوت السعة والتأمين إذ لعلّه صدر ، فيكون الشكّ هنا من الشبهة المصداقيّة للبراءة ؛ لأنّه يشكّ في أنّ موضوعها متحقّق أم لا ، ومعه لا يمكن التمسّك بدليل البراءة ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

والحاصل : أنّ الغاية التي هي الورود إن كانت بمعنى الوصول فمع عدم الوصول تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ، ومع الوصول تتحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، وإن كان بمعنى الصدور فالصدور يحقّق الغاية فينتفي المغيّى ، ومع عدم الصدور تنتفي الغاية فيبقى المغيّى ثابتا.

وعلى الأوّل يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة دون الثاني ؛ لأنّ المراد بالبراءة التأمين عن التكليف المشكوك بمجرّد عدم وصوله سواء كان صادرا أم لا.

الثانية : أنّ النهي الذي جعل غاية هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط أو لا؟

فعلى الأوّل تكون البراءة المستفادة ثابتة بدرجة يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها ، وعلى الثاني تكون بنفسها نافية لوجوب الاحتياط.

النقطة الثانية : في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل تكون معارضة للاحتياط على فرض تماميّة دليله ، أو أنّها محكومة له؟

والجواب عن هذا السؤال يختلف حاله باختلاف المراد من ورود النهي الذي جعل غاية ، فإنّه يوجد فيه احتمالان :

الأوّل : أنّ يكون المراد من ورود النهي العنوان الأوّلي ، فيكون المعنى أنّ ورود النهي واقعا هو الغاية للسعة والإطلاق ، فما دام النهي الواقعي لم يرد فالسعة والإطلاق ثابتان ، وأمّا مع ورود النهي الواقعي فتتحقّق الغاية فينتفي المغيّى أي الإطلاق والسعة.

وهذا يعني أنّ البراءة تثبت ما دام النهي واقعا لم يرد على هذا الشيء المشكوك ، فتكون البراءة ثابتة في مورد الشكّ في الواقع الذي لم يرد ولم يصل إلى المكلّف ،

ص: 92

وبهذا تكون البراءة معارضة للاحتياط ؛ لأنّه يثبت النهي الظاهري لا الواقعي ، فكلاهما موضوعهما واحد وهو الواقعة المشكوكة التي لم يرد فيه نهي واقعي.

الثاني : أن يكون المراد من ورود النهي الأعمّ من الورود الواقعي الأوّلي أو الظاهري الثانوي ، فالمجعول غاية حينئذ ورود النهي مطلقا واقعا أو ظاهرا ، فمع عدم ورود ما يفيد النهي مطلقا تثبت البراءة والسعة ، وأمّا مع ورود ما يفيد النهي ولو ظاهرا فالغاية تتحقّق فينتفي المغيّى ، وعلى هذا يكون دليل الاحتياط على فرض تماميّته واردا على دليل البراءة ؛ لأنّه يثبت النهي فيحقّق الغاية فتنتفي البراءة المغيّاة به.

وعلى هذا فالاستدلال بالآية على البراءة يتوقّف على أن يكون الورود بمعنى الورود الواقعي لا الأعمّ منه ومن الظاهري ، وإلا كانت البراءة مورودة لدليل الاحتياط.

أمّا النقطة الأولى : فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للإجمال الكافي لإسقاط الاستدلال.

تحقيق الحال حول النقطة الأولى ، وأنّ الورود ما ذا يراد به؟

قد يقال : إنّ الآية مجملة إذ كما يحتمل أن يكون المراد من الورود الوصول كذلك يحتمل أن يكون المراد منه الصدور ، وحيث إنّه لا معيّن لأحدهما على الآخر فتكون الآية مجملة لتردّد معنى الورود بينهما.

وهذا الإجمال والتردّد يكفي للمنع من تماميّة الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّه مبني على استظهار الوصول من الورود ، وهذا غير ظاهر لعدم الدليل عليه ، ومع الإجمال لا يتمّ الاستدلال.

وقد تعيّن إرادة الوصول بأحد وجهين :

وقد يقال : إنّ الوصول هو المتعيّن من كلمة الورود لا الصدور ، ويدلّ على ذلك وجهان :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المغيّى حكم ظاهري فيتعيّن أن تكون الغاية هي الوصول لا الصدور ؛ لأنّ كون الصدور غاية يعني أنّ الإباحة لا تثبت إلا مع عدم الصدور واقعا ، ولا يمكن إحرازها إلا بإحراز عدم الصدور ، ومع إحرازه لا شكّ فلا مجال للحكم الظاهري.

ص: 93

الوجه الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من تعيّن إرادة الوصول من الورود لا الصدور ؛ وذلك لأنّه إن أريد الصدور فالمغيّا وهو الإباحة والسعة إمّا أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة.

فإن كانت واقعيّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الواقعيّة ثابتة ومنوطة بعدم صدور النهي من الشارع ، وهذا غير معقول ؛ لأنّه من باب أخذ عدم الضدّ قيدا في الضدّ وهو محال ؛ لأنّ الإباحة ضدّ الحرمة كما هو واضح ، فتعليق الإباحة على عدم الحرمة من باب تعليق الضدّ على عدم ضدّه ، كما يقال إنّ الشيء الساكن يبقى كذلك إلى أن يتحرّك ، وهذا غير معقول للزوم الدور.

وإن كانت الإباحة ظاهريّة فيكون المعنى أنّ الإباحة الظاهريّة ثابتة عند عدم صدور النهي الواقعي من الشارع وهذا خلف ؛ لأنّ الإباحة الظاهريّة منوطة ومشروطة حينئذ بعدم الصدور ، فإذا أحرز عدم الصدور تثبت الإباحة الظاهريّة وإذا لم يحرز فلا تثبت.

وهذا لا فائدة منه ؛ لأنّه مع إحراز عدم الصدور للنهي فالإباحة الظاهريّة لا مجال لها إذ سوف يعلم حينئذ بأنّ الواقع ليس هو الحرمة ، بل الإباحة فتكون الإباحة واقعيّة لا ظاهريّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه خلف ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة منوطة بالشكّ في الواقع ولا تجري عند إحراز الواقع.

وبهذا يتّضح أنّه إذا حملنا الورود على الصدور لم يكن هناك معنى للإباحة لا الواقعيّة ولا الظاهريّة ، فيتعيّن حمله على الوصول ، وحينئذ يكون المراد من المغيّى هو الإباحة الظاهريّة ، فيكون المعنى أنّه مع عدم وصول النهي الواقعي من الشارع إلى المكلّف فيحكم بالإباحة ظاهرا ، وهذا يصدق مع الشكّ في الصدور الواقعي أيضا عند عدم الوصول.

فإن قيل : لما ذا لا يفترض كون المغيّى إباحة واقعيّة؟

كان الجواب منه : أنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي الذي جعل غاية متضادّان ، فإن أريد تعليق الأوّلى على عدم الثاني حقيقة فهو محال ؛ لاستحالة مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر. وإن أريد مجرّد بيان أنّ هذا الضدّ ثابت حيث لا يكون ضدّه ثابتا فهذا لغو من البيان ؛ لوضوحه.

ص: 94

فإن أشكل عليه بأنّنا نلتزم بأن يكون المراد من الغاية الصدور أي صدور النهي الواقعي من الشارع ، ونلتزم أيضا بأن يكون المراد من المغيّى الإباحة الواقعيّة ، فالإباحة الواقعيّة ثابتة إلى أن يصدر النهي الواقعي.

كان جوابه : أنّ هذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الإباحة الواقعيّة والنهي الواقعي ضدّان ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان حقيقيّان متغايران لا يجتمعان على مورد واحد.

وحينئذ نسأل : ما هو المراد من جعل النهي الواقعي غاية للإباحة الواقعيّة؟

فإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة معلّقة واقعا وحقيقة على عدم صدور النهي الواقعي من الشارع ، بحيث يكون عدم صدور النهي الواقعي مقدّمة لثبوت الإباحة الواقعيّة ، فهذا مستحيل ؛ لما تقدّم في محلّه من استحالة أخذ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر.

فكما يستحيل أن يقال : إنّ عدم السواد مقدّمة لثبوت البياض فكذلك الحال هنا ؛ لاستلزامه الدور إذ عدم السواد لو كان مقدّمة للبياض فيكون البياض أيضا مقدّمة لعدم السواد أو عدم البياض مقدّمة للسواد.

وهنا لو كان عدم الحرمة مقدّمة لثبوت الإباحة فهذا يعني أنّ الإباحة أخذ في موضوعها عدم الحرمة ، فلكي تثبت الإباحة لا بدّ من إحراز عدم النهي ، ولكي نحرز عدم النهي لا بدّ أن تثبت الإباحة ، فصارت الإباحة متوقّفة على نفسها ، وهو غير معقول ؛ لأنّ عدم الضدّ لا يكون موضوعا ومقدّمة لثبوت الضدّ الآخر.

وإن كان المراد أنّ الإباحة الواقعيّة إنّما تثبت عند عدم ثبوت الحرام الواقعي فهذا لغو ، لأنّه تحصيل للحاصل لأنّ هذا الشيء إمّا أن يكون واقعا مباحا وإمّا أن يكون حراما ، فيكون إفادة هذا المطلب لغوا ؛ لأنّه حاصل تكوينا.

وبهذا يتّضح أنّه لا معنى لحمل الإباحة إلا على الإباحة الظاهريّة ولا معنى لحمل الورود إلا على الوصول ، وبه يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة والإباحة الظاهريّة ؛ لأنّها تكون مجعولة عند عدم الوصول الواقعي للحرام أي في فرض الشكّ في الصدور مع عدم الوصول.

ويرد على هذا الوجه : أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف عن

ص: 95

التحريم وليس هو التحريم نفسه ، والتضادّ نفسه لا يقتضي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، ولا على عدم الكاشف عن الضدّ الآخر ، ولكن لا محذور في أن توجد نكتة أحيانا تقتضي إناطة حكم بعدم الكاشف عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام إلى أن تكون فعليّة الحرمة بمبادئها منوطة بصدور الخطاب الشرعي الدالّ عليها ، نظير ما قيل : من أنّ العلم بالحكم من طريق مخصوص يؤخذ في موضوعه.

ويرد على هذا الوجه : أنّ التضادّ إنّما يكون بين الحكمين أي بين التحريم الواقعي وبين الإباحة الواقعيّة ، فنحن إذا اخترنا أنّ المراد من الغاية النهي الواقعي ومن المغيّى الإباحة الواقعيّة فلن يرد محذور التضادّ أي تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

أوّلا : أنّ النهي ليس هو نفس التحريم وإنّما هو الكاشف عنه ، أي أنّ التحريم يبرزه الشارع بخطاب النهي فيكون هذا الخطاب كاشفا عن التحريم الواقعي وليس هو نفسه.

وثانيا : أنّ التضادّ لا يكون بين الإباحة الواقعيّة وبين النهي والخطاب الكاشف عن التحريم الواقعي ؛ لأنّ هذا لا يستلزم أن تكون الإباحة الواقعيّة معلّقة على عدم التحريم الواقعي ، بل على عدم إبرازه بالخطاب فقط ، وهذا أمر معقول في نفسه إذا فرض وجود نكتة لذلك.

وثالثا : أنّ التضادّ بين الإباحة والحرمة الواقعيّتين يقتضي استحالة تعليق ثبوت إحداهما على عدم الأخرى كما تقدّم ، ولكنّه لا يقتضي استحالة تعليق إحداهما على عدم الكاشف والمبرز للأخرى.

وفي مقامنا نقول : إنّ الحلّيّة والإباحة الواقعيّة ثابتة ما لم يصدر النهي والخطاب الدالّ على التحريم ، ولازمه أنّه إذا صدر هذا النهي الكاشف عن التحريم تصبح الحرمة فعليّة واقعا ، فترتفع الإباحة الواقعيّة لاستحالة اجتماع الحكمين التكليفيّين المتغايرين على شيء واحد واقعا.

وبتعبير آخر : تكون الحرمة الواقعيّة الفعليّة منوطة بصدور النهي والخطاب الكاشف عنها ، فإذا تمّ هذا النهي صارت الإباحة فعليّة ، وإلا فالإباحة هي التي تكون فعليّة ،

ص: 96

وهذا لا مانع منه لوجود نكتة في المقام وهي أنّ الشارع قد يرى مصلحة في إناطة الحكم كالإباحة الواقعيّة بعدم صدور الكاشف عن الحكم المضادّ لها وهو الحرمة الواقعيّة ، ومرجع هذا التقييد في الحقيقة إلى أنّ الحرمة الفعليّة بمبادئها وملاكاتها معلّقة على صدور الخطاب الشرعي والنهي الدالّ عليها ، فإذا لم يصدر هذا الخطاب الشرعي فالحرمة شأنيّة فقط وتكون الإباحة الواقعيّة فعليّة.

وهذا نظير ما تقدّم سابقا من إمكان أخذ العلم بالحكم عن طريق خاصّ في موضوع الحكم ، فإنّ مرجعه إلى أنّ الحكم لا يكون فعليّا بمبادئه وملاكاته إلا إذا علم من هذا الطريق ، وأمّا إذا علم من طريق آخر فلا يكون فعليّا ، فإنّه أمر معقول ثبوتا وإن لم يتمّ إثباتا ، كما ادّعي ذلك بالنسبة للأحكام الشرعيّة حيث قال الأخباريّون بأنّ فعليّة الأحكام قد أخذ في موضوعها أن يعلم بها عن طريق الشرع لا العقل ، بمعنى أنّه إذا دلّ الخطاب الشرعي على الحكم صار فعليّا وإن دلّ عليه العقل فلا يكون فعليّا ، فهذا معقول ثبوتا ولكنّه لا دليل عليه إثباتا.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّه إذا صدر الخطاب الشرعي بالنهي صارت الحرمة الواقعيّة فعليّة فترتفع الإباحة والحلّيّة الواقعيّة ؛ لأنّهما ضدّان وإذا لم يصدر الخطاب الشرعي بالنهي لا تكون الحرمة فعليّة ، بل الإباحة تكون هي الفعليّة.

وهذا معناه أنّ الإباحة الواقعيّة منوطة ومعلّقة على عدم صدور النهي الكاشف عن التحريم لا على عدم التحريم ليقال بالاستحالة.

الثاني : أنّ الورود يستبطن دائما حيثيّة الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورود عليه.

ولكن هذا المقدار لا يكفي أيضا ، إذ يكفي لإشباع هذه الحيثيّة ملاحظة نفس المتعلّق مورودا عليه.

الوجه الثاني لاستظهار الوصول من الورود ما يقال : من أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ؛ لأنّ الورود بمعنى الوفود فيقال : ورد علينا ضيف أي وفد علينا ووصل ، وكما يقال : وردت على الماء أي وصلت إليه.

وحينئذ يتعيّن الوصول لا الصدور ؛ لأنّه لا يفي بحيثيّة الوفود المستبطنة في الورود.

مضافا إلى أنّ الورود يحتاج إلى مورود عليه ، أي لا بدّ أن يكون هناك شيء يرد

ص: 97

عليه شيء آخر ، فعند ما يقال : وردنا ضيف يوجد وارد وهو الضيف ويوجد مورود عليه وهو المضيف ، ولا يتصوّر ورود الضيف من دون تصوّر وجود المضيف.

وهنا عند ما يرد النهي لا بدّ من مورود عليه ليرده النهي ، فهناك طرف آخر يصل إليه النهي ليتحقّق أنّه ورد النهي ، وهذا الطرف هو المكلّف فإذا وصله النهي تحقّق وروده وإلا فلا.

وجوابه : أنّنا لو سلّمنا أنّ الورود يستبطن حيثيّة الوصول ، وأنّه لا بدّ من مورود عليه إلا أنّه مع ذلك لا يتعيّن ما ذكر ؛ وذلك لأنّه يكفي في ورود النهي صدوره من الشارع ووصوله إلى الشيء ، فإنّه هو الذي يردّه النهي لا المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النهي يرد على الشيء لا على المكلّف ، فيكفي أن يصل النهي إلى الشيء ووصوله إلى الشيء يعني صدور تشريع وخطاب يفيد التحريم ، فإنّه يتحقّق أنّ هذا الشيء ورد فيه النهي.

وحينئذ لا يتعيّن ما ذكر ؛ لأنّ هذا المعنى محتمل أيضا في نفسه ، ولا أقلّ من الإجمال وهو كاف لمنع الاستدلال.

فالاستدلال بالرواية إذن غير تامّ ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

وبهذا يظهر أنّ النقطة الأولى وهي أنّ الورود بمعنى الوصول غير تامّ ، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بالحديث على البراءة ؛ لأنّ المراد بها التأمين عند عدم وصول التكليف سواء صدر أم لا ، لا التأمين عند عدم صدوره ؛ لأنّه مع العلم بعدم صدوره فلا معنى للبراءة إذ لا شكّ حينئذ.

وعليه ، فلا حاجة للبحث عن النقطة الثانية من أنّ البراءة المستفادة من الحديث هل هي معارضة للاحتياط أم مورودة له؟ ؛ لأنّ هذا فرع استفادة البراءة أوّلا وقد تبيّن عدم إمكان استفادتها.

ومنها : حديث الرفع المروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله ونصّه : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (1) ، والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل :

ص: 98


1- الخصال : 417. التوحيد : 353.

الرواية الثانية : الحديث المشهور بحديث الرفع ، والاستدلال به على البراءة بفقرة « وما لا يعلمون » ، والبحث يقع في عدّة مراحل كلّها ترتبط بالاستدلال وهي :

المرحلة الأولى : في فقه الحديث على وجه الإجمال ، والنقطة المهمّة في هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه ، فإنّه لا يخلو عن إشكال ؛ لوضوح أنّ كثيرا ممّا فرض رفعه في الحديث أمور تكوينيّة ثابتة وجدانا ، ومن هنا كان لا بدّ من بذل عناية في تصحيح هذا الرفع.

المرحلة الأولى في فقه الحديث عموما وإجمالا ، فإنّ هذا الحديث اشتمل على عدّة أمور أكثرها أمور تكوينيّة موجودة في الخارج وجدانا ، كالخطأ والنسيان والفعل المكره أو المضطرّ ، واشتمل على أمور ليست تكوينيّة كالنسيان وما لا يعلمون ، ونسب الرفع إلى الجميع بسياق واحد ، ومن هنا قد يستشكل في معنى الرفع المقصود هنا ، إذ كيف يمكن تصوير رفع الفعل الموجود في الخارج بالوجدان؟

ولذلك لا بدّ من توضيح المراد بالرفع بنحو يتلاءم مع جميع الفقرات الموجودة في هذا الحديث ، وهذا لا يتمّ إذا حمل الرفع على معناه الحقيقي ، إذ الشيء الموجود في الخارج لا يرتفع بمجرّد تشريع ارتفاعه ، فلا بدّ من عناية لتصحيح الرفع ، ولذلك نقول :

وذلك إمّا بالتقدير بحيث يكون المرفوع أمرا مقدّرا قابلا للرفع حقيقة كالمؤاخذة مثلا.

وإمّا بجعل الرفع منصبّا على نفس الأشياء المذكورة ، ولكن بلحاظ وجودها في عالم التشريع بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلّقه في هذا العالم ، فشرب الخمر المضطرّ إليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلّق للحرمة ، وروح ذلك رفع الحكم.

وإمّا بصبّ الرفع على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها التكوينيّة ، ولكن يفترض أنّ الرفع تنزيلي وليس حقيقيّا ، فالشرب المذكور نزّل منزلة العدم خارجا ، فلا حرمة ولا حدّ.

وهذه العناية المصحّحة يمكن تصويرها بأحد وجوه ثلاثة :

ص: 99

الأوّل : أن يكون المرفوع أمرا مقدّرا يقبل الرفع الحقيقي كعنوان المؤاخذة والعقاب ، فيكون المراد أنّ الخطأ مثلا مرفوع حكمه والمؤاخذة عليه ، والفعل المضطرّ إليه لا عقاب عليه

ولا مؤاخذة ، وهكذا.

الثاني : أن يكون المرفوع نفس الأشياء لكن لا بوجودها التكويني الخارجي بل بوجودها التشريعي ، فالفعل المضطرّ إليه مرفوع لا بنفسه إذ هو واقع من المكلّف حقيقة ، وإنّما هذا الفعل مرفوع في عالم التشريع أي أنّه في عالم التشريع لا يكون هذا الفعل المضطرّ إليه ثابتا ، وعدم ثبوته في عالم التشريع إمّا أنّه ليس موضوعا للحكم أو ليس متعلّقا له.

وتوضيحه : أنّ شرب الخمر متعلّق للحرمة ، أي أنّ الحرمة في عالم التشريع تعلّقت بشرب الخمر ، ولكن شرب الخمر المضطرّ إليه أو المكره عليه ليس متعلّقا للحرمة شرعا ، وصدور البيع في الخارج بنحو الإكراه والاضطرار ليس موضوعا شرعا للحكم بالنقل والانتقال ، وإنّما الموضوع هو البيع الصادر اختيارا.

وهذا اللسان من رفع الموضوع أو المتعلّق للحكم يرجع في حقيقته إلى رفع الحكم أيضا ، بمعنى أنّ صدور البيع أو شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لا يوجب تحقّق الحكم الشرعي المترتّب على البيع وشرب الخمر اختيارا. نظير ما يقال : إنّه لا رهبانية في الإسلام ، أي أنّه لا يشرّع هذا الموضوع.

الثالث : أن يكون المرفوع نفس الأشياء بوجودها التكويني ، ولكنّ الرفع لا يكون حقيقيّا وإنّما تعبّدي وتنزيلي ، فشرب الخمر المضطرّ إليه وصدور البيع المكره عليه ليسا موجودين في الخارج تعبّدا وتنزيلا ، أي أنّ الشارع نزّل هذا الفعل منزلة العدم وكأنّه لم يصدر أصلا ، ولذلك فلا تترتّب عليه الآثار الشرعيّة من الحرمة أو الحدّ أو النقل والانتقال.

والحاصل : أنّ العناية يمكن تصويرها بأحد هذه الوجوه :

إمّا بتقدير محذوف يتلاءم مع هذه الأشياء كالحكم أو المؤاخذة.

وإمّا بالرفع التشريعي أي أنّ هذا الموجود ليس هو موضع أو متعلّق الحكم شرعا.

وإمّا بالرفع التنزيلي أي أنّ هذا الموجود كالمعدوم فكأنّه لم يصدر في الخارج.

ص: 100

ولا شكّ في أنّ دليل الرفع على الاحتمالات الثلاثة جميعا يعتبر حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة باعتبار نظره إليها ، وهذا النظر : إمّا أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك الأدلّة كما هو الحال على الاحتمال الثالث ، فيكون على وزان « لا ربا بين الوالد وولده ».

أو يكون إلى جانب المحمول أي الحكم مباشرة كما هو الحال على الاحتمال الأوّل فيكون على وزان « لا ضرر ».

أو يكون إلى جانب المحمول ولكن منظورا إليه بنظر عنائي ، كما هو الحال على الاحتمال الثاني ؛ لأنّ النظر فيه إلى الثبوت التشريعي للموضوع ، وهو عين الثبوت التشريعي للحكم ، فيكون على وزان « لا رهبانيّة في الإسلام ».

في بيان حكومة حديث الرفع على الأحكام الأوّليّة :

ثمّ إنّ حديث الرفع على الاحتمالات الثلاثة المذكورة في تفسير العناية يكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة عند تحقّق أحد هذه العناوين المأخوذة في لسانه ، ووجه الحكومة كونه ناظرا إلى موضوعها أو إلى محمولها ، فإنّ ملاك الحكومة هو أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم إمّا إلى موضوعه وإمّا إلى محموله ، فيكون لسانه موسّعا أو مضيّقا.

وتوضيح ذلك في مقامنا أن يقال : إنّ الاحتمال الثالث في تفسير العناية كان مفاده الرفع التعبّدي والتنزيلي لهذه الأشياء فهي موجودة واقعا ، إلا أنّها شرعا وادّعاء ليست موجودة ، فشرب الخمر أو صدور البيع في الخارج ينزل منزلة العدم شرعا ، وهذا يعني أنّ حديث الرفع ناظر إلى الموضوع وينزله منزلة العدم ، فيكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة من باب نظره إلى عقد الوضع ؛ نظير قوله : « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّه حاكم على أدلّة حرمة الربا باعتباره أنّه ينزل الربا الموجود في الخارج بين الوالد والولد منزلة العدم ، وكأنّ الموضوع للحرمة غير موجود في الخارج ، فيكون الحكم منتفيا لانتفاء موضوعه.

وأمّا الاحتمال الأوّل في تفسير العناية والذي مفاده رفع شيء مقدّر كالمؤاخذة أو الحكم أو الآثار فهو لا ينفي الموضوع ، وإنّما ينظر إلى ما يترتّب على هذا الموضوع شرعا وينفيه ، ومن الواضح أنّ ما يترتّب على شرب الخمر هو الحرمة ، وما يترتّب على

ص: 101

صدور البيع هو تحقّق النقل والانتقال ، فيكون ناظرا إلى المحمول أو عقد الحمل ، فيكون حاكما على أدلّة الأحكام الأوّليّة ؛ لأنّه يرفع الحكم عن الموضوع الخارجي مباشرة ، فهو نظير قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » الحاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة عند وجود الضرر ، بمعنى أنّه لا حكم ضرري في الإسلام ، فالمنتفي هنا هو الحكم ابتداء.

وأمّا الاحتمال الثاني الذي كانت العناية فيه أنّ الموضوع الخارجي ليس ثابتا شرعا وإن كان ثابتا تكوينا ، بمعنى أنّ شرب الخمر المضطرّ إليه أو صدور البيع المكره عليه ليس هو الموضوع شرعا لحرمة شرب الخمر أو لتحقّق النقل والانتقال ، فهنا يكون النظر إلى عقد الحمل أيضا ، ولكن بصورة غير مباشرة فالحرمة ليست ثابتة شرعا ؛ لأنّه لم يتحقّق موضوعها شرعا ؛ لأنّ الموضوع الشرعي للحرمة هو شرب الخمر اختيارا لا اضطرارا ، وعن علم لا عن الجهل وهكذا.

وهذا نظير قوله : « لا رهبانيّة في الإسلام » بمعنى أنّ هذا الموضوع الموجود في الخارج وهو الترهّب ليس ثابتا شرعا فحكمه غير ثابت أيضا.

والظاهر أنّ أبعد الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأوّل ؛ لأنّه منفي بأصالة عدم التقدير.

فإن قيل : كما أنّ التقدير عناية كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي مثلا.

كان الجواب : أنّ هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في أنّ الرفع صادر منه بما هو شارع وبما هو إنشاء لا إخبار ، بخلاف عناية التقدير فإنّها خلاف الأصل حتّى في كلام الشارع بما هو مستعمل.

التحقيق في هذه الاحتمالات : بعد أن ذكرنا الاحتمالات المتصوّرة لتفسير العناية نأتي للحديث عن العناية الصحيحة من بين هذه الاحتمالات ، فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل فالظاهر أنّه أبعد الاحتمالات الثلاثة ؛ وذلك لأنّه يستلزم تقدير محذوف وهو كلمة حكم أو المؤاخذة بخلاف العنايتين الأخريين ، فإنّهما لا تقدير فيهما ، وهنا تجري أصالة عدم الحذف والتقدير ، فإنّ المتكلّم عند ما يكون في مقام البيان والتفهيم فالظاهر من حاله أنّه يذكر في كلامه كلّ ما هو دخيل في مراده الجدّي من دون حذف أو تقدير.

ص: 102

وأمّا اعتماده على التقدير في تفهيم مراده فهو خلاف المتعارف في المحاورات العرفيّة ؛ لأنّه يحتاج إلى عناية وقرينة تدلّ عليه إمّا بأن يكون اعتمد على كلام سابق له ، أو يكون ذكر القرينة في ابتداء كلامه أو في آخره مثلا وهكذا ، ولا شيء من هذا القبيل موجود في مقامنا ، فيكون الاعتماد على التقدير هنا فيه عناية كبيرة لا يقتضيها الطبع ولا يستسيغها العرف.

فإن قيل : إنّ الاحتمال الأوّل كما توجد فيه عناية التقدير فكذلك في الاحتمالين الثاني والثالث ، فإنّ كلاّ منهما يحتاج إلى عناية ؛ لأنّ الاحتمال الثاني كان يفسّر الموضوع الخارجي بالموضوع التشريعي وهذه عناية ، والاحتمال الثالث كان ينظر إلى الوجود الخارجي وكأنّه معدوم تنزيلا وتشريعا ، وهذه عناية أيضا ، فما هو الفرق بين هذه العنايات ليقال بأنّ العناية في الاحتمال الأوّل على خلاف الأصل ؛ لأنّ الأصل عدم التقدير بينما العناية في الاحتمالين الآخرين لا تكون على خلاف الأصل ، مع أنّها مخالفة لظاهر الحديث من كون الرفع منصبّا على الموضوع الخارجي بوجوده الخارجي لا التشريعي والتنزيلي.

كان الجواب : أنّه يوجد فرق بين العناية الموجودة في الاحتمالين الثاني والثالث ، وبين العناية في الاحتمال الأوّل.

ووجه الفرق : أنّ الحديث وإن كان ظاهره النظر إلى الموضوع الخارجي بما هو موجود في الخارج ، إلا أنّ هذا الظهور يجب رفع اليد عنه ؛ لأنّه غير مراد للمتكلّم جدّا ، فإنّ بعض هذه الأمور لا يمكن رفعها حقيقة ، فإنّ شرب الخمر أو صدور البيع الذي يقع في الخارج عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ موجود حقيقة ، فكيف يرفعه الشارع حقيقة أيضا؟

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لا يريد إخبارنا عن أنّ شرب الخمر المضطرّ إليه الواقع من الإنسان ليس موجودا ، بل مرتفع حقيقة ، إذ لو كان مراده ذلك لكان مخالفا للواقع ؛ لأنّ شرب الخمر متحقّق منه فكيف يخبر عنه بأنّه مرتفع وغير متحقّق؟ فحمل الشارع على الإخبار بعيد هنا ، ولذلك يحمل قوله على الإنشاء والتشريع وحينئذ فيكون تفسير الرفع بنحو يتلاءم مع عالم التشريع ، إمّا بارتفاع الموضوع تشريعا أو بتنزيله منزلة العدم تشريعا ممّا يساعد عليه نفس صدور الحديث من الشارع بما هو

ص: 103

شارع ومنشئ ، فالقرينة على هذه العناية موجودة ويقتضيها المراد من الحديث ، إذ لو لاها لم يكن المراد صحيحا.

بينما عناية التقدير والحذف مضافا إلى أنّها على خلاف الأصل في المحاورات العرفيّة لا يوجد قرينة تساعد عليها ، بل القرينة على خلافها ؛ وذلك لأنّنا إذا التزمنا بالتقدير وحملنا الرفع على معناه الحقيقي لم يتمّ المراد الجدّي للمتكلّم ؛ لأنّه يكون مخلاّ بتفهيم مراده الجدّي ، حيث لم يذكر هذه الكلمة مع الحاجة إليها وعدم القرينة الدالّة عليها ، فيدور الأمر بين أحد الاحتمالين الثاني أو الثالث.

كما أنّ الظاهر أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الثالث ؛ لأنّ بعض المرفوعات ممّا ليس له وجود خارجي ليتعقّل في شأنه رفعه بمعنى تنزيل وجوده الخارجي منزلة العدم ، كما في « ما لا يطيقون » ، فالمتعيّن إذن هو الاحتمال الثاني.

يبقى الكلام في تعيين أحد الاحتمالين الثاني أو الثالث ، والظاهر هو أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الاحتمال الثالث.

وذلك أنّ الاحتمال الثالث كانت العناية فيه تنزيل الموضوع الخارجي منزلة العدم ادّعاء ، أي أنّه لا وجود له في عالم التشريع فينتفي حكمه كذلك ؛ لأنّ الحكم مترتّب على الموضوع الذي لاحظه الشارع.

إلا أنّ هذه العناية لا تتمّ في جميع الفقرات المرفوعة ، وإنّما يتمّ فيما كان له وجود في الخارج فقط ، كشرب الخمر المضطرّ إليه أو المكره عليه أو عن خطأ أو نسيان أو جهل وهكذا.

ولكنّه لا يتمّ في مثل « وما لا يطيقون » ؛ لأنّ الفعل الذي لا يطاق لا وجود له في الخارج لينزّل منزلة العدم شرعا ، إذ لو كان موجودا لكان ممّا يطاق وهو خلف.

فمثلا ترك الصوم ونحوه عند عدم القدرة عليه لا يمكن تنزيل وجوده منزلة العدم ؛ لأنّ هذا الترك غير موجود أصلا ، فلا معنى لتنزيله منزلة العدم شرعا ، فكأنّه قيل عدم الصوم من العاجز ليس موجودا شرعا ، وهذا لغو من الكلام ؛ لأنّه غير موجود تكوينا.

بخلاف ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني والذي عنايته أنّ هذا الموضوع الخارجي ليس موضوعا للحكم أو ليس متعلّقا للحكم شرعا ، فإنّه يصحّ على أساسه تفسير كلّ الفقرات ، فيقال : إنّ شرب الخمر أو صدور البيع المكره عليه أو المضطرّ إليه أو عن

ص: 104

خطأ أو نسيان أو جهل ليس موضوعا أو متعلّقا للحكم شرعا بالحرمة أو بالنقل والانتقال. ويقال أيضا : إنّ ترك الصوم بسبب العجز عنه وعدم الطاقة عليه ليس موضوعا شرعا لحرمة الإفطار.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثاني دون الأوّل والثالث.

وتترتّب بعض الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة :

فعلى الأوّل يكون المقدّر غير معلوم ولا بدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من الآثار ، خلافا للآخرين إذ يتمسّك بناء عليهما بإطلاق الرفع لنفي تمام الآثار.

ثمّ إنّه توجد بعض الثمرات والفوارق بين الاحتمالات الثلاثة ، نذكر منها اثنتين :

الثمرة الأولى : أنّه بناء على الاحتمال الأوّل فحيث إنّ العناية فيه هي الحذف والتقدير ، فكما يمكننا تقدير انتفاء تمام الآثار المترتّبة على الموضوع المتعلّقة فيه المذكورات كذلك يمكننا تقدير خصوص المؤاخذة والعقاب ، وحيث إنّ التقدير مردّد بين تقدير المطلق أو المقيّد فقط ، فيكون مجملا من هذه الناحية إذ لا توجد قرينة تعيّن أحدهما ، وحينئذ يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو المقيّد أي خصوص المؤاخذة والعقاب فقط.

ولا يمكن هنا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات أنّ المرتفع تمام الآثار ؛ لأنّ الإطلاق إنّما ينفي القيد في الكلام عند عدم وجود ما يدلّ عليه اعتمادا على ظهور حال المتكلّم في أنّ كلّ ما يقوله يريده ، وهنا لا يتمّ هذا الظهور ؛ لأنّ المتكلّم لم يقل تمام ما يريده ، بل حذف وقدّر ولا ندري ما هو المحذوف إذ لعلّه المقيّد دون المطلق.

وأمّا على الاحتمالين الثاني والثالث فيمكننا إثبات أنّ المرتفع هو تمام الآثار لا خصوص المؤاخذة ، فإنّه إذا كان الموضوع مرتفعا شرعا أو منزّلا منزلة العدم فهذا يعني أنّ تمام ما يترتّب على هذا الموضوع مرتفع لا خصوص المؤاخذة ؛ وذلك تمسّكا بالإطلاق وقرينة الحكمة حيث لم يقيّد المرتفع بأحد الآثار ، بل لا معنى لثبوت بعض الآثار ، إذ المفروض ارتفاع موضوعها أو متعلّقها فيحتاج ثبوتها إلى قرينة أو مئونة زائدة فتنفى بالإطلاق.

كما أنّه بناء على الثالث قد يستشكل في شمول حديث الرفع لما إذا اضطرّ إلى الترك مثلا ؛ لأنّ نفي الترك خارجا عبارة عن وضع الفعل ، وحديث الرفع

ص: 105

يتكفّل الرفع لا الوضع ، وخلافا لذلك ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني إذ لا محذور حينئذ في تطبيق الحديث على الترك المضطرّ إليه ؛ لأنّ المرفوع ثبوته التشريعي فيما إذا كان موضوعا أو متعلّقا لحكم ، ورفع هذا النحو من ثبوته ليس عبارة عن وضع الفعل ، إذ ليس معناه إلا عدم كونه موضوعا أو متعلّقا للحكم ، وهذا لا يعني جعل الفعل موضوعا كما هو واضح.

الثمرة الثانية : تظهر بين الاحتمالين الثالث والثاني فيما إذا اضطرّ إلى الترك كما إذا اضطرّ لترك الصوم مثلا.

فعلى الاحتمال الثالث حيث إنّ الموجود الواقع من المكلّف منزّل منزلة العدم فهذا يختصّ بما إذا صدر منه فعل عن خطأ أو جهل أو نسيان أو إكراه أو اضطرار ، فيكون هذا الفعل الواقع مرفوعا أي أنّه كالمعدوم وبالتالي لا تترتّب عليه الآثار ، وأمّا إذا اضطرّ أو أكره على ترك الصوم فلم يصم ، فهنا لا يمكن الرفع بمعنى التنزيل منزلة العدم ؛ وذلك لأنّ عدم الصوم متحقّق منه فعلا فلا معنى لتنزيله منزلة العدم ، إذ هو لغو وتحصيل للحاصل ، مضافا إلى أنّ تنزيل الترك منزلة العدم يعني الوجود ؛ لأنّ عدم العدم هو الوجود فيكون المفاد أنّ من ترك الصوم صائم تعبّدا ، أي أنّ الصوم واقع منه ومتحقّق فتترتّب الآثار الشرعيّة على الصوم من حرمة الإفطار ووجوب الكفّارة عن الإفطار العمدي ، وهذا يعني وضع الأحكام لا رفعها ، وهذا مخالف لحديث الرفع المتكفّل لرفع الآثار والأحكام لا وضعها (1).

بينما على الاحتمال الثاني يمكننا تطبيق حديث الرفع على وقوع الفعل اضطرارا أو إكراها وجهلا ، وعلى ترك الفعل كذلك ؛ وذلك لأنّ مفاد حديث الرفع على هذا الاحتمال أنّ كلّ موضوع أو متعلّق للحكم كان مضطرّا لفعله أو تركه فهو مرفوع تشريعا أي أنّه شرعا ليس موضوعا أو متعلّقا لشيء من الآثار والأحكام الشرعيّة فترك الصوم اضطرارا مثلا ليس موضوعا أو متعلّقا شرعا للحرمة أو لترتّب الآثار على ترك الصوم العمدي كالكفّارة مثلا.

ص: 106


1- قد يناقش في ذلك بأنّ التنزيل هنا صحيح أيضا بلحاظ أنّ الشارع نزّل تارك الصوم إكراها أو اضطرارا منزلة فاعله ، فلا شيء عليه من المؤاخذة والعقوبة والكفّارة ؛ لأنّ تركه هذا نزل منزلة العدم فكأنّه لم يترك الصوم بل قام به.

ولا يلزم من ذلك أن يكون الرفع هنا كالرفع على الاحتمال الثالث موجبا للوضع ؛ لأنّ رفع الترك عبارة عن الوجود ، لأنّه يقال : إنّ الاحتمال الثاني إنّما يرفع الوجود التشريعي فقط ، فما وقع من الإنسان بأحد هذه المذكورات فهو ليس ثابتا شرعا موضوعا أو متعلّقا للأحكام الشرعيّة ، وهذا بإطلاقه يشمل وقوع الفعل أو الترك ، فإذا ارتفع الوجود الشرعي لترك الصوم فهذا لا يعني أنّ وجود الصوم هو المتحقّق ؛ لأنّه لا ينظر إلى الخارج ليقال : ما دام عدم الصوم منتفيا فوجوده متحقّق ؛ لأنّ الوجود والعدم نقيضان إذا ارتفع أحدهما يثبت الآخر ، وإنّما النظر إلى عالم التشريع فقط ، فهذا الترك المتحقّق في الخارج ليس موضوعا أو متعلّقا شرعا للأحكام والآثار الشرعيّة ، وهذا ليس وضعا كما هو واضح.

وعلى أي حال فحديث الرفع يدلّ على أنّ الإنسان إذا شرب المسكر اضطرارا أو أكره على ذلك فلا حرمة ولا وجوب للحدّ ، كما أنّه إذا أكره على معاملة فلا يترتّب عليها مضمونها.

نعم ، يختصّ الرفع بما إذا كان في الرفع امتنان على العباد ؛ لأنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، ومن أجل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع المضطرّ إليه لإبطاله ؛ لأنّ إبطاله يعني إيقاع المضطرّ في المحذور ، وهو خلاف الامتنان ، بخلاف تطبيقه على البيع المكره عليه ، فإنّ إبطاله يعني تعجيز المكره عن التوصّل إلى غرضه بالإكراه.

والحاصل من فقه الحديث : أنّ حديث الرفع يدلّ على أنّ الإنسان إذا صدر منه فعل عن خطأ أو نسيان أو جهل أو إكراه كشرب الخمر مثلا فلا تترتّب عليه الآثار الشرعيّة من حرمة أو فسق أو وجوب الحدّ ، هذا في الأحكام التكليفيّة.

وهكذا في الأحكام الوضعيّة كالبيع والزواج والطلاق ، فحديث الرفع يمكن تطبيقه فيما إذا صدر منه البيع أو الزواج أو الطلاق خطأ أو نسيانا أو إكراها أو جهلا ، بمعنى أنّ الآثار الشرعيّة لا تترتّب على هذا الموضوع.

إلا أنّه يشترط في تطبيق حديث الرفع أن يكون فيه امتنان على الإنسان ؛ لأنّ حديث الرفع وارد في مقام الامتنان من الشارع على أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 107

وعلى هذا فلا يمكننا تطبيق حديث الرفع على البيع المضطرّ إليه بخلاف المكره عليه ؛ وذلك لأنّ تطبيق حديث الرفع على البيع المضطرّ إليه يتنافى مع الامتنان ، إذ معناه إيقاع المضطرّ في المحذور الذي يريد الفرار منه كما إذا كان محتاجا للمال فاضطرّ لبيع أرضه ، فلو قلنا ببطلان البيع لزم إيقاعه بالحاجة وهذا خلاف الامتنان.

وأمّا البيع المكره عليه فتطبيق حديث الرفع عليه فيه امتنان على المكره ؛ لأنّه إذا حكمنا ببطلان البيع فهذا يعني أنّ المكره له على البيع لن يتحقّق غرضه من الإكراه ، وبالتالي يكون المكره في منجى عن الآثار المترتّبة على البيع المكره عليه والذي لا يريده أصلا.

وبهذا نعرف أنّه يشترط في تطبيق حديث الرفع على المذكورات أن يكون في رفعها منّة على الإنسان.

المرحلة الثانية : في فقرة الاستدلال وهي : « رفع ما لا يعلمون » ، وكيفيّة الاستدلال بها.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ الرفع هنا إمّا واقعي وإمّا ظاهري ، وقد يقال : إنّ الاستدلال على المطلوب تامّ على التقديرين ؛ لأنّ المطلوب إثبات إطلاق العنان وإيجاد معارض لدليل وجوب الاحتياط لو تمّ ، وكلا الأمرين يحصل بإثبات الرفع الواقعي أيضا كما يحصل بالظاهري.

المرحلة الثانية : في فقرة الاستدلال وكيفيّته :

والاستدلال على البراءة بفقرة « رفع ما لا يعلمون » ، فإنّ كلّ ما لا يعلم من الأحكام مرفوع عن المكلّف ، أي أنّه لا يطالب ولا تشتغل ذمّته بشيء من ذلك ما دام لم يعلم.

والمراد بالرفع الواقعي أنّ الحكم غير المعلوم مرفوع واقعا أي ليس بثابت على الجاهل ، وهذا يعني أنّ الحكم مقيّد بالعلم به ، وأمّا الرفع الظاهري فالمراد به رفع وجوب الاحتياط عن المكلّف عند الشكّ والجهل بالحكم.

وقد يقال : إنّ الرفع على كلا التفسيرين يثبت لنا المطلوب من البراءة ؛ وذلك لأنّ البراءة يراد بها إثبات أمرين بحقّ المكلّف الجاهل بالحكم هما :

ص: 108

أوّلا : إثبات التأمين والمعذّريّة أمام الواقع المشكوك بحيث لا يكون المكلّف مؤاخذا على المخالفة.

وثانيا : إيجاد ما يعارض أدلّة وجوب الاحتياط على فرض تماميّتها.

وهذان الأمران يثبتان بالحديث سواء كان الرفع حقيقيّا أم ظاهريّا

أمّا الأوّل فلأنّ الحكم واقعا يكون مقيّدا بحقّ العالم فقط ، فلا يشمل الجاهل أصلا ، وهذا يعني عدم اشتغال ذمّته واقعا بشيء ، بل هو بريء الذمّة واقعا من كلّ إلزام فلا عقاب عليه ولا منجّزيّة بحقّه ؛ إذ لا حكم موجّه إليه حالة الجهل.

وأمّا الثاني فلأنّ الرفع الظاهري يثبت أنّ المكلّف الشاكّ قد جعل بحقّه حكم ظاهري ترخيصي ، وهو يعني أنّ ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، فهناك إذا تأمين وبالتالي تكون أدلّة الاحتياط معارضة بأدلّة البراءة ؛ لأنّهما ينظران إلى حالة واحدة وهي حالة الشكّ في الحكم الواقعي ، وأحدهما ينجّزه والآخر يعذّر عنه.

ولكنّ الصحيح عدم اطّراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعي ، إذ كثيرا ما يتّفق العلم أو قيام دليل على عدم اختصاص التكليف المشكوك - على تقدير ثبوته - بالعالم ، ففي مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع مع الحمل على الواقعيّة ، خلافا لما إذا حمل على الرفع الظاهري.

والصحيح أنّ المطلوب إثباته - أي التأمين وإطلاق العنان وإيجاد معارض للاحتياط - لا يمكن إثباته إلا بحمل الرفع على الرفع الظاهري دون الواقعي ؛ وذلك لأنّه إذا حمل الرفع على الواقعي كان مفاد الحديث أنّ الجاهل الشاكّ بالحكم لا تكليف عليه واقعا ، فثبت أنّ الحكم واقعا مرفوع عن الجاهل ، وهذا قد يتحقّق في بعض الموارد فقط ولا يتحقّق في الأكثر والغالب ؛ وذلك لأنّنا نعلم أو يقوم دليل معتبر على أنّ الحكم المشكوك ليس مختصّا بالعالم به ، وإنّما يشمل الجاهل أيضا على تقدير كون هذا الحكم المشكوك ثابتا في الواقع ، إذ مع فرض ثبوته واقعا يستحيل كونه مقيّدا بالعالم ، لما تقدّم سابقا أنّ الأحكام شاملة غالبا للعالم والجاهل لإطلاقها وعمومها.

وعلى هذا فإذا شكّ المكلّف في الحكم ولم يعلم به ، فإن أراد التمسّك بحديث الرفع يجب أوّلا إثبات أنّ هذا الحكم المشكوك على تقدير ثبوته ليس شاملا للعالم والجاهل ، وإنّما مقيّد بالعالم.

ص: 109

وهذا يعني أنّ حديث الرفع مخصّص ومقيّد بنوع من الأحكام ولا يجري في تمام موارد الشكّ في الحكم ، أي أنّه يجري إذا كان الحكم المشكوك مختصّا بالعالم واقعا على فرض ثبوته ، وأمّا إذا كان الحكم واقعا على فرض ثبوته شاملا للعالم والجاهل فلا يجري حديث الرفع.

وحيث إنّ الغالب كون الأحكام شاملة للعالم والجاهل إمّا للعلم بذلك عن طريق محذور الاستحالة العقليّة لتقييد الحكم بالعالم فقط ، كما في الأحكام الأوّليّة كوجوب الصلاة والصوم والحجّ والخمس والزكاة ، وإمّا لقيام دليل كما في الروايات المستفيضة الدالّة بإطلاقها وعمومها على الاشتراك وعدم الاختصاص ، بمعنى أنّها شاملة ومشتركة لإطلاقها وعمومها وعدم المخصّص المتّصل أو المنفصل لها.

فحينئذ تكون الموارد التي يتمّ فيها التمسّك بحديث الرفع هي تلك الأحكام التي ثبت اختصاصها بالعالم فقط ، كالجهر والإخفات والقصر والتمام ، وهذا يعني تخصيص حديث الرفع بالفرد النادر جدّا فتنتفي الفائدة منه ، مع كونه واردا من الشارع في مقام الامتنان منه على الأمّة ، والذي معناه أنّه لو لا حديث الرفع لكان موضوعا عليهم شيئا ثقيلا يشقّ عليهم تحمّله ، وهذا لا يتحقّق في الفرد النادر كما هو واضح.

وأمّا لو حملنا الرفع على الرفع الظاهري أي رفع وجوب الاحتياط عند الشكّ في التكليف فيصحّ الامتنان كما يتحقّق المطلوب ؛ لأنّه بذلك نثبت التأمين وإطلاق العنان ونوجد معارضا للاحتياط على فرض تماميّة أدلّته ، ويكون رفع الاحتياط مما يصحّ الامتنان به على الأمّة ؛ إذ لو كان الاحتياط موضوعا عند الشكّ للزم المشقّة.

وبهذا ظهر أنّ حمل الرفع على الواقعي لا ينفعنا في المقام.

نعم ، يكفي للمطلوب عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعي ، إذ حتّى مع الإجمال يصحّ الرجوع إلى حديث الرفع في الفرض المذكور ؛ لعدم إحراز وجود المعارض أو المخصّص لحديث الرفع حينئذ.

نعم ، يكفي في الاستدلال على المطلوب أي إثبات التأمين وإطلاق العنان وإيجاد معارض للاحتياط ألاّ نستظهر الرفع الواقعي ، فإمّا أن نستظهر الرفع الظاهري وإمّا أن

ص: 110

يبقى الرفع مجملا ومردّدا بينهما ، فإنّه يمكن الاستدلال بحديث الرفع لإثبات المطلوب مع كون الرفع مجملا ومردّدا أيضا.

وذلك بأن يقال : إنّ حديث الرفع يشمل بإطلاقه كلّ موارد الشكّ في التكليف سواء كانت مشتركة على تقدير ثبوتها بين العالم والجاهل أم كانت مختصّة بالعالم فقط ، فإذا شككنا في نوعيّة الرفع وكونه واقعيّا أو ظاهريّا فهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ إطلاق حديث الرفع هل يجب رفع اليد عنه أم لا؟

والمفروض أنّنا لا نعلم بتخصيصه وتقييده ، فيتمسّك بإطلاقه ؛ لأنّ المقيّد غير ثابت ولا نعلم بوجود المعارض له أيضا.

والوجه في ذلك : أنّنا لو حملنا الرفع على الواقعي - أي أنّ الحكم المشكوك مرفوع واقعا عن الجاهل الشاكّ - فهذا يعني أنّنا في فرض العلم أو قيام الدليل المعتبر على أنّ هذا الحكم المشكوك - على تقدير ثبوته - مشترك بين العالم والجاهل لا يمكننا التمسّك بحديث الرفع ؛ لعدم شموله للمورد.

فيكون مخصّصا بما دلّ على اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، وحيث إنّ إطلاقات وعمومات الأدلّة تثبت بإطلاقها وعمومها الاشتراك فتكون مخصّصة ومقيّدة بحديث الرفع في بعض الموارد فقط ، وهي التي علم باختصاصها بالعالم فقط.

وهذا يعني أنّه إذا حمل الرفع على الواقعي لزم تخصيص وتقييد حديث الرفع ؛ لوجود المخصّص المعلوم أو لمعارضته بإطلاقات وعمومات الأدلّة.

وأمّا إذا حمل الرفع على الظاهري أي أنّه في فرض الشكّ يرتفع الاحتياط الظاهري سواء كان الحكم الواقعي مشتركا أم مقيّدا بالعالم ، فهنا سوف نتمسّك بحديث الرفع في كلّ حكم مشكوك لرفع الاحتياط ، فيبقى الحديث على إطلاقه إذ لا مخصّص ولا مقيّد ولا معارض له.

وحينئذ إذا شككنا في الرفع وأنّه ظاهري أو واقعي فهذا يعني الشكّ في أنّ إطلاق حديث الرفع هل هو مخصّص ومعارض أم لا؟ وحيث إنّه مجمل ومردّد فهذا يعني أنّنا لا نحرز وجود المخصّص والمعارض ، فيبقى الإطلاق ثابتا في هذا الفرض.

وعلى أيّة حال فقد يقال : إنّ ظاهر الرفع كونه واقعيّا ؛ لأنّ الحمل على

ص: 111

الظاهري يحتاج إلى عناية ، إمّا بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه ما لا يعلم - لا نفسه - وهو خلاف الظاهر جدّا ، وإمّا بتطعيم الظاهريّة في نفس الرفع بأن يفترض أنّ التكليف له وضعان ورفعان واقعي وظاهري ، فوجوب الاحتياط وضع ظاهري للتكليف الواقعي ، ونفي هذا الوجوب رفع ظاهري له ، وكلّ ذلك عناية فيتعيّن الحمل على الواقعي.

قد يقال : إنّ الرفع يتعيّن حمله على الرفع الواقعي ؛ لأنّ حمله على الرفع الظاهري يحتاج إلى عناية ومئونة زائدة والأصل عدمها ، وهذه العناية إمّا أن تكون من جهة المرفوع وإمّا من جهة الرفع نفسه.

وبيان ذلك :

تارة نقول : إنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط تجاه الحكم المشكوك لا نفس الحكم المشكوك كما هو مقتضى الظاهريّة ، وهذا يعني أنّ الحكم المشكوك لا يرتفع بنفسه وإنّما يرتفع وجوب الاحتياط المجعول تجاهه ، فهذه عناية في المرفوع وهذه العناية مخالفة لظاهر الحديث جدّا ؛ لأنّ الرفع بمقتضى وحدة السياق يكون بمعنى واحد.

وحيث إنّ المرفوع في سائر الفقرات نفس الحكم الواقعي تجاه ما صدر عن إكراه أو اضطرار مثلا ، فيكون المرفوع بحسب الظاهر هو نفس الحكم الواقعي عند الشكّ وعدم العلم ، فحمله على رفع الاحتياط مخالف للظاهر مع عدم القرينة عليه ، ولاستلزامه التقدير والأصل عدم التقدير كما تقدّم.

وأخرى نقول : إنّ الرفع له معنيان كما أنّ الوضع أيضا له معنيان ، وهما :

رفع الحكم الواقعي نفسه ويقابله وضع الحكم الواقعي ، ورفع وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحكم الواقعي ويقابله وضع وجوب الاحتياط كذلك ، وهنا يكون الرفع ناظرا إلى رفع وجوب الاحتياط لا رفع الحكم الواقعي نفسه ، أي الرفع ناظر إلى أحد الفردين لا إليهما معا ولا إلى الرفع الواقعي.

وهذا أيضا فيه عناية زائدة وهي تطعيم الرفع هنا بالرفع الظاهري ، وهو خلاف الظاهر والسياق ؛ لأنّ الرفع الظاهري لا معنى له في سائر الفقرات إذ المرفوع فيها الحكم الواقعي نفسه ، وعليه فيتعيّن الحمل على الرفع الواقعي.

ص: 112

والجواب على ذلك بوجهين :

الوجه الأوّل : ما عن المحقّق العراقي قدّس اللّه روحه (1) ، من أنّ الحديث لمّا كان امتنانيّا والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعي المشكوك ببعض مراتبه ، أي برفع وجوب الاحتياط من ناحيته ، سواء رفعت المراتب الأخرى أو لا ، فلا يكون الرفع في الحديث شاملا لتلك المراتب ، فالامتنان قرينة محدّدة للمقدار المرفوع.

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ حديث الرفع وارد للامتنان على الأمّة ؛ لأنّه رفع عنها ما لم يرفعه عن غيرها من الأمم ، وعليه فإذا كان المرفوع الحكم واقعا فهو يعني أنّه لم يشرّع أصلا فلا يكون في مورده امتنان.

وأمّا إذا كان الحكم ثابتا في الواقع إلا أنّه في مورد الشكّ والجهل به يكون وجوب الاحتياط من جهته مرفوعا ، فهذا فيه امتنان بلحاظ تشريع التسهيل والترخيص والتأمين ظاهرا ، وحينئذ يكون الامتنان مرتبطا برفع التكليف الواقعي ببعض مراتبه وهي مرحلة التنجّز في ظرف الشكّ والجهل ، فلا يجب الاحتياط تجاه التكليف المشكوك سواء كان الحكم الواقعي مرفوعا في الواقع أم لا ، فيكون الحديث شاملا لهذه المرتبة دون سائر المراتب الأخرى.

والقرينة الدالّة على ذلك هي نفس ورود الرفع في مقام الامتنان ؛ لأنّه هو الذي يحدّد هذا المقدار المرفوع.

ويمكن الاعتراض على هذا الوجه بأنّ الامتنان وإن كان يحصل بنفي إيجاب الاحتياط ولا يتوقّف على نفي الواقع ، ولكن لمّا كان نفي إيجاب الاحتياط بنفسه قد يكون بنفي الواقع رأسا أمكن أن تكون التوسعة الممتن بها مترتّبة على نفي الواقع ولو بالواسطة ، ولا يقتضي ظهور الحديث في الامتنان سوى كون مفاده منشأ للتوسعة والامتنان ولو بالواسطة.

ويرد على هذا الوجه :

أنّنا لو سلّمنا بأنّ الامتنان لا يكون إلا في رفع وجوب الاحتياط لا في رفع الحكم الواقعي نفسه ، إلا أنّنا نقول : إنّ نفي وجوب الاحتياط له تصويران :

ص: 113


1- مقالات الأصول 2 : 162 - 163 ، نهاية الأفكار 3 : 213.

فتارة ينفى وجوب الاحتياط مباشرة فيكون الرفع ظاهريّا سواء كان الحكم الواقعي ثابتا أم لا.

وأخرى ينفى وجوب الاحتياط بواسطة نفي الحكم الواقعي ، فإنّه إذا لم يكن الحكم الواقعي ثابتا شرعا فلا موضوع للاحتياط ؛ لأنّ تشريعه - كما عرفنا سابقا - كان لأجل الحفاظ على ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، فإذا لم تكن هذه الملاكات ثابتة واقعا فالاحتياط تجاهها منتف إذ لا موضوع له.

وحينئذ نقول : لمّا كان الامتنان مرتبطا بنفي وجوب الاحتياط ، والاحتياط يمكن نفيه بأحد هذين الوجهين ، فمن الممكن أن يكون المنظور في حديث الرفع الرفع الواقعي أيضا ، من أجل التوصّل به إلى نفي وجوب الاحتياط فيكون الاحتياط مرفوعا ولكن مع الواسطة لا مباشرة.

وعليه ، فإذا حمل الرفع على الرفع الواقعي كان الامتنان ثابتا لكون الاحتياط مرفوعا أيضا ، ولا يتعيّن أن يكون الاحتياط بنفسه مرفوعا بنحو مباشر ، وحديث الرفع ليس ظاهرا بأكثر من الامتنان وهو يتحقّق مع الواسطة أيضا ، فلا معيّن لاستظهار الرفع الظاهري من الامتنان ؛ لأنّه يصدق مع الرفع الواقعي أيضا ، حيث إنّ الاحتياط منتف بلحاظه أيضا.

الوجه الثاني : أنّ الرفع إذا كان واقعيّا فهذا يعني أخذ العلم بالتكليف فيه ، فإن كان بمعنى أخذ العلم بالتكليف المجعول قيدا فيه فهو مستحيل ثبوتا ، كما تقدّم. وإن كان بمعنى أخذ العلم بالجعل قيدا في المجعول فهو ممكن ثبوتا ، ولكنّه خلاف ظاهر الدليل جدّا ؛ لأنّ لازم ذلك أن يكون المرفوع غير المعلوم لأنّ الأوّل هو المجعول والثاني هو الجعل ، مع ظهور الحديث في أنّ العلم والرفع يتبادلان على مصبّ واحد ، وهذا بنفسه كاف لجعل الحديث ظاهرا في الرفع الظاهري ، وبذلك يثبت المطلوب.

الوجه الثاني : ما ذكره السيّد الشهيد من أنّ الرفع هو الرفع الظاهري لا الواقعي ؛ وذلك لأنّه لو كان المراد الرفع الواقعي لكان المفاد أنّ الحكم إذا لم يعلم به فهو مرفوع واقعا ، وهذا معناه أنّ ثبوت الحكم الواقعي مقيّد بالعلم به ، وهذا التقييد له نحوان :

الأوّل : أن يكون العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا فيه ، بمعنى أنّ الشارع لا

ص: 114

يجعل الحكم إلا إذا علم به فهو مستحيل ؛ لأنّ أخذ العلم بالتكليف المجعول من الشارع قيدا فيه يلزم منه محذور الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كما تقدّم سابقا ، وهكذا الحال لو كان العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول.

الثاني : أن يكون العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا في الحكم في مرحلة المجعول ، بأن يكون الوجوب الفعلي للصلاة مقيّدا بالعلم بتشريع الصلاة ، فهذا ممكن عقلا ولا مانع منه ثبوتا.

إلا أنّ هذا النحو لا يمكن تطبيقه في مقامنا ؛ وذلك لأنّ لازمه أن يكون المرفوع مغايرا للمعلوم ؛ وذلك لأنّ المرفوع على هذا هو الحكم المجعول بينما غير المعلوم هو الحكم بمعنى الجعل ، أي إذا لم يعلم بالجعل فالمجعول مرفوع لا الجعل نفسه ، وهذا خلاف الظاهر من حديث الرفع ؛ لأنّ قوله : « رفع ما لا يعلمون » مفاده أنّ الرفع والعلم يتبادلان على مورد واحد ، أي أنّ هذا الشيء إذا علم فهو موضوع وإذا لم يعلم فهو مرفوع فمصبّهما شيء واحد وضعا ورفعا.

وبهذا ظهر أنّ كلا النحوين من أخذ العلم قيدا في الحكم غير صحيح في مقامنا ؛ لأنّ الأوّل مستحيل ، والثاني مخالف للظاهر من الحديث ، وبهذا لا يكون هناك معنى محصّل لحمل الرفع على الرفع الواقعي ، فيتعيّن الحمل على الرفع الظاهري بهذه القرينة.

وحينئذ يثبت لنا المطلوب وهو إثبات الترخيص وإطلاق العنان على المكلّف الشاك في الحكم من جهة ، وإيجاد معارض لأدلّة الاحتياط من جهة أخرى ؛ لأنّ الرفع الظاهري معناه رفع وجوب الاحتياط على الشاك والجاهل وأنّه مؤمّن عليه من هذه الناحية.

وبهذا ينتهي الكلام عن المرحلة الثانية.

المرحلة الثالثة : في شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعيّة والحكميّة ، إذ قد يتراءى أنّه لا يتأتّى ذلك ؛ لأنّ المشكوك في الشبهة الحكميّة هو التكليف ، والمشكوك في الشبهة الموضوعيّة الموضوع ، فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.

المرحلة الثالثة : في شمول الرفع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا.

ص: 115

قد يقال : إنّ فقرة « رفع ما لا يعلمون » التي هي مورد الاستدلال مختصّة بالشبهات الموضوعيّة فقط ، نظرا إلى وحدة السياق في اسم الموصول ، فإنّ المضطرّ إليه والمكره عليه إنّما هو الفعل والموضوع الخارجي ، فيكون المجهول أيضا الموضوع الخارجي لا الحكم حفاظا على وحدة السياق.

ولا يمكن إرادة الموضوع الخارجي الذي هو المشكوك في الشبهات الموضوعيّة ، وإرادة الحكم والتكليف الكلّي الذي هو المشكوك في الشبهات الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الحكم والموضوع متغايران سنخا ، فالحكم موطنه التشريع وعالم اللحاظ المولوي بينما الموضوع موطنه الخارج ، ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ؛ لأنّه مستحيل.

والتحقيق : أنّ الشمول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : تصوير جامع مناسب بين المشكوكين في الشبهتين ليكون مصبّا للرفع.

والآخر : عدم وجود قرينة في الحديث على الاختصاص.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ شمول حديث الرفع للشبهتين الموضوعيّة والحكميّة أي الموضوع والحكم ، يتوقّف على إمكان إثبات أمرين هما :

أوّلا : إمكانيّة تصوير الجامع بين الموضوع والحكم ، فإنّه إذا تمكّنا من تصوير الجامع فيكون اسم الموصول مستعملا في هذا الجامع وهو معنى واحد ، والمفروض صلاحيّته للانطباق على المشكوك في الشبهتين من دون محذور.

وثانيا : إثبات عدم وجود المخصّص المتّصل لحديث الرفع ، سواء في ذلك الشبهة الحكميّة والموضوعيّة معا أي ردّ دعوى وجود قرينة على أنّ المراد من اسم الموصول الشبهة الموضوعيّة ، أو الشبهة الحكميّة.

فإذا تمكّنا من إثبات هذين الأمرين فنستطيع أن نثبت عموم الموصول لكلتا الشبهتين ، ولذلك نقول :

أمّا الأمر الأوّل : فقد قدّم المحقّقون تصويرين للجامع :

التصوير الأوّل : أنّ الجامع هو الشيء باعتباره عنوانا ينطبق على التكليف المشكوك في الشبهة الحكميّة والموضوع المشكوك في الشبهة الموضوعيّة.

الأمر الأوّل بالنسبة للجامع فهناك تصويران له :

التصوير الأوّل : أنّ المراد باسم الموصول عنوان الشيء فينطبق على الحكم وعلى

ص: 116

الموضوع معا ؛ وذلك لأنّ عنوان الشيئيّة عامّ ومبهم يصدق حقيقة على التكليف وعلى الموضوع ؛ لأنّ كلاّ منهما يسمّى ب- ( الشيء ) ، وحينئذ يكون مفاد الحديث أنّه رفع الشيء الذي لا يعلمونه ، فيشمل كلّ شيء قابلا للرفع والوضع شرعا.

وقد اعترض صاحب ( الكفاية ) (1) على ذلك بأنّ إسناد الرفع إلى التكليف حقيقي وإسناده إلى الموضوع مجازي ، ولا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي.

واعترض صاحب ( الكفاية ) على ما ذكر من تصوير الجامع بالشيء بأنّه يلزم منه استعمال الموصول في إسنادين أحدهما حقيقي والآخر مجازي ، وهو مستحيل.

وبيان ذلك : أنّ إسناد الرفع إلى الحكم في الشبهات الحكميّة يكون إسنادا حقيقيّا ؛ لأنّ الحكم بيد الشارع وضعه ورفعه في عالم التشريع الذي هو موطن الحكم حقيقة.

بينما إسناد الرفع إلى الموضوع مجازي ؛ وذلك لأنّ الموضوع متحقّق في عالم الخارج والتكوين ، فالفعل المضطرّ إليه واقع في الخارج وكذا الموضوع المشكوك فإنّه موجود في الخارج ، فرفعه كان بلحاظ الآثار المترتبة عليه من نفي الحكم التكليفي أو الوضعي وهكذا ، فكان إسناد الرفع إلى الموضوع مجازيّا.

وحينئذ فإن كان اسم الموصول مستعملا في الإسنادين معا لزم المحذور وهو استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين ، فإنّه مستحيل ؛ لأنّ اللفظ يفنى في المعنى الأوّل ولا يمكن أن يفنى في المعنى الآخر أيضا.

وحاول المحقّق الأصفهاني (2) أن يدفع هذا الاعتراض ، بأنّ من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقيّة والمجازيّة في إسناد واحد باعتبارين ، فبما هو إسناد للرفع إلى هذه الحصّة من الجامع حقيقي ، وبما هو إسناد له إلى الأخرى مجازي.

وأجاب المحقّق الأصفهاني على اعتراض صاحب ( الكفاية ) ، بأنّ الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي في استعمال واحد ممكن لكن باعتبارين وجهتين لا من جهة واحدة.

ص: 117


1- حاشية فرائد الأصول : 190.
2- نهاية الدراية 4 : 49.

وتوضيح ذلك : أنّ الحقيقة والمجاز متقابلان في الاعتبار والاستعمال لا في الواقع والحقيقة ، كما هو الحال بالنسبة للضدّين أو النقيضين.

وعليه ، فإذا كان الاعتبار مختلفا فلا محذور ، وهنا الأمر كذلك ، فإنّ الرفع بلحاظ هذه الحصّة الخاصّة من الجامع يكون حقيقيّا أي رفع الحكم ، وبلحاظ تلك الحصّة يكون مجازيّا أي بلحاظ الموضوع ، فاختلف الإسناد نتيجة اختلاف الحصّة المراد رفعها من حصص الجامع ، لا أنّ الجامع نفسه يلحظ فيه الإسنادين معا ، وإنّما يلحظ الإسناد بلحاظ واعتبار الحصّة.

وهذا نظير اختلاف الجهة وتعدّد اللحاظ والاعتبار في غير الموصول من المفاهيم الكلّيّة والجزئيّة ، فالإنسان عالم وجاهل أي عالم بلحاظ هذا الفرد وجاهل بلحاظ الفرد الآخر ، وهكذا.

وهذه المحاولة ليست صحيحة ؛ إذ ليس المحذور في مجرّد اجتماع هذين الوصفين في إسناد واحد ، بل يدّعى أنّ نسبة الشيء إلى ما هو له مغايرة ذاتا لنسبة الشيء إلى غير ما هو له.

فإن كان الإسناد في الكلام مستعملا لإفادة إحدى النسبتين اختصّ بما يناسبها ، وإن كان مستعملا لإفادتهما معا فهو استعمال لهيئة الإسناد في معنيين ، ولا جامع حقيقي بين النسب لتكون الهيئة مستعملة فيه.

ويرد على هذه الإجابة التي ذكرها المحقّق الأصفهاني بأنّها لا تكفي لرفع الاعتراض المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّ الاعتراض كانت النكتة فيه أنّه لا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي في كلام واحد.

وهذا إن كان النظر فيه إلى عالم الصدق الخارجي ، وأنّه كيف يمكن أن ينطبق استعمال واحد على إسنادين متغايرين ذاتا؟

كان جوابه ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ هذا الاستعمال الواحد باعتبار هذه الحصّة الخارجيّة يكون حقيقيّا وباعتبار تلك الحصّة يكون مجازيّا ، أي أنّه باختلاف الاعتبار صدق الاستعمال الواحد على إسنادين متغايرين.

إلا أنّ النظر ليس إلى عالم الصدق الخارجي ، وإنّما النظر فيه إلى عالم الاستعمال

ص: 118

والإسناد والذي هو عالم اللحاظ الذهني ، وهذا قبل مرحلة الصدق الخارجي ، حيث إنّ الواضع أو المستعمل أو المسند يتصوّر الصورة الذهنيّة للشيء ثمّ يضع ويستعمل ويسند اللفظ إليه. فالاستعمال والإسناد ينصبّان على عالم الصور الذهنيّة أي المفاهيم لا المصاديق.

وحينئذ نقول في بيان الاعتراض : إنّ نسبة الشيء إلى المعنى الموضوع له أي المعنى الحقيقي تختلف وتغاير ذاتا نسبة الشيء إلى المعنى الآخر الذي لم يوضع له أي المعنى المجازي.

ووجه المغايرة بينهما واضح ؛ لأنّ المعنى الحقيقي هو المدلول عليه بالدلالة الوضعيّة التصوّريّة من نفس اللفظ ، بينما المعنى المجازي هو المعنى المدلول عليه تصوّرا على أساس القرينة الموجودة مع اللفظ لا اللفظ وحده.

وعليه فإن كان مفاد الهيئة في قوله « رفع ما يعلمون » إفادة إحدى النسبتين بحيث يكون مستعملا في المعنى الحقيقي فقط أو المعنى المجازي فقط ، فيكون المستعمل والمسند قد لاحظ إحدى النسبتين فقط ، واستعمل الهيئة فيها ، وحينئذ يتحدّد مراده الجدّي وفقا لما استعمل الكلام فيه.

وإن كان مفاد الهيئة مستعملا لإفادة كلتا النسبتين والإسنادين الحقيقي والمجازي فهو غير معقول في نفسه ؛ لأنّه يتوقّف على تصوير الجامع بين النسبتين ، وقد تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة أنّ الجامع الحقيقي الذاتي والعرضي لا يمكن تصوّره في عالم النسب ؛ لأنّ كلّ نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ويستحيل انفكاكها عنهما ؛ لأنّ ما به الامتياز هو نفس ما به الاشتراك ، ولذلك لا يمكن استعمال الهيئة في إفادة النسبتين معا ، فالمحذور المذكور في الاعتراض على حاله.

والصحيح أن يقال : إنّ إسناد الرفع مجازي حتّى إلى التكليف ؛ لأنّ رفعه ظاهري عنائي وليس واقعيّا.

والصحيح في الجواب عن الاعتراض أن يقال : إنّ الهيئة في قوله : « رفع ما لا يعلمون » مستعملة في الإسناد المجازي لا الحقيقي ؛ وذلك لما تقدّم من أنّ الرفع الواقعي للحكم فيه المحذور المتقدّم من مخالفة الظاهر ، حيث إنّ ظاهر الحديث إسناد الرفع إلى نفس المشكوك.

ص: 119

فإن حمل على الرفع الواقعي للتكليف لزم أخذ العلم قيدا في الحكم وفيه محذور الدور أو التقدّم والتأخّر ، وإن أخذ العلم بالحكم في مرحلة الجعل قيدا فيه في مرحلة المجعول لزم تغاير المرفوع والمعلوم ، ولذلك يحمل الرفع على الظاهري أي وجوب الاحتياط ، وهذا فيه عناية واضحة إلا أنّه لا بدّ منها ، وعليه فالرفع عنائي ومجازي.

وحينئذ يكون إرادة الحكم والموضوع على حدّ سواء ؛ لأنّهما معا على نحو المجاز لا الحقيقة ، فيكون المعنى المستعمل هو الرفع المجازي فهناك إسناد واحد في عالم التصوّر والمفهوم وله حصّتان في عالم الصدق الخارجي ؛ لأنّه إذا شكّ في الحكم فهو مرفوع عناية أي المرفوع وجوب الاحتياط تجاهه لا الحكم نفسه ، وإذا شكّ في الموضوع فهو مرفوع أيضا بمعنى أنّه ليس موضوعا أو متعلّقا للحكم الشرعي.

التصوير الثاني : أنّ الجامع هو التكليف ، وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفا للموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، ويشمل المجعول بوصفه تكليفا للفرد المحقّق الوجود ، وفي الشبهة الحكميّة يشكّ في التكليف بمعنى الجعل ، وفي الشبهة الموضوعيّة يشكّ في التكليف بمعنى المجعول وهذا تصوير معقول أيضا بعد الإيمان بثبوت جعل ومجعول كما عرفت سابقا.

التصوير الثاني للجامع بين الشبهتين الحكميّة والموضوعيّة ، ما ذكره المحقّق العراقي قدس سره : من أنّ المراد بالموصول هو الحكم والتكليف ، أي رفع التكليف الذي لا يعلمونه ، فيكون الإسناد حقيقيّا وشاملا لكلتا الشبهتين.

وعنوان التكليف كما يشمل الحكم في مرحلة الجعل كذلك يشمل الحكم في مرحلة المجعول.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم بلحاظ الجعل هو ذاك الحكم الكلّي الذي يجعله الحاكم على الموضوع المقدّر والمفترض الوجود أي على نهج القضيّة الحقيقيّة ، فإنّ الشارع يصبّ حكمه على الصورة الذهنيّة ويكون بنحو القضيّة الحقيقيّة ، أي الحكم الكلّي على الموضوع الكلّي المقدّر والمفترض وجوده.

وأمّا الحكم بلحاظ المجعول فهو ذاك الحكم الجزئي ؛ لأنّ الحكم لا يصبح فعليّا إلا بعد تحقّق القيود والشروط المأخوذة فيه ، فإذا تحقّقت الشروط في الخارج صار الحكم فعليّا ، والحكم الفعلي هو الحكم الجزئي ؛ لأنّه تابع للخارج وللوجود الخارجي الفعلي

ص: 120

للقيود والشروط ، وكلّ ما هو موجود فعلا في الخارج فهو جزئي ؛ لأنّه متشخّص.

وحينئذ نقول : إنّه في الشبهة الحكميّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى الجعل ، فمن يشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال معنى شكّه هذا أنّ الجعل هل صدر من الشارع أم لا؟ فهو شكّ في الجعل.

وفي الشبهة الموضوعيّة يكون الشكّ في الحكم بمعنى المجعول ؛ لأنّه من يشكّ في كون هذا السائل خمرا فهو يشكّ في ثبوت الحرمة فعلا لهذا السائل بعد علمه بجعلها في عالم التشريع ، فهو شكّ في فعليّة الحكم ؛ لأنّه يشكّ في تحقّق قيوده وشروطه.

وبهذا ظهر أنّ الشكّ في الحكم موجود في الشبهتين معا ، فيكون استعمال الهيئة في الإسناد الحقيقي متحقّقا بلحاظ كلتا الشبهتين ولا محذور.

والجواب : أنّ هذا التصوير معقول ثبوتا بناء على القول بأنّه يوجد نحوان من الحكم أحدهما الجعل والآخر المجعول ، إلا أنّ الصحيح أنّ الحكم له وجود واحد حقيقي وهو الوجود في عالم التشريع أي الحكم بلحاظ عالم الجعل فقط ، وأمّا الحكم بلحاظ مرحلة المجعول فهو وجود اعتباري ؛ إذ لا وجود حقيقي للمجعول مستقلاّ عن الجعل ، وإنّما هو تعبير آخر عن الجعل بلحاظ بعض مراتبه ومراحله ، وعليه فإرادة الحكم المجعول الاعتباري فيه عناية زائدة ؛ لأنّه منزّل منزلة الجعل الذي له وجود حقيقي وهذه عناية مجازيّة ، فيبقى الإشكال على حاله.

وأمّا الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة من ناحية وحدة السياق ، كما يدّعى العكس ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة (1) ، واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالإطلاق تامّ.

الأمر الثاني بالنسبة لوجود القرينة فهناك قولان :

أوّلا : أنّه يوجد قرينة في الحديث تجعله مختصّا بالشبهة الموضوعيّة فقط ، وهذه القرينة هي وحدة السياق ، فإنّ ما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما أكرهوا عليه ، إنّما هو الفعل الخارجي ، فيكون المراد من اسم الموصول في « رفع ما لا يعلمون » الفعل الخارجي أيضا حفاظا على وحدة السياق.

ص: 121


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

وثانيا : أنّه يوجد قرينة على اختصاص « رفع ما لا يعلمون » بالشبهة الحكميّة دون الموضوعيّة ؛ وذلك لأنّ الحكم إذا شكّ فيه فيصدق عنوان « رفع ما لا يعلمون » ؛ لأنّ المرفوع هو الحكم والمشكوك وغير المعلوم هو الحكم أيضا ، فالرفع حقيقي ، وأمّا الموضوع فلا يشكّ فيه من ناحية وجوده إذ المفروض وجود الموضوع في الخارج ، وإنّما يشكّ فيه من ناحية كونه عنوانا للجعل الكلّي ، أي هل هو موضوع أو متعلّق لذلك الجعل الكلّي أم لا؟ وإلا فهو بنفسه ممّا لا يشكّ فيه ؛ لأنّه موجود فعلا في الخارج فإسناد الرفع إليه باعتبار عنوانه لا باعتبار نفسه وذاته ، وهذا رفع عنائي.

والصحيح عدم صحّة هذين الادّعاءين.

أمّا الأوّل فلأنّ وحدة السياق لا تنثلم حتّى لو كان المراد من اسم الموصول الشبهة الحكميّة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ اسم الموصول مستعمل في معناه العامّ والمبهم وهو عنوان الشيء مثلا ، وهذا العنوان موجود في جميع الفقرات ، غاية الأمر أنّ المراد الجدّي كان مختلفا فيها ، وهذا لا يضرّ بالاستعمال ؛ لأنّه لا ينظر إلى عالم الصدق الخارجي وإنّما ينظر إلى عالم المفاهيم والصور الذهنيّة والمفروض وحدة الموصول هناك.

وأمّا الثاني فيرد عليه أنّ الموضوع الموجود في الخارج وإن كان موجودا فعلا وغير مشكوك إلا أنّه من ناحية أخرى غير معلوم ؛ إذ العنوان التفصيلي مشكوك وهذا كاف لتحقّق عدم العلم ، فيصدق الرفع على الموضوع بهذا اللحاظ.

مضافا إلى أنّ المراد هنا كما تقدّم إمّا الشيء وإمّا التكليف وكلاهما يصدق على الحكم وعلى الموضوع.

أمّا عنوان الشيء فواضح ؛ لأنّ الحكم والموضوع يصدق عليهما عنوان الشيء ، وأمّا عنوان التكليف فلأنّ الحكم تكليف بمعنى الجعل الكلّي ، والموضوع تكليف بمعنى المجعول الجزئي كما تقدّم.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد في الحديث قرينة تخصّص إطلاق الحديث بإحدى الشبهتين ، فالحديث يشمل كلا الموردين بإطلاقه.

وبهذا ينتهي الكلام عن حديث الرفع.

ص: 122

وهناك روايات أخرى استدلّ بها للبراءة ، تقدّم الكلام عن جملة منها في الحلقة السابقة (1) وعن قصور دلالتها أو عدم شمولها للشبهات الحكميّة ، فلاحظ.

وهناك روايات أخرى استدلّ بها ، لكنّها إمّا قاصرة من حيث الدلالة عن إفادة البراءة ، وإمّا قاصرة عن الشمول للشبهات الحكميّة ، وقد تقدّم جملة منها في الحلقة الثانية نذكر منها ما يلي :

1 - حديث الحجب ، وهو تامّ الدلالة على البراءة إلا أنّه يختصّ بالشبهات الحكميّة ؛ لأنّ قوله « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » مختصّ بما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع بما هو شارع أي التكليف.

2 - حديث الحلّيّة ، وهو ليس دالاّ على البراءة أصلا ؛ لأنّ مفاد قوله « كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » إفادة مطلب وقاعدة شرعيّة فقهيّة ، وهي أصالة الحلّيّة في الأشياء.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك بإجراء استصحاب عدم جعل التكليف أو استصحاب عدم فعليّة التكليف المجعول ، وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأوّل بداية الشريعة ، وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلا ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضا ، كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وشكّ في تحقّق الشرط بعد البلوغ فبالإمكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

قد يقال بأنّ الاستصحاب يقوم مقام البراءة في النتيجة العمليّة أي إثبات التأمين وإطلاق العنان وإيجاد المعارض لأدلّة الاحتياط لو تمّت ، وهذا الاستصحاب له ثلاث صور :

الأولى : أن نستصحب عدم جعل التكليف بلحاظ بداية الشريعة ؛ وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى الحكم المشكوك في بداية التشريع فيقول : إنّ هذا الحكم المشكوك لم يجعل في بداية التشريع أو ما قبل التشريع ؛ لأنّ الأحكام نزلت تدريجيّا كما هو واضح ، فالحالة السابقة المتيقّنة هي عدم جعل التكليف ، والآن يشكّ في جعله فيستصحب عدمه ، وبذلك يثبت التأمين.

ص: 123


1- في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

الثانية : أن يستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول بلحاظ زمان ما قبل البلوغ ، فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب شيء أو عدمه أمكنه استصحاب عدم فعليّة التكليف ؛ لأنّ فعليّته لم تكن متحقّقة قبل البلوغ فلم يكن التكليف فعليّا بحقّه ، والآن يشكّ في فعليّته فيستصحب عدمها ، سواء كان الحكم ثابتا في عالم الجعل أم لا.

فالنظر هنا إلى عالم تحقّق فعليّة الحكم بتحقّق موضوعه المتوقّف على توفّر كلّ الشروط والقيود المأخوذة فيه.

الثالثة : أن نستصحب عدم فعليّة التكليف المجعول أيضا بلحاظ ما بعد البلوغ ، كمن يشكّ بعد بلوغه في وجوب الحجّ عليه وعدمه ، وذلك من جهة تحقّق الاستطاعة بحقّه وعدمها ، فهنا إذا التفت إلى قبل بلوغه فالشرط أي الاستطاعة لم يكن متحقّقا بحقّه فيمكن استصحاب عدمها ، وبالتالي ينتفي المشروط وهو الحجّ لانتفاء شرطه.

وفرق هذا عن السابق أنّه هنا نستصحب عدم الشرط قبل البلوغ إلى ما بعد البلوغ فينتفي المشروط ، بينما في السابق كنّا نستصحب عدم فعليّة الحكم المجعول ؛ لأنّه لم يكن فعليّا قبل البلوغ فنستصحب عدم فعليّته إلى ما بعده. وهذا الاستصحاب موضوعي بخلاف السابقين.

* * *

ص: 124

الاعتراضات العامّة

اشارة

ص: 125

ص: 126

الاعتراضات العامّة

ويعترض على أدلّة البراءة المتقدّمة باعتراضين أساسيّين :

أحدهما : أنّها معارضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها ؛ لأنّها بيان للوجوب وتلك تتكفّل جعل البراءة في حالة عدم البيان.

بعد الفراغ عن ثبوت البراءة الشرعيّة من الآيات والروايات قد يعترض عليها باعتراضين مهمّين هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ البراءة المستفادة من الآيات والروايات معارَضة بأدلّة تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الأدلّة حاكمة ومقدّمة على أدلّة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ البراءة إذا كان مفادها أنّ التأمين وإطلاق العنان مجعول في مورد الشكّ في الحكم الواقعي والجهل به ، فهذا يعني أنّ موضوعها عدم العلم بالواقع فتكون معارضة بأدلّة الاحتياط التي موضوعها أيضا عدم العلم ، فيكون لدينا حكمان ظاهريّان متغايران منصبّان على موضوع واحد.

وأمّا إذا كانت البراءة والتأمين مجعولة في مورد عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهذا يعني أنّه مع عدم بيان الحكم الواقعي ، ومع عدم بيان الاحتياط تكون البراءة ثابتة ، فهنا تكون أدلّة الاحتياط حاكمة ومقدّمة ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري ، فيرتفع موضوع البراءة.

والحاصل : أنّ كون أدلّة الاحتياط معارضة أو حاكمة مرتبط بالدليل الدالّ على البراءة ، فإن كان الدليل مثل قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) كان الاحتياط رسولا وبيانا فيكون حاكما ، وإن كان الدليل مثل قوله ( علیه السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كان الاحتياط معارضا ؛ لأنّ موضوعه عدم العلم الواقعي.

ص: 127

والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكميّة ليست مشكوكات بدوية ، بل هي مقرونة بالعلم بالإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنة في مجموع تلك الشبهات.

الاعتراض الثاني : أنّ البراءة كما سيأتي مختصّة في موارد الشكّ البدوي لا الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، فمثلا إذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان شكّا بدويّا ، بينما إذا شكّ في نجاسة أحد هذين الإناءين فهذا شكّ مقرون بالعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما المردّدة بينهما ، والبراءة تجري في الأوّل دون الثاني.

إلاّ أنّه في الشبهات الحكميّة عموما يوجد علم إجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة هذه الشبهات ، وهذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجّزيّته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، فيمتثل لما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته.

ودائرة هذا العلم الإجمالي هو مجموع الشبهات المشكوكة ، فإنّنا إذا لاحظنا هذه الشبهات بمجموعها سوف يحصل لنا العلم بوجود تكاليف إلزاميّة وجوبيّة أو تحريميّة فيها ، ولكنّها ليست معلومة تفصيلا ، وهذا العلم الإجمالي ينجّز لنا كلّ الأطراف فيكون الحكم هو الاحتياط العقلي بالامتثال أو الترك لما يحتمل وجوبه أو حرمته.

أمّا الاعتراض الأوّل فنلاحظ عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ ما استدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تامّا ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادّعيت دلالتها على ذلك ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) استعراض عدد مهمّ منها مع مناقشة دلالتها ، نعم جملة منها تدلّ على الترغيب والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.

أمّا الاعتراض الأوّل فيرد عليه عدّة نقاط :

الأولى : أنّ هذه الأدلّة التي ادّعيت دلالتها على وجوب الاحتياط ليست تامّة كما تقدّم ذلك سابقا في الحلقة الثانية ، حيث استعرضنا هناك تلك الأدلّة وقلنا : إنّ بعضها غير تامّ السند ، وبعضها غير تامّ الدلالة على الوجوب ، نعم بعض تلك الأدلّة يدلّ على

ص: 128


1- في بحث الأصول العمليّة ، تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

حسن الاحتياط وكونه مرغوبا فيه ، وهذا المقدار لا إشكال فيه ؛ وذلك لحكم العقل بحسن الاحتياط.

الثانية : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط المدّعاة ليست حاكمة على أدلّة البراءة المتقدّمة ، لما اتّضح سابقا من أنّ جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلّة.

النقطة الثانية : أنّنا لو سلّمنا بتماميّة الأدلّة على وجوب الاحتياط لكنّها لا تكون حاكمة على أدلّة البراءة والترخيص.

وتوضيح ذلك : أنّ بعض أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم والبيان الأعمّ من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلّة محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّها تثبت البيان الظاهري فيرتفع موضوع أدلّة البراءة.

إلا أنّ البعض الآخر من أدلّة البراءة كانت تثبت البراءة في فرض عدم العلم بالواقع فقط ، أي أنّ موضوعها الجهل والشكّ في الحكم الواقعي كحديث الرفع مثلا وكقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وهذه الأدلّة لا تكون محكومة لأدلّة وجوب الاحتياط بل تكون معارضة لها ؛ وذلك لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد ، وهو الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فهما إذا في رتبة عرضيّة واحدة وليس أحدهما في طول الآخر ليكون حاكما ، وحينئذ يحكم بتعارضهما.

الثالثة : إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّ ما يعارضها من أدلّة البراءة القرآنيّة الآية الأولى على أساس الإطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف ، وهذا الإطلاق يقيّد بأدلّة وجوب الاحتياط ، وما يعارضها من أدلّة البراءة في الروايات حديث الرفع وهي أخصّ منه أيضا ، لورودها في الشبهات الحكميّة وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة فيقيّد بها.

النقطة الثالثة : أنّه بعد وقوع المعارضة بين أدلّة البراءة وأدلّة وجوب الاحتياط ، فهل يحكم بالتساقط كما هو مقتضى الأصل الأوّلي في التعارض أو يكون بينهما جمع عرفي فيرتفع التعارض لكونه غير مستقرّ؟

ص: 129

قد يقال : إنّ التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّه يمكن الجمع بينهما جمعا عرفيّا وبه ينحلّ التعارض.

وتوضيحه : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط يعارضها من أدلّة البراءة نوعان : هما البراءة المستفادة من الآيات ، والبراءة المستفادة من الروايات.

أمّا البراءة المستفادة من الآيات فهي البراءة المستفادة من قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ، ) وهذه الآية يمكن الجمع بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ أدلّة وجوب الاحتياط مختصّة بالتكاليف والأحكام أي الشبهات الحكميّة ، بينما الآية كانت بإطلاقها شاملة للمال والفعل والتكليف أي الحكم ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ؛ لأنّ مورد الاحتياط أخصّ ومورد الآية أعمّ منه ومن غيره.

والوجه بينهما بتخصيص وتقييد الآية في غير مورد الاحتياط فيخرج التكليف من موضوع الآية ، وبهذا يكون الاحتياط هو المقدّم ؛ لأنّ الآية بعد الجمع بينها وبين أدلّة الاحتياط سوف تشمل خصوص المال والفعل دون التكليف ، فإنّه يكون داخلا في أدلّة الاحتياط ؛ لأنّها نصّ فيه.

وهذا نظير ورود دليل مطلق ( أكرم العالم ) ودليل مقيّد ( لا تكرم الفاسق ) فإنّه يخصّص مورد الدليل المطلق بالعادل فقط.

وأمّا البراءة المستفادة من الروايات فكانت مستفادة من قوله ( علیه السلام ) : « رفع ما لا يعلمون » كما تقدّم.

وقلنا : إنّ هذا الحديث يشمل الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة معا ، بينما أدلّة الاحتياط مختصّة في الشبهات الحكميّة فتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق أيضا ، وهنا تكون النتيجة لصالح أدلّة الاحتياط ؛ لأنّ مقتضى الجمع العرفي هو حمل العامّ على الخاصّ وإخراج مورد الخاصّ من دائرة العامّ ، وبالتالي سوف يكون حديث الرفع مقيّدا بالشبهات الموضوعيّة بعد أن كان شاملا للشبهات الحكميّة أيضا.

ولكنّ التحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ؛ لشمول تلك الأدلّة موارد عدم الفحص واختصاص الآية بموارد الفحص

ص: 130

كما تقدّم عند الكلام عن دلالتها (1) ، فهي كما تعتبر أعمّ بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك تعتبر أخصّ بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجه يقدّم الدليل القرآني لكونه قطعيّا.

والتحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة البراءة القرآنيّة وبين أدلّة الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه وليس العموم والخصوص مطلقا.

وتوضيح ذلك : أنّ الآية الكريمة : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) كما أنّها تشمل المال والفعل والتكليف فتكون أعمّ من مورد أدلّة الاحتياط المختصّة بالشبهات الحكميّة ، إلا أنّها من جهة أخرى تكون أخصّ من أدلّة الاحتياط ؛ وذلك لأنّ الآية الكريمة مختصّة بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبل الفحص كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الإيتاء للتكليف يكفي فيه أن يصدر التشريع في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فلا بدّ من البحث عنه هناك وهذا هو معنى الفحص ، بينما أدلّة الاحتياط تشمل ما قبل الفحص وما بعده فهي أعمّ من هذه الجهة.

وفي موارد التعارض بالعموم من وجه يكون كلّ دليل حجّة في مورد افتراقه عن الآخر ، فتكون أدلّة الاحتياط حجّة في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ؛ لأنّها ليست مشمولة للآية ، وتكون الآية حجّة في المال والفعل لعدم شمولهما لأدلّة الاحتياط.

وأمّا في مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة بعد الفحص فيقع التعارض بينهما بلحاظه ، وهنا يقدّم الدليل القرآني على الدليل الروائي ، لكونه قطعيّا من حيث السند والصدور ، بخلاف الدليل الروائي الدالّ على الاحتياط فإنّه ظنّي السند ؛ إذ أدلّة الاحتياط من الأخبار لا تبلغ درجة التواتر لتكون قطعيّة.

مضافا إلى أنّ خبر الواحد يشترط في حجّيّته ألاّ يكون مخالفا للكتاب ، وهنا أدلّة الاحتياط مخالفة للكتاب فتسقط عن الحجّيّة بلحاظ مورد الاجتماع.

كما أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجه أيضا ؛ لعدم شموله موارد العلم الإجمالي وشمول تلك الأدلّة لها ، ويقدّم حديث الرفع في مادّة الاجتماع والتعارض ؛ لكونه موافقا لإطلاق الكتاب ومخالفه معارض له.

ص: 131


1- ضمن استعراض أدلّة البراءة الشرعيّة ، تحت عنوان : أدلّة البراءة من الكتاب.

وهكذا الحال بالنسبة لأدلّة البراءة من الروايات ، فإنّ النسبة بينها وبين أدلّة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه لا العموم والخصوص المطلق.

وبيان ذلك : أنّ حديث الرفع كما أنّه يشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا فيكون أعمّ من أدلّة الاحتياط المختصّة في الشبهات الحكميّة ، إلا أنّه من جهة أخرى يكون أخصّ من أدلّة الاحتياط لكونه لا يشمل الشكّ في موارد العلم الإجمالي ، وإنّما يختصّ في موارد الشكّ البدوي كما تقدّم ؛ لأنّه في موارد العلم الإجمالي يصدق العلم.

بينما أدلّة الاحتياط كما تشمل موارد الشكّ البدوي كذلك تشمل موارد العلم الإجمالي فهي أعمّ من هذه الجهة ، وحينئذ يكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه.

وهنا نقول : إنّ أدلّة البراءة تكون حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة الاحتياط وهي موارد الشبهة الموضوعيّة ؛ لعدم شمول أدلّة الاحتياط لها ، وتكون أدلّة الاحتياط حجّة في مورد افتراقها عن أدلّة البراءة وهي موارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، لعدم شمول أدلّة البراءة له.

يبقى مورد الاجتماع وهو الشبهات الحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا ، فإنّ أدلّة البراءة تشملها كما تشملها أدلّة الاحتياط ، فيقع التعارض بينهما بلحاظها ، وهنا أيضا تقدّم أدلّة البراءة ؛ لأنّ حديث الرفع موافق للكتاب بينما أدلّة البراءة مخالفة للكتاب ، وسوف يأتي الترجيح بما يكون موافقا للكتاب على ما يكون مخالفا له ، فيقدّم حديث الرفع لوجود مرجّح فيه بخلاف أدلّة الاحتياط.

ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه ممّا يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط أمكن الرجوع إلى البراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع إلى دليل الاستصحاب كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (1).

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بالتعارض بين أدلّة الاحتياط والبراءة ، وتنزّلنا عن وجود المرجّح في أدلّة البراءة ، فمع هذا يكون التعارض لصالح أدلّة البراءة ؛ وذلك لأنّنا إذا قلنا بالتعارض المستقرّ ثمّ حكمنا بالتساقط ، فلا بدّ أن نرجع إلى ما كان حجّة في موارد الشبهات الموضوعيّة والحكميّة المشكوكة شكّا بدويّا.

ص: 132


1- في نهاية ما جاء تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

وعليه فنقول : أمّا على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالمرجع عندهم هو البراءة العقليّة ؛ لأنّه في موارد الشكّ والشبهات يصدق عدم العلم والبيان وجدانا وتعبّدا.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّ المفروض هو الشكّ في الواقع ، وأمّا الثاني فلعدم تماميّة الأدلّة الشرعيّة على الاحتياط ؛ لمعارضتها بالأدلّة الشرعيّة على البراءة وتساقطهما معا ، فيكون حكم العقل ثابتا لتحقّق موضوعه ، والنتيجة هي البراءة.

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة القائل بأنّه في موارد الشبهات البدويّة يحكم العقل بالاحتياط فالنتيجة لصالح البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل هذا معلّق وليس مطلقا ، فإذا لم يرد الترخيص والإذن من الشارع فحكم العقل ثابت ، وأمّا إذا ورد الترخيص والإذن فحكم العقل يرتفع لارتفاع موضوعه.

وهنا بعد الحكم بسقوط البراءة والاحتياط لتعارض أدلّتهما يمكننا التمسّك بالاستصحاب المتقدّم ، أي استصحاب عدم التكليف إمّا بمعنى عدم الجعل الكلّي ، وإمّا بمعنى عدم فعليّة المجعول الجزئي ، وهنا الاستصحاب دليل شرعي فيكون إذنا وترخيصا فيرفع به حكم العقل ، والنتيجة العمليّة هي الترخيص والإباحة والتأمين وهذه هو معنى البراءة (1).

ص: 133


1- وأمّا كيفيّة التمسّك بالاستصحاب وكونه حجّة في المقام وعدم دخوله في المعارضة فوجهه هو : أنّ دليل الاستصحاب عامّ يشمل كلّ ما كان متيقّنا سواء الموضوع أم الحكم وسواء الترخيص أم الإلزام ، فهو أعمّ من البراءة لعدم شمولها للإلزام ، وأعمّ من الاحتياط لعدم شموله للترخيص. وهذا الدليل العامّ يبقى حجّة في عمومه وشموله لكلّ الموارد الداخلة تحته إلى أن يحرز وجود المخصّص له ، فإن أحرز المخصّص يخرج عن عمومه مورد الخاصّ. وهنا كما يصلح دليل الاحتياط لتخصيص الاستصحاب وإخراج الشبهات الحكميّة لتنجيزها ، كذلك يصلح دليل البراءة لتخصيصه وإخراج الشبهات الحكميّة للترخيص فيها ، إلا أنّ المفروض تعارض هذين المخصّصين في أنفسهما وبعد الحكم بتساقطهما لا يبقى المخصّص حجّة ليخصّص به دليل الاستصحاب العامّ ، وبهذا يبقى عموم الاستصحاب حجّة لعدم المخصّص الحجّة ، وبهذا ينجو دليل الاستصحاب عن التخصيص ، وأمّا أنّه لا يدخل في المعارضة فلأنّه ليس في عرضهما ، وإنّما المرتبة بينه وبينهما طوليّة.

وأمّا الاعتراض الثاني بوجود العلم الإجمالي فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في دائرة أخبار الثقات ؛ وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ؛ لتوفّر كلا شرطي القاعدة فيها ، فإنّ أطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ؛ ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدويّة ، فتجري البراءة في كلّ شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.

وأما الاعتراض الثاني من وجود علم إجمالي منجّز فقد أجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : دعوى الانحلال الحقيقي ، ببيان : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أضيق دائرة منه ، وهذا يتوقّف على توفّر شرطين هما :

1 - أن تكون أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في العلم الإجمالي الكبير.

2 - أن يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أقلّ أو مساويا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة إجمالا ثمّ بعد ذلك علمنا بنجاسة إناءين من خمسة إناءات ضمن العشرة ، فهنا ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة إناءين من العشرة إلى علم إجمالي بنجاسة إناءين من الخمسة ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ هذه الخمسة كانت ضمن العشرة ؛ ولأنّ المعلوم بالإجمال في العلمين متساو وهو الإناءان.

وفي مقامنا نطبّق هذه الفكرة لتوفّر كلا الشرطين فنقول : إنّ العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة مجموع الشبهات منحلّ إلى علم إجمالي صغير أضيق دائرة منه ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن دائرة الشبهات التي ورد فيها خبر الثقة ، أو غيره من الأصول والأمارات المنجّزة كالاستصحاب مثلا.

والمفروض أنّ دائرة الشبهات التي قام على تنجيزها خبر معتبر داخلة ضمن دائرة الشبهات المعلومة بالعلم الإجمالي الكبير هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو وجود مائة أو ألف تكليف منجّز موجود أيضا في العلم الإجمالي الصغير إمّا بنحو مساوي أو أكثر.

ص: 134

وحينئذ تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي الكبير بالنسبة للشبهات الأخرى التي لم يقم خبر أو أمارة أو أصل على تنجيزها ، فتكون مشكوكة بدوا ، ولذلك تجري البراءة فيها ، وهذا هو المطلوب من البراءة أي التأمين بلحاظ الشبهات المشكوكة ابتداء والتي لم يثبت تنجيزها بأمارة أو أصل ، ولا يجب فيها الاحتياط عقلا لعدم العلم الإجمالي بلحاظها.

وهذا الجواب ليس تامّا ؛ إذ كما يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات المعتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، كذلك يوجد علم إجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل - عادة وبحساب الاحتمالات - كذبها جميعا.

فهناك إذن علمان إجماليّان صغيران ، والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئيّا - لأنّ الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع - ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال.

ويرد على هذا الجواب : بأنّه كما يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار الثقات ، فكذلك يوجد لدينا علم إجمالي صغير ضمن نطاق أخبار غير الثقات ، فلما ذا يقال بانحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات ، ولا يقال بانحلاله ضمن أخبار غير الثقات؟!

وتوضيح ذلك : أنّنا كما ذكرنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن مجموع الشبهات ، وقلنا : إنّ هذا العلم منجّز لجميع الشبهات ، ثمّ أجيب بأنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ حقيقة ضمن دائرة الثقات للعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزاميّة فيها لا تقلّ عن التكاليف المعلومة إجمالا في العلم الإجمالي الكبير.

وهذا الكلام لا يتمّ ؛ لأنّنا أيضا نعلم بوجود تكاليف إلزاميّة ضمن أخبار غير الثقات ؛ إذ ليس كلّها مقطوعا كذبها إذ هذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك نعلم إجمالا بصدق بعضها ومطابقته للواقع ، وهذا البعض الصادق يوجد فيه تكاليف إلزاميّة ، فلما ذا لا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير ضمن هذا العلم الإجمالي الصغير؟

ثمّ إنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين متداخلان جزئيّا ، بمعنى أنّ بعض الشبهات التي يوجد فيها خبر ثقة يثبت الإلزام كذلك يوجد فيها خبر غير ثقة يثبت

ص: 135

الإلزام أيضا ، وإن كانا يفترقان أيضا ، فالنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، فقد يكون هناك شبهة فيها خبر ثقة فقط ، أو خبر غير ثقة فقط ، أو هما معا ، فدائرتهما متداخلة جزئيّا لا كلّيّا.

وحينئذ نقول : إنّ الانحلال الحقيقي غير تامّ ؛ وذلك لاختلال أحد الشرطين المتقدّمين ، وتوضيحه :

لأنّ المعلومين بالعلمين الإجماليّين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق فهذا يعني أنّ عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير المفترض في دائرة أخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدّمين لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير.

والوجه في عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات هو : أنّ المفروض وجود علم إجمالي صغير آخر ضمن دائرة أخبار غير الثقات ، والمعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي تارة يكون مطابقا للمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير الأوّل ضمن أخبار الثقات ، وأخرى لا يكون المعلومان بالإجمال فيهما متطابقين ، فهنا فرضيّتان :

الأولى : أن نفترض عدم التطابق بين المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار الثقات وبين المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالي ضمن دائرة أخبار غير الثقات.

فمثلا تكون التكاليف الإلزاميّة في أخبار الثقات مائة والتكاليف الإلزاميّة في أخبار غير الثقات مائة ، غير أنّ هذه المائة ليست داخلة كلّها ضمن المائة بل بعضها فقط.

وهنا لن يكون هناك انحلال حقيقي للعلم الإجمالي الكبير الذي دائرته مجموع الشبهات بالعلم الإجمالي الصغير الذي دائرته أخبار الثقات فقط ؛ وذلك لأنّ الركن الثاني مختلّ ؛ لأنّ عدد المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقلّ من عدد المعلوم في العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ المفروض أنّ الصغير يشتمل على مائة تكليف إلزامي ، وهذه المائة ليست المعلومة إجمالا في الكبير ؛ إذ يوجد بعض التكاليف في

ص: 136

العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لا تزال معلومة إجمالا ، وليست كلّها داخلة في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات (1).

وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلّ من العلمين الإجماليّين الصغيرين في نفسه ، فافتراض أنّ أحدهما يوجب الانحلال دون الآخر بلا موجب.

الثانية : أن نفترض التطابق بين المعلومين بالإجمال في العلمين الإجماليّين الصغيرين.

فهنا الانحلال الحقيقي كما يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار الثقات لكون أطرافه بعض أطراف الكبير ولكون المعلوم بالإجمال فيه لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال في الكبير ، كذلك يتمّ في العلم الإجمالي الصغير ضمن أخبار غير الثقات لتوفّر كلا الركنين فيه ، فلما ذا يقال بانحلاله في الأوّل دون الثاني؟

فإنّ انحلاله في أحدهما المعيّن وهو أخبار الثقات ترجيح بلا مرجّح ، وانحلاله فيهما معا يوجب حجّيّة أخبار غير الثقات وهو لا يقوله أحد ، فيتعيّن القول بعدم انحلاله في شيء منهما.

وبهذا ظهر أنّ دعوى الانحلال الحقيقي غير تامّة ، فالعلم الإجمالي الكبير لا يزال منجّزا لجميع الشبهات المشكوكة.

الجواب الثاني : أنّ العلم الإجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجّزيّة باختلال الركن الثالث من الأركان الأربعة التي يتوقّف عليها تنجيزه ، وقد تقدّم شرحها في الحلقة السابقة (2).

ص: 137


1- لا يمكن القول هنا بأنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بكلا العلمين الإجماليين الصغيرين بدعوى أنّ المعلوم بالإجمال فيهما مساو أو أكثر من المعلوم بالإجمال فيه. لأنّه يجاب عن ذلك بأنّ هذين العلمين الإجماليّين الصغيرين إذا اجتمعا معا فإنّهما نفس العلم الإجمالي الكبير ؛ لأنّ مجموع الشبهات إمّا أن يوجد فيها خبر ثقة ونحوه ، وإمّا أن يوجد فيها خبر غير ثقة ونحوه فهما تعبير آخر عنه. مضافا لاستلزامه حجّيّة أخبار غير الثقات أيضا ، وهذا لا يقوله أحد.
2- في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

وذلك لأنّ جملة من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف بالأمارات والحجج الشرعيّة المعتبرة من ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف ، وفي كلّ حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقيّة الأطراف ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكمي كما تقدّم.

الجواب الثاني : دعوى الانحلال الحكمي ، ويوجد تقريبان لبيان دعوى الانحلال هذه.

التقريب الأوّل : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا - بناء على مسلك الاقتضاء - فيما إذا توفّرت شروط أربعة هي :

1 - العلم بالجامع ، وإلا لكانت الشبهة بدويّة فتجري فيها البراءة.

2 - عدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، وإلا لكان الفرد المعيّن منجّزا دون غيره.

3 - أن تجري الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أي لا يكون هناك مانع من جريانها في نفسها بلحاظ كلّ طرف.

4 - أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف موجبا للمخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

وهنا نقول : إنّ العلم الإجمالي الكبير ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي شامل لكلّ الشبهات ، أي أنّنا نعلم بتكاليف إلزاميّة في مجموع الشبهات ، إلا أنّ بعض هذه الشبهات قد تنجّزت.

إمّا لوجود دليل قرآني يثبت التكليف الإلزامي كحرمة لحم الكلب والخنزير مثلا ، أو وجوب الصلاة والصوم ونحوها.

وإمّا لوجود دليل روائي كقيام خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة.

وإمّا لوجود أصل عملي يثبت التنجيز كالاستصحاب المثبت للإلزام أي الوجوب والحرمة فيما إذا كانتا متيقّنتين سابقا. وإلى غير ذلك من الحجج والأمارات والأصول.

وحينئذ فإنّ هذه الشبهات التي تنجّزت سوف تخرج عن العلم الإجمالي ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري فيها ؛ لكونها منجّزة على المكلّف فلم تعد مشكوكة.

وأمّا الشبهات الأخرى فتجري فيها الأصول الترخيصيّة من دون معارض ؛ لكونها

ص: 138

مشكوكة ابتداء ، وهكذا ينحلّ العلم الإجمالي من حيث المنجّزيّة لا حقيقة ، إذ هو موجود واقعا إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ليس بثابت ، هذا هو معنى الانحلال الحكمي.

وبتعبير آخر : إنّ بعض أطراف العلم الإجمالي قد تنجّز بالآيات والروايات والأصول المثبتة للتكليف فلا تشملها الأصول الترخيصيّة ، وهذا يعني أنّ الشرط الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف غير متحقّق ، والمفروض أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تتوقّف على تواجد الشروط الأربعة ، فمع فقد أحدها لا منجّزيّة له وإن كان موجودا واقعا.

وفي مقامنا حيث ثبتت بعض التكاليف الإلزاميّة فقد خرجت من دائرة العلم الإجمالي ، إذ لم تعد مشكوكة لتنجّزها بحسب الفرض ، وعليه فتجري الأصول الترخيصيّة في الأطراف الأخرى ، وهذا انحلال حكمي.

وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام - كما عن السيّد الأستاذ - بأنّ العلم الإجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشكّ في كلّ طرف ، ودليل حجّيّة الأمارة المثبتة للتكليف في بعض الأطراف لمّا كان مفاده جعل الطريقيّة فهو يلغي الشكّ في ذلك الطرف ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّدي للعلم الإجمالي.

التقريب الثاني للانحلال الحكمي بناء على تصوّرات مدرسة الميرزا ، وحاصله : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بالجامع ، وكذا الركن الثاني وهو الشكّ في الفرد كلاهما مختلّ في المقام ، وذلك بناء على مسلك الميرزا من جعل الطريقيّة والعلميّة للأمارات والأصول.

فيقال : إنّ العلم الإجمالي الكبير ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يكون منجّزا اذا اختلّ ركناه الأوّل والثاني ، وهنا إذا قامت الأمارات والأصول على التنجيز لبعض الشبهات والتي تثبت التكليف الإلزامي فيها توجب زوال الركنين الأوّل والثاني ؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة للأمارات والأصول معناه جعلها علما تعبّدا.

فإذا أخبر الثقة بالوجوب أو الحرمة أو قام الأصل لإثبات التكليف فمعنى حجّيّته أنّه علم ، وهذا يعني أنّ هذه الشبهات قد صار حكمها معلوما تعبّدا فيلغى الشكّ

ص: 139

بلحاظها تعبّدا أيضا ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي تعبّدا ؛ لأنّ العلم بالجامع سرى إلى الفرد فصار هناك علم تفصيلي بالفرد.

وأمّا الأفراد والشبهات الأخرى فهي مشكوكة بدوا ؛ لأنّ العلم زال عن الجامع فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وبتعبير آخر : كما أنّ العلم الوجداني يوجب انحلال العلم الإجمالي كذلك العلم التعبّدي ، غاية الأمر أنّ الانحلال في الأوّل حقيقي بينما في الثاني حكمي.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ علمنا بنجاسة هذا الإناء بعينه بنفس النجاسة المعلومة بالإجمال فهذا انحلال حقيقي لسريان العلم من الجامع إلى الفرد حقيقة ، وكذا في المثال المذكور إذا أخبرنا الثقة بأنّ هذا الإناء هو النجس دون ذاك ، فإنّه على مسلك العلميّة والطريقيّة يوجب العلم التعبّدي ويلغي الشكّ تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى الفرد تعبّدا ، ولذلك يسمّى بالانحلال التعبّدي أو الحكمي.

ومقامنا من هذا القبيل ؛ لأنّ حجّيّة الأمارات والأصول معناها جعلها علما تعبّدا فيسري العلم من الجامع إلى كلّ شبهة ثبت فيها الأصل أو الأمارة المثبتان للتكليف ، وبالتالي تكون الشبهات الأخرى مشكوكة بدوا ، إذ العلم بالجامع قد سرى إلى الفرد بحسب الفرض.

ويرد على هذا التقريب :

إنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي هو التعارض بين الأصول في أطرافه كما تقدّم (1) ، وليس هو العلم الإجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد بإلغاء هذا العنوان وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك بإخراج موارد الأمارات المثبتة للتكليف عن كونها موردا لأصالة البراءة ؛ لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل ، فتبقى الموارد الأخرى مجرى لأصالة البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ الركن الثالث ويتحقّق الانحلال الحكمي من دون فرق بين أن نقول بمسلك جعل الطريقيّة وإلغاء الشكّ بدليل الحجّيّة أو لا.

ص: 140


1- في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

وهذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجب الانحلال الحكمي ، ما لم يرجع إلى التقريب السابق.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لجميع أطرافه وموجبا للموافقة القطعيّة على أساس أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ أطرافه سوف تؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أنّ تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في جميع الأطراف يمنع من جريانها في بعض الأطراف ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ويمنع من جريانها في جميع الأطراف ؛ لكونه مؤدّيا للوقوع في المخالفة القطعيّة ، فيتعيّن عدم جريانها في شيء لتعارضها وتساقطها.

إذا فالملاك في وجوب الموافقة القطعيّة لكلّ الأطراف هو تعارض الأصول الترخيصيّة وعدم إمكان الأخذ بها في بعض الأطراف أو في جميعها.

وليس الملاك لذلك هو نفس العلم الإجمالي بناء على المسلك الصحيح ؛ لأنّه إنّما يتمّ ذلك لو قيل بأنّه علّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيّة ، وهذا لا يقول به الميرزا ولا مدرسته ، وإنّما هذا مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم في الحلقة السابقة وكما سيأتي هنا.

وحينئذ ، فإن كان المقصود من الانحلال الحكمي ما تقدّم من اختلال الركن الثالث فهو صحيح سواء كان العلم الإجمالي موجودا أم لا ، إذ وجوده وعدمه لا يؤثّر في الانحلال وعدمه.

وإن كان المقصود أنّ الانحلال الحكمي يتحقّق باختلال الركن الأوّل وهو زوال العلم عن الجامع تعبّدا وسريانه إلى الفرد ، كذلك مع كون الركن الثالث لا يزال موجودا فهو غير صحيح ؛ لأنّ المنجّزيّة من آثار تعارض الأصول ، فإن كانت الأصول الترخيصيّة لا تزال متعارضة فكيف تزول المنجّزيّة مع وجود ملاكها وسببها؟!

ومجرّد القول بأنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع قد ألغي تعبّدا لا يفيد في زوال المنجّزيّة ، إذ لا تأثير له في إيجادها ليكون مؤثّرا في زوالها.

نعم ، هذا الإلغاء التعبّدي يفيد في تفسير زوال المنجّزيّة بأن يقال : إنّه مع قيام الأمارات المثبتة للتكليف يثبت العلم التعبّدي في هذه الشبهات ، وبالتالي لا تجري

ص: 141

فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّ الأمارات حاكمة على الأصول لأنّها تلغي موردها تعبّدا.

وعليه تكون الأصول الترخيصيّة جارية في الشبهات الأخرى من دون معارض ، فإنّ هذا تفسير لكيفيّة اختلال الركن الثالث وهو شبيه بما تقدّم أوّلا من أنّ الشبهات التي تقوم عليها أمارة أو أصل مثبت للتكليف لا تجري فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لكونها قد تنجّزت بمنجّز سابق ، والأصول الترخيصيّة إنّما تجري في الشبهات البدوية غير المنجّزة ، فلا تجري فيها بل تجري في الشبهات الأخرى بلا معارض ، وهذا تفسير أيضا لاختلال الركن الثالث.

والحاصل : أنّ تمام نكتة الانحلال الحكمي تنصبّ حول اختلال الركن الثالث ، من دون فرق بين المسالك في جعل الحكم الظاهري وحقيقته ومعنى الحجّيّة ، فإنّ هذه كلّها تفسيرات لكيفيّة الاختلال وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف.

* * *

ص: 142

تحديد مفاد البراءة

اشارة

ص: 143

ص: 144

تحديد مفاد البراءة

وبعد أن اتّضح أنّ البراءة تجري عند الشكّ لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أنّ الضابط في جريانها أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة ، وأمّا إذا كان التكليف معلوما والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة ، وإنّما تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ضابط جريان البراءة : بعد تماميّة الكلام عن الأدلّة على البراءة حيث ثبت أنّ البراءة تستفاد من تلك الأدلّة بنحو تكون مرجّحة على أدلّة الاحتياط المدّعاة عند تعارضهما ، وبعد أن كان موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، نأتي الآن لتحديد الضابط والميزان لجريان البراءة بعد أن كان الدليل عليها تامّا وهو المقتضي والمانع مرتفعا وهو أدلّة الاحتياط.

فنقول : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو المأخوذ في لسان أدلّتها كما في قوله : « رفع ما لا يعلمون » أي الحكم والتكليف غير المعلوم مرفوع ، وكما في قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أي التكليف الذي لم يصل إلى المكلّف فهو غير داخل في العهدة.

فإذا كان الشكّ في الحكم جرت البراءة ، وأمّا إذا كان الحكم معلوما ولكن شكّ في امتثاله في الخارج فهذا النحو من الشكّ ليس مجرى للبراءة ؛ وذلك لأنّ التكليف معلوم وواصل إلى المكلّف ولا شكّ فيه ، وإنّما الشكّ تعلّق في امتثال المأمور به وعدم امتثاله ، سواء في ذلك قبل الشروع في العمل أم بعده ، كما إذا شكّ في أنّه هل صلّى الظهر أم لا؟ أو شكّ أنّه هل الصلاة التي صلاّها هي الظهر أم غيرها؟ أو شكّ في أنّ الشخص الذي تصدّق عليه فقير أم لا؟

فهذه كلّها من أنحاء الشكّ في الامتثال ، وفي مثل هذه الموارد تجري أصالة

ص: 145

الاشتغال التي مفادها أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، أي ما دام المكلّف يعلم أنّ ذمّته مشغولة بالصلاة أو التصدّق يقينا فعليه أن يعلم بفراغها من ذلك يقينا ، ولا يكفي البراءة الاحتماليّة والفراغ غير اليقيني.

وهذا يعني أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف لا في الامتثال.

والوجه في هذا الضابط هو :

وهذا واضح على مسلكنا المتقدّم (1) القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل من أسباب انتهاء فاعليّته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّا في فعليّة التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.

المناط في هذا الضابط : أمّا أنّ الشكّ في الامتثال ليس من الشكّ في التكليف فلأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ليكون الشكّ فيهما شكّا في التكليف ، وإنّما هما من مسقطات فاعليّة التكليف ، بناء على ما هو الصحيح والمختار ، وعليه فموضوع البراءة وهو الشكّ في التكليف منتف ، فلا تجري البراءة لانتفاء موضوعها.

وتوضيح ذلك : أنّ التكليف ينشأ من وجود ملاك ومبادئ ، فالوجوب مثلا فيه مصلحة ملزمة أكيدة وفيه محبوبيّة وشوق مولوي ، فإذا قال المولى : ( يجب أكرم العالم ) كان الوجوب ثابتا لثبوت الملاك والمبادئ فيجب على المكلّف الامتثال تحقيقا لحقّ الطاعة الواجب عليه ، فإذا امتثله سقطت فاعليّة التكليف ومحرّكيّته إلا أنّ التكليف نفسه لا يسقط لبقاء المصلحة والمحبوبيّة والشوق في إكرام العالم ، وهكذا الحال في عصيانه.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إذا امتثل فقد حقّق المحبوب ، وتحقّق المحبوب لا يعني انتفاء الحبّ أصلا بل هو باق على حاله.

وعليه ، فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في تحقّق المحبوب للمولى بعد الفراغ عن وجود وبقاء هذا الحبّ والشوق المولوي اللذين هما قوام الوجوب.

ولا يمكن أن يكون الامتثال أو العصيان من مسقطات التكليف ؛ لأنّ لازم ذلك كونهما دخيلين في الملاك والمبادئ ، وهذا يعني أنّ وجوب الإكرام للعالم مقيّد بامتثال

ص: 146


1- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

إكرامه أو بعصيانه ، وهذا اللازم واضح البطلان ؛ لأنّه على الأوّل يكون مفاده أكرم العالم إذا أكرمت العالم ، وهو لغو وتحصيل للحاصل ، وعلى الثاني يكون مفاده أكرم العالم إذا عصيت إكرامه وهو من أخذ عدم الشيء في موضوع نفسه ، أو تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وهو محال لاستلزامه الدور.

وأمّا إذا قيل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف لا محالة.

ومن هنا قد يتوهّم تحقّق موضوع البراءة وإطلاق أدلّتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك إمّا من دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى الشكّ الناشئ من غير ناحية الامتثال ، أو التمسّك بأصل موضوعيّ حاكم وهو الاستصحاب عدم الامتثال.

وأمّا علي المسلك القائل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في التكليف أيضا ؛ لأنّه إذا تحقّق الامتثال خارجا بهذا الفعل الذي أتى به فقد سقط التكليف وإن لم يتحقّق به فالتكليف باق على حاله ، فيعود الشكّ إلى أنّه هل لا يزال التكليف فعليّا بحقّه أم لا؟

وهنا قد يقال : إنّه ما دام الشكّ في الامتثال يعود إلى الشكّ في التكليف فموضوع البراءة متحقّق إذا فتجري لنفي التكليف في الحالة المذكورة.

إلا أنّ هذا القول مجرّد توهّم لا أساس له ، ويمكن التخلّص منه بجوابين :

الأوّل : أنّ أدلّة البراءة لا إطلاق لها للحالة المذكورة ، بمعنى أنّ الشكّ الذي هو موضوع البراءة لا إطلاق له للشكّ في التكليف الناشئ من ناحية الامتثال ، وإنّما يختصّ بالشكّ في التكليف من غير هذه الناحية ، فيرفع اليد عن إطلاق أدلّة البراءة لهذه الحالة.

والوجه في عدم الإطلاق هو أنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ينظر إلى أنّه مع عدم العلم بأصل التكليف أو بفعليّة التكليف تجري البراءة وفي غير هذين الموردين لا تجري.

وعليه ، فإذا علم المكلّف بالتكليف وعلم بفعليّة التكليف بأن تحقّقت تمام الشروط والقيود المأخوذة في موضوعه ، فهو عالم بالتكليف فلا تجري البراءة.

ولذلك إذا شكّ في أنّ ما فعله في الخارج هل يحقّق الامتثال المسقط للتكليف أو

ص: 147

لا؟ فهذا يعني أنّه يشكّ في دائرة الامتثال وأنّها واسعة وتشمل الفعل الذي أتى به أو أنّها ضيّقة فلا تشمل هذا الفعل ، فالشكّ هنا في الحقيقة شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها ، وليس شكّا في التكليف لا بأصله ولا بفعليّته.

نعم ، الشكّ في السعة يستتبع الشكّ في التكليف بقاء وارتفاعا ، إلا أنّه مترتّب على سعة دائرة الامتثال وعدمها لا على الشكّ في نفس التكليف أو فعليّته ، والأدلّة ظاهرة في الشكّ في التكليف ابتداء كما في الشبهات الحكميّة أو بالفعليّة كما في الشبهات الموضوعيّة ؛ لأنّه يصدق فيها الشكّ في التكليف الكلّي أو الجزئي.

وأمّا في الامتثال فالشكّ في سعة دائرته وعدمها وليس شكّا في التكليف الكلّي أو الجزئي.

الثاني : أن يتمسّك باستصحاب عدم الامتثال الحاكم على أصالة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في تحقّق الامتثال بما أتى به من فعل ، وقلنا : إنّه في مثل هذه الحالة تجري البراءة لتحقّق موضوعها وهو الشكّ في التكليف ، إلا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن البراءة هنا لوجود أصل عملي موضوعي حاكم عليها وهو استصحاب عدم الامتثال المتيقّن سابقا ولو قبل الشروع بالامتثال ، وهذا الاستصحاب يحقّق التعبّد بعدم الامتثال خارجا فيرتفع الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فيكون مثل هذا الاستصحاب حاكما على البراءة ؛ لأنّه ينظر إلى موضوعها فهو من الأصل السببي الحاكم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّ الأوّل ينظر إلى موضوع الثاني نفيا أو إثباتا ، فيتنقّح به موضوع الأصل الثاني.

ثمّ بعد الفراغ عن الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في الامتثال - أي المكلّف به - باتّخاذ الأوّل ضابطا للبراءة والثاني ضابطا لأصالة الاشتغال ، يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشكّ في التكليف لكي تجري البراءة.

الضابط للشكّ في التكليف أو المكلّف به : ثمّ بعد أن فرغنا عن التمييز بين الشكّ في التكليف وبين الشكّ في المكلّف به أي الامتثال ، وبعد أن عرفنا أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف ، والضابط في أصالة الاشتغال هو الشكّ في المكلّف به ، لا بدّ أن نعرف الميزان لكون الشكّ تارة في التكليف وأخرى في المكلّف به.

ووجه الحاجة إلى هذا الضابط أنّه في بعض الموارد يكون التمييز بينهما دقيقا جدّا ،

ص: 148

وفي أكثرها يكون واضحا وجليّا ، فمثلا إذا شككنا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فهذا من الشكّ في التكليف ، وإذا شككنا في تحقّق الإكرام بمجرّد إلقاء السلام فهذا من الشكّ في المكلّف به ؛ لأنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم ونشكّ في أنّ هذا السلام هل يحقّق المأمور به ويكفي لامتثال الأمر أم لا؟

إلا أنّه في بعض الموارد يكون دقيقا جدّا ، ولا بدّ من إعمال الدقّة والنظر لاكتشاف أنّ هذا الشكّ من أي النحوين هو؟ ولذلك نقول :

وهذا الميزان إنّما يراد في الشبهات الموضوعيّة التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، دون الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها عادة شكّا في التكليف ، كما هو واضح.

وهذا الميزان المذكور نحتاج إليه في الشبهات الموضوعيّة لا الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الشبهات الحكميّة يكون الشكّ فيها من الشكّ في التكليف بمعنى الجعل الكلّي كما في الشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو في التكليف بمعنى المجعول الجزئي كالشكّ في تحقّق قيود التكليف كالاستطاعة بالنسبة للحجّ.

إلا أنّه يمكن تحقّق الشكّ في المكلّف به في الشبهات الحكميّة أيضا لكنّه نادر وقليل كما في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ، أو التعيين والتخيير ، مثال الأوّل أن يشكّ هل أنّ الواجب هو عشرة دراهم أو تسعة أي أنّ ذمّته مشغولة بهذا أو بذاك فهو من الشكّ في الامتثال ؛ لأنّه يعود إلى أنّ دفع التسعة هل يكفي في تحقّق الامتثال أم لا؟ فهو شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها.

ومثال الثاني أن يشكّ في هل أنّ الواجب خصوص العتق من أصناف الكفّارة أو هو والتصدّق والصوم بنحو التعيين أو التخيير ، فمرجعه أيضا إلى المكلّف به وسعة دائرة الامتثال.

وأمّا الشبهات الموضوعيّة فيوجد فيها من كلا النحوين فيحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، ولذلك نعقد البحث فيها :

وتوضيح الحال في المقام : أنّ الشبهة الموضوعيّة تستبطن دائما الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت كلّها معلومة فلا يتصوّر شكّ إلا من أصل حكم الشارع ، وتكون الشبهة حينئذ حكميّة.

ص: 149

وهذه الأطراف هي عبارة عن قيد التكليف ، ومتعلّقه ، ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها ( البلوغ ) ، ومتعلّقها ( الشرب ) ، ومتعلّق متعلّقها ( الخمر ) ، وخطاب ( أكرم عالما إذا جاء العيد ) قيد الوجوب فيه ( مجيء العيد ) ، ومتعلّقه ( الإكرام ) ، ومتعلّق متعلّقه ( العالم ).

إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة يكون من الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت أطراف الحكم الشرعي كلّها معلومة لم يكن الشكّ حينئذ إلا من ناحية الحكم الشرعي ، وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّه سوف يدخل في الشبهات الحكميّة وكلامنا الآن في الشبهات الموضوعيّة.

والمقصود من أطراف الحكم التي يكون الشكّ في أحدها من الشبهة الموضوعيّة أمور ثلاثة :

1 - قيود التكليف كالبلوغ والعقل ، والاستطاعة للحجّ ، والزوال للصلاة ، ونحو ذلك.

2 - متعلّق التكليف كالكذب في قولنا : ( لا تكذب ) ، والإكرام في قولنا : ( أكرم العالم ).

3 - متعلّق المتعلّق للتكليف كالخمر في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والعالم في قولنا : ( أكرم العالم ) ، ويسمّى بالموضوع.

فالتكليف إذا فيه أطراف ثلاثة : قيوده ومتعلّقه ومتعلّق متعلقه ، سواء في ذلك الجملة الحمليّة أم الشرطيّة.

ففي قولنا : ( لا تشرب الخمر ) تكون قيود التكليف البلوغ والعقل ، ومتعلّقه الشرب ؛ لأنّ الحرمة تعلّقت بالشرب ، ومتعلّق متعلّقه الخمر ؛ لأنّ الشرب تعلّق بالخمر لا بغيره.

وفي قولنا : ( إذا جاء العيد فأكرم عالما ) كانت قيود التكليف مجيء العيد ؛ لأنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجيء العيد لا مطلقا ، ومتعلّق التكليف الإكرام ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به الوجوب ، ومتعلّق المتعلّق ( العالم ) ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به وجوب الإكرام.

فإذا كانت الشبهة موضوعيّة فهذا يعني الشكّ في أحد هذه الأطراف الثلاثة بعد

ص: 150

الفراغ عن كون الحكم في مرحلة الجعل معلوما ، إذ لو لم يكن الشكّ في أحد الثلاثة فهو إذا شكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وهو من الشبهة الحكميّة لا محالة.

ولتوضيح صور الشكّ نقول :

فإن كان الشكّ في صدور المتعلّق مع إحراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شكّ في الامتثال بلا إشكال ، وتجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف معلوم ولا شكّ فيه لبداهة أنّ فعليّة التكليف غير منوطة بوجود متعلّقه خارجا ، وإنّما الشكّ في الخروج عن عهدته ، فلا مجال للبراءة.

الصورة الأولى : أن يكون كلّ من الحكم والقيود والموضوع محرزا ، وإنّما الشكّ في صدور المتعلّق.

كما إذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) فهذا الحكم معلوم في مرحلة الجعل ، والمفروض أنّ العيد قد جاء وحلّ برؤية الهلال فقيد الوجوب وهو مجيء العيد محرز أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم صار فعليّا بحقّ المكلّف لفعليّة قيود الحكم ، والمفروض أيضا أنّ العالم موجود في الخارج والمكلّف أحرزه كذلك.

يبقى المتعلّق وهو ( الإكرام ) فإنّه يشكّ في صدوره وتحقّقه ؛ وذلك بسبب الشكّ في أنّ ما أتى به في الخارج هل ينطبق عليه عنوان الإكرام أم لا؟

فلو فرض أنّه ألقى السلام على هذا العالم أو قبّل يديه يوم العيد فشكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مصداق للمأمور به والمتعلّق للوجوب أو لا؟ فالشك هنا في صدور المتعلّق.

وحينئذ نقول : لمّا كان الحكم معلوما وفعليّا لفعليّة القيود فلا يمكن الشكّ فيه لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ الفعليّة أي عالم المجعول ؛ لأنّ فعليّته منوطة بتحقّق قيوده في الخارج ، والمفروض تحقّقها.

وإنّما يشكّ فيه بلحاظ الشكّ في سعة دائرة الامتثال وعدم سعتها ، أي أنّ الإكرام الذي هو المتعلّق للوجوب والمأمور به هل يكفي فيه هذا الفعل الذي صدر منه خارجا أو لا يكفي فيه ذلك؟ فهو شكّ في براءة الذمّة وخروجها عن العهدة وعدم ذلك ، وفي هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته يقينا ويشكّ في براءتها كذلك ، فهنا يقال : الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ص: 151

والشكّ في صدور المتعلّق وعدم صدوره الذي هو شكّ في الامتثال وعدمه قلنا : إنّه ليس من الشكّ في التكليف ؛ لأنّ الامتثال وعدمه ليس من مسقطات التكليف كما تقدّم ، وإنّما من أسباب سقوط فاعليّته ومحرّكيّته فقط.

وأمّا إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فرد ما مصداقا للموضوع الخارجي.

الصورة الثانية : أن يكون الشكّ في الموضوع الخارجي ، وذلك بأن يحرز الحكم ويحرز قيوده الدخيلة في فعليّته ، ولكن يشكّ في أنّ هذا الفرد هل هو مصداق للموضوع المأخوذ طرفا في التكليف أو ليس مصداقا لهذا الموضوع؟ فإذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) وعلم بالحكم وأحرز قيده بأن حلّ العيد ، غايته الشكّ في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا؟ أي هل هو مصداق للموضوع الذي هو العالم أو ليس مصداقا له؟

وفي هذه الصورة يوجد نحوان من أنحاء الشكّ في الموضوع بالمعنى المذكور هما :

فإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا جرت البراءة ؛ لأنّ الشكّ حينئذ يستبطن الشكّ في التكليف الزائد ، كما إذا قيل : ( لا تشرب الخمر ) و ( أكرم الفقراء ) وشكّ في أنّ هذا خمر وفي أنّ ذاك فقير.

النحو الأوّل : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا.

ففي هذه الحالة سوف ينحلّ الحكم إلى أحكام بعدد مصاديق هذا الموضوع في الخارج بحيث يكون لكلّ منها امتثال خاصّ وعصيان خاصّ ، فكلّما وجد مصداق ثبت له الحكم ، فإذا شكّ في كون فرد ما مصداقا للموضوع فهذا يعني الشكّ في ثبوت تكليف زائد ، فتجري البراءة لتحقّق موضوعها.

ومثاله أن يقال : ( لا تشرب الخمر ) أو ( أكرم العالم ) أو ( تصدّق على الفقراء ) ، ففي المثال الأوّل يكون النهي عن الشرب شاملا لكلّ فرد من أفراد الموضوع في الخارج ، أي كلّ ما صدق عليه عنوان الخمريّة في الخارج فيحرم شربه. وعليه ، فإذا شكّ في أنّ هذا السائل خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في أنّه يجب الاجتناب عن شربه أو لا ، فهو شكّ في تكليف زائد فتجري البراءة.

ص: 152

وفي المثال الثاني والثالث يقال كذلك ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد العالم أو من أفراد الفقراء له وجوب مستقلّ عن الفرد الآخر ، فإذا شكّ في فرد أنّه عالم أو فقير فهو شكّ في وجوب زائد فتجري عنه البراءة.

والحاصل : أنّ الشكّ في الفرد يستبطن الشكّ في التكليف ؛ لأنّه على تقدير كونه فردا ومصداقا للموضوع فهو حكم آخر مستقلّ عن غيره من الأفراد ، وهذا يتحقّق في الإطلاق الشمولي والعموم الاستغراقي.

وإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه بدليّا لم تجر البراءة ، كما إذا ورد ( أكرم فقيرا ) وشكّ في أنّ زيدا فقير ، فلا يجوز الاكتفاء بإكرامه ؛ لأنّ الشكّ المذكور لا يستبطن الشكّ في تكليف زائد ، بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.

النحو الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع بدليّا.

وفي هذه الحالة يكون لدينا حكم واحد فقط ، ولا ينحلّ إلى الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ المطلوب هنا إيجاد الموضوع وهو يتحقّق بفرد من أفراده على سبيل البدل ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق الحكم على أي فرد أراده.

وحينئذ إذا شكّ في أنّ هذا فرد ومصداق للموضوع أو لا ، فلا يمكن الاكتفاء بامتثال المأمور به فيه ؛ لأنّه على تقدير ثبوته فهو ليس وجوبا زائدا ، وإنّما هو على تقدير ثبوت مصداقيّته للموضوع يكون محقّقا للامتثال ، فالشكّ يعود إلى أنّ الامتثال متحقّق أو لا ، فهو شكّ في المكلّف به ؛ لأنّ مرجعه إلى الشكّ في سعة دائرة الامتثال وكونها شاملة لهذا الفرد المشكوك وعدم سعتها كذلك.

ومثاله ما إذا قيل : ( أكرم فقيرا ) أو ( اغتسل بالماء ) ، فإنّ الحكم ثابت لموضوعه هنا بنحو الإطلاق البدلي ، أي أنّ المكلّف يجب عليه إكرام فقير واحد على سبيل البدل ، أو يجب عليه الاغتسال بالماء على سبيل البدل والتخيير بين هذا الفرد أو ذاك ، فهناك امتثال واحد وهو الإتيان بالغسل بالماء أو إكرام فقير واحد ، وأمّا سائر الأفراد فهي ليست واجبة ، بل هي محقّقة للامتثال فقط على تقدير كونها مصداقا للموضوع.

وعليه ، فإذا شكّ في أنّ زيدا من الناس فقير أو لا يكون الشكّ في الحقيقة إلى أنّه هل

ص: 153

يتحقّق الامتثال بإكرامه هو أو لا يتحقّق كذلك؟ فيكون من الشكّ في المكلّف به.

ولا يعقل هنا الشموليّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف لا يجب عليه الاغتسال بكلّ ماء في الوجود ، بل بصرف الوجود ومطلقه ، وفي الفقير لا يجب إلا إكرام فقير واحد ؛ لأنّ حيثيّة التنكير تدلّ على ذلك.

وعلى هذا الضوء يعرف أنّ لجريان البراءة إذن ميزانين :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليّته.

والآخر : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا لا بدليّا.

وبهذا ظهر أنّ الميزان لمعرفة كون الشكّ في التكليف وبالتالي موردا لجريان البراءة ، أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، بمعنى أنّ المشكوك قيد دخيل في فعليّة التكليف ، فإذا شكّ في وجوده وعدمه فسوف يشكّ في فعليّة التكليف وعدمها فتجري البراءة.

كما إذا قيل : ( إذا حصل الخسوف فتجب صلاة الآيات ) وشكّ في حصول الخسوف ، فهنا الخسوف قيد دخيل في فعليّة وجوب صلاة الآيات ، بمعنى أنّ تحقّقه في الخارج يوجب فعليّة الصلاة على المكلّف ، وإذا لم يتحقّق فلا تجب الصلاة فعلا على المكلّف وإن كانت ثابتة في عالم الجعل والتشريع ، فالشكّ في هذا القيد شكّ في التكليف المجعول الجزئي ، وهو مجرى للبراءة.

الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للمشكوك شموليّا لا بدليّا ، كما تقدّم بيانه آنفا.

والنكتة فيه هي أنّ الشموليّة تعني انحلال الحكم إلى أحكام عديدة ، بحيث يكون لكلّ فرد ومصداق على تقدير كونه مصداقا وفردا حكما مستقلاّ عن الفرد الآخر ، فله امتثال خاصّ به وعصيان كذلك ، فإنّه على هذا يكون الشكّ فيه شكّا في تكليف زائد فتجري البراءة.

فإن قيل : إنّ مردّ الشكّ في الموضوع الخارجي إلى الشكّ في قيد التكليف ؛ لأنّ الموضوع قيد فيه ، فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجا ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة التكليف المقيّد ، وتجري البراءة.

ص: 154

وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأوّل فقط ، كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني قدّس اللّه روحه (1).

الإشكال على ما تقدّم : ثمّ إنّ المحقّق النائيني اقتصر على الميزان الأوّل فقط ، وهو أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، وجعلها تعمّ كلاّ من القيود المأخوذة شروطا كالبلوغ والعقل أو الاستطاعة والزوال ، والقيود المأخوذة في متعلّق الحكم كالشرب في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والقيود المأخوذة في متعلّق المتعلّق أي الموضوع كالخمر في المثال المذكور.

أما الشكّ في قيود التكليف بالنحو الأوّل أي الشروط فهذا من الواضح كونه شكّا في فعليّة التكليف فتجري البراءة ؛ لأنّ الشكّ فيها شكّ في التكليف.

وأما الشكّ في القيود بالنحو الثاني أي المتعلّق فهو شكّ في فعليّة التكليف أيضا ، فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه إذا شكّ في فعل ما أنّه شرب للخمر أو لا فهو شكّ في فعليّة الحرمة وعدمها ، فيكون شكّا في التكليف.

وأمّا الشكّ في القيود بالنحو الثالث أي الموضوع ، فمرجعه أيضا إلى الشكّ في التكليف ؛ لأنّ كون هذا المائع خمرا في الخارج قيدا في فعليّة الحرمة ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة بالشرب لما هو خمر في الخارج ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة الحرمة وعدمها فتجري البراءة.

وهكذا ظهر أنّه يمكن أن يقال : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في قيود التكليف بالنحو المذكور ، ولا نحتاج إلى الميزان الثاني.

كان الجواب : أنّه ليس من الضروري دائما أن يكون متعلّق المتعلّق مأخوذا قيدا في التكليف سواء كان إيجابا أو تحريما ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان أمرا غير اختياري كالقبلة مثلا.

وعليه فإذا افترضنا أنّ حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت الحرمة فعليّة حتّى قبل وجود الخمر خارجا صحّ مع ذلك إجراء البراءة عند الشكّ في الموضوع الخارجي ؛ لأنّ إطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.

ص: 155


1- فوائد الأصول 3 : 391 - 394.

إلا أنّه يمكن الجواب عمّا ذكره الميرزا بأنّ الميزان الثاني لا يمكن الاستغناء عنه مطلقا ؛ إذ لا يمكننا إرجاع سائر القيود إلى قيود التكليف ليكون الشكّ فيها شكّا في فعليّة التكليف.

وتوضيح ذلك : أنّ متعلّق المتعلق أي الموضوع تارة يكون مأخوذا قيدا في التكليف وأخرى لا يكون كذلك ، فإذا كان الموضوع من الأمور الخارجة عن اختيار المكلّف تعيّن أخذه قيدا في التكليف.

كما في مثل قولنا : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) و ( صلّ للقبلة ) فهنا زوال الشمس خارج عن اختيار المكلّف ، فلا بدّ أن يكون من قيود التكليف كما تقدّم في محلّه ، حتّى وإن كان موضوعا.

فهنا يكون الشكّ في الزوال شكّا في فعليّة التكليف كما ذكر الميرزا ، ومثله ( صلّ للقبلة ) ؛ لأنّ القبلة وإن كانت موضوعا لكنّها ليست تحت اختيار المكلّف ، فيكون المعنى أنّ الصلاة واجبة للجهة التي توجد فيها القبلة أي إذا كانت هذه الجهة قبلة فصلّ فيها.

وأمّا إذا كان الموضوع من الأمور الاختياريّة للمكلّف فهنا ليس من الضروري أخذها قيدا في التكليف ، بل قد تؤخذ قيدا في التكليف كما في الاستطاعة بالنسبة للحجّ ، فإنّها من الأمور الاختياريّة لكنّها مأخوذة قيدا لوجوب الحجّ ، والغاية أنّ الحجّ ليس فعليّا ليكون مطالبا بتحصيل الاستطاعة ، وإنّما يكون الحجّ فعليّا على تقدير حصولها فإن حصلت تحقّقت الفعليّة وإن لم تحصل لم تتحقّق.

وقد لا تكون مأخوذة قيدا في التكليف كما في ( لا تشرب الخمر ) فإنّ الخمر يمكن ألاّ يكون مأخوذا من قيود التكليف ، والغاية من ذلك أن تكون الحرمة فعليّة على تقدير تحقّق الخمريّة سواء تحقّق الخمر في الخارج أم لا ، فالحرمة فعليّة ، وتكون فائدته في النهي عن إيجاده وصنعه أيضا إذا كان ذلك مستلزما لشربه ؛ لأنّه يكون مقدّمة للوقوع في الحرمة الفعليّة.

وحينئذ فالشكّ في كون المائع الموجود في الخارج خمرا أو لا ، لا يعني الشكّ في فعليّة التكليف ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس دخيلا في قيود التكليف ، بل التكليف فعلي حتّى قبل وجود الخمر في الخارج ، إلا أنّه مع ذلك يكون الشكّ المذكور موردا للبراءة

ص: 156

وليس ذلك إلا من باب كون الإطلاق بالنسبة للموضوع شموليّا لا بدليّا ؛ لأنّه على تقدير الخمريّة فالحرمة ثابتة وفعليّة وهي محرّكة نحو الاجتناب عن كلّ خمر أو ما يوجد الخمر ، وهذا المائع إن كان خمرا يجب الاجتناب عنه وإلا فلا ، فهنا شكّ في التكليف من باب أنّ التكليف شمولي يشمل كلّ خمر في الخارج ، لا من باب الشكّ في فعليّة التكليف.

ولكن بتدقيق أعمق نستطيع أن نردّ الشكّ في خمريّة المائع إلى الشكّ في قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجا ، بل بتقريب : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مفادها ( كلّما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ) ، فحرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أم لا ، فإذا شكّ في أنّ الفقّاع خمر أو لا مثلا جرت البراءة عن الحرمة فيه.

والتحقيق أنّه يمكن الاستغناء عن الميزان الثاني كما ذكر الميرزا ، لكن لا على أساس إرجاع الشكّ في الموضوع أو المتعلّق أو الشروط إلى الشكّ في فعليّة التكليف ، بل على أساس آخر وهو : أنّ الضابط لجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع الحكم الفعلي الشامل للقيد والموضوع والمتعلّق والشروط.

وتوضيح ذلك : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مفاده جعل الحرمة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي جوهرها وروحها القضيّة الشرطيّة كما تقدّم في محلّه ، فيكون المقصود ( أنّه كلّما كان المائع خمرا فلا تشربه ) ، وحينئذ تكون الحرمة مقيّدة بكون المائع خمرا على تقدير وجوده ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة يكون الموضوع فيها مقدّر ومفترض الوجود ، والحكم ينصبّ على الصورة الذهنيّة للموضوع بقصد كونها حاكية ومرآة للخارج.

وعليه ، فالحرمة ثابتة على تقدير كون المائع متّصفا بالخمريّة سواء وجد الخمر في الخارج أم لا ، وهذا يعني أنّ قيد الحرمة هو اتّصاف المائع بالخمر ، وهذا ثابت في مرحلة جعل الحكم.

وأمّا وجود الخمر في الخارج فهو ليس قيدا في الحرمة ، لا في مرحلة الجعل ؛ لاستحالة إناطة جعل الحرمة في عالم التشريع والجعل بقيد خارجي لاختلاف السنخيّة بينهما ؛ لأنّ الحرمة تنصبّ على الموضوع الذهني وهو غير الموضوع الخارجي

ص: 157

بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، ولا في مرحلة المجعول الفعلي للحكم ؛ لأنّ الحكم مقيّد بغير الوجود الخارجي للخمر بحسب الفرض.

وحينئذ إذا شكّ في مائع أنّه خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في كونه متّصفا بالخمريّة أو لا ، فيكون الشكّ في قيود التكليف ؛ لأنّ اتّصاف المائع بالخمريّة قيد في التكليف كما قلنا ، وهنا تجري البراءة ؛ لأنّه حينما يشكّ في تحقّق قيد التكليف سوف يشكّ بالتبع بالتكليف الفعلي ؛ لأنّه تابع لقيوده ، وبهذا نستغني عن كون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا ؛ لأنّ الميزان الأوّل متحقّق حيث إنّ الشكّ في الموضوع شكّ في قيود التكليف بالمعنى الذي ذكرناه.

وبهذا صحّ القول بأنّ البراءة تجري كلّما كان الشكّ في قيود التكليف ، وأنّ قيود التكليف تارة تكون على وزان مفاد كان التامّة بمعنى إناطته بوجود شيء خارجا ، فيكون الوجود الخارجي قيدا.

وأخرى تكون على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بمعنى إناطته باتّصاف شيء بعنوان ، فيكون الاتّصاف قيدا.

فإذا شكّ في الوجود الخارجي على الأوّل أو في الاتّصاف على الثاني جرت البراءة وإلا فلا.

وبهذا يصحّ لنا إطلاق القول بأنّه كلّما كان الشكّ في قيود التكليف كان مجرى للبراءة.

وقيود التكليف التي يشكّ فيها على قسمين :

الأوّل : أن يشكّ في أصل تحقّق القيد أو الشرط كالشكّ في تحقّق الاستطاعة أو الزوال ، فإنّ الشكّ هنا في أصل تحقّق هذا القيد في الخارج ، فإنّ وجوده في الخارج يعني فعليّة الحجّ وفعليّة الصلاة ، والشكّ فيه شكّ في الوجوب الفعلي للصلاة أو الحجّ ، فهو شكّ في التكليف فتجري البراءة عنه ، ويسمّى هذا النحو من الشكّ في القيود بمفاد ( كان ) التامّة ؛ لأنّ المراد من كان التامّة هو أصل وجود وثبوت الشيء كما يقال : كان زيد ، أي وجد زيد فالشكّ في أصل وجود القيد وعدم وجوده شكّ في تحقّق مفاد كان التامّة وعدم تحقّقه كذلك.

الثاني : أن يشكّ في اتّصاف الموضوع في الخارج بوصف بحيث يكون اتصافه

ص: 158

بهذا الوصف هو القيد للتكليف ، كما إذا شكّ في أنّ المائع الموجود في الخارج خمر ، فهنا الشكّ في اتّصافه بهذا العنوان ، والمفروض أنّ الاتّصاف هو المأخوذ قيدا في التكليف ، لا نفس الموضوع الخارجي.

والشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في تحقّق التكليف الفعلي وعدمه فتجري البراءة ، وهذا النحو يسمّى بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ ( كان ) الناقصة مفادها إثبات شيء لشيء كقولنا : كان زيد عالما ، أي أنّه متّصف بالعلم ، ولذلك سمّيت قيود الاتّصاف بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ القيد ليس بلحاظ أصل الوجود الخارجي ، بل بلحاظ الوجود الخارجي المتّصف بهذا العنوان الخاصّ ، أي كون السائل متّصفا بعنوان الخمريّة لا وجود الخمر في الخارج.

فإذا كان الشكّ في القيود بأحد هذين النحوين جرت البراءة لنفي التكليف الفعلي المشكوك.

والنحو الأوّل يكون في القيود المأخوذة شرطا في التكليف ، بينما النحو الثاني يكون في القيود المأخوذة موضوعا للتكليف.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نعمّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلّق معا ، فكما أنّ حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلام مقيّد بأن يكون الكلام كذبا ، فإذا شكّ في كون كلام كذبا كان ذلك شكّا في قيد التكليف.

ومن خلال هذا الضابط يمكننا تعميم فكرة قيود التكليف التي تكون من القسم الثاني أي التي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة إلى الموضوع وإلى المتعلّق أيضا ، وتكون قيود التكليف من القسم الأوّل أي التي على وزان مفاد ( كان ) التامّة شاملة للقيود والشروط فقط.

وتوضيح ذلك : أنّ المراد من قيود التكليف التي على وزان ( كان ) الناقصة اتّصاف الشيء بعنوان ما ، وهذا المعنى كما يتحقّق بالنسبة للموضوع في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) حيث يكون اتّصاف المائع بكونه خمرا قيدا في التكليف ، كذلك يتحقّق بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) فإنّ القيد ليس هو الكذب الموجود في

ص: 159

الخارج ، وإلا كانت حرمة الكذب مقيّدة بوجود الكذب في الخارج ، فيكون المفاد إذا تحقّق الكذب فلا تكذب وهو واضح البطلان.

وإنّما القيد اتّصاف الكلام بكونه كذبا أي الكلام الصادر من المتكلّم في الخارج إن اتصف بكونه كذبا فهو حرام ، فتكون الحرمة مقيّدة باتّصاف الكلام بالكذب سواء وجد في الخارج أم لا ، وعليه فإذا شكّ في كلام أنّه كذب أو لا جرت البراءة عنه لنفي حرمته ؛ لعدم إحراز اتّصافه بالكذب.

نعم ، المتعلّق إن كان متعلّقا للوجوب جرت أصالة الاشتغال عند الشكّ في اتّصاف الفعل به كما في قولنا : ( صلّ ) ، فإنّه إذا شكّ في كون فعل ما صلاة جرت أصالة الاشتغال ؛ لأنّه شكّ في المكلّف به حيث إنّ إطلاق الحكم بالنسبة للصلاة بدلي.

وهكذا نستخلص أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشكّ في قيود التكليف ، وهي تارة على وزان مفاد ( كان ) التامّة كالشكّ في موضوع الزلزلة الخارجي التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، وأخرى على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع كالشكّ في خمريّة المائع ، وثالثة على وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلّق كالشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا.

والحاصل : أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة كون الشكّ في قيود التكليف ، والقيود على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تكون القيود على وزان كان التامّة أي أصل وجود وتحقّق القيد ، كما في الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، فإنّ الشكّ في أصل تحقّق الزلزلة شكّ في تحقّق القيد للتكليف فتجري البراءة عنه.

الثاني : أن تكون القيود على وزان كان الناقصة بالنسبة للموضوع كما تقدّم بالنسبة لاتّصاف المائع بكونه خمرا ، فإنّه عند الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في تحقّق قيد التكليف الذي هو اتّصاف المائع بالخمر فتجري البراءة.

الثالث : أن تكون على وزان ( كان ) الناقصة بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) ؛ لأنّ القيد هو اتّصاف الكلام بكونه كذبا ، فمع الشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا تجري البراءة ؛ لأنّه لا يحرز اتّصافه بالكذب.

* * *

ص: 160

استحباب الاحتياط

اشارة

ص: 161

ص: 162

استحباب الاحتياط

عرفنا سابقا (1) عدم وجوب الاحتياط ، ولكنّ ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيته شرعا واستحبابه ؛ لما ورد في الروايات (2) من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :

بعد أن عرفنا عدم وجوب الاحتياط شرعا في الشبهات البدوية ؛ لعدم تماميّة أدلّته سندا أو دلالة أو لمعارضتها بأدلّة البراءة التي كانت أقوى منها وأرجح كما تقدّم ، نبحث حول حسن الاحتياط عقلا واستحبابه شرعا.

فنقول : لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط في الشبهات البدويّة ، كما أنّ الصحيح استحباب الاحتياط شرعا ؛ لأنّ ما دلّ على وجوب الاحتياط من الآيات والروايات تدلّ بالالتزام على كونه مطلوبا وراجحا ، وحيث إنّ المدلول المطابقي لهذه الأدلّة قد سقط فيبقى المدلول الالتزامي ، بل بعض الروايات كما قلنا ظاهرة في الترغيب والحثّ على الاحتياط ، وهو يفيد الرجحان وأصل المطلوبيّة ، ولأجل استيعاب البحث يقع الكلام في نقطتين :

الأولى : في إمكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتا ، إذ قد يقال بعدم إمكانه فيتعيّن حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد إلى حسنه عقلا ؛ وذلك لوجهين :

النقطة الأولى : في إمكانيّة جعل الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط ثبوتا ، أي في أصل معقوليّة جعل مثل هذا الاستحباب النفسي للاحتياط في عالم الجعل والتشريع ، إذ يقال - كما عن مدرسة الميرزا - : إنّ جعل الاستحباب الشرعي له

ص: 163


1- ضمن أدلّة البراءة من الكتاب والسنّة.
2- وسائل الشيعة 27 : 154 ، أبواب صفات القاضي ، ب 12.

مستحيل ، فلا بدّ أن تكون هذه الأدلّة الشرعيّة إرشاديّة إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، ولا يمكن أن يحمل على ما هو الظاهر منها من كونها أحكاما تأسيسيّة ومولويّة ، والوجه في الاستحالة أمران :

الأوّل : أنّه لغو ؛ لأنّه إن أريد باستحباب الاحتياط الإلزام به فهو غير معقول ، وإن أريد إيجاد محرّك غير إلزاميّ نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ؛ إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه ، فإنّه محرّك بمرتبة غير إلزاميّة.

الوجه الأوّل : أنّ جعل الاستحباب الشرعي للاحتياط لغو ؛ وذلك لأنّه إن أريد من جعل الاستحباب له كون الاحتياط لازما وواجبا فهو غير معقول في نفسه ، إذ المفروض كونه مستحبّا فكيف يلزم المكلّف به؟!

وإن أريد باستحبابه كونه محرّكا للمكلّف نحو الفعل لا على وجه اللزوم فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولكنّه لغو أيضا ؛ لأنّ المحرّك نحو الفعل ثابت بحكم العقل القاضي بحسنه ، فيكون جعل المحرّك مع وجوده تحصيلا للحاصل ، بل المحرّكيّة ثابتة بنفس احتمال التكليف الواقعي المشكوك حفاظا على مصلحة الواقع على تقدير ثبوتها ، وفرارا من الوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة على تقدير ثبوت التكليف واقعا.

فإنّ العقل هنا يحكم بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب على ذلك عقلا ، ولو من باب الانقياد. فالمحرّك غير الإلزامي إذا موجود بحكم العقل فلا معنى لإيجاده ، فتكون الأدلّة محمولة على الإرشاد لما حكم به العقل.

الثاني : أنّ حسن الاحتياط كحسن الطاعة وقبح المعصية واقع في مرحلة متأخّرة عن الحكم الشرعي ، وقد تقدّم المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعيّين في هذه المرحلة لا يستتبعان حكما شرعيّا.

الوجه الثاني : ما أفاده الميرزا بناء على مسلكه في مسألة الحسن والقبح العقليّين والملازمة بينهما وبين حكم الشارع ، حيث قال : إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع إنّما تكون فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد ، لا فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام.

ص: 164

وتوضيح ذلك : أنّ حكم العقل بحسن الصدق والعدل وقبح الظلم والكذب ممّا يستقلّ العقل به ؛ لأنّه يدرك المصلحة الموجودة في الصدق والعدل والأمانة من جميع الجهات ويحكم بحسنها ، ويدرك المفسدة في الظلم والكذب والخيانة ويحكم بقبحها.

وهذا يعني أنّ المصلحة والمفسدة ثابتتان ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بالوجوب في موارد المصلحة وبالحرمة في موارد المفسدة ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والمفروض أنّها ثابتة لإدراك العقل لها ، فمثل هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة علل الأحكام أي أنّه ينقّح العلّة للحكم بالوجوب ، وهي المصلحة وينقّح العلّة للحكم بالحرمة وهي المفسدة.

وأمّا الحكم العقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لأنّه واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بحسن الطاعة بعد فرض ثبوت حكم شرعي بالوجوب في مرحلة سابقة ، وهكذا لحكمه بقبح المعصية فإنّه مرتبط بثبوت حكم شرعي بالحرمة أوّلا.

فإذا كان هناك وجوب للصلاة حكم العقل بحسن الطاعة والامتثال ، وإذا كان هناك حرمة لشرب الخمر حكم العقل بقبح المخالفة والعصيان ، إلا أنّ حكم العقل هذا لا يلزم منه وجود حكم شرعي آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي بدوره سوف يحكم العقل بحسن إطاعته وقبح معصيته فيلزم ثبوت حكم شرعي على وفقهما وهكذا ، فيلزم التسلسل المستحيل.

وبهذا ظهر أنّ الحكم العقلي إذا كان واقعا في سلسلة علل الأحكام فهناك ملازمة بينه وبين حكم الشارع على طبقه ، وإن كان واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ؛ لاستلزامه التسلسل الباطل.

ومقامنا من قبيل الثاني ؛ لأنّ حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الطاعة وقبح المعصية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، إذ حكم العقل بالاحتياط فرع ثبوت حكم شرعي في مرحلة سابقة واقعا ، فهذا الحكم العقلي معلول لوجود الحكم الشرعي ، وليس علّة له ، وحينئذ يستحيل أن يحكم الشارع باستحباب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الحكم سوف يستتبعه حكم عقلي آخر وهو يستلزم حكم شرعي وهكذا يتسلسل.

ص: 165

وكلا الوجهين غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا أن يكون نفسيّا لملاك وراء ملاكات الأحكام المحتاط بلحاظها ، وإمّا أن يكون طريقيّا بملاك التحفّظ على تلك الأحكام ، وعلى كلا التقديرين لا لغويّة.

أمّا على النفسيّة فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخا لمحرّكيّة الواقع المشكوك فتتأكّد إحداهما بالأخرى ، وأمّا على الطريقيّة فلأنّ مرجعه حينئذ إلى إبراز مرتبة من اهتمام المولى بالتحفّظ على الملاكات الواقعيّة في مقابل إبراز نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضا ، ومن الواضح أنّ درجة محرّكيّة الواقع المشكوك تابعة لما يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.

أمّا الوجه الأوّل فجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني وهو كون المراد بجعل الاستحباب للاحتياط إيجاد محرّك غير لزومي ، ولا محذور فيه وليس تحصيلا للحاصل.

وذلك لأنّ هذا الاستحباب المولوي إمّا أن يكون بملاك نفسي ، أي ناشئ من مصلحة وملاك في نفس الاحتياط هي التي دعت الشارع للحكم باستحبابه زائدا على الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة المشكوكة ، فهنا لن يكون هناك لغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأنّ الاحتياط الثابت بحكم العقل إنّما هو الاحتياط بملاك نفس الأحكام الواقعيّة الإلزاميّة ، أي نفس الحكم الواقعي الإلزامي المشكوك كان هو المحرّك للمكلّف نحو الإتيان به من أجل عدم الوقوع في المفسدة الواقعيّة ، أو لإدراك المصلحة الواقعيّة الموجودتين في الحكم المشكوك على تقدير ثبوته.

وأمّا الاحتياط الثابت بحكم الشارع فهو ناشئ من ملاكات خاصّة بالاحتياط ، أي أنّها ناشئة من وجود مصلحة في نفس العمل بالاحتياط.

كما في مثل قوله : « من ترك الشبهات كان لما استبان أترك » أي أنّ المصلحة في الاحتياط هي تدريب المكلّف على ترك المحرّمات المعلومة ؛ لأنّه إذا ترك الشبهات الإلزاميّة مع كونها مشكوكة سوف يترك المحرّمات المعلومة أيضا ؛ لصيرورة الترك من عادته وسجيّته ، فالمحرّكيّة الموجودة غير المحرّكيّة الثابتة شرعا من حيث الملاك ، فتكون الثانية مؤكّدة للأولى فلا لغويّة.

ص: 166

وإمّا أن يكون بملاك طريقي أي يكون ناشئا من مصلحة الواقع ، فمبادؤه نفس مبادئ الحكم الواقعي المشكوك وليس زائدا عليه ، فهو حكم ظاهري طريقي يجعله الشارع في مقام الشكّ وعدم التمييز للملاكات الواقعيّة عند اشتباه المكلّف وعدم قدرته على التمييز.

وهنا لا يكون جعل الاحتياط لغوا ؛ لأنّه لا يراد به إيجاد محرّكيّة ثابتة زائدا عن المحرّكيّة الثابتة بحكم العقل ، إذ لا محرّكيّة إلا للملاكات الواقعيّة للأحكام المشكوكة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وإنّما يراد بهذا الحكم الطريقي إبراز الاهتمام المولوي في التحفّظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة ، كما تقدّم مفصّلا في الحديث عن حقيقة الحكم الظاهري ؛ لأنّ المولى عند شكّ المكلّف إمّا أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ بنظره ، وإمّا أن تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، فإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ فسوف يصدر حكما ظاهريّا طريقيّا يبرز فيه ذلك وهذا يكون بالاحتياط ، وإن كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ أصدر ترخيصا ظاهريّا طريقيّا.

فإذا كان ثبوت مثل هذا الاحتياط الظاهري الطريقي شرعا من أجل إبراز أنّ المولى يهتمّ بالملاكات الإلزاميّة في مقابل نفي اهتمامه بالملاكات الترخيصيّة.

وحينئذ سوف يكون مثل هذا الاحتياط الطريقي فيه مزيد من التأكيد على حسن الاحتياط ، ومزيد من التحريك أيضا ؛ لأنّ المكلّف صار يعلم بأنّ المولى يهتمّ بالحفاظ على الملاكات الواقعيّة للإلزام أيضا ، مضافا إلى اهتمام العقل بها.

وهكذا ظهر أنّه لا لغويّة في جعل الاحتياط المولوي سواء الطريقي أم النفسي.

وأمّا الوجه الثاني : فلو سلّم المسلك المشار إليه فيه لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي ليردّ ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وإنّما الكلام عن المحذور المانع من ثبوته. ولهذا فإنّ متعلّق الاستحباب عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصد قربي ، والعقل إنّما يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة.

وأمّا الوجه الثاني فجوابه :

أوّلا : إنكار المسلك الذي يدّعيه الميرزا ، مضافا إلى إنكار كبرى الملازمة بين ما

ص: 167

حكم به العقل وبين حكم الشارع على طبقه ، بل قد يحكم وقد لا يحكم.

وثانيا : لو سلّم المبنى الذي ذكره الميرزا فلا يتمّ ما ذكره فيه بالنسبة للاحتياط ؛ لأنّنا لو قلنا : إنّه توجد ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة العلل لا المعلولات ، فهذا تطبيقه على محلّ بحثنا غير صحيح ؛ لأنّنا لا نريد أن نثبت استحباب الاحتياط شرعا اعتمادا على الملازمة المذكورة ، أي بين حسن الشيء عقلا واستحبابه شرعا ليشكل الميرزا بما ذكره. وإنّما الاحتياط الشرعي ثابت استحبابه لقيام الدليل الخاصّ عليه.

وإنّما نريد أن نتساءل أنّه هل يوجد محذور ومانع عقلي من ثبوت الاستحباب الشرعي للاحتياط أو لا؟ أي أنّنا بعد الفراغ من ثبوت استحبابه شرعا لقيام الدليل عليه نريد أن نبحث في وجود المانع وعدمه ، فما ذكره الميرزا خارج عن محلّ بحثنا.

ويدلّ على ذلك : أنّنا لو كنّا نريد اثبات استحباب الاحتياط الشرعي على أساس الملازمة بين العقل والشرع لكان اللازم كون الاحتياط ثابتا فيما إذا أتي به بداعي التقرّب لله عزّ وجلّ فقط ؛ لأنّ العقل يحكم بحسن الاحتياط والتجنّب عن مخالفة الواقع المشكوك من باب الانقياد لله تعالى.

والمفروض أنّ الاحتياط الثابت شرعا بأدلّته الخاصّة ثابت مطلقا سواء أتى المكلّف به من باب الانقياد والتقرّب أم لا ؛ لأنّ أدلّته مطلقة تشمل كلا الأمرين ؛ لأنّها تجعل الاستحباب إمّا لنفس الاحتياط بملاكات خاصّة ، وإمّا للاحتياط بملاك المحافظة على الواقع المشكوك مطلقا من دون تقييد ذلك بداعي التقرّب وغيره.

النقطة الثانية : أنّ الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحبّ كما عرفت ، ولكن قد ويقع البحث في إمكانه في بعض الموارد.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا احتمل كون فعل ما واجبا عباديّا ، فإن كانت أصل مطلوبيّته معلومة أمكن الاحتياط بالإتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلّقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوبا أو استحبابا فإنّ هذا يكفي في وقوع الفعل عباديّا وقربيّا.

النقطة الثانية : بعد أن ثبت كون الاحتياط مستحبّا شرعا وحسنا عقلا ، يقع البحث في أنّ استحباب الاحتياط لا إشكال في وقوعه في الواجبات التوصّليّة ، وأمّا الواجبات العباديّة فيشكل الاحتياط فيها ، فهنا مطلبان :

ص: 168

الأوّل : أنّ الاحتياط في التوصّليّات ممكن كما لو شكّ في أنّه مدين بعشرة أو تسعة ، فيمكنه الاحتياط وأداء الدين بالعشرة مع جواز اقتصاره على التسعة فقط ؛ لجريان البراءة عن الزائد ؛ لأنّه شكّ في التكليف.

الثاني : قد يقال : إنّ الاحتياط في العبادات مستحيل وممتنع ؛ وذلك لأنّه يشترط فيها نيّة التقرّب لله عزّ وجلّ بالعمل أو الترك ، وهذا لا يتمّ إلا إذا كان الفعل أو الترك معلوما وجهه من كونه واجبا أو مستحبّا أو حراما أو مكروها.

وتفصيل الحال أن يقال : إنّ مورد الاحتياط والذي هو أمر عبادي إن علم أصل مطلوبيّته وشكّ في وجه المطلوبيّة فيمكن الإتيان به بنيّة الأمر المعلوم وهو أصل المطلوبيّة من دون قصد للوجه ؛ إذ لا يلزم ذكر الوجه في نيّة القربة وعلى تقدير لزومها فهي واجبة عند القدرة عليها.

وهنا لا يعلم بالوجه فلا يكلّف بها وإلا لكان تكليف بغير المقدور ، وعلى هذا فإذا شكّ في وجوب صلاة الجمعة واستحبابها أو وجوب غسل الجمعة واستحبابه أمكنه الاحتياط بالإتيان بالفعل بقصد المطلوبيّة ؛ لأنّها معلومة وهي تكفي في نيّة التقرّب حيث لا يتمكّن من نيّة الوجه للجهل بها ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا إذا جهل بالمطلوبيّة فقد يقال بالمنع من الاحتياط ، ولذلك قال :

وأمّا إذا كانت أصل مطلوبيّته غير معلومة فقد يستشكل في إمكان الاحتياط حينئذ ؛ لأنّه إن أتى به بلا قصد قربيّ فهو لغو جزما ، وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن افتراض الأمر والبناء على وجوده ، مع أنّ المكلّف شاكّ فيه ، وهو تشريع محرّم ، فلا يقع الفعل عبادة لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.

وأمّا إذا كانت المطلوبيّة مجهولة بأن دار الأمر بين الوجوب والإباحة أو الاستحباب والإباحة ، فهنا لا يعلم بأصل المطلوبيّة ؛ لأنّها ثابتة على أحد التقديرين فقط ، بخلاف الفرض السابق فإنّ المطلوبيّة معلومة سواء كان واجبا أم مستحبّا ، فهنا قد يستشكل بالاحتياط في مثل هذا المورد ، بل يمنع من الاحتياط فيه ؛ وذلك لأنّه إن أراد الإتيان بالعمل من دون قصد القربي أصلا فلا يتحقّق الفعل العبادي ؛ لأنّ نيّة القربة شرط فيه فيكون الأمر بالاحتياط بهذا القصد لغوا ؛ إذ لن يحصل به المطلوب

ص: 169

وهو الحفاظ على مصلحة الواقع ؛ لأنّ الواقع على تقدير ثبوته فهو ممّا لا يتأتّى إلا بقصد القربة لا مطلقا.

وإن أراد الإتيان بالعمل بقصد امتثال الأمر العبادي الذي هو معنى نيّة القربة فهذا فرع ثبوت الأمر في مرتبة سابقة ليقصد امتثاله ، فإنّ الامتثال متأخّر عن الأمر ، والمفروض أنّ الأمر غير معلوم بل مشكوك فيلزم الخلف ؛ لأنّ امتثال الأمر متوقّف على ثبوت الأمر أوّلا ، والمفروض أنّه مجهول ، هذا أوّلا.

وثانيا أنّ الإتيان بالفعل المشكوك أصل مطلوبيّته بنيّة القربى وامتثال الأمر يكون تشريعا محرّما ؛ لأنّه من إسناد شيء إلى الشارع من دون علم.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن الاحتياط في مثل هذا المورد ؛ لأنّ الفعل لا يمكن أن يقع عبادة مع أنّ المطلوب أن يقع عبادة لتحصل به الموافقة للتكليف الواقعي المشكوك بالاحتياط.

وبتعبير آخر : إنّ المطلوب لا يحصل بالاحتياط وما يحصل به ليس هو المطلوب ، فيكون جعل الاحتياط حينئذ لغوا باطلا أو تشريعا محرّما.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمر معلوم وهو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، فيقصد المكلّف امتثال هذا الأمر.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ نيّة القربة يمكن الإتيان بها ؛ وذلك لثبوت الأمر الشرعي في مرحلة سابقة فيمكن للمكلّف أن يتقرّب بالعمل المحتاط فيه بقصد امتثال هذا الأمر المعلوم ثبوته.

وهذا الأمر المعلوم الثبوت ليس هو الأمر بهذا الفعل المحتاط فيه ؛ إذ المفروض الشكّ في ذلك ، وإنّما هذا الأمر هو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، كما تقدّم في النقطة الأولى حيث أثبتنا فيها أنّ الاستحباب الشرعي ممكن جعله للاحتياط ، وهو إمّا استحباب نفسي أو طريقي.

وحيث إنّ الاحتياط مطلوب شرعا فيمكن المكلّف الإتيان بالفعل قاصدا بذلك امتثال الأمر الشرعي ، والمطلوبيّة الثابتة شرعا للاحتياط لا لنفس الفعل المحتاط فيه ، وبهذا تتحقّق نيّة القربة ؛ إذ يكفي فيه قصد امتثال الأمر الشرعي حين الإتيان بالعمل ؛ لأنّ المقصود هو قصد مطلق الأمر المنطبق على هذا المورد أيضا.

ص: 170

وكون الأمر بالاحتياط توصّليّا ( لا تتوقّف موافقته على قصد امتثاله ) لا ينافي ذلك ؛ لأنّ ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية عباديّة نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عباديّة ما يحتاط فيه.

فإن قيل : إنّ الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة التي لا يشترط فيها الإتيان بالمأمور به بقصد امتثال الأمر ، وحينئذ كيف يقال بأنّه يكفي في تحقّق قصد القربة أن يقصد امتثال الأمر الاستحبابي ، فإنّه ليس أمرا عباديّا بل هو أمر توصّلي ، فتحقّق العبادة فيه خلف المفروض من كونه توصّليّا ، إذ كيف ينشأ من الأمر التوصّلي أمر عبادي؟

كان الجواب : أنّه لا منافاة بين كون الأمر بالاحتياط من الأمور التوصّليّة وبين تحقّق قصد القربة حين الإتيان بالعمل بقصد امتثال هذا الأمر الاستحبابي المجعول للاحتياط ؛ وذلك لأنّنا لا نريد أن نقول : إنّ العباديّة نشأت من نفس الأمر الاستحبابي ليلزم الإشكال المحذور من أنّه توصّلي ، فكيف يصير عباديّا؟

بل نريد أن نقول : إنّ العباديّة تنشأ من الفعل المحتاط فيه حين قصد الأمر الاستحبابي للاحتياط بحيث يكون هذا الفعل مع ضمّ قصد امتثال الأمر بالاستحباب للاحتياط من الأمور العباديّة ؛ لأنّه يكفي في تحقّق القصد الإتيان بالفعل مع مطلق قصد امتثال الأمر حتّى لو كان الأمر توصّليّا لا عباديّا.

والحاصل : أنّ قصد الأمر بالاحتياط يصيّر العمل المحتاط فيه عباديّا مع كون نفس الأمر بالاحتياط توصّليّا ولم يتغيّر بلحاظ نفسه.

ولكنّ التحقيق عدم الحاجة إلى هذا الجواب ؛ لأنّ التحرّك عن احتمال الأمر بنفسه قربي كالتحرّك عن الأمر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع الفعل عبادة على افتراض أمر معلوم ، بل يكفي الإتيان به رجاء.

والتحقيق في المسألة : أنّ أصل المبنى في عباديّة الواجبات غير ما ذكر هنا على ما هو المحقّق سابقا ؛ وذلك لأنّ المراد من قصد القربة ليس هو قصد امتثال الأمر المعلوم ، بل الأعمّ منه ومن قصد امتثال الأمر المحتمل أيضا ؛ لأنّ صحّة العبادة يكفي فيها مطلق الداعي القربي سواء كان معلوما أم محتملا ، فكما أنّ الإخلاص يتحقّق بالانبعاث والتحرّك نحو الأمر المعلوم كذلك يتحقّق الإخلاص والانبعاث نحو الأمر

ص: 171

المحتمل ثبوته ، بأن يقصد هذا الأمر على افتراض ثبوته ورجاء كونه مطلوبا شرعا.

وهنا يمكننا الإتيان بالفعل المشكوك بقصد الأمر المحتمل ثبوته فيه رجاء أن يكون ثابتا ومطلوبا ، فإنّ هذا المقدار يكفي لتحقّق الإخلاص والانبعاث بداع قربي.

وبهذا ينحلّ أصل الإشكال ولا نحتاج إلى الجواب المذكور هنا ولا إلى غيره أيضا.

* * *

ص: 172

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي

اشارة

1 - قاعدة منجزية العلم الإجمالي 2 - أركان منجزية العلم الإجمالي 3 - تطبيقات منجزية العلم الإجمالي كلّ ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العمليّة في حالات الشكّ البدوي.

والآن نتكلّم عن الشكّ في حالات العلم الإجمالي.

والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :

الأوّل : في أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

الثاني : في أركان هذه القاعدة.

الثالث : في بعض تطبيقاتها كما يأتي تباعا إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

ص: 174

قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 175

ص: 176

1 - قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومقدار هذه المنجّزيّة بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

الأمر الثاني : في جريان الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي وعدمه ثبوتا أو إثباتا.

الأمر الثالث : في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا البحث عن أصل قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي ، فيقع في ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي منجّز أو لا ، وما هو الوجه في هذه المنجّزيّة؟ وما هو المقدار الذي يتنجّز بالعلم الإجمالي هل هو خصوص الجامع أو كلّ الأطراف أو بعض الأطراف؟

وهذا البحث مرتبط بنفس العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه كلاّ أو بعضا أو عدم جريانه فيها كذلك ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كيف ينجّز وما هو المقدار الذي ينجّزه؟

الأمر الثاني : في أنّ الأصول الترخيصيّة هل يمكن أن تجري في جميع أطراف العلم الإجمالي ، أو لا يمكن؟

وهذا البحث تارة يبحث فيه ثبوتا وأخرى إثباتا ، أي هل هناك مانع عقلي من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو ليس هناك مانع عقلي؟ وبعد الفراغ عن عدم وجود المانع العقلي يبحث في أنّه هل هناك مانع إثباتي من جريانها أو ليس هناك مانع؟

الأمر الثالث : إذا أثبتنا وجود المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ أطراف

ص: 177

العلم الإجمالي إمّا في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات ، نبحث في إمكانيّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فقط وعدمها ، بمعنى أنّه هل يوجد مانع من جريانها في بعض الأطراف أو ليس هناك مانع؟

ومرجع البحث في الأمرين الأخيرين إلى مدى مانعيّة العلم الإجمالي بذاته ، أو بتنجيزه عن جريان الأصول بإيجاد محذور ثبوتيّ أو إثباتيّ يحول دون جريانها في الأطراف كلاّ أو بعضا ، وسنبحث هذه الأمور الثلاثة تباعا.

أمّا الأمر الأوّل فهو بحث حول كيفيّة كون العلم الإجمالي منجّزا للواقعة المشكوكة ، وأنّه هل يكون علّة للتنجيز بذاته أو يكون مقتضيا لذلك ، وبالتالي يكون موقوفا على عدم المانع من هذه المنجّزيّة؟

وأمّا الأمران الثاني والثالث فهما مرتبطان بمدى مانعيّة العلم الإجمالي عن جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف أو في بعض الأطراف ، فهل العلم الإجمالي بذاته بناء على مسلك العلّيّة يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ثبوتا أو إثباتا؟ وكذلك هل المنجّزيّة الثابتة للعلم الإجمالي بناء على مسلك الاقتضاء تقتضي المنع من جريان الأصول الترخيصيّة كذلك أم لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي بذاته أو بتنجيزه - على اختلاف المسلكين - يوجب محذورا ثبوتيّا ، أو إثباتيّا يحول دون جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، أو في بعضها ، أو لا يوجب ذلك؟

* * *

ص: 178

منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية

اشارة

ص: 179

ص: 180

1 - منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر

عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة

والبحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي إنّما يتّجه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ كلّ شبهة من أطراف العلم مؤمّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز التكليف فيها إلى منجّز ، ولا بدّ من البحث حينئذ عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة.

وأمّا بناء على مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهة منجّزة في نفسها بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك في الأمرين الأخيرين.

الأمر الأوّل : البحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها ، فهو يتّجه على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك سوف تكون كلّ شبهة في نفسها مؤمّن عنها.

أي أنّنا إذا لاحظنا أطراف العلم الإجمالي كلّ طرف لوحده فهو مشكوك في نفسه ، وعليه فيكون مشمولا للبراءة العقليّة ، فكيف يصبح منجّزا إذن؟ فيحتاج تنجّز كلّ طرف إلى وجود منجّز ، وهذا المنجّز هو العلم الإجمالي عندهم ، ولذلك لا بدّ أن يبحث عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهل هذه المنجّزيّة تكفي لإخراج الأطراف من دائرة البراءة العقليّة أو لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي يعتبر بيانا كالعلم التفصيلي لتكون الأطراف منجّزة أو لا؟

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فهذا البحث غير متّجه ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك

ص: 181

تكون كلّ شبهة منجّزة بنفسها على أساس منجّزيّة مطلق الانكشاف ولو احتمالا ، وهذه الأطراف يحتمل فيها التكليف فتكون منجّزة لمنجّزيّة احتمال التكليف عقلا.

نعم ، هنا يتّجه البحث حول الأمرين الثاني والثالث ، بمعنى أنّه هل يوجد محذور ثبوتي أو إثباتي في جريان الأصول الترخيصيّة الشرعيّة في كلّ الأطراف أو في بعضها ، أو لا يوجد محذور في ذلك؟

وعلى أيّ حال فنحن نتكلّم في الأمر الأوّل على أساس افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعليه فلا شكّ في تنجيز العلم الإجمالي لمقدار الجامع بين التكليفين ؛ لأنّه معلوم وقد تمّ عليه البيان ، سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الإجمالي إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع.

بعد أن عرفنا أنّ البحث في الأمر الأوّل أي أصل منجّزيّة العلم الإجمالي يتّجه على مسلك المشهور القائل بالبراءة العقليّة على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعيّة بالإتيان بكلّ الأطراف ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة أو الوجوبيّة.

الثانية : في وجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالإتيان بكلّ الأطراف في الشبهات الوجوبيّة ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة.

أمّا المرحلة الأولى فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي ينجّز مقدار الجامع المعلوم بين الأطراف ، فإذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة فالجامع بينهما معلوم وهو وجوب صلاة ما فيتنجّز.

وكذا إذا شكّ في نجاسة أحد الإناءين فإنّ الجامع وهو وجود نجاسة معلوم فيتنجّز ، فيخرج الجامع عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ البيان عليه وصار معلوما ، وهذا المقدار ثابت على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي من أنّه العلم بالجامع والشكّ في الأطراف ، أو أنّه العلم بالواقع ، أو أنّه العلم بالفرد المردّد ، كما سيأتي شرحها بالتفصيل ، لأنّه على جميع هذه المسالك يكون الجامع معلوما فيتنجّز ، ومنجّزيّته تعني حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك كلا الصلاتين أو ارتكب كلا

ص: 182

الإناءين يكون قد خالف الجامع المعلوم قطعا ، فيكون مستحقّا للعقاب لتماميّة البيان على الجامع.

والوجه في ذلك :

أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمنا حتما ، وعليه يحكم العقل بتنجّز الجامع ، ومخالفة الجامع إنّما تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين ؛ لأنّ ترك الجامع لا يكون إلا بترك كلا فرديه ، وهذا يعنى حرمة المخالفة القطعيّة عقلا للتكليف المعلوم بالإجمال.

وأمّا الوجه في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد فواضح ؛ لأنّ الجامع معلوم تفصيلا حيث تمّ البيان القطعي عليه ، ومعه فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة لهذا الجامع وحرمة المخالفة والمعصية من حيث إنّه تكليف معلوم فيدخل في العهدة والذمّة.

فإن كانت المخالفة القطعيّة جائزة لزم التنافي والتهافت ؛ لأنّ معنى المخالفة القطعيّة جواز ارتكاب كلا الإناءين أو جواز ترك كلتا الصلاتين ، وهذا يعني مخالفة الجامع ؛ لأنّ الجامع موجود ضمن الطرفين ، فمع مخالفتهما تتحقّق مخالفة الجامع ، والمفروض أنّ الجامع يجب امتثاله وإطاعته.

وأمّا الوجه في ذلك بناء على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أو بالفرد المردد ، فالجامع نفسه غير منجّز ؛ لعدم تماميّة البيان عليه مباشرة ، إلا أنّه لمّا كان الجامع موجودا ضمن أفراده في الخارج ، فحيث إنّ الفرد الواقعي هو المنجّز فيكون الجامع الموجود ضمنه منجّزا أيضا ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ، ومخالفة الجامع هنا تكون بترك كلا الطرفين أو بارتكاب كلا الطرفين ؛ لأنّ الجامع موجود ضمنا في أحدهما الواقعي غير المعلوم تفصيلا ، وبالتالي سوف يقع في التنافي والتهافت بين الجامع المعلوم ضمنا وبين ترك كلا الطرفين أو ارتكابهما معا.

وهذا المقدار يسمّى منجّزيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهو ممّا لا إشكال فيه عند أحد.

وإنّما المهمّ البحث في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، فقد وقع الخلاف في ذلك :

ص: 183

فذهب جماعة كالمحقّق النائيني (1) والسيّد الأستاذ (2) إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته الموافقة القطعيّة ، وتنجيز كلّ أطرافه مباشرة.

وذهب المحقّق العراقي (3) وغيره (4) إلى أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

ويظهر من بعض هؤلاء المحقّقين أنّ المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الإجمالي ، وهل هو علم بالجامع أو بالواقع؟

وعلى هذا الأساس سوف نمهّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الإجمالي والمباني المختلفة في ذلك ، ثمّ نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.

وأمّا المرحلة الثانية : وهي وجوب الموافقة القطعيّة فهي الأساس في هذا البحث.

والسؤال المطروح هنا هو : هل العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة عقلا أو لا؟

والجواب على ذلك مختلف ، فذهب الميرزا والسيّد الخوئي إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستلزم وجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، أي أنّ العلم الإجمالي بنفسه وبحدّ ذاته لا يستلزم أكثر من حرمة المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لتماميّة البيان عليه كما تقدّم ، إمّا مستقلاّ وإمّا ضمنا.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة فهذا لا يستلزمه نفس العلم الإجمالي. نعم ، هذا المقدار يتنجّز لجهة أخرى وهي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وتعارضها وتساقطها كما سيأتي ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك الاقتضاء.

بينما ذهب المحقّق العراقي وغيره إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كذلك يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بنحو يمنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة ، فكلّ الأطراف يجب امتثالها في الشبهات الوجوبيّة أو يجب

ص: 184


1- أجود التقريرات 2 : 242.
2- مصباح الأصول 2 : 348 - 350.
3- مقالات الأصول 2 : 232 - 233.
4- كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 408.

تركها في الشبهات التحريميّة ، والمنجّز لذلك هو نفس العلم الإجمالي ، ولا مدخليّة للأصول الترخيصيّة في ذلك ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك العلّيّة.

وذهب آخرون إلى أنّ وجوب الموافقة القطعيّة أو عدم وجوبها مبني على تحقيق الحال في هويّة العلم الإجمالي ، فإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كان معناه أنّه يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة فقط دون وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المنجّز هو الجامع فقط ، فيحرم تركه بترك الطرفين ، وأمّا امتثاله فهو يتحقّق بالامتثال لأحدهما ؛ لأنّ الجامع موجود في كلا الطرفين فيمكنه أن يحقّقه ضمن أي الفردين شاء.

وإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع كان الواقع منجّزا عليه وداخلا في العهدة ، وامتثاله لا يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين ؛ إذ قد لا يكون هو الواقع المنجّز فتبقى الذمّة مشغولة ؛ ولذلك يجب الامتثال بالإتيان بكلا الطرفين لكي يتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة ؛ لأنّها مقدّمة علميّة لتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني.

وبهذا يكون الكلام عن الموافقة القطعيّة مرتبطا بالمباني الموجودة في حقيقة العلم الإجمالي ، ولذلك يجب أوّلا استعراض هذه المباني لنرى أنّه هل يمكن على أساسها تخريج وجوب الموافقة القطعيّة أو لا يمكن ذلك؟

وهنا توجد ثلاثة اتّجاهات لتفسير حقيقة العلم الإجمالي لا بدّ من ذكرها مع أدلّتها :

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي :

ويمكن تلخيص الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي في ثلاثة مبان :

الأوّل : المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي علم تفصيلي بالجامع مقترن بشكوك تفصيليّة بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النائيني (1) والأصفهاني (2).

ص: 185


1- فوائد الأصول 4 : 10 - 12.
2- نهاية الدراية 4 : 237.

وهذا المبنى يشتمل على جانب إيجابي وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع وهذا واضح بداهة ، وعلى جانب سلبيّ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع.

الاتّجاه الأوّل : ما اختاره المحقّقان النائيني والأصفهاني ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن علم تفصيلي بالجامع وشكّ في الأطراف ، أي شكّ بدوي في كلّ فرد فرد من الأفراد التي وقعت ضمن دائرة العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : يمكننا تحليل العلم الإجمالي إلى جانبين : أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

أمّا الجانب الإيجابي فهو العلم بالجامع بنحو تفصيلي ؛ لأنّ من يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يعلم تفصيلا بوجوب صلاة ما.

وأمّا الجانب السلبي فهو أنّ هذا العلم الإجمالي لا يتعدّى ولا يسري إلى الأطراف ، بل هذه الأطراف مشكوكة في نفسها ، فالظهر في نفسه مشكوك والجمعة في نفسها مشكوكة أيضا ، إذ لا يعلم بوجوب إحداهما بنحو تفصيلي ؛ وإلا لصار العلم تفصيليّا.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني برهن على صحّة هذا الاتّجاه بقوله :

وبرهانه : أنّه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو : إمّا أن يكون بلا متعلّق ، أو يكون متعلّقا بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدّ شخصيّ مردّد بين الحدّين أو الحدود ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ العلم صفة ذات الإضافة ، فلا يعقل فرض انكشاف بلا منكشف.

وأمّا الثاني فلبداهة أنّ العالم بالإجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه.

وأمّا الثالث فلأنّ المردّد إن أريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي ، والعلم به لا يعني تعدّي العلم عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد فهو ممّا لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم به؟ لأنّ كلّ ما له ثبوت فهو متعيّن بحدّ ذاته في أفق ثبوته.

والبرهان على صحّة هذا الاتّجاه ، وأنّه لا يوجد إلا علم تفصيلي واحد وهو العلم

ص: 186

بالجامع فقط أن يقال : إنّه لو فرض وجود علم آخر غير العلم بالجامع ، فهذا العلم لا يخلو من أحد أمور أربعة ، وهي :

1 - أن يكون هذا العلم لا متعلّق له أي علم بلا معلوم.

2 - أن يكون لهذا العلم متعلّق ومتعلّقه الفرد الشخصي المتعيّن في الخارج بحدّه الشخصي ، أي هذا الفرد بعينه.

3 - أن يكون متعلّقه الفرد المردّد بين الفردين أو بين الأفراد ، أي أحدهما.

4 - أن يكون متعلّقه كلا الفردين معا بحدّهما الشخصي أي كلاهما.

وكلّ هذه الاحتمالات باطلة :

أمّا الأوّل : فهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ العلم صفة من صفات ذات الإضافة ، فهو يحتاج دائما إلى متعلّق وموصوف ، ولا يمكن تعقّله من دون ذلك ، ففرض عدم وجود متعلّق للعلم يعني أنّه لا علم إذ لا معلوم.

وبتعبير آخر : أنّ حقيقة العلم هي كونه كاشفا فلا بدّ أن يكون هناك منكشف ؛ إذ لا يعقل الكاشف من دون فرض الانكشاف والمنكشف ، نظير العلّة والمعلول فكون شيء علّة يعني وجود معلول له.

وأمّا الثاني : فهو يوجب الانقلاب ؛ لأنّ المفروض أنّه يوجد لدينا علم إجمالي بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة ، ففرض أنّ هذا العلم له متعلّق ومتعلّقه أحد الطرفين بحدّه الشخصي المتعيّن في الخارج ، معناه أنّ العلم سرى إلى الفرد المعيّن فصار وجوب الظهر معلوما بالتفصيل أو وجوب الجمعة كذلك ، وهذا معناه أنّنا نعلم تفصيلا بالفرد والطرف ، وهذا خلاف المفروض من أنّنا نعلم إجمالا.

وأمّا الثالث : فلأنّ كون متعلّق العلم هو الفرد المردّد يحتمل أحد أمرين :

الأول : أن يكون المراد مفهوم الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) بما هو صورة ذهنيّة تعلّق بها العلم ، فهذا العنوان أي ( أحدهما ) عنوان انتزاعي من الفردين جامع بينهما ؛ لأنّه يصدق في الخارج على هذا وعلى ذاك ، فإذا فرض أنّه متعلّق للعلم كان معناه أنّ العلم متعلّق بالجامع ؛ لأنّ هذا العنوان لم يتعدّ إلى الفرد ، فهو نفس العلم السابق المتعلّق بالجامع ، وليس شيئا زائدا عليه وإنّما هو تعبير آخر عنه فقط.

الثاني : أن يكون المراد واقع الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) الموجود في

ص: 187

الخارج والواقع ، فهذا مستحيل ؛ لأنّ عنوان أحدهما أو الفرد المردّد لا وجود له في الخارج ؛ إذ الموجود في الخارج الفرد المشخّص بحدّه الشخصي لا المردّد ، والعنوان والمفهوم لا يمكن وجوده في الخارج إلا ضمن المصداق الجزئي ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت في الواقع والخارج إنّما يكون ثابتا بشخصه وحده الذي يميّزه عن غيره ، فهذا العنوان إن ادّعي ثبوته بهذا الفرد بعينه وشخصه عاد إلى الاحتمال الثاني وفيه ما تقدّم ، وإن كان ثابتا لوحده فهذا غير معقول ؛ إذ لا ثبوت للمفهوم أي ضمن الحدّ الشخصي.

وأمّا الرابع : وهو أن يكون العلم متعلّقا بالفردين فهو واضح البطلان ؛ ولذلك لم يذكره هنا ، ووجهه أنّ المفروض أنّنا نعلم بوجوب صلاة من الصلاتين لا أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين ، فهذا خلاف ما هو المفروض.

وبهذا ظهر أنّ كلّ الاحتمالات المذكورة باطلة ، فيتعيّن ألاّ يكون هناك علم آخر سوى العلم التفصيلي بالجامع ، وأمّا الأفراد فلا يمكن تعلّق العلم بها بأي نحو من الأنحاء ، فتكون مشكوكة بالشكّ المقترن بالعلم السابق.

الثاني : المبنى القائل بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي يسري من الجامع إلى الحدّ الشخصي ، ولكنّه ليس حدّا شخصيّا معيّنا ؛ لوضوح أنّ كلاّ من الطرفين بحدّه الشخصي المعيّن ليس معلوما ، بل حدّا مردّدا في ذاته بين الحدّين.

وهذا ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من ( الكفاية ) (1) : ( أنّ أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد ) وأشار في تعليقته على ( الكفاية ) إلى الاعتراض على ذلك : بأنّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد مع أنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع؟

وأجاب على الاعتراض : بأنّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الإضافة كالعلم الإجمالي ، فضلا عن الوصف الاعتباري كالوجوب.

الاتّجاه الثاني : ما اختاره صاحب ( الكفاية ) في حاشية ( الكفاية ) على الواجب التخييري ، حيث قال : إنّ أحد الأقوال في الواجب التخييري كونه الواحد المردّد ،

ص: 188


1- كفاية الأصول : 175.

كما هو الحال في خصال كفّارة الإفطار العمدي ، فإنّ الواجب منها الفرد المردّد لا أحدها المعيّن ولا الجامع.

وهنا اختار نفس ما اختاره هناك ، فالعلم الإجمالي عنده متعلّق بالفرد المردّد ، ويدلّ على اختياره لذلك أنّه عند ما اعترض على كون الواجب التخييري هو الواجب الواحد المردّد بقوله : ( إنّ الوجوب صفة وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد ، من حيث إنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع لكي يتّصف بصفة ، فإنّ الصفة عبارة عن الحكم والحكم لا يكون على المجهول أو المردّد ، بل على المشخّص والمتعيّن؟ ).

فأجاب عن ذلك بأنّ الواحد المردّد لا مانع من تعلّق الوجوب به ؛ لأنّه يتعلّق به العلم الإجمالي ، والمفروض أنّ الوجوب صفة اعتباريّة وليست حقيقيّة ، بينما العلم الإجمالي صفة حقيقيّة ذات الإضافة ، فيما أنّ العلم الإجمالي يمكن تعلّقه بالفرد المردّد مع كونه صفة حقيقيّة ، فمن الأولى أن يتعلّق الوجوب الذي هو صفة اعتباريّة بالفرد المردّد ؛ لأنّ الاعتبار سهل المئونة.

والحاصل : أنّ صاحب ( الكفاية ) اختار في العلم الإجمالي كونه متعلّقا في الفرد المردّد ، فإذا علمنا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فهذا معناه أنّنا نعلم بالفرد المردّد بين هذين الفردين ، فليس العلم الإجمالي مقتصرا على الجامع ، بل يسري منه إلى الفرد لكن لا إلى الفرد المعيّن الشخصي بحدّه المتميّز به عن الآخر ؛ لوضوح أنّ الظهر بحدّها الذي يميّزها عن الجمعة ليست معلومة ، وكذا الكلام في الجمعة ، وإلا لكان لدينا علم تفصيلي بالفرد المتعيّن والمتشخّص بحدّه.

فالعلم إذا يسري من الجامع إلى الفرد من دون أن يكون لهذا الفرد تشخّص في حدّ معيّن ، وإنّما هذا الفرد حدّه مردّد بين الحدّين ، فلا هو ذاك بعينه ولا هذا بعينه ، وإنّما هو أحد الفردين والحدّين.

ويمكن الاعتراض عليه بأنّ المشكلة ليست هي مجرّد أنّ المردّد كيف يكون لوصف من الأوصاف نسبة وإضافة إليه؟ بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ؛ وذلك لأنّ العلم له متعلّق بالذات وله متعلّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنيّة المقوّمة له في أفق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج.

ص: 189

والفرق بين المتعلّقين : أنّ الأوّل لا يعقل انفكاكه عن العلم حتّى في موارد الخطأ بخلاف الثاني.

وهذا المسلك يمكن الاعتراض عليه بغير ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وأجاب عنه ، فنقول : إنّ المشكلة التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة والفرد المردّد موصوف ، فلا بدّ أن يكون الموصوف متعيّنا ومتشخّصا لكي تتعلّق به الصفة ، ليست هي المشكلة بالدقّة ؛ لأنّ هذا الاعتراض يمكن الجواب عنه بما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة اعتباريّة لا مانع من تعلّقها بالفرد المردّد.

وإنّما المشكلة في أنّ الفرد المردّد لا ثبوت له لكي يتعلّق به ما هو صفة اعتباريّة ، أو ما هو صفة حقيقيّة ذات الإضافة كالعلم الإجمالي.

فمحلّ الكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه النقطة وهي : أنّ الفرد المردّد هل له ثبوت أو لا؟ فإن كان له ثبوت فكما يمكن أن يتّصف بصفة اعتباريّة يمكن أن يتّصف بصفة حقيقيّة ، وإن لم يكن له ثبوت فكما يستحيل اتّصافه بصفة حقيقيّة يستحيل أيضا اتّصافه بصفة اعتباريّة ؛ إذ لا ثبوت له لكي يقبل حمل الصفة عليه سواء الوجوديّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة.

وللجواب عن هذا السؤال نذكر مقدّمة حاصلها : أنّ الوجود على قسمين : ذهني وخارجي ، ولكلّ من الوجودين حدّ يميّزه عن غيره.

فمثلا الإنسان العالم الموجود في الخارج والإنسان الجاهل الموجود كذلك ، لكلّ منهما حدّ يميّزه عن الآخر وهو وجود صفة العلم في هذا ، وعدم وجودها في ذاك.

والصورة الذهنيّة للعالم حدّها المميّز لها ثبوت صفة العلم في الذهن بمعنى لحاظ صفة العلم ، بخلاف الصورة الذهنيّة للجاهل فهي لحاظ عدم صفة العلم ، والجامع بين الإنسان العالم والجاهل لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ ، وإنّما هو موجود بحدّ الفرد الخارجي أي ضمن هذا أو ذاك.

إلا أنّ له ثبوتا في الذهن ؛ لوجود الصورة الذهنيّة المتشخّصة في نفسها وذاتها ، وهي صورة الإنسان الذي حدّه الحيوان الناطق الذي يميّزه عن غيره من الصور الذهنيّة ، ولذلك يمكن تعلّق العلم به.

ص: 190

وكذا الحال لو أخذنا صفة العلم فإنّ العلم له متعلّق ؛ لأنّه من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، ومتعلّقه على قسمين :

متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة للمعلوم ، وهذه الصورة هي المقوّمة للعلم في أفق النفس والانكشاف ؛ إذ لو لا ثبوت المعلوم بصورته الذهنيّة لما تحقّق العلم.

ومتعلّق بالعرض وهو الوجود الخارجي المطابق لهذه الصورة ، أو الوجود الخارجي الذي يمكن أن تنطبق عليه الصورة الذهنيّة بنحو تكون حاكية وكاشفة عنه ؛ لأنّ المطلوب أن تكون الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج ، إلا أنّ حكايتها قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة.

ولأجل ذلك قد يكون المعلوم بالعرض ثابتا في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع الخارجي ومصيبة له ، وقد يكون المعلوم بالعرض غير ثابت في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مخطئة وغير مصيبة للواقع الخارجي ، إلا أنّه في كلتا الحالتين تبقى الصورة الذهنيّة ثابتة ومتحقّقة في أفق انكشافها وهو الذهن أو النفس ؛ لأنّ العلم تعلّق أوّلا وبالذات بها ، فهي حاضرة لديه وهو مصيب بمعنى كون العلم منصبّا عليها لا على شيء آخر.

والحاصل : أنّ العلم هو نفس حضور الصورة الذهنيّة وتعلّقه بها ، سواء كان المعلوم بالعرض ثابتا أم لا ، ولذلك كان العلم يمكن فيه الخطأ والإصابة بلحاظ المعلوم بالعرض ، وأمّا بلحاظ المعلوم بالذات فهو مصيب دائما ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة حاضرة عنده وتعلّق بها.

وبعد ذلك نعود للكلام عن العلم الإجمالي وإمكان تعلّقه بالفرد المردّد أو عدم إمكان ذلك ، فنقول :

وعليه فنحن نتساءل : ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟

فإن كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود الشخصيّة رجعنا إلى المبنى السابق.

وإن كان صورة للحدّ الشخصي ولكنّها مردّدة بحدّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيّين فهذا مستحيل ؛ لأنّ الصورة وجود ذهني وكلّ وجود متعيّن في صقع ثبوته ، وتتعيّن الماهيّة تبعا لتعيّن الوجود لأنّها حدّ له.

وهنا نطرح السؤال التالي وهو : أنّ تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ما ذا يراد به؟

ص: 191

فإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد والذي هو عنوان وجامع انتزاعي ، فهذا يعني أنّ العلم تعلّق بهذا الجامع أي بالصورة الذهنيّة التي هي عبارة عن مفهوم أحد الفردين أو أحدهما ، وهذا في نفسه جامع غير أنّه جامع انتزاعي ، فيرجع هذا المبنى إلى المبنى السابق من تعلّق العلم الإجمالي بالجامع الحقيقي وهو وجوب صلاة ما.

وإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي الفرد المردّد الموجود والثابت ، فتارة يراد به الوجود الخارجي وأخرى الوجود الذهني.

فإن كان المراد الوجود الخارجي ، فمن الواضح أنّه في الخارج لا يوجد فرد زائد عن الظهر أو الجمعة يسمّى بالفرد المردّد ؛ لأنّ الموجود الخارجي إمّا الظهر أو الجمعة ، ولا وجود في الخارج للصلاة المردّدة بينهما.

وإن كان المراد الوجود الذهني أي صورة الفرد المردّد بحدّها الشخصي المتعيّن من بين الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها الشخصي والصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها الشخصي ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة عبارة عن الوجود الذهني للفرد المردّد.

وقد ذكرنا أنّ كلّ وجود سواء الخارجي أو الذهني لا بدّ أن يكون متعيّنا بحدّه الشخصي الذي به يتميّز عن غيره من الصور الذهنيّة ، وهذا يفرض ثبوت الماهيّة للفرد المردّد ؛ لأنّ تعيّن الوجود يستتبع تعيّن الماهيّة وتشخّصها.

وبما أنّ المفروض تعيّن الفرد المردّد في الوجود الذهني فلا بدّ من فرض تعيّن وتشخّص لماهيّته في صقع ثبوته أي عالم الذهن.

وهذا يفرض أن يكون الفرد المردّد متعيّنا ، إمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها ، وإمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها ، وإمّا بالصورتين معا بحدّهما ، وإمّا بصورة ذهنيّة رابعة وكلّ ذلك غير معقول ؛ لأنّ الأوّل والثاني يعني سريان العلم من الفرد المردّد إلى العلم بالفرد المعيّن تفصيلا وهو خلف المفروض ؛ ولأنّ الثالث يعني أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين وهو خلف المفروض في العلم الإجمالي من العلم بوجوب صلاة واحدة فقط ؛ ولأنّ الرابع يعني ثبوت صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة وهذه لا وجود لها في الواقع.

فيتعيّن كون العلم الإجمالي غير متعلّق بالفرد المردّد لعدم ثبوت هذا الفرد لا في

ص: 192

الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ العلم صفة وهي تستلزم ثبوت الموصوف وتعيّنه ، سواء كان الصفة حقيقة كالعلم أو اعتباريّة كالوجوب.

الثالث : ما ذهب إليه المحقّق العراقي (1) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة المقوّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحده الشخصي ، فالصورة شخصيّة ومطابقها شخصي ولكنّ الحكاية إجماليّة.

فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون أن تتبيّن هويّته ، فإنّ الرؤية هنا ليست رؤية للجامع بل للفرد ، ولكنّها رؤية غامضة.

الاتّجاه الثالث : ما اختاره المحقّق العراقي من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع.

وتوضيحه : أنّ العلم كما تقدّم له متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة المنكشفة للنفس ، وله متعلّق بالعرض وهو المطابق الخارجي لهذه الصورة الذهنيّة.

والعلم يتعلّق بالصورة الذهنيّة للواقع أي صورة الواقع لا الواقع نفسه ، سواء كان العلم تفصيليّا أم إجماليّا ، بمعنى أنّ المعلوم بالذات هو الصورة الذهنيّة والمعلوم بالعرض هو الواقع الخارجي.

فكما أنّ العلم التفصيلي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، كذلك العلم الإجمالي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، غاية الأمر الفرق بينهما في كيفيّة هذه الصورة ، بمعنى أنّه في العلم التفصيلي تكون صورة الواقع واضحة وجليّة بينما في العلم الإجمالي تكون غامضة ومشوبة ، مع كونهما معا متعلّقين بصورة الواقع ، فلا فرق بينهما في المعلوم وإنّما الفرق في كيفيّة العلم فقط.

وعلى هذا نقول : إنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الواقع أي أنّ الصورة الذهنيّة للواقع هي المقوّمة للعلم الإجمالي ، وهي المتعلّق له أوّلا وبالذات ، وهذه الصورة لا تحكي عن الجامع ، وإنّما تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي المتعيّن به في الواقع والذي يتميّز به عن غيره من الأفراد.

فهما نظير المرآة الصافية التي ترى الصورة واضحة وجليّة ، والمرآة المشوبة التي ترى الصورة بشيء من الغموض.

ص: 193


1- مقالات الأصول 2 : 230.

وهذا من قبيل رؤية الشخص فإن كانت الرؤية من قرب فهي رؤية واضحة وجليّة كالعلم التفصيلي ، وإن كانت الرؤية من بعد فهي رؤية لشبح الشخص أي للشخص ولكن بغموض وتشويش ، إلا أنّه في الحالتين تكون الرؤية للشخص الموجود المتعيّن في الواقع بحدّه الشخصي ، وليست الرؤية للجامع كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الاختلاف بين العلمين التفصيلي والإجمالي في نفس الصورة الذهنيّة من حيث الوضوح والغموض ، وأمّا المحكي في الصورتين فهو شيء واحد وهو الواقع الخارجي.

ويمكن أن يبرهن على ذلك بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ؛ لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدّ شخصي ، فلا بدّ من إضافة شيء إلى دائرة المعلوم ، فإن كان هذا الشيء جامعا كلّيّا عاد نفس الكلام حتّى ننتهي إلى العلم بحدّ شخصي.

ولمّا كان التردّد في الصورة مستحيلا كما تقدّم تعيّن أن يكون العلم متقوّما بصورة شخصيّة معيّنة مطابقة للفرد الواقعي بحدّه ، ولكنّ حكايتها عنه إجماليّة.

ثمّ إنّه يمكننا أن نذكر برهانا لهذا الاتّجاه وحاصله أن يقال : إنّه في موارد العلم الإجمالي كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، لا يمكن أن يكون متعلّق علمنا هو الجامع بحدّه الجامعي ، أي المفهوم الكلّي المنتزع من الأفراد بعد تجريدها عن الخصوصيّات وإلغاء المميّزات والمشخّصات ؛ وذلك لأنّ مثل هذا الجامع لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ كما هو واضح ؛ لأنّ الوجود مساوق للتشخّص وهو ملاك الفرديّة والجزئيّة.

وحينئذ لا بدّ أن يكون هناك شيء آخر منضمّا إلى هذا الجامع ليعقل تعلّق العلم الإجمالي به ، وهذه الخصوصيّة إمّا أن تكون كلّيّة وإمّا أن تكون شخصيّة.

فإن كانت كلّيّة عاد المحذور السابق ؛ لأنّ الكلّي لا يوجد في الخارج بحدّه الكلّي فلا بدّ من ضمّ شيء معه ، وهكذا لا بدّ أن ننتهي إلى كون تلك الخصوصيّة ليست كلّيّة بل شخصيّة.

وهذه الخصوصيّة الشخصيّة إمّا أن تكون مردّدة وإمّا أن تكون متعيّنة بحدّ شخصي.

ص: 194

فإن كانت مردّدة لزم المحذور المتقدّم سابقا على المسلك القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ، من أنّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له في الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت فهو متعيّن ومتشخّص بحدّه ، ولا حدّ للفرد المردّد زائدا عن الحديث الشخصيّين للظهر أو الجمعة ، ومن أنّ مفهوم الفرد المردّد عبارة عن الجامع فيعود الكلام السابق.

وبهذا يتعيّن أن تكون تلك الخصوصيّة التي تعلّق بها العلم والتي ينضمّ إليها الجامع هي خصوصيّة الفرد المعيّن المتشخّص بحدّه الذاتي والشخصي أي الفرد الواقعي.

غاية الأمر أنّ هذا الفرد الواقعي تعلّق به العلم بنحو غامض ومشوب أي صورته ليست واضحة وجليّة كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي ، إلا أنّ هذا لا يمنع من تعلّق العلم به كذلك كنظائره المتقدّمة.

وينبغي التنبيه هنا على شيء وهو : أنّ المقصود من تعلّق العلم الإجمالي بالواقع هو الصورة الذهنيّة للفرد الواقعي والتي هي متعلّق العلم بالذات ، وليس المقصود من الواقع نفس الفرد الموجود في الخارج فإنّه متعلّق للعلم بالعرض.

* * *

ص: 195

ص: 196

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة

اشارة

ص: 197

ص: 198

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة

إذا اتّضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم : أنّه قد ربط استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة إثباتا ونفيا بهذه المباني ، بدعوى : أنّه إذا قيل بالمبنى الأوّل مثلا فالعلم الإجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع ؛ لأنّه المعلوم فقط. والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الأطراف ، بل يكفي في موافقته تطبيقه على أحد أفراده.

وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الإجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقليّة ويكون منجّزا بالعلم ، وحيث إنّه محتمل في كلّ طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة للخروج عن عهدة التكليف المنجّز.

بعد أن عرفنا الاتّجاهات المختلفة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نأتي للكلام عن كون العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة أو لا؟

فقد قيل في الجواب عن هذا السؤال بأنّه مرتبط بتفسير العلم الإجمالي بدعوى أنّنا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كما هو المسلك الأوّل ، فحيث إنّه يوجد علم تفصيلي بمقدار الجامع ، فيكون هذا المقدار خارجا عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ الجامع قد تمّ عليه البيان فيتنجّز ، ومعنى منجّزيّته وجوب امتثاله وحرمة مخالفته.

أمّا حرمة مخالفته فقد تقدّمت وأنّه لا يجوز ترك كلا الطرفين مثلا كما في مثال الظهر والجمعة.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فحيث إنّ الجامع هو المعلوم بحدّه الجامعي فهذا يعني أنّ المطلوب هو إيجاد الجامع ، ومن الواضح أنّ الجامع يكفي في إيجاده إيجاد فرد واحد وذلك بالإتيان بإحدى الصلاتين فقط ؛ لأنّه بالإتيان بالظهر فقط أو بالجمعة

ص: 199

فقط سوف يتحقّق الإتيان بالجامع ، وأمّا الإتيان بكلتا الصلاتين فهذا لا يقتضيه نفس تنجّز الجامع ، بل يحتاج إلى دليل من خارج العلم الإجمالي.

وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أي بالفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فهذا يعني أنّ المعلوم وهو الفرد قد خرج من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه صار معلوما وقد تمّ عليه البيان ، فتحرم مخالفته القطعيّة بترك كلتا الصلاتين.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فلأنّ هذا الفرد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ودخل في العهدة ، فإذا أتى المكلّف بإحدى الصلاتين فقط فيحتمل ألاّ يكون الفرد الواقعي منطبقا عليها فتبقى الذمّة مشغولة ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني والخروج عن العهدة يقينا لا بدّ من الإتيان بكلتا الصلاتين من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني عقلا ، وبهذا تجب الموافقة القطعيّة على هذا المبنى (1).

ولكنّ الصحيح هو : أنّ المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الأوّل ؛ لأنّ الصورة العلميّة الإجماليّة على الثالث وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه ولكنّ المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والإجمال في تلك الصورة معا ، وبذلك تميّزت عن الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم إنّما هو المقدار الموازي لعنصر الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع.

ومن الواضح أنّ البراءة العقليّة إنّما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الإجمال ؛ لأنّ الإجمال ليس بيانا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ المبنى الثالث لا يختلف من حيث النتيجة عن المبنى الأوّل فلا يتنجّز به أكثر من الجامع.

وتوضيح ذلك : أنّ المبنى الثالث كان يفترض أنّ العلم الإجمالي فيه جانبان :

ص: 200


1- وأمّا إذا قلنا بالمسلك الثاني من كون العلم الإجمالي متعلّقا بالفرد المردّد ، فهو على فرض إمكانه سوف يعود إلى المبنى الأوّل ؛ لأنّ الاحتمال المعقول له هو كونه متعلّقا بمفهوم الفرد المردّد والذي هو جامع انتزاعي. فعلى هذا التصوّر سوف لا يتنجّز إلا الجامع وهو إحدى الصلاتين فقط ، فيكفي الإتيان بصلاة واحدة ؛ لأنّه يصدّق عليها هذا العنوان.

أحدهما : أنّه علم بالجامع ، والآخر : أنّه علم بالواقع بنحو الحكاية الإجماليّة.

فبناء عليه تكون الصورة العلميّة التي تعلّق بها العلم الإجمالي مركّبة من جزءين : أحدهما واضح وجلي وهو الجامع ، والآخر غامض ومشوب وهو الفرد الواقعي ، فيكون عنصر الوضوح مندمجا مع عنصر الغموض ولذلك تكون الصورة العلميّة إجماليّة ، بخلاف العلم التفصيلي فإنّ الصورة العلميّة فيه واضحة تماما فهي صورة جليّة وتفصيليّة تماما.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الصورة الإجماليّة وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه الشخصي إلا أنّها مطابقة غير واضحة بل غامضة في جانب ، وواضحة وجليّة في جانب آخر ، والمقدار الذي يتنجّز هنا هو المقدار المطابق لجانب الوضوح ؛ لأنّه بهذا المقدار يكون قد تمّ البيان والكشف ، دون المقدار المطابق لجانب الخفاء والغموض ؛ لأنّه يكون عندئذ مظلما غير بيّن ولا منكشف.

والدليل على ذلك : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تخرج من دائرتها إلا المقدار الذي تمّ عليه البيان والعلم ، أي المقدار المنكشف والواضح دون المقدار الغامض والمبهم والمشوب ، فإنّه لا انكشاف ولا إرادة بلحاظه.

والمقدار الواضح والمبيّن هنا هو الجامع فقط دون الفرد ؛ لأنّه لا بيان ولا وضوح في تعلّق العلم بالفرد بحدّه الشخصي وإلا لصار العلم تفصيليّا.

وبتعبير آخر : أنّه يوجد في الصورة العمليّة المعلومة بالعلم الإجمالي جانبان :

أحدهما مبيّن وهو الجامع ، والآخر مجمل وهو الفرد ، أمّا الجانب المبيّن فيخرج عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ عليه البيان ، وأمّا الجانب المجمل فيبقى داخلا في القاعدة ؛ لأنّه لم يتمّ عليه البيان وإلا لكان هناك علم تفصيلي بالفرد الواقعي وهو خلف.

فتحصّل أنّ المقدار المنجّز هو الجامع ؛ لأنّه المطابق لجانب الوضوح والبيان ، فلا يجب إلا تحقيق الجامع وهذا يتمّ بالإتيان بأحد الفردين ، فهو كالمبنى الأوّل في النتيجة العمليّة.

وعليه ، فالمنجّز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدّمة ، وعليه فالعلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي يكون المنجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يتحقّق بالإتيان بفرد من أفراده.

ص: 201

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته لا يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة ، سواء كان علما بالجامع أو بالواقع أو بالفرد المردّد ، وإنّما لم يذكر الفرد المردّد هنا فلأنّه غير معقول في نفسه إلا أن يرجع إلى الجامع الانتزاعي فيكون كالمبنى الأوّل.

هذا تمام الكلام في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة دون الموافقة القطعيّة في نفسه وبقطع النظر عن الأصول الترخيصيّة.

إلا أنّه يمكن أن يقال بأنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة لا لنفسه وإنّما لدليل من الخارج ؛ ولذلك قال :

ويوجد تقريبان لإثبات أنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة :

الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني (1) ، وحاصله مركّب من مقدّمتين :

الأولى : أنّ ترك الموافقة القطعيّة بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتماليّة للجامع ؛ لأنّ الجامع إن كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف وإلا فلا.

والثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المنجّز غير جائزة عقلا ؛ لأنّها مساوقة لاحتمال المعصية ، وحيث إنّ الجامع منجّز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتماليّة.

التقريب الأوّل : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الأصفهاني ، بمعنى أنّه لم يصرّح بذلك وإنّما ظاهر بعض عباراته تدلّ على ذلك ، وهذا التقريب مركّب من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : إذا قلنا : إنّ الموافقة القطعيّة غير واجبة فمعناه أنّه يجوز الإتيان بأحد الفردين دون الآخر ، وحينئذ يمكن أن يكون الجامع قد امتثل ضمن الفرد الذي أتى به بأن كان الوجوب متعلّقا به في الواقع فتتحقّق الموافقة ، إلا أنّه يمكن أيضا أن يكون الطرف الآخر هو الواجب واقعا فلا يكون الجامع قد امتثل.

وهذا يعني أنّ ترك الموافقة القطعيّة لازمه المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع.

المقدّمة الثانية : أنّ المخالفة الاحتماليّة للتكليف المعلوم أي الجامع غير جائزة ؛ وذلك

ص: 202


1- راجع : نهاية الدراية 3 : 91 - 95.

لأنّ مخالفة التكليف المعلوم ولو احتمالا تساوق احتمال الوقوع في المعصية ، وهي قبيحة عقلا.

والنتيجة : هي أنّ الجامع ما دام قد تنجّز وقد علم اشتغال الذمّة به ، وما دامت المخالفة الاحتماليّة تساوق الوقوع في المعصية القبيحة عقلا ، فاللازم الإتيان بكلا الفردين لكي يتحقّق إبراء الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، ولكي لا يقع في المعصية القبيحة عقلا ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة حينئذ.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدّمة الأولى ، فإنّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتماليّة له ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين ، والمفروض أنّ العلم واقف على الجامع بحدّه ، وأن التنجّز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتماليّة للمقدار المنجّز أصلا.

ويرد على هذا التقريب : أنّ المقدّمة الأولى غير تامّة ، بمعنى أنّه لا يوجد مخالفة احتماليّة للجامع فيما إذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر.

وتوضيح ذلك : أنّ المقدار المنجّز هنا المفروض أنّه الجامع ، وحينئذ يطرح السؤال التالي وهو أن الجامع المنجّز ما المراد به؟

فإن كان المقصود به الجامع الموجود ضمن الفرد فهذا معناه أنّ المنجّز هو الفرد لا الجامع ، وهو مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم ، وهذا لا يقول به المحقّق الأصفهاني.

وإن كان المقصود به الجامع بحدّه الجامعي - كما هو مقصود المحقّق الأصفهاني - على أساس المبنى الأوّل ، فحينئذ نقول : إنّ الجامع بحدّه الجامعي من دون نظر إلى الفرد مطلقا لا الفرد الواقعي ولا الفرد المردّد ، إذا تنجّز فهو لا يقتضي أكثر من الإتيان بالجامع ، وامتثال الجامع لا يكون إلا بامتثال أحد أفراده ؛ لأنّه يتحقّق في الخارج ضمن الفرد.

وعليه فإذا امتثل أحد الفردين وترك الآخر يكون قد حقّق موافقة الجامع قطعا لا احتمالا ؛ لأنّ الجامع صار موجودا وممتثلا ضمن الفرد الذي أتى به ، فلا يكون تركه للفرد الآخر مخالفة أصلا ولو احتمالا.

ص: 203

والوجه في ذلك : أنّ التنجّز يتحدّد بالمقدار الذي تمّ عليه العلم والبيان كما تقدّم ، وهو هنا الجامع بحدّه الجامعي فقط ، فيكون الواجب على المكلّف موافقة هذا الجامع فقط ، وهذا يتحقّق بامتثال فرد من أفراده ، وبالتالي تحصل الموافقة القطعيّة بالإتيان بفرد واحد ، ولا تحصل المخالفة أصلا ولو الاحتماليّة.

وبكلمة أخرى : أنّ الإتيان بفرد وترك الفرد الآخر يحتمل أن يكون فيه موافقة للواقع ويحتمل أن يكون فيه مخالفة للواقع ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ الواقع ليس هو المنجّز ؛ لأنّ المحقّق الأصفهاني لا يقول بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد لا الواقعي ولا المردّد وإنّما يقول بتعلّقه بالجامع فقط ، والجامع كما قلنا يتحقّق وجوده وامتثاله في الخارج بالإتيان بفرد من أفراده ، والمفروض أنّه قد أتى به فلا مخالفة أصلا.

ففرق بين مخالفة الواقع وبين مخالفة الجامع ، فإنّ مخالفة الواقع القطعيّة تكون بترك الطرفين والاحتماليّة تكون بترك فرد والإتيان بفرد.

وأمّا مخالفة الجامع فهي لا تكون إلا بعدم الإتيان بالفردين فقط ، وأمّا الإتيان بفرد وترك الآخر أو الإتيان بالفردين معا فهذه تعتبر موافقة قطعيّة للجامع ؛ لأنّه يتحقّق ضمن الفرد الأوّل في الخارج ولا حاجة للفرد الثاني سواء وجد أم لا.

الثاني : ما ذهبت إليه مدرسة المحقّق النائيني (1) ( قدس اللّه روحه ) ، فإنّها مع اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بصورة مباشرة ؛ لأنّه لا ينجّز أزيد من الجامع ، قامت بمحاولة لإثبات استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

التقريب الثاني : ما أفادته مدرسة الميرزا ، فهي بعد اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه إنّما ينجّز مقدار الجامع فقط ، والجامع يكفي في إيجاده وتحقّقه أي فرد من أفراده ، إلا أنّها مع ذلك قامت بالاستدلال على وجوب الموافقة القطعيّة لأطراف العلم الإجمالي بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة تقع في نقاط أربع :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

ص: 204


1- راجع : أجود التقريرات 2 : 242 - 243.

ثانيا : يترتّب على ذلك عدم إمكان جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف ؛ لأنّه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ثالثا : يترتّب على ذلك أنّ الأصول المذكورة تتعارض فلا تجري في أي طرف ؛ لأنّ جريانها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكلّ غير ممكن.

رابعا : ينتج من كلّ ذلك أنّ احتمال التكليف في كلّ طرف يبقى بدون أصل مؤمّن ، وكلّ احتمال للتكليف بدون مؤمّن يكون منجّزا للتكليف ، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل في كلّ طرف باعتبار تنجّزه ، لا باعتبار وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي بعنوانها.

حاصل التقريب أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّه ينجّز مقدار الجامع فصار الجامع داخلا في الذمّة والعهدة ، فيحكم العقل بقبح معصيته ، ومعصية الجامع تتحقّق ضمن ترك كلّ الأطراف ؛ لأنّه إذا ترك كلّ الأطراف فسوف يترك الجامع المنجّز عليه قطعا فيكون عاصيا فيستحق العقاب ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وثانيا : أنّنا إذا قلنا بحرمة ترك كلّ الأطراف فلازمه أنّ الأصول الترخيصيّة لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة وارتكاب المعصية قطعا ، وهذا قبيح بحكم العقل. فلا تجري الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى الترخيص في المعصية القبيحة عقلا.

وثالثا : أنّنا اذا قلنا بعدم إمكان جريان الأصول في تمام الأطراف فلازم ذلك أن تتعارض الأصول فيما بينها ، وبالتالي تساقطها ؛ وذلك لأنّ كلّ طرف في نفسه مشمول للأصل المؤمّن ، باعتباره مشكوكا ، وحيث إنّ الأصول لا يمكن جريانها في تمام الأطراف ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّ جريانها في بعض الأطراف دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيلزم من ذلك القول بتعارضها ، ومقتضى التعارض التساقط ؛ لأنّه الأصل الأوّلي عند التعارض كما سيأتي في محلّه.

ورابعا : والنتيجة على ضوء ما ذكرنا هي : أنّ كلّ طرف من أطراف العلم

ص: 205

الإجمالي لا مؤمّن عليه فعلا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة قد سقطت عن الحجّيّة فعلا بلحاظ هذه الأطراف.

وفي هذه الحالة يحكم العقل بالتنجيز على أساس وجوب دفع العقاب والضرر المحتمل عن النفس ، فإنّنا في كلّ طرف نحتمل التكليف ولا يوجد مؤمّن لنا بلحاظه فنحن نحتمل الضرر والعقاب إذا تركناه ، واحتمال الضرر والعقاب ينجّز التكليف المحتمل ؛ لأنّ العقل يستقلّ بذلك.

والنتيجة العمليّة هي : أنّ كلّ طرف يكون منجّزا بمنجّز عقلي فتجب موافقته وتحرم مخالفته ، وهذه هي الموافقة القطعيّة إلا أنّها ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ، وإنّما هي ناشئة من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

والتحقيق : أنّ المقصود بتعارض الأصول المؤمّنة في الفقرة الثالثة إن كان تعارض الأصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، على أساس أنّ جريانها في كلّ من الطرفين غير ممكن وفي أحدهما خاصّة ترجيح بلا مرجّح ، فهذا غير صحيح ؛ لأنّ هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على الجامع.

والتحقيق أن يقال : ما هو المقصود من تعارض الأصول؟

والجواب على ذلك فيه احتمالان :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المقصود أنّ الأصول العقليّة الترخيصيّة الشاملة للبراءة العقليّة تتعارض فيما بينها بلحاظ جريانها في تمام الأطراف ، فهذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّنا نجري البراءة العقليّة ابتداء ومباشرة في تمام الأطراف بوصفها مشكوكة ؛ لأنّ هذا المقدار زائد عن الجامع المعلوم والذي تمّ عليه البيان.

فكلّ طرف من الأطراف تجري فيه البراءة ؛ لأنّه مشكوك ، أي هذا الطرف في نفسه وبقطع النظر عن الجامع المعلوم يكون موردا للبراءة ؛ لأنّ موضوعها متحقّق بلحاظه ، وأمّا الجامع فبما أنّه معلوم وقد تمّ البيان عليه فلا تجري فيه البراءة لخروجه عن دائرتها.

فإذا نظرنا إلى كلّ طرف طرف كانت البراءة جارية فيه ولا تعارض بين الأطراف في ذلك ، وأمّا مقدار الجامع فلا تجري فيه البراءة أصلا ، ولتوضيح المطلب أكثر نقول :

وبعبارة أخرى : أنّنا عند ما نعلم إجمالا بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، يكون

ص: 206

كلّ من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص موردا للبراءة العقليّة ، وبما هو وجوب مضاف إلى الجامع خارجا عن مورد البراءة فيتنجّز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ، ويؤمّن عنه بما هو مضاف إلى الفرد.

وبعبارة أخرى أوضح : أنّنا في المثال المذكور أي العلم بوجوب صلاة الظهر أو وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، يكون لدينا خصوصيّتان بلحاظ كلّ طرف على هذا النحو.

فوجوب صلاة الجمعة تارة ينظر إليه في نفسه فهو وجوب مشكوك ، وأخرى ينظر إليه بما هو مضاف إلى الجامع أي بما هو فرد للجامع الذي تنجّز ، وهكذا الحال بالنسبة لصلاة الظهر توجد فيها هاتان الخصوصيّتان.

وحينئذ نقول : إنّ كلّ واحد من الوجوبين بحده الشخصي وبما هو في نفسه إذا نظرنا إليه كذلك فلا يخرج عن كونه وجوبا مشكوكا بهذه الخصوصيّة ، إذ لا علم لنا بوجوب الظهر بحدّه وخصوصيّاته ولا بوجوب الجمعة كذلك ، وهنا تجري البراءة العقليّة للتأمين عن كلّ فرد من الفردين بلحاظ نفسه ؛ لأنّه مشكوك والبراءة موردها الشكّ وعدم البيان.

وأمّا إذا نظرنا إلى كلّ واحد من الوجوبين بما هو فرد من أفراد الجامع المنجّز فهنا لا تجري البراءة عن كلّ واحد من الوجوبين ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يمكن أن يكون هو المحكي عنه بالجامع فيكون منجّزا ، فإذا جرت البراءة في كلّ منهما كان لازم ذلك ترك امتثال الجامع ؛ لأنّه إنّما يمتثل في الخارج ضمن أحد الوجوبين ، فيكون تركهما معا تركا لمقدار الجامع أي ( وجوب صلاة ما ).

والحاصل : أنّنا نجري البراءة في الخصوصيّة المشكوكة لا في الخصوصيّة المعلومة ، وهنا كل فرد بلحاظ نفسه فهو مشكوك فيكون مجرى للبراءة ، وبلحاظ إضافته للجامع فهو معلوم ؛ لأنّ وجوب الظهر يعتبر مصداقا لوجوب صلاة ما وكذا وجوب الجمعة ، أي كلّ وجوب بعنوانه الخاصّ ( الظهر والجمعة ) مشكوك ولكن بعنوانه العامّ الجامعي ( صلاة ما ) فهو معلوم وليس مشكوكا ، فتجري البراءة عن الفرد بلحاظه الأوّل دون لحاظه الثاني ، وهذا نتيجته التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد

ص: 207

الواحد إذا كان مشتملا على خصوصيّتين إحداهما مشكوكة والأخرى معلومة ، ولذلك نقول :

وهذا التبعيض في تطبيق البراءة العقليّة معقول وصحيح ، بينما لا يطّرد في البراءة الشرعيّة ؛ لأنّها مفاد دليل لفظيّ وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي لا يساعد على ذلك.

فإن قيل : إنّ لازم هذا القول التبعيض في جريان البراءة حتّى بلحاظ الفرد الواحد ، وهو غير معقول في نفسه.

كان الجواب : أنّ التبعيض في البراءة العقليّة معقول وصحيح ؛ وذلك لأنّ موضوعها مبني على الدقّة العقليّة لا على المسامحة العرفيّة ، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك البيان في شيء فإنّه يحكم باستحقاق العقاب على مخالفته ؛ لأنّه يكون منجّزا ، وإذا أدرك أنّه لا بيان في هذا المورد فيحكم بالبراءة والتأمين.

فحكم العقل تابع لإدراك الموضوع وهو ناشئ من ثبوت حقّ الطاعة وعدم ثبوته المترتّب على وجود البيان وعدمه.

ولذلك تكون الموضوعات بالنسبة للأحكام العقليّة بمثابة العلل ، وحيث إنّه في هذا الفرد يوجد خصوصيّتان إحداهما مشكوكة إذا نظرنا إليه بنفسه والأخرى معلومة إذا نظرنا إليه بما هو فرد للجامع المعلوم والمنجّز ، فلا محالة يستتبع ذلك حكم العقل بالبراءة بلحاظ الجهة المشكوكة ، وبالتنجيز أو عدم التأمين بلحاظ الجهة المعلومة.

فالتبعيض هو المتعيّن والصحيح.

وأمّا البراءة الشرعيّة فلا يعقل فيها التبعيض هنا ، بل هي إمّا أن تجري بلحاظ كلتا الخصوصيّتين وإمّا أن لا تجري كذلك ، والوجه هو أنّ البراءة الشرعيّة مجعولة بدليل شرعي لفظي كالآيات والروايات فيكون مفادها ودائرتها محدّدة بحدود ما لهذا الدليل من ظهور عرفي ، وعليه فلا بدّ أن نعرف ما هو هذا الظهور العرفي؟ وهل هو مبني على الدقّة في ملاحظة الخصوصيّات أو على المسامحة؟

والجواب : أنّ الظهور العرفي مبني على المسامحة وعدم الدقّة والتحليل ، بمعنى أنّ العرف إذا نظر إلى الفرد في مثالنا إمّا أن يحكم بجريان البراءة والتأمين وإمّا ألاّ يحكم بذلك ، من دون التفصيل بين كون هذا الفرد فيه خصوصيّتان إحداهما مشكوكة

ص: 208

والأخرى معلومة ؛ لأنّ هذا التفصيل مبني على الدقّة العقليّة البالغة والتي يتغافل عنها العرف ولا يدركها.

والحاصل : أنّ العرف عند ما ينظر إلى الفرد بما هو كذلك من دون نظر إلى خصوصيّاته ، إمّا أن يحكم بأنّه مورد للبراءة أو مورد للتنجيز ولا يفصّل بين الأمرين.

وإن كان المقصود التعارض بين الأصول المؤمّنة الشرعيّة خاصّة فهو صحيح ، ولكن كيف يرتّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمّن عنه بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من تعارض الأصول تعارض الأصول الترخيصيّة الشرعيّة فقط ، كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الحلّ أو أصالة الطهارة أو الاستصحاب النافي للتكليف.

وهذا صحيح لما ذكرناه من أنّ هذه الأصول الشرعيّة تابعة لمقدار الظهور العرفي من دليلها ، والظهور العرفي لا ينظر إلى الطرف بما هو مركّب من خصوصيّتين إحداهما معلومة والأخرى مشكوكة ، وإنّما ينظر إلى الطرف بما هو طرف ، وحينئذ تجري الأصول الترخيصيّة الشرعيّة بلحاظ كلّ طرف وتتعارض ، ومقتضى التعارض التساقط.

إلا أنّه بعد التساقط لا ينتهي الأمر إلى التنجيز العقلي كما هو المدّعى في هذا التقريب ، وإنّما تجري هنا البراءة العقليّة ؛ لأنّ هذا التقريب مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعندئذ يجري الكلام المتقدّم من التبعيض.

وصفوة القول : أنّه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقليّة ، بل لا معنى لذلك ؛ إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تامّا في كلّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلا لم تجر البراءة ؛ لعدم المقتضي لا للتعارض.

وصفوة القول : أنّه يمكننا القول كاعتراض على المقدّمة الثالثة بأنّ الأصول الترخيصيّة المتعارضة إن كان المقصود بها الأصول الترخيصيّة العقليّة بما فيها البراءة العقليّة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن تصوّر التعارض ؛ وذلك لأنّ الأحكام العقليّة معلولة لموضوعاتها ، فإن أدرك العقل ثبوت الموضوع حكم بالبراءة والترخيص.

ص: 209

وإن لم يدرك الموضوع لم يحكم بالبراءة أصلا.

وهنا موضوع البراءة - وهو عدم البيان - والذي هو الملاك للحكم العقلي بالبراءة إن كان تامّا وثابتا في كلّ الأطراف فسوف يحكم العقل بالبراءة في كلّ الأطراف ، من دون تعارض أو تصادم.

وإن لم يكن الموضوع تامّا وثابتا فالعقل لن يحكم بالبراءة أصلا ، لا أنّه يحكم بها ولكنّها تسقط بسبب المعارضة ، أي أنّ سقوطها حينئذ يكون من باب عدم المقتضي لثبوتها لا من باب وجود المانع بعد الفراغ عن وجود المقتضي.

وفي مقامنا حيث إنّ كلّ طرف فيه خصوصيّتان : إحداهما مشكوكة وهي وجوب كلّ واحد من الفردين بخصوصيّاته وحدوده ، والأخرى معلومة وهي كونه فردا للجامع أي مصداقا لوجوب صلاة ما ، وحينئذ تجري البراءة للتأمين عن كلّ فرد بخصوصيّته ؛ لأنّها مشكوكة ولكنّها لا تجري للتأمين أيضا عن كلّ فرد بما هو منسوب ومضاف ومصداق للجامع ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون معلوما.

والنتيجة النهائيّة هي : أنّ المنجّزيّة ثابتة للجامع بمعنى أنّه لا يجوز تركه بترك كلا الفردين ، والتأمين ثابت بلحاظ كلّ فرد بخصوصيّته ، فيجوز ترك كلّ الأفراد بلحاظ خصوصيّاتها ، ولكن لا يجوز تركها جميعا بلحاظ الجامع ، فيكون الجامع المنجّز مانعا من ترك الجميع فعلا بعد أن كان المقتضي للترك فيها جميعا ثابتا.

وبتعبير آخر : يجوز الترك بلحاظ كلّ فرد فرد إلا أنّه لا يجوز الجمع بين هذه التروك ، أما الأوّل فلجريان البراءة ؛ لأنّ كلّ فرد مشكوك ، وأمّا الثاني فلأنّ منجّزيّة الجامع تقتضي حرمة ترك الجميع ، فينتج أنّه يجوز ترك البعض ويجوز فعل البعض ، لا أنّه يجب فعل الجميع كما هو المدّعى في هذا التقريب.

وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، وهذا بنفسه من المنبّهات إلى بطلان القاعدة المذكورة.

وهكذا يتّضح لنا أنّه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكنا تخريج وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، بخلافه على مسلك حقّ الطاعة فإنّ الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي واجبة ؛ لأنّه بعد تعارض

ص: 210

الأصول الترخيصيّة الشرعيّة وتساقطها يحكم العقل بالتنجيز ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك ومحتمل التكليف ، واحتمال التكليف بنفسه منجّز ما لم يصدر الترخيص ، والمفروض أنّ الترخيص لم يثبت بسبب التعارض والتساقط.

ويمكننا أن نجعل هذا المورد من الشواهد والقرائن المنبّهة على بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يوجد اتّفاق عرفي ومتشرّعي على أنّه في موارد العلم الإجمالي تجب الموافقة القطعيّة.

نعم ، إذا نشأ العلم الإجمالي من شبهة موضوعيّة تردّد فيها مصداق قيد من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعيّة حتّى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب إكرام العالم وتردّد العالم بين زيد وخالد ، فإنّ كون الإكرام إكراما للعالم قيد للواجب فيكون تحت الأمر وداخلا في العهدة ، ويشكّ في تحقّقه خارجا بالاقتصار على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وجوب الاحتياط حينئذ.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالأمر الأوّل.

يبقى مطلب : وهو أنّ وجوب الموافقة القطعيّة لا يمكن تخريجها على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إلا أنّ هذا لا يشمل جميع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، بل يختصّ في الشبهات الحكميّة وبعض الشبهات الموضوعيّة ؛ إذ يوجد بعض الشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي تجب فيها الموافقة القطعيّة حتّى على مسلك المشهور ، وذلك فيما إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعيّة دائرا بين فردين أو أكثر وكان الحكم المعلوم بالإجمال مقيّدا بقيد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ، بحيث يكون الشكّ في كون أحد الفردين هو المحقّق لمصداق هذا القيد خارجا.

ومثاله : ما إذا علمنا بوجوب إكرام العالم فهنا الحكم المعلوم هو وجوب الإكرام المقيّد بقيد ، وهذا القيد هو كون الإنسان الذي يجب إكرامه عالما ، فإذا شككنا في مصداق هذا القيد بين فردين في الخارج فهل زيد هو العالم ليجب إكرامه ويكون إكرامه محقّقا للأمر ومفرّغا للذمّة بما اشتغلت به أو هو خالد؟

فهنا يجب الموافقة القطعيّة بإكرام كلا الفردين ؛ وذلك لأنّ الخصوصيّة وهي ( كون الإنسان عالما ) قد اشتغلت بها الذمّة يقينا ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني لا بدّ من

ص: 211

إكرامهما معا ؛ لأنّه إذا اقتصر على إكرام أحدهما فلا يعلم بأنّه قد حقّق الوجوب المقيّد بقيد العالم ، إذ لعلّه موجود في الفرد الآخر.

وبهذا يتّضح أنّه إذا شكّ في الشبهات الموضوعيّة تجب الموافقة من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فيجب الاحتياط بامتثال كلا الفردين ، والميزان لذلك أنّ الذمّة قد اشتغلت بالحكم المقيّد بحيث إنّ القيد صار تحت الأمر ودخيلا في العهدة.

وأمّا إذا لم يكن الحكم مقيّدا بقيد ولم يكن القيد دخيلا في العهدة فلا يجب الاحتياط والموافقة القطعيّة.

وهذا مثاله واضح في الشبهات الحكميّة بشكل عامّ ، كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ؛ لأنّ قيد الجمعة أو الظهر ليس دخيلا في العهدة وليس تحت الأمر ، وإنّما الداخل في العهدة هو الحكم المطلوب أي وجوب الصلاة ، وهذا يتحقّق بامتثال أحد الفردين.

وهكذا الحال في الشبهات الموضوعيّة التي لم يقيّد فيها الحكم بقيد ، كما إذا دار الأمر بين وجوب التصدّق عند مجيء زيد أو وجوب الإكرام عند مجيء خالد ، وعلمنا إجمالا بمجيء أحدهما ، فهنا لا تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا يعلم الحكم بخصوصيّته وإنّما الذي يعلم هو ( وجوب ما ) أي أحد الوجوبين ، وهذا العنوان يتحقّق بامتثال أحدهما في الخارج ؛ لأنّه يكون مصداقا لوجوب ما أو لأحدهما ، وليس ذلك إلا لأنّه لا يعلم بالخصوصيّة الواجبة هل هي الإكرام أو هي التصدّق؟

وبهذا ينتهي الكلام حول الأمر الأوّل أي حول منجّزيّة العلم الإجمالي بنفسه وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة.

* * *

ص: 212

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه

ص: 213

ص: 214

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثاني وهو جريان الأصول الشرعيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي ، فقد تقدّم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الإثبات معا في مباحث القطع (1) ، واتّضح أنّ المشهور بين الأصوليّين استحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ؛ لأدائه إلى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم أي في المخالفة القطعيّة ، وأنّ الصحيح هو إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلا غير أنّ ذلك ليس عقلائيّا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجبا لانصراف أدلّة الأصول عن الشمول لجميع الأطراف.

وينبغي أن يعلم أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الأصول الشرعيّة المؤمّنة.

وأمّا الأمر الثاني : فهو البحث حول جريان الأصول الشرعيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي وعدم جريانها.

وهذا البحث تارة يقع في مرحلة الثبوت أي الإمكان في مقابل الامتناع والاستحالة ، وأخرى يبحث فيه في مرحلة الإثبات أي بعد التسليم بأنّه ممكن عقلا فهل هو واقع في الخارج أم لا؟

والكلام عن ذلك تقدّم سابقا عند الحديث عن منجّزيّة القطع الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهناك قلنا : إنّه يوجد قولان في المسألة :

القول الأوّل : ما هو المشهور من أنّه يستحيل عقلا وثبوتا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، ووجهه هو أنّ الترخيص لتمام الأطراف يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو الجامع الذي تمّ عليه البيان

ص: 215


1- في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

والعلم والذي صار منجّزا على المكلّف وداخلا في العهدة ، فتكون مخالفته القطعيّة قبيحة عقلا ويستحقّ عليها العقاب ؛ لأنّه قد خالف ما تمّ عليه البيان ، مضافا إلى التضادّ بين الترخيص والتنجيز.

وحينئذ لا داعي للبحث الإثباتي ما دام العقل يحكم باستحالة جريانها كذلك.

والقول الثاني : ما هو الصحيح من أنّه لا مانع عقلا في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ حكم العقل بقبح المخالفة وكونها معصية إنّما هو لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، وهذا الحقّ كما تقدّم في محلّه ثابت له في كلّ مورد وانكشاف ما لم يأذن هو نفسه بالترخيص ؛ لوضوح أنّه إذا أذن بالترخيص فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله وقبح معصيته ؛ لأنّ إذنه كذلك يعتبر إسقاطا لحقّه في هذا الصدد.

وتقدّم أنّ الشارع يمكنه الترخيص في موارد الانكشاف غير القطعي أي كلّ ما ليس قطعا ، وقلنا : إنّ القطع الإجمالي يمكن الترخيص فيه ؛ لأنّه ليس علما تفصيليّا ، أي أنّ العالم بالإجمال يحتمل ألاّ يكون معلومه في هذا الطرف بخصوصه أو في ذاك بخصوصه ، ولذلك يعقل في حقّه الترخيص من أجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الاقتضائيّة في مقابل الإلزام والاحتياط من أجل الحفاظ على ملاكات الإلزام الواقعيّة الاقتضائيّة.

فلا مانع منه ثبوتا وعقلا إلا أنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون بدرجة من الأهمّيّة تفوق أو تساوي ملاكات الإلزام ، بل هي دائما أقلّ أهمّيّة منها ، وهذا معناه أنّهم لا يتعقّلون الترخيص في تمام الأطراف ؛ لأنّ ملاكاته بنظرهم ليست هي الأهمّ ، بل إمّا مساوية على أحسن تقدير ، وإمّا أقلّ أهمّيّة عادة وغالبا.

ومن هنا كان الارتكاز العقلائي والذي يعتبر قرينة لبّيّة متّصلة بخطابات الترخيص مقيّدا متّصلا لإطلاق هذه الأدلّة ، وصارفا لظهورها إلى غير موارد العلم الإجمالي أيضا.

هذا كلّه تقدّم في الجزء السابق ، إلا أنّ هذا كان بالنسبة للأصول الشرعيّة الترخيصيّة والمؤمّنة فقط.

ص: 216

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة للتكليف فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا في جريانها في كلّ أطراف العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان كلّ طرف موردا لها في نفسه ، حتّى ولو كان المكلّف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليف واحد ، كما إذا علم بوجود نجس واحد فقط في الإناءات المعلومة نجاستها سابقا فيجري استصحاب النجاسة في كلّ واحد منها.

وأمّا الأصول الشرعيّة المنجّزة : فلا إشكال في جريانها في أطراف العلم الإجمالي بتمامها ، ولا محذور في ذلك لا في عالم الثبوت ولا في عالم الإثبات.

أمّا المحذور الثبوتي فكان إشكال التضادّ بين الإلزام الواقعي والترخيص الظاهري ، وهنا لا يوجد ترخيص ظاهري ، بل إلزام ظاهري فلم يجتمع الضدّان ، وكان أيضا إشكال الترخيص في المخالفة القطعيّة القبيحة عقلا ، وهنا نريد إثبات الموافقة القطعيّة بتنجّز كلّ الأطراف وهي حسنة عقلا وليست قبيحة.

وأمّا المحذور الإثباتي فكان الارتكاز العقلائي القاضي بأنّ الأغراض الترخيصيّة ليست أهمّ من الأغراض الإلزاميّة ، فكيف تقدّم على الإلزام؟

وهنا نريد إثبات أهمّيّة الأغراض الإلزاميّة بإجراء الأصول التنجيزيّة في تمام الأطراف فهو موافق للارتكاز العقلائي.

وحينئذ نقول : إذا دار الأمر بين نجاسة هذا الإناء أو ذاك بالنجاسة البوليّة ، ونفرض أنّهما كانا معا سابقا نجسين بالدم مثلا وشككنا في بقائهما على نجاستهما السابقة ، فيمكننا هنا إجراء استصحاب بقاء النجاسة السابقة في كلّ واحد من الطرفين ؛ لأنّه في نفسه مشمول لمورد الأصل ؛ لأنّ أركان الاستصحاب تامّة في كلّ منهما والنتيجة هي تنجّز كلا الطرفين.

ولا منافاة بين تنجّز جميع الأطراف بالأصول الشرعيّة المنجّزة وبين العلم بوجود نجاسة واحدة فقط ضمن دائرة الأطراف جميعا ، إذ قد يتوهّم أنّه ما دام لنا علم بنجاسة واحدة فقط فتنجيز تمام الأطراف بالأصول المنجّزة يتنافى مع العلم بطهارة ما عدا الواحد المعلوم نجاسته إجمالا.

وجوابه : أنّ تنجيز تمام الأطراف كان لأجل جريان الأصول المنجّزة والتي هي أحكام ظاهريّة المقصود منها إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، بينما طهارة غير الإناء

ص: 217

النجس طهارة واقعيّة غير معلومة بالتفصيل ، ولا تضادّ بين الحكمين الواقعي والظاهري كما تقدّم في محلّه.

ومنه يعلم : أنّه لو لم تكن النجاسة الفعليّة معلومة أصلا أمكن أيضا إجراء استصحاب النجاسة في كلّ إناء ما دامت أركانه تامّة فيه ، ولا ينافي ذلك العلم إجمالا بطهارة بعض الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعا ؛ لأنّ المنافاة : إمّا أن تكون بلحاظ محذور ثبوتي بدعوى المنافاة بين الأصول المنجّزة للتكليف والحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال ، أو بلحاظ محذور إثباتي وقصور في إطلاق دليل الأصل.

ذكرنا أنّه إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدهما ، فإنّ الأصول المنجّزة كالاستصحاب تجري فيهما معا ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وهنا صورة أخرى وهي أن يكون لدينا إناءان حالتهما السابقة النجاسة أيضا ثمّ نعلم إجمالا بطهارة أحدهما ، فهنا أيضا تجري الأصول المنجّزة كالاستصحاب ولا محذور في ذلك لا ثبوتا ولا إثباتا.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا لا يمنع من جريان الاستصحاب المنجّز في كلا الطرفين ما دامت أركانه تامّة فيهما.

وقد يقال : إنّ العلم بطهارة أحد الإناءين إجمالا يتنافى مع استصحاب النجاسة فيهما ؛ لأنّنا نقطع بارتفاعها عن أحدهما فكيف يحكم بنجاستهما معا؟

وهذه المنافاة تارة يقال بوجودها بلحاظ عالم الثبوت وأخرى يقال بوجودها بلحاظ عالم الإثبات ، بمعنى أنّه يوجد تضادّ بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو طهارة أحد الإناءين ، وبين الحكم بنجاسة كلا الإناءين ؛ لأنّه سوف يجتمع وصفا الطهارة والنجاسة على الإناء الطاهر واقعا ، وهما حكمان وضعيّان متضادّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد ، وهذا محذور بلحاظ عالم الثبوت.

أو يقال : إنّ أدلّة الأصول المنجّزة كالاستصحاب مثلا قاصرة عن الإطلاق والشمول للفرد الطاهر واقعا ؛ لأنّه ما دام معلوم الطهارة فلا يرفع اليد عنه إلا بالعلم بنجاسته ، وهنا لا علم لنا بنجاسته فلا تشمله أدلّة الاستصحاب ، وبالتالي لا تجري إلا

ص: 218

في الطرف الآخر ، أي أنّها تجري في أحد الطرفين لا فيهما معا ، وإلا كان ذلك من باب نقض اليقين بما ليس يقينا.

والصحيح أنّ شيئا من هذين المحذورين غير تامّ ، وتوضيحه :

أمّا الأوّل : فقد يقرّب بوقوع المنافاة بين الإلزامات الظاهريّة والترخيص الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الإجمال جزما.

أمّا المحذور الثبوتي فتقريبه دعوى المنافاة والتضادّ بين الإلزام الظاهري لكلّ الأطراف وبين الطاهر الواقعي في أحد هذه الأطراف ؛ لأنّهما سوف يجتمعان في الطرف الطاهر واقعا فيكون نجسا وطاهرا ، وهذا يعني اجتماع حكمين متضادّين على مورد واحد وهو مستحيل.

فيلزم ألاّ تكون الأصول الشرعيّة المنجّزة جارية في تمام الأطراف لئلاّ نقع في محذور الاستحالة ، بمعنى أنّها تجري فيما عدا الطاهر الواقعي.

وحيث إنّ كلّ واحد من الأطراف يحتمل كونه الطاهر الواقعي فتتعارض وتتساقط فيما بينها ؛ لأنّ جريانها في الجميع يؤدّي إلى التضادّ وجريانها في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن تساقطها ، وبالتالي لا يتنجّز إلا مقدار الجامع فقط والذي لا يستدعي الموافقة القطعيّة.

والجواب : أنّ المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع بعدم التضادّ ما دام أحدهما ظاهريّا والآخر واقعيّا ، وإن كانت بملاك ما يستتبعان من تحرّك أو إطلاق عنان ، فمن الواضح أنّ الترخيص المعلوم إجمالا لا يستتبع إطلاق العنان الفعلي ؛ لعدم تعيّن مورده ، فلا ينافي الأصول المنجّزة في مقام العمل.

والجواب عنه : أنّ التضادّ تارة يكون بلحاظ المبادئ والملاكات ، وأخرى يكون بلحاظ مقام العمل والامتثال.

فإن كان المقصود من التضادّ والتنافي عالم الملاكات والمبادئ ، فقد تقدّم في الجزء السابق أنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، أي أنّه لم ينشأ من ملاكات خاصّة في متعلّقه.

ولذلك لا تضادّ ولا تنافي بين الطاهر الواقعي وبين النجس الظاهري ؛ لأنّ المراد

ص: 219

بالنجس الظاهري إبراز أنّ ملاكات النجاسة الواقعيّة هي الأهمّ ، ولكي يحافظ عليها يصدر إلزاما ظاهريّا بالتجنّب عن جميع الأطراف المشكوكة النجاسة من أجل إحراز أنّه قد تجنّب فعلا عن النجس الواقعي ، وهذا لا يعني أنّ الطرف الطاهر واقعا صار نجسا وفيه ملاكات النجاسة ، بل هو باق على طهارته واقعا ، وليس فيه سوى هذه الملاكات لا أكثر فلا منافاة.

وإن كان المقصود من ذلك أنّه في عالم الامتثال والتحرّك يكون بينهما تناف ، حيث إنّ النجاسة تستدعي التحرّك بنحو يختلف عن التحرّك المستتبع في الطهارة ، فهذه تطلق العنان وتلك تمنع منه ، فهذا غير تامّ أيضا ؛ إذ لا منافاة عمليّا بين الحكم بطهارة أحد الإناءات واقعا وبين الحكم بنجاستها ظاهرا ؛ لأنّ هذا الطرف الطاهر حتّى لو كان معلوما بالتفصيل ومشخّصا فهذا لا يستتبع وجوب ارتكابه ، بل يجوز الشرب والوضوء منه.

بمعنى أنّ المكلّف إن شاء فعل ذلك وإن لم يشأ لم يفعل ، فهو لا يستتبع وجوب التحرّك الفعلي ، وعليه فلا مانع من كون التحرّك عنه تركا يصبح واجبا بدليل آخر وهو استصحاب النجاسة السابقة في مفروض كلامنا ؛ لأنّه لو كان معيّنا لما وجب التحرّك عنه فضلا عمّا إذا لم يكن مشخّصا في طرف معيّن كما هو محلّ البحث.

وهكذا يتّضح أنّه لا وجه للمنافاة والتضادّ لا في عالم الملاكات ولا في عالم الامتثال.

وأمّا الثاني : فقد يقرّب بقصور في دليل الاستصحاب ، بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأوّل يستدعي إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، والثاني يستدعي نفي جريانها جميعا في وقت واحد ؛ لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الإناءات نقض لليقين باليقين.

وأمّا المحذور الإثباتي فتقريبه دعوى أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لهذه الصورة.

وبيان ذلك : أنّ ألسنة الاستصحاب مفادها عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ووجوب نقضه بيقين آخر ، كما في قوله ( علیه السلام ) : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر » ، فإنّ هذا اللسان فيه أمران :

ص: 220

الأوّل : النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهذا يستلزم إجراء الاستصحاب في كلّ الأطراف ؛ لأنّ كلّ طرف في نفسه مشكوك مع كونه متيقّنا في السابق ، ففي موردنا نعلم بأنّ هذه الإناءات جميعا كانت نجسة ونشكّ في طهارة كلّ واحد منها ، فنستصحب بقاء النجاسة المتيقّنة ؛ لأنّ رفع اليد عنها معناه نقض اليقين بالشكّ وهو غير جائز.

الثاني : الأمر بنقض اليقين باليقين وهذا يستلزم عدم إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف ، بل لا بدّ من رفع اليد عنه في بعضها إجمالا ؛ لأنّه في المثال المذكور كما نعلم بنجاسة الإناءات سابقا ، كذلك نعلم إجمالا بوجود طاهر بينها ؛ لأنّنا نعلم بطروّ الطهارة على أحدها غير المعيّن ، وحينئذ يجب أن نرفع اليد عن نجاسة أحدهما ؛ لأنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشك المنهي عنه ، بل هو من نقض اليقين باليقين.

وعليه فبلحاظ الطاهر الواقعي يلزم المحذور ؛ لأنّه من جهة يجري فيه استصحاب النجاسة لجريانه في كلّ طرف مشكوك ، ومن جهة أخرى يجب رفع اليد عن النجاسة بلحاظه ؛ لأنّه طاهر يقينا ، وهذا معناه جريان الاستصحاب فيه وعدم جريانه أيضا ومقتضى التعارض التساقط ، فلا يجري فيه الأصل المنجّز.

والجواب أوّلا : أنّ هذا إنّما يوجب الإجمال في ما اشتمل من روايات الاستصحاب على الأمر والنهي معا ، لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.

الجواب الأوّل : أنّ هذا الإشكال لو سلّم فغاية ما يلزم كون هذه الألسنة من الروايات التي جمعت بين النهي والأمر معا ساقطة عن الحجّيّة في موردنا ؛ لأنّه لا يمكن أن يجتمع الأمر بنقض اليقين باليقين والنهي عن نقض اليقين بالشكّ في مورد واحد ؛ لاستلزامه التهافت.

إلا أنّه توجد روايات أخرى جاء في مفادها التعبير بالنهي أي لا تنقض اليقين بالشكّ من دون الأمر أي بنقض اليقين باليقين ، وهذا يعني أنّه لا تهافت فيها ؛ إذ لا تجمع بين الأمرين معا.

وهذا كما في قوله ( علیه السلام ) : « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » ، فهذا النحو من الروايات ناظر إلى جانب إجراء الاستصحاب ، وأنّه ما دام اليقين السابق موجودا فلا يجوز نقضه بالشكّ ، فيجري استصحاب النجاسة في تمام

ص: 221

الإناءات في موردنا ، ولا يعارضه العلم الإجمالي بطهارة أحدها واقعا ؛ لما تقدّم من الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري.

والحاصل : أنّ التعارض والتساقط الموجود في تلك الرواية التي جمعت بين النهي والأمر لا يعني أنّه يوجد تعارض في كلّ روايات الاستصحاب حتّى التي لم تجمع بين الأمر والنهي ، بل تكون سالمة عن المعارضة والتهافت.

وثانيا : أنّ ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضا هو العلم الإجمالي بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحدا مع مصبّ أي واحد من العلوم التفصيليّة المتعلّقة بالحالات السابقة للإناءات.

الجواب الثاني : أنّ محذور التهافت غير صحيح في نفسه ؛ وذلك لأنّ الرواية ناظرة إلى موضوع واحد ، فتارة يتعلّق به اليقين ويطرأ عليه الشكّ ، فنقول : إنّ هذا اليقين لا تنقضه بالشكّ بل يبقى على حاله وهو معنى الاستصحاب ، وأخرى يطرأ على هذا اليقين يقين آخر مخالف له ، فهنا يكون اليقين الثاني المخالف له ناقضا له ؛ كما إذا كنّا على علم من نجاسة هذا الثوب ثمّ علمنا بطهارته بعد ذلك ، فهذا اليقين بالطهارة لا إشكال في كونه ناقضا ورافعا لليقين بالنجاسة ، وهنا يجب العمل على اليقين الثاني لارتفاع اليقين الأوّل ، ولا يمكن أن يجتمع كلا الأمرين بأن يكون الثوب مشكوكا ومتيقّنا بأنّه طاهر ؛ للزوم التهافت.

وفي موردنا لا يوجد تهافت ، وذلك بأن نقول : إنّ كلّ واحد من الإناءات كان متيقّن النجاسة في نفسه ، أي معلوم تفصيلا بأنّه نجس ثمّ طرأت عليه حالة الشكّ ، أي كلّ واحد صار مشكوك النجاسة فيما بعد ، حيث يشكّ في أنّه طهّر أم لا ، فهنا نجري استصحاب بقاء النجاسة على أساس الفقرة الأولى أي لا تنقض اليقين بالشكّ.

ثمّ بعد ذلك علمنا إجمالا بوجود إناء طاهر بين هذه الإناءات ، وهذا العلم بالطهارة لو كان علما تفصيليّا بأن علمنا بأنّ هذا الإناء هو الطاهر ، لكان يجب علينا أن ننقض اليقين بالنجاسة سابقا باليقين بالطهارة لاحقا في خصوص هذا الإناء تطبيقا للفقرة الثانية.

ص: 222

إلا أنّنا هنا لا نعلم تفصيلا بالإناء الطاهر وإنّما نعلم بوجود إناء طاهر على سبيل الإجمال ، أي جامع الطهارة موجود بين الإناءات ، وحينئذ نقول :

إنّ الفقرة الثانية لا يمكن تطبيقها في المقام لاختلاف الموضوع بين اليقين السابق واليقين اللاحق ، ومع اختلاف الموضوع لا يكون أحدهما ناقضا للآخر ؛ لأنّ معنى كونه ناقضا له كونه ناظرا إلى نفس متعلّقه ، وهذا لا يتمّ إلا في موارد العلم التفصيلي لا في موارد العلم الإجمالي ؛ لأنّ المتعلّق في موارد العلم التفصيلي في اليقينين واحد وهو هذا الثوب المعيّن ، بينما المتعلّق في العلم الإجمالي عنوان أحد الإناءات أي جامع الطهارة ، والمتعلّق في اليقين السابق هو كلّ واحد من الإناءات بخصوصه.

وعليه فلا يكون اليقين اللاحق الإجمالي ناقضا لليقين السابق التفصيلي.

وهذا يعني أنّه يمكن العمل بكلا اليقينين والالتزام بكلّ منهما ؛ إذ لا محذور عقلي لعدم لزوم التهافت ؛ لأنّ المتعلّق في كلّ منهما يختلف عنه في الآخر ، ولا محذور عملي لأنّه يمكن الجمع بينهما بأن نلتزم بوجود طهارة إجماليّة ونجاسة تفصيليّة ؛ لأنّ العلم بالطهارة سواء الإجماليّة أم التفصيليّة لا يستدعي وجوب التحرّك بل جوازه ، وهذا لا يمنع من أن يطرأ عنوان آخر يمنع من التحرّك ، إذ يمكن أن يكون شيء ما في نفسه وبذاته جائزا ولكن بسبب عروض عنوان آخر طارئ يصيّره متّصفا بالوجوب أو الحرمة مثلا.

ومقامنا كذلك فإنّ كلّ إناء يحتمل اتّصافه بالجواز بأن يكون هو الطاهر الواقعي إلا أنّه يوجد مانع من العمل به ؛ لأنّه عرض عليه عنوان آخر وهو استصحاب النجاسة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد محذور ثبوتي ولا إثباتي في جريان الأصول الشرعيّة المنجّزة كالاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي.

وعليه فالأصول المنجّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتّى مع العلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع.

وهذا معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة تجري في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة لتكليف معلوم بالإجمال ).

وحاصل الكلام : أنّ الأصول الشرعيّة المنجّزة والمثبتة للتكليف الإلزامي تجري في

ص: 223

تمام أطراف العلم الإجمالي سواء كان لدينا علم آخر بوجود الترخيص إجمالا أم لا ، أمّا مع عدم وجود علم آخر فلا إشكال أصلا لا ثبوتا ولا إثباتا.

وأما مع عدم وجود مثل هذا العلم الآخر فأيضا لا إشكال ؛ لأنّه يمكن الجمع بين جريان الاستصحاب المنجّز في تمام الأطراف وبين هذا العلم الإجمالي الترخيصي ، إذ لا منافاة بينهما لا في الملاكات ؛ لأنّ أحدهما ظاهري والآخر واقعي ، ولا في الامتثال والعمل ؛ لأنّ الترخيص لا يستدعي وجوب التحرك على طبقه بل الجواز فقط ، وهذا لا يمنع من طروّ عنوان آخر مفاده الإلزام.

ومن هنا نفهم معنى قولهم : ( إنّ الأصول العمليّة إذا لم يلزم من جريانها المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها في جميع أطراف العلم الإجمالي ).

فإنّ مقصودهم من الأصول العمليّة هنا الأصول الشرعيّة المنجّزة لا العقليّة ولا الترخيصيّة مطلقا ؛ لأنّ جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي والذي يكون منجّزا للتكليف الإلزامي لا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود نجاسة ، بل العكس يلزم منه الموافقة القطعيّة ، ولا يلزم منه مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي بوجود طهارة أيضا ضمن الإناءات المعلومة نجاستها سابقا ؛ لأنّ العلم بالطهارة لا يوجب التحرّك الفعلي وإطلاق العنان فعلا ، بل العلم بالطهارة معناه أنّه هنا يوجد مقتض لإطلاق العنان والترخيص ، وهذا المقتضي يكون مؤثّرا مع عدم وجود المانع والمفروض هنا أنّ الاستصحاب مانع من ذلك ، فيرفع اليد عنه لوجود المانع ، وبهذا ينتهي الكلام عن الأمر الثاني.

* * *

ص: 224

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه

اشارة

ص: 225

ص: 226

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه

وأمّا الأمر الثالث فهو جريان الأصول الشرعيّة المؤمّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي.

والكلام عن ذلك يقع في مقامين : ثبوتي وإثباتي.

الأمر الثالث : وهو جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف وعدم جريانها ، وهذا الأمر تارة يبحث فيه ثبوتا أي أنّه هل من المعقول أن تجري الأصول في بعض الأطراف أو لا يعقل ذلك؟ وأخرى يبحث إثباتا وأنّه هل أدلّة الأصول تشمل موارد العلم الإجمالي أو لا؟

ولذلك نبحث هذا الأمر في كلا المقامين ، فنقول :

أمّا الثبوتي فنبحث فيه عن إمكان جريان الأصول المؤمّنة في بعض الأطراف ثبوتا وعدمه.

ومن الواضح أنّه على مسلكنا القائل بإمكان جريان الأصول في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتيّ في جريانها في بعض الأطراف.

أمّا مقام الثبوت بمعنى معقوليّة جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف أو عدم معقوليّة ذلك ، فهذا البحث لا موضوع له بناء على مسلك السيّد الشهيد رحمه اللّه ، حيث تقدّم سابقا أنّ الأصول الترخيصيّة يمكن ويعقل جريانها في كلّ الأطراف فمن الأولى جريانها في بعضها ، إذ لا يعقل ألاّ يكون هناك محذور عقلي في جريانها في جميع الأطراف ، ويكون هناك محذور كذلك في جريانها في بعض الأطراف ، إذ لو فرض وجود محذور في البعض فمن الأولى أن يكون المحذور موجودا في الكلّ أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد محذور في الكلّ فمن الأولى ألاّ يكون هناك محذور في البعض.

ص: 227

والوجه في ذلك ما تقدّم سابقا من أنّ حكم العقل بلزوم الامتثال وحرمة المعصية إنّما كان لأجل الحفاظ على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، إلا أنّ هذا الحكم العقلي معلّق على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، وإلا كان هذا الإذن إسقاطا لحقّه وبالتالي ينتفي موضوع حكم العقل.

وهذا الإذن يمكن صدوره في موارد الظنّ والشكّ والاحتمال ، وأمّا موارد القطع التفصيلي فلا يمكن ذلك للزوم التنافي والتضادّ ولعدم المحرّكيّة والجدّيّة.

وأمّا موارد العلم الإجمالي فقلنا : إنّه لا يوجد محذور عقلي في الترخيص في كلّ الأطراف ؛ لأنّ هذا الترخيص حكم ظاهري غايته إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات.

وهنا كما يتعقّل أن تكون ملاكات الإلزام هي الأهمّ كذلك يمكن أن تكون ملاكات الإباحة والترخيص هي الأهمّ ، فلا فرق بينهما عند العقل ، إلا أنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص تكون أهمّ من ملاكات الإلزام ، فيكون المحذور عقلائيا لا عقليا ، وهذا كما يتمّ في تمام الأطراف يتمّ في بعض الأطراف بطريق أولى وأوضح.

وأمّا على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف ، فكذلك ينبغي أن نستثني من هذا البحث القائلين بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة مباشرة ، فإنّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الإجمالي.

وأمّا على مسلك المشهور القائل باستحالة جريان الأصول الترخيصيّة في تمام أطراف العلم الإجمالي ، فلا بدّ أن نفرق بين نحوين وتقريبين لهذه الاستحالة :

أحدهما : أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع ، وهذا بنفسه لا يستدعي التنجّز في تمام الأطراف ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد من أفراده فقط ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة بنحو غير مباشر ، من باب أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة المعلوم بالإجمال.

فعلى هذا المسلك لا محذور ثبوتي في جريان الأصول الترخيصيّة في بعض

ص: 228

الأطراف ؛ لأنّ المحذور العقلي كان بلحاظ الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا إنّما يتمّ فيما لو جرت الأصول في تمام الأطراف ، وأمّا جريانها في بعضها فلن تتحقّق به المخالفة القطعيّة إذ يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في الأطراف الأخرى التي لا تزال منجّزة.

وعليه ، فلا منافاة بين جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف وبين منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا القائلون بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة فيصحّ البحث على أساس قولهم ؛ لأنّ جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف يرخّص في ترك الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه.

وأمّا المسلك الآخر القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة ، فهنا يكون لهذا البحث الثبوتي أثر وفائدة ، والوجه في ذلك :

أنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، وهذا يساوق المخالفة الاحتماليّة والموافقة الاحتماليّة أيضا ، فهنا يبحث أنّه هل هناك محذور عقلي يمنع من ترك الموافقة القطعيّة ، أو لا يوجد مثل هذا المحذور؟

فهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي وإن كان يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة إلا أنّه لا محذور عقلا في الاكتفاء في الموافقة الاحتماليّة ، فيجري الأصل في بعض الأطراف.

الثاني : أنّ العلم الإجمالي كما يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يستدعي عدم جريان الترخيص في بعض الأطراف ، فيستحيل جريان الأصل في بعض الأطراف.

وأمّا النكتة والملاك لهذين الاحتمالين فهو :

ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في أنّ العلم الإجمالي هل يستدعي عقلا وجوب الموافقة القطعيّة استدعاء منجّزا على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، أو استدعاء معلّقا على عدم ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فإنّ فعليّته منوطة بعدم وجود المانع.

ص: 229

فعلى الأوّل يستحيل إجراء الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ؛ لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعيّة ، وعلى الثاني يمكن إجراؤه إذ يكون الأصل مانعا عن فعليّة حكم العقل ورافعا لموضوعه.

ومرجع البحث على هذا المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، إلى النزاع في تفسير هذا الاستدعاء ، فإنّه يوجد تفسيران له :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، فإنّه متى ما ثبتت العلّة ثبت معلولها ، بحيث يستحيل أن تثبت العلّة ولا يثبت معلولها ، فعلى هذا التفسير يكون استدعاء العلم الإجمالي استدعاء منجّزا أي غير معلّق على شيء ، فمتى وجد العلم الإجمالي كانت الموافقة القطعيّة واجبة.

وهذا يعني أنّه يستحيل ترك الموافقة القطعيّة عقلا ؛ لأنّ تركها مع وجود العلّة لها يكون من قبيل تحقّق العلّة وانتفاء المعلول ، وهذا ممتنع عقلا ؛ لأنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته.

وحينئذ نقول : إنّ ترك الموافقة القطعيّة كما يكون بترك كلّ الأطراف كذلك يكون بترك بعض الأطراف ؛ لأنّه في كلتا الحالتين يصدق أنّه لا موافقة قطعيّة ، فالمحذور فيهما على حدّ سواء.

ولذلك كما يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه يستلزم ترك وجوب الموافقة القطعيّة كذلك يمتنع جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف ؛ لأنّه يستلزم أيضا الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ الموافقة القطعيّة معلولة للعلم الإجمالي ويستحيل تخلّفها عنه ما دام موجودا ، والحال أنّ العلم الإجمالي موجود وليس منحلاّ.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي بذاته لوجوب الموافقة القطعيّة على نحو استدعاء المقتضي للمقتضى ، فإنّ هذا الاستدعاء موقوف على انتفاء المانع من تأثير المقتضي في الاقتضاء ، بمعنى أنّه إذا وجد المانع كان التأثير منتفيا ، وإذا لم يوجد كان التأثير فعليّا.

ص: 230

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي يكون مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة بنحو معلّق على عدم المانع ، فتجب الموافقة القطعيّة ؛ لوجود المقتضي وهو نفس العلم الإجمالي ؛ ولعدم المانع أي عدم الترخيص الشرعي ، فإذا ورد الترخيص الشرعي في بعض الأطراف كان معناه تحقّق المانع من تأثير العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا تجب لا من باب عدم المقتضي بل من باب وجود المانع ، وعلى هذا فلا يستحيل صدور مثل هذا الترخيص الشرعي ؛ لأنّه يكون من باب الحيلولة من تأثير العلم الإجمالي لا من باب رفع هذا التأثر بعد فعليّته ، فإنّه لا يتمّ إلا بإسقاط العلم الإجمالي عن الحجّيّة وهذا لا يكون إلا بدعوى انحلاله مثلا ونحو ذلك كما سيأتي.

وعلى هذا الأساس وجد اتّجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلّيّة ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق العراقي. (1)

والآخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء ، وذهب إليه جماعة منهم المحقّق النائيني على ما هو المنقول عنه في فوائد الأصول (2).

فتحصّل من ذلك : أنّه بناء على المسلك القائل بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعيّة يوجد اتّجاهان ومسلكان :

الأوّل : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب استدعاء العلّة لمعلولها استدعاء منجّزا غير متوقّف على شيء ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي وجماعة.

الثاني : أنّ استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء ، أي استدعاء معلّقا على عدم وجود المانع ، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني كما نسب إليه في تقرير بحثه.

وقد ذكر المحقّق العراقي رحمه اللّه في تقريب العلّيّة : أنّه لا شكّ في كون العلم منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة ، فإذا ضممنا إلى ذلك أنّ المعلوم بالعلم

ص: 231


1- مقالات الأصول 2 : 234.
2- فوائد الأصول 4 : 25.

الإجمالي هو الواقع لا مجرّد الجامع ، ثبت أنّ الواقع منجّز على نحو العلّيّة ، ومعه يستحيل الترخيص في أي واحد من الطرفين ؛ لاحتمال كونه هو الواقع.

وبكلمة أخرى : أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة أصلا ، وإن كان هو الواقع فلا بدّ من افتراض تنجّزه على نحو العلّيّة ؛ لأنّ هذا شأن كلّ معلوم مع العلم.

استدلّ المحقّق العراقي على القول بعلّيّة العلم الإجمالي بنفسه لوجوب الموافقة القطعيّة بما يلي :

أوّلا : أنّ العلم التفصيلي ينجّز معلومه على نحو العلّيّة ، فإذا علمنا بأنّ هذا المائع خمر كان هذا العلم منجّزا بنفسه لوجوب الاجتناب عن معلومه ، وتنجيزه له على نحو تنجّز العلّة لمعلولها ، أي أنّه ليس معلّقا على شيء ؛ إذ ما دمنا نعلم بأنّه خمر فيحرم شربه ، ولا يمكن التفكيك بينهما.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي قلنا : إنّه علّة لحرمة المخالفة القطعيّة على جميع المباني ، بمعنى أنّه إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فيحكم العقل بحرمة المخالفة ووجوب الامتثال لهذا المعلوم ، سواء كان المعلوم هو الجامع أو الواقع أو الفرد المردّد ؛ لأنّه على كلّ التقادير يكون ارتكاب كلا الإناءين ارتكابا للنجس المعلوم والذي حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه وحرمة مخالفته.

فيكون الارتكاب للجميع مخالفا للتكليف الداخل يقينا في الذمّة والعهدة ، ولذلك فحكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة ليس معلّقا على شيء ، بل هو منجّز وهذا معنى العلّيّة.

وثالثا : أنّ العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح عنده متعلّق بالواقع المحكي بالجامع المعلوم كما تقدّم ، فيكون الواقع دخيلا في العهدة ومشتغلة به الذمّة ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ؛ وامتثاله لا يكون بفعل أحد الطرفين وترك الآخر ؛ لأنّه لا يقطع معه بفراغ الذمّة وبراءتها من التكليف الداخل في عهدتها ، إذ قد يكون الواقع المنجّز هو الطرف الآخر الذي لم يمتثله ، وعليه يكون الواجب الإتيان بكلا الطرفين أو ترك الطرفين معا لكي يتحقّق عنوان الامتثال فتبرأ الذمّة يقينا.

وهذا معناه أنّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّه

ص: 232

الواقع ، والواقع لا يمتثل إلا بالطرفين لا أحدهما ، فكان العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ، ومن باب دفع الضرر والعقاب المحتمل فيما إذا فعل أحدهما وترك الآخر.

وما دام العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة فكما يستحيل فعل أحد الطرفين وترك الآخر لما ذكرنا ، كذلك يستحيل صدور الترخيص في بعض الأطراف دون الآخر ؛ إذ من المحتمل أن يكون الواقع هو ذاك الطرف الذي تركه فيكون ترخيصا في المخالفة ووقوعا في الضرر والعقاب ، ولا تكون الذمّة بريئة وخارجة عن العهدة.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي إن كان متعلّقا بالجامع من دون أن يسري إلى الحدّ الشخصي فلا يوجد مقتضي أصلا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يكفي في تحقّقه الإتيان بفرد واحد وتبرأ الذمّة به.

وإن كان متعلّقا بالواقع كما هو مختار المحقّق العراقي فيكون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كما كان علّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، على أساس أنّ شأن العلم مع معلومه هو شأن العلّة مع معلولها ، بحيث يكون العلم هو العلّة لتنجّز المعلوم ، وحيث إنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّقا بالواقع ولا فرق بينهما من هذه الناحية فيكون حالهما واحد ، والمفروض أنّ العلم التفصيلي علّة لتنجّز معلومه فالعلم الإجمالي مثله.

ومجرّد كون الصورة الذهنيّة للعلم الإجمالي فيها غموض وتشويش وعدم وضوح لا يعني أنّ الواقع كذلك ، بل الواقع ليس فيه غموض وتشويش في نفسه وإنّما صورته كذلك ، إلا أنّ العلم تعلّق بالواقع المحكي بالصورة لا بنفس الصورة كما هو واضح.

واعترض عليه المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) بأنّ العلم الإجمالي ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي ، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة لمعلومه ، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فكذلك العلم الإجمالي.

ص: 233


1- فوائد الأصول 4 : 34.

اعترض المحقّق النائيني على هذا الاستدلال بمنع علّيّة العلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيكون المنع عن علّيّة العلم الإجمالي فيها أوضح ؛ لأنّه ليس أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي.

وأمّا كيف لا يكون العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة؟ فلأنّه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بلحاظه في بعض الموارد كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، ومع إمكان الترخيص في المخالفة الاحتماليّة فيه لا يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ إذ لا يمكن اجتماعهما معا.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بوجوب الصلاة فهذا علم تفصيلي ، فإذا شككنا أثناء الصلاة في الإتيان بالقراءة بعد تجاوز محلّها لا تجب إعادتها ، وكذا لو شككنا في أنّ الصلاة كانت صحيحة أم لا بعد الفراغ منها لا تجب إعادتها ، فلو كان العلم التفصيلي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكان اللازم الإعادة من جديد تحصيلا للموافقة القطعيّة ، فالاكتفاء بما أتى به معناه أنّه يكتفي في الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ؛ إذ قد لا يكون قد أتى بالقراءة أو قد يكون قد صلّى صلاة فاسدة ، فلا تكون ذمّته بريئة حينئذ.

وبتعبير آخر : أنّ العلم التفصيلي لو كان علّة لوجوب الموافقة كان اللازم الإتيان بصلاة واجدة لجميع الشرائط والأجزاء يقينا ؛ لكي تحصل البراءة اليقينيّة وتفرغ الذمّة يقينا ممّا اشتغلت به ، والحال أنّنا نجد أنّهم يتّفقون على الاكتفاء بالصلاة التي صلاّها إعمالا لقاعدتي الفراغ أو التجاوز ، مع أنّه يحتمل المخالفة معهما.

فحيث إنّ العلم التفصيلي حاله كذلك فالعلم الإجمالي يكون مثله ؛ إذ لا يعقل كونه أشدّ تأثيرا من العلم التفصيلي في التنجيز.

فتحصّل ممّا ذكر : أنّ العلم الإجمالي ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ، ولذلك كما يعقل الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، كذلك يعقل ورود الترخيص الشرعي في بعض الأطراف ؛ لأنّ نتيجته هي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة أيضا ، من دون فرق بين الموردين.

وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة إلا أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع.

ص: 234

وأجاب المحقّق العراقي (1) على هذا الاعتراض : بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعيّة لتكون منافية لافتراض علّيّة العلم لوجوبها ، بل هي إحراز تعبّدي للموافقة أي موافقة قطعيّة تعبّديّة ، وافتراض العلّيّة يعني علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وجدانا أو تعبّدا.

وأجاب المحقّق العراقي عن هذا النقض بما حاصله : أنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز الجاريتين لتصحيح ما أتى به من عمل ليستا من قبيل ورود أصل عملي ترخيصي ناف للتكليف عن بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ قاعدة الفراغ مثلا بعد جريانها يثبت بها أنّه المكلّف قد امتثل للصلاة ، وأنّه أدّى المأمور به وفرغت ذمّته وخرجت عن عهدة التكليف.

وهذا يعني أنّه قد حقّق الموافقة القطعيّة للمأمور به ، غاية الأمر أنّ هذه الموافقة القطعيّة ثابتة بالتعبّد لا بالوجدان ، ونحن حينما نوجب الموافقة القطعيّة لا نحصرها في الموافقة القطعيّة الوجدانيّة ، بل الأعمّ منها ومن الموافقة القطعيّة التعبّديّة ، فيكون دليل الفراغ والتجاوز موسّعا لدائرة الموافقة القطعيّة لتشمل كلا النحوين من الموافقة القطعيّة.

وعليه ، فالمكلّف لا يحتمل عدم الموافقة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، بل هو تعبّدا قد حقّق الموافقة القطعيّة.

وهذا خلافا للأصول الترخيصيّة الجارية في بعض الأطراف ، فإنّها تنفي التكليف عنها أي أنّها تفكّك بين العلّة ومعلولها وهو ممتنع.

فمثل البراءة ، أو أصالة الطهارة ، أو أصالة الحلّ ؛ إذا أريد إجراؤها في بعض الأطراف كان لازمها أنّ هذه الأطراف لا تكليف فيها مع وجود العلّة المقتضية للتكليف أي العلم الإجمالي ، فيلزم محذور المخالفة الاحتماليّة ومحذور عدم براءة الذمّة يقينا عمّا اشتغلت به يقينا.

فحال العلم الإجمالي حال العلم التفصيلي في ذلك ، فكما أنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان مع العلم التفصيلي ، مع أنّه لا شكّ عندهم في كونه منجّزا لمعلومه على نحو العلّيّة فكذلك الحال في العلم الإجمالي أيضا ، بمعنى أنّه لا مانع من جريان

ص: 235


1- مقالات الأصول 2 : 238.

الأمارات في بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّها بمدلولها الالتزامي تثبت أنّ اشتغال الذمّة في الأطراف الأخرى.

وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّ الأوّل لا ينافي العلّيّة بخلاف الثاني.

وأمّا الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز من جهة وبين أصالة البراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من جهة أخرى ، فهو أن يقال : إنّ مثل قاعدتي الفراغ والتجاوز حيث إنّهما من الأمارات فيكون المجعول فيهما العلميّة.

وعليه ، فالعمل الذي فرغ منه أو المحلّ الذي تجاوز عنه قد عمله على وجهه الصحيح تعبّدا ، أي أنّه معلوم الصحة تعبّدا ، وبذلك يكون دليل القاعدتين حكما على الأدلّة التي توجب الموافقة القطعيّة ، سواء في ذلك العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي ، حيث إنّها تنظر إلى الموافقة القطعيّة وتفترض وجود فرد آخر لها وهو الموافقة التعبّديّة لا خصوص الموافقة القطعيّة الوجدانيّة.

فتكون الموافقة القطعيّة متحقّقة في القاعدتين ، وبالتالي لا منافاة بينهما وبين القول بعلّيّة العلم التفصيلي والإجمالي ؛ لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل بينهما انسجام تام ؛ لأنّهما يحقّقان هذه الموافقة المطلوبة.

بينما مثل البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فهي ليست علما تعبّدا لتكون حاكمة وموسّعة لموضوع الموافقة القطعيّة ، وإنّما هي تنفي التكليف ابتداء عن الطرف الذي تجري فيه.

وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعيّة والاكتفاء بالمخالفة والموافقة الاحتماليّة ، وحينئذ يأتي المحذور من أنّها تستلزم الترخيص في الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، وهو من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، ومن أنّها تستلزم نفي التكليف عن الطرف بينما منجّزيّة العلم تقتضي منجّزيّة التكليف في الطرف.

ولا يمكن الأخذ باللازم من جريان البراءة في الطرف ليقال إنّ التكليف يكون في الطرف الآخر ، وما اشتغلت به الذمّة ليس في هذا وإنّما في ذاك ؛ لأنّ هذا اللازم ليس حجّة كما تقدّم في محلّه من عدم حجّيّة لوازم الأصول ، بخلاف لوازم الأمارة فإنّها حجّة يمكن الأخذ بها.

ص: 236

فإذا قامت الأمارة على نفي التكليف في هذا الطرف كان لازمها أنّه في الطرف الآخر وهذا اللازم حجّة ، ونتيجتها أنّ المعلوم بالإجمال في تلك الأطراف وما اشتغلت به الذمّة هناك وليس هنا ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة في تلك الأطراف فقط ؛ لأنّ الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد خرج عن دائرة المعلوم بالإجمال تعبّدا.

والتحقيق : أنّ قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما ، إلا أنّ هذا مجرّد اختلاف في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛ لأنّ كلاّ منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزوميّة عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير أنّ هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص ، وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة وافتراضها موافقة كاملة.

فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.

والتحقيق أن يقال : إنّه لا فرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز وبين الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والإباحة والحلّيّة والطهارة من حيث المنشأ والملاك ، وإن كانت مختلفة في اللسان والصياغة.

وتوضيح ذلك : إنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع لعلاج حالة الشكّ والاشتباه واختلاط الملاكات الواقعيّة وعدم تمييزها ، وقلنا هناك : إنّ هذه الأحكام في عالم الجعل والثبوت لا تخلو عن أحد أمور ثلاثة ؛ لأنّ الشارع تارة يلحظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة أهميّتهما معا.

فالأوّل هو الأصول المحضة كالبراءة والاحتياط ، والثاني هو الأمارات كالبيّنة وحجّيّة الظهور وخبر الثقة ، والثالث كالاستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز.

إلا أنّه مع ذلك يتّفق الجميع في كونها أحكاما ظاهريّة مجعولة لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة ، سواء كان هذا الإبراز بلسان إبراز أهمّيّة المحتمل أو بلحاظ أهمّيّة الاحتمال أو بلحاظهما معا ، فإنّ اللحاظ مختلف إلا أنّ الملحوظ واحد ، إذ النتيجة العمليّة هي إمّا الترخيص وإطلاق العنان فيما إذا كانت ملاكات الترخيص والإباحة الواقعيّة هي الأهمّ ، وإمّا الإلزام والتجنّب والاحتياط إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ.

وحينئذ نقول : إنّ اللسان وإن كان مختلفا بين البراءة والفراغ حيث إنّ الأولى

ص: 237

أخذ في موضوعها الشكّ فقط ، بينما الثانية أخذ الشكّ مع الكشف ، إلا أنّهما معا نشئا من أهمّيّة ملاكات الترخيص الواقعيّة.

فالبراءة تفيد الترخيص ولكن بلسان نفي التكليف ابتداء ، والفراغ تفيد الترخيص لكن بلسان تحقّق المأمور به ووقوعه تعبّدا ، فإنّ هذا لازمه نفي التكليف عن وجوب الإعادة مثلا والاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، ولكن بعد فرض أنّ هذه الموافقة الاحتماليّة تكفي في المقام كالموافقة القطعيّة ، وإلا فبالدقّة لا يوجد موافقة قطعيّة حقيقيّة ؛ إذ يحتمل ألاّ يكون قد قرأ أو يحتمل أن تكون صلاته باطلة لنقصان ركوع أو وضوء مثلا.

فإذا اتّضح لنا ذلك لم يكن هناك معنى للقول بأنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز تجريان في بعض أطراف العلم الإجمالي كما تجريان في العلم التفصيلي ، بينما مثل أصالة البراءة والطهارة ونحوهما لا يجريان في بعض الأطراف.

بل التحقيق هو إمّا أن يلتزم بعدم جريان الجميع أو يلتزم بجريان الجميع.

والصحيح : هو عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيّات المصحّحة لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

والصحيح : عدم علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

وبيان ذلك : أنّنا إذا قلنا بمقالة المشهور في حقيقة الحكم الظاهري ، وفي الحكم العقلي الأوّلي ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق العراقي من علّيّة العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا قلنا بالمبنى المختار والصحيح في حقيقة الحكم الظاهري وفي حكم العقل بحقّ الطاعة ، كان الصحيح ما ذهب إليه المحقّق النائيني من اقتضاء العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك لأنّنا قلنا : إنّ حكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال وحرمة المخالفة والمعصية معلّق على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وهذا الترخيص قلنا : إنّه يستحيل في موارد العلم التفصيلي ؛ للتنافي ولعدم الجدّيّة ، وقلنا : إنّه ممكن عقلا في موارد العلم الإجمالي إلا أنّه غير ممكن عقلائيّا.

ص: 238

إلا أنّ الحاصل من الجميع أنّ العلم بذاته ونفسه ليس علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل هو مقتض لذلك ومعلّق على عدم المانع ، وهذا المانع مفقود في موارد العلم التفصيلي عقلا وفي موارد العلم الإجمالي عقلائيّا ، ولكنّه موجود في موارد سائر الشبهات الأخرى ؛ لأنّ الترخيص قد صدر فيها جزما.

وبهذا يظهر أنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف ممكن عقلا كما يمكن الترخيص في كلّ الأطراف أيضا ، كما تقدّم سابقا ، وورود الترخيص ومعقوليّته وإمكانه يتنافى مع القول بالعلّيّة ؛ لأنّ إمكان الترخيص على مسلك العلّيّة معناه إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول وهو ممتنع في نفسه ، فيكون إمكان الترخيص بنفسه دليلا على عدم صحّة مسلك العلّيّة.

وبهذا ينتهي الكلام في مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف ؛ لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كلّ الأطراف باطل ؛ لأنّنا فرغنا من عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وجريانه في البعض المعيّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة دليل الأصل إلى كلّ من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردّد غير معقول ؛ إذ لا معنى للمردّد.

وأمّا مقام الإثبات : فقد يقال : إنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة كحديث الرفع مثلا الدالّ على البراءة ، لا تشمل موارد العلم الإجمالي ، بل هي مقيّدة بموارد الشكّ البدوي ، فلسانها قاصر عن الشمول لموارد الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّنا إذا أردنا إجراء الأصل الترخيصي كالبراءة والطهارة والحلّيّة والإباحة مثلا في بعض أطراف العلم الإجمالي ، فهذا البعض ما ذا يراد به؟

فإن أريد بالبعض الموجود ضمن الكلّ أي أنّنا نجري الأصل الترخيصي في البعض ضمن جريانه أيضا في البعض الآخر فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ النتيجة هي جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي وهو مستحيل عقلا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال كما تقدّم.

وإن أريد بالبعض البعض المعيّن أي هذا الطرف بحدّه الشخصي المعيّن دون ذاك

ص: 239

فهو باطل أيضا ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، حيث إنّ نسبة الأصل الترخيصي إلى الطرفين على حدّ واحد ؛ لأنّ كلاّ منهما مورد لجريان الأصل في نفسه.

وإن أريد بالبعض البعض المردّد أي أحد الطرفين فهذا البعض المردّد إن أريد به مفهوم البعض المردّد فهو مفهوم كلّي انتزاعي منتزع من الطرفين وعبارة أخرى عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد ففي الخارج لا يوجد فرد بهذا العنوان ؛ لأنّ الفرد في الخارج موجود بحدّه الشخصي.

وبهذا ظهر أنّ أدلّة الأصول في مقام الإثبات لا تشمل بعض الأطراف.

وبكلمة أخرى : أنّه بعد العلم بعدم جريان الأصل في كلّ الأطراف في وقت واحد ، يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكلّ طرف وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبتعبير آخر : أنّنا بعد أن فرغنا عن عدم إمكان جريان الأصل الترخيصي في تمام أطراف العلم الإجمالي على مسلك المشهور ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإذا أردنا إجراء الأصل في بعض الأطراف دون البعض الآخر سوف يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل الترخيصي لهذا الطرف مع إطلاق دليل الأصل للطرف الآخر ؛ لأنّ المفروض أنّ دليل الأصل يشمل بإطلاقه كلّ الأطراف ، فالأخذ بإطلاقه في هذا الطرف دون ذاك معناه تقديم وترجيح إطلاقه في هذا على ذاك.

أو بعد حصول التعارض فالقاعدة هي التساقط ، إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ لكونهما معا مشمولين لإطلاق دليل الأصل ، وبهذا يكون المحذور إثباتيّا فقط ؛ لأنّ جريان الأصل ممكن عقلا إلا أنّ دليله قاصر عن إجرائه في بعض أطراف العلم الإجمالي.

وهناك اعتراض مشهور يوجّه إلى هذا البرهان وحاصله : أنّ المحذور الناجم عن جريان الأصول في كلّ الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء الأصل في كلّ من الطرفين مطلقا ، أي سواء ارتكب المكلّف الطرف الآخر أو اجتنبه.

فإذا ألغينا إطلاق الأصل في كلّ منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات ترخيصين مشروطين ، وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ص: 240

ويعني ذلك أنّ المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كلّ طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الأصل رأسا. ولا شكّ في أنّ رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز إلا لضرورة ، والضرورة تقدّر بقدرها ، فلما ذا لا نجري الأصل في كلّ من الطرفين ولكن مقيّدا بترك الآخر؟

ثمّ إنّ هناك اعتراضا مشهورا وجّهه المحقّق العراقي إلى هذا البرهان ، وحاصله أن يقال : إنّنا إذا قلنا بمسلك الاقتضاء كانت منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة معلّقة على جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يستلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة المحرّمة قطعا ، فلا بدّ من رفع اليد عنها لئلاّ يلزم المحذور ، فيجوز رفع اليد عن إجراء الأصول في تمام الأطراف.

ثمّ بعد ذلك يقال : إنّ جريان الأصول في البعض دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، أو يقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل لهذا الطرف مع إطلاقه لسائر الأطراف ، فيؤول الأمر إلى التساقط ، وينتج عدم جريان الأصول في بعض الأطراف.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ وذلك لأنّ دليل الأصل الترخيصي كحديث الرفع مثلا له نحوان من الإطلاق :

الأوّل : الإطلاق الإفرادي ، أي شموله لكلّ فرد فرد ، ولكلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي في نفسه.

الثاني : الإطلاق الأحوالي ، أي شموله لهذا الفرد والطرف في كلّ الحالات سواء شمل الطرف والفرد الآخر أم لا ، وسواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

وعليه ، فالمحذور إنّما يلزم فيما إذا كان الأصل شاملا لكلّ فرد في جميع حالاته أي سواء ارتكب الآخر أم لا ؛ لأنّه إذا كان شاملا للفرد مطلقا كان لازمه أنّ كلّ فرد فيه أصل مؤمّن في نفسه ، وثابت حتّى مع جريانه في الفرد الآخر فيلزم منه المحذور المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الوقوع في المخالفة نشأ من الأخذ بالإطلاق الأحوالي لدليل الأصل ، والذي يعني أنّه مطلق وفي جميع الحالات ؛ والتي منها حالة الترخيص وارتكاب الآخر.

وأمّا إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأحوالي ، وقلنا : إنّ دليل الأصل وإن كان يشمل

ص: 241

كلّ طرف وفرد في نفسه أي بلحاظ الإطلاق الأفرادي تامّ ، إلا أنّ شموله لهذا الفرد مقيّد بأن لا يرتكب الفرد الآخر وكذا العكس.

فيكون هناك ترخيصان مشروطان ، كلّ واحد منهما مشروط بعدم ارتكاب الآخر ، فيجري الأصل في كلّ فرد في نفسه لكن لا مطلقا وفي جميع الحالات وإنّما في حالة عدم ارتكاب الفرد الآخر ، أي أنّه إذا لم يجر الأصل في هذا فله إجراؤه في ذاك والعكس ، وهذا الترخيص لا يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه لن يتحقّق الأخذ بالأصل في كلا الطرفين حيث إنّ المفروض كون كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الآخر فلا يجري الأصل فيه ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده الموجب لانتفاء الموضوع.

بعد ذلك نعود ونقول : إنّ محذور الوقوع في الترخيص في المخالفة القطعيّة ما دام يرتفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل كما تقدّم ، فلما ذا يقال بوجوب رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي أيضا أي عدم شمول دليل الأصل لكلّ فرد فرد بنفسه؟

مع أنّ المحذور كما يندفع برفع اليد عن دليل الأصل رأسا ( أي رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي فيه ) ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي ، فيكون كلّ واحد من الطرفين مشمولا لدليل الأصل في بعض الحالات لا في جميع الحالات كما ذكرنا.

وحيث إنّ الإطلاق الأفرادي أشدّ مئونة من الإطلاق الأحوالي فيكون رفع اليد عنه بحاجة إلى عناية زائدة ، وهي غير موجودة في المقام ، فإذا دار الأمر بينهما كان رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن وذلك تطبيقا للقاعدة القائلة ب- ( أنّ الضرورات تقدّر بقدرها ).

وحيث إنّ الضرورة في المقام وهي الترخيص في المخالفة القطعيّة تندفع بالإطلاق الأحوالي الأخفّ مئونة فيقتصر في دفعها عليه ؛ لأنّ الأكثر من ذلك فيه مئونة زائدة وعناية أشدّ تحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود.

وبهذا يظهر أنّ هذا البرهان المدّعي لقصور أدلّة الأصول الترخيصيّة عن الشمول لبعض الأطراف غير تامّ ؛ لأنّه بالإمكان تصحيح شمولها لبعض الأطراف دون الوقوع في المخالفة القطعيّة أو الترجيح بلا مرجّح.

ص: 242

ومنه يتّضح أنّه بناء على مسلك الاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي موجبا لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ما دامت منجّزيّته لذلك معلّقة على تعارض الأصول وتساقطها في جميع الأطراف ، وعلى كون الأخذ بالبعض ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّه يعقل الشمول لبعض الأطراف من دون محذور.

وهذا يعتبر نقضا ومنبّها أيضا على بطلان الاقتضاء وعلى صحّة مسلك العلّيّة ؛ لأنّه على الأوّل لا تجب الموافقة القطعيّة بينما على الثاني تكون واجبة ، والمفروض أنّ الوجدان والعرف يقضيان بوجوبها كما هو مسلّم حتّى عند القائلين بالاقتضاء أيضا.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (1) من أنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ولكنّه يؤدّي إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا ، وهو مستحيل.

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي في الدراسات ، وحاصله : أنّ المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال على نحوين :

الأوّل : المخالفة القطعيّة العمليّة ، من قبيل ارتكاب كلا الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما ، فإن ارتكابهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيهما معا ؛ لأنّها تؤدّي إلى المخالفة العمليّة.

الثاني : المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، وهي الترخيص القطعي في ارتكاب كلا الإناءين ، وذلك بأن يرخّص الشارع في ارتكابهما سواء ارتكبهما المكلّف أم لا ، فإنّ نفس صدور مثل هذا الترخيص مستحيل ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة والاعتقاد بذلك مستحيل كالسابق ؛ لأنّ الترخيص في نفسه غير معقول سواء أدّى إلى المخالفة أم لا.

بعد أن اتّضح ذلك نقول : إنّ ما ذكره المحقّق العراقي من شمول الأصول الترخيصيّة لبعض الأطراف بنحو يكون شمولها لكلّ طرف في نفسه مشروطا ومقيّدا بترك الآخر وعدم ارتكابه ، إنّما يرفع المخالفة القطعيّة العمليّة فقط ؛ وذلك لأنّه

ص: 243


1- مصباح الأصول 2 : 355.

إذا كان كلّ طرف مشروطا بترك ارتكاب الآخر فإذا ارتكب أحدهما ارتفع موضوع الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ شرطه منتف ، فلا يجري الأصل في الطرف الآخر ، ولذلك لا تحصل المخالفة في مقام العمل ؛ لأنّ النتيجة هي ارتكاب أحدهما فقط لا كليهما.

إلا أنّه لا يرفع المخالفة القطعيّة الالتزاميّة ، لأنّنا يمكننا أن نفترض أنّ المكلّف قد ترك كلا الإناءين ولم يرتكب شيئا منهما ، ففي هذه الحالة يتحقّق كلا الشرطين في الطرفين.

أمّا الطرف الأوّل فتجري فيه البراءة ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الآخر.

وأمّا الطرف الثاني فتجري فيه أيضا ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم ارتكاب الأوّل ، وهذا نتيجته أن يعتقد المكلّف بالترخيص في كلا الطرفين ويلتزم بالترخيص فيهما ، وهذا غير معقول في نفسه ؛ لأنّ صدور الترخيص في كلا الطرفين محال في نفسه وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة ، إذ يستحيل صدور مثل هذا الترخيص من الشارع ؛ لأنّه يتنافى مع الاعتقاد بنجاسة أحدهما.

وبهذا ظهر أنّ المحذور لا يزال على حاله ، ولا ينفع الجواب المذكور من المحقّق العراقي لدفعه كلّيّا وإن دفعه جزئيّا.

ويرد عليه : أنّ الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا ، وإنّما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبق إلا التنافي بلحاظ عالم الامتثال.

وقد فرضنا هنا أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبق هناك تناف بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة والتكليف المعلوم بالإجمال في أي مرحلة من المراحل.

وهذا الجواب غير تامّ ؛ إذ لا معنى لكون الترخيص القطعي في المخالفة في نفسه مستحيلا ، وإنّما يكون الترخيص القطعي في المخالفة مستحيلا إذا أدّى إلى التنافي بينه وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، وهذا التنافي غير موجود في المقام.

وتوضيح ذلك : أنّ التنافي بين الحكم الظاهري وهو هنا ( إجراء أصالة البراءة في

ص: 244

كلّ من الطرفين بنحو مشروط ) وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وهو هنا ( نجاسة أحد الإناءين مثلا ) إنّما يتصوّر في ثلاث مراحل :

الأولى : أن يكون التنافي بلحاظ نفس جعل الحكمين الترخيصي الظاهري والإلزامي الواقعي على مورد واحد ، فإنّ الترخيص والإلزام من الأحكام التكليفيّة المتضادّة في نفسها ، فيستحيل اجتماعهما معا على مورد واحد.

الثانية : أن يكون التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات التي ينشأ منها الحكمين الترخيصي والإلزامي ، فإنّ الترخيص ينشأ من ملاكات واقعيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، أو من خلوّ الفعل من مصلحة ملزمة أو من مفسدة ملزمة.

بينما الإلزام ينشأ من ملاكات واقعيّة في وجود مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة ، ولا يمكن أن يجتمع في شيء واحد مبادئ وملاكات الترخيص والإلزام ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع المصلحة أو المفسدة مع التسهيل وإطلاق العنان في وقت واحد ، وهو مستحيل.

الثالثة : أن يكون التنافي بين الترخيص والإلزام بلحاظ عالم المتطلّبات والامتثال ، فإنّ فعليّة الترخيص معناها أن يكون المكلّف مطلق العنان إن شاء فعل وإن شاء ترك ، بينما فعليّة الإلزام معناها لزوم الإتيان بالفعل أو لزوم تركه ، ولذلك لا يمكن اجتماعهما معا للتنافي بين الإلزام في الفعل أو الترك وبين الترخيص في الفعل والترك ؛ إذ لا يمكن أن يكون شيء واحد يجوز فعله وتركه ويجب فعله أو تركه في آن واحد.

وفي مقامنا لا يوجد تناف بين الحكمين الظاهري والواقعي في شيء من هذه المراحل الثلاث.

أمّا المرحلة الأولى : فلا تناف بين نفس جعل الحكم الظاهري وبين نفس جعل الحكم الواقعي ؛ لأنّ الجعل على رأي السيّد الخوئي عبارة عن الاعتبار وهو سهل المئونة ، إذ لا تناف بين الترخيص والإلزام ما داما لفظيّين اعتباريّين خاليين عن أي معنى ومضمون.

وأمّا المرحلة الثانية : فلا تناف في المبادئ والملاكات بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي ؛ لأنّ المتعلّق لهذه المبادئ والملاكات مختلف بينهما كما هو

ص: 245

مسلك السيّد الخوئي ؛ لأنّ مبادئ الحكم الواقعي في المتعلّق بينما مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله وتشريعه ، فالجهة مختلفة فلم تتّحد المبادئ المتنافية في مصبّ واحد.

وأما المرحلة الثالثة : فالتنافي بين الحكم الظاهري الترخيصي والحكم الواقعي الإلزامي في عالم الامتثال والمتطلّبات في الخارج ، إنّما يكون فيما لو كان الحكم الظاهري الترخيصي جاريا في كلّ طرف من الأطراف بنحو مطلق غير مشروط.

فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين فهنا علم إجمالي بوجود نجاسة واقعيّة في أحدهما.

فإذا قلنا : إنّ أصالة البراءة تجري في كلّ من الإناءين مطلقا فهذا يتنافى مع وجود النجاسة الواقعيّة في مقام العمل ؛ لأنّ الترخيص في الطرفين معا لازمه جواز الارتكاب لأي الإناءين أراد ، بينما وجود النجاسة لازمها الامتناع عن أحدهما على الأقلّ.

وأمّا إذا قلنا : إنّ جريان الحكم الظاهري كالبراءة في الطرفين مشروط بأنّه إذا أجراها في هذا ألاّ يجريها في ذاك ، فإذا ارتكب أحدهما يشترط ألاّ يرتكب الآخر ، فهنا لن يحصل التنافي في مقام الامتثال ؛ لأنّه إذا أجرى البراءة في هذا الطرف وارتكبه سوف يرتفع موضوعها بلحاظ الطرف الآخر ؛ لارتفاع شرطه وهو ألاّ يرتكب الأوّل والحال أنّه ارتكبه.

والحاصل : أنّه لن يرتكب إلا طرفا واحدا وهذا لا يتنافى مع النجاسة الواقعيّة ؛ لأنّها موجودة في أحدهما لا فيهما معا ، أي أنّها تمنع عن أحدهما فقط لا عنهما معا ، وهذا حاصل.

هذا كلّه بناء على أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة من باب الاقتضاء لا العلّيّة ، أي أنّه حكم معلّق على عدم ورود الترخيص ، فإذا ورد الترخيص ارتفع موضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، وفي موردنا يكون إجراء البراءة في الطرفين كلّ منهما مشروط بترك الآخر من قبيل ورود الترخيص الرافع لحكم العقل بوجوب الموافقة.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد تناف بين الحكم الظاهري المفروض في مقامنا وهو

ص: 246

الترخيص في الطرفين كلّ منهما مشروط بعدم الآخر وبين الإلزام الواقعي في جميع مراحل الحكم : الجعل والمبادئ والامتثال (1).

هذا على أنّ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا يمكن أن تصبح كلّها فعليّة في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثيّة ، ويفترض أنّ الترخيص في كلّ طرف مقيّد بترك أحد بديليه وارتكاب الآخر.

ثمّ إنّنا لو سلّمنا بأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة مستحيلة في نفسها سواء حصل منها مخالفة عمليّة واقعيّة أم لا ، فهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الترخيص المشروط بها على هذا النحو.

فإذا كان لدينا علم إجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر وكان تصوير البراءة على أنّه يجوز ترك الظهر إذا لم يترك الجمعة والعكس ، فإنّه إذا صلّى الصلاتين فيكون شرط جريان البراءة في كلّ منهما محقّق ؛ إذ شرط جريان البراءة في صلاة الظهر ألاّ يترك الجمعة ، والمفروض أنّه لم يتركها ؛ لأنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الظهر ، وشرط جريان البراءة في الجمعة ألاّ يترك الظهر والمفروض أنّه صلاّها فيكون مرخّصا في الجمعة.

وهذا يعني أنّه إذا صلاّهما معا يكون مرخّصا في تركهما وغير واجبين عليه ، وهذا تناقض بلحاظ الاعتقاد لا العمل.

ص: 247


1- فلا يبقى وجه لما ذكره السيّد الخوئي إلا القول بأن نفس الترخيص القطعي في المخالفة مستحيل صدوره ، سواء أدّى إلى المخالفة الواقعيّة العمليّة أم لا ، وهذا الوجه لا محصّل له إذ لا معنى لافتراض الاستحالة في الحكم الترخيصي في نفسه ، وإن لم يؤدّ إلى المخالفة العمليّة الواقعيّة. بل إنّ هذا الفرض ممنوع في نفسه ؛ لأنّ المكلّف إذا علم بصدور الترخيص القطعي في المخالفة كان مستحيلا ، وأمّا إذا لم يعلم به فلا يكون صدوره مستحيلا ، إذ مع عدم علمه به لن يقطع بالترخيص القطعي ، فهذا من تعليق الاستحالة على فرض العلم مع أنّ الاستحالة من الأمور الواقعيّة. فإنّ النقيضين مثلا لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما سواء علم المكلّف بذلك أم لا ، ولا مدخليّة لعلمه أو جهله في ثبوتها أو ارتفاعها.

وأمّا إذا كان تصوير الترخيص المشروط بنحو آخر فلا يلزم منه لا المخالفة العمليّة ولا الترخيص القطعي في المخالفة.

وهذا يتمّ فيما لو كانت أطراف العلم الإجمالي أكثر من اثنين ، فلو فرضنا العلم إجمالا بنجاسة أحد هذه الإناءات الثلاثة أمكن إجراء البراءة في كلّ طرف ، ولكن مشروط بترك الثاني وفعل الثالث لا ترك الثاني والثالث معا ، وحينئذ لن تتحقّق لا المخالفة العمليّة ولا المخالفة القطعيّة الاعتقاديّة.

أمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة العمليّة فلأنّه إذا ارتكب اثنين فإنّه يبطل جريان الأصل في الثالث ؛ لأنّ شرطه وهو ترك الثاني وفعل الأوّل غير محقّق ، ولذلك لن تتحقّق المخالفة العمليّة بارتكاب الثلاثة ، بل إمّا أن يرتكب اثنين أو واحدا فقط ؛ لأنّ البراءة تجري في الأوّل مع تركه للثاني وفعله للثالث ، وتجري في الثاني ؛ لأنّه فعل الثالث وترك الأوّل ، ولكنّها لا تجري في الثالث ؛ لأنّه قد فعل الأوّل والثاني ولم يترك شيئا منهما.

وأمّا أنّه لا تتحقّق المخالفة في الالتزام والاعتقاد فلأنّه لو ترك الجميع فلن يتحقّق شرط جريان البراءة في كلّ من الأطراف ؛ لأنّ الشرط مركّب من فعل وترك ، وكذا لو ارتكب كلّ الأطراف فلا تجري البراءة في شيء منها لعدم تحقّق الشرط ، وهذا يعني أنّ القطع والترخيص في كلّ الأطراف لن يتحقّق أبدا فلا محذور إذن.

الثاني : ما ذكره السيّد الأستاذ أيضا ، من أنّه إذا أريد إجراء الأصل مقيّدا في كلّ طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كلّ طرف مقيّدا بترك الآخر ، أو بأن يكون قبل الآخر أو بأن يكون بعد الآخر ، فأي مرجّح لتقييد على تقييد؟

الجواب الثاني : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا من أنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي لا موجب له ، إذ كما يمكننا رفع اليد عن المخالفة القطعيّة العمليّة بما ذكره من تقييد ، أي تقييد جريان البراءة في أحد الطرفين مشروطا بترك الطرف الآخر ، كذلك يمكننا ذلك بنحوين آخرين :

أحدهما : أن يقال : إنّ دليل البراءة مقيّد بأن يكون جريانها في كلّ طرف قبل ارتكاب الطرف الآخر ، فهنا إذا جرت البراءة في الطرف الأوّل لا تجري في الطرف

ص: 248

الثاني ؛ لأنّ جريانها في الطرف الأوّل كان الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه قبل ارتكاب الطرف الثاني.

بينما جريانها في الطرف الثاني لا يكون الشرط فيه متحقّقا ؛ لأنّه لم يكن قبل الأوّل بل بعده ، ولذلك لن تحصل المخالفة القطعيّة العمليّة ، وهذا يفرض فيما إذا ارتكبهما معا فيكون الأوّل جائزا والثاني محرّما.

والثاني : أن يكون دليل البراءة مقيّدا بأن يكون جريانها في هذا الطرف بعد ارتكاب الآخر ، فهنا لا تجري في الأوّل بينما تجري في الثاني عكس الصورة السابقة.

أمّا عدم جريانها في الأوّل ؛ لأنّه ارتكبه قبل الثاني لا بعده ، والشرط أن يكون ارتكابه بعد الآخر لا قبله ، وأمّا الثاني فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه ارتكبه بعد الأوّل فشرطها فيه متحقّق ، وهذا يكون فيما لو ارتكب كلا الإناءين فيكون الأوّل منهما محرّما دون الثاني ، فلا مخالفة قطعيّة عمليّة.

وحينئذ نقول : إنّه ما دام يمكن رفع اليد عن المحذور وهو الترخيص في المخالفة القطعيّة ممكنا بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، فلما ذا يعيّن الوجه الذي ذكره المحقّق العراقي دون هذين الوجهين؟

وليس هذا إلا ترجيحا له من دون مرجّح وهو باطل ، وحيث لا ترجيح لإحدى هذه الحالات على الأخرى يحكم بتعارض الأحوال وتساقطها ، وبالتالي لا يبقى إلا رفع اليد عن أصل جريان البراءة في الطرفين مطلقا.

ويرد عليه : أنّ التقييد إنّما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل ، وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.

وهذا الجواب غير صحيح ؛ لأنّ التقييد الذي ذكره المحقّق العراقي له مرجّح على التقييدين اللذين ذكرهما السيّد الخوئي ، وهذا المرجّح هو أنّ التقييد بترك ارتكاب الآخر لا معارض له ، بينما التقييد بأن يكون قبل الآخر أو بعد الآخر له معارض.

والوجه في ذلك : أنّ دليل البراءة في كلّ طرف له إطلاقات أحواليّة ثلاثة :

1 - أنّ دليل البراءة يجري في هذا الطرف سواء ارتكب الطرف الآخر أم لا.

ص: 249

2 - أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه قبل الآخر أم لا.

3 - أنّ دليل البراءة يجري في الطرف سواء كان ارتكابه بعد الآخر أم لا.

وحينئذ نقول : إنّ الإطلاق الأحوالي الأوّل إذا رفعنا اليد عنه وقلنا : إنّ جريان الأصل في هذا الطرف مقيّد بعدم ارتكاب الآخر ، فلن يكون لهذا التقييد معارض ؛ لأنّ الطرف الآخر مقيّد أيضا بعدم ارتكاب الطرف الأوّل ؛ لأنّه لو كان الطرف الثاني مطلقا لحالة ارتكاب الطرف الأوّل أيضا لزم منه الترخيص في الطرفين معا ، وهو ممتنع لاستلزامه الوقوع في المخالفة القطعيّة العمليّة للمعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ دليل البراءة لا إطلاق له أصلا لحالة ارتكاب كلا الطرفين للمحذور العقلي المذكور المانع من انعقاد الأصل.

وبهذا يتّضح أنّ جريان الأصل في كلّ من الطرفين مقيّد بترك ارتكاب الآخر تقييد بلا مانع عقلا وبلا معارض ؛ لأنّه يمكن الأخذ بالتقييد المذكور في كلا الطرفين من دون معارض ؛ لأنّه إذا جرى في أحدها لا يجري في الآخر لارتفاع موضوعه ، وهذا من الجمع بين الدليلين كما سيأتي في باب التعارض.

وأمّا الإطلاق الأحوالي الثاني وهو شمول دليل البراءة لحالة ارتكاب الطرف قبل الآخر أم لا ، فرفع اليد عنه معناه تقييد جريان البراءة في الطرف حالة كون ارتكابه قبل الآخر ، إلا أنّ هذا التقييد يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثالث ، وهو شمول دليل البراءة للطرف سواء كان بعد ارتكاب الطرف الأوّل أم لا.

وهكذا الكلام بالنسبة للإطلاق الأحوالي الثالث فإنّه يتعارض مع الإطلاق الأحوالي الثاني.

وبهذا يظهر أنّ التقييد بما ذكر له معارض.

وعليه ، فإذا دار الأمر بين التقييد الذي لا معارض له وبين التقييد الذي له معارض تعيّن الأوّل دون الثاني ؛ لأنّ التقييد الثاني سوف يسقط بالمعارضة فلا فائدة منه ، بخلاف التقييد الأوّل فيكون تقديمه ترجيحا مع وجود المرجّح.

الثالث : ما ذكره أيضا من أنّ لدليل الأصل إطلاقا أفراديّا لهذا الطرف ولذاك ، وإطلاقا أحواليّا في كلّ من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق

ص: 250

الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصّة ، فأي مرجّح لأحد الدفعين على الآخر؟

الجواب الثالث : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما هو مدّعى المحقّق العراقي ليس بأولى من رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحدهما فقط ، فإنّ المحذور كما يندفع بما ذكره كذلك يندفع بهذا المقدار ، فيكون دليل البراءة مثلا جاريا في أحد الطرفين في جميع حالاته ، بينما لا يجري في الطرف كذلك ، والنتيجة جواز ارتكاب أحدهما فقط ؛ لأنّ الآخر لا يشمله إطلاق دليل الأصل.

وتوضيحه : إنّ لدليل الأصل إطلاقين أحدهما إطلاق أفرادي والآخر إطلاق أحوالي.

والإطلاق الأفرادي معناه الشمول لكلّ فرد بخصوصه ، والأحوالي معناه الشمول لكلّ فرد في كل حالاته.

ومحذور المخالفة القطعيّة كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأفراديّين ، وكما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين ، كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فقط ، بأن يقال : إنّ دليل الأصل لا يشمل أحد الطرفين في جميع حالاته أي لا يجري فيه مطلقا سواء ترك الآخر أم لا وسواء كان قبله أم بعده ، فأي مرجّح لأحدهما على الآخر؟

وما دام لا مرجّح فيلزم تعارض هذه الإطلاقات ؛ وبالتالي تساقطها ، والنتيجة عدم جريان الأصل رأسا وهو المطلوب.

ويرد عليه : أنّ المرجّح هو أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأوّل للمحذور ليس له معارض أصلا ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه له معارض.

والجواب : إنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي في كلّ من الطرفين كما ذكره المحقّق العراقي معناه أن يكون دليل الأصل شاملا لكلّ فرد بشرط ترك ارتكاب الآخر ، وهذا المقدار لا يوجد له معارض ؛ لأنّ الأصل لن يجري في الطرف الثاني حين جريانه في الطرف الأوّل الذي ارتكبه ؛ لعدم تحقّق شرط جريانها ، فيجري الأصل في أحدهما من دون معارض.

ص: 251

وأمّا رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين فإن كان المراد به أحدهما المعيّن لزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة الأصل إلى الطرفين على حدّ واحد ، وكذلك نسبة إطلاق دليل الأصل إليهما فإنّها على حدّ واحد أيضا.

وإن كان المراد به أحدهما على نحو التخيير فيكون إبقاء الإطلاقين الأفرادي والأحوالي في هذا الطرف معارضا بإبقائهما في ذاك الطرف ، أي أنّ ما يبقى بعد التقييد له معارض.

وحينئذ يأتي الكلام السابق من أنّ التقييد الذي ليس له معارض أولى من التقييد الذي له معارض ، فيكون ترجيحه بموجب وبمرجح (1).

الرابع : أنّ الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ؛ لأنّ ما هو ثابت في الواقع : إمّا الحرمة المطلقة وإمّا الترخيص المطلق.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي أيضا : من أنّ الترخيص المشروط يستحيل صدوره من الشارع ؛ وذلك لأنّ الترخيص المفروض هنا حكم ظاهري لا واقعي.

والحكم الظاهري يشترط في صدوره من الشارع أن يكون من المحتمل موافقته للواقع ، إذ لو كان محرز المخالفة للواقع فلا معنى لجعله وتشريعه ؛ لأنّه يكون من باب تشريع المخالفة للواقع وهو محال صدوره من الشارع الحكيم.

ص: 252


1- وثانيا : أنّ التقييد يجب أن يتحدّد بمقدار الضرورة والمحذور ، والمحذور نشأ من الإطلاق الأحوالي في الطرفين لا من الإطلاق الأفرادي ، ولذلك لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لا فيهما ولا في أحدهما ؛ لأنّه بلا مبرّر. وثالثا : أن الإطلاق الأحوالي ساقط على كلّ حال ، أي سواء رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي أم لا ؛ لأنّه إذا رفعنا اليد عن الإطلاق الأفرادي فيهما أو في أحدهما فالإطلاق الأحوالي ساقط لا محالة ؛ لانتفاء موضوعه. وإذا أبقينا الإطلاق الأفرادي في كلّ منهما فالإطلاق الأحوالي ساقط أيضا ؛ لأنّ بقاءه يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة والترخيص في الطرفين الممنوع عقلا على مسلك المشهور ، فلا معنى لفرض سقوط الإطلاق الأفرادي أيضا لا فيهما ولا في أحدهما. أمّا الأوّل فلأنّه عناية زائدة عن مقدار الضرورة كما تقدّم سابقا ، وأمّا الثاني فلأنّه ترجيح لسقوطه في أحدهما دون الآخر من دون مرجّح كما تقدّم آنفا.

وعليه ، فإذا كان هذا الشرط موجودا كان الترخيص المشروط معقولا في نفسه وإلا فهو محال.

وفي مقامنا إذا قلنا بأنّ البراءة تجري في كلّ من الطرفين بشرط ترك ارتكاب الآخر ، فهذا يعني صدور حكم ظاهري ترخيصي مشروط وليس مطلقا ، فلا بدّ أن يكون هذا الترخيص المشروط محتمل المطابقة للواقع لكي يكون صدوره ممكنا ، والحال أنّ الواقع لا يخلو من أمرين لا ثالث لهما وهما :

إمّا أن يكون الإناء الأوّل طاهرا مطلقا والآخر نجسا مطلقا.

وإمّا أن يكون الأوّل نجسا مطلقا والثاني طاهرا مطلقا.

والوجه في ذلك : أنّنا نعلم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر ، فالنجس نجس مطلقا سواء ارتكبه مع الآخر أو قبله أو بعده ، أم لم يرتكب الآخر أصلا ، والطاهر طاهر مطلقا كذلك.

ولا يوجد لدينا طاهر مشروط ونجس مشروط في الواقع ، وهذا معناه أنّ الترخيص المشروط يحرز مخالفته للواقع ولا يحتمل موافقته أصلا ، فيكون تشريعه ممتنعا.

ويرد عليه : أنّه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط فيه أمران : أحدهما أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا ، والآخر أن يكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه.

وجوابه : أنّه لا دليل على هذا الشرط في جعل الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط في الحكم الظاهري أمران :

الأوّل : أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا غير معلوم ، أي أنّ مورد جريان الحكم الظاهري هو الشكّ في الواقع ، وهذا الشرط محقّق في مقامنا ، فإنّنا لا نعلم النجس الواقعي في هذا الطرف أو في ذاك بخصوصيّتهما ، وإنّما نعلم إجمالا بوجود النجس فيهما من دون تعيين ، فيكون كلّ طرف في نفسه موردا للحكم الظاهري ؛ لأنّه مشكوك ولا يعلم حكمه الواقعي من الطهارة أو النجاسة.

الثاني : أن يكون الحكم الظاهري صالحا للتنجيز أو التعذير ، بمعنى أنّ الحكم الظاهري لا بدّ أن يكون إمّا منجّزا وإمّا معذّرا ؛ لأنّ هذا هو مقتضى جعل الحجّيّة له ؛ لأنّه إمّا أن يبرز الترخيص أو الإلزام ، وهذا الشرط محفوظ ؛ لأنّنا إذا قلنا بأنّ البراءة

ص: 253

تشمل الطرفين ، كلّ منهما مشروط بترك ارتكاب الآخر ، فسوف يكون إجراء البراءة في أحدهما معذّرا وعدم جريانها في الآخر منجّزا له على أساس حكم العقل بذلك عند عدم وجود المؤمّن ، ولا دليل على اشتراط شيء آخر زائدا عمّا ذكر.

نعم ، إذا أحرز أنّ الحكم الظاهري مخالف للواقع فلا يؤخذ به من باب مخالفته للعلم المذكور لا من باب أنّه يشترط فيه الموافقة الاحتماليّة للواقع ، إذ مع مخالفته للعلم لا يكون منجّزا ولا معذّرا كما هو واضح.

الخامس : وهو التحقيق في الجواب ، وحاصله : أنّ مفاد دليل الترخيص الظاهري ومدلوله التصديقي هو إبراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي ، ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك أنّ عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كلّ طرف منوط بترك الآخر ، وأنّه في حالة تركهما معا لا اهتمام له بالتحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا.

وكلّ هذا لا محصّل له ؛ لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت مرتبة ناقصة من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم بالإجمال.

واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما بإطلاق دليل الأصل لا يمكن إلا بالتأويل وإرجاعهما إلى الترخيص في الجامع أي في أحدهما.

وهذه العناية لا يفي بها إطلاق دليل الأصل.

الجواب الخامس : ما هو التحقيق والصحيح في الجواب عن اعتراض المحقّق العراقي ، وهذا الجواب يمكن تحليله وبيانه ضمن النقاط التالية :

الأولى : تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة في مقام الشكّ والاشتباه وعدم تمييز الملاكات الواقعيّة ، فيكون الحكم الظاهري مبرّزا لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة بمدلوله المطابقي ، وبمدلوله الالتزامي ينفي اهتمام المولى بغير هذه الملاكات.

فالترخيص الظاهري معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص الواقعيّة ، ولا يهتمّ بملاكات الإلزام ، ثمّ إنّ درجة اهتمامه بالترخيص تختلف شدّة وضعفا أي أنّه يوجد مرتبتان من الترخيص :

1 - إحداهما المرتبة العليا من الترخيص وهي تقتضي الترخيص في كلّ الأطراف ،

ص: 254

وهذا الذي لازمه عدم التحفّظ على شيء من احتمالات الإلزام في كلّ طرف. وعليه ، فلا مانع عقلا من صدور الترخيص في كلّ الأطراف كما تقدّم سابقا.

2 - الثانية المرتبة الناقصة من الترخيص وهي الترخيص في بعض الأطراف دون البعض الآخر ، وهذا يعني الحفاظ على شيء من محتملات الإلزام في بعض الأطراف. وعليه ، فتكفي الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة دون وجوب الموافقة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الإلزام ، ودون جواز المخالفة القطعيّة التي تعني أهمّيّة ملاكات الترخيص بالمرتبة العليا لا الناقصة كما هو المفروض.

فإن كانت الدرجة العليا هي الأهمّ رخّص في المخالفة القطعيّة ولم يوجب الموافقة القطعيّة ، وإن كان الدرجة الناقصة هي الأهمّ رخّص في بعض الأطراف فقط ، فيحرّم المخالفة القطعيّة ولكنّه لا يوجب الموافقة القطعيّة بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وهذا يقتضي الترخيص بالجامع أي عنوان بعض الأطراف أو أحدها.

الثانية : أنّ افتراض ترخيصين مشروطين - كما هو مفاد اعتراض المحقّق العراقي - معناه أنّ المولى يهتمّ بملاكات الترخيص وأنّه لا يهتمّ بملاكات الإلزام ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ مرتبة الترخيص التي يهتمّ بها المولى هي تلك المرتبة التي لا تتحقّق إلا بترك الآخر ، فالمولى إنّما يكون له اهتمام بالترخيص وعدم اهتمام بالإلزام فيما إذا ارتكب المكلّف أحدهما وترك الآخر.

ولازم ذلك : أنّه في حالة تركهما معا لا يكون للمولى اهتمام في التحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا ؛ لأنّه سوف يتحقّق كلا الشرطين للترخيصين المشروطين.

الثالثة : أنّ الترخيصين المشروطين لا يحقّقان المرتبة الناقصة من الترخيص ، بل المرتبة العليا من الترخيص ؛ لأنّه في حالة تركهما يتحقّق شرطهما فيكون مرخّصا في كلا الإناءين ، مع أنّ المطلوب هو ثبوت المرتبة الناقصة من الترخيص ومن الاهتمام المولوي التي تجتمع مع الحفاظ على الغرض اللزومي ولو احتمالا ؛ لأنّ المرتبة الناقصة كما قلنا معناها الموافقة الاحتماليّة والمخالفة الاحتماليّة ، والتي تقتضي عدم وجوب الموافقة القطعيّة مع حرمة المخالفة القطعيّة للواقع المعلوم بالإجمال.

ص: 255

والحاصل إنّه في مقام التصوّر وعالم الإنشاء والجعل والتشريع يمكن تصوّر الاهتمام المولوي بأحد نحوين :

أحدهما : المرتبة العليا من الترخيص والتي تستدعي جواز المخالفة القطعيّة وهذه قلنا : إنّها معقولة ثبوتا إلا أنّها مخالفة للمرتكز العقلائي القاضي بعدم وصول الأغراض الترخيصيّة إلى هذه المرتبة من الأهمّيّة في موارد العلم الإجمالي.

والثاني : هو المرتبة الناقصة من الترخيص التي تستدعي عدم وجوب الموافقة القطعيّة والتي لازمها المحافظة الاحتماليّة على الأغراض الواقعيّة ، وهذه معقولة ثبوتا وإثباتا.

الرابعة : أنّ الدليل على استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص لا يكون إلا بإصدار التخيير من الشارع ، وهذا التخيير لا يكون متعلّقا إلا بالجامع لا بالترخيص المشروط ؛ وذلك لأنّ الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما من خلال إطلاق دليل البراءة مثلا لا يفيان بهذه المرتبة كما تقدّم في النقطة الثالثة.

مضافا إلى أنّ الاهتمام المولوي في الواقع إمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الإلزام بتمامها فيوجب الموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظ ملاكات الترخيص بتمامها فيجوّز المخالفة القطعيّة ، وإمّا أن يكون بلحاظهما معا فيحرّم المخالفة القطعيّة ولا يوجب الموافقة القطعيّة ، بل يكتفي بالموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، والتي هي المرتبة الناقصة من الترخيص ، وهذه إنّما يمكن إبرازها بالتخيير المتعلّق بالجامع لا بالترخيص المشروط ، إذ لا وجود له في عالم الاهتمام المولوي بنفسه.

نعم ، يمكن استفادة المرتبة الناقصة من الترخيص على أساس الترخيصين المشروطين بعد إعمال التأويل وإرجاعهما إلى الجامع أي عنوان أحدهما ، فيقال : معنى الترخيصين المشروطين ارتكاب أحدهما وترك الآخر.

الخامسة : أنّ دليل الأصل قاصر عن إفادة هذه العناية ؛ وذلك لأنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ناظر إلى كلّ فرد مشكوك في نفسه ، وكذا قوله : « كلّ شيء لك طاهر » أو « حلال » ناظر إلى الفرد الخارجي لا إلى الجامع.

وبهذا يتّضح أنّه ثبوتا وإن كان من الممكن تصوّر الترخيص المشروط إلا أنّه ليس موجودا بنفسه في عالم الاهتمام المولوي ، وإنّما المتصوّر وجوده هناك هو التخيير المتعلّق بالجامع أي عنوان أحدهما.

ص: 256

والقول بإرجاع الترخيص المشروط إلى الجامع لا يمكن إلا بعناية وتأويل ؛ لأنّ أدلّة الأصول الترخيصيّة ناظرة إلى الأفراد الخارجيّة لا إلى الجامع ولا إلى الترخيص المشروط ، فلا يمكن استفادة تعلّق الترخيص بالجامع من أدلّة الأصول فضلا عن استفادة الترخيص المشروط منها ؛ لأنّ أدلّة الأصول مطلقة وليست مشروطة ؛ ولأنّها متعلّقة بالفرد لا بالجامع.

فتحصّل أنّ هذا التقييد ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وبالتالي لا يمكن جريان الأصول في بعض الأطراف على مسلك المشهور ، بل تتعارض وتتساقط ، وبالتالي يحكم العقل بمنجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المانع مفقود.

وفي ضوء ما تقدّم قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء ، إذ على كلّ حال لا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، ولكن سيظهر فيما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات.

قد يقال : إنّه لا فرق بين المسلكين ؛ لأنّه على كلّ تقدير يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ، إمّا من باب العلّيّة وإمّا من باب تعارض الأصول وتساقطها ، ولا يجري الأصل المؤمّن في بعض الأطراف على المسلكين ، أمّا على العلّيّة فواضح لعدم إمكان التفكيك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي وجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا على الاقتضاء فلأنّ إجراء الأصل في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّه لا يمكن الترخيص المشروط ولا التخيير المتعلّق بالجامع.

إلا أنّ الصحيح وجود بعض الثمرات والفوارق بين المسلكين ، وستأتي الإشارة إليها في تنبيهات العلم الإجمالي (1).

ص: 257


1- وعلى سبيل المثال : إذا دلّ دليل قطعي السند والدلالة على عدم وجوب الموافقة القطعيّة في مورد من موارد العلم الإجمالي كما ادّعي ذلك في جوائز السلطان مثلا ، فعلى القول بالاقتضاء يكون المورد من باب وجود المانع من تأثير المقتضي فيؤخذ بالدليل بلا إشكال ، فإنّ المنع من جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف كان لأجل محذور الترجيح بلا مرجّح. وأمّا على القول بالعلّيّة لا بدّ من تأويل هذا الدليل وتخريجه بنحو يتناسب مع عدم إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول ؛ لأنّ هذا الدليل بظاهره يفكّك بين العلّة أي العلم الإجمالي وبين المعلول أي الموافقة القطعيّة ، والمفروض أنّ التفكيك بينهما ممتنع.

ص: 258

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

ص: 259

ص: 260

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

اتّضح ممّا سبق أنّ دليل الأصل لا يفي لإثبات جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :

اتّضح من البحث السابق أنّه على القول بمسلك الاقتضاء لا يجري الأصل المؤمّن في بعض أطراف العلم الإجمالي للمعارضة وللترجيح بلا مرجّح ؛ ولأنّ أدلّة الأصول لا تثبت ذلك ؛ لأنّ لسانها مطلق من جهة وناظر إلى الفرد الخارجي من جهة أخرى ، فلا يستفاد منها تعلّقها بالجامع أو بالترخيص المشروط.

إلا أنّه توجد بعض الحالات يجري فيها الأصل المؤمّن بلا معارض ، فتكون مستثناة وخارجة من المحذور تخصّصا ؛ لأنّ المنع كان نتيجة المعارضة والترجيح بلا مرجّح ، وهنا يفترض أنّه لا معارض له لكي يكون الأخذ به ترجيحا على غيره ، وهذه الحالات هي :

منها : ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل واحد مؤمّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ؛ ونقصد بالأصلين الطوليّين أن يكون أحدهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه تعبّدا.

ومثال ذلك : أن يعلم إجمالا بنجاسة إناء مردّد بين إناءين أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ، والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معا ؛ بناء على أنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة.

الحالة الأولى : أن يكون في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي واحد ، وفي الطرف الآخر يوجد أصلان ترخيصيّان طوليّان ، والمقصود من الطوليّة هنا أن أحدهما حاكم على الآخر ، أي أنّه ينظر إلى موضوع الآخر ويرفعه تعبّدا ، ولذلك فهو مقدّم عليه.

ص: 261

ومثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ويكون أحدهما طاهرا سابقا ، فهنا يكون في مورد الإناء المعلوم طهارته سابقا أصلان ترخيصيّان طوليّان هما : أصالة الطهارة واستصحاب الطهارة ، بينما في مورد الإناء الآخر لا يوجد إلا أصالة الطهارة.

وهنا يكون استصحاب الطهارة حاكما على أصالة الطهارة ؛ وذلك لأنّ مورد جريان أصالة الطهارة هو الشكّ في الطهارة ، والاستصحاب إذا جرى في مورده يثبت العلم تعبّدا ويزيل الشكّ ، فيرتفع موضوع أصالة الطهارة تعبّدا ، ولذلك فهما طوليّان بمعنى أنّ جريان أصالة الطهارة يشترط فيها ألاّ يكون الاستصحاب جاريا وإلا ارتفع موضوعها.

فقد يقال في مثل ذلك : إنّ أصالة الطهارة في الطرف الأوّل تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض ؛ لأنّها متأخّرة عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه فكيف تقع طرفا للمعارضة في مرتبته؟

وحينئذ يقال : إنّ أصالة الطهارة الجارية في أحد الإناءين فقط تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الآخر ومقتضى تعارضهما التساقط.

والوجه في ذلك : أنّ الأصول الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي تجري وتتعارض ويحكم بتساقطها كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ ذلك يختصّ في الأصول الترخيصيّة التي تكون في عرض واحد ، وفي مقامنا تجري أصالة الطهارة في الإناء الأوّل في عرض جريان الاستصحاب للطهارة فقط في الإناء الثاني.

ولا تدخل أصالة الطهارة في الطرف الثاني في هذه المعارضة ؛ لأنّه بناء على حكومة الاستصحاب عليها تكون متأخّرة عن الاستصحاب ، أي أنّ فرض جريانها بعد فرض عدم وجود الاستصحاب ، أو بعد فرض سقوطه لو كان موجودا ، ولذلك لا يعقل جريانها في عرض جريان الاستصحاب ، بل هي متأخّرة عنه رتبة حيث أخذ عدمه شرطا في موضوعها فيستحيل دخولها في المعارضة كذلك للزوم الخلف والتقدّم والتأخّر.

والنتيجة هي : أنّه بعد سقوط أصالة الطهارة في الإناء الأوّل وسقوط استصحاب الطهارة في الإناء الثاني تجري أصالة الطهارة في الطرف الثاني من دون معارض.

ص: 262

وحينئذ إن قيل بمسلك الاقتضاء كان جريان أصالة الطهارة في أحد الطرفين جائزا ولا مانع منه ؛ لأنّ العلم الإجمالي على هذا المسلك إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة بعد فرض تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وهنا لا معارض لها ، فيكون جريانها مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة.

بينما على مسلك العلّيّة لا يمكن جريان أصالة الطهارة في الطرف الثاني ؛ لأنّ العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة وعلّيّته كذلك معناها المنع من جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد ؛ لأنّه يكون من باب التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو مستحيل.

وبكلمة أخرى : إنّ المقتضي لها إثباتا لا يتمّ إلا بعد سقوط الأصل الحاكم وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة في الطرف الأوّل ، وإذا كان الأصل متفرّعا في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفا فيها؟

وإذا استحال أن يكون طرفا في تلك المعارضة سقط المتعارضان أوّلا وجرى الأصل الطولي بلا معارض.

وبتعبير آخر أدقّ : إنّ المقتضي لجريان أصالة الطهارة في مقام الإثبات متوقّف على عدم أو على سقوط الأصل الحاكم عليها والذي هو استصحاب الطهارة في المقام. نعم ، فرض ثبوتها هو صدور الجعل والتشريع بها في موارد الشكّ في الطهارة.

والحاصل : أنّ مورد إجراء الطهارة في الشيء المشكوك طهارته متوقّف على ألاّ يكون هناك أصل حاكم عليها ، وإلا كان هو الجاري دونها تطبيقا لقانون تقدّم الدليل الحاكم على المحكوم ، وهذا يعني أنّ المقتضي لها في مقام الإثبات هو سقوط الاستصحاب ؛ لأنّه الأصل الحاكم على أصالة الطهارة.

وسقوط الاستصحاب إنّما يكون بعد إيقاع المعارضة بينه وبين أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، فلا بدّ أوّلا أن تحصل المعارضة ؛ لأنّها سبب سقوط الاستصحاب ثمّ بعد ذلك تجري أصالة الطهارة في الإناء الذي هو مورد للاستصحاب أيضا ، ولذلك لا تدخل أصالة الطهارة في المعارضة ؛ لأنّها متفرّعة عنها ، أي أنّها قبل المعارضة لا مقتضي لثبوتها.

ص: 263

وإنّما يتحقّق المقتضي لثبوتها بعد المعارضة أي أنّها من متفرّعات المعارضة ، فكيف يمكن تصوّر دخولها في المعارضة حينئذ؟ إذ لازم دخولها في المعارضة أنّها ليست متوقّفة على المعارضة وليست متوقّفة على سقوط الاستصحاب أيضا وهو خلف حكومة الاستصحاب عليها.

وبهذا ظهر الوجه في هذه الحالة وأنّ أصالة الطهارة تبقى بلا معارض ؛ لأنّها أصل طولي (1).

ومنها : ما إذا كان دليل الأصل شاملا لكلا طرفي العلم الإجمالي بذاته ، وتوفّر دليل أصل آخر لا يشمل إلا أحد الطرفين.

ومثال ذلك : أن يكون كلّ من الطرفين موردا للاستصحاب المؤمّن ، وكان أحدهما خاصّة موردا لأصالة الطهارة.

الحالة الثانية : أن يكون هناك أصلان ترخيصيّان أحدهما شامل لكلا الطرفين والآخر مختصّ بأحدهما فقط.

مثاله : ما إذا كان لدينا إناءان حالتهما السابقة الطهارة فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك لتماميّة أركان الاستصحاب في كل منهما.

ولكن يفرض أنّه في أحد الإناءين تجري أصالة الطهارة دون الآخر ، وهذا يكون بناء على أنّ أصالة الطهارة لا تجري إلا في مورد النجاسة العرضيّة لا الذاتيّة.

فلو كان لدينا إناءان يعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما وكان أحدهما ماء والآخر يشكّ في كون المائع الذي فيه من الخمر أو من العصير العنبي ، وفرض أنّ الحالة السابقة لكلا الإناءين هي الطهارة.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما لتوفّر أركانه فيهما ، إلا أنّ أصالة

ص: 264


1- هذا كلّه على حكومة الاستصحاب على أصالة الطهارة ، وأمّا على إنكار حكومته عليها فيمكن تصوير المسألة بنحو آخر ، وذلك بأن يقال : إنّ أصالة الطهارة في كلّ من الإناءين تتعارضان وتتساقطان فيبقى استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض. والوجه في ذلك : أنّ أصالة الطهارة في هذا مسانخة لأصالة الطهارة في ذاك ، بينما استصحاب الطهارة ليس من سنخهما فيتعارض الأصلان المتسانخان فقط ، ويبقى الآخر.

الطهارة لا تجري إلا في الإناء المعلوم كونه ماء دون الإناء المشكوك كونه خمرا أو عصيرا ، بناء على عدم جريانها عند الشكّ في النجاسة الذاتيّة ؛ لأنّ الإناء الآخر لو كان خمرا فهو نجس ذاتا بخلاف ما لو كان عصيرا فإنّه بنفسه طاهر ، والنجاسة تكون عارضة عليه ، بينما الإناء الأوّل فهو طاهر ذاتا ؛ لأنّه ماء وهو معلوم الطهارة الذاتيّة والشكّ في نجاسته يكون منشؤه الشكّ في عروض النجاسة عليه.

والحاصل : أنّ الإناء الموجود فيه الماء يكون مجرى لاستصحاب الطهارة ومجرى لأصالة الطهارة أيضا. بينما الإناء الموجود فيه المائع المشكوك كونه خمرا أو عصيرا لا يكون مجرى إلا لاستصحاب الطهارة دون أصالة الطهارة ، وحينئذ نقول :

ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، وتجري أصالة الطهارة بدون معارض سواء قلنا بالطوليّة بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضيّة.

ففي هذه الحالة سوف يتعارض استصحاب الطهارة في هذا الإناء مع استصحاب الطهارة في الإناء الآخر ، ومقتضى التعارض الحكم بالتساقط ، فتكون أصالة الطهارة في الإناء الموجود فيه الماء ثابتة من دون معارض.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة وعدم ذلك ؛ لأنّنا نريد إجراء أصالة الطهارة بعد سقوط الاستصحاب لا قبله ، فعلى الطوليّة بينهما لا تدخل في المعارضة ؛ لأنّها فرع سقوط الاستصحاب أوّلا بالمعارضة فلا تدخل فيها كما تقدّم.

وأمّا على القول بالعرضيّة أي أنّها تجري في عرض واحد مع الاستصحاب فلا تدخل في المعارضة أيضا ؛ لأنّها من غير سنخ الاستصحابين.

وبتعبير آخر نقول :

وذلك لأنّ أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها لا من دليل أصالة الطهارة نفسها ولا من دليل الاستصحاب.

أمّا الأوّل فلأنّ دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر بحسب الفرض ليتعارض الأصلان.

وأمّا الثاني فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي في الدليل يوجب إجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

ص: 265

والوجه في عدم سقوط أصالة الطهارة وعدم دخولها في المعارضة هو أنّ المعارض لأصالة الطهارة أحد أمرين :

1 - أن تكون معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع جريان أصالة الطهارة في كلا الطرفين.

2 - أن تكون معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر ، وهذا فرع عدم الطوليّة بينهما وإلا لم تدخل في المعارضة ؛ لأنّها إنّما تثبت بعد المعارضة لا قبلها.

وكلا هذين الأمرين منتفيان في المقام وذلك :

أمّا كونها معارضة بأصالة الطهارة في الطرف الآخر فالمفروض في مقامنا أن الطرف الآخر يشكّ في كونه خمرا أو عصيرا ، فهو مشكوك الطهارة والنجاسة ذاتا ، وفي مثل ذلك لا تجري أصالة الطهارة كما هو المفروض هنا.

وأمّا كونها معارضة باستصحاب الطهارة في الطرف الآخر فهذا وإن كان معقولا في نفسه بناء على العرضيّة ، إلا أنّه إنّما يتمّ فيما لو كان دليل الاستصحاب في الطرف الآخر ثابتا في نفسه ، وهذا غير متحقّق في مقامنا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب مبتلى بالتعارض الداخلي ؛ لأنّه شامل لكلا طرفي العلم الإجمالي وشموله لهما كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة المستحيلة.

وهذا معناه أنّه شامل لأحد الطرفين فقط ، وحينئذ فقد يكون شاملا للطرف الذي تجري فيه أصالة الطهارة دون الآخر فلا تعارض ، وقد يكون شاملا للطرف الآخر فيقع التعارض بينهما.

ولكن حيث لا يمكن تشخيص أحد الطرفين وتعيينه ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيتعيّن سقوط دليل الاستصحاب في كلا الطرفين أو على الأقلّ يكون مجملا ، وعلى كلا التقديرين لا يصلح لمعارضة أصالة الطهارة ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فمن الواضح عدم معارضته لها ، وإذا كان مجملا في نفسه ولا يعلم الإناء الذي يشمله من الآخر فالدليل المجمل لا يصلح لأن يعارض غيره.

وهكذا تكون أصالة الطهارة جارية في الطرف الواحد دون معارض ، ويأتي الخلاف هنا على القولين الاقتضاء والعلّيّة ، فعلى الأوّل يؤخذ بها بلا إشكال وعلى الثاني لا يؤخذ بها.

ص: 266

ونفس هذه الحالة يمكن فرضها بنحو آخر فيقال : أن يكون لدينا طرفان كلاهما مشمول في نفسه لدليل البراءة ، بينما أحدهما خاصّة فيه استصحاب الطهارة ، فهنا تتعارض البراءة في كلّ منهما ويحكم بسقوطهما ، ويبقى استصحاب الطهارة بلا معارض ، والوجه فيه نفس ما تقدّم آنفا.

ومنها : أن يكون الأصل المؤمّن في أحد الطرفين مبتلى في نفس مورده بأصل معارض منجّز دون الأصل في الطرف الآخر ، ومثاله أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرى لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ أحدهما مجرى لاستصحاب النجاسة أيضا لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما.

الحالة الثالثة : أن يكون هناك أصل ترخيصي شامل لكلا الطرفين ويكون في أحدهما أصل إلزامي.

ومثاله : ما إذا كان لدينا إناءان فيهما ماء وعلمنا إجمالا الآن بنجاسة أحدهما للعلم بسقوط قطرة دم في أحدهما ، ويفرض أنّنا نعلم بطهارتهما سابقا.

غير أنّ أحدهما المعيّن كان نجسا سابقا وطهّر أيضا ولكنّنا لا نعلم بالمتقدّم والمتأخّر منهما ، أي أنّنا نعلم بتوارد حالتي الطهارة والنجاسة عليه ولكنّنا لا نعلم أيهما المتقدّم وأيهما المتأخّر.

فهنا يجري استصحاب الطهارة في كلّ منهما ؛ لأنّها معلومة سابقا فيهما ، ولكن في الإناء الآخر حيث يعلم بطروّ النجاسة عليه ويشكّ في زمانهما يجري أيضا استصحاب النجاسة المعلومة فيه سابقا.

وهذا يعني أنّه يوجد في أحد الإناءين استصحاب الطهارة ، بينما في الإناء الآخر يوجد استصحابان أحدهما استصحاب الطهارة والآخر استصحاب النجاسة.

فقد يقال حينئذ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض ؛ لأنّ استصحاب الطهارة في الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة.

ففي هذه الحالة يوجد قولان :

أحدهما : أنّ استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته سابقا يجري بلا

ص: 267

معارض ؛ وذلك لأنّ معارضه وهو استصحاب الطهارة في الطرف المعلوم طهارته ونجاسته ساقط عن الحجّيّة بسبب تعارضه مع استصحاب النجاسة في نفس مورده ، أي أنّه مبتلى بالمعارضة الداخليّة بسبب توارد الحالتين على هذا الطرف.

وإذا كان للأصل معارض داخلي فلا يمكن أن يكون معارضا للأصل الخارجي ؛ لأنّ المعارضة الداخليّة تسقطه عن الحجّيّة فلا يكون معارضا للأصل في الطرف الآخر ، فيكون استصحاب الطهارة في ذاك الطرف جاريا بلا معارض.

وقد يقال في مقابل ذلك بأنّ التعارض يكون ثلاثيّا ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في وقت واحد. وتحقيق الحال متروك إلى مستوى أعمق من البحث.

والقول الآخر : أنّ المعارضة توقع ابتداء بين الاستصحابات الثلاثة ، أي أنّ استصحاب الطهارة في الإناء الذي تواردت عليه الحالتان ( الطهارة والنجاسة ) يكون له معارضان ، أحدهما معارض داخلي في نفس مورده وهو استصحاب نجاسة الإناء ، والآخر معارض خارجي وهو استصحاب طهارة الإناء الآخر.

والوجه في ذلك : أنّ هذه الأصول كلّها في عرض واحد ؛ إذ لا طوليّة بينها وكلّها من سنخ واحد ؛ لأنّ دليلها واحد أيضا.

والتحقيق في المسألة متروك إلى البحث الخارج.

وإذا صحّ جريان الأصل بلا معارض في هذه الحالات كان ذلك تعبيرا عمليّا عن الثمرة بين القول بالعلّيّة والقول بالاقتضاء.

والحاصل أنّه في هذه الحالات الثلاث إذا كان جريان الأصل الترخيصي في الطرف الواحد تامّا ، فيكون هذا عبارة عن الثمرة بين المسلكين الاقتضاء والعلّيّة ؛ لأنّه على الاقتضاء سوف يؤخذ بهذا الأصل الترخيصي ويرفع اليد عن وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّها كانت فرع جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف وتعارضها وتساقطها ، وهنا لا معارض لهذا الأصل.

وأمّا على مسلك العلّيّة فلا يمكن الأخذ بهذا الأصل الترخيصي حتّى لو لم يكن له معارض ؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعيّة كان وليد علية العلم الإجمالي لها ، وهذا لا يتوقّف على جريان الأصول وعدم جريانها ، أو على تعارضها وعدم

ص: 268

تعارضها ، بل لا يجري الأصل الترخيصي مطلقا ؛ لأنّه تفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال عقلا.

وقد تلخّص ممّا تقدّم أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ، وأنّه كلّما تعارضت الأصول الشرعيّة المؤمّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لتنجّز الاحتمال في كلّ شبهة بعد بقائها بلا مؤمّن شرعيّ وفقا لمسلك حقّ الطاعة.

وحيث إنّ تعارض الأصول يستند إلى العلم الإجمالي فيعتبر تنجّز جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

والصحيح في كيفيّة تصوير منجّزيّة العلم الإجمالي أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بنفسه يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع معلوم على جميع المسالك والاتّجاهات ، والعلم ينجّز معلومه بنحو معلّق على عدم صدور الإذن والترخيص ، إلا أنّ صدوره في موارد العلم الإجمالي ممّا لا يمكن إثباته ؛ لأنّه على خلاف المرتكزات العقلائيّة كما تقدّم ، هذا بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا بالنسبة لوجوب الموافقة القطعيّة فنقول : إنّ العلم الإجمالي ليس علّة بنفسه لذلك خلافا لما ذكره المحقّق العراقي ، بل العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة في حالة تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في تمام أطرافه وتساقطها.

فالمنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة ليست ناشئة من نفس العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس علّة وليس مقتضيا لها ، وإنّما لأجل تعارض الأصول وتساقطها.

فإنّه بعد تساقطها سوف يكون التكليف في كلّ طرف محتملا ، واحتمال التكليف منجّز على ما هو الصحيح من منجّزيّة كلّ انكشاف على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى.

نعم ، احتمال التكليف منجّز بنحو معلّق على عدم صدور الترخيص ، والمفروض هنا أنّ الترخيص غير تامّ فتكون منجّزيّته ثابتة لعدم ثبوت المانع منها.

وبهذا يمكننا أن نقول : إنّ العلم الإجمالي يستدعي الموافقة القطعيّة بنحو من المسامحة ؛ لأنّ المنجّز في الحقيقة هو ما ذكرنا ، إلا أنّ دور العلم الإجمالي هنا هو إيجاد التعارض بين الأصول الترخيصيّة ، حيث إنّ هذه الأصول تجري في كلّ طرف ؛

ص: 269

لأنّه مشمول لها في نفسه ، ولكن لا يمكن الأخذ بها جميعا بسبب العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الأخذ ببعضها دون الآخر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فلذلك تتعارض وتتساقط.

فكان دور العلم الإجمالي في الحقيقة دور المنشأ لحصول التعارض الذي يسبّب سقوط الأصول الترخيصيّة ، والذي يعني أنّ كلّ طرف لا مؤمّن شرعي فيه ، والذي يؤدّي إلى أن يكون حكم العقل لمنجّزيّة الاحتمال تامّا ، وعليه فإذا أسندت المنجّزيّة للموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي كان ذلك على أساس أنّه المنشأ لثبوتها على أساس هذه السلسلة.

ولا فرق في منجّزيّة العلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد ، أو تكليفا من نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة الآخر.

ثمّ إنّه يوجد صورتان للمعلوم إجمالا :

إحداهما : أن يكون المعلوم إجمالا نوعا واحدا من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة كالحرمة والوجوب والنجاسة ونحو ذلك ، كما إذا علم بحرمة إحدى هاتين السمكتين ، وكما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، وكما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فهنا يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة بسبب العلم بالجامع ، ويكون سببا للموافقة القطعيّة لتعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها.

والأخرى : أن يكون المعلوم إجمالا نوعين من التكليف ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة هذا الإناء أو بحرمة هذه السمكة ، فهنا النجاسة والحرمة نوعان مختلفان من الأحكام ، ولكن مع ذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ جامع الإلزام بينهما معلوم ، ويكون سببا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة فيهما متعارضة فيحكم بتساقطهما ، فأصالة الطهارة في الإناء تتعارض مع أصالة الحلّ في السمك ، وبعد سقوطهما يكون احتمال التكليف في كلّ منهما بلا مؤمّن شرعي فيكون منجزا لهما بحكم العقل بناء على مسلك حقّ الطاعة.

كما لا فرق أيضا بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع التكليف ؛ لأنّ العلم بموضوع التكليف إجمالا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للتكليف الشرعي.

ص: 270

ثمّ إنّه لا فرق بين كون المعلوم بالإجمال تكليفا أو موضوعا للتكليف ، فهنا صورتان :

الأولى : أن يكون المعلوم بالإجمال تكليفا كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإنّه علم إجمالي بجامع الوجوب فالمعلوم هو الوجوب ، وهكذا. وهذا ما كان الكلام عنه فعلا فيما تقدّم.

الثانية : أن يكون المعلوم بالإجمال موضوعا للحكم الشرعي ، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو ذاك ، أو علم بنجاسة هذا الثوب أو نجاسة ذاك الإناء ، فهنا نجاسة الثوب ونجاسة الماء ليست حكما شرعيّا ، وإنّما نجاسة الثوب يترتّب عليها حكم شرعي كعدم جواز الصلاة فيه مثلا ، ونجاسة الماء كذلك فإنّه يترتّب عليها عدم جواز شربه وعدم صحّة الوضوء به.

فالعلم الإجمالي بالموضوع يساوق عمليّا العلم الإجمالي بالتكليف.

إلا أنّه يشترط في منجّزيّة هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، ووجوب الموافقة القطعيّة ، أن يكون الموضوع المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف الشرعي كالمثالين المذكورين ، فإنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لعدم جواز الشرب ولعدم صحّة الوضوء ، ونجاسة الثوب تمام الموضوع لبطلان الصلاة فيه.

وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كلّ تقدير أو على بعض التقادير فلا يكون العلم منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق حينئذ العلم الإجمالي بالتكليف.

ذكرنا أنّه يشترط في منجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بموضوع التكليف أن يكون المعلوم إجمالا تمام الموضوع للتكليف ؛ لأنّ العلم به يكون مساوقا للعلم بالتكليف.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي به علما إجماليّا بالتكليف ؛ لأنّ التكليف ليس مترتّبا على هذا الجزء بل على تمام الموضوع ، فلا بدّ من العلم بالجزءين معا ليكون التكليف معلوما ، ولا فرق في كونه جزءا لموضوع التكليف بين أن يكون جزءا كذلك على كلّ تقدير أو على بعض التقادير.

ومثال الأوّل ما إذا علم بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد ، فإنّ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة قطعة حديد ليس تمام الموضوع لأي حكم شرعي تكليفي أو وضعي. نعم ، هي جزء الموضوع لحرمة شرب الماء.

ص: 271

والجزء الآخر لموضوع هذه الحرمة هو أن يكون الماء ملاقيا لهذه القطعة الحديديّة النجسة ، فسواء كانت هذه القطعة هي النجسة أم تلك فعلى كلّ تقدير هي جزء الموضوع.

ومثال الثاني ، ما إذا علم بنجاسة قطعة الحديد ، أو نجاسة هذا الثوب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع النجاسة إلا أنّ النجاسة إذا كانت في قطعة الحديد فهي جزء الموضوع ، وإذا كانت في الثوب فهي تمام الموضوع ، فالمعلوم بالإجمال جزء الموضوع على بعض التقادير أي على تقدير كونه قطعة الحديد لا الثوب.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف.

أمّا على الأوّل بأن يكون المعلوم جزء الموضوع على كلّ تقدير فواضح ؛ لأنّ ثبوت جزء الموضوع لا يثبت التكليف فلا علم بشيء من التكاليف.

وأمّا الثاني أي أن يكون المعلوم جزء الموضوع على بعض التقادير وتمامه على البعض الآخر فلا يكون منجّزا أيضا ؛ لأنّه لا يساوق العلم بالتكليف على كلّ تقدير أيضا بل على بعض التقادير ، ولذلك لا يعلم بالجامع بل يشكّ بالفرد ابتداء ، فتجري فيه البراءة أو الطهارة ونحوهما.

ومن هنا لا يكون العلم الإجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزا ، خلافا للعلم الإجمالي بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين.

أمّا الأوّل فلأنّ نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليف شرعي ، بل هي جزء موضوع لحرمة الاجتناب عن الماء مثلا ، والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديديّة ، والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر ، وأمّا الثاني فلأنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه.

وعلى أساس ما ذكرناه من اشتراط كون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لا جزءه ، نعرف أنّ العلم الإجمالي بنجاسة إحدى هاتين القطعتين من الحديد لا يكون منجّزا ، بينما العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين أو أحد الثوبين يكون منجّزا.

والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي الأوّل يساوق العلم بالتكليف ، بينما العلم الإجمالي الثاني يساوق العلم الإجمالي بالتكليف.

ص: 272

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي الأوّل على فرض ثبوته فالقطعة الحديديّة النجسة ليست هي تمام الموضوع لحكم شرعي ، بل هي جزء الموضوع والجزء الآخر الملاقاة معه ، فمثلا حرمة شرب الماء موضوعها مركّب من جزءين :

الأوّل : أن تكون القطعة الحديديّة نجسة ، والثاني : أن تتحقّق الملاقاة بأن يلاقي الماء هذه القطعة ، وهنا لا يعلم إلا بنجاسة الحديدة ، وأمّا الملاقاة فلا يعلم بها ، ولذلك لا يتحقّق التكليف ، ولا يكون العلم بها مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فعلى فرض ثبوت المعلوم فيه فالماء النجس أو الثوب النجس تمام الموضوع لحرمة الشرب ولبطلان الصلاة ، فكان العلم الإجمالي هنا مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف.

ومثل الأوّل العلم الإجمالي بنجاسة قطعة حديديّة أو نجاسة الماء ؛ لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين.

ذكرنا أنّ جزء الموضوع تارة يكون جزؤه على كلّ تقدير كالمثال السابق أي العلم بنجاسة إحدى الحديدتين ، فسواء كانت الحديدة الأولى نجسة أم الثانية فلا يتحقّق إلا جزء الموضوع فقط.

وأخرى يكون جزء الموضوع على بعض التقادير دون البعض الآخر ، كما إذا علم بنجاسة قطعة حديد أو نجاسة الماء ، فإنّه إن كان النجس قطعة الحديد فالمتحقّق جزء الموضوع ، وإن كان النجس الماء فالمتحقّق تمام الموضوع.

وهذا أيضا لا يكون منجّزا ؛ لأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، بل على بعض التقادير فقط ، فلا علم بالجامع وإنّما هناك شكّ في الفرد ابتداء أي أنّه يشكّ في كون الماء نجسا أم لا ، فتجري أصالة الطهارة فيه.

والضابط العامّ للتنجيز : أن يكون العلم الإجمالي مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

وكلّما لم يكن العلم الإجمالي كذلك فلا ينجّز ، وتجري الأصول المؤمّنة في مورده بقدر الحاجة.

ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ، ولا تعارضها أصالة الطهارة في الحديد ؛ إذ لا أثر عملي لنجاسته فعلا.

ص: 273

والضابط العامّ لمنجّزيّة العلم الإجمالي المتعلّق بالموضوعات هو أن يكون العلم الإجمالي بالموضوع مساوقا للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، وأمّا إذا لم يكن مساوقا لذلك فلا يكون منجّزا لمعلومه وبالتالي تجري الأصول الترخيصيّة في مورده بلا معارض.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو الثوبين كان العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي هنا يساوق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ نجاسة الماء أو الثوب يترتّب عليها بالفعل حرمة الشرب وبطلان الصلاة.

وأمّا إذا علمنا بنجاسة إحدى القطعتين من الحديد أو علمنا إجمالا بنجاسة قطعة حديد أو بنجاسة الماء ، فهنا لا يكون منجّزا ؛ لأنّه لا يساوق التكليف الفعلي ، أمّا المثال الأوّل فواضح إذ لا تكليف أصلا.

وأمّا المثال الثاني فلأنّ جامع التكليف غير معلوم على كلّ حال ، وعليه فتجري أصالة الطهارة في الماء ولا يعارضها أصالة الطهارة في الحديدة ؛ إذ لا فائدة ولا معنى لجريان أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّها حتّى لو بقيت نجسة فعلا فلا أثر شرعي لها ما دامت الملاقاة غير متحقّقة ؛ لأنّه لا تكليف يترتّب بالفعل على نجاسة الحديدة لينفى بأصالة الطهارة كما هو واضح.

* * *

ص: 274

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 275

ص: 276

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

نستطيع أن نستخلص ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي لها عدّة أركان :

الركن الأوّل : وجود العلم بالجامع ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلّ طرف بدوية وتجري فيها البراءة الشرعيّة.

الركن الأوّل : من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي هو العلم بالجامع ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، فإنّ جامع النجاسة معلوم ، ولو لا هذا العلم بالجامع لكان لدينا إمّا علم تفصيلي بالطرف وإمّا شبهة بدويّة بكلا الطرفين.

ففي العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء بعينه تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر إن توفّرت فيه شروطها.

وفي الشبهة البدويّة تجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، أمّا على مسلك المشهور فيكون كلّ منهما مجرى للبراءة العقليّة على أساس مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا على المسلك المختار فتجري البراءة الشرعيّة.

ولا مانع من جريان الأصل المؤمّن في كلا الطرفين ؛ لأنّ دليل الأصل المؤمّن مطلق لكلّ فرد ، ولا يوجد مانع من الأخذ بهذا الإطلاق بحسب الفرض ، وهذا ما لا إشكال فيه.

ولا شكّ في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علما وجدانيّا ، وأمّا إذا كان ما يعبّر عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحث فيه ، ومثاله أن تقوم البيّنة مثلا على نجاسة أحد الإناءين ، فهل يطبّق على ذلك قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي أيضا؟ وجهان :

ثمّ إنّ العلم بالجامع إنّما يكون منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة

ص: 277

بالنحو المتقدّم ، فيما إذا كان العلم وجدانيّا ، وذلك بأن يقطع وجدانا بالنجاسة كما إذا رأى بعينه قطرة دم تقع في الإناء ثمّ اشتبه الإناء النجس مع غيره ، وهذا العلم الوجداني ممّا لا إشكال في وفائه بالمنجّزيّة المذكورة.

وإنّما الكلام فيما إذا حصل لنا العلم التعبّدي بنجاسة أحد الإناءين ، كما لو قامت البيّنة على أنّ أحد الإناءين نجس ، فإنّ البيّنة لا تفيد القطع الوجداني وإنّما تفيد الظنّ فقط ، ولكن بناء على جعل الحجّيّة لها وأنّها كالعلم الوجداني في المنجّزيّة والمعذّريّة يقع البحث في أنّ هذه الأمارات هل تفي في منجّزيّة العلم الإجمالي أو لا؟

وهنا احتمالان بل قولان :

فقد يقال بالتطبيق على أساس أنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ، فيترتّب عليه آثار العلم الطريقي التي منها منجّزيّة العلم الإجمالي.

القول الأوّل : أنّ قيام الأمارة على ثبوت التكليف إجمالا يكون منجّزا كقيام القطع على ذلك ؛ لأنّ أدلّة الحجّيّة للأمارة مفادها جعل الأمارة علما ، فترتّب على الأمارة كلّ الآثار المترتّبة على القطع الطريقي والتي من جملتها منجّزيّة العلم الإجمالي ، فإنّ هذه المنجّزيّة ثابتة للعلم ؛ لأنّه طريق وكاشف عن الواقع ولو إجمالا ، والأمارة تقوم مقام القطع في الكاشفيّة والتنجيز والتعذير كما تقدّم في محلّه ، بناء على مسلك الميرزا من تصوير كيفيّة جعل الحكم الظاهري والجمع بينه وبين الحكم الواقعي.

وقال غيره كالمحقّق العراقي مثلا بأنّ دليل حجّيّة الأمارة حاكم على أدلّة الأصول العمليّة ، ففي مثالنا يجري في كلا الطرفين الأصل الترخيصي المؤمّن ؛ لأنّه مورده.

إلا أنّه بقيام البيّنة على النجاسة يرتفع موضوع أحد الأصلين تعبّدا ، وحيث إنّه لا يعلم بعينه وحيث إنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي متعلّق بالواقع فيجب الاجتناب عن كلا الفردين على أساس أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وقد يقال بعدمه على أساس أنّ الأصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كلّ الأطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث لعدم العلم بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.

القول الثاني : أنّ العلم التعبّدي أو قيام البيّنة ونحوها من الأمارات على ثبوت

ص: 278

التكليف إجمالا لا يكون منجّزا ، بمعنى أنّه لا تطبّق قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي على المورد ، وذلك أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة كانت فرع تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها ، من حيث إنّ جريانها في كلّ الأطراف فيه مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال وجريانها في البعض ترجيح بلا مرجّح ، وكلا هذين النحوين لا يتمّان في البيّنة ؛ لأنّها من الأحكام الظاهريّة والتي لا تفيد إلا الظنّ بالواقع.

وهذا يعني أنّه لا قطع بالنجاسة وإنّما هناك ظنّ بها ، والشارع وإن تعبّدنا بحجّيّة الأمارة إلا أنّ ذلك لا يعني صيرورة الواقع معلوما ، وتسميتها بالعلم التعبّدي مسامحة في التعبير ؛ لوجود المناسبة بينها وبين العلم الحقيقي.

وحينئذ نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ، ولا يلزم من جريانها فيهما المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، إذ النجاسة المعلومة إجمالا بالبيّنة قد لا تكون ثابتة في الواقع ؛ لاحتمال عدم مطابقة البيّنة للواقع كما هو مقتضى الأحكام الظاهريّة ومقتضى القول بالتخطئة واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وما دام يحتمل ألاّ يكون هناك نجاسة في الواقع فلا يقطع بالمخالفة وإنّما المخالفة احتماليّة فقط.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

أمّا القول الأوّل فلأنّنا ننكر أن المجعول في باب الأمارات العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة ؛ إذ المجعول فيها كما هو الصحيح أهميّة الاحتمال الكاشف عن الملاكات الواقعيّة وإبراز ما هو الأهمّ بنظر الشارع.

وأمّا القول الثاني فلأنّ جريان الأصول الترخيصيّة مع قيام الأمارة على النجاسة إجمالا معناه اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين على واقعة واحدة وهو محال ، إذ الأصلين مفادهما أنّه لا نجاسة بينما الأمارة مدلولها ثبوت النجاسة في أحدهما.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ البيّنة تارة يفترض قيامها ابتداء على الجامع ، وأخرى يفترض قيامها على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ لقيام الأمارة حالتين :

إحداهما : أن تقوم الأمارة ابتداء على الجامع بأن تشهد البيّنة على وجود النجاسة

ص: 279

في أحد الإناءين ، وذلك بأن كان الشاهدان قد شاهدا قطرة الدم تقع في أحدهما ولم يشخّصا الإناء الذي وقعت فيه القطرة.

الثانية : أن تقوم الأمارة على الفرد بأن تشهد البيّنة على رؤية الدم في الإناء المشخّص ، إلا أنّه اختلط هذا الإناء بغيره بحيث لم يمكن التمييز بينهما ، وحينئذ نقول :

أمّا في الحالة الأولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجّيّة الأمارة الذي ينجّز مؤدّاها ، والآخر دليل الأصل الجاري في كلّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان لعدم إمكان العمل بهما معا.

والوجه الأوّل يفترض تماميّة الدليل الأوّل ويرتّب على ذلك عدم إمكان إجراء الأصول.

والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك ، فيقول : لا محذور في جريانها.

والاتّجاه الصحيح هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.

أمّا الحالة الأولى : أي فيما إذا قامت البيّنة ابتداء على الجامع بأن شهدت بوقوع النجاسة في أحد هذين الإناءين فهنا يوجد لدينا دليلان جاريان.

أحدهما : دليل حجّيّة الأمارة الذي يتعبّدنا بالنجاسة بنحو يكون منجّزا لهذه النجاسة.

والآخر : دليل حجّيّة الأصل المؤمّن أي دليل الطهارة فإنّ أصالة الطهارة تشمل كلا الفردين.

إلا أنّنا لا يمكننا الجمع بين هذين الدليلين ؛ لأنّهما متنافيان عمليّا ، فإنّ دليل الأمارة ينجّز التكليف بينما دليل الأصل يؤمّن عن كلا الفردين ، فيقع التعارض بينهما من ناحية المدلول الالتزامي للأمارة والدليل المطابقي للأصل.

فإنّ دليل الأمارة مدلولها المطابقي تنجيز الجامع للنجاسة ومدلولها الالتزامي أنّه لا يمكن إجراء الأصل الترخيصي لا في هذا الإناء ولا في ذاك ، إذ جريان الأصل في الطرفين معا معناه رفع اليد عن النجاسة التي هي مدلول مطابقي للأمارة ، وجريانه في أحدهما ترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ من طرحه فيهما معا.

بينما دليل الأصل مفاده ومدلوله المطابقي إمكان جريان الأصل الترخيصي في كلّ من الفردين من دون محذور.

ص: 280

وهذا التعارض لا بدّ من حلّه وفقا لقوانين التعارض التي سوف تأتي.

والصحيح في حلّ التعارض هو تقديم دليل الأمارة وطرح دليل الأصل ، لا للحكومة ولا لكونها علما ، وإنّما لأجل أنّ دليل الأمارة نصّ في مورده بينما دليل الأصل يشمل المورد المذكور بإطلاقه ، فيكون دليل الأمارة أخصّ نصّا بينما دليل الأصل عامّ ومطلق ، وفي مثل ذلك يحكم العرف بتقديم الدليل الأخصّ والذي يكون نصّا في مورده ويرفع اليد عن إطلاق دليل الأصل في هذا المورد.

فتكون النتيجة تقديم الأمارة وبالتالي تكون منجّزة للجامع والذي بدوره يتطلّب الاجتناب عن كلا الإناءين.

فإن قيل : أليس دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الأصل؟

كان الجواب : أنّ هذه الحكومة إنّما هي فيما إذا اتّحد موردهما ، لا في مثل المقام ، إذ تلغي الأمارة تعبّدا الشكّ بلحاظ الجامع ، وموضوع الأصل في كلّ من الطرفين الشكّ فيه بالخصوص فلا حكومة ، بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزان آخر لتقديم دليل الحجّيّة على دليل الأصل من قبيل الأخصّيّة أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

وهنا قد يقال : إنّ التعارض بين دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة حيث إنّ مفاد الحجّيّة جعل العمليّة فهو يرفع موضوع الأصل والذي هو الشكّ فيكون حاكما عليه ، ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم.

إلا أنّ الصحيح : أنّه لا حكومة بين دليل حجّيّة الأمارة وبين دليل الأصل ؛ لأنّه يشترط في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، والنظر لا يتحقّق إلا إذا كان موضوعهما واحدا ، كما في قوله ، ( لا ربا بين الوالد والولد ) ، فإنّه حاكم على أدلّة حرمة الربا ؛ لأنّه شامل بعمومه وإطلاقه للربا بين الوالد والولد ، فيكون الدليل الأوّل حاكما ؛ لأنّه ناظر إلى موضوع الآخر على أساس وحدة الموضوع بينهما.

وهنا الموضوع مختلف ، فإنّ موضوع الأمارة هو الجامع ، أي أنّها تفيد التعبّد بإلغاء الشكّ عن الجامع فقط ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي قامت عليه الأمارة لا أكثر ، فيخرج

ص: 281

الجامع عن كونه مشكوكا ، فلا تجري الأصول الترخيصيّة بلحاظ الجامع ، بينما موضوع الأصل هو كلّ طرف بخصوصه ؛ لأنّ كلّ واحد من الإناءين في نفسه مشكوك ، إذ لا يعلم بأنّه النجس فيكون مشمولا للأصل بلحاظ كونه مشكوكا لا بلحاظ كونه مصداقا للجامع الذي ارتفع الشكّ بلحاظ.

وحيث إنّه لم يتّحد الموضوع فيهما فلا يكون أحدهما حاكما على الآخر ، إذ لا يحرز النظر حينئذ ، بل يمكن الأخذ بكلا الدليلين لو لا وجود مرجّح آخر.

فلو قطعنا النظر عن وجود المرجّح كانت البيّنة منجّزة للجامع ، وهذا يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة بارتكاب كلا الإناءين ، ولكنّه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد واحد فقط ، ويكون دليل الأصل شاملا لكلّ من الفردين في نفسه ولكن لا يشمله بلحاظ كونه مصداقا للجامع ، أي أنّه يوجد مانع عرضي لا ذاتي.

إلا أنّه هنا يوجد ميزان آخر للترجيح وهو الأخصّيّة والأنصّيّة للأمارة في موردها فتقدّم على دليل الأصل المطلق أو العامّ ؛ لأنّه يشمل المورد بإطلاقه وعمومه ، وهنا يلغى دليل الأصل في هذا المورد لتقديم النصّ والأخصّ عليه.

كما هو الحال في كلّ دليلين أحدهما عامّ أو مطلق والآخر خاصّ أو مقيّد ، كقولنا : ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ).

وبعد تقديم دليل حجّيّة الأمارة سوف تترتّب آثار العلم الإجمالي من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة بالتقريب الصحيح المتقدّم سابقا.

وأمّا في الحالة الثانية : فالأصل ساقط في مورد الأمارة ؛ للتنافي بينهما وحكومة الأمارة عليه.

ولمّا كان موردها غير معيّن ومرددا بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كل من الطرفين ؛ للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في أحدهما ، ولا مسوّغ لإجرائه في أحدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معا.

وأمّا الحالة الثانية فهي أن تقوم البيّنة على نجاسة أحد الإناءين بعينه ثمّ يشتبه حاله ويتردّد أمره بين إناءين ، فهنا حينما قامت البيّنة على نجاسة الفرد بعينه فقد نجّزته وأخرجته عن دائرة الشكّ وعن مورد جريان أصالة الطهارة ونحوها من الأصول

ص: 282

الترخيصيّة ؛ لأنّها في هذا الفرض تكون حاكمة على الأصل المفترض جريانه في هذا الإناء المعيّن ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد فتكون الأمارة حاكمة ؛ لأنّها ناظرة إلى موضوع دليل الأصل وتنفي جريانه في هذا المورد بمدلولها الالتزامي ، وهذا واضح.

ثمّ إنّ هذا الإناء الذي سقط فيه الأصل المؤمّن وثبتت فيه الأمارة المنجّزة قد تردّد أمره بين إناءين ، وهنا لا يمكننا إجراء الأصل المؤمّن لا في كلا الطرفين ولا في أحدهما فقط.

أمّا الأوّل فلأنّنا نعلم أنّ الأصل ساقط عن الحجّيّة في أحد الإناءين ؛ لكونه محكوما للأمارة فيكون جريانه فيهما معا تقديما للمحكوم على الحاكم ، وهو غير معقول.

وأمّا الثاني فلأنّ شموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه ، ولذلك يكون كلا الطرفين متنجّزا من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي تقال بناء على مسلك جعل العمليّة ولكن التقريب مختلف.

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما ضمن فرد معيّن لكان علما تفصيليّا لا إجماليّا ، ولما كان منجّزا إلا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وحيثما يحصل علم بالجامع ثمّ يسري العلم إلى الفرد يسمّى ذلك بانحلال العلم الإجمالي بالعلم بالفرد.

الركن الثاني : أن يكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري منه إلى الفرد ؛ إذ لو سرى العلم من الجامع إلى الفرد سوف ينقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالفرد وشكّ بدوي بسائر الأفراد الأخرى.

وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لسائر الأطراف بسبب انحلاله وصيرورته علما تفصيليّا بهذا ، وشكّا بدويّا بسائر الأفراد والتي تكون مجرى للبراءة ، وهذا ما يسمّى بالانحلال.

فالانحلال معناه أنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع والمنجّز للفردين ينحلّ إلى

ص: 283

جزءين ، أحدهما علم تفصيلي بهذا الفرد وشكّ بدوي في الفرد الآخر ، فينجّز ما تعلّق به العلم فقط ، وتجري الأصول الترخيصيّة في الفرد المشكوك بدوا.

وهذا المقدار واضح ؛ لأنّ تنجيز العلم الإجمالي لكلا الفردين إنّما كان لأجل أنّ نسبة العلم بالجامع إلى كلّ من الفردين على حدّ واحد ، فتطبيقه على أحدهما فقط بخصوصه ترجيح بلا مرجّح ، وتركه فيهما مخالفة قطعيّة فيجب فعلهما معا أو تركهما معا.

وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :

أحدها : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد معيّنا لنفس المعلوم بالإجمال ، بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو نفس المعلوم الإجمالي المردّد ، ولا شكّ حينئذ في سراية العلم من الجامع إلى الفرد وفي حصول الانحلال.

ثمّ إنّ حالات تعلّق العلم بالفرد تختلف في تحقيق الانحلال وعدمه ، ولذلك نذكر أنحاء تعلّق العلم بالفرد :

النحو الأوّل : أن يكون العلم بالفرد معيّنا ومشخّصا لمتعلّق المعلوم بالإجمال ، كما إذا علمنا إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ هذا الإناء بعينه فيه قطرة دم ، وكانت هذه القطرة هي تلك القطرة المعلومة سابقا بحيث لا يوجد لدينا علمان مستقلاّن عن بعضهما ، ولم نحتمل أنّها غير تلك ، بل كانت القطرة المعلومة تفصيلا هي نفس المعلومة إجمالا.

وكما إذا علمنا بوجود زيد أو عمرو في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد تفصيلا ، وكان زيد هذا هو نفس زيد المعلوم إجمالا وليس شخصا آخر ، فهنا يكون العلم الإجمالي منحلا بهذا العلم التفصيلي المعيّن لمورده ومتعلّقه.

وهذا من أوضح مصاديق الانحلال الحقيقي ، فيسري العلم من الجامع إلى الفرد وبالتالي تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي لسائر الأفراد.

ثانيها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا على تعيين المعلوم الإجمالي مباشرة ، غير أنّ المعلوم الإجمالي ليس له أي علامة أو خصوصيّة يحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ثمّ علم بوجود زيد.

ص: 284

والصحيح هنا : سراية العلم من الجامع إلى الفرد وحصول الانحلال أيضا ، إذ يعود العلمان معا إلى علم تفصيلي بزيد وشكّ بدويّ في إنسان آخر.

النحو الثاني : ألاّ يكون العلم التفصيلي بالفرد ناظرا إلى نفس ما تعلّق به العلم الإجمالي ، غير أنّه لا توجد أيّة خصوصيّة أو ميزة في المعلوم بالعلم الإجمالي عن المعلوم تفصيلا ، بحيث إنّه يمكن تطبيقه على المعلوم تفصيلا بلا أي إشكال.

مثاله : ما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ، فهنا العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ابتداء لا أنّه علم مردّد بين فردين كالعلم بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ، والمفروض أنّ الإنسان المعلوم إجمالا ليس فيه أيّة ميزة معلومة ، فحينئذ لن يكون هناك مانع من انطباق هذا المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ، فإذا انطبق عليه سوف يكون الشكّ في بقاء الإنسان في المسجد لأجل الشكّ في وجود فرد آخر له هناك وحيث إنّه مشكوك ابتداء فتجري فيه البراءة.

وبهذا يتحقّق الانحلال الحقيقي ؛ لأنّنا إذا جمعنا هذين العلمين العلم الإجمالي بوجود الإنسان في المسجد والعلم التفصيلي بوجود زيد فيه سوف ينتج علم تفصيلي بوجود زيد في المسجد وشكّ بدوي في وجود فرد آخر من أفراد الإنسان في المسجد ؛ لأنّ المعلوم من أفراد الإنسان هو زيد فقط وغيره مشكوك ابتداء ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

ومثاله أيضا : ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين الموجودين لدى الكافر ، وكان منشأ العلم بنجاسة أحدهما هو مساورته له ثمّ علمنا تفصيلا بأنّه ساور هذا الإناء بخصوصه ، فهذا الإناء نجس على كلّ تقدير ، بينما الآخر لا يعلم بنجاسته كذلك فتجري فيه الأصول الترخيصيّة وينحلّ العلم الإجمالي.

ثالثها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ، ويكون للمعلوم الإجمالي علامة في نظر العالم غير محرزة التواجد في ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ثمّ علم بوجود زيد وهو لا يعلم أنّه طويل أو لا.

والصحيح هنا عدم الانحلال لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثاني مصداقا للمعلوم بالعلم الأوّل ، بحيث يصحّ أن ينطبق عليه ، فلا يسري العلم من الجامع إلى تحصّصه ضمن الفرد.

ص: 285

النحو الثالث : أن لا يكون المعلوم بالتفصيل ناظرا إلى تعيين وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي ، وأن يكون في متعلّق العلم الإجمالي ميزة وخصوصيّة يحتمل أنّها غير موجودة في متعلّق العلم التفصيلي بالفرد.

كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ، فهذا علم إجمالي متعلّقه الإنسان الذي يوجد فيه ميزة وخصوصيّة معيّنة وهي كونه طويلا ، ثمّ علم بوجود زيد في المسجد إلا أنّه لا يعلم هل هو طويل أم لا؟ بحيث إنّه لو كان طويلا لأمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه إذ لن يكون هناك مانع من ذلك ، ولو لم يكن طويلا فلن يمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه ؛ لأنّه يعلم أنّه ليس هو بل هو فرد آخر غير الفرد الموجود فيه الجامع.

فهنا المتعلّق في كلّ منهما مختلف ؛ لأنّ أحدهما متعلّقه الجامع والآخر الفرد ، ويوجد في أحد المتعلّقين ميزة لا يعلم بوجودها في الآخر ، بل يحتمل ذلك.

والصحيح هنا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعلم التفصيلي بالفرد المذكور ؛ لأنّه ليس ناظرا إلى تعيين معلومه ؛ ولأنّه يحتمل عدم انطباقه عليه بحيث يمكن ألاّ يكون مصداقا له ، فيكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري من الجامع إلى الفرد والحصّة ؛ لأنّها غير معلومة كونها حصّة لهذا الجامع.

وبتعبير آخر : أنّ زيدا المعلوم وجوده في المسجد تفصيلا من المحتمل أن يكون هو الإنسان الطويل المعلوم إجمالا ، ومن المحتمل أن يكون مصداقا لإنسان آخر غير الطويل ، فتعيينه مصداقا للطويل دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعذّر الانحلال.

رابعها : أن يكون العلم الساري إلى الفرد تعبّديّا ، بأن قامت أمارة على ذلك بنحو لو كانت علما وجدانيّا لحصل الانحلال.

النحو الرابع : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد علما تعبّديّا ، ويكون ناظرا إلى نفس متعلّق العلم الإجمالي كما هو الحال في الصورة الأولى أو الثانية ، أي أنّ نفس الفرضيّتين اللتين تستوجبان الانحلال الحقيقي ، يفترض وجودهما هنا لكن مع العلم التعبّدي بالفرد.

مثاله : أن يعلم إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد إلى المسجد ويكون زيد هذا هو نفس زيد المعلوم بالإجمال وليس شخصا

ص: 286

آخر. ومثاله أيضا : أن يعلم بدخول الإنسان إلى المسجد ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد ولكن لا يحتمل وجود ميزة في الجامع ، بمعنى أنّ هذا الفرد يصلح لأن يكون مصداقا له.

وقد يتوهّم في مثل ذلك الانحلال التعبّدي بدعوى أنّ دليل الحجّيّة يرتّب كلّ آثار العلم على الأمارة تعبّدا ، ومن جملتها الانحلال.

قد يقال هنا : إنّ الأمارة المذكورة توجب الانحلال الحقيقي تعبّدا لا وجدانا ، فكما أنّ العلم الوجداني كان يوجب الانحلال الحقيقي في الصورتين المذكورتين ، فكذلك الأمارة توجب الانحلال الحقيقي ، غايته أنّ الانحلال الحقيقي على الأوّل وجداني بينما على الثاني تعبّدي.

وهذا الانحلال الحقيقي التعبّدي يستفاد من دليل حجّيّة الأمارة ، فإنّه يرتّب كلّ آثار العلم الوجداني على الأمارة تعبّدا ، ومن جملة آثار العلم الوجداني هو الانحلال الحقيقي ، فيكون هذا الأثر مترتّبا على الأمارة أيضا.

والوجه في ذلك : إمّا دعوى تنزيل الأمارة منزلة العلم كما هي مقالة الشيخ الأنصاري ، وإمّا دعوى حكومة الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّتها مفاده اعتبار الأمارة علما كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وإمّا دعوى الورود على أساس المجاز العقلي كما هي مقالة السكّاكي في مثل هذا المورد.

ولكنّه توهّم باطل ؛ لأنّ مفاد دليل الحجّيّة إن كان هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ، فمن الواضح أنّ التنزيل لا يمكن أن يكون ناظرا إلى الانحلال ؛ لأنّه أثر تكويني للعلم ، وليس بيد المولى توسيعه.

إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ؛ لأنّ ترتّب آثار العلم على الأمارة إن كان بنحو تنزيل الأمارة منزلة العلم - كما هو الحال في تنزيل الطواف منزلة الصلاة - فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآثار التي يراد التنزيل بلحاظها بيد المنزّل ، ففي المثال المذكور يراد ترتيب الطهارة والستر ونحوهما من الآثار الشرعيّة على المنزّل أي الطواف ، وهذا أمر ممكن ؛ لأنّ الطهارة والستر من الآثار الشرعيّة التي بيد الشرع إيجابها وعدم إيجابها.

وأمّا في مقامنا فإنّ الأمارة المنزّلة منزلة العلم إنّما تكون بلحاظ الآثار الشرعيّة للعلم أو الآثار المطلوبة شرعا من العلم. ومن الواضح هنا أنّه لا يوجد سوى المنجّزيّة

ص: 287

والمعذّريّة فإنّهما ليسا من الأحكام الشرعيّة فلا يمكن التنزيل بلحاظهما ، فضلا من سائر خصوصيّات العلم فإنّها تكوينيّة أو عقليّة.

والانحلال من اللوازم التكوينيّة للعلم بالفرد ، فلا يمكن أن يكون دليل التنزيل ناظرا إليه أيضا ؛ لأنّه ينظر إلى الآثار الشرعيّة فقط.

وبتعبير آخر : أنّ عمليّة التنزيل يشترط فيها أن يكون المنزّل ناظرا إلى الآثار التي يراد تنزيلها ، وفي مقامنا حيث إنّ المنزّل هو الشارع فيشترط أن تكون الآثار المنزّلة شرعيّة دون غيرها ؛ لأنّ الآثار العقليّة أو التكوينيّة لا تطالها يد الشارع رفعا ووضعا بما هو شارع ، ولذلك لا يعقل التنزيل الشرعي بلحاظها.

وإن كان مفاد دليل الحجّيّة اعتبار الأمارة علما على طريقة المجاز العقلي ، فمن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يترتّب عليه آثار العلم الحقيقي التي منها الانحلال ، وإنّما يترتّب عليه آثار العلم الاعتباري.

وأمّا إذا كان ترتّب آثار العلم على الأمارة على أساس الورود واعتبار ما ليس بعلم علما ، كما هو الحال في المجاز العقلي السكّاكي ، فالانحلال لا يمكن إثباته بالأمارة أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ الادّعاء العقلي أو الورود لا يثبت إلا الآثار المطلوبة من الادّعاء المذكور ، فمثلا إذا قيل : زيد أسد ، أي أنّه فرد من أفراد الأسد على أساس أنّه مصداق للشجاع الذي يدّعي العقل أنّه من أنواع الأسد ، كان معناه أنّ الآثار المطلوبة من الأسد تترتّب على زيد ، من قبيل الشجاعة والقوّة والهيبة والعزّة.

وأمّا الآثار التكوينيّة الخاصّة بالأسد أي الحيوان المفترس من قبيل رائحة الفم الكريهة أو من قبيل أكل الحيوانات الأخرى بالافتراس ، فهذا ممّا لا يترتّب ولا يثبت حتّى بالورود ، لأنّ الادّعاء العقلي ليس مطلقا وبلحاظ تمام الآثار ، وإنّما يتحدّد بحدود الآثار التي يمكن الادّعاء فيها والتي تتحقّق فيها المشابهة والمناسبة ، ولذلك يستهجن العرف والعقل لو قيل : بأنّ زيدا أسد ، وكان المقصود من ذلك أنّ رائحة فمه كريهة.

وفي مقامنا إذا كانت الأمارة علما على نحو الادّعاء العقلي بمعنى أنّها فرد من أفراد العلم ادّعاء ، فهذا لا يعني أنّ تمام الآثار المترتّبة على العلم تترتّب على الأمارة ، فإنّ الاستقرار النفسي والاطمئنان والإذعان والاعتقاد لا توجد إلا في العلم الحقيقي

ص: 288

دون الأمارة ، حتّى لو كانت علما ، فهي إذا علم بلحاظ الطريقيّة والمنجّزيّة والمحركيّة فقط.

وهذا يعني أنّ الآثار المترتّبة تكوينا على العلم الحقيقي كالانحلال مثلا لا يمكن ترتيبها على الامارة ، بل يترتّب عليها الآثار التي نشأ الادّعاء منها فقط ، والتي هي الطريقيّة والمنجّزيّة والمحرّكيّة فقط.

وأمّا سائر الآثار حتّى التي تختصّ بالعلم الحقيقي الوجداني قهرا بحيث لا توجد إلا معه ؛ لأنّها من لوازمه التي لا تنفكّ فهذه لم ينظر إليها في الادّعاء العقلي.

وبتعبير دقيق : إنّ دليل الأمارة على أساس المجاز العقلي يترتّب عليه آثار العلم التعبّدي من كاشفيّة ومحرّكيّة ومنجّزيّة ، وأمّا آثار العلم الحقيقي الوجداني من استقرار نفس مثلا وتصديق راسخ وقاطع وانحلال ، فهذا لا يترتّب على دليل الأمارة ؛ لأنّ الادّعاء لم يكن بلحاظها ؛ إذ المناسبة والمشابهة لا تتمّ بين الأمارة والعلم بلحاظها ، وإنّما المناسبة المصحّحة لهذا الادّعاء هي ترتيب الآثار الشرعيّة فقط.

فإن قيل : نحن لا نريد بدليل الحجّيّة أن نثبت الانحلال الحقيقي بالتعبّد لكي يقال بأنّه أثر تكويني تابع لعلّته ، ولا يحصل بالتعبّد تنزيلا أو اعتبارا ، بل نريد استفادة التعبّد بالانحلال من دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده التعبّد بإلغاء الشكّ والعلم بمؤدّى الأمارة ، وهذا بنفسه تعبّد بالانحلال ، فهو انحلال تعبّدي.

قد يقال هنا : إنّنا لو سلّمنا بأنّ التنزيل أو الاعتبار لا يحقّقان الانحلال الحقيقي ؛ لما ذكر من كون الانحلال أثرا ولازما تكوينيّا للعلم الحقيقي ، أي هو معلول للعلم الحقيقي فلا يتحقّق إلا مع وجود علّته حقيقة وتكوينا ، والتنزيل والاعتبار قاصران عن إثبات العلّة الحقيقيّة ؛ لأنّهما يتحدّدان بالمقدار المنزّل أو المدّعى وهو الآثار الشرعيّة فقط دون غيرها ، فالتعبّد بحجّيّة الأمارة تنزيلا أو اعتبارا لا يفيد التعبّد بحصول الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه تابع لعلّته الواقعيّة الحقيقيّة التكوينيّة وهي العلم الوجداني.

وبتعبير آخر : أنّ الملازمة بين العلم الحقيقي والانحلال تكوينيّة وواقعيّة ، وليست اعتباريّة أو تنزيليّة أو شرعيّة ليكون التعبّد بوجودها مفيدا في ترتيب الأثر واللازم.

ص: 289

إلا أنّنا نقول شيئا آخر وهو : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعل العلميّة وإلغاء الشكّ ، ولذلك يكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على الأدلّة التي أخذ فيها العلم وجودا وعدما ؛ لأنّه يثبت العلم ويلغي الشك.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على شيء فهي تلغي الشكّ فيه وتثبت العلم ، وإذا ثبت العلم فإنّ آثاره ولوازمه تثبت ؛ والتي من جملتها الانحلال ، غاية الأمر أنّ ثبوت العلم كان تعبّدا ، إلا أنّه بعد فرض ثبوته فجميع الآثار تترتّب عليه.

وبكلمة أخرى : إنّ دليل الأمارة بعد ثبوت حجّيّته يثبت لنا العلم ، وهذا معناه أنّه يوجد طريقان لثبوت العلم أحدهما الطريق الوجداني وهو القطع ، والآخر الطريق التعبّدي وهو قيام الأمارة ، والثابت بهذين الطريقين واحد وهو العلم ، فتترتّب جميع آثار العلم ، والتي منها الملازمة المذكورة بين العلم وبين الانحلال.

ففرق بين القول السابق بأنّه يوجد انحلال حقيقي بالتعبّد ، وبين قولنا هذا وهو وجود تعبّد بالانحلال الحقيقي ، فإنّ الأوّل لازمه وجود المعلول وهو الانحلال الحقيقي من دون وجود علّته وهي العلم الحقيقي.

بينما الثاني معناه أنّه يوجد انحلال حقيقي لوجود علّته الحقيقيّة وهي العلم ، غاية الأمر أنّ ثبوت هذا العلم لم يكن عن طريق القطع الوجداني ، وإنّما كان عن طريق التعبّد الشرعي ، فهناك تعبّد بالانحلال على أساس الملازمة بين إلغاء الشكّ وثبوت العلم من دليل حجّيّة الأمارة ، وبين زوال العلم الإجمالي على أساس اختلال ركنيه الأوّل والثاني ؛ إذ لا علم بالجامع ولا شكّ في الفرد وإنّما هناك علم بالفرد ولكنّه علم تعبّدي.

كان الجواب على ذلك : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال ، بل بما هو علّة للانحلال ، والتعبّد بالعلّة لا يساوق التعبّد بالمعلول.

والجواب على ذلك :

أوّلا : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال الحقيقي ؛ لأنّ دليل الحجّيّة ليس مفاده ومدلوله المطابقي الانحلال ، وإنّما العلم وإلغاء الشكّ ، وهذا يعني أنّ مفاد دليل الحجّيّة التعبّد بوجود علّة الانحلال أي العلم الذي هو علّة للانحلال لا التعبّد بالانحلال مباشرة.

ص: 290

وعليه ، فلا ملازمة بين التعبّد بالعلّة وبين التعبّد بالمعلول ، بل يمكن التعبّد بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل لا أزيد.

وفي مقامنا الدليل يعبّدنا بثبوت العلّة أي العلم ، وأمّا المعلول فلا يعبّدنا بوجوده ، فلا يوجد دليل على وجوده لا حقيقة - كما هو واضح إذ لا علم وجداني - ولا تعبّدا ؛ لأنّه غير مأخوذ في الدليل.

وأمّا الملازمة بين العلّة والمعلول فهي ملازمة تكوينيّة واقعيّة حقيقيّة ، فيحكم العقل بها عند وجود العلّة تكوينا واقعا ، وأمّا إذا لم توجد العلّة واقعا وتكوينا فالعقل لا يحكم بها.

مضافا إلى إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول في باب التعبّد في غير الآثار الشرعيّة كما في الآثار التكوينيّة أو العقليّة ، فثبوت حياة زيد تعبّدا لازمها التكويني نبات لحيته إلا أنّه لا يثبت ، بينما يثبت لازمها الشرعي من قبيل عدم بينونة زوجته وعدم جواز تقسيم تركته ، وكذا الحكم بصحّة الوضوء على أساس الفراغ فإنّه تصحيح للصلاة التي أتمّها ، وأمّا الصلاة الآتية فلا يكفي فيها هذا الوضوء بل لا بدّ من تجديده.

أضف إلى ذلك : أنّ التعبّد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ؛ لأنّه إن أريد به التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى إجراء أصل مؤمّن فيه فهذا غير صحيح ؛ لأنّ التأمين عن كلّ شبهة بحاجة إلى أصل مؤمّن حتّى ولو كانت بدوية.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التعبّد بالانحلال في مقامنا لغو لا فائدة ولا أثر له ؛ وذلك لأنّه : إن أريد بالتعبّد بالانحلال ثبوت التأمين بالنسبة للفرد الآخر من دون إجراء أصل مؤمّن فيه ، اكتفاء بقيام الأمارة على ثبوت التكليف في الطرف الأوّل ، على أساس الملازمة بين ثبوت التكليف في هذا الطرف وارتفاعه عن ذاك ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بثبوت تكليف بين هذين الطرفين لا أكثر ، فهذه الملازمة عقليّة فيكون المورد من الأصل المثبت وهو ليس حجّة.

مضافا إلى أنّ إثبات التأمين لا يكون بالملازمة لو سلّم جريانها هنا ؛ لأنّه يشترط في كلّ شبهة حتّى لو كانت الشبهة بدوية أن يكون هناك أصل مؤمّن ثابت في مورد الشبهة بالمطابقة ، وإلا لكانت منجّزة باحتمال التكليف فيها.

وحينئذ تقع المعارضة بين حكم العقل بتنجّز التكليف بالاحتمال وبين حكم العقل

ص: 291

بالتأمين على أساس الملازمة ، والأحكام العقليّة لا يعقل التعارض بينها ؛ لأنّ لكلّ منها موضوعا يختلف عن الآخر ، وحيث إنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز هو الشبهة التي لا مؤمّن فيها فيكون التنجيز هو الثابت دون الملازمة.

نعم ، لو قام الأصل المؤمّن على مورد الشبهة فهنا لا تصادم بل يرتفع موضوع حكم العقل ؛ لأنّه معلّق على عدم ورود الترخيص وقد ورد فعلا.

وإن أريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر ، فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبّد بالانحلال.

وإن أريد بالتعبّد بالانحلال أنّ المكلّف يمكنه إجراء الأصل في الفرد الآخر ، فإذا جرى الأصل فيه انحلّ العلم الإجمالي ، فهذا الأمر حاصل سواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا ، فلا أثر للتعبّد بالانحلال في جريان الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ الأصل يجري في الطرف الآخر لعلّة أخرى وملاك آخر غير الانحلال وهو :

وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن كونه موردا للأصل المؤمّن ، سواء أنشئ التعبّد بعنوان الانحلال أم لا.

وأمّا الملاك والعلّة لجريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر من دون حاجة إلى الانحلال فهو زوال المعارضة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة على أساس أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وجريانها في البعض فقط ترجيح بلا مرجّح لتعارض هذا البعض مع البعض الآخر.

وأمّا إذا لم يكن لهذا البعض معارض فلا مانع من جريان الأصل المؤمّن فيه ، وذلك بأن يكون هناك منجّز شرعي أو عقلي في الطرف الآخر ، وموردنا من هذا القبيل فإنّه يوجد في أحد الطرفين منجّز شرعي وهو الأمارة المثبتة للتكليف فلا يجري فيه الأصل الترخيصي ؛ لأنّ الأمارة حاكمة عليه ، وأمّا الطرف الآخر فيجري فيه الأصل الترخيصي بلا محذور إذ لا معارض له.

فسواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا فالأصل سوف يجري في الطرف الآخر ؛ لأنّه لا معارض له. وبهذا ظهر أنّه لا معنى للتعبّد بالانحلال فيكون لغوا.

نعم هناك انحلال حكمي في المقام وليس انحلالا حقيقيّا كما سيأتي في محلّه.

ص: 292

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولا في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي لدليل الأصل المؤمّن ، إذ لو كان أحدهما مثلا غير مشمول لدليل الأصل المؤمّن لسبب آخر لجرى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون محذور.

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف مشمولا للأصل المؤمّن في نفسه وبقطع النظر عن التعارض المسبّب عن العلم الإجمالي ، بمعنى أنّ كلّ طرف يكون موردا لجريان الأصل بأن تكون أركان الأصل فيه تامّة ، أو موضوع الأصل فيه متحقّق ، هذا بحسب نفس الدليل وبقطع النظر عن العلم الإجمالي الذي يسبّب وقوع التعارض في دليل الأصل في الطرفين.

وأمّا إذا لم يكن أحد الطرفين مشمولا للأصل الترخيصي بأن كان مشمولا لأصل منجّز مثلا ، وكان الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي ، فهنا لا محذور في جريان الأصل الترخيصي في أحدهما إذ لا معارض له في الآخر.

وهذه الصياغة إنّما تلائم إنكار القول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، إذ بناء على هذا الإنكار يتوقّف تنجّز وجوب الموافقة على التعارض بين الأصول المؤمّنة.

وصياغة هذا الركن بهذا النحو إنّما يتلاءم مع إنكار القول بالعلّيّة - كما هو الصحيح - لأنّه على غير هذا المسلك لا يكون العلم الإجمالي مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع المعلوم ، وهو لا يستدعي إلا الإتيان بأحدهما في نفسه.

وأمّا الإتيان بكلا الطرفين معا فكان بسبب تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها في كلا الطرفين ، وعليه فلا بدّ أن يكون كلّ منهما مشمولا في نفسه للأصل الترخيصي ليعقل المعارضة مع الطرف الآخر المشمول للأصل الترخيصي في نفسه أيضا.

وأمّا على القول بالعلّيّة كما هو مذهب المحقّق العراقي (1) فلا تصحّ الصياغة المذكورة ؛ لأنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه ؛

ص: 293


1- وقد مضى تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

لأنّه ينافي علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من افتراض نكتة في الرتبة السابقة تعطّل العلم الإجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمّن أن يجري.

ومن هنا صاغ المحقّق المذكور الركن الثالث صياغة أخرى ، وحاصلها :

وأمّا على مسلك العلّيّة الذي ذهب إليه المحقّق العراقي ، فلا تكون هذه الصياغة صحيحة ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ومعنى العلّيّة أنّه إذا ثبتت العلّة ثبت المعلول ولا يمكن أن يتخلّف عنها.

ولذلك يكون كلّ من الطرفين منجّزا في نفسه ؛ لأنّه مصداق لوجوب الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، ولا فرق في منجّزيّة كلّ الطرف بين أن يكون الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي أو للأصل المنجّز ؛ لأنّ التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ليس هو السبب في وجوب الموافقة القطعيّة ، بل هي واجبة وثابتة سواء كان هناك تعارض أم لا ، ولذلك يكون جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين دون الآخر - على مسلك العلّيّة - مخالفا لعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه يفكّك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وحينئذ نقول : إنّه إذا ثبت الأصل الترخيصي في مورد من دون معارض بأن كان الطرف الآخر مشمولا لأصل منجّز ، فلا بدّ من إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وتعطيله على أساس وجود نكتة تقتضي إبطال علّيّته في مثل هذا الفرض ، لا أنّنا نبقي العلم الإجمالي على حاله وتنجيزه ونقول : إنّه لا تجب الموافقة القطعيّة ، إذ لازمه التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من صياغة الركن الثالث صياغة جديدة تبرز مثل هذه النكتة التي من شأنها تعطيل العلم الإجمالي وإسقاطه ، وحاصل هذه الصياغة أن يقال :

أنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على صلاحيّته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فإذا لم يكن صالحا لذلك فلا يكون منجّزا ، وعلى هذا فكلّما كان المعلوم الإجمالي على أحد التقديرين غير صالح للتنجّز بالعلم الإجمالي لم يكن العلم

ص: 294

الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يصلح للتنجيز إلا على بعض تقادير معلومه ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلا لمثل هذا العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي أنّه يشترط في العلم الإجمالي أن يكون منجّزا لمعلومه على جميع التقادير ، وهذا الشرط يعتبر بديلا عن الركن الثالث ؛ لأنّه يصل إلى نفس النتيجة.

بتوضيح : أنّنا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ، فهذا العلم الإجمالي ينجّز معلومه على جميع التقادير ، إذ كلّ طرف في نفسه يحتمل أن يكون هو النجس فيكون منجّزا.

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي قد نجّز معلومه وهو النجاسة على جميع تقادير وجودها سواء في هذا أم في ذاك ، وأمّا إذا كان أحدهما منجّزا بمنجّز آخر كقيام الأمارة على نجاسة هذا الإناء بعينه أو استصحاب النجاسة السابقة في هذا الإناء ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير بل على بعض التقادير فقط.

بمعنى أنّه لو لا العلم الإجمالي لم يكن منجّزا ، وأمّا إذا كان منجّزا بقطع النظر عن العلم الإجمالي فلا يؤثّر فيه العلم الإجمالي شيئا.

وبهذا يختلّ شرط منجّزيّة العلم الإجمالي لمعلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ الثابت هو منجّزيّته على بعض التقادير فقط.

وهذا التقدير غير معلوم بل مشكوك فتنتفي مؤثّريّة العلم الإجمالي في التنجيز واشتغال الذمّة بكلا الطرفين ، ويعود الشكّ بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : يجب أن يكون كلّ طرف قابلا لأن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ، وإلا فلا يكون العلم الإجمالي مؤثّرا في المنجّزيّة.

فالعلم الإجمالي إنّما يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة للطرفين فيما إذا كان كلّ منهما منجّزا بالعلم الإجمالي ، وهذا لا يكون إلا إذا كان كلّ من الطرفين مشكوكا في نفسه وقابلا لانطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فمع خروج أحد الطرفين عن ذلك بقيام المنجّز عليه سوف يخرج عن قابليّة التنجيز بالعلم الإجمالي.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزا إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر غير العلم الإجمالي من أمارة أو أصل منجّز ؛ وذلك لأنّ العلم

ص: 295

الإجمالي في هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الأمارة أو الأصل ؛ لأنّ هذا المورد منجّز في نفسه ، والمنجّز يستحيل أن يتنجّز بمنجّز آخر ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على أثر واحد ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كلّ حال ، فلا يكون له أثر.

وعلى أساس هذا الشرط سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا فيما إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر من أمارة مثبتة للتكليف أو استصحاب مثبت للتكليف أيضا.

فإنّه في هذه الحالة سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ؛ وذلك لأنّ الطرف الذي فيه أمارة أو أصل منجّز لن يكون صالحا للتنجيز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه على تقدير انطباق مورد العلم الإجمالي على مورد الأمارة أو الأصل لن يكون هذا العلم منجّزا له ؛ لأنّه منجّز في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فيكون تنجيز العلم الإجمالي له من باب اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد وهو مستحيل ، إذ في هذا الطرف الذي فيه الأمارة أو الأصل سوف يكون الأمارة أو الأصل علّة لتنجيزه ، وسيكون العلم الإجمالي علّة لتنجيزه أيضا ، واجتماع علّتين على معلول واحد جائز بمعنى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ، وأمّا كون كلّ منهما علّة مستقلّة فهذا مستحيل.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي هنا معطّل عن التنجز لاختلال شرطه المذكور ، فلا يكون مؤثّرا في وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه في هذا الطرف لا ينجّز لأنّه منجّز ، وفي ذلك الطرف سوف يشكّ في كونه المعلوم بالإجمال ابتداء ، فيجري فيه الأصل المؤمّن لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وصيرورة الشكّ فيه بدويّا.

وبهذا نعرف أنّه يشترط أن يكون كلا الطرفين يقبلان التنجيز بالعلم الإجمالي ، وهذا يفترض أنّهما معا غير منجّزين بمنجّز آخر أو أحدهما أيضا.

والفرق العملي بين هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصل مؤمّن في أحد الطرفين ، وعدم ثبوت منجّز فيه أيضا سوى العلم الإجمالي ، فإنّ الركن الثالث حسب الصياغة الأولى لا يكون ثابتا ، ولكنّه حسب الصياغة الثانية ثابت ، والصحيح هو الصياغة الأولى.

ص: 296

والفارق العملي بين الصياغتين يظهر فيما إذا فرضنا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ولم تكن حالتهما السابقة معلومة ، ولم يكن هناك أصل منجّز لا فيهما ولا في أحدهما ، إلا أنّه يوجد أصل مؤمّن في أحدهما فقط.

مثاله : ما إذا علمنا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، وكان السائل في أحدهما ماء والسائل في الآخر مشكوكا ومردّدا بين الخلّ والخمر ، فهنا لا توجد حالة سابقة معلومة لتستصحب ، ولا يوجد أصل منجّز فيهما أو في أحدهما ، إلا أنّ السائل الذي فيه ماء تجري فيه أصالة الطهارة بخلاف السائل الآخر ، فإنّ أصالة الطهارة لا تجري في النجاسة الذاتيّة المشكوكة على أحد القولين.

فعلى صياغة المشهور سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تتعارض إذ لا يوجد إلا أصل ترخيصي واحد فيجري بلا معارض.

بينما على صياغة المحقّق العراقي يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي صالح للتنجيز على كلّ تقدير ، إذ كلّ واحد من الطرفين قابل للتنجيز بالعلم الإجمالي ، وليس أحدهما منجّز بمنجّز آخر.

والصحيح هو الصياغة الأولى دون الثانية ؛ لأنّ صياغة المحقّق العراقي يرد عليها أنّ المنجّز بمنجّز آخر يقبل التنجيز مجدّدا بالعلم الإجمالي أيضا ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة تكون فيما إذا اجتمعت علّتان مستقلّتان على معلول واحد ، وهذا مختص في العلل الحقيقية الواقعيّة دون العلل الاعتباريّة ، ومقامنا من العلل الاعتباريّة ؛ لأنّ التنجيز وثبوت التكليف علّته اعتباريّة أي تابعة لما يجعله الشارع من أسباب وعلل (1).

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة في كلّ من الطرفين مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وإمكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعيّة ممتنعة على المكلّف حتّى مع الإذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة في كلّ من الطرفين.

ص: 297


1- مضافا إلى وقوع ذلك عمليّا كما إذا نذر أن يصلّي الصبح فتكون منجّزة بمنجّزين معا ، الأوّل الوجوب الثابت لها على فرض تحقّق شرطه وهو طلوع الفجر ، والآخر النذر ، وعليه فإذا لم يصلّ الصبح يكون مخالفا لشيئين للوجوب وللنذر أيضا.

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ومؤدّيا إلى إمكان وقوع هذه المخالفة من المكلّف ، بحيث يكون مأذونا في المخالفة ، وتكون المخالفة ممكنة الوقوع منه خارجا.

ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي منجّزا ، كما إذا علم بنجاسة أحد هذين الإناءين ، وكان كلّ منهما مجرى لأصالة الطهارة في نفسه باعتبار الشكّ في النجاسة العرضيّة الطارئة عليه ، وكان كلّ من الطرفين تحت اختيار وقدرة المكلّف بحيث يمكنه ارتكابهما معا ، فهنا يكون جريان أصالة الطهارة فيهما معا ترخيصا في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو محال ، ولذلك يقع التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ويحكم بتساقطهما معا ؛ لاستحالة ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح.

وأمّا إذا لم يكن جريان الأصل الترخيصي في كلّ منهما مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة عمليّا ، فلا محذور في جريانها فيهما حتّى لو كان هناك التزام بالترخيص والإذن في المخالفة ؛ لأنّ المهمّ هو حصول المخالفة فعلا ، وعدم أداء الأصل إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة إمّا لأجل قصور في قدرة المكلّف على ارتكابهما معا.

كما لو علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما عنده والآخر عند السلطان بحيث كان ممتنعا عرفا الوصول إليه ، وإمّا لأجل محذور عقلي بأن كان أحد الإناءين ممّا لا يمكن الوصول إليه أصلا.

فهنا تجري أصالة البراءة في كلا الطرفين ولا محذور في ذلك ؛ لأنّ ملاك العلم الإجمالي لمنجّزيّة الموافقة القطعيّة كان محذور تعارض الأصول المؤدّية إلى الترخيص في المخالفة ، وهذا مستند إلى المحذور العقلائي ، وهو مختصّ فيما إذا كان بإمكان المكلّف المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا لم يمكنه ذلك فالعقلاء لا يرون محذورا في الترخيص في الطرفين ما دام لن يحصل منه مخالفة عمليّة.

وركنيّة هذا الركن مبنيّة على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا بناء على العلّيّة فلا دخل لذلك في التنجيز ، إذ يكفي في امتناع جريان الأصول حينئذ كونها مؤدّية للترخيص ولو في بعض الأطراف.

وهذا الركن واضح بناء على مسلك المشهور من اقتضاء العلم الإجمالي لمنجّزيّة

ص: 298

الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ منجّزيّته لذلك كانت فرع جريان الأصول وتعارضها وتساقطها ؛ لأنّ جريانها في الطرفين يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم تجر في الطرفين أو جرت فيهما ولم تؤدّ إلى المخالفة القطعيّة فلا محذور في جريانها عندهم.

وهكذا الحال بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة مستندة إلى منجّزيّة الاحتمال في كلّ طرف بعد سقوط الأصل المؤمّن فيه بسبب التعارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فلا وجه لهذا الركن ؛ لأنّ العلم الإجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعيّة سواء جرت الأصول الترخيصيّة أم لا ، وسواء جرت في الطرفين أم في أحدهما ، فإنّ كلّ ذلك لا مدخليّة له في التنجيز كما تقدّم ، فما دام العلم الإجمالي ثابتا فهو علّة لتنجيز كلّ واحد من الطرفين سواء كانا عنده وتحت قدرته أم لا ؛ لأنّ جريان الأصول ولو في بعض الأطراف لازمه التفكيك بين العلّة والمعلول على هذا المسلك وهو ممتنع عقلا ، فيجب الاجتناب عن الطرف الواحد أيضا كما يجب الاجتناب عن الطرفين معا.

وهناك صياغة أخرى لهذا الركن تبنّاها السيّد الأستاذ ، وهي أن يكون جريان الأصول مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وقد تقدّم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب (1) ، كما أنّ الصياغة المطروحة فعلا لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيق وتعديل بالنسبة إليها في مبحث الشبهة غير المحصورة ، إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه اللّه قد صاغ هذا الركن بنحو آخر فقال :

يشترط أن لا يكون جريان الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الالتزام والاعتقاد في الترخيص القطعي في المخالفة ، سواء حصل من ذلك مخالفة عمليّة أم لا ، أي أنّ المحذور عنده ليس هو المخالفة العمليّة فحسب ، بل الأعمّ منها ومن المخالفة القطعيّة العمليّة والالتزاميّة.

ص: 299


1- ضمن الردّ على شبهة جريان الترخيصات المشروطة في أطراف العلم الإجمالي ، تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

فإذا كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكانا تحت قدرته ، فالترخيص فيهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ومخالفة قطعيّة علميّة والتزاميّة ؛ لأنّه سوف يعتقد بصدور الترخيص في المخالفة وهو قبيح ؛ لأنّه ترخيص في المعصية القبيحة.

وهكذا الحال لو كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما خارجا عن قدرته عقلا أو عادة وعرفا ، بأن كان لدى السلطان مثلا ، فهنا وإن لم يلزم المخالفة العمليّة للمعلوم بالإجمال إلا أنّه سوف يلزم الاعتقاد بصدور ترخيص قطعي في المخالفة وهو مستحيل أيضا.

وهذه الصياغة تقدّم بعض الحديث عنها ، وأنّه لا معنى لاستحالة الترخيص القطعي لا من حيث الجعل والاعتبار ولا من حيث المبادئ والملاكات ، ولا من حيث الامتثال.

إلا أنّ هذا الركن الرابع بصياغته المشهورة سوف يأتي مزيد تحقيق وتعديل له عند الحديث عن الشبهة المحصورة.

* * *

ص: 300

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

اشارة

ص: 301

ص: 302

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

عرفنا في ضوء ما تقدّم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الإجمالي ، فكلّما انهدم واحد منها بطلت منجّزيّته ، وكلّ الحالات التي قد يدّعى سقوط العلم الإجمالي فيها عن المنجّزيّة لا بدّ من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلا فلا مبرّر للسقوط.

وفيما يلي نستعرض عددا مهمّا من هذه الحالات لدراستها من خلال ذلك :

بعد أن عرفنا أركان العلم الإجمالي الأربعة ، نقول : إنّه لكي يكون العلم الإجمالي منجّزا فلا بدّ من توفّر هذه الأركان معا ، فإذا اختلّ ركن منها سقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وهذا يعني أنّ كلّ الحالات التي يقال فيها بسقوط العلم الإجمالي مرجعها في الحقيقة إلى ادّعاء اختلال أحد أركان هذه القاعدة ، وإلا فلا معنى للسقوط مع توفّر الأركان الأربعة.

وهنا سوف نستعرض أهمّ هذه الحالات التي يدّعى فيها سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وسوف ندرسها لنرى ما هو الصحيح منها.

1 - زوال العلم بالجامع :

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا ولذلك صور :

الصورة الأولى : أن يظهر للعالم خطؤه في علمه ، وأنّ الإناءين اللذين اعتقد بنجاسة أحدهما مثلا طاهران ، ولا شكّ هنا في السقوط عن المنجّزيّة ؛ لانعدام الركن الأوّل من الأركان المتقدّمة.

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا فيختلّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو العلم بالجامع واختلال هذا الركن له ثلاثة صور :

ص: 303

الصورة الأولى : أن يكتشف من كان عالما بالإجمال الخطأ في علمه ، بمعنى أنّ من علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ظهر له الخطأ في هذا العلم الإجمالي ، وتبيّن له واقع الحال وأنّ الإناءين معا طاهران ، ولا يوجد نجاسة في أحدهما أصلا ، أو يعلم بالنجاسة ضمن أحد الإناءين فاعتقد أنّ هذين الإناءين هما اللذان يوجد فيهما نجاسة ، ثمّ تبيّن له أنّ هذين الإناءين طاهران وأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة ضمن إناءين آخرين غيرهما.

وبتعبير آخر : يكون قد أخطأ في التشخيص والتطبيق.

وهنا لا شكّ في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّه لا يوجد علم بالجامع بل هناك علم تفصيلي بطهارة كلا الإناءين.

الصورة الثانية : أن يتشكّك العالم فيما كان قد علم به ، فيتحوّل علمه بالجامع إلى الشكّ البدوي والأمر فيه كذلك أيضا.

الصورة الثانية : أن يحصل لمن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين تشكيك في علمه الإجمالي هذا ، بمعنى أنّه بعد أن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين يشكّ في أنّ علمه هذا صحيح أم لا ، فيكون الشكّ هنا في أصل حدوث العلم الإجمالي ، وهذا ما يسمّى بالشكّ الساري الذي سوف يأتي الحديث عنه في الاستصحاب.

مثاله : أن يشكّ في أنّ القطرة الحمراء التي وقعت في أحد الإناءين هل هي قطرة دم أم قطرة من صبغ أحمر؟ وفي هذه الصورة لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لزوال العلم الإجمالي بالجامع ، فإنّ هذا الشكّ سوف يسري إلى العلم الإجمالي ويزيله ؛ إذ ما دام مصبّهما واحدا فيستحيل اجتماعهما معا ، بل يكون هذا الشكّ هادما للعلم بالجامع ؛ لأنّ مورد الشكّ هو نفس مورد العلم الإجمالي.

فيتحوّل الأمر بعد الجمع بينهما إلى الشكّ البدوي في الطرفين معا ، فتجري فيهما الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، إذ المحذور من جريانها ليس إلا العلم بالجامع ، والمفروض أنّ العلم بالجامع غير ثابت بل مشكوك فصار يشكّ الآن في وجود هذا الجامع وعدم وجوده ، وما دام أصل الجامع مشكوكا فهذا معناه أنّه لا يعلم بالمخالفة القطعيّة في حال جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ولكن قد يتوهّم بقاء الأطراف على منجّزيّتها ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة تعارضت

ص: 304

فيها في حال وجود العلم الإجمالي ، وهو وإن زال ولكنّها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ، فتظلّ الشبهة في كلّ طرف بلا أصل مؤمّن فتتنجّز.

قد يقال هنا : إنّ الأطراف لا تزال منجّزة حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة باختلال ركنه الأوّل بدعوى : أنّ العلم الإجمالي قبل طروء التشكيك فيه كان منجّزا لكلا الطرفين ، ومنجّزيّته كانت تمنع الأصول الترخيصيّة من الجريان في كلا الطرفين ؛ لأنّ جريانها كذلك يوجب المخالفة القطعيّة ، ولا يمكن أيضا جريانها في أحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وعليه فيحكم بسقوط الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ثمّ بعد زوال العلم الإجمالي بطروء التشكيك فيه والذي يزيل العلم بالجامع ، تصبح الشبهة في كلا الطرفين بدويّة ، إلا أنّ حكم هذه الشبهة البدويّة هو التنجيز ؛ لأنّ كلّ شبهة لا يوجد فيها أصل مؤمّن فتكون منجّزة على أساس حكم العقل بلزوم دفع الضرر أو العقاب المحتمل ، والمفروض أنّه بعد سقوط الأصول الترخيصيّة في الطرفين لم يبق أصل مؤمّن في الطرفين ؛ لأنّها قد سقطت بالمعارضة فلا يمكن أن تعود مجدّدا.

وقد يجاب على هذا التوهّم بأنّ الشكّ الذي سقط أصله بالمعارضة هو الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال ، وهذا الشكّ زال بزوال العلم الإجمالي ، ووجد بدلا عنه الشكّ البدوي ، وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ، ولم يقع الأصل المؤمّن عنه طرفا للمعارضة ، فيجري بدون إشكال.

وفي كلّ من هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأسا.

ويجاب عن ذلك : أنّه يوجد لدينا شكّان متغايران :

أحدهما : الشكّ في كون كلّ واحد من الطرفين هو المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل فيه أن ينطبق عليه المعلوم بالإجمال فيكون هو النجس ، فإنّ هذا الشكّ موجود في كلا الطرفين على حدّ واحد ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الطهارة ونحوهما ، إلا أنّ هذه الأصول قد سقطت بسبب التعارض الناشئ من وجود العلم الإجمالي.

والآخر : الشكّ في كلّ واحد من الطرفين في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي ، وهو المسمّى بالشكّ البدوي ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلحاظ كلّ أطرافه من دون أي محذور.

ص: 305

بعد ذلك نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت بسبب التعارض هي الأصول الترخيصيّة التي موضوعها الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، أي الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من الطرفين.

وأمّا الأصول الترخيصيّة الأخرى التي موضوعها الشكّ البدوي فهذه ثابتة ؛ لأنّ موضوعها وهو الشكّ البدوي موجود في كلّ طرف في نفسه بقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فبعد زوال العلم الإجمالي سوف يزول معه الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وبالتالي سوف تزول الأصول الترخيصيّة بلحاظ هذا الموضوع والمورد ، وأمّا المورد الآخر وهو الشكّ البدوي فهو ثابت حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي ؛ لأنّ هذا الشكّ ثابت في نفس الطرف سواء كان هناك علم إجمالي أم لا.

وأدلّة الأصول الترخيصيّة من قبيل ( رفع ما لا يعلمون ) تشمل كلّ شكّ سواء الشكّ البدوي أو الشكّ في التطبيق ، فإذا زال أحد هذين الموضوعين لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة رأسا ، بل تبقى ثابتة في الموضوع الآخر.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت هي الأصول التي كانت جارية بسبب الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وحيث إنّ هذا الشكّ قد سقط وزال بسبب زوال العلم الإجمالي ، فتسقط الأصول من هذه الناحية لا مطلقا ، أي أنّها تبقى ثابتة مع موضوعها الآخر ، وهو الشكّ البدوي الثابت في كلّ طرف في نفسه بعد زوال العلم الإجمالي (1).

ص: 306


1- ولعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ، إذ أصل الإشكال كان توهّما ؛ لأنّ الصحيح هو أنّ الأصول الترخيصيّة لم تسقط ، بل كان هناك مانع من جريانها وهو وجود العلم الإجمالي ، فإذا زال هذا المانع وسقط العلم الإجمالي جرت الأصول بلا محذور ، لا أنّها لم تكن ثابتة أصلا عند وجود العلم الإجمالي ويراد إثباتها من جديد ، ليقال بوجود موضوع آخر لها وهو الشكّ البدوي ، بل موضوعها ثابت حتّى مع وجود العلم الإجمالي ؛ لأنّ كلّ طرف مشكوك في نفسه ، غاية الأمر كان هذا الشكّ مقترنا بالعلم الإجمالي ، وهذا الاقتران من شأنه المنع من جريان الأصول بالفعل ، فبعد زواله تجري فعلا ، فالذي سقط بالدقّة ليس نفس الأصل ، بل فعليّة الأصل ، وأمّا المقتضي لجريانه فهو ثابت على كلّ حال ولم يسقط.

الصورة الثالثة : أن يزول العلم بالجامع بقاء وإن كان العلم بحدوثه لا يزال مستمرّا ، وهذه الصورة تتحقّق على أنحاء :

الصورة الثالثة : أن يفرض أنّ العلم بالجامع موجود حدوثا ولكنّه ساقط بقاء ، أي أنّ أصل حدوث العلم الإجمالي ثابت ولا شكّ فيه ، غير أنّ العلم الإجمالي في مرحلة البقاء والاستمرار ساقط ؛ لأنّ الجامع قد زال ، وهذه الصورة لها أنحاء أربعة :

النحو الأوّل : أن يكون للجامع المعلوم أمد محدّد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فإذا استوفى أمده لم يعد هناك علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتا.

النحو الأوّل : أن يفرض أنّ للجامع المعلوم إجمالا أمدا ينتهي إليه بحيث يقطع بزواله وارتفاعه بعد أن يستوفي هذا الأمد ، فهنا إذا استوفى الجامع الأمد فهو معلوم الارتفاع بقاء ، ولكنّه معلوم الثبوت حدوثا ، وحيث إنّه معلوم الارتفاع بقاء فيزول العلم الإجمالي بزوال العلم بالجامع.

ومثاله ما إذا علم إجمالا بخروج بول أم مني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ، فإنّه على كلّ تقدير سوف يعلم بارتفاع الجامع ؛ لأنّ الغسل كما يرفع الحدث بالبول كذلك يرفع الحدث بالمني ، هذا على القول بذلك.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بوجوب أحد أمرين كلاهما إلى الظهر ، فهنا إذا زالت الشمس سوف يزول علمه بالجامع بلا شكّ ، وبزواله ينحلّ العلم الإجمالي فلا يكون منجّزا.

النحو الثاني : أن يكون الجامع على كلّ تقدير متيقّنا إلى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفي مثل ذلك يزول أيضا العلم بالجامع بقاء ، ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذ بمثابة العلم الإجمالي.

النحو الثاني : أن يفرض أنّ الجامع معلوم إلى فترة معيّنة ولكنّه مشكوك البقاء بعد هذه الفترة ، فهنا إذا انتهت الفترة المعلومة وحلّت الفترة المشكوكة سوف يزول العلم الإجمالي بالجامع ، إذ سوف يكون مشكوك البقاء ، فلا يكون منجّزا ، نعم يمكن التعويض عنه بالاستصحاب فإنّ المورد سوف يكون من استصحاب الكلّي.

ومثال ذلك : ما إذا علم إجمالا بخروج البول أو المني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ،

ص: 307

وفرضنا الشكّ في كون غسل الجمعة يجزي عن الوضوء وعن الغسل ، فهنا قبل الاغتسال يعلم ببقاء الجامع وهو الحدث إمّا الأصغر وإمّا الأكبر ، ولكن بعد الاغتسال سوف يشكّ في بقاء الحدث وزواله باعتبار الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنهما أو عدم إجزائه ، فهنا يزول العلم بالجامع ويحلّ مكانه الشكّ ، وبالتالي تزول منجّزيّة العلم الإجمالي لاختلال أحد الأركان.

إلا أنّه في هذا المورد حيث يكون للجامع على تقدير التعبّد ببقائه أثر شرعي فيمكن جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الجامع وهو الحدث كان معلوما قبل الاغتسال ثمّ بعد الاغتسال يشكّ في ارتفاعه وببقائه فيجري استصحاب بقائه ، وهذا من القسم الثاني من استصحاب الكلّي والذي يجري بلا إشكال.

ويترتّب عليه نفس ما كان يترتّب على العلم الإجمالي ، لأنّه ما دام كلّي وطبيعي الحدث ثابتا بقاء بالتعبّد ، فكلّ الأعمال التي يشترط فيها الطهارة لا يمكن الإتيان بها إلا بالإتيان بالوضوء والغسل معا ، إذ الأمر دائر بينهما والاكتفاء بأحدهما لا يعني فراغ الذمّة يقينا من ذاك العمل المشروط بالطهارة ، وبهذا نصل إلى نفس النتيجة مع منجّزيّة العلم الإجمالي.

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين تكليفين ، غير أنّ أحدهما على تقدير تحقّقه يكون أطول مكثا في عمود الزمان من الآخر ، كما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى الغروب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين فعلا ، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئذ لزوال العلم الإجمالي؟

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين أمرين أحدهما أطول من الآخر في عمود الزمان ، فهنا إذا حلّ زمان أحدهما وانتهى سوف يشكّ في بقاء الجامع ؛ لأنّه إذا كان قد حدث من أول الأمر مع الفرد القصير فهو قد زال حتما ، وإن كان قد حدث مع الفرد الطويل فهو ثابت بقاء قطعا ، فيكون الجامع مردّدا أيضا في مرحلة البقاء غير معلوم الارتفاع وغير معلوم البقاء.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين ، ولكن أحدهما يعلم بحرمة شربه إلى الظهر والآخر إلى المغرب ، فهنا إذا حلّ وقت الظهر سوف يكون الإناء

ص: 308

المقيّدة حرمته بالظهر حلالا بخلاف الآخر ، ولكن حيث لا يدري من هو المحرّم شربه من أوّل الأمر فسوف يشكّ في مرحلة البقاء بأنّ الشرب هل لا يزال حراما أم لا؟ إلا أنّه لا علم له بالفعل بحرمة أحد الإناءين بعد الظهر.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بخروج البول أو المني منه ، وقلنا : إنّ غسل الجمعة لا يجزي عن الغسل ويشكّ في إجزائه عن الوضوء ، فهنا إذا اغتسل فسوف يحتمل ارتفاع الحدث من البول على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال ، وأمّا الحدث بالمني فهو باق على تقدير حدوثه ، إلا أنّه بعد الاغتسال لا يعلم ببقاء جامع الحدث ؛ لأنّه يعلم بارتفاعه ضمن الفرد القصير ويعلم ببقائه ضمن الفرد الطويل ، ولكنّه لا يدري بأي الفردين كان قد حدث ووجد؟

فهنا هل يبطل العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أم لا؟

والجواب بالنفي ؛ وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفا له ، فإنّ الجامع المردّد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوما حتّى الآن كما كان ، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلّ ما يضمّ من تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم الإجمالي.

ونسمّي مثل ذلك بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ، وحكمه أنّه ينجّز الطويل على امتداده.

قد يقال في الجواب : إنّه تجري الأصول الترخيصيّة عن الفرد الطويل بعد انتهاء أمد الفرد القصير ، إذ لا معارض لهذه الأصول ، فإنّه بعد حلول الظهر سوف نعلم بعدم حرمة الشرب من الإناء الأوّل ؛ لأنّ حرمته مقيّدة إلى الظهر فترتفع عند حلول الغاية والقيد.

وأمّا حرمة الإناء الآخر المقيّد بالمغرب فتصبح مشكوكة ابتداء ، والأصول الترخيصيّة التي تجري فيه لا معارض لها ؛ لأنّ الطرف الآخر قد ارتفع بارتفاع موضوعه ، وبالتالي سقطت معه الأصول الترخيصيّة.

والصحيح في الجواب أن يقال بعدم زوال العلم الإجمالي وعدم سقوطه عن المنجّزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة فيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي بين الفردين الطويل والقصير متعلّق بالجامع كما

ص: 309

هو واضح ، وهذا الجامع يدور أمره بين هذا الفرد القصير في كلّ الآنات وبين الفرد الطويل بكلّ الآنات أيضا ، بمعنى أنّ الفرد القصير ينحلّ إلى تكاليف ضمنيّة بحرمة الشرب من الإناء في كلّ الأوقات الواقعة إلى فترة الظهر ، فإنّ هذه الفترة يوجد فيها أفراد عديدة للشرب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب فتكون كلّ هذه الآنات داخلة مع الطرف في العلم الإجمالي.

وهكذا الحال في الفرد الطويل فإنّه يضمّ تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى حين الغروب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب ، وتكون كلّ هذه الآنات داخلة في العلم الإجمالي ، وحينئذ يكون العلم الإجمالي ابتداء ومن أوّل الأمر أي من حين حدوثه دائرا بين حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين الظهر أو حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين المغرب ، وهذا معناه أنّ كلّ الآنات الواقعة بين فترة ما بعد الظهر إلى المغرب داخلة في العلم الإجمالي وقد تنجّزت بهذا العلم.

ومجرّد حلول الظهر لا يعني زوال العلم الإجمالي بحرمة الشرب بعدد الآنات الواقعة بين الظهر والمغرب ، وإنّما يعني أنّ الطرف الأوّل وهو الفرد القصير قد تحقّق ؛ لأنّ آناته قد انتهت ، وأمّا الطرف الآخر فلم تنته آناته بعد مع كونه طرفا للعلم الإجمالي بكلّ ما يحتويه من آنات.

ومن الواضح أنّ تحقّق أحد طرفي العلم الإجمالي لا يعني أنّه يجوز جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر الذي لم يتحقّق بعد ، وإلا لم يكن هناك علم إجمالي منجّز أصلا.

فمثلا إذا علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فالعلم ينجّز كلتا الصلاتين ، فإذا شرع في صلاة الظهر وأتمّها فهل تجري الأصول الترخيصيّة في الجمعة؟

والجواب بالنفي قطعا ؛ لأنّ صلاة الجمعة قد تنجّزت من أوّل الأمر والأصول الترخيصيّة قد سقطت من أوّل الأمر قبل الشروع بإحداهما.

ومقامنا من هذا القبيل فإنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد الطويل بكلّ آناته قد سقطت من أوّل الأمر وقبل انتهاء أمد الفرد القصير لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الفرد القصير بكلّ آناته.

ص: 310

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي في هذا النحو يكون منجزا ولا يزول عن المنجّزيّة بانتهاء أمد أحد الطرفين.

ويسمّى هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي المردّد بين الفردين الطويل والقصير ، وحكمه هو المنجّزيّة لكلا الطرفين القصير إلى الظهر والطويل إلى المغرب ؛ لأنّ كلاّ منهما يدخل طرفا مع كلّ تكاليفه الانحلاليّة بعدد الآنات المتصوّرة.

النحو الرابع : أن يكون التكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي مشكوك البقاء على تقدير حدوثه.

النحو الرابع : أن يكون الجامع المعلوم إجمالا مردّدا بين طرفين : أحدهما مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، والآخر مقطوع الارتفاع على تقدير حدوثه ، بأن علم إجمالا بخروج المني أو البول منه ويعلم بأنّ غسل الجمعة يجزي عن الوضوء ويشكّ في إجزائه عن الغسل ، فهنا على تقدير ثبوت الحدث بالبول فهو معلوم الارتفاع بعد الاغتسال ، وأمّا على تقدير ثبوت الحدث بالمني فهو مشكوك البقاء بسبب الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنه وعدم إجزائه.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو حرمة الشرب من ذاك الإناء إمّا إلى الظهر أو إلى المغرب ، فهنا بعد حلول الظهر سوف يقطع بارتفاع حرمة الشرب عن ذاك الإناء ، ولكنّه سوف يشكّ في بقاء الحرمة في الإناء الآخر بسبب الشكّ في أنّه محرّم للظهر فقط أو للمغرب أيضا.

وقد يقال في مثل ذلك بسقوط المنجّزيّة ؛ لأنّ فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجّزها بالعلم الإجمالي ؛ لأنّها ليست طرفا للعلم الإجمالي ، ولا بالاستصحاب إذ لا يقين بالحدوث ليجري الاستصحاب.

قد يقال هنا بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بعد ارتفاع الطرف الأوّل وهو الفرد القصير بحلول الظهر في مثال الإناءين أو بالغسل في مثال الحدث المردّد.

والوجه في السقوط أنّه لا يوجد مبرّر لتنجيز الطرف الآخر المشكوك بقاء التكليف فيه على تقدير حدوثه ، وهو الإناء الآخر المشكوك الحرمة إلى الظهر أو المغرب أو الحدث الأكبر المشكوك ارتفاعه بالغسل ؛ وذلك لأنّ المنجّز له أحد أمرين وكلاهما منتف وهما :

ص: 311

الأمر الأوّل : العلم الإجمالي ، وهو إنّما ينجّز الفرد الطويل فيما إذا كان طرفا للعلم الإجمالي ، والمفروض أنّه بعد حلول الظهر أو بعد الاغتسال حيث يعلم بارتفاع الفرد القصير لا يوجد علم إجمالي مردّد بين فردين ، وإنّما يوجد شكّ في بقاء التكليف في الفرد الطويل فقط ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا معارض.

والأمر الثاني : هو الاستصحاب ، حيث إنّ الفرد الطويل قبل حلول الظهر أو قبل الاغتسال كان منجّزا ، وبعد حلول الظهر أو الاغتسال يشكّ في بقاء تنجيزه وارتفاعه فيستصحب ، إلا أنّ هذا الاستصحاب غير جار ؛ لعدم تماميّة أركانه ، إذ لا علم بثبوت التكليف في الفرد الطويل بذاته ، لأنّه بذاته مشكوك من أوّل الأمر ، وحيث لا يقين بالحدوث فلا يستصحب بقاؤه عند الشكّ ، فظهر أنّه لا يوجد ما ينجّز التكليف في الفرد الطويل بقاء فتجري فيه الأصول المؤمّنة.

وقد يجاب على ذلك بأنّ الاستصحاب يجري على تقدير الحدوث بناء على أنّه متقوّم بالحالة السابقة لا باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الإجمالي إمّا بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف ، أو ثبوت التكليف الواقعي في الطرف الآخر ، وهو كاف للتنجيز.

وقد يجاب على ذلك بأنّنا لو سلّمنا بأنّ الفرد الطويل لا يقع طرفا للعلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس موجودا بعد ارتفاع الفرد القصير ، إلا أنّ استصحاب الفرد الطويل يجري وذلك بتقريب آخر ، وحاصله : أنّه لا يشترط في الاستصحاب أكثر من الحدوث لا اليقين بالحدوث ، وهذا يعني أنّ الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث يكفي لجريان الاستصحاب إذا كان هناك أثر شرعي ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بنفس ما تعلّق به الحدوث.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفرد الطويل على تقدير حدوثه وثبوته فهو مشكوك البقاء إلى ما بعد الظهر أو الاغتسال ، وعليه فيجري استصحابه لترتّب الأثر الشرعي عليه وهو حرمة الشرب من الإناء إلى المغرب ، أو بقاء الحدث الأكبر الذي لا يرتفع إلا بغسل الجنابة.

وحينئذ سوف يتشكّل لدينا علم إجمالي آخر مردّد بين طرفين أحدهما الفرد القصير إلى الظهر والآخر الفرد الطويل إلى المغرب بالاستصحاب ، وهذا العلم الإجمالي موجود من أوّل الأمر إلى جانب العلم الإجمالي السابق وهو العلم الإجمالي بثبوت أحد الأمرين.

ص: 312

وبتعبير آخر : إنّه يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الإجمالي الدائر بين الفردين القصير والطويل ، أي أنّه يعلم بثبوت أحدهما على سبيل الإجمال ، أحدهما على تقدير ثبوته فأمده إلى الظهر أو إلى الاغتسال بغسل الجمعة ، والآخر أمده إلى المغرب أو إلى الاغتسال بغسل الجنابة.

الثاني : العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين أحدهما واقعي وهو حرمة الشرب إلى الظهر ، فإنّها متيقّنة من أوّل الأمر سواء كانت ضمن الفرد القصير أو الفرد الطويل ، والآخر ظاهري وهو حرمة الشرب ما بعد الظهر الثابتة باستصحاب الفرد الطويل على تقدير حدوثه إلى المغرب. والعلم الإجمالي الأوّل هو الذي يسقط عن المنجّزيّة بعد حلول الظهر ؛ لأنّ الفرد الطويل لا علم بثبوت التكليف فيه والفرد القصير قد علم بارتفاع التكليف عنه.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فهو باق على منجّزيّته حتّى بعد حلول الظهر ؛ لأنّ فترة ما بعد الظهر داخلة في أحد الطرفين بالاستصحاب ، والحال أنّها قد تنجّزت من أوّل الأمر بالعلم الإجمالي وهو لا يزول بارتفاع أحد الطرفين كما هو واضح (1).

ص: 313


1- لعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ؛ وذلك لأنّه من أوّل الأمر يجري استصحاب الجامع ، فإنّه معلوم الحدوث ما قبل الظهر ومشكوك البقاء بعد الظهر ، فيجري استصحابه حتّى على القول بأنّ اليقين بالحدوث شرط في الاستصحاب لا خصوص الحدوث. ومع جريان استصحاب الجامع وهو كلّي الحدث أو كلّي حرمة الشرب يترتّب الأثر المطلوب ترتّبه على الفرد الطويل ؛ لأنّ الفرد القصير قد علم ارتفاعه فيرتفع الأثر المترتّب عليه ، وأمّا الفرد الطويل فلم يرتفع فيبقى الأثر مترتّبا عليه ؛ لأنّه هو الذي يمثّل المصداق للجامع المستصحب. وهذا يسمّى باستصحاب الكلّي من القسم الثاني كما سيأتي توضيحه في أقسام استصحاب الكلّي. نعم لا يجري استصحاب الفرد بخصوصه ، أي في الفرد الطويل بعنوانه الخاص لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّه غير متيقّن الحدوث ، هذا على اشتراط اليقين بالحدوث. وحينئذ لا حاجة لافتراض علم إجمالي آخر متعلّق بالتكليف الواقعي في أحد الطرفين أو بالتكليف الظاهري في الطرف الآخر.

2 - الاضطرار إلى بعض الأطراف

الحالة الثانية : أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرّا فعلا إلى تناول أحدهما ، ولا شكّ في أنّ المكلّف يسمح له بتناول ما يضطرّ إليه ، وإنّما نريد أن نعرف أنّ العلم الإجمالي هل يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن الطعام الآخر أو لا؟

الحالة الثانية : أن يكون مضطرّا إلى ارتكاب أو ترك بعض أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين وكان مضطرّا للشرب من أحدهما لانحصار الماء فيهما مثلا.

وهنا لا إشكال في أنّ المكلّف يجوز له الشرب من الإناء المضطرّ إلى الشرب منه ؛ لأنّ حرمة الشرب ترتفع عند الاضطرار استنادا إلى مثل قوله : « رفع ما اضطروا إليه » ، ولقوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1).

وإنّما الكلام في أنّ العلم الإجمالي هل لا يزال منجّزا لوجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ، أو أنّ منجّزيّته في هذه الحالة تسقط؟

وللجواب عن ذلك نقول :

وهذه الحالة لها صورتان : إحداهما أن يكون الاضطرار متعلّقا بطعام معيّن ، والأخرى أن يكون بالإمكان دفعه بأي واحد من الطعامين.

والتحقيق في المسألة أنّ حالة الاضطرار لها صورتان :

الأولى : أن يكون مضطرّا إلى تناول أحد الإناءين بعينه أي الإناء المعيّن ، كما إذا أكرهه شخص على الشرب من هذا الإناء الذي تحت يده مع علمه بأنّه أو الإناء الآخر نجس ، أو كان شفاؤه من المرض متوقّفا على الشرب من هذا الإناء المعيّن دون الآخر.

الثانية : أن يكون الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن بحيث كان دفع الاضطرار يتحقّق بهذا الإناء وبذاك أيضا ، بأن أكره على الشرب من أحدهما غير المعيّن أو كانا معا ممّا يمكن المعالجة فيه.

ص: 314


1- البقرة : 173.

أمّا الصورة الأولى : فالعلم الإجمالي فيها يسقط عن المنجّزيّة لزوال الركن الأوّل ، حيث لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف.

والسبب في ذلك أنّ نجاسة الطعام المعلومة إجمالا جزء الموضوع للحرمة والجزء الآخر عدم الاضطرار ، وحيث إنّ المكلّف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو الطعام المضطرّ إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي ، فتجري البراءة عن حرمة الطعام غير المضطرّ إليه وغيرها من الأصول المؤمّنة بدون معارض ؛ لأنّ حرمة الطعام المضطرّ إليه غير محتملة ليحتاج إلى الأصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط ألاّ يكون الاضطرار متأخّرا عن العلم الإجمالي.

أمّا الصورة الأولى : وهي فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الإناءين بعينه فهذه على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين ثابتا قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك بأن كان مضطرّا للشرب من أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك علم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل من أركانه وهو العلم بجامع التكليف ؛ لأنّه قبل العلم بنجاسة أحدهما كان أحد الإناءين مباحا للشرب بسبب طروّ الاضطرار الرافع للحرمة ، فهو جائز الشرب إمّا لأنّه طاهر واقعا وإمّا لأنّه مضطرّ إليه ، ولذلك فلا يوجد تكليف فيه حتّى على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ العلم بنجاسة أحد الإناءين دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه على تقدير كونه المعلوم بالإجمال ، والآخر فيه تكليف على تقدير كونه المعلوم بالإجمال. فهو علم بالتكليف على أحد التقديرين لا على كلا التقديرين.

وقد قلنا فيما سبق : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لمعلوم فيما إذا كان منجّزا له على جميع التقادير لا على بعض التقادير ؛ لأنّه في هذه الحالة سوف لا يكون هذا البعض معلوما ، وبالتالي تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة لصيرورة المورد من الشبهة البدويّة.

ومرجع ذلك إلى أنّ النجاسة المعلومة إجمالا جزء الموضوع لحرمة الشرب وليست تمام الموضوع ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار إليها ،

ص: 315

فالجزء الآخر ألاّ يكون هناك اضطرار.

وحينئذ فالإناء المضطرّ إلى شربه ارتفع أحد جزئي موضوع حرمة الشرب فيه فكونه نجسا لا يؤثّر في ثبوت الحرمة ؛ لأنّه من الواضح أنّ ما يكون مضطرّا إليه فهو مباح واقعا ، ولا يحتاج إلى إجراء الأصول الترخيصيّة فيه إذ لا موضوع لها مع العلم بالحكم الواقعي ، ولذلك تجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر من دون معارض ، إذ لا يوجد أصول ترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه ؛ لأنّه مباح واقعا بسبب الاضطرار الذي هو عنوان ثانوي.

فظهر بذلك أنّ العلم الإجمالي المتأخّر عن الاضطرار لا يكون منجّزا لا للطرف المضطرّ إليه ؛ إذ لا إشكال في إباحته ، ولا للطرف الآخر ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري فيه من دون معارض.

وإلا بقي على المنجّزيّة ؛ لأنّه يكون من حالات العلم الإجمالي المردّد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلّف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو في الطرف الآخر حتّى الآن.

النحو الثاني : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ثمّ اضطرّ للشرب من أحدهما المعيّن ، فهنا يبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته بالنسبة للإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ المورد يكون من موارد الدوران المردّد بين الفردين الطويل والقصير.

وتوضيحه : أنّ المكلّف يعلم من أوّل الأمر بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى حين الاضطرار لشربه ، أو بحرمة الشرب من ذاك الإناء إلى الآن ، فهو يعلم بحرمة الشرب فعلا من أول الأمر ، فهو علم بجامع التكليف على كلا التقديرين.

غايته أنّ أحد الطرفين قصير والآخر طويل ، إلا أنّه يكون منجّزا لكلا الطرفين أحدهما إلى حين الاضطرار فعلا إلى شربه والآخر إلى الآن ، فبعد الاضطرار إلى شرب أحدهما المعيّن يكون الفرد القصير قد انتهى وارتفع ، إلا أنّ الفرد الطويل لا يزال ثابتا وهو منجّز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ الفرد الطويل بكلّ آناته يكون فيه تكاليف انحلاليّة ، وكلّها تدخل طرفا في العلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية فيها

ص: 316

معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد القصير بكلّ آناته إلى حين الاضطرار (1).

وقد يفترض الاضطرار قبل العلم ولكنّه متأخّر عن زمان النجاسة المعلومة ، كما إذا اضطرّ ظهرا إلى تناول أحد الطعامين ثمّ علم - قبل أن يتناول - أنّ أحدهما تنجّس صباحا ، وهنا العلم بجامع التكليف الفعلي موجود فالركن الأوّل محفوظ ، ولكنّ الركن الثالث غير محفوظ ؛ لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا ، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

النحو الثالث : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين حادثا قبل طروّ العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إلا أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي متقدّم على الاضطرار ، فيكون الاضطرار قبل العلم إلا أنّ المعلوم قبل الاضطرار لا بعده.

مثاله : ما إذا اضطرّ إلى شرب أحد الإناءين بعينه ثمّ علم بعد الاضطرار إلى الشرب وقبل الشرب أنّ أحدهما نجس قبل أن يحدث الاضطرار ، بأن كان زمان الاضطرار الظهر وزمان العلم بعد الظهر إلا أنّ زمان المعلوم منذ الصباح.

وهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث وهو شمول الأصول الترخيصيّة لكلا الطرفين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي هنا نشأ بعد الاضطرار إلى أحدهما المعيّن ، وهذا يعني أنّه دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه أصلا حتّى على تقدير كونه نجسا ؛ لأنّ الاضطرار يرفع التكليف واقعا ، والآخر على تقدير كونه نجسا فهو حرام ، إلا أنّه لا يحرز انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي عليه.

وأمّا إذا لاحظنا كون المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحدهما ثابتا قبل الاضطرار ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين الفردين الطويل والقصير فيكون العلم بجامع الحرمة موجودا.

ص: 317


1- إلا أنّ الشيخ الأنصاري ذهب هنا إلى انحلال العلم الإجمالي لزوال العلم بالجامع ؛ لأنّ الطرف المضطرّ إليه لا تكليف فيه فعلا ، فلا يبقى العلم بجامع التكليف معلوما على كلّ تقدير ، وفيه : إنّ سقوط التكليف عن المنجّزيّة الفعليّة لا يزيل العلم الإجمالي ولا يوجب انحلاله.

وحيث إنّ العلم الإجمالي نشأ متأخّرا عن الاضطرار ، فالعلم بجامع التكليف وإن كان ثابتا التفاتا إلى أنّ المعلوم بالإجمال موجود قبل الاضطرار إلا أنّه لا يكفي للمنجّزيّة ؛ لأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين غير موجود ؛ لأنّ الإناء المضطرّ إليه فعلا لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه مباح الشرب واقعا بسبب الاضطرار.

فعلى تقدير انطباق المعلوم بالإجمال على الإناء المضطرّ إليه فلا حرمة فعلا ؛ لأنّها قد انتهت بالأمد المحدّد لها واقعا وهو حدوث الاضطرار في موردها ، فالحرمة مرتفعة عنه واقعا لارتفاع موضوعها ولا معنى لجريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فيه ، إذ لا أثر لها ولارتفاع الشكّ فلا موضوع لها أيضا ، وأمّا الإناء الآخر فموضوع الأصول الترخيصيّة فيه ثابت فتجري فيه بلا معارض ، وبالتالي ينحلّ العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : إنّ هذا النحو بلحاظ حدوث العلم الإجمالي يكون العلم بالجامع مختلاّ ؛ لأنّ العلم متأخّر عن الاضطرار كما هو في النحو الأوّل ، وبلحاظ المعلوم بالإجمال يكون العلم بالجامع ثابتا ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال وهو النجاسة متقدّم على الاضطرار كما هو في النحو الثاني.

ولذلك فمن ذهب إلى التنجيز التفت إلى ثبوت العلم بالجامع ، ومن ذهب إلى عدم التنجيز التفت إلى عدم العلم بالجامع ، إلا أنّ الصحيح أنّ العلم بالجامع وإن كان ثابتا لكنّه لا يفيد ؛ لأنّه إنّما كان ثابتا في فترة لا يوجد علم إجمالي فيها فلم يكن الجامع منجّزا من أوّل الأمر ، وفي الفترة التي وجد فيها العلم الإجمالي كان العلم بالجامع مفقودا بسبب حدوث الاضطرار قبل العلم ، والذي يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه والذي ينبغي وجود التكليف فعلا في الإناء المضطرّ إليه.

ويطّرد ما ذكرناه في غير الاضطرار أيضا من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين ثمّ تلف أحدهما أو غسّل بالماء ، فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن المنجّزيّة بطروّ المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن المنجّزيّة بطروّها مقارنة للعلم الإجمالي أو قبله.

وهذا الكلام يجري أيضا في غير الاضطرار من مسقطات التكليف ، فإذا تلف

ص: 318

أحد الإناءين وأريق الماء أو طهّر الماء باتصاله بالجاري مثلا ، فهنا تأتي الانحاء الثلاثة المتقدّمة.

فإذا كان التلف أو التطهير قبل طروّ العلم الإجمالي فهنا يزول العلم بالجامع فيختلّ الركن الأوّل ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وإذا كان التلف أو التطهير بعد طروّ العلم الإجمالي فيبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لأنّه من الدوران المردّد بين الطويل والقصير.

وإذا كان التلف أو التطهير متقدّما على العلم الإجمالي ؛ ولكنّ المعلوم بالإجمال كان متقدّما على التلف أو التطهير ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لا لاختلال العلم بالجامع بل لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف أو الطاهر إذ لا أثر ولا موضوع لها ، فتجري في الإناء الموجود بلا معارض.

هذا كلّه في الصورة الأولى أي الاضطرار إلى أحدهما المعيّن.

وأمّا الصورة الثانية : فلا شكّ في سقوط وجوب الموافقة القطعيّة بسبب الاضطرار المفروض ، وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعيّة ، فقد يقال بجوازها كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه اللّه ، وبرهان ذلك يتكوّن ممّا يلي :

وأمّا الصورة الثانية وهي فيما إذا كان مضطرّا لارتكاب أحد الطرفين لا بعينه ، فهنا تارة يبحث عن وجوب الموافقة القطعيّة وأخرى يبحث عن حرمة المخالفة القطعيّة.

أمّا الموافقة القطعيّة فلا إشكال في سقوطها ؛ لأنّ الاضطرار رافع للتكليف التفصيلي فضلا عن الإجمالي ، بمعنى أنّه حتّى في صورة القطع بالتكليف فإنّ هذا التكليف يرتفع بطروّ الاضطرار عليه ؛ لأنّه عنوان واقعي ثانوي رافع للأحكام الواقعيّة الثانويّة ؛ لأنّها مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار كما أنّها مقيّدة بالقدرة وعدم العجز ، وهذا المقدار واضح ولا كلام فيه.

والنتيجة إلى الآن الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وأمّا المخالفة القطعيّة فهل لا تزال على حرمتها ، أو أنّ العلم الإجمالي يسقط بلحاظها أيضا؟

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى جواز المخالفة القطعيّة وسقوط حرمتها ، واستدلّ على

ص: 319

ذلك بدعوى أنّ الترخيص في ارتكاب أحدهما بلحاظ الاضطرار يوجب الترخيص التخييري ، أي أنّ المكلّف مخيّر بارتكاب أحدهما وهذا يتنافى مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ؛ لأنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تقتضي المنع عن الطرفين بينما الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه يقتضي تجويز ارتكاب أي الطرفين أراد.

وتوضيح هذا البرهان أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ثانيا : أنّ المعلول هنا ساقط.

ثالثا : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.

فينتج : أنّه لا بدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملا في الطرف الآخر ولكنّه حينئذ احتمال بدويّ مؤمّن عنه بالأصل.

وهذا البرهان يتكوّن من ثلاث مقدّمات ونتيجة :

المقدّمة الأولى : أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة وحرمة المخالفة ، فلا بدّ من الاجتناب عن كلا الإناءين عند العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

المقدّمة الثانية : أنّ وجوب الموافقة القطعيّة ساقطة في المقام بسبب طروّ الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن المجوّز لارتكاب أحد الإناءين ، وهذا معناه رفع اليد عن الموافقة القطعيّة.

المقدّمة الثالثة : أنّ سقوط الموافقة القطعيّة يعني سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّها معلولة له ، وإذا سقط المعلول فيكشف ذلك عن سقوط علّته ؛ إذ يستحيل ثبوت المعلول من دون العلّة ، فسقوطه يكشف عن سقوطها.

والنتيجة : أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة في مورد الاضطرار ، فلا تكليف معلوم في أحدهما بسبب الاضطرار إليه ، ولا تكليف في الآخر بعد ارتكاب الأوّل ؛ لأنّ التكليف فيه مشكوك ، وحيث لا منجّز لهذا الشكّ بسبب ارتفاع العلم الإجمالي وسقوطه ، فيكون شكّا بدويّا في التكليف وهو مجرى للأصول الترخيصيّة المؤمّنة عن احتمال التكليف في الطرف الآخر.

ص: 320

والجواب عن ذلك :

أوّلا بمنع علّيّة العلم الإجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة.

والجواب عن هذا الاستدلال :

أوّلا : أن ننكر كون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، كما تقدّم سابقا ، حيث قلنا هناك : إنّ العلم الإجمالي يسبّب تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وحينئذ يكون احتمال التكليف في كلّ طرف منجّزا بناء على مسلك حقّ الطاعة ، أو يقال باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة وهذا يتوقّف على عدم المانع ، فمع وجود المانع لا يؤثّر العلم الإجمالي في المنجزيّة.

وثانيا بأنّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعيّة الناشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّيّة المذكورة ؛ لأنّ المقصود منها عدم إمكان جعل الشكّ مؤمّنا ؛ لأنّ الوصول بالعلم تامّ ، ولا ينافي ذلك وجود مؤمّن آخر وهو العجز كما هو المفروض في حالة الاضطرار.

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة فمع ذلك نقول : إنّ معنى العلّيّة هي كون وصول التكليف بالعلم تامّا ، فكما أنّ وصول التكليف بالعلم التفصيلي يحقّق تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة والعصيان ، فكذلك العلم الإجمالي يعتبر وصول التكليف بهذا المقدار محقّقا لموضوع حكم العقل المذكور ، والشكّ المفترض وجوده في الأطراف لا يكون مؤمّنا عن التكليف في هذه الحالة ، فمعنى العلّيّة إذا أنّ الشكّ الموجود ليس مؤمّنا عن التكليف.

وهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت التأمين عن التكليف لجهة أخرى ، كالعجز وعدم القدرة ، أو كالاضطرار كما هو مقامنا ، فإن انتفاء التكليف في الطرف المضطرّ إليه لا يتنافى مع علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل على القول بالعلّيّة فعليّته متحقّقة ، إلا أنّ سقوط وجوب الموافقة القطعيّة كان لجهة أخرى مانعة منها وهي الاضطرار ؛ نظير علّيّة النار للاحتراق ، فإنّ عدم الاحتراق بسبب وجود المانع منه لا يعني رفع اليد عن العلّيّة للنار.

وبتعبير آخر : إنّ العقلاء لا يرون المأمور مطالبا بالامتثال لتكليف لا يقدر عليه أو

ص: 321

يضطرّ إلى فعله أو تركه ، بل لا يرون للمولى حقّا في ذلك ، والشارع أيضا لا يطالب بحقّ في موارد عدم القدرة والاضطرار حتّى في العلم التفصيلي فضلا عن العلم الإجمالي.

وهذا يعني أنّ المكلّف مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة وغير قادر على امتثالها ، لا أنّ العلم الإجمالي ليس علّة أو سقط عن العلّيّة بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّه يمكن رفع اليد عن المعلول وسقوطه حتّى مع بقاء علّته ، ولا تنافي في ذلك ، إذ ليس بابه باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، بل بابه باب إيجاد المانع من تحقّق المعلول مع ثبوت علّته.

وهذا ما يسمّى بالتوسّط في التنجيز أي أنّه ترتفع مرتبة من الامتثال ، وهي المرتبة العليا وتبقى سائر المراتب.

وثالثا : لو سلّمنا فقرات البرهان الثلاث فهي إنّما تنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذنا في ترك الموافقة القطعيّة له ، وذلك يحصل برفع اليد عن إطلاق التكليف لحالة واحدة وهي حالة تناول الطعام المحرّم وحده من قبل المكلّف المضطرّ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معا ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلّف المضطرّ العالم إجمالا أحد الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتماليّة على الإطلاق ، وإذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعيّة للتكليف المعلوم فلا يجوز.

وثالثا : أنّنا لو سلّمنا بفقرات الاستدلال فلا ينتج سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة رأسا كما أفاده المحقّق الخراساني ؛ ليلزم عن ذلك جواز المخالفة القطعيّة ، بل ينتج شيئا آخر وهو أنّ التكليف المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الطعامين لا بدّ من التصرّف فيه بنحو يتناسب مع جواز ارتكاب أحدهما بسبب الاضطرار.

فلا نرفع اليد عن العلم الإجمالي رأسا ونقول : إنّه لا تكليف ، ولا نأخذ بدليل الاضطرار ونقول : إنّه يجوز ارتكاب كلا الإناءين ، بل نجمع بين الأمرين بنحو يتناسب مع ارتكاب أحد الطرفين بسبب الاضطرار ويتناسب مع بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لحرمة المخالفة القطعيّة وعدم جواز تركها ، بل مع بقائه أيضا لوجوب

ص: 322

الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن نقول : إنّ مقتضى الجمع بين الأمرين ينتج لنا التوسّط في التنجيز.

وتوضيحه : أنّ التنجيز إمّا أن يكون ثابتا بمرتبته العليا أو بمرتبته الدنيّة أو بمرتبة وسطيّة بين المرتبتين.

ففي موارد العلم الإجمالي مع فرض الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه نقول :

إمّا أن يبقى المعلوم بالإجمال منجّزا على مرتبته العليا أي وجوب ترك كلا الطرفين حتّى الطرف المضطرّ إليه.

وإمّا أن يزول التنجيز رأسا فيجوز ارتكاب الطعام المضطرّ إليه وغيره أيضا.

وإمّا أن يبقى التنجيز في بعض الأطراف ويزول عن البعض الآخر أي جواز ارتكاب ما يضطرّ إليه دون الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ الجمع بين العلم الاجمالي ودليل الاضطرار يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من كلّ منهما ، فلا يحرم كلا الإناءين ولا يجوز ارتكابهما معا ، فنرفع اليد عن إطلاق التنجيز في العلم الإجمالي للطرفين ، وعن إطلاق الجواز ونفي التكليف في دليل الاضطرار ، وتكون النتيجة هي أنّه يجوز ارتكاب أحد الطرفين ويجب ترك الآخر.

فإذا تناول المكلّف أحد الطعامين وترك الآخر فيكون قد حقّق الموافقة القطعيّة لكلا الدليلين ؛ لأنّه بتناوله لأحد الطعامين يكون قد امتثل لدليل الاضطرار ، وبتركه للآخر قد امتثل للعلم الإجمالي المنجّز بالمرحلة الوسطيّة ، ولا يتصوّر هنا المخالفة القطعيّة أصلا.

وأمّا إذا تناول كلا الطعامين فهنا تكون مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّ أحدهما موافق لدليل الاضطرار ، وأمّا الآخر فهو مخالف للعلم الإجمالي المنجّز لهذه المرحلة من التنجيز ، ولذلك يحرم تناول كلا الطعامين (1).

ص: 323


1- ثمّ إنّ التوسط المذكور تارة يبرز بنحو مشروط كما أفاده الميرزا بأن يقال : إنّ المكلّف مخاطب بأن لا يختار الحرام الواقعي دفعا للاضطرار بل يختار الآخر ، فإذا ارتكبهما معا يكون قد اختار الحرام الواقعي. وأخرى يبرز بأنّ الحرمة تنقلب عن التعيين إلى التخيير كما أفاده المحقّق العراقي ، بأن يقال : إنّه يجب الاجتناب عن الحرام مخيّرا في هذا الاجتناب بين أحد الفردين ، فإذا لم يجتنب عن أحدهما بل فعلهما معا يكون قد ارتكب الحرام. إلا أنّ هذين التصوّرين مع أصل المبنى أي التوسّط في التكليف لا وجه له ، والصحيح ما ذكرناه من التوسّط في التنجيز.

3 - انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي :

لكل علم إجمالي سبب ، والسبب تارة يكون مختصّا في الواقع بطرف معيّن من أطراف العلم الإجمالي ، وأخرى تكون نسبته إلى الطرفين أو الأطراف على نحو واحد.

ومثال الأوّل : أن ترى قطرة دم تقع في أحد الإناءين ولا تميّز الإناء بالضبط ، فتعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، والسبب هو قطرة الدم وهي في الواقع مختصّة بأحد الطرفين.

ويمكن أن تؤخذ قيدا في المعلوم بأن تقول : ( إنّي أعلم إجمالا بنجاسة ناشئة من قطرة الدم التي رأيتها لا بنجاسة كيفما اتّفقت ).

الحالة الثالثة : انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

إنّ لكلّ علم سببا ، والعلم الإجمالي له سبب ومنشأ ، وهذا السبب يتصوّر على نحوين :

النحو الأوّل : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي مختصّا بأحد الطرفين المعيّن في الواقع ، لكنّه مجمل ومردّد لدى المكلّف ، فنسبته إلى الأطراف ليست على حدّ واحد ؛ لأنّه لا ينتسب إلا إلى الطرف الواقعي المعيّن.

النحو الثاني : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي نسبته إلى تمام الأطراف على حدّ واحد ، بأن لا يكون معيّنا في أحد الأطراف واقعا بخصوصه ، بل كان من الممكن تعيّنه في الطرفين معا.

أمّا النحو الأوّل ، فمثاله ما إذا علم بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ولكن المكلّف لم يلتفت إلى أي الإناءين الذي وقعت فيه النجاسة ، فهنا يحصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما وسببه ومنشؤه وقوع قطرة الدم في أحدهما ، وعدم تعيينه للإناء

ص: 324

النجس ، إلا أنّ قطرة الدم هذه قد وقعت في أحد الإناءين فقط ، فهي تنتسب إلى أحدهما فقط لا إلى الإناءين معا.

ومن أجل ذلك يمكنه أن يقيّد النجاسة المعلومة إجمالا بسببها فيقول : إنّه يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة مسبّبة وناشئة عن قطرة الدم لا عن شيء آخر ، ولذلك ينفي نجاسة أحد الإناءين بالبول أو المسكر ونحوهما.

ويترتّب على ذلك : أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن من الإناءين ، فإن كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الإجمالي ، بأن علمت تفصيلا بأنّ القطرة قد سقطت هنا انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني ، إذ يكون من النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن ذلك الركن.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور إذا حصل بعده علم تفصيلي ، فهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يحصل للعالم بالإجمال علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه ، ويكون سبب هذا العلم التفصيلي هو نفس سبب العلم الإجمالي بحيث لا يحتمل المكلّف شيئا آخر.

وذلك بأنّ يكون علمه التفصيلي ناشئا من وقوع قطرة الدم التي علم إجمالا بوقوعها في أحد الإناءين في هذا الإناء المعيّن ، بحيث كانت هذه القطرة هي نفس تلك القطرة وليست قطرة أخرى ، ففي هذه الحالة سوف ينحلّ العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو سريان العلم من الجامع إلى الفرد بعينه ؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي يعيّن ويشخّص المعلوم بالإجمال في هذا الإناء ، فيعود الشكّ في الإناء الآخر بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وهذا هو النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة لتعلّق العلم التفصيلي بالفرد كما تقدّم سابقا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه على جميع المسالك والمباني في المقام.

وإن كان هذا العلم التفصيلي بسبب آخر ، كما إذا رأيت قطرة أخرى من الدم

ص: 325

تسقط في الإناء المعيّن ، لم ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ؛ لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الإجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع إلى الفرد بخصوصه.

الاحتمال الثاني : أن يكون العلم التفصيلي ناشئا ومسبّبا عن سبب آخر غير السبب الذي نشأ منه العلم الإجمالي ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علم تفصيلا بوقوع قطرة خمرة في أحدهما المعيّن أو علم تفصيلا بوقوع قطرة دم في الإناء المعيّن ، وكانت هذه القطرة غير تلك القطرة التي علم إجمالا بوقوعها في أحدهما ، بأن أحرز أنّها قطرة ثانية ، فهنا لا إشكال في بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته وعدم انحلاله بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال لا ينطبق على المعلوم بالتفصيل للعلم بتغايرهما ، ولذلك لا يسري العلم بالجامع إلى الفرد ، فالأركان الأربعة لا تزال موجودة فالعلم الإجمالي على منجّزيّته.

وهذا ممّا لا إشكال فيه أيضا على جميع المباني والمسالك.

وكذلك الأمر إذا شكّ في أنّ سبب العلم التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي ، ويدخل في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

الاحتمال الثالث : أن يشكّ في أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي وهو نجاسة هذا الإناء بعينه هل سببه هو نفس سبب العلم الإجمالي أو هو سبب آخر؟

مثاله : أن يعلم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ثمّ يعلم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه ، ولكنّه لا يدري هل هو نجس بسبب تلك القطرة من الدم ، أو بسبب آخر كقطرة أخرى من الدم وقعت مرّة أخرى فيه ، أو قطرة من الخمر؟ فهاهنا لا انحلال أيضا ؛ وذلك لأنّه لا يحرز اختلال الركن الثاني إذ لا يعلم بسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

فقد يكون العلم بالجامع متشخّصا في الفرد وقد لا يكون ذلك ، وهذا يعني الشكّ في انحلال العلم الإجمالي للشكّ في زوال ركنه الثاني ، فيدخل المورد في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

ص: 326

وهناك قلنا بأنّ مثل هذا الشكّ لا يرفع منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّه يوجد احتمالان متكافئان :

أحدهما أن يكون السبب في العلم التفصيلي هو نفس السبب في العلم الإجمالي.

والآخر أن يكون سببه غير سبب العلم الإجمالي.

وحيث لا معيّن لأحد الاحتمالين على الآخر فيكون من الشكّ في تحقّق مصداق الانحلال والسريان من الجامع إلى الفرد ، فلا يمكن التمسّك بالانحلال ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ.

وهذا لا إشكال فيه أيضا.

ومثال الثاني : - أي ما كانت نسبة سبب العلم الإجمالي فيه إلى الأطراف متساوية - أن يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءات التي هي في معرض استعمال الكافر أو الكلب ، لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فإنّ هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو واحد.

ويترتّب على ذلك أنّه لا يصلح أن يكون قيدا مخصّصا للمعلوم الإجمالي.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان السبب في نشوء العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حدّ واحد ، فمثاله :

ما إذا علم بنجاسة أحد إناءي الكافر لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل من دون أن يستعمل أحدهما على الأقلّ ، أو علم بنجاسة أحد الإناءين الموضوعين أمام الكلب للشرب منهما لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل ولا يشرب من أحدهما على الأقلّ ، أو علم بكذب أحد مدعي النبوّة لقيام البرهان على عدم اجتماع نبيّين معا في وقت واحد في مكان واحد لأمّة واحدة.

فهذا النحو من العلم الإجمالي كان منشؤه مجرّد الاستبعاد بالنسبة للأواني ، وهذا الاستبعاد نسبته إلى كلا الإناءين على حدّ واحد ، بمعنى كما أنّ الاستبعاد موجود في هذا الإناء فهو موجود في ذاك أيضا ، بحيث يكون إثبات النجاسة في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّ السبب فيهما متساو.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ هذا السبب لا يمكن أن يخصّص أو يقيّد النجاسة

ص: 327

المعلومة إجمالا ، فلا يمكن أن يقال بأنّه يعلم بنجاسة في أحد هذين الإناءين ناشئة من الاستبعاد ، إذ الاستبعاد نفسه ليس سببا للنجاسة وليس من النجاسات أصلا.

وهذا فارق بين هذا النحو والنحو السابق ، حيث هناك كان السبب يقيّد ويخصّص المعلوم بالإجمال.

وعليه ، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة إناء معيّن انحلّ العلم الإجمالي حتما لانهدام الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزما حيث لم يتحصّص المعلوم الإجمالي بقيد زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع إلى الفرد ، ويدخل في النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

وحينئذ نقول : إنّه إذا حصل لنا علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه بسبب رؤية الكافر أو الكلب وهو يشرب منه ، فهل ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين الناشئ من استبعاد مساورة الكافر أو الكلب لأحدهما؟

والجواب : أنّه ينحلّ لانهدام الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم بالجامع يسري إلى الفرد ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي وهو نجاسة أحدهما منطبق جزما على المعلوم بالعلم التفصيلي ، وهو نجاسة هذا بعينه لأنّ الفرد مصداق حتما للجامع ، أي أنّ نجاسة هذا بعينه مصداق لنجاسة أحدهما.

ولا يوجد في الجامع المعلوم بالإجمال أيّة خصوصيّة أو ميزة أو قيد كما هو المفروض ، فيكون هذا الفرد صالحا لانطباق الجامع عليه وانحلاله به ، فيكون نظير النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة لسريان العلم بالجامع إلى الفرد.

كما إذا علمنا بوجود إنسان في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد ، فينحلّ العلم الإجمالي لسريان العلم بالجامع إلى الفرد ؛ إذ لا خصوصيّة ولا قيد زائد يمنع من هذا السريان ، وبالتالي يكون الشكّ في وجود فرد آخر في المسجد بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : إنّه قبل العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه كان العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى الإناءين ؛ لأنّ الاستبعاد فيهما على نحو واحد ، فيكون تعيينه في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ، إلا أنّه بعد العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما

ص: 328

المعيّن يكون تعيين المعلوم بالعلم الإجمالي فيه ترجيحا مع وجود المرجّح ؛ لأنّ هذا الإناء نجس على كلّ حال ، وحيث لا يوجد ما يميّز نجاسته عن النجاسة المعلومة إجمالا لعدم تقييده بشيء زائد فيكون صالحا للانطباق والسريان.

وأمّا الإناء الآخر فتعيين كونه النجس فيه ترجيح على الآخر من دون مرجّح ؛ لأنّ النسبة بينهما واحدة ولا يمتاز على الآخر بشيء يجعله أرجح منه في انطباق المعلوم عليه.

والحاصل : أنّه بعد العلم التفصيلي يصبح العلمان معا علما واحدا بنجاسة هذا الإناء المعيّن وشكّا بدويّا في نجاسة الإناء الآخر ، فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا معارض.

وفي كلّ حالة يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متّحدين في الزمان ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّرا زمانا فلا انحلال للعلم الإجمالي حقيقة ؛ لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذ مصداقا للمعلوم الاجمالي.

شرط الانحلال : ثمّ إنّه يشترط في تحقّق الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي أن يكون المعلوم تفصيلا والمعلوم إجمالا متّحدين في الزمان ، كأن يعلم بوقوع نجاسة في أحد الإناءين صباحا ، ثمّ يعلم تفصيلا بوقوع النجاسة في هذا الإناء بعينه صباحا أيضا ، فهنا يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي أي معيّنا ومشخّصا له ، أو يصلح لأن يكون هو نفس المعلوم إجمالا لكونه مصداقا له ولا ميزة بينهما.

وأمّا إذا كان المعلوم تفصيلا متأخّرا في الزمان عن المعلوم إجمالا فلا انحلال حقيقة ؛ إذ في هذه الحالة لن يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي لوجود الميزة بينهما.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين في الصباح ثمّ علم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه عند الظهر ، أي أنّه تنجّس ظهرا لا صباحا ، فهنا لن يحصل الانحلال ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال فيه ميزة وهو حدوث النجاسة صباحا ، وهذه الميزة يحرز عدم تحقّقها في المعلوم التفصيلي ؛ لأنّ النجاسة فيه حدثت ظهرا ، فهي نجاسة أخرى غير النجاسة

ص: 329

السابقة. وعليه ، فلا يكون مصداقا وصالحا لانطباق المعلوم الإجمالي عليه ، فالعلم بالجامع لم يسر إلى الفرد.

ولا يشترط في الانحلال الحقيقي وانهدام الركن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم التفصيلي المتأخّر زمانا يوجب الانحلال أيضا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع إحراز المصداقيّة لا يمنع عن سراية العلم قهرا من الجامع إلى الخصوصيّة ، وهو معنى الانحلال.

نعم ، لا يشترط في الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد أن يكون العلمان الإجمالي والتفصيلي متعاصرين حدوثا ، بل يكفي ما ذكرناه من تعاصر المعلومين فيهما حتّى ولو كان العلم التفصيلي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي ، بشرط أن يحرز أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي المتأخّر زمانا عن العلم الإجمالي مصداق للمعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم ، وهذا يحصل فيما إذا لم يكن في المعلوم بالإجمال ميزة وخصوصيّة زائدة عن المعلوم بالتفصيل.

ومثاله : ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين لوقوع قطرة دم فيه ثمّ علم تفصيلا بنجاسة أحد الإناءين بعينه بالدم أيضا ، وكان وقوع القطرة في العلم الإجمالي صباحا ، ووقوعها في العلم التفصيلي صباحا أيضا ، وكانت هذه القطرة هي نفس تلك أو يحتمل أنّها نفسها على الأقلّ ، فهنا يحصل الانحلال الحقيقي ويسري العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ المعلوم تفصيلا يصلح مصداقا للمعلوم إجمالا وزمانهما واحد.

وأمّا مجرّد كون نفس العلم التفصيلي متأخّرا عن العلم الإجمالي فهو لا يمنع من الانحلال الحقيقي والسريان القهري للعلم من الجامع إلى الفرد ، فإنّ الغالب هو تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي ، فلو كان مانعا للزم عدم تحقّق الانحلال الحقيقي إلا نادرا جدّا ، وهو فرض حدوث العلمين الإجمالي والتفصيلي معا وفي آن واحد.

وبهذا ينتهي الكلام عن الانحلال الحقيقي.

4 - الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول :

إذا جرت في حقّ المكلّف أمارات أو أصول شرعيّة منجّزة للتكليف في بعض

ص: 330

أطراف العلم الإجمالي فلا انحلال حقيقي ولا تعبّدي كما تقدّم ، ولكن ينهدم الركن الثالث بإحدى صيغتيه المتقدّمتين إذا توفّرت شروط :

الحالة الرابعة : الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول.

فإذا كان لدى المكلّف علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، وفرض أنّ الأمارات أو الأصول قامت على تنجيز التكليف في أحد الإناءين ، فهنا هل يحصل الانحلال التعبّدي أو الانحلال الحكمي؟

والجواب : أمّا الانحلال الحقيقي فمن الواضح عدم تحقّقه في المقام ؛ لأنّه ناتج عن سريان العلم من الجامع إلى الفرد أي زوال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهنا الركن الثاني محفوظ وغير منحلّ إذ لا علم وجداني بالفرد ، فالعلم باق حقيقة.

وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال بناء على مسلك جعل الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو المجاز السكّاكي أي الورود ، فقد تقدّم الحديث عنه سابقا ، وقلنا :

إنّ هذه المباني لو سلّمت فهي لا تنتج الانحلال الحقيقي تعبّدا.

يبقى الانحلال الحكمي وهو عبارة عن انهدام الركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف بناء على الصيغة المشهورة والصحيحة ، أو كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف في الطرفين أو الأطراف على كلّ تقدير.

فإنّه إذا كان أحد الأطراف منجّزا بالأمارة أو بالأصل فسوف لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، أو لن يكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف على كلّ تقدير ، ولذلك تبطل منجّزيّته مع كون العلم الإجمالي موجودا حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ساقط ، إلا أنّ هذا الانحلال الحكمي يشترط فيه أمور :

أحدها : ألاّ يقلّ البعض المنجّز بالأمارة أو الأصل الشرعي عن عدد المعلوم بالإجمال من التكاليف.

ثانيها : ألاّ يكون المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل ناظرا إلى تكليف مغاير لما هو المعلوم إجمالا ، كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على حرمة أحدهما المعيّن بسبب الغصب.

ص: 331

ثالثها : ألاّ يكون وجود المنجّز الشرعي متأخّرا عن حدوث العلم الإجمالي.

الشرط الأوّل : ألاّ يقلّ المتنجّز بالأمارة أو بالأصل عن المعلوم بالعلم الإجمالي ، بل يكون إمّا زائدا أو مساويا ، فإذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة اثنين معيّنين منها تمّ الانحلال الحكمي.

وأمّا إذا قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة واحد فقط ، فهنا يخرج الطرف عن العلم الإجمالي إلا أنّ الأطراف الأخرى لا تزال على طرفيّتها ؛ إذ العلم الإجمالي بلحاظها غير منحلّ لا حقيقة ولا حكما.

فكما اشترط في انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير أن يكون المعلوم إجمالا في الصغير أزيد أو مساويا للكبير فكذلك هنا ؛ لأنّ الانحلال نفسه يفترض مساواة الشيء المنحلّ مع المنحلّ فيه ، أو كونه أقلّ منه لا أزيد.

والشرط الثاني : أن يكون التكليف المعلوم إجمالا هو نفسه التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل ، إذ لو كان التكليف فيهما متغايرا لما حصل الانحلال.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا فلا بدّ أن تكون الأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الإناءين بعينه دالّة على نفس التكليف المعلوم إجمالا بأن تشهد البيّنة بنجاسة هذا الإناء ، أو يجري استصحاب نجاسة هذا الإناء. وأمّا إذا كانت الأمارة أو الأصل منجّزة للإناء بتكليف آخر غير النجاسة بأن قامت على كونه مغصوبا فهنا لا يتحقّق الانحلال.

وبتعبير آخر : يشترط في الأمارة أو الأصل أن يكون التكليف المتنجّز بهما في أحد الأطراف متّحدا في سببه مع التكليف المتنجّز في العلم الإجمالي ، أي أنّ سبب العلم الإجمالي هو نفسه ما قامت عليه الأمارة أو الأصل.

وأمّا لو كان السبب فيهما متغايرا فلا يتحقّق الانحلال إذ يوجد سببان مستقلاّن للتنجيز ، وموضوعهما مختلف.

والشرط الثالث : ألاّ يكون قيام الأمارة أو الأصل متأخّرا عن العلم الإجمالي ، بل إمّا أن يكونا قبله أو مقارنين له ، فإذا كان لدينا إناءان وكان أحدهما نجسا سابقا ، فهنا يجري استصحاب نجاسته فيكون منجّزا ، أو أخبرت البيّنة بنجاسته فيتنجّز بالأمارة.

فإذا علمنا إجمالا بعد ذلك بنجاسة أحدهما سوف لا يكون هذا العلم الإجمالي

ص: 332

منجّزا لاختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الطرف الذي استصحبت نجاسته ، أو قامت الأمارة عليها ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر بلا معارض.

وهكذا لو كان قيام الأمارة أو الأصل مقارنا لحدوث العلم الإجمالي بأن حدثا معا ، فالانحلال الحكمي موجود.

وأمّا لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحدها المعيّن ، فهنا لا يتحقّق الانحلال الحكمي كما سيأتي توضيحه.

فكلّما توفّرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي بلا معارض وفقا للصيغة الأولى ، ولعدم صلاحيّة العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كلّ تقدير وفقا للصيغة الثانية ، ويسمّى السقوط عن المنجّزيّة في هذه الحالة بالانحلال الحكمي تمييزا له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبّدي.

وهذه الشروط الثلاثة إذا توفّرت في مورد حصل الانهدام للركن الثالث وسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، ولا فرق في ذلك بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلّيّة. وتوضيحه : أنّه على مسلك الاقتضاء كان الركن الثالث عبارة عن جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فمع قيام المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل سوف لا تجري الأصول الترخيصيّة في هذا الطرف الذي قامت فيه الأمارة أو الأصل ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر بلا معارض ، فيختلّ بذلك الركن الثالث ، ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وعلى مسلك العلّيّة كان الركن الثالث عبارة عن أن يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير لا على بعضها ، فمع تنجّز أحد الطرفين بعينه بالأمارة أو بالأصل سوف لن يكون قابلا للتنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ؛ لأنّه على تقدير كون النجاسة المعلومة إجمالا في الإناء المنجّز بالأمارة أو بالأصل فلن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّز لا يتنجّز من جديد ، إذ لا تجتمع علّتان مستقلّتان على معلول

ص: 333

واحد ، وبعد اختلال الركن الثالث بهذه الصياغة يحصل الانحلال الحكمي (1).

وأمّا إذا اختلّ الشرط الأوّل فالعلم الإجمالي منجّز للعدد الزائد ، والأصول بلحاظه متعارضة.

ذكرنا أنّ الانحلال الحكمي فيه ثلاثة شروط فإذا اختلّ واحد منها فالعلم الإجمالي لا ينحلّ.

وعليه فنقول : إذا اختلّ الشرط الأوّل بأن كان العدد المعلوم بالإجمال أزيد من العدد الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل ، فمورد الأمارة يخرج عن دائرة العلم الإجمالي وكذا مورد الأصل ، وأمّا المقدار الزائد فهو لا يزال مرددا بين الأطراف الأخرى ، والعلم الإجمالي لا يزال منجّزا بلحاظه ؛ لعدم اختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة في تلك الأطراف سوف تجري فيها جميعا ، وبالتالي تتعارض وتتساقط.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إناءين من العشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحد العشرة بعينه فهنا يخرج هذا الطرف عن دائرة العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فلا يزال العلم منجّزا لها للعلم بنجاسة أحدها ؛ ولأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ طرف متعارضة فيما بينها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني فالأمر كذلك ؛ لأنّ ما ينجّزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجّزه الأمارة نفسها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني بأن كان التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل مغايرا للتكليف المنجّز بالعلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال أيضا ؛ لأنّ ما يتنجّز بالأمارة غير ما يتنجّز بالعلم ، أي أنّ السبب في كلّ منهما مغاير للسبب في الآخر ، فيكون

ص: 334


1- وإنّما سمّيت هذه الموارد بالانحلال الحكمي من أجل تمييزها عن موارد الانحلال الحقيقي أو الانحلال التعبّدي على فرض وقوعه ، ووجه التسمية أنّ العلم الإجمالي رغم وجوده حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة لكلا الطرفين ساقط ، فمن أجل سقوط حكمه سمّي بالانحلال الحكمي. ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الانحلال الحكمي إنّما يحتاج فيه إلى هذه الشروط فيما إذا كان المنجّز أصلا عمليّا مطلقا ، أو أمارة غير معيّنة للمعلوم الإجمالي ، وأمّا إذا كان لدينا أمارة معيّنة ومشخّصة للمعلوم الإجمالي فهي توجب الانحلال الحكمي مطلقا سواء كانت قبل العلم الإجمالي أو بعده.

مورد الأمارة منجّز من جهتين : الأولى بلحاظ الأمارة ، والثانية بلحاظ العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فهي منجّزة بالعلم الإجمالي فقط.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وقامت الأمارة أو الأصل على غصبيّة أحدهما بعينه ، فهنا يكون مورد الأمارة منجّز من ناحيتين : من ناحية الغصبيّة ، ومن ناحية النجاسة ، وسائر الأطراف الأخرى منجّزة من ناحية النجاسة المعلومة إجمالا.

وكون مورد الأمارة متنجّزا لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة فيه رأسا ، بل تسقط الأصول الترخيصيّة فيه بلحاظ التكليف المنجّز بالأمارة ، وأمّا الأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي فهي لا تزال جارية فيه ، وهي معارضة بالأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي في الأطراف الأخرى ، فهي ساقطة من جهة ولكنّها ثابتة من جهة أخرى.

وإذا اختلّ الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجّزا والركن الثالث محفوظا ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة في غير مورد الأمارة والأصل الشرعي المنجّز معارضة بالأصول الترخيصيّة المؤمّنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما.

وبكلمة أخرى : إذا أخذنا من مورد المنجّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجّز ومن غيره الفترة الزمنيّة على امتدادها حصلنا على علم إجماليّ تامّ الأركان فينجّز.

وإذا اختلّ الركن الثالث بأن كان لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ قامت الأمارة أو الأصل الشرعي على نجاسة أحدهما المعيّن ، بنحو يمكن أن يكون ما تنجّز بالأمارة أو بالأصل مصداقا للمعلوم بالإجمال ، بأن كان المعلوم الإجمالي نجاسة ما ، وكان المتنجّز نجاسته بالدم أو كان المعلوم الإجمالي النجاسة بالدم وكان التنجّز النجاسة بالدم أيضا ، ولكن يحتمل أن تكون غير النجاسة الأولى ويحتمل أن يكون نفسها ، فلم يكن مورد الأمارة المتنجّز مشخّصا ومعيّنا للمعلوم بالإجمال بل يكون محتملا لذلك ولعدمه ، فهنا لا ينحلّ العلم الإجمالي لتماميّة أركانه.

أمّا الانحلال الحقيقي فلعدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ لا علم وجداني ، وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال فلا واقع له بل هو مجرّد فرض فقط ، وأمّا الانحلال الحكمي فلأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين لا يزال على حاله.

ص: 335

وتوضيحه : أنّ أحد الإناءين منجّز بالأمارة والآخر منجّز بالأمارة والعلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي تتعارض مع الأصول الترخيصيّة في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي وبالأمارة أو بالأصل قبل ثبوت الأمارة والأصل.

وهذه المعارضة تظلّ ثابتة حتّى بعد قيام الأمارة أو الأصل ، فيكون هناك منجّزان لأحد الإناءين ، وثبوت منجّزين على شيء واحد لا مانع فيه عقلا ؛ لأنّه ليس بابه باب العلل والأسباب الحقيقيّة ، بل بابه باب الاعتبار ، وبهذا اللحاظ يحقّ للشارع أن يعتبر ما يشاء منجّزا لأحكامه ، وحينئذ تكون مخالفة الإناء المنجّز بمنجّزين أشدّ وأقبح من مخالفة الإناء المنجّز بمنجّز واحد فقط.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي من أوّل الأمر - بعد قيام الأمارة أو الأصل - يكون دائرا بين طرفين أحدهما قصير والآخر طويل.

أمّا الفرد القصير فهو نجاسة هذا الإناء إلى حين قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه ، وأمّا الفرد الطويل فهو نجاسة الإناء الآخر إلى ما شاء اللّه.

والأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد القصير تتعارض مع الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد الطويل ، فيكون الفرد الطويل متنجّزا بالعلم الإجمالي من أوّل الأمر على امتداد آناته الزمنيّة.

وأمّا الفرد القصير فلا يكون منجّزا بالعلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه لانتهاء أمده ، وهذا لا يضر بمنجّزيّة العلم الإجمالي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ مجرّد تحقّق أحد الطرفين لا يعني جواز ارتكاب الآخر. نعم ، الإناء الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل يبقى منجّزا أيضا كالفرد الطويل إلا أنّه منجّز بالأمارة أو بالأصل لا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ طرفيّته للعلم الإجمالي ترتفع وتنتهي بعد قيام الأمارة أو الأصل ، نظير الاضطرار أو التلف أو التطهير.

ومن هنا يعرف أنّ انهدام الركن الثالث بالمنجّز الشرعي مرهون بعدم تأخّر نفس المنجّز عن العلم ، ولا يكفي عدم تأخّر مؤدّى الأمارة مثلا مع تأخّر قيامها ؛ وذلك لأنّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز الشرعي في بعض أطرافه إنّما هو بسبب المنجّزيّة الشرعيّة بإحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجّزيّة

ص: 336

لا تبدأ إلا من حين قيام الأمارة أو جريان الأصل ، سواء كان المؤدّى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

قلنا : إنّ الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الأطراف المعيّن فرع انهدام الركن الثالث ، وهذا إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي لا متأخّرين عنه ، فلا بدّ أن يكون نفس المنجّز الشرعي متقدّما زمانا على العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان المنجّز الشرعي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال ، سواء كان مؤدّى هذا المنجّز متأخّرا أيضا أم متقدّما أم مقارنا ، فلا عبرة بتقدّم المؤدّى أو تأخّره بل العبرة بتقدّم نفس المنجّز.

والوجه في ذلك هو : أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة هنا فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، فعند ما يكون أحد الأطراف منجّزا بمنجّز آخر فإنّه لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة فينحلّ. ومن الواضح أنّ كون أحد الطرفين لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة إنّما يكون فيما إذا كان منجّزا فينهدم الركن الثالث بكلتا صيغتيه.

أمّا الصيغة المشهورة فلأنّ الأصول الترخيصيّة لم تجر في هذا الطرف المنجّز فلا تعارض.

وأمّا الصيغة على مسلك المحقّق العراقي فلأنّ المنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي فهو غير منجّز لمعلومه على كلّ تقدير.

ثمّ إنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في أحد الطرفين بعد قيام الأمارة أو الأصل لا قبل ذلك ، فإذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي كانت المنجّزيّة في أحد الطرفين ثابتة قبل طروّ العلم الإجمالي فلا يؤثّر في المنجّزيّة ، إمّا لأنّه لا ينجّز المنجّز ، وإمّا لأنّه لا تجر فيه الأصول الترخيصيّة.

وأمّا إذا كانت المنجّزيّة بعد طروّ العلم الإجمالي فالعلم الإجمالي منجّز لطرفيه قبل ثبوت الأمارة ؛ لجريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين معا قبل قيام المنجّز أو لكونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، فبعد ثبوت الأمارة لا يزول العلم الإجمالي ولا تبطل منجّزيّته ، بل تتأكّد في أحدهما المعيّن.

ص: 337

وأمّا تأخّر الأمارة أو الأصل مع كون مؤدّاهما متقدّما على العلم الإجمالي فلا يكفي للانحلال ، فلو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا الإناء كان نجسا قبل طروّ العلم الإجمالي فهذا لا يكفي ؛ لأنّ الإناء قبل طروّ العلم الإجمالي لم يكن منجّزا على المكلّف ؛ وذلك لعدم وصول المنجّزيّة إليه إذ لا يوجد في تلك الفترة منجّز فعلي ، فكان العلم الإجمالي منجّزا له لتماميّة أركانه فيه.

وهذا واضح بناء على أنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول سواء كانت للعلم أم للظنّ المعتبر ، فإنّ مجرّد ثبوت التكليف في الواقع لا يكفي لكونه منجّزا على المكلّف حتّى لو لم يعلم به أو لم يقم عليه دليل معتبر شرعا ، بل يكون منجّزا من حين قيام العلم أو الدليل المعتبر ، فالمنجّزيّة فرع الوصول وهي تبدأ من حين ثبوتها وهو لا يكون إلا بوصولها.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا (1) ، يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجّز الشرعي عن العلم الإجمالي ، نلاحظ أنّ العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، وهي لازم قهري لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقيّة هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.

الفرق بين الانحلالين : يمكننا بيان الفرق بين الانحلالين الحقيقي والحكمي ضمن الأمور التالية :

أوّلا : أنّ الانحلال الحقيقي فرع سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، بينما الانحلال الحكمي فهو فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأفراد.

وثانيا : أنّ الانحلال الحقيقي معناه زوال العلم الإجمالي حقيقة وتبدّله إلى العلم التفصيلي بالفرد والشكّ البدوي في الآخر ، بينما الانحلال الحكمي معناه أنّ العلم الإجمالي لا يزال موجودا ، غاية الأمر أنّ حكمه أي المنجّزيّة قد سقطت.

ص: 338


1- تحت عنوان انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

وثالثا : أنّ الانحلال الحقيقي والذي هو سريان العلم من الجامع إلى الفرد قهرا إنّما يتحقّق فيما إذا كان المعلومان بالإجمال والتفصيل متّحدين في الزمان ولا يشترط اتّحاد نفس العلمين ، بينما الانحلال الحكمي والذي هو سقوط المنجّزيّة المسبّبة عن عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أحد الطرفين مع جريانها في الطرف الآخر إنّما يتحقّق فيما إذا كان نفس المنجّز من أمارة أو أصل متقدّما على العلم الإجمالي ، ولا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل أو تأخّره أو مقارنته للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول وهو لا يتمّ إلى بقيام الأمارة أو الأصل لدى المكلّف ولا عبرة بمؤدّاهما والواقع المحكي بها.

والسرّ في ذلك : ما ذكرناه من كون السراية القهريّة من الجامع إلى الفرد فرع الانطباق والمصداقيّة للفرد مع الجامع ، وهذا فرع اتّحادهما أي الفرد والجامع ، وهذا هو اتّحاد المعلوم الإجمالي أي الجامع مع المعلوم التفصيلي أي الفرد.

وأمّا المنجزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فهي فرع كون هذا البعض متنجّزا بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، وهذا المنجّز لا يثبت إلا مع قيام الأمارة أو الأصل ؛ لأنّها فرع الوصول كما ذكرناه ، ولهذا تكون الأمارة أو الأصل متقدّمة على العلم الإجمالي.

ولذلك لا يشترط اتّحاد العلمين في الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الانحلال وعدمه ليس مرتبطا بنفس العلمين ، وكذا لا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل على العلم الإجمالي ؛ لأنّ ملاك الانحلال ليس مرتبطا بالمؤدّى بل بنفس المنجّز.

ويترتّب على ذلك : أنّه لو فرض اجتماع العلمين الإجمالي والتفصيلي في مرحلة البقاء حصل الانحلال فيما إذا كانت المصداقيّة والمطابقة بين المعلومين متحقّقة ، بينما لو فرض تقدّم مؤدّى الأمارة مع تأخّر نفس الأمارة فلا يحصل الانحلال الحكمي ، بخلاف ما لو تقدّمت نفس الأمارة أو الأصل سواء كان مؤدّاهما متقدّما أم مقارنا فإنّه يحصل الانحلال.

5 - اشتراك علمين إجماليّين في طرف :

قد يفترض أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي طرف في علم إجمالي آخر ، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شكّ في تنجيزهما معا وتلقّي الطرف المشترك التنجيز

ص: 339

منهما معا ؛ لأنّ مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

الحالة الخامسة : اشتراك علمين إجماليّين في طرف ، وهذه الحالة على قسمين :

الأوّل : أن يفترض حدوث العلمين الإجماليّين معا بنحو التقارن والتعاصر ، كما إذا علمنا إجمالا في الساعة الثانية عشر بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ، وعلمنا أيضا في نفس الساعة بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر.

فهنا الإناء الأسود طرف مشترك للعلمين الإجماليّين بحيث يكون قابلا للتنجّز من كلا العلمين ، ولا شكّ في كونه منجّزا بهما معا ؛ إذ تنجّزه بأحدهما فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تنجّزه بشيء منهما مخالف لقانون منجّزيّة العلم الإجمالي التامّ الأركان فيلزم كونه منجّزا بهما معا.

ويمكننا إرجاع العلمين الإجماليّين إلى علم إجمالي واحد دائر بين ثبوت تكليف في الإناء المشترك أي الأسود ، أو ثبوت تكليفين أحدهما في الإناء الأبيض والآخر في الإناء الأحمر ؛ وذلك لأنّ العلمين الإجماليّين إن كان المعلوم فيهما معا في الإناء الأسود المشترك فلا يوجد إلا تكليف واحد وهو نجاسته فقط ، وإمّا إن كان المعلوم فيهما ثابتا في الطرف الآخر فهذا يعني ثبوت تكليفين أحدهما نجاسة الأبيض والآخر نجاسة الأحمر.

وأمّا إذا كان أحدهما سابقا على الآخر فقد يقال : إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد سقط عنه الأصل المؤمّن سابقا بتعارض الأصول الناشئ من العلم الإجمالي السابق ، فالأصل في الطرف المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر يجري بلا معارض.

وإمّا بصيغته الثانية وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد تنجّز بالعلم السابق ، فلا يكون العلم المتأخّر صالحا لمنجّزيّته ، فهو إذن لا يصلح لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير.

الثاني : أن يفترض حدوث أحد العلمين الإجماليّين قبل الآخر ، أي أحدهما متقدّم والآخر متأخّر.

ص: 340

وهنا ذهب الميرزا ومدرسته إلى سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي في الفرض المذكور ، وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان منجّزيّته ؛ وذلك لأنّ هذا الركن كانت صياغته على مسلك المشهور هي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف ، وهنا لا تجري الأصول الترخيصيّة في الطرف المشترك.

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة الأسود أو الأحمر ، فهنا على أساس العلم الإجمالي المتقدّم قد جرت الأصول الترخيصيّة في كلا الإناءين الأبيض والأسود وتساقطت بسبب المعارضة فيما بينها.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إمّا الأسود وإمّا الأحمر ، فهنا الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الأحمر لا معارض لها ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود قد سقطت سابقا لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض ، وبهذا تكون الأصول المؤمّنة في الطرف الأحمر المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر جارية بلا معارض ، فينحلّ العلم الإجمالي بلحاظها ويسقط عن المنجّزيّة فيها ، ويمكن تصوير اختلال الركن الثالث على صياغة المحقّق العراقي أيضا.

فنقول : إنّ العلم الإجمالي المتقدّم قد نجّز معلومه على كلّ تقدير ، أي سواء كانت ضمن الأبيض أو الأسود لصلاحيّة وقابليّة كلّ منهما لذلك ، وأمّا العلم الإجمالي المتأخّر فلا يمكنه تنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير كونه في الإناء الأسود المشترك فهو قد تنجّز سابقا بالعلم الإجمالي السابق ، والمنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى ، فيكون العلم الإجمالي الثاني ساقطا عن المنجّزيّة ؛ لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير فقط ، وهذا البعض غير معلوم ، بل هو مشكوك فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا محذور.

ولكنّ الصحيح عدم السقوط عن المنجّزيّة ، وبطلان التقريبين السابقين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل لا يوجب التنجيز في كلّ زمان ، وتعارض الأصول في الأطراف كذلك إلا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرّد حدوثه ولو في زمان سابق.

وعليه ، فتنجّز الطرف المشترك بالعلم الإجمالي السابق في زمان حدوث العلم

ص: 341

المتأخّر ، إنّما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين ، لا بمجرّد حدوثه ، وهذا يعني أنّ تنجّز الطرف المشترك فعلا له سببان :

أحدهما : بقاء العلم السابق.

والآخر : حدوث العلم المتأخّر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فينجّزان معا ، وبذلك يبطل التقريب الثاني.

والصحيح عدم سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لعدم اختلال الركن الثالث بصيغتيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إذا توفّرت فيه الأركان الأربعة كان منجّزا للطرفين ، وكان موجبا لتعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في الطرفين أيضا ، إلا أنّ منجّزيّته لهما وإيجابه لتعارض الأصول فيهما ليست بمعنى أنّه بمجرّد أن يحدث علم إجمالي فيكون منجّزا للطرفين على امتداد الزمان ولو زال بقاء ، فإنّ هذا واضح البطلان ، وإنّما منجّزيّته فرع أن يكون موجودا فعلا في كلّ زمان وفي كلّ آن.

وبتعبير آخر : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي ليست مطلقة ؛ ليقال : إنّه بمجرّد أن يحدث فهو منجّز ولو لم يكن موجودا بقاء ، بل منجّزيّة العلم الإجمالي مشروطة ومقيّدة بوجوده الفعلي في كلّ آن من آنات الزمان.

وعلى هذا نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي بناء على صياغة المحقّق العراقي فرع كونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، وهذا الركن موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين الإناءين الأبيض والأسود ، إنّما يوجد التنجيز لو كان هذا العلم في كلّ آن صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، وهذا فرع وجوده الفعلي في كلّ آن ولا يكفي حدوثه سابقا فقط.

وعليه ، ففي الآن الذي يحدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأسود والأحمر يكون كلّ منهما صالحا لتنجيز الإناء المختصّ بلا إشكال ، وكذلك يكونان صالحين لتنجيز الإناء المشترك أي الأسود ؛ لأنّه في هذا الآن من الزمان لم يكن منجّزا بمنجّز آخر غير هذين العلمين ، وإنّما يتنجّز في هذا الآن فعلا بسبب وجود هذين العلمين ؛ لأنّهما بلحاظ هذا الآن ليس أحدهما أسبق عن الآخر ، وإنّما هما موجودان معا.

ص: 342

ولذلك لا يمكن القول بأنّ الإناء المشترك في هذا الآن منجّز بالعلم الإجمالي السابق دون المتأخّر ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وكذلك العكس ، ولا يمكن القول بأنّه لا منجّز له في هذا الآن ؛ لأنّه خلف العلم الإجمالي ، فلا بدّ من القول بأنّه منجّز بهما معا ، وهذا يعني أنّه في هذا الآن من الزمان يكون اجتمع على الطرف المشترك منجّزان فعليّان في عرض واحد ، فيؤخذ بمنجّزيّتهما معا.

وبتعبير آخر : إنّه بلحاظ الآن الذي حدث فيه العلم المتأخّر كان العلم الإجمالي السابق موجودا أيضا ، فهما موجودان معا في عرض واحد وليس أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ، فيتنجّز الطرف المشترك بهما معا.

وأمّا مجرّد كون العلم الأوّل موجودا في السابق فهذا لا يكفي لكونه أسبق من العلم المتأخّر ؛ لأنّ الأسبقيّة لا بدّ أن تلحظ بنفس الزمان ؛ ولأنّ العلم الإجمالي لا يكفي فيه الحدوث كما قلنا بل لا بدّ من وجوده الفعلي ، فإذا لاحظنا الوجود الفعلي للعلم الإجمالي في عمود الزمان وجدنا أنّه بلحاظ هذا الآن الزماني يوجد فيه فعلا علمان إجماليّان وهما في عرض واحد ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر في التنجيز ليؤخذ به دون الآخر ، وبهذا يبطل التقريب الثاني.

كما أنّ الأصل المؤمّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ، وهذا الاقتضاء يؤثّر مع عدم التعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الأصل المؤمّن في الطرف المشترك في الفترة الزمنيّة السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخّر كان معارضا بأصل واحد - وهو الأصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق - غير أنّ جريانه في الفترة الزمنيّة اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معا ، وبذلك يبطل التقريب الأوّل ، فالعلمان الإجماليّان منجّزان معا.

وأمّا التقريب المشهور لصياغة الركن الثالث فكان جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ وذلك لأنّه يراد بجريان الأصول الترخيصيّة أن تكون جارية فعلا في كلّ آن من آنات الزمان على امتدادها ، ولا يكفي أن تكون جارية في الآن السابق لبقاء المنجّزيّة مع زوال جريانها في الآن اللاحق.

وهذا يعني أنّ جريان الأصول وتعارضها لا بدّ أن يكون بلحاظ كلّ زمان بالفعل.

وحينئذ نقول : إنّه في الزمان السابق على العلم الإجمالي الثاني لم يكن لدينا إلا

ص: 343

طرفان فقط وهما الإناءان الأبيض والأسود ، ولذلك كانت الأصول الترخيصيّة في الإناء الأسود معارضة بالأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض.

وهذه المعارضة تبقى على حالها في كلّ زمان وفي كلّ آن ما دامت الأصول الترخيصيّة جارية في الطرفين ، فإذا وصلنا إلى الزمان الذي حدث فيه العلم الإجمالي الثاني الدائر بين الإناءين الأحمر والأسود ، وجدنا أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية فعلا في الإناء الأسود المشترك بين العلمين لها معارضان :

الأوّل : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأبيض المختصّ بالعلم السابق. والثاني : الأصول الترخيصيّة في الإناء الأحمر المختصّ بالعلم اللاحق ؛ لأنّه في هذا الآن المعيّن من الزمان كان لدينا تعاصر بين العلمين ؛ لأنّهما موجودان في عرض واحد.

وهذا يعني أنّهما بالتحليل يرجعان إلى علم إجمالي واحد دائر بين الإناء الأسود من جهة وبين الإناءين الأبيض والأحمر من جهة أخرى ، فإنّنا نعلم إجمالا بثبوت تكليف واحد في الإناء المشترك أو بثبوت تكليفين مختصّين في الإناءين الآخرين ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين المختصّين معا ، ولا معنى لتوهّم معارضة الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المشترك بالأصول الترخيصيّة في أحد الإناءين المختصّين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

إذ المفروض أنّه في هذا الآن الزماني يوجد موضوعان للأصول الترخيصيّة : أحدهما الإناء الأبيض ، والآخر الإناء الأحمر ، فتخصيص المعارضة بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن كون المعارضة من جهة بين الأصول الجارية في الإناء الأسود المشترك ، ومن جهة أخرى بين الأصول الترخيصيّة في الإناءين المختصّين الأبيض والأحمر ، وهذا يعني أنّ الركن الثالث لا يزال محفوظا ولم ينهدم ليقال ببطلان المنجّزيّة (1).

ص: 344


1- بقي شيء ، وهو أنّ الميرزا ادّعى هنا الانحلال الحقيقي ، وأنّ العلم الإجمالي المتأخّر ليس علما في التكليف ليكون منجّزا. ببيان : أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود فهذا علم إجمالي بالتكليف منجّز لتماميّة أركانه ، فإذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر فهذا ليس علما إجماليّا بالتكليف ، فلا يكون منجّزا وإن كانت أركانه تامّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي المنجّز هو العلم بالتكليف كما تقدّم. وهنا إن فرض أنّ النجاسة المعلومة إجمالا بالعلم اللاحق كانت في الأسود وكانت النجاسة المعلومة سابقا بالأسود أيضا فلا تكليف جديد ، وإن كانت في الطرف المختصّ في كلّ منهما فهنا يوجد تكليف ، وكذا لو كانت في الإناء المشترك في أحدهما والمختصّ في الآخر ، وهذا يعني أنّه لا يعلم بالتكليف على جميع التقادير وإنّما على بعض التقادير يوجد علم إجمالي دونه على البعض الآخر ، حيث إنّ هذا البعض غير معلوم فلا يكون العلم الإجمالي اللاحق منجّزا. وفيه : إنّه لا يشترط في العلم الإجمالي أكثر من كونه علما بما يساوق التكليف لا علما بالتكليف مباشرة ، وهذا محفوظ في مقامنا ؛ لأنّه يلزم من وقوع القطرة في الإناء المختصّ التكليف كما هو الحال فيما إذا كان لدينا علم إجمالي دائر بين طرفين : أحدهما مشكوك النجاسة ، فإنّه منجّز لهما مع أنّه قد تكون النجاسة في الإناء المشكوك نجاسته فلا تكليف جديد ، مضافا إلى أنّه في العلم اللاحق نعلم إجمالا بثبوت أصل التكليف أي الجامع ، وهذا المقدار كاف في المنجّزيّة.

6 - حكم ملاقي أحد الأطراف :

إذا علم المكلّف إجمالا بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما المعيّن حصل علم إجمالي آخر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الإجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :

الحالة السادسة : فيما هو حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.

فإذا علم المكلّف بنجاسة أحد المائعين حصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما ، فإذا لاقى الثوب ونحوه أحد هذين الطرفين سوف يحصل لنا علم إجمالي آخر وهو نجاسة الثوب أو الإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ النجاسة إن كانت في الإناء الملاقي للثوب فالثوب نجس ، وإن كانت في الآخر فالثوب طاهر ، فبعد الملاقاة لا يعلم هل الثوب نجس أم الإناء الآخر؟ وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة.

وفي هذه الحالة قد يقال : إنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب ، وإنّما المنجّز هو العلم الإجمالي السابق ، فيجب الاجتناب عن كلا الإناءين ؛ للعلم بنجاسة أحدهما ، ولكن لا يجب الاجتناب عن الثوب ؛ لأنّ العلم الإجمالي فيه ليس منجّزا.

ص: 345

والوجه في عدم منجّزيّته أحد تقريبين :

الأوّل : تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليين المتقدّم والمتأخّر في المقام ، بأن يقال : إنّه يوجد لدى المكلّف علمان إجماليّان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز السابق منهما دون المتأخّر.

وهذا التقريب إذا تمّ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة أو العلم بها على الأقلّ عن العلم بنجاسة أحد المائعين ، ولكنّه غير تامّ كما تقدّم.

التقريب الأوّل : أن يقال : إنّ العلمين الإجماليّين هنا من العلمين المشتركين في طرف واحد وأحدهما متقدّم على الآخر ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بنجاسة أحد المائعين ثمّ حصل علم إجمالي آخر متأخّر دائر بين نجاسة الثوب أو نجاسة الإناء الآخر الموجود في العلم الإجمالي السابق.

فالإناء الآخر مشترك بين العلمين الإجماليّين المتقدّم والمتأخّر ، وفي هذه الحالة لا يكون العلم الإجمالي المتأخّر منجّزا لطرفيه ؛ لاختلال الركن الثالث بصيغتيه كما تقدّم ، فإنّ الطرف المشترك منجّز بالعلم الإجمالي السابق فلا يتنجّز بالعلم الإجمالي اللاحق ، أو لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في أحدهما دون الآخر ، فإنّها لا تجري في الطرف المشترك لسقوطها فيه. وفيه :

أوّلا : ما تقدّم من منجّزيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في أحد الأطراف ، وعدم انهدام الركن الثالث.

وثانيا : لو سلّم عدم منجّزيّة العلم المتأخّر فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت نفس الملاقاة بين الثوب وأحد المائعين متأخّرة عن العلم الإجمالي السابق ، أو على الأقلّ كان العلم بالملاقاة متأخّرا عن العلم الإجمالي السابق وإن كانت نفس الملاقاة حاصلة قبله أو مقارنة له ، ولا يتمّ فيما إذا كانت الملاقاة والعلم بها متقدّما على العلم الإجمالي الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون متعلّقا بثلاثة أطراف من أوّل الأمر فيتنجّز الثوب أيضا.

الثاني : أنّ الركن الثالث منهدم ؛ لأنّ أصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ؛ وذلك لأنّه أصل طولي بالنسبة إلى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب - ولنسمّه المائع الأوّل - فأصالة الطهارة في المائع الأوّل تعارض أصالة

ص: 346

الطهارة في المائع الآخر ، ولا تدخل أصالة الطهارة للثوب في هذا التعارض لطوليّتها ، وبعد ذلك تصل النوبة إليها بدون معارض وفقا لما تقدّم في الحالة الأولى من حالات الاستثناء من تعارض الأصول وتساقطها.

التقريب الثاني : أن يقال : إنّ الركن الثالث منهدم على أساس أنّه يوجد لدينا علم إجمالي له طرفان : أحدهما يجري فيه أصل ترخيصي واحد ، والآخر يجري فيه أصلان ترخيصيان طوليّان ، أي أحدهما مقدّم على الآخر ، إمّا لنكتة الحكومة وإمّا لنكتة عرفيّة كما سيأتي التعرّض له في بحث التعارض ، فيدخل المقام في الحالة الأولى من الحالات الثلاث المتقدّمة في جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي الدائر بين الإناءين يوجب التعارض والتساقط بالنسبة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناءين وهي أصالة الطهارة ، وأمّا الثوب الملاقي لأحدهما المعيّن فالأصول الترخيصيّة فيه لا تدخل في المعارضة ولا تسقط ، فيؤخذ بها إذ لا معارض لها ؛ لأنّها في طول الأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المعيّن الذي لاقاه الثوب ، وما يكون في طول غيره لا يكون معه في رتبته ، بل يكون متأخّرا عنه في الوجود ، بمعنى أنّ عدمه يكون قيدا أو شرطا لثبوته.

فالإناء الأوّل الملاقي مع الثوب تجري فيه أصالة الطهارة وهي مقدّمة على أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها بالنسبة إلى الثوب من قبيل الأصل السببي والمسبّبي.

فإنّنا لو أجرينا أصالة الطهارة في الإناء لكانت طهارة الثوب محرزة تعبّدا ، ولا تحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّ التعبّد بطهارة الماء معناه التعبّد بطهارة المغسول به أيضا. نعم ، إذا لم تجر أصالة الطهارة في الإناء كانت أصالة الطهارة في الثوب جارية.

وبهذا تكون أصالة الطهارة في الثوب في طول أصالة الطهارة في الإناء الملاقي للثوب وفرع عدم وجودها ، ولذلك تكون أصالة الطهارة في الإناء الآخر معارضة لأصالة الطهارة في الإناء الأوّل فقط ، ولا تدخل في المعارضة أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها فرع عدم وجود أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وعدم وجوده فرع سقوطه بالمعارضة ، فلا تدخل في المعارضة لذلك ، وبعد المعارضة وسقوط الأصول الترخيصيّة في الإناءين تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض.

ص: 347

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي الثاني ليس منجّزا لنجاسة الثوب.

وهذا التقريب إذا تمّ يجري سواء اقترن العلم بالملاقاة مع العلم بنجاسة أحد المائعين أو تأخّر عنه ، فالتقريب الثاني إذن أوسع جريانا من التقريب الأوّل.

وهذا التقريب يتمّ سواء كان العلم بالملاقاة أو كانت الملاقاة نفسها متقدّمة أم متأخّرة عن العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين ؛ وذلك لأنّ فرض الطوليّة وتوقّف أحد الأصلين على عدم جريان الآخر تتصوّر في كلّ التقادير المفترضة للمسألة. فما دام الأصل الجاري في الثوب لا يدخل في المعارضة ؛ لأنّه في طول الأصل الجاري في الإناء الملاقي معه ، فلا فرق في ذلك بين كون الملاقاة حاصلة قبل العلم أو بعده أو معه ؛ إذ لا يؤثّر هذا شيئا في الطوليّة وعدمها.

وقد يقال : إنّ هناك بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، وذلك فيما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين بعد تلف المائع الأوّل ، ثمّ علم بأنّ الثوب كان قد لاقى المائع الأوّل ، ففي هذه الحالة لا يجري التقريب الأوّل ؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدّم ليس منجّزا لاختلال الركن الثالث فيه كما تقدّم ، فلا يمكن أن يحول دون تنجيز العلم الإجمالي المتأخّر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر الموجود فعلا.

ولا يجري التقريب الثاني ؛ لأنّ الأصل المؤمّن في المائع الأوّل لا معنى له بعد تلفه ، وهذا يعني أنّ الأصل في المائع الآخر له معارض واحد وهو الأصل المؤمّن في الثوب ، فيسقطان بالتعارض.

ثمّ إنّهم ذكروا بعض الحالات لا يجري فيها كلا التقريبين ، فيكون الملاقي لأحد الطرفين منجّزا.

منها : ما إذا كان لدينا إناءان وكان الثوب قد لاقى أحدهما المعيّن في الواقع ، ثمّ تلف هذا الإناء الذي لاقى مع الثوب ، وبعد ذلك علمنا إجمالا بنجاسة أحد المائعين هذا الإناء أو الإناء التالف فعلا الملاقي مع الثوب ، وعلمنا أيضا بالملاقاة ، ففي هذه الحالة لا يتمّ كلا التقريبين المتقدّمين :

أمّا التقريب الأوّل : فكان تطبيق فرضيّة العلمين الإجماليّين المشتركين في طرف واحد ، والتي كانت تقتضي بطلان منجّزيّة العلم المتأخّر استنادا إلى كون الطرف

ص: 348

المشترك متنجّزا بالعلم المتقدّم ، فهذا غير تامّ في المقام ؛ لأنّ العلم المتقدّم ليس منجّزا لطرفيه ؛ وذلك بسبب اختلال الركن الثالث.

أي أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا ينجّزهما ؛ وذلك بسبب تلف أحدهما قبل حدوث هذا العلم.

وقد تقدّم سابقا أنّ التلف كالاضطرار إذا حصل قبل العلم الإجمالي فهو يوجب سقوطه عن المنجّزيّة ؛ لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف ؛ إذ لا موضوع لجريانها فيه ؛ ولأنّه لا أثر فعلا لجريانها فيه ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المتأخّر الدائر بين نجاسة الإناء الموجود وبين الثوب الملاقي مع الإناء التالف منجّزا لكلا طرفيه ، ولا مانع من هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في كلا الطرفين ويؤدّي جريانها كذلك إلى التعارض فتتساقط.

وأمّا التقريب الثاني : فكان تطبيق الطوليّة بين الأصلين الجاريين في الإناء والثوب ، وهذا لا يتمّ هنا ؛ لأنّ المفروض أنّ الإناء التالف لا تجري الأصول الترخيصيّة فيه ؛ إذ لا موضوع ولا أثر لجريانها ، وهذا يعني أنّها ساقطة فتجري الأصول الترخيصيّة في الثوب ، وتكون معارضة للأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء الموجود ، ومقتضى التعارض التساقط.

وبكلمة ثانية : إنّ الطوليّة تقتضي عدم جريان المتأخّر مع جريان المتقدّم ، وهنا الأصل المتقدّم ساقط ؛ لأنّه لا موضوع ولا أثر له ، ومع سقوطه لن يكون هناك محذور في جريان الأصل المتأخّر ، ومع جريانه يتعارض مع الأصل في الإناء الآخر فيتساقطان.

ولكنّ الصحيح : أنّ التقريب الثاني يجري في هذه الحالة أيضا ؛ لأنّ تلف المائع الأوّل لا يمنع عن استحقاقه لجريان أصل الطهارة فيه ما دام لطهارته أثر فعلا ، وهو طهارة الثوب ، فأصل الطهارة في المائع الأوّل ثابت في نفسه ويتولّى المعارضة مع الأصل في المائع الآخر في المرتبة السابقة ، ويجري الأصل في الثوب بعد ذلك بلا معارض.

والصحيح في هذه الحالة أن يقال : إنّ التقريب الثاني وهو الطوليّة بين الأصلين يجري.

ص: 349

وتوضيحه : أنّ الإناء الأوّل الملاقي للثوب والذي تلف سابقا تجري فيه أصالة الطهارة ؛ لأنّه يوجد لجريانها فيه أثر عملي فعلي حتّى مع تلفه ، وإنّما يمنع من جريانها فيه فيما إذا لم يكن لجريانها فائدة ولا أثر لا مطلقا.

وهنا نقول : لو جرت أصالة الطهارة في الإناء الأوّل الملاقي مع الثوب فسوف نحصل على طهارة تعبّديّة للمغسول بالمائع الموجود في هذا الإناء ، ومع هذه الطهارة سوف لا نحتاج إلى إجراء أصالة الطهارة في الثوب ؛ لأنّها تحصيل للحاصل ، فهناك فائدة إذن وهي الحكم بطهارة المغسول أو الملاقي مع هذا الإناء.

وحينئذ فيكون الأصل الترخيصي في الإناء التالف موجودا ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي في الثوب ؛ لأنّه في طول الأوّل ومتأخّر عنه وفرع عدم وجوده ، وهذا يعني أنّه لا يوجد لدينا إلا أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وهذه معارضة بأصالة الطهارة في الإناء الآخر فيتساقطان ، وبعد سقوطهما تجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض لتماميّة موضوعها فعلا ، ولعدم المعارض إذ المعارض ساقط في الرتبة السابقة.

7 - الشبهة غير المحصورة :

إذا كثرت أطراف العلم الإجمالي بدرجة كبيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

والمشهور بين الأصوليّين سقوطه عن المنجّزية لوجوب الموافقة القطعيّة ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعيّة.

الحالة السابعة : الشبهة غير المحصورة.

وذلك يكون فيما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة جدّا كالعلم مثلا بنجاسة إناء من ألف إناء.

فهنا ذهب مشهور الأصوليّين إلى سقوط العلم الإجمالي عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا حرمة المخالفة القطعيّة ، فهناك قولان :

أحدهما : سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لحرمة المخالفة القطعيّة ، فيجوز ارتكاب تمام أطراف العلم الإجمالي.

والآخر : عدم سقوطه عن ذلك فيحرم ارتكاب الجميع.

ص: 350

أمّا عدم وجوب الموافقة القطعيّة فللإجماع على ذلك ، ولعدم اعتناء العقلاء بمثل هذا الاحتمال ؛ لضعفه بسبب كثرة الأطراف.

ولكن يجب الالتفات هنا إلى أمر وهو :

ويجب أن نفترض عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنه من تأثير في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، دون أن ندخل في الحساب ما قد يقارن افتراض الكثرة من أمور أخرى ، كخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وهنا نكتة وهي أنّنا نتحدّث عن الشبهة غير المحصورة بنفسها ، أي بما تحتمل من الكثرة العدديّة فقط ، فنقول : إنّ هذه الكثرة العدديّة هل توجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟ بقطع النظر عن وجود قرائن خارجيّة وأمور أخرى قد توجد مع الكثرة العدديّة من خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ؛ بأن كان بعض هذه الأطراف في بلد آخر أو تحت يد السلطان ، ومن الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، ومن العسر والحرج من ترك الجميع ونحو ذلك.

فمحلّ الكلام إذا هو الكثرة العدديّة فقط ، وهل تكون مؤثّرة في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أو لا؟

وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرّب عدم وجوب الموافقة القطعيّة وجواز اقتحام بعض الأطراف بتقريبين :

وهنا يوجد تقريبان لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بلحاظ الموافقة القطعيّة ، ويكفي أن نستدلّ على عدم حرمة المخالفة في بعض الأطراف فإنّ لازمها عدم وجوب الموافقة أيضا ، ولذلك نقول :

التقريب الأوّل : أنّ هذا الاقتحام مستند إلى المؤمّن وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحم ، إذ كلّما زادت أطراف العلم الإجمالي تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق على كلّ طرف ، حتّى تصل إلى درجة يوجد على خلافها اطمئنان فعلي.

التقريب الأوّل : دعوى وجود مؤمّن بلحاظ كلّ طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة ، وهذا المؤمّن هو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف يراد ارتكابه ، ومنشأ هذا الاطمئنان هو حساب الاحتمالات.

ص: 351

وتوضيحه : أنّنا إذا علمنا بنجاسة إناء من ضمن آلاف الأواني كعشرة آلاف مثلا ، فهنا رقم اليقين يرمز إليه بواحد ، وهذا الرقم ينقسم بالتساوي على كلّ الأطراف ، فكلّ طرف قيمته الاحتماليّة تساوي 1 / 10000 من حيث انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وفي المقابل يكون هناك 9999 / 10000 من حيث عدم الانطباق ، وهذا الرقم يوجب الاطمئنان العرفي في كونه طاهرا.

وهذا الاطمئنان العرفي حجّة ؛ لأنّ العقلاء قد انعقدت سيرتهم على العمل بالاطمئنان ، والشارع قد أمضى هذه السيرة العقلائيّة بسكوته وعدم الردع عنها ، فيكون الاطمئنان العقلائي العرفي حجّة شرعا يجوز التعويل عليه.

وإذا فرضنا الأطراف بنحو من الكثرة تبلغ مئات الآلاف ، كانت القيمة الاحتماليّة للانطباق على كلّ طرف ضئيلة جدّا ممّا يقطع بخلافها ، أو على الأقلّ يوجد هناك اطمئنان فعلي بعدم الانطباق ، وهكذا الحال في كلّ طرف طرف ، فتكون النتيجة جواز ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّه يطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف طرف يلحظ وحده دون أن يكون منضمّا إلى غيره ، وبالتالي سوف يخالف المعلوم بالإجمال قطعا فيما لو ارتكب جميع الأطراف ، إلا أنّ هذه المخالفة جائزة شرعا بسبب الاطمئنان الموجود فعلا بلحاظ كلّ طرف طرف.

والحاصل : أنّه يطمأنّ بعدم التكليف في كلّ طرف طرف بناء على حساب الاحتمالات ، وهذا لازمه أنّه لا عقاب بلحاظ كلّ طرف طرف ، فمخالفة المعلوم بالإجمال لا عقاب عليها ؛ لأنّه لا تكليف بلحاظ الأطراف نفسها.

وقد استشكل المحقّق العراقي (1) وغيره باستشكالين على هذا التقريب :

أحدهما : محاولة البرهنة على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو ؛ لأنّ الأطراف كلّها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق ، ولو وجدت اطمئنانات فعلّية بهذا النحو في كلّ الأطراف لكان مناقضا للعلم الإجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها ؛ لأنّ السالبة الكلّيّة التي تتحصّل من مجموع الاطمئنانات مناقضة للموجبة الجزئيّة التي يكشفها العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي وغيره إشكالين على هذا التقريب هما :

ص: 352


1- مقالات الأصول 2 : 242.

الإشكال الأوّل : بالمنع عن وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف عن أطراف الشبهة غير المحصورة.

وبيانه : أنّ كل طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة يوجد فيه هذا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ؛ إذ وجوده في بعض الأطراف فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم وجوده في شيء منها يعني زوال هذا الاطمئنان ، ولازمه منجّزيّة العلم الإجمالي لكلّ الأطراف ، وهو خلف المفروض ، ولذلك سوف يجري هذا الاطمئنان بكلّ الأطراف ، ونتيجة ذلك عدم انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ هذه الأطراف ؛ لأنّ ضمّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف إلى سائر الأطراف ينتج الاطمئنان الفعلي بعدم ثبوت المعلوم بالإجمال في شيء من هذه الأطراف بنحو السالبة الكلّيّة ، ومن المعلوم أنّ السالبة الكلّيّة نقيضها الموجبة الجزئيّة ولا يمكن اجتماعهما.

وفي مقامنا حيث ثبت من مجموع الاطمئنانات الفعليّة قضيّة سالبة كلّيّة مفادها :

أنّه لا شيء من هذه الأطراف بنجس ، فسوف يحصل التناقض مع الموجبة الجزئيّة التي مفادها : وجود طرف نجس من بين هذه الأطراف.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن إحدى هاتين القضيّتين ، ولمّا كانت الموجبة الجزئيّة معلومة يقينا ، فنرفع اليد عن السالبة الكلّيّة ، فيتحصّل عدم ثبوت الاطمئنانات الفعليّة في كلّ الأطراف ، وثبوت الاطمئنان في بعضها فقط ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه عنها جميعا.

والجواب على ذلك : أنّ الاطمئنانات المذكورة إذا أدّت بمجموعها إلى الاطمئنان الفعلي بالسالبة الكلّيّة فالمناقضة واضحة ، ولكنّ الصحيح أنّها لا تؤدّي إلى ذلك ، فلا مناقضة.

والجواب عن هذا الإشكال أن نقول : إنّ هذا الإشكال يتمّ فيما لو كان مجموع الاطمئنانات الفعليّة يؤدّي في نهاية الأمر إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، وأنّه لا شيء من الإناءات بنجس ، وأمّا لو فرض أنّ هذه الاطمئنانات بمجموعها لا تؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة فلا تناقض حينئذ.

وبتعبير آخر : إنّه يوجد نحوان :

ص: 353

الأوّل : أن يكون الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف وذاك وهكذا سائر الأطراف مؤدّيا إلى الاطمئنان بعدم الانطباق مطلقا ، وأنّه لا شيء من الأواني بنجس.

الثاني : ألاّ يكون الاطمئنان المذكور بمجموعه يؤدّي إلى الاطمئنانات بنحو السالبة الكلّيّة.

وعليه ، فإشكال المحقّق العراقي إنّما يتمّ في النحو الأوّل لا الثاني ، ومقامنا من النحو الثاني لا الأوّل.

إذا فلا تناقض ؛ لأنّنا نفرض الاطمئنان الفعلي بنحو ينسجم مع العلم الإجمالي بوجود نجس في الأطراف كما سيأتي توضيحه.

وقد تقول : كيف لا تؤدّي إلى ذلك؟ أليس الاطمئنان ب- ( ألف ) والاطمئنان ب- ( باء ) يؤدّيان حتما إلى الاطمئنان بمجموع ( الألف والباء )؟ وكقاعدة عامّة أنّ كلّ مجموعة من الإحرازات تؤدّي إلى إحراز مجموعة المتعلّقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

وقد يعترض على ما ذكرناه من وجود نحوين أحدهما يؤدّي إلى الاطمئنان الفعلي بنحو السالبة الكلّيّة ، والآخر لا يؤدّي إلى ذلك ، بأنّه لا يوجد إلا نحو واحد فقط ، وهو أنّ الاطمئنان بعدم وجود النجس في هذا الطرف زائد الاطمئنان بعدم وجود النجس في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف يؤدّي حتما إلى الاطمئنان بعدم وجود النجس في كلّ الأطراف ، أي إلى السالبة الكليّة فتحصل المناقضة حينئذ.

وبشكل عامّ فإنّ كلّ الإحرازات أي الاطمئنانات إذا ضمّت إلى بعضها البعض سوف نحصل على إحراز نهائي مستفاد من مجموع هذه الإحرازات والاطمئنانات ، ومفاده أنّ النتيجة النهائيّة هي حاصل مجموع المقدّمات ، أي يكون الحاصل النهائي نفس مجموع المقدّمات التي أدّت إليه.

فمثلا إنّ 1+ 1 = 2 أي الحاصل عبارة عن مجموع الشيئين المنضمّين.

وهنا الاطمئنان في هذا الطرف وفي ذاك وهكذا في سائر الأطراف ينتج أنّه كلّ الأطراف يطمأنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، فتحصل المناقضة بين هذه

ص: 354

السالبة الكلّيّة وبين الموجبة الجزئيّة المعلومة وجدانا بالعلم الإجمالي وهي نجاسة أحد الأطراف.

ونجيب على ذلك :

أوّلا : بالنقض ، وتوضيحه : أنّ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم الإجمالي بعدد أطراف العلم الإجمالي ، وهذه الاحتمالات والشكوك فعليّة بالوجدان ، ولكنّها مع هذا لا تؤدّي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة. فإذا صحّ أنّ ( ألف ) محتمل فعلا و ( باء ) محتمل فعلا ، ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( ألف ) و ( باء ) ، فيصحّ أن يكون كلّ منهما مطمئنّا به ولا يكون المجموع مطمئنّا به.

الجواب الأوّل : نقضي ، ومفاده أنّنا إذا قلنا بعدم وجود اطمئنان فعلي ، كما هو مقتضى الاستشكال الأوّل على أساس أنّ ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا الاطمئنان فعلا بالمجموع ، وأنّه لا شيء من الأطراف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي بوجود نجاسة في أحدهما.

فهذا الكلام يجري أيضا في الشكّ والاحتمال والذي هو مجرى للأصل المؤمّن على أساس أنّ كلّ طرف يحتمل ألاّ يكون هو المعلوم بالإجمال ، فهو مشكوك النجاسة فنجري فيه البراءة ونحوه من الأصول الترخيصيّة.

فإذا ضمّ هذا الاحتمال والشكّ إلى الاحتمال والشكّ في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف ، سوف ينتج لنا أنّ مجموع هذه الأطراف مشكوكة ، ومن المحتمل عدم انطباق التكليف عليها فنجري البراءة عن الجميع ، وهذا مناقض للعلم الإجمالي.

مع أنّهم يقبلون جريان الأصل المؤمّن بلحاظ كلّ طرف طرف للاحتمال والشكّ الموجودين فعلا بالوجدان ، ولكنّهم مع ذلك لا يقولون بأنّ مجموع الأطراف مشكوك ومحتمل عدم الانطباق ، ولذلك لا يجرون البراءة ونحوها في المجموع من حيث هو مجموع.

وهذا التفصيل بين كلّ طرف طرف وبين المجموع مرجعه بالدقّة إلى أنّ الاحتمال

ص: 355

الفعلي الموجود في هذا الطرف إذا ضمّ إلى الاحتمال الفعلي في الطرف الآخر وهكذا في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاحتمال الفعلي في المجموع.

ولذلك نقول : إنّ هذا التفصيل إذا تمّ وصحّ هنا فيتمّ ويصحّ أيضا في مقامنا ، بحيث يكون كلّ طرف بنفسه يطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه إلا أنّ المجموع لا يطمأن فيه كذلك ، وإذا لم يتمّ التفصيل في مقامنا فلا يتمّ هناك أيضا ، مع أنّهم يقبلونه هناك ، والحال أنّه لا فرق بين المقامين من حيث كون كلّ واحد منهما إحرازا لوجود متعلّقه ، غاية الأمر الفرق بينهما في درجة هذا الإحراز فقط ، وهذا غير مانع.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ القاعدة المذكورة إنّما تصدق فيما إذا كان كلّ من الإحرازين يستبطن - إضافة إلى إحراز وجود متعلّقه فعلا - إحراز وجوده على تقدير وجود متعلّق الإحراز الآخر على نهج القضيّة الشرطيّة ، فمن يطمئنّ بأنّ ( ألف ) موجود حتّى على تقدير وجود ( باء ) أيضا ، وأنّ ( باء ) موجود أيضا حتّى على تقدير وجود ( ألف ) ، فهو مطمئنّ حتما بوجود المجموع.

الجواب الثاني : حلّي ، ومفاده أنّه يوجد لدينا نحوان من الإحراز :

الأوّل : الإحراز الذي يستبطن وجود متعلّقه على جميع التقادير.

والثاني : الإحراز الذي لا يستبطن ذلك ، وإنّما يحرز متعلّقه فعلا على بعض التقادير لا مطلقا.

أمّا الإحراز الأوّل فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على نهج القضيّة الشرطيّة ، بمعنى أنّه متى ما تحقّق الإحراز فيتحقّق وجود المتعلّق فعلا على جميع التقادير ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد وكان إحراز وجوده مستبطنا لوجوده فعلا في المسجد على جميع التقادير سواء كان هناك فرد آخر معه أم لا ، فمثل هذه الإحراز يسمّى بالإحراز المطلق.

وأمّا الإحراز الثاني فالمقصود به أن يحرز وجود المتعلّق على بعض التقادير ، بمعنى أنّه إذا تحقّق أحد التقادير فيكون وجود المتعلّق محرزا ، وأمّا إذا لم يتحقّق فلا يكون وجوده محرزا ، فمثلا إذا أحرز وجود زيد في المسجد على تقدير عدم دخول عمرو إليه للعلم بدخول أحدهما فقط لم يكن وجود زيد في المسجد محرزا حتّى على تقدير دخول عمرو إليه ، ومثل هذا الإحراز يسمّى بالإحراز المشروط.

ص: 356

وعليه ، فنقول : إنّ قاعدة ضمّ إحراز إلى إحراز آخر يساوي إحراز المجموع ، إنّما تصدق فيما إذا كان الإحراز مطلقا لا مشروطا.

وتوضيحه : أنّنا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد مطلقا وأحرزنا وجود عمرو في المسجد مطلقا أيضا وهكذا سوف نحصل على إحراز بوجود مجموع هذه الأفراد في المسجد ؛ لأنّ كلّ إحراز فيها كان مطلقا ، بمعنى أنّه يثبت وجود متعلّقه على جميع التقادير سواء وجد مع غيره أم لا ، فتكون النتيجة المذكورة واضحة وصحيحة ؛ لأنّ كلّ إحراز كان مستقلاّ عن الإحراز الآخر وغير مرتبط به وجودا أو عدما ، نظير العلم بوجود ألف درهم مع زيد ، والعلم بوجود ألف درهم مع عمرو وهكذا ، فإنّ النتيجة تكون العلم بوجود آلاف الدراهم مع المجموع.

وأمّا إذا أحرزنا وجود زيد في المسجد على تقدير عدم وجود عمرو فيه أو العكس وهكذا في سائر الأطراف ، فهنا سوف لن نحصل على إحراز بوجود المجموع ؛ لأنّ الإحراز في كلّ فرد لم يكن مطلقا ، بل كان مشروطا ومقيّدا بعدم الآخر ، فإحراز المجموع معا يعني عدم تحقّق الشرط في شيء من الأفراد ، فمثلا إذا علمنا إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا إحراز كون الداخل إلى المسجد هو زيد مشروطا بأن لا يكون الداخل عمرو وهكذا العكس.

ولذلك فيكون إحراز وجود زيد وإحراز وجود عمرو كلّ منهما مشروطا بعدم الآخر ، فهو ثابت على بعض التقادير لا مطلقا ، وليس أحدهما ثابتا بنحو الاستقلال وبقطع النظر عن الآخر ، بل يرتبط صدق كلّ واحد منهما بعدم الآخر. وعليه ، فلا يمكننا إحراز دخول زيد وعمرو إلى المسجد معا بنفس الإحراز الموجود في كلّ منهما أو أزيد منه ، بل إمّا أن يكون إحراز المجموع مساويا لإحراز أحدهما فقط أو أقلّ منه ، ولا يمكن أن يكون إحراز المجموع مساويا لمجموع الإحرازين.

ولتوضيحه أكثر نقول : إنّنا إذا علمنا بدخول أحد الفردين زيد أو عمرو إلى المسجد ، فهنا رقم اليقين عبارة عن واحد وهذا يوزّع بالتساوي على الاحتمالات الموجودة ، وهي أربعة :

إمّا أن يكون الداخل إلى المسجد زيد فهذا قيمته الاحتمالية أو الإحرازيّة عبارة عن 1 / 4.

ص: 357

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد كلاهما ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

وإمّا أن يكون الداخل إلى المسجد لا زيد لا عمرو ، وهذا قيمته الإحرازيّة 1 / 4 أيضا.

إلا أنّ الاحتمال الأخير ساقط للعلم إجمالا بدخول أحدهما ، فهذه القيمة الإحرازيّة أي ( 1 / 4 ) سوف توزّع بالتساوي على الاحتمالات الثلاثة الأولى فتكون القيمة في كلّ منها ( 1 / 3 ).

وهنا القيمة الإحرازيّة لدخول زيد هي ( 1 / 3 ) إذا ضمّت إليها القيمة الإحرازيّة لدخول عمرو وهي ( 1 / 3 ) لا ينتج لنا أنّ القيمة الاحتماليّة لدخولهما إلى المسجد هي ( 2 / 3 ) بل هي ( 1 / 3 ) أيضا.

والوجه في ذلك أنّ القيمة الإحرازيّة في كلّ من الفردين لم تكن ثابتة مطلقا وعلى جميع التقادير ، بل على تقدير عدم دخول الآخر.

إذا اتّضح ذلك نقول في مقامنا :

وفي المقام : الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أيّ طرف وإن كان موجودا فعلا ، ولكنّه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر.

والسبب في ذلك : أنّ هذا الاطمئنان إنّما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف ، فتلك الاحتمالات إذن هي الأساس في تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ؛ لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكوّن الاطمئنان بعدم الانطباق.

توضيح الجواب الحلّي : أنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ليس من الاطمئنان المطلق ، بل من الاطمئنان المشروط ؛ وذلك لأنّنا إنّما نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال في الأطراف الأخرى كمجموع ، إذ لو كنّا نطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال

ص: 358

على سائر الأطراف لم يحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف.

فالاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مشروط بأن لا يطمأنّ فعلا بعدم الانطباق في مجموع الأطراف الأخرى. وليس هذا الاطمئنان الفعلي مطلقا سواء حصل اطمئنان بعدم الانطباق في سائر الأطراف أم لم يحصل.

والوجه في كون الاطمئنان هنا مشروطا لا مطلقا هو : أنّ هذا الاطمئنان منشؤه وسببه هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّنا لو فرضنا وجود مئات الآلاف من الأطراف فسوف تكون النسبة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف بالذات نسبة ضئيلة جدّا لا يعتنى بها عرفا ، بل تزول بنظر العرف وإن كانت لا تزال موجودة بالدقّة ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى سوف نحصل على شبه إجماع أو إجماع على نفي احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف ؛ لأنّ القيمة الاحتماليّة لوجوده فيه ضئيلة بينما القيمة الاحتماليّة لعدم وجوده فيه ، وبالتالي لوجوده في سائر الأطراف قيمة عالية جدا قريبة من القطع.

والحاصل : أنّ القيم الاحتماليّة ضآلة أو كثرة هي الملاك ؛ لكون المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف كمجموع ، وغير منطبق على كلّ طرف بلحاظ ذاته.

وعلى هذا نقول : إنّنا إذا أخذنا كلّ طرف لوحده فيحصل لنا اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، إلا أنّ هذا الاطمئنان ليس ثابتا مطلقا ، بل بتقدير انطباق المعلوم بالإجمال على سائر الأطراف.

ولو فرض أنّ هذا الاطمئنان ثابت فعلا ومطلق على جميع التقادير سواء كان المعلوم بالإجمال منطبقا على سائر الأطراف أم لا لكانت النتيجة كما ذكر في الإشكال ، إلا أنّ هذا يفترض أنّ الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق في هذا الطرف ليس منشؤه بحساب الاحتمالات وإجماع القيم الاحتماليّة في سائر الأطراف على نفي الانطباق على هذا الطرف ، وهو خلف المفروض.

وبتعبير آخر : لو كان عدم الانطباق في هذا الطرف يجتمع مع عدم الانطباق في كلّ طرف من الأطراف الأخرى لكان معناه أنّنا نعلم بأنّ بعض هذه الأطراف كاذبة

ص: 359

وغير صحيحة ؛ لأنّه يوجد فيها طرف ينطبق عليه المعلوم بالإجمال وحيث نعلم ببطلان أحدها ، وحيث إنّه غير مشخّص بحيث يحتمل كلّ طرف أن يكون هو الكاذب ، فهذا يعني أنّ القيم الاحتماليّة في كلّ الأطراف والتي هي الأساس والملاك لحصول الاطمئنان الفعلي يعلم ببطلان بعضها ، وهذا الاحتمال يصلح للانطباق على كلّ فرد منها فيحصل التعارض بين احتمال كذبه وخطأه وبين احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن أن يجتمع الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف بعدم الانطباق عليه مع الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق بلحاظ كلّ طرف طرف من مجموع الأطراف ، فلا يكون ثابتا على جميع التقادير ، بل على تقدير كون المعلوم بالإجمال موجودا في مجموع الأطراف الأخرى ، وهذا يعني الاطمئنان المشروط والذي لا ينتج الاطمئنان الفعلي بالمجموع كما تقدّم.

وأمّا الاستشكال الآخر :

فيتّجه - بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور - إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لمّا كان موجودا في كلّ طرف فالاطمئنانات معارضة في الحجّيّة والمعذّريّة للعلم الإجمالي بأنّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدّي إلى سقوط الحجّيّة عن جميع الاطمئنانات.

الإشكال الثاني : أنّنا لو سلّمنا وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف ، وأنّ هذا لا يوجب الاطمئنان الفعلي بالمجموع ؛ لأنّ كلّ اطمئنان مشروط وليس مطلقا كما تقدّم تفصيله ، إلا أنّنا نقول : إنّ مثل هذا الاطمئنان ليس حجّة فلا يكون معذّرا في مقامنا ولا يكون مجوّزا للاقتحام والمخالفة ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بانطباق المعلوم بالإجمال على أحد هذه الأطراف.

وحيث إنّ الاطمئنان بعدم الانطباق يجري فعلا في كلّ طرف ، فهذا يعني أنّ بعض هذه الاطمئنانات غير صحيح ، وهذا البعض يحتمل انطباقه على كلّ طرف طرف ؛ إذ لا ترجيح لأحدها على الآخر ولا يمكن إلغاؤه أبدا للعلم به. فيتعيّن سقوط الاطمئنانات الفعليّة جميعا عن الحجّيّة والمعذّريّة بسبب هذا العلم الإجمالي ، إذ تطبيق المعلوم بالإجمال على هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تطبيقه على

ص: 360

شيء من الأطراف مخالف للعلم الإجمالي بوجود النجس فيها ، فيتعيّن إسقاطها جميعا.

والحاصل : أنّ هذه الاطمئنانات لو سلّمنا وجودها الفعلي إلا أنّها ساقطة عن الحجّيّة ؛ للتعارض فيما بينها الحاصل من العلم الإجمالي المذكور ، ولا يمكن الجمع بين حجّيّة الاطمئنانات جميعا وبين العلم الإجمالي ؛ لأنّه من باب اجتماع السالبة الكلّيّة والموجبة الجزئيّة ، وهما نقيضان فاجتماعهما مستحيل.

والجواب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي بكذب بعض الأمارات إنّما يؤدّي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجّيّة لأحد سببين :

الأوّل : أن يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الأمارات ، فيدلّ كلّ واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي ، ولا يمكن التعبّد بحجّيّة المتكاذبين.

الثاني : أن تؤدّي حجّيّة تلك الأمارات - والحالة هذه - إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءات وبالتالي العلم بكذب إحدى الأمارات والإحرازات ، إنّما يؤدّي إلى حصول التكاذب والتعارض والتساقط بين هذه الإحرازات والأمارات فيما إذا تحقّق أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون هناك تناف وتكاذب بين نفس الإحرازين والأمارتين ، بأن كان كلّ واحد منهما يدلّ بالمطابقة على مؤدّاه وبالالتزام على نفي مؤدّى الآخر ، فإنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيتعيّن سقوطهما.

كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فهنا الدليل الدالّ على وجوب الظهر يدلّ بالمطابقة على وجوبها وبالالتزام على عدم وجوب الجمعة ، وكذا الكلام في الجمعة ، فهنا لا يمكننا الأخذ بكلا الدليلين ؛ لأنّ أحدهما يكذّب الآخر ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ؛ لأنّه بلا مرجّح فيتعارضان ويتساقطان.

الثاني : أن يكون التعبّد بحجّيّة هذه الأمارات أو الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنّ مثل هذا اللازم لا يمكن الالتزام به للتنافي بين الترخيص القطعي في المخالفة القطعيّة وبين المعلوم بالإجمال.

كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين وكان في كلّ منهما أصل أو أمارة يثبت

ص: 361

الطهارة ، فهنا الالتزام بكلتا الأمارتين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة المعلومة إجمالا ، والالتزام بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطهما للتعارض بينهما.

وكلا السببين غير متوفّر في المقام.

وفي مقامنا حيث يجري في كلّ طرف اطمئنان فعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال موجودا في سائر الأطراف الأخرى ، سوف لن يتحقّق شيء من هذين السببين ، وبيانه :

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّنا إذا أخذنا أي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل أن يكونا معا صادقين ، فلما ذا يتكاذبان؟

وإذا أخذنا مجموعة الاطمئنانات الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا ؛ لأنّ هذه المجموعة لا تؤدّي إلى الاطمئنان بمجموع متعلّقاتها ، أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ؛ وذلك لما برهنا عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بالقضيّة الشرطيّة لا يؤدّي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع. والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل كما عرفت.

أمّا السبب الأوّل - وهو التكاذب بين الإحرازين في المدلول الالتزامي - فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك : لأنّ الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف مدلوله المطابقي هذا المقدار ، وأمّا مدلوله الالتزامي فهو أحد أمرين :

الأوّل : أن يقال : إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو انطباقه على الطرف الآخر وهو الإناء الثاني الذي نضمّه إلى الإناء الأوّل ، فكلّ منهما يكذّب الآخر بمدلوله الالتزامي فلا يمكن اجتماعهما ولا يمكن ترجيح أحدهما فيحكم بتساقط الاطمئنانين معا.

وهذا غير تامّ ؛ لأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الأوّل يمكن اجتماعه مع الاطمئنان بعدم الانطباق في الإناء الثاني ؛ إذ المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الإناءات قد يكون في الإناء الثالث أو غيره لا في خصوص الأوّلين ، ولذلك لا مانع من صدق الاطمئنانين الأوّل والثاني ، وعليه فلا تكاذب بينهما بمعنى أنّ أحدهما

ص: 362

يثبت النجاسة في الآخر بخصوصه ليحصل التنافي والتكاذب في المدلول الالتزامي فيهما.

الثاني : أن يقال إنّ المدلول الالتزامي للاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هو كون المعلوم بالإجمال في مجموع الأطراف الأخرى ككلّ لا خصوص كلّ طرف طرف منها ، بمعنى أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف لازمه وجود الانطباق في مجموع الأطراف ، وحيث إنّ مجموع الأطراف ينتج لنا الاطمئنان بعدم الانطباق فيها ؛ لأنّنا لو ضممنا الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف منه حصل لنا الاطمئنان الفعلي بالمجموع وهذا لازمه أنّ المعلوم بالإجمال موجود في الطرف الأوّل ، وعندئذ يحصل التكاذب بين هذا الطرف من جهة مدلوله الالتزامي وبين مجموع الأطراف من جهة مدلولها الالتزامي ، ولا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر ، فيحكم بتساقط الاطمئنانات في الجميع.

وهذا أيضا غير تامّ ؛ لأنّه مبني على أن يكون ضمّ الاطمئنان في كلّ طرف إلى الاطمئنان في الطرف منتجا للاطمئنان بالمجموع ، وهذا إنّما يكون فيما لو كان كلّ اطمئنان ثابتا ومحرزا لمتعلّقه بنحو القضيّة الشرطيّة ، أي يثبت ويحرز متعلّقه على جميع التقادير وعلى مختلف الاحتمالات والتقديرات.

إلا أنّ الصحيح كما تقدّم أنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف ليس مطلقا ، بل هو مشروط ولذلك لا ينتج من ضمّ اطمئنان إلى آخر الاطمئنان في المجموع ، وعليه فمجموع الاطمئنانات في سائر الأطراف لا ينتج لنا الاطمئنان الفعلي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الجميع ، أي أنّه لا يوجد لها مدلول التزامي يكذّب المدلول الالتزامي في الطرف الأوّل ، ولذلك لا يحصل التكاذب والتنافي والتساقط.

والوجه في ذلك ما تقدّم البرهان عليه من أنّ كلّ اطمئنانين لا يتضمّنان ولا يستبطنان الاطمئنانين بالقضيّة الشرطيّة ، أي الاطمئنان المطلق. وعلى جميع التقادير لا يكون اجتماعهما مؤدّيا إلى الاطمئنان الفعلي بالمجموع ، ومقامنا من هذا القبيل ، أي اطمئنان لا يستبطن القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّه مبني على حساب الاحتمالات كما تقدّم ، وهو لا ينتج إلا الاطمئنان المشروط فقط لا المطلق.

وحينئذ يمكن اجتماع الاطمئنانين الفعلي بعدم الانطباق على هذا الطرف مع

ص: 363

مجموع الاطمئنانات الفعليّة في سائر الأطراف ؛ لأنّ مجموعها لن يؤدّي إلى الاطمئنانين بالمجموع ، فلن يحصل المدلول الالتزامي فيها وبالتالي لا تكاذب.

وبهذا ظهر أنّ سبب التكاذب الناشئ من المدلول الالتزامي للاحرازين أو للأمارتين غير موجود في مقامنا ، فلا تكاذب ولا تعارض من هذه الجهة.

وأما الثاني : فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة إنّما يلزم لو كان دليل حجّيّة هذه الاطمئنانات يقتضي الحجّيّة التعيينيّة لكلّ واحد منها ، غير أنّ الصحيح إنّ مفاده هو الحجّيّة التخييريّة ؛ لأنّ دليل الحجّيّة هنا هو السيرة العقلائيّة وهي منعقدة على الحجّيّة بهذا المقدار.

وأمّا السبب الثاني - وهو أن يكون التعبّد بحجّيّة الإحرازات مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة - فهذا غير موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ حجّيّة الإحراز في مقامنا - وهو الاطمئنان - إنّما هو السيرة العقلائيّة ، وهي تفيد حجّيّة الاطمئنان تخييرا لا تعيينا.

بمعنى أنّ العقلاء يرون أن تطبيق الاطمئنان بعدم الانطباق على هذا الطرف جائز وعلى ذاك جائز ، إلا أنّ

تطبيق الاطمئنان على المجموع غير جائز ، فيلزم أن تكون الاطمئنانات جميعا حجّة بنحو التخيير ، إذ لو كانت الحجّيّة تعيينيّة للزم أن يكون كلّ اطمئنان حجّة بنفسه ويؤخذ به.

وبالتالي تكون جميع الأطراف الاطمئنان فيها حجّة تعيينا ، فيقع التكاذب بين هذه الاطمئنانات للعلم بكذب بعضها ، وحيث إنّه غير معلوم فيكون كذب هذا البعض بخصوصه دون الآخر ترجيحا بلا مرجّح ، وعدم كذب شيء منها يؤدّي إلى التعارض بين حجّيّتها التعيينيّة وبين العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فيتعيّن رفع اليد عن بعضها غير المعيّن وهو معنى الحجّيّة التخييريّة ، أي يجوز له الأخذ بأي طرف شاء ولكن لا يجوز الأخذ بجميع الأطراف.

والوجه في هذا هو حساب الاحتمالات ؛ لأنّ الاطمئنان الفعلي في كلّ طرف كان مستندا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم ، بناء على ضآلة القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال في هذا الطرف ، فلو كان لدينا مائة ألف إناء كانت القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال عليه 1 / 100000 وتزداد ضآلة كلّما ازدادت الأطراف كثرة.

ص: 364

وأمّا لو أردنا أن نأخذ القيمة الاحتماليّة لانطباق المعلوم بالإجمال ضمن الإناءين معا ، فهنا سوف تزداد القيمة الاحتماليّة للانطباق من 1 / 100000 ، إلى 1 / 50000 ، فإذا كانت ثلاثة صارت 1 / 33333 ، فاذا كانت أربعة صارت 1 / 25000 ، فإذا كانت عشرة صارت 1 / 10000 وهكذا ، أي أنّنا كلّما ضممنا طرفا إلى طرف ازدادت القيمة الاحتماليّة بحيث تصبح معتدّا بها عقلائيّا.

وبهذا ظهر أنّ ضمّ طرف إلى طرف لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، وحينئذ لن يحصل التعارض بين الاطمئنان الفعلي في هذا الطرف مع مجموع الأطراف ؛ لأنّ المجموع لا يوجد اطمئنان فعلي بعدم الانطباق عليه.

التقريب الثاني : أنّ الركن الرابع من أركان التنجيز المتقدّمة مختلّ ؛ وذلك لأنّ جريان الأصول في كلّ أطراف العلم الإجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعيّة عمليّا والإذن فيها ؛ لأنّنا نفترض كثرة الأطراف بدرجة لا تتيح للمكلّف اقتحامها جميعا ، وفي مثل ذلك تجري الأصول جميعا بدون معارضة.

التقريب الثاني لعدم وجوب الموافقة القطعيّة أن يقال : إنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي - وهو كون جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة العمليّة - غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا نفترض أطراف الشبهة غير المحصورة كثيرة جدّا ، بحيث لا يتمكّن المكلّف بحسب العادة من ارتكابها جميعا ، كما لو علمنا إجمالا بنجاسة إناء من مليون إناء فإنّه لن يتمكّن بحسب العادة من ارتكاب الجميع ، وهذا يعني أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ طرف طرف لن يؤدّي فعلا إلى المخالفة القطعيّة عمليّا للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المكلّف سوف يترك بعض الأطراف لا محالة ، وفي مثل هذه الحالة لا مانع من جريان الأصول ، وبالتالي لا منجّزيّة للعلم الإجمالي لكافّة أطرافه.

وهذا نظير العلم إجمالا إمّا بحرمة الشرب من هذا الإناء وإمّا بوجوب الشرب منه ، أي الدوران بين المحذورين كما سيأتي ، فإنّه لا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّه لن يلزم من ذلك المخالفة العمليّة ؛ لأنّه في الواقع إمّا أن يشرب أو لا يشرب ، فهو يمتثل أحدهما ويخالف آخر ولا يمكنه مخالفتهما معا عمليّا.

ص: 365

والحاصل : أنّه مع اختلال الركن الرابع لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ، وفي الشبهة غير المحصورة حيث إنّ الأطراف بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن للمكلّف اقتحامها جميعا عمليّا فلن يكون هناك محذور في جريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا ، فإذا جرت فعلا في الجميع كان العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة.

وهذا التقريب متّجه على أساس الصيغة الأصليّة التي وضعناها للركن الرابع فيما تقدّم.

وأمّا على أساس صياغة السيّد الأستاذ له السالفة الذكر فلا يتمّ ؛ لأنّ المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ، وهو حاصل من جريان الأصول في كلّ الأطراف ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة لعدم القدرة عليها.

ومن هنا يظهر أنّ الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرابع تظهر في تقييم التقريب المذكور إثباتا ونفيا.

وهذا التقريب أي اختلال الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، بسبب جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف المؤدّي إلى فسح المجال للوقوع في المخالفة القطعيّة ، إنّما يتّجه ويكون صحيحا بناء على صياغة المشهور للركن الرابع من أركان المنجّزيّة ، حيث تقدّم أنّه توجد صياغتان لهذا الركن :

إحداهما عن المشهور ، ومفادها : أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، أو على الأقلّ يتيح للمكلّف ارتكاب الجميع على شرط أن يكون ارتكاب الجميع ممكنا وقوعه من المكلّف ، ولذلك فإذا كان عاجزا عن ارتكاب الجميع ، إمّا لعدم قدرته على ذلك بأن كانت الأطراف كثيرة جدّا ، أو خروج بعضها عن مورد الابتلاء ، أو تلف بعضها فلا محذور في جريان الأصول الترخيصيّة في جميع الأطراف ، فهذا الركن بهذه الصياغة ينهدم في موردنا ؛ لأنّ الشبهة غير المحصورة أطرافها كثيرة جدّا بحيث لا يتمكّن المكلّف من ارتكابها جميعا ، فتجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ؛ لأنّ جريانها لن يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة في الخارج.

وأمّا بناء على صياغة السيّد الخوئي لهذا الركن ، والتي كانت تتّجه إلى أنّ المحذور من جريان الأصول الترخيصيّة هو الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة سواء خالف عمليّا أم لا ، وسواء تمكّن من المخالفة أم كان عاجزا عنها.

ص: 366

فهنا وإن لم يكن المكلّف قادرا على ارتكاب جميع الأطراف لكثرتها ، إلا أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف يؤدّي إلى القطع بصدور الترخيص في أطراف الشبهة جميعا ، وهذا محال صدوره ؛ لأنّه لا يجتمع مع العلم الإجمالي بالتكليف ضمن هذه الأطراف ، فلا يمكن القطع بالترخيص ؛ لأنّه قطع باجتماع النقيضين ، والقطع باجتماع المتناقضين كاجتماعهما مستحيل ، والقطع بالمستحيل محال.

ومن هنا قد يقال : إنّ الثمرة العمليّة بين الصياغتين تظهر في هذا التقريب الثاني.

فعلى صياغة المشهور يكون هذا التقريب تامّا ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة لانهدام ركنه الرابع.

وعلى صياغة السيّد الخوئي يكون هذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّ العلم الإجمالي باق على منجّزيّته ؛ إذ الركن الرابع غير منهدم هنا.

غير أنّ السيّد الأستاذ (1) حاول أن ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب ، وحاصل النقض : أنّ الاحتياط إذا كان غير واجب في الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعيّة يلزم عدم وجوب الاحتياط في كلّ حالة تتعذّر فيها المخالفة القطعيّة ولو كان العلم الإجمالي ذا طرفين أو أطراف قليلة ، حيث تجري الأصول جميعا ولا يلزم منها الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة المكث في آن معيّن في أحد مكانين ، مع أنّ القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك في نظائر هذا المثال.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه اللّه قد نقض على هذا التقريب على فرض التسليم بصياغة المشهور.

وحاصل النقض : أنّنا لو سلّمنا بأنّ الركن الرابع هو أن يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مؤدّيا إلى إمكان المخالفة القطعيّة ووقوعها من المكلّف في الخارج ، فهذا الركن كما ينهدم في موارد الشبهة غير المحصورة من أجل عدم قدرة المكلّف على ارتكاب جميع الأطراف ؛ لأنّها بالغة من الكثرة حدّا لا يمكن معه

ص: 367


1- مصباح الأصول 2 : 374.

ارتكابها جميعا ؛ لعدم القدرة أو لخروج بعضها عن محلّ الابتلاء فعلا ، فكذلك ينهدم في موارد الشبهة المحصورة الدائرة بين طرفين أو أطراف قليلة جدّا لو فرض عدم قدرة المكلّف وعجزه عن ارتكاب جميع الأطراف ، فإنّه ما دام الملاك لانهدام الركن الرابع هو عدم التمكّن من المخالفة القطعيّة أو عدم القدرة عليها ، فهذا الملاك موجود في الصورتين معا ، فهل يلتزم بسقوط العلم الإجمالي فيهما أم لا؟!

فمثلا : إذا علم إجمالا بلزوم المكث في أحد مكانين في الساعة الواحدة ، فهذه شبهة محصورة بلا إشكال إلا أنّ المكلّف غير قادر على المكث في المكانين في الوقت الواحد ، فهل ينهدم الركن الرابع وتجري الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين؟

والجواب : أنّه لا يمكن الالتزام بذلك ، بل يقولون : إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، مع أنّ المكلّف غير قادر على المخالفة القطعيّة ، فليكن هناك أي في الشبهة غير المحصورة العلم الإجمالي منجّزا أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهتين المحصورة وغير المحصورة في ذلك ما دام الركن الرابع منهدم فيهما معا.

فإن قيل بالتفصيل بين الشبهتين كان الركن الرابع بالصياغة المذكورة عند المشهور غير صحيح ، بل الصحيح هو صياغته بما ذكرنا من لزوم القطع بالمخالفة وإن لم يخالف واقعا ، فإنّ هذا الركن موجود في الشبهتين معا ولذلك يتنجّزان ، ولا مجال للتفصيل بينهما إذ لا مبرّر له لا على صياغتنا ولا على صياغة المشهور ، بمعنى إمّا أن يلتزم بالتنجيز في الشبهتين أو يلتزم بعدم التنجيز فيهما معا ، فعلى صياغة المشهور يجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة في الحالتين ولا معنى للتفصيل بالتنجيز في الشبهة المحصورة وعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة ؛ لأنّ الملاك موجود فيهما معا.

وعلى صياغتنا يلتزم بالمنجّزيّة في الشبهتين معا ؛ لأنّ القطع بالمخالفة هو الملاك للركن الرابع ، ولذلك يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الشبهتين لأدائها إلى الترخيص القطعي في المخالفة وهو مستحيل.

والتحقيق : أنّ الصيغة الأصليّة للركن الرابع يمكن أن توضّح بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يجعل جريان الأصول في

ص: 368

جميع الأطراف ممكنا ؛ لأنّه لا يؤدّي - والحالة هذه - إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها غير ممكنة حتّى يتصوّر الترخيص فيها.

وهذا البيان ينطبق على كلّ حالات العجز عن المخالفة القطعيّة ، ولذلك يعتبر النقض واردا عليه.

والتحقيق أن يقال : إنّ الركن الرابع يمكن أن يبيّن بأحد بيانين :

البيان الأوّل علیهم السلام أن يكون المراد من جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وأدائها إلى الترخيص في المخالفة وإلى إمكان وقوعها من المكلّف في الخارج ، أنّه مع عدم القدرة على المخالفة القطعيّة يصبح جريان الأصول الترخيصيّة ممكنا ولا مانع منه ، حيث لا يؤدّي جريانها في جميع الأطراف إلى محذور الترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، إذ في فرضنا تكون المخالفة العمليّة غير ممكنة للمكلّف ؛ لأنّه غير قادر عليها ، فلا يتصوّر الترخيص في المخالفة ليقال باستحالته.

وبتعبير آخر : إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة في أطراف الشبهة ، لو كان هو الوقوع في المخالفة القطعيّة والترخيص العملي للتكليف المعلوم بالإجمال ، فهذا المانع سوف يرتفع في حالات العجز وعدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف كما هو الحال في الشبهة غير المحصورة ، ومع ارتفاع هذا المانع سوف تجري الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف فعلا ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود ؛ إذ المورد مشكوك والمانع مفقود ، وهذا مبني على تصوّرات المشهور من أنّ الترخيص مستحيل فعلا لاستلزامه الترخيص في المخالفة والمعصية القبيحة عقلا ، لأنّ الترخيص في القبيح قبيح عقلا.

وحينئذ سوف يكون نقض السيّد الخوئي واردا ؛ لأنّ الملاك وهو عدم القدرة موجود في كلتا الشبهتين ، والمانع من جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين وهو الترخيص العملي مفقود ، لعدم قدرته في الشبهتين على المخالفة القطعيّة عمليّا. فيكون هذا البيان عامّا وشاملا لكلّ مورد لا يتمكّن فيه المكلّف من ارتكاب جميع الأطراف لسبب من الأسباب ، وحينئذ ينبغي الالتزام بعدم المنجّزيّة حتّى في الشبهة المحصورة أيضا ، وهذا ممّا لا يقوله أحد.

إلا أنّ البيان المذكور غير صحيح ؛ لأنّ المحذور في جريان الأصول في جميع

ص: 369

أطراف العلم الإجمالي هو أنّ تقديم المولى لأغراضه الترخيصيّة على أغراضه اللزوميّة الواصلة بالعلم الإجمالي على خلاف المرتكز العقلائي كما تقدّم توضيحه سابقا (1). ومن الواضح أنّ شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف يعني ذلك ، ومجرّد اقترانه صدفة بعجز المكلّف عن المخالفة القطعيّة لا يغيّر من مفاد الدليل ، فالارتكاز العقلائي إذا حاكم بعدم الشمول كذلك.

وهذا البيان غير صحيح : وذلك لأنّه يفترض أنّ المحذور في جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف هو أداؤه إلى المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، ولذلك فمع عدم المخالفة لا محذور في جريانها ، إلا أنّ الصحيح في عدم إمكان جريان الأصول الترخيصيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي هو ما تقدّم منّا سابقا من أنّ جريان الأصول في جميع الأطراف معناه تقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللزومية ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة كلّها تنشأ من الغرض الأهمّ بنظر الشارع ، إلا أنّ تقديم الأغراض الترخيصيّة في موارد العلم الإجمالي على خلاف المرتكزات العقلائيّة الحاكمة بأنّ الأغراض الترخيصيّة لا تصل إلى مستوى المساواة مع الأغراض اللزوميّة فضلا عن أهمّيّتها عليها ، ولذلك يكون هذا المرتكز العقلائي حاكما على أدلّة الأصول الترخيصيّة وقرينة متّصلة لبّيّة على تقييد إطلاقها ، ولذلك يكون جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ممنوعا عقلائيّا ، إذ لا أهمّيّة لها بنظر العقلاء لكي تتقدّم على الأغراض اللزوميّة المعلومة ولو إجمالا.

نعم ، هذا الترخيص مقبول عقلا ؛ لأنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات اللزوم والتي ستفوت ملاكات الترخيص وبين تقديم ملاكات الترخيص المفوتة لملاكات الإلزام ؛ لأنّ الأهمّيّة تستدعي ذلك.

وعليه ، ففي موارد الشبهة غير المحصورة حيث لا قدرة على ارتكاب جميع الأطراف ، أيضا نمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّ جريانها يعني تقديم الغرض الترخيصي على الغرض اللزومي ، وهو مخالف للارتكاز العقلائي.

ص: 370


1- في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ضمن مباحث حجّيّة القطع ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

فظهر أنّ الملاك في جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها هو كونها أهمّ من الغرض اللزومي.

نعم ، في موارد الشبهة المحصورة لا تكون الأطراف الترخيصيّة هي الأهمّ ، ولذلك لا تجري الأصول الترخيصيّة فيها.

البيان الثاني : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعيّة إذا نشأ من كثرة الأطراف أدّى إلى إمكان جريان الأصول فيها جميعا ، إذ في غرض لزومي واصل كذلك - بوصول مردّد بين أطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة - لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصيّة عليه ؛ لأنّ التحفّظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصيّة كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الأصل لكلّ الأطراف.

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع ، وهو يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ولا يرد عليه النقض.

البيان الثاني : أن يقال : إن المقصود من الركن الرابع هو أنّ الأصول الترخيصيّة يمنع من جريانها إذا أدّت إلى المخالفة القطعيّة الواقعيّة ، ولا يمنع من جريانها إذا لم تؤدّ إلى ذلك ، وعدم إمكان المخالفة القطعيّة لجميع الأطراف تارة ينشأ من عجز المكلّف نفسه وعدم قدرته على إيقاع هذه المخالفة ؛ لعدم تمكّنه من الوصول إلى بعضها أو لخروج بعضها عن محلّ ابتلائه أو لتلف بعضها ونحو ذلك ، وأخرى ينشأ من مجرّد كثرة الأطراف فقط مع أنّ المكلّف قادر على ارتكابها جميعا لو أتيح له ذلك.

فهنا لا يوجد عجز تكويني ولا استحالة عقليّة في عدم إمكان المخالفة القطعيّة ، بل هي مقدور عليها وليست مستحيلة ، غاية الأمر العادة تقتضي أنّه لا يمكن المخالفة مع هذه الأطراف البالغة من الكثرة حدّا كبيرا.

وحينئذ نقول : إنّ عدم القدرة والعجز إذا نشأ من كثرة الأطراف فهنا تجري الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، بخلاف ما لو نشأ العجز من خروج أحدهما عن محلّ الابتلاء أو تلفه أو عدم تمكن المكلّف من ارتكابه لخروجه عن قدرته فعلا.

ص: 371

والوجه في ذلك أنّ المانع الثاني عارض وليس أصليّا ولذلك كان الغرض اللزومي باقيا على أهمّيّته عقلائيّا ، ولا يتقدّم عليه الغرض الترخيصي عندهم حتّى لو طرأ هذا العارض والمانع.

وأمّا المانع الأوّل أي كثرة الأطراف فهو دخيل في تركيب الشبهة ، أي أنّ العلم الإجمالي انصبّ على هذه الشبهة ، أو أنّ هذه الشبهة حصلت بعد العلم ، لكن أصل الشبهة هي الأطراف الكثيرة ، فالكثرة دخيل في الذات والماهيّة.

وعليه ، فالعقلاء إذا لاحظوا هذه الشبهة مع كثرة أفرادها وجدوا أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن كلّ هذه الأطراف والاحتياط وعدم ارتكاب شيء منها مقابل الحفاظ على غرض لزومي واحد ، وبين رفع اليد عن هذا الغرض اللزومي الواحد وتقديم الأغراض الترخيصيّة الكثيرة جدّا بعدد الأطراف ، ولا إشكال عندهم في تقديم الأغراض الترخيصيّة البالغة هذا الحدّ من الكثرة على الغرض اللزومي الواحد ، ولا يرون أهمّيّة لهذا الغرض ؛ لأنّ الحفاظ عليه يعني ترك الحفاظ على أغراض ترخيصيّة كثيرة جدّا ، فالبناء العقلائي والسيرة العقلائيّة جارية فعلا على أنّه إذا دار الأمر في وجود قاطع الطريق في أحد الطرق الألف ، أو وجود أسد في أحد هذه المائة ألف طريق ، فإنّهم لا يمتنعون عن الجميع ، بل لا يرون من يفعل ذلك عاقلا وحكيما ، وهذا البناء العقلائي يشهد له قوله ( علیه السلام ) : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين » (1).

وحيث إنّ المانع من جريان الأصول الترخيصيّة كان هو المرتكز العقلائي الحاكم بأنّ الأغراض اللزوميّة أهمّ من الأغراض الترخيصيّة ، فهنا يوجد مرتكز عقلائي آخر وهو أنّ الأغراض الترخيصيّة هي الأهمّ من الأغراض اللزوميّة.

ومن الواضح أنّ المرتكزات العقلائيّة لا تبتني على التعبّد المحض ، وإنّما من أجل الحيثيّة الكاشفة في كلّ أصل وقاعدة ، وهذا يفرض علينا الجمع بين هذين الارتكازين ، بأن نقول : إنّ تقديم الأغراض اللزوميّة عندهم إنّما يكون في الشبهات المحصورة ، وأمّا تقديم الأغراض الترخيصيّة فيكون في الشبهة غير المحصورة ، فيكون هناك ارتكازان عقلائيّان لكلّ واحد منهما مورده وحيثيّة كشفه الخاصّة به.

ص: 372


1- وسائل الشيعة 25 : 119 ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب 61 ، ح 5.

وهذا البيان هو الوجه الفنّي لصياغة الركن الرابع على مسلك المشهور ، وبه يثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات غير المحصورة.

ولا يرد عليه نقض السيّد الخوئي للفرق بين الشبهتين في الملاك وفي الحيثيّة الكاشفة.

ففي الشبهة غير المحصورة الملاك هو كثرة الأطراف ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض الترخيصيّة عقلائيّا.

بينما في الشبهة المحصورة لا يتمّ هذا الملاك ؛ لأنّ الأطراف قليلة ، وهذا يقتضي تقديم الأغراض اللزوميّة عقلائيّا.

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غير أنّهما يختلفان في بعض الجهات.

فالتقريب الأوّل مثلا يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمّن ؛ لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان لا إلى الأصل ، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح.

والحاصل : أنّه يوجد تقريبان لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة :

أحدهما : ما تقدّم من وجود اطمئنان فعلي في كلّ طرف طرف.

والثاني : ما ذكرناه من سقوط منجّزيّة العلم الإجمالي لانهدام الركن الرابع.

إلا أنّ هذين التقريبين يختلفان من جهات أخرى منها :

أنّ التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان الموجود في كلّ طرف ، يجري سواء كان هناك أصل ترخيصي جار في الأطراف أم لم يكن هناك أصل كذلك ؛ لأنّ التأمين بناء على هذا التقريب يستند إلى حجّيّة الاطمئنان لا إلى الأصل ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا سلبا أو إيجابا.

فلو افترضنا أنّ أطراف الشبهة يجري فيها أصالة الطهارة مثلا ، كالعلم إجمالا بنجاسة إناء من إناءات كثيرة جدّا ، جرى التقريب الأوّل ، وكذلك يجري لو افترضنا الأطراف لا يجري فيها الأصل رأسا أو جرى وسقط بالمعارضة ، كما إذا كان كلّ طرف مجرى لاستصحاب النجاسة ، وكما إذا كانت الأطراف مشكوكة النجاسة الذاتيّة وعلم إجمالا بنجاسة أحدها بالدم ، فهنا لا تجري أصالة الطهارة فيها ؛ لأنّ

ص: 373

دليلها قاصر عن ذلك ؛ لأنّه مختصّ بالشكّ في الطهارة العرضيّة بعد إحراز الطهارة الذاتيّة ، وكما إذا علم بوجود إكرام العالم وشكّ في مصداقه في الخارج ، وكانت أطراف الشكّ كثيرة جدّا ، فهنا لا يجري الأصل المؤمّن أي البراءة في أطراف الشكّ ؛ لأنّ البراءة لا تجري في الشكّ في المكلّف به.

وأمّا على التقريب الثاني أي سقوط الركن الرابع فهو يفترض مسبقا جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ؛ لأنّه مبني على أنّ جريانها كذلك لا يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وهذا يقتضي أن يكون كلّ طرف مجرى للأصل الترخيصي وإلا لم يتمّ هذا التقريب أصلا (1).

8 - إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور :

قد يفرض أنّ ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم إجمالا بحرمتها أو حرمة واقعة أخرى مقدورة ، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا. وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ القدرة تارة تنتفي عقلا ، كما إذا كان المكلّف عاجزا عن الارتكاب حقيقة ، وأخرى تنتفي عرفا بمعنى أنّ الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمّنة للمشقّة ما يضمن انصراف المكلّف عنه ، ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا وإن لم يكن عاجزا حقيقة ، كاستعمال كأس من حليب في بلد لا يصل إليه عادة ، ويسمّى هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.

الحالة الثامنة : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه :

تارة يعلم المكلّف بحرمة الشرب من أحد هذين الإناءين الموجودين فعلا أمامه ، وهذا يعني أنّه قادر على شربهما معا وعلى تركهما كذلك ، فهنا لا إشكال في منجّزيّة العلم الإجمالي لترك كلا الإناءين.

ص: 374


1- ومنها : أنّه بناء على التقريب الأوّل أي حجّيّة الاطمئنان قلنا : إنّ حجّيّته تخييريّة لا تعيينيّة ، وهذا يعني أنّه يجوز ارتكاب مقدار من الأطراف يوجد معها الاطمئنان ، أمّا المقدار الذي لا يكون فيه اطمئنان فلا يجوز ارتكابه ؛ لأنّ مقتضي الحجّيّة لا يكون موجودا فيه حينئذ.

وأخرى يعلم بحرمة الشرب من أحد إناءين أحدهما مقدور على ارتكابه والآخر غير مقدور على ارتكابه ، فهنا هل يكون العلم الإجمالي منجّزا أم لا؟

والجواب : أنّه لا يكون منجّزا ، هذا بشكل عامّ ، وأمّا تفصيل الكلام في المسألة فهو يستدعي التفصيل في عدم القدرة ، ولذلك نقول : إنّ عدم القدرة على الارتكاب له سببان أو منشآن :

الأوّل : عدم القدرة بمعنى العجز التكويني ، بأن لا يكون المكلّف قادرا على الارتكاب بحكم العقل ، فهنا القدرة منتفية حقيقة لعجزه تكوينا عن ارتكابه ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر في مكان مجهول فعلا ، أو في مكان معلوم لكن لا يمكن الوصول إليه أصلا.

الثاني : عدم القدرة بمعنى العجز العرفي ، بأن كان المكلّف قادرا بحكم العقل على الارتكاب بأن كان يقدر على الوصول إليه ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى بذل جهد ومشقّة وعناية زائدة ينزّل معها هذا الإناء منزلة الإناء غير المقدور حقيقة ، بحيث تكون هناك عنايات مخالفة للطبع العرفي وليست مألوفة عند العقلاء ، فإنّه وإن كان من الممكن حصولها لكنّه يعتبر شيئا مستهجنا وغريبا وغير مألوف ، وهذا ما يسمّى بخروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إمّا الإناء الذي أمامه أو الإناء الذي في البلد الآخر ، بحيث لم يكن الوصول إلى البلد الآخر متعذّرا وغير مقدور عليه عقلا ، بل كان الوصول إليه يحتاج إلى مشقّة وعناية خارجة عن المألوف والعرف ، أو كان هذا الإناء الآخر تحت يد السلطان في بلده فإنّه يقدر عقلا على ارتكابه لعدم العجز الحقيقي ، إلا أنّ الوصول إليه يحتاج إلى طرق وعنايات ليست مألوفة عرفا.

وعلى كلّ حال سوف نتحدّث عن كلّ واحدة من الحالتين بنحو مستقلّ فنقول :

فإن حصل علم إجمالي بنجاسة أحد مائعين مثلا ، وكان أحدهما ممّا لا يقدر المكلّف عقلا على الوصول إليه ، فالعلم الإجمالي غير منجّز ، ويقال في تقريب ذلك عادة ، إنّ الركن الأوّل منتف لعدم وجود العلم بجامع التكليف ؛ لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلّف على ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلي ؛ لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي إذن.

ص: 375

الصورة الأولى : أن يكون أحد الطرفين غير مقدور على ارتكابه عقلا :

كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر لا يمكن الوصول إليه ؛ للجهل بمكانه مثلا أو لكونه في مكان بعيد جدّا لا يمكن الوصول إليه عقلا ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ولذلك يجوز ارتكاب الإناء الذي أمامه.

وأمّا توجيه عدم المنجّزيّة فقد قال المشهور في ذلك إنّ الركن الأوّل من أركان العلم الإجمالي مختلّ ، بمعنى أنّه لا يوجد علم بجامع التكليف على كلّ تقدير.

وتوضيحه : أنّ النجس المعلوم إجمالا إن كان هو الإناء الموجود فعلا عند المكلّف العالم بالإجمال فالتكليف ثابت وفعلي ، إلا أنّه إن كان في الإناء الآخر غير المقدور عليه فالتكليف وإن كان ثابتا فيه لكنّه ليس فعليّا ؛ لأنه يشترط في فعليّة التكليف أن يكون مقدورا عليه ، إذ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا.

فمع انتفاء القدرة ينتفي التكليف الفعلي ، وحينئذ يدور الأمر بين ثبوت التكليف الفعلي وبين عدم ثبوته ، أي إنّه ثابت على بعض التقادير لا على جميع التقادير ، ومن الواضح أنّ العلم الدائر بين ثبوت التكليف وعدم ثبوته لا يعتبر علما بجامع التكليف على كلّ حال وعلى جميع التقادير ، بل إمّا أن يوجد التكليف أو لا يوجد فهناك شبهة بدوية إذن ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة بلا مانع.

ومن هنا قالوا بأنّ التكليف الدائر بين المقدور وغير المقدور غير مقدور.

وكأنّ أصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن منه - على ما مرّ في الحالة الثانية - كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتا على كلّ تقدير.

ولعلّ الداعي الذي من أجله ذهب المشهور إلى هذا القول هو ما تقدّم سابقا في الحالة الثانية ، من أنّ أحد الطرفين إذا كان المكلّف مضطرّا إلى ارتكابه قبل العلم الإجمالي ثمّ علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الإناء الآخر غير المضطرّ إليه ، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الأوّل ؛ لأنّه دائر بين ثبوت التكليف الفعلي إذا كان النجس في الإناء غير المضطرّ إليه ، وبين عدم ثبوته إذا كان في الإناء المضطرّ

ص: 376

إليه ؛ لأنّ التكليف الفعلي يشترط فيه عدم الاضطرار ؛ لأنّه مع الاضطرار لا يكون قادرا على تركه.

فجعلوا مقامنا كالمقام السابق ، أي جعلوا الاضطرار إلى الترك وعدم القدرة على الارتكاب - كما هنا - كالاضطرار إلى الفعل والارتكاب - كما هناك - لأنّ كلاّ منهما يسلب قدرة المكلّف ، غاية الأمر أنّه هنا يكون مسلوب القدرة على الفعل بينما هناك يكون مسلوب القدرة على الترك ، إلا أنّهما معا يحقّقان مصداقا لعدم القدرة ، وحيث إنّ التكليف الفعلي شرطه القدرة فمع انتفائها ينتفي ، فيدور الأمر في الموردين بين ثبوت التكليف على أحد التقديرين وعدم ثبوته على التقدير الآخر ، ولذلك لا يكون علما بجامع التكليف على كلّ تقدير وفي جميع الحالات ، بل على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

والتحقيق : أنّ الاضطرارين يتّفقان في نقطة ويختلفان في أخرى :

فهما يتّفقان في عدم صحّة توجّه النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه ، كذلك لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علم إجمالي بالنهي في كلتا الحالتين.

والصحيح أنّ هذا التقريب غير تامّ للفارق بين مقامنا وبين المقام السابق من جهة رغم اتّفاقهما من جهة أخرى.

فالاضطرار إلى الارتكاب يشترك مع الاضطرار إلى الترك في جهة ويختلف معه من جهة أخرى.

أمّا الجهة التي يشتركان فيها فهي عدم صحّة توجّه النهي إلى كلا المضطرّين.

فالمضطرّ إلى شرب الإناء النجس المعيّن لا يصحّ توجيه النهي إليه وخطابه بالزجر عنه ؛ لأنّ المضطرّ لا تكليف بحقّه أي أنّ التكليف مرتفع عنه وساقط لا يصحّ توجّهه إليه ؛ لأنّه سوف يفعل لا محالة ، فزجره عنه لا فائدة منه لأنّه لن ينزجر تكوينا ، فلا يكون لخطاب النهي محرّكيّة أصلا.

وكذلك الحال في المضطرّ إلى ترك النجس ، فإنّه لا يصحّ زجره عن ارتكابه وخطابه بحرمة الارتكاب ؛ لأنّه سوف يتركه ويجتنبه تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على

ص: 377

ارتكابه وشربه ، فلا يكون للخطاب محرّكيّة أصلا ، بل يكون لغوا ؛ لأنّه خطاب بشيء حاصل ، وطلب تحصيل الحاصل لغو.

وهذا يعني أنّه لا يوجد للمكلّف المضطر إلى الفعل أو المضطرّ إلى الترك علم إجمالي بتوجّه النهي وخطاب الزجر إليه على جميع التقادير ، فيكون الخطاب ساقطا لا محالة ، ومع سقوطه لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف من جهة الخطاب والنهي.

فإذا لاحظنا هذه الجهة صحّ تقريب المشهور باختلال الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي في مقامنا ، إلا أنّه توجد جهة أخرى يمتاز فيها مقامنا عن المقام السابق ، وهذه الجهة تجعل العلم الإجمالي بجامع التكليف محفوظا حتّى مع سقوط الخطاب ، وهذه الجهة هي :

ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكّل حصّة من وجود الفعل مغايرة للحصّة التي تصدر من المكلّف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض أن الحصّة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضيّة فيها ، وإنّما المفسدة والمبغوضيّة في الحصّة الأخرى.

وأمّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكّل حصّة خاصّة من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير المقدور للمكلّف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وأنّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضيّة ؛ إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق المبغوض.

وأمّا الجهة التي يفترقان فيها فهي بلحاظ المبادئ.

وتوضيحه : أنّ الاضطرار إلى الفعل والارتكاب كما لا علم إجمالي بجامع التكليف فيه ، كذلك لا علم إجمالي بجامع الملاك والمبادئ فيه أيضا ؛ لأنّ كلّ خطاب فيه تكليف بالمدلول المطابقي وفيه مبادئ بالمدلول الالتزامي ، فالخطاب بالنهي يدلّ بالمطابقة على الحرمة والزجر ، ويدلّ بالالتزام على المفسدة والمبغوضيّة للفعل.

وعليه ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى تناول النجس فهنا كما ينتفي الخطاب من جهة مدلول المطابقي أي النهي والحرمة ، كذلك ينتفي الخطاب من جهة مدلوله الالتزامي أي المبغوضيّة والمفسدة.

ص: 378

فكما لا يصحّ أن يكون المضطرّ إلى الفعل مخاطبا بالنهي والحرمة ، كذلك لا يصحّ أن تكون مبادئ النهي والحرمة من المفسدة والمبغوضيّة ثابتة في المورد المضطرّ إليه ؛ وذلك لأنّ الاضطرار إلى الفعل يجعل الفعل ذا حصّتين إحداهما الحصّة المقدور على فعلها وتركها وهي الحصّة غير المضطرّ إليها ، والأخرى الحصّة غير المقدور على تركها وهي الحصّة المضطرّ إلى فعلها وارتكابها.

والخطاب كما يسقط عن الحصّة المضطرّ إليها بلحاظ مدلوله المطابقي أي النهي والحرمة ، فكذلك يحتمل ثبوتا أن يكون ساقطا عنها بلحاظ مبادئه من مفسدة ومبغوضيّة ، بأن لا يكون هناك مفسدة ومبغوضيّة أصلا في شرب النجس عند الاضطرار إليه ، فإنّ هذا الاحتمال ممكن ثبوتا.

وكما لا يسقط عن الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها بلحاظ النهي والحرمة ، فكذلك لا يسقط عنها بلحاظ مبادئ النهي والحرمة.

وحينئذ يدور الأمر بلحاظ عالم المبادئ والملاكات بين ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ثابتا في الحصّة الأخرى غير المضطرّ إليها ، وبين احتمال عدم ثبوت الملاكات والمبادئ فيما إذا كان الخطاب ساقطا في الحصّة المضطرّ إليها.

وهذا يعني أنّه يدور الأمر بين ثبوت المبادئ وبين احتمال عدم ثبوتها ، وحيث إنّ احتمال عدم ثبوت المبادئ مساوق للجزم والقطع بعدمها ، فيكون الأمر دائرا بين الوجود للمبادئ وبين عدم وجودها ، ومثل هذا لا يسمّى علما إجماليّا بجامع المبادئ ؛ لأنّ المبادئ ليست محفوظة على جميع التقادير ، بل يحتمل أن يقطع بعدمها على بعض التقادير.

ولذلك يكون الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ساقطا.

وأمّا الاضطرار إلى الترك وعدم الفعل والعجز عن الارتكاب فهو وإن كان يشترك مع السابق في عدم توجّه النهي والحرمة أي سقوط المدلول المطابقي ، إلا أنّ المدلول الالتزامي أي المفسدة والمبغوضيّة ليست ساقطة جزما ولا يحتمل سقوطها أصلا.

والوجه في ذلك أنّ الاضطرار إلى الترك لا يجعل الفعل ذا حصّتين ، حصّة مضطرّ إلى تركها وحصة غير مضطرّ إلى تركها ، بل هناك حصّة واحدة من الفعل على كلا التقديرين ، وهي أنّ هذا الإناء لو كان تحت تصرّفه لكان قادرا ومختارا وغير مضطرّ

ص: 379

إلى شيء من الترك أو الفعل فيه ، ولذلك فالإناء الموجود أمامه فيه مبادئ النهي والحرمة من مفسدة ومبغوضيّة فيما لو فعل وارتكب ، وكذلك الإناء الآخر البعيد عنه والذي لا يتمكّن من الوصول إليه ، فإنّه واجد لمبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه - ولو محالا - فهو مبغوض وفي ارتكابه مفسدة.

ولذلك كما يعلم المكلّف بوجود مبادئ المفسدة والمبغوضيّة في الإناء الموجود أمامه ، فكذلك يعلم بوجودها في الإناء الآخر ، وهذا يعني العلم بجامع المبادئ والملاكات ، فالركن الأوّل محفوظ وليس مختلاّ.

فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ، ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكان بعيد عنه؟!

فأكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من المضطرّ بدون مفسدة ولا مبغوضيّة ، وأمّا أكل لحم الخنزير البعيد عن المكلّف فهو واجد للمفسدة والمبغوضيّة لا محالة ، وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا يساوق الفساد ، بل لأنّه لا يمكن أن يقع.

وعلى أساس الجهة التي يفترقان فيها يمكننا أن نصل إلى النتيجة التالية وهي :

أنّ لحم الخنزير مثلا إذا اضطر لأكله يختلف عن لحم الخنزير المضطرّ إلى عدم أكله لبعده ؛ وذلك لأنّ الأوّل قد لا يكون فيه شيء من مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة لما ذكرناه من أنّ الاضطرار إلى الفعل يحصّص الفعل إلى حصّتين حصّة واجدة للمبادئ وللنهي ، وحصّة فاقدة للنهي ويحتمل أن تكون فاقدة للمبادئ أيضا.

بينما الثاني لا تزال فيه مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة محفوظة وإن سقط الخطاب بالنهي والزجر فيه ؛ لأنّ ترك أكل لحم الخنزير بسبب بعده لا يعني أنّه قد زالت عنه مبادئ الحرمة وصار فيه مصلحة ، أو أنّه صار مباحا للمكلّف ، بل هو على مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولذلك لو قدّر له الوصول إليه - ولو محالا - فهو مبغوض.

وأمّا سقوط الخطاب بالنهي والزجر عنه فهو ليس لأجل أنّه صار حلالا أو مباحا ، بل لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يأكله ، أي أنّ سقوط النهي كان من أجل أنّ المفسدة لا تقع من المكلّف ؛ لأنّه غير قادر على أكله ، لا لأنّ المفسدة زالت عنه وأنّه لا بغض ولا فساد فيه.

ص: 380

ونستخلص من ذلك : أنّ مبادئ النهي يمكن أن تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل ، ولكن لا يمكن أن تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل.

وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي - كما في الحالة الثانية المتقدّمة - يمكن القول بأنّه لا علم إجمالي بالتكليف ، لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه.

وأمّا في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي - كما في المقام - فالنهي وإن لم يكن ثابتا على كلّ تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كلّ حال ، فالركن الأوّل ثابت ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة يمكن أن تكون مقيّدة وجودا وعدما بالاضطرار إلى الفعل وعدمه ، فمع الاضطرار إلى الفعل لا مبادئ ، ومع عدم الاضطرار توجد المبادئ.

بينما هذه المبادئ لا يمكن أن تكون مقيّدة بعدم العجز عن الفعل أو بالاضطرار إلى الترك ، إذ لا يمكن أن يقال إنّه مع الاضطرار إلى الترك لا مبادئ وإنّما المبادئ في صورة إمكان الترك فقط.

والوجه فيه ما ذكرناه من احتمال سقوط المبادئ عند الاضطرار إلى الفعل ، ومن بقاء المبادئ جزما عند الاضطرار إلى الترك ؛ لأنّ المفسدة والمبغوضيّة محفوظة حتّى في الطرف البعيد.

وعلى هذا اتّضح بطلان تقريب المشهور وقياس مقامنا على المقام السابق ، ببيان أنّه في المقام السابق أي الاضطرار إلى الفعل كما لا يتشكّل العلم الإجمالي بالتكليف ، كذلك لا يتشكّل العلم الإجمالي بالمبادئ ، فكما أنّه لا يعلم بالتكليف على كلّ تقدير فكذلك لا يعلم بالمبادئ على كلّ تقدير ؛ لأنّ التكليف ساقط على بعض التقادير ، والمبادئ يحتمل سقوطها على بعض التقادير أيضا ، واحتمال سقوطها كالقطع بذلك.

بينما في مقامنا هذا أي الاضطرار إلى الترك وإن كان لا يتشكّل علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّه ساقط على بعض التقادير ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي يتشكّل بجامع المبادئ ؛ لأنّها محفوظة على جميع التقادير.

ص: 381

والعلم الإجمالي كما يكون منجّزا بلحاظ العلم بالتكليف ، كذلك يكون منجّزا بلحاظ العلم بالمبادئ وإن كان التكليف ساقطا ؛ لأنّ الأساس هو المبادئ لا مجرّد الخطاب والنهي والزجر ، إذ هذه ليست إلا مجرّد كاشف عن المبادئ ، فالمنجّزيّة تابعة لوصول المبادئ ، غاية الأمر أنّ هذه المبادئ تارة تصل بنفسها بأن اطّلع المكلّف على ما في نفس المولى ، وأخرى تصل عن طريق إبراز خطاب يكشف عنها كما هو الغالب ، إلا أنّ غالبيّة هذا القسم لا يعني انتفاء القسم الآخر وعدم منجّزيّته.

وبهذا نصل إلى أنّ الركن الأوّل محفوظ في مقامنا.

ويجب أن يفسّر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى حيث إنّ الأصل المؤمّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور ؛ لأنّ إطلاق العنان تشريعا في مورد تقيّد العنان تكوينا لا محصّل له. وإمّا بصيغته الثانية حيث إنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا ، والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في العهدة.

والتقريب الصحيح لعدم منجّزيّة العلم الإجمالي في المقام أن يقال : إنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة سواء بصياغة المشهور أم بصياغة المحقّق العراقي ساقط ومنهدم.

أمّا بناء على صياغة المشهور للركن الثالث من لزوم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فهذا الركن غير تامّ ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء الخارج عن قدرة المكلّف لبعده ، وعدم تمكّنه من الوصول إليه ؛ إذ لا فائدة من جريان الأصل فيه ولا أثر له ؛ لأنّ الأصل الترخيصي عبارة عن إطلاق العنان وجعل المكلّف طليقا غير مقيّد ، وهذا المعنى حاصل بلا حاجة إلى الأصل ؛ لأنّ المكلّف لمّا لم يتمكّن من الوصول إليه فهو طليق من ناحيته ، فيكون جريان الأصل لغوا وتحصيلا للحاصل.

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ المكلّف أمام الإناء غير المقدور مقيّد تكوينا ، بمعنى أنّه غير متمكّن من ارتكابه فعلا ، فلا معنى لتوجيه الخطاب إليه شرعا بأنّه ( يجوز لك تركه ) ، فتجري البراءة في الإناء الموجود بلا محذور.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي لهذا الركن من كون الأطراف غير منجّزة

ص: 382

بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، فهذا الركن أيضا منهدم ؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز الإناء غير المقدور على ارتكابه ، إذ معنى المنجّزيّة إدخال الشيء في عهدة المكلّف واشتغال ذمّته به وكونه مسئولا ومطالبا به ، وهذا المعنى لا يمكن تحقّقه هنا ؛ لأنّه لا يمكن دخول الإناء غير المقدور على ارتكابه في الذمّة والعهدة ؛ لأنّه لا يمكن توجيه خطاب شرعي للمكلّف به كما تقدّم ، ومع عدم الخطاب الشرعي لا تكون الذمّة مشتغلة.

وعليه ، فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ، لأنّه على تقدير ثبوته في الإناء غير المقدور على ارتكابه لا تكليف. نعم ، على تقدير ثبوته في الإناء الموجود أمامه يوجد تكليف ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوته فيكون المورد مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة بلا محذور.

بل يمكن القول هنا بناء على مسلك العلّيّة أنّ الركن الأوّل منهدم أيضا ؛ لأنّ العلم بجامع التكليف هو العلم بما يكون دخيلا في العهدة والذمّة ، وحيث إنّ الإناء غير المقدور عليه لا يمكن دخوله في الذمّة والعهدة ، فلا تكليف فيه ، إذن فلا يكون هنالك علم بجامع التكليف ، فيختلّ الركن الأوّل ويبطل العلم الإجمالي من أساسه ، أي أنّه ينحلّ حقيقة لا حكما فقط.

هذا كلّه فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور.

وأمّا إذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء ، فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا إلى أنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علم إجمالي بالتكليف في الحالة المذكورة ، فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف وخروجه عن محلّ الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم الإجمالي بملاك واحد عندهم.

الصورة الثانية : الخروج عن محلّ الابتلاء ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر عند السلطان ، فهنا أيضا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، وأمّا الوجه في ذلك : فقد ذهب المشهور إلى أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة كالصورة السابقة بسبب اختلال الركن الأوّل ، أي أنّه لا يعلم بجامع التكليف على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّهم يجعلون الدخول في محلّ الابتلاء شرطا في

ص: 383

التكليف ، فالتكليف مقيّد بكون متعلّقه داخلا في محلّ الابتلاء ، فمع خروجه عن محلّ الابتلاء يسقط التكليف ، فإذا سقط التكليف بلحاظ هذا الطرف يكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه شكّ بدوي في التكليف.

فكما يقال في الحالة السابقة بأنّ الاضطرار إلى الفعل والاضطرار إلى الترك وعدم الارتكاب شرطان في التكليف ؛ لاشتراكهما بعنوان غير المقدور والعجز العقلي ، فكذلك يقال في الخروج عن محلّ الابتلاء فإنّه عجز عرفي وغير مقدور عقلائيّا.

فظهر بهذا أنّ هذه العناوين كلّها تمنع من تحقّق أصل العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا علم بالتكليف على كلّ تقدير فيها ، بسبب أنّها مسقطة للتكليف في متعلّقها.

وقد عرفت أنّ التقريب المذكور غير صحيح في العجز العقلي ، فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء أوضح.

بل الصحيح أنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف بمعنى الزجر ، فضلا عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه معقول.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور غير تامّ ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ العجز العقلي عن ارتكاب أحد الطرفين لا يوجب سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ ، وإن كان يوجب سقوط التكليف خطابا ، فعدم سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ هنا أوضح ؛ لأنّ العجز هنا ليس عقليّا ، بل هو عجز عرفي ، أي أنّ الوصول غير مألوف فقط ، وإلا فالمكلّف قادر على الوصول إلى الطرف عقلا وتكوينا.

بل العلم بجامع التكليف بمعنى الخطاب بالزجر والنهي ممكن هنا أيضا ؛ لأنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف ، إذ الشرط هو القدرة على صدور الفعل من المكلّف القادر عقلا والمختار غير المضطرّ ، وفي مقامنا هذا المكلّف قادر عقلا ومختار على صدور الفعل منه فيكون مخاطبا بالتكليف خطابا وملاكا ، فالركن الأوّل محفوظ.

فإن قيل : ما فائدة هذا الزجر مع أنّ عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته؟

كان الجواب : أنّه يكفي فائدة للزجر تمكين المكلّف من التعبّد بتركه.

ص: 384

قد يشكل على ما ذكرناه من صحّة توجيه الخطاب بالزجر والنهي فضلا عن ثبوت المبادئ من مفسدة ومبغوضيّة ، بأنّ مثل هذا الخطاب لغو وتحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود من النهي والزجر إبعاد المكلّف عن الارتكاب وهذا واقع منه لا محالة ؛ لأنّه خارج عن محلّ ابتلائه ولن يتمكّن من الوصول إليه عرفا ، فيكون الخطاب مستهجنا عرفا.

والجواب على ذلك : أنّ فائدة النهي والزجر ليست محصورة في إبعاد المكلّف عن الارتكاب والفعل مطلقا ولو بأي داع ، بل إبعاده عن ذلك بقصد التوصّل إلى الطاعة والقرب من اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّ الغاية النهائيّة من أفعال وتروك المكلّفين هي كونها موصلة لهم لله عزّ وجلّ ، وهذا يشترط فيه قصد القربة والإطاعة وامتثال الأمر والنهي.

وهنا يمكن للمكلّف بعد صدور خطاب النهي أنّه ينوي القربة لله عزّ وجلّ بالترك وعدم الارتكاب ، سواء كان في مقدوره عرفا الوصول إليه وارتكابه أم كان بعيدا عنه ولا يتمكّن عرفا من ارتكابه.

وبتعبير آخر : يكون الخروج عن محلّ الابتلاء محقّقا لأحد جزأي الفائدة والمقصود والغاية من الخطاب ، وليس محقّقا لتمام المقصود ، أي أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يحقّق الترك ، وأمّا الجزء الآخر وهو قصد القربة فلم يكن محقّقا به ، وإنّما يتحقّق بعد صدور الخطاب بالنهي عن الفعل والارتكاب ؛ لأنّه بهذا الخطاب سوف يعلم بأنّ الترك وعدم الارتكاب مطلوب للمولى عزّ وجلّ.

فالأفضل أن يفسّر عدم تنجيز العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن الثالث ؛ لأنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ؛ لأنّ الأصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة ، والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن محلّ الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي ، فالأصل المؤمّن في الطرف الآخر يجري بلا معارض.

والصحيح في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أن يقال : إنّ الركن الثالث

ص: 385

منهدم ؛ وذلك لأنّ الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء تجري بلا معارض ؛ لأنّها لا تجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، والوجه في ذلك هو : أنّ الأصل الترخيصي كالبراءة ونحوها حكم ظاهري مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات اللزوميّة والترخيصيّة ، وهذا يعني أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بين الملاكات فلا مورد للأصل.

وعليه ، فالطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ليس مشمولا لدليل الأصل رأسا ؛ لأنّه لن يحصل هناك تزاحم حفظي بين الطرف الداخل في محلّ الابتلاء والطرف الخارج عن محلّ الابتلاء.

وأمّا كيف لا يحصل التزاحم الحفظي بينهما؟ فهذا مرجعه إلى نظر العرف والعقلاء ، أي أنّ تشخيص المورد راجع إلى العرف ، فالعقلاء إذا رأوا وجود تزاحم حفظي أجروا الأصل وإذا لم يروا هذا التزاحم موجودا فلا يجرون الأصل.

وفي مقامنا لا يرى العقلاء أنّ هناك تزاحما حفظيّا بين ملاكات اللزوم والترخيص فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه كذلك يعني ضمان الحفاظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا فيه ، فلا يبقى إلا الغرض الترخيصي المعلوم وجوده ، وهذا ما يضمنه الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، ولذلك يجمع بين الغرضين اللزومي والترخيصي.

أمّا اللزومي ففي الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، وأمّا الترخيصي ففي الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، وهذا يعني جريان الأصل الترخيصي في الطرف الموجود أمامه وعدم جريانه في الطرف الآخر الخارج عن محلّ ابتلائه.

وبتعبير آخر : إنّ جريان الأصول الترخيصيّة مشروطة بدخول الطرف في محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه عن محلّ الابتلاء يعني أنّ الملاكات المحتمل وجودها فيه لن تزاحم الملاكات المحتمل وجودها في الطرف الموجود في محلّ الابتلاء.

وأمّا تقديم ملاكات الإلزام على ملاكات الترخيص في موارد العلم الإجمالي ، فهذا فيما إذا كان التزاحم الحفظي بين النحوين من الملاكات يقتضي الحفاظ عليه تفويت الآخر والوقوع في مخالفة الواقع قطعا ، ففي هذه الحالة قلنا : إنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات الإلزام أو تقديم ملاكات الترخيص ؛ لأنّ تقديم أي منهما

ص: 386

سوف يفوّت الآخر حتما ، إلا أنّ العقلاء لا يرون وصول أهمّيّة ملاكات الترخيص إلى هذا المستوى.

بينما يرى العرف أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بهذه المرتبة ، بل كان من الممكن الجمع بين النحوين من الملاكات من دون محذور ، فإنّه حينئذ لن يرى مانعا من الجمع بينهما وعدم تقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّ تقديم أحدهما على الآخر فيه تفويت للآخر ومخالفته القطعيّة ، بينما الجمع بينهما فيه احتمال المخالفة فقط.

ولذلك إذا كان أحدهما خارجا عن محلّ الابتلاء فلا يرى العرف محذورا في جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء حفاظا على ملاكات الترخيص احتمالا ، حيث إنّ ملاكات الإلزام سوف يكون محافظا عليها احتمالا أيضا ، وذلك في الطرف الآخر الخارج ؛ لأنّه متروك ، فيكون المكلّف قد ضمن الحفاظ على النحوين من الملاكات ، إمّا قطعا وإمّا احتمالا ولكنّه لم يفوّت أحدهما قطعا ، ولم يرتكب المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ التزاحم لم يكن بهذه المرتبة.

9 - العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي تكليفا فعليّا والطرف الآخر تكليفا منوطا بزمان متأخّر سمّي هذا العلم بالعلم الإجمالي بالتدريجيّات.

ومثاله : علم المرأة إجمالا - إذا ضاعت عليها أيّام العادة - بحرمة المكث في المسجد في بعض الأيّام من الشهر.

وقد استشكل بعض (1) الأصوليّين في تنجيز هذا العلم الإجمالي ، ويستفاد من كلماتهم إمكان تقريب الاستشكال بوجهين :

الحالة التاسعة : العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

والمقصود بالبحث هنا أن يكون أحد الطرفين فعليّا من حيث الزمان ، والطرف الآخر استقبالي من حيث الزمان بلحاظ نفس الخطاب وبلحاظ المبادئ أيضا ، بمعنى أنّه يدور الأمر بين تكليف في الآن الفعلي أو تكليف سوف يحدث في الآن الاستقبالي أي بعد انقضاء الآن الفعلي ، وهذا يعني عدم إمكان اجتماع الطرفين.

ص: 387


1- منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 2 : 248 - 249.

مثاله : المرأة التي ضاعت عليها أيّام عادتها ، فإنّها تعلم إجمالا بحرمة المكث في المسجد في بعض أيّام الشهر إجمالا ، إلا أنّ هذه الأيّام يمكن أن تكون هذه الأيّام الآن أو الأيّام الآتية ، فهي تعلم بتكليف إمّا الآن فعلا وإمّا في المستقبل.

أي أنّه على تقدير كون الأيّام هي هذه الأيام فالحرمة فعليّة ، وأمّا على تقدير كونها الأيّام الآتية فالحرمة ليست فعليّة الآن ، ولكنّها سوف تكون فعليّة في المستقبل الآتي ، هذا مع فرض كون الدم يسيل منها أثناء الشهر ، وكون عادتها بالعدد.

والسؤال هنا : هل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أم لا؟

أمّا المشهور فقد استشكل في منجّزيّة مثل هذا العلم الإجمالي بإشكالين :

الأوّل : أنّ الركن الأوّل مختلّ ؛ لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجمالي لها بالتكليف الفعلي ؛ لأنّها إمّا حائض فعلا فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضا في منتصف الشهر مثلا فلا تكليف فعلا ، فلا علم بالتكليف فعلا على كلّ تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأوّل.

الإشكال الأوّل : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بجامع التكليف ، أو العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير غير موجود في مثل المقام ؛ وذلك لأنّ المرأة المذكورة في المثال إذا التفتت إلى حالها في أوّل الشهر فهي لا تعلم إجمالا بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّها إن كانت حائضا الآن فالتكليف فعلي بشأنها ، ويحرم عليها المكث في المسجد من الآن ، وإن لم تكن حائضا الآن فلا تكليف عليها ولا حرمة ، بل الحرمة سوف تحدث فيما بعد أي في الأيّام اللاحقة ، وحيث إنّه في كلّ يوم من أيّام الشهر سوف يجري هذا الكلام في حقّها فهي لن تعلم بالحرمة وبالتكليف إلا بعد انتهاء الشهر ، ومثل هذا العلم غير منجّز.

والحاصل : أنّه في بداية الشهر لن يتكوّن لها علم إجمالي بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ، وإنّما على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

الثاني : أنّ الركن الثالث مختلّ ، أمّا اختلاله بصيغته الأولى فتقريبه : أنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلا ، وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر

ص: 388

مثلا ، ولمّا كانت الحرمة الأولى محتملة فعلا ومشكوكة فهي مورد للأصل المؤمّن ، وأمّا الحرمة الثانية فهي وإن كانت مشكوكة ولكنّها ليست موردا للأصل المؤمّن فعلا في بداية الشهر ، إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في أوّل الشهر ، وإنّما يحتمل وجودها في منتصفه فلا تقع موردا للأصل المؤمّن إلا في منتصف الشهر ، وهذا يعني أنّ المرأة في بداية الشهر تجد الأصل المؤمّن عن حرمة المكث فعلا جاريا بلا معارض ، وهو معنى عدم التنجيز.

وأمّا اختلاله بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخّرة لا تصلح أن تكون منجّزة في بداية الشهر ؛ لأنّ تنجيز كلّ تكليف فرع ثبوته وفعليّته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير.

الإشكال الثاني : أنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة منهدم بكلتا صيغتيه :

أمّا انهدامه بحسب صياغة المشهور فلأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في الطرف الآتي دون الطرف الاستقبالي ؛ وذلك لأنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل ثبوت التكليف الآن إذا كانت حائض ، ولكنّها لا تعلم بثبوته فعلا بل هو مشكوك ، ولذلك تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، وهذه الأصول لا معارض لها ؛ لأنّ ما يتصوّر كونه معارضا لها هو الأصول الترخيصيّة في الطرف الاستقبالي أي في الأيّام القادمة ، إلا أنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري من الآن في ذلك الطرف ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة غايتها والمقصود منها إثبات التأمين والسعة ، والآن لا يوجد شكّ في الحرمة الآتية بل هي مقطوعة العدم الآن ، فلا مورد لجريان الأصول من الآن إذ لا موضوع لها ولا أثر لجريانها ؛ لأنّها تثبت شيئا حاصلا.

نعم ، عند حلول الطرف الآخر سوف تحتمل المرأة ثبوت الحرمة فعلا ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة ، ولا معارض لهذه الأصول في طرف جريانها ؛ لأنّ الطرف الذي قبلها قد انتهى وسقطت معه الأصول الترخيصيّة ، والطرف الآخر لم يأت زمانه بعد فلا حرمة فيه الآن لتجري الأصول الترخيصيّة فيها من الآن وإنّما موردها منوط في ظرف ثبوت التكليف.

والحاصل : أنّ هذه المرأة في بداية الشهر يمكن في حقّها جريان الأصول الترخيصيّة بلحاظ الطرف الأوّل ، أي احتمال الحرمة في هذا اليوم فعلا ، وأمّا بلحاظ الطرف

ص: 389

الآخر أي الحرمة في الأيّام اللاحقة فلا يمكن جريان الأصول الترخيصيّة فيها ؛ لأنّه لا مورد ولا موضوع للأصل بلحاظها ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري بلحاظ التأمين عن حرمة محتملة الثبوت ، والآن فعلا لا يحتمل ثبوت الحرمة اللاحقة وإنّما يحتمل ثبوتها فيما بعد ، ولذلك تجري الأصول في هذا الطرف بلا معارض ، وهكذا تفعل في كلّ يوم من أيّام الشهر ، فتكون النتيجة عدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي.

وأمّا انهدامه بحسب صياغة المحقّق العراقي ، فلأنّ العلم الإجمالي لا يصلح لتنجيز معلومه فعلا على كلّ تقدير.

والوجه في ذلك : أنّه في بداية الشهر يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف فهذا طرف ، وفي غيره من الأيّام يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف وهذا طرف آخر ، وعليه فالمرأة من أوّل الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف في هذا الطرف أي في بداية الشهر ، وإمّا بثبوته في الطرف الآخر أي في آخر الشهر أو وسطه مثلا.

ولكن إذا كان المعلوم في الطرف الأوّل فهو منجّز فعلا فيكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير ، وأمّا إذا كان المعلوم في الطرف الآخر فهو غير منجّز فعلا فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير.

وعليه ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين تكليفين أحدهما ثابت فعلا والآخر غير ثابت فعلا ، ولذلك لا يكون منجّزا لمعلومه فعلا على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ، أي على تقدير كون المعلوم في بداية الشهر لا في وسطه أو آخره ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يكون صالحا لتنجيزه فعلا ؛ لأنّ ثبوت التكليف فرع فعليّته ، والتكليف ليس فعليّا الآن لو كان المعلوم ثابتا في آخر الشهر أو وسطه ؛ لأنّ الفعليّة فرع تحقّق القيود والشروط ومنها مجيء الزمان فإنّه قيد.

ولذلك سوف تجري الأصول في بداية الشهر بلا محذور ، وهكذا في كلّ يوم من أيّام الشهر.

والصحيح : أنّ الركن الأوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام.

أمّا الركن الأوّل فلأنّ المقصود بالفعليّة في قولنا : ( العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ) ليس وجود التكليف في هذا الآن ، بل وجوده فعلا في عمود الزمان ؛ احترازا عمّا إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فإنّه في مثل

ص: 390

ذلك لا علم بتكليف فعليّ ولو في عمود الزمان ، فالجامع بين تكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليّا في آن متأخّر لا يقصر - عقلا - وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن ؛ لأنّ مولويّة المولى لا تختصّ بهذا الآن كما هو واضح.

والصحيح أنّ هذا العلم الإجمالي منجّز لتماميّة أركانه وعدم اختلال شيء منها لا الأوّل ولا الثالث.

أمّا الركن الأوّل فهو موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ المقصود من الركن الأوّل أي العلم بجامع التكليف الفعلي هو أن يكون هناك تكليف معلوم إجمالا في عمود الزمان ، لا في خصوص هذا الآن من الزمان ليشكل بأنّه في هذا الآن لا علم بالتكليف على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير.

بل المقصود أن يكون هناك تكليف معلوم أو موضوع بتمامه معلوم كذلك ، في مقابل ما إذا لم يكن التكليف معلوما ، وفي مقابل ما إذا كان المعلوم جزء الموضوع لا تمامه ، فإنّه في هذه الحالة لن يكون هناك علم إجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ العلم بجزء الموضوع لا يكفي لثبوت التكليف ما دام الجزء الآخر من موضوعه مجهولا وغير معلوم.

فإذا علم بنجاسة الثوب أو قطعة الحديد فلا علم تكليفي فعلي على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير نجاسة الحديدة فلا تكليف فعلا ؛ لأنّها جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو ملاقاة اليد الرطبة لهذه الحديدة.

وأمّا في مقامنا فالتكليف فعلي ، بمعنى أنّ المعلوم إجمالا هو تمام الموضوع للتكليف لا جزؤه فقط ، فالمرأة التي يسيل منها الدم هي نفسها الموجودة في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، وهذا الدم هو نفسه مستمرّ من بداية الشهر إلى آخره ، غاية الأمر أنّها تعلم بكون بعض هذا الدم حيضا لا كلّه ، إلا أنّ هذه الأيّام غير مشخّصة فقط ، ولذلك فالتكليف بحرمة المكث في المسجد واحدة في جميع أيّام الشهر ، بمعنى أنّ كلّ يوم يحتمل فيه ثبوت التكليف والحرمة فعلا لكون المعلوم تمام الموضوع لا جزأه ، فالفعليّة بهذا المعنى متحقّقة في مقامنا ، وهي المقصودة من الركن الأوّل لا أكثر.

وعليه ، فكما أنّ العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في الآن الواحد من الزمان

ص: 391

منجّز ، فكذلك العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في هذا الآن أو في الآن اللاحق منجّز أيضا ، ولا فرق بينهما عقلا في المنجّزيّة ؛ لأنّ العلم فيهما على حدّ واحد ، ووصوله فيهما على نسق واحد أيضا.

إذن الملاك الذي من أجله كان العلم الإجمالي منجّزا موجود فيهما أيضا وهو حقّ الطاعة ، فإنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ تكليف وكلّ انكشاف للتكليف سواء كان في هذا الآن أم في الآن الآخر ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة ومولويّة المولى لا تختصّ بالتكليف في هذا الآن ، بل تشمل التكليف الثابت في الآن الآتي أيضا ، إذ لا دليل على هذا الاختصاص بعد أن كان حقّ الطاعة عامّا وشاملا لكلّ احتمال وانكشاف للتكليف.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل تامّ ؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بجامع التكليف الفعلي الدائر بين هذا الآن أو الآن اللاحق ، فهو فعلي على كلّ التقديرين ؛ لأنّ تمام القيود والشروط وأجزاء الموضوع تامة في التقديرين ، غاية الأمر الفرق بينهما من جهة الزمان فقط ، فأحدهما متقدّم والآخر متأخّر ، وهذا لا يؤثّر في الفعليّة بلحاظ عمود الزمان ككلّ واحد.

وأمّا الركن الثالث بصيغته الأولى فلأنّ الأصل المؤمّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخّر في ظرفه ؛ إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضادّ بين لونين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا ، وحيث لا مرجّح للأخذ بدليل الأصل في طرف دون طرف فيتعارض الأصلان.

وأمّا الصيغة الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الإجمالي صالحا لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير ، كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن.

وأمّا الركن الثالث فهو محفوظ أيضا بكلتا صيغتيه :

أمّا بناء على صياغة المشهور ، فلأنّ الأصل الترخيصي يجري في كلّ الأطراف الآنيّة والاستقباليّة على حدّ واحد ، وجريانه كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة

ص: 392

القطعيّة للمعلوم إجمالا ، ولذلك يقع التعارض بين الأصول لعدم إمكان الأخذ بها جميعا ، ولعدم إمكان ترجيح بعضها على بعض من دون مرجّح.

وما قيل من أنّ الأصل الترخيصي الجاري في الطرف الفعلي لا يعارض الأصل الترخيصي في الطرف الآخر - لأنّه ليس فعليّا الآن في ظرف جريان الأصل الأوّل - غير تامّ ؛ لأنّه مبني على ملاحظة التعارض بين الأصلين بلحاظ نفس الآن الزماني ، مع أنّ التعارض بين الأصلين لا يقصد به ذلك.

بل المراد من التعارض بين الأصلين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، وهذا مصطلح للتعارض في باب الأصول يختلف عن مصطلح التعارض في باب المنطق والفلسفة ، فهناك يراد بالتعارض أنّه لا يمكن اجتماع شيئين على موضوع واحد من جهة واحدة في زمان واحد كالسواد والبياض ، والعلم والجهل ، والموت والحياة ، ولذلك يشترط ملاحظة الآن الزماني وكونه واحدا ليحصل التعارض.

وأمّا هنا فالمراد من التعارض بين الأصلين العمليّين الترخيصيّين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ، ولا يمكن للدليل أن يشمل كلا الموردين معا ، سواء كانا في زمان واحد أم كان أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ؛ لأنّ عدم الإمكان واستحالة شمول الدليل لهما لا يفرّق فيها بين أنحاء وجودهما وزمانهما.

فإذا كان دليل البراءة مثلا غير شامل للطرف الآني والطرف الاستقبالي لاستلزامه المخالفة القطعيّة ، فلا يضرّ في ذلك كون أحدهما فعليّا والآخر منوطا بزمان مستقبل ؛ لأنّ الملاك موجود على كلّ تقدير.

وحينئذ لا يشترط وحدة الآن الزماني في الأصلين ، بل المناط على أنّه هل يشملهما الدليل أم لا؟ والمفروض أنّ شموله لهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، فلا يشملهما إذن.

وعليه ، فيجري الأصل في هذا الطرف الآني الفعلي ، ويتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الاستقبالي والذي يكون فعليّا بمجيء زمانه ، ومقتضى التعارض التساقط ، فيكون العلم منجّزا للطرفين.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي فلأنّ المقصود من الركن الثالث عنده - والذي

ص: 393

مفاده أن يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير - هو أن يكون العلم قادرا على تنجيز المعلوم في الطرفين بلحاظ عمود الزمان ، ولا يشترط أن يكون منجّزا لمعلومه في الطرفين بلحاظ نفس الآن الزماني.

وعليه ، ففي مقامنا يكون العلم الإجمالي بوجود أيّام حيض ضمن أيّام الشهر صالحا لتنجيز الأيّام في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، كلّ طرف منها بحسب خصوصيّاته الزمانيّة ، فهو ينجّز الجميع من الآن ، غاية الأمر أنّ هذا الطرف زمانه الآن وذاك زمانه وسط الشهر والآخر زمانه آخر الشهر ، فالزمان ليس قيدا لمنجّزيّة العلم بل هو شرط لفعليّة المنجّز ، وهذا يفترض كون الشيء منجّزا قبل مجيء زمانه ، ومنجّزه هنا ليس إلا العلم الإجمالي.

والحاصل : أنّه على تقدير كون الأيّام الأولى هي الحيض فالحرمة ثابتة ، وعلى تقدير كون الأيّام في الوسط أو في الآخر هي الحيض فالتكليف ثابت ، فالعلم الإجمالي بوجود أيّام حيض صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير فيجب الاجتناب عن الجميع.

وهكذا يتّضح أنّ الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات موهونة جدّا ، غير أنّ جماعة من الأصوليّين وقعوا تحت تأثيرها ، فذهب بعضهم (1) إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام الطرف الآخر متأخّرا.

وبهذا ظهر أنّ الإشكالين المذكورين لمنع منجّزيّة العلم الإجمالي وسقوطه رأسا أو عن المنجّزيّة لا يتمّ شيء منهما ، فالصحيح أنّ العلم الإجمالي في التدريجيّات منجّز للطرف الآني الفعلي وللاستقبالي المتأخّر زمانا.

إلا أنّ بعض الأصوليين تأثّروا بهذه الشبهات والإشكالات ، ممّا أدّى بهم الأمر إلى إنكار وجود علم إجمالي أصلا أو إلى سقوطه عن المنجّزيّة ، وبالتالي جوّزوا ارتكاب الطرفين الفعلي الآني والطرف الآخر حين حلول زمانه ، وهذا ما حصل للشيخ الأنصاري مثلا في خصوص المقام ، وكذلك صاحب ( الكفاية ) الذي ذهب إلى عدم المنجّزيّة مطلقا لا في خصوص المرأة الحائض.

ص: 394


1- منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 2 : 248 - 249.

وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص بإبراز علم إجمالي بالجامع بين طرفين فعليّين ، كالمحقّق العراقي (1) ، إذ أجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف.

وتوضيحه : أنّ التكليف إذا كان في القطعة الزمانيّة المعاصرة فهو تكليف فعلي ، وإذا كان في قطعة زمانيّة متأخّرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي ؛ لما يعرف من مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة من عدم جواز تضييع الإنسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ، وهكذا يعلم إجمالا بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي ذهب إلى التنجيز في المقام من باب آخر ، أي أنّه اعترف بأنّ نفس هذا العلم الإجمالي الدائر بين طرفين أحدهما فعلي والآخر استقبالي لا يكون منجّزا ؛ لما تقدّم من الإشكالين.

إلا أنّه أبرز هنا وجود علم إجمالي آخر دائر بين طرفين يكون التكليف فيهما فعليّا ، ويكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه فيه على كلا التقديرين.

وحاصله أن يقال : إنّ المرأة المذكورة في المثال في بداية الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف فعلا ؛ بأن كانت هذه الأيّام هي أيّام العادة ، وإمّا بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الثابت في الأيّام الأخرى على تقدير كون أيّام العادة في تلك الأيّام لا هذه ، ووجوب حفظ القدرة وجوب نفسي فعلي ، فيكون العلم دائرا بين تكليفين فعليّين أحدهما حرمة المكث في المسجد فعلا على تقدير كون هذه الأيّام هي أيّام الحيض ، والآخر وجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي على تقدير كون الأيّام الآتية هي أيّام العادة ، وهذا العلم منجّز إذ العلم بجامع التكليف موجود ، وهذا العلم قادر على تنجيز معلومه على كلّ تقدير.

وهذا مبني على المبنى القائل بوجوب المقدّمة المفوّتة ولزوم حفظ القدرة وعدم التعجيز إلى حين مجيء زمان الواجب ، كالسفر للوقوف في عرفة ، وكالاغتسال من الجنابة قبل الفجر لصحّة الصوم.

ص: 395


1- نهاية الأفكار 3 : 324 - 325.

ونلاحظ على هذا :

أوّلا : أنّ التنجيز ليس بحاجة إلى إبراز هذا العلم الإجمالي ؛ لما عرفت من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات.

ويلاحظ على هذا التقريب ثلاثة أمور :

الأوّل : أنّ هذا العلم الإجمالي لا حاجة له مع كون العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي منجّزا للطرفين لتماميّة أركانه الأربعة ، وعدم صحّة شيء من الإشكالات الواردة عليه كما تقدّم سابقا ، فيكون هذا العلم منجّزا لما هو منجّز وتحصيلا للحاصل.

هذا على فرض التسليم بوجود مثل هذا العلم الإجمالي وعلى فرض كونه منجّزا لأطرافه.

وثانيا : أنّ وجوب حفظ القدرة إنّما هو بحكم العقل كما تقدّم في مباحث المقدّمة المفوّتة ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجّز ذلك التكليف ، فلا بدّ في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجّز للتكليف الآخر ، ولا منجّز له كذلك إلا العلم الإجمالي في التدريجيّات.

الإيراد الثاني : أنّ وجوب حفظ القدرة من أجل امتثال التكليف حكم عقلي لا شرعي ، بمعنى أنّ العقل يحكم بذلك فيما إذا كان هناك تكليف واجب الامتثال والإطاعة ، وأمّا إذا لم يكن لدينا تكليف ثابت وواجب الإطاعة فلا يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة له.

فمثلا وجوب السفر إلى مكّة والذي هو مقدّمة لحفظ القدرة الواجبة من أجل الوقوف في عرفة في زمانه المعيّن ، إنّما يحكم به العقل بعد اشتغال ذمّة المكلّف بالحجّ ، وكونه مستطيعا لذلك ، وأمّا إذا لم تشتغل ذمّته بذلك فلا معنى لحكم العقل المذكور.

ووجوب الاغتسال قبل الفجر إنّما يجب من باب وجوب حفظ القدرة لأجل اشتغال الذمّة بالصوم ، وأمّا إذا لم تشتغل الذمّة بالصوم كالمسافر والمريض فلا يجب عليهما الاغتسال.

وعلى هذا ففي مقامنا وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الذي سوف

ص: 396

يحدث فيما بعد فرع كون هذا التكليف ثابتا وفعليّا ومنجّزا على المكلّف ، إذ لو لم يكن منجّزا فلا معنى لحكم العقل بوجوب حفظ القدرة على امتثاله.

وهذا يعني أنّه في المرتبة السابقة على حكم العقل المذكور لا بدّ أن يكون التكليف الاستقبالي منجّزا ، وحينئذ نسأل عن المنجّز لهذا التكليف.

والجواب واضح : وهو أنّه لا يوجد منجّز لهذا التكليف إلا العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، فإن كان هو المنجّز كفى ذلك عن العلم الإجمالي الجديد ، إذ لا فائدة له ؛ لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو لغو ، وإن لم يكن هو المنجّز كان التكليف الاستقبالي غير منجّز على المكلّف ، إذن فما هو الداعي لوجوب حفظ القدرة على امثاله ما دام غير منجّز؟!

والحاصل : أنّه إن كان هناك تكليف منجّز كان وجوب حفظ القدرة ثابتا ، وإن لم يكن التكليف منجّزا لم يكن وجوب حفظ القدرة ثابتا ، فعلى الأوّل يكفي المنجّز السابق وهو العلم الإجمالي بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، وعلى الثاني لا داعي للعلم الإجمالي اللاحق إذ لا أثر له.

وثالثا : أنّ المنجّز إذا كان هو العلم الإجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتأخّر ، فهو لا يفرض سوى عدم تفويت القدرة ، وأمّا تفويت ما يكلّف به في ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي ، وإنّما يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيّات ، وهو إن كان منجّزا لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

الإيراد الثالث : أنّ العلم الإجمالي المذكور لو سلّم فهو إنّما ينجّز طرفيه فقط ، وهما وجوب التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة ، بينما المطلوب لنا تنجيز التكليف الفعلي والتكليف الاستقبالي أيضا ، ولذلك لم يكن هذا العلم الإجمالي مفيدا ؛ لأنّه لا يحقّق الغرض المطلوب.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي المذكور ينجّز لنا حرمة المكث في المسجد فعلا ووجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي ، وأمّا نفس التكليف الاستقبالي فهو ليس منجّزا بنفس هذا العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس طرفا له ؛ لأنّ طرفه هو وجوب حفظ القدرة ، ولذلك إمّا أن يكون منجّزا أو ليس منجّزا ، فإن لم يكن منجّزا فلا يفيدنا

ص: 397

وجوب حفظ القدرة حتّى على القول بوجوبها في هذا الفرض ؛ لأنّه يجوز للمكلّف عدم امتثاله ؛ إذ ذمّته بحسب الفرض ليست مشتغلة به ، وإن كان منجّزا فنسأل عمّا هو المنجّز له؟

والجواب : أنّه لا منجّز له إلا العلم الإجمالي بالتدريجيّات ؛ إذ لا يوجد غيره بعد عدم كون العلم الإجمالي الجديد منجّزا له.

وحينئذ لا داعي لهذا العلم الجديد ما دام التكليف الاستقبالي قد تنجّز بنفس العلم الإجمالي السابق ؛ لأنّه لن يكون له فائدة ولا أثر.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي بالتدريجيّات منجّز لطرفيه (1).

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يكون الطرفان للعلم الإجمالي طوليّين ، بأن كان أحد التكليفين مترتّبا على عدم الآخر ، من قبيل أن نفرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب وفاء الدين ، وعلم إجمالا بأحد الأمرين. وهذا له صورتان :

الأولى : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.

الثانية : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا.

الحالة العاشرة : الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي.

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي في طول الآخر ، أي مترتّب على عدم الآخر ، فهذا العلم الإجمالي يكون دائرا بين تكليفين طوليّين لا عرضيّين.

فمثلا إذا علم بنجاسة أحد الإناءين كان كلّ منهما في عرض الآخر وثابتا على

ص: 398


1- إلا أنّ هذا الردّ يمكن الإجابة عنه ؛ وذلك لأنّ وجوب حفظ القدرة معناه عدم جواز الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تفويت الامتثال ، وهذا لازمه أنّ المرأة ممنوعة عن إيجاد أي عمل من هذا القبيل ، فحين مجيء زمان التكليف ويصبح فعليّا في وقته تكون ممنوعة لا عن مخالفته ابتداء ليقال : ما هو المنجّز لذلك؟ بل تكون ممنوعة عن إيجاد سائر المقدّمات المؤدّية إلى ذلك بحكم وجوب حفظ القدرة. فالصحيح في الإشكال هو ما تقدّم ثانيا ؛ لأنّ الأوّل مبني على عدم تماميّة شيء من الإشكالات ، وفرض الكلام هنا بعد التسليم بتماميّتها.

فرض ثبوت الآخر ، وعلى فرض عدمه ، وهذا هو العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين عرضيّين.

وأمّا إذا علم إمّا بوجوب الحجّ وإمّا بوجوب الوفاء بالدين ، فمثل هذا العلم الإجمالي دائر بين تكليفين طوليّين ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مختصّ بالمستطيع ومن شروط الاستطاعة ألاّ يكون مدينا بدين حالّ ومستحقّ المطالبة به ، فإذا حصل له مال يفي بالاستطاعة فسوف يكون وجوب الحجّ فعليّا عليه ، ولكن نفرض هنا أنّ عليه دينا بهذا المقدار من المال وهو حالّ ويستحق المطالبة به ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوت الدين قطعا ولا بعدمه فهو سوف يحتمل وجوب الحجّ وعدمه أيضا ، ولذلك يتكوّن لديه علم إجمالي إمّا بوجوب الوفاء بالدين فعلا لو كان مدينا ، وإمّا بوجوب الحجّ فعلا لو لم يكن مدينا والمفروض أنّ وجوب الحجّ في طول الوفاء بالدين ثبوتا ونفيا.

فهل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أيضا أم لا؟

والجواب : أنّه يوجد لدينا صورتان لطوليّة وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالدين :

الصورة الأولى : أن يكون وجوب الحجّ في طول التأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّه إذا ثبت عدم وجوب الوفاء بالدين بأي نحو من الأنحاء سواء بالأصل العملي أم بالأمارة أم بالقطع ، فسوف يثبت وجوب الحجّ ، فيكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب الوفاء بالدين الأعمّ من التأمين الواقعي أو التأمين الظاهري الثابت بالأمارة أو الأصل.

الصورة الثانية : أن يكون وجوب الحجّ في طول انتفاء وجوب الوفاء بالدين واقعا ، أي أنّه في طول القطع بعدم وجوب الوفاء بالدين ، فلا تكفي الأمارة أو الأصل ومطلق التأمين ، بل لا بدّ من التأمين الواقعي الملازم للقطع بعدم وجوب الوفاء بالدين.

أمّا الصورة الأولى : فليس العلم الإجمالي منجّزا فيها بلا ريب ؛ لانهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل المؤمّن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا يعارضه الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ وجوب الحجّ يصبح معلوما بمجرّد إجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع للأصل فيه.

أمّا الصورة الأولى : وهي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا وفي طول التأمين عن وجوب وفاء الدين بأي نحو من أنحاء التأمين الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهنا لا

ص: 399

يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ وذلك لانهدام الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية عن وجوب وفاء الدين لن تتعارض مع الأصول الترخيصيّة عن وجوب الحجّ ؛ لأنّها لا مورد لجريانها للتأمين عن وجوب الحجّ أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا جرى الأصل الترخيصي عن وجوب وفاء الدين سوف يثبت لنا التأمين الظاهري من ناحية وجوب الوفاء بالدين ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ؛ لأنّه مركّب من الاستطاعة وهي حاصلة وجدانا ، ومن عدم وجوب الدين وهو حاصل تعبّدا ، فإذا ثبت الموضوع صار وجوب الحجّ معلوما ومقطوعا به ، ولا شكّ فيه لكي يجري الأصل الترخيصي للتأمين عنه ؛ إذ لا مورد ولا موضوع للأصل ؛ لأنّ المورد مورد العلم لا الشكّ.

وبهذا يتّضح أنّ الأصول تجري بلا معارض للتأمين عن وجوب وفاء الدين فلا يجب الوفاء به ، وإنّما يجب الحجّ فعلا ، وهذا معناه الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد ؛ لأنّ الأصل يحقّق الموضوع وجدانا.

ولا يقال : لما ذا لا تجري الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ أوّلا؟ فإنّ جريانه يتعارض مع جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين ، ومقتضى التعارض التساقط وبقاء المنجّزيّة.

لأنّه يقال : إنّ الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ لا أثر شرعي له ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري للتأمين عن التكليف الثابت والمنجّز ، والمفروض أنّ وجوب الحجّ ليس ثابتا إلا بعد انتفاء وجوب الوفاء بالدين ، وهذا الوجوب لا يمكن نفيه بالأصل الجاري في وجوب الحجّ ؛ لأنّه متقدّم على وجوب الحجّ ومطلق من ناحيته ، ولذلك لا يكون للأصل مورد بلحاظه.

فإن قيل : هذا يتمّ بناء على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، واستناد عدم جريان الأصل في بعض الأطراف إلى التعارض. فما هو الموقف بناء على علّيّة العلم الإجمالي واستحالة جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟

قد يقال : إنّ عدم منجّزيّة العلم الإجمالي وانهدام الركن الثالث إنّما يتمّ بناء على مسلك المشهور القائل باقتضاء العلم الإجمالي لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، فإنّه

ص: 400

على هذا المسلك يكون التنجيز فرع تعارض الأصول الترخيصيّة ، وأمّا إذا لم تتعارض فلا منجّزيّة ، ولذلك يكون جريانها في بعض الأطراف دون البعض الآخر مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة القائل بأنّ العلم الإجمالي نفسه علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، ولا علاقة لذلك بتعارض الأصول وعدم تعارضها ، فهنا حتّى لو جرت الأصول في بعض الأطراف من دون تعارض ، فهذا لن يؤثّر على علّيّة العلم الإجمالي ، بل إنّ علّيّته تمنع حتّى من جريان الأصل في الطرف الواحد. فعلى هذا المبنى لا مبرّر لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة حتّى لو لم تتعارض الأصول ، فهل يلتزم ببقاء المنجّزيّة على هذا المسلك أو يقال بسقوطها؟ وما هو ملاك السقوط حينئذ؟

والجواب : أنّ هذه الاستحالة إنّما هي باعتبار العلم الإجمالي ، ويستحيل في المقام أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ؛ لأنّه متوقّف على عدم جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحجّ ، وينحلّ العلم الإجمالي ، وما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ، فالأصل يجري إذن حتّى على القول بالعلّيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة جريان الأصل الترخيصي حتّى في الطرف الواحد بناء على مسلك العلّيّة إنّما هي لأجل وجود العلم الإجمالي ، أي أنّه إذا ثبت العلم الإجمالي كان علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيستحيل جريان الأصل سواء في الطرفين أم في أحدهما.

والوجه في ذلك : أنّه يلزم التناقض والتفكيك بين العلّة والمعلول ، أو يلزم رفع اليد عن حكم العقل مع وجود موضوعه ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ الأحكام العقليّة لا تخصّص ولا تقيّد ، بل هي تابعة وجودا وعدما لثبوت موضوعها وعدمه.

وفي مقامنا نقول : إنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّ الأصل إذا جرى فسوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ، ويحصل الانحلال الحقيقي إلى علم تفصيلي قطعي بوجوب الحجّ وشكّ بدوي في وجوب الوفاء بالدين ، وإذا لم يجر الأصل الترخيصي كذلك

ص: 401

كان كلّ واحد من التكليفين محتملا ، فيكون العلم الإجمالي ثابتا وعلّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكلا التكليفين.

ولذلك يستحيل أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ؛ لأنّ المفروض أنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريانه ؛ لأنّه إذا جرى الأصل انحلّ العلم الإجمالي كما ذكرنا.

وهنا نطبّق القاعدة القائلة بأنّ ما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ؛ لأنّ مانعيّته عنه فرع ثبوته أوّلا ، والمفروض أنّ ثبوته متوقّف على عدم ذلك الشيء.

فهناك طوليّة بين ثبوت العلم الإجمالي ، وبين عدم جريان الأصل للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ، فالأوّل في طول الثاني ، فإذا كان كذلك فلا يثبت العلم الإجمالي مع جريان الأصل ، بل يثبت بعد فرض سقوط الأصل ، إلا أنّ العلم الإجمالي نفسه لا يمكنه إسقاط الأصل ؛ لأنّ ثبوت هذا العلم موقوف على عدم الأصل في رتبة سابقة ، ومانعيّته عنه تقتضي ثبوته أوّلا ثمّ إسقاطه للأصل والذي يعني أنّ الأصل كان موجودا ، وهذا لازمه اجتماع العلم الإجمالي والأصل ، وهذا خلف الطوليّة بينهما وخلف توقّف العلم الإجمالي على عدم الأصل.

وأمّا الصورة الثانية : فيجري فيها أيضا الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ، ولا يعارض بالأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ ذلك ينقّح بالتعبّد موضوع وجوب الحجّ فيعتبر أصلا سببيّا بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي.

وأمّا الصورة الثانية : أي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فهو في طول انتفائه الواقعي لا الظاهري فقط ، فهنا أيضا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الثالث.

وتوضيحه : أنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين يجري بلا معارض ؛ لأنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ لا يجري.

والوجه في ذلك : أنّ الأوّل حاكم على الثاني ؛ لأنّ الأصل الأوّل سببي والأصل الثاني مسبّبي ، وقد تقدّم سابقا وسيأتي في باب التعارض ، أنّ الأصل السببي يتقدّم

ص: 402

على الأصل المسبّبي إمّا للحكومة كما هي مقالة المشهور ، وإمّا للقرينيّة العرفيّة كما هو المختار.

وأمّا كون الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين سببيّا ومقدّما على الأصل الجاري عن وجوب الحجّ ؛ فلأنّه إذا جرى هذا الأصل سوف يتنقح به موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ أخذ فيه عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فإذا جرى الأصل لنفي وجوبه ثبت بالملازمة عدم وجوبه واقعا ، إلا أنّ هذا الثبوت تعبّدي كما هو واضح لا وجداني وحقيقي ، ولذلك يكون حاكما ومقدّما ؛ لأنّه ينظر إلى موضوع الأصل الثاني ويثبته بالملازمة ، ومع ثبوته كذلك يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصل السببي يجري فقط دون أن يجري الأصل المسبّبي كما تقدّم في مبحث جريان الأصل في الطرف الواحد بلا معارض.

هذا إذا كان الأصل أصلا تنزيليّا أو محرزا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ؛ إذ لو كان أصلا عمليّا بحتا لكان التعارض ثابتا بين الأصلين ولكان العلم منجّزا.

وهكذا نعرف أنّ حكم الصورتين عمليّا واحد ، ولكنّهما يختلفان في أنّ الأصل في الصورة الأولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقّق موضوع وجوب الحجّ وجدانا ويوجب انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

ومن هنا كان وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه كما عرفت.

وهكذا يتّضح لنا أنّ العلم الإجمالي الدائر بين طرفين طوليّين ساقط عن المنجّزيّة في كلتا الصورتين ، أي سواء كان الترتّب والطوليّة بينهما بلحاظ الواقع أم بلحاظ الأعمّ من الواقع والظاهر ، فالنتيجة العمليّة فيهما واحدة وهي عدم التنجيز.

إلا أنّ الصورتين تختلفان عن بعضهما في تصوير سقوط هذا العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، فالصورة الأولى لا منجّزيّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي منحلّ حقيقة بالعلم التفصيلي ، بينما في الصورة الثانية لا منجّزيّة من أجل انهدام الركن الثالث ، وتوضيح ذلك أن يقال :

أمّا في الصورة الأولى حيث كان أحدهما مترتّبا على عدم الآخر ولو ظاهرا ، فكان جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين محقّقا وجدانا وحقيقة لموضوع

ص: 403

وجوب الحجّ المأخوذ فيه عدم وجوب الوفاء بالدين ولو ظاهرا ، أي أنّ هذا الأصل يوجد الموضوع حقيقة فيكون واردا ، والورود ينظر إلى الفرد الواقعي ، ومع ثبوت الموضوع يثبت لنا وجوب الحجّ قطعا ، فيعلم تفصيلا بوجوب الحجّ ، وحينئذ يتحقّق الانحلال الحقيقي للعلم التفصيلي بوجوب الحجّ والشكّ البدوي في وجوب الوفاء بالدين والذي كان مجرى للأصل المؤمّن.

ولهذا قلنا : إنّ العلم الإجمالي هنا لا يمكنه المنع عن جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين حتّى على مسلك العلّيّة ؛ لأنّ مانعيّته كذلك فرع ثبوته وثبوته فرع سقوط الأصل في مرتبة سابقة بمسقط آخر ، هذا في الصورة الأولى.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يحقّق ذلك ؛ لأنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب الوفاء واقعا ، وهو غير محرز وجدانا ، وإنّما يثبت تعبّدا بالأصل دون أن ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، ولهذا لا يكون جريان الأصل في الصورة الثانية موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه.

ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّيّة ؛ لأنّ مانعيّة العلم الإجمالي عن جريانه ممكنة ؛ لعدم توقّف العلم الإجمالي على عدم جريانه.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعا ، فلا يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء محقّقا لموضوع وجوب الحجّ وجدانا وحقيقة ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ هو عدم وجوب الوفاء واقعا وهذا غير محرز ؛ لأنّ الأصل يثبت لنا الظاهر فقط.

ولذلك لن يحصل لنا علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، بل يحصل لنا علم تعبّدي بوجوبه ، والعلم التعبّدي لا يوجب الانحلال الحقيقي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الانحلال أمر واقعي تابع لعلّته وسببه الواقعي ، ومجرّد التعبّد بالمعلول لا يثبت ولا يستلزم التعبّد بالعلّة ؛ لأنّ دليل التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل والخطاب ، وهو لا يثبت أكثر من التعبّد بوجود المعلول.

وعليه لا يكون هناك انحلال حقيقي ولا انحلال تعبّدي أو تعبّد بالانحلال ؛ إذ لا

ص: 404

محصّل لذلك كما تقدّم ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريان الأصل ، أي أنّ العلم الإجمالي ثابت سواء جرى الأصل أم لا ، فإنّ جريان الأصل لا يوجب زوال العلم الإجمالي وانحلاله.

وهذا فارق بين الصورتين ، ويترتّب على هذا الفارق أمر آخر ، وهو : أنّه بناء على مسلك الاقتضاء سوف يكون سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بسبب اختلال ركنه الثالث ؛ لأنّ الأصل في أحدهما يجري بلا معارض لأنّه سببي والآخر مسبّبي ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّه ينقّح الموضوع للآخر ، فيكون داخلا في القاعدة الكلّيّة المتقدّمة سابقا من جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فإنّ جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض لا تأثير له ما دام العلم الإجمالي موجودا وثابتا ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة فيمنع من جريان الأصول الترخيصيّة سواء في الطرفين أم في الطرف الواحد أيضا.

ولذلك يكون العلم الإجمالي هنا مانعا من جريان هذا الأصل فتبقى المنجّزيّة على حالها ، والنكتة في ذلك هي أنّ العلم الإجمالي في هذا الفرض ليس متوقّفا على عدم جريان الأصل ليقال : إنّه مع جريان الأصل يسقط العلم الإجمالي ، بل يجتمع العلم الإجمالي مع الأصل ويكون مانعا من جريانه لعلّيّته المذكورة.

وهذا فارق آخر بين الصورتين ، فإنّ الصورة الأولى كان سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة تامّا على المسلكين أي الاقتضاء والعلّيّة ، بينما في الصورة الثانية يسقط بناء على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلّيّة.

وهناك فارق آخر بين الصورتين ، وهو : أنّه في الصورة الأولى يجري الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء سواء كان تنزيليّا أم لا ، ويحقّق على أي حال موضوع وجوب الحجّ وجدانا.

وأمّا في الصورة الثانية فإنّما يجري إذا كان تنزيليّا ، بمعنى أنّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعا ؛ وذلك لأنّ الأصل التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبّدا موضوع وجوب الحجّ ، فيكون بمثابة الأصل السببي بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، وأمّا الأصل العملي البحت فلا يثبت به تعبّدا العدم الواقعي

ص: 405

لوجوب الوفاء ، فلا يكون حاكما على الأصل الجاري في الطرف الآخر بل معارضا.

وهناك فارق آخر بين الصورتين وهو : أنّه في الصورة الأولى حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء ولو ظاهرا ، فالأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء لا يشترط فيه أن يكون أصلا تنزيليّا ، بل يجري فيه أيضا الأصل العملي البحت كالبراءة ؛ لأنّ مفاد كلا الأصلين هو النفي الظاهري لوجوب الوفاء ، وهذا هو موضوع وجوب الحجّ ، فكلاهما يحقّقان الموضوع وجدانا وحقيقة ، وبالتالي يثبت الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه سوف يعلم بوجوب الحجّ تفصيلا.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ متوقّفا على عدم وجوب الوفاء واقعا ، فالأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء - بناء على مسلك الاقتضاء - إنّما يكون حاكما ومقدّما وأصلا سببيّا بالنسبة للأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، فيما إذا كان هذا الأصل تنزيليّا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ونحوها ؛ وذلك لأنّ كونه حاكما وسببيّا يعني أنّه يعبّدنا بثبوت الموضوع الواقعي ظاهرا ، لا أنّه ينفي وجوب الوفاء ظاهرا فقط ، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلى الواقع أيضا ، وهذا النظر إلى الواقع لا يكون إلا في الأصل التنزيلي ؛ لأنّ فيه حيثيّة الكشف عن الواقع دون الأصل العملي المحض ، فإنّه لا ينظر إلى الواقع بل يحدّد الوظيفة العمليّة فقط.

ولذلك فإذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين تنزيليّا كالاستصحاب ثبت به مضافا إلى نفي وجوب الوفاء ظاهرا ، أنّ هذا الوجوب غير ثابت في الواقع تعبّدا ، أي أنّه يعبّدنا وينزّل لنا المستصحب منزلة الواقع ، فعدم الوجوب للوفاء المستصحب عدم الوجوب واقعا بالتعبّد ، ولذلك يتنقّح موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ولذلك يكون حاكما وأصلا سببيّا.

وأمّا إذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء أصلا بحتا كالبراءة ، فهي لا تثبت إلا عدم وجوب الوفاء فقط ، ولا تنظر إلى الواقع أصلا ، ولذلك لا تعبّدنا البراءة بأنّ وجوب الوفاء منتف واقعا ، بل غاية لسانها أنّ الموقف العملي تجاه هذا الوجوب المشكوك كالموقف العملي فيما لو لم يكن ثابتا ، أي أنّه مؤمّن من ناحيته فقط.

ومن أجل ذلك لا يكون الأصل العملي البحت الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء

ص: 406

حاكما على الأصل العملي الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ ؛ لأنّه لا ينظر إليه ولا ينقّح موضوعه ، ولذلك لا يكون أصلا سببيّا ، وإنّما يكون معارضا له ومقتضى التعارض التساقط وبقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته.

تلخيص للقواعد الثلاث :

خرجنا حتّى الآن بثلاث قواعد : فالقاعدة العمليّة الأولى قاعدة عقليّة وهي أصالة الاشتغال على مسلك حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والقاعدة العمليّة الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعيّة.

والقاعدة العمليّة الثالثة هي منجّزيّة العلم الإجمالي ، أي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي وعدم جريان البراءة عنه.

* * *

ص: 407

ص: 408

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

اشارة

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

ص: 409

ص: 410

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

حتّى الآن كنّا نتكلّم عن الشكّ في التكليف ، وما هي الوظيفة العمليّة المقرّرة فيه عقلا أو شرعا ، سواء كان شكّا بدويّا أو مقرونا بالعلم الإجمالي ، إلا أنّنا كنّا نقصد بالشكّ في التكليف الشكّ الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما :

احتمال الوجوب واحتمال الترخيص ، أو احتمال الحرمة واحتمال الترخيص.

والآن نريد أن نعالج الشكّ الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معا ، وهذا الشكّ تارة يكون بدويّا أي مشتملا على احتمال ثالث للترخيص أيضا ، وأخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا مبحثان كما يأتي إن شاء اللّه تعالى :

تكلّمنا سابقا عن حالتين من حالات الشكّ ، إحداهما الشكّ البدوي والأخرى الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، وعرفنا الوظيفة المقرّرة في كلتا الحالتين سواء كانت حكما شرعيّا أم حكما عقليّا.

إلا أنّ الكلام السابق كان في موارد الشكّ في التكليف الدائر بين احتمال الوجوب أو الحرمة من جهة وبين احتمال الترخيص والإباحة من جهة ثانية.

وأمّا هنا فسوف نبحث عن الحكم والوظيفة فيما إذا كان الشكّ في التكليف دائرا بين احتمال الوجوب والحرمة معا ، وهذا النحو من الشكّ فيه صورتان :

الأولى : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا بمعنى أنّه يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الترخيص ، ويسمّى بالشكّ البدوي في الوجوب والحرمة.

ص: 411

الثانية : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع التكليف بينهما ، بأن يعلم بالإلزام ويشكّ في كونه وجوبا أو تحريما ، فهاهنا لا احتمال للترخيص ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة هو الشكّ المشتمل على احتمال الوجوب واحتمال الحرمة واحتمال الترخيص ، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي ، وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.

الصورة الأولى : ما اذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا ، أي كان احتمال الوجوب واحتمال الحرمة مشتملا أيضا على احتمال الترخيص والإباحة ، فيدور الأمر بين الإلزام والترخيص في الدقّة ، ولذلك يسمّى بالشكّ البدوي إذ يحتمل ألاّ يكون هناك إلزام أصلا ، فلا وجوب ولا حرمة وبالتالي لا تكليف ، فهو شكّ بدوي في التكليف بهذا اللحاظ ، وإن كان التكليف الإلزامي المشكوك دائرا أيضا بين نوعين هما الوجوب والحرمة.

وحكم هذه الصورة تارة يبحث بلحاظ حكم العقل أي الأصل العملي العقلي والذي هو ( البراءة أو الاحتياط ) ، وأخرى يبحث عنها بلحاظ حكم الشرع أي الأصل العملي الشرعي الشامل للبراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ونحوها من الأصول الشرعيّة.

أمّا باللحاظ الأوّل فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان لا شكّ في جريان البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزا في نفسه ، ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز لاستحالة تنجيزهما معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فتبطل منجّزيّتهما معا وتجري البراءة أيضا.

أمّا حكم العقل فهو البراءة العقليّة.

والوجه في ذلك هو : أمّا بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالحكم العقلي الأوّلي هو البراءة ما دام التكليف غير معلوم ولم يتمّ عليه البيان ، وفي مقامنا حيث لا يعلم بالحرمة بخصوصها ولا بالوجوب بخصوصه للدوران بينهما ، وحيث لا يعلم بأصل الإلزام وجامع التكليف لأنّه يحتمل الترخيص والإباحة ،

ص: 412

فلن يكون لدينا علم إجمالي بل الشبهة بدويّة فيتنقّح موضوع البراءة العقليّة ، وهذا واضح ولا شكّ فيه.

وأمّا بناء على المسلك المختار من حكم العقل باشتغال الذمّة والاحتياط عند احتمال التكليف ، فالحكم هنا هو البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّ احتمال الوجوب في نفسه وإن كان منجّزا وكذا احتمال الحرمة ؛ لمنجّزيّة الاحتمال والكاشف عقلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة وشاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

إلا أنّ هذه المنجّزيّة لا يمكن الأخذ بها ؛ إذ الأخذ بمنجّزيّة الوجوب والحرمة معا يعني اجتماع الضدين ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجبا وحراما ، بمعنى واجديّته لمبادئ وملاكات الوجوب والحرمة معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ إذ الاحتمال الموجود فيهما على حدّ واحد ، فيتعيّن سقوطهما معا عن المنجّزيّة إذ لا يوجد حلّ آخر يصار إليه ، وبهذا يثبت الترخيص والبراءة بحكم العقل ، من جهة أنّ المنجّزيّة في المقام مستحيلة.

وبتعبير آخر : أنّ المخالفة القطعيّة مستحيلة والموافقة القطعيّة مستحيلة أيضا عمليّا ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك فيحكم العقل بالبراءة عنها إذ لا محذور فيها حينئذ.

وأمّا باللحاظ الثاني فأدلّة البراءة الشرعيّة شاملة للمورد بإطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا الشكّ وما سبق من شكّ : أنّ هذا مورد للبراءة عقلا وشرعا معا حتّى على مسلك حقّ الطاعة ، بخلاف الشكّ المتقدّم.

وأمّا حكم الشرع فهو البراءة أيضا ، أي أنّ أدلّة البراءة الشرعيّة تشمل بإطلاقها هذه الصورة أيضا ؛ لأنّها من موارد الشكّ البدوي في التكليف ، فقوله ( صلی اللّه علیه و آله ) : « رفع ما لا يعلمون » يشمل كلّ تكليف غير معلوم ، سواء كان هذا التكليف المجهول دائرا بين أمرين أو ثلاثة ، فلا فرق بين الشكّ في الوجوب والإباحة أو الحرمة والترخيص ، وبين الشكّ في الوجوب والحرمة والترخيص ، في كون النحوين من الشكّ ينطبق عليهما عنوان الشك البدوي في التكليف وفي كون التكليف فيهما غير معلوم.

نعم ، يوجد فارق بين النحوين من الشكّ بناء على مسلك حق الطاعة وهو : أنّ الشكّ البدوي في الوجوب والإباحة أو الحرمة والإباحة كان موردا لأصالة الاشتغال

ص: 413

العقلي والاحتياط بناء على منجّزيّة مطلق الانكشاف ، فكان حكم العقل هو الاحتياط ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم العقلي مقيّد بعدم صدور الإذن والترخيص من الشارع كما تقدّم ، وأدلّة البراءة الشرعيّة تعتبر إذنا وترخيصا ، فيكون حكم العقل هو الاحتياط بينما حكم الشرع هو البراءة ، وهي مقدّمة لكونها رافعة لموضوع حكم العقل.

بينما الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة والإباحة فهو مجرى للبراءة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى على مسلك حقّ الطاعة ؛ لأنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بالتنجيز واشتغال الذمّة لا لهما معا ولا لأحدهما فقط ، فتسقط المنجّزيّة ، فتكون الشبهة لا منجّز عقلي لها ، وحيث إنّ العقل يدور أمره بين الحكم بالتنجيز أو عدم التنجيز أو الحكم بالاحتياط أو البراءة ، فحيث لا احتياط فتتعيّن البراءة ؛ لأنّه إمّا أن يدرك حقّ الطاعة في هذا المورد أو لا يدركه ، ولا شقّ ثالث بينهما ، وهذا الحكم العقلي بالبراءة موافق لحكم الشارع ؛ لأنّه يحكم بالبراءة أيضا ؛ لأنّ أدلّتها شاملة لهذه الصورة بإطلاقها.

وبهذا ينتهي الكلام عن الصورة الأولى.

2 - دوران الأمر بين المحذورين :

وهو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي بجنس الإلزام ، وتوضيح الحال فيه :

أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا ؛ لأنّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة غير ممكن ؛ لأنّها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة ممتنع أيضا ؛ لأنّها غير ممكنة ، وتنجيزه لأحد التكليفين المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إليهما نسبة واحدة ، وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الإجمالي منجّزا.

الصورة الثانية : فيما إذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع الإلزام ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ هذه الواقعة حكمها الإلزام لا الترخيص ، ولكنّه لا يدري ما هو الإلزام الموجود فيها هل هو الوجوب أو هو الحرمة؟ فيكون الشكّ في الوجوب والحرمة في كون المعلوم بالإجمال على أيّهما ينطبق ، أي أنّهما طرفان للعلم الإجمالي.

ص: 414

والسؤال هنا هو : هل هذا العلم الإجمالي الدائر بين الوجوب والحرمة منجّز أو لا؟

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا لشيء من هذين الطرفين. والوجه في ذلك : أمّا تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة - سواء على مسلك الاقتضاء أم على مسلك العلّيّة - فهو غير ممكن ؛ إذ لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة معا على شيء واحد ، ولذلك تكون الموافقة القطعيّة خارجة عن قدرة المكلّف تكوينا وواقعا ؛ لأنّ المكلّف غير قادر تكوينا على الجمع بين الضدّين وهما هنا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة متضادّة فيما بينها بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

وأمّا تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة على المسلكين فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة يستحيل صدورها ووقوعها في الخارج ؛ لأنّ المكلّف تكوينا أمام هذه الواقعة المشكوكة إمّا أن يفعل أو يترك ، والجمع بين الفعل والترك مستحيل ، وارتفاع الفعل والترك مستحيل وممتنع أيضا ، ولذلك لا تتصوّر المخالفة القطعيّة أصلا لكي يمنع عنها بالعلم الإجمالي ، أي أنّ عدم المخالفة ثابت في الواقع فلا معنى للنهي عن المخالفة شرعا ما دامت لن تتحقّق تكوينا.

وأمّا تنجيزه لأحد التكليفين بعينه دون الآخر فهو غير معقول أيضا ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى التكليفين المشكوكين على حدّ واحد ، فيكون ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح ، وهو ممتنع عقلا ، فلا يصدر من الشارع.

وبهذا يثبت لنا بالبرهان أنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة ساقط عن المنجّزيّة (1).

ولكن هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو لا؟

سؤال اختلف الأصوليّون في الإجابة عليه.

ص: 415


1- وينبغي أن يعلم أنّ فرض الدوران بين المحذورين تارة يكون بين الوجوب والحرمة ، كتكليفين عباديّين يشترط فيهما قصد القربة وامتثال الأمر ، وأخرى يكونان توصّليّين ، وثالثة يكون أحدهما توصّليّا والآخر تعبّديّا. ومحلّ بحثنا هنا الوجوب والحرمة التوصّليّان فقط ، كما إذا حلف على شيء فعلا أو تركا كالسفر ، وأمّا إذا كانا تعبّديّين أو أحدهما فحينئذ تكون المخالفة القطعيّة ممكنة ، بأن لا ينوي القربة في هذا ويأتي بذاك أو لا ينوي القربة فيهما ويقوم بهما معا.

فهناك من قال بجريانها (1) ، إذ ما دام العلم الإجمالي غير منجز فلا يمكن أن يكون مانعا عن جريان البراءة عقلا وشرعا.

وهناك من قال بعدم جريان البراءة على الرغم من عدم منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأثيرت عدّة اعتراضات على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقليّة ، وبعضها بالبراءة الشرعيّة ، وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعيّة ، ونذكر فيما يلي أهم تلك الاعتراضات :

بعد أن عرفنا أنّ العلم الإجمالي في المقام غير منجّز لشيء من الوجوب والحرمة ، يطرح السؤال التالي : هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب والحرمة المشكوكين أم لا؟

وهذا السؤال اختلفت كلمات الأصحاب في الإجابة عنه على قولين رئيسين :

1 - أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة تجري في المقام ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في التكليف ، وهذا الشكّ وإن كان مقرونا ابتداء بالعلم الإجمالي المانع عن جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة بحسب الفرض ، وسقوطه كذلك يعني زوال المانع من جريان البراءة ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود وهو كون الواقعة مشكوكة التكليف ، والمانع قد فرض ارتفاعه ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة ، فلا محذور عقلا ولا إشكال شرعا في جريان البراءة في المقام.

أمّا المحذور العقلي فلم يكن إلا العلم الإجمالي المنجّز وهو هنا غير منجّز ، وأمّا المحذور الشرعي فهو غير موجود أصلا ؛ لأنّ أدلّة البراءة تشمل المقام ؛ لأنّه تكليف مشكوك.

2 - أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة لا تجري في المقام ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان ساقطا عن المنجّزيّة ولكنّه موجود حقيقة ، بمعنى أنّه غير منحلّ لتصير الشبهة بدويّة ، فالشبهة هنا لا ينطبق عليها عنوان الشكّ البدوي في التكليف فموضوع البراءة غير محرز ليقال بجريانها.

ص: 416


1- منهم السيّد الخوئي كما في مصباح الأصول 2 : 328.

نعم ، هذه الشبهة حكمها ليس التنجيز من جهة العلم الإجمالي ؛ لأنّه ساقط عن المنجّزيّة ، وحينئذ بما أنّ هذه الواقعة لا منجّزيّة فيها ولا ترخيص فيها فيكون المكلّف مخيّرا بين الأمرين.

ثمّ إنّه قد أثيرت على القول الأوّل عدّة اعتراضات تمنع من جريان البراءة ، وهذه الاعتراضات على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الاعتراضات الموجّهة على البراءة العقليّة فقط ، كالاعتراض الأوّل الآتي.

الثاني : الاعتراضات الموجّهة على البراءة الشرعيّة بشكل عامّ أي بلحاظ كلّ أدلّتها وألسنتها ، كالاعتراض الثالث.

الثالث : الاعتراضات الموجّهة على بعض ألسنة البراءة الشرعيّة.

وسوف نبحث أهمّ تلك الاعتراضات لنرى مدى صحّتها ومانعيّتها عن جريان البراءة ، أو عدم ذلك.

الأوّل : الاعتراض على البراءة العقليّة والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وتوضيحه على ما أفاده المحقّق العراقي قدّس اللّه روحه : أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن منجّزا - وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك - ولكن ليس كلّ ترخيص براءة ، فإنّ الترخيص تارة يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، وأخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقليّة هي ما كان بالملاك الثاني.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من المنع عن جريان البراءة العقليّة دون الشرعيّة ، وإن كان من المحتمل جريان البراءة الشرعيّة ونحوها من الأصول الترخيصيّة كقاعدة الحلّ والإباحة ، والأصول المرخّصة والاستصحاب النافي للتكليف ، والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الترخيص على نحوين :

الأوّل : الترخيص بملاك عدم البيان ، وهذا ما يسمّى بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو بالبراءة الشرعيّة على مسلك حقّ الطاعة ، فموضوع هذا الترخيص هو عدم البيان والعلم.

الثاني : الترخيص بملاك الاضطرار والعجز ، وهذا ما يسمّى بالتخيير بين الفعل والترك

ص: 417

من جهة أنّه عاجز عن الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ، فيحكم العقل بإباحة الفعل أو الترك وكون المكلّف مخيّرا فيهما من جهة عجزه التكويني واضطراره إلى أحدهما.

وعليه ، فليس كلّ ترخيص عقلي يعني البراءة ، بل قد يعني التخيير وإباحة الفعل أو الترك ، فالترخيص أعمّ من البراءة ، فإذا ثبت الترخيص لا يلزم منه ثبوت البراءة ، بل قد تثبت وقد لا تثبت ، بينما البراءة أخصّ من الترخيص أي أنّها نوع خاصّ من الترخيص وهو الترخيص الناشئ من ملاك عدم البيان فقط.

وفي مقامنا يحكم العقل بالترخيص من جهة الاضطرار والعجز التكويني عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا يعني التخيير لا البراءة ، وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال :

وعليه ، فإن أريد في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة العقليّة فهو مستحيل ؛ لأنّها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بأنّ هذا بيان وذاك ليس ببيان ؛ لأنّها لا تنقّح موضوعها ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا ما يتحقّق في موارد الشكّ وجدانا وتكوينا ؛ لأنّ الشكّ ليس بيانا ، وأمّا في مورد العلم الإجمالي بجنس الإلزام في المقام فالعلم بيان وجدانا وتكوينا ، فلكي نجرّده من صفة البيانيّة لا بدّ من تطبيق قاعدة عقليّة تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة العقليّة ، لما عرفت من أنّها لا تنقّح موضوعها ، وإنّما هي قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحيّة العلم الإجمالي المذكور للمنجّزيّة والحجّيّة ، وبالتالي سقوطه عن البيانيّة.

بعد أن عرفنا أنّ الترخيص الثابت هو الترخيص بملاك الاضطرار والعجز فنقول : إن أريد من إجراء البراءة العقليّة في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة فهذا مستحيل ؛ وذلك لأنّ البراءة موضوعها عدم البيان والعلم ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان والعلم أوّلا ثمّ إجراء البراءة ؛ لأنّها متفرّعة ومترتّبة على موضوعها فلا تثبت إذا لم يكن موضوعها ثابتا.

وحينئذ لا بدّ من كون العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة لكي يكون المورد من موارد عدم العلم والبيان ، وهذا الأمر لا يمكن إثباته بنفس البراءة ؛ لأنّ الشيء لا يثبت موضوعه أي أنّ البراءة لا تثبت أنّ هذا المورد ليس علما وبيانا ، وإلا

ص: 418

لكان الشيء مثبتا لموضوعه وهو واضح البطلان ، فهو نظير التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، فكما أنّ العامّ لا يثبت مصداقه وموضوعه فكذلك البراءة لا تثبت موضوعها.

وهذا يعني أنّه لا بدّ من إثبات عدم العلم والبيان ، وبالتالي إسقاط العلم الإجمالي في مرحلة سابقة عن إجراء البراءة.

وعليه ، فنقول : إن كان المورد مشكوكا شكّا بدويّا وجدانا فيكون عدم العلم ثابتا بالوجدان ، ولا تحتاج إلى دليل آخر لإثباته فتجري البراءة بلا محذور.

وإن كان المورد مقرونا بالعلم الإجمالي فلا بدّ من تجريد العلم الإجمالي عن صفة البيان والعلم وإسقاطه عن الحجّيّة والمنجّزيّة بدليل ، وهذا الدليل ليس هو البراءة نفسها لما تقدّم ، وإنّما هو حكم العقل بعدم إمكان تكليف العاجز تكوينا عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا ما يعبّر عنه بالإباحة في اختيار أحد الأمرين أو التخيير العقلي بينهما ، فيثبت لنا بهذه القاعدة الترخيص وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ البراءة العقليّة لا يمكنها إسقاط العلم الإجمالي بنفسها ، بل المسقط له قاعدة أخرى غيرها ، فلو كان المراد من إجرائها إثبات هذا الأمر فهي قاصرة عن إثباته ، فلا يكون هناك مبرّر لجريانها.

وإن أريد إجراء البراءة العقليّة بعد إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي وبيانيّته بالقاعدة المشار إليها فلا معنى لذلك ؛ لأنّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي ولا محصّل للترخيص في طول الترخيص.

وإن أريد من إجراء البراءة العقليّة أنّها تجري بعد سقوط العلم الإجمالي عن الحجّيّة والمنجّزيّة والبيانيّة - كما هو الصحيح والمعقول - بالقاعدة العقليّة المتقدّمة - أي الاضطرار والعجز وعدم إمكان تكليف العاجز - فهذا لغو ؛ لأنّه بمجرّد أن تجري تلك القاعدة سوف يثبت لنا الترخيص العقلي المسمّى بالتخيير العقلي وإباحة أحد الأمرين ، فلا يكون هناك مبنى محصّل لجريان البراءة لإثبات الترخيص ؛ لأنّه ثابت في مرحلة سابقة ، وإثبات الترخيص في طول ثبوته لغو وتحصيل للحاصل ، فلا يكون هناك أثر ولا فائدة من جريان البراءة.

ص: 419

وهكذا نصل إلى أنّ جريان البراءة العقليّة ممتنع ، إمّا لأنّه لا موضوع لها ، وإمّا لأنّه لا أثر ولا فائدة منها ، فيتعيّن الحكم بالتخيير العقلي وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

ونلاحظ على ذلك : أنّ المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجّزيّة العلم الإجمالي ، وليس الغرض منها إبطال منجّزيّة هذا العلم والترخيص في مخالفته حتّى يقال : إنّه لا محصّل لذلك ، بل إبطال منجّزيّة كلّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن الواضح أنّ كلاّ من الاحتمالين في نفسه ليس بيانا تكوينا ووجدانا ، فتطبّق عليه البراءة العقليّة لإثبات التأمين من ناحيته.

وجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني ولا يلزم منه محذور اللغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأن المراد من إجراء البراءة هو التأمين من ناحية التكليف المشكوك في المقام حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة ، أي بعد سقوطه نريد إثبات التأمين عن التكليف المشكوك ، فإنّ التكليف في موردنا يتصوّر له منجّزان :

أحدهما : التكليف المنجّز بالعلم الإجمالي ، وهذا ما يثبت التأمين من ناحيته بجريان تلك القاعدة ، أي قاعدة الاضطرار وعدم إمكان تكليف وإدانة العاجز ؛ لأنّ المورد من موارد العجز والاضطرار إلى الفعل أو الترك ، فلا يعقل تكليفه بالجمع بينهما أو بتركهما معا.

والآخر : التكليف المنجّز باحتماله ، فإنّه بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وثبوت التأمين من ناحيته ، يبقى احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ثابتا ، إذ يحتمل أن يكون هذا المورد واجبا ويحتمل أن يكون حراما.

وهذان الاحتمالان يجتمعان مع احتمال الترخيص والإباحة وعدم التكليف. وعليه ، فلا بدّ من إثبات التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا ما تثبته البراءة العقليّة ؛ لأنّ موضوعها ثابت وجدانا وتكوينا ؛ لأنّه لا علم بالوجوب أو الحرمة فيتحقّق عدم البيان وجدانا ، فتجري البراءة لثبوت موضوعها ؛ ولوجود الأثر لها وهو التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا التأمين لم يكن ثابتا في مرحلة سابقة ؛ لأنّ تلك القاعدة تثبت التأمين من ناحية العلم الإجمالي لا من ناحية نفس الاحتمال للتكليف.

وبتعبير أدقّ : إنّ جريان قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز تثبت لنا سقوط

ص: 420

العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة ، وبالتالي يثبت لنا الترخيص أيضا من هذه الناحية ، وحينئذ يصبح المورد من موارد الشكّ البدوي بين الوجوب والحرمة ؛ لأنّ احتمال الوجوب واحتمال الحرمة انضمّ إليهما ببركة هذه القاعدة احتمال الترخيص أيضا ؛ لأنّها أسقطت العلم الإجمالي ونفت البيان في المورد ، فصار المورد كالصورة الأولى والتي تجري فيها البراءة العقليّة والشرعيّة أيضا لتحقّق الموضوع ، ولوجود الأثر الذي لم يكن موجودا قبل جريانها ، فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثاني : الاعتراض على البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه على ما أفاده المحقّق النائيني قدس سره (1) : أنّ ما كان منها بلسان أصالة الحلّ لا يشمل المقام ؛ لأنّ الحلّيّة غير محتملة هنا ، بل الأمر مردّد بين الوجوب والحرمة.

وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلمون لا يشمل أيضا ؛ لأنّ الرفع يعقل حيث يعقل الوضع ، والرفع هنا ظاهري يقابله الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح أنّ إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل ، فلا معنى للرفع إذن.

الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه : أنّ ألسنة البراءة الشرعيّة على قسمين :

الأوّل : ما كان منها بلسان أصالة الحلّيّة أو الإباحة ، وهذه لا موضوع لها في مقامنا ؛ لأنّ مورد جريانها إنّما هو احتمال الحلّيّة أو الإباحة ، وهنا لا يحتمل سوى الوجوب والحرمة ، ولا يوجد احتمال ثالث ؛ لأنّ الأمر يدور بينهما فالإلزام معلوم ولكنّه مردّد بين الوجوب والحرمة فقط ، ولذلك فجريان هذا النحو من ألسنة البراءة معناه ثبوت الحلّيّة أو الإباحة ، وهذا يتنافى مع ثبوت الإلزام إجمالا.

الثاني : ما كان منها بلسان « رفع ما لا يعلمون » ، وهذا لا يشمل المقام أيضا ؛ وذلك لأنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الرفع في هذا الحديث ظاهري ولا يمكن حمله على الرفع الواقعي ، والمقصود من الرفع الظاهري رفع إيجاب الاحتياط.

وحينئذ نقول : إنّ الرفع إنّما يكون ممكنا فيما إذا كان الوضع ممكنا أيضا ، فلا يصحّ الرفع إلا في الموضع الذي يصحّ فيه الوضع.

ص: 421


1- فوائد الأصول 3 : 445 و 448.

وفي مقامنا لا يصحّ الوضع ؛ لأنّه مستحيل ، إذ الاحتياط بفعلهما معا محال ؛ لأنّ الجمع بين النقيضين محال ، والاحتياط بتركهما معا ممتنع ؛ لأنّه فاعل أم تارك في الواقع ، فالاحتياط بكلا قسميه متعذّر وغير ممكن. وعليه ، فيتعذّر الرفع أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

وبهذا يظهر أنّ البراءة الشرعيّة غير جارية في المقام ؛ لأنّ أدلّتها قاصرة عن الشمول للمورد ، فيتعيّن القول بالتخيير العقلي فقط ، استنادا على قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز.

وقد يلاحظ على كلامه :

أوّلا : أنّ إمكان جعل حكم ظاهري بالحلّيّة لا يتوقّف على أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ودعوى أنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ صحيحة ، ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم الواقعي الذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمّنا عنه أو منجّزا له.

وجوابه ، أوّلا : أنّ ما ذكره من عدم شمول أدلّة البراءة التي لسانها من قبيل أصالة الحلّيّة أو الإباحة غير صحيح ؛ وذلك لأنّه لا يشترط في جريانها أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ليقال : إنّ المورد هنا لا يحتمل فيه الحلّيّة الواقعيّة للدوران بين الوجوب والحرمة ، بل يشترط فيها كما يشترط في سائر الأصول العمليّة والأحكام الظاهريّة عموما من كون المورد مشكوكا وغير معلوم تفصيلا ، وهذا موجود في المقام ، إذ لا يعلم بالحكم التفصيلي للواقعة المذكورة لا الوجوب بخصوصه ولا الحرمة بخصوصها.

فإن قيل : إنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ في الحكم الواقعي ، فلا بدّ من الشكّ في الحلّيّة الواقعيّة لكي تثبت الحلّيّة الظاهريّة.

كان الجواب : أنّ تقوّم الحكم الظاهري بالشكّ صحيح ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّه يشترط أن يكون الشكّ الذي هو موضوع الأصل يعني احتمال مماثلة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، بل تقوّمه بالشكّ يعني ألاّ يكون الحكم الواقعي معلوما ، فيثبت التأمين أو التنجيز عن هذا الحكم الواقعي المشكوك ، إذ لو كان الحكم الواقعي معلوما لم يكن معنى لجريان التأمين أو التنجيز ظاهرا.

ص: 422

فظهر أنّ مثل أصالة الحلّ والإباحة تجري بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك ، وهذا متحقّق في مقامنا إذ لا يعلم بالحكم الواقعي ، فالموضوع متحقّق.

وثانيا : أنّ الرفع الظاهري في كلّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده ، وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وإن كان مستحيلا ولكنّ كلاّ من الرفعين لا يقابل إلا وضعا واحدا لا مجموع الوضعين.

والجواب الثاني : أنّ ما ذكره من عدم جريان البراءة التي لسانها من قبيل رفع ما لا يعلمون غير صحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ المراد من الموصول هو الشيء بعينه المجهول والمشكوك ، وحينئذ نقول : إنّ الوجوب بنفسه ممكن أن يوضع ، إذن فيمكن أن يرفع أيضا ، أي أنّه كما يحتمل صدور إلزام ظاهري للحفاظ على ملاكات الإلزام المحتملة يحتمل أيضا صدور ترخيص ظاهري للحفاظ على ملاكات الترخيص المحتملة.

وهكذا الحال بالنسبة للحرمة نفسها فيمكن وضع الاحتياط بلحاظها ولذلك يمكن رفع إيجاب الاحتياط ظاهرا.

وتكون النتيجة إمكان صدور ترخيصين : أحدهما بلحاظ الوجوب المشكوك ، والآخر بلحاظ الحرمة المشكوكة.

ولا يلزم من ذلك أن يكون المطلوب هو الجمع بين الضدّين ليقال بأنّه مستحيل فيستحيل طلب تركهما ، بل المراد أنّ كلّ واحد من الوجوب والحرمة فيه وضع مستقلّ لإيجاب الاحتياط ، ويراد بأدلّة البراءة الشرعيّة رفع كلّ واحد من هذين الوضعين بنحو مستقلّ ، ولا يلزم من ذلك الجمع بين الوضعين ، وإن لزم منه الجمع بين الرفعين ؛ إذ من الممكن التفكيك بين التلازم بأن يكون الجمع بين الوضعين مستحيلا ، ولكن الجمع بين الرفعين ممكن.

نظير قدرة الإنسان على الإتيان بالأفعال المتضادّة كل واحد منها مستقلاّ عن الآخر ، كالسفر إلى هذا البلد والسفر إلى ذاك وهكذا ، بحيث يستحيل أن يجمع بين هذه الأسفار في وقت واحد ، ولكنّه قادر على الجمع بين تركها بألاّ يسافر إلى أي بلد منها.

وهنا من هذا القبيل ، فإنّ المكلّف غير قادر على الجمع بين الفعل والترك ، والشارع لا يمكنه طلب الجمع بينهما ؛ لأنّه من طلب المستحيل ، إلا أنّه يمكنه الترخيص عن

ص: 423

الوجوب والترخيص عن الحرمة كلّ واحد مستقلاّ ، ولازمه ألاّ يجب عليه شيء من الفعل والترك ، فهو مختار لأن يفعل أو يترك من دون أن يتّصف فعله أو تركه بالوجوب أو الحرمة ، بل بالإباحة والترخيص.

فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثالث : الاعتراض على شمول أدلّة البراءة الشرعيّة عموما بدعوى انصرافها عن المورد ؛ لأنّ المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم بين الأغراض الإلزاميّة والترخيصيّة في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميّين ، وعليه فالبراءة الشرعيّة لا تجري ، ولكنّ العلم الإجمالي غير منجّز لما عرفت.

الاعتراض الثالث : ما يذكره السيّد الشهيد من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة بكافّة ألسنتها.

وتوضيحه : أنّ الأصول الترخيصيّة نوع من الأحكام الظاهريّة التي يجعلها الشارع في موارد التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، حيث يستدعي كلّ واحد منها الحفاظ عليه بنحو يفوّت الآخر ، فإذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالترخيص في المحتملات.

إذن فملاك جريان الأصول الترخيصيّة هو التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، بحيث تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وفي مقامنا لا يوجد تزاحم من هذا القبيل ؛ لأنّ المورد يدور أمره بين الوجوب والحرمة فقط ، للعلم إجمالا بجنس الإلزام ، وهذا يعني أنّ التزاحم بين الملاكات الإلزاميّة من جهتين ونوعين أي التزاحم بين ملاكات الوجوب وهو غرض لزومي ، وبين ملاكات الحرمة وهي غرض لزومي أيضا ، فالتزاحم بين غرضين لزوميّين ، لا بين غرض لزومي وغرض ترخيصي.

إذن فلا تجري الأصول الترخيصيّة كلّها ؛ لأنّ أدلّتها غير شاملة لهذا المورد ، إذ هي لم تشرّع لمثل هذا النحو من التزاحم الملاكي ، فالمورد خارج تخصّصا عن مورد جريان الأصول الترخيصيّة.

وهكذا يتّضح لنا حكم هذه الصورة وهو أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزية

ص: 424

والأصول الترخيصيّة لا تجري ، فالحكم هو التخيير العقلي فقط دون أن يكون هناك موقف للشارع منها.

وينبغي أن يعلم أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون في واقعة واحدة ، وقد يكون في أكثر من واقعة ، بأن يعلم إجمالا بأنّ عملا معيّنا إمّا محرّم في كلّ أيّام الشهر أو واجب فيها جميعا. وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعة واحدة.

وأمّا مع افتراض كونه في أكثر من واقعة فنلاحظ أنّ المخالفة القطعيّة تكون ممكنة حينئذ ، وذلك بأن يفعل في يوم ويترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على الموقف ، وهذا ما نتركه لدراسة أعلى.

وهنا تنبيه : وهو أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يفرض وجوده في واقعة واحدة ، وقد يفرض في أكثر من واقعة ، فهنا صورتان :

الأولى : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كما إذا علم بصدور حلف منه إمّا على فعل السفر أو على تركه يوم الجمعة.

وهذه الصورة هي التي كانت مقصودة في الأبحاث الماضية.

الثانية : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في أكثر من واقعة ، كما إذا علم بصدور حلفين منه إمّا على فعل السفر وإمّا على تركه يوم الخميس ويوم الجمعة معا ، وكما إذا علم بحرمة شيء في تمام أيّام الشهر أو بوجوبه في تمام أيّام الشهر كذلك.

فهنا يمكننا فرض المخالفة القطعيّة بخلافه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّه إذا فعل في يوم وترك في يوم ، أو سافر في كلا اليومين أو ترك السفر فيهما معا ، فإنّه يعلم بحصول المخالفة القطعيّة جزما.

ومن هنا ينفتح البحث مجدّدا في مؤثّريّة مثل هذا العلم الإجمالي في المنجّزيّة أو عدم كونه مؤثّرا فيها ، وفي جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين أو الأطراف أو عدم جريانها.

وهذا البحث نؤجّله إلى درس الخارج إن شاء اللّه تعالى.

ص: 425

ص: 426

الفهرس

خصائص الأصول العمليّة... 5

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة... 15

الأصول التنزيليّة والمحرزة... 25

مورد جريان الأصول العمليّة... 35

1 - الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ... 49

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ... 51

1 - مسلك قبح العقاب بلا بيان ... 52

2 - مسلك حقّ الطاعة ... 63

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ... 65

أدلّة البراءة من الكتاب... 69

هناك جوابان على هذا الاعتراض ... 73

أدلّة البراءة من السنّة... 89

واستدلّ من السنّة بروايات ... 91

حديث « كل شيء مطلق ... » ... 91

حديث « رفع عن أُمتي ... »... 98

الاعتراضات العامّة... 125

تحديد مفاد البراءة... 143

استحباب الاحتياط... 161

2 - الوظيفة في حالة العلم الإجمالي... 173

قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي... 175

ص: 427

1 - منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية... 179

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي ... 185

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة... 197

2 - جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه... 213

3 - جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه... 225

أما مقام الثبوت... 227

وأما مقام الثبوت... 239

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض... 259

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي... 275

الركن الأول : وجود العلم بالجامع ... 277

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع... 283

الركن الثالث : شمول الأصل المؤمن للطرفين... 293

الركن الرابع : الوقوع في المخالفة القطعية بالترخيص بالطرفين... 297

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي... 301

1 - زوال العلم بالجامع ... 303

2 - الاضطرار إلى بعض الأطراف... 314

3 - انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي ... 324

4 - الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول ... 330

5 - اشتراك علمين إجماليّين في طرف ... 339

6 - حكم ملاقي أحد الأطراف ... 345

7 - الشبهة غير المحصورة ... 350

8 - إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور ... 374

9 - العلم الإجمالي بالتدريجيّات ... 387

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي ... 398

3 - الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا... 409

1 - الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة ... 412

ص: 428

2 - دوران الأمر بين المحذورين ... 414

الفهرس... 427

ص: 429

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.