شرح الحلقة الثّالثة المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 459

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

3

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الثالث

مباحث الدليل العقلي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الدليل العقلي

ص: 5

ص: 6

الدليل العقلي

الدليل العقلي : كلّ قضيّة يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.

والبحث عن القضايا العقليّة : تارة يقع صغرويّا في إدراك العقل وعدمه ، وأخرى كبرويّا في حجّيّة الإدراك العقلي.

قبل الدخول في بحث القضايا العقليّة نذكر عدّة أمور ، منها :

الأمر الأوّل : تعريف الدليل العقلي.

بعد الفراغ من الدليل الشرعي بقسميه اللفظي وغير اللفظي ، يقع البحث حول الدليل العقلي :

والمراد بالدليل العقلي : هو حكم العقل بقضيّة يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، وتكون تلك القضيّة مدركة للعقل على نحو الاستقلاليّة ، فالحكم الذي يصدره العقل على نحو الجزم والقطع ويكون مستندا إلى العقل نفسه لا إلى الشرع ، وهو المبحوث عنه هنا.

وليس المراد من الدليل العقلي المعنى الفلسفي بمعنى القوّة العاقلة المدركة ، كما أنّه ليس المراد منه الحكم العقلي الذي يقع في كبرى الأقيسة المنطقيّة ، أو التي يرجع إليها بحيث تكون من المبادئ الأوّليّة لكلّ القضايا في مقام التصديق ، فإنّ هذا المعنى لا إشكال في حجّيّته منطقيّا عند الجميع.

وكذلك لا يراد من الحكم العقلي المستلزمات العقليّة ؛ لأنّها وإن كانت أحكاما عقليّة إلا أنّ العقل إنّما يحكم بها في طول ثبوت الحكم الشرعي أوّلا ، فهو حكم عقلي مستند إلى الشرع ؛ كحكم العقل بوجوب الإطاعة أو الامتثال لأحكام الشارع.

وكذا لا يدخل في البحث القضايا العقليّة التي لا يمكن أن يستنبط منها الحكم الشرعي ؛ لأنّها لا تكون حجّة بالمعنى الأصولي.

ص: 7

ثمّ إنّ الأحكام العقليّة : تارة ترجع إلى مدركات العقل النظري ، وأخرى إلى مدركات العقل العملي.

والمراد من العقل النظري : إدراك العقل لما هو كائن وموجود. والمراد من العقل العملي : إدراك ما ينبغي أن يكون ويوجد.

والدليل العقلي المبحوث عنه هنا يشمل كلا القسمين ، فيبحث عن حجّيّة كلّ قضيّة يدركها العقل سواء كان إدراكه لها نظريّا أم عمليّا ، فمثلا مسألة اجتماع الأمر والنهي أو مسألة الترتّب أو وجوب المقدّمة أو مسألة الضدّ كلّها ترجع إلى مدركات العقل النظري ؛ لأنّ البحث ينصبّ حول الإمكان أو الوجوب أو الاستحالة فيها ، بمعنى تحليل هذا الأمر الموجود.

بينما البحث عن حسن العدل وقبح الظلم ومصاديقهما في الخارج كالصدق والكذب ونحوهما ترجع إلى مدركات العقل العملي ، وهو وإن كان يبحث فيه عن الحكم الشرعي إلا أنّه يحتاج إلى ضمّ الملازمة القائلة : ( بأن ما حكم به العقل يحكم به الشرع ) أيضا ؛ دون النحو الأوّل ، ولو لا هذه الملازمة لم يمكن اكتشاف حكم الشرع من خلال إدراك العقل العملي بمجرّده بخلاف مدركات العقل النظري ، فإنّ ما يدركه يكون هو حكم الشرع أيضا ؛ لأنّ حكم العقل بضرورة الاستحالة أو الوجوب لا يمكن أن يكون الشرع مخالفا له.

والبحث عن القضايا العقليّة على قسمين : فتارة يكون بحثا كبرويّا ، وأخرى يكون صغرويّا.

والمراد من البحث الكبروي : هو البحث عن حجّيّة الدليل العقلي ، أي أنّ ما أدركه العقل هل يكون حجّة أم لا؟ والحجّيّة هنا بمعناها الأصولي ، فيكون البحث حول منجّزيّة أو معذّريّة الحكم العقلي شرعا.

بينما المراد من البحث الصغروي : هو البحث عن تحقيق موضوع حكم العقل ، فهل العقل يحكم بكذا أم لا؟ أو هل العقل يدرك هذا الأمر أم لا؟ فيبحث فيه عن إدراك العقل للطريق الموصل للحكم الشرعي ، فهل هذا الأمر طريق إلى الأحكام الشرعيّة وموصل إليها على نحو الجزم واليقين كالتواتر والإجماع والسيرة ، أم أنّه طريق ظنّي لا يوصل إليها إلا ظنّا ، ويحتاج الأخذ به إلى تعبّد شرعي لاحقا كالقياس والاستحسان ونحوهما؟

ص: 8

ولا شكّ في أنّ البحث الكبروي أصولي ، وأمّا البحث الصغروي فهو كذلك إذا كانت القضيّة العقليّة المبحوث عنها تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط.

وأمّا القضايا العقليّة التي ترتبط باستنباط أحكام معيّنة ولا تشكّل عنصرا مشتركا فليس البحث عنها أصوليّا.

الأمر الثاني : في كون البحث العقلي أصوليّا أم لا؟

تقدّم أنّ القضايا العقليّة : تارة يكون البحث عنها كبرويّا ، وأخرى يكون البحث عنها صغرويّا.

فإن كان البحث كبرويّا فتكون كلّ القضايا العقليّة المبحوث عنها كبرويّا داخلة في علم الأصول ؛ لأنّ البحث الكبروي هو البحث عن حجّيّة المسألة العقليّة التي أدركها العقل ، فيبحث حول منجّزيّتها أو معذّريّتها ، والبحث عن المنجّزيّة والمعذّريّة بحث أصولي ؛ ولأنّ هذه القضايا العقليّة الكبرويّة تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي في مختلف الأبواب ، بمعنى أنّها تشكّل عنصرا مشتركا له القابليّة للتطبيق في مختلف المسائل والأبواب الفقهيّة ، وليس خاصّا في مورد دون آخر.

وأمّا إن كان البحث صغرويّا أي البحث عن كون المسألة داخلة في الإدراك العقلي أو ليست داخلة فيه؟ فهذا يمكن تقسيمه إلى قسمين :

الأوّل : الأبحاث العقليّة الصغرويّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط بحيث يمكن أن تكون جارية في مختلف الأبواب الفقهيّة من دون اختصاصها بمورد دون آخر ، فمثل هذه الأبحاث تدخل في البحث الأصولي أيضا ، وذلك كالمسائل التي يدركها العقل النظري كحكمه باستحالة الترتّب أو وجوب المقدّمة أو إمكان أو استحالة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ هذه المسائل تقع عنصرا مشتركا في الاستنباط.

الثاني : الأبحاث العقليّة الصغرويّة التي تكون عنصرا خاصّا ، وترتبط بموارد معيّنة بحيث لا يمكن أن تكون شاملة أو قابلة للتطبيق في غير ذاك المورد ، كالبحث عن مسائل العقل العملي كالكذب والصدق ونحوهما ، فإنّ البحث عن مصاديقهما في الخارج صغرويّا يختصّ بمواردهما فقط ، فهذه لا تكون أصوليّة.

ص: 9

ثمّ إنّ القضايا العقليّة التي يتناولها علم الأصول : إمّا أن تكون قضايا فعليّة وإمّا أن تكون قضايا شرطيّة.

فالقضيّة الفعليّة من قبيل إدراك العقل استحالة تكليف العاجز ، والقضيّة الشرطيّة من قبيل إدراك العقل ( أنّ وجوب شيء يستلزم وجوب مقدّمته ) ، فإنّ مردّ هذا إلى إدراكه لقضيّة شرطيّة مؤدّاها ( إذا وجب شيء وجبت مقدّمته ) ، ومن قبيل إدراك العقل ( أنّ قبح فعل يستلزم حرمته ) فإنّ مردّه إلى قضيّة شرطيّة مؤدّاها ( إذا قبح فعل حرم ).

الأمر الثالث : في القضايا الفعليّة والشرطيّة.

تنقسم القضايا العقليّة إلى قسمين باعتبار نفس القضيّة ، فإنّ القضايا إمّا أن تكون فعليّة وإمّا شرطيّة.

والمراد من القضيّة الفعليّة هي الحكم العقلي أو الإدراك العقلي الذي لا يتوقّف على ثبوت شيء في مرتبة سابقة عن نفس القضيّة المدركة ، فالعقل يدرك المطلب ويحكم بحكمه من دون أن يتوقّف على شيء آخر ، فهو حكم منجّز وفعلي من قبيل إدراك العقل لاستحالة تكليف العاجز ، فحكم العقل بالاستحالة هنا لا يتوقّف على ثبوت التكليف أوّلا ، بل إنّ تصوّر العقل لتكليف العاجز في الذهن يكفيه لإقامة البرهان تصديقا على استحالة تكليفه ؛ لكونه تكليفا بغير المقدور أو بما لا يطاق.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم العقلي لا يتوقّف على ثبوت الموضوع في الخارج ، بل يكفي فرضه وتصوّره في الذهن.

بينما المراد من القضيّة الشرطيّة هو الحكم العقلي الذي يكون متوقّفا في رتبة سابقة على وجود حكم شرعي أوّلا ، ففي طول وجود هذا الحكم الشرعي يحكم العقل ، فحكمه إذا معلّق ومنوط بثبوت ذاك الحكم ، ولولاه لم يكن الحكم العقلي ثابتا.

ومثاله : إدراك العقل لوجوب المقدّمة ، فإنّ حكمه بوجوب المقدّمة فرع أن يكون ذو المقدّمة واجبا في رتبة سابقة ، إذ لو لم يكن الشيء واجبا أوّلا لم تكن مقدّماته واجبة على الخلاف الآتي في وجوب مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة.

فالحكم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ من السفر ونحوه فرع وجوب الحجّ عليه أوّلا ، فلو فرض كون الحجّ مستحبّا لم تكن مقدّماته واجبة ، إذا وجوب المقدّمة إنّما

ص: 10

يحكم به العقل فيما إذا تحقّق شرطها ، وهو وجوب ذي المقدّمة ، وحينئذ يؤلّف العقل قضيّة شرطيّة مفادها ( إنّه إذا وجب شيء فقد وجبت مقدّماته ).

ومثاله أيضا : حكم العقل بحرمة القبيح ، فإنّ هذا الحكم موقوف مسبقا على أن يكون ما حكم العقل بقبحه قد حكم الشارع بحرمته ، فإذا حكم العقل بقبح الكذب مثلا فالشارع يحكم بحرمته ، فيكون حكم العقل بحرمة الكذب موقوفا على ثبوت الملازمة القائلة بأنّه ( إذا قبح فعل فقد حرم ) ؛ إذ لو لم يكن القبيح عقلا حراما شرعا لم يمكن الحكم بحرمة ما يدركه العقل من قبيح.

والقضايا الفعليّة : إمّا أن تكون تحليليّة أو تركيبيّة.

والمراد بالتحليليّة : ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرة من الظواهر وتحليلها ؛ كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري ، أو عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه.

والمراد بالتركيبيّة : ما يكون البحث فيها عن استحالة شيء بعد الفراغ عن تصوّره وتحديد معناه ، من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في موضوعه مثلا.

الأمر الرابع : في تقسيم القضايا الفعليّة.

بعد أن قسّم القضايا العقليّة إلى فعليّة وشرطيّة ، شرع في تقسيم كلّ واحدة منهما إلى أنواعها ، فقسّم القضيّة الفعليّة إلى نوعين :

الأوّل : القضايا الفعليّة التحليليّة

، والمراد بها أن يقوم العقل بتفسير وتحليل ظاهرة من الظواهر أو حقيقة من الحقائق الموجودة ، بعد الفراغ عن ثبوت ذاك الشيء وعدم توقّفه على شيء آخر ، فإنّه مدرك لدى العقل بوضوح ، ولكن يبحث عنه تحليليّا من أجل أن يستكشف بعض الأمور أو الجزئيّات أو الملاك أيضا.

فمثلا البحث عن حقيقة الوجوب التخييري يعتبر بحثا تحليليّا ؛ لأنّه بحث عن كيفيّة تعلّق الوجوب بالتخيير وكيف يمكن تصوير ذلك ، بعد الفراغ عن إمكانه وثبوته واقعا؟

فإنّ مثل هذا البحث التحليلي ينفع بالنسبة لإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في صيغة الأمر لإثبات الوجوب التعييني مقابل الوجوب التخييري ، فيما إذا ثبت أنّ الأوّل لا يحتاج إلى مئونة زائدة بخلاف الثاني ، فإنّه يحتاج إلى مئونة زائدة ؛ لأنّه

ص: 11

يشتمل في حقيقته على شيء زائد على أصل الوجوب ؛ لأنّه إمّا أن يرجع إلى وجوبات مشروطة ، أو إلى تعلّق الوجوب بالجامع ، وكلاهما يحتاج إلى عناية ومئونة. وهكذا يكون البحث عن الوجوب التخييري مثلا بحثا تحليليّا ، ويكون من جهة أخرى داخلا في القضايا العقليّة الفعليّة ؛ لأنّ إدراك العقل للوجوب التخييري لا يتوقّف على شيء في رتبة سابقة عليه.

ومثاله أيضا : العلاقة بين الحكم والموضوع ، فإنّ كلّ الأحكام الشرعيّة منصبّة على موضوعاتها المفترضة والمقدّرة الوجود ، فالحكم ثابت لثبوت موضوعه في عالم الجعل والاعتبار ، ولكنّه لا يصبح فعليّا وعلى ذمّة المكلّف إلا إذا صار موضوعه فعليّا في الخارج ، فيكون الحكم في طول ثبوت وتحقّق الموضوع في الخارج ، فهل هذه الطوليّة في الرتبة بين الحكم والموضوع مجرّد طوليّة ، أو أنّها راجعة إلى السببيّة والعلّيّة فيكون ثبوت الموضوع سببا وعلّة لثبوت الحكم؟

وهذا البحث وتحليله وتفسيره ينفع في كثير من الموارد التي يثبت فيها الموضوع ثمّ يعصي المكلّف الحكم أو يعجّز نفسه عنه ، فإنّه هل يبقى الحكم ثابتا في حقّه مع انتفاء الموضوع أم لا؟

وينفع أيضا في المسئوليّة تجاه مقدّمات أو قيود الحكم بعد تحقّق موضوعه.

وهذا بحث تحليلي عقلي لاكتشاف هذه العلاقة بعد الفراغ عن ثبوتها والإيمان بها ، وكونها فعليّة وناجزة وغير متوقّفة على ثبوت شيء آخر قبلها ، بل هي مدركة لدى العقل مباشرة وبنفسها.

والآخر : القضايا الفعليّة التركيبيّة : وهي من نوع القضايا العقليّة الفعليّة التي لا تتوقّف على ثبوت شيء مسبقا ، ولكنّها ليست مبحوثة لدى العقل على أساس التحليل فقط ، وإنّما بعد الفراغ عن تحليلها وإدراكها وتصوّر معناها وتحديده من مختلف جوانبه وجهاته يبحث عن إمكان أو استحالة هذه القضيّة ، فتكون مركّبة من شيئين : ثبوت شيء أوّلا وتصوّره في العقل ، ثمّ الحكم عليه بالإمكان أو الاستحالة ثانيا. ولذلك سمّيت تركيبيّة ، من قبيل : أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوعه ، فإنّه يبحث عن إمكان أو استحالة مثل هذا التقييد بعد الفراغ عن تصوّره وتحديد معناه.

ص: 12

وهذا البحث العقلي حول أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوعه يعتبر قضيّة عقليّة فعليّة ؛ لأنّ البحث ليس متوقّفا على ثبوت شيء في رتبة سابقة عنه ، ويعتبر قضيّة تركيبيّة ؛ لأنّ البحث فيها عن إثبات حكم تصديقي لهذه القضيّة العقليّة ، أي إثبات شيء لشيء.

وهنا لا ينفع مجرّد التحليل لهذه القضيّة ، بل لا بدّ من إقامة الدليل العقلي والبرهان على الإمكان أو الاستحالة ، فهو بحث تصديقي وليس مجرّد تصوّر وتحليل لظاهرة ما ، بعد الفراغ عن ثبوتها ووقوعها في الخارج.

والقضايا الشرطيّة : إمّا أن يكون الشرط فيها مقدّمة شرعيّة ، من قبيل المثال الأوّل لها ، وإمّا ألاّ يكون كذلك ، من قبيل المثال الثاني لها.

وكلّ القضايا الشرطيّة التي يكون شرطها مقدّمة شرعيّة تسمّى بالدليل العقلي غير المستقلّ ؛ لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها إلى إثبات تلك المقدّمة من قبل الشارع.

وكلّ القضايا الشرطيّة التي يكون شرطها مقدّمة غير شرعيّة تسمّى ب- ( الدليل العقلي المستقلّ ) ؛ لعدم احتياجها إلى ضمّ إثبات شرعي.

الأمر الخامس : في تقسيم القضايا الشرطيّة.

تنقسم القضايا الشرطيّة - وهي ما كان الحكم العقلي فيها متوقّفا على ثبوت شيء في رتبة سابقة - إلى نوعين :

أحدهما : القضايا الشرطيّة التي يكون الشرط فيها مقدّمة شرعيّة ، وتسمّى ب- ( الدليل العقلي غير المستقلّ ).

مثال ذلك : وجوب المقدّمة ، فإنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة كما تقدّم متوقّف على ثبوت وجوب ذي المقدّمة في رتبة سابقة ، وذو المقدّمة هنا حكم شرعي كوجوب الحجّ أو وجوب الصلاة ، فإنّ حكم الشارع بوجوب الحجّ أو الصلاة يعتبر شرطا شرعيّا لحكم العقل بوجوب المقدّمة ، ولو لا ثبوت الحكم الشرعي المذكور لم يحكم العقل بوجوب المقدّمة.

وإنّما سمّي هذا النوع بغير المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بوجوب المقدّمة إلا بعد فرض ثبوت وجوب ذيها. فكان حكم العقل متوقّفا على

ص: 13

ثبوت شيء فهو حكم عقلي على نحو القضيّة الشرطيّة ، ولمّا كان الشرط هو الحكم الشرعي سمّي بالحكم العقلي غير المستقلّ.

والآخر : القضايا الشرطيّة التي يكون الشرط فيها مقدّمة غير شرعيّة ، وتسمى ب- ( المستقلاّت العقليّة ) ؛ وذلك لأنّ الشرط لمّا لم يكن شرعيّا فهو شرط عقلي ، فلم يكن حكم العقل محتاجا إلى ضمّ الحكم الشرعي إليه. نعم ، هو محتاج إلى ضمّ حكم عقلي آخر ولذلك كانت القضيّة شرطيّة.

ومثاله : حكم العقل بحرمة الكذب أو الظلم ونحوهما ، فإنّ هذا الحكم متوقّف على أن يكون هناك ملازمة بين حكم العقل بقبح شيء وبين حكم الشرع بحرمته ، فكان حكم العقل بحرمة الكذب مثلا متوقّفا على ثبوت الملازمة المذكورة في رتبة سابقة ، ولذلك فهو من القضايا الشرطيّة ، ولكن الملازمة المذكورة ليست حكما شرعيّا ، وإنّما هي حكم عقلي أيضا ، فمن هنا سمّي بالحكم العقلي المستقلّ.

وكذلك تعتبر القضايا العقليّة الفعليّة التركيبيّة كلّها أدلّة عقليّة مستقلّة ؛ لعدم احتياجها إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة في الاستنباط منها ؛ لأنّ مفادها استحالة أنواع خاصّة من الأحكام ، فتبرهن على نفيها بلا توقّف على شيء أصلا ، ونفي الحكم كثبوته ممّا يطلب استنباطه من القاعدة الأصوليّة.

وأمّا القضايا الفعليّة التحليليّة فهي تقع في طريق الاستنباط عادة عن طريق صيرورتها وسيلة لإثبات قضيّة عقليّة تركيبيّة والبرهنة عليها ، أو عن طريق مساعدتها على تحديد كيفيّة تطبيق القاعدة الأصوليّة.

ومثال الأوّل : تحليل الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه يشكّل برهانا على القضيّة العقليّة التركيبيّة القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

ومثال الثاني : تحليل حقيقة الوجوب التخييري بإرجاعه إلى وجوبين مشروطين ، أو وجوب واحد على الجامع مثلا ، فإنّ ذلك قد يتدخّل في تحديد كيفيّة إجراء الأصل العملي عند الشكّ ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعيينيّا لا عدل له ، أو تخييريّا ذا عدل.

الأمر السادس : بعد أن قسّم القضايا العقليّة الشرطيّة إلى المستقلاّت العقليّة وغير

ص: 14

المستقلاّت العقليّة ، رجع إلى القضايا العقليّة الفعليّة ليبحث عن كونها من أيّ القسمين هي ، فهل هي من المستقلاّت العقليّة أم من غير المستقلاّت؟

فقال : أمّا القضايا الفعليّة التركيبيّة : فهي تعتبر أدلّة عقليّة مستقلّة ؛ وذلك لعدم احتياجها إلى أيّة مقدّمة شرعيّة في عمليّة الاستنباط منها ؛ لأنّ البحث فيها ينصّب حول الإمكان أو الاستحالة ، وهذا بحث عقلي محض ولا يتوقّف على ثبوت شيء آخر من الشارع في مرتبة سابقة ، فاستحالة تكليف العاجز مثلا التي يثبتها العقل لا تتوقّف على كون الصلاة أو الصوم أو الحجّ أو أي حكم شرعي آخر واجبا ، بل بقطع النظر عن حكم الشرع يحكم العقل بالاستحالة.

ولا يقال : إنّ القضايا الفعليّة التركيبيّة لمّا لم تكن محتاجة إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة ، فهي إذا لا يستنبط منها حكم شرعي فلا تدخل في علم الأصول حينئذ ؛ لأنّ ما يستنبط منها هو الاستحالة أو الإمكان فقط.

وهذا ليس حكما شرعيّا ؛ لأنّه يجاب بأنّ هذه القضايا تدخل في علم الأصول ؛ وذلك لأنّ إثبات الاستحالة في مورد يلزم منه نفي الحكم الشرعي في فرضه ، فإنّنا إذا أثبتنا استحالة تكليف العاجز بحكم العقل ، فهذا يطبّق على كلّ مورد كان فيه المكلّف عاجزا لننفي عنه التكليف الشرعي في فرض عجزه عنه ، ونفي التكليف كإثبات التكليف يدخل في علم الأصول ؛ لأنّه متوقّف على استنباطه من القواعد الأصوليّة ؛ إذ القاعدة الأصوليّة ليست مختصّة في إثبات التكليف فقط ، بل نفي التكليف مطلوب أيضا من القاعدة الأصوليّة.

وأمّا القضايا الفعليّة التحليليّة : فهي أيضا داخلة في المستقلاّت العقليّة ؛ لأنّها لا تتوقّف على ضمّ شيء آخر إليها ، وإنّما العقل يبحثها بحثا تحليليّا لكشف بعض الجوانب والحقائق فيها ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري ، وأنّه وجوب واحد أو وجوبان مشروطان ، أو كالبحث عن حقيقة العلاقة بين الحكم وموضوعه ، فإنّ هذا البحث التحليلي العقلي لا يحتاج إلى افتراض وجود أو ضمّ الحكم الشرعي ، بل بقطع النظر عن الحكم الشرعي يبحث العقل هذا الأمر.

وهي أيضا داخلة في علم الأصول ؛ وذلك لأنّها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وذلك عن طريقين :

ص: 15

الطريق الأوّل : فيما إذا صارت وسيلة لإثبات قضيّة عقليّة والبرهنة عليها ، أي أنّها وقعت موردا للبحث من أجل إثبات إمكان أو استحالة القضيّة الفعليّة التركيبيّة ، والتي هي من القواعد الأصوليّة كما تقدّم آنفا ، وأمّا هي نفسها فمجرّد التحليل والبحث عن تفسير ظاهرة من الظواهر ليس أصوليّا في نفسه ، وإنّما يصبح كذلك فيما إذا أدّى البحث التحليلي إلى إثبات القضيّة التركيبيّة إمكانا أو استحالة ، فتصبح أصوليّة لذلك.

ومثاله : البحث التحليلي عن حقيقة الحكم المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فإنّه يشكّل برهانا على القضيّة العقليّة التركيبيّة القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الأحكام الشرعيّة منصبّة على موضوعاتها بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى أخذ الموضوع مقدّرا ومفترض الوجود في عالم الجعل والتشريع والاعتبار ، والموضوع هو كلّ المقدّمات والقيود والشروط التي يتوقّف عليها فعليّة الحكم المجعول.

فوجوب الحجّ على المستطيع لا يكون فعليّا إلا إذا تحقّق في الخارج إنسان مستطيع ، وأمّا قبل وجود الإنسان المستطيع فلا يكون الحجّ فعليّا ، وإنّما هو حكم شرعي موجود في عالم الجعل والإنشاء والاعتبار فقط ؛ لأنّ مثل هذا الحكم بالتحليل العقلي يرجع إلى قضيّة حقيقيّة مفادها : أنّه إذا وجد إنسان مستطيع في الخارج فيجب عليه الحج.

ومن هنا لم يكن وجوب الحجّ داعيا إلى إيجاد وتحقيق موضوعه في الخارج ، فوجوب الحجّ لا يسبّب ولا يدعو إلى أن يجعل الإنسان نفسه مستطيعا. نعم ، بعد أن يصبح مستطيعا يدعوه وجوب الحجّ إلى إيجاد الحجّ في الخارج ، فوجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه لا إلى إيجاد موضوعه.

وبهذا البحث التحليلي للعلاقة بين الحكم والموضوع نخرج بنتيجة وهي : أنّ وجوب الحجّ لا يدعو إلى إيجاد موضوعه ، بل إلى إيجاد متعلّقه فقط ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مسبّب عن الموضوع ، والمسبّب لا يدعو إلى إيجاد السبب. نعم ، وجوب الحجّ يدعو إلى إيجاد متعلّقه وهو الحجّ في الخارج ؛ لأنّه سبب إليه والسبب يدعو إلى إيجاد المسبّب بعد فرض صيرورته فعليّا من جميع الجهات.

ص: 16

وهذه النتيجة يمكن صياغتها بالنحو التالي : أنّ وجوب الحجّ الفعلي منوط ومتوقّف على وجود الإنسان المستطيع في الخارج ، فإذا وجد مستطيع فعلا في الخارج فقد وجب الحجّ فعلا عليه.

وهذه النتيجة تقع في طريق الاستنباط ؛ وذلك لأنّها ترتبط ببعض القضايا العقليّة التركيبيّة لاستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، فإنّ النتيجة السابقة وهي : ( إذا وجد مستطيع فقد وجب الحجّ عليه ) يبحث في أنّ أخذ العلم بالحكم فيها ( أي وجوب الحجّ ) في موضوعه هل هو ممكن أم مستحيل؟ فهل يجب الحجّ على المستطيع إن كان عالما بوجوب الحجّ أم لا؟

والجواب : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوعه مستحيل لاستلزامه الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كما سيأتي في محلّه ؛ لأنّه لو كان وجوب الحجّ منصبّا على المستطيع العالم بوجوب الحجّ في رتبة سابقة ، فهذا معناه أنّ الموضوع صار مركّبا من المستطيع ومن العلم بوجوب الحجّ والمفروض أنّ وجوب الحجّ ، مسبّب عن موضوعه فهو لا وجود له قبل موضوعه ، فإن كان هو نفسه مأخوذا في موضوعه فهذا يعني أنّه موجود من قبل فيصبح متقدّما ومتأخّرا ، ويصبح وجوب الحجّ مسبّبا عن وجوب الحجّ تبعا للعلاقة بين الحكم والموضوع.

وبهذا يظهر أنّ البحث التحليلي داخل في علم الأصول نتيجة ارتباطه بالبحث عن القضيّة التركيبيّة.

والطريق الثاني : فيما إذا كانت القضايا الفعليّة التحليليّة عنصرا مساعدا على تحديد كيفيّة تطبيق القاعدة الأصوليّة ، ففي مقام تطبيق القاعدة الأصوليّة على مصاديقها أو على مواردها في الخارج احتاجت إلى التحليل العقلي ، فكان التحليل العقلي عنصرا مساعدا لكيفيّة التطبيق ، بمعنى أنّ القاعدة بعد الاستعانة بالتحليل العقلي قد تطبّق على هذا المورد دون ذاك أو العكس أو لا تطبّق أصلا ، فيستفاد إثبات الحكم الشرعي أو نفيه عن المورد المبحوث عنه.

ومثاله : البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب التخييري ، فإنّه يقع في طريق الاستنباط وذلك على أساس مدخليّته في كيفيّة تطبيق الأصل العملي في بعض موارده ، كما فيما إذا شكّ في واجب أنّه على نحو التخيير بين عدّة بدائل أو أنّه

ص: 17

تعييني لا بديل ولا عدل له ، فإنّ البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب التخييري تنفع في كيفيّة إجراء الأصل العملي.

وتوضيحه : أنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب الجامع - لاستحالة الوجوبات المشروطة من جهة كونها تستلزم تعدّد العقاب فيما لو ترك الجميع لفعليّة كلّ منها في هذه الحالة لأنّ ترك الآخر متحقّق - فسوف يكون الفرض المذكور من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

ففي كفّارة الصوم مثلا سوف يدور الأمر بين إيجاب واحدة من الخصال الثلاث على سبيل التعيين ، أو إيجابها على سبيل التخيير بينها وبين الأخريين.

وحينئذ سوف يرتبط البحث بمسألة جريان البراءة في موارد التعيين والتخيير عن الحصّتين الأخريين لو امتثل الحصّة الأولى ، فقد يقال بجريانها عنهما ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد وقد يقال بعدم جريانها كما سوف يأتي ، بل يجري الاحتياط فيما لو امتثل غير الحصّة التي يحتمل كون إيجابها تعيينيّا.

وأمّا إن قيل برجوع الوجوب التخييري إلى وجوبات مشروطة ، بحيث تكون كلّ واحدة من خصال الكفّارة واجبة بنفسها وجوبا استقلاليّا بشرط ترك الحصّتين الأخريين ، فسوف يرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى الشكّ في إطلاق الوجوب في كلّ واحدة من الحصص سواء أتى بالحصّتين أم لا ، وفي كونه وجوبا مشروطا بترك الحصّتين ، فإذا امتثل إحدى الحصّتين سوف يشكّ في بقاء الوجوب في الحصص الأخرى ؛ لاحتمال كون وجوبها مطلقا ، وهذا شكّ في تكليف زائد فتجري فيه البراءة.

وبهذا يتّضح أنّ البحث عن حقيقة الوجوب التخييري يرتبط ارتباطا وثيقا بكيفيّة جريان البراءة ، أو الاحتياط عند الشكّ في واجب ما أنّه تعييني أو تخييري.

وكذلك ينفع البحث التحليلي عن الوجوب التخييري في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّه إذا قيل بأنّ الوجوب التخييري يرجع إلى وجوبات مشروطة ولو بلحاظ عالم المبادئ كانت كلّ حصّة واجبة بنفسها ، وحينئذ يمتنع تعلّق النهي بها ولو باختلاف العنوان للتنافي بين الوجوب والحرمة ؛ إذ يستحيل تعلّقهما بعنوان واحد على نحو الاستقلال.

ص: 18

بينما إذا قيل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجوب الجامع فسوف لا تكون كلّ حصّة واجبة بعنوانها ، فحينئذ لا يمتنع تعلّق النهي بها بعنوانها ؛ لأنّ الوجوب لم يتعلّق بها بعنوانها الخاصّ ، بل بالجامع فيكون من موارد النهي عن الجامع والأمر بالحصّة ، وهو ممكن في نفسه.

وهذا البحث التحليلي للوجوب التخييري ينفع في مقام الاستنباط ؛ لأنّه يساعد في كيفيّة تطبيق مسألة الاجتماع على مواردها ومصاديقها. فتارة يجري الإطلاق لإثبات تحقّق المأمور به والإجزاء ، وأخرى يثبت الامتناع ويدخل المورد في بحث التعارض بين الدليلين.

ومن هنا يظهر أنّ البحث التحليلي عن القضايا الفعليّة يمكن أن يدخل في علم الأصول بواسطة أحد هذين الطريقين ، فهي إمّا أن تقع في إثبات إمكان أو استحالة بعض القضايا التركيبيّة والتي هي قواعد أصوليّة ، وإمّا أن تساعد في كيفيّة تطبيق بعض القواعد الأصوليّة على مواردها ، وينتج من ذلك إثبات الحكم أو نفيه وهو المطلوب من القاعدة الأصوليّة.

وسوف نلاحظ أن القضايا العقليّة متفاعلة فيما بينها ومترابطة في بحوثها ، فقد نتناول قضيّة تحليليّة بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال الاتّجاهات المتعدّدة في تفسيرها قضايا عقليّة تركيبيّة ؛ إذ قد يدّعي بعض صيغة تشريعيّة معيّنة في تفسيرها فيدّعي الآخر استحالة تلك الصيغة ويبرهن على ذلك ، فتحصل بهذه الاستحالة قضيّة تركيبيّة.

أو قد تطرح قضيّة تحليليّة للتفسير فيضطرّنا تفسيرها إلى تناول قضايا تحليليّة أخرى تساعد على تفسير تلك القضيّة ، وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا الأخرى عادة ضمن إطار تلك القضيّة إذا كان دورها المطلوب مرتبطا بما لها من دخل في تحليل تلك القضيّة وتفسيرها.

الأمر السابع : في التفاعل بين القضايا العقليّة.

وفي ختام البحث عن القضايا العقليّة يذكر السيّد الشهيد أنّ هذه القضايا متفاعلة فيما بينها بمعنى أنّ البحث متداخل في كثير من الأحيان بين هذه القضايا ومترابط أيضا ارتباطا وثيقا في أغلب الموارد.

ص: 19

ويذكر لهذا التفاعل مثالين من التفاعل بين القضايا الفعليّة التحليليّة مع القضايا التركيبيّة ، ولا يتعرّض للتفاعل بين القضايا الفعليّة والقضايا الشرطيّة ، ولعلّه لعدم وجود مثل هذا التفاعل ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما مباين للأخرى ، فالقضايا الفعليّة غير متوقّفة على ضمّ شيء مسبقا إليها ، بل يدركها العقل بنحو الاستقلاليّة.

بينما القضايا الشرطيّة تحتاج إلى ضمّ مقدّمة شرعيّة أو مقدّمة غير شرعيّة إليها فلم يكن البحث فيها استقلاليّا ، ومن هنا لم يكن بينهما أدنى ترابط بين هذين القسمين.

وأمّا القضايا الفعليّة بنوعيها التحليليّة والتركيبيّة فيمكن أن يكون هناك ترابط فيما بينها في أكثر الأحيان والموارد.

فمثلا يكون البحث في قضيّة تحليليّة فيدخل فيه البحث عن بعض القضايا التركيبيّة ، ففي البحث التحليلي عن الوجوب التخييري قد يدّعي البعض أنّه وجوبات مشروطة ، فيشكل البعض الآخر بأنّ هذا مستحيل ويقيم البرهان على الاستحالة ، وهذا بحث تركيبي. أو يكون البحث عن إثبات كونه من الوجوبات المشروطة ، فيدخل فيه البحث التحليلي عن حقيقة الوجوب المشروط ، وأنّه كيف يمكن تصوّر الوجوب مع كونه مشروطا ببعض القيود؟ وهذا البحث التحليلي يدخل فيه البحث التركيبي عن إمكانيّة أو استحالة الوجوب المشروط.

وهكذا سوف نلاحظ التفاعل بين البحوث التحليليّة والبحوث التركيبيّة للقضايا العقليّة.

وسنتناول فيما يلي مجموعة من القضايا العقليّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، ثمّ نتكلّم بعد ذلك عن حجّيّة الدليل العقلي.

وبعد هذه الدراسة لأقسام القضايا العقليّة ، سوف نقسّم البحث إلى قسمين :

القسم الأوّل : في بحث بعض القضايا العقليّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، وهذا يحقّق الصغرى.

والقسم الآخر : في حجّيّة الدليل العقلي بعد الفراغ عن البحث الصغروي.

* * *

ص: 20

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

اشارة

ص: 21

ص: 22

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

شرطيّة القدرة ومحلّها :

في التكليف مراتب متعدّدة ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والجعل ، والإدانة.

فالملاك : هو المصلحة الداعية إلى الإيجاب.

والإرادة : هي الشوق الناشئ من إدراك تلك المصلحة.

والجعل : هو اعتبار الوجوب مثلا ، وهذا الاعتبار تارة يكون لمجرّد إبراز الملاك والإرادة ، وأخرى يكون بداعي البعث والتحريك ، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفّل بإثبات الجعل.

والإدانة : هي مرحلة المسئوليّة والتنجّز واستحقاق العقاب.

مقدّمة البحث : إنّ الحكم في مقام الثبوت يشتمل على المراتب التالية :

1 - الملاك : وهو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الشارع في الأشياء بحيث تكون هي الداعي إلى جعل الإيجاب أو التحريم.

2 - الإرادة : وهي عبارة عن الشوق والحبّ أو البغض اللذين يتولّدان من المصلحة أو المفسدة في الفعل ، فبقدر تلك المصلحة أو المفسدة يتولّد شوق أو بغض مولوي وإرادة مولويّة تتناسب معها.

3 - الجعل : وهو عبارة عن صياغة الإرادة والشوق والبغض المولوي صياغة اعتباريّة وجعليّة للإيجاب أو التحريم ، إلا أنّ هذه الصياغة يمكن تصوّرها على نحوين : فتارة يصوغ المولى الإيجاب أو التحريم لمجرّد الكشف عن الإرادة والملاك في هذا الفعل من دون أن يكون هناك شيء آخر وراء هذه الصياغة.

وأخرى يصوغه بداعي البعث والتحريك أي من أجل تسجيل الإيجاب أو التحريم على ذمّة المكلّف وإدخال الفعل في عهدته ، فيصبح مسئولا عنه ومطالبا به.

ص: 23

والظاهر من الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي كون هذا الحكم مبرّزا ومصاغا بداعي البعث والتحريك ؛ لأنّ الاعتبار هو عمليّة التشريع والتقنين ، وليس مجرّد صياغة اعتباريّة لا تحمل في طيّاتها أيّة مسئوليّة للمكلّف كما هو المتعارف بين الناس والعرف.

4 - الإدانة : وهي المرحلة الأخيرة وهي ترتبط بعالم الإثبات ؛ وذلك لأنّ التكليف إذا وصل إلى المكلّف صار فعليّا ومنجّزا عليه ومطالبا به ؛ لأنّه أصبح في عهدته وذمّته ، ويجب عليه عقلا أن يفرّغ ذمّته منه وذلك بأدائه وامتثاله ، فإذا عصى ولم يمتثل كان مدانا ومستحقّا للعقاب بحكم العقل لعدم امتثاله وإطاعته لأحكام من تجب إطاعته عقلا.

ولا شكّ في أنّ القدرة شرط في مرحلة الإدانة ؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن مقدورا فلا يدخل في حقّ الطاعة للمولى عقلا ، كما أنّ مرتبتي الملاك والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة كشرط فيهما - بحيث لا ملاك في الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز - وعن عدم دخالتها كذلك - بحيث يكون الفعل واجدا للمصلحة ومحطّا للشوق حتّى من العاجز - وقد تسمّى القدرة في الحالة الأولى بالقدرة الشرعيّة وفي الحالة الثانية بالقدرة العقليّة.

محلّ شرطيّة القدرة في التكليف : بعد أن ذكرنا المراتب الأربع للتكليف ، نعود لأصل البحث في هذه المسألة وهي أنّ القدرة التي هي شرط في التكليف في أيّة مرتبة من هذه المراتب الأربع تكون شرطا؟

والجواب : أمّا مرتبة الإدانة فلا شكّ في كون القدرة شرطا في هذه المرحلة ، فالعقل لا يحكم باستحقاق المكلّف للإدانة واستحقاق العقوبة على عدم الامتثال والإطاعة فيما إذا لم يكن قادرا على ذلك ، بل لا يحكم العقل بدخول الفعل في ذمّة وعهدة المكلّف حينئذ ، ولا يشمل حقّ الطاعة للمولى المكلّف العاجز تكوينا عن الامتثال ؛ لأنّ إدانة العاجز وغير القادر قبيح عقلا ؛ لأنّه مضطر إلى الفعل أو الترك فما يصدر منه لم يكن عن اختيار وإرادة ليطالب به ؛ لأنّ حقّ الطاعة لا يشمل موارد عدم الاختيار.

وهذا الاشتراط واضح ولا كلام فيه ، ولذلك فمن المستحيل أن يصدر من الشارع

ص: 24

إدانة وعقاب للمكلّف لمجرّد أنّه عصى أو خالف تكليف المولى مع عدم قدرته على امتثاله وإطاعته تكوينا.

وأمّا بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة فليس من الضروري أن تكونا مشروطتين بالقدرة ، بل يمكن إطلاقهما حتّى لموارد العجز ، فكما يمكن أن نتصوّر كون الملاك والإرادة مشروطين بالقدرة بحيث لا يكون هناك ملاك وإرادة على المكلّف العاجز ، فكذلك يمكن أن نتصور عدم كونهما مشروطين بالقدرة ، فيكون الملاك والإرادة ثابتين حتّى لموارد عجز المكلّف أيضا.

فإن قلنا بأنّ الملاك والإرادة مشروطان بالقدرة ، فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي لا تترتّبان على الفعل بما هو هو ، بل على الفعل المقدور فقط ، ممّا يعني أنّ اتّصاف الفعل بالمصلحة أو المفسدة مقيّد ومشروط بالقدرة عليه ، فما دام غير مقدور عليه فلا يمكن اتّصافه بذلك.

وأمّا إن قلنا بأنّ الملاك والإرادة غير مشروطين بالقدرة فالمصلحة والمفسدة أو الشوق المولوي موجودان حتّى في موارد العجز ، فالفعل يتّصف بالمصلحة والشوق وإن كان المكلّف عاجزا عنه تكوينا.

والوجه في أنّ الملاك والإرادة لا يأبيان التقييد بالقدرة وعدمه هو أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور التكوينيّة التي يتّصف بها الفعل ، وهما موجودان سواء كان المكلّف قادرا على استيفائهما أم كان عاجزا عن ذلك ، والإرادة ليست إلا الشوق المولوي الحاصل من ذلك الملاك فيمكن تقييده بالقدرة وإطلاقه ؛ لأنّه يمكن أن يتعلّق بالمستحيل بالذات كاجتماع الضدّين أو النقيضين ؛ إذ لا مانع من حبّ ذلك أو بغضه ، كما يمكن تعلّقهما بالممتنع بالعرض كسائر الموارد التي لا يتمكّن الإنسان من القيام بها لعجزه ومحدوديّته.

وحينئذ فإن كانت القدرة شرطا في الملاك والإرادة أطلق عليها عنوان القدرة الشرعيّة ، وإن لم تكن شرطا فيهما أطلق عليها عنوان القدرة العقليّة.

وإنّما عبّر السيّد الشهيد عن هذه التسمية بقوله : ( وقد تسمّى ... ) من أجل أنّ هذين التعبيرين كما سوف يأتي لا حقا يطلقان على ما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل فتسمّى بالقدرة الشرعيّة ، وبين ما إذا لم تكن مأخوذة فيه فتسمّى بالقدرة

ص: 25

العقليّة ، ووجه التسمية هناك واضح ؛ لأنّ أخذ القدرة في لسان الدليل يتناسب مع إطلاق القدرة الشرعيّة عليها ، وعدم أخذها في الدليل يعني أنّ العقل هو الذي يحكم باشتراط القدرة فقط ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة المرتبة التي يقيّدها العقل بالقدرة.

وأمّا وجه التسمية هنا فلأنّ القدرة إن كانت شرطا في الملاك والإرادة فهذا معناه أنّ الشارع هو الذي اشترطها فيهما ؛ لأنّ الملاك والإرادة بنفسهما غير آبيين عن اشتراطهما أو عدم اشتراطهما ، فتكون القدرة شرعيّة ؛ لأنّ الشارع هو الذي لاحظها في الملاك والإرادة. وإن لم تكن القدرة شرطا فيهما كانت القدرة عقليّة ، بمعنى أنّ القدرة شرط بحكم العقل ، وحينئذ لا بدّ من مراجعة حكم العقل لنرى أي مرتبة من مراتب التكليف يشترط القدرة فيها.

وأمّا في مرتبة الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورة مجرّدة لم نجد مانعا عقليّا عن شمولها للعاجز ؛ لأنّها اعتبار للوجوب والاعتبار سهل المئونة ، وقد يوجّه إلى المكلّف على الإطلاق لإبراز أنّ المبادئ ثابتة في حقّ الجميع. ولكن قد نفترض جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي ، ومن الواضح هنا أنّ التحريك المولوي إنّما هو بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسئوليّة ، ومع العجز لا إدانة ولا مسئوليّة كما تقدّم ، فيستحيل التحريك المولوي ، وبهذا يمتنع جعل الحكم بداعي التحريك المولوي.

وحيث إنّ مفاد الدليل عرفا هو جعل الحكم بهذا الداعي فيختصّ لا محالة بالقادر ، وتكون القدرة شرطا في الحكم المجعول بهذا الداعي.

وأمّا بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، فقد تقدّم أنّ هذه المرتبة يمكن تصوّرها بنحوين : فتارة يكون جعل الحكم والاعتبار لمجرّد إبراز الملاك والإرادة والكشف عنهما ، فيكون الاعتبار مجرّد صياغة تعبيريّة وإنشاء محضا ، وأخرى يكون جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي للمكلّف وتسجيل الفعل على ذمّته وإدخاله في عهدته ، فيكون الاعتبار وجعل الحكم من باب التقنين والتشريع لا مجرّد صياغة إنشائيّة فقط.

فإن كان جعل الحكم بالنحو الأوّل فلا مانع حينئذ من عدم اشتراط التكليف بالقدرة في هذه المرتبة ؛ لأنّ مجرّد الاعتبار والإنشاء والصياغة من غير أن يكون وراء ذلك شيء آخر ، لا يمتنع بحكم العقل أن يكون مطلقا وغير مشروط بالقدرة ؛ لأنّه ما

ص: 26

دام التحريك منتفيا فبالتالي لا اشتغال للذمّة ولا مسئوليّة ولا عقوبة ولا إدانة على شيء.

وليس ذلك إلا مجرّد اعتبار وإنشاءات لفظيّة فقط وهي سهلة المئونة ؛ لأنّ الاعتبار بمجرّده من دون أن يكون وراءه شيء ومن دون أن يكون معبّرا عن شيء حقيقي لا يعدو عن كونه مجرّد لفظ فقط.

فإن قيل : ما هي الفائدة والنكتة من إبراز الخطاب مطلقا حتّى يشمل موارد العجز ، مع أنّه في موارد العجز لن يكون لهذا الخطاب مؤثّريّة أصلا؟

كان الجواب : أنّ الفائدة من ذلك هي إظهار الملاكات والإرادة والشوق المولوي بهذا الخطاب المطلق ، وأنّها مطلقة وشاملة حتّى للعاجز بمعنى ثبوت الملاك والإرادة في موارد العجز ، ممّا يعني أنّ القدرة لم تؤخذ شرطا فيهما.

وقد تقدّم آنفا أنّ الملاك والإرادة لا يمتنع تعلّقهما بغير المقدور ذاتا أو الممتنع بالغير ، فمن أجل إبراز هذا الأمر والكشف عنه كان الخطاب والاعتبار الإنشائي مطلقا وغير مقيّد بالقدرة أيضا.

وأمّا إن كان جعل الحكم بالنحو الثاني أي بداعي البعث والتحريك ، فمن الواضح أنّ القدرة شرط فيه ؛ وذلك لأنّ البعث والتحريك للمكلّف يقتضيان إدخال الفعل في عهدته وصيرورته مسئولا عنه ومطالبا به ، ويستحقّ العقوبة على مخالفته ، وبالتالي يصبح مدانا عقلا.

وقد تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة إذ يمتنع عقلا إدانة العاجز ؛ لأنّه غير مختار ، وما دامت المحركيّة مجعولة من أجل الإدانة أو هي مقدّمة للإدانة وسبب لها فهي مشروطة بالقدرة أيضا.

وبتعبير آخر : إنّ الداعي والهدف إن كان هو تحريك المكلّف ، فمن الواضح أنّ العاجز لا يمكنه تحريكه ولا يمكن تحرّكه عن الخطاب المولوي والجعل الشرعي ، فكان الجعل بهذا الداعي مقيّدا بحكم العقل بالقدرة.

وأمّا الصحيح : فقد تقدّم في محلّه إنّ جعل الحكم إنّما هو بداعي البعث والتحريك وليس مجرّد صياغة إنشائيّة اعتباريّة محضة ؛ وذلك لأنّ العرف يفهم من الجعل الشرعي هذا المعنى ؛ لأنّه هو المتداول في المحاورات العرفيّة بين الآمرين والمأمورين

ص: 27

العرفيّة ، وما دام جعل الحكم بداعي البعث والتحريك إذا فهو مشروط بالقدرة عقلا.

وبهذا ظهر أنّ القدرة إنّما تكون شرطا فيما يلي :

1 - في مرحلة الإدانة والعقوبة فلا إدانة ولا عقوبة على العاجز.

2 - في مرحلة جعل الحكم بداعي البعث والتحريك ، فلا محركيّة ولا بعث بحقّ العاجز.

وأمّا في مرحلتي الملاك والإرادة فقد تكون دخيلة وشرطا ، وقد لا تكون شرطا فيهما.

وأمّا في مرحلة جعل الحكم كاعتبار محض فهي ليست شرطا فيمكن جعل الاعتبار مطلقا.

والقدرة إنّما تتحقّق في مورد يكون الفعل فيه تحت اختيار المكلّف فإذا كان خارجا عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا إيجابا ولا تحريما ، سواء كان ضروري الوقوع تكوينا أو ضروري الترك كذلك ، أو كان ممّا قد يقع وقد لا يقع ، ولكن بدون دخالة لاختيار المكلّف في ذلك كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه في كلّ ذلك لا تكون القدرة محقّقة.

معنى القدرة هنا : المراد من القدرة المبحوث عنها هو كون الفعل واقعا تحت اختيار المكلّف ، بحيث يمكن للمكلّف فعله أو تركه ، فالمكلّف القادر هو الذي يمكنه أن يفعل كما يمكنه أن يترك ، بحيث ينتسب الفعل أو الترك إلى اختياره.

فإذا لم يكن المكلّف مختارا في الفعل أو الترك لم يكن قادرا ، فتنتفي القدرة فيما إذا سلب الاختيار عن المكلّف في الفعل أو الترك ، ومع انتفاء القدرة لا تكليف لا إيجابا ولا تحريما.

فإذا كان الفعل ضروري الوقوع من المكلّف لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس قادرا على الترك فلا تكليف عليه كما في دقّات القلب مثلا ، فإنّها ضروريّة الوقوع منه.

وإذا كان الفعل ضروري الترك منه لم يكن مختارا ؛ لأنّه ليس بقادر على الفعل فلا تكليف عليه أيضا ، كما في الخروج من الأرض مثلا من دون وسيلة لذلك.

وهكذا الحال فيما لو كان الفعل ممّا يقع ولا يقع من المكلّف ولكن من دون اختيار منه ، أي أنّ الفعل في نفسه ممكن إلا أنّه ليس داخلا تحت إرادته مطلقا ، بل في بعض

ص: 28

الحالات فقط ، فهنا أيضا لا يكون مختارا فيه فلا يكلّف به لعدم قدرته عليه ؛ لأنّه هنا غير مختار في أصل الفعل وإن كان مختارا في حالاته فقط ؛ كنبع الماء في جوف الأرض ، فإنّه قد يقع من المكلّف وقد لا يقع منه ، ولكن في حالة وقوعه منه كما إذا حفر بئرا فخرج نبع الماء لا يكون استناد الخروج إليه ؛ لأنّ خروجه مستند إلى أسبابه وعلله التكوينيّة ، والحفر إنّما هو مقدّمة أو وسيلة للكشف عن هذا النبع.

أو كالنوم مثلا فإنّ أصل النوم ليس داخلا في اختيار المكلّف ، بل هو مضطر للنوم. نعم ، حالات النوم وأوقاته باختياره ، كالليل أو النهار أو الصباح أو الظهر أو الكثرة أو القلّة منه.

وبهذا يتّضح أنّ القدرة المأخوذة شرطا في التكليف بداعي البعث والتحريك أو في الإدانة واستحقاق العقوبة إنّما هي القدرة ، بمعنى تساوي الفعل والترك للمكلّف وقدرته عليهما ، بحيث يستند كلّ منهما إلى فعله واختياره وإرادته ، وفي غير ذلك يكون مسلوب القدرة والاختيار فلا تكليف عليه ولا عقوبة.

وثمرة دخل القدرة في الإدانة واضحة ، وأمّا ثمرة دخلها في جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر بلحاظ وجوب القضاء ، وذلك في حالتين :

ثمرة البحث : تقدّم أنّ القدرة شرط في التكليف في مرحلة الإدانة ، وهذا معناه أنّ العاجز وغير القادر لا يكون مدانا شرعا على عدم امتثاله أو عصيانه ؛ وذلك لأنّه خارج عن اختياره وقدرته ، والتكليف لا يكون إلا بما هو داخل ضمن اختيار المكلّف.

وأمّا إذا لم تكن شرطا في الإدانة فيكون العاجز الذي لم يمتثل التكليف مدانا ، وهذا يستحيل ثبوته من الشارع كما هو واضح.

وهكذا بالنسبة لدخالتها أو عدم دخالتها في الحكم بلحاظ مرتبتي الملاك والإرادة ، فأيضا تقدّم أنّ القدرة إن كانت دخيلة في الملاك والإرادة فهذا يعني أنّ العاجز وغير القادر لا ملاك في الفعل الذي يصدر منه ولو اتّفاقا ، ولا يكون هو المراد للشارع أيضا ، وأمّا إذا لم تكن دخيلة فيهما فالعاجز إذا صدر منه الفعل ولو اتّفاقا كان واجدا للملاك وكان مرادا للشارع.

ويترتّب على دخالة القدرة أو عدم دخالتها هنا الإجزاء وعدمه بالنسبة للعاجز الذي صدر منه الفعل ولو اتّفاقا ، فإنّه بناء على دخالتها فيهما لا يكون هناك إجزاء ،

ص: 29

بل تجب عليه الإعادة أو القضاء. وبناء على عدم دخالتها يكون الإجزاء متحقّقا ويقال بالامتثال للمأمور به أو المنهي عنه.

وأمّا بالنسبة لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم ، حيث تقدّم إنّ المراد من جعل الحكم هو الداعي للبعث والتحريك ، فتكون القدرة شرطا فيه.

فثمرة اشتراط القدرة قد تبدو غير واضحة هنا ؛ إذ قد يشكل على ذلك فيقال : إنّ القدرة ما دامت شرطا في الإدانة بحيث لا يمكن إدانة العاجز ولا يكون العاجز مستحقّا للعقاب ، فسواء قلنا باشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرتبة جعل الحكم أم لم نقل باشتراطها فيه ، فالعاجز لن يكون مدانا على كلّ حال ؛ لأنّه سواء كان مخاطبا بالتكليف أم لم يكن مخاطبا به ، فعجزه عنه معذّر له عن الامتثال والإطاعة.

ولكن يجاب : أنّ لاشتراط القدرة في التكليف بلحاظ مرحلة جعل الحكم ثمرة تظهر بلحاظ وجوب القضاء فيما إذا كان للفعل المأمور به قضاء ، فإنّه حينئذ يمكن أن يبحث من هذه الجهة في وجوب القضاء على العاجز عن التكليف في وقته ، ولكن بعد انقضاء الوقت إذا ارتفع عجزه فهل يثبت عليه القضاء أم لا؟

والنكتة في انفتاح هذا البحث هي أنّ الملاك هل هو نحو ملاك يختصّ بحالات القدرة فقط ، أو أنّه ملاك يشمل حتّى حالات العجز أيضا ، فإنّه سوف يؤدّي إلى التساؤل بحقّ العاجز في كون الملاك شاملا له أم لا؟

ومن هنا سوف تظهر لنا الثمرة في حالتين ، هما :

الأولى : أن يعجز المكلّف عن أداء الواجب في وقته ، ونفترض أنّ وجوب القضاء يدور إثباتا ونفيا مدار كون هذا العجز مفوّتا للملاك على المكلّف وعدم كونه كذلك ، فإنّه إذا لم نقل باشتراط القدرة في مرتبة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب على العاجز - وإن لم تكن هناك إدانة - ونثبت حينئذ بالدلالة الالتزاميّة شمول الملاك ومبادئ الحكم له.

وبهذا نعرف أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك فيجب عليه القضاء ، وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فإنّ الدليل حينئذ يسقط إطلاقه عن الصلاحيّة لإثبات الوجوب على العاجز ، وتبعا لذلك تسقط دلالته الالتزاميّة على المبادئ فلا يبقى كاشف عن الفوت المستتبع لوجوب القضاء.

ص: 30

الثمرة الأولى : إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالواجب المأمور به في وقته ، كما إذا عجز عن أداء صلاة الصبح في وقتها ، أو عجز عن صوم يوم من أيّام شهر رمضان ، فهنا هل يجب عليه قضاء هذا اليوم أو هذه الصلاة أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا بنينا فقهيّا على أنّ وجوب القضاء للفعل المأمور به إذا لم يؤت به في وقته كان منوطا إثباتا ونفيا بمسألة الملاك ، فإنّه تارة يكون العجز عن الفعل في وقته مفوّتا لتمام الملاك ، وأخرى لا يكون كذلك وإنّما كان هناك شيء من الملاك يبقى حتّى مع عجز المكلّف عن الفعل في وقته ، وهذا الملاك الباقي يمكن استيفاؤه بعد الوقت ، فإن كان مفوّتا لتمام الملاك فلا يبقى شيء من الغرض لا في وقته ولا في خارجه فلا يجب القضاء ، وإن كان هناك ملاك يمكن استيفاؤه فهنا تظهر الثمرة ؛ وذلك لأنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل الشرعي ، فإنّ مثل : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أو ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) تدلّ على البعث والتحريك وجعل الحكم لعنوان المكلّف ، سواء كان قادرا أم عاجزا.

وهذا يعني أنّنا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق مثل هذا الخطاب لإثبات الوجوب على العاجز أيضا ، وإذا كان الوجوب ثابتا على العاجز والذي هو المدلول المطابقي للخطاب نثبت بالدلالة الالتزاميّة ثبوت الملاك بحقّه ؛ لأنّ الوجوب وراءه الملاك والمبادئ في كلّ مورد يثبت فيه.

وهذا معناه أنّ العاجز قد فوّت العجز عليه الملاك ، والحال أنّه يمكنه استيفاؤه بعد الوقت فيجب عليه القضاء ؛ لأنّ الواجب المأمور به لا يسقط إلا إذا امتثل المكلّف الفعل المأمور به ، أو حقّق ملاكه والغرض منه ، فإنّه يحقّق الامتثال أيضا.

وأمّا إذا كانت القدرة شرطا في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالخطاب المذكور مقيّد عقلا بالقدرة ، ممّا يعني أنّه لا يشمل العاجز ، فالعاجز لا خطاب بحقّه ، بمعنى أنّ الشارع لا يخاطبه بوجوب الصلاة أو الصوم حال عجزه ، وإذا لم يكن مشمولا للخطاب الشرعي وكان المدلول المطابقي - أي الوجوب - ساقطا ، فلا يبقى دليل على وجوب القضاء بحقّه ؛ لأنّ المفروض عدم وجود الدليل الخاصّ على ذلك ، والدليل الاجتهادي المذكور ساقط عنه ، ومع سقوط الوجوب والمدلول المطابقي

ص: 31

يسقط المدلول الالتزامي والملاك والمبادئ بمعنى عدم وجود ما يكشف عن ثبوتها حال العجز ، وبالتالي لا يوجد ما يدلّ على ثبوت القضاء بحقّه.

وبتعبير آخر : إنّ الوجوب ساقط عنه فلا يجب عليه الأداء ، والملاك لا دليل على ثبوته فلا يجب عليه القضاء.

وبهذا ظهر أنّ لاشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم فائدة وثمرة غير مسألة الإدانة ، فإنّ العاجز لا يدان على كلّ حال.

الثانية : أن يكون الفعل خارجا عن اختيار المكلّف ، ولكنّه صدر منه بدون اختيار على سبيل الصدفة ، ففي هذه الحالة إذا قيل بعدم الاشتراط تمسّكنا بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب بمبادئه على هذا المكلّف ، ويعتبر ما صدر منه صدفة حينئذ مصداقا للواجب فلا معنى لوجوب القضاء عليه لحصول الاستيفاء.

وخلافا لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط ، فإنّ ما أتى به لا يتعيّن بالدليل أنّه مسقط لوجوب القضاء وناف له ، بل لا بد من طلب حاله من قاعدة أخرى من دليل أو أصل.

الثمرة الثانية : وتظهر فيما إذا فرض أنّ المكلّف قد عجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ، ولكن ومن دون اختيار منه صدر الفعل منه على سبيل الصدفة ، فهل مثل هذا الفعل يكون مجزيا عن المأمور به ومسقطا للتكليف أم لا؟

والجواب : أنّ التكليف لا إشكال في سقوطه فيما إذا امتثل المكلّف المأمور به ، فإنّه يستوفي بذلك تمام الملاك والغرض المطلوب ، كما أنّ التكليف يسقط بعصيانه عن الفاعليّة وإن بقيت الفعليّة فيجب عليه القضاء بعد ذلك كما سيأتي في بحث التعجيز ، وهكذا إذا كان للتكليف المأمور به بدل فإنّه يسقط بامتثاله بدله.

وهناك قسم آخر من الامتثال وهو فيما إذا حقّق المكلّف الملاك والغرض وإن لم يكن مخاطبا بالوجوب ، فإنّ الذمّة كما تشتغل بالفعل إذا خوطب بالوجوب ونحوه ، كذلك إذا خوطب بالملاك أو كان الملاك شاملا للمكلّف في مورد ، فإنّه يكفي لاشتغال الذمّة ويكفي أيضا لسقوط التكليف أن يؤتى بالملاك ، وهنا تظهر هذه الثمرة.

فإنّنا إذا لم نقل باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة الجعل ، فهذا معناه أنّ العاجز مشمول للخطاب بالوجوب ، غاية الأمر كونه معذورا وغير مدان بسبب

ص: 32

عجزه ، ولمّا كان مشمولا للوجوب فالملاك ثابت بحقّه ، فإذا صدر منه الفعل فقد حقّق الملاك واستوفاه ، فيسقط التكليف عن عهدته ، فلا يجب عليه القضاء ؛ لكونه قد حقّق المطلوب منه وهو الملاك ، وإن صدر منه الفعل صدفة ، فإنّ الملاك أمر تكويني يتحقّق بإيجاده سواء كان عن قصد أم صدفة ، ومع تحقّق الملاك فقد ثبت الامتثال فيسقط التكليف ، فلا يكون قد فاته شيء ليبحث عن وجوب قضائه وعدمه ؛ لأنّه يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا إذا قلنا باشتراط القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم ، فالعاجز غير مكلّف وليس مخاطبا بالوجوب ، بمعنى أنّ المدلول المطابقي ساقط عنه ، ومع سقوطه يسقط المدلول الالتزامي ، فلا ملاك بحقّه أيضا.

وعليه ، فإذا صدر منه الفعل على سبيل الصدفة فهو فعل لم يكن مخاطبا به ، ولا واجبا عليه ؛ لكونه عاجزا ، وهو أيضا غير محصّل للملاك ؛ لأنّ الملاك يرتفع بحقّ العاجز فلا ملاك في حالات العجز ، فيكون المكلّف قد صدر منه فعل ليس بواجب عليه ، وليس وافيا بالملاك. وحينئذ ينفتح البحث عن وجوب القضاء عليه ؛ لأنّه لم يأت بالمأمور به ولا بملاكه في وقته ، أو بتعبير آخر لا دليل على كون ما صدر منه صدفة مسقطا للتكليف ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟

وهذا يجاب عنه في بحث الإجزاء ، وأنّه هل تجري البراءة لكون الشكّ في وجوب القضاء شكّا في التكليف الزائد ، أو تجري أصالة الاشتغال والاحتياط ؛ لأنّه كان مشتغل الذمّة ويشكّ في خروجه عن عهدة التكليف بسبب عجزه عن الفعل في وقته؟

والفارق بين الثمرتين هو أنّ الثمرة الأولى يشكّ في وجوب القضاء عليه وعدم وجوبه ، لأنّه لم يأت بالمأمور به في وقته ويشكّ في دخالة القدرة في التكليف في مرحلة جعل الحكم وعدمه.

بينما الثمرة الثانية يشكّ في الإجزاء وعدمه ، بمعنى أنّ ما صدر منه صدفة حال عجزه هل يكون مجزيا فلا يجب القضاء ، أو لا يكون مجزيا فيبحث عن وجوب القضاء وعدمه؟

* * *

ص: 33

ص: 34

حالات ارتفاع القدرة

ص: 35

ص: 36

حالات ارتفاع القدرة

ثمّ إنّ القدرة التي هي شرط في الإدانة ، وفي التكليف قد تكون موجودة حين توجّه التكليف ، ثمّ تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد أسباب :

الأوّل : العصيان ، فإنّ الإنسان قد يعصي ويؤخّر الصلاة حتّى لا يبقى من الوقت ما يتاح له أن يصلّي فيه.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يعجّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ، بأن يكلّفه المولى بالوضوء والماء موجود أمامه فيريقه ويصبح عاجزا.

الثالث : العجز الطارئ لسبب خارج عن اختيار المكلّف.

تقدّم سابقا أنّ القدرة شرط في مرحلتي الإدانة وجعل الحكم والتكليف ، فالخطاب المولوي لا يشمل العاجز من أوّل الأمر ، وإنّما يختصّ بمن كان قادرا ، ولكن المكلّف الذي يكون قادرا حدوثا أثناء توجّه الخطاب إليه أو حين علمه بالخطاب أو حين إرادته امتثال الأمر في وقته ، قد تزول قدرته عنه قبل امتثاله ، وسبب زوال القدرة عن الفعل بقاء له أسباب ثلاثة :

الأوّل : العصيان ، فالمكلّف القادر على الصلاة أو الصوم إذا جاء وقتهما فلم يمتثل ، حتّى انتهى الوقت المحدّد لهما يصبح عاجزا وغير قادر على امتثال الصلاة أو الصوم في الوقت ، إلا أنّ سبب عجزه وزوال قدرته بقاء كان هو العصيان والتمرّد على الأمر المولوي.

الثاني : التعجيز ، وذلك بأن يكون المكلّف قادرا على الفعل في وقته ، ولكنّه يوقع نفسه بالعجز ، وذلك بأن لا يأتي بالمقدّمات المطلوبة منه أو يأتي بعمل يصبح معه عاجزا عن الفعل المطلوب ، فهو وإن لم يعص المأمور به اختيارا ومباشرة ، ولكنّه جاء بشيء يلزم منه أن يصبح عاجزا على الفعل ، فهذا هو التعجيز ، كما إذا كان لديه ماء

ص: 37

فحضر وقت الصلاة ولكنّه أراق الماء بدلا من أن يتوضّأ به ، فهنا صار عاجزا عن الوضوء بسبب إراقته الماء لا بسبب عصيانه وتمرّده وعدم امتثاله لأمر الوضوء مع وجود الماء.

وهذا التعجيز تارة يكون بسوء الاختيار ، وأخرى لا يكون بسوء الاختيار ، والفعل الذي صار عاجزا عنه تارة يكون له بدل ، وأخرى لا يكون له بدل ، وسوف يأتي تفصيل ذلك لا حقا.

الثالث : أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ولكن حينما يأتي وقت الامتثال يعرض عليه أمر يسلب عنه القدرة لا باختيار منه أو باختياره ، كما إذا كان لديه ماء فجاءت الريح فأراقته ، أو كان لديه ماء وجاء شخص مشرف على الموت من العطش فأعطاه إياه ، فهنا طرأ عليه العجز من دون أن يعصي اختيارا ومن دون أن يوقع نفسه بالمعصية.

وواضح أنّ الإدانة ثابتة في حالات السببين الأوّل والثاني ؛ لأنّ القدرة على الامتثال كافية لإدخال التكليف في دائرة حقّ الطاعة ، وأمّا في الحالة الثالثة فالمكلّف إذا فوجئ بالسبب المعجّز فلا إدانة ، وإذا كان عالما بأنّه سيطرأ وتماهل في الامتثال حتّى طرأ فهو مدان أيضا.

وعلى ضوء ما تقدّم يقال عادة : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، أي أنّه لا ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطا في الإدانة والعقاب. ويراد بالاضطرار بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان أو التعجيز.

هل تسقط الإدانة في الحالات الثلاث أم لا؟

أمّا في الحالة الأولى : فإذا عصى المكلّف الأمر ولم يمتثل المأمور به حتّى فات الوقت ، فلا إشكال في ثبوت العقاب وكون المكلّف مدانا ؛ لأنّ زوال القدرة بقاء كان بسبب العصيان والتمرّد ، فزوال القدرة كان باختيار المكلّف تماما ، ومع الاختيار في عدم الامتثال يستحقّ المكلّف الإدانة بحكم العقل ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لأوامر المولى الذي له حقّ الطاعة.

وهكذا في الحالة الثانية ، فإنّ المكلّف لمّا كان قادرا على الفعل ولكنّه أوقع نفسه بالعجز اختيارا فصار مسلوب القدرة في الوقت عن الإتيان بالفعل ، فهو أيضا يستحقّ

ص: 38

الإدانة والعقاب ؛ وذلك لأنّه لمّا كان قادرا على الفعل فالعقل يحكم عليه بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلمّا عجّز نفسه باختياره كان هذا عصيانا أيضا وخروجا عن رسم العبوديّة والطاعة.

ولا فرق في هاتين الحالتين من جهة تحقّق المعصية بالاختيار وعدم امتثال المأمور به بالاختيار ، وإن كانت القدرة في الحالة الأولى مسلوبة بالاختيار إلى انتهاء الوقت ، بينما في الحالة الثانية كانت بعد التعجيز مسلوبة لا بالاختيار. نعم ، هو الذي عجّز نفسه ، فلذلك يشتركان في كون القدرة زالت بالاختيار.

وأمّا في الحالة الثالثة أي حالة طروء العجز فهنا صورتان :

الأولى : أن يطرأ العجز من دون علم المكلّف به مسبقا ، وإنّما يفاجأ به اتّفاقا ، كما إذا كان لديه ماء للوضوء فجاءت الريح وأراقته ، فهنا لا يكون مدانا ولا مستحقّا للعقاب ؛ لأنّ سلب القدرة منه لم يكن باختياره ، وإنّما كان رغم إرادته والعقاب يدور مدار القدرة والاختيار.

الثانية : أن يطرأ العجز في الأثناء ولكنّه مسبوق بعلم المكلّف به ، كما إذا علم بأن الماء سوف ينقطع في أثناء الوقت فتجاهل ولم يحصّل الطهارة أو لم يوفّر الماء لذلك.

وبتعبير آخر : أخلّ بالمقدّمات فصار عاجزا ، فهنا يكون مدانا ومستحقّا للعقاب أيضا ؛ لأنّه باختيار صار عاجزا في الوقت.

وعلى هذا يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ) ، بمعنى أنّ المكلّف إذا صار مضطرّا وعاجزا بسبب سوء اختياره فإنّه يبقى مستحقّا للعقاب ، ولا منافاة بين هذا الاضطرار وبين استحقاقه للعقاب ؛ لأنّ الاختيار موجود في البين.

وأمّا التكليف فقد يقال : إنّه يسقط بطروّ العجز مطلقا ، سواء كان هذا العجز منافيا للعقاب والإدانة أم لا ؛ لأنّه على أيّة حال تكليف بغير المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز الناشئ من العصيان أو التعجيز مسقطا للتكليف وإن كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا الأساس يردف ما تقدّم من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا بقولهم : ( إنّه ينافيه خطابا ) ، ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.

هل يسقط التكليف في الحالات الثلاث المتقدّمة أم لا؟

ص: 39

المشهور أنّ التكليف والخطاب الشرعي يسقط في جميع حالات ارتفاع القدرة ، أي سواء كان ارتفاع القدرة منافيا للعقاب أم كان مصحّحا له ، ففي حالات العصيان أو التعجيز أو طروء العجز مع العلم به أو مع عدم العلم به سوف لا يكون العاجز مكلّفا ، ولا يتوجّه إليه الخطاب المولوي ؛ وذلك لأنّنا قلنا سابقا : إنّ القدرة شرط في التكليف بمعنى الباعثيّة والمحركيّة ، فحيث لا محركيّة ولا باعثيّة لا خطاب ، وفي مقامنا تمتنع المحركيّة والباعثيّة من المكلّف العاجز فيسقط التكليف بحقّه ، نعم لا يسقط العقاب والإدانة كما تقدّم ؛ لأنّ القدرة المصحّحة للعقاب هي القدرة ابتداء وإن زالت بقاء بسوء الاختيار.

وبتعبير آخر : إنّ الإنسان الذي أصبح عاجزا بالفعل - سواء كان عجزه عن اختيار منه أم لا - لا يصحّ توجيه الخطاب إليه ؛ لأنّه لا يصحّ تحرّكه وانبعاثه نحو الفعل حال العجز وارتفاع القدرة.

ومن هنا أضافوا إلى ما تقدّم أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولكنّه ينافيه خطابا.

بمعنى أنّ الاضطرار مهما كان سببه ومنشؤه فهو ينافي الخطاب والتكليف بسبب ارتفاع القدرة التي هي شرط في التكليف ، وشرطيّتها للتكليف ليست كشرطيّة القدرة في الإدانة تكفي حدوثا وإن زالت بقاء ، بل هي شرطيّة لا بدّ من تحقّقها ووجودها حال توجّه الخطاب.

والصحيح : أنّهم إن قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليّته ومحركيّته فهذا واضح ؛ إذ لا يعقل محركيّته مع العجز الفعلي ، ولو كان هذا العجز ناشئا من العصيان.

وإن قصدوا سقوط فعليّته فيرد عليهم : أنّ الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطا بالقدرة ما دام ثابتا ، فحيث لا قدرة بقاء لا وجوب كذلك ، وأمّا إذا كان مشروطا بالقدرة بالقدر الذي يحقّق الإدانة والمسئوليّة فهذا حاصل بنفس حدوث القدرة في أوّل الأمر ، فلا يكون الوجوب في بقائه منوطا ببقائها.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور من أنّ ارتفاع القدرة مطلقا ينافي التكليف غير

ص: 40

مقبول ؛ وذلك لأنّه إن أريد من سقوط التكليف سقوطه عن الفاعليّة والمحركيّة ، بمعنى أنّ العاجز مهما كان منشأ عجزه وسببه فهو لن يتحرّك نحو الفعل فلا محركيّة للخطاب نحو متعلّقه ، فهذا المعنى صحيح ونحن نقبله أيضا ، ولكنّه لا يعني سقوط الخطاب عن الفعليّة.

بمعنى أنّ الخطاب لا يزال موجودا وفعليّا بحيث لو ارتفع عجزه لصار محرّكا وباعثا له نحو الفعل ، ولا يحتاج معه إلى خطاب آخر ، بل لو فرض سقوط الخطاب رأسا لم يحكم العقل بالإدانة والعقل ؛ لأنّ حكمه بها كان لأجل خروج المكلّف عن حقّ الطاعة ، فحيث لا تكليف لا حقّ طاعة فلا عقاب.

وأمّا إن أريد من سقوط الخطاب سقوطه عن الفعليّة رأسا ، فمع العجز يسقط الخطاب بحقّ العاجز فلا يكون مكلّفا بشيء من حين عجزه ، فهذا غير مقبول ؛ وذلك لأنّ القدرة التي هي شرط في التكليف والحكم كما تقدّم ، إن قيل بأنّها شرط في التكليف ما دام التكليف ثابتا فيكون سقوط التكليف رأسا حين ارتفاع القدرة ولو في الأثناء صحيحا.

إلا أنّ شرطيّة القدرة في التكليف ليست بهذا المعنى ، وإنّما هي بمعنى آخر وهو أنّ القدرة شرط في التكليف بالمقدار الذي يكون مصحّحا للعقاب والإدانة ، فإنّه لا تصحّ الإدانة إذا لم يكن هناك تكليف ، والإدانة مشروطة بالقدرة ، إذا فالتكليف مشروط بالقدرة أيضا ، ولكن بمقدار شرطيّتها في الإدانة لا أكثر.

فالعقل يحكم باستحقاق من كان قادرا على الامتثال فلم يمتثل للعقاب والإدانة ، لأنّه كان قادرا ولأنّه كان مكلّفا وكان قادرا حين توجّه الخطاب إليه ، فإذا عجّز نفسه أو صار عاجزا بسوء الاختيار بقيت الإدانة ثابتة ، ومعها يكون التكليف باقيا ؛ لأنّه إنّما يعاقب على تكليف لم يمتثله.

فلا بدّ من فرض بقاء التكليف ليصحّ إدانته ، وأمّا إنّ التكليف مشروط بالقدرة بمعنى أنّ بقاء التكليف في عمود الزمان مشروط ببقاء القدرة كذلك فهذا غير تام ولا دليل عليه عقلا ، بل الصحيح هو كفاية القدرة حدوثا.

والبرهان على أنّ اشتراط القدرة في التكليف لا يقتضي أكثر من ذلك وهو أنّ التكليف قد جعل بداعي التحريك المولوي ، ولا تحريك مولوي إلا مع الإدانة ، ولا

ص: 41

إدانة إلا مع القدرة حدوثا ، فما هو شرط التكليف إذن بموجب هذا البرهان هو القدرة حدوثا.

ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي إطلاق الخطاب والوجوب المجعول أيضا ؛ تبعا لعدم منافاته للعقاب والإدانة.

والدليل على كفاية القدرة حدوثا وعدم اشتراط بقائها هو : أنّ التكليف قد جعل بداعي البعث والتحريك من المولى كما تقدّم ، وحينئذ يحكم العقل بوجوب التحرّك والانبعاث عن أمر المولى وتكليفه ولزوم إطاعته وامتثاله واستحقاق العقوبة على مخالفته وعصيانه.

وهذا معناه أنّ التحريك المولوي يستلزم الإدانة والعقاب على المخالفة ، فحيث ثبتت المحركيّة تثبت الإدانة ، وإذا انتفت المحركيّة تنتفي الإدانة أيضا ، فهما أمران متلازمان ثبوتا وانتفاء.

ولكن حيث إنّ القدرة شرط في الإدانة حدوثا فيكفي أن يكون المكلّف قادرا على الفعل ابتداء ، وإن زالت قدرته عليه بقاء ، فيكون مدانا لو لم يمتثل ، فكذلك التكليف المولوي ؛ لأنّ المحركيّة لمّا كانت ملازمة للإدانة فلا بدّ أن تكون مشروطة بالقدرة بنفس القدر الذي اشترطت فيه الإدانة ، وهو القدرة حدوثا وإن زالت بقاء ؛ لأنّه لو كانت القدرة في التكليف شرطا بقاء أيضا فإذا زالت لا تكليف ، فالمفروض حينئذ ألاّ يكون مدانا أيضا ؛ لأنّ الإدانة تنشأ عن مخالفة التكليف وهو خلف ما تقدّم.

إذا يتعيّن بهذا البرهان أنّ القدرة في التكليف كالقدرة في الإدانة يشترط وجودها حدوثا وإن ارتفعت بقاء.

ومن هنا صحّ أن يقال : ( إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولا ينافيه تكليفا أيضا ) ، فالخطاب مطلق ويشمل القادر في تمام الوقت ويشمل القادر الذي زالت قدرته فيما بعد كالإدانة تماما.

نعم ، لا أثر عمليّا لهذا الإطلاق ، إذ سواء قلنا به أم لا ، فروح التكليف محفوظة على كلّ حال ، وفاعليّته ساقطة على كلّ حال ، والإدانة مسجّلة على المكلّف عقلا بلا إشكال.

وأمّا الفائدة والأثر العملي بين القولين :

ص: 42

ذكرنا أنّه يوجد فارق بين القولين ولكنّه فارق نظري ، فقول المشهور : من أنّ القدرة شرط بقاء في التكليف وقول السيّد الشهيد من كفاية اشتراطها حدوثا ، يفترقان في مسألة بقاء التكليف على فعليته وعدمها فقط.

وأمّا عمليّا فسواء قلنا ببقاء التكليف على الفعليّة وكون الخطاب مطلقا والوجوب المجعول شاملا للقادر بقاء وابتداء ، فالتكليف ساقط عن الفاعليّة والمحركيّة عمليّا ولا أثر له على المكلّف من ناحية العمل ؛ لأنّه لن يتحقّق التحرّك والانبعاث من المكلّف على كلّ حال ، أي سواء كان التكليف ثابتا أم منتفيا ما دامت فاعليّته ومحركيّته مرتفعة.

وكذلك بالنسبة لروح الحكم والتكليف من الملاك والمبادئ والإرادة والشوق المولوي فإنّها محفوظة على كلّ حال ، فسواء كان هناك تكليف بحقّ العاجز بسوء الاختيار أم لا ، إلا أنّ ملاكات ومبادئ التكليف موجودة بحقّه ؛ لأنّ الفعل الذي عجز أو عجّز نفسه عنه لا تزال فيه مبادئ الحكم ولا يزال ملاك الحكم موجودا فيه ولا معنى لارتفاعه لمجرّد عجز المكلّف ، فإنّ الشوق والإرادة والملاك لا يدور أمرها مدار قدرة المكلّف أو عجزه ؛ إذ قد تتعلّق إرادة المولى بشيء غير مقدور ويكون محبوبا له.

وهكذا بالنسبة للإدانة فإنّها مسجّلة على هذا المكلّف على كلّ حال أيضا ؛ لأنّ العقل يحكم باستحقاق المكلّف الذي لم يمتثل أوامر المولى للعقاب ؛ لأنّه كان قادرا على الامتثال فلم يفعل باختياره ؛ ولأنّه سلب القدرة عن نفسه باختياره ، ومع وجود الاختيار يصحّ العقاب والإدانة.

وبه يظهر أنّ المكلّف في حالات ارتفاع القدرة بسوء الاختيار يستحقّ العقاب سواء كان التكليف باقيا أم منتفيا ، وروح الحكم محفوظة أيضا في الحالين ، والفاعليّة والمحركيّة مرتفعة في الحالتين أيضا.

* * *

ص: 43

ص: 44

الجامع بين المقدور وغيره

ص: 45

ص: 46

الجامع بين المقدور وغيره

ما تقدّم حتّى الآن كان يعني أنّ التكليف مشروط بالقدرة على متعلّقه ، فإذا كان متعلّقه بكلّ حصصه غير مقدور انطبقت عليه قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

وأمّا إذا كان متعلّقه جامعا بين حصّتين إحداهما مقدورة والأخرى غير مقدورة ، فلا شكّ أيضا في استحالة تعلّق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي ، وأمّا تعلّقه بالجامع على نحو الإطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة المذكورة عليه كلام بين الأعلام.

تقدّم أنّ التكليف بغير المقدور مستحيل عقلا ، فإذا كان الفعل خارج قدرة المكلّف فلا يكلّف ولا يخاطب به ولا يعاقب على عدم امتثاله أيضا ، إلا أنّ غير المقدور يمكن تصوّره من ناحية تعلّق التكليف به على أنحاء :

الأوّل : أن يكون التكليف منصبّا ابتداء ومباشرة على الشيء غير المقدور بعينه ، وهذا هو الذي كان البحث السابق يتناوله.

وبتعبير آخر : إنّ متعلّق التكليف كان عنوانا بتمام حصصه غير مقدور وكان التكليف به بعينه ، فهنا لا إشكال في الاستحالة.

الثاني : أن يكون متعلّق التكليف عنوانا أي الجامع ، بعض حصصه مقدورة وبعضها الآخر غير مقدورة ، فهنا لا بدّ من ملاحظة كيفيّة تعلّق الحكم ، فإن كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان الجامع بنحو الإطلاق الشمولي أو العموم الاستغراقي أو المجموعي فهو أيضا مستحيل ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أو العموم الشموليين معناهما الانحلال لكلّ فرد فرد من أفراد العنوان ، فكلّ حصّة يتعلّق بها حكم ، فيكون من التكليف بغير المقدور وهو مستحيل كالقسم الأوّل.

ص: 47

وأمّا إن كان الحكم متعلّقا بالعنوان أي الجامع بنحو الإطلاق أو العموم البدلي بحيث يكون المطلوب حصّة واحدة من الحصص ، فهنا نبحث في أنّ عنوان الجامع بين الحصص المقدورة وغير المقدورة والذي تعلّق التكليف به هل هو مقدور فيعقل التكليف به ، أم ليس بمقدور فيستحيل التكليف به؟ وهذا هو الذي وقع موردا للبحث عندهم على أقوال :

وقد ذهب المحقّق النائيني ; (1) إلى أنّ التكليف إذا تعلّق بهذا الجامع فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة منه ، ولا يمكن أن يكون للمتعلّق إطلاق للحصّة الأخرى ؛ لأنّ التكليف بداعي البعث والتحريك وهو لا يمكن إلا بالنسبة إلى الحصّة المقدورة خاصّة ، فنفس كونه بهذا الداعي يوجب اختصاص التكليف بتلك الحصّة.

القول الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا النائيني من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور مستحيل ؛ وذلك لأنّ التكليف بمثل هذا الجامع سوف يسري إلى الحصّة المقدورة فقط دون الحصّة غير المقدورة ، وذلك باعتبار أنّ التكليف إنّما يجعل بداعي البعث والتحريك كما تقدّم ، والحصّة غير المقدورة لا يمكن التحرّك والانبعاث نحوها للعجز فيكون مختصّا بالحصّة المقدورة ؛ لأنّها التي يمكن الانبعاث والتحرّك نحوها.

ومنه يظهر أنّ التكليف حتّى وإن فرض تعلّقه بالعنوان الجامع إلا أنّه في حقيقته وواقعه منصبّ على الحصّة المقدورة فقط ، ولا يمكن شموله للحصّة غير المقدورة ؛ لأنّ حقيقة الحكم والتكليف منتفية عنها ، ولذلك يجب تأويل ما ظاهره التكليف بالجامع بين المقدور وغيره بالرجوع إلى التكليف بالحصّة المقدورة فقط ، وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يسري إليها الوجوب من الجامع أصلا ؛ لأنّ مبادئ الحكم وملاكاته وروحه وهي البعث والتحريك منتفية عنها.

وذهب المحقّق الثاني (2) - ووافقه جماعة من الأعلام (3) - إلى إمكان تعلّق

ص: 48


1- أجود التقريرات 1 : 367.
2- حكاه عنه المحقّق النائيني في أجود التقريرات 1 : 367 ، وانظر : جامع المقاصد 5 : 13 - 14.
3- راجع مطارح الأنظار : 119.

التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على نحو يكون للواجب إطلاق بدلي يشمل الحصّة غير المقدورة ؛ وذلك لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ويكفي ذلك في إمكان التحريك نحوه ، وهذا هو الصحيح.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق الثاني وجماعة من العلماء واختاره السيّد الشهيد أيضا ، من أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ممكن ؛ لأنّه مقدور للمكلّف ؛ لأنّ التكليف بالجامع المذكور بنحو الإطلاق أو العموم البدلي معناه أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق هذا الجامع على أيّة واحدة من حصصه ، فالحصّة المقدورة كغير المقدورة يشملها هذا التخيير ، غايته كون المكلّف في مقام التطبيق والامتثال عمليّا لا يمكنه أن يختار إلا الحصّة المقدورة له ، لعجزه عن الحصّة الأخرى.

وهذا المعنى من التخيير مقبول لدى العقل والعقلاء والعرف أيضا ، وليس داخلا في التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ الحصّة غير المقدورة لا يراد إسراء الحكم والتكليف إليها وإنّما يراد كونها مشمولة للتخيير فقط ، بمعنى أنّ المكلّف في مقام الامتثال مخيّر بينها وبين غيرها وليس امتثاله متعيّنا بحصّة خاصّة فقط ، بحيث لو فرض ارتفاع عذره وعجزه عنها لأمكن تطبيق الجامع عليها تمسّكا بالتكليف بالجامع ولا يحتاج إلى أمر جديد.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف انصبّ على الجامع فالمطلوب من المكلّف امتثال هذا الجامع وإيجاده في الخارج ، فلا بدّ من ملاحظة قدرة المكلّف على إيجاد الجامع في الخارج هل هو ممكن له أم لا؟ والمفروض أنّه ممكن ولو ضمن الحصّة المقدورة. إذا فالتكليف بالجامع ممكن ؛ لأنّه يمكن التحرّك والانبعاث عنه ولو ضمن إحدى حصصه ؛ إذ لا يشترط في الجمع أن تكون كلّ حصصه مقدورة وضمن اختيار المكلّف ؛ إذ من الواضح أنّ بعض حصص الجامع خارجة عن اختياره ولو من جهة عدم ابتلائه بها لبعدها عنه مثلا.

وثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا وقعت الحصّة غير المقدورة من الفعل الواجب صدفة وبدون اختيار المكلّف ، فإنّه على قول المحقّق النائيني يحكم بعدم إجزائها ووجوب إتيان الجامع في ضمن حصّة أخرى ؛ لأنّه يفترض اختصاص الوجوب

ص: 49

بالحصّة المقدورة ، فما وقع ليس مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.

وعلى قول المحقّق الثاني نتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بين الحصّتين ، فيكون المأتي به فردا من الواجب فيحكم بإجزائه وعدم وجوب الإعادة.

الثمرة بين القولين : وتظهر الثمرة بين القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، وبين القول بإمكانه في موردين :

الأوّل : لم يذكره السيّد الشهيد هنا ، وهو ما تقدّمت الإشارة إليه : من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صارت مقدورة للمكلّف لاحقا ، فعلى القول باستحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لم يكن هناك وجوب متعلّق بهذه الحصّة من أوّل الأمر ؛ لأنّ الوجوب يسري من الجامع إلى الحصّة المقدورة ابتداء فقط ، ولذلك يحتاج إيجابها إلى دليل آخر ، بينما على القول بإمكانه لا نحتاج في إيجاب هذه الحصّة التي صارت مقدورة إلى دليل آخر ، بل نتمسّك بنفس دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه كان شاملا لها من أوّل الأمر ، غايته كون المكلّف عاجزا عنها والآن ارتفع عجزه.

الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد هنا من أنّ الحصّة غير المقدورة إذا صدرت من المكلّف صدفة ومن دون اختيار منه ، فهل يحكم بإجزائها عن المأمور به فلا تجب الإعادة أو لا؟

والجواب : أنّه على قول الميرزا من استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لا يتحقّق الإجزاء بهذه الحصّة التي صدرت منه صدفة ؛ لأنّها لم تكن مشمولة ولا داخلة في التكليف أصلا ؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف بالجامع يسري إلى الحصّة المقدورة فقط.

وأمّا الحصّة غير المقدورة فلا يمكن أن يتعلّق بها التكليف لا بنفسها ولا بعنوانها ، فما وقع من المكلّف لم يكن مصداقا للواجب المأمور به ، لأنّ مصداق الواجب المأمور به إنّما هو في الحصّة المقدورة وهذه ليست هي ، فيكون إجزاؤها عن الواجب المأمور به محتاجا إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ بابه باب إجزاء غير الواجب عن الواجب ، وهو يحتاج

ص: 50

إلى دليل خاصّ ، ولا يكفي فيه التمسّك بنفس إطلاق دليل التكليف بالجامع ؛ لأنّه مختصّ بالحصّة المقدورة فقط.

بينما على قول المحقّق الثاني من إمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، فيثبت الإجزاء وسقوط التكليف بهذه الحصّة التي أتى بها صدفة ، والوجه في ذلك هو أنّ دليل التكليف بالجامع كان شاملا من أوّل الأمر للحصّة غير المقدورة أيضا ، غايته كون المكلّف عاجزا عن تطبيق عنوان الجامع عليها ، ولكن لو ارتفع عذره كما في المورد الأوّل أو صدرت منه صدفة كما هنا لكان ممتثلا للمأمور به ؛ لأنّ ما صدر منه يعتبر مصداقا للواجب المأمور به ؛ لأنّه مطالب بالجامع وامتثال الجامع يكون بإيجاد إحدى حصصه أو أفراده ، وهذه الحصّة من جملة أفراد الجامع فيكون إيجادها ولو من دون اختيار إيجادا للجامع ، فيتحقّق الامتثال تمسّكا بإطلاق خطاب التكليف بالجامع ويحكم بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة على القاعدة ؛ لأنّ ما وقع هو نفسه المأمور به ، ولا يحتاج إلى دليل جديد.

والصحيح من القولين هو القول بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره لما تقدّم.

* * *

ص: 51

ص: 52

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

اشارة

ص: 53

ص: 54

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

تقدّم أنّ العقل يحكم بتقيّد التكليف واشتراطه بالقدرة على متعلّقه ؛ لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور ، ولكن هل يكفي هذا المقدار من التقييد أو لا بدّ من تعميقه؟

ومن أجل الجواب على هذا السؤال نلاحظ أنّ المكلّف إذا كان قادرا على الصلاة تكوينا ، ولكنّه مأمور فعلا بإنقاذ غريق تفوت بإنقاذه الصلاة ؛ للتضادّ بين عمليتي الإنقاذ والصلاة وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، فهل يمكن أن يؤمر هذا المكلّف بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان بكلا الفعلين؟

مقدّمة البحث : ذكرنا في بحث اشتراط القدرة في التكليف أنّ العقل يحكم بكون القدرة شرطا في التكليف المجعول ، بحيث لا يمكن تكليف العاجز عن الإتيان بالفعل المأمور به ؛ لأنّ المراد من التكليف هو البعث والتحريك ، ومع فرض العجز لا تحرّك ولا انبعاث ، فينتفي موضوعه ويصبح التكليف فارغا عن المضمون والمعنى.

وهذا المقدار تقدّم بيانه والثمرة منه ، ولكن البحث هنا في أنّه هل يكفي هذا المقدار من التقييد بالقدرة أو أنّ هناك شيئا آخر أعمق؟

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال نلاحظ بالوجدان أنّ المكلّف المأمور بالصلاة ، كما لا يصحّ تكليفه بالصلاة فيما إذا كان عاجزا تكوينا عنها ، كذلك لا يصحّ تكليفه بها فيما إذا كان مأمورا بنفس الوقت بواجب آخر ، بحيث لا يتمكّن من الجمع بين الواجبين ؛ لأنّ فعل أحدهما وامتثاله يفوّت الآخر ، فإذا فرض أنّ المكلّف مأمور فعلا بإنقاذ الغريق فهل يمكن أن يكون مأمورا في نفس الوقت بالصلاة أم لا؟

وهذا هو البحث المسمّى بإمكان الأمر بالضدّين بنحو الترتّب أو استحالته.

وأمّا الجواب فهو :

ص: 55

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المكلّف وإن كان قادرا على الصلاة فعلا قدرة تكوينيّة ولكنّه غير قادر على الجمع بينها وبين إنفاذ الغريق ، فلا يمكن أن يكلّف بالجمع ، ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك بإيجاب واحد ، أو بإيجابين يستدعيان بمجموعهما الجمع بين الضدّين ، وعلى هذا فلا يمكن أن يؤمر بالصلاة من هو مكلّف فعلا بالإنقاذ في هذا المثال وإن كان قادرا عليها تكوينا.

وأمّا جواب السؤال المتقدّم فهو بالنفي ، فإنّ المكلّف المأمور فعلا بإنقاذ الغريق لا يمكن أن يكون مأمورا بنفس الوقت بالصلاة وإن كان قادرا عليها تكوينا ؛ وذلك لأنّ اشتغاله الفعلي بالواجب الآخر يجعله عاجزا شرعا عن إتيان الصلاة أيضا في نفس الوقت ، لأنّه عاجز تكوينا عن الجمع بين الواجبين معا ، ومع كونه عاجزا عن الجمع بين الفعلين فلا يمكن تكليفه بهما معا.

إذا فلا بدّ من أن يكلّف بأحدهما فقط فعلا ، وأمّا الآخر فهل يكون مكلّفا به ولو بنحو مشروط - كما سيأتي - أو لا يكون كذلك ، فهذا ما سوف يظهر من البحث؟

وأمّا هنا فما دام المكلّف عاجزا فعلا عن الجمع بين التكليفين فلا يكون مكلّفا بالجمع ؛ لأنّ العقل يحكم باستحالة التكليف بغير المقدور ، والمفروض هنا أنّ الجمع غير مقدور فلا يكلّف به إذا.

ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين التكليفين بسبب العجز عن ذلك بين أن يكون تكليفه بالجمع بإيجاب واحد ، كما إذا خوطب بخطاب واحد يطلب منه الجمع بين الواجبين ، وبين أن يكون بإيجابين مستقلّين مطلقين ، أحدهما بالإنقاذ والآخر بالصلاة بنحو مطلق وفعلي ، فإنّ العقل يحكم بالاستحالة في كلا الموردين ؛ لانتفاء القدرة تكوينا وعدم إمكان الجمع بينهما.

وعلى هذا الأساس نخرج بنتيجة مفادها :

وذلك يعني وجود قيد آخر للأمر بالصلاة - ولكلّ أمر - إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وهو ألاّ يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، فالقيد إذا مجموع أمرين : القدرة التكوينيّة ، وعدم الابتلاء بالأمر بالضدّ ، وهذا ما نسمّيه بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، ولا إشكال في ذلك.

والنتيجة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ التكليف بالصلاة مشروط بالقدرة التكوينيّة ،

ص: 56

وعدم عجز المكلّف تكوينا عن الإتيان بالمتعلّق ومشروط أيضا بعدم ابتلاء المكلّف بالأمر بالضدّ ؛ لأنّ أمره بالضدّين معا مستحيل لعدم إمكان الجمع بينهما.

ومجموع هذين الشرطين يسمّى بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ كلّ تكليف مشروط عقلا بأن يكون المكلّف قادرا على الإتيان بمتعلّقه ، وبأن لا يكون مبتلى بالأمر بالضدّ فعلا ، بحيث يطلب منه الجمع بينهما ؛ لأنّ الجمع بين الضدّين معا في وقت واحد مستحيل. وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعيّن عقلا أخذه شرطا في التكليف ، فهل هو بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ أو بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الأمر بالضدّ؟

والأوّل يعني أنّ كلّ مكلّف بأحد الضدّين لا يكون مأمورا بضدّه ، سواء كان بصدد امتثال ذلك التكليف أم لا.

والثاني يعني سقوط الأمر بالصلاة عمّن كلّف بالإنقاذ ، لكن لا بمجرّد التكليف بل باشتغاله بامتثاله ، فمع بنائه على العصيان وعدم الإنقاذ يتوجّه إليه الأمر بالصلاة ، وهذا ما يسمّى بثبوت الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب.

ذكرنا أنّه لا إشكال في اشتراط عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا في كلّ تكليف إضافة إلى القدرة التكوينيّة ، وإنّما وقع الإشكال والنزاع في تفسير معنى عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ فعلا على قولين :

أحدهما : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مأمورا بالضدّ الآخر ، فإذا كان مأمورا بالإنقاذ مثلا فيستحيل أن يكون مأمورا بالصلاة أيضا ، بمعنى أنّه يؤخذ في الأمر بالصلاة ألاّ يكون مأمورا بالفعل بواجب آخر مضادّ لها ، بحيث لا يمكن للمكلّف ان يجمع بينهما معا.

ويترتّب على ذلك أنّ المكلّف بمجرّد أن يكون مأمورا بالضدّ فالضدّ الآخر لا تكليف به ، سواء كان بصدد الاشتغال بالضدّ المأمور به أم لا ، أي أنّه سواء اشتغل بالضدّ المأمور به وكان بصدد امتثال أمره أم لم يكن كذلك ، فإنّه في كلتا الحالتين لا يتوجّه إليه الخطاب بالضدّ الآخر ؛ لأنّه مأمور فعلا بذاك الضدّ.

والآخر : أن يكون عدم الابتلاء بالأمر بالضدّ بمعنى ألاّ يكون المكلّف مشتغلا

ص: 57

بامتثال الأمر بالضدّ ، فإذا كان المكلّف مشتغلا بالفعل بإنقاذ الغريق فلا يمكن تكليفه بالصلاة أيضا بالفعل ؛ لأنّ اشتغاله بالإنقاذ يمنعه من الاشتغال بالصلاة بحيث يكون عاجزا عن الجمع بين الأمرين معا.

وأمّا إذا لم يكن مشتغلا بالإنقاذ أو أراد عصيان هذا الأمر ، فحينئذ يكون الأمر بالصلاة متوجّها إليه وفعليّا بحقّه ؛ لأنّ الشرط كان عدم الاشتغال وهو فعلا ليس مشتغلا بالإنقاذ ولا بمقدّماته ، بل لا يريد الإنقاذ أصلا ؛ إذ المفروض أنّ عدم الابتلاء ليس بمعنى ألاّ يكون مأمورا بالضدّ ، بل بمعنى ألاّ يكون مشغولا بامتثال الضدّ.

وهذا معناه أنّ المكلّف يتوجّه إليه خطابان بالضدّين ، ولكن على نحو يكون أحدهما أو كلاهما - كما سيأتي بيانه - مشروطا بعدم الاشتغال بامتثال الضدّ ، فإنّه إن كان مشتغلا بالامتثال فعلا ارتفع موضوع التكليف بالضدّ الآخر ؛ لعدم تحقّق شرطه.

وأمّا إن لم يكن مشتغلا بالامتثال فعلا فقيده متحقّق فيكون فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالأمر بالضدّين على نحو الترتّب (1).

وقد ذهب صاحب ( الكفاية ) ; (2) إلى الأوّل مدّعيا استحالة الوجه الثاني ؛ لأنّه يستلزم في حالة كون المكلّف بصدد عصيان التكليف بالإنقاذ أن يكون كلا التكليفين فعليّا بالنسبة إليه.

أمّا التكليف بالإنقاذ فواضح ؛ لأنّ مجرّد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه ، وأمّا الأمر بالصلاة فلأنّ قيده محقّق بكلا جزئيه ؛ لتوفّر القدرة التكوينيّة وعدم الابتلاء بالضدّ بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني ، وفعليّة الأمر بالضدّين معا

ص: 58


1- وفكرة الترتّب هذه من مختصّات الفكر الشيعي وليس لها وجود في غيره ، وهي من المسائل الأصوليّة المهمّة جدّا ، ويترتّب عليها آثار كثيرة أهمّها استقلال باب التزاحم من باب التعارض في أحكامه وقوانينه ، كما سيأتي بيانه عند التعرّض لثمرات القول بالترتّب. وتوجد في الفقه موارد كثيرة لا يمكن حلّها إلا بالرجوع إلى هذه الفكرة. وينبغي أن يعلم أنّ الترتّب على مقتضى القاعدة والأصل ولا يحتاج إثباته إلى دليل خاصّ ، وإنّما على القائل بالاستحالة أن يبرز الدليل على ذلك ؛ لأنّ شرطيّة القدرة في التكليف تتكفّل بهذا الأمر الترتّبي.
2- كفاية الأصول : 166 - 167.

مستحيلة ، فلا بدّ إذا من الالتزام بالوجه الأوّل فيكون التكليف بأحد الضدّين بنفس ثبوته نافيا للتكليف بالضدّ الآخر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) من أنّ الأمر الترتّبي بالضدين بنحو يكون الشرط هو عدم الاشتغال بالضدّ الآخر مستحيل ، والشيء الممكن هو أن يكون أحد الضدّين بنفس ثبوته على المكلّف رافعا ونافيا للضدّ الآخر ، سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فالصحيح عنده هو الاحتمال الأوّل لا الثاني.

والوجه في ذلك : أنّنا لو قلنا بأنّ الأمر بالضدّ مشروط بأن لا يكون مشتغلا بالضدّ الآخر ، فهذا لازمه أنّه لو تركهما معا لصارا فعليّين معا ، ولصار المكلّف مستحقّا لعقابين أيضا وهذا لا يمكن الالتزام به لاستلزامه التكليف بغير المقدور المستحيل.

أمّا صيرورتهما فعليّين معا فلأنّ تركهما معا معناه أنّ أحد الضدّين وهو الأهمّ فعلي مطلقا ، سواء اشتغل بالمهمّ أم لا ، والضدّ الآخر وهو المهمّ صار فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ فيكونان معا فعليّين ، وهذا معناه أنّ مجموع الأمرين بالضدّين مطلوب من المكلّف لكونهما فعليّين ، وهذا من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما.

وهكذا لو كانا معا مشروطين بأن كانا متساويين ، فإنّ شرط كلّ منهما وهو ترك الآخر متحقّق فيكونان فعليّين ، ممّا يعني اشتغال ذمّة المكلّف بكلا الضدّين معا وهو مستحيل.

وأمّا لزوم تعدّد العقاب على المكلّف ، فلأنّ صيرورة الضدّين فعليّين حال تركهما يستلزم تعدّد العقاب ؛ لأنّ موضوع العقاب هو عدم امتثال التكليف الفعلي ، والمفروض هنا أنّه تركهما معا فصارا فعليّين فيستحقّ عقابين معا ، مع أنّ هذا مستحيل ؛ لأنّ المكلّف غير قادر إلا على فعل أحدهما فقط ، فلا يكون مستحقّا إلا لعقاب واحد لا أكثر ، فيكون استحقاقه للعقاب الثاني مستحيلا ؛ لأنّه عقاب على ترك فعل لا يقدر عليه.

وبهذا ظهر أنّ فكرة الترتّب كما تقتضيه وجهة النظر الأولى من تقييد التكليف بعدم الاشتغال بالضدّ غير صحيحة لاستلزامها المحال ، فالصحيح أن يقال : إنّ التكليف مقيّد بأن لا يكون مأمورا بالضدّ سواء كان بصدد الاشتغال به أم لا ، فإنّ

ص: 59

نفس كونه مكلّفا بالضدّ يمتنع تكليفه بالضد الآخر ؛ لأنّه يثبت مشروطا (1).

ص: 60


1- هذا ويمكن الإجابة عن بيان الاستحالة الذي ذكره الآخوند بكلا وجهيه : أمّا الاستحالة بلحاظ الفعليّة فجوابه أنّ الأمر بالمهمّ لا يمنع عن محرّكيّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بترك الأهمّ ، وما دام مشروطا به فيكون وجوب المهمّ مقيّدا بعدم الأهمّ ، وإذا كان من قيود الوجوب فيستحيل أن يكون المهمّ مانعا عن المحرّكيّة نحوه ؛ لأنّ وجوده في طول ارتفاع الأهمّ ، فلا بدّ من انتفاء الأهمّ في رتبة سابقة ليوجد المهمّ ، وأمّا إذا لم يرتفع الأهمّ فلا وجود للمهمّ ليمنع منه. وهكذا بالنسبة للأمر بالأهمّ فإنّه لا يمنع عن الأمر بالمهمّ ؛ لأنّه مع وجود الأمر بالأهمّ يكون الأمر بالمهمّ منتفيا في نفسه لعدم تحقّق شرطه ، ومع انتفاء المهمّ لا معنى لمانعيّة الأهمّ عنه ؛ لأنّها مانعيّة عن شيء معدوم وهو مستحيل. إذا لا منافاة بين الأهمّ والمهمّ في مقام المانعيّة والمحرّكيّة ؛ لأنّ ثبوت المحرّكيّة في أحدهما لا تكون إلا بعد انتفاء الآخر في نفسه وفي رتبة سابقة ، وحينئذ لا مانع من طلب الضدّين ؛ لأنّه لن يكون هناك محرّكيّتان ، بل محرّكيّة واحدة ولازمها أنّه لن يكون هناك إلا تحرّك واحد لا أكثر ، ومع المخالفة لا يستحقّ إلا عقابا واحدا لا أكثر. وما ذكره من الإشكال غير صحيح أيضا ؛ لأنّ الفعليّة لكلّ منهما حال تركهما معا وإن كانت متحقّقة إلا أنّه لا يلزم منها أن يكون المكلّف مأمورا بالجمع بين الضدّين ؛ لأنّه في مقام الامتثال لا يطالب بأكثر من فعل أحدهما فقط ؛ لأنّه لا توجد أكثر من محرّكيّة واحدة ، ولهذا لو فرض تحقّق المحال في الخارج وصدر منه كلا الضدّين لم يكن ممتثلا إلا لأحدهما فقط ، وهو الأهمّ فيما لو كان أحدهما أهمّ ولم يكن ممتثلا إلا للأوّل فقط ؛ لأنّ شرطه محقّق وهو عدم الاشتغال بالضدّ دون الثاني ؛ لأنّه مشتغل بالضدّ الأوّل ، فمجرّد الفعليّة للتكليفين المتضادّين لا مانع منها عقلا ؛ لأنّها فعليّة مشروطة في مقام الامتثال. والإشكال بتعدّد العقاب ليس بصحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ العقاب يدور مدار ترك المكلّف للفعل الواجب المأمور به مع قدرته عليه ، وهنا إذا لاحظنا عالم الامتثال فالمكلّف ليس قادرا إلا على أحد الضدّين فقط ، فيكون في حالة تركه مستحقّا لعقاب واحد ، ولكن إذا لاحظنا حال الترك لكلا الضدّين نجد أنّ كلّ واحد من الضدّين في نفسه يمكن للمكلّف أن يوجده في الخارج ولكنّه تركه اختيارا مع قدرته عليه فيستحقّ العقاب عليه ، فكان العقاب متعدّدا لتعدّد موضوعه في الخارج ، لا من جهة أنّ المكلّف مأمور بالضدّين معا وكونهما فعليّين عليه معا. فيكون المطلوب منه فعل واحد ولكنّه يعاقب بعقابين لو تركهما معا ، وهذا له نظائر في الفقه كالوجوب الكفائي ، فإنّه فعل واحد وامتثال واحد ولكن لو ترك لكان جميع المكلّفين القادرين الحاضرين مستحقّين للعقاب.

وذهب المحقق النائيني رحمه اللّه (1)إلى الثاني ، وهذا هو الصحيح ، وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية :

القول الثاني : ما ذهب إليه الميرزا النائيني وغيره من الأصوليّين كالميرزا الشيرازي قبله ، من أنّ الأمر بالضدّين بنحو يكون كلّ منهما أو أحدهما مشروطا بعدم الاشتغال بالآخر ممكن في نفسه وعلى طبق القاعدة والأصل ، بل الوجدان يشهد بذلك.

فمثلا إذا دار الأمر بين ضررين لا يمكن دفعهما معا فالمكلّف يختار الضرر الأقلّ ؛ لأنّ العرف والوجدان يقتضي عدم اختيار الضرر الأزيد ، بل لو اختاره لكان مدانا بالعرف ، وكذلك لو كان أمره دائرا بين واجبين متساويين أو أحدهما أهمّ من الآخر ولا يمكنه فعلهما معا ، فإنّه يختار الأهمّ لو كان موجودا أو أحد المتساويين ، وهذا معناه أنّه مخيّر بين الواجبين فكلّ واحد منهما مطلوب وإن لم يكن المجموع أو الجمع بينهما مطلوب لعدم القدرة عليه.

وعلى كلّ حال فقد أثبت الميرزا الترتّب ضمن نقاط خمس ، ولكن السيّد الشهيد يختصرها إلى ثلاث نقاط هي :

النقطة الأولى : أنّ الأمرين بالضدّين ليسا متضادّين بلحاظ عالم المبادئ ؛ إذ لا محذور في افتراض مصلحة ملزمة في كلّ منهما وشوق أكيد لهما معا ، ولا بلحاظ عالم الجعل كما هو واضح ، وإنّما ينشأ التضادّ بينهما بلحاظ التنافي والتزاحم بينهما في عالم الامتثال ؛ لأنّ كلاّ منهما بقدر ما يحرّك نحو امتثال نفسه يبعّد عن امتثال الآخر.

النقطة الأوّلى : في بيان المنشأ الذي يمكن تصوّر التضادّ فيه بالنسبة للضدّين فيقال : إنّ التضادّ بين شيئين لا بدّ أن يكون في أحد مراتب ثلاث ، وإلا فلا يكون هناك تضادّ بينهما ، وهي :

1 - عالم الملاك والمبادئ من الحبّ والبغض أو الشوق المولوي.

2 - عالم الجعل والاعتبار والتكليف.

3 - عالم الامتثال والتحرّك.

وفي مقامنا لا يوجد تضادّ بين الأمرين بالضدّين بلحاظ عالم الملاكات والمبادئ ؛

ص: 61


1- فوائد الأصول 1 : 336.

وذلك لأنّ الأمر بانقاذ الغريق مثلا مبادئه في نفس متعلّقه وهو الانقاذ ، والأمر بالصلاة مبادئه في نفس متعلّقه وهو الصلاة.

وهذا معناه أنّ الإنقاذ فيه مصلحة ملزمة وفيه محبوبيّة والصلاة فيها مصلحة ملزمة ومحبوبيّة أيضا ، ولا مانع من أن يحبّ المولى كلا هذين الأمرين أي الإنقاذ والصلاة ؛ لأنّ ملاكات ومبادئ كلّ منهما لها متعلّق غير الآخر ، فلا يوجد تضادّ أصلا بين الأمر بالإنقاذ وبين الأمر بالصلاة في هذا العالم ، ولذلك يمكن جعلهما معا والأمر بهما وإيجابهما على ذمّة المكلّف ؛ لأنّ عالم الجعل والإيجاب والتكليف يراد منه جعل الداعي للبعث والتحريك فلا مانع عقلا من أن يجعل المولى هذا الداعي على المكلّف ، فتكون هناك محرّكيّة وداعويّة مولويّة نحو الأمر بالإنقاذ ونحو الأمر بالصلاة.

ولا تضادّ بين هاتين الداعويّتين في مقام الجعل والإيجاب ؛ لأنّ الجعل والإيجاب في نفسه ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة إنشائيّة لإرادة المولى ، فالمهمّ هو الإرادة المولويّة. وقد قلنا : إنّه لا مانع من أن تنصبّ إرادتان من المولى إحداهما متعلّقة بالإنقاذ والأخرى بالصلاة ؛ لاختلاف الموضوع والمتعلّق.

يبقى تصوّر التضادّ في عالم الامتثال والتحرّك ، ففي هذا العالم هل يمكن أن يتحرّك المكلّف نحو الفعلين المتضادّين ، بحيث يكون المطلوب منه هو الجمع بين الضدّين أم لا يمكن ذلك؟

فنقول : إنّ التحرّك نحو إنقاذ الغريق لا يجتمع مع التحرّك نحو امتثال الصلاة ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي متطلّبات تتنافى مع المتطلّبات التي يستدعيها الآخر في مقام الاشتغال والامتثال والتحرّك ، ولهذا فالمنشأ الذي يمكن تصوّره لاستحالة الأمر بالضدّين إنّما هو بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ كلّ أمر يقرّب نحو امتثال متعلّقه بقدر ما يبعّد عن امتثال الأمر الآخر (1).

ص: 62


1- ولكن لا بدّ من الالتفات إلى فارق بين هذه اللحاظات ، فإنّ اللحاظين الأوّلين إذا فرض التضادّ فيهما فهو راجع إلى المولى ، بمعنى أنّ المولى لا يصدر منه الحبّ والبغض أو الملاكات المتضادّة ، ولا يصدر منه طلب الجمع بينهما في وقت واحد. وأمّا بلحاظ عالم الامتثال فهو راجع إلى المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه امتثال الضدّين معا.

النقطة الثانية : أنّ وجوب أحد الضدّين إذا كان مقيّدا بعدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر أو بالبناء على عصيانه فهو وجوب مشروط على هذا النحو ، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط منافيا في فاعليّته ومحرّكيّته للتكليف بالضدّ الآخر ، إذ يمتنع أن يستند إليه عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ؛ لأنّ هذا العدم مقدّمة وجوب بالنسبة إليه ، وكلّ وجوب مشروط بمقدّمة وجوبيّة لا يمكن أن يكون محرّكا نحوها وداعيا إليها كما تقدّم مبرهنا في الحلقة السابقة (1) ، وإذا امتنع استناد عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن أنّ هذا الوجوب لا يصلح للمانعيّة المزاحمة في عالم التحريك والامتثال.

النقطة الثانية : في بيان استحالة أن يكون التكليف بالضدّ المهمّ مانعا عن المحرّكيّة أو عن امتثال التكليف بالأهمّ.

والوجه في ذلك : هو أنّ أحد الضدّين إذا كان مقيّدا ومأخوذا في وجوبه عدم الاشتغال بالضدّ الآخر أو مقيّدا بعصيان الضدّ الآخر - على الخلاف في كيفيّة تقييد الضدّ كما سيأتي - فهذا يعني أنّ وجوب الضدّ صار وجوبا مشروطا ، وشرطه هو عدم امتثال الضدّ الآخر أو عصيان الضدّ الآخر.

وحينئذ يستحيل أن يكون وجوب الضدّ المشروط مانعا ومنافيا لمحرّكيّة وفاعليّة وجوب الضدّ الآخر ؛ لأنّه لمّا كان مشروطا بعدمه فعدمه مقدّمة وجوبيّة لوجوب الضدّ المشروط ، والوجوب المشروط لا يحرّك نحو مقدّمته. إذا فوجوب الضدّ المشروط لا يحرّك نحو عدم الضدّ الآخر ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة له ، فلا وجود له قبل هذه المقدّمة ليكون محرّكا نحو عدمه.

فإذا فرض وجود هذا الضدّ المشروط فهذا يفترض في رتبة سابقة انتفاء الضدّ الآخر من نفسه أو بسبب آخر ، فإذا صار الضدّ المشروط موجودا وفعليّا لم يمنع عن امتثال الضدّ الآخر ؛ لفرض انتفائه في هذه الحالة ، والشيء لا يكون مانعا عن شيء آخر معدوم ؛ لأنّ المانعيّة إنّما تكون عن الأمر الوجودي أي أنّها فرع وجود الممنوع أوّلا

ص: 63


1- في بحث الدليل العقلي ، ضمن الحديث عن قاعدة تنوّع القيود وأحكامها ، تحت عنوان : أحكام القيود المتنوّعة.

فتمنع عنه ثانيا ، وهنا الممنوع عنه يفترض انتفاؤه في نفسه لكي يتحقّق وجوب الضدّ المشروط بعدمه.

وبتعبير آخر : إنّ مانعيّة الضدّ المشروط بعدم الضدّ الآخر عن امتثال الضدّ الآخر مستحيلة لوجوه :

أوّلها : ما تقدّم من أنّ عدم الضدّ الآخر صار مقدّمة وجوبيّة ؛ ووجوب الشيء لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق وجوبه وفي مرتبة أسبق عن وجوده ، أي أنّها توجد قبله فلا يكون هو محرّكا نحوها ؛ لأنّه إذا فرض وجوده فهذا يفترض مسبقا تحقّقها من قبل.

وثانيها : أنّ الوجوب في طول مقدّماته الوجوبيّة رتبة ، فلو كان يدعو ويحرّك نحوها لزم كونها في طوله فيلزم الدور ، أو التقدّم والتأخّر بين الوجوب ومقدّمته وهو مستحيل.

وثالثها : أنّ وجوب الضدّ المشروط بعدم امتثال الضدّ الآخر لا يمكنه أن يحقّق موضوع نفسه ؛ لأنّ الحكم في طول الموضوع ، والموضوع هنا قد أخذ فيه عدم امتثال الضدّ الآخر ليصبح فعليّا ثمّ تتبعه بعد ذلك فعليّة الموضوع. فلو كان داعيا إلى قيود موضوعه لزم الخلف أو التقدّم والتأخّر ، وهو مستحيل أيضا.

وبهذا ظهر أنّ الأمر بالمهمّ المشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا إلى عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، وحينئذ فلا تقع المنافاة بين ثبوت الأمر بالمهمّ وبين محركيّة وفاعليّة الأمر بالأهمّ ؛ لأنّ إحدى المحرّكيّتين والفاعليّتين منتفية لا محالة عند ثبوت وتحقّق الأخرى.

وهذا نظير سائر الوجوبات المشروطة كوجوب الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلا ، فإنّ وجوب الحجّ لا يكون داعيا ومحرّكا نحو تحقيق الاستطاعة ؛ لأنّها من المقدّمات الوجوبيّة ، والوجوب لا يحرّك نحو مقدّماته الوجوبيّة ؛ لأنّها فوق الوجوب ، أي أنّها سابقة في الرتبة عن الوجوب نفسه ، ففرض وجود وتحقّق الوجوب يلزمه لا محالة فرض تحقّق مقدّماته.

ففي المثال فرض وجوب الحجّ على المكلّف إذا صار فعليّا ، فهذا معناه أنّ الاستطاعة كانت فعليّة أوّلا ؛ إذ يستحيل فعليّة وجوب الحجّ مع كون الاستطاعة غير فعليّة في رتبة سابقة.

ص: 64

إذا لا منافاة ولا تضادّ ولا ممانعة بين وجوب المهمّ المشروط بعدم الأهمّ وبين امتثال الأمر بالأهمّ ، بمعنى أنّ المهمّ لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الأهمّ ، فمن ناحية المهمّ لا منافاة.

وأمّا بالنسبة للأهمّ فهل يمنع عن امتثال المهمّ ويحرّك نحو عدم امتثاله أم لا؟ فهذا ما نوضّحه في النقطة الثالثة :

النقطة الثالثة : أنّ التكليف بالضدّ الآخر إمّا أن يكون مشروطا بدوره أيضا بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط ، وإمّا أن يكون مطلقا من هذه الناحية ، فعلى الأوّل يستحيل أن يكون منافيا للوجوب المشروط في مقام التحريك بنفس البيان السابق ، وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضا ؛ لأنّ التكليف بالضدّ الآخر مع فرض إطلاقه وإن كان يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط ، ويصلح أن يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب المشروط ، ولكنّه إنّما يبعّد عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلّف نحو امتثال نفسه الذي يساوق إفناء الوجوب المشروط ونفي موضوعه ، وهذا يعني أنّه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط بنفي أصل الوجوب المشروط وإعدام شرطه ، لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط وحفظ شرطه ، والوجوب المشروط إنّما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ ذاته وشرطه ، ولا يأبى عن نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأسا ؛ إذ يستحيل أن يكون حافظا لشرطه ومقتضيا لوجوده.

وبهذا يتبرهن أنّ الأمرين بالضدّين إذا كان أحدهما على الأقلّ مشروطا بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في إمكان ثبوتهما معا بدون تناف بينهما.

النقطة الثالثة : في بيان أنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مانعا عن محرّكيّة وفاعليّة الأمر بالمهمّ.

تقدّم أنّ وجوب أحد الضدّين لا يدعو ولا يحرّك نحو عدم امتثال الضدّ الآخر بالبيان السابق ، يبقى الكلام في الضدّ الآخر فهو لا يخلو إمّا أن يكون مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، وإمّا أن يكون مطلقا وغير مشروط بذلك.

فإن كان مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل - كما إذا كانا متساويين في الأهمّيّة - فهو أيضا يستحيل أن يكون محرّكا وداعيا نحو عدم امتثال الضدّ الأوّل بنفس البيان السابق من كونه وجوبا مشروطا وهو لا يدعو إلى تحقيق شرطه ؛ لأنّه مقدّمة وجوبيّة

ص: 65

له ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق مقدّماته الوجوبيّة ، مضافا إلى ما ذكرناه من وجوه أخرى للاستحالة.

وأمّا إن لم يكن مشروطا بعدم امتثال الضدّ الأوّل ، بل كان مطلقا من هذه الناحية - كما إذا كان أهمّ من الضدّ الأوّل - فهنا أيضا يستحيل أن يدعو إلى عدم امتثال الضدّ الأوّل المهمّ ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ وجوب الضدّ الآخر الأهمّ وجوبه مطلق وفعلي سواء كان المكلّف بصدد الاشتغال بالضدّ المهمّ أم لا ؛ لأنّ معنى إطلاقه هو كونه فعليّا في جميع الحالات ، وحينئذ يكون الأمر بالأهمّ داعيا ومحرّكا أوّلا وبالذات نحو تحقيق متعلّق نفسه ؛ لأنّ كلّ أمر يدعو إلى تحقيق متعلّقه أوّلا وبالذات ، وحيث إنّه وجوب مطلق غير مشروط فهو بالإضافة إلى داعويّته نحو تحقيق متعلّقه ، يدعو ثانيا وبالعرض إلى عدم التحرّك نحو الأمر بالمهمّ ، فيكون عدم امتثال الأمر بالمهمّ مستندا إلى الأمر بالأهمّ ، ولكن لا مباشرة بل على أساس الملازمة.

وتوضيحها : أنّ الأمر بالأهمّ له مدلول مطابقي وهو داعويّته إلى تحقيق متعلّق نفسه وعدم هدمه ، وله مدلول التزامي بسبب كونه مطلقا وفعليّا في كلّ الحالات ، وهو داعويّته إلى عدم تحقيق الأمر بالمهمّ ، فهو يقرّب المكلّف نحو تحقيق متعلّقه وامتثاله ، ويبعّده عن تحقيق الأمر بالمهمّ وامتثاله ، ولكن هاتان الداعويّتان ليستا في عرض واحد وفي رتبة واحدة ، بل إحداهما في طول الأخرى ، فإنّ الداعويّة الثانية كانت على أساس الملازمة المتقدّمة.

وبكلمة ثانية : أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو المكلّف ويقرّبه نحو امتثاله وتحقيق متعلّقه ، فهذا نفسه يساوق ويلازم التبعيد عن امتثال الأمر بالمهمّ والتحرّك نحو تحقيق متعلّقه ، ووجه هذه المساوقة هو أنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان يدعو ويقرّب إلى تحقيق متعلّقه وامتثاله ، فهذا نفسه يعني إعدام شرط الوجوب في الأمر بالمهمّ ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعدم امتثال الأمر بالأهمّ.

ففي حالة امتثال الأمر بالأهمّ يكون شرط الوجوب في المهمّ منتفيا وموضوعه غير محقّق ، والأمر بالأهمّ يدعو بالملازمة أو بالعرض إلى إفناء شرط وجوب الأمر بالمهمّ وإعدام موضوعه ، فيصحّ استناد عدم الأمر بالمهمّ إليه من هذه الناحية ، وإن

ص: 66

كان هو بذاته لا يدعو ولا يقرّب إلا إلى متعلّقه وامتثاله فقط.

نعم ، لو كان الأمر بالأهمّ يدعو ويقرّب نحو عدم امتثال الأمر بالمهمّ ، مع وجود شرطه وحفظه ومع تحقّق موضوعه ، لكانت هذه المحرّكيّة والداعويّة مستحيلة ؛ لأنّه مع حفظ شرط المهمّ وتحقّق موضوعه يعني أنّ الأمر بالأهمّ منتفيا ؛ لأنّ شرط الأمر بالمهمّ هو عدم امتثال الأمر بالأهمّ ، فمع عدم امتثاله يكون وجوب الأمر بالمهمّ محفوظا ، وحينئذ يأبى عن الانتفاء والانعدام لصيرورته فعليّا لفعليّة شرطه وموضوعه ، فيقع التنافي حينئذ بين الأمرين.

إلا أنّنا لا نفترض ذلك ، بل نقول : إنّ الأمر بالأهمّ ينفي أصل وجود الأمر بالمهمّ من خلال نفيه لشرطه وموضوعه ، فهو منتف من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب وجود المانع عنه ، أي أنّه لا يوجد المقتضي لوجود الأمر بالمهمّ مع وجود الأمر بالأهمّ ، لا أنّ المقتضي موجود وإنّما يرتفع بسبب المانع ، فإنّ ارتفاعه عندئذ مستحيل ؛ للتعارض والتضادّ بينهما.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالأهمّ لمّا كان مطلقا وفعليّا فهو حين امتثاله وتحقيق متعلّقه سوف يحقّق مطلبين :

أحدهما : امتثال الأمر بالأهمّ بامتثال متعلّقه وتحقيق موضوعه ، وهذا يعني استيفاء الملاك منه بإيجاده.

والآخر : امتثال الأمر بالمهمّ وذلك بإعدام شرطه وانتفاء موضوعه ، وهذا يعني أيضا استيفاء الملاك من الأمر بالمهمّ برفع موضوعه.

والنتيجة : أنّ المكلّف يكون ممتثلا لكلا الأمرين بفعل الأهمّ ، أحدهما بإيجاده والآخر بإعدامه ورفع موضوعه (1).

ص: 67


1- ويمكننا أن نضيف وجها آخر وهو ما أفاده الميرزا ، وحاصله أن يقال : إنّ مقتضى الأمر بالأهمّ هو الإتيان بمتعلّقه وامتثاله ، فهو يحرّك نحو الأهم وفعله ، ويمنع عن هدمه ، ومقتضى الأمر بالمهمّ كذلك ، فهو يحرّك نحو متعلّق نفسه ويمنع عن هدمه. فالأمر بالإزالة يحرّك نحو الإزالة ويمنع عن إعدامها وهدمها ، والأمر بالصلاة يحرّك نحو الصلاة ويمنع عن هدمها. إذا فالمقتضي في كلّ منهما مغاير ومباين للآخر ، فلا أحدهما يمنع عن الآخر ولا يحرّك نحو عدم الآخر في مقام الامتثال.

وبهذا يظهر أنّ الأمرين بالضدّين بنحو الترتّب ممكن وليس مستحيلا ؛ لأنّه لا تنافي ولا تضادّ بينهما لا في عالم الملاكات والإرادة والمبادئ ، ولا في عالم الجعل والتكليف ، ولا في عالم الامتثال.

وهكذا نعرف أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ وجوب مشروط - إضافة إلى القدرة التكوينيّة - بعدم الابتلاء بالتكليف بالضدّ الآخر ، بمعنى عدم الاشتغال بامتثاله ، ولكن لا أيّ تكليف آخر ، بل التكليف الذي لا يقلّ في ملاكه أهمّيّة عن ذلك الوجوب ، سواء ساواه أو كان أهمّ منه.

وأمّا إذا كان التكليف الآخر أقلّ أهميّة من ناحية الملاك فلا يكون الاشتغال بامتثاله مبرّرا شرعا لرفع اليد عن الوجوب الأهمّ ، بل يكون الوجوب الأهمّ مطلقا من هذه الناحية كما تفرضه أهمّيّته.

ومن هنا نصل إلى صيغة عامّة للتقييد يفرضها العقل على كلّ تكليف ، وهي تقييده بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة.

وأمّا النتيجة فهي : أنّ العقل يقيّد التكليف بالقدرة ، بمعنى أنّه يشترط في كلّ تكليف القدرة تكوينيّا على متعلّقه وهذا ما تقدّم سابقا ، ويشترط أيضا ألاّ يكون المكلّف مبتليا بالاشتغال بالضدّ الآخر ، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال لعدم قدرته على الجمع ، وهذا ما أثبتناه هنا من خلال النقاط الثلاث المتقدّمة.

ولكن لا بدّ أن نعرف أي نوع من التكليف هو الذي يكون مأخوذا عدم الاشتغال به قيدا في التكليف الآخر؟

والجواب : أنّ التكليف المأخوذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف هو التكليف الذي لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر ، فلا بدّ أن يكون إمّا مساويا أو أهمّ من التكليف الآخر ، وليس مطلق الاشتغال بالتكليف يكون مانعا عن امتثال التكليف الآخر ، فإنّه إذا كان التكليف الذي يشتغل به مساويا أو أهمّ فإنّه يمنع من التكليف الآخر ، حيث يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بالتكليف المساوي أو الأهمّ ، فلا تكليف فعلا به.

وأمّا إذا كان يشتغل بتكليف يقلّ في الأهمّيّة عن التكليف الآخر ، فهنا لا يكون مثل هذا الاشتغال مانعا عن التكليف بالأهمّ ؛ لأنّ قيده وهو عدم الاشتغال بالضدّ

ص: 68

الأهمّ أو المساوي غير متحقّق ، فلا يكون مقيّدا ولا مشروطا في هذه الحالة ، بل يكون مطلقا ممّا يعني أنّه فعليّ على كلّ حال ، ولذلك فيجب على المكلّف أن يترك الضدّ الأقلّ أهمّيّة ويشتغل بالتكليف الأهمّ ، ولا يكون اشتغاله بالأقلّ أهمّيّة مسوّغا شرعا ومعذّرا للمكلّف في تركه للأهمّ.

ومن هنا نصل إلى الصياغة النهائيّة لشرطيّة القدرة في التكليف بالمعنى الأعمّ وهي : أنّ العقل يشترط في كلّ تكليف القدرة عليه تكوينا وعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه. وأمّا متى نعرف الأهم أو المساوي أو الأقلّ أهمّيّة؟

فتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

وعلى هذا الأساس إذا وقع التضادّ بين واجبين كالصلاة وإنقاذ الغريق ، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد ، فالتعرّف على أنّ أيّهما وجوبه مطلق ، وأيّهما وجوبه مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر يرتبط بمعرفة النسبة بين الملاكين.

فإن كانا متساويين كان الاشتغال بكلّ منهما مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في كلّ تكليف ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ، ويسمّى بالترتّب من الجانبين.

وإن كان أحد الملاكين أهمّ كان الاشتغال بالأهمّ مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب المهمّ ، ولكن الاشتغال بالمهمّ لا يكون مصداقا لما حكم العقل بأخذ عدمه قيدا في وجوب الأهمّ. وينتج هذا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق والأمر بالمهمّ مقيّد ، وأنّ المكلّف لا بدّ له من الاشتغال بالأهمّ لكيلا يبتلى بمعصية شيء من الأمرين ، ولو اشتغال بالمهمّ لابتلي بمعصية الأمر بالأهمّ.

ومن أجل التعرّف على كيفيّة تطبيق هذا الشرط نأخذ الأمثلة التالية :

أن يقع التضادّ والتزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين وجوب الصلاة ، أو يقع التزاحم والتضادّ في عالم الامتثال بين وجوب الصلاة وبين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا إذا أردنا أن نعرف الملاك الأهمّ أو المساوي من الأقلّ أهمّيّة ، فلا بدّ لنا من معرفة النسبة بين الملاكين ، لكي يتمّ الترجيح بلحاظ الأهمّيّة ، وهذه المرجّحات سوف يأتي الكلام عنها مفصّلا في باب التزاحم.

ومن باب المثال نقول : إنّه إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة العقليّة والآخر

ص: 69

بالقدرة الشرعيّة كان الأوّل مقدّما على الثاني وأهمّ منه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة تكون دخيلة في الملاك ، بحيث لا يوجد ملاك مع انتفائها ، بخلاف القدرة العقليّة فإنّها القدرة التي يحكم باشتراطها العقل في كلّ تكليف.

وهذا يعني أنّ المقيّد بالقدرة الشرعيّة مقيّد أيضا بالقدرة العقليّة ولا عكس ، وحينئذ إذا امتثل التكليف المقيّد بالقدرة العقليّة ارتفع موضوع التكليف المقيّد بالقدرة الشرعيّة ؛ لارتفاع ملاكه بخلاف العكس.

وهكذا يعرف الأهمّ فيما لو دار التزاحم بين الضدّين ، وكان لأحدهما بدل وليس للآخر بدل ، فإنّ الأهمّ يكون ما لا بدل له.

وعلى كلّ حال فالنسبة بين الملاكين في التكليفين المتضادّين على نحوين :

الأوّل : أن يكون الملاكان متساويين ، فهنا يكون الشرط المذكور موجودا في كلّ منهما ، فمثلا لو فرض المساواة بين ملاك الإزالة وملاك الصلاة ، فيكون وجوب الإزالة مشروطا بعدم الاشتغال بالصلاة ، ويكون وجوب الصلاة مشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، فوجوب كلّ منهما أخذ فيه عدم الاشتغال بامتثال التكليف الآخر ، فلو كان مشتغلا فعلا بالتكليف الآخر لكان التكليف بالضد منتفيا لارتفاع موضوعه ؛ لأنّ شرطه لم يتحقّق ، وهذا ما يسمّى بالترتّب من الجانبين ، بمعنى أنّ الشرطيّة كانت في الضدّين معا.

الثاني : أن يكون أحد الملاكين أهمّ من الآخر ، فهنا تكون الشرطيّة من جانب واحد فقط ، وهو التكليف الأقلّ أهمّيّة دون التكليف الأهمّ ، فإنّه يبقى على إطلاقه من ناحية هذه الشرطيّة.

فمثلا لو فرض أهمّيّة إنقاذ الغريق على الصلاة أو على إزالة النجاسة عن المسجد ، فهنا وجوب الإنقاذ لمّا كان هو الأهمّ فهو مطلق من ناحية الشرطيّة المذكورة ، بمعنى أنّه يجب امتثاله في جميع الحالات ، أي سواء كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة أم لا ، فإنّ معنى إطلاقه كونه فعليّا في كلّ الحالات ، فحتّى لو كان مشتغلا بالأقلّ أهمّيّة يكون فعليّا ويجب امتثاله ؛ لأنّ الاشتغال بالآخر الأقلّ أهمّيّة لا يرفع موضوعه ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس مقيّدا بعدم الاشتغال به ، إذ قد فرضناه مطلقا وأهمّ ، فلا يكون لتركه أي مبرّر شرعا ، ولذلك يعاقب على تركه.

ص: 70

بينما وجوب الضدّ الآخر الأقلّ أهمّيّة يكون مشروطا بعدم الاشتغال بالأهم ؛ لأنّ الشرطيّة متحقّقة هنا ؛ لأنّها تكون في كلّ تكليف يقلّ أهمّيّة أو يساوي التكليف الآخر.

فوجوب الصلاة مشروط بعدم الاشتغال بالإنقاذ ، بمعنى أنّ المكلّف لو عصى وجوب الإنقاذ لصار وجوب الصلاة فعليّا عليه ؛ لتحقّق شرطه وموضوعه. وأمّا إذا اشتغل بالأهمّ فلا فعليّة لوجوبه ؛ لعدم تحقّق موضوعه إذ المفروض انتفاء شرطه.

وهذا ما يسمّى بالترتّب من جانب واحد ؛ بمعنى أنّ الأقلّ أهمّيّة هو المشروط فقط دون الأهمّ فإنّه مطلق.

وبهذا ينتهي البحث عن أصل فكرة الترتّب ، وقد ظهر أنّها ممكنة عقلا ، وقد بيّنا شرحها مختصرا.

[ ثمرات بحث الترتّب ]

ويترتّب على ما ذكرناه من كون القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرطا عامّا في التكليف بحكم العقل عدّة ثمرات مهمّة :

منها : أنّه كلّما وقع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما كالصلاة والإزالة - وتسمّى بحالات التزاحم - فلا ينشأ من ذلك تعارض بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإزالة ؛ لأنّ الدليل مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلّي وضمن قيوده المقدّرة الوجود - كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) - ومن جملة تلك القيود القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، ولا يحصل تعارض بين الدليلين إلا في حالة وجود تناف بين الجعلين ، وحيث لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة المقيّد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وجعل وجوب الإزالة المقيّد كذلك فلا تعارض بين الدليلين.

ثمرات بحث الترتّب : يترتّب على القول بإمكان الترتّب عدّة ثمرات مهمّة ، بعضها على مستوى البحث النظري الأصولي ، وبعضها على مستوى البحث العملي الفقهي :

ص: 71


1- في بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

الثمرة الأولى : دخول التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال في باب التزاحم لا التعارض.

ولتوضيح هذا الأمر المهمّ نذكر تعريف التزاحم والتعارض ؛ ليتّضح لنا أنّ التضادّ بين الواجبين هل هو من مصاديق التزاحم أو من مصاديق التعارض؟

التعارض اصطلاحا : هو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الجعل بحيث لا يمكن جعلهما معا ولا يمكن أن يكونا معا حجّة ؛ لمكان التكاذب والتنافي والتعاند بينهما ، كما في ( صلّ ولا تصلّ ) ، أو كما في ( أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفاسق ) ، فإنّ التنافي في المثال الأوّل بنحو التباين الكلّي ؛ لأنّ النسبة بينهما هي نسبة التناقض ، بينما في المثال الثاني هي نسبة العموم من وجه ؛ ففي مورد الاجتماع أي العالم الفاسق يقع التنافي والتعاند.

وأمّا التزاحم : فهو التنافي بين الدليلين بلحاظ عالم الامتثال ، بحيث لا يتمكّن المكلّف في مقام الامتثال من الإتيان بكلا المتعلّقين بسبب عجزه وعدم قدرته على الجمع بينهما ، كما في ( صلّ وأنقذ الغريق ) ، فإنّه لا تنافي بينهما لا في عالم المبادئ والملاكات ولا في عالم الجعل والتشريع والحجّيّة ، وإنّما بلحاظ عالم الامتثال حيث يكون الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا لأحدهما ، فيقع التنافي بينهما والتعاند ؛ إذ مع ضيق الوقت لن يتمكّن المكلّف إلا من امتثال أحدهما فقط ولا يمكنه الجمع بينهما في الوقت.

وبعد ذلك نعود للإجابة عن السؤال المتقدّم فنقول : إنّ التضادّ بين الواجبين في عالم الامتثال - إن قلنا باستحالة الترتّب - سوف يدخل في باب التعارض ويكون باب التزاحم من صغريات باب التعارض ، فتطبّق عليه قواعد التعارض الآتية.

والوجه في دخوله في باب التعارض : أنّنا إذا بنينا على استحالة الترتّب فسوف يكون كلا الواجبين مطلقا وفعليّا حتّى لحالة الاشتغال بالآخر ، فوجوب الصلاة يكون فعليّا سواء اشتغل بالإزالة أم لا ، تمسّكا بإطلاق دليله ، ووجوب الإزالة كذلك.

وحينئذ يقع التنافي بين الوجوبين أنفسهما ، ممّا يعني أنّ الدليلين الدالّين على الوجوبين متنافيان ولا يمكن الأخذ بهما معا ولا القول بحجّيّتهما كذلك ؛ للتكاذب والتنافي بين الجعلين الذي يسري إلى الدليلين في مقام التشريع.

ص: 72

بينما إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون الواجبان المتضادّان داخلين في باب التزاحم ، وسوف يكون باب التزاحم بابا مستقلا عن باب التعارض ، له أحكامه وقواعده الخاصّة به والمستقلّة عن قواعد أحكام التعارض.

والوجه في ذلك : هو أنّنا إذا قلنا بإمكان الترتّب فسوف يكون وجوب الصلاة مثلا مقيّدا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ووجوب الإزالة كذلك - فيما لو كانا متساويين - أو أحدهما مطلق والآخر مقيّد فيما لو كان أحدهما أهمّ من الآخر.

وعليه ، فإذا كان مشتغلا بالأهمّ أو المساوي سوف يرتفع موضوع الآخر فلا تكليف به فعلا ، فلا تنافي بين الوجوبين والجعلين ؛ لأنّ أحدهما ثابت والآخر مرتفع لعدم تحقّق موضوعه ، فيمكن الجمع بين الدليلين الدالّين على الوجوبين والأخذ بهما معا والقول بحجّيّتهما كذلك ، غايته كون الوجوب في كلّ منهما مقيّدا ومشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ بحكم العقل كما تقدّم.

ولا يوجد تعارض بينهما لعدم التنافي بين الجعلين كما ذكرنا ، وإنّما التنافي بينهما بلحاظ عالم الامتثال فقط ، والذي أمكن رفعه على أساس الترتّب ، وما دام لا تنافي بين الجعلين فيهما فلا تنافي بين الدليلين الدالّين على الجعلين أيضا.

فإن قيل : كيف لا يوجد تعارض بين دليلي ( صلّ ) و ( أزل ) مع أنّ الأوّل يقتضي بإطلاقه إيجاب الصلاة سواء أزال أم لا ، والثاني يقتضي بإطلاقه إيجاب الإزالة سواء صلّى أم لا ، ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين الضدّين مطلوبا؟

كان الجواب علي ذلك : أنّ كلاّ من الدليلين لا إطلاق فيه بحدّ ذاته لحالة الاشتغال بضدّ لا يقلّ عنه أهمّيّة ؛ لأنّه مقيّد عقلا بعدم ذلك كما تقدّم ، فإن كان الواجبان المتزاحمان متساويين في الأهمّيّة فلا إطلاق في كلّ منهما لحالة الاشتغال بالآخر ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا إطلاق في غير الأهمّ لذلك. وعلى كلّ حال فلا يوجد إطلاقان كما ذكر ليقع التعارض بينهما ، وهذا ما يقال : من أنّ باب التزاحم مغاير لباب التعارض ولا يدخل ضمنه ولا تطبّق عليه قواعده.

قد يشكل على ما ذكر من أنّ باب التزاحم مستقلّ في نفسه ولا يدخل في باب التعارض حتّى على القول بإمكان الترتّب بالإشكال التالي : أنّ الواجبين المتضادّين يوجد تعارض بين دليليهما ؛ وذلك لأنّ مثل دليل وجوب الصلاة ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ، )

ص: 73

ومثل دليل وجوب إنقاذ الغريق ( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) مطلق ، وإطلاقهما يشمل ما إذا كان مشتغلا بشيء آخر أم لا ، فتجب عليه الصلاة مطلقا ؛ إذ لا مقيّد في دليلها سواء اشتغل بالإزالة أو بالإنقاذ أم لم يشتغل بشيء من ذلك وكذا العكس.

وحينئذ يقع التنافي والتكاذب بين هذين الإطلاقين ؛ لأنّ المكلّف في مقام الامتثال لا يمكنه الأخذ بهما معا ، لعدم قدرته عليهما ولا بأحدهما دون الآخر لكونه ترجيحا من دون مرجّح ، فيتعيّن تساقطهما.

وهذا معناه أنّ التنافي والتضادّ في مقام الامتثال يسري إلى الدليلين أنفسهما ؛ لأنّ المطلوب من المكلّف هو الجمع بين الضدّين عملا بالإطلاق فيهما ، وحيث إنّه مستحيل فيستحيل الأخذ بهما.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة الجمع بين الضدّين نشأت من الحفاظ على الإطلاق في كلا الدليلين ، فإذا لم يكن فيهما إطلاق فلا مانع من الأخذ بهما معا.

وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ العقل يشترط القدرة التكوينية في كلّ تكليف بالمعنى الأعمّ المتقدّم ، فيكون كلّ تكليف مقيّدا بقيد لبّي متّصل وهو قيد القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، وهذا معناه أنّ دليل وجوب الصلاة مقيّد فيما إذا لم يكن مشتغلا بامتثال واجب آخر أهمّ أو مساو ، وهكذا بالنسبة لدليل وجوب الإزالة أو الإنقاذ فيما إذا كان مساويا في الأهمّيّة لوجوب الصلاة ، وأمّا إذا لم يكن مساويا بل كان أهمّ فيكون مطلقا من هذه الناحية.

وحينئذ لن يقع التعارض بين الدليلين في مقام الامتثال ولن يسري منه إلى الجعلين والدليلين ؛ لأنّ اشتغاله بالأهمّ أو المساوي معناه ارتفاع موضوع الدليل المساوي أو الأقلّ أهمّيّة ؛ لعدم تحقّق شرطه وقيده وهو ألاّ يكون مشتغلا بالأهمّ أو المساوي ؛ لأنّ المفروض أنّه مشتغل به بالفعل.

ومنه يظهر أنّ باب التزاحم بين الواجبين باب مستقلّ في نفسه عن باب التعارض وله أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وليس داخلا فيه وليس من صغرياته أيضا.

وكما يكون التزاحم بين واجبين يعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كذلك يكون بين واجب وحرام يعجز المكلّف عن الجمع بين إيجاد الواجب منهما وترك الحرام ،

ص: 74

كما إذا ضاقت قدرة المكلّف في مورد ما عن إتيان الواجب وترك الحرام معا.

التزاحم بين الواجب والحرام : وهنا يتعرّض السيّد الشهيد لمطلب أجنبي عن بيان الثمرات عرضا ، وهو ما إذا تزاحم الواجب مع الحرام كما إذا كان إنقاذ الغريق الواجب مزاحما مع امتثال حرمة الغصب ، بأن توقّف إنقاذ الغريق على المرور بالأرض المغصوبة أو على ركوب السفينة المغصوبة ، ولا يتصوّر فرض المزاحمة بين الواجب والحرام إلا إذا كان فعل الواجب متوقّفا على ارتكاب الحرام ، بحيث كان الواجب مقدّمة للحرام.

وهنا بحث مفصّل سوف يأتي في باب المقدّمة.

وحاصله أن يقال : إنّ الواجب الذي صار مقدّمة للحرام إمّا أن يكون موصّلا أو لا يكون كذلك ، والمقدّمة إمّا أن تكون واجبة أو لا تكون كذلك.

فإن لم تكن المقدّمة واجبة أصلا وقع التزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين اجتياز الأرض المغصوبة ، وحينئذ يقدّم الأهمّ ملاكا.

وإن كانت المقدّمة واجبة وقع التعارض ؛ لأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام نفسيّا بذاته ومع صيرورته مقدّمة للواجب يصبح واجبا غيريّا بالعرض ، واجتماع الحرمة والوجوب على شيء واحد يوجب التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب ، فيدخل في باب التعارض ؛ لأنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد يقع صغرى لباب التعارض.

وإن كانت المقدّمة الواجبة موصلة للواجب الأهمّ بحيث لا يمكن إنقاذ الغريق إلا باجتياز الأرض المغصوبة وكان إنقاذه هو الأهمّ ، فهنا سوف تسقط الحرمة عن اجتياز الأرض المغصوبة تطبيقا لقواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة ، بحيث يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم امتثال الأمر الأهمّ.

وإن لم تكن المقدّمة موصلة فإن لم نقل بوجوب مطلق المقدّمة كان اجتياز الأرض حراما ولا يوجد ما يحول دون هذه الحرمة ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى امتثال الواجب ، وأمّا إن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة كما هو رأي صاحب ( الكفاية ) فيكون اجتيازها وإن لم يوصل إلى الواجب الأهمّ واجبا أيضا ، فيقع التعارض بين دليل الحرمة ودليل الواجب النفسي بلحاظ الأرض المغصوبة.

ص: 75

هذا بنحو مختصر وسوف يأتي التعرّض للمطلب مفصّلا ، وكان الأنسب تأجيل هذا البحث ولو بنحو الإشارة إلى محلّه.

ومنها : أنّ القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهمّ ملاكا على غيره ؛ لأنّ الاشتغال بالأهمّ ينفي موضوع المهمّ دون العكس ، هذا إذا كان هناك أهمّ ، وأمّا مع التساوي فالمكلّف مخيّر عقلا ؛ لأنّ الاشتغال بكلّ واحد من المتزاحمين ينفي موضوع الآخر. وإذا ترك المكلّف الواجبين المتزاحمين معا استحقّ عقابين لفعليّة كلا الوجوبين في هذه الحالة.

الثمرة الثانية : التي تترتّب على القول بإمكان الترتّب ، هي أنّ التزاحم بعد أن يصير بابا مستقلاّ عن باب التعارض سوف تكون له أحكامه وقواعده الخاصّة به ، وهي :

أوّلا : تقديم الأهمّ ملاكا على غيره فيما إذا كان أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر ، وذلك وفقا لما تقدّم سابقا من أنّه إذا كان أحد الضدّين أهمّ فسوف يكون مطلقا وفعليّا في جميع الحالات ، ويكون الضدّ الآخر المقابل له هو المقيّد فقط ؛ لأنّ الشرط غير متوفّر بالنسبة للأهمّ ؛ لأنّه كان عبارة عن عدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والمفروض أنّ الضدّ الآخر يقلّ أهمّيّة من الأهمّ فالاشتغال به لا يرفع موضوع الأهمّ ، بخلاف الاشتغال بالأهم فإنّه يرفع موضوع المهمّ أو الأقلّ أهمّيّة.

وأمّا كيف نعرف الواجب الأهمّ من غيره فهذا ما سوف يأتي الكلام عنه مفصّلا في باب التزاحم.

وثانيا : إذا كان الضدّان متساويين في الأهمّيّة فيكون كلّ واحد منهما مشروطا بعدم الاشتغال من الآخر ؛ لأنّ الترتّب يكون من الجانبين ، وهذا يعني أنّ الاشتغال بأحدهما يرفع موضوع الآخر ، ولذلك يكون المكلّف مخيّرا بينهما ؛ إذ لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لكونه من دون مرجّح ، ولا يمكن تركهما معا ؛ لكون الترك معصية لكلّ منهما ، ولا يمكن الأخذ بهما معا لعجز المكلّف وعدم قدرته فيتعيّن التخيير.

وثالثا : أنّ المكلّف لو فرض أنّه ترك كلا الواجبين المتزاحمين لكان مستحقّا لعقابين ؛ وذلك لأنّه سوف يكون كلا الواجبين فعليّين ، فإنّه إن كان أحدهما أهمّ ففعليّته مطلقة ، سواء اشتغل بالآخر أم لا ، وإن كانا متساويين ففعليّة كلّ منهما

ص: 76

مشروطة بترك الآخر ، والمفروض هنا أنّه تركه ، فيكون المكلّف قد ترك تكليفين فعليّين فيستحقّ عقوبتين ؛ لجمعه بين المعصيتين لا لكون المطلوب منه الجمع بين الطلبين فإنّه مستحيل كما تقدّم سابقا (1).

ومنها : أنّ تقديم أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمّيّة لا يعني سقوط الواجب الآخر رأسا ، كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين على الآخر ، بل يبقى الآخر واجبا وجوبا منوطا بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وهذا ما يسمّى بالوجوب الترتّبي ، ولا يحتاج إثبات هذا الوجوب الترتّبي إلى دليل خاصّ ، بل يكفيه نفس الدليل العامّ ؛ لأنّ مفاده - كما عرفنا - وجوب متعلّقه مشروطا بعدم الاشتغال بواجب لا يقلّ عنه أهمّيّة ، والوجوب الترتّبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمّيّة المزاحم الآخر.

الثمرة الثالثة : أنّه في باب التعارض إذا قدّم أحد الدليلين المتعارضين على الآخر من جهة وجود بعض المرجّحات فيه - إن من ناحية السند أو من ناحية الدلالة - كان الدليل الآخر ساقطا عن الحجّيّة رأسا ، ولا يمكن التعبّد والأخذ به مطلقا سواء اشتغل بالدليل الراجح أم لا ، فإنّ عصيانه وعدمه لا يؤثّر في الدليل المرجوح شيئا.

بينما في باب التزاحم إذا قدّم أحد الواجبين على الآخر كتقديم الأهمّ على الأقلّ أهمّيّة مثلا ، لا يعني أنّ الدليل الأقلّ أهمّيّة قد سقط عن الحجّيّة رأسا ، بحيث لم يعد ممكنا الأخذ به مطلقا ، بل يبقى على الحجّيّة المشروطة بمعنى أنّ وجوبه يبقى وجوبا مشروطا بعدم الاشتغال بالواجب الآخر الأهمّ ، كما هو مقتضى الترتّب ، ويسمّى هذا الوجوب بالوجوب الترتّبي ، ولكنّه لا يصبح وجوبا فعليّا إلا إذا ترك الاشتغال بالأهمّ ، فإنّه في حالة تركه للأهمّ يتحقّق موضوعه فيصبح فعليّا.

ص: 77


1- وبهذا يجاب عن الإشكال الذي طرحه صاحب ( الكفاية ) من استحالة الترتّب ؛ لاستلزامه تعدّد العقاب حال الترك الكاشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فإنّه وإن كان العقاب متعدّدا إلا أنّه لا يكشف عن تعدّد المطلوب والمأمور به ، فيمكن أن يكون المأمور به شيئا واحدا ولكنّ العقاب متعدّد كالواجب الكفائي مثلا حال الترك ، فإنّه شيء واحد ولكنّ العقاب على الجميع الذين كانوا حاضرين وقادرين على العمل. وهنا كذلك فإنّ المطلوب أحد المتزاحمين - أي كلاهما مشروط بترك الآخر - فهما شيء واحد ، ولكنّه لو تركهما استحقّ عقابين.

وقد يقال : إنّنا لو تصوّرنا الأمر الترتّبي بالنحو المذكور بحيث يكون مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ إلا أنّ جعله شرعا مستحيل ؛ لأنّ الشرط المأخوذ فيه يجعله مستحيلا فلا يمكن جعله ، فيحتاج إلى دليل خاصّ لإثباته ، ومثل هذا الدليل الخاصّ لا وجود له.

أمّا أنّه لا وجود لمثل هذا الدليل الخاصّ على الوجوب الترتّبي ، فلأنّ أدلّة الوجوب مطلقة بحسب لسانها من ناحية هذا الشرط.

وأمّا إنّه مستحيل جعله بهذا النحو المشروط فهو إمّا من جهة استحالة الشرط المأخوذ فيه ؛ لأنّه أمّا شرط مقارن فيبتلي بمحذور انتفاء الداعويّة ؛ لأنّه من طلب الحاصل. وأمّا شرط متقدّم فيبتلي بمحذور تغاير الزمان بين الشرط والواجب ، وأمّا لأنّه شرط متأخّر فيبتلي بمحذور الواجب المعلّق ، كما سيأتي توضيح ذلك كلّه عند الكلام عن الشرط المتأخّر.

وجوابه : أنّ نفس إمكان الترتّب عقلا يغنيه عن الدليل الخاصّ ، فلا يحتاج إثباته إلى دليل بل يكفيه دليل ثبوته وإمكانه ، لأنّ العقل لمّا حكم بتقييد التكليف بأن لا يكون مشتغلا بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة عنه صار هذا القيد اللبّي متّصلا بالخطاب ، فيصبح وجوبه ترتّبيّا أي مشروطا بعدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ أو المساوي.

ومن نتائج هذه الثمرة : أنّ الصلاة إذا زاحمت إنقاذ الغريق الواجب الأهمّ واشتغل المكلّف بالصلاة بدلا عن الإنقاذ صحّت صلاته على ما تقدّم ؛ لأنّها مأمور بها بالأمر الترتّبي ، وهو أمر محقّق فعلا في حقّ من لا يمارس فعلا امتثال الأهمّ.

ومن النتائج العمليّة المترتّبة على القول بإمكان الترتّب والوجوب المشروط : هو أنّ المكلّف إذا دار الأمر عنده بين واجب أهمّ كإنقاذ الغريق وواجب أقلّ أهمّيّة كوجوب الصلاة أو إزالة النجاسة عن المسجد ، وفرض أنّ هذا المكلّف قد عصى التكليف الأهمّ ولم يشتغل به ، وإنّما اشتغل بالواجب الأقلّ أهمّيّة كان عمله صحيحا ؛ لأنّ هذا الواجب كان مشروطا بعدم الاشتغال بالأهمّ.

وهذا الشرط متحقّق بهذا الفرض فيكون تكليفا فعليّا بحقّه ، وامتثاله يعني امتثال المأمور به صحيحا ومجزيا ولا يحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات صحّته وإجزائه ، بل هو

ص: 78

ثابت بنفس الوجوب الترتّبي كما تقدّم ؛ إذ المفروض أنّ الوجوب الترتّبي ثابت ولا يسقط بعدم تحقّق شرطه.

وهذا بخلاف ما لو قلنا باستحالة الترتّب ، فإنّه حينئذ سوف تكون صلاته باطلة في هذا الفرض ، ولذلك قال :

وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه القائل بأنّ الأمرين بالضدّين لا يجتمعان ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لأنّ صحّتها فرع ثبوت أمر بها ، ولا أمر بها ولو على وجه الترتّب بناء على وجهة النظر المذكورة.

فإن قيل : يكفي في صحّتها وفاؤها بالملاك وإن لم يكن هناك أمر.

كان الجواب : أنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر ، فحيث لا أمر لا دليل على وجود الملاك.

إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب ( الكفاية ) القائلة باستحالة الترتّب ، وأنّ الأمرين بالضدّين لا يمكن اجتماعهما ولا يمكن طلبهما ولو على وجه الترتّب ، فمن الصعب أن يحكم بصحّة الصلاة في الفرض المذكور ؛ وذلك لأنّه مع وجود الواجب الأهمّ سوف يكون الاشتغال بالصلاة الأقلّ أهمّيّة من دون أمر ؛ إذ المفروض أنّ الأمر المطلق بالصلاة مستحيل لاستلزامه طلب الجمع بين الضدّين ؛ لأنّ المفروض أيضا إنّ الإنقاذ وجوبه مطلق ، ومعنى الإطلاق كما تقدّم كونه فعليّا في جميع الحالات سواء اشتغل بغيره أم لا ، والأمر الترتّبي بالصلاة مستحيل عند صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّ الترتّب نفسه مستحيل عنده كما تقدّم. وحينئذ لا يبقى أمر بالصلاة ، والفعل العبادي يحتاج إلى الأمر به ليقع عباديّا ، وبالتالي ليحكم بصحّته وإجزائه.

وقد يقال : إنّه بالإمكان تصحيح الصلاة في الفرض المذكور حتّى مع القول باستحالة الترتّب ؛ وذلك لأنّ الفعل العبادي يمكن أن يقع قربيّا ومجزيا فيما إذا كان المكلّف قاصدا تحصيل الملاك الموجود فيه ، فإنّه لا يشترط دائما وقوع الفعل العبادي عن الأمر به ، بل يكفي فيه أن يكون الفعل وافيا بالملاك ؛ لأنّ كلّ أمر وراؤه ملاك فيمكنه أن يقصد الملاك كما يمكنه أن يقصد الأمر.

وفي مقامنا حيث إنّ الأمر بالصلاة يسقط لمكان التعارض بينها وبين إنقاذ الغريق ،

ص: 79

إلا أنّ ملاك الصلاة يبقى ثابتا ولا موجب لسقوطه ؛ لأنّه يقتصر في موارد التساقط بالتعارض على المقدار الذي يحلّ به التعارض وهو لا يزيد هنا عن الأمر فقط ، فسقوط المقدار الزائد مئونة إضافية لا مبرّر لها.

ولكن يجاب عن ذلك : أنّ الملاك وإن كان كافيا في بعض الحالات لإثبات صحّة العبادة وإمكان التقرّب بها حتّى مع سقوط الأمر - كما إذا كان ممنوعا من استعمال الماء لمرض ونحوه فنسي وتوضّأ ، فإنّه وإن لم يكن فيه أمر ولكنّه استوفى الملاك منه فيقع صحيحا ومجزيا مع فرض تحقّق قصد القربة منه - إلا أنّه في مقامنا حيث حكمنا بالتعارض والتساقط بين الدليلين فكما يسقط الخطاب بالصلاة يسقط الملاك أيضا لنفس نكتة التعارض ، فإنّ الملاك لا يمكن الكشف عنه إلا عن طريق الأمر والخطاب ، فإذا سقط الأمر الكاشف عن الملاك سقط الملاك المنكشف به ؛ لأنّ المدلول الالتزامي تابع في الحجّيّة للمدلول المطابقي (1).

ص: 80


1- يمكننا هنا إضافة تخريجين آخرين لتصحيح الصلاة مع فرض مخالفة الواجب الأهمّ : الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّه يوجد أمران أحدهما بالأهمّ والآخر بالجامع بين الواجبين المتضادّين ، فإذا عصى الأهمّ يكون قد عصى أحد الخطابين فيبقى الخطاب الآخر ثابتا بحقّه ، فإذا صلّى يكون قد حقّق أحد فردي الجامع المأمور به فتقع صحيحة. وجوابه : أنّه ممكن ثبوتا إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ، فإنّه لا يوجد فيما عندنا من الآيات أو الروايات ما ظاهره مثل هذين الأمرين. الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّه يوجد أمر ونهي في موارد التزاحم بين الواجبين ، أمر بالواجب الأهمّ أو بأحد الواجبين إن كانا متساويين ، ونهي عن الجمع بين ترك كلا الضدّين الواجبين ، وفي مقامنا إذا ترك المكلّف الواجب الأهمّ يكون عاصيا لخطاب الأمر ، إلا أنّه يبقى عليه أن يمتثل لخطاب النهي ؛ وذلك بأن لا يترك الصلاة في المقام ؛ لأنّه إذا تركها مضافا إلى تركه للواجب الآخر يكون قد جمع بين ترك كلا الضدّين. وعليه ، فإذا صلى يكون قد امتثل لخطاب النهي ، فيكون مطيعا بصلاته لوجوب خطاب بها فتقع صحيحة ومجزية. وجوابه : أنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا كما تقدّم في الجواب السابق ، مضافا إلى أنّ تحويل الأمرين بالواجبين إلى أمر ونهي على خلاف الظاهر جدّا.

ما هو الضدّ؟

ص: 81

ص: 82

ما هو الضدّ؟

عرفنا أنّ الأمر بشيء مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بضدّه الذي لا يقلّ عنه أهمّيّة ، وانتهينا من ذلك إلى أنّ وقوع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما لا يؤدّي إلى التعارض بين دليليهما.

والآن نتساءل : ما ذا نريد بهذا التضادّ؟

والجواب : أنّنا نريد بذلك حالات عدم إمكان الاجتماع الناشئة من ضيق قدرة المكلّف ، ولكن لا ينطبق هذا على كلّ ضدّ.

تعريف الضدّ : ذكرنا سابقا أنّ كلّ تكليف مقيّد عقلا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، والتي معناها كما تقدّم ألاّ يكون المكلّف مشتغلا بامتثال تكليف لا يقلّ أهمّيّة عن التكليف الآخر.

ففي كلّ حالة يكون هناك واجبان متضادّان من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، فهذا التضادّ لا يؤدّي إلى دخول المورد في باب التعارض ، بل يقع التزاحم بينهما ، وهو يختلف عن باب التعارض من حيث القواعد والقوانين.

وأمّا الضدّ الذي أخذ عدم الاشتغال به قيدا في التكليف ، فما ذا يراد به؟

والجواب عن ذلك يظهر ضمن الأمرين التاليين ، فإنّ الضدّ لا ينطبق على أي ضدّ ، بل لا بدّ من أن يكون فيه - بالإضافة إلى الممانعة والمضادّة بينه وبين الواجب الآخر المضادّ له ، بحيث لا يمكن اجتماعهما معا من جهة عجز المكلّف عن الجمع بينهما - بعض الخصوصيّات ، وهي :

فهو أوّلا : لا ينطبق على الضدّ العامّ أي النقيض ؛ وذلك لأنّ الأمر بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيّدا بعدم الاشتغال بنقيضه ؛ لأنّ فرض عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ، ويكون الأمر به حينئذ تحصيلا للحاصل وهو محال.

ص: 83

ومن هنا نعرف أنّ النقيضين لا يعقل جعل أمر بكلّ منهما لا مطلقا ولا مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر. أمّا الأوّل فلأنّه تكليف بالجمع بين النقيضين ، وأمّا الثاني فلأنّه تحصيل للحاصل ، وهذا يعني أنّه إذا دلّ دليل على وجوب فعل ، ودلّ دليل آخر على وجوب تركه أو حرمة فعله ، كان الدليلان متعارضين ؛ لأنّ التنافي بين الجعلين ذاتيهما.

الخصوصيّة الأولى : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب لا يشمل الضدّ العامّ أي النقيضين ، فإذا كان الأمر دائرا بين النقيضين استحال الترتّب بينهما ؛ وذلك لأنّه يستحيل أن يكون أحدهما أو كلاهما مقيّدا بعدم الاشتغال بالآخر.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف إذا دار أمره بين النقيضين كوجوب الصلاة ووجوب تركها مثلا ، فهو إذا كان مشتغلا بأحد النقيضين كان النقيض الآخر مرتفعا لا محالة ؛ إذ يستحيل اجتماع النقيضين معا.

وهكذا إذا لم يشتغل بأحد النقيضين ، فإنّ عدم اشتغاله به يساوق تماما وقوع الآخر لا محالة ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

ومن هنا كان الأمر بأحدهما مشروطا بترك الآخر مستحيلا ؛ وذلك إمّا لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين أو إلى طلب الحاصل ، فإنّه إذا فرض تركه لأحدهما كان الآخر واقعا منه لا محالة ، فلا معنى للأمر به لكونه تحصيلا للحاصل ، وإن فرض فعله لأحدهما كان الآخر مرتفعا ولا يمكن الأمر به لا بنحو مطلق ولا بنحو مشروط ؛ لأنّ الأمر به يعني طلبه وطلب وقوعه ، والحال أنّ النقيض ثابت ، فكيف يمكن أن يطلب من المكلّف نقيضه في فرض اشتغاله بالنقيض الآخر؟! فإنّه مستحيل ؛ لاستحالة الجمع بين النقيضين المستلزم لاستحالة طلبهما معا ، وطلبه في حال عدم وجود نقيضه طلب للحاصل فيكون لغوا ؛ لأنّه إذا ارتفع أحد النقيضين كان الآخر ضروري الثبوت ، فلا معنى طلبه لا مطلقا ولا مشروطا.

ومن هنا نعرف أنّ مسألة الترتّب لا يمكن تصوّرها بين النقيضين ، فإذا فرض وجود دليلين دلّ أحدهما على فعل ودلّ الآخر على ترك هذا الفعل وقع التعارض بين الدليلين لا محالة ؛ للتنافي بين الجعلين ذاتيهما ، ولا يدخل في مسألة التزاحم لاستحالة الترتّب كما تقدّم ، بل يدخل في باب التعارض.

ص: 84

وثانيا : لا ينطبق على الضدّ الخاصّ في حالة الضدّين اللذين لا ثالث لهما لنفس السبب السابق ، حيث إنّ عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود الآخر حينئذ ، والحال هنا كالحال في النقيضين.

الخصوصيّة الثانية : هي أنّ الضدّ لا ينطبق على الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

والوجه في ذلك أنّ الضدّين : وهما الأمران الوجوديّان المتنافيان اللذان يتعاقبان على موضوع واحد ، إن لم يكن لهما ثالث فهما عمليّا في نفس حكم النقيضين ، فإن عدم الثالث لهما يعني استحالة ارتفاعهما ، فإذا ارتفع أحدهما تعيّن ثبوت الآخر ، بخلاف موارد الضدّين اللذين لهما ثالث ، فإنّهما وإن كان من المستحيل اجتماعهما إلا أنّه يمكن ارتفاعهما في الثالث ، فإن لم يكن لهما ثالث صار ارتفاعهما كاجتماعهما مستحيلا ، وهذه الخصوصيّة نفس خصوصيّة النقيضين فإنّه يستحيل اجتماعهما وارتفاعهما.

وحينئذ إذا دار أمر المكلّف بين ضدّين لا ثالث لهما ، كالجهر والإخفات في القراءة حال الصلاة أو كالقصر والتمام في الركعات حال الصلاة ، فالمكلّف إمّا إن يقع منه هذا أو ذاك ، ويستحيل أن يقع منه كلا الأمرين في وقت واحد ، كما يستحيل ألاّ يقع منه أحدهما أيضا. نعم ، الاستحالة هنا عقليّة بالنسبة للجهر والإخفات ، بينما للقصر والتمام الاستحالة ثابتة بسبب المنع الشرعي عن غير القصر والتمام.

وعلى كلّ حال فإذا ترك أحد هذين الضدّين استحال تكليفه وأمره بالضدّ الآخر لا مطلقا ولا مشروطا.

أمّا الأوّل فلأنّه يعني طلب الجمع بينهما ، وهما كالنقيضين يستحيل اجتماعهما معا ، فإنّ الأمر المطلق معناه كونه فعليّا حتّى لو كان مشتغلا بالآخر ، ولا يمكن الأمر به مشروطا بترك الآخر ؛ لأنّه ضروري الوقوع حينئذ ؛ لأنّه لا يمكن ارتفاعهما.

وعلى هذا فعجز المكلّف عن الجمع بين واجبين إنّما يحقّق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا من قبيل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وإلا دخلت المسألة في باب التعارض.

ويمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ ثبوت التزاحم وانتفاء التعارض مرهون بإمكان

ص: 85

الترتّب الذي يعني كون كلّ من الأمرين مشروطا بعدم الاشتغال بمتعلّق الآخر ، فكلّما أمكن ذلك صحّ التزاحم ، وكلّما امتنع الترتّب كما في الحالتين المشار إليهما وقع التعارض.

والنتيجة : هي أنّ الضدّ المبحوث عنه في باب الترتّب هو أن يكون للضدّين ثالث يمكن ارتفاعهما به ، فإذا دار أمر المكلّف بين واجبين متضادّين فلكي يدخلان في باب التزاحم ويعقل الأمر الترتّبي بينهما يشترط ألاّ يكونا من النقيضين ولا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما في الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة مثلا ، فإنّه يمكنه رفعهما بأن لا يأتي بشيء منهما ويشتغل بشيء آخر كالنوم مثلا.

وأمّا إذا كانا من النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما فيدخل المورد في باب التعارض ؛ للتنافي فيهما بلحاظ الجعل ، فإنّه يستحيل جعلهما معا ؛ لكونه طلبا للمستحيل ، ويستحيل جعل أحدهما أو كلاهما مشروطا بترك الآخر ؛ لكونه طلبا للحاصل وهو لغو.

ومن هنا كانت الضابطة العامّة لثبوت التزاحم هي أن يكون الترتّب ممكنا ، ففي كلّ مورد يمكن فيه الترتّب بمعنى عدم الاشتغال بالآخر دخل في باب التزاحم ، وفي المورد الذي يكون فيه الترتّب بهذا المعنى مستحيلا كان المورد من موارد التعارض.

* * *

ص: 86

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة

ص: 87

ص: 88

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة

قد تكون المزاحمة قائمة بين متعلّقي أمرين على نحو يدور الأمر بين امتثال هذا أو ذاك ، كما إذا كان وقت الصلاة ضيّقا وابتلي المكلّف بنجاسة في المسجد تفوت مع إزالتها الصلاة رأسا.

وقد لا تكون هناك مزاحمة على هذا النحو ، وإنّما تكون بين أحد الواجبين وحصّة معيّنة من حصص الواجب الآخر ، ومثاله أن يكون وقت الصلاة موسّعا وتكون الإزالة مزاحمة للصلاة في أوّل الوقت وبإمكان المكلّف أن يزيل ثمّ يصلّي.

ونحن كنّا نتكلّم عن الحالة الأولى من المزاحمة.

يعقد هذا البحث لبيان حالات المزاحمة بين الواجبين ، فهل تكون سائر حالات التزاحم بين الواجبين داخلة في بحث التزاحم أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول :

تارة تكون المزاحمة بين واجبين فوريّين كوجوب إنقاذ الغريق ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد.

وأخرى تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري والآخر موسّع ، ولكن ضاق وقته ، كما إذا فرضت المزاحمة بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة في آخر وقتها ، بحيث لا يتّسع المجال إلا لأحدهما فقط.

وثالثة تكون المزاحمة بين واجبين أحدهما فوري كوجوب الإزالة والآخر موسّع والوقت لا يزال متّسعا لهما ، كما إذا فرض المزاحمة بين وجوب الإزالة ووجوب الصلاة في أثناء الوقت الواسع ، بحيث يتمكّن المكلّف من الإزالة ثمّ الصلاة بكامل أركانها الاختياريّة.

وقد تكلّمنا عن الحالتين الأوّليّين سابقا وجعلناهما حالة واحدة ، وقلنا : إنّ التزاحم

ص: 89

بين الواجبين لا بدّ فيه من ملاحظة الأهمّ وتقديمه إن كان وجوبه مطلقا وكان الآخر وجوبه مشروط بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وإن لم يكن أحدهما أهمّ كانا معا مشروطين ، وأمّا الحالة الأخرى فالبحث هنا معقود لأجل بيان حكمها ولذلك قال :

وأمّا الحالة الثانية : فقد يقال : إنّه لا مزاحمة بين الأمرين لإمكان امتثالهما معا ، فإنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين الحصّة المزاحمة وغيرها ، والمكلّف قادر على إيجاد الجامع مع الإزالة ، فلا تضادّ بين الواجبين ، وهذا يعني أنّ كلاّ من الأمرين يلائم الآخر ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كان قد أتى بفرد من الواجب المأمور به فعلا.

وقد يقال : إنّ المزاحمة واقعة بين الأمر بالإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة للحصّة المزاحمة ، فلا يمكن أن يتلاءم الأمر بالإزالة مع هذا الإطلاق في وقت واحد.

الحالة الثانية : ما إذا كانت المزاحمة بين وجوب الإزالة الفوري والمضيّق وبين حصّة من حصص الصلاة ، كالصلاة في أوّل وقتها ، فإنّ الأمر بالصلاة في الوقت موسّع وله حصص عديدة.

وهنا توجد أقوال : فقد يقال بعدم المزاحمة بين هذين الأمرين - كما هي مقالة المحقّق الكركي القائل بأنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور - وذلك لأنّ المكلّف قادر على امتثال كلا الواجبين معا ، ومن شروط التزاحم ألاّ يكون المكلّف قادرا على امتثال كلا الواجبين معا بحيث إذا اشتغل بأحدهما فاته الآخر ، وأمّا هنا فيمكن للمكلّف امتثالهما معا ، وذلك بأن يزيل النجاسة أوّلا ثمّ يصلّي بعد ذلك.

والوجه في ذلك : أنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين حصصها أي الحصّة المزاحمة للإزالة وغيرها ، والحصّة المزاحمة وإن لم يكن المكلّف قادرا عليها - لأنّ وقتها هو وقت الإزالة الفوري إلا أنّه قادر على سائر الحصص ، والتكليف بالجامع بين المقدور وغيره مقدور ، ولا مانع منه.

وحينئذ يتمكّن المكلّف من إيجاد الجامع في غير الحصّة المزاحمة ومن إيجاد الإزالة الفوري ، ولا تضادّ بين الواجبين ، بل كلّ منهما يتلاءم مع الآخر ، وإذا لم يكن هناك تضادّ فلا تزاحم أصلا.

نعم ، إذا ترك المكلّف الإزالة واشتغل بالصلاة في أوّل وقتها عصى الأمر بالإزالة ؛

ص: 90

لأنّه فوريّ ، ولكن صلاته وقعت صحيحة لتعلّق الأمر بها ؛ لأنّ الأمر بالحصّة المزاحمة لا يزال موجودا وهو الأمر بالجامع.

وقد يقال بوقوع المزاحمة بين هذين الواجبين - كما هي مقالة الميرزا حيث ذهب إلى امتناع الأمر بالجامع بين المقدور وغيره - فإنّ الحصّة المزاحمة لا يتعلّق بها أمر ؛ لأنّه لا يمكن البعث والتحريك نحوها في فرض مزاحمتها للواجب الأهمّ الفوري أي الأمر بالإزالة ، ولذلك لا يكون هناك أمر مطلق بالصلاة في أوّل الوقت ؛ لعدم التلاؤم بين وجوب الإزالة ووجوب هذه الحصّة.

إلا أنّه لو عصى الأمر بالإزالة واشتغل بالصلاة لكانت صحيحة بناء على الترتّب ، فإنّه على القول به يكون المكلّف مأمورا بالصلاة فيما إذا لم يشتغل بالواجب الأهمّ أو المساوي.

وأمّا إذا قيل باستحالة الترتّب لم يكن بالإمكان تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لوقوع التعارض بين إطلاق وجوب الإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة الشامل لهذه الحصّة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ومع عدم الأمر تقع العبادة باطلة ، كما هي مقالة الآخوند.

والحاصل : أنّه توجد ثلاثة أقوال في هذه الحالة ، وهي :

الأول : قول الميرزا من وقوع التزاحم في الفرض المذكور ؛ لأنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنع مع إمكان الترتّب.

الثاني : قول المحقّق الكركي من عدم وقوع التزاحم ولا التعارض بين الواجبين المذكورين ؛ لأنّ المكلّف بالجامع بين المقدور وغيره ممكن ، فيكون المكلّف قادرا على امتثال الواجبين فلا موضوع للتزاحم فضلا عن التعارض.

الثالث : قول الآخوند من وقوع التعارض في هذه الحالة بناء على إنكار الترتّب وكون التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ممتنعا أيضا ، فإنّه لا محالة يقع التعارض بين الجعلين ويسري إلى الدليلين.

وتحقيق الحال في هذه المسألة أن يقال :

والصحيح أن يقال : إنّ لهذه المسألة ارتباطا بمسألة متقدّمة وهي : أنّه هل يمكن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور؟

فإن أخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقّق النائيني القائل بامتناع ذلك ،

ص: 91

وأخذنا القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال واجب مزاحم لا يقلّ عنه أهمّيّة ، كان معنى ذلك أنّ التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاة بمزاحم وغيرها ممتنع أيضا ، فيقوم التزاحم بين الأمر بالجامع والأمر بالإزالة ، وحينئذ يطبّق قانون التزاحم وهو التقديم بالأهمّيّة.

والتحقيق في هذه المسألة أن يقال : إنّ هذه الحالة ترتبط بما تقدّم سابقا من إمكان أو استحالة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره.

فإنّه إن قلنا بامتناع التكليف بهذا الجامع كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وقلنا بإمكان الترتّب كما هو اختياره أيضا كانت النتيجة هي وقوع التزاحم.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا قلنا بامتناع التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فسوف يكون الأمر بالصلاة في أوّل الوقت غير شامل للحصّة من الصلاة المزاحمة مع الأمر بالإزالة ، لأنّ المكلّف لا يمكنه التحرّك نحوها ، والحال أنّ التكليف إنّما يجعل لأجل البعث والتحريك.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الترتّب وكون التكليف مشروطا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ - الذي يعني كون التكليف مقيّدا بعدم الاشتغال بالضدّ الذي لا يقلّ أهمّيّة عنه - فالنتيجة هي أنّ الأمر بالصلاة ممكن بنحو الترتّب لا مطلقا ، ولذلك لو عصى الإزالة وصلّى لصحّت صلاته.

إذا فالنتيجة هي وقوع التزاحم ولا بدّ من تطبيق قواعد التزاحم من تقديم الأهمّ على غيره (1).

ص: 92


1- وأمّا إذا قلنا بإمكان التكليف بالجامع بين المقدور وغيره - كما هي مقالة المحقّق الكركي - فسوف لا يقع التزاحم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يمتثل كلا الواجبين فيزيل النجاسة ثمّ يصلّي ، ولكنّه لو عصى الأمر بالإزالة لوقعت صلاته صحيحة أيضا ؛ لبقاء الأمر بها فإنّ التكليف بالجامع يسري إليها أيضا في هذا الفرض لعدم سقوطه عنها ، لا من أجل الترتّب فإنّه لا موضوع له هنا ؛ إذ لا تضادّ ولا مزاحمة بين الواجبين هنا. وهذا القول لم يذكره السيّد الشهيد ولكن مقتضى المقابلة مع ما ذكره من كلام الميرزا النائيني هو ذكر الشقّ الثاني ؛ لأنّه أراد هنا بيان المسألة فكان اللازم ذكر الشقوق والمباني في مسألة التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، ولكنّه اقتصر على مقالة الميرزا فقط. وعلى كلّ حال فعلى مقالة الميرزا يقع التزاحم ولا بدّ من حلّ هذا التزاحم وفقا لقواعده الخاصّة ، وهي ترجيح الأهمّ على غيره.

ولا شكّ في أنّ الأمر بالإزالة أهمّ ؛ لأنّ استيفاءه ينحصر بذلك الزمان ، بينما استيفاء الأمر بالجامع يتأتّى بحصّة أخرى ، وهذا - يعني وفقا لما تقدّم (1) - أنّ الأمر بالجامع يكون منوطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، فإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الأمر - كما عليه صاحب ( الكفاية ) - كان معنى ذلك أنّ الحصّة المزاحمة من الصلاة لا أمر بها فلا تقع صحيحة إذا آثرها المكلّف على الإزالة ، وإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم - كما عليه النائيني - كان معنى ذلك أنّ الأمر بالجامع ثابت على وجه الترتّب ، فلو أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.

بعد أن قلنا بوقوع التزاحم لا بدّ من تقديم الأهمّ ملاكا من الواجبين على الآخر ، وهنا لا شكّ في كون الأمر بالإزالة أهمّ من الحصّة الصلاتيّة في أوّل الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر بالإزالة فوري ومضيّق ، بينما الأمر بالصلاة يمكن امتثاله واستيفاء الملاك منه في حصّة أخرى غير الحصّة المزاحمة للإزالة ، فهو تكليف له بدل ، وسوف يأتي أنّ التكليف الذي لا بدل له والفوري مقدّم على ما لا بدل له وما ليس فوريّا.

ومع تقديم الأمر بالإزالة يصبح الأمر بجامع الصلاة مشروطا بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، كما هو مقتضى الأمر الترتّبي الناتج عن أخذ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ.

وحينئذ فنحن بين احتمالين - كما تقدّم سابقا - فإمّا أن نقول : إنّ عدم الابتلاء معناه عدم الأمر - كما هي مقالة صاحب ( الكفاية ) - فيكون التكليف بالضدّين مستحيلا سواء كانا مطلقين أو مشروطين ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر أساسا ، وهنا حيث إنّ الأمر بالإزالة هو الثابت لكونه أهمّ من حيث الملاك فيرتفع الأمر بالصلاة في فرضه ، فلا تكليف بالصلاة في وقت الإزالة ، ولذلك لو عصى وصلّى لوقعت صلاته باطلة ؛ لعدم الأمر بها والعبادة مع عدم الأمر باطلة.

بخلاف ما إذا قلنا بأنّ عدم الابتلاء معناه عدم الاشتغال - كما هي مقالة الميرزا النائيني - فإنّه في هذه الحالة سوف يكون الأمر الترتّبي بالصلاة المزاحمة ممكنا ومشروطا بعدم الاشتغال بالإزالة ، ولذلك لو عصى واشتغل بالصلاة لوقعت صحيحة لثبوت الأمر الترتّبي بها ، وقد تحقّق شرطه في هذا الفرض.

ص: 93


1- في صدر هذا البحث ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ.

ص: 94

التقييد بعدم المانع الشرعي

ص: 95

ص: 96

التقييد بعدم المانع الشرعي

قلنا : إنّ القانون المتّبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهمّ ملاكا ، ولكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقلّ به العقل من اشتراط ، فقد عرفنا أنّ العقل يستقلّ باشتراط مفاد كلّ من الدليلين بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ ، فإذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطا من قبل الشارع - إضافة إلى ذلك - بعدم المانع الشرعي أي بعدم وجود حكم على الخلاف دون الدليل الآخر ، قدّم الآخر عليه ، ولم ينظر إلى الأهمّيّة في الملاك.

ومثاله : وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحجّ ، كما إذا اشترط على الشخص أن يزور الحسين علیه السلام في عرفة كلّ سنة واستطاع بعد ذلك ، فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيّد في دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه بلسان « أنّ شرط اللّه قبل شرطكم » (1) ، وأمّا دليل وجوب الحجّ فلم يقيّد بذلك فيقدّم وجوب الحجّ ولا ينظر إلى الأهمّيّة.

يتعرّض السيّد الشهيد في هذا المطلب إلى بيان قيد زائد على القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في أحد المتزاحمين ، فإنّ وجود هذا القيد في أحدهما يكون مانعا من الأخذ بالقاعدة الأساسيّة في الترجيح وهي ترجيح الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة ، وذلك فيما إذا كان الأهمّ فيه مثل هذا القيد ، فإنّه يكون مانعا من ترجيحه على الأقلّ أهمّيّة.

وتوضيحه أن يقال : إنّ القاعدة الأساس في باب التزاحم هي ترجيح الأهمّ ملاكا على غيره - وسيأتي لا حقا الطرق التي يعرف بها الأهمّ ملاكا من غيره - إلا أنّ هذه القاعدة إنّما يؤخذ بها فيما إذا لم يكن هناك قيد زائد في الأهمّ ، فإن فرض أنّ الخطاب

ص: 97


1- وسائل الشيعة 21 : 297 ، أبواب المهور ، ب 38 ، ح 1.

الأهمّ كان مقيّدا - بالإضافة إلى القيد الذي استقلّ العقل به وهو ألاّ يكون مشتغلا بواجب أهمّ أو مساو - بعدم المانع الشرعي ، أي بعدم وجود حكم على الخلاف ، فإنّه إذا وجد الواجب الآخر على خلافه فإنّه يكون مانعا من الأخذ بالأهمّ حتّى وإن كان ذاك الواجب أقلّ أهمّيّة منه.

ومثاله : ما إذا وجب على شخص زيارة الحسين علیه السلام في يوم عرفة لنذر ونحوه ، ثمّ استطاع للحجّ قبل ذلك فصار الحجّ واجبا عليه ، فهنا وجوب الوفاء بالنذر وإن كان أهمّ ملاكا من وجوب الحجّ إلا أنّه مقيّد بعدم المانع الشرعي ؛ وذلك لأنّ مثل قوله علیه السلام : « أنّ شرط اللّه قبل شرطكم » يكون مقيّدا لأدلّة الشروط وكلّ ما علّق على شرط كالنذر ونحوه.

وهذا معناه أنّ وجوب الحجّ يعتبر مانعا شرعيّا من الوفاء بالنذر ، وحينئذ يمتنع تقديم الأهمّ ملاكا في هذه الحالة لوجود المانع الشرعي ، بينما يقدّم الواجب الأقلّ أهمّيّة لعدم وجود مثل هذا القيد فيه ، فهنا مطلبان ابدّ من بيانهما بالتفصيل :

أمّا الأوّل فلأنّه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر ؛ لأنّ وجوب الحجّ ذاته - وبقطع النظر عن امتثاله - مانع شرعي عن الإتيان بمتعلّق الآخر ، فهو حكم على الخلاف ، والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعليّة وجوب الحجّ.

وأمّا الثاني فلأنّ أهمّيّة أحد الوجوبين ملاكا إنّما تؤثّر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهمّ ، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطا بعدم المانع الشرعي دلّ ذلك على أنّ مفاده حكما وملاكا لا يثبت مع وجود المانع الشرعي ، وحيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعي ، فلا فعليّة للأوّل حكما ولا ملاكا مع فعليّة مفاد الآخر ، وفي هذه الحالة لا معنى لأخذ أهمّيّة ملاك الأوّل بعين الاعتبار.

أمّا المطلب الأوّل : وهو عدم تقديم الأهمّ ملاكا فيما إذا كان مقيّدا بعدم المانع الشرعي ، فلأنّ تقييده بهذا القيد معناه أنّه إذا وجد المانع الشرعي فلا يكون وجوب الأهمّ ثابتا ، وإنّما ينتفي لانتفاء موضوعه ، ومع انتفائه لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ تقديم الأهمّ ملاكا على غيره إنّما يكون بعد فرض ثبوت وتحقّق وجوب الأهمّ. وأمّا مع عدم ثبوته فيكون الكلام عن تقديمه لغوا ولا موضوعيّة له.

ص: 98

وهنا وجوب الوفاء بالنذر أو الشرط وإن كان أهمّ إلا أنّه لمّا كان مقيّدا بعدم المانع فيكون وجوب الحجّ بنفسه - سواء كان مشتغلا به أم لا - مانعا عن ثبوت وجوب الوفاء بالنذر الأهمّ ، ومع عدم ثبوته لا معنى لتقديمه ؛ لأنّ التقديم متأخّر رتبة عن ثبوت الشيء في نفسه ، بمعنى أنّ الشيء لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يأتي الكلام في تقديمه وعدمه ، وهنا وجوب الوفاء لا ثبوت له أصلا مع وجود وجوب الحجّ المانع شرعا عن ثبوته.

وأمّا المطلب الثاني : وهو تقديم وجوب الأقلّ أهمّيّة على الأهمّ ملاكا المقيّد بعدم المانع ، فلأنّه مع فرض ثبوت وجوب الحجّ بتحقّق الاستطاعة وشروطها يصبح فعليّا ، ومع صيرورته فعليّا يتحقّق بذلك فعليّة المانع الشرعي ، ومع تحقّق المانع الشرعي الفعلي يرتفع موضوع الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مقيّد بعدم ثبوت هذا المانع الشرعي ، فينتفي وجود الأهمّ حكما وملاكا ، ومع انتفائه كذلك يصبح وجوب الحجّ الفعلي بلا مزاحم ؛ لأنّ مزاحمه قد انتفى في رتبة سابقة لعدم تحقّق موضوعه وشرطه أو لتحقّق المانع عنه.

وبتعبير آخر : إنّ الأهمّ ملاكا من الواجبين المتزاحمين إنّما يؤخذ به في حالة وجوده وثبوته ، ومع كونه مقيّدا بعدم المانع فلا وجود ولا ثبوت له فيما إذا تحقّق المانع ، فيكون وجوب الحجّ محقّقا لهذا المانع فينتفي موضوع الأهمّ رأسا ، ومع انتفائه كذلك لا معنى للكلام عن تقديمه لأهمّيّته ؛ لأنّه لا وجود له أصلا.

ومن هنا نصل إلى النتيجة التالية : أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة فقط يتقدّم على المقيّد بالقدرة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى وإن كان أقلّ أهمّيّة منه.

وقد يطلق على الحكم المقيّد بالتقييد الزائد المفروض أنّه مشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويطلق على ما لا يكون مقيّدا بأزيد ممّا يستقلّ به العقل بأنّه مشروط بالقدرة العقليّة.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّه في حالات التزاحم يقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، فإن كانا معا مشروطين بالقدرة العقليّة جرى قانون الترجيح بالأهمّيّة.

غير أنّ نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعيّة وما يقابله قد يطلق على معنى آخر مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) ، فلاحظ ولا تشتبه.

ص: 99


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

وفي ختام الكلام عن المقيّد بالمانع الشرعي ينبّه السيّد الشهيد على بعض الأمور :

الأوّل : أنّ الواجب الذي يكون مقيّدا - بالإضافة إلى القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ - بعدم المانع الشرعي ، يطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة الشرعيّة ، ويراد بهذا أنّه مقيّد بكلا هذين المقيّدين ، أمّا الواجب الذي لا يكون مقيّدا بهذا القيد الزائد وإنّما يكون مقيّدا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط فيطلق عليه التكليف المشروط بالقدرة العقليّة ، ويراد به أنّه مقيّد بالأمر الأوّل دون المانع الشرعي.

الثاني : إذا كان هناك تزاحم بين واجبين كان أحدهما مقيّدا بالقدرة الشرعيّة بالمعنى المذكور والآخر مقيّد بالقدرة العقليّة ، قدّم المقيّد بالقدرة العقليّة على المقيّد بالقدرة الشرعيّة حتّى وإن كان الأخير أهمّ ملاكا ، فإنّه لا اعتبار حينئذ بأهمّيّة ملاكه ؛ لأنّه لا موضوع له لا حكما ولا ملاكا مع فعليّة المانع الشرعي كما تقدّم بيانه.

وأمّا إذا كانا معا مقيّدين بالقدرة العقليّة فقط ولم يكن في أحدهما تقييد زائد فيجري قانون التزاحم ويقدّم الأهمّ ملاكا على الأقلّ أهمّيّة.

الثالث : أنّ اصطلاح القدرة الشرعيّة هنا يختلف عن الاصطلاح المتقدّم للقدرة الشرعيّة ، فالقدرة الشرعيّة هنا معناها : التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وبعدم المانع الشرعي ، ويقابلها القدرة العقليّة التي تعني التقييد بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ فقط.

وأمّا القدرة الشرعيّة المتقدّمة في الحلقة السابقة وهنا أيضا فيراد بها كون القدرة دخيلة في الملاك والمبادئ والشوق المولوي ، ويقابلها القدرة العقليّة وهي عدم دخالة القدرة في الملاك والمبادئ.

وبهذا ينتهي البحث عن الترتّب وعن اشتراط القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ في التكليف.

ص: 100

قاعدة إمكان الوجوب المشروط

ص: 101

ص: 102

قاعدة إمكان الوجوب المشروط

للوجوب ثلاث مراحل ، وهي :

الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم. وفي كلّ من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ قيود معيّنة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلا ، فإذا أخذنا هذا الواجب في مرحلة الملاك نجد أنّ المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه ليسترجع وضعه الطبيعي ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فإنّ الإنسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء ، وبدون المرض لا يتّصف الدواء بأنّه ذو مصلحة ، ومن هنا يعبّر عن المرض بأنّه شرط في اتّصاف الفعل بالملاك ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الاتّصاف.

مقدّمة البحث : القيود والشروط تارة تكون راجعة إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وأخرى تكون راجعة إلى الواجب فيكون الواجب معلّقا.

فالاستطاعة مثلا شرط في وجوب الحجّ بحيث لا يكون الحجّ واجبا على المكلّف فيما إذا لم يكن مستطيعا ، والوضوء شرط في الصلاة الواجبة ، بحيث تكون الصلاة من دون وضوء أو طهارة باطلة وغير صحيحة.

وقد وقع الإشكال في إمكانيّة جعل الوجوب المشروط ، وقيل بإرجاع الشروط كلّها إلى الواجب ، ولذلك عقد السيّد الشهيد هذا البحث من أجل إثبات إمكانيّة الوجوب المشروط ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القيود والشروط نفسها تقسّم إلى قسمين : فمنها ما يسمّى بشروط وقيود الاتّصاف ، ومنها ما يسمّى بشروط وقيود الترتّب.

ولذلك أيضا بيّن السيّد الشهيد حقيقة هذه القيود وكيف يمكن أخذها في التكليف في مراحله الثلاث ؛ أي الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم.

ص: 103

والمراد من شروط الاتّصاف هو أنّ الفعل لا يتّصف بالمصلحة إلا إذا تحقّق الشرط ، فلا تكون المصلحة فعليّة إلا بعد وجود هذا الشرط.

بينما المراد من شروط الترتّب هو أنّ استيفاء المصلحة من الفعل على الوجه المطلوب منه لا يتحقّق إلا بوجود الشرط ، ومن دون هذا الشرط لا تستوفى ولا تترتّب المصلحة المرجوّة من الفعل.

وبيان هذا الأمر يستدعي البحث عن كلّ مرحلة من مراحل الوجوب ، لنرى كيف تكون القيود المأخوذة فيها ، وأنّها قيود وشروط للاتّصاف أم للترتّب؟ وبعد ذلك بحث حول إمكانيّة واستحالة الوجوب المشروط ، فنقول :

المرحلة الأولى : مرحلة الملاك ، والشروط فيها تارة تكون للاتّصاف وأخرى للترتّب.

ونطبّق الفكرة ضمن المثال التالي : استعمال الدواء واجب للمريض. ففي مرحلة الملاك نلاحظ أنّ استعمال المريض للدواء ناتج عن حاجة الجسم للشفاء من المرض لكي يعود إلى وضعه الطبيعي ، وحاجة الجسم هذه لا تتحقّق فيما إذا كان سليما من المرض ، بل تتحقّق مع وجود المرض ، بحيث لو لا وجود المرض لم يكن الجسم محتاجا إلى الدواء أصلا ، ولذلك يكون الإنسان الصحيح والسليم غير محتاج إلى الدواء ، بينما الإنسان المريض محتاج إلى الدواء ، ومن هنا كان الدواء ذا مصلحة للمريض دون الصحيح ، ممّا يعني أنّ المرض شرط وقيد لاتّصاف الدواء بالمصلحة ولولاه لم يكن فيه مصلحة أصلا.

والحاصل : وأنّ المرض شرط للاتّصاف بالمصلحة ، أي أنّه لا ملاك من دون هذا الشرط.

ثمّ إنّنا قد نفترض الشرط في هذه المرحلة للترتّب ، بمعنى أنّ المصلحة والملاك لا يستوفيان من الفعل إلا إذا تحقّق الشرط ، ومن دونه لا تستوفى المصلحة وإن كانت موجودة بالفعل ، ولذلك يقول السيّد الشهيد :

ثمّ قد نفرض أنّ الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضا ولكنّه ليس شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، إذ من الواضح أنّ المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض ، وإنّما الطعام شرط في ترتّب تلك

ص: 104

المصلحة وكيفيّة استيفائها بعد اتّصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضح أنّ المصلحة القائمة بالدواء لا تستوفى إلا بحصّة خاصّة من الاستعمال ، وهي استعماله بعد الطعام ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الترتّب تمييزا له عن شرط الاتّصاف ، وشرب الدواء - سواء كان مطلوبا تشريعيّا من قبل الآمر أو مطلوبا تكوينيّا لنفس المريض - له هذان النحوان من الشروط.

وأمّا تطبيق شروط الترتّب في مرحلة الملاك فتتوضّح ضمن المثال التالي :

استعمال الدواء للمريض واجب بعد تناوله الطعام أو في المساء مثلا. فهنا نلاحظ أنّ تقييد الاستعمال بكيفيّة خاصّة منه أو بفترة زمنيّة معيّنة لا ترجع إلى قيود الاتّصاف ؛ لأنّه من الواضح أنّ المريض يحتاج إلى الدواء ومصلحته فعليّة في استعمال الدواء لأجل الشفاء من المرض ؛ لأنّه ما دام المرض موجودا فالمصلحة متحقّقة في استعمال الدواء ، ولكن حيث إنّ استعمال الدواء له حصص كثيرة إن من جهة الكيف أو الكم أو الزمان ، فإذا اشترط استعماله في زمان أو كيفيّة أو كميّة معيّنة معلومة ، فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة المرجوّة من استعمال الدواء من أجل الشفاء من المرض لا تتحقّق ولا تترتّب ولا تستوفى إلا بعد توفّر القيد والشرط المذكور.

ممّا يعني أنّ استيفاء المصلحة من الدواء لا يكون مطلقا ، بل الاستعمال الخاصّ هو الموجب لترتّب هذه المصلحة ، بحيث لو استعمل المريض الدواء من دون هذا الشرط لم تترتّب المصلحة المرجوّة من الدواء ولم يتحقّق الشفاء أصلا.

ومن هنا كان التقييد المذكور شرطا للاستيفاء والترتّب لا للاتّصاف ؛ لأنّ الدواء يتّصف بأنّه ذو مصلحة للإنسان ما دام مريضا ؛ لأنّ المرض هو الذي يحقّق الاتّصاف بالمصلحة ، بينما كيفيّة ونوعيّة الاستعمال تحقّق الاستيفاء لهذه المصلحة.

وبهذا يتبيّن أنّ الشروط في مرحلة الملاك تارة تكون راجعة إلى اتّصاف الفعل بالمصلحة فتسمّى بشروط الاتّصاف ، وأخرى تكون راجعة إلى كيفيّة استيفاء وترتّب هذه المصلحة فتسمّى بشروط الترتّب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الفعل المطلوب فعلا تشريعيّا كطلب الآمر من مأموره ذلك ، أو أن يكون فعلا تكوينيّا كسعي الإنسان بنفسه لتحصيل الفعل ، فشرب الدواء مثلا له هذان النحوان من القيود ( الاتّصاف والترتّب ) ، سواء كان طلبه

ص: 105

من الآمر - والذي هو الطلب التشريعي - كأن يأمر المولى عبده بتناول الدواء ، أو كان طلبه من المكلّف نفسه - والذي هو الطلب التكويني - كأن يسعى المريض بنفسه لتناول الدواء من دون طلب من أحد.

وشروط الاتّصاف تكون شروطا لنفس الإرادة في المرحلة الثانية ، خلافا لشروط الترتّب فإنّها شروط للمراد لا للإرادة ، من دون فرق في ذلك كلّه بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.

فالإنسان لا يريد أن يشرب الدواء إلا إذا رأى نفسه مريضا ، ولا يريد من مأموره أن يشرب الدواء إلا إذا كان كذلك ، ولكنّ إرادة شرب الدواء للمريض أو لمن يوجّهه فعليّة قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فإنّ المريض قد يتناول الطعام لا لشيء إلا حرصا منه على أن يشرب الدواء بعده وفقا لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضّح أنّ تناول الطعام ليس قيدا للإرادة بل هو قيد للمراد ، بمعنى أنّ الإرادة فعليّة ومتعلّقة بالحصّة الخاصّة ، وهي شرب الدواء المقيّد بالطعام ، ومن أجل فعليّتها كانت محرّكة نحو إيجاد القيد نفسه.

المرحلة الثانية : مرحلة الإرادة ، وفي هذه المرحلة يمكننا أيضا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة إلى الإرادة نفسها ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى المراد لا إلى الإرادة. سواء كانت الإرادة تكوينيّة أم تشريعيّة.

وتوضيح ذلك : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب للمريض بعد الطعام ). فهنا قيد الاتّصاف هو المرض كما تقدّم ، وقيد الترتّب هو بعد الطعام ، فالإنسان تحصل له إرادة لشرب الدواء فيما إذا كان مريضا فعلا ، وأمّا إذا لم يكن مريضا فلا تحصل له إرادة لذلك ، سواء كانت الإرادة تكوينيّة فيما إذا كان هو نفسه رأى أنّه مريض ، أو كانت تشريعيّة فيما إذا رأى أنّ مأموره مريض فعلا. فالمرض قيد للإرادة نفسها ، وهو من شروط الاتّصاف كما تقدّم.

وأمّا قيد الترتّب أي بعد الطعام فهو ليس شرطا للإرادة نفسها ؛ لوضوح أنّ المريض فعلا له إرادة لتناول الدواء سواء تناول الطعام أم لم يتناوله. نعم ، قيد بعد الطعام شرط لترتّب المراد ، فإنّ ترتّب الشفاء مقيّد بأن يكون شرب الدواء بعد الطعام ، فيكون تناوله

ص: 106

للطعام شرطا في ذلك ، والمريض يريد أن يتناول الطعام لا لشيء سوى لحصول هذا المراد ، فكان هذا القيد شرطا في تحقّق المراد لا الإرادة.

وبتعبير آخر : إنّ الإرادة الفعليّة لتناول الدواء المتحقّقة بوجود المرض فعلا ثابتة وفعليّة قبل تناول الطعام ، وهي التي تحرّك المريض نحو تناول الطعام لأجل استيفاء المراد من شرب الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أنّ الإرادة فعليّة في رتبة سابقة تحدث للمريض فعليّة ومحرّكيّة نحو تحقيق القيد وهو بعد الطعام ، لأجل الحصول على المراد الذي لا يتحقّق إلا بهذا القيد الذي هو الحصّة الخاصّة الذي تعلّقت به الإرادة ؛ لأنّ المريض له إرادة فعليّة لإيجاد الحصّة الخاصّة من شرب الدواء لا شربه مطلقا ، بل شربه المقيّد بتناول الطعام والذي به يتحقّق المراد.

والحاصل : نّ قيود الاتّصاف ترجع إلى الإرادة فهي لا تكون فعليّة إلا بوجود هذه القيود ، بينما قيود الترتّب ترجع إلى المراد ؛ لأنّ الإرادة تكون فعليّة قبلها وهي التي تدعو إلى إيجادها وتحقيقها من أجل استيفاء وحصول المراد بالفعل بعد تحقّقها.

غير أنّ الإرادة التي ذكرنا أنّها مقيّدة بشروط الاتّصاف ليست منوطة بالوجود الخارجي لهذه الشروط ، بل بوجودها التقديري اللحاظي ؛ لأنّ الإرادة معلولة دائما لإدراك المصلحة ولحاظ ما له دخل في اتّصاف الفعل بها لا لواقع تلك المصلحة مباشرة ، وما أكثر المصالح التي لا تؤثّر في إرادة الإنسان لعدم إدراكه ولحاظه لها.

وهنا تساؤل يجيب عنه السيّد الشهيد ، وحاصله : أنّ الإرادة المنوطة بشروط الاتّصاف هل هي منوطة بها بوجودها الخارجي أم بوجودها اللحاظي التقديري؟

والجواب : أنّ قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة تكون بوجودها التقديري اللحاظي شروطا في تحقّق الإرادة لا بوجودها الخارجي ، فالمرض مثلا بوجوده التقديري اللحاظي يكون سببا لحدوث الإرادة لشرب الدواء سواء كان الإنسان مريضا فعلا وحقيقة أم لا ؛ لأنّه يكفي أن يتصوّر نفسه مريضا ويعتقد بذلك حتّى تحدث في نفسه الإرادة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الإرادة معلولة لإدراك المصلحة ، فما دام المكلّف يرى أنّ المصلحة في تناول الدواء فيما إذا كان مريضا فسوف تحدث له إرادة تناول الدواء بمجرّد أن يعتقد ويتصوّر أنّه مريض ولو كان اعتقادا مخطئا ؛ لأنّه ما دام تصوّر أنّه

ص: 107

مريض وكان يعلم بأنّ تناول الدواء فيه مصلحة للشفاء فسوف تنقدح في نفسه إرادة تناوله حتما وقهرا ؛ لأنّ المعلول يتحقّق قهرا فيما إذا تحقّقت علّته ، وهنا المصلحة معلومة ومتصوّرة فيتّبعها جزما الإرادة.

ولا يمكن أن تكون الإرادة تابعة لقيود الاتّصاف بوجودها الخارجي ؛ إذ من الواضح أنّ الإنسان المريض واقعا وحقيقة ولكنّه لا يعلم بأنّه مريض سوف لا تنقدح في نفسه إرادة شرب الدواء ، ممّا يعني أنّ الوجود الواقعي والخارجي لقيود الاتّصاف ليست هي المؤثّرة في حصول الإرادة ، وإلا للزم أن تحصل له الإرادة حتّى مع جهله بأنّه مريض ، وهذا واضح البطلان وجدانا.

بل إنّ كثيرا من المصالح تفوّت على الإنسان لا لشيء سوى لجهله وعدم إدراكه ولحاظه لها مع كونها موجودة بالفعل خارجا.

نعم ، تختلف شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك عن تلك الراجعة إلى الإرادة ، ولذلك قال :

فشروط الاتّصاف بوجودها الخارجي دخيلة في الملاك ، وبوجودها التقديري اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة في الدواء إلا إذا كان الإنسان مريضا حقّا ، ولا إرادة للدواء إلا إذا لاحظ الإنسان المرض وافترضه في نفسه أو فيمن يتولّى توجيهه.

وفي ختام البحث حول هذه النقطة يظهر الفرق بين شروط الاتّصاف الراجعة إلى الملاك والتي تكون بوجودها الخارجي الحقيقي قيدا في اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة ، فإنّ الإنسان لا يكون شرب الدواء ذا مصلحة وملاك له إلا إذا كان مريضا حقيقة وفعلا ، ولا يكفي مجرّد تصوّره وافتراضه ولحاظه للمرض في اتّصاف الفعل بالملاك ؛ لأنّ الملاك والمصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة ، فلا بدّ أن يكون سببها موجودا حقيقيّا أيضا.

وهذا بخلاف قيود الاتّصاف الراجعة إلى الإرادة ، فإنّها بوجودها التقديري اللحاظي الافتراضي تكون سببا لحدوث الإرادة ، فإنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه مريض تحدث في نفسه إرادة شرب الدواء سواء كان مريضا حقيقة أم لا ، وأمّا إذا كان مريضا حقيقة ولكنّه لم يعلم بذلك فسوف لا تحدث له الإرادة المذكورة.

ص: 108

ولذلك صحّ القول بأنّ قيود الاتّصاف بوجودها الواقعي الحقيقي تكون دخيلة في الملاك ، وبوجودها اللحاظي التقديري تكون دخيلة في الإرادة سواء كانت إرادة تكوينيّة أم إرادة تشريعيّة.

ونفس الفارق بين شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ينعكس على المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة جعل الحكم ، فقد علمنا سابقا أنّ جعل الحكم عبارة عن إنشائه على موضوعه الموجود ، فكلّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود في موضوع الحكم ، وتعتبر شروطا للوجوب المجعول ، وأمّا شروط الترتّب فتكون مأخوذة قيودا للواجب.

المرحلة الثالثة : مرحلة جعل الحكم ، وفي هذه المرحلة أيضا يمكننا أن نفترض شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ، ولكن شروط الاتّصاف تكون راجعة للوجوب المجعول بنحو الفرض والتقدير ، بينما شروط الترتّب تكون راجعة إلى الواجب نفسه.

وتوضيحه أن يقال : نأخذ المثال السابق : ( استعمال الدواء واجب على المريض بعد الطعام ). فهنا المرض شرط لاتّصاف استعمال الدواء بالوجوب ، فالإنسان إذا كان مريضا يجب عليه استعمال الدواء ، بخلاف الإنسان الصحيح والمعافى فإنّه لا يجب عليه ذلك ، فلو لا وجود المرض لم يتّصف استعمال الدواء بالوجوب.

ولكن حيث إنّ للوجوب مرحلتين : إحداهما مرحلة جعل الحكم على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، والأخرى مرحلة الحكم المجعول والوجوب الفعلي بعد تحقّق موضوعه في الخارج ، فتكون شروط الاتّصاف مأخوذة في الوجوب بلحاظ المرحلة الأولى ، أي الحكم المفترض على موضوعه المقدّر ، وهو ما يسمّى بالجعل أو بالحكم الإنشائي.

وهذا معناه أنّ هذه الشروط مأخوذة في موضوع الوجوب بنحو الفرض والتقدير ، ويكون المراد أنّ الوجوب ثابت في فرض ثبوت المرض ، فلا يصبح الوجوب فعليّا في المرحلة الثانية إلا إذا صار المرض فعليّا ، أي اعتقد المكلّف بأنّه مريض فعلا ، سواء كان مريضا حقيقة وواقعا أم كان مخطئا في تشخيصه.

ومع فعليّة المرض يصبح الوجوب فعليّا على المكلّف ، ويخرج من مرحلة الجعل إلى مرحلة الحكم المجعول ؛ ولذلك تكون شروط الاتّصاف شروطا للوجوب المجعول

ص: 109

أيضا ، بمعنى أنّ فعليّة الوجوب لا تتحقّق إلا بعد أن تصبح شروط الاتّصاف فعليّة أيضا.

والحاصل : أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود بلحاظ الحكم والوجوب الإنشائي - أي مرحلة الجعل - فلا وجوب أصلا إذا لم يكن هذا الشرط مفترضا ، ولكن هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا يخرج إلى مرحلة الحكم المجعول ، إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة أيضا ، بأن رأى الإنسان نفسه مريضا مثلا.

تماما كما هو الحال في أخذ الاستطاعة في وجوب الحجّ ، فإنّ وجوب الحجّ بمعنى الوجوب الإنشائي في مرحلة الجعل قد أخذ فيه الاستطاعة ، بحيث لو لا الاستطاعة لم يكن الحجّ واجبا أصلا ، ولكن وجوب الحجّ الفعلي وخروجه من مرحلة الجعل إلى مرحلة المجعول والفعليّة تتوقّف على فعليّة الاستطاعة بأن يرى المكلّف نفسه مستطيعا بالفعل ، ولا يكفي افتراض الاستطاعة وتقديرها هنا.

وأمّا شروط الترتّب ، ففي المثال المذكور يكون قيد بعد الطعام من شروط الواجب نفسه لا الوجوب ؛ وذلك لأنّ الوجوب ثابت وفعلي عند حدوث المرض ، وأمّا تناول الطعام فهو قيد لتحصيل الغرض من استعمال الدواء وهو الشفاء ، فلأجل أن يترتّب الشفاء من استعمال الدواء الواجب على المريض لا بدّ أن يكون هذا الاستعمال بعد الطعام لا مطلقا ، فبعديّة الطعام قيد للاستعمال من أجل أن يترتّب الغرض منه وهو الشفاء وليست قيدا لأصل وجوب تناول الدواء ، فإنّه فعلي لفعليّة المرض.

وحينئذ يكون المراد أنّ تناول الدواء بعد الطعام هو الواجب على المريض ، فالوجوب مطلق من جهة هذا القيد ، ولكنّ التناول هو المقيّد به ، بحيث يكون الوجوب منصبّا على الحصّة الخاصّة من التناول لا مطلقه.

وبهذا اتّضح أنّ شروط الاتّصاف راجعة إلى الوجوب ، بينما شروط الترتّب راجعة إلى الواجب أي متعلّق الوجوب.

ولتوضيح المطلب أكثر قال السيّد الشهيد :

وإذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقّة ، وميّزنا بين الجعل والمجعول - كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) - نجد أنّ الجعل باعتباره أمرا نفسانيّا منوط ومرتبط بشروط

ص: 110


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

الاتّصاف بوجودها التقديري اللحاظي - كالإرادة تماما - لا بوجودها الخارجي ، ولهذا كثيرا ما يتحقّق الجعل قبل أن توجد شروط الاتّصاف خارجا.

وأمّا فعليّة المجعول فهي منوطة بفعليّة شروط الاتّصاف بوجودها الخارجي ، فما لم توجد خارجا كلّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم لا يكون المجعول فعليّا.

وأمّا شروط الترتّب فتؤخذ قيودا في الواجب تبعا لأخذها قيودا في المراد.

وبهذا نعرف أنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتّصاف ؛ لأنّه مشروط بها في عالم الجعل.

في هذه النقطة يبيّن السيّد الشهيد الفرق بين الجعل والمجعول في كيفيّة أخذ القيود فيهما ، وعلى ضوء ذلك سوف تندفع الإشكالات الواردة حول إمكانيّة الوجوب المشروط كما سيأتي. ولذلك يقول : إنّ جعل الحكم له مرحلتان هما : الجعل والمجعول كما تقدّم في الحلقة الثانية.

فالجعل : عبارة عن الحكم الإنشائي على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، فالشارع يفترض الموضوع مع ما فيه من قيود وشروط وخصوصيّات ثمّ يجعل الحكم عليه ، فيكون الحكم منوطا ومرتبطا بها.

بينما المجعول : عبارة عن الحكم الفعلي الثابت على موضوعه الموجود فعلا في الخارج ، فما لم يوجد الموضوع في الخارج لا يكون الوجوب فعليّا.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الحكم في مرحلة الجعل عبارة عن الأمر الإنشائي النفساني ؛ لأنّه موجود فعلا في عالم اللحاظ وفي ذهن المولى ، أي في عالم الجعل والتشريع ، وهو بهذا الاعتبار منوط ومرتبط ومقيّد بشروط الاتّصاف كما تقدّم ، ولكن بوجودها التقديري اللحاظي أيضا ؛ لأنّ ما هو في الذهن وفي عالم الفرض والتقدير لا يكون مرتبطا إلا بما هو موجود في نفس ذاك العالم واللحاظ ، ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف تؤخذ مفترضة الوجود ومقدّرة ثمّ يناط بها الوجوب ، ولو لا افتراضها وتقديرها لم يكن الوجوب ثابتا أصلا.

تماما كما هو الحال بالنسبة لشروط الاتّصاف المأخوذة في الإرادة ، فإنّ الإرادة لمّا كانت أمرا نفسانيّا فهي لا تناط إلا بما يكون موجودا في النفس أيضا.

ممّا يعني أنّ شروط الاتّصاف لا بدّ أن تكون مقدّرة ومفترضة الوجود في النفس

ص: 111

لتحصل الإرادة ؛ ولو لا ذلك لا تحدث الإرادة أصلا ، حتّى لو كانت تلك الشروط موجودة فعلا في الخارج ، ولكن ما لم تكن موجودة في النفس أيضا فلا أثر لها ؛ لأنّ الوجود الواقعي للشرط لا يسبّب حصول ما هو منوط به ما لم تكن معلومة وموجودة في الذهن أو النفس ، ولذلك يكون الوجوب ثابتا وموجودا عند افتراض وتقدير شروط الاتّصاف ، أي بوجودها اللحاظي والذهني سواء وجدت في الخارج أم لا.

بل إنّ الوجوب في مرحلة الجعل يكون ثابتا حتّى لو لم تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج أصلا ؛ لأنّه ليس مرتبطا بها.

فوجوب الحجّ مثلا ثابت على فرض تحقّق الاستطاعة ، وهذا الوجوب ثابت في عالم الجعل والتشريع على المكلّف المستطيع بنحو تكون الاستطاعة مفترضة ومقدّرة الوجود ، وهذا الوجوب الثابت لا يتأثّر بوجود الاستطاعة في الخارج أو عدم وجودها كذلك ؛ لأنّه ليس مرتبطا بالخارج أصلا ، وإنّما هو مرتبط بما هو موجود في الذهن والنفس واللحاظ فقط ، والاستطاعة قد أخذت في موضوع الحكم مفترضة ومقدّرة الوجود ، فهي موجودة فعلا في عالم اللحاظ والتقدير ، ولذلك فالجعل ثابت.

نعم ، الحكم المجعول الفعلي لا يتحقّق ولا يثبت إلا إذا صارت شروط الاتّصاف فعليّة في الخارج ؛ لأنّ الحكم المجعول هو الوجوب الذي يصبح فعليّا على المكلّف وهو لا يكون كذلك إلا إذا صار موضوعه فعليّا أيضا ، فلا بدّ إذا من أن توجد شروط الاتّصاف في الخارج أو أن تصبح فعليّة على المكلّف ليصبح الحكم فعليّا.

ولذلك لا حكم فعلي ولا وجوب مجعول على المكلّف ما دامت شروط الاتّصاف لم تتحقّق في الخارج.

وبهذا يتّضح أنّ الحكم في مرحلة الجعل ثابت لثبوت شروط الاتّصاف معه في عالم اللحاظ والفرض والتقدير أو عالم الجعل والتشريع ، وهو لا يتأثّر بوجود الشروط في الخارج أو عدم وجودها كذلك ، بينما الحكم في مرحلة المجعول لا ثبوت له إلا إذا تحقّقت شروط الاتّصاف في الخارج وصارت فعليّة ، فإنّه حينئذ يصبح فعليّا. هذا كلّه بالنسبة لشروط الاتّصاف.

ص: 112

وأمّا شروط الترتّب فهي كما تقدّم مأخوذة في الواجب تماما كما هي مأخوذة في المراد ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي ولا يتأثّر أصلا بوجود شروط الترتّب أو عدم وجودها. نعم هو يدعو إلى إيجادها.

فإنّ تناول الدواء إذا صار واجبا على المكلّف بسبب مرضه ، وكان التناول مقيّدا بتناول الطعام أوّلا ، كان هذا الوجوب الفعلي داعيا ومحرّكا إلى إيجاد هذا القيد ، ولذلك يجب على المريض أن يتناول الطعام أوّلا من أجل أن تترتّب المصلحة والغرض من استعمال الدواء الواجب عليه في رتبة سابقة.

وهذا يعني أن شروط الترتب لا علاقة لها بالوجوب أصلا ، لا على مستوى الجعل ولا على مستوى المجعول ، كما هو الحال في المراد فإنّ القيود الراجعة إليه لا مدخليّة لها في الإرادة لا سلبا ولا إيجابا كما تقدّم سابقا.

وعلى أساس التفرقة بين الوجوب في مرحلة الجعل والوجوب في مرحلة المجعول ، نقول : إنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل أن تتحقّق شروط الاتّصاف في الخارج وتصبح فعليّة ، فهو مقيّد بها ثبوتا وانتفاء ، فإذا تحقّقت شروط الاتّصاف وصارت فعليّة كان الوجوب المجعول ثابتا وفعليّا ، وإذا لم تتحقّق فلا وجوب مجعول على المكلّف وإن كان الوجوب في عالم الجعل ثابتا ؛ إذ لا يكفي للفعليّة والتنجيز والتكليف كما تقدّم في محلّه.

وبهذا يعرف أنّ الوجوب المشروط ممكن ؛ لأنّ المقصود به هو أنّ الوجوب المجعول الفعلي مشروط بتحقّق شروط الاتّصاف وصيرورتها فعليّة في الخارج ، وما يقال من استحالته غير صحيح ، ولذلك قال :

وأمّا ما يقال : من أنّ الوجوب المشروط غير معقول ؛ لأنّ المولى يجعل الحكم قبل أن تتحقّق الشروط خارجا فكيف يكون مشروطا؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل بالوجود التقديري للشرط ، وإناطة المجعول بالوجود الخارجي له.

إشكال ودفعه : استشكل على إمكان الوجوب المشروط بأنّ الوجوب فعل للمولى ؛ لأنّ الوجوب من الأمور الاعتباريّة الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ، وحينئذ فالمولى إمّا أن يجعل

ص: 113

الوجوب أو لا ، فإذا جعل الحكم فهو ثابت في عالم التشريع ، فكيف يكون مشروطا بتحقّق القيود والشروط في الخارج؟

وبتعبير آخر : إنّ المولى إذا أراد الوجوب فإرادته فعليّة فلا معنى لإناطته بالشرط ؛ لأنّ ذلك يعني أنّ الوجوب ليس مرادا للمولى بعد ، وهو خلف.

والجواب : أنّ التمييز المتقدّم بين الجعل والمجعول يوضّح وجه المغالطة في الإشكال ، فإنّ ما هو فعل للمولى هو الوجوب في مرحلة الجعل ، وهناك يكون الجعل ثابتا ومتحقّقا لافتراض موضوعه وتقديره ، والتي منها شروط الاتّصاف أيضا ، وهذا الحكم والوجوب ثابت سواء وجدت الشروط في الخارج أم لا.

بينما الحكم والوجوب المجعول هو المتوقّف على تحقّق القيود والشروط في الخارج ، فإذا تحقّقت في الخارج كان الوجوب فعليّا ومجعولا وإلا فلا وجود للوجوب الفعلي المجعول ، وهذا الوجوب المجعول الفعلي تابع وجودا وانتفاء لتحقّق قيوده ، والمفروض أنّه منوط بها بلحاظ وجودها الخارجي كما تقدّم ، ولكن سواء تحقّقت هذه القيود أم لا فالوجوب في مرحلة الجعل لا يتأثّر بوجود المجعول أو بعدم وجوده.

والحاصل : أنّ الوجوب في مرحلة الجعل ثابت دائما ، ولا يتأثّر بالقيود والشروط في الخارج وجودا وعدما ، وأمّا الوجوب في مرحلة المجعول فهو الذي يتأثّر بالقيود وجودا وعدما في الخارج ، وما هو فعل للمولى هو الأوّل دون الثاني (1).

ص: 114


1- إلا أنّه يمكن أن يقال هنا بأنّ الوجوب المشروط وإن كان ممكنا في نفسه ولكن لا على أساس التفرقة بين الجعل والمجعول ؛ إذ لا يوجد بالدقّة هذان النحوان من الجعل للحكم ، بل لا يوجد إلا جعل واحد وحكم واحد ، وهذا الحكم والجعل الواحد المنصبّ على موضوعه المقدّر الوجود إذا تحقّقت قيوده في الخارج صار فعليّا على ذمّة المكلّف ، وإذا لم تتحقّق قيوده في الخارج فلا يكون فعليّا على المكلّف ولا يطالب به ولا يكون مسئولا عنه. وحينئذ نقول : إنّ هذا الحكم والجعل الواحد إمّا أن يكون مطلقا أي منصبّا على موضوع من دون أخذ قيود أخرى فيه ، وإمّا أن يكون مأخوذا فيه مضافا إلى الموضوع بعض القيود والخصوصيّات ، ففي الحالة الأولى يكون الوجوب مطلقا كوجوب الصلاة على كلّ مكلّف بالغ عاقل مثلا ، وفي الحالة الثانية يكون الوجوب مشروطا كوجوب الحجّ على المستطيع مثلا ، ولا فرق بين الحالتين في كون الوجوب أو الجعل واحدا وثابتا في عالم الجعل والتشريع ، وفي كونه لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه في الخارج.

وبهذا ينتهي البحث عن إمكان الوجوب المشروط ، وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه ممكن.

وأمّا ثمرة البحث عن إمكان الوجوب المشروط وامتناعه فتظهر في بحث مقبل (1) إن شاء اللّه تعالى.

حاصل الثمرة أن يقال : إنّ من ينكر الوجوب المشروط ويقول بامتناعه يرجع القيود كلّها إلى الواجب ، فيكون الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ويكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات التي يفوت الواجب لو لا وجودها ، والمحرّك لذلك هو الوجوب الفعلي ، بينما من يؤمن بالوجوب المشروط لا يرى المكلّف مسئولا عن المقدّمات التي ترجع إلى الوجوب ؛ لأنّه قبل وجودها لا فعليّة للوجوب فلا يكون محرّكا نحو إيجادها وتحقيقها ، إلا إذا كانت مفوّتة دائما كما في بعض الحالات (2).

ص: 115


1- تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.
2- وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي : وجوب الغسل على الجنب قبل طلوع الفجر في شهر رمضان ، فعلى إنكار الوجوب المشروط فالوجوب فعلي من حين هلال شهر رمضان ، فيحرّك نحو الغسل. بينما على القول بإمكان الوجوب المشروط قد يقال بأنّ وجوب الصوم للغد يبدأ من حين طلوع الفجر لا قبله ، فلما ذا يجب الاغتسال قبله؟ ولكن يجاب بأنّه يوجد وجوبان : وجوب لصوم الشهر من حين طلوع الهلال ، ووجوب لصوم كلّ يوم يوم وهو يبدأ من حين طلوع الفجر إلى الغروب ، أو يقال : إنّ هذا الشرط للواجب أي للصوم الواجب فيجب تحصيله ؛ لأنّ الوجوب يكون منصبّا على صوم اليوم من شهر رمضان مع الطهارة من الحدث الأكبر. وسوف يأتي مزيد توضيح وبيان لهذه الثمرة في الأبحاث اللاحقة.

ص: 116

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات

اشارة

ص: 117

ص: 118

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات

تنقسم المقدّمات الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام :

هناك عدّة تقسيمات للمقدّمة :

منها : تقسيم المقدّمات إلى وجوبيّة ووجوديّة.

فمقدّمات الوجوب هي المقدّمات التي يكون الوجوب مشروطا ومقيّدا بها بحيث قبل حصولها لا وجوب ، بخلاف المقدّمات الوجوديّة فإنّها ممّا يتوقّف عليه وجود المأمور به في الخارج بعد ثبوت الوجوب في مرتبة سابقة.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى عقليّة وشرعيّة وعاديّة.

فالمقدّمات التي لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي بل كان العقل يحكم بها فهي مقدّمات عقليّة ، كقطع المسافة بالنسبة للسفر إلى الحجّ الواجب. وأمّا إذا أخذت في لسان الدليل الشرعي فهي مقدّمات شرعيّة كالاستطاعة والطهارة ، وإذا لم تكن من هذين النوعين بل كان هناك ارتباط بحسب العادة والعرف بين الشيء والمقدّمة سمّيت المقدّمة عاديّة ، أي أنّ هذا الفعل عادة يتحقّق عن طريق المقدّمة مع إمكان الانفكاك بينها ، كنصب السلّم للصعود على السطح مثلا ، فإنّه بالإمكان الصعود من دونه.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى داخليّة وخارجيّة.

فالمقدّمات الداخليّة هي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها كأجزاء الصلاة من ركوع وسجود ونحوها ، والمقدّمات الخارجيّة هي الأمور الخارجة عن الماهيّة المأمور بها ، ولكنّها متوقّفة عليها فتكون واجبا غيريّا كما سيأتي.

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى مقدّمة الوجوب ومقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة ، فالأولى هي نفسها مقدّمات الوجوب والثانية والثالثة مرادفة لمقدّمات الواجب.

ص: 119

ومنها : تقسيم المقدّمات إلى الشرط المتقدّم والمتأخّر والمقارن.

فالغسل الليلي الذي هو شرط لصحّة صوم المستحاضة شرط متأخّر ، وكذا الإجازة بالنسبة لصحّة عقد الفضولي بناء على الكشف أيضا ، والاستقبال شرط مقارن لصحّة الصلاة. بينما الشرط المتقدّم هو سائر القيود المأخوذة التي يتوقّف على وجودها وجود الواجب.

وعلى كلّ حال فالبحث هنا معقود من أجل الإجابة عن السؤال التالي ، وهو : متى يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحصيل القيود والمقدّمات؟

ومن أجل الإجابة عن هذا التساؤل يقسّم السيّد الشهيد المقدّمات والقيود إلى أقسام ثلاثة ، ثمّ يذكر الفرق بينها ، ثمّ يعود ليبيّن مسئوليّة المكلّف حول هذه القيود.

وأمّا أقسام المقدّمات ، فهي :

الأوّل : المقدّمات التي تتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، وهي إنّما تكون كذلك بالتقييد الشرعي ، وأخذها مقدّرة الوجود في مقام جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّ الوجوب حكم مجعول تابع لجعله ، فما لم يقيّد جعلا بشيء لا يكون ذلك الشيء دخيلا في فعليّته ، وتسمّى هذه المقدّمات بالمقدّمات الوجوبيّة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ.

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها فعليّة الوجوب ، بحيث إذا تحقّقت فيصبح الوجوب فعليّا ، وأمّا قبل تحقّقها فالوجوب وإن كان ثابتا في عالم الجعل والتشريع إلا أنّه لا يكون فعليّا ولا داخلا في عهدة المكلّف.

وهذه المقدّمات الوجوبيّة إنّما تكون كذلك بسبب أخذ الشارع لها في مقام الجعل والتشريع ، فيأخذ هذه القيود والمقدّمات بنحو الفرض والتقدير ثمّ يجعل الحكم على موضوعه مقيّدا بها ؛ لأنّ جعل الحكم إنّما هو على أساس القضيّة الحقيقيّة التي يكون الموضوع فيها مفترضا ومقدّر الوجود.

وما دام قد أخذ في موضوع الحكم بعض القيود والمقدّمات في عالم الجعل ، فإنّ الحكم في عالم الفعليّة يكون تابعا لتحقّق هذه القيود ؛ لأنّ الحكم في عالم المجعول تابع في وجوده لما هو مأخوذ فيه بلحاظ عالم الجعل ، وهو إمّا أن يكون مطلقا غير

ص: 120

مقيّد بشيء من القيود والمقدّمات ، وإمّا أن يكون قد أخذ فيه بعض القيود والمقدّمات ، فمع أخذها فيه تكون دخيلة في الوجوب الفعلي المجعول ، بخلاف ما إذا لم يقيّد الحكم بشيء فإنّه يكون فعليّا بنحو مطلق.

مثال ذلك : تقييد وجوب الحجّ بالاستطاعة ، فإنّ هذا الوجوب لا يصبح فعليّا ولا مجعولا على ذمّة المكلّف ولا داخلا في عهدته ومسئوليّته إلا إذا تحقّقت الاستطاعة.

وأمّا قبل تحقّقها فلا يكون لدينا إلا وجوب الحجّ بنحو الوجوب الجعلي والشأني فقط ، بخلاف ما إذا لم يكن هذا القيد مأخوذا في الوجوب ، فإنّه لا يكون الوجوب مقيّدا ولا مشروطا ، بل هو وجوب مطلق من هذه الناحية.

الثاني : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بسبب أخذ الشارع لها قيدا في الواجب وتسمّى بالمقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة ، أي مقدّمات الواجب.

وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي ، أي متعلّق الوجوب وهو الواجب ، وأمّا الوجوب فيفترض أنّه فعلي ومطلق من ناحية هذه المقدّمات ، بمعنى أنّه سواء وجدت هذه المقدّمات والقيود أم لم توجد فالوجوب فعلي ، ومقدّمات الواجب هذه أو المقدّمات الوجوديّة تنقسم إلى قسمين : أحدهما المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي أخذت قيدا في الواجب من قبل الشارع ، بحيث لو لم يأخذها الشارع كذلك لكان المكلّف مختارا في تطبيق المأمور به على أي نحو أراد ، ولكن بسبب أخذ الشارع لهذه القيود صار المطلوب من المكلّف حصّة خاصّة من الواجب لا مطلق الواجب ، ولذلك كان أخذ الشارع لهذه القيود في الواجب يعني تحصيص الواجب إلى حصص والأمر بالحصّة الخاصّة وهي الحصّة الواجدة للقيد دون غيرها.

ومثاله : الأمر بالصلاة عن طهارة ، فإنّ وجوب الصلاة تامّ وفعلي عند زوال الشمس ، بحيث إنّ المكلّف سواء كان على طهارة أم لا فهو مطالب بوجوب الصلاة.

نعم ، حينما يريد امتثال الأمر الشرعي يجب عليه أن يصلّي عن طهارة لا مطلق

ص: 121

الصلاة ولو من دون طهارة ، أي الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي الصلاة المقيّدة بالطهارة ، فيجب عليه تحصيل الطهارة لكون هذا القيد مطلوبا منه شرعا.

الثالث : المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بدون أخذها قيدا من قبل الشارع ، كقطع المسافة إلى الميقات بالنسبة إلى الحجّ الواجب على البعيد ، ونصب السلّم بالنسبة إلى من وجب عليه المكث في الطابق الأعلى ، وتسمّى بالمقدّمات العقليّة الوجوديّة.

القسم الثالث :

القسم الثالث : هو المقدّمات الوجوديّة أو مقدّمات الواجب التي يحكم بها العقل ، وهي القسم الثاني من مقدّمات الواجب ، وهذه المقدّمات أيضا غير مأخوذة في الوجوب ، وإنّما هي مقدّمات لامتثال متعلّق الوجوب أي الواجب ، إلا أنّها لم تؤخذ في لسان الدليل الشرعي ، فالشارع لم يأخذ هذه القيود والمقدّمات في دليل الحكم ، وإنّما يحكم بها العقل من جهة توقّف امتثال الأمر الشرعي عليها.

وهذا التوقّف إمّا أن يكون كذلك دائما وإمّا أن يكون عادة ، مع كون كلا النحوين من هذه القيود والمقدّمات ثابتا بلحاظ الواقع والتكوين والخارج.

فمثلا إذا وجب الحجّ على المستطيع وصار فعليّا عليه وكان منزله بعيدا ، فامتثال الحجّ الواجب في وقته يتوقّف على وجوده في الميقات ، ممّا يعني أنّ الكون في الميقات أو الذهاب والسفر إلى الميقات مقدّمة وجوديّة ، بحيث لا يتمكّن من امتثال الواجب ولا من إيجاده إلا بالسفر إلى الميقات.

وهكذا إذا وجب على شخص المكث في مكان عال فإنّ الصعود إلى هذا المكان على السلّم أو أي شيء آخر واجب ؛ لأنّه مقدّمة وجوديّة لهذا الواجب بحيث لو لم يصعد لم يتحقّق منه الواجب أصلا.

وإنّما سمّيت بالمقدّمات الفعليّة الوجوديّة تمييزا لها عن المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة ، وإلا فالعقل يحكم بوجوب تحقيق هذه القيود في كلا النحوين كما هو واضح.

وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدّمات الوجوديّة نلاحظ : أنّه في مورد المقدّمة الشرعيّة الوجوديّة قد تعلّق الأمر بالمقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد ، وأنّ المقدّمة المذكورة مقدّمة عقليّة للتقيّد ، بينما نجد أنّ المقدّمة العقليّة الوجوديّة هي مقدّمة لذات الفعل.

ص: 122

الفرق بين القسمين الأخيرين : يظهر الفرق بين القسمين بلحاظ كيفيّة الأمر الشرعي ، ففي مورد المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة كالطهارة التي أخذت قيدا في الصلاة ، نجد أنّ الأمر قد تعلّق بالمقيّد أي بالصلاة عن طهارة لا بذات الفعل ، والمقيّد بالتحليل يرجع إلى الأمر بذات المقيّد أي بذات الصلاة وإلى الأمر بالتقيّد ، أي بكون هذه الصلاة عن طهارة ، وليس هناك أمر تعلّق بالقيد أي بالطهارة ابتداء.

ومن هنا كان المطلوب من المكلّف إيجاد التقيّد إلى ذات الفعل ، فإنّه لو جاء بالمقيّد وحده أي بذات الصلاة لم يكن ممتثلا للمأمور به ، ولذلك يجب عليه إيجاد التقيّد ولكن هذا التقيّد لا يحصل إلا بالإتيان بالطهارة ( من وضوء أو غسل أو تيمّم ) ، فيكون الإتيان بالطهارة مقدّمة ولكن لا لذات المقيّد ولا لكونه قيدا مأمورا به ، بل لكونه مقدّمة لتحصيل التقيّد ، فإنّ تقيّد الصلاة بكونها صلاة عن طهارة لا يتمّ ولا يتحقّق إلا إذا جاء المكلّف بالطهارة ، فالطهارة ليست علّة أو بمثابة العلّة للصلاة ، وإنّما هي علّة أو بمثابة العلّة لإيجاد التقيّد المأمور به شرعا.

والحاصل : أنّ المقدّمات الشرعيّة الوجوديّة لمّا كانت عبارة عن تحصيص الواجب والأمر بالحصّة الخاصّة منه كان ذلك معناه أنّ المطلوب هو الفعل الخاصّ أي المقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات الفعل مع التقيّد بحسب التحليل ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد التقيّد مضافا إلى الفعل والمفروض أنّ التقيّد لا يحصل إلا بإيجاد القيد فيكون إيجاد القيد مقدّمة لحصول التقيّد والتقيّد هو المقدّمة لحصول الواجب المأمور به.

بينما في موارد المقدّمات العقليّة الوجوديّة لا يكون هناك إلا أمر بذات الفعل فقط ، والمقدّمة ترجع مباشرة إلى الفعل ذاته ، فالسفر إلى الميقات قيد للحجّ الواجب أي ذات الفعل ، والصعود إلى المكان العالي عند طريق السلّم أو غيره مقدّمة للواجب نفسه وهو نفس الكون والمكث في ذاك المكان ، وليس هناك شيء آخر يتوسّط بينهما.

وبهذا ينتهي الكلام حول تقسيم المقدّمات والقيود ، وبعد ذلك يدخل السيّد الشهيد في صلب البحث والموضوع الأساس ، وهو الإجابة عن التساؤل المتقدّم ، وهو أنّ المكلّف متى يكون مسئولا عن تحصيل المقدّمات؟ ولذلك قال :

والكلام تارة يقع في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ،

ص: 123

وأخرى في تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل المقدّمة من هذا القسم أو ذاك.

الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدّمات ، بمعنى أنّه في أي نوع من المقدّمات يكون مسئولا عن إيجاده وتحصيله؟ ومتى لا يجب عليه تحصيله ولا يكون مسئولا عنه؟

وهذا معناه أنّه يوجد ضابط وملاك على أساسه تتحدّد مسئوليّته وعدمها.

المقام الثاني : في تحديد الضابط الذي على أساسه يجعل الشارع المقدّمة وجوبيّة أو وجوديّة شرعيّة أو وجوديّة عقليّة ، في محاولة لاستكشاف الملاك الذي يسير عليه الشارع.

أمّا تحديد مسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات فحاصله : أنّ الوجوب - وكذلك كلّ طلب - لا يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوبيّة ، ولا مدينا للمكلّف بها ؛ لأنّه لا يوجد إلا بعد تحقّقها فكيف يكون باعثا على إيجادها؟! وإنّما يكون محرّكا نحو المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ؛ لأنّه فعلي قبل وجودها فيحرّك لا محالة نحو إيجادها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عقلا من قبل ذلك التكليف عن إيجاد تلك المقدّمات ، وهذا التحريك يبدأ من حين فعليّة التكليف المجعول ، فقبل أن يصبح التكليف فعليّا لا محركيّة له نحو المقدّمات تبعا لعدم محرّكيّته نحو متعلّقه ؛ لأنّ المحرّكيّة من شئون الفعليّة.

أمّا المقام الأوّل : فمسئوليّة المكلّف تجاه القيود والمقدّمات إنّما تكون فيما إذا كانت من المقدّمات الوجوديّة بكلا قسميها ، دون ما إذا كانت من المقدّمات الوجوبيّة.

وبيان ذلك : أنّ المقدّمات الوجوبيّة إنّما يجب تحصيلها على المكلّف فيما إذا كان هناك ما يحرّك ويدعو إلى ذلك ، وهذا المحرّك ليس هو إلا الأمر والوجوب ، ولذلك فيفترض وجود الأمر والوجوب ليحرّك نحو هذه المقدّمات ، ويكون داعيا للمكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وفي هذه الحالة لو فرض ثبوت الوجوب وكونه فعليّا فهذا معناه أنّ هذه المقدّمات ليس مقدّمات وجوبيّة ؛ لأنّ المقدّمات الوجوبيّة هي ما يتوقّف

ص: 124

عليه الأمر الشرعي ، والمفروض أنّه ثابت من دونها ، فهذا الافتراض خلف حقيقة المقدّمات الوجوبيّة.

وأمّا إذا لم يكن الوجوب ثابتا ولا فعليّا فهذه المقدّمات وإن كانت مقدّمات وجوبيّة إلا أنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ؛ لعدم وجود الأمر والوجوب ، فكيف يمكن أن يكون الوجوب باعثا ومحرّكا نحوها وهو غير موجود بعد؟! فإنّ هذا الافتراض معناه تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل عقلا ؛ إذ فرض عدم ثبوت الوجوب يعني افتراض عدمه ومعه فلا يكون له أي تأثير على المقدّمات من تحريك وباعثيّة.

وبهذا يظهر أنّ المقدّمات الوجوبيّة لا يمكن أن يكون المكلّف مسئولا عنها ولا يحكم العقل بوجوب تحصيلها ؛ لأنّها قبل الوجوب والأمر لا يوجد الداعي والمحرّك نحوها ، وبعده يفترض فعليّة الوجوب ومعه لا يكون متوقّفا عليها ، وتخرج عن كونها مقدّمات وجوبيّة ، وهو خلف.

وأمّا المقدّمات الوجوديّة - سواء العقليّة كقطع المسافة أو الشرعيّة كالطهارة - فيكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه ثابتا وفعليّا لتحقّق موضوعه وما هو دخيل فيه وبعد فعليّته فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ؛ لأنّ كلّ وجوب وكلّ طلب يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمتعلّق للوجوب هو الواجب ، فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد الواجب ومطالبا به ويستحقّ الإدانة والعقاب على تركه ، ولمّا كان هذا الواجب متوقّفا على تلك المقدّمات فالعقل يحكم بلزوم تحصيلها وإيجادها ؛ وذلك لوجود المحرّك والباعث نحو ذلك ، وهو الوجوب والأمر الشرعي الثابت والفعلي.

فالأمر بوجوب الصلاة المقيّدة بالوضوء والمقيّد بالزوال يصبح فعليّا إذا زالت الشمس ، وبعد زوالها يصبح المكلّف مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الصلاة المقيّدة لا ذات الصلاة كما تقدّم ، ومن أجل إيجاد هذا التقيّد لا بدّ من تحصيل القيد وهو الوضوء فيكون المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمة الوجوديّة للواجب ومطالبا بها ، والمحرّك لذلك هو وجوب الصلاة الذي صار فعليّا بالزوال.

إلا أنّ الوجوب إنّما يحرّك نحو إيجاد المقدّمات الوجوديّة فيما إذا صار فعليّا كما

ص: 125

ذكرنا ، وفعليّته إنّما تبدأ فيما إذا تحقّقت سائر الشروط والقيود والمقدّمات المأخوذة فيه ، ومن جملتها الزمان كالزوال مثلا ، فإذا تحقّقت سائر الشروط باستثناء قيد الزمان لم يكن المكلّف مسئولا عن إيجاد مقدّمات الواجب قبل فعليّة زمان الوجوب ، وذلك لعدم وجود المحرّك والباعث لذلك فلا يحكم العقل بلزوم تحصيلها وإيجادها ، فالوضوء مثلا لا يجب على المكلّف إيجاده قبل الزوال ؛ لأنّه قبل الزوال لا يكون الوجوب فعليّا فلا تكون المحرّكيّة والباعثيّة موجودة ؛ لأنّهما من شئون الفعليّة.

وبهذا اتّضح أنّ المكلّف مسئول بحكم العقل عن إيجاد مقدّمات الواجب سواء كانت شرعيّة أم عقليّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب فعلي فيكون محرّكا نحو إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّ هذه المقدّمات راجعة إلى المتعلّق الذي هو الواجب ، بخلاف مقدّمات الوجوب فإنّ المكلّف ليس مسئولا عنها ؛ لأنّه قبل الوجوب لا يوجد المحرّك والباعث نحوها ، وبعده فيفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمات وجوبيّة.

نعم ، هناك حالة وهي فيما إذا كانت المقدّمات مشتركة بين الوجوب والواجب فهل يجب تحصيلها أم لا؟ والجواب :

وإذا اتّفق أنّ قيدا ما كان مقدّمة وجوبيّة ووجوديّة معا امتنع تحريك التكليف نحوه ؛ لتفرّعه على وجوده ، وإنّما يكون محرّكا - بعد وجود ذلك القيد - نحو التقيّد وإيقاع الفعل مقيّدا به.

وهنا مطلب : إذا فرض أنّ بعض المقدّمات كانت مشتركة بين الوجوب والواجب فكانت مقدّمات وجوبيّة ومقدّمات وجوديّة أيضا ، فهل يجب على المكلّف إيجادها وتحصيلها أم لا؟

والجواب : أنّ هذا الفرض ملحق بالمقدّمات الوجوبيّة بمعنى أنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات المشتركة.

والوجه في ذلك واضح إذ فرض كونها مقدّمة للوجوب يعني أنّ الوجوب متوقّف عليها في وجوده وفعليّته ، فقبل وجوده لا محرّك نحو إيجادها وتحصيلها ، وبعد وجوده يفترض حصولها وتحقّقها وإلا لم تكن مقدّمة له ؛ لأنّه يستحيل وجود ذي المقدّمة من دون المقدّمة الموقوف عليها وجوده.

ص: 126

نعم ، بعد تحقّق هذه المقدّمات يصبح الوجوب فعليّا فيحرّك نحو إيجاد المتعلّق ، والمفروض أنّه مقيّد بتلك المقدّمة ممّا يعني أنّ المكلّف مسئول عن إبقاء تلك المقدّمة وإيقاع الواجب مقيّدا بها لا بعد زوالها.

فمثلا مقدّميّة الزوال قد أخذت قيدا للوجوب وللواجب معا ، فوجوب الصلاة لا يكون ثابتا ولا فعليّا إلا بعد زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا ووجبت الصلاة ، وهذه الصلاة مقيّدة أيضا بالزوال ، فإنّه لا يصحّ إيقاعها قبل الزوال ولا يكون امتثالها كذلك امتثالا للواجب الأدائي المأمور به شرعا. فالمكلّف مطالب بعد الزوال بأن يوقع الصلاة مع هذا القيد ، أي مطالب بالتقيّد أي بالصلاة عن زوال لا بالصلاة مطلقا.

وأمّا تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى فهو : أنّ كلّ ما كان من شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك فيأخذه قيدا للوجوب لا للواجب ، فيصبح مقدّمة وجوبيّة.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه لمّا كان شرطا في الاتّصاف فلا يهتمّ المولى بتحصيله ، بينما لو جعله قيدا للواجب وكان الوجوب فعليّا قبله لأصبح مقدّمة وجوديّة ، ولكان التكليف محرّكا نحو تحصيله ، فيتعيّن جعله مقدّمة وجوبيّة.

وأمّا المقام الثاني : فتحديد الضابط لجعل المقدّمات وجوبيّة تارة ووجوديّة أخرى هو أن يقال : هناك نوعان من القيود والشروط ، أحدهما شروط الاتّصاف والآخر شروط الترتّب.

فشروط الاتّصاف تكون مأخوذة في أصل وجود المصلحة والإرادة ، ولذلك فهي تجعل مقدّرة الوجود حين جعل الحكم ، بينما شروط الترتّب تكون مأخوذة لأجل استيفاء المصلحة وتحصيلها وهي دخيلة في المراد ، ولذلك فهي شروط خارجيّة للحكم المجعول.

وبناء على ذلك نقول : إنّ ما كان من المقدّمات والقيود راجعا إلى شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك والمصلحة أو الإرادة تكون مأخوذة في الوجوب ، وتعتبر مقدّمات وجوبيّة لا وجوديّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ شروط الاتّصاف معناها أنّ المصلحة والملاك متوقّفة على

ص: 127

وجود تلك الشروط في رتبة سابقة ولو بنحو الفرض والتقدير ، فما لم تكن هذه المقدّمات والقيود موجودة ومأخوذة في عالم الجعل والتشريع فلا مصلحة ولا إرادة ، وبالتالي لا وجوب أصلا ، وما دام الوجوب متوقّفا عليها فقبل وجودها لا يكون المولى مهتمّا بتحصيل هذه القيود ؛ لأنّه لا يوجد ما يحرّك المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها ، وإنّما على فرض وجودها وتحصيلها يكون الوجوب ، وبتبعه المصلحة والإرادة ثابتا وفعليّا.

وبكلمة أخرى : إنّه قبل وجود هذه القيود لا توجد مصلحة ولا إرادة للمولى ، ومع عدمهما لا يكون المولى مهتمّا بوجودها وتحصيلها في الخارج من المكلّف ؛ لأنّه لا يوجد ما يدعوه إلى ذلك ؛ لأنّه لا إرادة له ومع عدم الإرادة لا يحصل الشوق المولوي تجاهها.

بخلاف ما لو كانت هذه القيود راجعة إلى الواجب ، فإنّها في هذه الحالة تكون من المقدّمات الوجوديّة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت وفعلي في رتبة سابقة لثبوت وفعليّة موضوعه ، فيكون محرّكا وباعثا نحو تحصيلها ، ويكون المكلّف مسئولا ومطالبا بها ومدانا على عدم الإتيان بها ، إلا أنّ هذا يعني خروجها عن الفرض المذكور ؛ لأنّها سوف تصبح من شروط الترتّب إذ المفروض أنّ شروط الاتّصاف لا ترجع إلى الواجب وإنّما ترجع إلى الوجوب كما تقدّم.

والحاصل : أنّ فرض القيود والمقدّمات من شروط الاتّصاف يلزم منه لا محالة أن تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّه قبل وجودها لا وجوب ولا مصلحة ولا إرادة فلا تكون هناك مسئوليّة على المكلّف نحو إيجادها وتحصيلها.

وأمّا ما كان من شروط الترتّب فهو على نحوين :

أحدهما : أن يكون اختياريّا للمكلّف ، وفي هذه الحالة يأخذه المولى قيدا للواجب ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيله.

والآخر : أن يكون غير اختياري ، وفي هذه الحالة يتعيّن أخذه قيدا للوجوب إضافة إلى أخذه قيدا للواجب ، ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ؛ إذ مع الاقتصار كذلك يكون التكليف محرّكا نحوه ومدينا للمكلّف به ، وهو غير معقول ؛ لعدم كونه اختياريّا.

ص: 128

ذكرنا أنّ قيود الاتّصاف تكون من المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّ المولى لا يهتمّ بتحصيلها.

وأمّا إن كانت القيود والمقدّمات من شروط الترتّب أي راجعة إلى الواجب والمراد والحكم المجعول الفعلي ، فهذه لا تخلو من أحد أمرين :

أحدهما : أن تكون هذه المقدّمات والقيود اختياريّة للمكلّف وداخلة ضمن قدرته ، بحيث يكون مختارا وقادرا على تحصيلها أو على تركها وإعدامها ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك ما يمنع المولى من جعلها قيودا وجوديّة ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيلها.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه القيود لمّا كانت من شروط الترتّب فهذا معناه أنّ الوجوب فعلي في رتبة سابقة ، والمكلّف صار مسئولا عن إيجاد متعلّق الوجوب أي الواجب ، وهو متوقّف على هذه المقدّمات.

والمفروض أنّ المكلّف قادر على إيجادها لكونها اختياريّة ومقدورة له ، وحينئذ يكون المولى مهتمّا بتحصيل المكلّف لها ؛ لأنّ المقتضي للتحرّك وهو الوجوب موجود وهو ثابت وفعلي ولا يوجد ما يمنع من هذا التحرّك ؛ لكون المطلوب التحرّك نحوه مقدور وواقع تحت سلطة واختيار المكلّف ، ومع عدم التحرّك سوف يترك المكلّف المصلحة ؛ لأنّها لا تستوفى إلا بالإتيان بالواجب ومقدّماته ، وترك المصلحة مع كونها فعليّة ومنجّزة ممّا لا يرضى المولى به ، بل يكون مدانا على ذلك ومستحقّا للعقاب.

والآخر : أن تكون المقدّمات والقيود غير اختياريّة للمكلّف ، فهنا يقع التضادّ بين المقتضي والمانع ؛ وذلك لأنّ فرض هذه القيود من شروط الترتّب معناه أنّ الوجوب فعلي سابقا ، ممّا يعني وجود المحرّك والباعث للمكلّف نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات.

ولكن لمّا كانت هذه القيود والمقدّمات غير اختياريّة للمكلّف فهو غير قادر على إيجادها وتحصيلها ، ومع عدم القدرة لا يكون المكلّف مخاطبا ولا مسئولا ولا مدانا على الترك ؛ لأنّه لا يمكن التكليف بما لا يطاق وبما لا يقدر عليه ، وهذا معناه عمليّا أنّ المكلّف لن يتحرّك نحو تحصيل هذه القيود والمقدّمات بسبب وجود المانع العقلي التكويني من تحصيلها ، وهو عدم القدرة لكونها غير اختياريّة.

ومن أجل ذلك يجمع المولى بين هذين الأمرين - المقتضي والمانع -. فبلحاظ وجود

ص: 129

المقتضي للتحرّك وهو الوجوب الفعلي لكون هذه القيود من شروط الترتّب تكون هذه المقدّمات مقدّمات وجوديّة ، ولكن بلحاظ المانع من تحصيلها وإيجادها - وهو عدم قدرته ؛ لكونها غير اختياريّة - تكون مقدّمات وجوبيّة في النتيجة العمليّة والأثر ، ولذلك تكون هذه المقدّمات وجوبيّة ووجوديّة معا.

ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوبيّة فقط ؛ لأنّها ليست دخيلة في المصلحة ولا في الإرادة وإنّما هي شروط لترتّب المصلحة ولتحقّق المراد ، ولا يمكن أن تكون مقدّمات وجوديّة فقط ؛ لأنّ هذا معناه تكليف المكلّف بها وجعله مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ، والمفروض أنّه غير قادر على ذلك ؛ لعدم قدرته ولكونها خارجة عن اختياره وسلطنته.

وبهذا يتّضح أنّ الضابط في جعل شيء قيدا للوجوب أحد أمرين : إمّا كونه شرط الاتّصاف ، وإمّا كونه شرط الترتّب مع عدم كونه مقدورا.

والنتيجة النهائيّة على ضوء ما تقدّم : هي أنّ الضابط لجعل القيود والمقدّمات من المقدّمات الوجوبيّة هو كونها من شروط الاتّصاف بالتوضيح المتقدّم ، أو كونها من شروط الترتّب ولكنّها غير مقدورة للمكلّف وخارجة عن اختياره.

وأمّا إذا كانت من شروط الترتّب وكانت مقدورة للمكلّف فهي من المقدّمات الوجوديّة للواجب.

* * *

ص: 130

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

ص: 131

ص: 132

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

[ أو مبحث الشرط المتأخّر ]

القيد - سواء كان قيدا للحكم المجعول أو للواجب الذي تعلّق به الحكم - قد يكون سابقا زمانا على المقيّد به ، وقد يكون مقارنا.

فالقيد المتقدّم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذي هو قيد لوجوب الصيام ، مع أنّ هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدّم للواجب من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عنه مستمرّة. والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

مقدّمة البحث : القيود والشروط والمقدّمات تقدّم أنّها إمّا قيود للوجوب وإمّا قيود للواجب.

وبتعبير آخر : إمّا أن تكون راجعة إلى الحكم المجعول ، أو راجعة إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الحكم. ومن الواضح أنّ الشروط في كلا النحوين بمثابة العلّة أو جزء العلّة.

أمّا قيود الوجوب فهي بمثابة العلّة ؛ لأنّ الوجوب متوقّف ثبوته في عالم الجعل والتقدير على افتراضها وتقديرها ، وفي عالم المجعول والفعليّة على تحقّقها ووجودها في الخارج.

وأمّا قيود الواجب فهي شروط للصحّة وللامتثال وسقوط الأمر وبراءة الذمّة ، والخروج عن العهدة والمسئوليّة ، ولذلك فهي إن تحقّقت سقط الأمر وتحقّق الامتثال ، وحكم بصحّة ما جاء به فهي بمثابة الجزء الأخير من العلّة وليست هي تمام العلّة ؛ لأنّ المطلوب والمأمور به مركّب من الواجب ومن الشرط أي من المقيّد والتقيّد.

ص: 133

ثمّ إنّ هذه القيود - الراجعة إلى الحكم أو إلى الواجب - إمّا أن تكون متقدّمة أو تكون مقارنة ، فالقيد المتقدّم على الحكم والوجوب من قبيل هلال شهر رمضان فإنّه قيد متقدّم على وجوب الصوم ؛ لأنّه قبل تحقّق الهلال بإحدى الطرق الشرعيّة كالرؤية والبيّنة والشياع ... إلى آخره لا وجوب للصوم ، ممّا يعني أنّ هذا القيد بمثابة العلّة للوجوب ، فإذا تحقّق الهلال صار الصوم واجبا ، ولكنّه لا يبدأ من حين ثبوت الهلال ، بل من حيث طلوع الفجر ، وهكذا الحال بالنسبة لقيديّة الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ ، فإنّها قيد متقدّم للوجوب ، والوجوب لا يبدأ إلا من حين اليوم الثامن من ذي الحجّة.

وأمّا القيد المقارن للحكم : فهو من قبيل زوال الشمس بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّه لا وجوب للصلاة قبل الزوال ، فإذا زالت الشمس تحقّق الوجوب في نفس الآن الذي يحدث به الزوال ، فبالزوال يتحقّق القيد والمقيّد معا ولا تفاوت بينها من ناحية الزمان وإن كان هناك اختلاف بينهما في الرتبة ؛ لأنّ القيد متقدّم في الرتبة على المقيّد ، وإن كانا متّحدين في الزمان أو متقارنين معا ، كما هو الحال في تحقّق الانفتاح عند فتح الباب بالمفتاح ، فإنّ عمليّة إدارة المفتاح باليد مقارنة لانفتاح الباب.

وهكذا أيضا بالنسبة لطلوع الفجر وصلاة الصبح ، فإنّ طلوع الفجر قيد مقارن للوجوب أي لوجوب صلاة الصبح.

وأمّا القيد المتقدّم على الواجب فهو من قبيل الوضوء بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء لا بحالة مسبّبة عن الطهارة ، فإنّه بناء على كون الصلاة مقيّدة بالوضوء فيكون الوضوء قيدا متقدّما على الواجب ؛ لأنّه يحصل قبل الصلاة وينتهي قبلها أيضا ؛ لأنّ الوضوء عبارة عن الغسلات والمسحات وهي أفعال تحدث وتنتهي ، وليس الوضوء هنا قيدا للوجوب ؛ لأنّ وجوب الصلاة يبدأ من حين الزوال كما هو واضح.

نعم ، لو قلنا بأنّ الصلاة مقيّدة بالحالة المسبّبة عن الوضوء وهي الطهارة فهنا تكون الطهارة شرطا مقارنا للواجب ؛ لأنّ هذه الحالة التي تحدث عن الوضوء تبقى موجودة حال الصلاة ؛ لأنّه لا تجوز الصلاة مع الحدث ولا تصحّ إلا مع الطهارة.

ومن قبيل قيديّة الوضوء أو الغسل بالنسبة للطواف ؛ لأنّه كالصلاة ، ومن قبيل

ص: 134

قيديّة الختان في صحّة الحجّ ؛ فإنّه قيد متقدّم على الحجّ بمعنى أنّه يجب تحقّقه قبل الحجّ الواجب.

وأمّا القيد المقارن للواجب : فهو من قبيل الاستقبال حال الصلاة ، فإنّه يشترط في الصلاة استقبال القبلة ، وهذا القيد يجب تحقّقه من حين الشروع في الصلاة الواجبة إلى حين الفراغ منها ، فهو شرط وقيد مقارن لها ، وهكذا بالنسبة للطهارة التي تحصل بالوضوء أو الغسل أو التيمّم فيما إذا قلنا بأنّ الشرط هو الطهارة لا نفس الأفعال.

وهذان النوعان من القيود - المقارنة والمتقدّمة - سواء كانت راجعة إلى الحكم أو إلى متعلّق الحكم لا إشكال في إمكانهما ووقوعهما أيضا.

أمّا القيود المقارنة للوجوب أو للواجب فالأمر فيها واضح ؛ لأنّ القيد لمّا كان بمثابة العلّة أو جزء العلّة فلا بدّ أن يكون شيء منها مقارنا ومعاصرا لزمان المعلول.

وأمّا القيود المتقدّمة على الوجوب أو الواجب فلم يستشكل فيها أحد سوى صاحب ( الكفاية ) حيث ذهب إلى استحالتها ؛ لأنّ تقدّم العلّة بتمامها على المعلول غير معقول.

وأجيب على ذلك بأنّ هذه القيود قيود معدّة أي أنّها تعدّ لحصول الشيء المترتّب عليها ، وهذه لا يشترط معاصرتها.

والصحيح : أنّ القيود المتقدّمة هي قيود مقارنة أيضا ، ولكن بلحاظ البقاء لا الحدوث ، فهي تحدث قبل الوجوب ولكنّ استمرارها وبقاءها إلى زمان الوجوب أو الواجب ضروري ، وإلا فلو زالت بعد حدوثها انتفى الوجوب أو الواجب.

هذا كلّه مقدّمة لأصل البحث وهو الشرط المتأخّر ، فهل هو معقول أم لا؟ ولذلك قال :

وقد افترض في الفقه أحيانا كون القيد متأخّرا زمانا عن المقيّد ، ومثاله في قيود الحكم قيديّة الإجازة لنفوذ عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف ، ومثاله في قيود الواجب غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحّة صيام النهار المتقدّم ، على قول بعض الفقهاء (1).

ومن هنا وقع البحث في إمكان الشرط المتأخّر وعدمه ، ومنشأ الاستشكال هو :

ص: 135


1- منهم الشيخ الطوسي وابن إدريس ، كما ذكر ذلك في الجواهر 16 : 247.

أنّ الشرط والقيد بمثابة العلّة أو جزء العلّة للمشروط والمقيّد ، ولا يعقل أن تتأخّر العلّة أو شيء من أجزائها زمانا عن المعلول ، وإلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأنّ المتأخّر معدوم في الزمان السابق فكيف يؤثّر في وقت سابق على وجوده؟!

الشرط المتأخّر : هناك بعض الموارد الفقهيّة التي افترض فيها كون القيد أو الشرط متأخّرا زمانا عن المقيّد والمشروط ، وتصويره تارة يكون بلحاظ الوجوب والحكم ، وأخرى بلحاظ الواجب والمتعلّق.

أمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الوجوب والحكم فهو ما يقال : من أنّ عقد الفضولي لا ينفذ ولا يترتّب عليه الأثر المطلوب منه ، وهو الملكيّة والنقل والانتقال إلا إذا أجيز من قبل المالك أو وكيله ، فهنا قيديّة الإجازة اعتبرت شرطا متأخّرا زمانا على عقد الفضولي ، بناء على القول بالكشف لا النقل.

وتوضيحه : أنّنا إذا قلنا بأنّ الإجازة كاشفة كان معنى ذلك أنّ العقد يكون مؤثّرا في ترتيب الأثر ، ويعتبر نافذا من حين صدور العقد فيما إذا تعقّبته الإجازة ، فهي كاشفة عن ذلك ، وهي بهذا اللحاظ تكون شرطا متأخّرا.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الإجازة ناقلة فهذا يعني أنّ ترتّب الأثر يبدأ من حين صدور الإجازة لا من حين صدور العقد ، ولذلك فهي تكون شرطا مقارنا للنفوذ والصحّة وترتّب الأثر ، أي أنّه من حين الإجازة يؤثّر العقد لا قبلها.

وهكذا أيضا بالنسبة لوجوب الصوم على المستحاضة فإنّه مقيّد بالغسل الليلي ، فإذا اغتسلت المستحاضة في الليل كشف ذلك عن أنّ الصوم لليوم السابق كان واجبا عليها من حين طلوع الفجر ، فيكون وجوب الصوم في اليوم السابق مشروطا بالغسل في الليل ، وهذا لا يكون إلا بعد انتهاء الزمان للصوم.

وأمّا تصوير الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب والمتعلّق ، فهو ما يقال : من أنّ صحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق مشروط بالغسل في الليل على قول بعض الفقهاء ؛ لأنّه هنا يوجد قولان :

أحدهما : أنّ غسل الاستحاضة الليلي شرط في صحّة صوم اليوم السابق ، وعلى هذا يكون الغسل الليلي شرطا متأخّرا ؛ لأنّ الواجب وهو الصوم من الفجر إلى الليل قد تحقّق وانتهى زمانه قبل الغسل.

ص: 136

والآخر : أنّ غسل المستحاضة الليلي شرط لصحّة الصوم الآتي لا السابق ، وعليه فيكون الغسل شرطا متقدّما لا متأخّرا.

وعلى كلّ حال فقد وقع البحث في إمكانيّة ومعقوليّة الشرط المتأخّر ، سواء كان راجعا إلى الحكم أم إلى الواجب.

ووجه الاستشكال فيه هو : أنّ الشرط أو القيد بمثابة العلّة للمشروط والمقيّد أو على أقلّ تقدير بمثابة جزء العلّة. ومن الواضح أنّ العلّة لا بدّ وأن تكون متقدّمة ومعاصرة للمعلول ، فإذا كانت العلّة متأخّرة عن المعلول بتمامها أو بجزء من أجزائها فهذا معناه أنّ المعلول قد وجد في زمان لم تكن فيه العلّة موجودة ، وهذا مستحيل ؛ وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : استحالة تأثير المعدوم في الموجود ، فإنّ العلّة حال وجود المعلول كانت معدومة ، فإذا كانت بعد فرض تحقّق وجودها المتأخّر زمانا عن المعلول قد أثّرت في المعلول من حينه ، فهذا معناه أنّ الشرط أو العلّة قد أثر في إيجاد المعلول من حين وجوده ، والحال أنّها معدومة والمعدوم لا يؤثّر حال انعدامه بشيء.

وإذا كانت مؤثّرة في وجود المعلول لا من حين زمان وجوده ، بل من حين زمان وجودها فهذا يعني الانقلاب ؛ لأنّ المعلول قد وقع وتحقّق غير مشروط ولا مقيّد بشيء ، فكيف يكون متأثّرا ومسبّبا عن شيء لاحق؟!

وبتعبير آخر : إنّ الشرط المتأخّر إمّا أن يؤثّر في المشروط أو لا يؤثّر ، فإن لم يكن مؤثّرا فيه فهو خلف كونه شرطا ، فيتعيّن الأوّل ، وحينئذ فهو إمّا أن يكون مؤثّرا في المشروط من حين تحقّق المشروط أو من حين تحقّق الشرط ، وكلاهما مستحيل ؛ لأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق المشروط معناه أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ؛ لأنّ الشرط معدوم حين تحقّق المشروط ؛ ولأنّ تأثير الشرط في المشروط من حين تحقّق الشرط معناه أنّ المشروط الذي تحقّق قبله متأثّر بشيء آخر وهو الشرط وهذا مستحيل ؛ لأنّه لو كان متأثّرا بالشرط ومسبّبا عن الشرط فكيف تحقّق قبل الشرط؟!

وقد أجيب على هذا البرهان : أمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للواجب فبأنّ كون شيء قيدا للواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل بحصّة خاصّة ، وليس القيد علّة أو

ص: 137

جزء العلّة للفعل ، والتحصيص كما يمكن أن يكون بإضافته إلى أمر مقارن أو متقدّم كذلك يمكن أن يكون بأمر متأخّر.

وأمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للحكم فبأنّ الحكم تارة يراد به الجعل وأخرى يراد به المجعول ، أمّا الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديري اللحاظي لا بوجودها الخارجي كما تقدّم (1) ، ووجودها اللحاظي مقارن للجعل.

وأمّا المجعول فهو وإن كان منوطا بالوجود الخارجي لقيود الحكم ، ولكنّه مجرّد افتراض وليس وجودا حقيقيّا خارجيّا ، فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر.

وقد أجيب عن إشكال الاستحالة في الموردين :

أمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الواجب ، كغسل المستحاضة الذي هو شرط متأخّر لصحّة صوم اليوم السابق ، فجوابه أنّ قيود الواجب ترجع إلى التحصيص.

فالفعل الواجب حينما يقيّد بشيء فهذا معناه تحصيص الفعل إلى حصّتين : الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة دون سواها.

ومن الواضح أنّ تحصيص الفعل لا يختلف الحال فيه بين أن يكون بقيد متقدّم أو بقيد مقارن أو بقيد متأخّر ؛ لأنّ العلاقة بين القيد والفعل أو بين الشرط والمشروط هنا ليست هي علاقة العلّة والمعلول أو المؤثّر مع الأثر ، ولذلك لا يرد الإشكال المتقدّم من لزوم تأثير المعدوم في الموجود ، كما إذا فرض أنّ المولى يريد الصلاة مع التصدّق ، فإنّه يمكنه أن يقول : تصدّق ثمّ صلّ أو تصدّق حال الصلاة أو تصدّق بعد الصلاة.

والوجه في ذلك : أنّه يريد الحصّة الخاصّة من الصلاة وهي المقيّدة بالتصدّق ، ممّا يعني تحصيص الصلاة إلى حصّتين الحصّة الواجدة للتصدّق والحصّة الفاقدة له ، والأمر بالحصّة الخاصّة وليس للتصدّق تأثير في تحقّق الصلاة وفي إيجادها أصلا.

وأمّا بالنسبة للإشكال على الشرط المتأخّر الراجع إلى الحكم ، كالإجازة للعقد الفضولي التي هي شرط في صحّة ونفوذ العقد من حينه ، أي من حين صدور العقد على القول بالكشف.

فجوابه : أنّ الحكم تارة يراد به الجعل أي الحكم الإنشائي في عالم الجعل والتشريع

ص: 138


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

الذي يصاغ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، وأخرى يراد به المجعول الفعلي أي الحكم الذي صار فعليّا في الخارج بسبب فعليّة موضوعه وقيوده في الخارج.

وعليه ، فإن أريد من الحكم عالم الجعل فهنا لا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا في الحقيقة ، بل هو شرط مقارن ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم الجعل إنّما يصاغ وينصبّ على موضوعه المفترض والمقدّر الوجود ، ممّا يعني أنّ كلّ ما هو دخيل في الموضوع من قيود وشروط قد لوحظت وافترض وجودها ، فكان الشرط المتأخّر مفترضا وملحوظا في الموضوع حينما جعل الحكم عليه ، وهذا يعني أنّه مقارن للجعل لا متأخّر عن الجعل ، نعم هو متأخّر في الوجود الخارجي إلا أنّ هذا الوجود لا علاقة له بالجعل ؛ لأنّ الجعل عبارة عن الوجود التقديري واللحاظي للحكم مع موضوعه وسائر قيوده وشروطه ، وهي موجودة بالفعل في عالم اللحاظ والتقدير ، وليس شيء منها غير ملحوظ.

وأمّا إن أريد من الحكم عالم المجعول والفعليّة فهنا يكون الشرط المتأخّر متأخّرا حقيقة ؛ وذلك لأنّ الحكم في عالم المجعول لا يصبح فعليّا إلا إذا تحقّقت سائر قيود وشروط موضوعه ، والمفروض أنّ هناك شرطا متأخّرا لم يتحقّق بعد فكيف يكون الحكم فعليّا مع عدم تحقّق ذاك الشرط المتأخّر؟!

والمفروض أنّ الحكم معلول للموضوع وما يرتبط به من قيود وشروط فيأتي الإشكال ، إلا أنّه مع ذلك يمكن دفع الإشكال على أساس أنّ الحكم المجعول ليس حكما حقيقيّا ، وإنّما هو مجرّد أمر اعتباري محض ، وما دام أمرا اعتباريّا لا حقيقة له فلا محذور في إناطته بأمر متأخّر عنه ؛ لأنّ باب التأثير والمؤثّر أو العلّة والمعلول إنّما هو بلحاظ الأمور الحقيقيّة الواقعيّة ، سواء كان عالم واقعها الخارج والتكوين أم عالم الجعل والتشريع ، وكلا هذين الأمرين منتف هنا ؛ لأنّ المجعول أمر افتراضي وهمي اعتباري لا حقيقة ولا واقعيّة له.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المجعول هو نفس الجعل وليس زائدا عنه ؛ لأنّ القضيّة الشرعيّة المؤلّفة من الحكم والموضوع قضيّة واحدة ، ولكن تارة ينظر إليها على أساس الحمل الشائع وأخرى ينظر إليها بالحمل الأوّلي.

فإذا نظر إليها بالحمل الشائع سمّيت بالجعل ، وهي بهذا النظر أمر حقيقي واقعي

ص: 139

في عالم الجعل والتشريع ، وإذا نظر إليها بالحمل الأوّلي سمّيت بالمجعول وهي بهذا النظر أمر اعتباري ؛ لأنّه عبارة عن رؤية الحكم في الخارج على أساس أنّه يجب امتثاله وإطاعته من المكلّف.

وهذا نظير الوجود والإيجاد فإنّهما شيء واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما على أساس ملاحظة الفاعل تارة وعدم ملاحظته أخرى.

وعليه ، فالمجعول ليس إلا تطبيق الجعل حينما يتحقّق موضوعه في الخارج ، فبابه باب التطبيق والامتثال وليس باب التأثير والعلّيّة (1).

والتحقيق : أنّ هذا الجواب وحده ليس كافيا ؛ وذلك لأنّ كون شرط قيدا للحكم والوجوب أو للواجب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم ، وحاصله : أنّ ما كان دخيلا وشرطا في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة يؤخذ قيدا للوجوب ، وما كان دخيلا وشرطا في ترتّب المصلحة على الفعل يؤخذ قيدا للواجب.

والجواب المذكور إنّما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في تحصيص الواجب أو في الوجوب المجعول ، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب في ترتّب المصلحة ووجودها ودخل قيد الوجوب في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، وترتّب المصلحة أمر تكويني ، واتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أمر تكويني أيضا ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر - كغسل المستحاضة في ليلة الأحد - مؤثّرا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت السابق إذا أخذ قيدا للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر - كالغسل المذكور - مؤثّرا في اتّصاف الصوم في يوم السبت بكونه ذا مصلحة إذا أخذ قيدا للوجوب؟

ص: 140


1- نعم ، بناء على مسلك المحقّق النائيني القائل بالفرق بين الجعل والمجعول ، وأنّ المجعول أمر حقيقي غير الجعل فإنّه يتمّ الإشكال ؛ لأنّ الحكم المجعول في الخارج صار مناطا ومشروطا بقيد متأخّر عنه ، فيلزم منه محذور تأثير المتأخّر في المتقدّم أو محذور تأثير المعدوم في الموجود. ومن هنا أنكر الميرزا الشرط المتأخّر لاستحالته في عالم المجعول وإن قبله في عالم الجعل ، ومن ثمّ التزم بإرجاع الشرط المتأخّر إلى الشرط المقارن في كلّ الموارد التي ظاهرها كون الشرط متأخّرا.

والتحقيق أن يقال : إنّ الجواب المذكور وإن كان تامّا إلا أنّه لا يحلّ تمام المشكلة ؛ وذلك لأنّ إشكال استحالة الشرط المتأخّر يمكن أن يثار على ثلاثة مستويات :

الأوّل : بلحاظ عالم الحكم والوجوب ، فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الوجوب كيف يمكن أن يتحقّق مع كونه مشروطا بأمر متأخّر ، والحال أنّ الوجوب لا يثبت ولا يتحقّق إلا بعد تحقّق موضوعه وسائر القيود والشروط المأخوذة في الموضوع؟

وهذا جوابه ما تقدّم من التفرقة في الحكم بين عالم الجعل الذي هو أمر حقيقي وبين عالم المجعول الذي هو أمر اعتباري ، وإرجاع الشرط المتأخّر إلى كونه مقارنا بلحاظ عالم الجعل ، والالتزام بكونه شرطا متأخّرا بلحاظ عالم المجعول ، ولكنّه لا يضرّ ما دام أمرا اعتباريّا ؛ لأنّه سهل المئونة.

الثاني : بلحاظ الواجب : فيقال في تقريب الإشكال : إنّ الواجب معلول للوجوب بمعنى أنّ الوجوب هو المؤثّر في إيجاد الواجب ، فلو كان هناك شرط متأخّر عنه لزم كون المتأخّر مؤثّرا في المتقدّم ، فيلزم منه تأثير المعدوم في الموجود وهو محال.

وهذا جوابه ما تقدّم من أنّ أخذ شرط أو قيد بلحاظ الواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل الواجب إلى حصّتين ، والأمر متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وحينئذ لا استحالة في كون القيد متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ؛ لأنّ التحصيص ليس بابه باب التأثير والعلّيّة.

الثالث : بلحاظ عالم الملاك والمصلحة : فإنّه تقدّم فيما سبق أنّ أخذ قيد في الواجب أو في الوجوب ليس جزافا ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدّم من أنّه إذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى أصل اتّصاف الفعل بالمصلحة فيكون قيدا في الوجوب ؛ لأنّه من دون القيد لا مصلحة ولا ملاك ومع عدم المصلحة والملاك لا وجوب ، وإذا كان القيد أو الشرط راجعا إلى ترتّب المصلحة واستيفائها فيكون قيدا للواجب ، بمعنى أنّ المصلحة الموجودة لا يمكن تحقّقها ولا يمكن استيفاؤها إلا مع تحقّق هذا القيد أو الشرط ؛ ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت والمصلحة موجودة ولكن ترتّبها على الفعل مشروط بذاك الأمر والقيد.

وبناء على ذلك يقال : إنّ ثبوت أصل المصلحة أو ترتّب استيفاء المصلحة من الأمور التكوينيّة الحقيقيّة وليست أمرا اعتباريّا وهميّا ، فكيف يعلّق ذلك على قيد أو شرط متأخّر؟ إذ تعليق أصل المصلحة أو ترتّبها على أمر متأخّر يلزم منه أن يكون هذا

ص: 141

الشيء المتأخّر مؤثّرا في الأمر المتقدّم ، ممّا يعني تأثير المعدوم في الموجود وهو مستحيل؟

وهذا الإشكال لم ينظر إليه الجواب المتقدّم ، وإنّما اقتصر النظر على حلّ الإشكال على المستويين الأوّليّين ، أي على مستوى دخالة الشرط في الوجوب أو الواجب ، مع أنّه قد ظهر ممّا بيّناه أنّ الشرط إنّما يؤخذ في الوجوب باعتباره شرطا من شروط الاتّصاف ، وإنّما يؤخذ في الواجب باعتباره شرطا من شروط الترتّب. وعليه ، فيمكننا صياغة الإشكال على مستوى الملاك والمصلحة بلحاظ شروط الاتّصاف تارة وشروط الترتّب أخرى.

فنقول - مع أخذ غسل المستحاضة تارة قيدا للواجب وأخرى قيدا للوجوب - : إنّ غسل المستحاضة في ليلة الأحد مثلا إذا كان شرطا في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت المتقدّم - فيما إذا كان شرطا للواجب - فهذا معناه أنّ ترتّب المصلحة - والتي هي من الأمور التكوينيّة الواقعيّة على الصوم المتقدّم والذي انتهى - مشروط بالغسل المتأخّر ، فكان الغسل المتأخّر مؤثّرا في ترتّب هذه المصلحة مع كون الفعل الذي تترتّب عليه المصلحة قد تمّ وانتهى ، فيؤدّي لا محالة إلى أنّ المعدوم قد أثّر في الموجود ، أو إلى أنّ العلّة متأخّرة عن المعلول وهو غير معقول.

وهكذا فيما لو كان غسل المستحاضة المذكور شرطا في اتّصاف الفعل بالمصلحة - فيما إذا كان شرطا للوجوب - فإنّه يعني أنّ الصوم يوم السبت لا يتّصف بالمصلحة إلا بعد الغسل المتأخّر ، مع أنّ المصلحة أمر تكويني واقعي مترتّب على الصوم الذي تمّ وانتهى ، فكيف تناط المصلحة بالأمر المتأخّر؟ إذ يلزم منه أن يكون الأمر المتأخّر مؤثّرا في أصل الاتّصاف في السابق مع كونه معدوما حال الفعل ، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود ، أو يلزم منه تأخّر العلّة عن المعلول وهو مستحيل.

ومن هنا قد يقال باستحالة الشرط المتأخّر ، ويلتزم بتأويل الموارد التي توهم ذلك ، بتحويل الشرطيّة من أمر متأخّر إلى أمر مقارن ، فيقال مثلا : إنّ الشرط في نفوذ عقد الفضول - على الكشف - ليس هو الإجازة المتأخّرة ، بل كون العقد ملحوقا بالإجازة. والشرط في صوم المستحاضة يوم السبت كونه ملحوقا بالغسل ، وهذه صفة فعليّة قائمة بالأمر المتقدّم.

ص: 142

تقدّم أنّ الإشكال يمكن إثارته على مستوى الملاك والمصلحة لأنّه الأساس ، وبما أنّ شيئا من الجواب المتقدّم لا يفي بحلّه فيقال باستحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الاتّصاف أو الترتّب الراجعين إلى أصل المصلحة أو إلى ترتّبها يرتبطان بأمر واقعي حقيقي هو لا يمكن أن يكون منوطا ومسبّبا عن أمر متأخّر ؛ لأنّه يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود أو تأخّر العلّة عن المعلول.

ومن هنا التزموا باستحالة الشرط المتأخّر ، وأوّلوا الموارد التي ظاهرها إناطة الوجوب أو الواجب بأمر متأخّر بما يرجع إلى أمر مقارن ، من قبيل عنوان التعقّب أو اللحوق.

فمثلا يقال في اشتراط صحّة ونفوذ عقد الفضولي وترتّب الأثر عليه - وهو الملكيّة والنقل والانتقال بالإجازة المتأخّرة - : إنّ ما هو شرط ليس نفس الإجازة وإنّما الشرط في الحقيقة هو عنوان التعقّب واللحوق ، بمعنى أنّ عقد الفضولي الملحوق والمتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره وينفذ ، وعنوان اللحوق والتعقّب مقارن لصدور العقد من الفضولي يكشف عنه بالإجازة.

وهكذا الحال بالنسبة لشرطيّة الغسل الليلي لصحّة صوم المستحاضة في اليوم السابق ، فإنّ الشرط ليس هو عنوان الغسل بنفسه ، وإنّما الشرط هو لحوق الصوم بالغسل أو تعقّب الصوم بالغسل ، وهذا الشرط أي اللحوق أو التعقّب مقارن للصوم والغسل كاشف عنه فقط (1).

ص: 143


1- هذا ، ولكنّ الصحيح هو أنّ الإشكال هنا غير وارد أيضا ، ويمكن دفعه بأحد أمور ثلاثة : الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : من أنّ الإشكال هنا نشأ من أخذ الملاك على أساس أنّه المصلحة ، والتي هي أمر تكويني ، ولكن يمكننا أن نفترض الملاك شيئا آخر وهو عنوان الحسن والقبح ، وهما أمران عقليّان وليسا أمرين تكوينيّين خارجيّين ليرد الإشكال. وحينئذ فالعقل ينتزع عنوان الحسن والقبح عن الشيء وشرطه ، وهذا الانتزاع العقلي لا فرق فيه بين أن يكون الشرط متقدّما أو مقارنا أو متأخّرا ، فإنّ المكلّف إذا حقّق الشرط المطلوب منه كان فعله حسنا ، وإذا تخلّف عنه كان قبيحا. الثاني : ما يذكره السيّد الشهيد من أنّ القيود والشروط ليست دائما سببا وعلّة ومؤثّرة في إيجاد أصل المصلحة ، أو في ترتّب استيفاء المصلحة من الفعل ليلزم الإشكال ، بل يمكن أن تكون بأحد نحوين آخرين : أحدهما : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات المعدّة ..... والمهيّئة كتحضير الماء من أجل الشرب عند العطش. والآخر : أن يكون القيد أو الشرط من المقدّمات التي تحقّق وجود العلّة وعدمها يوجب انعدام العلّة ، كشرطيّة عدم التعرّض للبرد بعد تناول الدواء للمريض ، فإنّ المصلحة تترتّب بتناول الدواء والشرط المتأخّر كان لأجل أنّ عدمه يوجب انعدام العلّة أو وجود المانع منها. الثالث : ما يذكره السيّد الأستاذ من أنّ شروط الوجوب ليست دائما عبارة عن شروط الاتّصاف ، بل قد تكون من شروط الترتّب ولكن غير الاختياريّة وغير المقدورة ، كما تقدّم سابقا ، كما إذا أخذت القدرة على الصوم في كلّ آن آن من آنات النهار شرطا في وجوب الصوم في الآن الأوّل ، فإنّها شرط متأخّر ولكنّها ليست من شروط الاتّصاف ، وإنّما هي من شروط التحقّق والترتّب ولكنّها راجعة إلى الوجوب ؛ لأنّها غير مقدورة وغير اختياريّة ، فإنّ عنوان القدرة ليس اختياريّا للمكلّف ؛ لأنّ الوجوب من الآن مشروط بالقدرة على الصوم في الآن الآتي وهذا غير اختياري له من الآن ولكنّه كان شرطا للوجوب ، وهذا معناه أنّ شروط الوجوب لا يتحتّم إرجاعها إلى المصلحة دائما. وبهذا يظهر أنّ الشرط المتأخّر ممكن ولا إشكال فيه لا على مستوى الحكم ولا على مستوى الواجب ولا على مستوى المصلحة والملاك.

وثمرة البحث في الشرط المتأخّر إمكانا وامتناعا تظهر من ناحية في إمكان الواجب المعلّق وامتناعه ، فقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ إمكان الواجب المعلّق يرتبط بإمكان الشرط المتأخّر.

هناك ثمرتان يمكن ترتّبهما على هذا البحث :

الثمرة الأولى : ثمرة أصوليّة تظهر في الواجب المعلّق ويتّبعه في المقدّمات المفوّتة ، فإنّنا إذا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فسوف يكون الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، وبه تحلّ مشكلة المقدّمات المفوّتة ، وأمّا إذا قلنا باستحالته فسوف يكون الواجب المعلّق مستحيلا أيضا ، وتوضيح ذلك ضمن المثال التالي :

إذا استطاع المكلّف للحجّ فقد صار الوقوف بعرفات واجبا عليها أيضا ، إلا أنّ زمان الوقوف بعرفات يبدأ من حين حلول ظهر اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فكان وجوب الوقوف ثابتا في زمان متقدّم ، بينما زمان الواجب متأخّر وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

وحينئذ فإن قلنا بإمكان الشرط المتأخّر كان الواجب المعلّق ممكنا أيضا ، والوجه في

ص: 144


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

هذا الترابط بينهما هو أنّ وجوب الحجّ على المستطيع مشروط بأمر متأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط المعتبرة.

فإذا توفّرت هذه الشروط وجاء اليوم المذكور كشف ذلك عن كون الحجّ ثابتا على المكلّف من حين الاستطاعة.

وإذا اختلّت تلك الشروط كلاّ أو بعضا كشف ذلك عن عدم وجوب الحجّ عليه من أوّل الأمر ، فإذا كان الشرط المتأخّر للوجوب ممكنا كان القول بوجوب الحجّ على المستطيع المشروط بالشرط المتأخّر وهو مجيء يوم التاسع من ذي الحجّة مع توفّر سائر الشروط الأخرى ممكنا ، ممّا يعني أنّ الوجوب ثابت في السابق ولكن زمان الواجب لا يثبت إلا بعد مجيء اليوم التاسع فكان معلّقا على ذلك.

وأمّا إذا قلنا باستحالة الشرط المتأخّر للوجوب فسوف لن يكون وجوب الحجّ على المستطيع واجبا من حين حدوث الاستطاعة ، بل من حين مجيء اليوم التاسع أيضا ، فإذا حلّ اليوم التاسع وكان لا يزال مستطيعا فقد وجب عليه الحجّ من الآن ، فيتقارن وجوب الحج ، زمانا مع زمان الواجب ، وبالتالي لا يكون الواجب معلّقا.

وتظهر الثمرة بينهما في لزوم تهيئة المقدّمات من السفر والكون في الميقات والإحرام وسائر ما يرتبط بالحجّ قبل زوال اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّه على القول بإمكان الشرط المتأخّر وبالتالي إمكان الواجب المعلّق فسوف يكون المكلّف مسئولا عن تلك المقدّمات ؛ لأنّ الوجوب ثابت قبل زمان الواجب.

وأمّا على القول بالاستحالة فسوف لا يكون مسئولا عنها قبل ذلك الزمان إلا ما كان منها داخلا في عنوان المقدّمات المفوّتة كما سيأتي.

وتظهر من ناحية أخرى فيما إذا دلّ الدليل على شرطيّة شيء - كرضا المالك الذي دلّ الدليل على شرطيّته في نفوذ البيع - وتردّد الأمر بين كونه شرطا متقدّما أو متأخّرا ، فإنّه على القول بامتناع الشرط المتأخّر يتعيّن الالتزام بكونه شرطا مقارنا ، فيقال في المثال بصحّة عقد الفضولي على نحو النقل ؛ لأنّ الحمل على الشرط المتأخّر إن كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخّر فهو غير معقول ، وإن كان بالتأويل فهو خلاف ظاهر الدليل ؛ لأنّ ظاهره شرطيّة نفس الرضا لا كون العقد ملحوقا به.

ص: 145

وأمّا على الثاني فلا بدّ من اتّباع ما يقتضيه ظاهر الأدلّة أي شيء كان.

الثمرة الثانية : ثمرة فقهيّة تظهر فيما إذا دلّ الدليل الشرعي على أخذ شيء شرطا في الوجوب أو في الواجب ، وتردّد أمر هذا الشرط بين كونه شرطا متأخّرا أو شرطا متقدّما أو مقارنا ، كما هو الحال في صحّة ونفوذ عقد الفضولي المشروط برضا المالك وإجازته ، فإنّ الإجازة هنا شرط لترتّب الحكم وهو الملكيّة والنقل والانتقال ، وكما في صحّة صوم المستحاضة المشروط بالغسل الليلي فإنّ الغسل المتأخّر شرط لصحّة الواجب وهو الصوم المتقدّم.

ففي مثل هذه الموارد الفقهيّة وما شابهها تظهر الثمرة العمليّة على القول بالامتناع أو بالإمكان.

وتوضيحه : إنّنا إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ففي مثال عقد الفضولي وإجازة المالك أو رضاه سوف يبنى على كون الإجازة ناقلة لا كاشفة ، وبالتالي سوف يكون الشرط مقارنا لا متأخّرا.

والوجه في ذلك : أنّ البناء على استحالة الشرط المتأخّر لا يتناسب إلا مع القول بكون الإجازة ناقلة ؛ لأنّ معنى النقل كون الإجازة من حين صدورها يترتّب عليها الملكيّة والنقل والانتقال ، فهي تنقل العقد الذي صدر في الزمان السابق إلى زمان صدورها ، وبالتالي يترتّب الأثر المطلوب من العقد من حين الإجازة لا من حين صدوره في الزمان السابق.

وأمّا لو أردنا القول بأنّ الإجازة كاشفة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر فهذا لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ معنى الكشف هو أنّ الإجازة تكشف عن كون الأثر وهو الملكيّة مترتّب على العقد من حين صدور العقد ، أي في الزمان السابق لا من حين الإجازة ، وهذا معناه أنّ ترتّب الملكيّة في الزمان السابق كان مشروطا بشرط متأخّر وهو الإجازة التي يتأخّر زمانها عن زمان العقد ، والحال أنّ الشرط المتأخّر قد بنينا على استحالته.

ولا يقال : إنّنا بالإمكان التوفيق بين القول بكاشفيّة الإجازة مع البناء على استحالة الشرط المتأخّر ، وذلك بأن يلتزم بالتأويل فيقال : إنّ الشرط ليس هو الإجازة والتي هي شرط متأخّر ، بل الشرط هو لحوق العقد بالإجازة أو تعقّبه بها ، واللحوق والتعقّب

ص: 146

عنوانان انتزاعيّان ينتزعهما العقل من الطرفين ، أي العقد والإجازة ، فهما عنوانان مقارنان لا متأخّران ، فيكون العقد مؤثّرا في ترتّب الملكيّة من حين صدوره ، وشرطه ليس متأخّرا بل هو مقارن ؛ لأنّه عند ما تصدر الإجازة سوف يحكم العقل بثبوت وصف اللحوق أو التعقّب ، إلا أنّ هذا الوصف يتّصف به العقد من حين صدوره ؛ لأنّ العقل يحكم بأنّ العقد الملحوق أو المتعقّب بالإجازة يترتّب عليه أثره ، وهذا اللحوق قد ثبت بصدور الإجازة فعلا.

فإنّ هذا القول وإن كان نظريّا ممكنا إلا أنّه لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّه مخالف لظواهر الأدلّة التي دلّت على مثل هذا الشرط ؛ فإنّ ظاهرها أخذ نفس عنوان الشرط شرطا لا أخذ شيء آخر.

هذا كلّه إذا بنينا على استحالة الشرط المتأخّر ، وأمّا إذا قلنا بإمكانه - كما هو الصحيح - فإنّ الإجازة المتأخّرة عن صدور العقد كما يمكن أن تكون كاشفة يمكن أيضا أن تكون ناقلة ؛ إذ لا استحالة في شيء منهما ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى إثبات نكات فنيّة أو استظهارات فقهيّة من الأدلّة.

* * *

ص: 147

ص: 148

زمان الوجوب والواجب

اشارة

ص: 149

ص: 150

زمان الوجوب والواجب

[ أو الواجب المعلّق ]

لا شكّ في أنّ زمان الوجوب لا يمكن أن يتقدّم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام في أنّه هل يمكن أن يبدأ قبله أو لا؟

ومثاله : أن يفترض أنّ وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله ، غير أنّ زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.

تمهيد : يمكن بالتحليل العقلي افتراض زمان الوجوب وزمان الواجب على أقسام :

الأول : أن يكون زمان الوجوب متقدّما بكامله على زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه ؛ لأنّ المحرّك والباعث على الامتثال إنّما هو الوجوب ، فإذا كان الوجوب فعليّا في زمان سابق ففي الزمان اللاحق يكون قد انتهت فعليّته ، فلا محرّكيّة ولا باعثيّة للمكلّف نحو إيجاد الفعل ، كما إذا فرضنا أنّ زمان الوجوب كان في الساعة الواحدة بينما زمان الواجب هو في الساعة الثانية ، والمفروض أنّه ينتهي قبل مجيء الساعة الثانية.

الثاني : أن يكون زمان الوجوب متأخّرا بكامله عن زمان الواجب ، وهذا مستحيل وقوعه أيضا لنفس ما ذكر في القسم الأوّل ، ومثاله عكس ما افترضناه في المثال السابق.

الثالث : أن يكون زمان الوجوب متطابقا مع زمان الواجب ، وهذا لا إشكال في إمكانه ووقوعه وهو ما يسمّى بالمنجّز ، ومثاله زوال الشمس فإنّه زمان الوجوب وزمان الواجب أيضا ، فإذا زالت الشمس صار الوجوب فعليّا وصار الواجب فعليّا أيضا.

ص: 151

الرابع : أن يكون زمان الوجوب متقدّما على زمان الواجب ولكنّه يستمرّ إلى حين حلول زمان الواجب أيضا ، بمعنى أنّ حدوثه متقدّم ولكنّه مستمرّ بقاء ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق ، وقد وقع الكلام في إمكانه ووقوعه.

ومثاله ما إذا فرض أنّ وجوب صيام شهر رمضان زمانه هو ثبوت الهلال بينما زمان الصوم الواجب إنّما هو من حين طلوع الفجر ، ومثاله أيضا وجوب الحجّ فإنّه يبدأ من حين الاستطاعة في أشهر الحجّ ، ولكنّ زمان الواجب أي الإتيان بالمناسك إنّما هو اليوم التاسع من ذي الحجّة.

والحاصل : أنّه يوجد قسمان من الواجب :

أحدهما : الواجب المنجّز : وهو ما كان الواجب فعليّا عند فعليّة وجوبه.

والآخر : هو الواجب المعلّق : وهو ما كان متأخّرا زمانا عن زمان فعليّة وجوبه حدوثا ، وإن كان يعاصره ويقارنه بقاء.

وقد ذهب جملة من الأصوليّين كصاحب ( الفصول ) (1) إلى إمكان ذلك ، وسمّي هذا النحو من الوجوب بالمعلّق تمييزا له عن الوجوب المشروط ، فكلّ منهما ليس ناجزا بتمام المعنى ، غير أنّ ذلك في المشروط ينشأ من إناطة الوجوب بشرط ، وفي المعلّق من عدم مجيء زمان الواجب.

أوّل من قال بفكرة الواجب المعلّق وإمكانه هو صاحب ( الفصول ) ، حيث قسّم الواجب إلى أقسام ثلاثة :

1 - أن يكون القيد راجعا إلى الوجوب فيكون الوجوب مشروطا ، وهو ما يسمّى بالواجب المشروط ، وقد تقدّم بيانه سابقا.

2 - أن يكون القيد راجعا للواجب بنحو يجب تحصيله عند فعليّة الوجوب ، وهو ما يسمّى بالواجب المنجّز ، كما في قيد الطهارة الراجع إلى الصلاة ، فإنّه يصبح فعليّا عند فعليّة الوجوب أي عند زوال الشمس مثلا.

3 - أن يكون القيد راجعا للواجب ولكن لا يجب تحصيله ، إمّا لكونه غير اختياري للمكلّف ، وإمّا لأنّ التقييد به هو أنّه إذا حصل هذا القيد فيكون الواجب فعليّا ، وهذا ما يسمّى بالواجب المعلّق.

ص: 152


1- الفصول : 79.

ومثاله كما تقدّم من وجوب الإتيان بالمناسك على من وجب عليه الحجّ لكونه مستطيعا ، ولكن هذا الواجب مقيّد بحلول يوم التاسع من ذي الحجّة وهو غير اختياري للمكلّف ، فإنّ هذا الزمان وإن كان حصوله حتميّا إلا أنّه ليس بيد المكلّف.

ثمّ إنّ صاحب ( الفصول ) قد ميّز بين الواجب المعلّق والوجوب المشروط ، فقال : إنّ هذين النحوين وإن كانا يشتركان في عدم التنجيز والفعليّة إلا أنّهما يختلفان في منشأ ذلك ، ففي الوجوب المشروط لا تكون هناك فعليّة من جهة أنّ الوجوب نفسه قد أنيط بقيد ، فما لم يتحقّق القيد لا يكون الوجوب فعليّا وبالتالي لا فعليّة للواجب ؛ بينما في الواجب المعلّق تكون فعليّة الواجب منتفية بسبب عدم مجيء زمانه مع كون الوجوب فعليّا فيه.

فوجوب الحجّ مثلا لا يتحقّق ولا يكون فعليّا إلا بتحقّق الاستطاعة ، وأمّا قبل الاستطاعة فكما لا فعليّة للوجوب لا فعليّة للواجب ولا يكون منجّزا على المكلّف ، بينما إذا تحقّقت الاستطاعة صار وجوب الحجّ فعليّا إلا أنّ الإتيان بالأعمال والمناسك موقوف على حلول اليوم التاسع من ذي الحجّة ، فالواجب معلّق وليس فعليّا وإن كان وجوبه فعليّا (1).

فإن قيل : إذا كان زمان الواجب متأخّرا ولا يبدأ إلا عند طلوع الفجر فما الداعي للمولى إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوبا معطّلا عن الامتثال؟ أو ليس ذلك لغوا؟!

أشكل على القول بإمكان الواجب المعلّق باللغويّة ؛ وذلك لأنّ جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب لا فائدة منه ولا أثر عملي له ؛ لأنّه سواء كان مجعولا وفعليّا قبله أم من حين حلول زمان الواجب ، فالمكلّف ليس مسئولا عن الإتيان بالواجب ولا مطالبا بالامتثال إلا بعد مجيء زمان الواجب لا قبله.

ص: 153


1- هذا ، وينبغي التنبيه هنا على أنّ مصطلح الواجب المشروط والواجب المعلّق هنا يختلفان عنهما عند الشيخ الأنصاري ، فإنّه لمّا أنكر الوجوب المشروط ذهب إلى أنّ القيود والشروط كلّها ترجع إلى المادّة ، أي إلى متعلّق الوجوب وهو الواجب ، فالواجب يكون مشروطا بينما الوجوب فعلي ، ولكنّه بدلا من أن يسمّيه الواجب المعلّق سمّاه الواجب المشروط ، فاصطلاح الواجب المشروط عنده هو نفسه الواجب المعلّق عندنا ، بينما اصطلاح الواجب المشروط عندنا هو عبارة عن الوجوب المشروط الذي أنكره الشيخ.

ففي المثال المذكور ما دام الصوم لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر فما هي الفائدة من جعل وجوبه من حين رؤية الهلال؟ لأنّه ما دام لا يطالب بالصوم من حين رؤية الهلال فليكن الوجوب من حين طلوع الفجر.

كان الجواب : أنّ فعليّة الوجوب تابعة لفعليّة الملاك ، أي لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتّصف الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعلي ، فإذا افترضنا أنّ طلوع الفجر ليس من شروط الاتّصاف بل من شروط الترتّب وأنّ ما هو من شروط الاتّصاف طلوع هلال الشهر فقط ، فهذا يعني أنّه حين طلوع الهلال يتّصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة فيكون الوجوب فعليّا وإن كان زمان الواجب مرهونا بطلوع الفجر ؛ لأنّ طلوع الفجر دخيل في ترتّب المصلحة.

ولفعليّة الوجوب عند طلوع الهلال آثار عمليّة على الرغم من عدم إمكان امتثاله ؛ وذلك لأنّه من حين يصبح فعليّا تبدأ محرّكيّته نحو المقدّمات ، وتبدأ مسئوليّة المكلّف عن تهيئة مقدّمات الواجب.

والجواب عن الإشكال المتقدّم يرجع إلى أمرين :

الأوّل : ما ذكر في الإشكال من أنّ المولى لما ذا يجعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب ، مع أنّه لا امتثال له في حينه ، وإنّما يبقى معطّلا إلى حين مجيء زمان الواجب؟

وهذا جوابه مرتبط بالملاك ، فمتى كان الملاك فعليّا صار الوجوب فعليّا؟!

والوجه في هذا الارتباط هو ما تقدّم سابقا من أنّ مبادئ الحكم عبارة عن الملاك والإرادة ، فإذا كان في الفعل مصلحة أكيدة ملزمة فسوف يحصل شوق ومحبوبيّة وإرادة مولويّة لجعله على ذمّة المكلّف ، ولذلك يتّصف بالوجوب هذا في عالم الثبوت ، ثمّ المولى يبرز هذا إلى عالم الإثبات فيعتبر الفعل على ذمّة المكلّف عن طريق صياغة إنشائيّة تقنينيّة.

وعليه ، فإذا كان الفعل ذا مصلحة اتّصف بالوجوب فعلا واستحقّ ذلك.

ففي مقامنا إذا قلنا بأنّ طلوع هلال شهر رمضان من شروط الاتّصاف وأنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، كان معنى ذلك أنّ طلوع الهلال قيد في الوجوب بينما طلوع الفجر قيد في الواجب ، كما تقدّم سابقا من أنّ كلّ شروط الاتّصاف تكون

ص: 154

شروطا وقيودا في الوجوب بخلاف قيود الترتّب ، فإنّ ما كان منها اختياريّا فهو من شروط الترتّب وما لم يكن اختياريّا كان من قيود الواجب والوجوب معا.

ومن هنا فإذا أهلّ هلال شهر رمضان فهذا معناه أنّ قيد الاتّصاف والوجوب صار فعليّا في الخارج ، ممّا يعني أنّ الملاك والمصلحة صارت فعليّة في الخارج أيضا ، وحينئذ لن يكون هناك ما يمنع من اتّصاف الفعل أي الصوم في النهار بالوجوب من حين طلوع الهلال ، وإن كان زمانه لا يبدأ إلا من حين طلوع الفجر باعتبار أنّ طلوع الفجر من شروط الترتّب ، أي من شروط ترتّب الملاك والمصلحة على الفعل واستيفائها.

والحاصل : أنّ الداعي الذي يجعل المولى هذا الفعل واجبا وإن كان زمان الواجب لم يتحقّق بعد هو كون الفعل قد اتّصف بالمصلحة والملاك بالفعل ؛ لأنّ قيودهما وشروطهما قد تحقّقت في الخارج ، ومع كون الملاك فعليّا سوف يكون الوجوب فعليّا ؛ للارتباط والتلازم بينهما ثبوتا في عالم الجعل والشوق والإرادة والمحبوبيّة.

الثاني : ما ذكر في الإشكال من لغويّة جعل الوجوب فعليّا قبل زمان الواجب.

وهذا جوابه : أنّ الواجب وإن كان معطّلا حين فعليّة الوجوب ومرهونا بمجيء زمانه إلا أنّه مع ذلك لا لغويّة من جعل الوجوب ، بل هناك فائدة وثمرة عمليّة مهمّة عليه ، وهي تخريج وجوب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة ولزوم تهيئة المقدّمات التي يحتاجها الواجب عند حلول زمانه ، بحيث إنّه لو لم تكن موجودة قبله لم يتمكّن المكلّف من امتثال الواجب.

فإنّنا إذا قلنا بفعليّة الوجوب قبل زمان الواجب ، وكان للواجب مقدّمات يفوت بتركها وعدم تحصيلها قبله كان المكلّف مسئولا عن إيجادها وتوفيرها ، وهذه المسئوليّة ناشئة من الوجوب الفعلي الثابت من قبل ، بينما إذا لم نقل بفعليّة الوجوب من حينه وإنّما يكون فعليّا عند مجيء زمان الواجب ، فهذه المقدّمات التي يفوت الواجب بتركها كيف يمكننا إلزام المكلّف بها؟ وكيف يمكننا إدخالها في عهدته ومسئوليّته قبل الوجوب؟ إذ المفروض أنّ المحرّك نحوها إنّما هو الوجوب وهو غير موجود وليس فعليّا قبلها.

إذا فهناك ثمرة علميّة وهي تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه لا إشكال في لزوم تحصيلها ، وأمّا الإشكال فيما هو المحرّك والداعي والباعث لذلك ، فإنّه على القول

ص: 155

بالواجب المعلّق كان الجواب واضحا ، وهو أنّ الوجوب الفعلي الثابت قبل زمان الواجب هو المحرّك نحوها ، بينما على إنكار الواجب المعلّق يحتاج تخريجها إلى حلّ آخر وقد لا يكون موجودا أو مقبولا.

وقد اعترض على إمكان الواجب المعلّق باعتراضين :

الأوّل : أنّ الوجوب حقيقته البعث والتحريك نحو متعلّقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلي وإلا لكان الانبعاث والامتثال ملازما له ؛ لأنّ البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأني أي أنّه حكم قابل للباعثيّة ، وقابليّة البعث تلازم قابليّة الانبعاث ، فحيث لا قابليّة للانبعاث لا قابليّة للبعث فلا وجوب. ومن الواضح أنّه في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابليّة للانبعاث فلا بعث شأني ، وبالتالي لا وجوب.

وهنا يوجد اعتراضان على القول بإمكان الواجب المعلّق :

الاعتراض الأوّل : أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو متعلّقه ، فالشارع عند ما يجعل الوجوب على فعل ويعتبر ذاك الفعل واجبا على المكلّف فهو في الحقيقة يريد أن ينشأ ويجعل ما يحرّك المكلّف نحو الامتثال والإطاعة ، فبجعله للوجوب يكون قد جعل الباعث والمحرّك حقيقة.

والوجه في هذا هو أنّ الشخص عند ما يريد شيئا فإمّا أن يقوم بنفسه ويتحرّك نحو تحصيله وإيجاده وهذا ما يسمّى بالإرادة التكوينيّة ، وإمّا أن يحرّك غيره ويبعثه نحو تحصيل مراده وذلك بأمره والطلب منه وهذا ما يسمّى بالإرادة التشريعيّة ، فإذا أراد شرب الماء فإمّا أن يذهب بنفسه لتحصيل الماء ، وإمّا أن يأمر عبده ويطلب منه تحضير الماء ، فهو بأمره هذا قد حرّك عبده وبعثه وأرسله نحو تحقيق المطلوب ، ولذلك قيل أنّ الطلب سعي نحو المقصود.

وعليه ، فبما أنّ حقيقة الوجوب هي البعث والتحريك نحو المتعلّق والمطلوب ، فحيث لا توجد المحرّكيّة والباعثيّة لا يكون هناك وجوب ، ولكن هناك بعث فعلي وهناك بعث شأني أي قابليّة للبعث ، والتلازم بين البعث والتحريك وبين الوجوب إنّما هي في البعث والتحريك الشأني لا الفعلي.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ثبت الوجوب وصار فعليّا فهو يحدث ويسبّب البعث

ص: 156

والتحرّك الشأني أي يحدث في نفس المكلّف المأمور القابليّة للتحرّك والبعث ، لا أنّه يحدث التحرّك والبعث الفعلي وإلا لصار المكلّف مجبرا على التحرّك مع أنّنا نراه مختارا إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ممّا يعني أنّ المقتضي للتحرّك يوجد بصيرورة الوجوب فعليّا ، وأمّا فعليّة التحرّك والانبعاث فهي راجعة إلى اختيار وإرادة المكلّف نفسه ، ومن هنا استحقّ الثواب أو العقاب على الفعل أو الترك.

وعليه ، فإذا كانت هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث نحو الفعل كان البعث والتحريك ثابتا ، وإذا لم تكن هناك قابليّة للتحرّك والانبعاث كان البعث والتحريك منتفيا ؛ إذ لا معنى ولا فائدة من ثبوت البعث في مورد لا يقبل الانبعاث ؛ لأنّه ضرب من اللغو والعبث وإذا انتفى البعث والتحريك انتفى الوجوب ؛ لأنّه لا معنى لبقاء الوجوب فاقدا لروحه وحقيقته.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفترة الواقعة بين زمان الوجوب وزمان الواجب ليست فيها قابليّة للانبعاث والتحرّك ؛ لوضوح أنّ المكلّف ليس مسئولا ولا مطالبا بالواجب في هذه الفترة ، ممّا يعني أنّ الوجوب ليس فيه بعث ولا تحريك نحو متعلّقه في هذه الفترة ، فلا معنى لثبوته إذا ؛ لأنّه فاقد لحقيقته وروحه.

ويرد عليه : أنّ الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري وليس متقوّما بالبعث الفعلي أو الشأني ، وإنّما المستظهر من دليل جعل الوجوب أنّه قد جعل بداعي البعث والتحريك ، والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أنّ المقصود من جعل الحكم إعداده لكي يكون محرّكا شأنيّا خلال ثبوته ، ولا دليل على أنّ المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.

والجواب عن هذا الاعتراض هو أن يقال : إنّ حقيقة الوجوب وروحه ليست هي البعث والتحريك سواء الشأني أم الفعلي ، وإنّما حقيقة الوجوب هي ذلك الأمر الاعتباري الذي يعتبره الشارع في عالم الجعل والتشريع والثبوت ، أي جعل الفعل على ذمّة المكلّف ، فإنّه تقدّم في الحديث عن مبادئ الحكم أنّ الفعل إذا كان ذا مصلحة وملاك فسوف يحدث شوق وإرادة مولويّة متناسبة مع تلك المصلحة ، وبعد ذلك يجعل الشارع هذا الفعل على ذمّة المكلّف ويدخله في عهدته فيما إذا كانت

ص: 157

المصلحة ملزمة ، وهذا الاعتبار يبرزه الشارع ويصوغه في عالم الإثبات والدلالة بنحو الوجوب بالمادّة أو بالصيغة. إذا فحقيقة الوجوب هي ذاك الأمر الاعتباري.

نعم ، البعث والتحريك من شئون الوجوب بمعنى أنّ الغرض من جعل الوجوب على المكلّف هو أن يتحرّك نحو الفعل وينبعث نحوه ، إلا أنّ الغرض والداعي شيء وحقيقة الشيء شيء آخر.

وعليه ، فإذا لم يكن هناك بعث ولا تحريك في زمان فعليّة الوجوب ، فإن كان البعث والتحريك منتفيا مطلقا في تمام مدّة الفعليّة فسوف يكون الوجوب لغوا إذ لا فائدة منه ، ولكن إذا كان البعث ممكنا بلحاظ الفترات اللاحقة فسوف لن يكون هناك لغويّة من فعليّة الوجوب ؛ لأنّ الانبعاث والتحرّك سوف يتحقّقان في تلك الفترات.

والمستظهر من الأدلّة التي يوجد فيها ما يدلّ على الوجوب هو أنّ الداعي والغرض من جعل الوجوب هو كونه محرّكا وباعثا نحو الفعل ، وهذا يتحقّق وإن كان الانبعاث والتحرّك في بعض الفترات من زمان الوجوب لا في تمام الفترات ؛ إذ لا دليل على اعتبار لزوم الانبعاث والتحرّك في تمام الفترات ، والقدر المتيقّن هو أن يحصل التحرّك ، والأزيد من ذلك يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه مئونة زائدة.

الثاني : أنّ طلوع الفجر إمّا أن يؤخذ قيدا في الواجب فقط ، أو يؤخذ قيدا في الوجوب أيضا.

فعلى الأوّل يلزم كون الوجوب محرّكا نحوه ؛ لما تقدّم من أنّ كلّ قيد يؤخذ في الواجب دون الوجوب يشمله التحريك المولوي الناشئ من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ؛ لأنّ طلوع الفجر غير اختياري.

وعلى الثاني يصبح طلوع الفجر شرطا للوجوب ، فإذا كان شرطا مقارنا فهذا معناه عدم تقدّم الوجوب على زمان الواجب ، وإذا كان شرطا متأخّرا يلزم محذور الشرط المتأخّر.

والشيء نفسه نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع الفجر ، فإنّها كطلوع الفجر في الشقوق المذكورة.

الاعتراض الثاني : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني وحاصله أن يقال : إنّ المقدّمات غير الاختياريّة فوق الطلب والوجوب بمعنى أنّها لا تدخل في الطلب

ص: 158

والوجوب ، ولا يمكن إيجابها أو طلبها ؛ لأنّ فرض كونها غير اختياريّة يعني عدم قدرة المكلّف على إيجادها ، فيكون طلب إيجادها من التكليف بغير المقدور وهو محال. وعليه ، فكلّ المقدّمات غير الاختياريّة تكون قيودا للوجوب بمعنى أنّ الوجوب متوقّف على تحقّقها ووجودها ، من دون أن يكون للمكلّف مدخليّة فيها.

وأمّا المقدّمات الاختياريّة فكما يمكن أن تكون قيودا للوجوب كذلك يمكن أن تكون قيودا للواجب ، فتدخل في الطلب والوجوب لقدرة المكلّف على إيجادها وتحصيلها.

وفي مقامنا نقول : إنّ طلوع الفجر بالنسبة للصوم الواجب : إمّا أن يكون قيدا في الوجوب ، أو في الواجب ، أو في الوجوب والواجب معا.

فإن فرض كونه قيدا في الوجوب فهذا معناه أنّ وجوب الصوم لا يكون فعليّا إلا عند طلوع الفجر فيتطابق زمان الوجوب مع زمان الواجب ، ويخرج الفرض عن محلّ الكلام ؛ لأنّه يصبح من الواجب المنجّز.

وإن فرض كونه قيدا في الواجب فهذا معناه أنّه داخل تحت الإيجاب والطلب ؛ لأنّ مقدّمات الواجب الوجوديّة كلّها تدخل في عهدة المكلّف ويكون مطالبا بها كما تقدّم ؛ لأنّ الوجوب يفترض كونه فعليّا في رتبة سابقة ، ولذلك فهو يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، والمفروض أنّه مقيّد أو موقوف على تحقّق هذه المقدّمات والقيود فيجب على المكلّف إيجادها وتحقيقها ؛ ليتمكّن من تحقيق الواجب الذي اشتغلت ذمّته به ، وهذا واضح ولا كلام فيه.

إلا أنّه في مقامنا لمّا كان طلوع الفجر من الأمور الزمانيّة أي أنّه قيد زماني وهو غير اختياري للمكلّف ؛ لوضوح عدم قدرة المكلّف على الإتيان به متى شاء وكيف أراد ، فهذا معناه تكليف المكلّف بقيد خارج عن اختياره وقدرته ، فيكون تكليفا بغير المقدور وهو مستحيل.

وإن فرض كونه قيدا للواجب والوجوب معا ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ، إلا أنّه يلزم منه أنّه لمّا صار من قيود الوجوب أيضا فهو إمّا متقدّم أو مقارن أو متأخّر ، والكلّ لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك إمّا كونه شرطا أو قيدا متقدّما على الوجوب ، فهذا معناه أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وإنّما تبدأ فعليّة الوجوب بعد طلوع الفجر ، وهذا لا

ص: 159

يمكن الالتزام به إذ لا يقول قائل بأنّ وجوب الصوم يبدأ بعد طلوع الفجر ، مضافا إلى خروج الفرض عن مورد النزاع ؛ لأنّ القائل بالواجب المعلّق يفترض الوجوب الفعلي قبل طلوع الفجر ، فهذا الفرض يلغي الواجب المعلّق.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا مقارنا فهو وإن كان معقولا ومقبولا في نفسه ، إلا أنّه يجعل الوجوب الفعلي مقارنا في حدوثه لطلوع الفجر ، ممّا يعني أنّه لا فعليّة للوجوب قبله ، وهذا أيضا يلغي الواجب المعلّق ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب من قبل.

وأمّا كونه قيدا أو شرطا متأخّرا ، فهذا معناه أنّ الوجوب يصبح فعليّا من أوّل الأمر حين تحقّق هذا الشرط ، ويكون الواجب فعليّا عند تحقّق هذا الشرط أو القيد أيضا ، وهذا يؤدّي إلى القول بالواجب المعلّق لا محالة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الآن السابق مع كون فعليّة الواجب في الآن اللاحق ، إلا أنّ الشرط المتأخّر مستحيل في نفسه ؛ لأنّه يؤدّي إلى تأثير المعدوم في الموجود وإلى وجود المعلول قبل علّته كما تقدّم ، وما دام مستحيلا فيستحيل أيضا القول بالواجب المعلّق.

وما ذكرناه بالنسبة للقيد الزماني هو نفسه يقال بالنسبة لسائر القيود الأخرى التي تشترط في موضوعات الأحكام من البلوغ والعقل والقدرة ، فالقدرة على الصيام كطلوع الفجر شرط في الصوم الواجب ، بمعنى أنّه عند ما يثبت الهلال إنّما يجب الصوم على الإنسان إذا طلع عليه الفجر وكان أيضا قادرا على الصوم أو بالغا أو عاقلا أو غير مريض ، فإنّ هذه القيود كلّها قيود للموضوع أي للفعل الواجب ، فالكلام المذكور بتمامه يجري فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا يمكن القول بالواجب المعلّق إلا بناء على افتراض الشرط المتأخّر وهو مستحيل.

ومن هنا كنّا نقول في الحلقة السابقة (1) : إنّ إمكان الواجب المعلّق يتوقّف على افتراض إمكان الشرط المتأخّر وذلك باختيار الشقّ الأخير.

وأمّا الجواب عن هذا الاعتراض : فهو أنّنا نختار الشقّ الأخير ، وهو أن يكون قيد طلوع الفجر قيدا للوجوب والواجب معا على نحو الشرط المتأخّر ، وحيث إنّنا قلنا بإمكان الشرط المتأخّر فيما سبق فلا محذور في القول بالواجب المعلّق بناء عليه ،

ص: 160


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

وحينئذ يكون زمان الواجب شرطا متأخّرا للوجوب مع كون الوجوب فعليّا من حين طلوع الهلال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصوم له شرطان :

أحدهما : طلوع الهلال والذي هو شرط مقارن لحدوث الوجوب ، وبه يكون الوجوب فعليّا.

والآخر : هو طلوع الفجر والذي هو شرط متأخّر لفعليّة الوجوب ، بمعنى أنّ هذه الفعليّة لا تصير منجّزة إلا بتحقّق الشرط.

فمن حين طلوع الهلال يكون الصوم واجبا على المكلّف فيما إذا طلع عليه الفجر وكان قادرا بالغا عاقلا ، وهذا الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال وهو فعلي من ذاك الحين ، إلا أنّ امتثال متعلّقه لا يكون منجّزا على المكلّف من الآن ، بل من حين طلوع الفجر.

وأمّا ثمرة البحث في إمكان الواجب المعلّق فتأتي الإشارة إليها (1) إن شاء اللّه تعالى.

تقدّم أنّ الثمرة في البحث عن إمكان الواجب المعلّق تظهر في المقدّمات المفوّتة ، وكيفيّة تخريجها ، فإنّه على القول بإمكان الواجب المعلّق فتخريج وجوبها واضح ؛ لأنّ الوجوب لمّا كان فعليّا قبل زمان الواجب فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد سائر المقدّمات التي لو لم تتحقّق قبل حلول زمان الواجب لم يمكن امتثال الواجب عند حلول زمانه ، كالسفر إلى الميقات مثلا لمن كان بعيدا عن مكّة فيما إذا وجب عليه الحجّ.

وأمّا على القول بامتناع الواجب المعلّق فسوف تكون المقدّمات المفوّتة مشكلة لا بدّ من إيجاد حلّ لها ؛ لأنّه لمّا لم يكن الوجوب فعليّا فكيف كان المكلّف مسئولا عن إيجاد هذه المقدّمات؟ وما هو الداعي والمحرّك له؟

* * *

ص: 161


1- في البحث القادم ، تحت عنوان : المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.

ص: 162

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت

اشارة

ص: 163

ص: 164

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت

[ أو المقدّمات المفوّتة ]

اتّضح ممّا تقدّم (1) أنّ المسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب من قبل الوجوب إنّما تبدأ ببداية فعليّة هذا الوجوب ، ويترتّب على ذلك أنّ الواجب إذا كان له زمن متأخّر ، وكان يتوقّف على مقدّمة ولم يكن بالإمكان توفيرها في حينها ، ولكن كان بالإمكان إيجادها قبل الوقت ، فلا يجب على المكلّف إيجادها قبل الوقت ؛ إذ لا مسئوليّة تجاه مقدّمات الواجب إلا بعد فعليّة الوجوب ، وفعليّة الوجوب منوطة بالوقت ، وتسمّى المقدّمة في هذه الحالة بالمقدّمة المفوّتة.

ومثال ذلك : أن يعلم المكلّف قبل الزوال بأنّه إذا لم يتوضّأ الآن فلن يتاح له الوضوء بعد الزوال ، فيمكنه ألاّ يتوضّأ ولا يكون بذلك مخالفا للتكليف بالصلاة بوضوء ؛ لأنّ هذا التكليف ليس فعليّا الآن ، وإنّما يصبح فعليّا عند الزوال ، وفعليّته وقتئذ منوطة بالقدرة على متعلّقه في ذلك الظرف ؛ لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة في ذلك الظرف على الصلاة بوضوء متوقّفة بحسب الفرض على أن يكون المكلّف قد توضّأ قبل الزوال ، فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدّمات الوجوب ، وبترك المكلّف له يحول دون تحقّق الوجوب وفعليّته في حينه ، لا أنّه يتورّط في مخالفته.

مقدّمة البحث : عرفنا ممّا سبق أنّ قيود الواجب الشرعيّة أو العقليّة التكوينيّة يعتبر المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها ؛ لأنّه لمّا كان ملزما عقلا بامتثال الواجب

ص: 165


1- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

لفعليّة وجوبه فهو ملزم أيضا بتوفير وتهيئة مقدّمات هذا الواجب ، وهذا الإلزام مترشّح من الوجوب ، ولذلك كانت المقدّمات للواجب واجبة وجوبا غيريّا ، بمعنى أنّه وجوب مترشّح من الوجوب النفسي ، وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري إنّما يبدأ من حين ثبوت الوجوب النفسي لا قبله ؛ لأنّه قبل ثبوت الوجوب النفسي يكون الوجوب الغيري منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وعلى هذا فإنّما يطالب المكلّف بالمقدّمات ويكون مسئولا عن إيجادها ومدانا على تركها فيما إذا ثبت الوجوب النفسي وصار فعليّا ، وأمّا إذا لم يثبت الوجوب النفسي فلا معنى للمطالبة بالمقدّمات ، وهذا واضح.

ولكن قد نفرض أنّ الوجوب صار فعليّا بينما زمان الواجب متأخّر وكان لهذا الواجب مقدّمات ، ونفرض أنّه لا يمكن إيجاد هذه المقدّمات وتوفيرها بعد حلول زمان الواجب ، بحيث إذا حلّ زمانه سوف يفوت امتثاله نتيجة عدم تهيئة مقدّماته من قبل ، فهنا هل يجب على المكلّف إيجاد هذه المقدّمات قبل حلول زمان الواجب أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب تهيئة مثل هذه المقدّمات وإن كان الواجب سوف يفوت عند حلول زمانه.

والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه قبل حلول زمان الواجب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجاد المقدّمات المرتبطة به ؛ لعدم وجود الداعي والمحرّك نحوها ، وبالتالي سوف يكون المكلّف عاجزا عن امتثال التكليف عند حلول زمانه ، ومع العجز عنه يسقط عن الفعليّة أو الفاعليّة.

ومثال ذلك : اشتراط الصلاة بالوضوء ، فإنّ مقدّميّة الوضوء للصلاة شرط يجب توفيره بعد دخول الوقت أي الزوال ، فإذا زالت الشمس دخل زمان الواجب فصار الوضوء واجبا على المكلّف ولا يجوز له تركه ؛ لأنّه يكون عاصيا بذلك ، وأمّا قبل زوال الشمس فلا يجب عليه الوضوء لعدم فعليّة الواجب قبل الزوال ، ولكن إذا فرضنا أنّ المكلّف كان يعلم من أوّل الأمر بأنّه لن يتمكّن من الوضوء بعد الزوال لمانع ، فهل يجب عليه تهيئة الوضوء قبل الزوال أم لا؟

والجواب : أنّه لا يجب عليه ذلك ، وإن كان بتركه للوضوء سوف يصبح عاجزا عن الإتيان بالصلاة مع الوضوء ولا يكون عاصيا بهذا الترك.

ص: 166

والوجه في ذلك : هو أنّ الوضوء قبل الزوال لا يترشّح عليه الوجوب ؛ لأنّ وجوبه الغيري إنّما يترشّح بعد فعليّة الواجب وهو مرتبط بالزوال ؛ فقبله لا فعليّة ، ومع عدم الفعليّة لا يكون المكلّف مطالبا ولا مسئولا عن شيء. وبعد دخول الزوال - والمفروض أنّه عاجز عن الوضوء - سوف يسقط الأمر بالصلاة عن الوضوء بسبب عجزه عن إيجاده ، ومع العجز لا تكليف وإلا كان من التكليف بغير المقدور وهو محال.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب الصلاة عن وضوء لا يبدأ قبل الزوال ، فترك الوضوء قبل الزوال لا يتّصف بأنّه ترك للواجب أو مخالفة للوجوب الفعلي. وإنّما يبدأ وجوب الصلاة عن وضوء بعد الزوال وهو في هذا الزمن غير قادر على الوضوء فيسقط هذا الوجوب ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز وغير القادر.

إذا ترك المكلّف للوضوء قبل الزوال سوف يتسبّب برفع فعليّة وجوب الصلاة عن الوضوء بعد الزوال ، أو سوف يحول دون تحقّق مثل هذا الوجوب ؛ لأنّه فاقد لقيده ، والوجوب لا يتحقّق إلا بتحقّق قيوده وهذا ما يسمّى بالتعجيز ، أي أنّ المكلّف قد عجّز نفسه عن إيجاد متعلّق الوجوب في وقته ، ولكن هذا التعجيز كان قبل الوقت ولذلك لا يكون عاصيا ؛ لأنّه قبل الوقت لا يوجد ما يدعوه إلى إيجاد القيد.

ويطلق على الوضوء في مثل هذه الحالة عنوان المقدّمة المفوّتة ، أي أنّه من دونه سوف يفوّت الواجب في حينه.

ولكن هذه الصفة ليست دائميّة ، بل هي اتفاقيّة ؛ لأنّ الوضوء كما يمكن وجوده قبل الزوال يمكن وجوده بعده أيضا.

ولكن يلاحظ أحيانا أنّ الواجب قد يتوقّف على مقدّمة تكون دائما من هذا القبيل ، ومثالها وجوب الحجّ الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع أنّ الحجّ يتوقّف على السفر إلى الميقات قبل ذلك ، والصيام من الجنب يتوقّف على الاغتسال قبل طلوع الفجر ، ولا شكّ في أنّ المكلّف مسئول عن طي المسافة من قبل وجوب الحجّ ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قبل وجوب الصيام.

ومن هنا وقع البحث في تفسير ذلك ، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلّف فيها بإيجاد المقدّمات المفوّتة.

ص: 167

محل الكلام : وهو المقدّمة المفوّتة : وهي المقدّمة التي يتوقّف عليها إيجاد الواجب ، ولكن هذه المقدّمة لا يمكن توفيرها إلا قبل زمان الواجب ، بحيث إذا لم تتوفّر قبله فات الواجب عند حلول زمانه ، وهذه الصفة دائمة لها بمعنى أنّها دائما يجب أن تتوفّر قبل زمان الواجب ولا يمكن أن تتحقّق بعده ؛ لأنّه يفوت على المكلّف.

ومثالها : ما إذا وجب الحجّ على المستطيع فصار الوقوف بعرفة واجبا عليه ، إلا أنّ زمان هذا الواجب إنّما هو في اليوم التاسع من ذي الحجّة ، ولكن إذا كان المستطيع فرضه حجّ التمتّع لكونه بعيدا فيكون السفر إلى الميقات للإحرام منه واجبا عليه ؛ لكونه مقدّمة للوقوف في عرفات ، فإنّ من لا يسافر سوف يفوته الوقوف في حينه ، بل يجب أن يكون السفر قبل زوال اليوم التاسع بنحو يتمكّن المكلّف من القيام بسائر الأعمال الواجبة من إحرام وعمرة ، ولا يمكنه أن يسافر حين الزوال ؛ لأنّه سوف يفوته الواجب بذلك ، ومن هنا كان السفر المذكور مقدّمة مفوّتة دائما.

ومثالها أيضا : ما إذا هلّ هلال شهر رمضان فصار الصوم واجبا في الغد ، إلا أنّ زمانه هو طلوع الفجر ، وفرض أنّ مكلّفا كان جنبا في الليل فإنّه يجب عليه الاغتسال من الجنابة لكونه من مقدّمات الصوم الواجب ؛ لأنّه لا يصحّ الصوم من الجنب ، والمفروض أنّ زمان الواجب هو طلوع الفجر لا قبله.

ولكن إذا لم يغتسل المكلّف قبل طلوع الفجر سوف يفوته الواجب وهو الصوم عن طهارة من الحدث الأكبر ، ولو أراد أن ينتظر إلى أن يطلع الفجر ثمّ يغتسل فسوف يقع آن من الآنات مع الجنابة فيبطل الصوم ، وهذا معناه أنّ الاغتسال مقدّمة مفوّتة دائما يجب تحصيلها قبل طلوع الفجر ، مع أنّها من قيود الواجب وهو لم يحل زمانه بعد.

ومن هنا وقع البحث والكلام في كيفيّة تخريج وجوب المقدّمة المفوّتة ، فإنّ وجوبها لا إشكال فيه إثباتا ، ولكن ثبوتا كيف يمكن تخريج هذا الوجوب ؛ لأنّه على خلاف القاعدة؟

وقد ذكرت في المقام عدّة تفسيرات :

التفسير الأوّل : إنكار الوجوب المشروط رأسا ، وافتراض أنّ كلّ وجوب فعلي قبل تحقّق الشروط والقيود المحدّدة له في لسان الدليل ، وإذا كان فعليّا كذلك فتبدأ

ص: 168

محرّكيّته نحو مقدّمات الواجب قبل مجيء ظرف الواجب ، ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية العمليّة إلزام المكلّف بالمقدّمات المفوّتة للواجب من قبل ذلك الوجوب.

وهذه هي ثمرة البحث في إمكان الوجوب المشروط وامتناعه ، وقد تقدّم (1) أنّ الصحيح إمكان الوجوب المشروط - خلافا لما في تقريرات الشيخ الأنصاري (2) - الذي تقدّم بالتفسير المذكور.

وهنا توجد عدّة تفسيرات وتخريجات للقول بوجوب المقدّمات المفوّتة :

التفسير الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري ، من أنّنا نثبت وجوب المقدّمات المفوّتة على أساس الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، فيكون هذا الوجوب هو الداعي والمحرّك والباعث لإيجادها والتحريك نحو تحصيلها ، وهذا يتمّ بناء على كون الوجوب فعليّا دائما ، وإنكار ما يسمّى بالوجوب المشروط ، فكلّ وجوب فعلي عند تحقّق موضوعه.

وأمّا ما يؤخذ في لسان الدليل من قيود وشروط فهي راجعة إلى متعلّق الوجوب ، أي الواجب لا إلى الوجوب نفسه ، بناء على ما ذكره من أنّ الوجوب تابع لإرادة المولى ، فهو إمّا أن يريد جعل الوجوب أو لا يريد ، فإذا أراده فهو فعلي ؛ إذ لو كان مشروطا فهذا معناه أنّه لم يرد جعله بعد.

وعليه ، فما دام الوجوب فعليّا من حين تحقّق موضوعه فهو يحرّك ويبعث نحو إيجاد الواجب ، ولذلك كان المكلّف مسئولا عن إيجاد وتحقيق كلّ القيود التي يتوقّف عليها الواجب ، والتي تكون واقعة تحت اختياره قبل مجيء زمان الواجب ، وأمّا الزمان نفسه فهو ليس مسئولا عنه ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، وحينئذ يجب على المكلّف الإتيان بالوضوء قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة فعلي قبل الزوال ؛ لأنّ وجوب الصلاة ثابت على كلّ مكلّف بالغ عاقل ... إلى آخره.

وأمّا الصلاة فهي مقيّدة ومشروطة بالزوال بالإضافة إلى اشتراطها بالوضوء ، ولكنّ الوضوء يجب الإتيان به بخلاف الزوال ؛ لأنّ الأوّل داخل تحت الاختيار والقدرة بخلاف الثاني.

ص: 169


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- مطارح الأنظار : 49.

والحاصل : أنّ هذا التفسير يتمّ بناء على إنكار الوجوب المشروط.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الوجوب المشروط ممكن ، ولذلك لا يتمّ هذا التفسير والتخريج ، ولذلك ذكرنا في بحث الوجوب المشروط أنّ الثمرة تظهر في تخريج المقدّمات المفوّتة والواجب المعلّق أيضا ، فمن ينكر الوجوب المشروط ينكر الواجب المعلّق أيضا ، ويؤمن بفعليّة الوجوب من حين حدوثه ، وبالتالي يخرّج وجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّ وجوبها يترشّح من الوجوب الفعلي الثابت قبلها ، وأمّا من يقول بإمكان الوجوب المشروط فهو لا يرى الوجوب فعليّا من حين حدوثه ما دام هناك قيد زماني استقبالي لم يتحقّق بعد ، ولذلك يحتاج إلى تخريج آخر لها.

التفسير الثاني : وهو يعترف بإمكان الوجوب المشروط ولكن يقول بإمكان الواجب المعلّق أيضا ، ويفترض أنّه في كلّ مورد يقوم فيه الدليل على لزوم المقدّمة المفوّتة من قبل وجوب ذيها نستكشف أنّ الوجوب معلّق ، أي أنّه سابق على زمان الواجب. وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على أنّ الوجوب معلّق نحكم فيه بمسئوليّة المكلّف تجاه المقدّمات المفوّتة.

وهذه هي ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الفصول ) وحاصله أن يقال : إنّنا نؤمن بفكرة الوجوب المشروط كما نؤمن بفكرة الواجب المعلّق أيضا ، وبه تحلّ المشكلة ويتمّ تخريج وجوب المقدّمات المفوّتة.

وتوضيح ذلك : أنّ القول بإمكان الوجوب المشروط وإن كان يفترض فيه أنّ الوجوب ليس فعليّا قبل مجيء الزمان الاستقبالي ، وبالتالي لن يترشّح منه وجوب غيري على المقدّمات المفوّتة ، إلا أنّنا نؤمن أيضا بفكرة الواجب المعلّق ، والتي تفترض أنّ الوجوب يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، والجمع بين الفكرتين ينتج أنّ الوجوب لا بدّ أن يكون فعليّا قبل زمان الواجب ، وإن كان لا يتحتّم أن يكون فعليّا من حين حدوثه.

والمثال التالي يوضّح الفكرة ، فنقول : إنّ وجوب الصيام يحدث حين طلوع الهلال ولكنّه ليس فعليّا من حينه ، بمعنى أنّه لا يحرّك المكلّف نحو إيجاد الواجب ، وهو الصوم من حين رؤية الهلال ، وإنّما من حين حلول زمان الواجب ، أي من حين طلوع

ص: 170

الفجر ، ففعليّة الوجوب بالنسبة إلى الواجب معلّقة على مجيء زمان الواجب ، ولذلك يقال : إنّ الواجب معلّق أو الوجوب الفعلي مشروط بحلول زمان الواجب.

ولكن لو لاحظنا المقدّمة المفوّتة للواجب وهي الاغتسال الليلي لمن كان جنبا ، فهذه المقدّمة وإن كانت مقدّمة للصوم الواجب والذي يبدأ زمانه من حين طلوع الفجر لا قبله ، ولذلك لا يكون الواجب محرّكا نحو إيجادها وتحصيلها لعدم فعليّته.

إلا أنّ الوجوب لمّا كان حادثا من حين طلوع الهلال فهو يحرّك نحو إيجاد هذه المقدّمة ؛ إذ لن يكون هناك ما يمنع من هذه المحرّكيّة والباعثيّة ؛ لأنّه فعلي بحسب الفرض ، وإن كانت فعليّته بالنسبة للواجب نفسه لا تبدأ إلا من حين زمان الواجب إلا أنّ فعليّته نحو المقدّمات المفوّتة تبدأ من حينه ؛ لأنّه فعلي فيترشّح عليها وجوب غيري من الوجوب النفسي للصيام الثابت حين طلوع الهلال.

ولذلك كان الجنب مطالبا بالاغتسال من حين طلوع الهلال إلى ما قبل طلوع الفجر ولو بآن ما.

إذا فالقول بالواجب المعلّق وإمكانه يترتّب عليه القول بوجوب المقدّمات المفوّتة ؛ لأنّه يفترض فيه فعليّة الوجوب في الزمان السابق على زمان الواجب ، فيكون وجوب المقدّمات المفوّتة مترشّحا من هذا الوجوب الفعلي. نعم ، هذا الوجوب بالنسبة للواجب نفسه لا يكون محرّكا للمكلّف ولا فعليّا بحقّه إلا حين حلول زمان الواجب ، وهذه هي ثمرة القول بإمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

التفسير الثالث : أنّ القدرة المأخوذة قيدا في الوجوب إن كانت عقليّة بمعنى أنّها غير دخيلة في ملاكه ، فهذا يعني أنّ المكلّف بتركه للمقدّمة المفوّتة يعجّز نفسه عن تحصيل الملاك مع فعليّته في ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلا ؛ لأنّ تفويت الملاك بالتعجيز كتفويت التكليف بالتعجيز.

وإن كانت القدرة شرعيّة بمعنى أنّها دخيلة في الملاك أيضا ، فلا ملاك في فرض ترك المكلّف للمقدّمة المفوّتة المؤدّي إلى عجزه في ظرف الواجب ، وفي هذه الحالة لا مانع من ترك المقدّمة المفوّتة.

وعلى هذا ، ففي كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن المقدّمات المفوّتة نستكشف من ذلك أنّ القدرة في زمان الواجب غير دخيلة في الملاك ، كما أنّه في

ص: 171

كلّ حالة يدلّ فيها الدليل على أنّ القدرة كذلك يثبت لزوم المقدّمات المفوّتة.

التفسير الثالث : ما لعلّه يظهر من كلمات الميرزا النائيني في المقام ، وحاصله أن يقال : إنّنا ننكر فكرة الشرط المتأخّر وفكرة الواجب المعلّق ، ولكنّنا نؤمن بالوجوب المشروط ، فيكون زمان الواجب قيدا للوجوب وليس الوجوب فعليّا من أوّل الأمر ، ولكنّه من حين مجيء زمان الواجب ، ولكن مع ذلك يمكننا حلّ مشكلة وجوب المقدّمات المفوّتة عن طريق آخر ، فنقول :

أوّلا : لا يجوز للمكلّف أن يترك التكليف المأمور به بعد أن يصبح فعليّا بحيث يكون قادرا على فعله فيتركه.

وثانيا : لا يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن امتثال التكليف بعد أن يصبح فعليّا ، كما إذا كان لديه ماء وبعد زوال الشمس أراقه فعجّز نفسه عن الوضوء.

وثالثا : لا يجوز للمكلّف أن يترك الملاك الفعلي فيما إذا كان قادرا على تحقيقه وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف ، فإنّه إذا كان قادرا فأذهب قدرته فهو لا يخاطب بالتكليف لكونه عاجزا حينئذ ، لكنّه يطالب بتفويته الملاك الفعلي باختياره.

بعد ذلك نقول : إنّ المقدّمات المفوّتة التي يوجب فواتها عجز المكلّف وعدم قدرته على امتثال الواجب ، إنّما يجب تحصيلها فيما إذا كانت من المقدّمات العقليّة التكوينيّة لا الشرعيّة ، من قبيل السفر إلى الميقات وحفظ الماء للوضوء به لا من قبيل الوضوء قبل الوقت مثلا.

وعليه فالقدرة على هذه المقدّمات العقليّة المفوّتة إمّا أن تكون عقليّة وإمّا أن تكون شرعيّة.

فإذا كانت القدرة عليها عقليّة - والقدرة العقليّة هي التي لا تكون دخيلة في الملاك ، فيكون الملاك ثابتا حتّى بحقّ العاجز وإن لم يكن مخاطبا بالتكليف - فالمكلّف إذا ترك المقدّمات المفوّتة يكون قد أوقع نفسه في العجز عن تحصيل الملاك ، مع كون الملاك فعليّا حتّى مع فرض عجزه في زمان الواجب.

والتعجيز الذي هو فعل اختياري للمكلّف لا ينافي الاختيار ، فهو كترك الملاك رأسا مع قدرته عليه ، ولذلك يكون مدانا عقلا ؛ لأنّه قد فعل ما لا يجوز له فعله بحكم العقل ، ولا يختلف تفويت الملاك بسبب التعجيز عن تفويت التكليف الفعلي

ص: 172

بتركه رأسا أو بتعجيز نفسه عنه ، فإنّ العقل يستقلّ بلزوم حفظ القدرة على تحصيل هذه المقدّمات قبل زمان الواجب ؛ لأنّها معدّة له وهو موقوف عليها.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة - والقدرة الشرعيّة هي التي تكون دخيلة في الملاك لأخذ الشارع لها في لسان الدليل والخطاب ، ولذلك لا ملاك على العاجز كما لا تكليف عليه - فهي على أقسام :

فتارة تكون كالقدرة العقليّة تماما أي القدرة على الفعل وعلى تهيئة المقدّمات وحفظها ، غاية الأمر أنّ القدرة العقليّة ليست دخيلة في الملاك من أوّل الأمر بحكم العقل ، بينما هذه وإن كانت دخيلة في الملاك إلا أنّها لمّا كانت شاملة للمقدّمات وغيرها كانت النتيجة فيهما واحدة ، بحيث تكون من الناحية العمليّة كأنّها ليست دخيلة في الملاك ، كما إذا قيل : ( إذا قدرت فأكرم زيدا غدا ).

وأخرى لا تكون كالقدرة العقليّة ولكنّها اعتبرت بنحو يجب معه تحصيل المقدّمات قبل مجيء وقت الواجب ، فهي هنا كالقدرة العقليّة أيضا لا تكون من الناحية العمليّة دخيلة في الملاك وإن كانت دخيلة فيه ابتداء ، كما إذا قيل : ( أكرم عمرا غدا إذا قدرت على ذلك بعد مجيء زيد ) ، فهنا القدرة معتبرة بعد مجيء زيد ، فإذا جاء زيد اليوم لزم تحصيل مقدّمات إكرام عمرو من الآن فيما إذا كانت مفوّتة في الغد.

وثالثة تكون القدرة الشرعيّة معتبرة في زمان الواجب فقط ، كما إذا قال : ( إذا قدرت على إكرام زيد غدا فأكرمه ) ، فهنا القدرة كانت دخيلة في الإكرام في يوم الغد ، ولذلك لا يجب تحصيل مقدّمات الإكرام قبل مجيء يوم الغد ؛ لأنّه إذا لم يكن قادرا في الغد على الإكرام فكما لا يجب إكرامه فكذلك لا ملاك في إكرامه ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة كانت مأخوذة في الخطاب مقيّدة بالغد لا مطلقة ، ولا بنحو يشمل المقدّمات من أوّل الأمر ، ومن هنا لم يكن مسئولا عن المقدّمات المفوّتة ، بل يجوز تركها ولا شيء عليه.

وبهذا يظهر لنا أنّه في كلّ حالة يثبت فيها كون المكلّف مسئولا عن تحصيل وإيجاد المقدّمات المفوّتة ، استكشف من ذلك كون القدرة إمّا عقليّة وإمّا شرعيّة بالمعنى الواسع المطلق الشامل للمقدّمات ، وإمّا شرعيّة بنحو خاصّ بحيث يكون

ص: 173

للمقدّمات المفوّتة دخالة فيه ، والعكس صحيح أيضا ؛ بمعنى أنّه في كلّ حالة تثبت القدرة بأحد هذه المعاني فيكون المكلّف ملزما بتحصيل المقدّمات المفوّتة وإن لم تؤخذ في لسان الدليل أو لم يدلّ عليها الخطاب.

وأمّا إذا كانت القدرة شرعيّة في زمان الواجب فقط أو استكشف من الدليل عدم مسئوليّة المكلّف عن المقدّمات المفوّتة ، ففي الحالتين لا يجب على المكلّف شيء ولا يلزم بالمقدّمات ؛ لأنّ القدرة الشرعيّة بهذا المعنى تكون دخيلة في الملاك بحيث لا يتحقّق الملاك من دونها.

غير أنّ هذا المعنى يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفيه دليل الواجب العامّ ؛ لأنّ دليل الواجب له مدلول مطابقي وهو الوجوب ومدلول التزامي وهو الملاك ، ولا شكّ في أنّ المدلول المطابقي مقيّد بالقدرة ومع سقوط الإطلاق في الدلالة المطابقيّة يسقط في الدلالة الالتزاميّة أيضا للتبعيّة ، فلا يمكن أن نثبت به كون الملاك ثابتا في حالتي القدرة والعجز معا.

يرد على هذا التفسير أنّ معرفة كون القدرة عقليّة أو شرعيّة يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يكفي فيه الدليل العامّ للواجب ، فإن تمّ الدليل الخاصّ على ذلك كان هذا التفسير وجها وتخريجا فنيّا وعمليّا أيضا ، وإن لم يتمّ الدليل الخاصّ فدليل الواجب العامّ لا يكفي لإثبات ذلك.

والوجه فيه هو أن يقال : إنّ دليل الواجب كالدليل الدالّ على وجوب الصوم : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أو الدليل الدالّ على وجوب الحج : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) له مدلولان :

أحدهما : المدلول المطابقي وهو الدلالة على الوجوب ، والآخر : وهو الدلالة على الملاك على أساس المدلول الالتزامي ؛ لأنّ ثبوت الوجوب في مورد لازمه أن يكون الملاك ثابتا فيه أيضا ، بناء على تبعيّة الأحكام للملاكات والمفاسد والمصالح.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول المطابقي أي الوجوب لا إشكال ولا ريب في كونه مقيّدا بالقدرة ؛ لأنّه لا تكليف على العاجز كما هو واضح ، فإذا ترك المكلّف المقدّمات المفوّتة فصار عاجزا عن امتثال التكلّف فلا تكليف عليه جزما ، ولكن الملاك هل يبقى ثابتا بحقّه أم لا؟

ص: 174

فهذا لا يمكن إثباته من نفس الدليل المذكور ؛ لأنّ القاعدة تقتضي أنّه إذا سقط المدلول المطابقي سقط بتبعه المدلول الالتزامي ، فمع سقوط الوجوب والتكليف يسقط الملاك إلا إذا كانت القدرة المأخوذة عقليّة ، فإنّ الملاك يبقى ولو سقط المدلول المطابقي أي الوجوب بالعجز أو التعجيز ، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى دليل خاصّ غير دليل الواجب المذكور ، فإنّه لا يفيد أكثر من دخالة القدرة وأمّا على أي وجه هي فلا يتعرّض له.

إلا أنّه يعلّق على ذلك بأنّه قد تقدّم أنّ القدرة إذا أخذت في الخطاب وفي لسان الدليل كانت شرعيّة فتكون دخيلة في الملاك ، فيسقط الملاك تبعا لسقوط التكليف في حالات العجز والتعجيز ، وإن كانت غير مأخوذة في الدليل فهي عقليّة وهي لا تكون دخيلة في الملاك ؛ بمعنى أنّ الملاك فعلي حتّى مع العجز ، فمع سقوط الوجوب بسبب العجز لا يسقط الملاك ولا يتبعه في ذلك ؛ لأنّه يثبت في حالات العجز.

وبهذا يظهر لنا تماميّة الوجوه الثلاثة بناء على تماميّة مبانيها ، فإذا قبلنا المباني كانت هذه الوجوه وافية لتخريج وجوب المقدّمات المفوّتة (1).

ص: 175


1- والصحيح برأي السيّد الشهيد هو أن يقال : إنّ الوجوه المذكورة كلّها ناظرة إلى الإرادة التشريعيّة ، أو الأوامر والأغراض التشريعيّة ، مع أنّ المشكلة نفسها موجودة في الأغراض والإرادة التكوينيّة. ومن هنا إذا حللنا المشكلة بلحاظ الأغراض التكوينيّة فسوف تنحلّ المشكلة هناك أيضا ؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة ليست إلا الإرادة التكوينيّة عمليّا ، غاية الأمر أنّه في التكوينيّات يتحرّك الشخص نفسه بينما في التشريعيّات يحرّك غيره. وعلى هذا فنقول : إنّ الإنسان إذا علم بأنّه سوف يعطش في زمان استقبالي ، فإنّه يهيئ مقدّمات الارتواء فيحمل معه الماء قبل أن يشرع في سفره فضلا عن زمان حدوث العطش ، وهنا نسأل لما ذا قام بتهيئة المقدّمات مع أنّها ليست مطلوبة نفسيّا ، وإنّما المطلوب النفسي هو الشرب والارتواء لا حمل الماء؟ تماما كالإنسان الذي يجب عليه الحجّ عند ما يستطيع ويكون بعيدا عن مكّة ، فإنّه يهيئ مقدّمات السفر للكون في الميقات والإحرام منه وللإتيان بالعمرة ليكون على تمام الاستعداد للوقوف بعرفات بزوال يوم التاسع من ذي الحجّة ، فإنّ السفر ومقدّماته إنّما هي لأجل الوقوف وهو لم يدخل زمانه بعد ، فلما ذا تجب؟ والجواب عن ذلك : أنّه في الأمور والأغراض التكوينيّة توجد إرادة استقباليّة ، وهذه الإرادة تنحلّ إلى إرادتين : إحداهما : إرادة الجزاء على تقدير الشرط ، أي إرادة الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة مشروطة بالعطش. والأخرى : إرادة الجامع بين عدم الشرط وتحقّق الجزاء على تقدير الشرط ، أي عدم العطش أو الشرب على تقدير العطش ، وهذه الإرادة للجامع فعليّة ومنجّزة ؛ لأنّ المكلّف يريد فعلا أن يكون مرتويا إمّا بأن لا يعطش أو بالشرب عند العطش ، فهو يريد أن يبقى مرتويا على هذين التقديرين ، وهذه الإرادة فعليّة غير مشروطة ، وبهذه الإرادة الفعليّة يترشّح لدى المكلّف حبّ وإرادة لأجل تهيئة المقدّمات فيحمل معه الماء في سفره لأجل أن يشرب على تقدير عطشه. وهكذا الحال في الأوامر والأغراض التشريعيّة ، فإنّنا لمّا قبلنا فكرة الوجوب المشروط ، فهذا معناه أنّه توجد إرادتان : إحداهما مشروطة والأخرى فعليّة ، فالإرادة المشروطة هي إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، والإرادة الفعليّة هي إرادة الجامع بين إرادة الوجوب على تقدير حصول شرطه ، أو إرادة عدم الشرط وهذه الإرادة فعليّة من أوّل الأمر ، وهي لذلك تدعو إمّا لعدم تحقّق الشرط ، أو لتحقيق الجزاء على تقدير تحقّق الشرط ، ولذلك يترشّح منها إرادة لتهيئة المقدّمات المفوّتة فيما لو علم بتحقّق الشرط في المستقبل.

ص: 176

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

اشارة

ص: 177

ص: 178

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم

قد يفترض تارة أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، وأخرى أخذه في موضوع حكم مضادّ له. وثالثة أخذه في موضوع مثله ، ورابعة أخذه في موضوع حكم مخالف.

ولا شكّ في إمكان الأخير ، وإنّما وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الأولى.

تمهيد :

الأحكام الشرعيّة سواء التكليفيّة أم الوضعيّة هي في الأغلب الأعمّ مشتركة بين العالم والجاهل ، ولا تختصّ بالعالم بها فقط ، إلا في بعض الموارد النادرة جدّا حيث دلّ الدليل الخاصّ على ثبوت الحكم بحقّ العالم به فقط ، كما في موارد الجهر والإخفات ، وموارد القصر والإتمام ، حيث يحكم بصحّة من قرأ جهرا مكان الإخفات أو العكس جهلا منه في الحكم.

وقد استدلّ على قاعدة الاشتراك هذه بإطلاق أدلّة الأحكام فإنّها مطلقة لم يؤخذ فيها قيد العلم بها ، إلا أنّه مع ذلك لم يكتف بهذا المقدار ، بل برهن على أنّه يستحيل أخذ العلم بالحكم قيدا لثبوت الحكم ، وهذا البحث معقود لبيان ذلك ، فإنّ أخذ الحكم في موضوع الحكم لا يخلو من حالات أربع ، هي :

أوّلا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وثانيا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مضادّ له ، أي يؤخذ العلم بالحكم كالوجوب في موضوع الحكم بالحرمة ، مع كون الموضوع فيهما واحدا ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة فقد حرمت عليك ).

وثالثا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم مماثل له ، أي يؤخذ العلم بالحكم

ص: 179

بالوجوب مثلا في موضوع الحكم بالوجوب أيضا ، ولكن لا الوجوب السابق بل وجوب آخر مماثل للوجوب السابق ؛ إذ لو كان هو نفسه لصار نفس الحالة الأولى ، كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك بوجوب آخر مماثل للوجوب الأوّل لا نفسه ).

ورابعا : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر مخالف لموضوع الحكم الأوّل ، فالمخالفة هنا صفة للموضوع لا للحكم ، بمعنى أنّ الموضوعين مختلفان لا نفس الحكم فقط مع وحدة موضوعهما ، وإلا لصار نفس الصورة الثانية.

ومثاله : كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجب عليك التصدّق على الفقير ، أو إذا علمت بوجوب الجهاد عليك فقد حرم عليك الفرار ) ، وهذه الصورة لا إشكال في إمكانها ووقوعها أيضا.

وإنّما الكلام وقع في الصور الثلاث الباقية.

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :

أمّا الافتراض الأوّل فقد يبرهن على استحالته بأدائه للدور ، إذ يتوقّف كلّ من الحكم والعلم به على الآخر.

وقد يجاب بأنّه لا دور ؛ لأنّ الحكم وإن كان متوقّفا على القطع لأنّه مأخوذ في موضوعه إلا أنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم.

الحالة الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، كما إذا قيل : ( تجب الصلاة جهرا على من يعلم بوجوب الجهر ). وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة للدور.

وتقريبه : إنّ طبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب ، فالحكم مسبّب عن الموضوع بمعنى أنّ الحكم لا يوجد إلا إذا تحقّق موضوعه مع سائر القيود والشروط المأخوذة في موضوعه.

وعليه ، فإذا كان من جملة قيود الموضوع العلم بالحكم فهذا يفترض أنّ الحكم ثابت في رتبة سابقة ليعلم به ؛ لأنّ العلم لا بدّ أن يتعلّق بشيء موجود ولو في الذهن ، ممّا يعني أنّ الحكم قد فرغ عنه وافترض ثبوته مسبقا في مرحلة سابقة عن ثبوت الموضوع ، والحال أنّ الواقع يفترض أنّ الحكم متأخّر عن الموضوع ؛ لأنّه مسبّب عنه ،

ص: 180

فيلزم منه محذور تقدّم الشيء وتأخّره في آن واحد ، ولكن لمّا كان العلم بالحكم مأخوذا في موضوع الحكم ، فهذا معناه أنّ الحكم موقوف ثبوته على العلم بالحكم والعلم بالحكم موقوف تحقّقه على ثبوت الحكم ، ممّا يعني أنّ الحكم صار موقوفا على ثبوت الحكم وهو من توقّف الشيء على نفسه ، وهو معنى الدور.

وقد أجيب عن محذور الدور بأنّ التوقّف ليس من الجانبين بل هو من جانب واحد.

وتوضيحه : أنّ الحكم لمّا أخذ في موضوعه العلم به فهو متوقّف على العلم ، إلا أنّ العلم بالحكم ليس متوقّفا على ثبوت الحكم ؛ إذ لو كان كذلك لكان العلم دائما مصيبا ما دام متعلّقه ومعروضه ثابتا وهو خلف.

إذا العلم بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم ؛ لأنّ العلم بشيء لا يتوقّف على ثبوت ذلك الشيء وإلا لكان كلّ علم مصيبا وهو خلف الواقع جزما ، وإنّما يتوقّف العلم بالحكم على مجرّد الصورة الذهنيّة للحكم لا على ثبوته ووجوده حقيقة ، فالعلم بالحكم يتوقّف على أن يكون لدى الذهن صورة ذهنيّة للحكم وهذا هو المعلوم بالذات.

وأمّا حقيقة هذه الصورة وكونها موجودة فهذا لا يتوقّف عليه العلم. وعليه فنقول : إنّ ما هو مأخوذ في موضوع الحكم هو الصورة الذهنيّة فقط ، فيقال : إنّ ثبوت الحكم في الخارج وحقيقته موقوف على العلم بالحكم كصورة ذهنيّة ، فاختلف اللحاظ والموضوع بينهما ، أي أنّ المراد تحقيقه هو ثبوت العلم ووجوده بالعرض ، بينما المأخوذ قيدا هو ثبوت العلم كصورة ذهنيّة موجودة بالذات ، فلا يلزم منه توقّف الشيء على نفسه والذي هو الدور.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ القطع بالحكم إذا أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم : فإمّا أن يكون الحكم المقطوع دخيلا في الموضوع أيضا ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب في الموضوع ، وإمّا ألاّ يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في الموضوع.

ففي الحالة الأولى تعتبر الاستحالة واضحة ؛ لوضوح الدور وتوقّف الحكم على نفسه عندئذ.

ص: 181

وأمّا في الحالة الثانية فلا يجري الدور بالتقريب المذكور.

والتحقيق في هذه الحالة أن يقال : إنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص الحكم لا يخلو من إحدى حالتين :

الأولى : أن يؤخذ العلم بالحكم مع افتراض كونه مصيبا للواقع ، فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم الثابت واقعا قد أخذ في موضوع شخص ذلك الحكم ).

الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم الأعمّ من افتراض كونه مصيبا أم مخطئا فيكون التقييد بهذا المعنى ( أنّ العلم بالحكم سواء كان الحكم ثابتا أو مجرّد صورة ذهنيّة قد أخذ قيدا في موضوع شخص ذلك الحكم ).

ففي الحالة الأولى لا إشكال في استحالة أخذ العلم بالحكم - بمعنى الحكم المقطوع الثابت في الواقع - في موضوع شخص ذلك الحكم وذلك للدور بالتقريب المتقدّم ؛ لأنّ النتيجة هي أنّ العلم سوف يكون متوقّفا على ثبوت الحكم في الواقع ، والحال أنّ العلم بذلك من قيود موضوع الحكم ممّا يعني أنّه لا ثبوت للحكم قبل العلم ، فيؤدّي إلى أنّ الحكم متقدّم على العلم ومتأخّر عنه ، أو يصبح ثبوت الحكم موقوفا على نفسه ؛ لأنّه موقوف على العلم بثبوت الحكم وكلاهما مستحيل.

وأمّا في الحالة الثانية فما ذكر من الجواب على تقريب الدور يكون تامّا ؛ وذلك لأنّ المأخوذ قيدا في موضوع الحكم ليس هو القطع المصيب ليكون الحكم الثابت واقعا هو متعلّق العلم والقطع ، بل الأعمّ منه ؛ ولذلك لو فرض خطأ القاطع في قطعه فإنّ لازم ذلك أنّ مقطوعه ليس ثابتا في الواقع ، ممّا يعني أنّ القطع به لا يجعله ثابتا وحقيقة ، ومن هنا فيحلّ إشكال الدور ؛ لأنّ القطع بالحكم الثابت لدى القاطع في ذهنه قد أخذ في موضوع ثبوت الحكم واقعا ، فيكون الثبوت الواقعي للحكم موقوفا على الثبوت الذهني له فلا دور ؛ لاختلاف الجهة والموضوع بينهما.

فإنّ الثبوت الواقعي قد أخذ في موضوعه الثبوت الذهني قيدا فيه ، وأمّا الثبوت الذهني فلم يؤخذ فيه قيديّة الثبوت الواقعي ؛ لأنّه غير متوقّف عليه أصلا.

إلا أنّه مع ذلك يقال بالاستحالة أيضا ، وذلك لوجهين آخرين غير محذور الدور ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 182

ولكنّ الافتراض مع هذا مستحيل ، وقد برهن على استحالته بوجوه :

منها : أنّ الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطا بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن يسلّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفيّة في القطع التي تجعل القاطع دائما يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.

الوجه الأوّل : أنّ أخذ القطع الأعمّ من المصيب والمخطئ قيدا في موضوع شخص الحكم وإن كان لا يبتلي بمحذور الدور المذكور سابقا ، إلا أنّه في نفسه مستحيل ؛ وذلك لأنّ تصويره يعني أنّ ثبوت الحكم موقوف على العلم بالحكم ذهنا ، ممّا يؤدّي إلى أنّ العلم بالحكم ذهنا هو السبب الذي به يوجد الحكم في الواقع ؛ لأنّ العلاقة بين الحكم وموضوعه كالعلاقة بين السبب والمسبّب.

وهذا لا يمكن قبوله ولا المصير إليه ؛ لأنّ دور القطع هو دور المرآتيّة والكاشفيّة ، فهو يري الواقع للقاطع بقطع النظر عمّا إذا كان هذا الواقع حقّا وصوابا أم مجرّد وهم وخيال ، فالقاطع يرى أنّ مقطوعه ثابت في الواقع والقطع هو الذي يريه هذا الواقع ، ممّا يعني أنّ القاطع نفسه - سواء كان قطعه مصيبا أم مخطئا - لا يرى أنّ قطعه هو الذي يولّد ويكوّن الواقع ، بل يراه كاشفا له عن الواقع فقط.

وحينئذ فما قيل في دفع إشكال الدور وإن كان معقولا في نفسه ، ولكنّه يلزم منه محذور آخر هو في الاستحالة بمكان ؛ لأنّه يؤدّي إلى صيرورة العلم هو الذي يكوّن الواقع ، وهو خلف حقيقة العلم وخلف الواقع أيضا.

ومن هنا فإذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فقد وجبت عليك ) ، كان معناه أنّ ثبوت الوجوب واقعا منوط بالعلم ذهنا بالوجوب ، فكان للعلم مدخليّة في ثبوت الواقع وتكوينه وليس مجرّد الإراءة والكشف عنه ، وهذا يستحيل التصديق به حتّى من نفس القاطع ؛ لأنّه لا يرى أنّ قطعه هو الذي كوّن وجوب الصلاة ، بل يراه كشف عن هذا الوجوب فقط ، فضلا عن كون هذا الافتراض في نفسه مخالفا لحقيقة القطع والعلم.

ومنها : أنّه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلّ تكليف يتوقّف على العلم بتحقّق موضوعه ، وموضوعه بحسب الفرض هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفا على العلم بالعلم بالتكليف ، والعلم بالعلم نفس

ص: 183

العلم ؛ لأنّ العلم لا يعلم بعلم زائد ، بل هو معلوم بالعلم الحضوري لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقّف العلم على نفسه.

الوجه الثاني : للاستحالة هو أنّ يقال : إنّه لو فرض أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع نفس الحكم بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، فإنّ مثل هذا التكليف يستحيل وصوله إلى المكلّف ، فلا يكون فعليّا بحقّه ؛ لأنّه إذا استحال وصوله إليه والوصول شرط في الفعليّة استحال كونه منجّزا وفعليّا على المكلّف.

وتوضيحه : أنّ العلم ينقسم إلى العلم الحصولي والعلم الحضوري ، فالعلم الحصولي هو حضور صورة الشيء في الذهن لا نفس الشيء ، فالعلم بالأشياء الخارجيّة كلّها من العلم الحصولي ؛ لأنّ صورتها هي التي تحصل في الذهن لا هي نفسها كالعلم بأنّ النار حارّة ، فإنّ صورة النار هي التي تحصل لا نفس النار الخارجيّة بما لها من خاصيّة الحرارة والإحراق كما هو واضح.

بينما العلم الحضوري هو حضور نفس المعلوم في الذهن لا مجرّد صورته فقط ، أي حضور شيء لشيء ، وهذا يكون بالنسبة للمجرّدات ، فالنفس بما أنّها مجرّدة فهي تعلم ذاتها علما حضوريّا ، بمعنى أنّ الإنسان يعلم ذاته لحضور ذاته بنفسها عنده لا مجرّد صورتها ، إذ المفروض أنّ النفس مجرّدة عن المادّة والصورة.

وهكذا علم النفس بما تعلمه فإنّ الصور الذهنيّة التي حضرت إلى الذهن تكون معلومة للنفس علما حضوريّا ؛ لأنّ نفس هذه الصورة حاضرة لدى النفس ولا يحتاج علمها بها إلى تصوّرها ، وإلا لزم التسلسل الذي لا ينتهي.

وعلى هذا نقول : إنّ العلم بالحكم لو كان قيدا في موضوع شخص الحكم ، فوصوله إلى المكلّف لا يكون إلا بوصول موضوعه ؛ لأنّ الحكم مرتبط بموضوعه ، وعلاقة الحكم بموضوعه علاقة السبب بالمسبّب ، فلكي يصل الحكم إلى المكلّف ويصبح فعليّا لا بدّ أن يصل موضوعه إليه ويصبح فعليّا في رتبة سابقة.

والمفروض هنا أنّ من جملة قيود الموضوع هو العلم بالحكم ، وهذا معناه أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالموضوع أي على العلم بالحكم ، ممّا يعني أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالعلم بالحكم ؛ لأنّه هو الموضوع ، وهذا ينتج أنّ العلم بالحكم متوقّف على العلم بالحكم فيتوقّف الشيء على نفسه وهو دور باطل.

ص: 184

وأمّا لما ذا كان العلم بالحكم هو نفسه العلم بالحكم؟ فهذا اتّضح ممّا ذكرناه آنفا ؛ لأنّ علم النفس بما لديها من علوم وصور ذهنيّة هو علم حضوري أي لا يحتاج إلى علم زائد ولا إلى صور ذهنيّة أخرى ، بل العلم حاضر لدى النفس بنفسه ؛ لأنّه مجرّد كيف نفساني وليس مركّبا من المادّة والصورة ، فالعلم بالعلم ليس إلا نفس العلم.

وبهذا يظهر أنّ محذور الدور والذي روحه وحقيقته توقّف الشيء على نفسه ، بمعنى أنّه إذا فرض في سلسلة المعلولات كان موجودا ، وإذا فرض في سلسلة العلل كان موجودا أيضا ، فهذا المحذور لا يجري فقط في عالم الجعل والتشريع بل يجري أيضا في عالم الوصول والفعليّة.

ولازم ذلك أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع الحكم نفسه وشخصه مستحيل.

إلا أنّ كلّ هذا إنّما يرد إذا أخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل.

ويمكن المناقشة في كلا التقريبين للاستحالة بالتقريب التالي :

إنّ المحذور المتقدّم سواء كان بلحاظ عالم الجعل والتشريع أم بلحاظ عالم الوصول والفعليّة ، إنّما يتوجّه فيما إذا كان قيد العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول ، فإنّه بهذا اللحاظ يشكل بالدور ، فيقال : إذا فرض أنّ العلم بالحكم المجعول قيد في موضوع الحكم المجعول نفسه ، فهذا معناه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ العلم بالحكم المجعول لا يكون ثابتا إلا بعد تحقّق موضوعه وهو قد أخذ فيه العلم بالحكم المجعول ، فيلزم أن يكون العلم بالحكم المجعول موقوفا على ثبوت العلم بالحكم المجعول فيدور.

ولكن إذا أخذنا العلم بالجعل قيدا في موضوع الحكم المجعول فهذا لا إشكال فيه ولا دور.

أمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الجعل والتشريع فلأنّ ثبوت الحكم المجعول وإن صار موقوفا على العلم بالحكم الجعلي إلا أنّ هذا التوقّف لا مانع منه ؛ إذ لا محذور في أن يكون الحكم المجعول مسبّبا عن العلم بالحكم الجعلي ، وذلك للتغاير بينهما ، فإنّ

ص: 185

الحكم بلحاظ عالم الجعل هو الحكم الثابت على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، وهما موجودان وثابتان معا في عالم اللحاظ ، بينما الحكم المجعول هو الحكم الذي يصبح فعليّا على تقدير وجود موضوعه في الخارج ، فالشارع لا يجعل الحكم فعليّا على المكلّف إلا إذا علم بالحكم في عالم الجعل ، فما لم يعلم به لا فعليّة للحكم عليه.

فمثلا وجوب الجهر على المكلّف في القراءة لا يكون مجعولا ولا فعليّا على المكلّف ، إلا إذا علم بثبوت هذا الحكم في عالم الجعل ، فما هو المتوقّف عليه إنّما هو العلم بالجعل وما هو المسبّب والمتولّد من ذلك إنّما هو العلم بالمجعول فلم يتوقّف الشيء على نفسه ولم يتولّد الشيء من نفسه.

وأمّا أنّه لا دور بلحاظ عالم الوصول فكذلك ؛ لأنّ العلم بالحكم الجعلي ووصوله إلى المكلّف ليس هو نفسه العلم بالحكم المجعول ؛ لأنّ متعلّق العلم الأوّل لمّا كان مغايرا لمتعلّق العلم الثاني فيمكن أن يؤخذ قيدا فيه ، نظير ما إذا أخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم آخر مخالف للحكم الأوّل.

وهكذا يظهر أنّه بالإمكان أن يتوصّل المولى إلى نتيجة التقييد من خلال هذا الطريق ، ولا يحتاج إلى طريق آخر للوصول إلى هذه النتيجة.

وأمّا من لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار كالمحقّق النائيني ; فقد وقع في حيرة من ناحيتين :

الأولى : أنّه كيف يتوصّل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلا؟

الثانية : أنّه اذا استحال التقييد استحال الإطلاق بناء على مختاره من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل الملكة والعدم ، وهذا يعني أنّ الجعل الشرعي يبقى مهملا بلا تقييد ولا إطلاق ، فكيف يرفع هذا الإهمال ويتعيّن في المطلق تارة وفي المقيّد أخرى؟

تقدّم أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ؛ لمحذور الدور فيما إذا كان العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول ، وقلنا بأنّ هذا المحذور لا يرد فيما إذا كان العلم في عالم الجعل قيدا للحكم في عالم المجعول.

ص: 186

إلا أنّ الميرزا النائيني ذهب إلى عدم إمكان حلّ إشكال الدور بذلك ، واعتبر أنّ إشكال الدور أو توقّف الشيء على نفسه ثابت ، سواء كان التقييد بلحاظ عالم الإنشاء أم بلحاظ عالم الفعليّة ، فقال ما حاصله : أنّ أخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الإنشاء يلزم منه توقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ الإنشاء يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة أي عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود ، وهذا الإنشاء ثابت قبل تحقّق الموضوع في الخارج ، وإنّما يصبح الإنشاء فعليّا بتحقّق الموضوع في الخارج.

وعليه ، فإذا أخذ العلم بالإنشاء قيدا في الموضوع لزم حين إنشاء الحكم أن يتصوّر الموضوع ، والموضوع قد أخذ فيه العلم بالإنشاء فيكون العلم بالإنشاء سابقا على الإنشاء أو مولّدا للإنشاء وهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ دوره إنّما هو الكاشفيّة لا التوليد. مضافا إلى استلزامه الدور ؛ إذ يتوقّف الإنشاء على العلم بالإنشاء.

وهكذا الحال بالنسبة لأخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الفعليّة ؛ لأنّ الحكم لا يكون فعليّا إلا يتحقّق موضوعه ووصوله إلى المكلّف ، والمفروض أنّ موضوعه قد أخذ فيه العلم بالحكم.

وهذا يعني أنّ الحكم لا بدّ أن يكون ثابتا وفعليّا وواصلا للمكلّف في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ ثبوته كذلك يعني فعليّته التي هي فرع تحقّق موضوعه ، فصار الحكم موقوفا على تحقّق الموضوع وفعليّته ، وصار الموضوع موقوفا على تحقّق الحكم وفعليّته ، فكان كلّ منهما متوقّفا على الآخر وهذا دور.

ومن هنا ذهب إلى أنّه لا يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة التقييد بأخذ العلم قيدا في الحكم ، سواء كان في عالم الإنشاء مأخوذا قيدا أم في عالم الفعليّة.

ولكن توجد أمامه مشكلتان لا بدّ من حلّهما :

الأولى : أنّه قد ثبت في بعض الموارد الفقهيّة تقييد الحكم بالعالم به ، فكيف يمكن للشارع أن يتوصّل إلى تقييد الحكم بالعالم به ، مع أنّ التقييد مستحيل كما تقدّم؟

والثانية : أنّ الميرزا ذهب في بحث الإطلاق والتقييد إلى أنّ التقابل بينهما في عالم الثبوت هو تقابل العدم والملكة ، بمعنى أنّه لا يصحّ الإطلاق إلا في المورد الذي يكون قابلا للتقييد ، فإذا كان المورد قابلا للتقييد ولم يقيّد استكشف من ذلك الإطلاق.

وأمّا إذا كان المورد غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق ، إذ قد يكون مراده

ص: 187

التقييد ولكنّه لم يقيّد من أجل محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه ، ولذلك يكون المورد مهملا من ناحية الإطلاق والتقييد ، إلا أنّ هذا الإهمال لا يمكن الالتزام به عمليّا ؛ لأنّ مراد المولى إمّا أن يكون مطلقا أو يكون مقيّدا ، ولذلك نحتاج إلى ما يرفع هذا الإهمال لتعيين المطلق أو المقيّد.

وهذا بخلاف مذهب المشهور القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما كما هي مقالة السيّد الخوئي ، فإنّ النتيجة هي أنّه إذا استحال التقييد تعيّن الإطلاق وهكذا العكس.

والحاصل : أنّ الميرزا يواجه مشكلة على صعيدين :

الأوّلى : في كيفيّة التوصّل إلى تخصيص بعض الأحكام بالعالم بها.

الثانية : في كيفيّة الخروج من حالة الإهمال بالنسبة للإطلاق والتقييد.

وأمّا جوابه عنهما فهو :

وقد حلّ رحمه اللّه ذلك بافتراض جعل ثان يتكفّل إثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأوّل خاصّة إذا أريد التقييد ، وللمكلّف مطلقا من حيث علمه بالجعل الأوّل وجهله به إن أريد الإطلاق.

وبذلك تتحقّق نتيجة التقييد والإطلاق ، وإنّما نعبّر بالنتيجة لا بها ؛ لأنّ ذلك لم يحصل بالجعل الأوّل المهمل ، وإنّما عوّض عن إطلاقه وتقييده بجعل ثان على الوجه المذكور.

ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد والإطلاق في نفس الجعل الأوّل ؛ لأنّ العلم بالحكم الأوّل أخذ قيدا في الحكم الثاني لا في نفسه ، فلا دور.

ونظرا إلى أنّ الجعلين قد نشا من غرض واحد ولأجل ملاك فارد كان التقييد في الثاني منهما في قوّة التقييد في الأوّل ، ولهذا عبّر عن الثاني بمتمّم الجعل الأوّل (1).

ثمّ إنّ الميرزا قد ذكر حلاّ للمشكلتين معا ، وهذا الحلّ أسماه بمتمّم الجعل.

وتوضيحه : أنّ الأمر لمّا كان مهملا من ناحية تقييده بالعالم به أو إطلاقه للعالم والجاهل معا ، وهذا الإهمال نشأ نتيجة استحالة التقييد بالعلم والمفروض أنّه إذا

ص: 188


1- فوائد الأصول 3 : 11 - 12.

استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ولكن هذا الإهمال إنّما هو بحسب عالم الدلالة والإثبات.

وأمّا بلحاظ عالم الواقع والثبوت فالشارع إمّا أن يكون قد رأى أنّ الملاك محفوظ في حالتي العلم والجهل فهذا يعني الإطلاق ، وإمّا أنّه محفوظ في حالة العلم به دون الجهل ممّا يعني أنّه مقيّد ، فالمراد الواقعي للشارع لا يخلو من الإطلاق أو التقييد ولا يتصوّر الإهمال في المراد الواقعي الجدّي في عالم الثبوت ؛ لأنّ الإهمال في عالم الملاك غير معقول.

وعلى هذا فالشارع يمكنه أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق أو إلى نتيجة التقييد ، وذلك بأن يجعل حكما آخر يتكفّل إثبات أنّ الحكم الأوّل مختصّ بالعالم به إذا كان يريد التقييد ، أو إثبات أنّ الحكم الأوّل شامل للعالم والجاهل إذا كان يريد الإطلاق ، وبهذا الجعل الثاني تحصل لدينا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، ولكن لا يحصل لدينا الإطلاق والتقييد أنفسهما.

والوجه في ذلك هو : أنّ المقام ليس مثل سائر المقامات الأخرى التي يمكن استكشاف الإطلاق فيها لمجرّد عدم ذكر القيد على أساس مقدّمات الحكمة كما إذا قيل : ( أعتق رقبة ) أو ( أكرم العالم ) ، فإنّه يمكننا إثبات الإطلاق على أساس مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لو كان يريد التقييد لذكر ما يدلّ عليه مع كونه في مقام البيان والتفهيم ، فعدم ذكره للقيد دليل على إرادة الإطلاق ، إلا أنّ مقدّمات الحكمة هذه لا تجري في مقامنا وما شابهه كأخذ امتثال الأمر مثلا.

والفرق بين المقامين هو أنّ الحكم في تلك الموارد انصبّ على المقسم ؛ لأنّ الرقبة تنقسم إلى المؤمنة وغيرها وهكذا العالم ، فلمّا انصبّ على المقسم ولم يرد ما يدلّ على شيء آخر زائدا عليه استكشف أنّ مراده المقسم فقط الشامل لكلا القسمين فيكون مطلقا.

وأمّا في مقامنا فالحكم لا ينصبّ على المقسم ؛ لأنّ التقسيم إنّما يحصل بعد الحكم والأمر ، فمثلا العلم والجهل إنّما هما وصفان للأمر والحكم ، فالمكلّف إمّا أن يعلم بالحكم والأمر وإمّا أن يجهلهما ولكن علمه أو جهله بعد فرض ثبوت الأمر والحكم.

ومن الواضح أنّه حينما ثبت الأمر والحكم كان منصبّا على الطبيعة والماهيّة لا على

ص: 189

شيء آخر ، والطبيعة والماهيّة ليست مقسما للعلم والجهل ، ولذلك لا يمكن إثبات الإطلاق للعالم والجاهل كما لا يمكن إثبات التقييد بخصوص العالم.

هذا ولكن يمكن للشارع أن يتوصّل إلى نتيجة الإطلاق والتقييد ، وذلك بجعل حكم آخر وهو ما يسمّى بمتمّم الجعل ، فمن خلال هذا الجعل الثاني إمّا أن يستكشف نتيجة الإطلاق وإمّا أن يستكشف نتيجة التقييد ، فإذا ذكر الشارع متمّم الجعل وذكر فيه قيد العلم بأن قال : إنّ الحكم الأوّل مقيّد بالعالم به ثبتت نتيجة التقييد كما هو الحال بالنسبة للجهر والإخفات ، وإن لم يذكر متمّم الجعل هذا فعدم ذكره يكون دليلا على أنّ الجعل الأوّل المراد منه خصوص ما تعلّق به ، فيشمل حالتي العلم والجهل فتحصل نتيجة الإطلاق.

هذا وقد ثبت بمتمّم الجعل نتيجة الإطلاق في سائر الأحكام الشرعيّة ، ولذلك ادّعي الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وثبت على أساسه نتيجة التقييد في بعض الموارد كالجهر والإخفات والقصر والتمام.

يبقى الكلام في حقيقة متمّم الجعل فنقول : إنّ متمّم الجعل عبارة عن أمر آخر ناشئ من نفس ملاك الأمر الأوّل ، فهو وإن كان هناك تعدّد في الأمر إلا أنّ الأمرين لهما ملاك واحد ، ولذلك لا يوجد إلا امتثال واحد وعقاب واحد على المخالفة.

ولا يقال : إنّ الأمر الثاني لمّا كان مجعولا على نحو الاستقلال فله مخالفة وامتثال غير المخالفة والامتثال للأمر الأوّل ؛ لأنّه يقال : إنّ تعدّد الأمر لو كان على أساس تعدّد الملاك للزم الإشكال ، إلا أنّه ليس كذلك بل الأمر الثاني كان لأجل بيان المراد الواقعي وبيان ما هو الملاك الثابت واقعا من الأمر الأوّل ، وليس ناشئا من ملاك استقلالي فيه ؛ لأنّ المولى لا علاج لديه من أجل تحصيل غرضه إلا بذلك ، فهناك ملاك واحد لا يمكن إبرازه إلا بأمرين.

ومن هنا كان الوجه في تسمية الجعل الثاني بمتمّم الجعل ؛ لأنّه به يتمّ الإفصاح عن الملاك ، ولا يمكن للأمر الأوّل وحده أن يكشف عن الملاك الواقعي للمولى.

وبهذا يظهر أنّ مشكلة الإهمال تنحلّ بمتمّم الجعل الذي يثبت نتيجة الإطلاق أو التقييد ، كما أنّ مشكلة تقييد الحكم بالعالم به تنحلّ أيضا بالتوصّل إليها عن طريق متمّم الجعل هذا.

ص: 190

وأمّا مشكلة الدور التي كانت واردة فيما لو أريد أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه ، فهذه لا تأتي هنا ؛ لأنّ التقييد إنّما كان في الجعل الثاني لا في نفس الجعل الأوّل ، بمعنى أنّ الشارع قد أخذ العلم بالحكم قيدا لا في نفس الأمر الأوّل وإنّما بالأمر الثاني ، فالعلم بالحكم الأوّل قد أخذ قيدا في الحكم الثاني ، فثبوت الحكم الثاني موقوف على ثبوت الحكم الأوّل ، وأمّا الحكم الأوّل فهو ليس موقوفا على العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بالحكم الأوّل وإن كان قيدا في ثبوت الحكم الثاني ، إلا أنّ ثبوت الحكم الأوّل لم يؤخذ فيه العلم بالحكم الثاني ليلزم الدور أو توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا كيفيّة تأثير الجعل الثاني على الجعل الأوّل في الإطلاق والتقييد ، فلأنّ الجعل الثاني لمّا كان ناشئا من نفس ملاك الجعل الأوّل فكان التقييد فيه بقوّة التقييد في الجعل الأوّل والإطلاق فيه بقوّة الإطلاق في الجعل الأوّل أيضا ، فالأمران معا كأنّهما أمر واحد ، وإنّما لم يجعل الشارع الأمر واحدا ؛ لأنّه لا يمكنه التوصّل إلى مراده الجدي وبيان ملاكه الواقعي بالأمر الواحد ؛ لأنّه سوف يبتلي بالإهمال ؛ لأنّ التقييد مستحيل فيستحيل معه الإطلاق.

هذا ملخّص ما ذكره الميرزا من حلّ للمشكلة.

إلا أنّ السيّد الشهيد لم يقبل هذه الفكرة ، ولذلك ردّ كلام الميرزا بقوله :

ويرد عليه : أنّه إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأوّل فهذا التقييد ممكن في الجعل الأوّل مباشرة كما عرفت ، وإن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بفعليّة المجعول في الجعل الأوّل المهمل فهذا غير معقول ؛ لأنّه يفترض أنّ فعليّة المجعول بالجعل الثاني فرع العلم بفعليّة المجعول بالجعل الأوّل المهمل ، وحينئذ نتساءل أنّ المجعول بالجعل الأوّل المهمل هل ترتبط فعليّته بالعلم به أو لا؟ فعلى الأوّل يعود المحذور وهو توقّف الشيء على العلم به ، وعلى الثاني يلزم الخلف وأن يكون الجعل المهمل الذي لا إطلاق فيه مطلقا ؛ لأنّ ثبوت مجعوله بدون توقّف على القيد هو معنى الإطلاق.

الإشكال على مقالة الميرزا بمتمّم الجعل ، وحاصله أن يقال : إنّ الجعل الثاني الذي

ص: 191

به يتمّ الجعل الأوّل المهمل به ، حيث أخذ العلم قيدا فيه فنسأل عن كيفيّة أخذ قيديّة العلم هذه؟

فإن كان مقيّدا بالعلم بالجعل الأوّل بأن قال المولى : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه ولا يلزم منه محذور الدور كما تقدّم ؛ لأنّ العلم بالجعل الأوّل لا يتوقّف على العلم بالجعل الثاني وإنّما التوقّف من جهة الجعل الثاني فقط فإنّه موقوف على العلم بالجعل الأوّل ، إلا أنّه مع ذلك يكون لغوا ولا فائدة منه ؛ لأنّه تطويل بلا فائدة إذ كان بإمكان المولى أن يقيّد بهذا القيد في نفس الجعل الأوّل فيقول : ( إذا علمت بالجعل الأوّل فيصبح فعليّا عليك ) ؛ لأنّ العلم بالجعل يمكن أخذه قيدا في المجعول كما تقدّم.

وإن كان مقيّدا بالعلم بفعليّة الجعل الأوّل ، بأن قال المولى : ( إذا علمت بفعليّة الجعل الأوّل المهمل فالجعل الثاني فعلي ) ، فهذا غير معقول في نفسه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الفعليّة معناها تحقّق الموضوع وقيوده وشروطه ، فلكي يصبح الحكم فعليّا لا بدّ من تحقّق الموضوع وكلّ ما أخذ فيه. وعليه ، فلكي يعلم المكلّف بفعليّة الجعل الأوّل لا بدّ من تحقّق موضوعه أوّلا ، وموضوع الجعل الأوّل لا يخلو إمّا أن يكون مقيّدا أو مطلقا أو مهملا ، والكلّ لا يمكن الالتزام به. إذا فلا يمكن أن يعلم المكلّف بالفعليّة لعدم إمكان تحقّق هذه الفعليّة.

وبيان ذلك : أنّ موضوع الجعل الأوّل إن كان مقيّدا بالعلم ومختصّا بالعالم فقط ، فهذا يلزم منه محذور الدور وتوقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ معناه هكذا ( العلم بالجعل الأوّل قيد في موضوع الجعل الأوّل ) فيتوقّف العلم به على العلم.

وإن كان غير مقيّد بالعلم فهذا معناه أنّه يشمل العالم والجاهل وهو معنى الإطلاق ، والمفروض أنّه مهمل ، والمهمل معناه أنّ التقييد والإطلاق غير ملحوظين فيه ، فيكون إطلاقه مخالفا لحقيقة الإهمال فيه.

وإن كان مهملا كما يفترضه الميرزا فهذا معناه أنّ المكلّف لا يمكنه العلم بموضوعه ؛ لأنّه لا يعلم هل موضوعه مقيّد بالعلم أم هو شامل للعلم والجهل معا؟ ومع عدم العلم بموضوعه لا يمكن العلم بفعليّته ، وبالتالي لا يكون الجعل الثاني ثابتا ؛ لأنّه موقوف على العلم بفعليّة الجعل الأوّل المهمل.

ص: 192

مضافا إلى أنّ الإهمال نفسه غير معقول ثبوتا ؛ إذ المولى إمّا أن يكون لاحظ قيد العلم أو لا ، فعلى الأوّل يكون مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي.

وبهذا يظهر أنّ فكرة متمّم الجعل غير ممكنة في نفسها.

وثمرة هذا البحث تظهر في إمكان التمسّك بإطلاق دليل الحكم لنفي دخل قيد العلم في موضوعه ، فإنّه إن بني على إمكان التقييد والإطلاق معا أمكن ذلك ، كما هو الحال في نفي سائر القيود المحتملة بالإطلاق.

وإن بني على مسلك المحقّق النائيني القائل باستحالة التقييد والإطلاق معا فلا يمكن ذلك ؛ لأنّ الإطلاق في الحكم مستحيل ، فكيف يتمسّك بإطلاق الدليل إثباتا لاكتشاف أمر مستحيل؟!

وإن بني على أنّ التقييد مستحيل والإطلاق ضروري - كما يرى ذلك من يقول بأنّ التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل التناقض أو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما - فلا يمكن التمسّك بإطلاق الدليل ؛ لأنّ إطلاق الدليل إنّما يكشف عن إطلاق مدلوله وهو الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى ، وإنّما الشكّ في إطلاق الملاك وضيقه ، ولا يمكن استكشاف إطلاق الملاك لا بإطلاق الحكم المدلول للدليل ولا بإطلاق نفس الدليل.

أمّا الأوّل فلأنّ إطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يجعله مقيّدا فلم يفعل ، والمفروض في المقام استحالة التقييد.

وأمّا الثاني فلأنّ الدليل مفاده مباشرة هو الحكم لا الملاك.

وأمّا الثمرة : من هذا البحث فهي تظهر فيما إذا شكّ في كون العلم مأخوذا قيدا في موضوع الحكم أو لا ، بمعنى أنّه في صورة الشكّ في أخذ العلم قيدا في موضوع الحكم ، هل يمكن نفي هذا القيد على أساس مقدّمات الحكمة أم لا يمكن ذلك؟

والجواب يختلف باختلاف المباني ، وبيان ذلك : أنّه إذا بني على أنّ التقييد والإطلاق كلاهما ممكن في نفسه ، بمعنى أنّ الشارع يمكنه أن يجعل الحكم مقيّدا بالعلم به كما يمكنه أن يجعله مطلقا من هذه الناحية ، فإذا جاء الدليل الدالّ على

ص: 193

الحكم خاليا من القيد المذكور أمكن القول بأنّه مطلق لجريان مقدّمات الحكمة ، فإنّه يقال : لو كان يريد القيد ومع ذلك لم يذكره لكان مخلاّ في مقام البيان لمراده ، إذا فهو لا يريد التقييد ، فيتعيّن أنّه يريد الإطلاق ؛ لأنّ الإهمال الثبوتي مستحيل. وهذا نظير سائر الموارد التي يحتمل فيها التقييد فإنّه ينفى بقرينة الحكمة.

وأمّا إذا بني على مسلك المحقّق النائيني بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، ففي مقامنا حيث يستحيل التقييد بالعلم لما مرّ من محذور الدور أو توقّف الشيء على نفسه أو على العلم به ، فيستحيل الإطلاق أيضا.

ولا يمكننا إثبات الإطلاق على أساس قرينة الحكمة ؛ لأنّها تبتني على أنّ المولى إذا لم يقيّد فهو يريد الإطلاق والمفروض أنّ التقييد مستحيل ، فقد يكون المولى مراده التقييد ولكنّه لم يقيّد لأجل محذور الاستحالة ، فلا يستكشف من إطلاق الدليل على أساس مقدّمات الحكمة الإطلاق ؛ لأنّها لا تجري أصلا.

بل لو قيل بجريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الدليل فمع ذلك لا يمكننا الأخذ بها ؛ لأنّها تريد أن تثبت لنا الإطلاق والمفروض أنّنا أثبتنا استحالته في رتبة سابقة ، ولا يمكن الأخذ بدليل يثبت لنا أمرا مستحيلا.

وأمّا إذا بني على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو بني على المسلك المختار عند السيّد الشهيد القائل بأنّ التقابل بينهما هو تقابل النقيضين ، فهنا لمّا استحال تقييد الحكم بالعلم به فسوف يتعيّن الإطلاق بالضرورة ؛ لأنّ النقيضين وهكذا الضدّين اللذين لا ثالث لهما إذا استحال أحدهما تعيّن الآخر بالضرورة ؛ إذ يستحيل ارتفاع النقيضين معا كما هو واضح.

وعليه ، فإذا كان الإطلاق ضروري الوقوع فلا يمكننا أيضا التمسّك بإطلاق الدليل وإجراء مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ إطلاق الدليل ما ذا يراد به؟

فإن كان المراد به إثبات إطلاق الحكم فهذا معلوم بالضرورة ؛ لأنّ الحكم الذي هو مدلول للدليل قد علم إطلاقه في رتبة سابقة ، فيكون إثبات الإطلاق لاكتشافه تحصيلا للحاصل فيلغو.

وإن كان المراد به إثبات إطلاق الملاك فهذا غير ممكن أيضا ؛ لأنّ إثبات إطلاق

ص: 194

الملاك إمّا أن يكون عن طريق الإطلاق في الدليل ، وإمّا عن طريق الإطلاق في المدلول أي في الحكم ، وكلاهما غير ممكن.

أمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك على أساس الإطلاق في الدليل ؛ فلأنّ الإطلاق في الدليل يثبت كون المدلول مطلقا والمدلول ليس هو إلا الحكم ، فينحصر الوجه في إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم.

وأمّا عدم إمكان إثبات إطلاق الملاك بإطلاق الحكم الذي هو مدلول الدليل ، فلأنّ اكتشاف الإطلاق بهذا الطريق فرع أن يكون الحكم مطلقا ، وإطلاق الحكم في المقام كان ضروريّا لاستحالة التقييد ، إلا أنّ هذا لا يكشف عن الإطلاق في الملاك ؛ لأنّه قد يكون ملاك المولى في التقييد ولكنّه لم يقيّد بسبب الاستحالة ولهذا أطلق ، فإطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك فيما لو كان يمكن للمولى أن يجعل الحكم مقيّدا ولكنّه لم يقيّده ، فيدلّ ذلك على أنّه مطلق وإطلاقه حينئذ يكشف عن إطلاق الملاك ، إلا أنّ هذا غير موجود في محلّ الكلام بسبب استحالة التقييد.

وبتعبير آخر : إنّ إطلاق الملاك ينحصر طريقه في إثبات الإطلاق في الحكم ، ولكن الإطلاق في الحكم تارة يكون متعيّنا ومفروضا على المولى ، وأخرى لا يكون كذلك بل المولى يريده.

فعلى الثاني يمكن استكشاف إطلاق الملاك على أساس إطلاق الحكم ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مرادا للمولى فهو يعني أنّ الحكم مطلق لجميع الحالات وبه يستكشف إطلاق الملاك كذلك.

وأمّا على الأوّل فلا يمكن استكشاف إطلاق الملاك ؛ لأنّ إطلاق الحكم لمّا كان مفروضا على المولى ومتعيّنا فهو قد لا يريده ثبوتا ، وإنّما أطلق بسبب المحذور في التقييد ، فقد يكون الملاك على أساس التقييد فقط فلا يمكن إثبات إطلاق الملاك.

وفي مقامنا إطلاق الحكم كان على أساس استحالة التقييد ممّا يعني أنّ الإطلاق مفروض ومتعيّن على المولى ؛ لأنّه ضروري الوقوع ، ولذلك لا يمكن أن يكشف عن إطلاق الملاك.

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله :

وأمّا الافتراض الثاني فهو مستحيل ؛ لأنّ القاطع - سواء كان مصيبا في قطعه أو

ص: 195

مخطئا - يرى في ذلك اجتماع الحكمين المتضادّين فيمتنع عليه أن يصدّق بالحكم الثاني ، وما يمتنع تصديق المكلّف به لا يمكن جعله ، وفي حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدّين حقيقة.

وهذا الافتراض في حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع بجعل حكم على القاطع مضادّ لمقطوعه ، واستحالته بتعبير آخر هي استحالة الردع عن العمل بالقطع.

الحالة الثانية : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مضادّ لهذا الحكم ، كما إذا قيل : ( إذا قطعت بوجوب الصلاة فهي حرام عليك ) ، أو قيل : ( إذا قطعت بحرمة شرب الخمر فهو حلال لك ).

وفي هذه الحالة يقال أيضا بالاستحالة ؛ وذلك للتقريب التالي : أنّ من قطع بوجوب الصلاة مثلا فقطعه إمّا أن يكون مصيبا للواقع أو يكون مخطئا.

وعليه ، فإن كان قطعه مخطئا وفي الواقع لم تكن الصلاة واجبة ، ولكنّه لمّا علم بوجوبها فهو يعتقد أنّها واجبة ، فمثل هذا القاطع لا يمكنه أن يصدّق بأنّها محرّمة ؛ لأنّ تصديقه بذلك يعني أنّه يصدّق باجتماع الضدّين ، واجتماع الضدّين كما أنّه مستحيل الوقوع فكذلك هو مستحيل التصديق والاعتقاد به.

فالاستحالة في اجتماع الضدّين لا تتوقّف على الوقوع في الخارج ، بل هي تعمّ الوجود الذهني أيضا ، فكما لا يمكن وجود الضدّين معا في الخارج على موضوع واحد ، فكذلك لا يمكن وجودهما معا في الذهن على صورة ذهنيّة واحدة.

وإذا استحال التصديق بهما كذلك يستحيل للمولى أن يجعل مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا أثر ولا محرّكيّة له ، وما دام الحكم فاقدا للمحرّكيّة والباعثيّة كان جعله لغوا ، والشارع يمتنع في حقّه أن يشرّع ما هو لغو في نفسه.

وأمّا إن كان قطعه مصيبا للواقع ، فهذا معناه أنّ الصلاة واجبة واقعا والشارع قد حكم بوجوبها واقعا ، ومعه فبالإضافة إلى المحذور السابق سوف يردّ محذور اجتماع الضدّين واقعا وحقيقة ، بمعنى أنّ لازم الحكم المذكور أنّ الشارع قد حكم بوجوب الصلاة وبحرمتها أيضا ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع الحكيم الملتفت ؛ لأنّه مستحيل في نفسه.

ص: 196

هذا ، ويمكن تقريب الاستحالة بنحو آخر وذلك بأن يقال : أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع ضدّه تعبير آخر عن الردع عن العمل بالقطع بعد حصوله ، ومثل هذا الردع مستحيل ؛ لأنّه إمّا أن يكون بحكم واقعي أو بحكم ظاهري وكلاهما مستحيل.

أمّا أنّه يستحيل الردع الواقعي فلأنّه يؤدّي إلى صدور حكمين متضادّين واقعا ، وهو غير معقول في نفسه فيما إذا كان القطع مصيبا للواقع ، أي يؤدّي إلى اجتماعهما في نظر القاطع وفي الواقع أيضا وهو غير معقول ؛ لأنّه لا يمكنه التصديق بهما معا.

وأمّا أنّه يستحيل الردع الظاهري فلأنّ الحكم الظاهري مأخوذ فيه الشكّ في الحكم الواقعي في رتبة سابقة ، والمفروض أنّ المكلّف قد قطع بوجوب الصلاة فهو غير شاكّ ، ولذلك لا يرى أنّ الردع الظاهري جدّيا بالنسبة إليه على فرض صدوره.

وهذا التقريب تقدّم في مباحث القطع وأنّه لا يعقل سلب المنجّزيّة ولا المعذّريّة عن القاطع لا بحكم واقعي ولا بحكم ظاهري.

ومقامنا يعتبر مصداقا لذلك فهو تعبير آخر عن الردع ؛ لأنّه لمّا كان عبارة عن إنشاء حكم مضادّ لما قطع به ، فهذا معناه أنّ الحكم الثاني يردعه عن العمل بالحكم الأوّل الذي قطع به.

ولا فرق بين المقامين ؛ لأنّه هناك كان من باب سلب الحجّيّة عن القطع وهنا كان من باب جعل حكم آخر مضادّ للحكم المقطوع به ، إلا أنّهما عمليّا شيء واحد ؛ لأنّ سلب الحجّيّة معناها عدم العمل بالقطع وجعل حكم مضادّ معناه أنّه لا يعمل بالقطع السابق.

وأمّا الافتراض الثالث : فقد يطبّق عليه نفس المحذور المتقدّم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدّين بمحذور اجتماع المثلين.

وقد يجاب على ذلك بأنّ محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكّد والتوحّد ، كما هو الحال في ( أكرم العادل وأكرم الفقير ) فإنّهما يتأكّدان في العادل الفقير.

ولكنّ هذا الجواب ليس صحيحا ؛ لأنّ التأكّد على نحو التوحّد إنّما يكون في مثلين لا طوليّة وترتّب بينهما كما في المثال لا في المقام ، حيث إنّ أحدهما متأخّر رتبة عن الآخر لترتّبه على القطع به فلا يمكن أن يرتفع محذور اجتماع المثلين بالتأكّد.

ص: 197

الحالة الثالثة : أن يؤخذ العلم بالحكم قيدا في موضوع حكم مماثل له ؛ كما إذا قيل : ( إذا علمت بوجوب الصلاة فقد وجبت عليك ).

وفي هذه الحالة يقال بالاستحالة أيضا ؛ للزوم محذور اجتماع المثلين ، فإنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين كلاهما مستحيل سواء كان المكلّف مصيبا في قطعه للواقع أم كان مخطئا ، فإنّه إذا كان مصيبا في قطعه فهذا معناه اجتماع المثلين واقعا على موضوع واحد ، وإن كان مخطئا في قطعه فلازمه اجتماع المثلين في اعتقاده وتصديقه بذلك ؛ لأنّه يرى أنّه مصيب بقطعه دائما ولا يرى أنّ قطعه مخطئ.

والوجه في استحالة المثلين : هو أنّ الحكمين المتماثلين كغيرهما من الأوصاف والأعراض الخارجيّة لا يمكن اجتماعهما معا مع الحفاظ على تعدّدهما ، فإذا كان شيء ما أسود فلا معنى لثبوت سواده مجدّدا بنحو يكون لكلّ سواد منهما وجود مستقلّ ومباين للآخر ، وهكذا في الأحكام الشرعيّة فإنّه إذا كان شيء ما حراما أو واجبا فلا معنى لإيجابه أو تحريمه مجدّدا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيلغو.

وأجيب عن المحذور المذكور بأنّ اجتماع المثلين ممكن فيما إذا أدّى إلى التأكّد والتوحّد ، فيصبح الأمران أمرا واحدا والوجوبان وجوبا واحدا ولكنّه آكد وأشدّ ، نظير ما إذا قيل : ( أكرم العالم ) وقيل : ( أكرم الفقير ) فإنّهما إذا اجتمعا في شخص واحد لم يكن من اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوبين يتّحدان ويتأكّدان بلحاظه. ولا يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ؛ لأنّ التأكّد فيه غرض عقلائي واضح.

وفيه : أنّ التوحّد والتأكّد إنّما يتصوّران فيما إذا كان بين الشيئين اللذين يراد توحيدهما وتأكيدهما رتبة عرضيّة ، ولم يكن أحدهما متوقّفا على الآخر ومترتّبا في وجوده عليه وفي طوله ، وإلا لكان التأكّد مستحيلا.

وتوضيحه : أنّنا إذا فرضنا شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد في الوجود أمكن عروضهما على موضوع واحد فيصبحان شيئا واحدا آكد وأشدّ ، كما هو الحال في الأعراض والأوصاف الخارجيّة ، فإنّ عروض السواد على ما هو أسود يؤدّي إلى تأكّد السواد وصيرورته شديدا أكثر ممّا كان عليه سابقا.

وهكذا في مثل : ( أكرم العالم ) و ( أكرم الفقير ) فإنّ عروضهما على شخص واحد يتّصف بالوصفين معا يجعل من وجوب إكرامه وجوبا أكيدا ، ممّا يعني أنّه يوجد

ص: 198

وجوب واحد لإكرامه ولكنّه بسببين هما الفقر والعلم ، وهذا ممكن في نفسه ولا محذور فيه.

ولكن إذا افترضنا شيئين ليس بينهما رتبة وجوديّة عرضيّة ، بل كان أحدهما في طول الآخر ووجوده متوقّف على وجود الآخر ، فهنا يستحيل التأكّد والتوحّد ، والوجه فيه هو : أنّ أحدهما لمّا كان سابقا في وجوده على الآخر وكان الآخر متوقّفا ومترتّبا عليه ، فهذا معناه أنّه صار علّة وسببا لوجوده وصار الثاني معلولا ومسبّبا عنه. ومن الواضح أنّ العلّة والمعلول أو السبب والمسبّب لا يمكن أن يتوحّدا معا ويصيرا شيئا واحدا ، بل هما أمران متغايران ومتعدّدان.

وهذا الكلام يجري في مقامنا ، فإنّ الوجوب الثاني لمّا كان مترتّبا وموقوفا على العلم بالوجوب الأوّل فهذا معناه أنّه متولّد منه ومتفرّع عليه في الوجود ، فلا بدّ من ثبوت الوجوب الأوّل ثمّ يتولّد من العلم به الوجوب الثاني ، ولا يمكن للوجوب الثاني أن يتّحد مع الوجوب الأوّل ؛ لأنّه متأخّر في الوجود عنه لأنّه معلول له ، والعلّة لا تتّحد مع المعلول.

فإذا كانا متعدّدين جاء محذور اجتماع المثلين ؛ لأنّ الوجوب الثاني يعتبر لغوا وتحصيلا للحاصل ولا فائدة منه ، ولذلك يستحيل جعله من الشارع ويستحيل التصديق به من قبل المكلّف.

وبهذا يظهر أنّ هذا الفرض مستحيل أيضا.

* * *

ص: 199

ص: 200

الواجب التوصّلي والتعبّدي

اشارة

ص: 201

ص: 202

الواجب التوصّلي والتعبّدي

لا شكّ في وجود واجبات لا يخرج المكلّف عن عهدتها إلا إذا أتى بها بقصد القربة والامتثال ، وفي مقابلها واجبات يتحقّق الخروج عن عهدتها بمجرّد الإتيان بالفعل بأي داع كان. والقسم الأوّل يسمّى بالتعبّدي ، والثاني يسمّى بالتوصّلي.

مقدّمة البحث : للواجب التوصّلي عدّة معان ويقابله في ذلك الواجب التعبّدي ، وهي :

1 - الواجب الذي يسقط بفعل أي واحد من المكلّفين ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا بفعل المكلّف نفسه ، وهذا البحث يأتي في الواجب العيني والواجب الكفائي.

2 - الواجب الذي يسقط إذا فعله المكلّف ولو عن اضطرار ، ويقابله الواجب الذي لا يسقط إلا إذا فعله المكلّف اختيارا ، وهذا يأتي في البحث عن سقوط الواجب بالفعل الاضطراري وعدمه.

3 - الواجب الذي يتحقّق امتثاله سواء كان في الفرد المحرّم أم المحلّل ، ويقابله الواجب الذي لا يتحقّق امتثاله إلا ضمن الفرد السائغ فقط ، وهذا يبحث عنه في اجتماع الأمر والنهي.

4 - الواجب الذي لا يشترط فيه قصد القربة أو امتثال الأمر ، ويقابله الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

إذا الواجب التوصّلي في المقام : هو الواجب الذي يخرج المكلّف عن عهدته وتبرأ ذمّته بالإتيان به كيفما اتّفق من دون قصد القربة ولا امتثال الأمر ، بل مجرّد إتيانه بالفعل بأي داع كان يعتبر امتثالا للواجب.

ص: 203

وأمّا الواجب التعبّدي : فهو الواجب الذي لا يخرج المكلّف عن عهدته ولا تبرأ ذمّته منه إلا بإتيانه بقصد القربة أو قصد امتثال الأمر لا كيفما كان.

ومثال الأوّل : أداء الدين ، فإنّه لا يشترط فيه نيّة القربة ، بل هو عبارة عن إرجاع مال الغير إليه بأي نحو كان.

ومثال الثاني : سائر العبادات ؛ كالصلاة والصيام والحجّ ، فإنّها يشترط فيها قصد القربة أو قصد الامتثال مضافا إلى إتيان أصل الفعل لا مجرّد الفعل فقط.

والكلام يقع في تحليل الفرق بين القسمين ، فهل الاختلاف بينهما مردّه إلى عالم الحكم والوجوب؟ بمعنى أنّ قصد القربة والامتثال يكون مأخوذا قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، ولا يكون كذلك في الوجوب التوصّلي ، أو أنّ مردّ الاختلاف إلى عالم الملاك دون عالم الحكم؟ بمعنى أنّ الوجوب في كلّ من القسمين متعلّق بذات الفعل ، ولكنّه في القسم الأوّل ناشئ عن ملاك لا يستوفى إلا بضمّ قصد القربة ، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاك يستوفى بمجرّد الإتيان بالفعل.

ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، فإن ثبتت هذه الاستحالة تعيّن تفسير الاختلاف بين التعبّدي والتوصّلي بالوجه الثاني ، وإلا تعيّن تفسيره بالوجه الأوّل.

الفرق بين القسمين : الواجب التعبّدي هو الواجب الذي يشترط فيه قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، والواجب التوصّلي هو الواجب الذي لا يشترط فيه ذلك ، ولكن يتّجه البحث إلى تحليل هذا الفارق ، وهنا يوجد احتمالان :

الأوّل : أن يكون الفرق بينهما ناشئا عن عالم الوجوب والحكم ، بمعنى أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر قد أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الوجوب التعبّدي ، فقصد الامتثال يعتبر جزءا دخيلا من الواجب أو شرطا من شروطه ، بينما في الوجوب التوصّلي لم يؤخذ هذا الشيء لا قيدا ولا جزءا.

فالشارع عند ما أراد جعل الوجوب على الواجب التعبّدي أخذ في موضوعه ذات الفعل بالإضافة إلى هذا القيد بنحو الجزء أو الشرط ، بينما لم يأخذ ذلك في موضوع الواجب التوصّلي.

ص: 204

الثاني : أن يكون الفرق بينهما في عالم الملاك والغرض ، بمعنى أنّ قصد القربة أو الامتثال ليس دخيلا في الوجوب ، بل الوجوب في التعبّدي والتوصّلي على حدّ واحد ، بمعنى أنّ الوجوب مجعول على ذات الفعل فقط ، وإنّما في الواجب التعبّدي كان الملاك والغرض منه سنخ ملاك لا يتحقّق ولا يمكن تحصيله إلا إذا جاء المكلّف بالفعل قاصدا التقرّب به أو مع قصد امتثال الأمر ، بينما في الواجب التوصّلي كان الملاك والغرض فيه يمكن تحصيله وتحقيقه سواء جاء المكلّف بالفعل بقصد القربة أو الامتثال أم لم يقصد ذلك حين إتيانه بالفعل.

فيعود الفرق حينئذ إلى كيفيّة تحصيل الملاك والغرض ، لا إلى كيفيّة جعل الوجوب.

ومنشأ الاحتمالين هو أنّ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر ، هل يمكن أخذه في الوجوب بنحو الشرط أو الجزء أو يستحيل ذلك؟ فإن قيل بإمكان أخذه تعيّن الاحتمال الأوّل ، وإن قيل بالاستحالة تعيّن الاحتمال الثاني.

وعليه ، فالبحث ينصبّ حول إمكان أو استحالة أخذ هذا القيد في الوجوب ، وهذا بحث عقلي تحليلي يدخل ضمن البحث عن القضايا العقليّة التحليليّة ، وهو أيضا يقع صغرى لإثبات قضيّة عقليّة تركيبيّة ؛ لأنّ البحث عن الاستحالة نفيا أو إثباتا يشكّل برهانا على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر أو إمكانه.

ولذلك قال السيّد الشهيد :

ومن هنا يتّجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ، وقد برهن عليها بوجوه :

الأوّل : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر رتبة عن الأمر ؛ لتفرّعه عليه ، فلو أخذ قيدا أو جزءا في متعلّق الأمر والوجوب لكان داخلا في معروض الأمر ضمنا ، ومتقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا.

البراهين التي ذكرت على الاستحالة : وهنا يذكر السيّد الشهيد ثلاثة براهين تثبت استحالة أخذ قصد القربة أو قصد امتثال الأمر في عالم الحكم والوجوب ، وهي :

البرهان الأوّل : ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث قال : ( إنّ ما لا يكاد يتأتّى

ص: 205

إلا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلّقه ). ومراده إثبات الاستحالة للدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر.

ببيان : أنّ قصد امتثال الأمر متأخّر في الرتبة عن نفس الأمر ؛ لأنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله أو لا يقصد ، والوجه في تأخّره عن الأمر هو أنّ الأمر إمّا أن تكون العلّة لهذا القصد ، أو يكون متقدّما عليه ولو من غير جهة العلّيّة ، فهناك طوليّة بين الأمر وبين قصده إمّا للعلّيّة وإمّا للترتّب في الوجود وإن لم يكن الأوّل علّة للثاني.

وعليه ، فلو أخذ قصد امتثال الأمر قيدا أو جزءا من متعلّق الأمر والوجوب ، بحيث كان الأمر والوجوب منصبّا على المتعلّق الذي يكون فيه قصد امتثال الأمر جزءا دخيلا فيه ، أو شرطا من شروطه العارضة عليه ، فهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر داخلا في معروض الأمر إمّا بنحو الجزئيّة أو بنحو الشرطيّة ، فإذا كان كذلك صار قصد امتثال الأمر متقدّما على الأمر ؛ لأنّ الأمر يعرض على هذا المتعلّق المركّب من الفعل ومن قصد امتثال الأمر ، ومن الواضح أنّ المعروض لا بدّ أن يثبت أوّلا ثمّ يعرض عليه الشيء.

وهنا لمّا كان الأمر عارضا على المتعلّق ، والمتعلّق مركّب من قصد الامتثال فلا بدّ من تحقّق المتعلّق أوّلا ، وتحقّقه يفترض أيضا تحقّق قصد امتثال الأمر ، ممّا يعني أنّ قصد امتثال الأمر صار متقدّما على الأمر مع كونه متأخّرا عنه رتبة كما هو المفروض ، فيلزم التقدّم والتأخّر بلحاظ الشيء الواحد.

بل يلزم منه التهافت في عالم اللحاظ والجعل ؛ إذ لحاظ الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا معا ممّا لا يمكن في نفسه ، وفي النتيجة يلزم الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر صار متوقّفا على ثبوت قصد الامتثال وهو متوقّف بدوره على ثبوت الأمر أوّلا ؛ لأنّ الأمر يثبت ثمّ يقصد امتثاله. وبهذا يظهر أنّ أخذ هذا القيد مستحيل في نفسه.

إذا فالوجوب والحكم مجعول على ذات الفعل فقط ، فيتعيّن تفسير التعبّديّة والتوصّليّة على أساس الملاك والغرض لا على أساس الأمر والوجوب.

فالوجوب التعبّدي هو وجوب منصبّ على ذات الفعل ، ولكن الغرض والملاك لا يتحقّق إلا بقصد القربة والامتثال ؛ بخلاف التوصّلي فإنّ ملاكه يتحقّق بالإتيان بالفعل كيفما كان.

ص: 206

والجواب : أنّ ما هو متأخّر عن الأمر ومتفرّع على ثبوته قصد الامتثال من المكلّف خارجا ، لا عنوانه وتصوّر مفهومه في ذهن المولى ، وما يكون متقدّما على الأمر تقدّم المعروض على عارضه هو عنوان المتعلّق وتصوّره في ذهن المولى ؛ لأنّه ما لم يتصوّر الشيء لا يمكنه أن يأمر به.

وأمّا الوجود الخارجي للمتعلّق فليس متقدّما على الأمر ، بل هو من نتائجه دائما فلا محذور.

وجواب هذا البرهان :

أنّ محذور التقدّم والتأخّر أو محذور الدور أو التهافت في اللحاظ ، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء الواحد متقدّما ومتأخّرا على نفسه ، أو كان وجوده تارة يكون علّة وأخرى معلولا ، وهذا يشترط فيه أن تكون جميع الحيثيّات المأخوذة في التناقض متوفّرة ، والتي من جملتها وحدة الحمل ووحدة الموضوع ووحدة الجهة ووحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الكلّيّة والجزئيّة. وأمّا إذا كان هناك اختلاف في هذه الأمور فلن يتحقّق المحذور.

وتوضيحه : أنّ قصد امتثال الأمر حينما يفرض متأخّرا عن الأمر فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الواقع الخارجي ؛ لأنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر في الخارج حين إتيانه بالفعل أو بالواجب التعبّدي ، إلا إذا كان الأمر ثابتا وموجودا في رتبة سابقة.

ولكن حينما يفرض أنّ قصد امتثال الأمر متقدّم على الأمر ، فهذا إنّما يكون بلحاظ عالم الجعل والتشريع للأمر ؛ لأنّ المولى حينما يريد أن يجعل الأمر على شيء فهو يتصوّر موضوعه وكلّ ما له دخل في الموضوع ؛ ومنه قصد امتثال الأمر - فيما لو أخذ قيدا أو جزءا - ممّا يعني أنّ الوجود التصوّري واللحاظي أو المفهومي لقصد امتثال الأمر هو المفروض كونه متقدّما على الأمر ، لا قصد الامتثال حقيقة والذي لا يوجد إلا بفعل المكلّف له في الخارج.

إذا فهناك اختلاف في العالم والجهة ، فقصد امتثال الأمر المتأخّر إنّما هو في عالم الواقع الخارجي وهذا يكون بلحاظ المكلّف ؛ لأنّه هو الذي يقصد الامتثال ، بينما قصد امتثال الأمر المتقدّم إنّما هو في عالم الجعل والتشريع والتصوّر واللحاظ المفهومي وهذا يكون بلحاظ الشارع ؛ لأنّه هو الذي يجعل الأمر.

ص: 207

والنتيجة : هي عدم لزوم المحذور من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في موضوع الأمر أو جزءا منه ؛ لعدم لزوم توقّف الشيء على نفسه الذي هو ملاك الدور ؛ لأنّ الأمر الذي هو فعل للمولى عالمه هو واقع الجعل والتشريع ، واللحاظ متوقّف على تصوّر قصد امتثال الأمر ولحاظه المفهومي ، بينما الأمر بلحاظ الخارج ليس متوقّفا على قصد امتثال الأمر ، بل هو متقدّم عليه ، فاختلفت الجهة ومعها لا يكون الشيء متوقّفا على نفسه.

وهكذا بالنسبة للتقدّم والتأخّر فهو متأخّر بلحاظ عالم الجعل والتشريع ولكنّه متقدّم بلحاظ عالم الواقع الخارجي. وبذلك لا يلزم التهافت في اللحاظ ؛ لأنّه في لحاظ المولى كان الأمر متأخّرا فقط ، وفي لحاظ المكلّف كان الأمر متقدّما فقط.

والبرهان المذكور انطوى على مغالطة واضحة وخلط بين الموضوع والمتعلّق والجعل والمجعول ، ولهذا قال السيّد الشهيد :

وكأنّ صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلّق بالموضوع ، فقد عرفنا سابقا (1) أنّ فعليّة الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجا ، وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلّق والموضوع ، فخيّل له أنّ قصد الامتثال إذا كان داخلا في المتعلّق فهو داخل في الموضوع ، ويكون الوجوب الفعلي تابعا لوجوده بينما وجوده متفرّع على الوجوب.

ونحن قد ميّزنا سابقا بين المتعلّق والموضوع (2) ، وميّزنا بين الجعل والمجعول (3) ، وعرفنا أنّ المجعول تابع في فعليّته لوجود الموضوع خارجا لا لوجود المتعلّق ، وأنّ الجعل منوط بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلّق والموضوع لا الخارجي ، فلا تنطوي علينا المغالطة المذكورة.

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم :

تقدّم سابقا بيان المراد من المتعلّق والموضوع ، وهنا نقول باختصار :

ص: 208


1- تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.
2- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الأولى ، تحت عنوان : العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.
3- في بحث الدليل العقلي من هذه الحلقة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

المتعلّق هو ما ينصبّ عليه الحكم مباشرة ، فهو متعلّق الحكم كقولنا : ( أكرم ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الإكرام ، وكقولنا : ( صلّ ) فإنّ متعلّق الوجوب هو الصلاة.

وأمّا الموضوع فهو متعلّق الحكم ، أي أنّ متعلّق الحكم قد تعلّق بشيء آخر فهو الموضوع ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ الإكرام تعلّق بالعالم فهو متعلّق المتعلّق فيسمّى الموضوع ، وكقولنا ( يجب الحجّ على المستطيع ) فإنّ المستطيع متعلّق وجوب الحجّ فهو الموضوع.

وتقدّم أيضا الفرق بين الجعل والمجعول ، فقلنا : إنّ الجعل : هو عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر والمفترض الوجود ، بينما المجعول : هو عبارة عن فعليّة الحكم لتحقّق موضوعه في الخارج ، فالجعل يتوقّف على تصوّر وافتراض الموضوع ، بينما المجعول يتوقّف على تحقّق الموضوع في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ صاحب البرهان المذكور قد اشتبه عليه الموضوع بالمتعلّق ، وخلط بين الجعل والمجعول ؛ وذلك لأنّ قصد امتثال الأمر حينما أخذ قيدا في متعلّق الأمر تخيّل صاحب هذا البرهان أنّه مأخوذ في الموضوع ودخيل فيه.

وحيث إنّ الموضوع إذا صار فعليّا في الخارج فيتّبعه فعليّة الأمر المجعول فيلزم - على حسب اعتقاده - أنّ قصد امتثال الأمر لا بدّ أن يصبح فعليّا ؛ لأنّه دخيل في الموضوع في مرحلة سابقة عن فعليّة الأمر نفسه ، مع أنّه متأخّر عن الأمر كما هو المفروض فيلزم الدور أو التوقّف والتأخّر.

ولكنّ الصحيح هو أنّ قصد امتثال الأمر ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو قيد مأخوذ في المتعلّق ، أي في الشيء الذي تعلّق به الأمر مباشرة وانصبّ عليه ، فقولنا : ( صلّ ) يكون قصد امتثال الأمر دخيلا في الصلاة التي هي متعلّق الأمر فيكون المطلوب هو الصلاة عن هذا القصد ، وهكذا في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ قصد الامتثال قيد في الإكرام لا في العالم ، أي أنّ الإكرام لا بدّ أن يقع بهذا القصد ولا مدخليّة للموضوع في ذلك.

وعليه ، فلا يكون قصد الامتثال دخيلا في الموضوع لكي يكون فعليّة الأمر موقوفة على فعليّة الموضوع ، وبالتالي موقوفة على فعليّة هذا القيد.

إذا ففعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع ، ولا مدخليّة لقصد الامتثال

ص: 209

في ذلك ؛ لأنّه ليس دخيلا في الموضوع وإنّما هو دخيل في المتعلّق فقط ، وحينئذ لا يكون الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر في الخارج ، وإن كان موقوفا عليه في عالم الجعل واللحاظ الذهني كما سنبيّن.

وقصد امتثال الأمر موقوف على فعليّة الأمر في الخارج فهو متأخّر عنه ولكنّه متقدّم عليه في عالم الجعل واللحاظ ، وهذا لا مانع منه.

والوجه في ذلك : هو أنّ الحكم أو الأمر في عالم الجعل لا بدّ أن يكون متأخّرا عن تصوّر موضوعه ومتعلّقه ، وكلّ ما له دخل فيهما ، بمعنى أنّ كلّ هذه الأمور تفترض مقدّرة الوجود وتلحظ في رتبة سابقة عن الأمر ، فوجودها الذهني اللحاظي في عالم الجعل متقدّم على الأمر ، ولكن فعليّة الأمر في الخارج موقوفة على فعليّة الموضوع فقط في الخارج لا على وجود المتعلّق.

فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر فعليّا وهو بذلك يدعو إلى إيجاد متعلّقه ، فالمتعلّق متأخّر في وجوده عن الأمر الفعلي في عالم المجعول وإن كان متقدّما عليه في عالم الجعل ، ولكن المتقدّم هو لحاظ ومفهوم المتعلّق وما له دخل في المتعلّق كقصد امتثال الأمر ، وما هو المتأخّر هو وجود المتعلّق في الخارج وما له دخل فيه كالقيد المذكور ، فيكون قصد الامتثال بوجوده الذهني متقدّما ؛ لأنّه دخيل في المتعلّق وهو لا بدّ من فرض وجوده حين جعل الأمر ، ويكون بوجوده الخارجي متأخّرا عن فعليّة الأمر ؛ لأنّ الأمر الفعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه وكلّ ما له دخل في المتعلّق.

وعلى أساس هذه التفرقة بين الموضوع والمتعلّق من جهة وبين الجعل والمجعول من جهة أخرى ، يتّضح لنا حال هذا البرهان المبني على هذه المغالطة والاشتباه.

الثاني : أنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن محرّكيّة الأمر ، والأمر لا يحرّك إلا نحو متعلّقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا في المتعلّق لأدّى إلى أنّ الأمر يحرّك نحو نفس هذه المحرّكيّة ، وهذا مستحيل.

وببيان آخر : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر إلا بالإتيان بما تعلّق به ذلك الأمر ، فإن كان القصد المذكور دخيلا في المتعلّق فهذا يعني أنّ الأمر لم يتعلّق بذات الفعل ، فلا يمكن للمكلّف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.

وإن شئت قلت : إنّ قصد امتثال الأمر بفعل يتوقّف على أن يكون مصداقا

ص: 210

لمتعلّق الأمر ، وكونه كذلك - على فرض أخذ القصد في المتعلّق - يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدّي إلى توقّف الشيء على نفسه ، واستحالة الامتثال.

البرهان الثاني : وهو أيضا ما يظهر من كلمات صاحب ( الكفاية ) في المقام حيث قال : ( إنّ الأمر بالفعل المقيّد أو المركّب من ذات الفعل وقصد الأمر لا يمكن أن يكون داعيا للإتيان بالفعل بقصد الأمر ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلّق به ، والفعل لا يكون مأمورا به ، فلا يمكن الإتيان به بقصد الأمر ) ، وهذا البرهان ذكره المحقّق الأصفهاني أيضا. ولهذا البرهان ثلاثة تقريبات :

التقريب الأوّل : وحاصله أن يقال : إنّ الأمر له داعويّة ومحرّكيّة نحو متعلّقه ؛ لأنّه إنّما يجعل لأجل المحرّكيّة والداعويّة ؛ إذ لو لم يكن له داعويّة ولا محرّكيّة لكان جعله لغوا ، ولذلك فبعد تحقّق موضوعه فهو يدعو ويحرّك نحو إيجاد متعلّقه.

فإذا قلنا بأنّ قصد امتثال الأمر دخيلا في المتعلّق ، فهذا معناه أنّ الأمر يحرّك ويدعو إلى قصد امتثال الأمر أيضا ، ولكن حيث إنّ قصد امتثال الأمر ليس إلا عبارة عن محرّكيّة الأمر ، باعتبار أنّ القصد عبارة عن التحرّك نحو الفعل ، فتكون النتيجة هي أنّ الأمر يحرّك نحو محرّكيّته ويدعو إلى داعويّته وهذا مستحيل ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلى نفسه ولا يحرّك نحو محرّكيّته ، وإنّما هو يدعو ويحرّك نحو متعلّقه أي الفعل.

وعليه ، فأخذ قصد الامتثال يؤدّي إلى هذا المحذور فلا يمكن الالتزام به.

التقريب الثاني : وحاصله : أنّ قصد امتثال الأمر إذا كان دخيلا في متعلّق الأمر ، فإذا أراد المكلّف أن يتحرّك نحو إيجاد متعلّق الأمر فلا بدّ أن يتحرّك نحو هذا القصد أيضا ، وحينئذ نقول : إن قصد امتثال الأمر هل هو دخيل في المتعلّق أو لا؟

فإن كان دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ المكلّف لا بدّ أن يقصد شيئين : ذات الفعل ، وقصد امتثال الأمر ؛ لأنّ المفروض كونه دخيلا في المتعلّق فلا بدّ من قصده ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّ معناه محرّكيّة الشيء نحو نفسه ، وللزوم الخلف أيضا لصيرورة قصد الامتثال داخلا وخارجا ، أي علّة ومعلولا ؛ لأنّ المحرّكيّة سنخ من العلّيّة فيكون قصد الامتثال علّة للتحرّك ومعلولا للتحرّك أيضا ، وهو محال.

وإن لم يكن دخيلا في المتعلّق فهذا معناه أنّ متعلّق الأمر هو ذات الفعل فقط ،

ص: 211

وهذا خلف المفروض ؛ إذ المفروض أنّ الفعل تعبّدي وليس توصّليّا ، فلا يتحقّق المطلوب بالإتيان بالفعل فقط.

وبهذا يظهر أنّه لا يمكن أن يكون قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر.

التقريب الثالث : وحاصله : أنّ امتثال متعلّق الأمر يتوقّف على أن يكون ما أتى به المكلّف من فعل مصداقا للمأمور به ، أي مصداقا لما تعلّق به الأمر ، وإلا لو أتى بشيء آخر لم يتعلّق به الأمر لم يتحقّق الامتثال. نعم يحتاج تحقّق الامتثال حينئذ إلى دليل خاصّ ، وهو ما سوف يأتي في مبحث الإجزاء.

وهنا إذا كان قصد امتثال الأمر مأخوذا قيدا في متعلّق الأمر ، فهذا معناه أنّ امتثال الأمر متوقّف على أن يأتي المكلّف بالفعل مع قصد امتثال الأمر ، وهذا لازمه أن يكون قصد امتثال الأمر موقوفا على قصد امتثال الأمر وهو دور باطل.

ووجهه هو : أنّ المكلّف حينما يقصد امتثال الأمر لا بدّ أن يأتي بذات الفعل منضمّا إليه قصد امتثال الأمر ، ولا يكفي إتيانه بذات الفعل فقط ، وحينئذ يتوقّف قصد امتثال الأمر على قصد امتثاله وهو دور مستحيل ، ولذلك يستحيل أخذه قيدا في متعلّق الأمر.

والحاصل : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يؤدّي إلى ثلاثة محاذير ، كلّها لا يمكن الأخذ بها ، وهي :

أوّلا : يؤدّي إلى أن يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحو داعويّته ومحرّكيّته.

وثانيا : يؤدّي إلى صيرورة الشيء علّة ومعلولا ، أي متقدّما ومتأخّرا على نفسه في الرتبة.

وثالثا : يؤدّي إلى الدور ، لتوقّف الشيء على نفسه في الامتثال.

وقد أجيب علي ذلك بأنّ القصد إذا كان داخلا في المتعلّق انحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين لكلّ منهما محرّكيّة نحو متعلّقه.

أحدهما : الأمر بذات الفعل. والآخر : الأمر بقصد امتثال الأمر الأوّل وجعله محرّكا.

فيندفع البيان الأوّل في البرهان المذكور بأنّ الأمر الثاني يحرّك نحو محرّكيّة الأمر الأوّل ، لا نحو محرّكيّة نفسه.

ص: 212

ويندفع البيان الثاني بأنّ ذات الفعل متعلّق للأمر وهو الأمر الضمني الأوّل.

أجاب المشهور عن هذا البرهان بما حاصله : أنّ أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلّق معناه انحلال الأمر إلى أمرين ضمنيّين.

والوجه في ذلك : هو أنّ الأمر بالمركّب من الفعل وقصد الامتثال أو الأمر بالمقيّد من الفعل والقيد ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين :

أحدهما : الأمر الضمني بذات الفعل.

والآخر : الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر.

فيكون المكلّف مأمورا بأمرين : أحدهما الإتيان بذات الفعل أو بذات المقيّد ، والآخر الإتيان بالتقيّد ، أي كون هذا الفعل متقيّدا بقصد الامتثال. وبهذا سوف ينحلّ الإشكال المذكور بتقريباته الثلاثة :

أمّا التقريب الأوّل الذي يقول : إنّ الأمر سوف يكون محرّكا نحو نفسه لا نحو متعلّقه ، فهذا جوابه : أنّ ما هو المحال هو محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّته بنفس هذا الأمر ، وأمّا محرّكيّة الأمر نحو محركيّة أمر غيره فلا استحالة فيها.

وفي مقامنا يكون الأمر الضمني الثاني المتعلّق بقصد امتثال الأمر محرّكا نحو محرّكيّة الأمر الضمني الأوّل لا نحو محرّكيّة نفسه ، والأمر الضمني الأوّل يحرّك نحو متعلّقه وهو الفعل.

وأمّا التقريب الثاني الذي يقول بأنّ أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر سوف يؤدّي إمّا إلى الخلف وإمّا إلى كون الشيء داعيا وعلّة نحو إيجاد نفسه ، فهذا جوابه : أنّنا نلتزم بكون قصد الامتثال يدعو إلى المحرّكيّة ، ولكنّ قصد الامتثال هنا يدعو إلى قصد امتثال الأمر الضمني الأوّل لا إلى قصد امتثاله نفسه ، فهو يحرّك وعلّة لإيجاد متعلّق الأمر الضمني الأوّل لا إلى إيجاد متعلّق نفسه ، فلا يكون علّة لنفسه ، بل يكون علّة لغيره أي لإيجاد ذات الفعل.

وأمّا التقريب الثالث الذي يقول بلزوم الدور وتوقّف الشيء على نفسه ، فجوابه : أنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان مأمورا به بأمر ضمني مستقلّ عن الأمر الضمني الأوّل ، فهذا معناه أنّ امتثال المتعلّق يكون بالأمر الضمني الأوّل ، ولكنّ الأمر الضمني الثاني يدعو إلى امتثال الأمر الضمني الأوّل ، فامتثال الأمر الأوّل وإن كان موقوفا على الأمر

ص: 213

الثاني إلا أنّ الأمر الثاني ليس موقوفا على الأمر الأوّل ؛ لأنّه لا يدعو ولا يحرّك إلا إلى متعلّقه وهو الفعل فقط. نعم الأمر الثاني هو الذي يدعو إلى أن يكون امتثال الأمر الأوّل بقصد الامتثال (1).

الثالث : أنّ قصد امتثال الأمر إذا أخذ في متعلّق الأمر كان نفس الأمر قيدا من قيود الواجب ، وحيث إنّه قيد غير اختياري فلا بدّ من أخذه في موضوع الوجوب ، وهذا يعني أخذ الأمر في موضوع نفسه وهو محال ، وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة (2).

ص: 214


1- هذا ، ويمكن التعليق على هذا الجواب بأن يقال : إنّ الأمر الضمني لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو استقلالي وزائدا على الأمر النفسي ، كما سيأتي في محلّه. وعليه ، فالأمر الضمني لا يزيد في المحرّكيّة عن الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب ، وحينئذ يرجع المحذور ؛ لأنّه يقال : إنّ الأمر بالمركّب هل يدخل فيه قصد امتثال الأمر أو لا؟ فإن لم يكن داخلا فهو خلف المفروض من عدم تحقّق الامتثال بذات الفعل ، بل لا بدّ من قصد الامتثال معه ، وإن كان داخلا فهذا معناه محرّكيّة الأمر نحو محرّكيّة نفسه وداعويّته إلى داعويّته ، فيلزم التقدّم والتأخّر وتوقّف الشيء على نفسه. وبتعبير آخر : إنّ الأمر بالمركّب الذي ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين لا يوجد فيه داعويّتان ومحرّكيّتان مستقلّتان ؛ وإلا للزم تحقّق الامتثال والعصيان معا فيما إذا حقّق أحد الأمرين دون الآخر ، وهذا باطل جزما ؛ لأنّه لا يوجد إلا إطاعة وامتثال واحد وعصيان واحد. ويجاب على ذلك : إنّ الأمر الضمني لا يشترط فيه أن يكون له داعويّة ومحرّكيّة ، بل يكفي فيه أن يكون قد أخذ في عالم اللحاظ من أجل أن يتحقّق المطلوب ، بمعنى أنّ عدمه مانع من تحقّق المطلوب فلذلك يؤخذ. فالأمر بالمركّب من ذات الفعل وقصد امتثال الأمر لا يشترط فيه أكثر من أن تكون هناك محرّكيّة وباعثيّة وداعويّة نحو الإتيان بالمتعلّق وهو الأمر الضمني الأوّل ، وأمّا الأمر الضمني الثاني وهو الأمر بقصد الامتثال فلا يشترط فيه الداعويّة والمحرّكيّة ، وإنّما أخذه الشارع تحت الأمر لكونه دخيلا في الملاك ، بحيث لا يتحقّق المطلوب إلا بفعل المتعلّق معه لا بدونه. وبتعبير آخر : أخذ الشارع لهذا الأمر الضمني الثاني من أجل الحفاظ على الأمر الاستقلالي ، وهو الإتيان بالمتعلّق مع سائر ما يتعلّق به من شروط وقيود ، وهذا أثره في تحقّق الامتثال وعدمه ، فإنّه ما لم يأت بهذا القيد لا يتحقّق الامتثال ، وهذا يكفي لدفع محذور اللغويّة ، ولا يشترط في دفع اللغويّة إثبات المحرّكيّة ، بل يكفي وجود مطلق الفائدة والأثر.
2- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه.

البرهان الثالث : ما يظهر من الميرزا في ( أجود التقريرات ) حيث قال ما حاصله :

إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر يلزم منه الدور والتهافت في عالم اللحاظ.

وتوضيحه : أنّ متعلّق الأمر هو ما يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحقيقه ، ومتعلّق المتعلّق هو الموضوع وهذا لا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده ، بل يؤخذ مفروض الوجود وهذا هو الموضوع.

ثمّ إنّ القيود المأخوذة في الوجوب لا يجب تحصيلها ؛ لأنّها فوق الوجوب وهو موقوف عليها فلا يدعو إليها ؛ لأنّه معدوم قبل وجودها بخلاف قيود الواجب فإنّه يجب تحصيلها ؛ لأنّ الوجوب الثابت هو الذي يدعو لإيجادها.

وعليه ، فقيود الواجب لا بدّ أن تكون اختياريّة للمكلّف ، وإلا لكان من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّه مسئول عنها ولا يمكن تكليفه بغير المقدور بخلاف قيود الوجوب فإنّها قد تكون اختياريّة أو غير اختياريّة على حدّ سواء ؛ لأنّ المكلّف ليس مسئولا عنها. ومن هنا إذا كان القيد الراجع للواجب غير اختياري فلا بدّ من إرجاعه إلى الوجوب أيضا ، وإلا لزم المحذور.

وفي مقامنا نقول : إنّ أخذ قيد قصد امتثال الأمر إن كان راجعا إلى المتعلّق والمفروض أنّ المتعلّق يجب إيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب والأمر يدعو إلى إيجاده فيلزم أن يكون الأمر والوجوب داعيا إلى إيجاد قصد امتثال الأمر.

ولمّا كان قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يتحقّق إلا بعد ثبوت الأمر ، بحيث إنّ الأمر يوجد أوّلا ثمّ يقصد امتثاله ، فهذا معناه أنّ الأمر والوجوب يكون داعيا إلى إيجاد الأمر أوّلا وإلى قصده بعد وجوده ثانيا ، ولذلك يلزم محذور الدور أو التهافت اللحاظي.

وبيانه : أنّ الأمر لمّا كان مأخوذا في المتعلّق والمفروض أنّه في عالم الجعل والتشريع للأمر ، لا بدّ أن يلحظ الشارع المتعلّق ، والموضوع مفروض الوجود ومقدّر ، فهذا معناه أنّه يلحظ الأمر مفروغا عنه مع أنّه لم يجعله بعد ، وهذا تهافت في اللحاظ ؛ لأنّه يفترض الشيء موجودا في عالم اللحاظ مع أنّه ليس موجودا بعد.

ويلزم منه الدور أيضا ؛ لأنّ الأمر يكون موقوفا على لحاظ الأمر في عالم الجعل ،

ص: 215

فالشارع حينما يريد جعل الأمر لا بدّ أن يجعل الأمر في رتبة سابقة ؛ لأنّه مأخوذ في المتعلّق ، وهو سابق على جعل الأمر ، فيكون جعل الأمر موقوفا على جعل الأمر.

وبتعبير آخر : إنّ قصد امتثال الأمر لمّا كان قيدا غير اختياري - لكون القصد موقوفا على ثبوت الأمر وثبوت الأمر فعل للمولى لا للمكلّف - فلا بدّ أن يكون قيدا للوجوب أيضا مضافا إلى الواجب ، ممّا يعني أنّه مأخوذ في موضوع الوجوب ؛ لأنّ كلّ قيود الوجوب تؤخذ في موضوعه.

وإذا كان دخيلا في الموضوع لزم المحذور ؛ لأنّ الأمر - سواء في عالم الجعل أو الفعليّة - موقوف على تحقّق الموضوع ، إمّا بلحاظ الفرض والتقدير في عالم الجعل ، وإمّا بوجوده الخارجي في عالم المجعول ، ممّا يعني أنّ الأمر موقوف على قصد امتثال الأمر وهو دور وتهافت ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن القصد وعن ثبوت الأمر أيضا ، فيكون الأمر موقوفا على ثبوت الأمر ، وهو محال.

وقد يعترض عليه بأنّ القيد غير الاختياري للواجب إنّما يلزم أن يؤخذ قيدا في موضوع الوجوب ؛ لأنّه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محرّكا نحو المقيّد ، وهو يساوق التحريك نحو القيد ، مع أنّه غير اختياري ، فلا بدّ من أخذه في الموضوع ليكون وجود الأمر ومحرّكيّته بعد افتراض وجود القيد ، وفي هذه الحالة لا يحرّك إلا إلى التقيّد وذات المقيّد.

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان.

ومحصّله أن يقال : إنّ القيد غير الاختياري إذا كان راجعا إلى الواجب فليس دائما يجب إرجاعه إلى الوجوب ليكون دخيلا في موضوع الوجوب أيضا ، بل في بعض الحالات لا يجب إرجاعه للوجوب ، والضابط لذلك هو أنّ قيد الواجب غير الاختياري على نحوين : فتارة لا يكون حاصلا بمجرّد وجود الأمر ، وأخرى يحصل بحصول وثبوت الأمر نفسه.

ففي الحالة الأولى - أي فيما إذا لم يكن القيد غير الاختياري حاصلا بحصول الأمر - : فهنا يكون الأمر داعيا إلى إيجاده وتحصيله ؛ لكونه دخيلا في المتعلّق وقيدا له ، ولكن لمّا كان هذا القيد غير اختياري للمكلّف فكان التكليف به تكليفا بغير المقدور وهو محال ، ولذلك كان لا بدّ من إرجاعه إلى قيود الوجوب نفسه ، وحينئذ لا يكون

ص: 216

الوجوب داعيا لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّ الوجوب لا يدعو إلى تحصيل وإيجاد قيود موضوعه ، لأنّها فوق الوجوب.

بينما في الحالة الثانية : فهذا القيد غير الاختياري المأخوذ في المتعلّق لا يجب أخذه في الموضوع أيضا ؛ وذلك لأنّه لمّا كان يحصل ويتحقّق بنفس حصول وثبوت الأمر فلا محذور في بقائه من قيود المتعلّق ؛ لأنّ الوجوب والأمر لن يدعو ويحرّك نحو إيجاده ؛ إذ المفروض أنّه يحصل معه فيكون التحريك نحوه لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

ومثال الحالة الأولى قيديّة الزوال مثلا ، فإنّها لمّا كانت مأخوذة في الصلاة وهي غير اختياريّة تعيّن أخذها في الوجوب أيضا ، ولذلك لا يكون الوجوب داعيا المكلّف إلى تحصيل الزوال ، بل هو موقوف على حصول الزوال من نفسه ، ولو بقيت قيدا للمتعلّق فقط - أي للصلاة - للزم على المكلّف تحصيل الزوال ، وهو ليس باختياره فيكون تكليفا بغير المقدور ، وهو مستحيل.

ومثال الحالة الثانية ما نحن فيه من أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر ، فإنّ هذا القيد وإن لم يكن اختياريّا للمكلّف ، إلا أنّه لا يتعيّن أخذه في موضوع الوجوب ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّه يحصل بمجرّد حصول وثبوت الأمر ، وما دام كذلك فلا معنى لداعويّة الأمر لإيجاده وتحصيله ؛ لأنّها تكون لغوا.

وبتعبير آخر : إنّ القيد غير الاختياري إنّما يجب أخذه في قيود الوجوب أيضا ؛ لئلاّ يلزم من بقائه قيدا للمتعلّق فقط أن يكون الأمر داعيا إلى إيجاد المقيّد ، الذي هو عبارة عن ذات الفعل والقيد.

فإنّ التحريك نحو الفعل ممكن ، ولكنّ التحريك نحو القيد الذي هو قصد الامتثال غير ممكن ؛ للدور المتقدّم ، فإذا أخذ في موضوع الوجوب صار الأمر محرّكا نحو المتعلّق أي ذات الفعل دون القيد ؛ لأنّ المفروض أنّ الوجوب لا يتحقّق إلا إذا تحقّق القيد من نفسه.

فمحرّكيّة الوجوب تفترض أنّ القيد متحقّق من قبل ، فلا تكون هناك محرّكيّة إلا إلى ذات المقيّد والتقيّد دون القيد.

وأمّا إذا افترضنا أنّ القيد غير الاختياري كأن يحصل بحصول الأمر أيضا ، فهاهنا

ص: 217

لا مانع من بقاء قيديّة قصد امتثال الأمر راجعة إلى المتعلّق فقط دون الموضوع ؛ لأنّ الأمر لن يدعو ولن يحرّك نحو هذا القيد ؛ لأنّه يحصل معه فالتحريك نحوه تحصيل للحاصل فيلغو ، ومع عدم محرّكيّة الأمر إلى القيد فلا يكون محرّكا إلا إلى ذات المقيّد ، أي ذات الفعل مع تقيّده بالقيد دون القيد ، فلا محذور ولا دور.

ولا يخفى ما في العبارة من قصور لأداء هذا المعنى ، فإنّه لا بدّ من ذكر تتمّة لها بأن يقال في آخرها : ( ومقامنا ليس من هذا القبيل ، فإنّ قصد امتثال الأمر يحصل بنفس الأمر فلا يكون الأمر داعيا ومحرّكا نحوه فلا يتعيّن أخذه في موضوعه ، وبالتالي لا دور حينئذ ).

ثمّ إنّ السيّد الشهيد ره قد بيّن اعتراض السيّد الخوئي ره بنحو آخر ، فقال :

وهذا البيان إنّما يبرهن على أخذ القيد غير الاختياري للواجب قيدا في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأمّا إذا كان مضمونا كذلك فلن يحرّك الأمر حينئذ نحو القيد ؛ لأنّه موجود بنفس وجوده ، بل يتّجه في تحريكه دائما نحو التقيّد وذات المقيّد.

والمقام مصداق لذلك ؛ لأنّ الأمر يتحقّق بنفس الجعل الشرعي فأيّة حاجة إلى أخذه قيدا في الموضوع؟

وهذه التتمّة راجعة إلى تكملة اعتراض السيّد الخوئي ، فإنّ السيّد الشهيد قد ذكره ناقصا ولذلك أكمله بهذه التتمّة ، ونحن قد ذكرنا الاعتراض كاملا ، ولكن نعيده باختصار طبقا لهذه التكملة فنقول : إنّ القيد غير الاختياري إذا أخذ في المتعلّق أي الواجب ، كان لا بدّ من أخذه في الوجوب أي في موضوع الوجوب ، ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن القيد مضمون الحصول والوجود بمجرّد جعل الأمر وثبوته ، كما هو الحال في سائر القيود غير الاختياريّة كالزوال مثلا وما شابهه.

وأمّا إذا كان القيد مضمون الحصول بمجرّد ثبوت الأمر ، فحينئذ لا يجب أخذه في موضوع الوجوب مضافا إلى أخذه في المتعلّق ، بل يبقى قيدا للمتعلّق فقط ، ولا يلزم من ذلك المحذور المتقدّم عن الميرزا ؛ لأنّ الوجوب لن يدعو ولن يحرّك إلى إيجاد هذا القيد ؛ لأنّه لمّا كان يحصل بجعل الأمر وتشريعه فهو حاصل من نفسه ، فلا معنى للتحريك نحوه وإلا لكان لغوا وتحصيلا للحاصل.

ص: 218

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأمر يثبت بمجرّد جعله وتشريعه فأخذ قصد امتثاله قيدا في المتعلّق لا يعني أنّ الوجوب يدعو ويحرّك نحوه ؛ لأنّه حاصل من نفسه مع الأمر ، وفائدته هي أنّ المطلوب هو إيجاد ذات المتعلّق ، وهذا ما يحرّك الوجوب نحوه مضافا إلى التقيّد بهذا القيد من دون أن يكون الوجوب داعيا إلى القيد.

هذه أهمّ براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.

وبهذا ينتهي الحديث عن البراهين التي ادّعيت لإثبات الاستحالة مع بعض التعليق عليها (1).

وثمرة هذا البحث :

إنّ الاختلاف بين القسمين إذا كان مردّه إلى عالم الحكم فبالإمكان - عند الشكّ في كون الواجب تعبّديّا أو توصّليّا - التمسّك بإطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلّق الوجوب ، كما هو الحال في كلّ القيود المحتملة ، فتثبت التوصّليّة.

وأمّا إذا كان مردّه إلى عالم الملاك - بسبب استحالة أخذ القصد المذكور في متعلّق الأمر - فلا يمكن التمسّك بالإطلاق المذكور لإثبات التوصّليّة ؛ لأنّ التوصّليّة لا تثبت حينئذ إلا بإثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن

ص: 219


1- والصحيح عندنا أن يقال : إنّ أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلّق الأمر مستحيل ؛ للدور والتهافت وتوقّف الشيء على نفسه ، ومحذور التهافت اللحاظي ثابت بحقّ العالم والجاهل ، بمعنى أنّ الآمر العرفي الذي لا يراعي الدقّة العقليّة لا يمكنه أخذ قيد الامتثال في متعلّق أمره ؛ لأنّه سوف يقع في التهافت اللحاظي. إلا أنّ السيّد الأستاذ ( دام ظله ) قد ذهب إلى أنّه لا محذور في أخذ قصد الامتثال قيدا في متعلّق الأمر ، ودفع كلّ البراهين التي أقيمت على ذلك ، وتبنّى هذه المقولة وهي : أنّ الأمر لا يكون داعيا إلا إلى ذات الفعل ، ولكنّه بنفس هذه الداعويّة تترشّح منه داعويّة إلى سائر القيود والأجزاء والشروط المأخوذة في الفعل أي المتعلّق ، ولكن هذه الداعويّة الثانية الضمنيّة لا محرّكيّة لها بنحو استقلالي وزائد على أصل محرّكيّة الأمر النفسي ، وإنّما هي داعويّة ناشئة من أجل الحفاظ على الأمر النفسي ، وهذا المقدار من الأثر يكفي لدفع محذور اللغويّة ؛ لأنّه لا يشترط من الأمر أن يكون دائما محرّكا ، بل يكفي أن يكون ذا أثر وفائدة ، وهذا حاصل.

إثباته بدليل الأمر لا مباشرة ؛ لأنّ مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك ، ولا بصورة غير مباشرة عن طريق إثبات الإطلاق في متعلّق الأمر ؛ لأنّ الإطلاق في متعلّق الأمر إنّما يكشف عن الإطلاق في متعلّق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يأمر بالمقيّد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الإمكان.

وأمّا الثمرة من البحث في رجوع قصد امتثال الأمر إلى الوجوب أو إلى الملاك ، فتظهر في موردين :

المورد الأوّل : عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّديّة بلحاظ الأصل اللفظي ، فهنا تارة نقول بإمكان أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، وأخرى نبني على استحالته.

فإذا قلنا بإمكانه كان الاختلاف بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي مرجعه إلى تقييد الحكم وإطلاقه ، فإذا شكّ في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي أمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة لإثبات التوصّليّة ونفي التعبّديّة ؛ لأنّ التعبّديّة تحتاج إلى تقييد الحكم والأمر بقصد الامتثال ، فحيث لم يقيّد في لسان الدليل بذلك كشف عن إرادته التوصّليّة ؛ لأنّه لو كان يريد التعبّديّة لكان اللازم بيان القيد الزائد في لسان الدليل وهو ممكن بحسب الفرض ، فمع عدم ذكر القيد في الدليل فهو لا يريده وإلا لكان مخلاّ في البيان والتفهيم ، فتعيّن إرادة الإطلاق وهو معنى التوصّليّة.

وهذا نظير سائر الموارد التي يشكّ فيها في دخالة قيد ، فإنّه ينفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وأمّا إذا قلنا بالاستحالة فيكون الاختلاف بين التعبّديّة والتوصّليّة بلحاظ الملاك ، فإن كان الملاك مقيّدا فيكون الواجب تعبّديّا ، وإن كان مطلقا فيكون توصّليّا ، وهنا لا يمكننا إثبات التوصّليّة على أساس الإطلاق ومقدّمات الحكمة في لسان الدليل ؛ والوجه في ذلك هو أنّ إثبات الإطلاق في الملاك أو التوصّلية لا يكون إلا بأحد طريقين كلاهما غير تامّ :

أحدهما : إثبات الملاك على أساس إطلاق الدليل.

والآخر : إثبات الملاك على أساس إطلاق المدلول.

أمّا الطريق الأوّل فلأنّ إطلاق الدليل إنّما يثبت مدلوله المطابقي مباشرة ، ومدلول

ص: 220

الدليل المطابقي هو الحكم ، فيثبت بإطلاق الدليل إطلاق الحكم لا أكثر دون إطلاق الملاك.

وأمّا الطريق الثاني وهو التمسّك بإطلاق الحكم لإثبات الملاك فهو إنّما ينفع في حالة دون أخرى.

وتوضيحه : أنّ إطلاق الحكم تارة يكون مرادا جدّيّا للمولى بأن يكون الإطلاق هو المراد الواقعي للمولى في عالم الثبوت ، بحيث كان المولى يتمكّن من التقييد ولكنّه لم يفعل ؛ لأنّ مراده هو الإطلاق ، وأخرى لا يكون الإطلاق دخيلا في المراد الجدّي للمولى ، بمعنى أنّ المولى ليس مراده الجدّي والواقعي في عالم الثبوت هو الإطلاق ، وإنّما أطلق الحكم من أجل استحالة التقييد فقط ، ولذلك قد يكون مراده الواقعي هو التقييد ولكنّه لم يقيّد ؛ لعدم تمكّنه من ذلك بسبب وجود المحذور العقلي.

فعلى الأوّل يمكن أن يستكشف عن طريق إطلاق الحكم ؛ لأنّ الملاك مطلق أيضا فتثبت التوصّليّة ؛ لأنّ المولى لو كان يريد التقيّد ومع ذلك لم يذكر ما يدلّ عليه لكان مخلا في مقام البيان والتفهيم لمراده.

بينما على الثاني لا يمكن أن يستكشف من إطلاق الحكم إطلاق الملاك ؛ لأنّ المولى قد يكون مراده التقييد ، ومجرّد عدم ذكره للقيد لا يكشف عن عدم إرادته ؛ لأنّه لم يذكر القيد بسبب المحذور العقلي أي الاستحالة.

ومقامنا من النحو الثاني أي أنّ المولى لم يقيّد الحكم بقصد امتثال الأمر بسبب ما ذكر من البراهين على الاستحالة ، ولكنّه واقعا وثبوتا قد يكون مراده التقييد ، فلا يمكننا على أساس مقدّمات الحكمة وإطلاق الحكم في عالم الإثبات والدلالة أن نستكشف الإطلاق في الملاك ؛ لأنّ إطلاقه للحكم كان ضروريّا ومفروضا عليه بسبب استحالة التقييد.

نعم ، يحتاج إثبات أحد الأمرين من التعبّديّة والتوصّليّة إلى دليل خاصّ غير الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

وقد تذكر ثمرة أخرى في مجال الأصل العملي عند الشكّ في التعبّديّة وعدم قيام الدليل ، وهي أنّ هذا الشكّ مجرى للبراءة إذا كان قصد الامتثال ممّا

ص: 221

يؤخذ في الواجب على تقدير اعتباره ؛ إذ يدخل في كبرى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، ومجرى لأصالة الاشتغال إذا كان قصد الامتثال ممّا لا يؤخذ كذلك ، إذ لا شكّ في وجوب شيء شرعا وإنّما الشكّ في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.

المورد الثاني : عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّديّة بلحاظ الأصل العملي :

فإنّنا إذا قلنا بإمكان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، فهذا يعني أنّ الاختلاف في التعبّديّة والتوصّليّة مرجعه إلى تقييد الحكم أو إطلاقه ، فإذا شككنا في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي وفرض عدم قيام الدليل لا العامّ - أي الإطلاق ومقدّمات الحكمة - ولا الخاصّ ، فهنا سوف يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر ، ويكون المورد من مصاديق كبرى الدوران بين الأقلّ والأكثر والتي يتعيّن فيها الأقلّ ، فتثبت التوصّليّة.

وتوضيح ذلك : أنّ التعبّديّة تعني وجود قيد زائد في الحكم المجعول وهو لزوم قصد امتثال الأمر ، فيكون الشكّ في التعبّديّة شكّا في وجوب شيء زائد عمّا أفاده ، بينما التوصّليّة ليس فيها أي قيد زائد عمّا أفاده ، فيدور الأمر بين تقييد زائد وعدم ذلك ، وهذا مرجعه إلى الدوران بين وجوب زائد وعدمه فهو شكّ في الوجوب الزائد ، وهو مجرى لأصالة البراءة.

وأمّا إذا قلنا باستحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر ، وبنينا على أنّه دخيل في الملاك فقط ، فهنا سوف تختلف النتيجة ، ويكون المورد من موارد الشكّ في المحصّل وهو مجرى لأصالة الاشتغال فتثبت التعبّديّة.

وتوضيحه : أنّه لا إشكال في ثبوت الوجوب على المكلّف فهو يعلم يقينا باشتغال ذمّته بالتكليف ، فحينما يشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة فشكّه هذا يرجع في الحقيقة إلى أنّ الواجب الذي علم باشتغال ذمّته به يقينا ، هل يحصل من دون قصد الامتثال أو لا يحصل إلا معه ، فتجري أصالة الاشتغال لإثبات التعبّديّة.

وبتعبير آخر : إنّ الملاك من هذا الحكم هل يمكنه تحصيله من دون هذا القيد أو لا يكون تحصيله إلا مع القيد؟ فيكون من الشكّ في المحصّل للملاك والغرض فتجري فيه أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الملاك معلوم ثبوته ودخوله في عهدة المكلّف.

ص: 222

والشكّ هنا ليس في إطلاق الوجوب وتقييده لينفى القيد بالبراءة ؛ لأنّ الوجوب يجعله الشارع مطلقا بناء على عدم دخالة قصد الامتثال في الوجوب (1).

ص: 223


1- إلا أنّ السيّد الشهيد لا يرتضي هذه الثمرة ويقول بأنّ البراءة هي التي تجري حتّى لو بنينا على استحالة أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر ، والوجه في ذلك هو أنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في التكليف وهو مجرى للبراءة. وتوضيحه : أنّ التعبّديّة معناها أنّ الإتيان بالفعل من دون قصد الامتثال لا يوجب فراغ الذمّة ولا يوجب سقوط الأمر ، بل يبقى المكلّف مطالبا بالأمر. وعليه ، فإذا شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة فهو يشكّ في وجود الأمر مجدّدا حين إتيانه بالفعل من دون قصد الامتثال ، أي أنّه يشكّ هل هو مكلّف بتكليف مجدّدا أم لا؟ فتجري البراءة لنفي التكليف الزائد.

ص: 224

التخيير في الواجب

اشارة

ص: 225

ص: 226

التخيير في الواجب

التخيير تارة يكون عقليّا وأخرى شرعيّا ، فإن كانت البدائل مذكورة على نحو التردّد متعلّقا للأمر في لسان الدليل فالتخيير شرعي ، وإلا فهو عقلي.

وقد وقع الكلام في تحليل واقع الوجوب في موارد التخيير وكيفيّة تعلّقه.

وفي ذلك عدّة اتّجاهات :

مقدّمة البحث : الوجوب التخييري وهو ما يقابل الوجوب التعييني ، وبيانه :

إنّ المولى تارة يأمر بشيء على سبيل التعيين بحيث لا يكون له بدل ولا عدل كوجوب الحجّ مثلا.

وأخرى يأمر بشيء ويكون له بدل أو عدل فيكون الأمر به على سبيل التخيير لا التعيين ، وهذا التخيير على نحوين :

فتارة يكون التخيير شرعيّا ، بمعنى أنّ الشارع هو الذي تصدّى لبيان البدائل بنفسه وأمر بها على نحو التخيير ، كما هو الحال في خصال الكفّارة المخيّرة بين الصوم أو الإطعام أو العتق.

وأخرى يكون التخيير عقليّا ؛ بمعنى أنّ الشارع يأمر بالطبيعة وهي بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيها يثبت كونها مطلقة فتنطبق على كلّ فرد من أفرادها ، فيكون المكلّف مخيّرا في امتثال هذا الأمر ضمن أي فرد من أفراد هذه الطبيعة.

ولهذا قال السيّد الشهيد بأنّ التخيير الشرعي عبارة عن كون البدائل مذكورة في لسان الدليل على نحو التردّد بينها ، أي أنّ الشارع قد جعل الامتثال مردّدا بينها ولا أولويّة لأحدها على الآخر.

وأمّا إذا لم يؤخذ ذلك في لسان الدليل فالتخيير عقلي ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بالتخيير ، كما لو كان هناك طريقان أو عدّة طرق للوصول إلى المكان الذي يجب

ص: 227

عليه الذهاب إليه ، ولم يكن في أحدها أيّة أولويّة أو خصوصيّة معتبرة فالعقل يحكم بالتخيير فيما بينها.

وهكذا الحال بالنسبة لمتعلّقات الأحكام إذا كانت لها أفراد أو مصاديق أو حصص وكانت متساوية جميعا ، فالعقل يحكم بالتخيير فيما بينها.

وهذا الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما وقع الكلام عندهم في حقيقة التخيير في الواجب وكيفيّة تحليله ثبوتا ، مضافا إلى الخلاف في أنّ التخيير الشرعي هل يرجع إلى التخيير العقلي أو العكس هو الصحيح؟

ولذلك ينفتح البحث العقلي التحليلي في هذه القضيّة الفعليّة.

وهنا توجد عدّة اتّجاهات لتفسير الوجوب التخييري هي :

الاتّجاه الأوّل : أنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، وفي موارد التخيير الشرعي متعلّق بكلّ واحد من البدائل ولكن مشروطا بترك البدائل الأخرى.

التفسير الأوّل : ما ذكره مشهور المتأخّرين ، وحاصله أن يقال : إنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع بين البدائل أو الحصص ، فالشارع يصبّ حكمه على عنوان الجامع ، فهناك موضوع واحد وحكم واحد ، ويكون التخيير بلحاظ أنّ كلّ حصّة أو مصداق يحقّق هذا الجامع في عالم الامتثال ، ومن هنا يحكم العقل بالتخيير بينها.

بينما الوجوب في موارد التخيير الشرعي يتعلّق بكلّ واحد من هذه البدائل على سبيل التعيين ، ولكن وجوبه في كلّ منها مشروط بترك البدائل الأخرى ، وهذا معناه أنّه توجد وجوبات عديدة على عناوين متعدّدة ، فيتعدّد الوجوب بتعدّد الأفراد والحصص التي أخذها الشارع في لسان الدليل ، فيكون لكلّ حصّة وجوب تعييني ، ولكنّ هذا الوجوب ليس مطلقا وإنّما هو مشروط.

والوجه في عدم كونه مطلقا : أنّ الملاك والغرض من هذه الحصص سنخ ملاك يحصل ويتحقّق بأي فرد أو حصّة ، بحيث لا تكون الحصّة الأخرى بعد تحقّق الحصّة الأولى واجدة للملاك ، ولذلك لا يكون الأمر والوجوب متعلّقا بها بعد تحقّق غيرها.

وهذا معناه أنّه يوجد غرض واحد وملاك فارد يتحقّق بأيّة واحدة من هذه البدائل ،

ص: 228

أو يكون الملاك والغرض متعدّدين ففي كلّ واحدة من البدائل غرض مستقلّ ، ولكنّ هذه الأغراض متضادّة لا يمكن اجتماعها ولا يتمكّن المكلّف من تحصيلها جميعا ، بحيث إذا حصّل الغرض والملاك في أحدها فات الملاك والغرض من البدائل الأخرى ، فمن أجل ذلك جعل الشارع الوجوب مخيّرا بين البدائل ؛ إذ لو كانت غير متضادّة وكان يمكن تحصيلها كلّها لكانت كلّ واحدة واجبة بالوجوب التعييني لا التخييري.

وقد يلاحظ عليه بأنّ الوجوبات المشروطة تستلزم أمورا لا تناسب الوجوب التخييري كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، من قبيل تعدّد العقاب بترك الجميع.

وأورد على هذا التفسير بأنّه يلزم من الوجوبات المشروطة بعض اللوازم التي لا يمكن الالتزام بها ؛ لكونها مخالفة لحقيقة التخيير ، وهي :

أوّلا : يلزم تعدّد العقاب فيما لو ترك الجميع ؛ وذلك لأنّ كلّ واحد من البدائل وجوبه مشروط بترك الحصص الأخرى ، وهذا الشرط متحقّق في الفرض ، فيكون قد ترك وجوبات فعليّة متعدّدة ومعه يلزم تعدّد العقاب ، وهذا لا يمكن الالتزام به ، بل هو مخالف لحقيقة الوجوب التخييري الذي يستبطن مئونة أخفّ وأقلّ من الوجوب التعييني ، فكيف يكون أشدّ منه؟!

وثانيا : يلزم منه عدم تحقّق الامتثال فيما لو جاء بالبدائل كلّها ؛ لأنّه لن يكون الشرط متحقّقا في شيء منها ؛ لأنّ الشرط هو ترك الحصص الأخرى ، وهذا لم يتحقّق على هذا الفرض ؛ لأنّه جاء بالجميع ، ولذلك لا يكون شيء من الوجوب فعليّا ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أيضا ؛ لوضوح أنّ الامتثال بالإتيان بأكثر من حصّة يكون أشدّ وآكد منه فيما لو أتى بحصّة واحدة.

وثالثا : أنّ جعل الوجوب التخييري عبارة عن الوجوبات المتعدّدة المشروطة خلاف حقيقة الوجوب التخييري وخلاف الظاهر من أدلّة هذا الوجوب ، حيث لا يوجد إلا وجوب واحد متعلّق بالجميع لا وجوب متعدّد بتعدّد الحصص (2).

ص: 229


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : التخيير الشرعي في الواجب.
2- إلا أنّه يمكن دفع هذه الإشكالات الثلاثة بأن يقال : أمّا الإشكال الأخير فهو إشكال إثباتي وهو ليس محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في عالم الثبوت وكيفيّة لحاظ المولى عند جعله الوجوب. وأمّا الإشكال الثاني فيندفع بأنّ البدائل قد أخذت كلّها على أساس أن يكون وجود أحدها قبل الآخر مانعا من استيفاء الغرض والملاك من البقيّة ، ولكن في صورة الإتيان بالجميع معا يكون الملاك والغرض الواحد متحقّقا بالجميع لا بأحدها. وتوضيحه : أنّه في صورة الطوليّة في الوجود يكون كلّ واحد منها علّة مستقلّة تامّة للملاك والغرض ، فإذا تحقّق أحدها حصل به الغرض والملاك فلا يكون الإتيان بالحصص الأخرى محقّقا لشيء من الملاك والغرض ، ولكن إذا حصلت كلّها معا فالملاك والغرض يتحقّق بالجميع فيكون كلّ واحد منها علّة ناقصة ، نظير اجتماع علّتين على معلول واحد فإنّ تأثيرها بنحو استقلالي ممنوع ، ولكن يقال بأنّ العلّة يكون المجموع منهما وهو ما يسمّى بالنقصان العرضي لا الذاتي ، ومن هنا يفصّل بين الوجود الطولي للحصص والوجود الدفعي المتقارن. وأمّا الإشكال الأوّل فيندفع بأنّ الشرط المذكور هو شرط لوجود الملاك الفعلي وليس شرطا للاتّصاف بالوجوب ، فإذا قلنا بأنّ ترك الحصص الأخرى شرط للاتّصاف بالوجوب ، فمع الترك للجميع يكون الوجوب في كلّ منها فعليّا فيكون المكلّف قد ترك وجوبات فعليّة فيتعدّد العقاب ، إلا أنّنا نقول بأنّ الشرط المذكور شرط لوجوب الملاك الفعلي في الحصّة الأخرى ، ممّا يعني أنّه إذا فعل إحدى الحصّتين فسوف لن يتحقّق الملاك الفعلي في الأخرى فلا تفويت للملاك الفعلي وإنّما يرتفع بارتفاع موضوعه ، ولذلك فالمولى سوف يفوته الملاك على كلّ حال إذا فعل المكلّف إحدى الحصّتين ، وأمّا إذا تركهما معا لا يكون مفوّتا لملاكين بل لملاك فعلي واحد ؛ لأنّ الآخر ضروري التفويت ، ومن هنا كان هذا التفسير مقبولا ثبوتا.

الاتجاه الثاني : إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، فيلتزم بأنّ الوجوب يتعلّق بالجامع دائما ، إمّا ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة كما أشير إليه فيتعيّن هذا.

وإمّا ببرهان أنّ الوجوب التخييري له ملاك واحد والواحد لا يصدر إلا من واحد ، فلا بدّ من فرض جامع بين البدائل يكون هو علّة تحصيل ذلك الملاك.

التفسير الثاني : أن يقال : إنّ التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي ، فهناك وجوب واحد متعلّق بالجامع بين البدائل ، وهذا الجامع إمّا أن يكون جامعا حقيقيّا وذلك فيما إذا أمكن أن يكون هناك جامع ذاتي بين البدائل فيكون مصبّ الحكم هو هذا الجامع الحقيقي ، وإمّا أن يكون جامعا انتزاعيّا وذلك فيما إذا لم يمكن أن يكون هناك جامع ذاتي بين البدائل بأن كانت متباينة فيما بينها فينتزع عنها عنوان ( أحدها ) ويصبّ الحكم عليه.

ص: 230

والوجه في إرجاع الوجوب التخييري الشرعي إلى العقلي وكونه متعلّقا بالجامع ، هو أحد أمرين :

الأوّل : ما تقدّم في الإشكال على الوجوبات المتعدّدة من لزوم تعدّد العقاب عند ترك الجميع ، ومن لزوم عدم تحقّق الامتثال عند فعل الجميع ، فإنّ هذه اللوازم لمّا لم يمكن الالتزام بها كان القول بالوجوبات المشروطة باطلا ، فيتعيّن وجود وجوب واحد متعلّق بالجامع بين البدائل.

الثاني : الاعتماد على قانون ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) فإنّ الملاك والغرض إمّا أن يكون متعدّدا بتعدّد البدائل ، فيكون لكلّ حصّة غرض وملاك مستقلّ عن الغرض والملاك في الحصص الأخرى ، وإمّا أن يكون واحدا. والفرض الأوّل باطل جزما ، وإلا لصارت كلّ حصّة من البدائل واجبة تعيينيّا ؛ لأنّ ملاكها مغاير للملاك في الحصص الأخرى والوجوب تابع للملاك ، وهذا الوجوب التعييني مطلق وليس مشروطا لما تقدّم من بطلان ذلك.

فيتعيّن أن يكون هناك غرض وملاك واحد ، ولمّا كان الواحد لا يصدر إلا من واحد فيستحيل أن يكون هذا الغرض الواحد ممّا يصدر من البدائل المتكثّرة ، فيلزم أن تكون هذه البدائل مؤثّرة في هذا الغرض لا بعنوانها الخاصّ ، بل بما هي مصداق لعنوان واحد هو الذي يكون مؤثّرا في الغرض.

وهذا العنوان الواحد إمّا أن يكون عنوانا حقيقيّا فيما إذا أمكن أن يكون بينها جامع ذاتي وإمّا أن يكون انتزاعيّا فيما إذا لم يمكن انتزاع الجامع الذاتي.

وبهذا يتّضح أنّ الوجوب التخييري الشرعي كالعقلي تماما عبارة عن وجوب واحد على موضوع واحد هو الجامع ، يبقى الفرق بينه وبين التخيير العقلي فهو أنّ الشارع في التخيير الشرعي هو الذي يتصدّى لبيان الحصص ؛ لأنّه أحرز أنّ الملاك والغرض يمكن أن يتحقّق بها دون غيرها ، بخلاف التخيير العقلي فإنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة والجامع يكون محصّلا للغرض بوصفه مصداقا لا بعنوانه الخاصّ. وهذا الوجه مقبول ثبوتا أيضا.

الاتّجاه الثالث : التسليم بأنّ الوجوب في موارد التخيير يتعلّق بالجامع دائما ، ولكن يقال : إنّ وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والأفراد ،

ص: 231

أي وجوب كلّ واحدة منها بشرط انتفاء الحصص الأخرى.

وهذه الوجوبات بمجموعها لمّا كانت روحا نفس ذلك الوجوب المتعلّق بالجامع فليس من ناحيتها إلا عقاب واحد في فرض ترك الجميع.

التفسير الثالث : أنّ الوجوب في موارد التخيير عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع ، فالتخيير العقلي والتخيير الشرعي على حدّ واحد من هذه الناحية ، فيكون الحكم والوجوب متعلّقا بالجامع كما تقدّم في الاتّجاه الثاني.

ولكن يقال هنا : إنّه في موارد التخيير الشرعي أو العقلي سوف يسري الوجوب من الجامع إلى الحصص والأفراد ، فيكون كلّ واحد منها واجبا ولكن بنحو مشروط بترك الحصص أو الأفراد الأخرى ، وهذا معناه الرجوع إلى النظريّة الأولى في تفسير حقيقة الوجوب التخييري من الالتزام بالوجوبات المشروطة.

إلا أنّ الإشكالات التي أوردت هناك لا تأتي هنا ، فلا يلزم تعدّد العقاب عند ترك الجميع ولا عدم تحقّق الامتثال عند امتثالها دفعة.

والوجه في ذلك : هو أنّ هذه البدائل والحصص لم ينصبّ عليها الوجوب ابتداء وإنّما وجوبها وجوب مترشّح من الوجوب المتعلّق بالجامع ، فهي بروحها وحقيقتها لا تزيد عن الجامع ؛ لأنّه لا يوجد إلا ملاك وغرض واحد مترتّب على الجامع ابتداء ، ومنه يترتّب هذا الغرض على أي واحد من الأفراد والحصص فيما لو جاء به وترك البقيّة.

وهذا نظير الوجوب الغيري للأجزاء في المركّب ، فإنّه ليس هناك إلا وجوب واحد فيه ملاك وغرض واحد متعلّق بالمركّب ، ولكن يترشّح من هذا الوجوب وجوبات متعدّدة بعدد الأجزاء تسمّى بالوجوبات الضمنيّة ، وهي وجوبات غيريّة كما سيأتي ، فترك كلّ جزء جزء لا يزيد عن ترك المركّب ، فليس هناك إلا عقاب واحد ، وفعل الجميع معناه الإتيان بالمركّب ، فليس هناك إلا امتثال واحد.

ومقامنا شبيه بذلك فإنّه إذا ترك جميع الحصص والأفراد يكون في الحقيقة قد ترك الجامع ؛ لأنّ ترك الجامع يكون بترك كلّ حصصه وأفراده فهناك عقوبة واحدة لتركه الجامع المتحقّق بترك جميع الحصص.

وأمّا إذا فعل أكثر من حصّة وأتى بأكثر من فرد فالامتثال متحقّق بأحدها فقط ؛

ص: 232

لأنّه به يحصل الملاك والغرض بوصفه مصداقا للجامع ، أو لكون وجوده مانعا من تحقّق الغرض من الآخر.

وهذا التفسير مبني على أنّ الأمر يتعلّق بالأفراد لا بالطبائع كما هو واضح.

والفرق بين هذا الاتّجاه وسابقه : أنّ هذا يقول بسراية الوجوب إلى الحصّة بالنحو المذكور ، وأمّا ذاك الاتّجاه فلا يلتزم بالسراية. وعليه لا تكون الحصّة معروضة للوجوب ، بل مصداقا لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة إلى الحصّة في موارد التخيير كالنوعيّة بالنسبة إلى أفراد الإنسان ، فإنّ هذا الفرد أو ذاك مصداق لمعروض النوعيّة لا معروض لها.

الفارق بين الاتّجاهين الثاني والثالث : الاتّجاه الثاني كان يرى أنّ الوجوب التخييري - سواء الشرعي أو العقلي - عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع الحقيقي أو الانتزاعي ، إمّا بناء على استحالة الوجوبات المشروطة وإمّا بناء على أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد.

ولذلك فهو يرى أنّ هناك ملاكا وغرضا واحدا مترتّبا على الجامع يحقّقه هذا الفرد أو ذاك بوصفه مصداقا للجامع ، وهذا الوجوب لا يسري من الجامع إلى الفرد ولذلك لا يتّصف الفرد بالوجوب ، بل يعتبر مصداقا لما هو المأمور به ، فالمأمور به هو الجامع وهو معروض الوجوب ، وأمّا الفرد فليس هو معروض الوجوب ولذلك لا يتّصف بالوجوب ، وإنّما هو مصداق لما هو معروض الوجوب.

وهذا نظير ما إذا قلنا : الإنسان نوع ، فإنّ وصف النوعيّة لا يمكن أن يتّصف به هذا الفرد من الإنسان أو ذاك ؛ لأنّه جزئي حقيقي لا يقبل الانطباق إلا على نفسه ، وعنوان النوعيّة من العناوين الكلّيّة الانتزاعيّة. نعم ، هذا الفرد من الإنسان يعتبر مصداقا لمعروض النوعيّة أي مصداق للإنسان الذي عرضت عليه النوعيّة.

بينما الاتّجاه الثالث يذهب إلى أكثر من تعلّق الوجوب بالجامع ، فيرى أنّ هذا الجامع يسري إلى الفرد فيتّصف الفرد بالوجوب أيضا ، ولكن لمّا كان هناك غرض وملاك واحد ، فلا يكون هذا الوجوب الذي يسري إلى الأفراد متعدّدا وإلا للزم صدور الواحد من المتكثّر وهو محال.

بل هذا الوجوب في كلّ فرد مشروط بترك الأفراد الأخرى ، كما هو عليه التفسير

ص: 233

الأوّل مع فارق بينهما ، وهو أنّ التفسير الأوّل كان يرى أنّ الوجوب متعدّد ابتداء ممّا يعني أنّ لكلّ فرد وجوبا مجعولا بنحو مستقلّ عن وجوب الأفراد الأخرى ولكنّها مشروطة ، ولذلك أشكل عليها بتلك الإشكالات.

وأمّا هنا فالأفراد ليست معروضة للوجوب ابتداء ليكون لدينا وجوبات مستقلّة متعدّدة ، بل هناك وجوب واحد فقط له عصيان واحد وامتثال واحد كما تقدّم.

وقد يعترض على الاتّجاه الثالث بأنّ الوجوب فعل اختياري للشارع يجعله حيثما أراد ، فإذا جعله على الجامع لا يعقل أن يسري بنفسه إلى غير الجامع ، فإن أريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب فهو مستحيل ، وإن أريد أنّ الشارع يجعل وجوبات أخرى مشروطة فهو بلا موجب فيكون لغوا.

اعترض على التفسير الثالث بما حاصله : أنّ ما ذكره من كون وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص لا معنى له ؛ وذلك لأنّ الوجوب فعل اختياري للمولى فهو إن شاء جعل الوجوب وإن شاء لم يجعله ، فإذا أراد جعل الوجوب فإنّه إمّا أن يجعله وجوبا واحدا على الجامع فيما إذا لم يلاحظ الأفراد وكان الملاك في الجامع ، وإمّا أن يجعل وجوبات متعدّدة مطلقة أو مشروطة تبعا لما لاحظه في عالم الجعل من وحدة الملاك والغرض أو تعدّدهما.

وعليه ، فإذا جعل الشارع وجوبا واحدا على الجامع فلا معنى للقول بأنّ هذا الوجوب الواحد يستلزم وجوبات متعدّدة مشروطة ؛ لأنّ هذا إمّا أن يكون من نفس الوجوب وإمّا أن يكون من الشارع بجعل جديد ، وكلاهما باطل.

أمّا بطلان أن تكون الوجوبات المشروطة من نفس الوجوب المتعلّق بالجامع ، فلمّا ذكرنا من أنّ الوجوب فعل اختياري للمولى وليس أمرا قهريّا مفروضا عليه ، والسريان المذكور يعني أنّ تعدّد الوجوب كان قهريّا ، وهذا ينافي الاختياريّة في الجعل للمولى.

وأمّا بطلان أن تكون الوجوبات المشروطة مجعولة بجعل جديد من الشارع ، فلأنّ وجوب الجامع أوّلا يكفي مئونة جعل تلك الوجوبات المشروطة ؛ إذ المفروض أنّه لا يوجد إلا ملاك واحد يتحقّق بالإتيان بأي فرد أو مصداق أو حصّة ، وهذا المقدار يفي به الوجوب على الجامع ، فأيّة حاجة إلى جعل الوجوبات المشروطة على الحصص مجدّدا؟ فإنّه لا يكون إلا تحصيلا للحاصل فيلغو.

ص: 234

وبهذا ظهر أنّ سريان الوجوب من الجامع إلى الأفراد أو استلزامه لذلك في غير محلّه ، وحينئذ يكون الوجه الثالث كالثاني القائل بعدم السراية.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأنّ هذا إنّما يتمّ في مرحلة جعل الحكم والإيجاب لا في مرحلة الشوق والإرادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة في هذه المرحلة بين حبّ الجامع وأنحاء من الحبّ المشروط للحصص.

ولا يأتي الاعتراض باللغويّة ؛ لأنّ الكلام هنا عن المبادئ التكوينيّة للحكم.

وهذه الملازمة لا برهان عليها ، ولكنّها مطابقة للوجدان.

والجواب عن هذا الاعتراض :

أنّ ما ذكر في الاعتراض إنّما يتمّ لو قصرنا النظر على مرحلة جعل الحكم والإيجاب ، فإنّه يقال حينئذ بأنّ الشارع إمّا أن يجعل الوجوب على الجامع فقط أو يجعل وجوبات مشروطة على الحصص ، فإذا جعل الوجوب على الجامع فهو لا يسري إلى الأفراد لا بنفسه ؛ لأنّ الوجوب فعل اختياري للمولى ، ولا بجعل جديد من المولى ؛ لأنّه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل.

إلا أنّنا إذا لاحظنا عالم الحبّ والشوق والإرادة أي عالم المبادئ للحكم فلا مانع ولا محذور حينئذ من سريان الحبّ والشوق والإرادة من الجامع إلى الأفراد ، فيقال بالملازمة بينهما ، بمعنى أنّ المولى إذا أحبّ شيئا فهو يحبّ أفراده وحصصه ولكن بنحو مشروط.

وهذا لن يبتلى بمحذور اللغويّة ؛ لأنّ كلامنا عن الحبّ والشوق والإرادة لا عن جعل الوجوب ، ليكون سريان ذلك تحصيلا للحاصل ولغوا.

نعم ، هذه الملازمة أو دعوى سريان الحبّ والشوق والإرادة من الجامع إلى الأفراد ولو مشروطا ممّا لا يمكن إقامة الدليل عليها ، إلا أنّها مع ذلك مطابقة للوجدان ، فإنّ المولى العرفي أو الإنسان مطلقا إذا تعلّق حبّه وشوقه وأراد شيئا وكان لهذا الشيء أفراد وحصص ، فهذا الشوق سوف يسري إلى الأفراد بمعنى أنّه سوف يحبّ ويريد كلّ فرد من الأفراد ولكن بنحو مشروط لا مطلقا ، بمعنى أنّه يريد أن يحقّق غرضه وملاكه في أي واحد من هذه الأفراد ، وبما أنّ كلّ واحد منها واجد للملاك ويمكن تحصيله منه فهو يحبّه. نعم لا يمكنه تحصيل مجموع الملاكات منها ؛ لما تقدّم سابقا من أنّها متضادّة في عالم الوجود أي وجود الملاك الأوّل يمنع من وجود الملاك الثاني ، وهكذا.

ص: 235

وبهذا ظهر أنّ التفسير الثالث مقبول ثبوتا أيضا ولا محذور فيه.

وهذا التحليل للوجوب التخييري له ثمرات :

منها : ما سوف يظهر في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومنها : ما قد يقال : من أنّه إذا شكّ في واجب أنّه تخييري أو تعييني ، فعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى إيجاب الجامع يكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإن قيل هناك بالبراءة قيل بها هنا بإجرائها عن التعيين ، وإلا فلا.

وعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى الوجوبات المشروطة - كما يقرّره الاتّجاه الأوّل - فالشكّ مرجعه إلى الشكّ في إطلاق الوجوب واشتراطه ، أي في ثبوته في حال الإتيان بما يحتمل كونه بديلا وعدلا ، وهذا شكّ في الوجوب الزائد بلا إشكال فتجري البراءة.

وأمّا ثمرة البحث : فهي تظهر في موردين :

الأوّل : ما سوف يأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّه إن قيل بوجوب الجامع وعدم سراية الوجوب من الجامع إلى الفرد فيكون التخيير الشرعي كالعقلي ، فحينئذ سوف يكون اجتماع الأمر والنهي بلحاظ الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة جائزا ولا محذور فيه ؛ لأنّ الأمر بالجامع لمّا لم يسر إلى الأفراد فالحصّة فيها مبادئ الحرمة فقط دون الوجوب ، فلم تجتمع المبادئ المتضادّة على شيء واحد ؛ لأنّ مبادئ الوجوب متعلّقة بالجامع ، والجامع غير الفرد ، فالمعروض مختلف.

وأمّا إن قيل بسراية الوجوب من الجامع إلى الفرد فسوف تكون مسألة الاجتماع هذه غير ممكنة ؛ لأنّ السريان معناه أنّ الوجوب ومبادئه متعلّقة بالحصص والأفراد ، فتكون الحصّة التي تعلّق بها النهي ومبادئه قد تعلّق بها الأمر والوجوب ومبادئه ، فيلزم اجتماع المبادئ المتضادّة على شيء واحد وهو مستحيل.

الثاني : ما إذا شكّ في واجب أنّه تعييني أو تخييري ، كما لو شكّ في كون وجوب صوم الشهرين هل هو تعييني أم تخييري؟

فإن قيل بأنّ التخيير الشرعي يرجع إلى الوجوبات المشروطة للحصص فسوف يكون المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، بمعنى أنّ الشكّ في كون الصوم

ص: 236

تعيينيّا أو تخييريّا معناه الشكّ في أنّ وجوب الصوم هل هو مطلق حتّى لو أتى بسائر الحصص أو أنّه مشروط بعدم الإتيان بتلك الحصص؟ وبالتالي يعود هذا الشكّ إلى كون وجوب الصوم هل هو وجوب مطلق أم هو وجوب مشروط؟

وحينئذ فإذا أعتق رقبة أو أطعم المساكين سوف يشكّ في بقاء الوجوب عليه ؛ لأنّ وجوب الصوم إن كان تعيينيّا فهذا يعني أنّ وجوبه مطلق ، فهو ثابت وفعلي ولا يسقط بالإتيان بغيره ، وإن كان تخييريّا فوجوبه يكون مشروطا بعدم الإتيان بسائر الحصص ، فإذا جاء بأحدها سقط وجوب الصوم عنه ، وهذا من الشك في سعة وضيق الوجوب المجعول عليه.

ومثل هذا الشكّ هل يكون مجرى للبراءة أم هو مجرى لأصالة الاشتغال؟ فيه كلام بينهم ، إلا أنّ الصحيح كونه مجرى لأصالة البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد ؛ لأنّه حينما يأتي بإحدى الخصال الأخرى غير ما يحتمل كونها تعيينيّة فسوف بشكّ في جعل وجوب زائد فتجري فيه البراءة.

وقد يقال بأنّه مجرى لأصالة الاشتغال ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بالوجوب ويشكّ في خروجه عن عهدة التكليف فيما لو أتى بغير ما يحتمل كونه تعيينيّا.

وأمّا إن قيل برجوع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، بمعنى أنّه لا يوجد إلا وجوب واحد متعلّق بالجامع دون الحصص والأفراد ، فهنا سوف يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب هذه الحصّة بالخصوص أو هي وغيرها من الحصص على سبيل البدل ، فهو علم بتكليف دائر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فيما لو كان الجامع حقيقيّا ، ومثل هذا العلم ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الجامع وشكّ بدوي في وجوب الحصّة ، فتجري البراءة عن الحصّة أي عن التعيين من دون معارض ؛ لأنّ البراءة عن الجامع لا يمكن جريانها كما سيأتي في محلّه.

وإن كان الجامع انتزاعيّا فالشكّ دائر بين عنوانين متباينين ، فإن قيل بالانحلال الحكمي للجامع فسوف تجري البراءة عن الزائد وهو التعيين ؛ لأنّ فيه مئونة زائدة ، وإن لم يحكم بالانحلال فيجب الاحتياط.

ص: 237

ص: 238

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب

ص: 239

ص: 240

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب تعريف الواجب الغيري :

اتّضح ممّا تقدّم (1) أنّ المكلّف مسئول عن مقدّمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلّق بها ؛ لأنّه يحرّك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلّقه ، وهذه المسئوليّة في حدودها العقليّة متّفق عليها باعتبارها من شئون حكم العقل بلزوم الامتثال.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمة ، فالمشهور بين الأصوليّين هو أنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّمته ، فتتّصف المقدّمة بوجوب شرعي غير أنّه تبعي ، إمّا بمعنى أنّه معلول لوجوب ذي المقدّمة ، أو بمعنى أنّ الوجوبين معا معلولان للملاك القائم بذي المقدّمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي إلى إيجاب ذي المقدّمة نفسيّا ، وبضمّ مقدّميّة المقدّمة يؤدّي إلى إيجابها غيريّا. وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.

تمهيد : تقدّم سابقا أنّ المقدّمات على نحوين فتارة تكون مقدّمات وجوبيّة وأخرى تكون مقدّمات للواجب ، وقلنا بأنّ المكلّف ليس مسئولا عن إيجاد المقدّمات الوجوبيّة ؛ لأنّها دخيلة في موضوعه فلا يكون داعيا ولا محرّكا نحوها.

نعم ، المكلّف مسئول عن المقدّمات الوجوديّة للواجب ، وهذه المسئوليّة ثابتة بحكم العقل ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بهذه المقدّمات التي يتوقّف عليها امتثال الواجب كالسفر إلى الحجّ مثلا أو تحصيل الوضوء ونحوه من أجل الصلاة مع طهارة ، وهذا الوجوب العقلي الذي يحرّك المكلّف نحو المقدّمات حفاظا منه على تحقّق الامتثال والإطاعة لتكليف المولى ، إنّما نشأ من نفس ثبوت الوجوب المتعلّق بالواجب ،

ص: 241


1- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

فإنّه لمّا كان هذا الفعل واجبا ووجوبه فعليّ ، فالعقل يحكم بلزوم امتثاله وتحصيل سائر المقدّمات التي يتوقّف عليه الامتثال. إذا هذا الوجوب العقلي متفرّع عن الوجوب الشرعي للواجب.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه عند الأصوليّين.

وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدّمات ، فهل يحكم الشارع بوجوب المقدّمات أم يكتفي بالإلزام والإيجاب العقلي الثابت لها؟

ذهب المشهور إلى أنّ إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدّمته أيضا ، فتتّصف المقدّمة بالوجوب الشرعي مضافا إلى الوجوب العقلي ، غير أنّ هذا الوجوب ليس وجوبا نفسيّا ناشئا من مبادئ في نفس المقدّمة ، وإنّما هو وجوب تبعي غيري أي أنّه بتبع الواجب النفسي كان هذا الوجوب.

والوجه في ذلك هو أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الواجب النفسي هو العلّة لنشوء هذا الواجب الغيري ، فكان الواجب الغيري تابعا للوجوب النفسي من باب تبعيّة المعلول لعلّته. فمن هنا أطلق عليه الوجوب التبعي أي أنّه تابع لغيره وناشئ من غيره.

الثاني : أن يكون الوجوب النفسي والوجوب الغيري كلاهما تابعين للملاك الموجود في الواجب النفسي ، بمعنى أنّ الشارع لمّا لاحظ المبادئ من ملاك ومصلحة في الفعل تولّد من ذلك الوجوب النفسي فالوجوب تابع للملاك والمصلحة ، ولمّا لاحظ أنّ هذا الفعل لا يتحقّق إلا بمقدّمات يتوقّف وجوده عليها تولّد منه الوجوب الغيري ، فالوجوب النفسي والغيري كلاهما متولّدان من الملاك القائم في الفعل ، فهو الذي يسبّب وجود الوجوب النفسي المتعلّق بنفس الفعل ووجود الوجوب الغيري المتعلّق بمقدّمات الفعل ، ولذلك فكلاهما تابع للملاك ، فمن هنا كانت التسمية بالوجوب التبعي.

وعلى كلّ حال فسواء كانت التبعيّة على أساس الوجه الأوّل أو الوجه الثاني ، فلا إشكال في ثبوت الملازمة بين وجوب شيء نفسيّا ووجوب مقدّماته غيريّا ، غير أنّ التلازم على الوجه الأوّل يكون بين المقدّمات وذات الفعل مباشرة ؛ لأنّها معلولة له ، بينما على الوجه الثاني يكون التلازم بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها بتوسّط الملاك ؛ لأنّهما تابعان معا للملاك.

ص: 242

ويعرّف هؤلاء القائلون بالملازمة الواجب الغيري بأنّه ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجب آخر. والواجب النفسي بأنّه ما وجب لنفسه أو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس يصنّفون الواجبات في الشريعة إلى قسمين :

فالصلاة والصيام والحجّ ونحوها واجبات نفسيّة ، والوضوء والغسل وطيّ المسافة واجبات غيريّة.

تعريف الوجوب الغيري : عرّف القائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته شرعا الواجب الغيري بأحد تعريفين :

أحدهما : أنّ الواجب الغيري : هو ما وجب لغيره. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لنفسه.

والآخر : أنّ الواجب الغيري هو ما وجب لواجب آخر. وفي مقابله الواجب النفسي : وهو ما وجب لا لواجب آخر.

وعلى هذا الأساس قسّموا الواجبات الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما الواجبات النفسيّة كالصلاة والصيام والحجّ فإنّها واجبات وجبت لنفسها لا لغيرها ولا لواجب آخر.

والآخر الواجبات الغيريّة كالوضوء والغسل وطيّ المسافة فهذه واجبات وجبت لغيرها أي للصلاة والصيام والحجّ ، أو وجبت لواجب آخر وهو وجوب الصلاة والصيام والحجّ ولم تجب لنفسها أو بمعزل عن الواجب الآخر.

وأمّا الفرق بين التعريفين فيظهر في تماميّة الإشكال الآتي وعدمه.

وقد لوحظ عليهم : أنّ الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلا لما يترتّب عليها من الفوائد والمصالح ، وهي مغايرة وجودا لتلك الفوائد والمصالح فيصدق عليها أنّها وجبت للغير ، وهذا يعني أنّ كلّ هذه الواجبات تصبح غيريّة ، ولا يبقى في نطاق الواجب النفسي إلا ما كانت مصلحته ذاتيّة له كالإيمان باللّه سبحانه وتعالى.

الإشكال على التعريف : أشكل على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) بأنّ كثيرا بل أغلب الواجبات التي ذكر أنّها واجبات نفسيّة قد أوجبها الشارع للغير لا لنفسها.

ص: 243

فالصلاة مثلا أوجبها ؛ لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام أوجبه ؛ لأنّه سبب لحصول التقوى ، وهكذا في سائر الواجبات النفسيّة. فإنّ الشارع إنّما أوجبها من أجل ما يترتّب عليها من المصالح والملاكات والفوائد سواء منها الماديّة أم المعنويّة.

والحال أنّ هذه الواجبات ليست هي نفس تلك الفوائد والمصالح ، بل هما متغايران ومتباينان في الوجود ، وحيث إنّها وجبت للغير فينطبق عليها تعريف الوجوب الغيري ، وهذا لا يمكن الالتزام به ؛ بل لا يبقى من الواجبات ما هو نفسي إلا الإيمان باللّه عزّ وجلّ ، وما عدا ذلك كلّه واجب للغير.

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة بأنّ الصلاة وإن كانت واجبة من أجل المصلحة المترتّبة عليها ، إلا أنّ هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ؛ لأنّ الواجب الغيري ليس كلّ ما وجب لغيره ، بل ما وجب لواجب آخر ، والمصلحة الملحوظة في إيجاب الصلاة ليست متعلقا للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة أنّها وجبت لواجب آخر.

والجواب عن الإشكال : أن هذا الإشكال إنّما يرد على تعريف الوجوب الغيري ( بأنّه ما وجب للغير ) إلا أنّنا نبدّل التعريف إلى قولنا : ( بأنّه ما وجب لواجب آخر ) فكلّ شيء وجب من أجل واجب آخر يكون وجوبه غيريّا ، وحينئذ تكون الصلاة ونحوها واجبات نفسيّة ؛ وذلك لأنّها وجبت لنفسها ولم تجب لواجب آخر.

وأمّا الفوائد والمصالح التي تترتّب على الواجبات النفسيّة فهي وإن كانت كذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ الصلاة مثلا صارت واجبا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، فإنّ هذه المصالح ليست واجبة ولم يتعلّق بها الوجوب في رتبة سابقة. نعم ، هي مجرّد فوائد ومصالح لا أكثر إلا أنّ الشارع لم يوجبها أوّلا وبالذات ، وإنّما أوجب الصلاة فهي متعلّق الوجوب دون تلك المصالح.

فإن سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبة مع أنّ الصلاة الواجبة إنّما أوجبت من أجلها؟

كان الجواب : أنّ الإيجاب مرجعه إلى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت ، وغاية الواجب إنّما يجب أن تكون مشاركة للواجب بدرجة أقوى في عالم الحبّ والإرادة ؛ لأنّ حبّه إنّما هو لأجلها ،

ص: 244

لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ الجعل قد يحدّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حبّ الأصيل ؛ لما تقدّم في بداية هذه الحلقة (1) من أنّ المولى له أن يحدّد مركز حقّ الطاعة في مقدّمات مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.

وقد يشكل بأنّ تلك المصالح والفوائد كيف لا تكون واجبة ، مع أنّ الواجبات الشرعيّة كالصلاة والصيام ونحوها إنّما أوجبها الشارع من أجل تلك المصالح ، فكانت هي السبب الباعث على تشريع تلك الواجبات؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ الإيجاب يمثّل العنصر الثالث من مبادئ الحكم في عالم الثبوت ، كما تقدّم مفصّلا في بداية هذه الحلقة ، حيث قلنا بأنّ الشارع عند ما يريد أن يجعل الحكم فهو يمرّ في ثلاث مراحل ، هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

والملاك : هو المصالح أو المفاسد التي تتعلّق بالفعل وعلى ضوء ذلك يحصل الشوق والحبّ المولوي فتنشأ المحبوبيّة أو المبغوضيّة.

ثمّ بعد ذلك يأتي دور الاعتبار ، وفي هذا اللحاظ يجعل الشارع الإيجاب أو التحريم ، ولكن الاعتبار يستخدمه الشارع من أجل تحديد مركز حقّ الطاعة ولكنّه ليس ضروريّا ، بمعنى أنّ الشارع إذا أحبّ شيئا وأراده فليس من الضروري أن يوجبه على المكلّف ويجعله مصبّا لحقّ الطاعة ، بل قد يوجبه أو يوجب مقدّماته التي يرى أنّها تؤدّي إليه لا محالة.

ومن هنا كان دور الاعتبار والذي يعبّر الإيجاب عنه هو تحديد ما يجعله المولى داخلا في حقّ الطاعة ، ولهذا فقد يتّحد الاعتبار مع ما أحبّه المولى وقد يغايره.

فإذا أوجب المقدّمات فهذا يعني أنّها هي الواجبة دون أصل الشيء الذي أحبّه وأراده ، ولا يكون المكلّف مسئولا إلا عمّا أوجبه الشارع ؛ لأنّه هو الذي حدّده داخلا في حقّ الطاعة دون أصل الشيء ، وإن كان أصل الشيء محبوبا بدرجة أقوى ، ولكن في عالم الحبّ والشوق والإرادة فقط دون عالم الإيجاب والجعل والاعتبار.

وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال ، فإنّ كون المصالح والفوائد محبوبة للمولى لا يعني أنّها واجبة ؛ لأنّ الإيجاب فعل اختياري للمولى يبرز ما هو داخل في دائرة حقّ

ص: 245


1- في البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

الطاعة عمّا هو خارج عنها ، والمفروض أنّ المولى لم يوجب تلك المصالح وإن كانت محبوبة له ؛ لأنّه ليس كلّ شيء أحبّه المولى فهو واجب ، بل الواجب ما جعله واجبا بإبراز الاعتبار الكاشف عنه ، وعلى هذا فنقول :

وعلى هذا فإذا جعل الشارع الإيجاب على الصلاة ابتداء وحدّدها مركزا لحقّ الطاعة ، ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة ، كانت الصلاة واجبا نفسيّا لا غيريّا ؛ لأنّها لم تجب لواجب آخر ، وإن وجبت لمصلحة مترتّبة عليها ، وخلافا لذلك الوضوء فإنّه وجب من أجل الصلاة الواجبة فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.

وحاصل الجواب أن يقال : إنّ الشارع إذا جعل الإيجاب على الصلاة مثلا كانت الصلاة هي الواجبة ؛ لأنّ إيجابها معناه أنّ حقّ الطاعة قد حدّده المولى في نطاق الصلاة لا أكثر ، فتكون واجبا نفسيّا ؛ لأنّها وجبت لا لواجب آخر ؛ لأنّ المفروض أنّ تلك المصلحة لم تكن واجبة ؛ لأنّ المولى لم يدخلها في نطاق حقّ الطاعة ولم يجعل الإيجاب عليها.

نعم ، لو جعل الشارع الإيجاب على تلك المصلحة وجعل الإيجاب على الصلاة كانت الصلاة واجبا غيريّا ؛ لأنّها تكون في هذه الحالة قد وجبت لواجب آخر إلا أنّ مثل هذا الفرض لم يقع.

وهذا بخلاف وجوب الوضوء فإنّه وجب لأجل الصلاة والمفروض أنّ الصلاة واجبة أيضا ، فيكون الوضوء واجبا غيريّا ؛ لأنّه وجب لواجب آخر.

ومن هنا نعرف : أنّ ما تعلّق به الحبّ والشوق المولوي قد يكون هو نفس ما تعلّق به الإيجاب وقد يكون مغايرا له ، والسرّ في ذلك هو ما يلحظه المولى من مصلحة عند جعله الإيجاب ؛ إذ ليس كلّ محبوب للمولى يمكن أن يحقّقه المكلّف ، فإذا جعل الإيجاب عليه يلزم منه المشقّة أو العسر والحرج أو التكليف بما لا يطاق ، ولذلك يجعل الوجوب على مقدّماته التي توصل إليه أو التي من شأنها أن توصل إليه.

ص: 246

خصائص الوجوب الغيري

اشارة

ص: 247

ص: 248

خصائص الوجوب الغيري

ولا شكّ لدى الجميع في أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة - إذا كان ثابتا - فهو لا يتمتّع بجملة من خصائص الوجوب النفسي. ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري فيما يلي :

أوّلا : أنّه ليس صالحا للتحريك المولوي بصورة مستقلّة ومنفصلة عن الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ من لا يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحجّ لا يمكن أن يتحرّك بروحيّة الطاعة والإخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيّ المسافة ؛ لأنّ إرادة العبد المنقاد التكوينيّة يجب أن تتطابق مع إرادة المولى التشريعيّة ، ولمّا كانت إرادة المولى للمقدّمة في إطار مطلوبيّة ذيها ومن أجل التوصّل إليه ، فلا بدّ أن تكون إرادة العبد المنقاد لها في إطار امتثال ذيها.

خصائص الوجوب الغيري : يختلف الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي في عدّة نقاط ، فإنّنا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الشرعي والذي هو وجوب غيري فهو لا يحمل نفس الخصائص التي يتميّز بها الوجوب النفسي ، ويمكننا تلخيص هذه الفوارق ضمن عدّة نقاط ، هي :

الخصوصيّة الأولى : بلحاظ المحرّكيّة.

فالوجوب النفسي من خصائصه كونه محرّكا وداعيا نحو إيجاد متعلّقه بصورة مستقلّة ومنفصلة عن أي شيء آخر ، فوجوب الصلاة مثلا يحرّك المكلّف بعد تحقّق موضوعه وصيرورته فعليّا نحو إيجاد متعلّقه أي الصلاة.

وأمّا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة فهو لا يحرّك المكلّف نحو إيجادها بصورة مستقلّة ومنفصلة عن إيجاد ذي المقدّمة الذي هو الواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة من أجل الحجّ الواجب لا يمكن أن يكون الوجوب الغيري المتعلّق بها محرّكا للمكلّف نحو

ص: 249

إيجادها ، بقطع النظر عن التحرّك نحو إيجاد الحجّ الواجب ، فالمكلّف إذا لم يرد أن يحجّ مع وجوبه عليه فلا يتحرّك نحو طيّ المسافة لمجرّد وجوبها الغيري ، بمعنى أنّه لا يمكنه أن يأتي بهذه المقدّمة بقصد الإطاعة والامتثال للحجّ الواجب مع كونه لا يريد الحجّ.

نعم يمكنه أن يطوي هذه المسافة تكوينا فيسافر إلى الميقات مثلا ولكن من دون أن يقصد بها التوصّل إلى الحجّ الواجب ؛ لأنّه لا يوجد لديه إرادة لذلك ، ومع عدم حصول الإرادة للإتيان بالواجب فلا تنقدح لديه إرادة للإتيان بمقدّمته بقصد التوصّل إليها وإلا لحصل التهافت في الإرادة ؛ إذ لا معنى للإتيان بالمقدّمة بقصد الإطاعة مع كونه يريد المعصية وعدم الإتيان بالواجب.

والوجه في ذلك : هو أنّ المكلّف لمّا توجّه إليه الخطاب النفسي بالحجّ فإرادة المكلّف تصبح مصداقا لإرادة المولى التشريعيّة ؛ لأنّ المكلّف هو الذي يحقّق الإرادة التشريعيّة للمولى بالتحرّك تكوينا نحو امتثال الواجب ، ولمّا كانت إرادة المولى التشريعيّة قد تعلّقت بالمقدّمة على أساس التبعيّة للواجب النفسي ، فالإرادة التكوينيّة للمكلّف يجب أن تتطابق مع الإرادة التشريعيّة هذه - مع فرض كون المكلّف منقادا ومطيعا للمولى - فلا يمكنه الإتيان بالمقدّمة تكوينا ، إلا إذا أراد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، فإنّه حينئذ يكون منقادا ومطيعا ، ولذلك يكون المحرّك نحو المقدّمة هو نفس الوجوب النفسي.

وأمّا التحرّك نحو المقدّمة على أساس وجوبها الغيري من دون التوصّل إلى الواجب النفسي ، فهو ضرب من العبث واللّهو ؛ لأنّه ليس هو المراد للمولى فلا يكون قد حقّق شيئا للمولى من الطاعة والامتثال.

نعم ، هناك محرّكيّة للوجوب الغيري ولكنّها في طول محرّكيّة الوجوب النفسي ، بمعنى أنّها مترشّحة من المحرّكيّة في الوجوب النفسي وناشئة منها.

وبعبارة أوضح معلولة لها وبتبعها وفي طولها ، وليست مستقلّة ومنفصلة عنها.

فإذا أراد التحرّك نحو الواجب النفسي نشأت لديه محرّكيّة أخرى تبعيّة وغيريّة نحو المقدّمة ، وأمّا إذا لم يكن يريد الواجب النفسي ولا يكون بصدد التحرّك نحوه فلن تنشأ لديه هذه المحرّكيّة نحو المقدّمة ، وإن كان يمكنه الإتيان بالمقدّمة ولكن بدواع أخرى كما هو واضح.

ص: 250

وثانيا : أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له ؛ وذلك لأنّ المكلّف إن أتى بالمقدّمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بداية في امتثال الوجوب النفسي ويستحقّ الثواب عندئذ من قبل هذا الوجوب ، وإن أتى بالمقدّمة وهو منصرف عن امتثال الواجب النفسي فلن يكون بإمكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري ؛ لما تقدّم من عدم صلاحيّة الوجوب الغيري للتحريك المولوي.

الخصوصيّة الثانية : بلحاظ الثواب.

فالوجوب النفسي إذا امتثله المكلّف وأتى بمتعلّقه استحقّ الثواب عليه ؛ لأنّه يكون مطيعا ومنقادا للمولى فيحكم العقل باستحقاقه الثواب من جهة تعظيمه واحترامه للمولى.

وأمّا الوجوب الغيري فهو بنفسه هل يوجب الإتيان به ثوابا زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي أم لا؟

ذهب المشهور إلى أنّ الوجوب النفسي لا يوجب امتثاله الثواب بما هو واجب غيري ، أي لا يترتّب على عنوانه هذا أيّ ثواب ، وإنّما الثواب على الواجب النفسي فقط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ المكلّف إذا جاء بالمقدّمة كطيّ المسافة بداعي امتثال الواجب النفسي وبقصد التوصّل إليه بها كان امتثاله هذا من بدايته يتّصف بأنّه امتثال للواجب النفسي.

أو بتعبير أدقّ يقال : إنّه شرع في امتثال الواجب النفسي ، وحينئذ يستحقّ الثواب على المقدّمة هذه لا بعنوان كونها مقدّمة ، بل بما هي شروع في امتثال الواجب النفسي ، وهذا الاستحقاق للثواب إنّما يأتي من قبل الوجوب المتعلّق بالواجب النفسي ، لا الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة.

وأمّا إذا لم يأت بالواجب النفسي بعد إتيانه بالمقدّمة بأن كان ناويا من أوّل الأمر ألاّ يأتي بالواجب النفسي بعد السفر وطيّ المسافة ، فهنا لا يكون مستحقّا للثواب لا على عنوان الواجب النفسي ولا على عنوان الواجب الغيري.

أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّه لم يأت بالواجب النفسي فلا يستحقّ ثوابا من قبل الوجوب النفسي ، وأمّا الثاني فلأنّ عنوان المقدّميّة الذي هو ملاك الوجوب الغيري لم

ص: 251

يتحقّق فلا يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة ؛ لأنّها لا تتّصف بعنوان المقدّميّة إذ المفروض أنّه لم يتوصّل بها إلى الواجب النفسي عن علم وعمد واختيار ، ومجرّد إتيانه بالمقدّمة لا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ هذا الإتيان لم يكن من قبل الوجوب الغيري ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة له مستقلّة عن الوجوب النفسي كما تقدّم ، وبالتالي لا يستحقّ الثواب ؛ لأنّه لم يتحرّك عنه (1).

وثالثا : أنّ مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ليست موضوعا مستقلا لاستحقاق العقاب ، إضافة إلى ما يستحقّ من عقاب على مخالفة الوجوب النفسي ؛ وذلك لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الواجب إنّما هو بلحاظ ما يعبّر عنه الواجب من مبادئ وملاكات تفوت بذلك. ومن الواضح أنّ الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ما للواجب النفسي من ملاك ، فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.

ص: 252


1- وخالف في ذلك السيّد الخوئي ، حيث ذهب إلى استحقاق من أتى بالمقدّمة للثواب زائدا على الثواب الموجود في الواجب النفسي فيما لو كانت موصلة للواجب النفسي بأن جاء بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، بل يستحقّ الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي حتّى لو لم يتحقّق بعدها الواجب النفسي بأن صدّ أو منع أو عجز عنه فيما بعد. وعلّل ذلك بأنّ الثواب يترتّب على عنوان الانقياد والإطاعة وهو هنا ثابت. وجوابه : أمّا استحقاق الثواب الزائد على الواجب النفسي فهذا لم يحصل من نفس الوجوب الغيري ، وإنّما حصل نتيجة ترتّب عنوان آخر وهو كون « أفضل الأعمال أحمزها » ، ممّا يعني أنّه استحقّ الثواب على عنوان الأشقيّة لا على عنوان الوجوب الغيري ، وهذا ما دلّت عليه الروايات وإلا لم يكن يستحقّ للثواب الزائد. وأمّا استحقاق الثواب على الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل ولكن لم يترتّب عليها الواجب النفسي لا عن عمد واختيار ، فهذا إمّا يكون نحو تفضّل من المولى ، وإمّا للروايات الخاصّة التي دلّت على أنّ من يهمّ بالحسنة ولم يعملها فله ثوابها ، أو من همّ بعمل ولم يعمله كان له ثوابه. وأمّا التعليل فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه بمعنى أنّ المكلّف ينقاد للمولى ويأتي بمطلوب المولى النفسي بحسب علم المكلّف لا بحسب الواقع ؛ إذ قد لا يكون ما علم به ثابتا أصلا ، فالانقياد موضوعه أوسع ؛ لأنّه يشمل من يطيع ويأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ومن يطيع ولا يأتي بالمطلوب النفسي الواقعي ، بل يأتي بما يعتقد أنّه كذلك مع كونه مخطئا في الحقيقة وغير مصيب للواقع.

الخصوصيّة الثالثة : بلحاظ العقاب.

لا إشكال في عدم ترتّب العقاب على مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ، بمعنى أنّه لا يحكم العقل باستحقاق المكلّف الذي يترك المقدّمة العقاب على ترك المقدّمة زائدا على العقاب الذي يستحقّه بترك ذي المقدّمة أي الواجب النفسي. وكذا لا يحكم العقل بازدياد العقوبة أو شدّتها وإلا للزم ازدياد العقاب كلّما كثرت المقدّمات ، وهذا لا يقول به أحد.

والوجه في عدم استحقاق العقوبة على ترك المقدّمة هو أنّ المناط في حكم العقاب باستحقاق العقوبة عند مخالفة الواجب إنّما يكون بلحاظ ما يفوت بترك الواجب من المبادئ والملاكات على المولى ، فالمكلّف بتركه للواجب الفعلي يكون قد فوّت على المولى ملاكا فعليّا مع قدرته على تحصيله ، ولذلك يحكم العقل باستحقاق العقوبة ، ولا يشترط أن يكون الملاك الذي يفوت ثابتا في الواقع ، بل يكفي أن يكون ثابتا باعتقاد المكلّف وعلمه ، ولذلك استحقّ المتجرّي العقوبة كالعاصي ؛ لأنّهما يشتركان في هتك حرمة المولى والتعدّي على حدوده.

وحينئذ يقال : إنّ الوجوب الغيري لمّا لم يكن ناشئا من ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي كما تقدّم سابقا ، فلا يكون عدم التحرّك عنه مفوّتا لملاك زائد عن الملاك الموجود في الواجب النفسي ، إذ تقدّم أنّ الواجب الغيري لا محرّكيّة ولا داعويّة له بنحو مستقلّ عن الواجب النفسي ، وهذا لأنّه ليس له مبادئ في نفسه ، ومن هنا لا يكون قد فات على المولى إلا ملاك واحد لا أزيد فيحكم العقل باستحقاق المكلّف عقوبة واحدة لا أكثر.

ومن هنا لم يكن هناك عقوبات متعدّدة بتعدّد المقدّمات فيما لو تركها جميعا ، فإنّ الوجدان والعرف يقضيان بعدم التعدّد ، وهذا شاهد على عدم كون الوجوب الغيري موضوعا مستقلاّ لحكم العقل باستحقاق العقوبة على الترك.

ورابعا : أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة ، وهذا يفرض تعلّقه بواقع المقدّمة دون أن يؤخذ فيه أيّ شيء إضافي لا دخل له في حصول ذي المقدّمة.

ومن هنا كان قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى والتقرّب بها نحوه تعالى خارجا عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي.

ص: 253

فطيّ المسافة إلى الميقات كيفما وقع وبأي داع اتّفق يحقّق الواجب الغيري ، ولا يتوقّف الحجّ على وقوع هذا الطي بقصد قربي ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ الوجوبات الغيريّة توصّليّة.

الخصوصيّة الرابعة : في ملاك الوجوب الغيري.

ممّا تقدّم يظهر لنا أنّ الملاك للوجوب الغيري هو عنوان المقدّميّة ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري إنّما كان واجبا بملاك كونه مقدّمة للواجب النفسي ؛ إذ لو لم يكن مقدّمة للواجب النفسي لم يكن هناك أي داع ولا غرض للمولى في جعل الوجوب الشرعي عليه.

وهذا معناه أنّ الوجوب الغيري متعلّق بالمقدّمة أي بواقع المقدّمة ، أي ما يصدّق عليه في الواقع أنّه مقدّمة للواجب النفسي ، فمثلا طيّ المسافة إلى الميقات من أجل الحجّ الواجب إنّما يتّصف بكونه مقدّمة فيما لو كان واقعا وحقيقة مقدّمة يستتبعها الإتيان بالواجب ، بحيث لم يكن هناك أي شيء يمنع من تحقّق الواجب خارجا عن قدرة المكلّف واختياره ، فالمقتضي موجود وأمّا المانع الذاتي والداخلي فهو منتف.

نعم ، قد يتّفق حصول المانع الطارئ والخارج عن اختيار وقدرة المكلّف ، فيكون المقصود من واقع المقدّمة هو الفعل الذي من شأنه أن يؤدّي إلى الواجب ويكون مقتضيا لذلك في نفسه بقطع النظر عن المانع الخارجي ، وليس هناك أي شيء آخر يضاف إلى واقع المقدّمة ممّا لا يكون دخيلا في تحقّق ذي المقدّمة.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ قصد التوصّل بالمقدّمة إلى امتثال أمر المولى أي الواجب النفسي ، والتقرّب بالمقدّمة إلى المولى ليس داخلا في دائرة الوجوب الغيري ، بل هو خارج عنه ، بمعنى أنّ المكلّف لا يشترط حين إتيانه بالمقدّمة أن يقصد التوصّل بها إلى أمر المولى ولا يشترط أن يقصد القربة أيضا. نعم ، يمكنه أن يقصد ذلك إلا أنّه ليس شرطا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الوجوب الغيري لمّا تعلّق بواقع المقدّمة فالمهمّ والمطلوب هو حصول هذه المقدّمة من المكلّف ، سواء قصد حين الإتيان بها القربة أم لا ، وسواء قصد التوصّل بها إلى الواجب أم لا. نعم ، يشترط ألاّ يقصد عدم التوصّل بها إلى الواجب ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف الذي يكون قاصدا عدم التوصّل بالمقدّمة إلى

ص: 254

الواجب لن تكون المقدّمة واقعا ، بمعنى أنّ المقتضي ليس موجودا فيها ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المقدّمة هي التي تكون واجدة لمقتضي الإتيان بالواجب ، فمن يقصد عدم الإتيان بالواجب يكون ما أتى به من فعل ليس مقدّمة حقيقة وواقعا.

وبتعبير آخر : إنّ طيّ المسافة للذهاب إلى الميقات من أجل الإتيان بالحجّ الواجب ، إنّما يتّصف هذا الفعل بعنوان المقدّميّة فيما إذا كان فيه المقتضي للإتيان بالواجب ، وهذا المقتضي يتحقّق بأن لا يقصد المكلّف عدم الإتيان بالواجب.

وأمّا شرطيّة قصد التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب ، أو شرطيّة القربة لله تعالى بالمقدّمة فهذه خارجة عن دائرة الوجوب الغيري ؛ لأنّ عنوان المقدّمة أو واقع المقدّمة يتحقّق سواء قصد ذلك أم لا.

فمثلا من يذهب إلى الميقات من دون قصد التوصّل ومن دون قصد القربة يمكنه أن يأتي بالحجّ الواجب ما دام لم يقصد عدم الإتيان به ، وأمّا لو قصد عدم الإتيان بالحجّ الواجب فذهابه إلى الميقات لا يفيد شيئا ولا يسمّى مقدّمة أصلا ، إلا إذا تاب ورجع عن قصده ذاك.

ومن هنا يتّضح معنى ما يقال : من أنّ الواجبات الغيريّة توصّليّة ، فإنّ المقصود من ذلك أنّ الملاك من الوجوب الغيري هو عنوان الوصول ، أو ما يكون موصّلا إلى الواجب النفسي من دون أيّة إضافات أخرى. وهذا غير التوصّليّة المقابلة للتعبّديّة فإنّها بمعنى عدم اشتراط قصد القربة في الفعل في مقابل اشتراطه ، بينما هنا بمعنى الوصول بالمقدّمة إلى ذيها ، أي كون المقدّمة موصلة إلى الواجب النفسي بمعنى وجود المقتضي للإيصال.

ص: 255

ص: 256

مقدّمات غير الواجب

ص: 257

ص: 258

مقدّمات غير الواجب

كما تتّصف مقدّمات الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري لنفس السبب.

وأمّا مقدّمات الحرام فهي على قسمين :

أحدهما : ما لا ينفكّ عنه الحرام ، ويعتبر بمثابة العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة له ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق.

والقسم الآخر : ما ينفكّ عنه الحرام ، وبالإمكان أن يوجد ومع هذا يترك الحرام.

فالقسم الأوّل من المقدّمات يتّصف بالحرمة الغيريّة دون القسم الثاني ؛ لأنّ المطلوب في المحرّمات ترك الحرام وهو يتوقّف على ترك القسم الأوّل من المقدّمات ، ولا يتوقّف على ترك القسم الثاني.

ومقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام.

مقدّمات غير الواجب على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : في مقدّمات المستحبّ ، فهل هي مستحبّة غيريّا أم لا؟

الثاني : في مقدّمات الحرام ، فهل تكون محرّمة مطلقا أو يفصّل فيها؟

الثالث : في مقدّمات المكروه ، فهل هي مكروهة غيريّا مطلقا أو يفصّل فيها أيضا؟

أمّا الأمر الأوّل : فالقائلون بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، يقولون بالملازمة بين استحباب شيء واستحباب مقدّماته شرعا أيضا ، فتتّصف مقدّمات المستحبّ بالاستحباب الغيري.

والوجه في ذلك : هو نفس الملاك الذي ذكر في مقدّمة الواجب ، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما وجبت عند من يقول بالملازمة لأجل كونها مقدّمة أي بملاك المقدّميّة ، بحيث يكون فعل الواجب متوقّفا عليها ، وهكذا يقال في مقدّمة المستحبّ.

ص: 259

وأمّا الأمر الثاني : فإنّ مقدّمات الحرام على قسمين ، ولذلك لا بدّ من التفصيل بينها :

القسم الأوّل : المقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام بحيث تكون العلّة التامّة لحصوله أو الجزء الأخير من العلّة التامّة لحصول الحرام ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق ، وفرض أنّ الإحراق حرام كما هو ثابت بالنسبة لإحراق كلام اللّه عزّ وجلّ والقرآن والأحاديث بقصد الإهانة والهتك.

وهنا لا إشكال في كون هذه المقدّمات تتّصف بالحرمة الغيريّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحرام النفسي يتحقّق بها ، والحال أنّ المطلوب في الحرام هو ترك الفعل الذي تعلّقت به الحرمة ، وهذا الترك لمّا كان موقوفا على ترك علّته أو ما يكون بمثابة العلّة التامّة له أو جزئها الأخير ، فلا بدّ أن يتعلّق الحرام الغيري بالمقدّمات التي لا ينفكّ عنها الحرام ، فتكون مجموع المقدّمات محرّمة لا جميع المقدّمات ؛ إذ من الواضح أنّه لو أتى ببعض أجزاء العلّة دون البعض الآخر فسوف لن يتحقّق الحرام فلا تتّصف بالحرمة الغيريّة ، وإنّما يتّصف بها المجموع.

والمقدّمات من هذا القسم تسمّى بالمقدّمات التوليديّة ، أي التي تولّد الحرام بحيث تكون العلّة التامّة أو جزئها الأخير.

والقسم الثاني : هو المقدّمات التي ينفكّ عنها الحرام ، بمعنى أنّ الحرام قد يترتّب عليها وقد لا يترتّب ، ولذلك فهي ليست من قبيل العلّة التامّة أو جزئها الأخير للحرام ، بل هي من قبيل إيجاد المقتضي والسبب والمؤثّر والذي يتوقّف على عدم وجود المانع ، ومنه القصد والاختيار والإرادة من الغير ، فمثلا الجمع بين شخصين للزنا يكون مقدّمة للحرام ولكن قد يحصل الزنا وقد لا يحصل ؛ لأنّه موقوف على القصد والاختيار والإرادة من الغير لا من نفس الشخص الذي جمعهما.

وفي هذا القسم لا تتّصف المقدّمات بالحرمة الغيريّة ؛ لأنّ ترك الحرام لا يتوقّف على عدم هذه المقدّمات ؛ بل عليها وعلى شيء آخر ، ولذلك فهي لا تستتبع توليد الحرام بنفسها ولا تكون علّة له ولا يتوقّف عليها ، فلا تتّصف بملاك المقدّميّة فلا تحرّم.

وأمّا الأمر الثالث : فمقدّمات المكروه كمقدّمات الحرام ، فيفصّل فيها بين المقدّمات التوليديّة فتكون مكروهة غيريّا ، وبين المقدّمات الاختياريّة فلا تكون مكروهة كذلك.

* * *

ص: 260

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري

ص: 261

ص: 262

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري

ومسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته على الرغم من كونها من المسائل الأصوليّة العريقة في علم الأصول ، قد وقع شيء من التحيّر لدى باحثيها في ثمرتها الفقهيّة.

وقد يبدو لأوّل نظرة أنّ ثمرتها إثبات الوجوب الغيري وهو حكم شرعي نستنبطه من الملازمة المذكورة.

ولكنّ الصحيح عدم صواب هذه النظرة ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبحثه علم الفقه - ويطلب من علم الأصول ذكر القواعد التي يستنبط منها - إنّما هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع مخالفته موضوعا لاستحقاق العقاب ، وقد عرفت أنّ الوجوب الغيري - على تقدير ثبوته - ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرة لهذه المسألة الأصوليّة.

الثمرة الفقهيّة بين القول بالوجوب الغيري للمقدّمة وبين إنكار ذلك

وهنا من الواضح أنّ الثمرة لا بدّ أن تكون أصوليّة بمعنى أن يكون هذا البحث يؤدّي إلى إثبات جعل كلّي شرعي ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة هي ما يستنبط منها جعل من هذا القبيل ، وأمّا إذا أدّى البحث إلى إثبات صغرى لهذا الجعل أو تطبيق من تطبيقاته فيكون البحث فقهيّا لا أصوليّا.

وعلى هذا فقد يقال : إنّه لا ثمرة من البحث الأصولي عن وجوب المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الثمرة التي يمكن أن تترتّب عليها هي إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه ، والوجوب وإن كان حكما كلّيّا بمعنى أنّه يجري بلحاظ كلّ واجب مع مقدّماته في مختلف الأبواب ، إلا أنّه مع ذلك لا يدخل في البحث الأصولي ؛ لأنّ مرادهم من الحكم الشرعي هو ما يكون له قابليّة التنجيز والتعذير ، وما يكون محرّكا وباعثا نحو

ص: 263

متعلّقه ، وما يكون على امتثاله الثواب وعلى مخالفته العقاب. وهذه كلّها غير ثابتة للوجوب الغيري كما تقدّم ؛ لأنّه وجوب تبعي وليس فيه ملاكات ومبادئ مستقلّة عن الواجب النفسي ، وهكذا في سائر الأمور الأخرى.

وحينئذ لا معنى للبحث عن وجوب المقدّمة أصلا ، إلا بنحو من الاستطراد فقط ، كما ذهب إليه المشهور.

ومن هنا أنكر المشهور كون وجوب المقدّمة من المسائل الأصوليّة ؛ لأنّ عدم إمكان تصوير ثمرة أصوليّة عليها أدّى إلى التشكيك في أصوليّتها ، بل إلى إنكار ذلك.

إلا أنّ الصحيح كون المسألة أصوليّة ، بل هي لعلّها أقدم المسائل الأصوليّة وأعرقها.

والصحيح أيضا وجود الثمرة التي تترتّب على البحث الأصولي لوجوب المقدّمة ، ويمكننا أن نذكر بهذا الصدد ثمرتين :

وأفضل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي :

أوّلا : أنّه إذا اتّفق أن أصبح واجب علّة تامّة لحرام ، وكان الواجب أهمّ ملاكا من الحرام ، فتارة ننكر الملازمة وأخرى نقبلها.

فعلى الأوّل : يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع إلى قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا ، ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التعارض كما عرفنا سابقا.

وعلى الثاني : يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ؛ لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيريّة بنفس الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعل واحد ، وهذا يعني أنّ التنافي بين الجعلين ، وكلّما كان التنافي بين الجعلين دخل الدليلان في باب التعارض وطبّقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.

الثمرة الأولى : وهذه الثمرة لم يذكرها السيّد الشهيد في بحث الخارج ، ولعلّه لعدم تماميّتها كما سيتّضح ذلك.

وحاصلها : ما إذا كان الواجب الأهمّ علّة تامّة للحرام ، كما إذا كان إنقاذ الغريق علّة تامّة لإتلاف مال الغير فإنّه حرام ، فإنّه على القول بعدم الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، أو بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته التوليديّة التي تكون بنحو العلّة

ص: 264

التامّة أو الجزء الأخير منها ، فسوف يكون الفرض المذكور من موارد التزاحم لا التعارض.

وبيان ذلك : أنّ الواجب لمّا كان أهمّ ملاكا من الحرمة فوجوبه فعلي ومطلق وغير مشروط بعدم الاشتغال بالحرام ، بمعنى أنّه سواء اشتغل بترك الحرام أم لا فالواجب يجب امتثاله ، ولكن لمّا كان الواجب علّة تامّة للحرام فسوف يحصل الحرام تلقائيّا بعد امتثال الواجب ، والمفروض أنّ الواجب في هذه الحالة لا يصبح حراما وإن كان علّة تامّة توليديّة للحرام ؛ لأنّنا ننكر الملازمة.

وحينئذ فإذا أراد امتثال الواجب وقع لا محالة في الحرام ، وإذا أراد امتثال الحرام أي تركه وقع لا محالة في مخالفة الواجب ؛ لأنّ ترك الحرام لا يكون إلا بترك علّته التامّة ، ولذلك يدور الأمر بين امتثال أحدهما وترك الآخر ، وهذا ما يسمّى بالتزاحم ؛ فإنّ التزاحم - كما مرّ وسيأتي في محلّه - : عبارة عن التنافي بين المدلولين في مقام الامتثال ، بحيث يكون امتثال أحدهما مفوّتا لامتثال الآخر ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بين الامتثالين.

وفي هذه الحالة يطبّق قانون باب التزاحم وهو تقديم الأهمّ ملاكا على الآخر فيقدّم الواجب ؛ لأنّنا فرضناه الأهمّ ملاكا من الحرام ، ويكون الحرام الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعصيان الواجب ، أي أنّ امتثال الحرام يكون مشروطا بعدم امتثال الواجب وعصيانه ، فإذا اشتغل بالواجب الأهمّ ارتفع موضوع خطاب الحرام ؛ لعدم تحقّق شرطه ، ولذلك يكون المكلّف حين الاشتغال بالواجب الأهمّ قد حقّق كلا الملاكين للمولى.

أو بتعبير آخر : لم يفوّت على المولى شيئا من الملاك الفعلي ، أمّا ملاك الأهمّ فلأنّه قد امتثله ، وأمّا ملاك الحرام فلأنّه قد ارتفع موضوعه ومع ارتفاع موضوعه لا يكون ملاكه فعليّا فلا تفويت.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو حرمة الشيء وحرمة مقدّمته التوليديّة أي علّته التامّة ، فهنا سوف يدخل الفرض في باب التعارض لا التزاحم.

وبيانه : أنّ الواجب لمّا كان ملاكه أهمّ فهو مطلق وفعلي سواء اشتغل بترك الحرام

ص: 265

أم لا ، وأمّا الحرام فلمّا كانت مقدّمته توليديّة وعلّة تامّة فسوف تكون علّته ومقدّمته محرّمة أيضا بناء على الملازمة كما تقدّم.

وحينئذ يكون الواجب متعلّقا للوجوب الفعلي ومتعلّقا للحرمة الفعليّة باعتباره العلّة التامّة للحرام ، ممّا يعني اجتماع الوجوب والحرمة على شيء واحد في آن واحد ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ولذلك يقع التنافي بين دليل الحرمة ودليل الوجوب لاستحالة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ، ممّا يؤدّي بالنتيجة إلى كون التنافي بين نفس الجعلين لا بلحاظ المدلولين والمجعولين فقط.

وفي مثل هذه الحالة سوف تطبّق قواعد باب التعارض من الترجيح أو الجمع العرفي أو التساقط (1).

ص: 266


1- وهنا كلام للسيّد الأستاذ حول تماميّة هذه الثمرة ، وحاصله : أنّ هذه الثمرة بهذا الفرض غير تامّة ، فإنّنا سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض بين الوجوب والحرمة ، بل المورد داخل في باب التزاحم على التقديرين. وتفصيل ذلك : أمّا على تقدير إنكار الملازمة فلما تقدّم بيانه في أصل البحث. وأمّا على تقدير قبول الملازمة فلأنّه تقدّم سابقا أنّ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ شرط في التكليف ، وهناك فسّرناها بأنّها بمعنى أن كلّ تكليف مقيّد بعدم الاشتغال بامتثال واجب آخر لا يقلّ عنه أهمّيّة. وعليه ، فخطاب الحرمة لمّا كان أقلّ أهمّيّة فهو مقيّد عقلا بعدم الاشتغال بالواجب ؛ لأنّه أهمّ ملاكا ، وحيث إنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ؛ لأنّ قيود الحكم ترجع إلى قيود المتعلّق فيكون الحرام هو الحصّة الخاصّة غير المقارنة للواجب. وأمّا الحصّة المقارنة للواجب فهي ليست محرّمة ؛ لأنّ خطاب الحرمة لا يشملها من أوّل الأمر ؛ لأنّه مقيّد عقلا بالقدرة التي ذكرناها ، وحينئذ لن يقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة ؛ لأنّ دليل الحرمة مقيّد بغير هذه الحصّة التي تعلّق بها الوجوب ، فلا يكون في الواجب إلا خطاب الوجوب فقط وهو مطلق وفعلي ، فإذا امتثله يكون قد حقّق ملاك الوجوب ، ويكون قد ارتفع موضوع الحرمة ، بل إنّ الحرمة لا موضوع لها حينئذ لعدم شمولها لهذه الحصّة ، ممّا يعني أنّه لا تزاحم أصلا فضلا عن التعارض. نعم ، يمكن بيان هذه الثمرة بأن نفرض أنّ الحرام هو الأهمّ لا الواجب وكان الواجب علّة تامّة للحرام ، كما إذا صارت الصلاة علّة تامّة وسببا توليديّا لإزهاق النفس المحترمة. فعلى إنكار الملازمة فلن تسري الحرمة إلى الواجب ، فيكون فعل الصلاة واجبا ، وقتل النفس المحترمة حراما ، وحيث إنّ الحرام هو الأهمّ ملاكا فهو مطلق وفعلي ويكون الواجب مشروطا بعدم عصيان الحرام ، ولكن لمّا كان عدم عصيان الحرام متوقّفا على عدم علّته التامّة فيكون فعل الواجب مقارنا لفعل الحرام دائما ؛ لأنّه إذا أراد امتثال الحرام فاللازم ألاّ يريد الصلاة ؛ لأنّها العلّة التامّة للحرام إلا أنّ عصيان الحرام ليس محصورا بالإتيان بالواجب فقط ، وإن كان هو العلّة التامّة له ؛ إذ يمكنه قتل النفس المحترمة أوّلا ثمّ الصلاة ، ولذلك يكون فعل الواجب مشروطا بأن لا يعصي الحرام ولو بسبب وبعلّة أخرى ، فإذا عصاه وجبت الصلاة فالمورد من موارد التزاحم وتقديم الأهمّ. وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون الواجب الذي هو علّة تامّة للحرام وسببا توليديّا محرّما أيضا على أساس الملازمة بين حرمة شيء وحرمة مقدّمته بنحو العلّة التامّة التوليديّة ، فهنا سوف يقع التعارض ؛ لأنّه من باب اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، ممّا يؤدّي إلى التنافي بين دليل الوجوب ودليل الحرمة في عالم الجعل لا في عالم الامتثال فقط ، وحينئذ تطبّق قواعد التعارض لا التزاحم. ويمكن أن نفرض هذه الثمرة بنحو آخر : وذلك فيما إذا صار الواجب علّة تامّة لترك واجب آخر ، كما إذا نذر أن يصلّي صلاة الليل في كلّ ليلة فاتّفق في ليلة أن كانت صلاة الليل سببا توليديّا ؛ لعدم القدرة على الصيام الواجب في الغد ، وفرض أنّ وجوب الصوم هو الأهمّ ملاكا من صلاة الليل. فإنّه على القول بعدم الملازمة فسوف يكون المورد من موارد التزاحم ، فيقدّم الأهمّ ملاكا ؛ لأنّه مطلق وفعلي سواء اشتغل بالآخر أم لا ، ويكون الواجب الآخر الأقلّ أهمّيّة مشروطا بعدم الاشتغال بالصيام الأهمّ. وأمّا على القول بالملازمة فسوف يكون المورد من موارد التعارض ؛ لأنّ الصوم لمّا كان هو الأهمّ فيجب فعله ويحرّم تركه ؛ لأنّ تركه عبارة عن الضدّ العامّ ، فإذا حرم الترك حرمت مقدّمته التوليديّة وعلّته التامّة وهي صلاة الليل بحسب الفرض ، وحينئذ سوف يجتمع الوجوب والحرمة على صلاة الليل وهو من اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل ، وهذا معناه التنافي بين الجعلين أو الدليلين فيقع التعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة. وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أنّ صلاة الليل هي الأهمّ من وجوب الصوم ، فإنّه على هذا الفرض فسواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها فلا تعارض ولا تزاحم ؛ لأنّ صلاة الليل لمّا كانت هي الأهمّ فوجوب الصوم يكون مقيّدا بالمقيّد اللبّي ، أي بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ وهو ألاّ يكون مشتغلا بالواجب الأهمّ ، فإذا اشتغل بصلاة الليل ارتفع موضوع وجوب الصوم فلا تفويت لملاكه ؛ لأنّ موضوعه منتف ، وإذا لم يشتغل بصلاة الليل وعصاها كان وجوب الصوم فعليّا.

وثانيا : أنّه إذا اتّفق عكس ما تقدّم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفة متوقّفا على مقدّمة محرّمة ، كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة ،

ص: 267

فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراما ؛ لأنّ الحرمة تسقط في هذه الحالة رعاية للواجب الأهمّ.

وأمّا إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراما إذا أنكرنا الملازمة ، وكذلك إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري يختصّ بالحصّة الموصلة من المقدّمة ، ولم يرتكب حراما إذا قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيري لا يختصّ بالحصّة الموصلة.

أمّا أنّه ارتكب حراما على الأوّلين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ولا يوجد ما يحول دون اتّصافه - في حالة عدم التوصّل به إلى الإنقاذ - بالحرمة.

وأمّا أنّه لم يرتكب حراما على الأخير فلأنّ الوجوب الغيري يحول دون اتّصافه بالحرمة.

الثمرة الثانية : وهي الثمرة المشهورة بينهم. وقبل الشروع في بيان الثمرة المذكورة نبيّن أمرين :

الأوّل : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة على أن تكون تمام حصص المقدّمة محرّمة ؛ وذلك لأنّ حصص المقدّمة يمكن تصوّرها على أنحاء ثلاثة :

1 - أن تكون جميع حصص المقدّمة مباحة فهنا لا تظهر الثمرة في الفرض المذكور سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

2 - أن تكون بعض الحصص مباحة وبعضها محرّمة ، فهنا على المذهب المشهور والمختار سوف تتعلّق المقدّمة بالحصّة المباحة دون غيرها ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري ينصبّ على الحصّة المباحة دون المحرّمة ، ولذلك لا تظهر الثمرة ؛ لأنّه إذا أتى بالواجب ضمن الحصّة المباحة فواضح ، وإذا أتى به ضمن الحصّة المحرّمة فهي ليست واجبة فلا تزاحم ولا تعارض ، بل هو امتثال من جهة وعصيان من جهة أخرى.

وأمّا على مسلك السيّد الخوئي القائل بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالجامع بين الحصّة المباحة والمحرّمة فسوف تظهر الثمرة ؛ لأنّ الحصّة المحرّمة كالمباحة سوف يسري إليها الوجوب من الجامع ، وبالتالي تصبح واجبة والمفروض أنّها محرّمة ، فعلى القول بالملازمة يحصل التعارض ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي وهو مستحيل ، وعلى إنكار

ص: 268

الملازمة فسوف يحصل التزاحم بين الواجب والمقدّمة المحرّمة ويقدّم الأهمّ ملاكا منهما.

3 - أن يفرض أنّ تمام حصص المقدّمة محرّمة أو لا يوجد إلا حصّة واحدة من المقدّمة وهي الحصّة المحرّمة ، فهنا يأتي ما ذكر من كلام في هذه الثمرة.

الثاني : أنّ الثمرة المذكورة مبنيّة أيضا على كون الواجب هو الأهمّ لا الحرام ، وأمّا إذا فرضنا أنّ الحرام هو الأهمّ بأن كان إنقاذ المال القليل للشخص نفسه موقوفا على إتلاف مال الغير الخطير ، فهنا لن تظهر الثمرة بمعنى أنّه لا تعارض ولا تزاحم سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها ؛ وذلك لأنّ فرض أهمّيّة الحرام معناه أنّه فعلي ومطلق سواء اشتغل بالآخر أم لا ، فيكون الواجب مقيّدا بالمقيّد اللبّي العقلي وهو عدم الاشتغال بواجب آخر لا يقلّ أهمّيّة.

فإذا أراد امتثال الحرام ارتفع موضوع الواجب فلا يكون ملاكه قد فات على المولى ؛ لأنّه ليس فعليّا بل هو منتف لانتفاء موضوعه ، وإذا عصى الحرام وارتكبه صار الواجب فعليّا لتحقّق شرطه وقيده ، وحينئذ لا يأتي الكلام عن الملازمة وعدمها ؛ لأنّه لا موضوع لها.

وأمّا بيان هذه الثمرة ، فيقال : إنّنا إذا فرضنا توقّف الواجب الأهمّ على مقدّمة محرّمة بحيث كان منحصرا بها إمّا لكونها الحصّة الوحيدة ، وإمّا لكون تمام الحصص محرّمة ، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا صورتان :

الصورة الأولى : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق ، فهنا لا تظهر الثمرة سواء قلنا بالملازمة أم أنكرناها.

أمّا على القول بالملازمة فلأنّ فرض أهمّيّة الواجب يعني أن يكون دليل الحرمة غير شامل للحصّة التي صارت مقدّمة للواجب الأهمّ ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا فيكون الحرام في غير هذه الحصّة المقرونة بفعل الواجب ، ولذلك لا تعارض بين دليل الوجوب ودليل الحرمة ؛ لأنّ هذه المقدّمة يرتفع عنها دليل الحرمة ، ويبقى دليل الوجوب شاملا لها فقط ، وكذا لا تزاحم ؛ لأنّ هذه المقدّمة ليس فيها إلا دليل الوجوب الغيري.

ص: 269

وأمّا على إنكار الملازمة فلأنّ المقدّمة تبقى على حرمتها ولا يترشّح عليها وجوب غيري ، ولكنّ هذه الحرمة لا تكون فعليّة في مقامنا لفرض أهمّيّة الواجب ، ممّا يعني أنّ دليل الحرمة مقيّد بعدم الاشتغال بالواجب ، فإذا اشتغل بالواجب كانت المقدّمة المذكورة فيها حرمة تعليقيّة لا فعليّة ، إذ إنّها ترتفع عنها لفرض كونها مقدّمة للواجب الأهمّ ، فلا تعارض أيضا ولا تزاحم.

الصورة الثانية : فيما إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولكنّه لم ينقذ الغريق بعد ذلك ، فهنا تظهر الثمرة ؛ لأنّنا تارة نقول بالملازمة ، وأخرى ننكرها. وعلى القول بالملازمة تارة نقول بوجوب مطلق المقدّمة ، وأخرى نقول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ، فالوجوه ثلاثة :

الأوّل : أن ننكر القول بالملازمة ، فهنا لن يترشّح وجوب غيري على المقدّمة فهي على حرمتها النفسيّة ، وهذه الحرمة فعليّة ، إذ لا يوجد ما يحول دون اتّصافها بالحرمة الفعليّة ؛ لأنّ ما يمنع من ذلك إنّما هو اقترانها بفعل الواجب الأهمّ والمفروض أنّه ترك الواجب ، فلم يتوصّل بها إلى الإنقاذ الواجب الأهمّ ، ولذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع من فعليّة هذه الحرمة مفقودا ، فهي محرّمة ويكون قد ارتكب حراما حينئذ.

الثاني : أن نقول بالملازمة ولكن نقول : إنّ الوجوب الغيري يختصّ بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ، فهنا أيضا سوف يكون قد ارتكب حراما ؛ لأنّ الوجوب الغيري لا يترشّح إلى هذه المقدّمة ؛ لأنّها لم تكن موصلة لفعل الواجب ؛ لأنّه تركه بحسب الفرض ، فلذلك يكون مقتضي الحرمة موجودا والمانع مفقودا.

الثالث : أن نقول بالملازمة ونقول أيضا بأنّ الوجوب الغيري ينصبّ على مطلق المقدّمة سواء كانت موصلة أم غير موصلة ، فهنا لم يرتكب حراما ؛ لأنّه سوف يترشّح وجوب غيري من الواجب الأهمّ على هذه المقدّمة ، وحيث إنّ الواجب هو الأهمّ فيكون دليل الحرمة مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة التي صارت مقدّمة للواجب ، ولذلك يرتفع عنها الحرمة ؛ لأنّ قيود الحرمة قيود للحرام أيضا ، فيكون الحرام هو غير هذه الحصّة وبالتالي لا تكون هذه المقدّمة إلا واجبة سواء حصل بعدها الواجب أم لا.

ص: 270

وبهذا يمكننا تصوير الثمرة ، فنقول : إنّه على القول بإنكار الملازمة أو على القول بأنّ الوجوب الغيري هو خصوص المقدّمة الموصلة ، فهنا لا وجوب على المقدّمة ، بل تبقى على حرمتها.

وأمّا إذا قلنا بالملازمة وكون الوجوب الغيري هو مطلق المقدّمة فسوف يرتفع الحرام عنها ؛ لأنّ دليل الحرمة يكون مقيّدا من أوّل الأمر بغير هذه الحصّة فتكون واجبة لا غير (1).

ص: 271


1- إلا أنّه يمكن التعليق على هذه الثمرة فنقول : إنّ عدم إنقاذ الغريق بعد فعل المقدّمة تارة يكون اتّفاقيّا وخارجا عن اختيار المكلّف ، وأخرى يكون مقصودا له. فإذا كان عدم الإتيان بالواجب اتّفاقيّا بأن كان المكلّف قاصدا من أوّل الأمر وحين إتيانه بالمقدّمة أن يتوصّل بها إلى الواجب ، لكنّه اتّفق وجود المانع الذي حال بينه وبين إنقاذ الغريق ، فهنا لا يكون قد ارتكب حراما حتّى على القول بإنكار الملازمة أو على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور ؛ لأنّ المقدور له هو القصد والتوصّل بالمقدّمة إلى الإنقاذ وفعل مقدّماته ، وأمّا حصول النتيجة أو عدمها فهو غير تابع لاختياره فقط ، بل موقوف على عدم وجود المانع من ذلك ، ولذلك يكون معذورا عند العقلاء ولا يكون مدانا. وأمّا إذا كان عدم الإتيان بالواجب نتيجة اختياره لذلك بأن كان قاصدا من أوّل الأمر ألاّ يمتثل الواجب ، أو بدا له بعد الإتيان بالمقدّمة ألاّ يأتي بالواجب عن عمد واختيار منه ، فهنا يكون فعله للمقدّمة حراما ؛ لأنّه يعتبر مقصّرا بنظر العقلاء فيستحقّ الإدانة واللوم والعقوبة بحكم العقل أيضا. ومن هنا كان لا بدّ من تقييد عدم إنقاذ الغريق بأنّه كان عن اختيار وقصد من المكلّف بعدم امتثاله ، إمّا من أوّل الأمر وإمّا بعد الإتيان بالمقدّمة.

ص: 272

شمول الوجوب الغيري

ص: 273

ص: 274

شمول الوجوب الغيري

قام القائلون بالملازمة بعدّة تقسيمات للمقدّمة ، وبحثوا في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلّ تلك الأقسام أو لا؟

ونذكر فيما يلي أهمّ تلك التقسيمات :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

ويراد بالداخليّة جزء الواجب ، وبالخارجيّة ما توقّف عليه الواجب من أشياء سوى أجزائه.

وقد وقع البحث بينهم في أنّ الوجوب الغيري هل يعمّ المقدّمات الداخليّة أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة؟

فقد يقال بالتعميم ؛ لأنّ ملاكه التوقّف ، والواجب كما يتوقّف على المقدّمة الخارجيّة يتوقّف أيضا على وجود جزئه ؛ إذ لا يوجد مركّب إلا إذا وجدت أجزاؤه.

ذكر القائلون بالملازمة عدّة تقسيمات للمقدّمة ، وغرضهم من ذلك هو معرفة أنّ الوجوب الغيري هل يشمل جميع أقسام المقدّمة ، أو أنّه يختصّ ببعضها فقط؟ وأهمّ تلك التقسيمات ثلاثة :

التقسيم الأوّل : تقسيم المقدّمة إلى داخليّة وخارجيّة.

والمقصود من المقدّمة الداخليّة هو ما يكون جزءا من الواجب ، كالركوع والسجود والقراءة بالنسبة للصلاة.

بينما المقصود من المقدّمة الخارجيّة هو ما يكون خارجا عن الواجب ولكنّه يتوقّف عليه ، كالوضوء والزوال وطهارة اللباس والمكان والاستقبال بالنسبة للصلاة.

بعد ذلك وقع البحث في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلا هذين القسمين أو يختصّ بالمقدّمات الخارجيّة فقط؟

ص: 275

ذهب البعض إلى أنّه يشمل كلا القسمين ؛ وذلك لأنّ ملاك الوجوب الغيري موجود في القسمين على حدّ سواء ؛ لأنّ الوجوب الغيري كان ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، فكلّ ما يكون مقدّمة لشيء وما يكون الشيء متوقّفا عليه فهو واجد لملاك الوجوب الغيري فيتّصف به ، فالصلاة مثلا كما تتوقّف على الزوال والطهارة كذلك تتوقّف على القراءة والركوع والسجود ، وكما تكون الطهارة والزوال مقدّمة للصلاة كذلك تكون القراءة والركوع والسجود مقدّمة لوجود الصلاة.

والحاصل : أنّ الواجب كما يتوقّف في وجوده على المقدّمات الخارجيّة كذلك يتوقّف وجوده فيما إذا كان مركّبا من أجزاء على وجود أجزائه ؛ إذ يستحيل وجود المركّب من دون أجزائه.

وذهب البعض الآخر إلى عدم الشمول واختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة فقط دون الداخليّة ، واستدلّوا على ذلك بوجهين ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ويقال في مقابل ذلك بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء ، إمّا لعدم المقتضي له أو لوجود المانع.

وبيان عدم المقتضي أن يقال : إنّ التوقّف والمقدّميّة يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه ؛ لاستحالة توقّف الشيء على نفسه ، والجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود الخارجي ، فلا معنى لاتّصافه بالوجوب الغيري.

وبيان المانع بعد افتراض المقتضي أن يقال : إنّ الجزء متّصف بالوجوب النفسي الضمني ، فلو اتّصف بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين.

وأمّا القول الآخر الذي ذهب إلى اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الخارجيّة ، وعدم شموله للمقدّمة الداخليّة ، فقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : عدم وجود المقتضي للاتّصاف بالوجوب الغيري ، وبيانه أن يقال :

إنّ الوجوب الغيري ملاكه التوقّف والمقدّميّة ، ولكن هذا العنوان يستبطن المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه أو بين المقدّمة وذي المقدّمة ؛ لوضوح أنّ الشيء يستحيل أن يتوقّف على نفسه ، أو أن يكون مقدّمة لنفسه للزوم الدور أو التهافت أو التقدّم والتأخّر والكلّ مستحيل. وعليه ، فإذا كانت المقدّمة مغايرة لذيها كان المقتضي لاتّصافها

ص: 276

بالوجوب الغيري موجودا ، وأمّا إذا لم تكن مغايرة له فلا مقتضي لاتّصافها بالوجوب الغيري ؛ إذ يكشف ذلك عن عدم وجود الملاك فيها.

وفي مقامنا نقول : إنّ الجزء ليس مغايرا للمركّب في الوجود فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لعدم وجود المقتضي فيه ، والوجه في عدم المغايرة بينهما هو أنّ وجود الجزء وسائر الأجزاء عبارة أخرى عن وجود المركّب وليس شيئا زائدا عليه ولا مغايرا له ؛ لأنّ المركّب يوجد بوجود أجزائه فهو عين أجزائه وهي عين المركّب في الوجود.

نعم ، بلحاظ المفهوم والعنوان يكون الجزء كمفهوم وعنوان مغايرا للمركّب كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس داخلا في محلّ الكلام ؛ لأنّ الحديث عن واقع المقدّمة كما تقدّم سابقا أي ما يكون مقدّمة واقعا وحقيقة في الوجود.

والآخر : وجود المانع من الاتّصاف بالوجوب الغيري بعد التسليم بوجود المقتضي لذلك. وبيانه : أنّ الأجزاء الداخليّة للمركّب متّصفة بالوجوب الضمني ، بمعنى أنّ الأمر بالمركّب ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة كلّها نفسيّة ، فإذا فرض أنّه واجد لملاك الوجوب الغيري لكونه مقدّمة لحصول المركّب لزم من ذلك اجتماع الوجوبين على شيء واحد ، واجتماع المثلين مستحيل. إذا فيوجد ما يمنع من اتّصاف الجزء بالوجوب الغيري وهو محذور اجتماع المثلين.

فإن قيل : يمكن أن يفترض تأكّدهما وتوحّدهما من خلال ذلك في وجوب واحد فلا يلزم محذور.

كان الجواب : أنّ التأكّد والتوحّد هنا مستحيل ؛ لأنّ الوجوب الغيري إذا كان معلولا للوجوب النفسي - كما يقال - فيستحيل أن يتّحد معه وجودا ؛ لاستحالة الوحدة بين العلّة والمعلول في الوجود.

وقد يجاب عن إشكال اجتماع المثلين بأنّ الوجوبين يستحيل اجتماعهما على شيء واحد فيما إذا بقي كلّ واحد منهما متشخّصا ومتميزا عن الآخر ، فإنّه يلزم منه تحصيل الحاصل واللغويّة ، وأمّا إذا افترض توحّدهما معا في وجوب واحد مؤكّد فلا محذور في ذلك ؛ لأنّ الوجوب يكون آكد وأشدّ ممّا كان عليه.

نظير اجتماع وجوب إكرام الفقير ووجوب إكرام العالم في شخص واحد بأن

ص: 277

كان عالما فقيرا ، فإنّ إكرامه يشتدّ ويتأكّد ، ولا يلزم من ذلك اجتماع المثلين ؛ لصيرورة الوجوبين وجوبا واحدا.

ويرد على ذلك بأنّ التأكّد والتوحّد يشترط فيهما أن يكون كلا الأمرين والوجوبين في عرض واحد ، بمعنى ألاّ يكون أحدهما في طول الآخر ومتأخّرا عنه في الرتبة ومتولّدا منه ؛ لأنّه إذا كان كذلك فلن يحصل التوحّد والتأكّد بينهما لفرض اختلاف الرتبة بينهما.

وفي المقام يقال بأنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي وفي طوله ، ولذلك يستحيل أن يتوحّد معه في الوجود أو أن يكون أحدهما مؤكّدا للآخر ؛ لاستحالة التوحّد بين العلّة والمعلول في الوجود ؛ لأنّه لا يمكن أن تكون العلّة هي نفس المعلول في الوجود.

التقسيم الثاني : تقسيم المقدّمة إلى مقدّمة واجب ومقدّمة وجوب.

ولا شكّ في أنّ المقدّمة الوجوبيّة كما لا يكون المكلّف مسئولا عنها من قبل ذلك الوجوب على ما تقدّم ، كذلك لا يتعلّق الوجوب الغيري بها ؛ لأنّه إمّا معلول للوجوب النفسي أو معه ، فلا يعقل ثبوته إلا في فرض ثبوت الوجوب النفسي ، وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني أنّ مقدّمات الوجوب قد تمّت ووجدت فلا معنى لإيجابها.

التقسيم الثاني : تنقسم المقدّمة إلى مقدّمة وجوب ومقدّمة واجب.

فمقدّمة الوجوب من قبيل الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ والزوال لوجوب الصلاة ، ومقدّمة الواجب من قبيل السفر إلى الميقات للإتيان بالمناسك ، وهنا يفصّل فيقال : إنّ مقدّمة الوجوب لا تتّصف بالوجوب الغيري بينما مقدّمة الواجب تتّصف به.

أمّا عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب بالوجوب الغيري ؛ فلأنّ مقدّمة الوجوب لا يكون المكلّف مسئولا عن إيجادها وتحصيلها قبل ثبوت الوجوب ؛ لأنّه لا محرّك ولا داعي نحو إيجادها من قبل الوجوب النفسي ؛ لأنّه موقوف عليها لأنّها دخيلة في موضوعه ، والوجوب لا يدعو إلى تحقيق موضوعه ؛ لأنّه في طول وجوده في عالم الفعليّة والمجعول وفي طول لحاظه وتصوّره في عالم الجعل والتشريع.

وعليه ، فكما أنّ المقدّمة الوجوبيّة لا تكون واجبة بالوجوب النفسي فكذلك لا

ص: 278

يمكن أن تكون واجبة بالوجوب الغيري أيضا ؛ لأنّ الوجوب الغيري إمّا معلول للوجوب النفسي فلا يحصل إلا بعده وفي طوله ، وإمّا كلاهما معلولان معا للملاك فيوجدان معا وفي عرض واحد ، ولذلك يستحيل أن يثبت الوجوب الغيري على مقدّمة الوجوب ؛ لأنّ فرض ثبوته يعني ثبوت الوجوب النفسي إمّا قبله وإمّا معه ، ومع ثبوت الوجوب النفسي فهذا يفترض أنّ موضوعه وسائر ما يرتبط به من قيود وشروط ومقدّمات قد تحقّقت ؛ لأنّه موقوف عليها كما قلنا ، فإذا كانت حاصلة فلا معنى لإيجابها غيريّا ؛ لأنّه يكون تحصيلا للحاصل وإيجابا لشيء قد فرغ عن وجوده وحصوله فيكون لغوا.

وأما مقدّمة الواجب فهي تتّصف بالوجوب الغيري بلا إشكال ؛ لأنّ الداعي لإيجاد وتحصيل الواجب هو نفسه يكون داعيا ومحرّكا نحو المقدّمة الموقوف عليها ، ولذلك يحكم العقل بلزوم تحصيل هذه المقدّمة وعلى أساس الملازمة يتعلّق بالمقدّمة الوجوب الغيري.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

والمقدّمة الشرعيّة ما أخذها الشارع قيدا في الواجب.

والمقدّمة العقليّة ما يتوقّف عليها ذات الواجب تكوينا.

والمقدّمة العلميّة هي ما يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ، كالجمع بين أطراف العلم الإجمالي.

ولا شكّ في أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بالمقدّمة العلميّة ؛ لأنّها ممّا لا يتوقّف عليها نفس الواجب بل إحرازه ، كما لا شكّ في تعلّقه بالمقدّمة العقليّة إذا ثبتت الملازمة ، وإنّما الكلام في تعلّقه بالمقدّمة الشرعيّة.

التقسيم الثالث : تقسيم المقدّمة إلى شرعيّة وعقليّة وعلميّة.

أمّا المقدّمة الشرعيّة فهي المقدّمة التي أخذها الشارع قيدا في الواجب ، كالوضوء بالنسبة للصلاة.

وأمّا المقدّمة العقليّة فهي المقدّمة التكوينيّة التي يتوقّف عليها الإتيان بالواجب ، كالسفر بالنسبة إلى الحجّ.

وأمّا المقدّمة العلميّة فهي المقدّمة التي يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ،

ص: 279

كالإتيان بأطراف العلم الإجمالي مثلا كما إذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة ، فالإتيان بالصلاتين يعتبر مقدّمة علميّة لتحصيل الواجب وإحرازه.

وهنا بحثوا في تعلّق الوجوب الغيري في هذه الأقسام أو في بعضها فقط ، فقالوا : أمّا المقدّمة العلميّة فلا شكّ ولا خلاف في عدم تعلّق الوجوب الغيري بها ؛ وذلك لأنّها ليست مقدّمة للإتيان بالواجب ، بل هي مقدّمة لإحرازه ، بمعنى أنّ الواجب لا يتوقّف الإتيان به على هذه المقدّمة بل يوجد من دونها ، فإنّ المكلّف يمكنه أن يصلّي الظهر فقط أو العصر فقط ، وليست إحدى الصلاتين موقوفة على الأخرى ، وإنّما الذي يتوقّف على هذه المقدّمة العلميّة هو تحصيل العلم بأنّه قد أتى بالواجب ؛ لأنّه بالجمع بين الصلاتين يحرز أنّه أتى بالواجب يقينا. إذا فهي خارجة عن محلّ الكلام ؛ لأنّ البحث موضوعه المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب. نعم ، هي واجبة من باب تحصيل الفراغ اليقيني ومن باب الاحتياط.

وأمّا المقدّمة العقليّة فلا إشكال ولا خلاف في تعلّق الوجوب الغيري بها - على القول بالملازمة طبعا - وذلك لأنّ طيّ المسافة مثلا لمّا كان يتوقّف عليها الإتيان بالحجّ تكوينا فيحكم العقل بوجوبها ، وعلى أساس الملازمة يحكم الشارع بوجوبها الغيري.

وأمّا المقدّمة الشرعيّة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فقد وقع الخلاف بينهم في تعلّق الوجوب الغيري بها وعدمه. ولذلك قال السيّد الشهيد :

إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقّق النائيني رحمه اللّه (1) إلى أنّ المقدّمة الشرعيّة كالجزء تتّصف بالوجوب النفسي الضمني ، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري.

ودعوى الوجوب النفسي للمقدّمة الشرعيّة تقوم على افتراض أنّ مقدّميّتها بأخذ الشارع لها في الواجب النفسي ، ومع أخذها في الواجب ينبسط عليها الوجوب.

ونردّ على هذه الدعوى بما تقدّم (2) من أنّ أخذها قيدا يعني تحصيص الواجب بها وجعل الأمر متعلّقا بالتقيّد ، فيكون تقيّد الفعل بمقدّمته الشرعيّة واجبا نفسيّا ضمنيّا لا القيد نفسه.

ص: 280


1- فوائد الأصول 1 : 265.
2- تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

ذهب المحقّق النائيني وغيره إلى إنكار تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الشرعيّة.

واستدلوا على ذلك بأنّ المقدّمة الشرعيّة هي ما أخذه الشارع قيدا في الواجب ، ومع أخذ الشارع لها قيدا في الواجب يكون الوجوب منصبّا على الواجب وعلى القيد ، فينحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين نفسيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، ومع كونها متّصفة بالوجوب الضمني النفسي يستحيل أن تتّصف بالوجوب الغيري تماما كما قيل في الجزء ؛ إمّا لعدم المقتضي وإمّا لوجود المانع.

وبعبارة ثانية : أنّ مقدّميّة المقدّمة الشرعيّة إنّما جاءت بسبب أخذ الشارع لهذه المقدّمة قيدا في الواجب ، ومع أخذها كذلك يكون الوجوب النفسي متعلّقا بالواجب مع هذا القيد ، وهذا الوجوب ينحلّ إلى وجوبين ضمنيّين أحدهما متعلّق بذات الواجب والآخر متعلّق بالقيد ، فيكون القيد واجبا نفسيّا ضمنيّا ومعه يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيري ؛ لوجود المانع من ذلك.

فإنّ الواجب والقيد وإن كانا متغايرين وكان القيد مقدّمة لوجود الواجب ، إلا أنّ اتّصافه بالوجوب الضمني النفسي يمنع من اتّصافه بالوجوب الغيري ، وإلا للزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

ويجاب عن ذلك : أنّ أخذ المقدّمة الشرعيّة قيدا في الواجب معناه تحصيص الواجب إلى حصّتين ، الحصّة الواجدة للقيد والحصّة الفاقدة له ، ويكون الأمر منصبّا على الحصّة الواجدة للقيد أي على الصلاة المقيّدة بالوضوء. وبالتحليل نلاحظ أنّ الوجوب الضمني النفسي يتعلّق بذات المقيّد ، أي بالصلاة وبالتقيّد بالقيد أي كونها عن وضوء لا بنفس القيد ، بل يكون القيد خارجا عن متعلّق الوجوب ، وإنّما هو مقدّمة لحصول التقيّد المأمور به ضمنيّا.

وبعبارة أخرى : المطلوب من المكلّف هو إيجاد الصلاة المقيّدة ، فالواجب هو ذات المقيّد والتقيّد لا القيد. نعم ، القيد مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا تحصل إلا بالإتيان بالوضوء.

فإن قيل : إنّ التقيّد منتزع من القيد ، فالأمر به أمر بالقيد.

كان الجواب : أنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّه طرف له ، لكنّ هذا لا يعني كونه عينه ، بل التقيّد بما هو معنى حرفي له حظّ من الوجود والواقعيّة

ص: 281

مغاير لوجود طرفيه ، وذلك هو متعلّق الأمر النفسي ضمنا ، فالمقدّمة الشرعيّة إذن تتّصف بالوجوب الغيري كالمقدّمة العقليّة إذا تمّت الملازمة.

وقد يشكل على ما ذكرناه من كون الأمر بالصلاة المقيّدة ينحلّ إلى أمرين : أمر بذات المقيّد أي بالصلاة ، وأمر بالتقيّد أي بكونها عن وضوء دون القيد فإنّه خارج ، فيقال : إنّ التقيّد عنوان انتزاعي من القيد نفسه ، بمعنى أنّ الصلاة عن وضوء أو الصلاة المقيّدة بالوضوء لا يمكن أن يتحقّق تقيّدها بذلك إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الأمر بالتقيّد أمرا بالقيد لا محالة ؛ لأنّه منشأ انتزاعه ، ومعه يتّصف القيد بالوجوب الضمني النفسي فيمتنع اتّصافه بالوجوب الغيري.

ولكن يجاب عن ذلك بأنّ القيد وإن كان دخيلا في حصول التقيّد ؛ لأنّ الصلاة عن وضوء لا يمكن أن تتحقّق إلا بالإتيان بالوضوء ، فيكون الوضوء طرفا لانتزاع التقيّد والطرف الآخر هو الصلاة ، وبحصول هذين الطرفين ينتزع منهما عنوان التقيّد. إلا أنّ هذا لا يعني أنّ القيد صار عين التقيّد ونفسه ، بل هما أمران متغايران.

والوجه في ذلك : هو أنّ التقيّد وصف انتزاعي فهو من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، بمعنى أنّ له ثبوتا وتحقّقا في عالم انتزاعه ممّا يعني أنّ له وجودا خاصّا به مستقلا عن طرفيه ( الصلاة والوضوء ) ؛ لأنّ الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة لها وجود في عالم انتزاعها يختلف عن نفس وجود الشرط والمشروط أو الجزء والمركّب أو المانع والممنوع ، وهنا التقيّد نسبة بين الصلاة والوضوء منتزعة منهما فهي معنى حرفي وهو له وجود مستقلّ عن نفس الطرفين اللذين هما منشأ انتزاعه ، ووجوده يكون في عالم الذهن.

وعليه ، فالتقيّد ليس هو نفس القيد والمقيّد بل هو مغاير لهما. نعم ، لا يحصل التقيّد إلا بطرفيه ولكن هذا لا يجعله منطبقا عليهما ، ولذلك يكون الأمر النفسي الضمني متعلّقا بالتقيّد وبالمقيّد فهما داخلان بينما القيد خارج عن الأمر.

ولذلك لا مانع من اتّصافه بالوجوب الغيري على القول بالملازمة ؛ لأنّه ليس متّصفا بالوجوب النفسي الضمني.

* * *

ص: 282

تحقيق حال الملازمة

ص: 283

ص: 284

تحقيق حال الملازمة

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب مع التسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الوجوب الغيري إن أريد به الوجوب المترشّح بصورة قهريّة من قبل الوجوب النفسي ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختياري للجاعل ، ولا يمكن ترشّحه بصورة قهريّة.

وإن أريد به وجوب يجعل بصورة اختياريّة من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرّر ومصحّح لجعله ، مع أنّ الوجوب الغيري لا مصحّح لجعله ؛ لأنّ المصحّح للجعل - كما تقدّم في محلّه - إمّا إبراز الملاك بهذا اللسان التشريعي ، وإمّا تحديد مركز حقّ الطاعة والإدانة ، وكلا الأمرين لا معنى له في المقام ؛ لأنّ الملاك مبرز بنفس الوجوب النفسي ، والوجوب الغيري لا يستتبع إدانة ولا يصلح للتحريك - كما مرّ بنا - فيلغو جعله.

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب والتسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة. فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : إنكار الوجوب الغيري ، أي إنكار الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، وأمّا وجوب المقدّمة عقلا فهذا غير قابل للإنكار لفرض توقّف امتثال الواجب عليها ، فالملازمة ثابتة عقلا لا شرعا.

والوجه في عدم ثبوت الملازمة شرعا هو أنّ الوجوب الغيري المدّعى ثبوته شرعا ما ذا يراد به؟

فإن أريد به الوجوب المترشّح قهرا من قبل الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ الوجوب الغيري يثبت شرعا بمجرّد ثبوت الوجوب النفسي من دون أنّ يتدخّل الشارع في

ص: 285

جعل هذا الوجوب أو بصورة قهريّة فوق الإرادة المولويّة. فمثل هذا الوجوب الغيري مستحيل ؛ لأنّ الوجوب والإيجاب فعل اختياري للمولى بمعنى أنّه جعل بيد الجاعل وضعه أو رفعه ، وليس بيد أحد غيره ولا يكون رغم إرادته ، ولا يمكن أن يترشّح قهرا بمجرّد جعله للوجوب النفسي.

وبتعبير آخر : إذا أوجب الشارع شيئا فليس بالضرورة أن يوجب مقدّمته ، بل قد يوجبها وقد لا يوجبها ؛ لأنّ الإيجاب فعله وباختياره ، ولا يكون قهرا عليه أو رغم إرادته ؛ ليقال : إنّ الوجوب الغيري يترشّح قهرا من الوجوب النفسي ، فإنّ هذا الكلام لا معنى ولا محصّل له.

وإن أريد به الوجوب الغيري الذي يجعله الشارع باختياره وإرادته ، فهذا وإن كان معقولا في نفسه إلا أنّ الجعل والإيجاب الشرعي لا يكون عبثا ومن دون أي مبرّر وغرض ، ولذلك نسأل ما هو الغرض والداعي والمبرّر الذي أدّى إلى جعل مثل هذا الوجوب الغيري؟

والجواب على ذلك أحد أمرين ، كلاهما باطل في المقام ، وهما :

الأوّل : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إبراز الملاك - فإنّ إبراز الملاك غرض مصحّح للجعل والإيجاب المولوي - بمعنى أنّ الشارع قد تعلّق غرضه بإبراز الملاك بهذا الوجوب الغيري.

فهنا تارة يكون الملاك الذي أراد إبرازه هو الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وهذا المفروض أنّ الشارع قد أبرزه بجعل الوجوب النفسي فإبرازه مجدّدا تحصيلا للحاصل فيلغو ، وأخرى يكون المراد إبرازه هو ملاك الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك زائد على الملاك الموجود في الوجوب النفسي ، وإلا لصار وجوبا نفسيّا لا غيريّا وهو خلف.

الثاني : أن يكون الغرض من جعل الوجوب الغيري إثبات المنجّزيّة والمحرّكيّة والباعثيّة ، وتحديد مركز حقّ الطاعة من أجل تسجيل الثواب على الامتثال والعقاب على المخالفة ، فإنّ هذا غرض مصحّح للإيجاب أيضا ، فيكون غرض المولى إثبات المحرّكيّة والمنجّزيّة والثواب والعقاب بجعله الوجوب الغيري ، وهذا غير معقول في المقام ؛ لما تقدّم من أنّ الوجوب الغيري ليس فيه منجّزيّة ولا محرّكيّة ولا

ص: 286

ثواب ولا عقاب زائدا على ما في الوجوب النفسي من ذلك.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد أي مبرّر ولا غرض للمولى في جعل الإيجاب الغيري فلا معنى لجعله ؛ لأنّه يكون ضرب من اللغو والعبث ، وهو مستحيل تصوّره بحقّ المولى عزّ وجلّ.

وأما الثاني : فمن أجل التلازم بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وإنّما نؤمن به لشهادة الوجدان ، وبذلك صحّ افتراض الحبّ في جلّ الواجبات النفسيّة التي تكون محبوبة بما هي مقدّمات لمصالحها وفوائدها المترتّبة عليها.

ولو أنكرنا الملازمة بين حبّ الشيء وحبّ مقدّمته لما أمكن التسليم بمحبوبيّة هذه الواجبات النفسيّة.

المطلب الثاني : هو الإيمان والتسليم بالملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، فتكون هناك محبوبيّة غيريّة للمقدّمة تبعا للمحبوبيّة النفسيّة للواجب.

وهذه الدعوى لا يمكن البرهان عليها وإنّما هي ثابتة وجدانا ، والوجه في ذلك هو أنّ الوجدان يقضي بأنّه كلّما تحقّقت الإرادة والشوق والحبّ في شيء استلزم ذلك نشوء الإرادة والشوق والحبّ الغيري نحو المقدّمات ، فمن يريد أن يفعل شيئا وتكون المبادئ موجودة فيه فإنّ هذه المبادئ سوف تسري إلى مقدّماته ؛ إذ لو لم يحبّ مقدّماته ولم يردها فلن يستطيع التوصّل إلى محبوبه النفسي ، فمن يريد شرب الماء مثلا فهو يبحث عنه ويحصّله ويهيّئه وهذه كلّها مقدّمات له.

ومن هنا كانت سائر الواجبات النفسيّة محبوبة تبعا لمحبوبيّة الملاكات والمصالح المترتّبة عليها ، إذ لو لم تكن هناك ملازمة بين حبّ شيء وحبّ مقدّماته لم يمكن القول بمحبوبيّة الواجبات النفسيّة ، وهو واضح البطلان.

والفرق بين ثبوت الملازمة هنا وعدم ثبوتها هناك أنّ الشوق والحبّ أثر تكويني فيعقل أن يستلزم حبّ شيء آخر بخلافه هناك ، فإنّ الجعل فعل اختياري للمولى (1).

ص: 287


1- وعلّق السيّد الأستاذ على ذلك بقوله : إنّ الشوق والإرادة على نحوين : الأوّل : تحريك العضلات ، والآخر : الحبّ وهو فعل اختياري للإنسان. والوجدان يقضي بأنّ الإنسان إذا أراد شيئا فإنّه يتحرّك نحوه ، فهنا التلازم ثابت بين الإرادة والشوق وتحريك العضلات إلا أنّ ذلك خارج عن محلّ الكلام. وأمّا التلازم بين إرادة شيء والشوق إليه وحبّ مقدّماته فهذا لا يقضي به الوجدان ، بل الوجدان على خلافه ، فإنّ من يضطرّ لبيع داره من أجل تأمين معيشته لا يتعلّق الحبّ ببيع الدار وإن كانت مقدّمة للوصول إلى المحبوب ، وهو تأمين المال للمعيشة. ولذلك لا يمكن إثبات الملازمة بلحاظ المحبوبيّة والشوق والإرادة ؛ لأنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد.

ص: 288

حدود الواجب الغيري

ص: 289

ص: 290

حدود الواجب الغيري

وفي حالة التسليم بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحبّ معا ، أو في إحدى المرحلتين على الأقلّ ، يقع الكلام في أنّ متعلّق الوجوب الغيري هل هو الحصّة الموصلة من المقدّمة أو طبيعي المقدّمة؟

في وجوب المقدّمة الموصلة أو مطلق المقدّمة : بعد التسليم بأنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، أو على الأقلّ بين حبّ شيء وحبّ مقدّمته ، يقع الكلام في متعلّق الوجوب الغيري ، فهل الوجوب الغيري متعلّق بمطلق المقدّمة أو بخصوص المقدّمة الموصلة؟ قولان في المسألة ، ولكلّ منهما أدلّته وبراهينه.

فذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بمطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة ، ونسبه للمشهور.

وذهب صاحب ( الفصول ) إلى وجوب المقدّمة الموصلة بالخصوص.

وذهب صاحب ( المعالم ) إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة التي يقصد المكلّف بها الإتيان بالواجب.

وذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي.

والمهمّ هو القولان الأوّلان.

قد يقال بأنّ المسألة مبنيّة على تعيين الملاك والغرض من الواجب الغيري.

فإن كان الغرض هو التمكّن من الواجب النفسي فمن الواضح أنّ هذا الغرض يحصل بطبيعي المقدّمة ، ولا يختصّ بالحصّة الموصلة ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري تبعا لغرضه متعلّقا بالطبيعي أيضا.

وإن كان الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختصّ بالمقدّمة الموصلة ،

ص: 291

ويثبت حينئذ اختصاص الوجوب بها أيضا تبعا للغرض.

وفي المسألة قولان ، فقد ذهب صاحب ( الكفاية ) (1) وجماعة (2) إلى الأوّل ، وذهب صاحب ( الفصول ) (3) وجماعة إلى الثاني.

قد يقال : إنّ تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة أو بطبيعي المقدّمة مرتبط بالملاك والغرض الذي من أجله جعل الوجوب الغيري على المقدّمة ، فإنّ تحديد الملاك والغرض هو الضابط والملاك الذي على أساسه يتحدّد ما هو متعلّق الوجوب الغيري ، وهنا يوجد احتمالان في تعيين هذا الملاك ، وعلى أساس كلّ احتمال يبتني القول بوجوب مطلق المقدّمة أو خصوص المقدّمة الموصلة فقط ، والاحتمالان هما :

الاحتمال الأوّل : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو التمكّن من الإتيان بالواجب ؛ لأنّه من دون هذه المقدّمة سوف لن يتمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب النفسي ، فإن كان هذا هو الملاك والغرض فهذا لازمه أن يكون مطلق المقدّمة هو الواجب لا خصوص المقدّمة الموصلة ؛ لأنّ جعل الإيجاب على مطلق المقدّمة يجعل المكلّف متمكّنا من الإتيان بالواجب النفسي.

الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض والملاك من جعل الوجوب الغيري على المقدّمة هو حصول وترتّب الواجب النفسي على المقدّمة ؛ لأنّه إذا لم يتوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي أو لم يترتّب الواجب النفسي على المقدّمة فيكون جعل الإيجاب على المقدّمة لغوا ولا فائدة منه ، وهذا لازمه أن يكون الوجوب الغيري متعلّقا بالمقدّمة الموصلة فقط دون غيرها ؛ لأنّ الواجب النفسي إنّما يحصل ويترتّب فيما إذا كانت المقدّمة موصلة إليه فقط.

ولذلك ذهب صاحب ( الكفاية ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الأوّل ، بينما ذهب صاحب ( الفصول ) وجماعة إلى تعيين الاحتمال الثاني ، ولكلّ من القولين أدلّته.

ويمكن أن يبرهن على الأوّل بأنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة إلى الواجب النفسي خاصّة لزم أن يكون الواجب النفسي قيدا في متعلّق

ص: 292


1- كفاية الأصول : 142.
2- منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول 1 : 286 ، وأجود التقريرات 1 : 237.
3- الفصول الغروية : 86.

الوجوب الغيري ، والقيد مقدّمة للمقيّد ، وهذا يؤدّي إلى أن يصبح الواجب النفسي مقدّمة للواجب الغيري.

الدليل على وجوب مطلق المقدّمة : أنّ الوجوب الغيري لو كان متعلّقا بالحصّة الموصلة من المقدّمة إلى الواجب النفسي دون غيرها ، فيلزم من ذلك أن يكون متعلّق الوجوب الغيري مركّبا من أمرين ، هما : ( ذات المقدّمة ، وكونها موصلة إلى الواجب النفسي ) أي بذات المقيّد وبالتقيّد بالإيصال إلى الواجب النفسي ، ولكن حصول التقيّد يتوقّف على حصول القيد ؛ لأنّ القيد مقدّمة لحصول التقيّد ومن دون حصول القيد لا يمكن أن يحصل التقيّد.

نظير تقيّد الصلاة بالوضوء فإنّ هذا التقيّد موقوف على الإتيان بالقيد أي بالوضوء ؛ لكي تقع الصلاة المقيّدة بالوضوء عن وضوء فعندئذ يحصل التقيّد ، وهنا لكي يقع المقيّد مع التقيّد أي المقدّمة مع تقيّدها بالإيصال إلى الواجب النفسي لا بدّ أن يتحقّق الواجب النفسي أوّلا ؛ لكي تتّصف المقدّمة بأنّها موصلة ، وحينئذ يكون الإتيان بالواجب النفسي قد صار قيدا ومقدّمة لحصول المقيّد أو التقيّد ، فإذا صار مقدّمة لزم أحد المحاذير التالية :

الأوّل : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للتقيّد أو للمقيّد ، فهذا معناه أنّه يتّصف بالوجوب الغيري ؛ لأنّ ملاك الوجوب الغيري هو المقدّميّة والتوقّف ، فيكون واجبا نفسيّا وواجبا غيريّا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني أنّ شيئا واحدا يكون فعل المقدّمة من أجله ويكون فعله هو من أجل المقدّمة فيلزم الدور أو الخلف.

الثاني : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد ، والمفروض أنّ المقدّمة هي خصوص الحصّة الموصلة فيكون الإتيان بالواجب النفسي الموصل إلى التقيّد هو المقدّمة لا غير ، وحينئذ يرجع الكلام الأوّل إلى هنا ؛ لأنّه سوف يكون مركّبا من ذات الواجب النفسي ومن كونه موصلا ، فيعود الكلام نفسه وهكذا فيتسلسل.

الثالث : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للمقيّد أو للتقيّد فسوف يتّصف بالوجوب الغيري ، والحال أنّه متّصف بالوجوب النفسي ، فيلزم اجتماع المثلين وهو مستحيل.

ص: 293

الرابع : أنّ الإتيان بالواجب النفسي لمّا صار قيدا ومقدّمة للإتيان بالمقيّد أو التقيّد ، والمفروض أنّ المقيّد أي ( المقدّمة الموصلة ) مقدّمة له فيلزم من ذلك توقّف الواجب النفسي على حصول المقدّمة الموصلة ، وتوقّف حصول المقدّمة الموصلة على الواجب النفسي وهذا دور ؛ لتوقّف كلّ منهما على الآخر في الوجود (1).

وبذلك يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يمكن أن يتعلّق بالحصّة الموصلة ، بل هو متعلّق بمطلق المقدّمة. وعليه يتعيّن أن يكون الملاك من الوجوب الغيري هو التمكّن من الإتيان بالواجب لا الوصول إليه وحصوله.

ويمكن أن يبرهن على الثاني بأنّ غرض الوجوب الغيري ليس هو التمكّن ، بل نفس حصول الواجب النفسي ؛ لأنّ دعوى أنّ الغرض هو التمكّن إن أريد بها أنّ التمكّن غرض نفسي فهو باطل بداهة وخلف أيضا ؛ لأنّه يجعل المقدّمة موصلة دائما لعدم انفكاكها عن التمكّن الذي هو غرض نفسي ، مع أنّنا نتكلّم عن المقدّمة التي تنفكّ خارجا عن الغرض النفسي.

وإن أريد بها أنّ التمكّن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرض نفسي لا محالة ، إذ وراء كلّ غرض غيري غرض نفسي ، فإن كان الغرض النفسي منه حصول الواجب النفسي ثبت أنّ هذا هو الغرض الأساسي من الواجبات الغيريّة ، وإلا تسلسل الكلام حتّى يعود إليه لا محالة.

الدليل على وجوب المقدّمة الموصلة : أنّ الغرض والملاك من الوجوب الغيري هو

ص: 294


1- ونضيف إلى ذلك بعض المحاذير التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) : أوّلا : أنّ الإتيان بالمقدّمة مع عدم قصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي ، معناه أنّ ما أتى به ليس هو متعلّق الوجوب الغيري ؛ لأنّه مختصّ بالمقدّمة الموصلة فيلزم منه الإعادة مجدّدا. وثانيا : لو كانت المقدّمة خصوص الموصلة إلى الواجب النفسي ، فحيث إنّ فعل الواجب اختياري للمكلّف إن شاء فعله وإن شاء خالفه فيلزم تعليق المقدّمة الموصلة على اختيار المكلّف ، فيكون اختياره دخيلا في الملاك والغرض ، وهذا لا يمكن لأحد أن يلتزم به. وثالثا : أنّ المكلّف إذا أتى بالمقدّمة ولم يشرع بالواجب بعد ، فهل يسقط الوجوب الغيري المتعلّق بها أو لا؟ فإن قيل بعدم سقوطه لزم الإعادة والتكرار ، وإن قيل بسقوطه فهذا لازمه أنّه لم يتعلّق بالحصّة الموصلة.

حصول الواجب النفسي دون التمكّن ؛ وذلك لأنّ كون الغرض والملاك هو التمكّن يلزم منه عدّة محاذير عقليّة.

وتوضيح ذلك : أنّنا لو فرضنا كون التمكّن من الإتيان بالواجب بفعل المقدّمة هو الملاك والغرض ، فهنا نسأل هل هذا الغرض والملاك نفسي أم غيري؟

فإن قيل بأنّه غرض وملاك نفسي فيلزم منه محذوران :

أحدهما : وضوح الفساد والبطلان ؛ لأنّ فرض الغرض النفسي معناه أنّه يوجد غرضان نفسيّان أحدهما موجود في الوجوب النفسي والآخر موجود في الوجوب الغيري ، وهذا واضح البطلان بداهة عدم وجود إلا غرض نفسي واحد يترتّب على الوجوب النفسي فقط.

وقد تقدّم سابقا أنّ الوجوب الغيري ليس فيه ملاك ولا غرض زائد على الواجب النفسي ، وإلا لصار التمكّن واجبا نفسيّا مع أنّه واجب غيري بحسب الفرض فيلزم الخلف.

والآخر : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي لازمه أن تكون المقدّمة دائما موصلة ؛ لأنّ التمكّن لو كان هو المطلوب النفسي من المقدّمة فكلّ المقدّمات تتّصف بالتمكّن ، سواء جاء المكلّف بالواجب أم لا ، فتكون المقدّمة دائما موصلة للتمكّن ؛ لأنّ التمكّن لا ينفكّ عن المقدّمة مع أنّ الواجب قد يتحقّق بعدها وقد لا يتحقّق ، فكيف تتّصف بكونها موصلة مع أنّ الواجب قد لا يتحقّق بعدها؟ وكيف يمكن أن نفرض المقدّمة غير الموصلة ما دام فعلها دائما يستتبع التمكّن ، والمفروض أنّه هو الغرض النفسي من فعل المقدّمة وليس الواجب النفسي؟

والحاصل : أنّ فرض كون التمكّن هو الغرض النفسي والأساسي من فعل المقدّمة ، لا يمكن المصير إليه ؛ لأنّه يستلزم الخلف من جعل المقدّمة للواجب وصيرورتها مقدّمة للتمكّن فقط ؛ ولأنّه يؤدّي إلى تعدّد الغرض والملاك النفسي مع أنّ المفروض كونه واحدا مترتّبا على الوجوب النفسي لا الغيري.

وإن قيل بأنّ التمكّن غرض غيري ، فهنا نسأل هل يوجد غرض نفسي وراء هذا الغرض الغيري أو لا يوجد؟

فإذا قيل بأنّه لا يوجد فهو واضح الفساد والبطلان ، إذ ما يكون غرضا غيريّا فهذا

ص: 295

لازمه لا محالة وجود غرض نفسي ورائه ؛ لأنّ ما يكون غرضا لغيره فهذا الغير إمّا أن يكون أصيلا ونفسيّا أو لا يكون كذلك ، فإن لم يكن نفسيّا بل كان غيريّا عاد السؤال إليه ولا ينقطع التسلسل إلا بفرض وجود غرض نفسي يرجع إليه الغرض الغيري ، إذا لا بدّ من التسليم بوجود الغرض النفسي ورائه.

وإذا قيل بوجود غرض نفسي ورائه كما هو الصحيح ، فهنا نسأل عن هذا الغرض النفسي ما هو؟

فإذا كان هو حصول الواجب ثبت المدّعى ، وأنّ الغرض الأساس والنفسي من الوجوب الغيري هو حصول الواجب النفسي ، وليس التمكّن فقط.

وإذا كان هو التمكّن من الواجب النفسي عاد الكلام من أوّله ولا ينقطع ، فيلزم منه التسلسل الممتنع (1).

وبهذا يظهر أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق إلا بالمقدّمة الموصلة ، ممّا يعني أنّ الملاك والغرض منه إنّما هو حصول الواجب النفسي على المقدّمة وترتّبه عليها.

وإلى هنا نكون قد استعرضنا أدلّة الطرفين ، وأمّا الصحيح منهما فهو :

فالصحيح إذا : اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة ، ولكن لا بمعنى أخذ الواجب النفسي قيدا في متعلّق الوجوب الغيري كما توهّم في البرهان على القول الأوّل ، بل بمعنى أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموعة المقدّمات التي متى ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضمونا.

ص: 296


1- ونضيف إلى ذلك ما ذكره صاحب ( الفصول ) ، فقال ما ملخّصه : أوّلا : أنّ الوجدان يقضي باختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ؛ لأنّ العقل الذي يدرك وجوب المقدّمة يقضي بتعلّق الوجوب بالمقدّمة الموصلة للواجب لا غير. وثانيا : أنّ الغرض من الواجب الغيري ليس إلا الحصّة الموصلة ؛ لأنّ العقلاء إذا تعلّقت أغراضهم التكوينيّة بشيء فيسلكون الطريق الموصل إليه لا غيره ، فالمولى العرفي إذا تعلّق غرضه بشيء فلا يتحرّك بنفسه ولا يحرّك عبده إلا نحو المقدّمات الموصلة لغرضه دون غيرها. وثالثا : أنّ المولى يمكنه أن ينهى ويردع عن المقدّمة غير الموصلة ، فلو كانت مطلق المقدّمة واجبة شرعا لم يمكنه إصدار مثل هذا النهي ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل.

وأما القول المختار : فهو أنّ الوجوب الغيري إنّما يتعلّق بخصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، وفاقا لصاحب ( الفصول ) وغيره ، ولكن على أساس ما نختاره من تفسير للإيصال.

وتوضيحه : أنّ الوجوب الغيري متعلّق بمجموع المقدّمات والأجزاء المساوقة للعلّة التامّة ، بحيث إذا وجدت كان وجود الواجب النفسي مضمونا أي مضمون التحقّق بعدها ، فذات المقدّمة وواقع العلّة التامّة هي المأخوذة تحت الإرادة الغيريّة وتحت الوجوب الغيري ، ولا يكون كلّ جزء جزء بنحو مستقلّ أو بنحو مركّب هو العلّة والمقدّمة ، بل مجموع الأجزاء بما هو مجموع هو العلّة التامّة والمقدّمة الموصلة للواجب.

وبهذا سوف يندفع الإشكال الذي ذكر في البرهان على القول الأوّل ، والذي كان حاصله : أنّ الواجب النفسي سوف يصبح قيدا للوجوب الغيري وهو غير معقول ؛ لما ذكر من المحاذير.

ووجه اندفاعه : أنّ أخذ مجموع الأجزاء والمقدّمات لا يعني أنّ كلّ جزء متوقّف على حصول الجزء الآخر ، أو مقيّد بذات الجزء الآخر ، بل المجموع بما هو مجموع مأخوذ في المقدّمة.

ومن جملة هذه المقدّمات والأجزاء أيضا اختيار المكلّف للفعل ، فإنّ الاختيار جزء من العلّة التامّة واقعا ، فيكون دخيلا في المقدّمة أيضا.

والحاصل : أنّنا نقصد بالمقدّمة الموصلة هو تحقّق كلّ ما يكون دخيلا في إيجاد الواجب بحيث إذا وجدت كلّها ترتّب الواجب عليها ، فهي بمثابة العلّة التي متى ما وجدت وجد المعلول بعدها لا محالة ، إلا إذا وجد مانع خارج عن اختيار وقدرة المكلّف.

* * *

ص: 297

ص: 298

مشاكل تطبيقيّة

ص: 299

ص: 300

مشاكل تطبيقيّة

استعرضنا فيما سبق (1) أربع خصائص وحالات للوجوب الغيري ، وتنصّ الثانية منها على أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا ، وتنصّ الرابعة منها على أنّ الواجب الغيري توصّلي.

وقد لوحظ أنّ ما ثبت من ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات - كما دلّت عليه الروايات - ينافي الحالة الثانية للوجوب الغيري ، وأنّ ما ثبت من عباديّة الوضوء والغسل والتيمّم واعتبار قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.

توجد مشكلتان في التطبيق :

الأولى : في ترتّب الثواب على جملة من المقدّمات ، حيث دلّت الروايات على ثبوت الثواب حين الإتيان بالمقدّمة وإن لم يأت بالواجب ، فإنّ هذا يتنافى مع ما تقدّم من خصائص الوجوب الغيري وأنّه لا يستتبع ثوابا زائدا عمّا في الواجب النفسي من ثواب.

فمثلا دلّت الروايات على ثبوت الثواب على من زار الحسين علیه السلام ماشيا ، وأنّ له بكلّ خطوة ألف حسنة و ... إلى آخره ، مع أنّ المشي مقدّمة لحصول الزيارة التي يفرض تعلّق الوجوب النفسي بها ولو بعنوان آخر كمن نذر زيارته علیه السلام .

الثانية : في ثبوت صفة العباديّة في بعض المقدّمات ، كالغسل والتيمّم والوضوء ، ولزوم الإتيان بها بقصد القربة ، بحيث تكون هذه الصفة جزءا دخيلا فيها ولا تتحقّق من دونها ، وهذا يتنافى مع ما تقدّم من كون الوجوب الغيري توصّليّا لا يشترط فيه أي داع آخر مضافا إلى الإتيان بذات المقدّمة ؛ لأنّ المطلوب منه الوصول به إلى الواجب والتوصّل إليه.

ص: 301


1- تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

وهاتان المشكلتان لا بدّ من حلّهما بنحو يتناسب مع حقيقة الوجوب الغيري والمحافظة على خصائصه المتقدّمة ، وإلا لكانت نقضا على ما ذكر من خصائص للوجوب الغيري ، بل تكون دليلا على عدم صحّتها في نفسها ؛ لأنّ الواقع على خلافها.

هذا ، وقد أجيب عن هاتين المشكلتين بأجوبة عديدة ومختلفة ، والسيّد الشهيد يذكر جوابا لكلّ واحدة من المشكلتين ، ولذلك قال :

والجواب : أمّا فيما يتّصل بالحالة الثانية : فهو أنّها تنفي استتباع امتثال الوجوب الغيري بما هو امتثال له للثواب ، ولا تنفي ترتّب الثواب على المقدّمة بما هي شروع في امتثال الوجوب النفسي ؛ وذلك فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى امتثاله.

وما ثبت بالروايات من الثواب على المقدّمات يمكن تطبيقه على ذلك.

أمّا الجواب عن المشكلة الأولى : فقد تقدّم في خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يستتبع ثوابا على فعله ، ولكن قلنا هناك بأنّه لا يستتبع الثواب على فعله ( بما هو امتثال له ) ، فإنّ هذا التقييد يحلّ المشكلة المذكورة ؛ وذلك لأنّنا ننفي ترتّب الثواب على فعل الواجب الغيري من جهة كونه امتثالا للواجب الغيري ، ولم ننف ترتّب الثواب على فعله ولو من جهة أخرى بأن كان قاصدا التوصّل به إلى الواجب النفسي مثلا.

ولذلك فمن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي يكون قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين اشتغاله بالمقدّمة ، ولذلك يبدأ الثواب من ذاك الحين ، فهنا الثواب لم يترتّب على امتثال الواجب الغيري بما هو وجوب غيري ، بل يترتّب عليه بما هو امتثال للواجب النفسي وشروع في امتثاله. إذا ترتّب الثواب على المقدّمات لا يخالف حقيقة الوجوب الغيري.

وما ورد من ترتّب الثواب على فعل بعض المقدّمات يمكن حمله على هذا المعنى ، أي على أنّه قد شرع في امتثال الواجب النفسي من حين إتيانه بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الواجب النفسي (1).

ص: 302


1- هذا كلّه فيما إذا أتى بالواجب النفسي بعد المقدّمة ، وأمّا مع عدم تحقّق الواجب النفسي فلعلّ ما ذكر لا يكفي في تخريج الاستحباب ، ولذلك يوجد تخريجان آخران : أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من ثبوت الاستحباب النفسي للمقدّمة ، فإنّ الدليل ... الدالّ على ترتّب الثواب على المقدّمة سواء تحقّق الواجب بعدها أم لا ، يعتبر دليلا على إثبات استحبابها النفسي فيأتي بها بقصد امتثال أمرها ولذلك يثاب عليها. وهذا إخراج لها من دائرة الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي. والآخر : أنّ المقدّمة شيء ، وما ورد الثواب عليه بعنوانه شيء آخر. فلو وجبت الزيارة مثلا وجبت مقدّمتها وهي السفر وطيّ المسافة ، وما ورد عليه الثواب هو المشي أي أحد مصاديق المقدّمة ، أو أحد كيفيّاتها ، فنفس المقدّمة بعنوانها الكلّي الجامع واجب غيري لا ثواب عليه ، وأمّا عنوان المشي بنفسه فهو مورد للثواب وللاستحباب النفسي بعنوانه الخاصّ. وقد يجاب أيضا بالأشدّيّة والأحمزيّة ؛ لأنّ أفضل الأعمال أحمزها ؛ فالمشي يوجب مزيد مشقّة وتعب فيشمله الدليل المذكور.

وأمّا فيما يتّصل بالحالة الرابعة فإنّها في الحقيقة إنّما تنفي دخول أيّ شيء في دائرة الوجوب الغيري زائدا على ذات المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي.

فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل امتنع أخذ قصد القربة في متعلّق الوجوب الغيري ؛ لعدم توقّف الواجب النفسي عليه.

وإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة تعيّن تعلّق الوجوب الغيري بهما معا ؛ لأنّ قصد القربة في هذه الحالة يعتبر جزءا من المقدّمة.

وفي كلّ مورد يقوم فيه الدليل على عباديّة المقدّمة نستكشف انطباق هذه الحالة [ عليه ].

وأما الجواب عن المشكلة الثانية : فقد ذكرنا في الخصوصيّة الرابعة أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة والتوقّف ، ولذلك فهو يتعلّق بواقع المقدّمة من دون أن يكون لأيّة خصوصيّة أخرى مدخليّة في ذلك. وعليه ، لم يكن قصد التوصّل لامتثال الواجب ولم يكن للتقرّب والعباديّة أيّة دخالة فيه ، فيتحقّق الواجب الغيري سواء قصد ذلك أم لا.

وهذا إنّما ينفي أن يكون قصد القربة والعباديّة جزءا دخيلا في الوجوب الغيري ، ووجه الانتفاء واضح ؛ لأنّه لا داعويّة ولا محرّكيّة ولا ثواب ولا عقاب ولا ملاك فيه ، إلا أنّ هذا لا ينفي إمكان وقوع الواجب الغيري مع قصد التوصّل والامتثال أو التقرّب والعباديّة.

وعليه ، فإذا كان الواجب النفسي متوقّفا على ذات الفعل فقط فلا معنى لأخذ

ص: 303

قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّ الواجب النفسي لم يكن متوقّفا على هذا القصد ، فإذا فرضنا الواجب النفسي توصّليّا لا يشترط فيه قصد القربة وفرضناه أيضا متوقّفا على ذات الفعل أي على المقدّمة فقط ، فلا معنى لأخذ قصد القربة في الوجوب الغيري ؛ لأنّه غير مأخوذ في الوجوب النفسي الذي يكون فعل المقدّمة لأجله ، بل يمتنع أخذ هذا القصد فيه.

ووجه الامتناع هو أنّ الوجوب الغيري في نفسه لا يكون داعيا ولا محرّكا ولا مستتبعا للثواب والعقاب ولا ملاك فيه وقصد القربة ، إنّما يكون ناشئا أو تابعا لأحد هذه الأمور وكلّها منتفية فلا موضوع له أصلا ليقصد ، بل إذا قصده لزم منه المحذور العقلي وهو لزوم الخلف ؛ لأنّ قصد التوصّل والقربة إن كان بالأمر الغيري فهو خلف ؛ لأنّه لا مقربيّة ولا داعويّة فيه ، وإن كان بالأمر النفسي فهذا يعني توقّف الأمر النفسي على المقدّمة مع هذا القصد مع أنّنا قد فرضناه متوقّفا على ذات الفعل فقط.

وأما إذا كان الواجب النفسي متوقّفا على الفعل مع قصد القربة ، فهنا يتعيّن أخذ قصد القربة في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة أيضا.

والوجه في ذلك : هو أنّ الواجب النفسي لمّا كان أمرا تعبّديّا يشترط فيه قصد القربة ، فهذا معناه أنّه يجب الإتيان بالواجب مع هذا القصد ، ولمّا كان الواجب متوقّفا على المقدّمة مع قصد القربة كان معناه أنّ الوجوب الغيري قد تعلّق بمقدّمة مركّبة من ذات الفعل ومن قصد القربة ، فكان قصد القربة جزءا من الوجوب الغيري وليس أمرا طارئا عليه وخارجا عنه.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي كان عليه أن يأتي بالمقدّمة مع هذا القصد ؛ لأنّ إتيانه بالمقدّمة مجرّدة عن قصد القربة لا يوصله إلى الواجب ، فلكي تكون المقدّمة موصلة وبالتالي هي المطلوبة غيريّا لا بدّ من إيجاد هذا القصد.

وبتعبير آخر : إنّ قصد القربة الذي نفينا ثبوته في الوجوب الغيري هو الذي يكون خارجا عن المقدّمة وليس دخيلا فيها ، وإنّما بعد ثبوت الوجوب الغيري يراد إثبات هذا القصد ولزوم ضمّه إلى المقدّمة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب الغيري بنفسه ليس فيه مقرّبيّة ولا داعويّة كما تقدّم.

ص: 304

فلا بدّ أن يكون هذا القصد من جهة الوجوب النفسي وهذا يفترض النظر إلى متعلّقه ، وهل أنّه يكفي فيه امتثال الفعل فقط أو هو مع قصد القربة؟ فعلى الأوّل يمتنع قصد القربة للزوم الخلف وعلى الثاني يتعيّن ؛ لأنّ الامتثال موقوف عليه.

ومن هنا نقول : إنّ الوضوء والغسل والتيمّم حيث إنّها مقدّمات للصلاة الواجبة فهي غيريّة لا يشترط فيها قصد القربة ، ولكن لمّا دلّ الدليل الخاصّ على اشتراط ذلك وعلى ترتّب الثواب عليها ، كشف هذا عن كون الواجب النفسي متوقّفا لا على ذات المقدّمة ، بل على المقدّمة مع قصد القربة ، وأنّ هذا القصد جزء دخيل في المقدّمة يعرض عليه الوجوب الغيري وليس خارجا عن المقدّمة ليكون منضمّا إليها.

فإن قيل : أليس قصد القربة معناه التحرّك عن محرّك مولوي لإيجاد الفعل؟ وقد فرضنا أنّ الأمر الغيري لا يصلح للتحريك المولوي - كما نصّت عليه الحالة الأولى من الحالات الأربع المتقدّمة للوجوب الغيري - فما هو المحرّك المولوي نحو المقدّمة؟

كان الجواب : أنّ المحرّك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلّق بذيها ، وهذا التحريك يتمثّل في قصد التوصّل ، هذا إضافة إلى إمكان افتراض وجود أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة أحيانا ، بقطع النظر عن مقدّميّتها كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه النفسي.

إشكال وجوابه : أمّا الإشكال فهو أنّ قصد القربة يتوقّف على أن يكون الإتيان بالفعل بقصد امتثال أمره الشرعي ، بحيث يتحرّك العبد بهذا القصد من أجل امتثال أمر المولى ، وهذا يفترض أن يكون هناك أمر هو الذي حرّك المكلّف ، وحينئذ نسأل عن هذا الأمر والمحرّك ما هو؟

فإن كان هو الأمر الغيري فهو باطل ؛ لأنّه تقدّم في الخصوصيّة الأولى من خصائص الوجوب الغيري أنّه لا يصلح للتحريك ولا للداعويّة ولا للقربيّة ؛ لأنّه متعلّق بالمقدّمة ذاتها بحيث كان ملاكها هو كونها ممّا يتوقّف عليه الواجب ، وهذا الملاك يكفي في تحقيقه إيجاد واقع المقدّمة من دون أي شيء زائد عليها.

وإن كان هو الوجوب النفسي فهو لا يدعو ولا يحرّك إلا نحو إيجاد متعلّقه لا أكثر.

وبهذا يتبيّن أنّه لا يوجد محرّك مولوي ليكون هو الذي يتقرّب به بفعل المقدّمة.

ص: 305

وأما الجواب : فهو أنّنا نختار الشقّ الثاني ، فيكون المحرّك المولوي نحو إيجاد المقدّمة هو الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدّمة ، فإنّ الأمر النفسي كما يحرّك ويدعو إلى إيجاد متعلّقه أي الواجب النفسي فهو يدعو أيضا إلى تحقيق كلّ ما يتوقّف عليه الواجب النفسي بالتبعيّة ، ولذلك قلنا : إنّ الوجوب الغيري ليس فيه محرّكيّة وداعويّة ومقرّبيّة زائدة على ما في الوجوب النفسي ، وهذا لا ينفي أصل المحرّكيّة والداعويّة ، والمقرّبيّة ، وإنّما ينفي كونها استقلاليّة وبمعزل عن الوجوب النفسي.

وعليه ، فنقول : إنّ التحرّك الذي هو قوام المقرّبيّة يمكن افتراضه بالنسبة للمقدّمة بأحد طريقين :

الأوّل : من خلال قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها ، فإنّ المكلّف إذا قصد التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها حين الشروع في المقدّمة كان هذا القصد كافيا للتحرّك وبالتالي لقصد القربة ، دون ما إذا لم يقصد التوصّل بها إلى ذيها فإنّه في هذه الحالة لا يكون إتيانه بها قربيّا ؛ لعدم تحرّكه عن الأمر لا الغيري ولا النفسي ، أمّا الغيري فلأنّه لا وجود له بنحو مستقلّ ، وأمّا النفسي فلأنّه لم يقصده.

الثاني : من خلال افتراض ثبوت أمر نفسي متعلّق بالمقدّمة بقطع النظر عن كونها مقدّمة ، بحيث كان الأمر النفسي متعلّقا بها لأجل نفسها لا لكونها من أجل واجب آخر غيرها ، فهنا يمكن للمكلّف أن يتحرّك عن هذا الأمر النفسي ويكون قربيّا ، وهذا ما يمكن ادّعاؤه بالنسبة للطهارات الثلاث كالوضوء ونحوه ، حيث ثبت الأمر الاستحبابي النفسي بها فيمكن قصده والتحرّك عنه.

وكلا هذين الطريقين يحقّق القربيّة ؛ لأنّ القربيّة معناها أن يأتي المكلّف بالفعل مضافا إلى المولى ، أي أن يكون الفعل محبوبا للمولى ومن أجله ، فكلّ فعل يمكن أن يكون من أجل المولى فيكون قربيّا ويمكن التحرّك عنه بهذا القصد ؛ لأنّه يكون راجحا.

* * *

ص: 306

دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء

ص: 307

ص: 308

دلالة الأوامر

الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء

لا شكّ في أنّ الأصل اللفظي - في كلّ واجب لدليله إطلاق - [ يقتضي ] أنّه لا يجزي عنه شيء آخر ؛ لأنّ إجزاءه عنه معناه كونه مسقطا ، ومرجع مسقطيّة غير الواجب للواجب أخذ عدمه قيدا في الوجوب ، وهذا التقييد منفي بإطلاق دليل الواجب. وهذا ما قد يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

المراد من الإجزاء هو معناه اللغوي أي الكفاية والاكتفاء بما أتى به المكلّف ، فإنّه لا شكّ في إجزاء الأمر وسقوطه فيما إذا أتى المكلّف بمتعلّقه على الوجه الذي أمر به ، وسقوطه هنا بمعنى سقوط فاعليّته كالعصيان أيضا.

وأما إذا أتى بشيء آخر غير ما أمر به فالأصل الأوّلي يقتضي عدم إجزائه ؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلا إلى متعلّقه لا إلى شيء آخر. نعم ، يسقط بتحقيق الغرض والملاك أيضا كما تقدّم في طي البحوث السابقة.

وأمّا إجزاء غير المتعلّق وغير الغرض والملاك فهو معناه أنّ الأمر قد قيّد بعدمه ، فيكون عدم ذاك الشيء مأخوذا قيدا في الأمر ؛ لأنّه إذا وجد سقط الأمر عن الفعليّة أو الفاعليّة.

إلا أنّ هذا التقييد في الأمر لا يمكن قبوله ؛ لأنّ دليل الأمر لمّا كان خاليا من هذا القيد أمكن نفيه بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، إذ لو كان الشارع يريد التقييد ثبوتا وواقعا لدلّ عليه إثباتا وذكره في لسان الدليل.

وبهذا يتبيّن أنّ الأصل اللفظي في كلّ واجب هو عدم إجزاء غيره عنه ؛ لأنّ إجزاءه يعني أخذ عدمه قيدا وبما أنّ القيد غير مذكور فهو غير مراد.

ص: 309

وهذا ما يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

نعم ، إذا دلّ دليل خاصّ من خارج دليل الأمر على الإجزاء فيؤخذ به ، كما هو الحال في إجزاء الأضحية عن العقيقة ، فإنّها تجزي بمعنى أنّ الأضحية تسقط استحباب العقيقة وتجزي عنها. وأمّا مع عدم وجود الدليل الخاصّ فالأصل هو عدم إجزاء شيء آخر عن الواجب.

ولكن يدّعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استنادا إلى ملازمة عقليّة ، كما في حالة الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري.

إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدلّ دلالة التزاميّة عقليّة على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي على أساس وجود ملازمة بين جعله وبين نكتة تقتضي الإجزاء ، والتفصيل كما يلي :

قد يقال : إنّ الأصل المتقدّم وهو عدم إجزاء غير الواجب عن الواجب قد يخرج عنه في بعض الحالات لا بسبب وجود الدليل الخاصّ على الإجزاء ، فإنّ هذا لا كلام فيه ، وإنّما على أساس دعوى وجود ملازمة عقليّة تقتضي الإجزاء.

ومن هنا يقال : إنّ الأمر الاضطراري يجزي عن الأمر الاختياري ، من قبيل الصلاة من جلوس فإنّ المكلّف مأمور بالصلاة من قيام ، ولكنّه إذا اضطرّ إلى الجلوس في بعض الحالات فصلّى بهذه الحالة أجزأه عن الأمر الاختياري ، ولا يجب عليه الإعادة ولا القضاء.

وهكذا يقال بالنسبة للأمر الظاهري فإنّه يجزي عن الأمر الواقعي ، كما إذا عمل بالأمارة أو بالأصل ثمّ انكشف له الواقع فيما بعد أو انكشف خلاف ما عمل ، فإنّه يقال بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

والإجزاء في هذين الموردين بما أنّه ليس على القاعدة والأصل اللفظي على خلافه احتاج إلى دليل ، وبما أنّ الدليل الخاصّ من آية أو رواية ليس موجودا ، فيكون المدرك لذلك هو الدليل العقلي اللبّي ، فيقال : إنّ العقل يحكم بالتلازم بين العمل بالأمر الاضطراري أو الظاهري وبين الإجزاء. وهذا ما يسمّى بقاعدة الإجزاء ، وهو ما سوف نبحث عنه في مقامنا.

ص: 310

والبحث ينصبّ في كلا المقامين عن إبراز النكتة والملاك الذي من أجله يقال بالملازمة العقليّة الدالّة على الإجزاء. ومن هنا كان لا بدّ من تفصيل البحث حول الأمرين كلّ على حدة.

* * *

ص: 311

ص: 312

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

ص: 313

ص: 314

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا

إذا تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فأمر بالميسور اضطرارا ، كالعاجز عن القيام تشرّع في حقّه الصلاة من جلوس ، فتارة يكون الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، وأخرى يكون ثابتا بمجرّد عدم التمكّن في أوّل الوقت.

المقام الأوّل : في دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا.

فهل العقل يحكم بإجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري لتثبت الدلالة العقليّة الالتزاميّة بعد أن فرضنا كون الدليل اللفظي مطلقا وغير مقيّد بما يستفاد منه الإجزاء شرعا ، أم لا يحكم بذلك؟

فإذا فرضنا المكلّف قد عجز عن بعض أجزاء الصلاة كالركوع أو القيام فصلّى من جلوس مثلا استنادا إلى ما ورد من « إنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » (1) أو إلى ما ورد من أنّ ( ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه أو جلّه ) فهل صلاته الاضطرارية هذه تجزيه عن الصلاة الاختياريّة سواء في الوقت أم خارجه أو لا؟ وهنا يوجد حالتان :

الأولى : أن يفرض كون الأمر الاضطراري الموجّه إلى المكلّف مقيّدا باستمرار العذر في تمام الوقت ، بمعنى أنّ العذر إذا ارتفع في الوقت فيكون موضوع الأمر الاضطراري منتفيا من أوّل الأمر ولا يكون المكلّف مخاطبا به واقعا وحقيقة ، وإن اعتقد ذلك بداية إلا أنّه ينكشف له الواقع حين ارتفاع العذر وأنّه كان مخطئا.

وأمّا إذا لم يرتفع العذر فموضوع الأمر الاضطراري ثابت حقيقة فهل يجزيه فيما لو ارتفع بعد الوقت أم لا؟ وهكذا الحال بالنسبة لما إذا ارتفع في الأثناء فهل يجزيه أم لا؟

ص: 315


1- المحاسن 2 : 644 ، عوالي اللآلئ 1 : 20 ، و 4 : 58 ، بلفظ : لا يترك الميسور بالمعسور

الثانية : أن يفرض أنّ الأمر الاضطراري ثابت بمجرّد طروّ العذر ولا يشترط فيه استمرار العذر إلى آخر الوقت ، فهنا إذا صلّى المكلّف في أوّل الوقت ثمّ ارتفع عذره في الأثناء أو بعد الوقت ، فهل يجزيه ما أتى به أم لا بدّ من الإعادة أو القضاء؟

ثمّ هل يجوز له البدار إلى امتثال الأمر الاضطراري ، أم يجب عليه الانتظار إلى آخر الوقت ، أو إلى حين اليأس من البرء من العذر؟

وسوف نتناول كلّ واحدة من هاتين الحالتين مع التفصيل بقدر الإمكان بين الشقوق الواردة في كلّ منهما.

ولنبدأ بالثاني فنقول : إذا بادر المريض فصلّى جالسا في أوّل الوقت ثمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت ، فلا تجب عليه الإعادة.

والبرهان على ذلك : أنّ المفروض أنّ الصلاة من جلوس التي وقعت منه في أوّل الوقت كانت مصداقا للواجب بالأمر الاضطراري.

وحينئذ نتساءل : أنّ وجوبها هل هو تعييني أو تخييري؟

والجواب : هو أنّه تخييري ، ولا يحتمل أن يكون تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ هذا المريض كان بإمكانه أن يؤخّر صلاته إلى آخر الوقت فيصلّي عن قيام.

وإذا كان وجوبها تخييريّا فهذا يعني وجود عدلين وبديلين يخيّر المكلّف بينهما.

الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري ثابتا بمجرّد طروّ العذر.

فهنا إذا أخّر الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاضطراريّة فلا إشكال في الإجزاء ، وإنّما الكلام فيما لو بادر إلى الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت - بناء على جواز البدار - ثمّ ارتفع عذره في أثناء الوقت ، فهل تجب عليه الإعادة أو أنّها تجزي عن الصلاة الاختياريّة؟

والجواب عن ذلك : أنّها تجزي ولا تجب الإعادة ، والدليل على ذلك هو ما ذكره الميرزا من برهان حيث قال : إنّ الصلاة الاضطراريّة لا تخلو من أحد احتمالات أربعة :

1 - أن تكون وافية بتمام الغرض والملاك ، فهنا لا إشكال في الإجزاء ؛ لأنّ الإجزاء له ملاكان : أحدهما الإتيان بالمأمور به ، والآخر تحقيق الملاك ولو عن طريق آخر غير ما تعلّق به الأمر الاختياري.

ص: 316

2 - أن تكون وافية بأكثر الملاك والغرض ، والباقي لا يجب تحصيله ، وهنا أيضا يحكم بالإجزاء.

3 - أن تكون وافية ببعض الغرض ، ولكنّ الباقي لا يمكن تحصيله وتداركه ، وهنا يحكم بالإجزاء أيضا.

4 - أن تكون وافية ببعض الغرض ، والباقي يمكن تداركه وتحصيله ، وهذه هي التي يبحث في إجزائها وعدمه.

فيقال : إنّ الصلاة الاضطراريّة التي وقعت في أوّل الوقت كانت مصداقا للأمر الاضطراري ، وحينئذ نطرح التساؤل التالي : هل هذه الصلاة الاضطراريّة المأمور بها بالأمر الاضطراري واجبة تعيينيّا أم تخييريّا؟

والجواب : أنّها واجبة تخييريّا ، ولا يمكن أن تكون واجبة تعيينيّا ؛ لوضوح أنّ المكلّف لو لم يأت بها أوّل الوقت وانتظر إلى آخره لكان فعله صحيحا وجائزا ، بل هو أولى ؛ لأنّه لو انتظر إلى آخر الوقت فإمّا أن يزول عذره فيصلّي الصلاة الاختياريّة ، أو لا يزول كذلك فيصلّي الصلاة الاضطراريّة في آخره.

فالمتعيّن إذا كونها على نحو التخيير ، وحينئذ نسأل عن الأمر التخييري وأنّه دائر بين أي شيئين؟ لأنّ التخيير يفترض - لا محالة - وجود عدلين أو أكثر يكون المكلّف مخيّرا بينهما ، وهنا يوجد احتمالان في هذا الأمر التخييري ، هما :

فإن كان هذان العدلان هما الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة ، فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب هو الجامع بين الصلاتين وقد حصل فلا موجب للإعادة.

وإن كان هذان العدلان هما مجموع الصلاتين من ناحية والصلاة الاختياريّة من ناحية أخرى ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يصلّي من جلوس أوّلا ومن قيام أخيرا ، وبين أن يقتصر على الصلاة من قيام في آخر الوقت ، فهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل. وبهذا يتبرهن الإجزاء.

الاحتمال الأوّل : أن يكون الأمر التخييري دائرا بين الصلاة الاضطراريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت أو أن يصبر وينتظر إلى آخر الوقت ، فإن زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة.

ص: 317

وعلى هذا الاحتمال يثبت المطلوب وهو الإجزاء ؛ لأنّه يكون قد أتى بأحد فردي الجامع المأمور به ، فيكون ممتثلا حقيقة فلا تجب عليه الإعادة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المكلّف مخيّرا بين الصلاة الاضطراريّة والصلاة الاختياريّة من جهة وبين الصلاة الاختياريّة من جهة ثانية ، فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يصلّي الصلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت ثمّ إذا زال عذره صلّى الصلاة الاختياريّة ، وبين أن يصبر إلى آخر الوقت فيصلّي الصلاة الاختياريّة إذا زال عذره أو الصلاة الاضطراريّة إذا استمرّ عذره.

وعلى هذا الاحتمال يكون المكلّف مخيّرا بين الأقلّ والأكثر في الوجوب وهو مستحيل ؛ لأنّ فعل الأقلّ يستلزم سقوط الأمر لامتثاله ضمن أحد فرديه ، فيكون الأكثر تكليفا زائدا لا موجب له فيلغو ، أو لأنّ الأقلّ ضروري الوقوع على كلّ تقدير إمّا مستقلاّ أو ضمن الأكثر فيكون من التخيير بين المتناقضين وهو مستحيل.

ووجه الاستحالة : أنّه لا يمكن ارتفاع العدلين هنا ؛ لأنّه إمّا أن يصلّي الصلاة الاختياريّة أو الصلاة الاضطراريّة ، فالمكلّف إذا أوقع الصلاة الاضطراريّة يكون مخيّرا في إيقاع الزائد وعدم إيقاعه ، ومثل هكذا تخيير لا يكون له معنى محصّل فيلغو. وهكذا يتبرهن الإجزاء ؛ لأنّ التخيير يتعيّن في الاحتمال الأوّل دون الثاني.

هذا كلّه في الحالة الثانية.

وأما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستيعاب العذر لتمام الوقت ، فتارة يصلّي المريض في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره في الأثناء ، وأخرى يصلّي في جزء الوقت ويكون عذره مستوعبا للوقت حقّا ، ففي الحالة الأولى لا يقع ما أتى به مصداقا للواجب الاضطراري ، إذ لا أمر اضطراري في هذه الحالة ليبحث عن دلالته على الإجزاء ، وفي الحالة الثانية لا مجال للإعادة.

وأمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان الأمر الاضطراري مقيّدا باستمرار العذر إلى آخر الوقت.

فهنا إذا أخّر المكلّف الصلاة إلى آخر الوقت فصلّى الصلاة الاختياريّة أو الاضطراريّة كان ما أتى به مصداقا للواجب ؛ لأنّ عذره إذا ارتفع فصلّى الصلاة

ص: 318

الاختياريّة أو لم يرتفع فصلّى الصلاة الاضطراريّة يكون قد حقّق ما هو المطلوب منه واقعا.

وأمّا إذا بادر إلى الصلاة في أوّل وقتها أو في أثنائه - بناء على جواز البدار - فصلّى الصلاة الاضطراريّة ، فهنا تارة يرتفع عذره في الأثناء وأخرى يستمرّ إلى آخر الوقت ، فهنا حالتان :

ففي الحالة الأولى لا إشكال في لزوم الإعادة والإتيان بالصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر في الوقت ؛ وذلك لأنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا باستمرار العذر واستيعابه لتمام الوقت وهذا القيد لم يتحقّق ؛ إذ المفروض زوال العذر في الوقت فيكشف زوال العذر عن عدم تعلّق الأمر الاضطراري بالصلاة الاضطراريّة التي أتى بها المكلّف ، وحينئذ لا يكون ما أتى مصداقا للمأمور به ، بل لا أمر بما أتى به واقعا وإنّما كان يتوهّم وجود الأمر.

وأمّا في الحالة الثانية فلا معنى لوجوب الإعادة ؛ إذ فرض استمرار العذر إلى تمام الوقت معناه أنّ الصلاة التي أتى بها كانت مصداقا للأمر الاضطراري وكان هو ثابتا على المكلّف ؛ لتحقّق قيده وهو استيعاب العذر لتمام الوقت ، ومع كون ما أتى به مصداقا للمأمور يحكم بالإجزاء ؛ لأنّه أحد ملاكيه كما تقدّم.

نعم ، يبحث هنا عن وجوب القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء ، فقد يقال بعدم وجوب القضاء ؛ لأنّ الأمر الاضطراري يكشف عقلا عن وفاء متعلّقه بملاك الواجب الاختياري ؛ إذ لو لا ذلك لما أمر به ، ومع الوفاء لا فوت ليجب القضاء.

في وجوب القضاء : وقع الكلام في وجوب القضاء وعدمه فيما إذا زال العذر بعد الوقت ، وكان المكلّف قد أتى بوظيفة الأمر الاضطراري ، فهل يجب القضاء بعد الوقت أم لا؟

قد يقال : بعدم وجوب القضاء ؛ وذلك لأنّ ثبوت الأمر الاضطراري على المكلّف أثناء الوقت لازمه عقلا كونه وافيا بتمام الملاك والغرض الموجود في الأمر الاختياري أو بأكثر الملاك والباقي لا يجب تحصيله ، أو ببعض الملاك مع كون الباقي لا يمكن

ص: 319

تحصيله ، وإذا كان كذلك فيحكم بالإجزاء لتحقّق أحد ملاكيه ولو فرض أنّ الأمر الاضطراري لا يحصّل تمام الملاك ، بل بعضه وبعضه الآخر يمكن تحصيله لم يكن هناك معنى للأمر به تعيينا ، بل لا بدّ من ضمّ الأمر الاختياري إليه أيضا فيكون مكلّفا بالجامع بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم وهو محال.

ولكن يرد على ذلك : أنّ الأمر الاضطراري يصحّ جعله في هذه الحالة إذا كانت الوظيفة الاضطراريّة وافية بجزء من ملاك الواقع مع بقاء جزء آخر مهم لا بدّ من استيفائه ، إذ في حالة من هذا القبيل يمكن للمولى أن يأمر بالوظيفة الاضطراريّة في الوقت إدراكا لذلك الجزء من الملاك في وقته الأصلي ثمّ يأمر بعد ذلك بالقضاء استيفاء للباقي ، فلا دلالة للأمر الاضطراري عقلا على الإجزاء في هذه الحالة.

ويجاب على ما ذكر بأن يفرض أنّ الأمر الاضطراري وافيا ببعض الملاك والغرض ، والبعض الآخر يمكن تحصيله وتداركه ويكون على نحو الإلزام ، فإنّه في هذه الحالة لا مانع من ثبوت القضاء.

وتوضيحه : أنّ الشارع لمّا لاحظ أنّ الأمر الاضطراري لا يفي إلا بجزء من الملاك الموجود في الأمر الاختياري ، وكان هناك جزء آخر من الملاك يجب تحصيله وتداركه لكونه مهمّا ويضرّ المولى فواته ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك أي مانع عقلا من صدور أمرين : أحدهما الأمر الاضطراري من أجل أن يحصل المكلّف به جزء الملاك في الوقت ، والآخر الأمر الاختياري بعد الوقت وبعد زوال العذر من أجل تحصيل ما تبقّى من الملاك ، بحيث يفرض أن ما تبقّى من الملاك يمكن تحصيله بعد الوقت.

وحينئذ لا يكون الأمر الاضطراري دالاّ على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت القضاء ، وإن كان دالا على الإجزاء عقلا بمعنى عدم ثبوت الإعادة ، حيث تقدّم إنّ العذر إذا ارتفع في الوقت وفرض أنّ الأمر الاضطراري كان مقيّدا بمجرّد طروّ العذر فيجزي الأمر الاضطراري ؛ لأنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى التخيير بين الأقلّ والأكثر وهو مستحيل.

وأمّا هنا فإنّ التخيير ليس بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يوجد تخيير أصلا ، وإنّما هناك

ص: 320

أمران تعيينيّان : أحدهما الصلاة الاضطرارية في الوقت ، والآخر الصلاة الاختياريّة بعد زوال العذر خارج الوقت.

ومنه يظهر أنّ الاستدلال بالملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري وبين الأجزاء غير تامّة ، ولذلك هنا يحتاج الفقيه إلى مراجعة الروايات والأدلّة التي دلّت على الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، فإن أمكنه استظهار شيء منها يدلّ على نفي وجوب القضاء أو على ثبوت القضاء فهو ، وإلا تعيّن الرجوع إلى الأصل العملي وهو البراءة في المقام ؛ لأنّ وجوب القضاء تكليف زائد مشكوك ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

بل يبقى على الفقيه استظهار الحال من لسان دليل الأمر الاضطراري وإطلاقه ، فقد يستظهر منه الإجزاء لظهور لسانه في وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل ، أو ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام ما يجب ابتداء وانتهاء ، فإنّ سكوته عن وجوب القضاء حينئذ يدلّ على عدمه.

كيفيّة الاستظهار : ذكرنا أنّ وجوب القضاء لا يمكن نفيه على أساس الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر الاضطراري والإجزاء ، وقلنا بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى الأدلّة ليستظهر منها الحال ، فتارة يستظهر من لسان الدليل نفي وجوب القضاء ، وأخرى لا يمكن استظهار ذلك ، بل يبقى مشكوكا.

أمّا في الحالة الثانية فيرجع إلى الأصل العملي في المقام وهو هنا البراءة ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد ، كما عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، ومنهم السيّد الشهيد.

وأمّا في الحالة الأولى فيمكن أن يستظهر نفي وجوب القضاء بأحد طريقين :

الأوّل : أن يستظهر من الدليل أي من دليل الأمر الاضطراري كونه بدلا عن الفعل الاختياري ؛ كما قال الميرزا ، فإنّ ظاهر البدليّة كون البدل وافيا بتمام الملاك والغرض من المبدل ، وهذا لا يكون مختصّا بحالة الاضطرار واستمرار العذر ، بل هو مطلق لما بعد زوال الاضطرار والعذر أيضا ، أي أنّه بدل عنه في تمام الموارد والحالات.

الثاني : أن يستظهر من دليل الأمر الاضطراري أنّ تمام الوظيفة الثابتة على المكلّف هو الفعل الذي يقوم به حال الاضطرار ، فيستفاد من مجموع الأمرين ( الاضطراري والاختياري ) ، أنّ الشارع يحدّد الوظيفة للمكلّف ابتداء وانتهاء في حالة العذر وفي

ص: 321

حالة عدم العذر ، فالشارع يبيّن للمكلّف وظيفته في هاتين الحالتين ، وما دام سكت عن وجوب القضاء فهو ليس دخيلا في الوظيفة لا ابتداء ولا انتهاء ؛ إذ لو كان داخلا لكان اللازم ذكر ما يدلّ عليه ، فسكوته عنه دليل على عدم إرادته ، وهذا تمسّك بالإطلاق المقامي.

فإذا تمّ شيء من هذين الاستظهارين كان وجوب القضاء منتفيا من خلال الدليل اللفظي نفسه ، وإلا رجعنا إلى الأصل العملي وقد قلنا أنّ نتيجته عدم وجوب القضاء أيضا (1).

ص: 322


1- لا يبعد كون استظهار البدليّة تامّا في نفسه ، ويكون لسان الدليل حينئذ هو لسان الحكومة والتوسعة بلحاظ الإجزاء. فيستفاد من مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) [ النساء : ٤٣ ] أو قوله ٧ : التيمّم أحد الطهورين [ المقنع : ٩ ] أنّ التيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّه يؤدّي نفس الغرض والمصلحة منه خصوصا مع ملاحظة ما ورد من أنّه يكفي عشر سنين.

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا

اشارة

ص: 323

ص: 324

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا

قد تؤدّي الحجّة إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي ، بأن تدلّ على أنّ الواجب صلاة الظهر مع أنّه صلاة الجمعة ، أو على أنّ الثوب طاهر مع أنّه نجس.

فإذا أتى المكلّف بالوظيفة وفقا للحجّة الظاهريّة فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجة إلى قيام دليل خاصّ على الإجزاء ، أو يحتاج إثبات الإجزاء في كلّ مورد إلى دليل خاصّ ، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء؟

المقام الثاني : في دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا.

فإذا فرضنا قيام الأمارة أو الأصل العملي لدى المكلّف فعمل على طبقهما ثمّ انكشف له الواقع وأنّه مخالف لهما ، فهل يجزيه ذلك أم لا بدّ من الإعادة في الوقت؟ أو يجب القضاء خارج الوقت؟

فإذا دلّ خبر الثقة على وجوب الظهر في يوم الجمعة فصلّى الظهر ثمّ انكشف له الواقع ، وأنّ الواجب يوم الجمعة هو صلاة الجمعة لا الظهر ، فهل تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاء الصلوات التي صلاّها أم لا؟

وإذا تمسّك بأصالة الطهارة أو الحلّيّة وطبّقها في مورد على طهارة الثوب المشكوك فصلّى فيه ، ثمّ انكشف له الواقع وأنّه نجس ، فهل تجب الإعادة أو القضاء أم لا؟

وفي كلّ هذه الموارد يكون المكلّف قد طبّق الأمارة أو الأصل على خلاف الواقع ، ويكون قد امتثل للمأمور به في غير مصداقه الواقعي ، وهنا يأتي البحث عن الإجزاء وعدمه ، فهل هناك ملازمة عقليّة بين ثبوت الأمر الظاهري وبين الإجزاء ، أو لا يوجد مثل هذه الملازمة؟

فإن قيل بوجود الملازمة العقليّة حكم بالإجزاء ، وإن أنكر وجود الملازمة كان لا بدّ

ص: 325

من اكتشاف الإجزاء على أساس استظهاري من نفس دليل الحكم الظاهري ، وإن لم يوجد الدليل الاستظهاري أيضا رجعنا إلى الأصل الأوّلي في المسألة وهو عدم الإجزاء ؛ لأنّ إجزاء غير المأمور به من المأمور به يحتاج إلى دليل ؛ لأنّه خلاف تحقّق الإطاعة والامتثال للأمر المولوي. ولذلك سوف نستعرض الأقوال في هذه المسألة مع أدلّة كلّ واحد منها فنقول :

قد يقال بالإجزاء بدعوى الملازمة العقليّة بين الأمر الظاهري وبينه ؛ لأنّ الأمر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحة في مورده على نحو يستوفي به الملاك الواقعي الذي يفوّت على المكلّف بسبب التعبّد بالحجّة الظاهريّة ، وذلك ببرهان : أنّه لو لا افتراض مصلحة من هذا القبيل لكان جعل الأمر الظاهري قبيحا ؛ لأنّه يكون مفوّتا للمصلحة على المكلّف وملقيا له في المفسدة ، ومع اكتشاف مصلحة من هذا القبيل يتعيّن الإجزاء فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء لحصول الملاك الواقعي واستيفائه ، والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببيّة في جعل الحجّيّة ، بمعنى أنّ الأمارة الحجّة تكون سببا في حدوث ملاك في موردها.

القول الأوّل : هو إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي عقلا على أساس مسلك السببيّة.

وهذا القول مبني على أنّ الحكم الظاهري مجعول على أساس المصلحة الموجودة فيه ، وهو ما يسمّى بالسببيّة.

وتوضيح ذلك : تقدّم سابقا أنّه توجد إشكالات على جعل الحكم الظاهري يطلق عليها إشكالات ابن قبة ، وكانت تتمحور في أنّ جعل الحكم الظاهري مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى أحد محاذير ثلاثة :

الأول : لزوم اجتماع الضدّين في حالة المخالفة بين الحكم الظاهري والواقعي ، أو لزوم اجتماع المثلين في حالة توافقهما.

الثاني : لزوم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فيما إذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقع ؛ لأنّ المصالح والمفاسد - بناء على مذهب العدليّة - واقعيّة ومشتركة بين العالم والجاهل.

ص: 326

الثالث : عدم إمكان تنجّز التكليف المشكوك ؛ لأنّ الحكم الظاهري مورده الشكّ ومع الشكّ تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد أجيب عن هذه الإشكالات بأجوبة عديدة ؛ كان منها القول بالسببيّة من جعل الحكم الظاهري ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الحكم الظاهري فقد جعله لمصلحة فيه ، فيكون الحكم الظاهري سببا لحدوث تلك المصلحة ، وعلى أساس هذه المصلحة المفترضة الوجود سوف تندفع شبهات ابن قبة كما ذكر في محلّه.

وفي مقامنا يقال : إنّ جعل السببيّة في الحكم الظاهري لن يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة ؛ لأنّ المكلّف إذا أخذ بالحكم الظاهري في مورده فسوف تكون هناك مصلحة في هذا الحكم مساوية أو لا تقلّ أهمّيّة عن مصلحة الواقع ، وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع.

وبالتالي فإنّ الملاك الواقعي الذي فات المكلّف عند انكشاف الخطأ في الحكم الظاهري وكون الواقع على خلافه كان متداركا ، وبالتالي لا يكون هناك تفويت للملاك وإن لم يمتثل المكلّف المأمور به إلا أنّ هذا يكفي ؛ لأنّ أحد ملاكي الإجزاء هو تحصيل الغرض والملاك من الأمر ولو من غير طريق الإتيان بالمتعلّق والمأمور به.

إذا جعل السببيّة يؤدّي إلى الإجزاء لا محالة ، والدليل على ذلك هو أنّ جعل الحكم الظاهري من دون أن يفترض فيه هذه المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، فسوف يكون جعله قبيحا ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحاذير التي ذكرها ابن قبة فيكون جعله قبيحا ومستحيلا صدوره من الشارع ، فلمّا كان الحكم الظاهري ثابتا وصادرا من الشارع كشف ذلك عن وجود تلك المصلحة ، وبهذه المصلحة يحصّل المكلّف الملاك فلا تجب الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه لا موضوع لهما (1).

ص: 327


1- هذه السببيّة قال بها بعض أصحابنا ، وفي مقابلها يوجد نحوان من السببيّة : أحدهما : السببيّة التي قال بها الأشاعرة والتي تفترض عدم وجود حكم واقعي في مرتبة سابقة عن الحكم الظاهري ، وإنّما الواقع هو ما أدّى إليه الدليل. والآخر : السببيّة التي قال بها المعتزلة ، والتي تفترض وجود أحكام واقعيّة ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة والدليل على خلافها ، وإلا فإنّها تتبدّل. وعلى أساس هذين القولين من السببيّة سوف يكون الحكم الظاهري مجزيا بلا إشكال ، إلا أنّ المبنيين يؤدّيان إلى التصويب وهو باطل جزما ؛ لأنّ الأحكام مشتركة بين العالم ... والجاهل بحكم العقل ولإطلاقات الأدلّة بحسب ظاهرها. وأمّا هذا القول فهو وإن كان يؤدّي إلى القول بالإجزاء لكنّه يؤدّي إلى التصويب فيمتنع.

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ الأحكام الظاهريّة - على ما تقدّم (1) - أحكام طريقيّة لم تنشأ من مصالح وملاكات في متعلّقاتها ، بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعيّة ، وقد مرّ دفع محذور استلزام الأحكام الظاهريّة لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ولو كانت الأحكام الظاهريّة ناشئة من مصالح وملاكات على ما ادّعي للزم التصويب ، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهريّة بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصّا بمتعلّقه الأوّل ، بل ينقلب - لا محالة - ويتعلّق بالجامع بين الأمرين ، وهذا نحو من التصويب.

الإيراد الأول على القول المذكور : إنّ الصحيح في جعل الأحكام الظاهريّة هو ما ذكرناه سابقا من أنّها أحكام طريقيّة وليست أحكاما حقيقيّة ؛ وذلك لأنّها مجرّد خطابات تعيّن ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّ الشارع في هذه الحالة يجعل الحكم الظاهري لأجل حلّ هذه المشكلة التي يواجهها المكلّف.

ومن هنا لم يكن في الأحكام الظاهريّة ملاكات ومصالح مستقلّة وزائدة عن الحكم الواقعي ، بل ملاكاتها هي نفس ملاكات الواقع.

وعلى هذا المسلك - والذي هو المختار - سوف تنحلّ شبهات ابن قبة ؛ لأنّه لن يكون هناك اجتماع للمثلين أو للضدّين ؛ إذ لا يوجد حكم آخر سوى الحكم الواقعي ، وليس الحكم الظاهري إلا طريقا إليه فقد يصيبه وقد يخطأه.

ولن يكون هناك تفويت للمصلحة أو إلقاء في المفسدة ؛ لأنّ تفويت مصلحة الأمر الواقعي كانت رعاية لغرض أهمّ ، وهي الحفاظ على الملاكات الواقعيّة التي لاحظ أهمّيّتها على تلك المصلحة ؛ كما تقدّم شرحه مفصلا عند الكلام على حقيقة الحكم الظاهري.

ص: 328


1- في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهرية.

وعليه ، فإذا انكشف مخالفة الأمارة للواقع كشف ذلك عن أنّ الملاكات الواقعيّة بنظر الشارع ليست على طبق ما أدّت إليه الأمارة ، ممّا يعني أنّ الملاك لم يحصل ولم يتدارك فلا إجزاء.

وأمّا على القول بالسببيّة فيلزم التصويب ؛ وذلك لأنّه يفترض أنّ الحكم الظاهري يسبّب وجود مصلحة في متعلّقه ، وحينئذ لا بدّ من فرض كون هذه المصلحة مساوية أو أهمّ من مصلحة الواقع ؛ لأنّها إن كانت أقلّ أهمّيّة منها فمحذور تفويت المصلحة الذي طرحه ابن قبة يبقى على حاله. وعليه ، فما دامت المصلحة وافية بمصلحة الواقع فلن يكون هناك تفويت للملاك والغرض ، ومع عدم التفويت يحكم بالإجزاء لتحقّق ملاكه الثاني وهو استيفاء الغرض والملاك.

إلا أنّ هذا يؤدّي إلى أن يكون الوجوب الواقعي متعلّقا إمّا بالإتيان بالحكم الواقعي ، وإمّا بالإتيان بالحكم الظاهري على نحو التخيير ، فينقلب الأمر الواقعي من كونه تعيينيّا إلى كونه تخييريّا ومتعلّقا بالجامع بين الأمرين. وهذا لا يمكن أن يلتزم به ؛ لأنّ هذا الجامع يكون متعلّقه إمّا الحكم الواقعي وإمّا الأمارة المخالفة للواقع ، فإذا قامت لديه الأمارة فإن كانت موافقة للواقع فيكون قد أحرز الحكم الواقعي ، وإن كانت مخالفة للواقع فيكون قد امتثل الحكم الظاهري ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي تخالفه الأمارة أو تصيبه ، ممّا يعني أنّ الجعل الواقعي تعييني في نفسه قبل الأمر بالجامع.

وحينئذ يستحيل وصول الأمر بالجامع إلى المكلّف ؛ لأنّ وصول الشقّ الثاني منه وهو الأمارة المخالفة للواقع يتوقّف على إحراز مخالفتها ، فإن أحرز مخالفتها لم يكن له العمل بها قطعا ، وإن لم يحرز مخالفتها لم يحرز وصول الشقّ الثاني من طرفي الجامع ، وإذا أحرز موافقتها فهو يعلم بالواقع أي بالشقّ الأوّل.

وبهذا يظهر أنّ الأمر بالجامع يؤدّي دائما إلى ثبوت الواقع التعييني دون الواقع التخييري الذي يلزم منه الإجزاء.

وعلى فرض ثبوت الواقع التخييري الذي لازمه الإجزاء فهذا لا يتمّ إلا بنحو من التصويب ؛ لأنّ التبدّل من التعيين إلى التخيير نحو من أنحاء التصويب.

وثانيا : إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهريّة من مصالح

ص: 329

لا بدّ أن تضمن الحجّة تداركه ، إلا أنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحة إلا بقدر ما يفوت بسببها ، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة إلا فضيلة الصلاة في أوّل وقتها مثلا لا أصل ملاك الواقع لإمكان استيفائهما معا ، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبّد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلّف بهذا السلوك ، وليست قائمة بالمتعلّق وبالوظيفة الظاهريّة بذاتها ، فإذا انقطع التعبّد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة.

وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكيّة ، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلا.

الإيراد الثاني على القول بالإجزاء : ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الأحكام الظاهريّة مجعولة على أساس المصلحة السلوكيّة ، بمعنى أنّ في سلوك الأمارة مصلحة ؛ إذ لو لم يكن فيها أيّة مصلحة لكان جعلها لغوا ، وعليه فيستكشف من جعل الأمارات أو الحكم الظاهري عموما وجود تلك المصلحة.

فإذا سلك المكلّف على طبق الأمارة ثمّ انكشف له أنّها مخالفة للواقع ، فهذا الانكشاف تارة يكون في أثناء الوقت وأخرى يكون خارجه.

فإن انكشف الخلاف في الوقت كان معناه أنّ المصلحة السلوكيّة في الأمارة لم تكن بمقدار مطابق لتمام مصلحة الواقع ، وإنّما بمقدار ما سلكه على طبق الأمارة وهو جزء من مصلحة الواقع ، وأمّا الجزء الباقي فالمفروض أنّه يمكن تحصيله ؛ لأنّ الوقت لا يزال باقيا فيأتي بالحكم الواقعي في الوقت ، وهذا معناه عدم الإجزاء.

وإن انكشف الخلاف بعد الوقت فهذا معناه أنّ المصلحة السلوكيّة على طبق الأمارة كانت مستوفية لتمام مصلحة الواقع ، ولكن هذا الاستيفاء كان متعلّقا بسلوك الأمارة لا بنفس متعلّق الحكم الواقعي ؛ لأنّ المفروض أنّ ما أتى به من فعل لم يكن هو المأمور به واقعا لفرض انكشاف الخطأ بعد الوقت ، وعلى هذا تكون مصلحة الواقع لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المكلّف لم يأت بالمأمور به ولم يحقّق ملاكه ، ومن هنا كان لا بدّ من القضاء خارج الوقت ، وهو معنى عدم الإجزاء.

وبتعبير آخر : إنّ سلوك الأمارة لا بدّ أن يتضمّن وجود مصلحة في السلوك بقدر ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك الأمارة ، وإلا لكان جعلها لغوا.

ص: 330

ولكن لا يلزم من وجود المصلحة السلوكيّة الإجزاء ، سواء حصل انكشاف الخطأ في الوقت أم في خارجه ؛ وذلك لأنّه إذا انكشف الخلاف في الوقت فصلّى الظهر مثلا ثمّ انكشف له وجوب الجمعة لا الظهر ، كان سلوكه للأمارة قد فوّت عليه المصلحة الواقعيّة لفضيلة الصلاة في أوّل الوقت وهذا المقدار الفائت يجب أن يضمنه سلوك الأمارة.

وأمّا الأكثر من ذلك فهو يمكن تداركه واستيفاؤه وذلك بالإتيان بالأمر الواقعي وبمتعلّقه ، فإنّ سلوك الأمارة لا يضمن هذا المقدار ؛ لأنّ المصلحة لم تكن في المتعلّق وإنّما التعبّد كان بسلوك الأمارة وكانت المصلحة مترتّبة على السلوك فقط ، فإذا انقطع التعبّد بسلوك الأمارة لفرض انكشاف الواقع انقطع ما تجبره الأمارة بسلوكها ، وبقيت المصلحة الواقعيّة المتعلّقة بالفعل المطلوب واقعا فعليّة ويمكن تداركها واستيفاؤها فتجب ، ولذلك لا يتحقّق الإجزاء.

وهكذا فيما لو كان الانكشاف خارج الوقت ، فإنّ سلوك الأمارة وإن ضمن الخسارة الحاصلة بفوات الوقت إلا أنّ المصلحة المترتّبة على الفعل المأمور به واقعا لا تزال فعليّة ؛ لأنّ المأمور به لم يتحقّق ولأنّ ملاكه لم يحصّل ، وإنّما حصّل المكلّف ملاكا ومصلحة بسلوكه الأمارة مطابقا لما خسره بفوات الوقت فقط.

وبكلمة ثانية : أنّ سلوك الأمارة يضمن الخسارة ، والخسارة هنا كانت للوقت بتمامه ، وأمّا المأمور به الواقعي أي متعلّق الأمر الواقعي فهذا يمكنه أن يستوفي مصلحته ولو بعد الوقت فتجب ، وهذا معناه عدم الإجزاء أيضا.

نعم ، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهّم حكومة بعض أدلّة الحجّيّة على أدلّة الأحكام الواقعيّة وتوسعتها لموضوعها ، وقد أوضحنا ذلك سابقا.

وهو إجزاء مبنيّ على الاستظهار من لسان دليل الحجّيّة ، ولا علاقة له بالملازمة العقليّة.

ويأتي دفع هذا التوهّم عند التمييز بين الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة في مباحث التعارض إن شاء اللّه تعالى.

القول الثاني : الإجزاء على أساس الحكومة ، وهو دليل استظهاري لا عقلي.

ذهب الآخوند وغيره إلى أنّه يمكن القول بالإجزاء بالنسبة لبعض أدلّة الأصول

ص: 331

العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، على أساس استكشاف ذلك من أدلّتها الظاهرة في الحكومة.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ الحكم الظاهري يقسّم إلى الأمارات ، والأصول.

والأصول تنقسم إلى الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة.

أمّا الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة - كالبراءة والاحتياط - فهي لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ ولذلك فهي على القاعدة لا تقتضي الإجزاء فيما لو انكشف كون الواقع على خلافها ، بل لا بدّ من الإعادة في الوقت ، أو القضاء خارجه إن استفيد ذلك من نفس الدليل أو من دليل خاصّ.

وأمّا الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة - كأصالة الطهارة أو الحليّة واستصحابهما - فهي تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ؛ بمعنى أنّه يستفاد من أدلّتها كونها حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعيّة التي اشترط فيها الطهارة أو الحلّيّة ، ومعنى كونها حاكمة أنّها توسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الأعمّ من الطهارة الواقعيّة أو الطهارة الظاهريّة.

وعليه ، فمن يصلّي في الثوب المشكوكة طهارته - بناء على جريان أصالة الطهارة فيه أو على أساس استصحابها فيه - يكون قد أتى بأحد فردي هذه الشرطيّة ، ولكنّه يعتقد - بناء على عدم علمه بمخالفة الأصل للواقع - بأنّه يأتي بالطهارة الواقعيّة لا الظاهريّة ، إلا أنّ هذا الاعتقاد لا يضرّ ؛ لأنّه خطأ في التطبيق فقط لا في الامتثال. ولهذا لو انكشف خلاف الواقع لم تجب عليه الإعادة فضلا عن القضاء ؛ لأنّه قد امتثل أحد مصداقي الشرطيّة.

والفرق بين هذا وما تقدّم من الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الحكميّة هو استظهار الحكومة من أدلّة هذا القسم دونها ، فإنّ استظهار الحكومة معناه إيجاد فرد من موضوع الشرطيّة ، فالشرط متحقّق ، بخلاف الأمارات والأصول الحكميّة فإنّ لسانها ليس لسان الحكومة ، بل هي تفيد أنّ هذا هو الفرد الواقعي ؛ لأنّ الأمارات كاشفة عن الواقع أي أنّ المجعول فيها هو المنجّزيّة والمعذّريّة فهي تحرز الواقع لدى المكلّف ، فإذا انكشف كون الواقع على خلافها تبيّن أنّه لم يأت بالفرد المأمور به واقعا فتجب عليه الإعادة أو القضاء.

ص: 332

ومثلها الأصول الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة أو الاحتياط ، فإنّ لسانها لسان تسجيل الوظيفة العمليّة على المكلّف أي التنجيز أو التعذير فقط.

هذا حاصل ما يمكن أن يستفاد منه ، وعلى أساسه يثبت الإجزاء ولا تجب الإعادة ولا القضاء سواء انكشف الخلاف في الوقت أم خارجه.

وهذا الوجه - كما قلنا - استظهاري وليس مبنيّا على أساس الملازمة العقليّة ؛ لأنّه يستفيد الإجزاء من خلال استفادة الحكومة من لسان الدليل ، فإن تمّ فهو وإلا رجعنا إلى الأصل الأوّلي وهو عدم الإجزاء.

والصحيح عدم تماميّة هذا الوجه ، وذلك إذا عرفنا أنّ الحكومة تنقسم إلى قسمين. الحكومة الظاهريّة ، والحكومة الواقعيّة.

أمّا الحكومة الظاهريّة : فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، بحيث يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن يؤخذ الشكّ في الحكم الواقعي في الدليل الحاكم ، فهذا يجعله في طول الدليل المحكوم ، وهذا معناه أنّ الدليل الحاكم يؤثّر أثره من التوسعة أو التضييق ما دام عنوان الشكّ موجودا ، وأمّا إذا ارتفع عنوان الشكّ وحصل العلم لدى المكلّف فإنّ هذا الأثر ينتهي ويبقى الحكم الواقعي على حاله.

وأمّا الحكومة الواقعيّة فهي التوسعة أو التضييق في الحكم الواقعي ، من دون أن يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك بأن لا يكون المأخوذ فيه عنوان الشكّ في الحكم الواقعي ، فحينئذ يكون الدليل الحاكم مؤثّرا ويترتّب عليه الآثار الواقعيّة سواء كان الشكّ موجودا أم ارتفع بعد ذلك.

ففي النحو الأوّل لا يحكم بالإجزاء فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت أو خارجه ؛ لأنّه بانكشاف الخلاف يتبيّن أنّ الدليل الحاكم لم تكن الآثار التي رتّبها على الحكم الواقعي صحيحة ؛ لأنّه إنّما رتّبها في صورة الشكّ ولكن بشرط أن يستمرّ هذا العنوان ولا ينكشف الواقع على خلافه. والمفروض أنّه انكشف خلافه فينكشف أنّ ترتّب الآثار لم يكن صحيحا ، وهذا معناه أنّ الأمر الواقعي لم يمتثل ولا يزال باقيا على حاله مع فعليّته فتجب الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه على القول بأنّه يستفاد من نفس الدليل.

ص: 333

وأمّا في النحو الثاني من الحكومة وهو الحكومة الواقعيّة فيحكم بالإجزاء ؛ لأنّ ترتّب الآثار لم يكن مشروطا ببقاء عنوان الشكّ ، كما في مثل : « الطواف في البيت صلاة » أو « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّه لم يؤخذ في لسانه عنوان الشكّ في شرطيّة الطهارة للطواف أو عنوان الشكّ في الربا بين الأب وابنه ، ولذلك فهو حكومة واقعيّة. ففي المثال الأوّل يوسّع دائرة الشرطيّة لتشمل الصلاة والطواف معا حقيقة وواقعا ، بينما في المثال الثاني يضيّق دائرة الربا ؛ ليخرج منها ما كان بين الأب وابنه حقيقة وواقعا أيضا.

وفي مقامنا نقول : إنّ الأصول الموضوعيّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة والتي ادّعى صاحب ( الكفاية ) حكومتها وإجزائها وهي من نوع الحكومة الظاهريّة التي يكون فيها الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ؛ وذلك لأنّه قد أخذ عنوان الشكّ في أدلّتها ، فمثلا قاعدة الطهارة تستفاد من قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس » أو « قذر » ، وقاعدة الحلّيّة تستفاد من قوله علیه السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » أو « حتّى تعرف الحرام » منه بعينه ».

ومن الواضح أخذ عنوان الشكّ وعدم العلم فيهما ، ممّا يعني أنّ حكومتهما - لو سلّمت - فهي حكومة ظاهريّة لا تفيد أكثر من ترتيب الآثار على الطهارة وعدم النجاسة أو على الحلّيّة وعدم الحرمة ما دام الشكّ موجودا وباقيا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فهي تكشف عن عدم ترتّب تلك الآثار من أوّل الأمر ، وهذا لازمه أنّه قد صلّى مثلا في الثوب النجس ممّا يعني أنّه لم يمتثل الحكم الواقعي ، فلا إجزاء (1).

ص: 334


1- هذا كلّه فيما إذا كان مراد صاحب ( الكفاية ) هو الحكومة. ولكن قد يقال : إنّ مراده هو الورود بدليل أنّه عرّف الحكومة بالحكومة اللفظيّة التي تستخدم فيها أدوات التفسير من قبيل : ( أعني وأي وأقصد ومرادي ) ... إلى آخره ، فعلى هذا يكون الدليل الوارد موسّعا حقيقة وواقعا للدليل المورود عليه _ كما سيأتي في بحث التعارض _ ، وحيث لا يشترط في الدليل الوارد النظر إلى الدليل المورود فيصحّ ترتيب الآثار الواقعيّة من دون توقّف على عنوان الشكّ. إلا أنّه مع ذلك لا يمكن أن يستفاد من أدلة الطهارة أو الحلّيّة الورود ؛ لأنّ لسانها ظاهر في التنزيل والحكومة الظاهريّة.

امتناع اجتماع الأمر والنهي

اشارة

ص: 335

ص: 336

امتناع اجتماع الأمر والنهي

لا شكّ في التضادّ بين الأحكام التكليفيّة الواقعيّة ، وعلى هذا الأساس يمتنع اجتماع الأمر والنهي ؛ لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك ، وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال.

أمّا الأوّل فلأنّ مبادئ الأمر هي المصلحة والمحبوبيّة ، ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضيّة.

وأما الثاني فلضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما معا وعدم إمكان الترتّب بينهما ، وقد سبق في مباحث القدرة (1) أنّه كلّما ضاقت قدرة المكلّف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالإمكان الترتّب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين.

تمهيد البحث : تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها ، والتضادّ فيها إنّما يكون بلحاظ عالم المبادئ والملاكات وليس بلحاظ الاعتبار ، فإنّ الاعتبار مجرّدا عن المبادئ والملاكات يكون خاليا عن أيّ مضمون فهو سهل المئونة ، فالوجوب والحرمة مثلا إنّما يتحقّق التضادّ بينهما بما يحمله كلّ منهما من ملاكات ومبادئ ، وليس بين اعتبار الوجوب والحرمة مجرّدين.

وعلى هذا الأساس كان اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بحيث يكونان متعلّقين بعنوانين متّحدين ذاتا ومصداقا مستحيلا للتضادّ بينهما من جهتين :

الأولى : بلحاظ عالم المبادئ والملاكات ، فإنّ الأمر في هذا العالم : عبارة عن المصلحة والمحبوبيّة ، بينما النهي عبارة : عن المفسدة والمبغوضيّة.

ص: 337


1- ضمن بحث شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ من أبحاث الدليل العقلي تحت عنوان : ما هو الضدّ.

ومن الواضح أنّ اجتماع المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة على شيء واحد ذاتا ومصداقا مستحيل ؛ إذ لا يمكن أن يكون واجدا للمصلحة والمفسدة معا ، أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة معا. ولهذا كان اجتماع الضدّين مع توفّر سائر الحيثيّات والجهات مستحيلا.

الثانية : بلحاظ عالم النتائج والامتثال ، فإنّ الأمر يتطلّب من المكلّف التحرّك نحو الفعل ولزوم إيجاد متعلّقه وتحقيقه ، بينما النهي يتطلّب من المكلّف الامتناع والانزجار عن الفعل بمعنى عدم إيجاده وتحقيقه.

ومن الواضح أنّ المكلّف لا يمكنه في آن واحد أن يتحرّك نحو إيجاد شيء ولا يتحرّك نحوه ؛ لأنّ قدرة المكلّف إمّا أن يصرفها في هذا أو ذاك ولا يمكنه أن يصرفها فيهما معا ؛ لضيق قدرته عن ذلك ، فيمتنع اجتماعهما لذلك.

ولا يقال هنا بأنّ المكلّف لمّا كانت قدرته لا تتّسع إلا لأحدهما فقط فيكون مأمورا بكلا التكليفين على نحو الترتّب ، بمعنى أنّه إذا عصى الأهمّ أو المساوي كان الآخر فعليّا ، كما هو الحال في سائر الموارد التي تضيق قدرة المكلّف عن امتثال التكليفين كالصلاة والإزالة حيث يكون مأمورا بهما بنحو الترتّب ، أي مشروطا بترك أو عصيان الأهمّ أو المساوي.

لأنّه يجاب عن ذلك : أنّ الترتّب إنّما يمكن فرضه فيما إذا كان هناك تكليفان متعلّقان بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا كالصلاة والإزالة ، فإنّ الصلاة مغايرة للإزالة مفهوما ومصداقا ، غاية الأمر أنّ المكلّف لمّا ضاق وقت الصلاة لم يمكنه إلا امتثال أحدهما فضاقت قدرته عن امتثالهما معا لذلك ، وإلا فلو كان الوقت متّسعا لامتثلهما معا من دون أي محذور.

وأمّا هنا فالأمر والنهي لمّا كانا متعلّقين بشيء واحد من جهة المفهوم والمصداق ، فضيق قدرة المكلّف ثابتة سواء كان الوقت متّسعا أم ضيّقا ؛ لأنّ التمانع والتضادّ بينهما في هذه الحالة ذاتي وليس عرضيّا ، ولذلك لا يمكن أن يكلّف بهما ولو بنحو مشروط ؛ لأنّ أحدهما ضروري الوقوع والتحقّق ، فإنّه إمّا أن يتحرّك أو لا يتحرّك ولا يوجد شيء آخر بينهما ، بخلاف الإزالة والصلاة فإنّه يمكنه مخالفتهما معا بأن يفعل شيئا آخر غير الصلاة والإزالة.

ص: 338

والحاصل : أنّ الملاك في التضادّ بين الأمر والنهي أحد أمرين :

الأوّل : التنافي والتضادّ بلحاظ المبادئ والملاكات ، أي المصلحة والمفسدة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة.

الثاني : التنافي والتضادّ بلحاظ الامتثال والنتائج أي البعث والزجر على شيء واحد لضيق قدرة المكلّف.

وعلى هذا الأساس إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه - من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) - كان الدليلان متعارضين ؛ للتنافي بين الجعلين بسبب التضادّ في عالم الملاك أوّلا ، وبسبب ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم إمكان الترتّب ثانيا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الأساس ، ولكن قد نفترض بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين حقّا على شيء واحد ، فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما. ويمكن تلخيص تلك الخصوصيّات فيما يلي :

موضوع البحث : ذكرنا أنّ اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ممتنع. وعليه فنقول : إنه إذا دلّ دليل على الأمر بشيء ودلّ دليل آخر على النهي عنه كان الدليلان متعارضين ؛ لامتناع اجتماعهما.

فإذا ورد الأمر بالصلاة يوم الجمعة بصلاة الجمعة وورد النهي عن هذه الصلاة في يوم الجمعة أيضا كانا متعارضين ؛ لتحقّق كلا الملاكين للتضادّ ؛ أمّا الملاك الأوّل فلأنّ الأمر يحمل مبادئ المصلحة والمحبوبيّة بينما النهي يحمل مبادئ المفسدة والمبغوضيّة ، ولا يمكن أن تكون صلاة الجمعة واجدة للمصلحة والمفسدة أو للمحبوبيّة والمبغوضيّة في آن واحد.

وأمّا الملاك الثاني فلأنّ الأمر يتطلّب التحرّك نحو إيجاد الفعل ؛ لأنّه عبارة عن البعث والإرسال بينما النهي يتطلّب الانزجار وعدم التحرّك نحو الفعل ؛ لأنّه عبارة عن الزجر والإمساك. ولا يمكن للمكلّف أن يمتثلهما معا لضيق قدرته عن التحرّك وعدم التحرّك في آن واحد نحو شيء واحد.

والحال أنّ الترتّب بينهما ممتنع لأنّ شرطيه - وهما التغاير بين التكليفين في العنوان

ص: 339

والمصداق وعدم كون أحدهما ضروري الوقوع - غير متحقّقين في المقام ، فلا يمكن التكليف بهما معا ولو بنحو مشروط.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال ولا كلام فيه عند أحد من الأصوليّين ، وليس هو محلّ البحث والنزاع بينهم. وإنّما الكلام فيما إذا كان هناك بعض الخصوصيّات في الأمر والنهي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين على شيء واحد ، فإنّه يبحث في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

ولتوضيح هذا نقول :

تارة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متّحدين ذاتا ومصداقا أي متّحدين بلحاظ المفهوم وبلحاظ المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ ) فهنا لا إشكال في الامتناع ونشوء التعارض بينهما ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

وأخرى يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومصداقا أي متغايرين من حيث المفهوم ومن حيث المصداق ، كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تشرب الخمر ) فإنّه لا إشكال في إمكان اجتماعهما ؛ لأنّ مبادئ الأمر متعلّقة بغير ما تعلّقت به مبادئ النهي ؛ ولأنّ المكلّف يقدر على الصلاة وعلى عدم شرب الخمر. فهنا لا إشكال في صدور مثل هذين التكليفين ، وهذا خارج عن محلّ الكلام أيضا.

وثالثة يكون الأمر والنهي متعلّقين بموضوعين متغايرين ذاتا ومفهوما ولكنّهما متّحدين مصداقا. كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) أو قيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ). فهنا وقع البحث والنزاع بين الأصوليّين في كفاية ذلك لزوال الامتناع والتعارض أو عدم كفايته.

فإذا صلّى المكلّف في الحمام أو في المكان المغصوب ، فهل يكون الأمر والنهي مجتمعين على شيء واحد ليقال بالامتناع والتعارض ، أو أنّ التغاير العنواني يكفي في نفسه أو لا يكفي إلا إذا أدّى إلى التغاير في المعنون؟ ومن هنا اتّجه البحث الأصولي حول هذه المسألة بقسميها :

الأوّل : في التغاير العنواني بنحو الأمر بالإطلاق والنهي عن الحصّة.

الثاني : في التغاير العنواني بنحو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه ، أي التباين في المفهوم والاتّحاد في المصداق ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 340

الخصوصيّة الأولى : أن نفترض تعلّق الأمر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها ، وتعلّق النهي بحصّة معيّنة من حصصها ، من قبيل ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ).

وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد. ولا شكّ في أنّ ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين الامتثالين ؛ وذلك لأنّه إذا كان بإمكان المكلّف أن يصلّي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين.

وإنّما المهمّ تحقيق حال السبب الأوّل للتنافي وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله أيضا ؛ لأنّ الوجوب بمبادئه متعلّق بالجامع ولا يسري إلى الحصّة ، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصّة ، فلم يتّحد المعروض لهما.

الخصوصيّة الأولى : فيما إذا كان الأمر متعلّقا بالجامع البدلي والنهي متعلّق بحصّة معيّنة منه.

كما إذا قيل : ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمّام ) ، فهنا الأمر متعلّق بالطبيعة ، وهي بعد إجراء الإطلاق فيها ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة على نحو البدليّة ، بحيث تشمل أفرادا وحصصا من الصلاة في عمود الزمان الممتد من الزوال إلى الغروب ، ويكون المطلوب فردا واحدا وحصّة واحدة من هذه الحصص ، وهكذا يثبت إطلاقها بلحاظ المكان أيضا ، فأيّة حصّة في أي مكان أو زمان تعتبر مصداقا للمأمور به ، ولذلك يحكم العقل بالتخيير بين أفرادها وحصصها. ولم يكن إطلاقها شموليّا للعلم من الخارج بأنّه لا تجب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة.

بينما النهي متعلّق بحصة خاصّة منها وهي الصلاة في المكان المعيّن أي الصلاة في الحمام دون سائر الحصص الأخرى.

وهنا يبحث في كفاية التغاير العنواني بين متعلّق الأمر والنهي ؛ لأنّ الأمر متعلّق بالإطلاق والنهي متعلّق بالتقييد ، فهل الاختلاف في الإطلاق والتقييد يكفي لدفع غائلة التضادّ واجتماع الأمر والنهي على شيء واحد أم لا؟

وللإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ من ملاحظة الملاكين السابقين والذي كان الامتناع مبنيا على تحقّق أحدهما ، فنقول :

ص: 341

أمّا الملاك الثاني وهو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين بلحاظ عالم الامتثال والمتطلّبات فهو غير وارد هنا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه أن يجمع بين الامتثالين فيصلي في مكان آخر غير ما تعلّق به النهي ، فيكون قد جمع بين التكليفين ممّا يعني أنّه قادر على امتثالهما معا من دون أي محذور.

وأمّا الملاك الأوّل وهو التنافي والتضادّ بين الأمر والنهي بلحاظ الملاكات والمبادئ.

فقد يقال بأنّ هذا الملاك منتف أيضا ؛ وذلك لأنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع - والمفروض أنّه لا يسري إلى الفرد أو الحصّة - فسوف تكون مبادئ الأمر من المصلحة والمحبوبيّة متعلّقة بالجامع ، والنهي لمّا كان متعلّقا بالفرد أو الحصّة المعيّنة فسوف تكون مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة متعلّقة بالفرد أو الحصّة.

ولكن حيث إنّ الأمر والنهي يعرضان على الصورة الذهنيّة المفروضة والمقدّرة الوجود بما هي حاكية عن الخارج ، فمتعلّق الأمر حيث إنّه متعلّق بالجامع فهو لا يري إلا الطبيعة مجرّدة. بينما متعلّق النهي يري الحصّة أو الفرد مع المشخّصات الخارجيّة.

ومن الواضح أنّ الطبيعة كصورة مرئيّة بالجامع غير الفرد المشخّص المرئي بالتقييد. وعليه ، فيكون متعلّق الأمر والنهي متغايرين ليس فقط بلحاظ المفهوم ، بل بلحاظ ما ينطبق عليه المفهوم ، وحينئذ لا تكون مبادئهما قد اجتمعت على شيء واحد.

وبعبارة أخرى : أنّ المعروض للأمر والنهي مختلف فمعروض الأمر هو الجامع البدلي وهو لا ينطبق إلا على الطبيعة ، بينما معروض النهي هو الحصّة أو الفرد وهو لا ينطبق إلا على الفرد مع المشخّصات الخارجيّة ، فلا يلزم اجتماع المبادئ والملاكات على شيء واحد ؛ لعدم اتّحاد معروضهما.

إلا أنّ السيّد الشهيد يعلّق على هذا القول بقوله :

وهذا مبنيّ على بحث تقدّم في التخيير العقلي ، وأنّه هل يستبطن تخييرا شرعيّا ووجوبات مشروطة للحصص ولو بلحاظ عالم المبادئ؟

فإن قيل باستبطانه ذلك لم يجد اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد في التغلّب على السبب الأوّل للتنافي ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه إلى الحصص.

وإن أنكرنا الاستبطان المذكور اتّجه القول بعدم التنافي وجواز الأمر بالمطلق

ص: 342

والنهي عن الحصّة.

ويلاحظ على الافتراض المذكور أنّه مبنيّ على ما هو المختار في مسألة التخيير العقلي حيث يوجد فيها قولان ، هما :

القول الأوّل : أنّ التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، فهناك وجوب واحد ومتعلّق واحد ، وهذا الوجوب لا يسري من الجامع إلى الأفراد والحصص ؛ لأنّ السريان القهري ممنوع حيث إنّ الجعل والإيجاب فعل اختياري للجاعل ، والسريان الاختياري لازمه القول بالوجوبات المشروطة للحصص والأفراد وهي مستحيلة ؛ لاستلزامها تعدّد العقاب حال ترك الجميع لفعليّة كلّ منهما في هذا الفرض ، أو لعدم تحقّق الامتثال حال التقارن.

القول الثاني : أنّ التخيير العقلي يرجع إلى التخيير الشرعي ، فيكون مرجع تعلّق الأمر بالجامع إلى تعلّقه بكلّ حصّة منه بنحو مشروط ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري إلى الفرد. أو يقال - كما اختاره السيّد الشهيد - أنّ السراية من الجامع إلى الفرد لا تكون بلحاظ الحكم والوجوب وإنّما بلحاظ المبادئ ، فمن أحبّ الجامع أحبّ أفراده بنحو مشروط لا محالة.

فعلى القول الأوّل ، يقال هنا : إنّ الأمر لمّا تعلّق بالجامع والجامع لا يسري إلى الفرد ، فسوف يكون متعلّق الأمر مغايرا لمتعلّق النهي سواء في ذلك عالم الإيجاب والمبادئ. فيندفع محذور اجتماع الأمر والنهي بلحاظ المبادئ.

وأمّا على القول الثاني ، فسوف يكون الفرد واجدا لوجوب مشروط أو على الأقلّ فيه محبوبيّة مشروطة ، وحينئذ يكون متعلّق الأمر ومتعلّق النهي متّحدين بلحاظ المبادئ أو الإيجاب ؛ لأنّ الحصّة المنهي عنها قد سرى الوجوب أو المحبوبيّة إليها أيضا فيلزم المحذور (1).

ص: 343


1- وحيث إنّ السيّد الشهيد قبل هناك دعوى وجدانيّة الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فلا محالة سوف يختار هنا امتناع اجتماع الأمر والنهي ، والنتيجة على ضوء ذلك هي كون دليل النهي مقيّدا لدليل الأمر بالجامع في غير الحصّة التي تعلّق بها النهي. بينما لو اخترنا القول الأوّل فاجتماع الأمر والنهي لمّا كان جائزا في هذا المورد _ أي تعلّق الأمر بالجامع والنهي بالحصّة _ فالمكلّف إذا جاء بالجامع ضمن الحصّة التي تعلّق بها النهي يكون ممتثلا من جهة وعاصيا من جهة أخرى.

هذا هو التصوّر الصحيح للمسألة ، غير أنّه يوجد تصوّر آخر ذكره الميرزا ولذلك قال :

غير أنّ مدرسة المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) برهنت على التنافي بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة بطريقة أخرى منفصلة عن الاستبطان المذكور وهي :

إنّ الأمر بالمطلق يعني أنّ الواجب لوحظ مطلقا من ناحية حصصه ، والإطلاق مؤدّاه الترخيص في تطبيق الجامع على أيّة واحدة من تلك الحصص ، وهذا متعدّد بعدد الحصص ، وعليه فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة المنهيّ عنها ينافي هذا النهي لا محالة ؛ لأنّ نفس الحصّة معروضة لهما معا.

فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة والأمر بالمطلق ، بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن إطلاق متعلّق الأمر.

ذهب الميرزا ومدرسته إلى امتناع الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة لاستلزامه اجتماع النهي والترخيص معا ، وهما متضادّان سواء في عالم المبادئ والملاكات أم في عالم الامتثال والمتطلّبات والقدرة.

وبيان ذلك أن يقال : إنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالجامع وبالطبيعة بنحو صرف الوجود أي الإطلاق البدلي ، فهذا يعني أنّ الواجب وهو ما تعلّق به الأمر مطلق أيضا ، وهنا العقل ينتزع من هذا الإطلاق جواز تطبيق الجامع أو الطبيعة على أيّ فرد أو حصّة ، فهو يرخّص للمكلّف في تطبيق الجامع على هذا أو ذاك ، فهو ترخيص يشمل تمام الأفراد والحصص.

وحينئذ نقول : إنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد شملها هذا الترخيص والجواز ، ممّا يعني أنّها منهيّ عنها وفي نفس الوقت يجوز فعلها ؛ لأنّ العقل قد رخّص في تطبيق الجامع عليها. ومن الواضح أنّ اجتماع النهي مع الجواز أو الترخيص كاجتماعه مع سائر الأحكام التكليفيّة ممتنع في نفسه بلحاظ المبادئ والملاكات.

وبتعبير آخر : إنّ التنافي بلحاظ المبادئ والملاكات لا يكون أوّلا وبالذات بين الأمر والنهي ؛ لأنّنا لا نقول بسراية الوجوب أو الحبّ من الجامع إلى الفرد ، وإنّما هو بلحاظ ما يستلزمه الأمر بالجامع عقلا من جواز تطبيق الجامع على كلّ أفراده على حدّ واحد

ص: 344


1- راجع فوائد الأصول 2 : 435 - 436.

حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي ، فتكون هذه الحصّة معروضة للنهي وللجواز معا ، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي ثانيا وبالعرض بلحاظ هذا المدلول الالتزامي.

والنتيجة هي تقييد متعلّق الأمر بغير الحصّة التي تعلّق بها النهي.

والفرق بين إثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه وإثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقا : أنّه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تناف بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصّة من حصصه ؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الترخيص. وبهذا فسّر الميرزا كراهة الصلاة في الحمّام وأمثالها.

وأمّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقا فالتنافي واقع بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة ، سواء كان تحريميّا أو كراهيّا.

الفارق بين المسلكين :

تقدّم المسلك الذي يختاره السيّد الشهيد من أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة والجامع بنحو البدل وصرف الوجود يستبطن تخييرا شرعيّا بلحاظ المبادئ ، وعلى أساسه يقال بالامتناع.

بينما اختار الميرزا طريقا آخر وهو دعوى وجود دلالة التزاميّة عقليّة من الأمر بالجامع ، وهي جواز تطبيق الجامع على كلّ حصّة حصّة من أفراده وحصصه. وعليه أيضا يقال بالامتناع.

إلا أنّه مع ذلك يوجد فارق بينهما وهو أنّه على مسلك الميرزا لا يحكم بالامتناع إلا إذا كان النهي تحريميّا ؛ لأنّ النهي التحريمي يمتنع اجتماعه مع الجواز.

وأمّا إذا كان النهي كراهيّا كما في الصلاة في الحمام أو صوم يوم عاشوراء ، فما ذكره من دليل لا يتمّ ؛ لأنّ الكراهة تجتمع مع الجواز ؛ لأنّ معنى الكراهة جواز الفعل والترك مع كون الترك أولى أو أفضل. ولذلك ذكر هذا الوجه في تفسير كراهة العبادة ، ولم يذكره هنا وإنّما ذكرته مدرسته.

بينما على المسلك المتقدّم والذي اختاره السيّد الشهيد ، من دعوى الملازمة الوجدانيّة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، فالامتناع يشمل ما إذا كان النهي تحريميّا أم كراهيّا من دون فرق بينهما ؛ لأنّ الكراهة بلحاظ المبادئ تعني وجود المفسدة أو الحزازة ، والمفسدة والمصلحة لا يمكن اجتماعهما معا على شيء واحد.

ص: 345

وحينئذ يحتاج تخريج كراهة العبادة إلى علاج آخر كقيام الإجماع ونحوه على ثبوت الكراهة في العبادة.

وهكذا أيضا لو قيل بأنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوبات مشروطة بعدد الحصص والأفراد ، فإنّ الحصّة المنهي عنها سوف تكون متعلّقة للأمر والنهي معا ، وهما متضادّان بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال أيضا وضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما.

ولكنّ التحقيق : أنّ طريقة الميرزا هذه في إثبات التنافي غير وجيهة ؛ لأنّ الإطلاق ليس ترخيصا في التطبيق ولا يستلزمه.

أمّا إنّه ليس ترخيصا فلأنّ حقيقة الإطلاق - كما تقدّم (1) - عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عند ما يراد جعل الحكم عليها.

وأمّا أنّه لا يستلزم الترخيص ، فلأنّ عدم لحاظ القيد إنّما يستلزم عدم المانع من قبل الأمر في تطبيق متعلّقه على أيّة حصّة من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء وعدم المانع من قبل جاعل الأمر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلا هو الثاني دون الأوّل.

وعلى أيّة حال فإذا تجاوزنا هذه الخصوصيّة وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف بالإطلاق والتقييد بين المتعلّقين نصل حينئذ إلى الخصوصيّة الأخرى كما يلي.

والتحقيق أن يقال : إنّ ما ذكره الميرزا أو مدرسته من البرهان على الامتناع غير تامّ ، وذلك لعدم تماميّة ما ذكره من الملازمة العقليّة بين ثبوت الأمر بالجامع وبين الترخيص في التطبيق على الأفراد.

وتوضيحه : أنّ الميرزا ذكر أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلّق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، فإنّ هذا الأمر يقتضي الترخيص في إيجاد الطبيعة في ضمن أيّة حصّة ، بمعنى أنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة في تطبيق الجامع والطبيعة على كلّ أفراده ، حتّى الحصّة التي تعلّق بها النهي.

ص: 346


1- في بحث الإطلاق من أبحاث تحديد دلالات الدليل الشرعي ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

ومن هنا فإذا كان النهي المتعلّق بالحصّة المعيّنة نهيا كراهيّا أو تنزيهيّا فلا تنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ النهي يقتضي الرخصة أيضا.

وأمّا إذا كان النهي تحريميّا فيقع التنافي بين الرخصة المستفادة من إطلاق الأمر وبين عدم الرخصة في إتيان تلك الحصّة الخاصة المستفادة من النهي فيحصل التدافع بينهما.

وحينئذ نقول : ما هو المقصود من قوله : ( إنّ الأمر بإطلاقه يقتضي الرخصة ... )؟ ، فهل مقصوده من ذلك أنّ الإطلاق نفسه معناه الرخصة في تطبيق الجامع على الأفراد ، أو أنّ الإطلاق يستلزم الترخيص المذكور؟

فإن قيل : إنّ الإطلاق معناه الترخيص ، فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ الإطلاق كمفهوم ذهني معناه عدم لحاظ القيد مع الطبيعة على ما هو الصحيح ، أو لحاظ الطبيعة مجرّدة عن القيد كما هي مقالة السيّد الخوئي من أنّه رفض القيد.

وإن قيل : إن الإطلاق يستلزم الترخيص ، فهذا وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنّنا نتساءل مجدّدا فيما هو المراد من الترخيص ، فهل المراد منه الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة أو هو الترخيص الوضعي؟

فإذا كان المراد من الترخيص الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة فما ذكره الميرزا صحيح ؛ لأنّ الترخيص التكليفي يكون من قبل الجاعل والشارع ، ممّا يعني أنّ الحصّة التي تعلّق بها النهي قد تعلّق بها الترخيص التكليفي من قبل الشارع أيضا ، فيلزم التنافي بين الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر وبين عدم الترخيص المستفاد من دليل النهي ، لعدم إمكان اجتماعهما على شيء واحد للتضادّ بين الملاكات والمبادئ فيهما.

وأمّا إذا كان المراد من الترخيص الترخيص الوضعي ، بمعنى أنّ إطلاق الأمر يستفاد منه جواز تطبيق هذا الجامع على أيّة حصّة وفرد منه ، فأيّة حصّة أو فرد من الجامع يأتي به المكلّف يكون صحيحا ومجزيا ويحقّق الامتثال. وهذا معناه أنّ الأمر المتعلّق بالجامع بنحو صرف الوجود لا يأبى ولا يوجد أي مانع من قبله في تطبيق هذا الجامع على أي فرد من أفراده ، فعلى هذا لا تتمّ مقالة الميرزا ؛ لأنّ هذا الترخيص إنّما هو حكم عقلي منتزع من الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، ولا

ص: 347

يتضمّن أيّة مبادئ أو ملاكات ، فلا يقع التنافي بين الأمر بالجامع وبين النهي عن الحصّة.

والصحيح هو : أنّ الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع بنحو صرف الوجود هو الترخيص الوضعي أي الترخيص المستفاد من قبل الأمر نفسه وليس الترخيص التكليفي المستفاد من جاعل الأمر ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّه يرى أن الأمر لمّا تعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود فالمراد هو إيجاد الطبيعة في الخارج وإيجادها كذلك يتحقّق ضمن أي فرد من أفرادها على حدّ سواء فلا مانع من تطبيقها على أي فرد من أفرادها ، وكذلك فيما لو تعلّق النهي بالطبيعة فإنّ العقل يحكم بأنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام تمام أفرادها ، وهكذا نلاحظ أنّ العقل هو الذي يحكم بذلك ؛ لأنّ الترخيص إنّما كان بلحاظ عالم الامتثال لا بلحاظ عالم الجعل والتشريع.

وبهذا يظهر أنّ هذه الخصوصيّة أي ( تعلّق الأمر بالجامع البدلي وتعلّق النهي بالحصّة المعيّنة ) لا توجب زوال التنافي بين الأمر والنهي ، بناء على مسلك الميرزا وبناء على ما اخترناه من كون التخيير العقلي يستبطن الملازمة بين حبّ الجامع وحبّ أفراده بنحو مشروط ، أو أنّه يستبطن الوجوبات المشروطة بناء على القول الآخر.

وأمّا إذا قلنا بأنّ التخيير العقلي لا يستبطن هذه الملازمة لا في عالم الحبّ ولا في عالم الإيجاب ولم نقبل طريقة الميرزا أيضا ، فسوف تكون هذه الخصوصيّة وافية لمنع التنافي ؛ لأنّ مبادئ الأمر تكون في الجامع ولا تسري إلى الفرد بينما مبادئ النهي والحرمة تكون في الحصّة المعيّنة ، والنتيجة هي أنّه لو أتى بالحصّة المنهي عنها لكان امتثالا من جهة وعصيانا من جهة أخرى. ولا يلزم التقييد لعدم التنافي بينهما.

وبهذا ينتهي البحث حول الخصوصيّة الأولى.

الخصوصيّة الثانية : أن نفترض تعدّد العنوان وتعلّق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، وتعدّد العنوان قد يسبّب جواز الاجتماع ورفع التنافي بأحد وجهين :

الأوّل : أن تعدّد العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.

والثاني : دعوى الاكتفاء بمجرّد تعدّد العنوان في دفع التنافي ، مع الاعتراف بوحدة المعنون والوجود خارجا.

ص: 348

الخصوصيّة الثانية : فيما إذا كان العنوانان متغايرين مفهوما مع اتّحادهما مصداقا ، كما إذا تعلّق الأمر بالصلاة وتعلّق النهي بالغصب ، فقيل : ( صلّ ) و ( لا تغصب ) فإنّهما عنوانان متغايران ذاتا ؛ لأنّ المفهوم مختلف فيهما ، ولكن بلحاظ الصدق الخارجي النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فيجتمعان في الصلاة في الأرض المغصوبة.

إذا فالبحث هنا مورده حالة الاجتماع لا الافتراق ، فهل يكفي التغاير العنواني والمفهومي أو لا يكفي؟

قد يقال : إنّ التغاير العنواني إذا أدّى إلى التغاير في المعنون فهو يكفي لرفع التنافي ، إذ ما دام الوجود الخارجي متغايرا فلن يتحقّق الاجتماع أصلا.

وقد يقال : إنّ التغاير العنواني يكفي سواء أدّى إلى تعدّد المعنون أم كان المعنون واحدا في الصدق الخارجي.

أمّا الوجه الأوّل ، فهو إذا تمّ يرفع التنافي بكلا تقريبيه ، أي بتقريب استبطان الأمر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة المنافي للنهي ، إذ مع تعدّد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين.

الوجه الأوّل : أنّ تعدّد العنوان يؤدّي إلى تعدّد المعنون.

وتقريبه أن يقال : إنّ تعدّد العنوان إذا كان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج ، فهذا معناه أنّ ما هو موجود في الخارج شيئان لا شيء واحد ، غايته أنّ أحدهما انضمّ إلى الآخر فكان التركيب بينهما انضماميّا لا اتّحاديّا. ففي مثل ( صلّ ) و ( لا تغصب ) إذا صلّى المكلّف في الأرض المغصوبة ففي الخارج يوجد فعلان أحدهما الصلاة والآخر الغصب إلا أنّهما انضمّا معا.

وحينئذ يقال : إنّ الحبّ ومبادئ الأمر تعلّقت بالحيثيّة الصلاتيّة بينما البغض وملاكات النهي تعلّقت بالحيثيّة الغصبيّة ، وهاتان حيثيّتان متغايرتان بحسب الصدق الخارجي فلا يلزم الاجتماع.

وأمّا متى يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون في الخارج؟

فهذا جوابه - كما عن الميرزا - : أنّ العنوانين إذا كانا من العناوين المبدئيّة ( أي

ص: 349

العناوين التي هي مبدأ الاشتقاق كالطول فإنّه مبدأ لاشتقاق الطويل والضحك والعلم ، فإنّهما المبدأ لاشتقاق الضاحك والعالم ) وكانت النسبة بينهما هي العموم من وجه فيكون في مورد الاجتماع ما به تحقّق هذا العنوان مغايرا لما به تحقّق العنوان الآخر ، بدليل أنّنا إذا أخذنا عنوانين مبدئيّين النسبة بينهما هي العموم من وجه ولاحظنا موردي الافتراق فيكون لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للآخر.

وأمّا بلحاظ مورد الاجتماع فإن كان لكلّ منهما ماهيّة وحقيقة مباينة للأخرى فهو المطلوب ؛ لأنّه يثبت في الخارج وجود حقيقتين متباينتين ، غايته انضمّت إحداهما إلى الأخرى ، وإن كانت لهما ماهيّة وحقيقة واحدة ، فهذا لازمه أن يكون لكلّ منهما حقيقتان :

إحداهما في مورد الافتراق : وهي توجب المباينة والمغايرة مع الأخرى.

والثانية في مورد الاجتماع : وهي توجب الاتّحاد والوحدة في الوجود ، وهذا اللازم مستحيل ؛ لأنّ العنوان ليس فيه إلا مقولة ماهويّة واحدة ، فيتعيّن الأوّل وبه يثبت عدم تحقّق الاجتماع في مصداق واحد ، وإنّما لكلّ عنوان مصداقه الخارجي انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وفي مقامنا نقول : إنّ ( الغصب ) و ( الصلاة ) من العناوين المبدئيّة ؛ لأنّه يشتقّ منهما المصلّي والغاصب ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه ، فيكون مورد اجتماعهما مركّبا من مصداقين انضمّ أحدهما إلى الآخر.

وعلى هذا الأساس سوف تنحلّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي بكلا التقريبين :

أمّا التقريب القائل بأنّ الامتناع منشؤه كون الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة للحصص ففي كلّ حصّة وجوب مشروط ، أو على الأقلّ يستبطن الأمر بالجامع الحبّ المشروط للأفراد. فهنا الأمر بالصلاة معناه وجوب كلّ فرد فرد منها مشروطا بترك البقيّة أو معناه تعلّق الحبّ بكلّ فرد منها مشروطا بترك البقيّة ، والنهي عن الغصب لمّا كان شموليّا بمعنى أنّه ينحلّ إلى كلّ فرد فرد من أفراد الغصب فكلّ فرد فيه حرمة ؛ لأنّ النهي عن الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها إذ لو وجد فرد منها لم تكن منعدمة. وحينئذ ففي مورد الاجتماع سوف يكون هذا المصداق متعلّقا للأمر الصلاتي وللنهي عن الغصب وفيه مبادئ الأمر ومبادئ النهي فيمتنع.

ص: 350

وهذا جوابه : أنّ ما هو موجود في الخارج لمّا كان متعدّدا فيكون الأمر متعلّقا بالفرد وبالمصداق المغاير لمّا تعلّق به النهي فلا تجتمع مبادئهما على شيء واحد ، فلا وجه للامتناع.

وأمّا التقريب القائل : بأنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد ، وحيث إنّ النهي شمولي ، ففي مورد الاجتماع يكون هذا المجمع مصداقا للجامع المأمور به ومصداقا للغصب المنهي عنه ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي أو يلزم اجتماع الترخيص مع عدم الترخيص المستفاد من الأمر بالجامع والنهي عن الحصّة.

وهذا جوابه : ما تقدّم من أنّه في الخارج يوجد مصداقان لا مصداق واحد فلا يلزم اجتماع الترخيص وعدم الترخيص على شيء واحد ، بل لكلّ منهما مصداقه الخاصّ به.

وبهذا يظهر أنّ هذا الوجه يحلّ مشكلة الامتناع بكلا تقريبيها ، هذا فيما إذا كان تامّا في نفسه ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن الإشكال في تماميّة هذا الوجه ، إذ لا برهان على أنّ مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون خارجا ؛ لأنّ بالإمكان انتزاع عنوانين من موجود خارجي واحد.

نعم ، إذا ثبت أنّ العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء تمثّل حقيقيته النوعيّة ، فمن الواضح أنّ تعدّده يساوق تعدّد الشيء خارجا ؛ إذ لا يمكن أن يكون للشيء الخارجي الواحد ماهيّتان نوعيّتان ، ولكن ليس كلّ عنوان يشكّل الماهيّة النوعيّة لمعنونه ، بل كثيرا ما يكون من العناوين العرضيّة المنتزعة.

الإشكال على الوجه الأوّل : أنّه لا يوجد برهان يثبت أنّ مجرّد تعدّد العنوان موجب لتعدّد المعنون على إطلاقه ، بمعنى أنّه ليس دائما تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ؛ وذلك لأنّنا نجد أنّه بالإمكان انتزاع أكثر من عنوان من معنون واحد في الخارج.

فمثلا يمكننا انتزاع عنوان الطويل والعالم والأبيض من زيد الموجود في الخارج ، فلو كان تعدّد العنوان مطلقا موجبا لتعدّد المعنون لكان هذا نقضا عليه ، إذا فالمدّعى أنّ بعض العناوين توجب تعدّد المعنون لا مطلقا.

ص: 351

وهذا يمكن فرضه فيما إذا كان العنوان ماهيّة حقيقيّة للشيء ، أي كان العنوان يمثّل الحقيقة النوعيّة للشيء كالجنس أو النوع أو الفصل ، فإنّه حينئذ يكون الوجود الخارجي متعدّدا بسبب تعدّد العنوان الماهوي النوعي.

فمثلا إذا أمر المكلّف برسم خطّ ونهي عن الانحناء ، فإنّه إذا رسم خطّا منحنيا كان هذا الفعل الخارجي متعدّدا ؛ وذلك لتعدّد العنوان الماهوي ، فإنّ رسم الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه جنس له ما بإزاء في الخارج ، وفعل الانحناء في الخطّ عنوان ماهوي حقيقي ؛ لأنّه فصل للخطّ فهذا له ما بإزاء في الخارج أيضا ، وما دام العنوانان يمثّلان حقيقة نوعيّة فيكون الشيء في الخارج متعدّدا ؛ لأنّه يكون مصداقا لكلا هاتين المقولتين أي الجنس والفصل.

وأمّا إذا كان العنوان من العناوين العرضيّة الانتزاعيّة وهي ( غير الجنس والفصل والنوع ) كمقولة الكيف أو الوضع أو الأين أو المكان والزمان أو الملك أو الإضافة ، فهنا يمكن أن تنتزع هذه العناوين من معنون واحد في الخارج ؛ لأنّ هذه العناوين يمكن عروضها أو انتزاعها من الذات الواحدة البسيطة ؛ وذلك لأنّها لا تشكّل حقيقة ماهويّة للشيء ليقال بتعدّد الحقيقة الماهويّة فيه ، وإنّما هي تعرض على حقيقة ماهويّة واحدة كالإنسان أو الحيوان أو زيد ، حيث تقبل هذه الحقائق عروض أكثر تلك العناوين العرضيّة الانتزاعيّة كما هو واضح.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره الميرزا إنّما يتمّ فيما إذا كان العنوانان من المقولات الماهويّة الحقيقيّة لا غير.

وفي مقامنا الصلاة والغصب وإن كانا من العناوين المبدئيّة ، إلا أنّ هذا لا يخرجهما عن كونهما من الأعراض الانتزاعيّة التي تعرض على مقولة ماهويّة واحدة كالإنسان النوع ، فإنّه ينتزع من فعله الواحد عنوان الصلاة والغصب وغيرهما أيضا ولا يوجب ذلك تعدّد الشيء والمعنون في الخارج ؛ لأنّها ليست حقائق ماهويّة.

وأمّا الوجه الثاني فحاصله : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي مباشرة. فإذا كان العنوان في أفق الذهن متعدّدا كفى ذلك في عدم التنافي.

ص: 352

الوجه الثاني : أنّ تعدّد العنوان يكفي وإن كان المعنون واحدا.

ففي مثال الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، حيث إنّ عنوان الصلاة مغاير ذاتا ومفهوما لعنوان الغصب ؛ وذلك لأنّ عنوان الصلاة عبارة عن تلك الأفعال من قراءة وركوع وسجود ... وإلى آخره ، بينما عنوان الغصب عبارة عن التصرّف في ملك الغير من دون إذنه أو رضاه ، فالمكلّف إذا صلّى في مكان مغصوب تكون صلاته صحيحة ومجزية وفي نفس الوقت يكون عاصيا ؛ لأنّ هذا الفعل حتّى وإن كان واحدا حقيقة ولكنّه ينطبق عليه عنوانان متغايران هما الصلاة والغصب.

والوجه في كفاية تغاير العنوان هو أنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي ، فالأمر متعلّق بعنوان الصلاة بما يحمله من إيجاب وشوق ومحبوبيّة ومصلحة ، والنهي متعلّق بعنوان الغصب بما يحمله من تحريم ومفسدة ومبغوضيّة ، والمفروض أنّهما متغايران ولذلك لم تتّحد مبادئ الأمر والنهي على عنوان واحد.

وأمّا لما ذا كانت الأحكام متعلّقة بالصورة الذهنيّة لا بالوجود الخارجي؟

فهذا جوابه ما تقدّم سابقا في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة وهناك قلنا : إنّ الحاكم لا بدّ أن يصبّ حكمه على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي الموجود في الخارج ؛ وذلك لأنّ الحكم أو الجعل عبارة عن أمر ذهني فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو في الذهن وليس ذاك إلا الصورة الذهنيّة.

ولو قيل بتعلّقه بالموضوع لزم من ذلك عدّة محاذير :

منها : عدم ثبوت الحكم إلا بعد فرض تحقّق الموضوع في الخارج ؛ لأنّ الموضوع سابق على الحكم رتبة ، فإذا تحقّق الموضوع في الخارج كان الأمر به لغوا وتحصيلا للحاصل.

ومنها : يلزم انتفاء الحكم وعدم ثبوته فيما إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج ، ممّا يعني عدم تحقّق المعصية ؛ لأنّ المكلّف لم يخالف الحكم الثابت.

ومنها : كون الحكم داعيا إلى إيجاد متعلّقه وهو الموضوع الخارجي ، والمفروض أنّه متوقّف عليه توقّف الحكم على موضوعه فيلزم التقدّم والتأخّر أو التهافت.

وبهذا ظهر أنّ الأحكام متعلّقة بالعناوين والصور الذهنيّة ، فإذا كانت متغايرة فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد حتّى وإن كان الموضوع الخارجي واحدا.

ص: 353

فإن قيل : إنّ العناوين في الذهن إنّما يعرض لها الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسّط العنوان ، والوجود الخارجي واحد فلا يمكن أن يثبت أمر ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.

كان الجواب على ذلك : أنّ ملاحظة العنوان في الذهن مرآة للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني أنّ الحكم يسري إلى الخارج حقيقة ، وإنّما يعني أنّ العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب لا بما هو صورة ذهنيّة.

إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فهو أنّ الأحكام وإن كانت معروضة أوّلا وبالذات على الصور الذهنيّة لا على الموضوع الخارجي ، إلا أنّها لا بدّ أن تكون معروضة عليها بما هي مرآة وحاكية عن الخارج ثانيا وبالعرض ؛ وذلك لأنّ الجاعل أو الحاكم لا يريد الصورة الذهنيّة والمفهوم بما هو كذلك ، وإلا لزم ألاّ يتحقّق الامتثال في الخارج ؛ إذ يكفي تصوّر ذاك المفهوم لتحقّق الامتثال وهذا واضح البطلان.

وعليه ، فالموضوع الخارجي أو الفرد هو المقصود النهائي من متعلّق الأحكام بالصور والعناوين ، وحينئذ فإن كان الموضوع والمعنون الخارجي واحدا فيلزم اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد وهو مستحيل. وهذا الإشكال طرحه صاحب ( الكفاية ) وغيره.

والحاصل عندهم عدم كفاية تعدّد العنوان ، بل لا بدّ من تعدّد المعنون.

وجوابه : أنّنا نسلّم أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالصور الذهنيّة بوصفها مرآة وحاكية عن الخارج ، إلا أنّ المرآتيّة والحكاية ليست بمعنى تعلّق الأحكام بالأفراد والموضوع الخارجي بتوسّط العنوان والصورة ، وإنّما معنى ذلك أنّ الذهن يدرك الواقع ويراه من خلال هذه الصور والعناوين ؛ لأنّه لا يمكنه أن يتعلّق بالواقع الخارجي مباشرة ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن فلا يتعلّق إلا بما هو موجود في الذهن للزوم السنخيّة.

وهذا معناه أنّ الذهن يلاحظ مفهوم الصلاة بالحمل الأوّلي ، أي بما هي صورة ذهنيّة حاكية عن الخارج ، لا بالحمل الشائع بما هي صورة ذهنيّة قائمة في الذهن

ص: 354

فقط. فهو يريد أن يرى الخارج بتوسّط هذه الصور وهذا لا يكون إلا بتجريد الخارج عن خصائصه ومشخّصاته ، وبتجريد ما في الذهن عن قيوده الذهنيّة ، فحينئذ يكون ما في الذهن عين ما في الخارج وحاكيا عنه ومرآة له.

ولا يلزم من ذلك سريان الحكم إلى الخارج حقيقة ، بل الحكم موضوعه واحد وهو العنوان ، فهناك حكم واحد وموضوع واحد ، إلا أنّ هذا الموضوع الواحد يري الخارج حقيقة بالحمل الأوّلي فيري الصلاة الواقعيّة لا صورة الصلاة فقط.

وهذا الوجه إذا تمّ إنّما يدفع التنافي بالتقريب الأوّل ، أي بدعوى الاستبطان المذكور سابقا ، فإنّ الأمر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوبات مشروطة بعدد الحصص فكلّ وجوب متعلّق بحصّة من حصص الصلاة بهذا العنوان ، لا بها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان.

ثمّ إنّه على القول بتماميّة هذا الوجه وأنّ تعدّد العنوان وحده يكفي حتّى لو كان المعنون واحدا ، فهل يندفع محذور اجتماع الأمر والنهي أو لا؟

والجواب عن ذلك : هو أنّ محذور الامتناع كان له تقريبان :

الأوّل : ما تقدّم من أنّ الأمر بالجامع يستبطن الوجوبات المشروطة بعدد الحصص ، أو أنّ تعلّق الحبّ بالجامع يسري إلى أفراده بنحو مشروط.

الثاني : ما تقدّم عن الميرزا من أنّ الأمر بالجامع يستلزم الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ أفراده وحصصه.

أمّا المحذور الأوّل فيندفع بناء على كفاية تعدّد العنوان ، وذلك أنّنا قلنا : إنّ الجامع يستبطن الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة بعدد الحصص والأفراد ، وهذا يعني أنّ كلّ حصّة وفرد فيه محبوبيّة ووجوب ، ومن ناحية النهي فهو شمولي لكلّ الأفراد والحصص.

فإذا ورد الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب واجتمعا معا في موضوع واحد بأن صلّى في مكان مغصوب ، فهنا إذا قلنا بكفاية تعدّد العنوان ، فسوف يكون هذا الموضوع بوصفه حصّة وفردا من الجامع واجبا أو محبوبا ، وفي نفس الوقت بوصفه حصّة وفردا من متعلّق النهي فسوف يكون مبغوضا وحراما ، إلا أنّ كونه واجبا أو

ص: 355

محبوبا كان لأجل أنّه حصّة من حصص الجامع لا لأجل كونه حصّة من حصص الغصب.

وهكذا العكس ، فلم يتعلّق الوجوب والحرمة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة بحصّة واحدة وفرد واحد ، وإنّما الوجوب والمحبوبيّة متعلّقهما الحصّة الصلاتيّة والحرمة والمبغوضيّة متعلّقهما الحصّة الغصبيّة ، وهما عنوانان متغايران وتعدّد العنوانين يكفي لرفع غائلة التضادّ والتنافي.

إذا لا تنافي بين الوجوبات المشروطة أو المحبوبيّة المشروطة المتعلّقة بالحصص مع النهي ، بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ الإيجاب والتحريم أو المحبوبيّة والمبغوضيّة تتعلّق بالعنوان لا بالوجود الخارجي.

هذا كلّه بالنسبة للمحذور الأوّل.

ولكنّ الوجه المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي أفاده المحقّق النائيني ، وهو المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق ؛ لأنّ إطلاق الواجب لحالة غصبيّة الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيّد بهذه الحالة فهو مناف لتحريم هذه الغصبيّة لا محالة.

وأمّا المحذور الثاني الذي أفاده الميرزا فهذا لا يندفع حتّى لو قلنا بكفاية تعدّد العنوان.

والوجه في ذلك : أنّ دعوى استلزام الأمر بالجامع الترخيص في تطبيق الجامع على كلّ فرد من أفراده ، معناه أنّ كلّ فرد يجوز تطبيق الجامع فيه ، وحيث إنّ النهي شمولي ففي كلّ حصّة وفرد لا يجوز تطبيق متعلّق النهي فيه.

وحينئذ يقال : إنّ الفرد الغصبي من الصلاة ينصبّ عليه عنوانان : أحدهما جواز تطبيق الجامع بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، والآخر عدم جواز تطبيق متعلّق النهي عليه بعنوان كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذا معناه أنّ الفرد الغصبي من الصلاة انصبّ عليه حكمان متضادّان متعلّقان بعنوانه الخاصّ وهو كونه فردا غصبيّا من الصلاة ، وهذان الحكمان المتضادّان هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق ، فيلزم محذور اجتماع الضدّين.

وبتعبير آخر : إنّ الترخيص في التطبيق المستفاد من الأمر بالجامع انصبّ على عنوان غصبيّة الصلاة ، والحال أنّ هذا العنوان نفسه انصبّ عليه عدم الترخيص في التطبيق

ص: 356

المستفاد من النهي الشمولي. فيكون هناك فرد واحد عنوانه الصلاة الغصبيّة موردا لحكمين متنافيين هما الترخيص في التطبيق وعدم الترخيص في التطبيق.

ولا يجدي هنا كون الصلاة بعنوانها مغايرة للغصب بعنوانه بناء على كفاية تعدّد العنوان ؛ لأنّ التنافي لم يكن بلحاظ نفس الصلاة كعنوان ، ونفس الغصب كعنوان آخر مباين للأوّل ذاتا ومفهوما ، وإنّما التنافي هنا بلحاظ ما يستفاد من الأمر بالجامع المتعلّق بالصلاة ومن النهي الشمولي المتعلّق بالغصب ، فإنّ المستفاد من الأوّل جواز تطبيق الجامع على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، والمستفاد من الثاني عدم جواز تطبيق النهي على كلّ فرد فرد ومنها عنوان الفرد الغصبي الصلاتي ، فهذا العنوان الواحد انصبّ عليه حكمان متنافيان فيلزم المحذور.

وبهذا ظهر أنّ هذه الخصوصيّة تتمّ على ما اختاره السيّد الشهيد فيندفع محذور الاجتماع لكفاية تعدّد العنوان. بينما لا تكفي لدفع المحذور بناء على ما اختاره الميرزا من تقريب للتنافي.

الخصوصيّة الثالثة : أن نسلّم بأنّ الخصوصيّتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي ، وأنّ الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن أن يجتمع عليها أمر ونهي بعنوانين ، ولكنّنا نفترض أنّها متعلّقة للأمر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعليّة زمانا ، فيبحث عمّا إذا كان هذا نافعا في دفع التنافي أو لا.

ومثاله المقصود حالة طروّ الاضطرار بسوء الاختيار ، وتوضيحه : أنّ الإنسان تارة يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره ، وأخرى يدخلها بسوء اختياره ، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّا إلى التصرّف في المغصوب بالمقدار الذي يتضمّنه الخروج ، غير أنّ هذا المقدار يكون مضطرّا إليه لا بسوء الاختيار في الحالة الأولى ، ومضطرّا إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية.

ويترتّب على ذلك : أنّ هذا المقدار في الحالة الأولى يكون مرخّصا فيه من قبل الشارع ، خلافا للحالة الثانية ؛ لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسئوليّة والإدانة كما تقدّم (1) ، ولكنّ النهي ساقط على القول المتقدّم بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا.

ص: 357


1- في بحث قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : حالات ارتفاع القدرة.

الخصوصيّة الثالثة : فيما إذا كان الأمر والنهي غير متعاصرين في الفعليّة زمانا.

وهنا تارة يكون الاضطرار إلى الدخول في الأرض المغصوبة باختيار المكلّف بأن دخل باختياره وإرادته إلى الأرض ، وهذا ما يسمّى بالاضطرار بسوء الاختيار حيث اختار المعصية فكان اختياره سيّئا.

وأخرى لا يكون الاضطرار للدخول إلى المغصوب عن اختيار منه بأن أكره أو ألجئ على ذلك ، فهنا رغم إرادته واختياره حصل منه الدخول.

ففي الحالة الأولى لا إشكال في كونه عاصيا بالدخول بخلاف الحالة الثانية ، ولكنّهما يشتركان معا في مسألة وهي أنّه بعد أن تحقّق منه الدخول وصار موجودا في الأرض المغصوبة ، فكونه وبقاؤه في المغصوب يعتبر غصبا أيضا فيكون مأمورا بالخروج من أجل تخليص نفسه من الغصب الزائد ، وهذا الحكم عقلي ؛ لأنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، فلمّا كان تخليص النفس من المعصية واجبا وكان موقوفا على الخروج فيكون الخروج واجبا عقلا ، وعلى أساس الملازمة الشرعيّة بينهما يثبت وجوبه الشرعي أيضا.

وحيث إنّ الخروج يستلزم التصرّف في المغصوب أيضا ؛ لأنّه يتطلّب مقدارا من الزمان والمرور والمشي في المغصوب ، فيكون هذا التصرّف الغصبي الذي يستلزمه الخروج مضطرّا إليه المكلّف. نعم ، في حالة دخوله بسوء اختياره يكون هذا الاضطرار أيضا بسوء الاختيار بخلاف الدخول لا عن اختيار ، فإنّه يكون اضطرارا لا عن سوء اختيار.

والنتيجة هنا : هي أنّ المكلّف لمّا كان دخوله بسوء اختياره فيكون اضطراره إلى التصرّف الغصبي الزائد الذي يحتاجه الخروج الواجب عقلا أو عقلا وشرعا من سوء اختياره أيضا.

وقد تقدّم فيما سبق أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي التكليف عقابا وإدانة.

نعم ، هو ينافي التكليف خطابا ، بمعنى أنّه يستحقّ العقوبة ويكون مدانا ولكنّ الخطاب والتكليف من وجوب أو حرمة لا يشمله ؛ لأنّه مقيّد بالقدرة ، وهو هنا غير قادر على ترك الغصب كما هو واضح.

بخلاف ما إذا كان دخوله لا عن اختيار منه فإنّ هذا التصرّف الغصبي الزائد كما لا تكليف فيه كذلك لا إدانة ولا عقوبة عليه.

ص: 358

إذا الدخول بسوء الاختيار يؤدّي إلى كون التصرّف الغصبي الزائد حال الخروج الواجب فيه مسئوليّة وإدانة وعقوبة وإن كان النهي والتحريم ساقطا بلحاظ هذا المقدار ؛ لأنّه مضطرّ إليه فلا قدرة له على الإطاعة وإن كان موجودا من أوّل الأمر.

بينما الدخول لا عن اختيار لا يؤدّي إلى العقوبة والإدانة كما لا يؤدّي إلى التحريم والنهي ، بل هنا المقدار مرخّص فيه من أوّل الأمر. ويترتّب على هذا نتيجة فقهيّة مهمّة ، وهي :

وعليه ، فلو كان وقت الصلاة ضيّقا وكان بإمكان المكلّف أن يصلّي حال الخروج بدون أن تطول بذلك مدّة الخروج ، فصلّى بنفس خروجه ، فهذه صلاة في المكان المغصوب.

ولا شكّ في وجوبها في الحالة الأولى ؛ لأنّ الخروج باعتباره مضطرا إليه لا بسوء الاختيار غير منهيّ عنه منذ البدء.

وأمّا في الحالة الثانية ، فقد يقال بأنّها منهيّ عنها ومأمور بها ، غير أنّ النهي والأمر غير متعاصرين زمانا ، ومن هنا جاز ثبوتهما معا ؛ وذلك لأنّ النهي سقط خطابا بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقابا وإدانة ، والأمر توجّه إلى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي ، فلم يجتمعا في زمان واحد.

الصلاة حال الخروج : فتارة يفرض سعة الوقت للصلاة بعد الخروج من المغصوب ، فهنا تجب الصلاة بعد الخروج ؛ لأنّه ليس مضطرّا للصلاة في المغصوب حينئذ ؛ لأنّ الأمر بالصلاة لمّا كان بدليّا فهو لا يتعيّن بهذا الفرد أو ذاك ، فإذا كان هناك مانع من تعلّقه بالفرد المعيّن ككونه غصبا - كما هنا - فإنّه لا يكون متعلّقا به ومنصرفا إلى غيره من الأفراد التي لا يوجد فيها أي مانع ولا محذور. ولكنّه لو صلّى في المغصوب حال الخروج مع سعة الوقت فهل صلاته صحيحة أم لا؟

والجواب : أنّ صلاته في المغصوب لو كانت أقلّ كمالا أو مساوية في الكمال للصلاة خارجه فهي باطلة ، كما لو كانت الصلاة في المغصوب إيمائيّة والصلاة خارجه اختياريّة أو كانتا معا إيمائيّتين أو اختياريّتين.

وإن كانت الصلاة في المغصوب أكمل بأن كانت اختياريّة وكانت الصلاة خارجه إيمائيّة ، فهنا إن استلزمت المكث الزائد عن الخروج فهي باطلة ، وإن لم تستلزم

ص: 359

المكث الزائد كما إذا صلّى الصلاة الاختياريّة حال الخروج وهو على ظهر مركب مثلا فهي صحيحة. وهذا الفرض بشقوقه لم يذكره السيّد الشهيد هنا وإنّما اقتصر على الشقّ الثاني الآتي.

وأخرى يفرض ضيق وقت الصلاة ، بحيث لو أراد الانتظار إلى أن يخرج لفات وقتها ، فهنا إذا أراد أن يصلّي في المكان المغصوب فيكون قد اجتمع الأمر والنهي على موضوع واحد ؛ لأنّ صلاته تكون واجبة ومصداقا للمأمور به. وتكون حراما ومصداقا للمنهي عنه ؛ لأنّ ما يفعله يكون صلاة ويكون غصبا أيضا. وحينئذ ما هو حكم صلاته؟

وهنا صورتان :

الأولى : أن يبنى على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فتكون صلاته في المغصوب صحيحة. فيصلّي إيماء حال الخروج. وأمّا إذا صلّى الصلاة الاختياريّة فإن لم تستلزم المكث الزائد كما إذا كان على ظهر مركب فهي صحيحة أيضا ، وإن استلزمت المكث الزائد كانت صحيحة ولكنّه يعاقب على المكث الزائد ، وهذه الصورة ليست هي موضع البحث هنا.

الثانية : أن يبنى على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فهنا إن استلزمت الصلاة مكثا زائدا عن الخروج كما لو أراد الصلاة الاختياريّة فتقع باطلة ؛ لأنّ الوقوف والسجود يعتبران غصبا زائدا عن الخروج فتبطل ؛ لأنّه ليس مضطرّا للغصب الزائد.

وأمّا إن لم تستلزم صلاته المكث الزائد كما لو أراد أن يصلّي إيماء حال الخروج ، أو أراد أن يصلّي الصلاة الاختياريّة من على ظهر المركب مثلا ، فهنا تظهر ثمرة الفرق بين الدخول بسوء الاختيار وبين الدخول لا بسوء الاختيار ، وهذه الصورة هي موضع البحث هنا.

فنقول : إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة لا بسوء اختياره ، فهنا تكون صلاته في المغصوب مع عدم استلزامها المكث الزائد عن الخروج صحيحة ؛ وذلك لأنّ الخروج لم يتعلّق به النهي لا قبل الدخول ولا بعده.

أمّا عدم تعلّق النهي بالخروج بعد الدخول إلى المغصوب فلأنّه بعد الدخول يصبح مضطرّا للخروج لكونه مقدّمة للتخلّص من الغصب الزائد ؛ لأنّ بقاءه في المغصوب غصب أيضا فيكون واجبا أو على الأقلّ مرخّصا فيه.

ص: 360

وأمّا عدم تعلّق النهي بالخروج قبل أن يدخل إلى المغصوب فلأنّ النهي لا يكون فعليّا في هذا الظرف ، فلا يوجد إذا إلا الأمر بالصلاة فقط.

وأمّا إذا كان دخوله إلى الأرض المغصوبة بسوء اختياره ، فهنا قد يقال : إنّ الصلاة مأمور بها حال الخروج ومنهي عنها أيضا ؛ لأنّها في المغصوب ، ولكنّ الأمر والنهي ليسا متعاصرين في الفعليّة زمانا ، فإنّ زمان الأمر هو حال الخروج ؛ لأنّه في هذه الحالة يتوجّه إليه الأمر بالصلاة التي لا تستلزم المكث الزائد ، بينما زمان النهي عن الصلاة في المغصوب من حين الدخول إلى الأرض المغصوبة ، ولكنّه بعد أن دخل إلى المغصوب بسوء اختياره سقط هذا النهي عن الفعليّة وإن كان مدانا ويستحقّ العقاب على ذلك. فزمان النهي متقدّم على زمان الأمر ؛ لأنّه ثابت حين الدخول لا بعده ، وأمّا زمان الأمر فهو متأخّر عن زمان النهي ؛ لأنّه ثابت حال الخروج.

والنتيجة على ضوء ذلك : أنّه في حال الخروج لم يتعاصر الأمر والنهي ؛ إذ لا يوجد إلا الأمر فقط ، ومع عدم التعاصر بين الأمر والنهي في الزمان لا يلزم محذور الاجتماع ؛ لأنّ من شروط التضادّ وحدة الزمان أيضا - كما هو واضح - ولذلك تقع صلاته صحيحة أيضا وإن استحقّ العقاب بسبب دخوله بسوء اختياره ، ولكنّ السيّد الشهيد لا يرتضي هذا القول ، ولذلك علّق عليه بقوله :

ولكنّ التحقيق : أنّ ذلك لا يدفع التنافي بين الأمر والنهي ؛ لأنّ سقوط النهي لو كان لنسخ وتبدّل في تقدير الملاكات لأمكن أن يطرأ الأمر بعد ذلك ، وأمّا إذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان ، فهذا إنّما يقضي سقوط الخطاب لا المبادئ ، فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كلّ حال. هذا إذا أخذنا بالقول السابق الذي يقول بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطابا ، وإذا أنكرنا هذه المنافاة فالأمر أوضح.

والتحقيق : أنّ عدم التعاصر الزماني بين الأمر والنهي لا يكفي لدفع غائلة التنافي بين الأمر والنهي ؛ وذلك لأنّ التنافي بينهما إنّما هو بلحاظ المبادئ والملاكات والمفسدة والمصلحة والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وليس مختصّا بلحاظ عدم القدرة على الامتثال في مقام المتطلّبات فقط.

ص: 361

وحينئذ نقول : إنّ سقوط النهي تارة يكون تكليفا وملاكا ، وأخرى يكون بلحاظ التكليف دون الملاك.

فإن كان النهي ساقطا خطابا وملاكا تمّ ما ذكر ، وأمّا إن كان ساقطا خطابا فقط مع بقاء ملاكه فلا يتمّ القول المذكور.

وفي مقامنا النهي ساقط خطابا فقط ، ممّا يعني أنّ ملاكاته بما تتضمّن من المفسدة والمبغوضيّة لا تزال موجودة ، ولذلك استحقّ العقوبة بدخوله بسوء اختياره ؛ إذ لو كانت ساقطة لم يكن معنى لبقاء العقوبة. ومع بقاء المبادئ والملاك سوف تكون الصلاة حال الخروج فيها مبادئ الأمر من مصلحة ومحبوبيّة ، وفيها مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة فيلزم المحذور.

نعم ، لو كان النهي ساقطا خطابا وملاكا فلا محذور ، ولكن سقوط النهي كذلك لا يكون إلا بالنسخ أو بتبدّل الملاكات وكلاهما باطل ؛ لأنّ النسخ الحقيقي مستحيل وبمعناه الممكن يحتاج إلى دليل ؛ ولأنّ التبدّل معناه البداء وهو يستلزم الجهل وهو ممتنع.

وبهذا يظهر أنّنا حتّى لو قلنا بأنّ سوء الاختيار ينافي التكليف خطابا فلا يكفي عدم التعاصر الزماني لدفع المحذور ؛ لأنّ الملاكات والمبادئ لا تزال باقية على حالها.

وأمّا إذا أنكرنا هذا المبنى وقلنا بأنّ سوء الاختيار لا ينافي التكليف فضلا عن العقوبة ، فالنهي موجود بخطابه أيضا لا بملاكاته ومبادئه فقط ، فيكون محذور الاجتماع أوضح.

وبهذا ينتهي الكلام حول حكم الصلاة حال الخروج.

وقد واجه الأصوليّون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحية أخرى في المقام ، وحاصلها : أنّه قد افترض كون الخروج مقدّمة للتخلّص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيكون الخروج واجبا فعلا مع كونه منهيّا عنه بالنهي السابق الذي لا يزال فعليّا بخطابه وروحه معا أو بروحه وملاكه فقط على الأقلّ.

فهل يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب ، أو بتخصيص في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحو ينفي وجود نهي من أوّل الأمر عن هذه الحصّة من التصرّف ، أو بانخرام في قاعدة وجوب المقدّمة؟ وجوه بل أقوال :

ص: 362

حكم الخروج في نفسه :

إنّنا إذا افترضنا دخول الإنسان إلى الأرض المغصوبة - سواء كان دخوله بسوء اختياره أم لا - فهنا يتوجّه إليه أمر نفسي بوجوب تخليص نفسه من الغصب ، إلا أنّ هذا الواجب يتوقّف على مقدّمة وهي الخروج من الأرض المغصوبة ؛ إذ لا يمكن أن يتحقّق التخليص الواجب إلا بالخروج كما هو واضح ، فالخروج إذا مقدّمة وجوديّة للواجب يحكم بها العقل ، فهو واجب ولازم بحكم العقل.

ولكنّ السؤال هنا أنّه بناء على القول بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته شرعا ، فهل يمكن أن يكون الخروج واجبا شرعيّا من باب المقدّميّة أو لا يمكن ذلك؟

فإن قيل بأنّه ما دام مقدّمة للواجب فعلى الملازمة لا بدّ أن يتّصف بالوجوب الغيري أيضا.

فيقال : إنّ اتّصافه بالوجوب يستلزم اجتماع الأمر والنهي على عنوان واحد ؛ وذلك لأنّ الخروج عبارة عن التصرّف في المغصوب أيضا بما يستلزمه من التحرّك والتنقّل من المكان الذي هو فيه إلى خارج المغصوب فيكون أيضا تصرّفا غصبيّا ، وحيث إنّ حرمة الغصب انحلاليّة وشموليّة فهي تشمل هذه الحصّة من الغصب ، وتكون النتيجة اجتماع الأمر والنهي على عنوان الخروج :

إمّا بلحاظ المبادئ والملاكات فقط ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار ينافي التكليف خطابا ، ولكنّه لا ينافيه عقابا المستلزم لبقاء الملاك فيه.

وإمّا بلحاظ المبادئ والملاكات والإيجاب والتحريم والمفسدة والمصلحة ، فيما إذا قيل بأنّ الدخول بسوء الاختيار لا ينافي التكليف لا خطابا ولا عقابا.

وحينئذ فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي فهذه المشكلة لا بدّ من حلّ لها بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدّمة للواجب فلا يتّصف بالوجوب ، بل هو محرّم فقط.

ثانيا : أن يلتزم بتخصيص دليل الحرمة والنهي في غير هذه الحصّة من الغصب المستلزمة للخروج ، فيكون الخروج واجبا فقط.

ص: 363

ثالثا : أن يلتزم بانخرام قاعدة وجوب المقدّمة ، فيقال بوجوب المقدّمة في غير هذه الحالة مع التسليم بكونها مقدّمة ، فيكون الخروج محرّما فقط.

فهنا أقوال ثلاثة :

أمّا الوجه الأوّل فحاصله : أنّ الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل أحد الضدّين ليس مقدّمة لترك ضدّه ؛ كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

وهذا الوجه حتّى إذا تمّ لا يحلّ المشكلة على العموم ؛ لأنّ هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط ، بل في حالات أخرى لا يمكن إنكار المقدّميّة فيها من قبيل من سبّب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرض مهلك ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرّم ، فإنّ مقدّميّة الشرب في هذه الحالة واضحة.

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الخروج لا يمكن أن يتّصف بكونه مقدّمة للواجب ؛ وذلك لأنّ الواجب وهو تخليص نفسه من الغصب ليس إلا عنوانا مشيرا لترك الحرام ، وهو هنا البقاء في المغصوب فيكون الواجب هو ترك البقاء في المغصوب.

وحيث إنّ الخروج والبقاء ضدّان لكونهما فعلين وجوديين ، فلو كان الخروج مقدّمة لترك البقاء للزم من ذلك أن يكون أحد الضدّين وهو الخروج مقدّمة لعدم الضدّ الآخر أي لعدم البقاء أو لترك البقاء.

ومن الواضح : أنّ الضدّين كما لا يمكن أن يكون أحدهما علّة للآخر ، كذلك لا يمكن أن يكون أحدهما علّة لعدم الآخر ، ولذلك يمتنع اتّصاف الخروج بكونه مقدّمة.

والوجه في أنّ أحد الضدّين لا يكون علّة للآخر أو علّة لعدم الآخر ، ما تقدّم منّا سابقا في الحلقة الثانية ، وملخّصه : أنّ المقدّمة تكون بمثابة العلّة أو الجزء الأخير من العلّة ، وفعل أحد الضدّين أو تركه ليست علّته فعل أو ترك الضدّ الآخر ، بل علّته إرادة المكلّف الفعل أو الترك ، فإن أراد فعل هذا الضدّ كان لازم ذلك تركه للضدّ الآخر وإن أراد ترك هذا الضدّ كان لازمه فعل الضدّ الآخر ، فترك الضدّ أو فعله

ص: 364


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

يلازم العلّة أو الجزء الأخير من العلّة وليس هو نفسهما ، وما دام كذلك فلا يتّصف بكونه مقدّمة.

وفي مقامنا الخروج ليس هو العلّة أو جزءها الأخير ، بل العلّة هي إرادة المكلّف البقاء أو ترك البقاء ، والخروج وعدمه ملازم لذلك فقط. وهذا معناه أنّ الخروج لا يتّصف بالوجوب ، وإنّما يتّصف بالحرمة فقط لكونها انحلاليّة وتشمل كلّ حصص وأفراد الغصب والتي منها الغصب حال الخروج.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ هذا الوجه غير تامّ في نفسه ؛ وذلك لأنّنا وإن قبلنا كون أحد الضدّين لا يكون علّة لفعل الضدّ الآخر أو لعدمه ، إلا أنّ هذا المعنى غير متحقّق في مقامنا ؛ وذلك لأنّ الخروج ليس علّة لترك البقاء في الغصب في نفس آن الخروج ، وإنّما هو علّة لترك البقاء في الغصب بلحاظ الآنات اللاحقة ، ممّا يعني أنّ الزمان مختلف.

ومن الواضح : أنّ من شروط امتناع كون أحد الضدّين علّة لعدم الآخر أو لفعله هو وحدة الزمان بأن يكون الضدّ علّة لعدم ضدّه مثلا في نفس الآن الذي يثبت فيه الضدّ ، وأمّا إذا كان علّة لعدمه في الآن اللاحق فلا مانع منه ؛ لأنّه مع اختلاف الزمان ينحلّ التناقض فضلا عن التضادّ.

فمثلا إذا قلنا بأنّ الإزالة والصلاة متضادّان ، فلا يكون فعل أحدهما علّة لعدم الآخر ، ففعل الصلاة ليس هو علّة عدم الإزالة في نفس زمان وجود الصلاة ، إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون فعل الصلاة علّة لعدم الإزالة في الآن اللاحق عن الصلاة ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يكون قد سبّب عدم الإزالة فيكون فعلها ملازما لعدم الصلاة لا علّة لها ، والتلازم غير العلّيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكونا معا معلولين لعلّة ثالثة ، وهي اختيار وإرادة المكلّف ، فإنّه لمّا لم يرد الإزالة قام بفعل الصلاة.

وهنا كذلك فهو لمّا أراد ترك البقاء في الآن اللاحق في الغصب قام بالخروج ، فيكون الخروج ملازما لترك البقاء في الغصب في الآن اللاحق ، وهذا أمر معقول في نفسه.

وثانيا : لو سلّمنا بمقالة المحقّق الأصفهاني وانطباقها على مقامنا ، إلا أنّها ليست مطّردة في سائر الأحوال ، ممّا يعني أنّ ما ذكره ليس قاعدة عامّة وكلّيّة ، بل هي تختلف من مورد لآخر.

ص: 365

فمثلا من سبّب لنفسه المرض الشديد بسوء اختياره بأن شرب السمّ مثلا ، وتوقّف علاجه على تناول المحرّم ، فلا إشكال في كون تناول المحرّم مقدّمة للشفاء من المرض أو الموت ، فيتّصف بالوجوب مع كونه محرّما في نفسه.

إذا فما ذكره من إنكار المقدّميّة إنّما هو مختصّ في حالات كون الفعلين متضادّين. وأمّا في غيرهما من الحالات كالمثال المذكور فإنّ شرب الدواء ليس ضدّا للشفاء أو لعدم الشفاء ، فلا يتمّ ما ذكره ، ممّا يعني أنّ مشكلة اجتماع الأمر والنهي لا تزال قائمة ونحتاج إلى حلّ آخر غير ما ذكره.

وأمّا الوجه الثاني : فلا يمكن الأخذ به إلا مع قيام برهان على التخصيص المذكور ، بتعذّر أي حلّ آخر للمشكلة.

الوجه الثاني : ما يقال : من كون الخروج يتّصف بالوجوب العقلي وبالوجوب الشرعي الغيري أيضا ؛ لكونه مقدّمة للواجب ، إلا أنّ الحرمة ساقطة خطابا وملاكا في ذاك الفرض ، أمّا سقوطها خطابا فهو واضح وتامّ على جميع المسالك والمباني ؛ وذلك لفرض الاضطرار الرافع للتكليف ، وأمّا ارتفاعها ملاكا حال الخروج فلأنّ الخروج محبوب للشارع فلا يكون مبغوضا كذلك.

وهذا لازمه تخصيص دليل حرمة الغصب في غير الحصّة المقارنة مع الخروج ، فإنّها لا تكون محرّمة لا خطابا ولا ملاكا.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ لو كان هناك دليل تام على التخصيص ، ولذلك يحتاج إلى قيام برهان على ذلك ، فمع عدمه لا يمكن المصير إليه ، مضافا إلى أنّ المصير إلى هذا الوجه إنّما يتّجه لو فرض عدم تماميّة الوجه الثالث الآتي مضافا إلى عدم تماميّة الوجه الأوّل أيضا. وسوف يأتي في الوجه الثالث أنّ البرهان قائم على بقاء الحرمة ولو بلحاظ مبادئها على الأقلّ.

وأمّا الوجه الثالث فهو المتعيّن ، وذلك بأن يقال : إنّ المقدّمة من ناحية انقسامها إلى فرد مباح وفرد محرّم على أقسام :

أحدها : أن تكون منقسمة إلى فردين من هذا القبيل فعلا ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو غير المحرّم خاصّة ؛ لأنّ الملازمة التي يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.

ص: 366

ثانيها : أن تكون منحصرة أساسا - وبدون دخل للمكلّف في ذلك - في الفرد المحرّم ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو الفرد المحرّم إذا كان الوجوب النفسي أهمّ من حرمته ، وتسقط الحرمة حينئذ.

ثالثها : أن تكون منقسمة أساسا إلى فرد مباح وفرد محرّم غير أنّ المكلّف عجّز نفسه بسوء اختياره عن الفرد المباح.

الوجه الثالث : وهو ما يختاره السيّد الشهيد من انخرام قاعدة وجوب المقدّمة في مقامنا ، مع الإيمان بها في سائر الموارد - على القول بها طبعا ولو بلحاظ المبادئ - فيكون الخروج غير متّصف بالوجوب فلا يوجد إلا الحرمة.

وبيانه أن يقال : إنّ المقدّمة تنقسم بلحاظ أفرادها إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون منقسمة إلى فردين مباح ومحرّم ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان لإنقاذه وسيلتان : إحداهما اجتياز الأرض المباحة ، والأخرى اجتياز الأرض المغصوبة ، فهنا يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة المباحة أي بالفرد المباح منها ، ولا يتعلّق بالفرد المحرّم.

والدليل على ذلك هو العقل فإنّه هو الحاكم بالملازمة وهو يحكم أيضا بلزوم امتثال الواجب في الفرد المباح ، وأمّا الفرد المحرّم ففيه مئونة زائدة وهي الحرمة ولا يوجد أيّ داع لارتكابها ؛ لأنّ العقل يحكم أيضا بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، فيمكن للمكلّف أن يحصّل كلا الغرضين والملاكين فينقذ الغريق ولا يرتكب الحرام. وهذا واضح ، وهو خارج عن محلّ كلامنا.

الثاني : أن يكون للمقدّمة فرد واحد فقط ، وهو الفرد المحرّم خاصّة ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وتوقّف على اجتياز الأرض المغصوبة أو على إتلاف مال الغير ، فإنّ انحصار المقدّمة بالفرد المحرّم لا مدخليّة للمكلّف فيه ، وفي هذه الحالة تارة يكون الأهمّ هو الحرام ، وأخرى يكون الأهمّ هو الواجب.

فإذا كان الأهمّ هو الحرام سوف يكون الوجوب ساقطا عن الفعليّة ؛ لأنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود المانع الشرعي ، وهنا يوجد مانع شرعي أهمّ. فتكون المقدّمة محرّمة لا غير.

وإذا كان الأهمّ هو الواجب فسوف يكون دليل الحرمة مختصّا بغير هذه الحصّة ؛

ص: 367

لأنّه مشروط أيضا بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ الشاملة لعدم وجود واجب آخر أهمّ ، فتكون المقدّمة واجبة غيريّا لوجوب ذيها الأهمّ ، وتسقط عنها الحرمة. وهذا الفرض خارج عن محلّ الكلام أيضا.

الثالث : أن يكون للمقدّمة فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، غير أنّ المكلّف بسبب سوء اختياره يحصر المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، وهذا الانحصار ناشئ من تعجيز المكلّف نفسه عن اختيار الفرد المباح ، وهذه الحالة هي محلّ بحثنا وكلامنا ، فنقول :

وفي هذه الحالة يدرك العقل أنّ الانحصار في الفرد المحرّم غير مسوّغ لتوجّه الوجوب الغيري نحوه ما دام بسوء الاختيار ، فالفرد المحرّم يظلّ على ما هو عليه من الحرمة ، ويكون تعجيز المكلّف نفسه عن الفرد المباح من المقدّمة مع بقاء الفرد المحرّم على حرمته تعجيزا له شرعا عن الإتيان بذي المقدّمة ؛ لأنّ المنع شرعا عن مقدّمة الواجب تعجيز شرعي عن الواجب ، ولمّا كان هذا التعجيز حاصلا بسوء اختيار المكلّف فيسقط الخطاب المتكفّل للأمر بذي المقدّمة على القول المشهور دون العقاب والإدانة ، غير أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل ذي المقدّمة ولو بارتكاب المقدّمة المحرّمة ؛ لأنّ ذلك أهون الأمرين ، وهذا يؤدّي إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد المحرّم من المقدّمة ، غير أنّه لمّا كان منشأ هذا الاضطرار أساسا سوء الاختيار فيسقط الخطاب على القول المشهور دون العقاب.

وينتج عن ذلك : أنّ الخطابات كلّها ساقطة فعلا ، وأنّ روحها بما تستتبعه من إدانة ومسئوليّة ثابت.

ذكرنا أنّ القسم الثالث من أقسام المقدّمة ما إذا كان لها فردان أحدهما مباح والآخر محرّم ، ولكنّ المكلّف بسوء اختياره أوقع نفسه في العجز فانحصرت المقدّمة بالفرد المحرّم دون المباح ، كما هو الحال في محلّ بحثنا فإنّ المكلّف يجب عليه تخليص نفسه من الغصب أو يجب عليه أن يترك البقاء في الغصب ، وهذا الواجب له فردان :

أحدهما : ألاّ يرتكب المعصية ولا يدخل إلى المكان المغصوب ، فإنّه إذا لم يدخل إلى المكان المغصوب يكون قد حقّق الواجب المطلوب منه وهو تخليص نفسه من الغصب ،

ص: 368

أو عدم بقائه في المغصوب من باب السالبة بانتفاء الموضوع. وهذا الفرد مباح.

والآخر : أن يدخل إلى المكان المغصوب ويرتكب المعصية فعلا ، فإنّه لا يمكنه تخليص نفسه من ذلك إلا بالخروج وهو يستلزم التصرّف في الحرام أيضا ، ولذلك يكون هذا الفعل مقدّمة محرّمة للواجب. ولكن هذه المقدّمة هي الطريق الوحيد لهذا الواجب ؛ لأنّ المكلّف لمّا دخل الأرض المغصوبة فهو بسوء اختياره قد عجّز نفسه عن الفرد المباح وحصر المقدّمة بالفرد المحرّم.

وحينئذ فهل يكون الفرد المحرّم واجبا لصيرورته مقدّمة للواجب ، أو يبقى على حرمته فقط من دون اتّصافه بالوجوب ، أو يتّصف بالوجوب والحرمة معا؟

الصحيح هو أنّ العقل لا يحكم بتوجّه الوجوب الغيري على الفرد المحرّم بسبب انحصار المقدّمة فيه بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّ العجز غير التعجيز ، وهذا معناه أنّ الفرد المحرّم لا ينصبّ عليه الوجوب الغيري ، وإنّما يبقى على حرمته شرعا ، فيكون المكلّف ممنوعا شرعا من ارتكاب هذه المقدّمة المحرمة لتعلّق الحرمة بها بوصفها حصّة من الغصب. وهذا سوف يؤدّي إلى أنّ المكلّف سوف يعجز عن امتثال الواجب أي ذي المقدّمة ، فإنّ منعه شرعا عن التوصّل بالفرد المحرّم إلى الواجب يعني تعجيزه شرعا من الإتيان بالواجب ؛ لأنّ المفروض انحصار فعل الواجب بالفرد المحرم وقد فرضنا أنّه ممنوع من ارتكابه شرعا.

وتكون النتيجة إلى هنا أنّ المكلّف لن يمتثل الواجب ؛ لأنّه ممنوع من الخروج لتعلّق النهي به شرعا ، ولكن هذا التعجيز الشرعي حصل بسوء اختيار المكلّف ؛ لأنّه دخل إلى المغصوب باختياره ، ولذلك سوف يسقط التكليف والأمر بذي المقدّمة خطابا فقط ، وأمّا عقابا وإدانة فيبقى ، وهذا معناه أنّ المكلّف يحرم عليه الخروج لتعلّق النهي به ولا يجب عليه تخليص نفسه ؛ لأنّه ممنوع شرعا عن مقدّمته المحرّمة المنحصرة ولكن مع ذلك يعاقب على تركه التخليص.

وإذا لاحظنا هذه الحالة نجد أنّه يوجد محذوران :

أحدهما : البقاء في المغصوب والمستلزم لحرمة الغصب في كل آن آن من البقاء.

والآخر : التخلّص من الغصب وذلك بارتكاب مقدّمته المحرّمة وهي الخروج ؛ لأنّه متعلّق للنهي دون الوجوب الغيري.

ص: 369

وحينئذ يحكم العقل باختيار المحذور الثاني ؛ لأنّه أهون وأخفّ مئونة من المحذور الأوّل ، فيحكم العقل بوجوب تخليص نفسه من المغصوب ولو بارتكاب الخروج المحرّم ، فيكون مضطرّا إلى ارتكاب الفرد المحرّم ولكن ، لمّا كان هذا الاضطرار ناشئا عن سوء اختياره ؛ لأنّه هو الذي أوقع نفسه في ذلك بسبب دخوله الأرض المغصوبة باختياره فسوف تسقط حرمته خطابا بسبب الاضطرار ولكن تبقى الحرمة عقابا وإدانة.

وتكون النتيجة النهائيّة هي سقوط الحرمة عن الخروج تكليفا ، فقد تقدّم أنّ التكليف بتخليص نفسه وهو الواجب النفسي قد سقط تكليفا أيضا ، والخروج نفسه لا يشمله الوجوب الغيري من أوّل الأمر لكونه أحد فردي المقدّمة المتّصف بالحرمة ، فيكون الوجوب الغيري منصرفا عنه ، والمفروض أيضا سقوط حرمة الغصب فعلا بعد الدخول لصيرورته مضطرّا إلى الغصب.

وهذا معناه أنّ كلّ التكاليف وهي أربعة ساقطة تكليفا أي عن الفعليّة ، ولكنّها ثابتة بروحها أي من حيث استتباعها للإدانة والعقوبة.

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث يحلّ المشكلة ؛ لأنّ جميع التكاليف ساقطة ، فالخروج لا يتّصف لا بالوجوب ولا بالحرمة ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله وإن وجب عليه بحكم العقل لكونه أهون المحذورين ، فيكون حكم الخروج هو كونه واجبا بحكم العقل من باب أهون المحذورين من دون أن يتّصف بالوجوب أو الحرمة شرعا ، ولكنّه يستحقّ العقوبة على فعله ؛ لأنّه كان بسوء اختياره.

وفي كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي النفسيّين أو الغيريين أو الغيري مع النفسي ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ، فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون محبوبا لغيره ومبغوضا لنفسه مثلا ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما.

ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كاف في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمة بالوجود الجعلي للحكمين.

ص: 370

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي :

في كلّ حالة يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أي إذا بنينا على امتناع الاجتماع بينهما ، فهذا لا يختلف حاله بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو يكونا غيريّين أو يكون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا. فهنا شقوق أربعة :

الأوّل : أن يكون الأمر والنهي نفسيّين ، كما في ( صلّ ) و ( لا تصلّ في الحمام ) أو ( لا تغصب ) ، فهنا الأمر بالصلاة نفسي والأمر بالغصب نفسي أيضا. فعلى القول بالامتناع فيكون الامتناع لجهة اجتماع المبادئ المتضادّة على شيء واحد.

الثاني : أن يكون الأمر والنهي غيريّين ، كما في السفر من أجل الحجّ الواجب فإنّه واجب غيري لكونه مقدّمة للواجب ، وفرض أنّ السفر يسبّب الأذيّة للوالدين فيكون محرّما غيريّا لكونه سببا لحصول الحرام وهو التأذّي.

فعلى القول بالامتناع يكون السفر قد اجتمعت فيه المحبوبيّة الغيريّة والمبغوضيّة الغيريّة معا.

الثالث : أن يكون الأمر نفسيّا والنهي غيريّا ، كما إذا وجب إنقاذ الغريق وكان الإنقاذ سببا توليديّا لإتلاف مال الغير ، فإنّه واجب نفسي من جهة وحرام غيري من جهة ثانية ، لكونه مقدّمة للحرام وهو إتلاف مال الغير. وهنا على القول بالامتناع سوف تجتمع المحبوبيّة النفسيّة مع المبغوضيّة الغيريّة على شيء واحد.

الرابع : أن يكون الأمر غيريّا والنهي نفسيّا ، كما إذا دخل إلى مكان مغصوب ، فإنّ الخروج منه لكونه مقدّمة للتخلّص الواجب يتّصف بالوجوب الغيري ، وبما أنّه مصداق للغصب يتّصف بالحرمة النفسيّة ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة النفسيّة والمحبوبيّة الغيريّة على شيء واحد.

وفي هذه الشقوق كلّها على القول بالامتناع سوف يكون ملاك الامتناع متحقّقا وموجودا فيها. ولا بدّ من علاج المسألة.

ونحن حيث أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم فقد يشكل علينا بأنّ ملاك الامتناع ينتفي في حالة كون الأمر والنهي أو أحدهما على الأقلّ غيريّا ؛ لأنّه لا محرّكيّة ولا داعويّة ولا مقرّبيّة ولا محبوبيّة ولا مبادئ ولا ملاكات فيه.

ولكن نجيب عن ذلك بأنّنا وإن أنكرنا الوجوب الغيري كما تقدّم ، إلا أنّنا إنّما

ص: 371

أنكرناه بلحاظ الجعل والإيجاب والمحرّكيّة والداعويّة والمحبوبيّة والملاكات المستقلّة ، ولكنّنا اعترفنا بالوجوب الغيري في مرحلة الحبّ والشوق والإرادة وقلنا : إنّ حبّ شيء يستلزم حبّ مقدّمته وبغض شيء يستلزم بغض مقدّمته أيضا.

وعليه فعلى القول بالامتناع فيكون ملاكه تامّا بهذا اللحاظ ؛ لأنّ نكتة الامتناع لا تختصّ بما إذا لم يمكن جعل الحكمين من ناحية المتطلّبات من تحرّك ونحوه ، وإنّما يشمل ما إذا لم يمكن تعلّق الحبّ والبغض على شيء واحد أيضا للزوم التهافت في ذلك.

وأمّا ثمرة البحث في مسألة الاجتماع

فهي أنّه على الامتناع يدخل الدليلان المتكفّلان للأمر والنهي في باب التعارض ، ويقدّم دليل النهي على دليل الأمر ؛ لأنّ النهي إطلاقه شمولي ودليل الأمر إطلاقه بدلي ، والإطلاق الشمولي أقوى.

وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض بين الدليلين ، وحينئذ فإن لم ينحصر امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام وكانت للمكلّف مندوحة في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضا ، وإلا وقع التزاحم بين الواجب والحرام.

الثمرة من بحث الاجتماع : يذكر السيّد الشهيد ثمرتين :

الثمرة الأولى : أنّه على القول بالامتناع سوف يدخل بحث الاجتماع في باب التعارض ، بينما على القول بالجواز فسوف يكون من موارد التزاحم الامتثالي. وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ دليل الأمر بالصلاة ودليل النهي عن الغصب إذا فرض اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في المكان المغصوب ، وقلنا بأنّ الاجتماع مستحيل وممتنع فسوف يقع التعارض والتنافي بين الدليلين بلحاظ هذا المجمع ؛ لأنّه سوف يكون مشمولا لكلا الدليلين فتكون مبادئ النهي ومبادئ الأمر قد اجتمعت على شيء واحد.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التساقط ، وهنا يقدّم دليل النهي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق فيه شمولي ؛ لأنّ الحرمة انحلاليّة بينما إطلاق الأمر بدلي ؛ لأنّ الواجب هو الطبيعة وهي تتحقّق بفرد منها. فيكون دليل النهي أقوى فيرجّح على دليل الأمر. ويحكم ببطلان الصلاة لو صلّى في المكان المغصوب.

ص: 372

وأمّا إذا قلنا بأنّ الاجتماع ممكن وجائز فسوف يدخل المورد في باب التزاحم ؛ وذلك لأنّ دليل الأمر ودليل النهي بلحاظ الامتثال سوف يحصل بينهما التدافع ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي في مقام العمل والمتطلّبات غير ما يستدعيه الآخر.

وحينئذ يفصّل بين ما إذا كان هناك مندوحة للمكلّف وبين ما إذا لم يكن لديه مندوحة.

فإن كان لديه مندوحة بأن كان يمكنه الصلاة خارج المكان المغصوب مع بقاء الوقت ، فهنا كما لا تعارض لا تزاحم أيضا ؛ وذلك لأنّ المكلّف يمكنه الخروج من المغصوب والصلاة خارجه ، فيكون ممتثلا لكلا الدليلين.

وإن لم يكن لديه مندوحة بأن انحصر فعل الصلاة في المكان المغصوب لضيق الوقت عن الإتيان بها خارجه ، فهنا يدخل المورد في باب التزاحم وتطبّق عليه قاعدته وهي ترجيح الأهمّ ملاكا فيكون فعليّا ، بينما يكون الأقلّ أهمّيّة مشروطا بترك أو بعصيان الأهمّ.

وعليه ، فإذا كان دليل الصلاة هو الأهمّ فصلّى في المكان المغصوب كان ما فعله واجبا وصحيحا ومجزيا ولا يتّصف بالحرمة ؛ لأنّ دليل النهي ليس فعليّا. وإذا كان دليل النهي هو الأهمّ كان فعله حراما ولكنّه لو عصى وصلّى كانت صلاته صحيحة ومجزية أيضا ؛ لأنّه في حالة عصيان دليل النهي الأهمّ يكون دليل الأمر فعليّا لتحقّق شرطه وهو عدم امتثال الأهمّ.

وأمّا صحّة امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما ذكرنا من التعارض والتزاحم بأن يقال : إنّه إذا بني على التعارض بين الدليلين وقدّم دليل النهي ، فلا يصحّ امتثال الواجب بالفعل المذكور سواء كان واجبا توصّليّا أو عباديّا ؛ لأنّ مقتضى تقديم دليل النهي سقوط إطلاق الأمر وعدم شموله له فلا يكون مصداقا للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف القاعدة كما تقدّم (1).

الثمرة الثانية : في صحّة أو فساد امتثال الواجب في المجمع. فهنا يفصّل بين القول بامتناع الاجتماع ، وبين القول بجوازه :

ص: 373


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء.

فإن قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، قدّم دليل النهي كما قلنا ؛ لأنّه أقوى بسبب إطلاقه الشمولي ، وحينئذ يكون الإتيان بالصلاة في المكان المغصوب باطلا وليس امتثالا للمأمور به.

والوجه في ذلك : هو أنّ دليل الأمر قد سقط بسبب وجود المعارض الأقوى ، ومع سقوطه لا يكون ما أتى به المكلّف مصداقا للمأمور به ؛ لأنّه ليس مشمولا لإطلاق الأمر البدلي عندئذ ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب عباديّا أو توصّليّا.

ووجه عدم الإجزاء هو أنّ الإجزاء إنّما يكون بأحد أمرين كلاهما منتف هنا :

الأوّل : الإتيان بالمأمور به بحيث يكون ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به. وهذا واضح الانتفاء هنا ؛ لأنّ الأمر لمّا كان ساقطا إطلاقه عن المجمع فلا يكون فعل الصلاة في المكان المغصوب امتثالا للواجب المأمور به ؛ إذ لا أمر بالصلاة في هذه الحالة.

الثاني : الإتيان بالملاك ، وحيث إنّ الملاك لا يعرف إلا من قبل إطلاق الدليل أو إطلاق المدلول ، ولكن حيث تقدّم سابقا أنّ الإطلاق في كلا النحوين لا يكفي لاستفادة وجود الملاك ، فلا يكون هناك دليل على ثبوت الملاك.

أمّا إطلاق الدليل فالمفروض سقوطه لوجود المعارض الأقوى ، وأمّا إطلاق المدلول فهو لا يدلّ إلا على إطلاق الحكم ، وإطلاق الحكم لا يبقى مع فرض سقوط إطلاق الدليل ؛ لأنّه يستفاد من الدليل ، والحال أنّ الملاك مدلول التزامي فيسقط تبعا لسقوط المدلول المطابقي.

وإذا انتفى كلا الملاكين للإجزاء احتاج الإجزاء إلى دليل خاصّ وهو منتف في المقام أيضا.

هذا كلّه على الامتناع.

وإذا بني على عدم التعارض فينبغي التفصيل بين أن يكون الواجب توصّليّا أو عباديّا.

فإن كان توصّليّا صحّ وأجزأ سواء وقع التزاحم لعدم المندوحة أو لا ؛ لأنّه مصداق للواجب ، والأمر ثابت به على وجه الترتّب في حالة التزاحم وعلى الإطلاق في حالة عدم التزاحم ووجود المندوحة.

ص: 374

وأمّا إذا بني على جواز الاجتماع وعدم التعارض بين الدليلين ، فهنا يوجد تفصيل بين الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي :

فإن كان الواجب توصّليّا كما إذا أمره بإحدى المعاملات كالبيع أو الشراء ونهاه عن أذيّة الوالدين ، وفرضنا أنّ المعاملة التي أجراها كانت موجبة لأذيّة الوالدين فهنا يحكم بصحّة المعاملة سواء كان هناك مندوحة أم لا ، وسواء وقع التزاحم مع عدم المندوحة أم لا ؛ وذلك لأنّ ما أتى به من المعاملة يكون مصداقا للواجب المأمور به.

فإن كان هناك مندوحة بأن كان بإمكانه إجراء المعاملة في المورد الذي لا يوجب أذيّة الوالدين ، فهنا لا يتحقّق التزاحم أصلا ، فيكون دليل الأمر مطلقا وبإطلاقه يشمل المورد الذي فعله فيكون ما أتى به مصداقا للواجب.

وإن لم يكن هناك مندوحة ، وانحصر فعل الواجب بالفرد الموجب للأذيّة فهنا يقع التزاحم ، والمفروض أنّ دليل النهي أهمّ ملاكا فيكون مطلقا وفعليّا ، بينما دليل الواجب يكون مشروطا بعصيان الأهمّ ، فإذا عصى الأهمّ وأتى بالواجب صحّ أيضا لصيرورته فعليّا عندئذ.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر إمّا أن يكون مطلقا وفعليّا ، وهذا فيما إذا كان هناك مندوحة ، وإمّا أن يكون مشروطا على وجه الترتّب فيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، ففي الحالة الأولى يكون ما أتى به مصداقا لإطلاق الواجب الفعلي. وفي الحالة الثانية يكون مصداقا للواجب الذي يصبح فعليّا بترك الأهمّ. ففي الحالتين يكون المأتي به مصداقا للواجب فيجزي عنه طبقا للقاعدة.

وإن كان عباديّا صحّ وأجزأ كذلك إذا كان مبنى عدم التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدّد المعنون.

وأمّا إذا كان مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدّد العنوان مع وحدة المعنون ، فقد يستشكل في الصحّة والإجزاء ؛ لأنّ المفروض حينئذ أنّ الوجود الخارجي واحد وإنّه حرام ، ومع حرمته لا يمكن التقرّب به نحو المولى فتقع العبادة باطلة لأجل عدم تأتّي قصد القربة ، لا لمحذور في إطلاق دليل الأمر.

وأمّا إن كان الواجب عباديّا وقلنا بالجواز وعدم التعارض ، فهل يقع صحيحا أم لا؟ وهنا يفصّل :

ص: 375

فتارة نبني الجواز وعدم التعارض على أساس تعدّد المعنون ، فهنا إذا أوقع الصلاة في المكان المغصوب وقلنا بأنّ ما هو موجود في الخارج متعدّد ، فلا إشكال في صحّة صلاته وكونها مجزية عن المأمور به ؛ لأنّه يمكنه أن يأتي بالصلاة قاصدا التقرّب بها إلى المولى ، وإن كان من جهة أخرى يعتبر عاصيا لكونه موجودا في المكان المغصوب ، فيكون ما أتى به في الخارج مصداقا للمأمور به غاية الأمر كونه قد انضمّ إليه مصداق آخر وهو الغصب.

وأخرى نبني الجواز وعدم التعارض على أساس كفاية تعدّد العنوان وإن كان المعنون واحدا.

فهنا يشكل صحّة الصلاة ؛ لأنّ الموجود الخارجي لمّا كان شيئا واحدا وفعلا واحدا فقط ، فهو يتّصف بعنوان الحرمة لكونه مصداقا للنهي فيكون مبغوضا للمولى ، فإذا أراد أن يمتثل بهذا الفعل المبغوض للمولى للأمر الصلاتي كان معناه أنّه يريد التقرّب بالفعل المبغوض.

ومن المعلوم أنّ العبادة يشترط فيها قصد القربة بمعنى كون الفعل مطلوبا ومحبوبا للمولى ويمكن التقرّب به إليه ، وفي مقامنا وإن كان فعل الصلاة مطلوبا حتّى لو كان في المكان المغصوب بناء على الجواز ، إلا أنّه ليس محبوبا للمولى ؛ لتعلّق المبغوضيّة فيه لكونه غصبا.

وبتعبير آخر : إنّ الفعل الصلاتي الغصبي فيه المقتضي ؛ وذلك لأنّ إطلاق الواجب يشمله بناء على كفاية تعدّد العنوان ، فهو من هذه الجهة يسمّى صلاتا ويعتبر مصداقا للصلاة ، إلا أنّه يوجد ما يمنع من صحّة هذه الصلاة وهذا المانع هو كون هذا الفعل واحدا في الحقيقة والوجود ، والمفروض أنّ النهي متعلّق به فهو مبغوض في نفسه ، وحينئذ يمتنع التقرّب بالفعل المبغوض للمولى.

فالإشكال هنا ليس من ناحية كونه صلاة ، فإنّ الإطلاق في الأمر يشمله ولكن الإشكال من ناحية قصد القربة ، فإنّه لا يتحقّق في هذه الفرضيّة فلا تقع الصلاة صحيحة ؛ لأنّ قصد القربة شرط فيها والمفروض أنّه غير ممكن فتقع الصلاة باطلة (1).

ص: 376


1- وهذا الإشكال قد يجاب عنه بأنّه إذا كان تعدّد العنوان كافيا للجواز فلن يجتمع الأمر والنهي على شيء واحد لا في الذهن ولا في الخارج. أمّا عدم اجتماعهما في الذهن فلأنّ مفهوم الصلاة شيء مباين لمفهوم الغصب. وأمّا عدم اجتماعهما في الخارج فلأنّ امتثال الصلاة بالفعل المتّحد إنّما يكون من جهة انطباق عنوان الصلاة عليه ، فهو يقصد التقرّب بالعنوان المنطبق على هذا الفعل لا بالفعل بما هو كذلك. ولذلك لا مانع من أن يتقرّب بما أتى به بعنوان كونه صلاة ، فإنّه بهذا العنوان لم يتعلّق به النهي ولا مبادئه.

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل افتراض التعارض ، فلا يختلف الحال في ذلك بين الجاهل والعالم بها ؛ لأنّ التعارض تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة ، وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيّين بقطع النظر عن علم المكلّف وجهله.

وفي كلّ حالة حكمنا فيها بعدم صحّة العمل من أجل كونه عبادة وتعذّر قصد التقرّب به فينبغي أن يخصّص البطلان بصورة تنجّز الحرمة ، وأمّا مع الجهل بها وعدم تنجّزها فالتقرّب بالفعل ممكن فيقع عبادة ، ولا موجب للبطلان حينئذ.

وهنا تنبيه يعقده السيّد الشهيد للتنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّنا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك التعارض بين الدليلين فهذا لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل.

والآخر : أننا إذا حكمنا بعدم صحّة العمل بملاك عدم إمكان التقرّب فهذا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

أمّا الأمر الأوّل : فإذا قيل بالامتناع ووقوع التعارض بين الدليلين ، فهذا يؤدّي إلى بطلان العمل وعدم كونه مصداقا للمأمور به سواء كان المكلّف عالما بالحرمة أم جاهلا بها ، وسواء كان الواجب عباديّا أم توصّليّا.

والدليل على ذلك : هو أنّ التعارض بين الدليلين معناه التنافي بينهما سواء في عالم المبادئ أم في عالم الجعل ، فهناك تناف بينهما لأجل التنافي بين المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ولأجل التنافي بين الإيجاب والتحريم أيضا ، وهذا التنافي موجود بلحاظ الواقع ، أي أنّه يوجد تضادّ وتناف واقعي ؛ لأنّه تابع للوجود الواقعي للأمر والنهي أو للإيجاب والتحريم ، ووجودهما الواقعي هو عالم الجعل والتشريع ، بمعنى أنّه يستحيل وجودهما معا في عالم الجعل والتشريع.

ص: 377

وحينئذ لا يكون لعلم المكلّف أو جهله أي مدخليّة في ثبوت هذا التنافي أو ارتفاعه ، بمعنى أنّه إذا علم بالتنافي فليس علمه هو الذي يحقّق التنافي ، وإذا جهل بالتنافي فجهله لا يرفع هذا التنافي ، فالتنافي موجود في عالمه وواقع وجوده وهو الجعل والتشريع ، وليس مرتبطا بعلم المكلّف أو بجهله.

وهذا نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين فإنّهما ممتنعان سواء علم المكلّف باجتماعهما أم جهل به. وعليه ، فيحكم ببطلان عمله سواء كان عباديّا أم توصّليّا ؛ لأنّه ما أتى به ليس مأمورا به ؛ لأنّ الأمر يسقط في حالة التعارض مع النهي لكون النهي أقوى ؛ لأنّ الإطلاق فيه شمولي انحلالي.

وأمّا الأمر الثاني : فإن قيل بعدم صحّة العمل وبطلانه لأجل عدم تحقّق قصد القربة فيه ، فهذا مضافا إلى اختصاصه بالواجبات التعبّديّة وعدم شموله للواجبات التوصّليّة ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة ، فهو أيضا يفصّل فيه بين العالم والجاهل.

والوجه في هذا التفصيل : هو أنّ المانع من صحّة العمل العبادي هو عدم إمكان تأتّي قصد القربة من المكلّف حال علمه بالحرمة ؛ لأنّه مع علمه بالحرمة فسوف يكون الفعل الحرام منجّزا عليه ، ومع تنجّزه تكون حرمته فعليّة ومع كونها فعليّة تكون مبغوضة للمولى ، والفعل المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه.

إلا أنّ هذا كلّه فرع الفعليّة ، والفعليّة متوقّفة على التنجّز والتنجّز موقوف على الوصول والوصول موقوف على العلم ، إذا مع عدم علم المكلّف بالحرمة لا تكون الحرمة واصلة إليه ، ومع عدم وصولها إليه لا تكون منجّزة وبالتالي لا تكون فعليّة بحقّه ، ومع عدم فعليّتها لا يكون الفعل مبغوضا بالفعل ، فيمكنه أن يقصد التقرّب بالفعل الحرام واقعا مع جهله به ؛ لأنّ قصد القربة يمكن أن يتأتّى منه في هذه الحالة ؛ لأنّه لا يقصد التقرّب بالمبغوض إلى المولى ، بل يقصد التقرّب بهذا العمل الذي يعتقد أنّه مباح وليس بمحرّم.

ومن هنا يظهر لنا السرّ في فتوى المشهور من الحكم بصحّة العبادة المأتي بها في المجمع فيما إذا كان جاهلا أو ناسيا للحرمة ، فإنّ التخريج الصحيح لها هو ما تقدّم ذكره.

وبهذا ينتهي البحث عن اجتماع الأمر والنهي.

* * *

ص: 378

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

اشارة

ص: 379

ص: 380

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

وقع البحث في أنّ وجوب شيء هل يقتضي حرمة ضدّه أو لا؟

ويراد بالضدّ المنافي على نحو يشمل الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ، ويراد بالاقتضاء استحالة ثبوت وجوب الشيء مع انتفاء حرمة ضدّه ، سواء كانت هذه الاستحالة ناشئة من أنّ أحدهما عين الآخر أو من أنّ أحدهما جزء الآخر ، أو من الملازمة بينهما.

تمهيد : من المسائل الأصوليّة المطروحة للبحث فيما إذا وجب شيء فهل يقتضي ذلك النهي عن ضدّه أو لا؟

وقبل الدخول في بحث المسألة لا بدّ من بيان المراد من الضدّ أوّلا ، ثمّ بيان المراد من الاقتضاء ثانيا.

أمّا الضدّ فالمراد به ما يعمّ النقيضين والضدّين باصطلاح المناطقة ، وليس المراد به خصوص الضدّين فقط.

أمّا النقيضان فأطلق عليهما في الأصول هنا الضدّ العامّ ، فيقال : إنّ وجوب شيء هل يقتضي النهي عن ضدّه العامّ أي نقيضه أو لا؟ والنقيض هنا هو ترك الوجوب.

وأمّا الضدّان فأطلق عليهما هنا عنوان الضدّ الخاصّ ، وهو الفعل الوجودي المضادّ للفعل الواجب ، فيقال : إنّ وجوب الصلاة مثلا هل يقتضي النهي عن الفعل الوجودي المنافي لفعل الصلاة أو لا؟

وأمّا الاقتضاء فمعناه الاستحالة ، بمعنى أنّه يستحيل أن يجتمع وجوب الشيء مع عدم حرمة الضدّ العامّ أو الخاصّ ، فإذا وجب شيء كانت حرمة ضدّه ضروريّة ويستحيل ثبوتها معه.

وهذه الاستحالة لها مناشئ ثلاثة :

ص: 381

الأوّل : أن تكون بملاك العينيّة ، بمعنى أنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة الضدّ ؛ لأنّ الوجوب نفسه عين حرمة الضدّ ، فتكون الحرمة ثابتة بمجرّد ثبوت الوجوب وإلا للزم التفكيك بين الشيء ونفسه.

الثاني : أن تكون بملاك التضمّن والجزئيّة ، بحيث يكون وجوب الشيء مركّبا من النهي عن الضدّ ومن طلب الفعل ، فيكون الاقتضاء ثابتا لكونه مدلولا تضمّنيّا بحيث إذا ثبت وجوب الشيء تضمّن ذلك النهي عن الضدّ ؛ لأنّه جزء المدلول.

الثالث : أن يكون بملاك الملازمة والتلازم ، بحيث يكون وجوب الشيء لازمه العقلي النهي عن ضدّه العامّ أو الخاصّ ، فإذا ثبت الوجوب حكم العقل بحرمة الضدّ على أساس الملازمة بينهما.

وسوف نستعرض البحث في مقامين :

الأوّل : في الضدّ العامّ ، وأنّه هل يكون الوجوب مقتضيا للنهي عنه بأحد هذه الملاكات الثلاثة أو لا؟

الثاني : في الضدّ الخاصّ ، وأنّه هل يكون منهيّا عنه كذلك أو لا؟

والمشهور في الضدّ العامّ هو القول بالاقتضاء وإن اختلف وجهه ، فقال البعض (1) إنّه بملاك العينيّة ، وهو غريب ؛ لأنّ الوجوب غير التحريم فكيف يقال بالعينيّة؟

وقد يوجّه ذلك : تارة بأنّ وجوب الشيء عين حرمة الضدّ العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة ، فكما أنّ حرمة الضدّ العامّ تبعّد عنه كذلك وجوب الشيء يبعّد عن ضدّه العامّ بنفس مقرّبيّته نحو الفعل ومحرّكيّته إليه.

وتارة أخرى بأنّ النهي عن الشيء عبارة عن طلب نقيضه ، فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه وهو الفعل ، فصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالفعل عين النهي عن الضدّ العامّ.

المقام الأوّل في الضدّ العامّ :

المشهور أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ، فوجوب الصلاة مثلا يقتضي النهي عن ترك الصلاة ؛ لأنّ ترك الصلاة نقيض لفعل الصلاة ، وقد قرّب ذلك على أساس الملاكات الثلاثة للاقتضاء ، وهي :

ص: 382


1- نسبه الميرزا الرشتي في بدائع الأفكار : 387 ، إلى بعض المحقّقين.

القول الأوّل : أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ؛ لأنّه عينه ، فالأمر معناه طلب الفعل بينما النهي معناه طلب الترك ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر لا محالة لاستحالة اجتماع النقيضين معا ، وهذه المقالة للميرزا.

ولمّا كانت هذه المقالة غريبة ، فقد وجّهت بأحد بيانين :

أمّا وجه الغرابة فيها : فهو أنّ الوجوب مغاير للتحريم ؛ وذلك لأنّ مفهوم الوجوب عبارة عن البعث والإرسال ؛ بينما مفهوم النهي عبارة عن الزجر والإمساك ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟! ولأنّ الوجوب يعبّر عن المصلحة والمحبوبيّة والتحريم يعبّر عن المفسدة والمبغوضيّة فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟!

وأمّا توجيه هذه المقالة فهو بأحد بيانين :

البيان الأوّل : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة.

أمّا إنّه ليس عينه في عالم الحكم والإرادة فواضح ؛ لأنّ الوجوب كحكم معناه البعث والتحريك بينما النهي معناه الزجر والمنع وهما متغايران مفهوما ومصداقا : أمّا مفهوما فلأنّ الصورة الذهنيّة لكلّ منهما مباينة للأخرى ، وأمّا مصداقا فلأنّ البعث والتحريك يقتضي الفعل ؛ بينما الزجر والمنع يقتضي الترك. وهكذا بالنسبة لعالم الإرادة فإنّ المولى إمّا أن يريد البعث أو يريد الزجر ، وإمّا أن يحبّ الفعل أو يحبّ الترك.

ولكنّ المدّعى أنّه عينه في مقام التأثير ؛ وذلك لأنّ وجوب الشيء يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، والنهي يقرّب المكلّف نحو الترك ويبعّده عن الفعل ، فإذا وجبت الصلاة كان هذا معناه أنّ الوجوب يقرّب المكلّف نحو الفعل ويبعّده عن الترك ، وحيث إنّ وجوب الشيء عين النهي عن ضدّه العامّ فسوف يكون النهي متعلّقا بترك الصلاة ، فيكون النهي مقرّبا نحو ترك ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يقرّب نحو ترك متعلّقه ويكون مبعّدا عن فعل ترك الصلاة ؛ لأنّ النهي يبعّد عن فعل متعلّقه.

وحينئذ تكون النتيجة : أنّ الوجوب يقرّب نحو فعل الصلاة وهو عين ما يقرّب إليه النهي المتعلّق بضدّها العام ؛ لأنّه يقرّب إلى ترك ترك الصلاة ، ومن المعلوم أنّ ترك الترك عبارة أخرى عن الفعل ، فيكون مقرّبا إلى فعل الصلاة فيتّحدان.

ص: 383

وهكذا بلحاظ المبعّديّة فإنّ الوجوب يبعّد عن ترك الصلاة ، والنهي يبعّد عن فعل ترك الصلاة ، وفعل الترك ليس إلا الترك فيكون النهي مبعّدا عن الترك كالوجوب فيتّحدان.

وبهذا ظهر أنّ التأثير فيهما واحد فيتّحدان بهذا اللحاظ.

البيان الثاني : أنّ وجوب الشيء عين ضدّه العامّ بلحاظ عالم المفهوم ؛ وذلك لأنّ النهي عن الشيء معناه طلب نقيضه ، فإذا قيل ( لا تشرب الخمر ) معناه أنّه يريد نقيض الشرب أي ( أريد عدم شرب الخمر ) ، فيكون النهي مركّبا من المنع والزجر عن الفعل مع طلب الترك.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي بترك شيء كما إذا قيل : ( لا تترك الصلاة ) ، فحيث إنّ النهي عن شيء معناه طلب نقيضه فيكون معنى ( لا تترك الصلاة ) بقوّة ( أريد عدم ترك الصلاة ) ، وإرادة عدم الترك معناها إرادة الفعل فيكون المعنى ( أريد فعل الصلاة ).

والنتيجة هي : أنّ النهي المتعلّق بترك شيء عبارة أخرى عن إرادة فعله. وإرادة الفعل هي نفس الأمر بالفعل ؛ لأنّ إرادة فعل الصلاة هي نفس الأمر بفعل الصلاة ، وهذا معناه اتّحاد الأمر والنهي عن الترك في المعنى والمفهوم.

ويرد على التوجيه الأوّل أنّه لا يفي بإثبات حرمة الضدّ حقيقة.

وعلى التوجيه الثاني بأنّه يرجع إلى مجرّد التسمية ، هذا مضافا إلى أنّ النهي عن شيء معناه الزجر عنه لا طلب نقيضه.

والجواب : عن هذه المقالة أن يقال : إنّ العينيّة بين وجوب شيء والنهي عن ضدّه العامّ باطلة في نفسها كما تقدّم ، وما ذكر من التوجيه بتقريبيه غير تامّ أيضا.

أمّا التوجيه الأوّل ، فكان حاصله الاتّحاد في مقام التأثير ، وفيه أنّ الاتّحاد المذكور ليس حقيقيّا ؛ لأنّه لو كان حقيقيّا فكان اللازم تعدّد العقوبة على المخالفة ، إحداهما على مخالفة الوجوب ، والأخرى على مخالفة النهي ، وهذا اللازم واضح الفساد بداهة.

وما دام الاتّحاد ليس حقيقيّا فلا يفيد ذلك في إثبات حرمة الضدّ العامّ بما تعبّر عنه من مبادئ وملاكات ، ومجرّد ثبوت عنوان الحرمة خاليا عن المبادئ ليس إلا مجرّد صياغة لفظيّة لا أكثر ما دامت خالية عن المضمون والمحتوى.

ص: 384

والنتيجة : أنّ هذا التوجيه وإن كان يثبت حرمة الضدّ العامّ ولكن من دون أن تكون حرمته معبّرة عن شيء من معنى الحكم وحقيقته وروحه. وهذا لا يفيد في المقام ؛ لأنّنا نبحث عن الحرمة الحقيقيّة ذات المبادئ والملاك.

وأمّا التوجيه الثاني ، فكان حاصله اتّحاد معنى النهي عن الترك والأمر بالفعل ، وفيه إيرادان :

الأوّل : أنّ هذه النتيجة ليست إلا تسمية لفظيّة لا أكثر. كما تقدّم بيانه في الإيراد على التوجيه الأوّل.

الثاني : أنّ المبنى الذي اعتمد عليه هذا التوجيه فاسد في نفسه ؛ وذلك لأنّه فرض أنّ النهي عبارة عن ( طلب النقيض ) وهذا باطل ؛ لأنّ النهي عبارة عن ( الزجر والمنع ) أو النسبة الإمساكيّة والزجريّة. مضافا إلى أنّ طلب النقيض الذي هو إرادة الفعل كما تتناسب مع الوجوب تتناسب مع الاستحباب أيضا ؛ لأنّ إرادة الفعل فيهما على نحو واحد ولكن تارة تكون الإرادة لزوميّة وأخرى لا تكون لزوميّة. ممّا يعني أنّ المدّعى أخصّ من البرهان.

وبهذا ينتهي الكلام عن القول الأوّل مع مناقشته.

وقال البعض (1) : إنّه بملاك الجزئيّة والتضمّن ؛ لأنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

وقد تقدّم في بحث دلالة الأمر على الوجوب إبطال دعوى التركّب في الوجوب على هذا النحو.

القول الثاني : وهو دعوى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام بملاك الجزئيّة والتضمّن.

وبيان ذلك : هو أنّ الوجوب مركّب من شيئين : أحدهما طلب الفعل والآخر المنع عن الترك. فكان المنع عن الترك والذي هو حرمة الضدّ العامّ مدلولا تضمّنيّا للأمر والوجوب. أي أنّه مأخوذ فيه.

والدليل على ذلك : هو أنّ طلب الفعل كما يكون في الوجوب يكون في الاستحباب أيضا فهو جنس لهما ، ولذلك يحتاج كلّ منهما إلى فصل يميّزه عن

ص: 385


1- منهم صاحب المعالم في المعالم : 63 - 64.

الآخر ، وهذا الفصل هو النهي أو المنع عن الترك وعدمه ، فإنّ هذا يميّز الوجوب عن الاستحباب ؛ لأنّ الوجوب فيه حيثيّة الإلزام فيكون طلبا للفعل مع النهي عن تركه بينما الاستحباب ليس فيه حيثيّة الإلزام ؛ لأنّه يجوز تركه فكان طلبا للفعل مع عدم النهي عن الترك.

وفيه : أنّه تقدّم سابقا في بحث دلالة الأمر على الوجوب عدم تماميّة هذا لنحو من التركيب ؛ وذلك لأنّ هذه الخصوصيّة المميّزة للوجوب وهي ( المنع عن الترك ) هي نفسها الجنس للتحريم ، فيكون الوجوب حينئذ مركّبا من جنسين وهذا مستحيل في نفسه.

والصحيح هو : أنّ الوجوب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن عدم الترخيص في الترك ، بينما الاستحباب مركّب من ( طلب الفعل ) الذي هو الجنس ، ومن الترخيص في الترك.

وقال البعض : إنّه بملاك الملازمة ؛ وذلك لأنّ المولى بعد أمره بالفعل يستحيل أن يرخّص في الترك ، وعدم الترخيص يساوق التحريم.

والجواب : أنّ عدم الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكم إلزامي ، وهو كما يلائم تحريم الترك ، كذلك يلائم إيجاب الفعل ، فلا موجب لاستكشاف التحريم.

القول الثالث : دعوى أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بملاك الملازمة والتلازم بينهما.

والوجه في ذلك : هو أنّ المولى إذا أمر بفعل فيستحيل أن يرخّص في تركه ؛ لأنّه إذا أمر بالصلاة مثلا ثمّ رخّص في تركها فيلزم منه اجتماع الضدّين : هما الوجوب والترخيص ، وهما متنافيان في عالم المبادئ والملاكات كما هما متنافيان في عالم الامتثال والمتطلّبات.

وعليه ، فإذا استحال الترخيص في الترك فلازم ذلك تحريم الترك ، وهو المطلوب.

وبهذا يكون تحريم الترك أو المنع عن الترك لازم عقلي للأمر بالشيء ، ممّا يعني أنّ وجوب الشيء يستلزم تحريم تركه أو المنع من الترك أي المنع عن الضدّ العامّ.

وجوابه : أنّنا نسلّم بأنّ المولى إذا أمر بشيء فيستحيل أن يرخّص فيه ، إلا أنّنا لا

ص: 386

نسلّم أنّ عدم الترخيص مساوق للتحريم ، بل هو أعمّ منه ؛ وذلك لأنّ عدم الترخيص كما يتناسب مع التحريم ؛ لأنّ التحريم يعني عدم الترخيص ، كذلك يتناسب مع الوجوب فإنّ الوجوب معناه عدم الترخيص أيضا.

وحينئذ يكون ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح. أو استظهار التحريم دون الوجوب يحتاج إلى دليل خاصّ. وهنا الدليل المتقدّم يثبت أنّ الوجوب مركّب من أمرين : أحدهما طلب الفعل ، والآخر عدم الترخيص في الترك وعدم الترخيص يكفي فيه ألاّ يرد الترخيص ولا يشترط فيه أن يرد ما يدلّ على حرمة الترخيص. ممّا يعني أنّ هذه الملازمة ليست ثابتة أو أنّها ليست جارية على الدوام ، وهذا يخرجها عن كونها ملازمة ؛ لأنّ التلازم العقلي معناه ثبوت أحد المتلازمين عند ثبوت الملازم الآخر حتما.

وبهذا ظهر أنّ هذا الملاك ليس تامّا أيضا. ومنه يتّضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ لا بنحو العينيّة ولا بنحو التضمّن ولا بنحو التلازم. وبه ينتهي الكلام عن المقام الأوّل.

وأمّا الضدّ الخاصّ : فقد يقال باقتضاء وجوب الشيء لحرمته بأحد دليلين :

الدليل الأوّل : وهو مكوّن من مقدّمات :

الأولى : أنّ الضدّ العامّ للواجب حرام.

الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ.

الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام.

ويبطل هذا الدليل بإنكار مقدّمته الأولى كما تقدّم ، وبإنكار المقدّمة الثالثة إذ لا دليل عليها.

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ

قد يقال : إنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ ، فمثلا إذا وجبت الصلاة حرم ضدّها الخاصّ أي كلّ فعل مناف للصلاة كالإزالة مع ضيق وقت الصلاة بحيث لا يتّسع إلا لأحدهما.

واستدلّ على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : ويسمّى بمسلك التلازم أو الاستلزام ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

ص: 387

المقدّمة الأولى : أن يبنى على حرمة الضدّ العامّ أي النقيض ، فإذا كانت الصلاة واجبة حرم نقيضها أي تركها.

المقدّمة الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ في الوجود ، بمعنى أنّه متى ما وجد الضدّ الخاصّ استلزم من ذلك تحقّق الضدّ العامّ أي النقيض ، ففي مثال وجوب الصلاة إذا اشتغل بالإزالة أي الضدّ الخاصّ كان هذا مستلزما لتحقّق الضدّ العام أيضا ؛ لأنّه بفعله الإزالة قد ترك الصلاة أيضا.

المقدّمة الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام. وهنا الضدّ الخاصّ لمّا كان ملازما للضدّ العامّ فهو ملازم لفعل الحرام وهو ترك الصلاة ، وكلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام ؛ وذلك لأنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ؛ لأنّه لا بدّ أن يكونا متسانخين في الحكم.

والنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ الصلاة إذا كانت واجبة فقد حرم نقيضها أي الضدّ العامّ وهو ترك الصلاة ، ولمّا كانت الإزالة ملازمة لترك الصلاة ، والمفروض أنّ الحرمة تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر ، فتكون الإزالة محرّمة لكونها ملازمة لما هو حرام وهو ترك الصلاة.

ويرد عليه : أوّلا : ما تقدّم من إنكار حرمة الضدّ العامّ ، فإنّه إذا لم يكن ترك الصلاة حراما فالإزالة التي هي ملازمة له لا تكون حراما أيضا ؛ لأنّ المتلازمين متسانخان في الحكم.

وثانيا : إنكار المقدّمة الثالثة ، فإنّه لا دليل على أنّ ملازم الحرام حرام وإنّما الدليل قائم على أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرمة.

فهنا مطلبان :

أمّا المطلب الأوّل : وهو أنّ ملازم الحرام لا يمكن أن يتّصف بحكم مخالف للحرام ، فهذا واضح بداهة أنّ المتلازمين في الوجود لا يمكن للمولى أن يجعل أحدهما حراما ، بينما يجعل الآخر واجبا أو مكروها أو مستحبا أو مباحا ؛ لأنّه يعني طلب الجمع بين الحكمين المتضادّين وهو مستحيل جعله فضلا عن امتثاله.

فإذا كانت الإزالة واجبة وفرضنا أنّ ترك الصلاة ملازم لها فيستحيل أن يتّصف ترك الصلاة بحكم مخالف للوجوب ؛ لأنّ ترك الصلاة إذا كان حراما أو مستحبّا أو

ص: 388

مكروها أو مباحا ، فهذا معناه أنّه إمّا يجب فعل الصلاة على المكلّف أو يستحب أو يكره أو يباح وكلّها لا يمكن أن تجتمع مع وجوب الإزالة ؛ لأنّ المفروض ضيق القدرة عنها ، فالمولى إذا شرّعهما معا فهذا معناه إلقاء المكلّف في العجز وعدم القدرة ، وهو تكليف مستحيل.

وأمّا المطلب الثاني : وهو أنّ ملازم الحرام لا بدّ أن يكون حراما ، فهذا لا دليل عليه ، بل يكفي فيه ألاّ يكون فيه حكم آخر مخالف ، أي يكفي ألاّ يكون واجبا ولا مستحبّا ولا مكروها ولا مباحا ، فهو خال عن الحكم تماما ، فإنّ خلوّه عن الحكم أمر ممكن في نفسه ومعقول ثبوته شرعا بأن لا يكون غرض المولى إلا في ملازمه لا في نفسه (1).

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمات أيضا :

الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لضدّه.

الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضدّ الخاصّ للواجب واجب.

الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه وهو إيقاع الضدّ الخاصّ ، وبذلك يثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو ما يسمّى بمسلك المقدّميّة ، وبيانه ضمن المقدّمات التالية :

المقدّمة الأولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول أو لفعل الضدّ الآخر. فإنّه إذا وجبت الإزالة فحصولها ووجودها يتوقّف على ترك ضدّها أي على ترك الصلاة ؛

ص: 389


1- ويمكن أيضا المناقشة في المقدّمة الثانية فإنّ الضدّ الخاصّ ليس ملازما للضدّ العامّ ، فإنّ فعل الصلاة ليس ملازما لترك الإزالة الذي هو الضدّ العامّ لوجوب الإزالة ؛ لأنّ ترك الإزالة كما يتحقّق بفعل الصلاة فهو أيضا يتحقّق بغيرها ممّا يعني أنّ فعل الصلاة أمر مقارن لترك الإزالة. والوجه في ذلك : هو أنّ الملازمة تنشأ بين ذات أحد الضدّين وذات عدم ضدّه ، فالملازمة تكون بين ذات الإزالة وبين ذات عدم الإزالة لا بين فرد خاصّ من عدم الإزالة. فإنّ لعدم الإزالة أفرادا منها الصلاة أو الأكل أو اللعب أو السفر ، وهكذا. وعليه ، فالملازمة كانت قبل فعل الصلاة وفعل الصلاة كان بعد الملازمة ، أي هو من شئون وتبعات الملازمة ومتفرّع عن الملازمة ؛ لأنّ ذات عدم الإزالة لا يتحقّق إلا بفعل مضادّ للصلاة ، ولكنّه ليس هو نفس هذا الفعل المضادّ.

لأنّه إذا فعل الصلاة فلا تتحقّق الإزالة ، فيكون ترك الصلاة مقدّمة لحصول الإزالة.

المقدّمة الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة كما تقدّم ذلك في بحث الوجوب الغيري - بناء على القول بالملازمة بينهما شرعا - وعليه يكون ترك الصلاة واجبا ؛ لأنّه مقدّمة لحصول الإزالة الواجبة.

المقدّمة الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه - بناء على أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ - وعليه ، فلمّا كان ترك الصلاة واجبا فيحرم نقيضه ونقيض ترك الصلاة هو فعل الصلاة ، فيكون فعل الصلاة حراما وهو المطلوب.

هذا ويمكن صياغة الدليل المذكور بنحو آخر ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد نستغني عن المقدّمة الثالثة ونكتفي بإثبات وجوب ترك الضدّ الخاصّ ؛ لأنّ هذا يحقّق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء وهي عدم إمكان الأمر بالضدّ الخاصّ ولو على وجه الترتّب. ومن الواضح أنّه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته كذلك مع الأمر بنقيضه ؛ لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معا.

الصياغة الثانية للدليل : أن يكتفى بالمقدّمتين الأولى والثانية ، مع الاستغناء عن المقدّمة الثالثة ، فيقال : إنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لحصول الضدّ الآخر ، ويبنى على أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فتكون النتيجة هي أنّ الإزالة إذا كانت واجبة فترك الصلاة مقدّمة لحصولها ؛ لأنّه لو لم يتركها واشتغل بها لم يتحقّق منه فعل الإزالة ، وحيث إنّ المقدّمة تتّصف بالوجوب فيكون ترك الصلاة واجبا.

وإثبات وجوب ترك الصلاة التي هي الضدّ الخاصّ للإزالة يكفي لإثبات نتيجة الاقتضاء ؛ لأنّ الصلاة لمّا كان تركها واجبا فيستحيل أن يؤمر بها لا مطلقا ولا على وجه الترتّب.

أمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مطلقا فللزوم اجتماع النقيضين ؛ إذ يكون ترك الصلاة واجبا وفعل الصلاة واجبا أيضا.

وأمّا أنّه لا يمكن أن يؤمر بالصلاة مشروطا فلأنّ الشرط هو عصيان الأمر الأهمّ فتكون الصلاة مأمورا بها في حال عصيان ترك الصلاة ؛ أي في حال فعلها المحرّم ممّا يعني أنّها مأمور بها في حال حرمتها ، وهذا مستحيل أيضا ؛ للزوم التهافت والتناقض أيضا.

كما أنّ المقدّمة الثانية لا نريد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة في كلّ

ص: 390

مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل ، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ. وعليه فهذه المقدّمة ثابتة.

والمهمّ إذا تحقيق حال المقدّمة الأولى ، وقد برهن عليها بأنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ، وعدم المانع أحد أجزاء العلّة ، فتثبت مقدّميّة عدم أحد الضدّين بهذا البيان.

إثبات المقدّمتين الأولى والثانية : أمّا المقدّمة الثانية : وهي إثبات أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

فتارة يراد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدّمة ، بمعنى أنّه في عالم الجعل والإيجاب يكون هناك وجوب شرعي مجعول على المقدّمة للملازمة بين المقدّمة وذيها.

وأخرى يراد بها إثبات الوجوب الغيري بلحاظ المبادئ ، أي أنّ حبّ ذي المقدّمة لازمه حبّ المقدّمة ، أو إرادة ذي المقدّمة يستلزم إرادة المقدّمة.

والنحو الأوّل قد تقدّم في بحث الوجوب الغيري عدم تماميّته ، ولكن النحو الثاني سلّمنا به على أساس دعوى وجدانيّة ، وهذا المقدار يكفي هنا بحيث يكون هناك إرادة متعلّقة بالمقدّمة.

فهذه المقدّمة ثابتة ولا نقاش فيها.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي إثبات مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ، فقد يقال في مقام الاستدلال عليها بأنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لاستحالة وجود الضدّين معا ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر مرتفعا لا محالة. وهذا معناه أنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الضدّ الآخر ؛ لأنّه لو لم يكن مانعا عن وجوده لزم اجتماع الضدّين معا وهو مستحيل.

وعليه ، فحيث إنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فلكي يتحقّق وجود الضدّ لا بدّ من توفّر أمرين : أحدهما وجود المقتضي له ، والآخر عدم المانع ، ولمّا كان المانع هو وجود ضدّه فيكون عدم الضدّ من أجزاء العلّة ؛ لأنّه يحقّق عدم المانع.

وحينئذ يثبت أنّ عدم الضدّ - بوصفه من أجزاء العلّة - يكون مقدّمة لحصول ووجود الضدّ الآخر ؛ لأنّ المقدّميّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فيثبت المطلوب.

ص: 391

هذا هو عمدة البرهان على إثبات مقدّميّة عدم الضدّ ؛ لحصول الضدّ الآخر.

ونجيب على هذا البرهان بجوابين :

الجواب الأوّل : يتكفّل حلّ الشبهة التي صيغ بها البرهان.

وبيانه : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع. فالمقتضي هو السبب الذي يترشّح منه الأثر. والشرط دخيل في ترشّح الأثر في مقتضيه. والمانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير.

ومن هنا يتوقّف وجود الأثر على المقتضي والشرط وعدم المانع.

وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنّه لا ينشأ من وجود المانع إلا في حالة وجود المقتضي ؛ لأنّ تأثير المانع إنّما هو بمنعه للمقتضي عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضي لا معنى لهذا المنع ، وهذا يعني أنّ المانع إنّما يكون مانعا إذا أمكن أن يعاصر المقتضي لكي يمنعه عن التأثير ، وأمّا إذا استحال أن يعاصره استحالت مانعيّته له ، وبالتالي لا يكون عدمه من أجزاء العلّة.

الجواب الأوّل عن برهان إثبات المقدّميّة : وهذا الجواب يراد به دفع الشبهة التي على أساسها صيغ البرهان على إثبات المقدّميّة ، فإنّه كان يبتني على أنّ أحد الضدّين بوجوده مانع عن الضدّ الآخر ، فإنّ هذه المانعيّة غير صحيحة إذا توضّح ما يلي :

أوّلا : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع.

والمراد من المقتضي : هو السبب الذي يترشّح منه الأثر أي المسبّب.

والمراد من الشرط : هو ما يكون دخيلا في ترتّب أو ترشّح الأثر على المقتضي أي المسبّب على السبب.

والمراد من المانع : الذي يكون عدمه شرطا في العلّة ، هو ما يمنع من تأثير المقتضي في ترتّب السبب.

ومن هنا يقال بأنّ ترتّب الأثر أو المعلول أو السبب يتوقّف على وجود المقتضي ووجود الشرط وانتفاء المانع ، فمثلا إذا أردنا إحراق ورقة فلا بدّ أوّلا من وجود المقتضي وهو السبب الذي يولّد الإحراق كالنار مثلا.

ثانيا : لا بدّ من وجود الشرط للإحراق كأن توضع الورقة في النار ؛ لأنّها ما دامت

ص: 392

بعيدة عنها فلن تحترق ، فالمماسّة أو الاتّصال بين النار والورقة شرط لحصول الأثر أي الإحراق.

ثالثا : لا بدّ من انتفاء المانع عن الاحتراق ، فإذا كانت الورقة رطبة مثلا رطوبة كثيفة جدّا ، أو وضع عليها مائع معيّن كثيف فسوف لن تحترق رغم وجود النار ، ورغم المماسّة بين الورقة والنار ، وهذا معناه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة ، فإذا انتفت الموانع فسوف يتحقّق الاحتراق ونحصل على الأثر المطلوب.

وبهذا يتّضح أنّ انتفاء الأثر أو عدم ترتّب المسبّب له أحد أسباب ثلاثة :

الأوّل : عدم وجود المقتضي ، فإنّه إذا لم يكن لدينا ما يسبّب الإحراق كالنار ونحوها لم يتحقّق المسبّب أو الأثر المطلوب.

الثاني : عدم وجود الشرط ، فإنّه إذا لم يحصل الاتّصال والمماسّة بين النار والورقة فلن يحصل الاحتراق الذي هو المسبّب والأثر.

الثالث : وجود المانع ، فإنّه إذا كان المانع موجودا كالسائل اللزج الكثيف على الورقة المانع من احتراقها فلن يتحقّق الأثر والمسبب.

ونحن إذا لاحظنا وجود المانع نجد أنّه يمنع من حصول المسبّب والأثر بعد فرض وجود المقتضي والشرط ؛ لأنّ المانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير ، وهذا يفترض مسبقا وجود المقتضي لكي يمنعه.

وأمّا إذا افترضنا أنّ المقتضي غير موجود من أوّل الأمر ، فهذا المانع لا يسمّى مانعا ولا يكون عدمه من أجزاء العلّة ؛ لأنّه سواء كان المانع موجودا أم منتفيا فالأثر أو المسبّب لن يتحقّق ؛ لأنّ المقتضي له غير موجود لا لأنّ المانع موجود.

إذا ففرض مانعيّة المانع هي فرض وجود المقتضي ممّا يعني أنّ المقتضي والمانع لا بدّ من تعاصرهما في الوجود ، فإذا كانا متعاصرين وجودا كان المانع مانعا عن تأثير المقتضي وكان عدمه من أجزاء العلّة.

وأمّا إذا لم يكونا متعاصرين بأن كان وجود المقتضي لا يجتمع مع المانع فلن تحصل المانعيّة ، والنتيجة ستكون عدم مانعيّة هذا المانع وعدم كونه من أجزاء العلّة.

وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا الصلاة بوصفها ضدّا لإزالة النجاسة عن المسجد نجد أنّ المقتضي لها هو إرادة المكلّف ، ويستحيل أن تجتمع الإزالة مع إرادة

ص: 393

المكلّف للصلاة. وهذا معناه أنّ مانعيّة الإزالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن أن يكون عدمها أحد أجزاء العلّة.

وإن شئت قلت : إنّه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض كون الإزالة مانعة عن تأثيره.

وممّا ذكرنا يظهر لنا أنّ عدم الضدّ ليس مقدّمة للضدّ الآخر.

فمثلا إذا أخذنا الصلاة والإزالة فنقول إنّهما ضدّان وجوديّان ، ولكن عدم الإزالة لا يمكن فرضه مانعا ؛ وذلك لأنّ فرض المانع هو فرض وجود المقتضي أيضا لاشتراط التعاصر بينهما ، والمقتضي للصلاة هو إرادة المكلّف للصلاة فإنّه إذا لم يرد الصلاة فلا مقتضي لوجودها أصلا.

وعليه ، فإذا أراد المكلّف الصلاة استحال أن يكون المانع وهو الإزالة موجودا ؛ لأنّ الضدّين لا يمكن اجتماعهما معا ، وهو هنا يريد الصلاة فالإزالة منتفية لا محالة ، ومع انتفاء الإزالة لا يمكن أن يفرض عدمها من أجزاء العلّة ؛ لأنّ المانع لا يجتمع مع المقتضي أي الإزالة لا تجتمع مع إرادة الصلاة.

نعم ، المانع لإرادة المكلّف الصلاة هو عدم إرادته لها أي عدم وجود المقتضي لها أو وجود المقتضي للضدّ الآخر ، أي إرادة الإزالة فإنّ إرادة الإزالة تمنع من وجود الصلاة ، وهذا معناه أنّ المانع للصلاة ليس هو الإزالة ، بل هو إمّا عدم إرادتها وإمّا إرادة الإزالة.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إمّا أن يريد الصلاة أو لا يريدها ، فإن أراد الصلاة فليس هناك شيء آخر إلا وجود الصلاة. وإذا لم يرد الصلاة فلا يكون المقتضي لها موجودا فهي منتفية لانتفاء المقتضي ، ولا مدخليّة للإزالة في ذلك ليقال بأنّ وجودها مانع فعدمها من أجزاء العلّة.

وبهذا ظهر أنّ وجه الشبهة هي صياغة كون أحد الضدّين مانعا بوجوده عن وجود الضدّ الآخر ، مع أنّنا أثبتنا بهذا البيان والبرهان العقلي أنّ أحد الضدّين لا يمكن فرضه مانعا ، وإنّما المانع هو إمّا عدم إرادة الضدّ أو إرادة الضدّ الآخر لا نفس الضدّ الآخر.

فإن قيل : كيف تنكرون أنّ الإزالة مانعة مع أنّها لو لم تكن مانعة لاجتمعت مع الصلاة ، والمفروض عدم إمكان ذلك؟

ص: 394

كان الجواب : أنّ المانعيّة التي تجعل المانع علّة لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلّة للأثر إنّما هي مانعيّة الشيء عن تأثير المقتضي في توليد الأثر.

وقد عرفت أنّ هذه المانعيّة إنّما تثبت لشيء بالإمكان معاصرته للمقتضي ، وأمّا المانعيّة بمعنى مجرّد التمانع وعدم إمكان الاجتماع في الوجود - كما في الضدّين - فلا دخل لها في التأثير ، إذ متى ما تمّ المقتضي لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ، وانتفى المانع عن تأثير المقتضي أثّر أثره لا محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي الآخر.

ونتيجة ذلك : أنّ وجود أحد الضدّين مع عدم ضدّه في رتبة واحدة ، ولا مقدّميّة بينهما.

الفرق بين المانعيّة والتمانع :

وهذا الفارق يتّضح من خلال إشكال وجوابه :

أمّا الإشكال فحاصله : أنّ الجواب المتقدّم من السيّد الشهيد على برهان المقدّميّة ، يثبت فيه إنكار كون أحد الضدّين مانعا من وجود الضدّ الآخر ليكون عدمه من أجزاء العلّة.

وعليه ، فلو فرض أنّ عدم الضدّ ليس من أجزاء العلّة ولا يعتبر وجوده مانعا فيلزم من ذلك إمكان اجتماع الضدّين معا ، وهو مستحيل.

فمثلا لو قلنا بأنّ الإزالة ليست بوجودها مانعة من وجود الصلاة فاللازم إمكان اجتماعهما ، والحال أنّ اجتماع الضدّين غير ممكن في نفسه. فلما كان اجتماعهما مستحيلا دلّ ذلك على أنّ الإزالة لا بدّ أن تكون معدومة حين الصلاة ، وهذا معناه أنّ عدم الإزالة ممّا يتوقّف عليه وجود الصلاة فهو مقدّمة له أو جزء العلّة له.

وأمّا الجواب : فإنّ المانعيّة على نحوين :

أحدهما : المانعيّة بمعنى أنّ المانع عدمه من أجزاء العلّة ، بحيث يكون دخيلا في ترتيب الأثر للمقتضي. وهذا يشترط فيه أن يكون المانع معاصرا للمقتضي في الوجود ؛ لأنّه لو لم يكن معاصرا له في الوجود لم يتّصف بأنّ عدمه مانع من التأثير ، إذ سوف يكون عدم التأثير في هذه الحالة نتيجة عدم وجود المقتضي أو عدم وجود الشرط. وهذا ما بيّناه في جوابنا السابق.

ص: 395

والآخر : المانعيّة بمعنى التمانع والتضادّ في الوجود ، وهذا التمانع ليس دخيلا عدمه في العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التمانع بين الضدّين إنّما هو لأجل عدم إمكان الاجتماع في الوجود.

ففي مثال الإزالة والصلاة يوجد بينهما تمانع في الوجود بحيث لا يمكن اجتماعهما. ولكن إذا فرضنا وجود المقتضي لأحدهما كما إذا أراد المكلّف الصلاة ، فإنّ هذا المقتضي مع توفّر الشرط يكون هو المانع من وجود الضدّ الآخر أي الإزالة ، لا أنّ نفس الصلاة هي التي تمنع من وجود الإزالة بحيث تكون دخيلة في عدم تأثير المقتضي للإزالة مع وجوده ؛ لأنّه مع وجود المقتضي للإزالة تكون الصلاة منتفية بسبب عدم وجود المقتضي لها كذلك.

وبهذا نعرف أنّ المانع لوجود الضدّ إنّما هو وجود المقتضي لضدّه ، فانتفاء المقتضي للضدّ يعتبر من أجزاء العلّة ؛ لوجود الضدّ الآخر.

وهذا معناه أنّ الضدّين في رتبة واحدة بحيث لا طوليّة ولا تقدّم ولا تأخّر ولا توقّف لأحدهما على الآخر. وإنّما هما في رتبة واحدة عرضيّة ، وما يكون مقدّمة وفي طول الآخر إنّما هو المقتضي فإنّه مقدّمة لوجود الضدّ ، وعدمه من أجزاء العلّة لوجود الضدّ الآخر.

والجواب الثاني : أنّ افتراض المقدّميّة يستلزم الدور ، كما أشرنا إليه في الحلقة السابقة (1) ، فلاحظ.

الجواب الثاني على ما تقدّم من برهان إثبات المقدّميّة هو لزوم الدور.

وبيانه : أنّه لو كان عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر ، فحيث إنّ المقدّميّة من الطرفين فيكون عدم الضدّ الآخر مقدّمة للضدّ الأوّل ، فيلزم أن يكون الضدّ الأوّل معلولا لعدم الضدّ الثاني ، بينما يكون الضدّ الثاني معلولا للضدّ الأوّل.

وهذا معناه أنّ الشيء في نفسه يكون علّة ومعلولا ومتقدّما ومتأخّرا ، ومن ذلك يلزم الدور ؛ لأنّ الضدّ الأوّل لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الثاني ، والضدّ الثاني لمّا كان موقوفا على عدم الضدّ الأوّل فيكون الضدّ الأوّل موقوفا على عدم ( عدم الضدّ الأوّل ) ، أي على وجود الضدّ الأوّل فيتوقّف على نفسه ، وهو دور.

فمثلا لو كان عدم الإزالة علّة ومقدّمة للصلاة ، وحيث إنّ التمانع والمقدّميّة من

ص: 396


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

الطرفين ، فيكون عدم الصلاة علّة ومقدّمة للإزالة ، وهذا لازمه أنّ وجود الصلاة متوقّف على عدم الإزالة ، وهذا بدوره متوقّف على فعل الصلاة ؛ لأنّه بفعل الصلاة يتحقّق عدم الإزالة فيكون وجود الصلاة متوقّفا على وجود الصلاة ، وهذا دور.

وعليه ، فالصحيح أنّ وجوب شيء لا يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ.

وبهذا ظهر أنّه لا دليل على حرمة الضدّ الخاصّ ، كما لم يتمّ الدليل على حرمة الضدّ العامّ أيضا. والنتيجة : هي أنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ ولا العامّ.

وأمّا ثمرة هذا البحث فهي - كما أشرنا في الحلقة السابقة (1) - تشخيص حكم الصلاة المضادّة لواجب أهمّ إذا اشتغل بها المكلّف وترك الأهمّ ، وكذلك أي واجب آخر مزاحم من هذا القبيل.

فإذا قلنا بالاقتضاء تعذّر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتّب ، فلا تصحّ.

وإذا لم نقل بالاقتضاء صحّت بالأمر الترتّبي.

وبصيغة أشمل في صياغة هذه الثمرة :

إنّه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلي الواجبين المتزاحمين ؛ لأنّ كلاّ من الدليلين يدلّ بالالتزام على تحريم مورد الآخر ، فيكون التنافي في أصل الجعل ، وهذا ملاك التعارض كما مرّ بنا.

وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلا تعارض ؛ لأنّ مفاد كلّ من الدليلين ليس إلا وجوب مورده وهو مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم كما تقدّم ، ولا تنافي بين وجوبين من هذا القبيل في عالم الجعل.

ثمرة البحث : توجد ثمرتان للقول باقتضاء وجوب الشيء النهي عن ضدّه الخاصّ أو عدمه.

الثمرة الأولى : فيما إذا كان هناك واجبان متضادّان أحدهما مضيّق والآخر موسّع ، فمثلا إذا وجبت إزالة النجاسة عن المسجد فهي واجب فوري والواجب الفوري مضيّق ، وفرضنا أنّ الصلاة قد دخل وقتها وهو لا يزال واسعا فهي ليست مضيّقة ؛ لإمكان فعلها بعد الإزالة مع سعة الوقت كما هو المفروض.

ص: 397


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

فهنا يكون وجوب الإزالة أهمّ ، ولكنّه لو عصاه وصلّى فهل تكون صلاته صحيحة أم باطلة؟

فإن قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فوجوب الإزالة الأهمّ يقتضي النهي عن الصلاة فتحرم ، فمع الإتيان بها تقع باطلة ؛ لأنّها منهي عنها فلا يتعلّق الأمر بها في هذه الحالة ، ومع عدم كونها مأمورا بها فلا تقع مصداقا للواجب لعدم الأمر.

وأمّا إن قلنا بأنّ وجوب الشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فالأمر بوجوب الإزالة وإن كان أهمّ إلا أنّه ليس فيه دلالة على حرمة الصلاة ، فلو عصى الإزالة وصلّى لكانت صلاته صحيحة لكونها مأمورا بها فتقع مصداقا للواجب المأمور به وتكون مجزية وصحيحة. وإن كان بلحاظ عدم امتثاله للإزالة عاصيا ويستحقّ العقوبة.

الثمرة الثانية : فيما إذا كان هناك واجبان متزاحمان كما في وجوب الإزالة الفوري ووجوب الصلاة في آخر وقتها فإنّه مضيّق ، بحيث لو اشتغل بأحدهما لفاته الآخر.

فهنا تظهر بين القولين كما يلي : أنّنا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف يقع التعارض بين الدليلين الدالّين على وجوب الصلاة وعلى وجوب الإزالة ، والوجه في ذلك هو أنّ الأمر بالإزالة كما يدلّ بالمطابقة على وجوبها يدلّ أيضا - إمّا بدلالة مطابقيّة أو تضمّنيّة أو التزاميّة - على حرمة الصلاة بوصفها ضدّا خاصّا.

ومن جهة الأمر بالصلاة له دلالتان أيضا دلالة على وجوب الصلاة بالمطابقة ، ودلالة على حرمة الإزالة بإحدى الدلالات الثلاث.

وعليه ، فسوف يقع التكاذب والتنافي بين المدلول الدالّ على الوجوب في أحدهما مع المدلول الآخر الدالّ على الحرمة ، وهذا التنافي ناشئ من نفس الأمرين والجعلين ، والتنافي بين الجعلين والدليلين هو ملاك التعارض.

وحينئذ لا بدّ من تطبيق قواعد التعارض من الجمع أو الترجيح أو التخيير أو التساقط.

ص: 398

وأمّا إذا قلنا بأنّ وجوب شيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فسوف لا يقع التعارض بين الدليلين ؛ وذلك لأنّ الدليل في كلّ منهما لا يثبت أكثر من وجوب متعلّقه من دون أن يكون له دلالة أخرى على التحريم. ولكن حيث إنّ كلّ تكليف يشترط فيه القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ أي بمعنى عدم الاشتغال بالواجب الأهمّ أو المساوي ، فسوف يكون كلا الدليلين - في حالة تساويهما في الأهمّيّة - مشروطا بترك الآخر ، فهو مأمور به على نحو الترتّب من الجانبين ، وسوف يكون أحدهما - في حالة كونه أهمّ من الآخر - مطلقا ، والآخر - الأقلّ أهمّيّة - مشروط بعصيان الأهمّ.

وهذا معناه أنّ مبحث الترتّب المتقدّم يرتبط بمبحث الضدّ ومتفرّع عليه ، فإنّنا إذا قلنا بالاقتضاء دخل المتزاحمان في باب التعارض ، وإذا قلنا بعدم الاقتضاء كان للتزاحم أحكامه الخاصّة به من تقديم الأهمّ أو كون الواجبين معا مشروطا كلّ منهما بعصيان الآخر.

وبهذا ينتهي الكلام عن مبحث الضدّ. وقد عرفنا أنّه لا يقتضي الحرمة.

* * *

ص: 399

ص: 400

اقتضاء الحرمة للبطلان

ص: 401

ص: 402

اقتضاء الحرمة للبطلان

لا شكّ في أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو بالمعاملة إرشادا إلى شرط أو مانع ، يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع.

وإنّما الكلام في الحرمة التكليفيّة واقتضائها لبطلان العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة بمعنى عدم ترتيب الأثر عليها. فهنا مبحثان : موضوع البحث :

أوّلا : المراد من النهي المتعلّق بالعبادة هو النهي التحريمي التكليفي (1) أي الحرمة النفسيّة التي تنشأ من المبادئ والملاكات أي من المفسدة والمبغوضيّة.

وليس المراد من النهي هنا النهي الإرشادي ؛ لأنّه لا إشكال في دلالته على البطلان سواء تعلّق بالعبادة أم بالمعاملة ؛ وذلك لأنّ النهي الإرشادي تارة يكون إرشادا لشرطيّة شيء ، وأخرى يكون إرشادا إلى مانعيّة شيء.

فمثلا قولنا : ( لا تصلّ لغير القبلة ) مفاده الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في الصلاة.

وقولنا : ( لا تصلّ في النجس ) إرشاد إلى مانعيّة النجاسة من صحّة الصلاة ، وكذا قولنا : ( لا تصلّ بالمغصوب ).

وفي هاتين الحالتين إذا فقد الشرط أو وجد المانع كشف ذلك عن عدم تحقّق

ص: 403


1- وأمّا النهي الكراهتي فإن كان معنى الكراهة قلّة الثواب فلا مانع من اجتماعها مع الأمر ؛ لأنّ النتيجة تكون النقص من المحبوبيّة ، وإن كان معناها المفسدة والمبغوضيّة فإذا بني على جواز الاجتماع فلا محذور في اجتماع الأمر بالعبادة والنهي عنها. وأمّا إذا بني على الامتناع فيلزم محذور اجتماع المفسدة والمبغوضيّة مع المصلحة والمحبوبيّة ، فيدخل هذا المورد في موضوع البحث.

المأمور به على الوجه المطلوب شرعا ، فمثلا إذا صلّى لغير القبلة أو صلّى في النجاسة أو المكان المغصوب فيكشف ذلك عن البطلان ؛ لأنّ المأتي به ليس مصداقا للمأمور به فلا يجزي عنه ولا يكون امتثالا ، وهذا واضح ؛ لأنّه على القاعدة لأنّ إجزاء غير المأمور به على وجهه والحكم بصحّته على خلاف القاعدة.

وعليه ، فمفاد النهي الإرشادي هو البطلان عند فقدان الشرط أو وجود المانع ، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

وثانيا : أنّ الاقتضاء معناه الملازمة ، فيبحث في أنّ النهي التحريمي ، هل يستلزم الفساد فيما إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة أم لا؟ ولذلك يكون البحث أصوليّا ؛ لأنّه داخل في المستلزمات العقليّة.

وثالثا : أنّ الصحّة هنا بمعنى الإجزاء في العبادة ، وترتّب الأثر في المعاملة ، والفساد بمعنى عدم الإجزاء في العبادة ولزوم الإعادة ، وعدم ترتّب الأثر المطلوب من المعاملة.

ورابعا : أنّ البحث ينقسم إلى قسمين ؛ لأنّ النهي تارة يتعلّق بالعبادة وأخرى يتعلّق بالمعاملة ، فهنا بحثان :

الأوّل : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان العبادة.

الثاني : اقتضاء النهي أي الحرمة لبطلان المعاملة.

* * *

ص: 404

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة

اشارة

ص: 405

ص: 406

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة

والمعروف بينهم أنّ الحرمة تقتضي بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :

الأوّل : أنّها تمنع عن إطلاق الأمر خطابا ودليلا لمتعلّقها لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه مصداقا للواجب لا يجزي عنه ، وهو معنى البطلان.

الثاني : أنّها تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ، ومع كونها مبغوضة يستحيل التقرّب بها.

الثالث : أنّها تستوجب حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّقها لكونه معصية مبعّدة عن المولى ، ومعه يستحيل التقرّب بالعبادة.

المبحث الأوّل : في اقتضاء النهي عن العبادة للبطلان.

إذا تعلّق النهي بعبادة ما كما إذا قيل : ( لا تصلّ في الحمّام ) أو ( لا تصم يوم عاشوراء ) ، فهل هذا النهي يقتضي ويستلزم بطلان العبادة فيما لو أتى بها المكلّف أو لا؟

المشهور بينهم أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها وبطلانها ، وذكر لذلك أدلّة ترجع إلى ملاكات ثلاثة :

الملاك الأوّل : أنّ الحرمة عن العبادة تمنع من إطلاق الأمر وشموله للعبادة ، فيسقط الأمر عن العبادة ؛ لأنّه لو ظلّ شاملا لها للزم اجتماع الأمر والنهي وهو ممتنع. ومع سقوط الأمر عن العبادة تخرج العبادة المأتي بها في حال تعلّق الحرمة بها عن كونها مصداقا للواجب ؛ لأنّ ما يكون مصداقا للواجب هو ما يكون مصداقا للمأمور به ، والمفروض أنّه لا يوجد أمر بالعبادة لسقوطه ، وحينئذ تقع باطلة ؛ لأنّ إجزائها عن الواجب يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّه يكون من باب إجزاء غير المأمور به عن المأمور

ص: 407

به. وكذا لا يمكن إثبات إجزائها ببقاء الملاك فيها ؛ لأنّه مدلول التزامي ومع سقوط المدلول المطابقي يسقط الالتزامي للتبعيّة بينهما.

وهكذا يتعيّن الإعادة أو القضاء ؛ لأنّ الذمّة مشغولة يقينا بالتكليف ويشكّ في فراغها حين الإتيان بهذه العبادة المنهي عنها.

الملاك الثاني : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تكشف عن كون العبادة مبغوضة للمولى ؛ وذلك لأنّ النهي التحريمي معناه وجود المفسدة والمبغوضيّة في متعلّقه ، وحيث إنّه متعلّق بالعبادة فتكون مبغوضة للمولى ، والحال أنّ الشيء المبغوض للمولى لا يمكن التقرّب به إليه ؛ لأنّ التقرّب بالمأتي به معناه إضافته للمولى والفعل المبغوض للمولى كيف يمكن إضافته إليه؟!

وهذا معناه أنّ العبادة فيها قصور لا من حيث ذاتها ، بل من ناحية عدم إمكان التقرّب بها فتبطل ؛ لأنّ قصد القربة من شروط تحقّق العباديّة ، فمع عدمه لا يكون ما وقع عبادة.

الملاك الثالث : أنّ الحرمة المتعلّقة بالعبادة تستلزم حكم العقل بقبح الإتيان بها ؛ لأنّ الحرمة إذا تعلّقت بشيء حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلّق الحرمة ؛ لكونه معصية قبيحة من جهة حكم العقل بلزوم إطاعة تكاليف المولى ، وهنا تكليف المولى يستلزم ترك ما تعلّق به النهي ، ففعله يكون مخالفة فيحكم العقل بقبح ذلك.

وعليه ، فإذا أتى المكلّف بالعبادة في هذه الحالة لم يمكنه التقرّب بها إلى المولى من جهة كون الإتيان بها معصية قبيحة ، والمعصية لا يمكن أن تكون مقرّبة للمولى أو لا يمكن أن يقصد القربة حال فعل المعصية.

وهذا نتيجته القصور من جهة عدم إمكان تحقّق قصد القربة فتبطل العبادة ؛ لأنّ قصد القربة شرط في تحقّقها.

وهذا الوجه يبتني على أنّه لا يمكن اجتماع الحسن والقبح على شيء واحد.

والمعصية والطاعة لا يمكن اجتماعهما معا ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع المقرّبيّة مع المبعّديّة.

وهذه الملاكات على تقدير تماميّتها تختلف نتائجها :

ص: 408

فنتيجة الملاك الأوّل لا تختصّ بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصّلي أيضا ، ولا تختصّ بالعالم بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضا ، ولا تختصّ بالحرمة النفسيّة ، بل تشمل [ الحرمة ] الغيريّة أيضا.

ونتيجة الملاك الثاني تختصّ بالعبادة ؛ إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها ، وبالعالم بالحرمة ؛ لأنّ من يجهل كونها مبغوضة يمكنه التقرّب.

ونتيجة الملاك الثالث تختصّ بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وأيضا تختصّ بالنهي النفسي ؛ لأنّ الغيري ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدّم في مبحث الوجوب الغيري (1).

الفارق بين الملاكات الثلاثة :

أمّا الملاك الأوّل : فهو يتمّ في العبادات والمعاملات ، وفي حالتي العلم بالحرمة والجهل بها ، وفي الحرمة النفسيّة والغيريّة.

أمّا تماميّته في العبادات والمعاملات ، فلأنّ هذا الملاك يبتني على سقوط الأمر وإذا سقط الأمر لم يكن ما أتى به مصداقا للواجب المأمور به ، سواء كان هذا الواجب عبادة أم معاملة.

وأمّا تماميّته في صورتي العلم والجهل ، فلأنّه يبتني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة الامتناع أمر واقعي لا يختلف الحال فيه بين العالم والجاهل بالحرمة ؛ لأنّه مع الامتناع يسقط الأمر واقعا فلا أمر بالعبادة ولا المعاملة.

وأمّا تماميّته في الوجوب النفسي والغيري معا ، فلأنّ الواجب الغيري ما يكون مقدّمة ، فإذا تعلّق النهي بالمقدّمة لزم من ذلك تقيّد الأمر بالفرد المباح ؛ لأنّ الحرمة الغيريّة معناها العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها للحرام فيحرم ؛ لأنّه سبب توليدي للحرمة وهذا يوجب مبغوضيّة المقدّمة ، ومعها لا يشملها الأمر وإلا للزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة معا وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثاني : فهو يتمّ في العبادات دون التوصّليّات ، ويتمّ في صورة العلم دون الجهل ، ولكنّه يتمّ في الحرمة النفسيّة والحرمة الغيريّة معا.

أمّا عدم تماميّته في التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على عدم إمكان التقرّب بالمبغوض.

ص: 409


1- تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

ومن الواضح أنّ قصد القربة إنّما هو في خصوص العبادات دون التوصّليّات ؛ لأنّه لا يشترط فيها قصد القربة.

وأمّا عدم تماميّته في حال الجهل بالحرمة ، فلأنّ عدم إمكان التقرّب بالمبغوض فيما إذا كان يعلم بأنّ العبادة مبغوضة للمولى ، وهذا فرع تنجّزها عليه وهذا لا يكون إلا بوصولها والعلم بها ، فمع الجهل بها لا تكون الحرمة متنجّزة عليه ، ولذلك يمكن أن يتأتّى منه قصد القربة ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود المبغوضيّة بالعبادة التي يأتي بها ؛ لعدم علمه بحرمتها.

وأمّا تماميّته في الحرمة النفسيّة والغيريّة معا ، فلأنّ الحرمة الغيريّة معناها حرمة المقدّمة التي تكون علّة أو جزء العلّة للحرام ، فيكون الحرام النفسي المبغوض للمولى مستلزما لمبغوضيّة مقدّمته ، ومع كون المقدّمة مبغوضة لا يمكن ثبوت الأمر بها ؛ لأنّ لازمه كونها محبوبة أيضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة والمحبوبيّة على شيء واحد ، وهو مستحيل.

وأمّا الملاك الثالث : فهو يختصّ بالعبادات دون التوصّليّات ، ويختصّ أيضا بفرض تنجّز الحرمة والعلم بها دون حالة الجهل ، ويختصّ أيضا بالحرمة النفسيّة لا الغيريّة.

أمّا اختصاصه بالعبادات دون التوصّليّات ، فلأنّه يبتني على أنّ التقرّب لا يمكن أن يكون بما هو معصية قبيحة ، وهذا فرع اشتراط قصد القربة ، وفي التوصّليّات لا يشترط قصد القربة. إذا فمجرّد كونها معصية قبيحة عقلا لا يمنع من صحّتها.

وأمّا اختصاصه بصورة العلم دون الجهل ، فلأنّ عدم إمكان قصد التقرّب بالمعصية القبيحة إنّما هو فرع وصولها وتنجّزها ، وأمّا مع عدم وصول الحرمة وعدم تنجّزها على المكلّف فلا تكون فعليّة ، ولذلك فهو لا يعتقد بحرمة ما يأتي به ويمكنه أن يتأتّى منه قصد القربة به.

وأمّا عدم شموله للحرمة الغيريّة ، فلأنّ الحرمة الغيريّة كما تقدّم في بحث الوجوب الغيري ، ليس فيها عقوبة زائدة على العقوبة الموجودة في الحرام النفسي ، فإذا فعل المقدّمة التي تؤدّي إلى الحرام لا يكون قد فعل معصيتين ليستحقّ

ص: 410

عقوبتين ، ومع عدم العقوبة والمعصية فيها لا يكون فعلها مانعا من التقرّب.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ الملاك الأوّل أعمّ من الملاكين الآخرين. والثاني أعمّ من الثالث أيضا (1).

ثمّ إذا افترضنا أنّ حرمة العبادة تقتضي بطلانها ، فإن تعلّقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وإن تعلّقت بجزئها بطل هذا الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة ، وبطل الكلّ إذا اقتصر على ذلك الفرد من الجزء. وأمّا إذا أتى بفرد آخر غير محرّم من الجزء صحّ المركّب إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات.

وإن تعلّقت الحرمة بالشرط نظر إلى الشرط ، فإن كان في نفسه عبادة كالوضوء بطل ، وبطل المشروط بتبعه ، وإلا لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط ، أمّا الأوّل فلعدم كونه عبادة ، وأمّا الثاني فلأنّ عباديّة المشروط لا تقتضي بنفسها عباديّة الشرط ولزوم الإتيان به على وجه قربي ؛ لأنّ الشرط والقيد ليس داخلا تحت الأمر النفسي المتعلّق بالمشروط والمقيّد ، كما تقدّم (2) في محلّه.

كيفيّة تعلّق النهي بالعبادة : تارة يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، وأخرى يتعلّق بجزء منها ، وثالثة يتعلّق بشرط من شروطها ، فهنا ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن يتعلّق النهي بالعبادة بكاملها ، كما في النهي عن صوم يوم عاشوراء ، أو عن الصلاة في الحمّام ، فإنّ النهي متعلّق بأصل الصوم وبأصل الصلاة بتمامها.

وهذه الحالة هي التي كان البحث السابق معقودا لأجلها ، فإن قيل باقتضاء الحرمة

ص: 411


1- هذا كلّه على تقدير تماميّة هذه الملاكات هنا ، إلا أنّ الصحيح هو عدم تماميّتها وذلك : أمّا الملاك الأوّل فلأنّه مبني على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، ونحن قد ذكرنا سابقا أنّ الصحيح هو جواز الاجتماع. وأمّا الملاكان الثاني والثالث فلأنّهما يبتنيان على عدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض أو بما هو معصية ، وهذا متوقّف ليس فقط على الفعل الخارجي ، بل على ضمّ الداعي إليه ، فلو كان الفعل مبغوضا ولم يكن الداعي هو المعصية بل الطاعة لأمكن التقرّب به.
2- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة تنوّع القيود وأحكامها.

للبطلان كان المصداق الأبرز والأهمّ هو النهي المتعلّق بالعبادة بكاملها ، فتقع باطلة.

الحالة الثانية : أن يتعلّق النهي بجزء من أجزاء العبادة ، كما في النهي عن قراءة السور العزائم الأربع في الصلاة ، فهنا هل يقتضي النهي المتعلّق بالجزء البطلان للجزء فقط ، أم له وللمركّب أيضا؟

والجواب : أنّ حرمة الجزء - على القول باقتضاء الحرمة للبطلان - تقتضي بطلان الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة أيضا ، فالصلاة المركّبة من ركوع وسجود وقراءة وذكر وتشهّد وتسليم وتكبير كلّها أجزاء لها وكلّ جزء منها عبادة. ومع بطلان الجزء العبادي يبطل المركّب العبادي أيضا ؛ لأنّ الاقتصار على الإتيان بالفرد المحرّم من الجزء لمّا كان يوجب بطلان الجزء فلا يتحقّق المركّب ؛ لأنّ المركّب لا يتحقّق إلا بتمام أجزائه وينتفي بانتفاء جزء منها ، ولذلك ينتفي المركّب.

وأمّا إذا أعاد الجزئيّة ضمن فرد آخر مباح كأن قرأ سورة أخرى غير العزائم بعد أن قرأ إحدى العزائم فهنا يفصّل :

فإن كانت هذه الزيادة موجبة للبطلان كما في زيادة الركن فإنّ زيادته مطلقا موجبة للبطلان ، فلا يفيد التكرار والإعادة ضمن الفرد المباح.

وإن لم تكن هذه الزيادة موجبة للبطلان بأن لم يكن الزائد ركنا مثلا فهنا تقع العبادة صحيحة لتحقّق المركّب ضمن أجزائه المباحة.

الحالة الثالثة : أن يتعلّق النهي والحرمة بالشرط ، كالوضوء مثلا فإنّه شرط في الصلاة ، فإذا كان الإنسان مريضا وكان الماء يضرّ به فهو منهي عن الوضوء ، فإذا توضّأ وصلّى فهل تقع صلاته صحيحة أم لا؟

فهنا فصّل صاحب ( الكفاية ) بين أن يكون الشرط عبادة في نفسه وبين ألاّ يكون عبادة.

فإن كان الشرط عبادة كالوضوء بطل الشرط وبتبعه يبطل المشروط ؛ لعدم تحقّق شرطه ، إذ مع عدم تحقّق الشرط لا يقع المشروط على الوجه المطلوب والمأمور به.

وإن لم يكن الشرط عبادة كالتستّر باللباس المغصوب حال الصلاة ، فإنّ التستّر شرط ولكنّه ليس عبادة ؛ لأنّه لا يشترط فيه قصد القربة ، فهنا لا يبطل الشرط ولا يبطل المشروط به أيضا.

ص: 412

أمّا عدم بطلان الشرط فلأنّه ليس عبادة فلا تشمله الملاكات المتقدّمة ؛ لأنّها مختصّة بالنهي عمّا يكون عبادة. نعم ، الملاك الأوّل كان شاملا لغير العبادات أيضا ، إلا أنّه مبني على القول بالامتناع ونحن قد اخترنا القول بجواز الاجتماع كما تقدّم.

وأمّا عدم بطلان المشروط فلأنّ المركّب وإن كان في نفسه عباديّا إلا أنّه لا ملازمة بين كونه عبادة وبين عباديّة شرطه. فيمكن أن يكون عباديّا ولكن شرطه ليس عبادة ولا يشترط فيه قصد القربة ، بل يكفي حصوله وتحقّقه.

مضافا إلى أنّ الأمر بالمركّب المشروط بشيء ينحلّ إلى الأمر بذات الفعل وإلى تقيّده بالشرط ، بحيث يكون المقيّد والتقيّد داخلين تحت الأمر مع كون القيد خارجا عن الأمر ، فالمأمور به هو كون الصلاة عن ستر أي مقيّدة بكونها عن ستر فالتقيّد جزء منها ، وأمّا القيد وهو التستّر فهو مقدّمة لحصول التقيّد ؛ لأنّه لا يمكن حصول الصلاة عن ستر إلا بوجود ما يكون ساترا ، والمقدّمة إذا لم تكن عبادة في نفسها فلا يقتضي النهي عنها بطلانها ولا بطلان ما هو مشروط بها أيضا ؛ لأنّه يمكن أن يجتمع الأمر النفسي مع النهي الغيري عن المقدّمة غير العباديّة.

* * *

ص: 413

ص: 414

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

ص: 415

ص: 416

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

وتحلّل المعاملة إلى السبب والمسبّب ، والحرمة تارة تتعلّق بالسبب وأخرى بالمسبّب.

فإن تعلّقت بالسبب فالمعروف بين الأصوليّين أنّها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين أن يكون الإنشاء والعقد مبغوضا وأن يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه.

المبحث الثاني : في اقتضاء النهي عن المعاملة للبطلان.

وهنا المعاملة يمكن تحليلها وتقسيمها عقلا إلى السبب والمسبّب. وعليه ، فالنهي تارة يتعلّق بالسبب وأخرى يتعلّق بالمسبّب.

والمراد من السبب هو الإنشاء والعقد وما يكون سببا شرعيّا لترتّب الأثر الشرعي المطلوب من المعاملة. والمراد من المسبّب هو الأثر الشرعي المطلوب ترتّبه على السبب ، فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : فيما إذا تعلّق النهي عن السبب ، كما إذا قيل بحرمة البيع يوم الجمعة وقت النداء للصلاة ؛ استنادا إلى قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (1). فهنا النهي متعلّق بالإنشاء وإيجاد السبب وهو عقد البيع ، فهل يقتضي هذا النهي - على فرض كونه تحريميّا - فساد المعاملة لو أنشأها حال النداء أم لا؟

المشهور بين الأصوليّين وهو الصحيح أيضا أنّ النهي عن السبب لا يقتضي بطلان المعاملة ؛ لأنّه يمكن أن يكون السبب مبغوضا ، ومع ذلك يحكم بصحّته ونفوذه وترتّب الأثر الشرعي المطلوب منه ؛ إذ لا ملازمة بين مبغوضيّة السبب ومبغوضيّة المسبّب لإمكان التفكيك بينهما.

ص: 417


1- الجمعة : 9.

وهذا له نظائر كثيرة في الفقه من قبيل تطهير الثوب المتنجّس بماء مغصوب ، فإنّه يطهر به وإن كان سبب حصول الطهارة مبغوضا لكونه غصبا محرّما ، وهكذا الحال في موارد الاضطرار إلى إجراء المعاملة فإنّ المكلّف وإن كان لا يحبّ إجراء المعاملة ولكنّه مضطرّ إليها ؛ لما في الأثر المطلوب منها من فائدة له.

ومثاله في الإيقاعات الظهار ، فإنّه محرّم ولكن لو تحقّق لترتّب عليه أثره وهو الانفصال بين الزوجين فيما إذا لم يكفّر عن ذلك.

وإن تعلّقت بالمسبّب - أي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيّا له - فقد يقال بأنّ ذلك يقتضي البطلان لوجهين :

الأوّل : أنّ هذا التحريم يعني مبغوضيّة المسبّب ، أي التمليك بعوض في مورد البيع مثلا ، ومن الواضح أنّ الشارع إذا كان يبغض أن تنتقل ملكيّة السلعة للمشتري فلا يعقل أن يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة أخرى عن البطلان.

المطلب الثاني : فيما إذا تعلّق النهي عن المسبّب ، كما في النهي الوارد عن عدم تملّك الكافر للعبد المسلم ، وكذا النهي المتعلّق ببيع المصحف للكافر ، فإنّ مراده من ذلك هو عدم تملّكه له.

وعليه ، فهل النهي المتعلّق بالمسبّب أي بالأثر والمضمون الذي يراد تحقّقه من السبب يقتضي فساد المعاملة أم لا؟

قد يقال : أنّ النهي عن المسبّب يقتضي بطلان السبب أي المعاملة ؛ وذلك لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ التحريم المتعلّق بالمسبّب معناه مبغوضيّة المولى لهذه المسبّب ، فالشارع يبغض ترتّب الأثر وحصول التملّك والنقل والانتقال ، وإذا كان مبغوضا فيستحيل أن يحكم الشارع بتحقّق الأثر المترتّب على العقد والسبب ؛ لأنّه لو حكم بنفوذه وصحّته لكشف ذلك عن كونه مرادا ومطلوبا له وأنّه ليس مبغوضا ، فيلزم اجتماع المبغوضيّة وعدمها. فلا بدّ حينئذ أن يحكم ببطلان السبب ؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الأثر الذي يبغضه ولا يريد تحقّقه.

وبتعبير آخر : لمّا كان الشارع يبغض المسبّب وهو لا يحصل إلا بواسطة السبب

ص: 418

فسوف تسري المبغوضيّة إلى السبب أيضا ، ومع كونه مبغوضا يكون باطلا ؛ لأنّ معنى مبغوضيّتها له أنّه لا يعتبرها ولا يجعلها وعدم جعلها يعني بطلانها.

ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد أشار بقوله : ( أي بمضمون المعاملة التي يراد التوصّل إليه بالعقد باعتباره فعلا بالواسطة للمكلّف وأثرا تسبيبيا له ) إلى وجود شبهة في أصل إمكانيّة تعلّق النهي بالمسبّب.

وحاصل هذه الشبهة هو أنّ المسبّب - أي الأثر - فعل للمولى فكيف يتعلّق النهي بما هو فعل للمولى؟! مع أنّ الأحكام كلّها يضعها ويجعلها الشارع على المكلّف وعلى أفعالهم لا على أفعاله هو نفسه.

والجواب : أنّ الأثر وإن كان مجعولا شرعيّا إلا أنّه ينسب إلى المكلّف بالواسطة باعتباره السبب في حصوله ؛ لأنّ المكلّف بإيجاده للسبب يوجد المسبّب أيضا ، فصحّ انتسابه إليه بالتسبيب وبالواسطة وإن كان المسبّب مباشرة فعل المولى.

والجواب : أنّ تملّك المشتري للسلعة يتوقّف على أمرين :

أحدهما : إيجاد المتعاملين للسبب وهو العقد.

والآخر : جعل الشارع للمضمون ، وقد يكون غرض المولى متعلّقا بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل خاصّة ، لا بإعدامه من ناحية الأمر الثاني ، فلا مانع من أن يحرّم المسبّب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقّق السبب.

والجواب عن هذا الوجه أن يقال : إن تملّك المشتري للسلعة الذي هو الأثر المطلوب ترتّبه من البيع مثلا ، يتوقّف على أمرين :

الأوّل : وجود السبب في الخارج ، وهذا يتحقّق بإنشاء المعاملة من الطرفين المتوقّف على الإيجاب والقبول.

الثاني : حكم الشارع بتحقّق المضمون والأثر والمسبّب على المعاملة.

فإنّه إذا حصل الإيجاب والقبول وتحقّق العقد بكامل شروطه وكان الشارع قد رتّب الأثر وجعله على هذا العقد ، فسوف يترتّب الأثر الوضعي المطلوب وهو حصول الملكيّة.

وأمّا إذا انتفى أحدهما بأن لم يتحقّق السبب في الخارج أو لم يوجد العقد ، أو لم

ص: 419

يكن الشارع قد رتّب الأثر على العقد كما إذا وقع العقد عن إكراه مثلا ، فإنّ الشارع لم يجعل المضمون والأثر مترتّبا على هكذا عقد. فحينئذ سوف لن تتحقّق الملكيّة.

وعليه ، فنقول : تارة يكون غرض المولى بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل وأخرى يكون من ناحية الأمر الثاني.

فإن تعلّق غرضه بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الثاني ، فهذا لازمه ألاّ يجعل المولى المسبّب على العقد الواقع من الطرفين في الخارج ، وذلك كما في العقد المكره عليه ، فإنّ الشارع هنا أعدم المسبّب بمعنى أنّه لم يجعله شرعا على هذا العقد.

وإن تعلّق غرضه في إعدام المسبّب من ناحية الأمر الأوّل ، فهذا معناه أنّ الشارع لا يريد إيجاد السبب من الطرفين لمبغوضيّة ومفسدة في إيجاده ، ولكنّه مع ذلك يرتّب المسبّب ويجعله على تقدير حصول هذا العقد في الخارج ولو عصيانا ؛ لأنّ المانع ليس من طرفه فإنّه لم يعدم المسبّب كما هو الفرض ، وهذا معناه أنّ المسبّب مجعول من قبله وجعله من قبله مع بغضه لحصول السبب إنّما يكون مشروطا وعلى تقدير حصول السبب ولو عصيانا ، فإنّه إذا وجد رتّب المسبّب عليه.

وهذا لازمه أن يكون هناك مبغوضيّة في ترتّب المسبّب على السبب ، ولكنّه على تقدير وقوع السبب تحصل هناك محبوبيّة ومصلحة في ترتيب المسبّب. وهذا نظير ما تقدّم من أنّ الدخول إلى الأرض المغصوبة فيه مبغوضيّة ومفسدة ، ولكن لو دخل الإنسان إلى الأرض المغصوبة ولو عصيانا فسوف تنشأ محبوبيّة للخروج مع كونه غصبا أيضا ، ولكن مفسدته هذه ليست بأقوى من محبوبيّة التخلّص من الغصب الزائد.

وهكذا الحال هنا فإنّ المولى يبغض حصول المسبّب فيمنع من إيجاد سببه ولكنّه لو تحقّق سببه في الخارج ولو عصيانا فسوف يحبّ ترتّب المسبّب ؛ لوجود مصلحة أقوى من مفسدة إيجاد السبب.

الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّ هذا التحريم يساوق الحجر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.

ص: 420


1- فوائد الأصول 1 : 472.

والجواب : أنّ الحجر على شخص له معنيان :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.

والآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى منعه.

فإن أريد أنّ التحريم يساوق الحجر بالمعنى الأوّل فهو أوّل الكلام.

وإن أريد أنّه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلّم ، ولكن من قال : إنّ هذا يستتبع الحجر الوضعي؟ فالظاهر أنّ تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل قد يقتضي الصحّة كما أشرنا في حلقة سابقة (1).

الوجه الثاني : - للقول باقتضاء النهي عن المسبّب للبطلان - هو ما ذكره الميرزا وحاصله : أنّ ترتّب المسبّب والأثر على المعاملة يتوقّف على توفّر شروط ثلاثة :

الأوّل : أن يكون هناك عقد وإيجاب وقبول ، أي على وجود الصيغة الشرعيّة.

الثاني : أن يكون المتعاملان المالكين أو الوكيلين أو بالاختلاف للثمن والمثمن.

الثالث : أن يكون للمتعاملين السلطنة والولاية والقدرة على التصرّف في الثمن والمثمن.

فإذا اختلّ أحد هذه الشروط الثلاثة كشف ذلك عن عدم تحقّق الأثر والمسبّب.

وفي مقامنا إذا تعلّق النهي عن المسبّب اختلّ الشرط الثالث ، بحيث يكون المالك ممنوعا من التصرّف ومسلوب القدرة والسلطنة والولاية على نقل المال إلى الغير ، وبذلك يكون محجورا عليه تماما كالصغير. فإذا كان كذلك وقعت المعاملة منه فاسدة بمعنى عدم ترتّب الأثر عليها ، وهذا معناه بطلان المعاملة بالنهي عن المسبّب.

والجواب : أنّ الحجر بمعنى انتفاء القدرة والسلطنة والولاية يحتمل فيه أحد أمرين :

أحدهما : الحجر الوضعي ، بمعنى عدم نفوذ معاملاته والحكم ببطلانها كالصغير.

الآخر : الحجر التكليفي ، بمعنى أنّه لا يجوز له إنشاء المعاملات وإنّما هو ممنوع شرعا من إنشائها.

فإن أريد المعنى الأوّل ، فهذا هو المدّعى في الوجه الذي ذكره الميرزا ، ويحتاج إثباته إلى دليل عليه ، وهو غير موجود ؛ لأنّ الثابت شرعا هو الحجر الوضعي على الصغير

ص: 421


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء الحرمة للبطلان.

والسفيه والمجنون بالأدلّة الخاصّة ، وهذا المورد لم يرد فيه دليل خاصّ فيكون على مقتضى القاعدة من التسلّط والقدرة على المال.

وإن أريد المعنى الثاني ، فهذا مسلّم به ، فإنّ معنى النهي هو المنع الشرعي ، ولكن لا ملازمة بين المنع الشرعي وبين البطلان ؛ لأنّ هذا هو محلّ البحث. ولا ملازمة بين الحجر التكليفي والحجر الوضعي لاحتياجه إلى دليل خاصّ عليه ؛ لأنّه على خلاف القاعدة.

وبهذا ظهر أنّه لا يوجد دليل تامّ على كون النهي عن المسبّب يقتضي البطلان في المعاملة ، كما أنّ النهي عن السبب لا يقتضي البطلان أيضا ، بل يمكن أن يقال بأنّ النهي عن المسبّب يقتضي صحّة السبب ونفوذه وترتّب الأثر عليه.

والوجه في ذلك : أنّ النهي - ككلّ تكليف - يشترط فيه القدرة على متعلّقه ، فلو لم يكن متعلّقه مقدورا للمكلّف لامتنع التكليف به ؛ لأنّه يكون من التكليف بغير المقدور وهو محال عقلا.

وعليه ، فإذا تعلّق النهي عن المسبّب فلا بدّ من فرض قدرة المكلّف على إيجاد المسبّب ، وحيث إنّ المكلّف لا يقدر على إيجاد المسبّب إلا بإيجاد سببه فلا بدّ أن يكون السبب صحيحا ونافذا ومؤثّرا في حصول المسبّب ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكان انتفاء المسبّب ضروري الوقوع دائما ؛ لأنّه دائما ينتفي عند وجود سببه ، وما دام ضروري الوقوع فلا يتعلّق به النهي ؛ لأنّ القدرة والاختيار على الفعل والترك شرط في التكليف ، وهنا لا يكون المكلّف قادرا على إيجاد المسبّب ؛ لأنّه ليس باختياره وقوعه وعدم وقوعه لأنّه دائما منتف.

* * *

ص: 422

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

اشارة

ص: 423

ص: 424

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

يقسم الحكم العقلي إلى قسمين :

أحدهما : الحكم النظري وهو إدراك ما يكون واقعا.

والآخر : الحكم العملي وهو إدراك ما ينبغي أو ما لا ينبغي أن يقع.

وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأوّل ؛ لأنّه إدراك لصفة واقعيّة في الفعل ، وهي أنّه ينبغي أن يقع وهو الحسن ، أو لا ينبغي وهو القبح.

تقسيم الحكم العقلي : ينقسم حكم العقل بلحاظ متعلّقه إلى قسمين ، وأمّا نفس حكم العقل فهو واحد ؛ لأنّه عبارة عن الإدراك. فالعقل إمّا أن يدرك أو لا يدرك ، فإن أدرك فمتعلّق إدراكه ينقسم إلى قسمين : وذلك لأنّه تارة يدرك ما يكون واقعا وموجودا ، فيسمّى بالعقل النظري أو الحكم النظري.

وأخرى يدرك ما ينبغي أن يقع فيسمّى بالعقل العملي أو الحكم العملي.

والمراد من الإدراك العقلي : هو الحكم الذي يصدره العقل بنحو الجزم والقطع واليقين مستندا فيه إلى العقل نفسه ، وهو ما يسمّى بالمستقلاّت العقليّة. وفي قبال ذلك الإدراك العقلي المستند إلى حكم الشارع أي الذي يكون في طول حكم الشارع ، وهو ما يسمّى بغير المستقلاّت العقليّة.

ثمّ إنّ مدركات العقل العملي ترجع إلى مدركات العقل النظري بالتحليل والملاحظة. والوجه في ذلك : هو أنّ إدراك العقل العملي لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع معناه إدراك العقل لوجود صفة واقعيّة في متعلّقه أي الفعل ، فإنّ الفعل إذا كان حسنا فهو ينبغي أن يقع ، بينما إذا كان قبيحا فهو لا ينبغي أن يقع ، وهذا معناه أنّ الفعل تارة يكون حسنا وأخرى يكون قبيحا ، فالحسن والقبح صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل ، فإدراك العقل لهاتين الصفتين إدراك لما هو كائن وموجود واقعا ، وهو معنى الحكم النظري.

ص: 425

ولذلك سوف نتكلّم عن حقيقة هاتين الصفتين ولو بشيء من الاختصار فنقول :

وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان واقعيّتان يدركهما العقل كما يدرك سائر الصفات والأمور الواقعيّة ، غير أنّهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جريا عمليّا معيّنا خلافا للأمور الواقعيّة الأخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال : إنّ الحكم النظري هو إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي بذاتها جريا عمليّا معيّنا ، والحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي بذاتها ذلك.

الحسن والقبح :

الحسن والقبح من مدركات الحكم العقلي العملي ؛ وذلك لأنّهما صفتان واقعيّتان يتّصف بهما الفعل في الواقع ، أي في واقع الأمر الأعمّ من الوجود الخارجي المادي ، وهو ما يعبّر عنه بنفس الأمر.

فالحسن : هو الفعل الذي يستحقّ المدح ، بينما القبح : هو الفعل الذي يستحقّ الذمّ. فهما متعلّقان بالفعل بحيث إذا كان حسنا فهو ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ المدح عليه كالصدق والوفاء والإخلاص والمروءة والإحسان. وأمّا إذا كان قبيحا فهو ممّا لا ينبغي صدوره من الفاعل ويستحقّ الذمّ عليه كالكذب والخيانة والظلم والعدوان والإساءة ، وهاتان صفتان للفعل بحدّ ذاته ونفسه وبقطع النظر عن وجود الموانع أو حالات التزاحم.

والحسن والقبح كغيرهما من الأمور والصفات الواقعيّة الحقيقيّة ، غير أنّهما يختلفان عنها ، فهناك نقطة اشتراك وهي كونهما واقعيّتين أي لهما واقع قبل تحقّقهما في الخارج وقبل صدورهما من الفاعل ، فقبل صدورهما من الفاعل يدرك العقل الحسن والقبح في الفعل ذاته ، وهذا إدراك لما هو كائن وموجود ، ثمّ بعد ذلك يحكم بأنّه ينبغي أن يقع هذا الفعل الحسن من الفاعل ، وينبغي ألاّ يقع الفعل القبيح من الفاعل ، وهذا إدراك لما ينبغي أو لا ينبغي أن يقع. وهذه هي نقطة الاختلاف بينهما وبين سائر الأمور الواقعيّة الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ الحسن والقبح يشتركان مع سائر الأمور الواقعيّة بوجودها الواقعي ، فاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين من الأمور الواقعيّة الحقيقيّة ، وهكذا

ص: 426

الحسن والقبح. ولكنّهما يختلفان عن غيرهما من الأمور الواقعيّة بأنّهما يقتضيان جريا عمليّا معيّنا على طبقهما ، فإنّ الحسن المتعلّق بفعل يقتضي جريا عمليّا وهو صدوره ، بينما القبح يقتضي عدم صدوره.

ولهذا يمكننا تعريف الحكم النظري بأنّه إدراك الأمور الواقعيّة التي لا تقتضي الجري العملي ، بينما الحكم العملي هو إدراك الأمور الواقعيّة التي تقتضي جريا عمليّا معيّنا بذاتها وبقطع النظر عن وجود المانع وحالات التزاحم التي قد تمنع من ذلك في بعض الأحيان.

فالحسن والقبح بلحاظ وجودهما الواقعي يدخلان في الحكم النظري ، ولكن بلحاظ ما يقتضيان من الجري العملي على طبقهما من الفعل أو الترك يدخلان في الحكم العملي ، هذا بحسب التحليل والملاحظة. وإلا فهما من مدركات العقل العملي ؛ لأنّ الحسن ينبغي وقوعه والقبح لا ينبغي وقوعه.

ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري ؛ لأنّ المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العملي ، ويختصّ الحكم العملي من العقل بإدراك الحسن والقبح.

وسنتكلّم فيما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.

المصلحة والمفسدة :

ذكرنا سابقا في بحوث متقدّمة أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها.

فالفعل إذا كان فيه مصلحة فسوف يتعلّق به حكم شرعي طبقا لهذه المصلحة ، فإن كانت لزوميّة تعلّق بها الوجوب وإن كانت غير لزوميّة تعلّق بها الاستحباب.

وأمّا إذا كان فيه مفسدة فسوف يتعلّق به التحريم أو الكراهة تبعا للزوميّة المفسدة وعدم لزوميّتها. وأمّا إذا لم يكن فيه المصلحة والمفسدة أو كان واجدا لهما بنحو واحد فسوف يكون مباحا.

وهذا معناه أنّ المصلحة والمفسدة من الأمور الواقعيّة التي يتّصف بها الفعل. ولكن هذه المفسدة والمصلحة لا تقتضيان بذاتيهما جريا عمليّا على طبقهما ، فإنّه ليس كلّ

ص: 427

مصلحة ينبغي وقوعها وليس كلّ مفسدة ينبغي عدم وقوعها ، وإنّما يرتبط بذلك بما يلاحظه الشارع ويجعله ، فليس كلّ مصلحة يوجبها وليس كلّ مفسدة يحرّمها ؛ لأنّ الجعل فعل اختياري للشارع يجعله متى ما تعلّقت إرادته وشوقه ، وهذا يعني أنّ مجرّد المصلحة والمفسدة بذاتيهما لا يقتضيان الإيجاب والتحريم ، بل لا بدّ من وجود الشوق والإرادة المولويّة للجعل.

نعم ، جعل الوجوب والتحريم يكشف بالملازمة عن وجود المصلحة والمفسدة في متعلّقيهما.

ولهذا فيكون إدراك المصلحة والمفسدة من مختصّات الحكم العقلي النظري ؛ لأنّه إدراك لما هو موجود وواقع. ولا يدخلان في مدركات الحكم العقلي العملي ؛ لعدم استتباعهما الجري العملي على وفقهما بذاتهما.

وهذا بخلاف الحسن والقبح كما تقدّم فإنّهما من مختصّات مدركات العقل العملي ؛ لأنّهما يقتضيان الجري العملي على طبقهما ، وإن كانا بالتحليل والملاحظة يرجعان إلى الحكم النظري أيضا ، باعتبارهما صفتان واقعيّتان لهما وجود واقعي في عالم الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن صدورهما من الفاعل أو عدم صدورهما منه.

ونحن حينما نتكلّم عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع فهذا يعني ملاحظة حكم العقل النظري تارة وحكم العقل العملي أخرى. فالبحث يقع في مقامين :

المقام الأوّل : الملازمة بين الحكم النظري للعقل مع حكم الشارع.

المقام الثاني : الملازمة بين الحكم العقلي العملي مع حكم الشارع.

* * *

ص: 428

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

ص: 429

ص: 430

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

لا شكّ في أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصيّاته وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامّة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته تعالى.

وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريّا أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكلّ خصوصيّاته وشئونه ، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لمّيّا ، أي بالانتقال من العلّة إلى المعلول.

المقام الأوّل : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع.

المراد من حكم العقل النظري : هو إدراكه للصفة الواقعيّة الموجودة في عالم الواقع ونفس الأمر ، والمقصود هنا ليس كلّ الصفات وإنّما خصوص صفتي المصلحة والمفسدة ، وأمّا سائر الصفات الواقعيّة الأخرى - كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين أو استحالة الدور والتسلسل اللامنتهى والخلف - فهذه كلّها لا ارتباط لها في البحث ؛ وذلك لأنّ الكلام عن الملازمة بين هذا الإدراك العقلي وبين حكم الشارع.

وحكم الشارع : عبارة عن جعله الإيجاب أو التحريم على متعلّقيهما ، وحيث إنّ الأحكام تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتهما كما هو الصحيح فيكون الإيجاب كاشفا عن المصلحة والتحريم كاشفا عن المفسدة ، ومن هنا صح طرح البحث عن الملازمة بين إدراك العقل النظري للمصلحة أو المفسدة وبين حكم الشارع بالإيجاب أو التحريم.

فإذا أدرك العقل النظري وجود مصلحة أو مفسدة في شيء من الأفعال التي تنسب إلى المكلّف ، فهل يكشف ذلك عن وجود حكم شرعي بالوجوب أو الحرمة من قبل الشارع أم لا؟

ص: 431

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من بيان أمرين :

الأوّل : أنّ الأحكام لا شكّ في كونها تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، وهذا ما يعبّر عنه بالملاك ، ولكن ليس وجود المصلحة أو المفسدة وحده دخيلا في الملاك ، بل هناك أمور أخرى يؤخذ وجودها شرطا أو عدمها ضروريّا لكي يكون الملاك مع توفّر كلّ الشروط المعتبرة وانتفاء كلّ الموانع مؤثّرا في وجود الحكم ، بمعنى أنّه يصبح داعيا إلى الإيجاب أو التحريم ؛ لأنّه ليس إذا تمّ الملاك في شيء ترتّب عليه الحكم قهرا ، لما تقدّم من أنّ جعل الحكم فعل اختياري للشارع. فيكون تماميّة الملاك داعيا إلى وجود الحكم فهو بحكم العلّة التامّة ؛ لأنّه موقوف على الجعل المولوي وليس العلّة التامّة وإلا لصار قهريّا.

وهذا نقوله طبقا لحكمة المولى ، بمعنى أنّ المولى بحكمته ولطفه وتقديره يفعل ذلك ، أي أنّه يجعل الإيجاب والتحريم عند وجود المصلحة والمفسدة وعند تحقّق سائر الشرائط وانتفاء سائر الموانع.

الثاني : أنّ العقل النظري تارة يدرك وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل أو الشيء المتعلّق لفعل المكلّف ، وأخرى لا يدرك ذلك.

فإن لم يدرك شيئا من المصلحة أو المفسدة فهذا خارج من محلّ الكلام جزما.

وإن أدرك المصلحة أو المفسدة مع كلّ الشروط المعتبرة الأخرى ولاحظ انتفاء الموانع تماما ، فهنا لا إشكال في كونه كاشفا عن الحكم الشرعي ، فيحكم بالملازمة بين إدراك العقل وبين حكم الشارع. وهذا استدلال من العلّة على المعلول ؛ لأنّ الحكم معلول للمصلحة مع ما يرتبط بها من تحقّق الشرائط وانتفاء الموانع ، فإنّ الشارع يجعل الحكم وفقا لحكمته وهو ما يسمّى بالدليل اللمّي ، أي بالاستدلال على وجود المعلول من خلال وجود العلّة.

وهذا الأمر ممكن وليس مستحيلا أو ممتنعا في نفسه ، ولكنّه نادر الوقوع ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكنّ هذا الافتراض صعب التحقّق من الناحية الواقعيّة في كثير من الأحيان ؛ لضيق دائرة العقل وشعور الإنسان بأنّه محدود الاطّلاع ، الأمر الذي يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك

ص: 432

المصلحة في فعل ولكنّه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهمّيتها وبعدم وجود أيّ مزاحم لها ، وما لم يجزم بكلّ ذلك لا يتمّ الاستكشاف.

والصحيح : هو عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشارع.

والوجه في ذلك هو : أنّ استكشاف الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع يتوقّف على إدراك العقل لما هو بمثابة العلّة للحكم ، أي لوجود المصلحة وكونها مهمّة جدّا ، وإدراكه لكلّ الشروط المعتبرة فيها ، ولإدراك انتفاء سائر الموانع التي تمنع من التأثير.

وإدراك كلّ هذه الأمور ممّا لا يتيسّر للعقل في كثير من الأحيان ؛ لأنّ العقل محدود في اطّلاعاته ومقيّد بما يصل إليه من معلومات عن طريق الحواسّ والتجارب ونحوهما.

وهذا الأمر يجعله غالبا غير محيط بكلّ ما هو شرط وما هو مانع لو سلّم إدراكه للمصلحة أو المفسدة في الفعل ، وإلا فإنّه قد يخطئ أيضا في تشخيص المصلحة أو المفسدة أيضا.

وهذا معناه أنّنا نعلم إجمالا بأنّ كثيرا من المصالح والمفاسد وما هو دخيل فيهما كشرط أو عدم مانع ممّا لا يقدر أن يدركها العقل بتمامها وبصورة كاملة ، وهذا يجعلنا نحتمل الخطأ في مدركاتنا للمصالح والمفاسد ، الأمر الذي يجعلنا في الأغلب بعيدين عن القطع والجزم ، وما دام كذلك فلا تتحقّق الملازمة ؛ لعدم تحقّق طرفها الأوّل وهو إدراك العقل فإنّه أحد طرفي الملازمة ؛ لأنّه من خلال القطع والجزم بما أدركه العقل نريد أن نحكم بأنّ الشارع له حكم مطابق ، وإذا لم نجزم ونقطع بل كنّا نحتمل أو نظنّ بتحقّق الإدراك العقلي فلن يتيسّر لنا الحكم بالملازمة ، وبالتالي لن نستكشف حكم الشارع.

ومن هنا أنكر صاحب ( الفصول ) الملازمة مدّعيا أنّ العقل قد يدرك المصلحة والمفسدة ، ولكنّ الموانع والشروط المعتبرة قد لا يصل إليها الإدراك العقلي ؛ لعدم إحاطته بالواقعيّات على ما هي عليه.

* * *

ص: 433

ص: 434

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

ص: 435

ص: 436

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

عرفنا أنّ مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح ، وأنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمة عن واقعيّة هذين الأمرين ، فإنّ جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيّين أي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه حسنا ، وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا. ويميّزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائيّة اتّفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ؛ لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما.

المقام الثاني : في تحقيق حال الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

قبل الدخول في تحقيق حال الملازمة يذكر الشهيد أنّ الحسن والقبح من الأمور الواقعيّة وليسا من الأمور الجعليّة الاعتباريّة ، فهنا أمران :

الأوّل : في واقعيّة الحسن والقبح ، ذكرنا سابقا أنّ العقل يدرك الحسن والقبح بما يستتبعان من موقف وسلوك عملي معيّن على طبقهما ؛ نظير إدراكه للقضايا العقليّة الواقعيّة الأخرى ، غاية الأمر أنّ إدراكه لمثل اجتماع النقيضين واستحالته واستحالة الدور ونحوهما لا يستتبع سلوكا وموقفا عمليّا ، ولذلك كان النحو الأوّل من مدركات العقل العملي بينما الثاني من مدركات العقل النظري.

فالعقل يدرك حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا معناه أنّ الظلم بواقعه وبما يستتبعه من موقف وسلوك قبيح بنظر العقل ، بخلاف العدل فإنّه بواقعه وبما يقتضيه من سلوك عملي حسن.

وهكذا حسن الطاعة وقبح المعصية فإنّ الطاعة والمعصية بما يستتبعان من موقف

ص: 437

وسلوك عملي يتّصفان بالحسن والقبح ، فهما من الأمور الواقعيّة التي لها ثبوت في عالم الواقع واللوح ونفس الأمر.

وهكذا الحال بالنسبة للكذب والصدق فإنّهما بذاتهما وبقطع النظر عن الموانع وحالات التزاحم يتّصفان بالحسن والقبح.

والوجدان خير دليل وشاهد على ذلك فإنّ العقل السليم يدرك حسن أو قبح هذه الأشياء ونظائرها. وإذا كان هناك تشكيك فهو في تحقّق الصغرى والمصداق ، بمعنى أنّ الفعل الفلاني هل هو صدق أم لا؟ وليس التشكيك في أنّ الصدق حسن وإنّما في تطبيقه على مصاديقه في الخارج ، وهذا ليس محلّ الكلام ؛ لأنّه خلاف في الصغريات ، وكلامنا نحن في أصل ثبوت الكبرى أي حكم العقل بحسن الصدق مثلا فهذا ممّا لا يختلف فيه عاقل.

بل إنكار واقعيّة الحسن والقبح يؤدّي إلى عدم الإيمان بالشريعة وبالنبوّة وعدم وجوب الطاعة ؛ لأنّه إذا لم يكونا واقعيّين فما هو الدليل على صدق نبوّة النبي الذي يأتي بالمعجزة؟ ولما ذا يصدّق لو لم يكن ذلك من الكاذب قبيحا ومن الصادق حسنا؟ وما هو الدليل على وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ما لم يكن الأوّل حسنا بذاته والآخر قبيحا؟!

الثاني : ذهب البعض إلى أنّ الحسن والقبح من الأمور الاعتباريّة الجعليّة العقلائيّة ، فالعقلاء يحكمون بالحسن والقبح وليسا ذاتيّين للأشياء أو للأفعال بواقعها ؛ بل هما حكمان مجعولان من قبل العقلاء ؛ بمعنى أنّ العقلاء اتّفقوا فيما بينهم على حسن هذا وقبح ذاك تبعا لوجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ النوع البشري ، فما يرونه فيه مصلحة يحكمون بكون فعله حسنا وما يرون فيه المفسدة فيحكمون بقبح فعله.

فمثلا يحكمون بقبح الضرب للصبي إذا كان للتشفّي ؛ لأنّ فيه مفسدة. بينما لو كان الضرب للتأديب فيحكمون بحسنه ؛ لأنّ فيه المصلحة ، وأمّا ذات الضرب فهو لا يتّصف بالحسن ولا بالقبح بواقعه ، وإنّما الحسن والقبح عنوانان أو وصفان يجعلهما العقلاء على الفعل الواجد للمصلحة أو الواجد للمفسدة.

والمصلحة والمفسدة التي يحكم العقلاء بالحسن والقبح في الأفعال هي مصلحة النوع البشري ، كحفظ النظام مثلا وبقاء النوع.

ص: 438

والحاصل : أنّ العقلاء يحكمون بمدح من يفعل الإحسان أو الصدق ، وبذمّ من يفعل الخيانة والكذب ، فالعدل حسن ؛ لأنّ فاعله ممدوح عند العقلاء ، والظلم قبيح ؛ لأنّ فاعله مذموم لدى العقلاء. ووجه الذمّ والمدح هو رعاية المصلحة في حفظ النظام ، أو النوع البشري ، أو وجود المفسدة على النظام والنوع البشري.

وهذان الحكمان العقلائيّان كغيرهما من الأحكام العقلائيّة الأخرى من حيث الجعل الاعتباري ، ولكن هذان الأمران متّفق عليهما من العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان ، بينما بقيّة الأحكام العقلائيّة قد يختلف حالها وحكمها باختلاف أحوال الناس واختلاف العصور والأمكنة والعادات والتقاليد ، ممّا يؤثّر على الاختلاف في تشخيص المصالح والمفاسد بنظر العقلاء أو في خفائها أيضا.

وهذا التفسير خاطئ وجدانا وتجربة.

أمّا الوجدان فهو قاض بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل كإمكان الممكن.

وأمّا التجربة فلأنّ الملحوظ خارجيّا عدم تبعيّة الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلا.

فالحسن والقبح إذا ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة ، بل لهما واقعيّة تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الأحيان وتختلف معها أحيانا.

الردّ على القول بأنّ الحسن والقبح مجعولان عقلائيّان :

أوّلا بالوجدان ، فإنّ العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بقطع النظر عن وجودهما في الخارج وصدورهما من الإنسان ، فإنّه بأدنى تأمّل فيهما يدرك حسن الأوّل وقبح الثاني ، ولا يحتاج ذلك إلى برهان ولا إلى تعلّم ولا إلى عادات وتقاليد ؛ نظير إمكان الممكن ، فإنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى كونه ممكنا يحكم بإمكانه سواء صدر ووقع في الخارج أم لا ، بل هذا الحكم ثابت حتّى لو لم يوجد إنسان في الخارج أصلا ، وليس ذاك إلا لأنّه موجود في الواقع وعالم الأمر.

ص: 439

نعم ، دور العقلاء هنا هو إدراك ما هو واقع وكائن بعقولهم لا باتّفاقهم وعاداتهم ونحوها.

وثانيا بالتجربة ، فإنّنا نستقرئ عدّة مفردات موجودة وواقعيّة ويحكم العقل بحسنها أو بقبحها من دون أن يكون ذلك تابعا لمصلحة أو مفسدة فيها. فلو كان الحسن والقبح تابعين للمصالح والمفاسد لم يكن سبيل للحكم بحسنها وقبحها أصلا ، مع أنّ العقلاء يحكمون بذلك بلا إشكال ، وهذا يدلّ على أنّ الحسن والقبح يتجرّدان عن المصالح والمفاسد ، فهما ليسا تابعين لها بل هما صفتان للفعل في نفسه وذاته ، ممّا يعني أنّهما وصفان واقعيّان يحكم بهما العقل.

فمثلا : قد تفرض المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة الموجودة فيه ، ومع ذلك يحكم العقل والعقلاء بقبحه لا بحسنه.

فإذا كان قتل إنسان واحد فيه مصلحة إنقاذ شخصين من الموت ، فهنا المصلحة في قتله أكبر من المفسدة ، ولكن مع ذلك يحكم بكون قتله قبيحا بقطع النظر عن أي شيء آخر ، وحكمهم بالقبح هنا لا يتناسب مع ما قيل : من أنّ القبح تابع للمفاسد التي يراها العقلاء ، فإنّهم هنا يرون المصلحة الكبيرة ولكنّهم يحكمون بالقبح ، وليس ذاك إلا لأنّ القتل للنفس المحترمة في نفسه ظلم وهو قبيح ذاتا.

نعم ، في كثير من الأحيان يكون القبيح ناشئا من المفسدة ، والحسن ناشئا من المصلحة ، ولكنّهما ليسا تابعين للمصالح والمفاسد دائما ، وهذا يكفي للردّ على ما ذكر من كونهما مجعولين عقلائيّين.

والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي.

وهناك من ذهب (1) إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :

أمّا الاتّجاه الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيء وقبحه فلا بدّ أن يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.

ص: 440


1- كصاحب الفصول في الفصول : 337 ، ونسبه المحقّق النائيني في فوائد الأصول 3 : 60 إلى بعض الأخباريّين أيضا.

حكم الملازمة : بعد أن اتّضح أنّ الحسن والقبح أمران واقعيّان يحكم بهما العقل العملي بمعنى إدراكه لما ينبغي أن يقع ولما ينبغي ألاّ يقع ، نأتي إلى تحقيق حال الملازمة ، فهل إذا حكم العقل العملي بحسن شيء أو قبحه حكم الشارع بوجوبه أو حرمته أم لا؟ قولان :

الأوّل : ما ذهب إليه مشهور العلماء من ثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع.

والثاني : ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي من استحالة حكم الشارع على طبق ما حكم به العقل العملي. وممّن أنكر الملازمة صاحب ( الفصول ) أيضا. أمّا القول الأوّل : فقد قرّب بأنّ الشارع أحد العقلاء بل سيّد العقلاء ، فإذا حكم العقلاء بعقلهم بحسن شيء أو بقبحه ، فبما أنّ الشارع واحد منهم بل سيّدهم فهو داخل معهم في هذا الحكم ، غايته أنّ حكمهم بالحسن أو بالقبح بمعنى إدراكهم لذلك ، بينما حكمه بذلك يعني الإيجاب أو التحريم. وهذا التقريب ذكره المحقّق الأصفهاني (1).

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ العقل إذا استقرأ استقراء تامّا فحكم بالحسن أو بالقبح أدّى ذلك إلى وجود حكم للشارع مطابق لما حكم به العقل ، وإن كان الاستقراء ناقصا فلا يستكشف منه حكم الشارع.

والتحقيق : أنّا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيّين يدركهما العقل ، وأخرى بوصفهما مجعولين عقلائيّين رعاية للمصالح العامّة.

فعلى الأوّل : لا معنى للتقريب المذكور ؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء إنّما يدركون

ص: 441


1- وذكر المحقّق النائيني أيضا بأنّ العقل إذا حكم بقبح الكذب المؤدّي إلى هلاك نبيّ مع عدم رجوع نفع في ذلك إلى الكاذب حكم العقل بحرمته قطعا ؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وقد حكم العقل بوجود المفسدة هنا فكيف لا يحكم الشارع بالحرمة؟! وذكر الشيخ المظفّر أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه وتطابقت آراء العقلاء على ذلك بما هم عقلاء فلا بدّ أن يحكم الشارع على طبق ذلك أيضا ؛ لأنّه منهم بل رئيسهم ؛ لأنّه لو لم يشاركهم في ذلك لما كان ذلك الحكم رأي الجميع وهو خلاف الفرض. فإذا خالفهم ولم يحكم على طبق ما أطبقوا عليه كشف ذلك عن وجود مانع بنظر الشارع لم يدركه العقل ولا العقلاء.

الحسن والقبح ، ولا شكّ في أنّ الشارع يدرك ذلك ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجعل حكما تشريعيّا على طبقهما أو لا؟

وعلى الثاني : إن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامّة التي دعتهم إلى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري لا العملي ؛ لأنّ مناطه هو إدراك المصلحة ولا دخل للحسن والقبح فيه.

وإن أريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح ، فلا مبرّر لذلك ؛ إذ لا برهان على لزوم صدور جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

والتحقيق : أنّ الحسن والقبح اللذين يدركهما العقل العملي ويحكم العقلاء على أساسهما بوجود حكم للشارع على طبقهما ، تارة نقول : إنّهما أمران واقعيّان ، وأخرى نعتبرهما مجعولين عقلائيّين تابعين للمصالح والمفاسد العامّة ، فهاهنا قولان :

الأوّل : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما أمران واقعيّان يدركهما العقل ، وهذا ما اخترناه سابقا ، فعلى هذا لا يأتي التقريب المتقدّم ؛ لأنّ العقلاء إذا كانوا يدركون الحسن والقبح الواقعيّين فلازمه أيضا أن يكون الشارع مدركا لهما أيضا ؛ لأنّه من العقلاء بل سيّد العقلاء.

إلا أنّ هذه الملازمة لا تفيد شيئا وليست هي محلّ الكلام. وإنّما المطلوب استكشاف الحكم الشرعي من خلال إدراك الحسن والقبح ، وهذا لا يمكن استكشافه ولو سلّمت الملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ الحكم ليس تابعا لمجرّد وجود الحسن أو القبح ، بل هناك شروط لا بدّ من توفّرها ، وهناك موانع لا بدّ من أخذ عدمها ، ثمّ إن شاء الشارع جعل الحكم وإن شاء لم يجعله ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع وهو فعل اختياري للشارع وليس قهريّا عليه.

فدعوى الملازمة بين إدراك العقلاء للحسن والقبح وبين حكم الشارع على طبقهما أوّل الكلام ، ولا يمكن الاستدلال على الملازمة المذكورة بالملازمة بين إدراك العقلاء وإدراك الشارع ؛ لأنّ إدراك العقلاء معناه كشفهم عن ذلك ؛ لأنّهما أمران واقعيّان -

ص: 442

بحسب الفرض - ومجرّد وجود الحسن والقبح لا يلزم منه وجود الإيجاب أو التحريم حتما وجزما ، بل قد يوجد ذلك وقد لا يوجد.

والحاصل : أنّ الحسن والقبح لمّا كانا واقعيّين فهما صفتان واقعيتان للأشياء والأفعال ، وإدراك العقلاء والعقل والشارع لهما يؤكّد هذا المعنى ، ولكنّه لا يدلّ على وجود حكم للشارع في موردهما جزما وقطعا ، بل قد يحكم وقد لا يحكم ؛ لأنّ الحكم جعل من الشارع باختياره.

الثاني : أن نتعامل معهما على أساس أنّهما حكمان عقلائيّان لا واقعيّة لهما قبل الجعل والاعتبار العقلائي التابع للمصالح والمفاسد العامّة ، فهنا يوجد احتمالان :

أحدهما : أن يراد إثبات الملازمة واستكشافها بين حكم العقلاء بالحسن والقبح ، وبين حكم الشارع بالوجوب والحرمة من خلال المصالح والمفاسد العامّة التي يدركها العقلاء في الحسن والقبح.

بمعنى أنّ العقلاء إنّما يحكمون بالحسن والقبح تبعا لوجود المصلحة في الأوّل والمفسدة في الثاني بلحاظ النوع البشري والنظام ، فيراد من خلال حكمهم بالحسن والقبح الكاشفين عن المصلحة والمفسدة إثبات حكم الشارع ، فالملازمة بالدقّة بين المصلحة والمفسدة وبين حكم الشارع.

وهذا جوابه : أنّ إثبات حكم الشارع من خلال المصلحة والمفسدة يرجع إلى مدركات العقل النظري كما تقدّم سابقا ، فإنّ المصلحة والمفسدة لا تقتضيان بذاتهما سلوكا وجريا معيّنا.

وحينئذ يأتي ما ذكرناه من عدم الملازمة بين حكم العقل النظري وبين حكم الشارع ؛ لأنّ الحكم الشرعي وإن كان تابعا للمصلحة والمفسدة إلا أنّه توجد هناك شرائط وخصوصيّات لا بدّ من توفّرها أو انتفائها لتتحقّق العلّة التامّة ، وليس مجرّد المصلحة والمفسدة وحدهما كافيين للحكم ؛ إذ قد توجد الموانع وحالات التزاحم المانعة من الحكم.

والعقل فضلا عن العقلاء لا يمكنهم إدراك كلّ هذه الخصوصيّات والحيثيّات والموانع والشرائط ؛ لأنّه محدود الاطّلاع بلا شكّ في ذلك.

ص: 443

مضافا إلى أنّ إدراك الحسن والقبح شيء وإدراك المصلحة والمفسدة شيء آخر ، فإنّ إدراك الحسن والقبح من شئون العقل العملي بينما إدراك المصلحة والمفسدة من شئون العقل النظري ، فهنا وقع خلط بين الأمرين. ونحن حيث قلنا برجوع العقل العملي إلى العقل النظري بالتحليل فيدخل هذا الاحتمال في البحث المتقدّم.

والآخر : أن يراد إثبات الملازمة بلحاظ نفس الحسن والقبح ، بمعنى أنّ نفس حكم العقلاء بالحسن والقبح يلازمه حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة ، فهذه الملازمة لا برهان ولا دليل عليها.

ومجرّد حكم العقلاء بحسن شيء أو قبحه لا يلازمه دائما أو قطعا حكم الشارع ؛ لأنّه يشترط فيه وجود أمور أخرى وانتفاء ما يكون مانعا أيضا مضافا إلى الحسن والقبح في الفعل. فدائما يحتمل أن يكون هناك شيء آخر غير الحسن والقبح ، وهذا ناشئ من محدوديّة اطّلاع العقل والعقلاء.

وأمّا الاتّجاه الثاني : فقد قرّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛ لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسئوليّة والمحرّكيّة.

ويرد على ذلك : أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة مثلا وإن كانا يستبطنان درجة من المسئوليّة والمحرّكيّة غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدّي إلى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسئوليّة والمحرّكيّة ، فإذا كان المولى مهتمّا بحفظ واجبات العقل العملي بدرجة أكبر ممّا تقتضيه الأحكام العمليّة نفسها حكم على طبقها وإلا فلا.

وبذلك يتّضح أنّه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تامّ.

الاتّجاه الثاني : ذهب إلى استحالة الملازمة ، فإذا حكم العقل العملي بشيء استحال أن يكون للشارع حكم على طبقه.

وقد قرّب ذلك بلزوم اللغويّة ؛ وذلك أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو بقبحه كفى ذلك في إثبات المحرّكيّة والمسئوليّة والإدانة ؛ لأنّ حكم العقل بالحسن والقبح يستنتج ويقتضي سلوكا عمليّا معيّنا حسب ما يقتضيه الفعل.

ص: 444

فإذا كان للشارع حكم أيضا لزم تحصيل الحاصل ؛ لأنّ الشارع يجعل الوجوب أو الحرمة ، وهذان يستفادان من نفس حكم العقل بالحسن أو القبح من دون حاجة إلى جعل الشارع ، فيكون جعله لغوا فيمتنع.

وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الخوئي.

ويرد عليه : أنّ حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل أو بقبح الكذب وحسن الصدق أو حسن الأمانة وقبح الخيانة وإن كان يستلزم جريا عمليّا وسلوكا على طبقه ، غير أنّ حكم الشارع بالوجوب أو الحرمة في ذاك المورد لا يلزم منه اللغويّة ؛ وذلك لأنّ حكم الشارع يوجد ملاكا آخر للتحرّك والمسئوليّة والإدانة ، وهذا الملاك هو الطاعة والامتثال لحكم الشارع. وعليه ، فيكون حكم الشارع بوجوب الصدق فيه ملاكان للتحرّك.

أوّلا ؛ لأنّه حسن في نفسه والحسن يقتضي التحرّك والسلوك العملي وفقا لما يقتضيه الصدق.

وثانيا : لأنّه طاعة للمولى ؛ لأنّه قد صار متعلّقا لتكليفه وحكمه فيحكم العقل بحسن إطاعته وقبح مخالفته.

وبذلك يظهر أنّ حكم الشارع يوجب تأكّد المحرّكيّة والمسئوليّة.

ومن هنا ، فإذا كان الشارع مهتمّا بحفظ أحكام العقل العملي بدرجة أكبر ممّا يقتضيه حكم العقل العملي من محرّكيّة وسلوك ، فلن يجد مانعا من إصدار حكم على وفق ما حكم به العقل.

وبهذا يظهر أنّ دعوى استحالة الملازمة كدعوى ضرورة الملازمة كلاهما غير تامّ في نفسه ، وإنّما الصحيح أنّ الشارع قد يحكم وقد لا يحكم في موارد حكم العقل بقبح شيء أو بحسنه.

* * *

ص: 445

ص: 446

حجّيّة الدليل العقلي

اشارة

ص: 447

ص: 448

حجّيّة الدليل العقلي

الدليل العقلي إن كان ظنّيّا فهو بحاجة إلى دليل على حجّيّته ، ولا دليل على حجّيّة الظنون العقليّة. وأمّا إذا كان قطعيّا فهو حجّة من أجل حجّيّة القطع.

ونسب إلى بعضهم (1) القول بعدم حجّيّة القطع الناشئ من الدليل العقلي ، وهو بظاهره غير معقول ؛ لأنّ حجّيّة القطع الطريقي غير قابلة للانفكاك عنه مهما كان سببه.

ومن هنا حاول بعض الأعلام (2) توجيهه ثبوتا بدعوى تحويل القطع الطريقي إلى موضوعي ، وذلك بأن يفرض عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلي لا حكم ليكون القطع منجّزا له.

حجّيّة الدليل العقلي :

بعد أن فرغنا من الكلام عن القواعد التي يحكم بها العقل وهو بمثابة الصغرى ، نأتي للحديث عن حجّيّة هذه القواعد العقليّة وهذا بحث كبروي ، فهل هي حجّة أم لا؟

الصحيح هو التفصيل بين الأدلّة العقليّة الظنيّة والقطعيّة.

فإن كان الدليل العقلي ظنيّا فهو بحاجة إلى دليل خاصّ يدلّ على حجّيّته ، وإلا فإنّه لم يثبت لدينا حجّيّة كلّ الظنون العقليّة ، فإنّ ما استدلّ به على حجّيّة مطلق الظنّ وهو دليل الانسداد وغيره لم يكن تامّا في نفسه ، ولذلك يحتاج كلّ ظنّ إلى التعبّد بحجّيّته بمعنى قيام دليل قطعي على حجّيّته.

ص: 449


1- نسبه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول 1 : 51 إلى بعض الأخباريّين.
2- كالمحقّق النائيني في فوائد الأصول 3 : 13 - 14.

وأمّا إن كان الدليل العقلي قطعيّا فلا إشكال في حجّيّته من باب الأخذ بحجّيّة القطع كما تقدّم ؛ لأنّ سلب الحجّيّة عن القطع مستحيل مهما كان نوعه ومهما كان منشؤه. ولا يتمّ سلب الحجّيّة إلا بما ذكرناه من تحويل القطع إلى قطع موضوعي ، فإنّه يمكن أخذ عدمه قيدا كما تقدّم بيانه سابقا ، وأمّا إذا كان قطعا طريقيّا فلا يمكن الردع عن العمل به ، هذا هو التصوّر الصحيح.

إلا أنّ هناك جماعة من الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة الدليل العقلي حتّى وإن كان قطعيّا فضلا عمّا إذا كان ظنّيّا. فإذا حصل القطع عن طريق العقل فهذا القطع لا يكون حجّة على ثبوت الحكم المقطوع به من هذا الطريق.

وفيه : أنّ هذا غير معقول ؛ لأنّ القطع بعد حصوله يستحيل سلب الحجّيّة عنه كما يستحيل الردع عن العمل به ؛ لأنّ الردع إمّا أن يكون بدليل واقعي أو بدليل ظاهري وكلاهما مستحيلان.

أمّا الدليل الواقعي فلاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين في الواقع أو في نظر المكلّف على كلّ حال كما تقدّم بيانه في البحث عن حجّيّة القطع ، وأمّا الدليل الظاهري فلأنّه فرع الشكّ ومع القطع ولو بطريق العقل لا شكّ فلا موضوع له.

وعلى كلّ حال لا يمكن للمكلّف التصديق بتوجّهه إليه فلا يكون جدّيّا بنظره فيفقد الغرض والمطلوب من التكليف.

وهناك من ذهب إلى تحويل القطع من طريق العقل إلى قطع موضوعي في محاولة لتبرير مقالة الأخباريّين ، فقال : إنّ عدم القطع العقلي مأخوذ قيدا في الحكم الشرعي ، فإذا تحقّق الحكم الشرعي عن غير طريق العقل فيؤخذ به لتحقّق القيد ، وإن حصل القطع بالحكم الشرعي عن طريق العقل فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ قيده لم يتحقّق فلا يكون موضوعه متحقّقا ومع انتفاء موضوع الحكم أو بعض قيوده لا يوجد الحكم ولا يكون فعليّا ولا منجّزا.

إذا ثبوتا يمكن أن يكون الشارع قد أخذ في موضوعات الأحكام عدم القطع بها من طريق العقل ، وهذا نتيجته سلب الحجّيّة عن القطع الحاصل من طريق العقل ، وهو ما يريده الأخباريّون.

ص: 450

ويرد على ذلك :

أوّلا : أنّ القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو القطع بالحكم المجعول أو بالجعل؟

والأوّل واضح الاستحالة ؛ لأنّ القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا ، فكيف يعقل أن يصدّق بأنّه يساوق انتفاءه؟!

وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة ؛ إذ قد يصدق القاطع بالجعل بعدم فعليّة المجعول ، ولكنّ التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيد آخر؟!

وبكلمة موجزة : أنّ المكلّف إذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن أن يصدّق بإناطته بغير ما قطع عقلا بثبوته ، وإذا كان قاطعا عقلا بثبوت الملاك للحكم ولكن على نحو لا يجزم بأنّه ملاك تامّ ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا القطع حجّة في نفسه بلا حاجة إلى بذل عناية في تحويله من طريقيّ إلى موضوعي.

ويرد على تحويل القطع العقلي من طريقي إلى موضوعي :

أوّلا : أنّ أخذ عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم الشرعي ما ذا يراد به؟

فهل يراد أخذه كذلك في الحكم الشرعي المجعول أم في الحكم الشرعي بمعنى الجعل؟

فإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى المجعول ، بأن يقال : إنّ فعليّة الحكم الشرعي وكونه منجّزا بحقّ المكلّف يشترط فيه ألاّ يكون قد قطع به من طريق العقل ، فهذا غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ القاطع بالحكم الشرعي من خلال العقل يرى أنّ الحكم الشرعي مجعولا بحقّه وفعليّا ومنجّزا عليه ، فكيف يصدّق في نفس الوقت بأنّه ليس فعليّا وليس منجّزا؟!

وهذا يعني أنّ مثل هكذا تقييد يلزم منه عدم الجدّيّة وعدم إمكان التصديق به ؛ لأنّ كلّ قاطع يرى أنّ التكليف المقطوع به فعلي بحقّه.

وإن أريد أخذه في الحكم الشرعي بمعنى الجعل ، بأن يقال : إنّ الجعل إذا قطع به

ص: 451

المكلّف بدليل العقل فهو ليس فعليّا في حقّه ولا منجّزا عليه ، فهذا معقول في نفسه ولا يلزم منه المحذور المتقدّم ؛ لأنّه يمكن للمكلّف أن يصدّق بذلك.

إلا أنّه في خصوص مقامنا مستحيل ؛ وذلك لأنّه يؤدّي إلى الخلف.

وبيانه : أنّه إذا قام الدليل العقلي القطعي لدى المكلّف على الحكم الشرعي فهذا معناه أنّ العقل قد لاحظ تمام ما هو دخيل في ملاك الحكم الشرعي ؛ لأنّ العقل لا يحكم بشيء إلا بعد ملاحظة الموضوع مع كلّ ما هو دخيل فيه وكلّ ما هو خارج عنه ، وهذا يعني أنّ حكم العقل بشيء معناه إدراكه لتمام الملاك المفروض في هذا الحكم الشرعي ، وحينئذ كيف يصدّق القاطع بوجود تمام الملاك للحكم بأنّ الحكم مقيّد بقيد آخر غير ما أدركه ولاحظه العقل؟! فإنّ هذا خلف ثبوت تمام الملاك للحكم لدى العقل.

وبتعبير آخر : إنّ الدليل العقلي القطعي إذا قام على ثبوت الحكم ، فإمّا أن يكون العقل قاطعا بتمام الملاك للحكم أو لا.

فإن كان قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فالقاطع لن يصدّق بوجود قيد آخر قد علّق عليه هذا الحكم ؛ لأنّ قطعه بتمام الملاك يعني أنّ هذا القيد منتف جزما ، ومع عدم تصديقه بوجود قيد آخر سوف يكون قطعه بالجعل مساوقا لفعليّته.

وإن لم يكن قاطعا بتمام الملاك للحكم ، فمثل هذا الدليل العقلي لا يكون قطعيّا ، إذ ما دام يحتمل العقل وجود شيء آخر وراء ما أدركه ولاحظه فهذا يعني أنّه لم يصل إلى القطع ، ومع عدم كونه قطعيّا لا يكون حجّة في نفسه ؛ لأنّه سوف يدخل في الدليل العقلي الظنّي وهو يحتاج إلى ما يثبت حجّيّته ، وحينئذ لا نحتاج إلى إثبات عدم حجّيّته بتحويله من طريقي إلى موضوعي ؛ لأنّه ليس حجّة في رتبة سابقة.

وثانيا : أنّ القطع العقلي لا يؤدّي دائما إلى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدّي إلى نفيه ، من قبيل ما يستدل به على استحالة الأمر بالضدّين ولو على وجه الترتّب ، فما ذا يقال بهذا الشأن؟

وهل يفترض أنّ المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ من وصلت إليه الاستحالة بدليل عقلي على الرغم من استحالته؟

ص: 452

الإيراد الثاني : أنّنا لو فرضنا قيام الدليل العقلي القطعي على نفي الحكم الشرعي لا على إثباته ، فما ذا يقال بهذا الشأن هل يحكم بحجّيّته أم لا؟

فإن قيل بحجّيّته كان هذا تفصيلا في الدليل العقلي من دون أن يكون له أي مبرّر.

وإن قيل بعدم حجّيّته ، فلو فرضنا أنّنا قلنا باستحالة ثبوت الحكمين المتضادّين ولو على وجه الترتّب ، فإنّ هذه الاستحالة عقليّة ، وهي تنفي ثبوت الحكم الشرعي. فإذا لم يكن الدليل العقلي حجّة فاللازم أن يحكم الشارع بعدم ثبوت هذه الاستحالة ؛ لأنّ الدليل عليها كان من العقل وبالتالي يحكم بلزوم الأخذ بالحكمين المتضادّين ، فهل هذا معقول؟!

فالصحيح إذا أنّ المنع شرعا عن حجّيّة الدليل العقلي القطعي غير معقول لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.

وبهذا يتبيّن أنّ الصحيح ما ذكرناه من كون الدليل العقلي القطعي حجّة في نفسه من باب حجّيّة القطع.

ولا يمكن أن يقال بعدم حجّيّته لا بسلب الحجّيّة عنه مباشرة والردع عن العمل به ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم ، ولا بتحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي بمعنى أخذ عدمه قيدا في الحكم الشرعي ؛ لأنّنا أثبتنا عدم جدوى ذلك.

ولكنّ القائلين بعدم حجّيّة الدليل العقلي استندوا إلى جملة من الروايات (1) التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على عدم قبول أي عمل غير مبنيّ على الاعتراف بأهل البيت علیهم السلام ونحو ذلك من الألسنة.

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي :

استدلّ الأخباريّون على عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي بالروايات الدالّة على ذلك ، فإنّ الروايات ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة ، وأكّدت على لزوم العمل بما يصدر من أهل البيت علیهم السلام وكلّ عمل غير مبني على الاعتراف بهم فلا يكون مقبولا.

ص: 453


1- انظر : وسائل الشيعة 27 : 35 ، أبواب صفات القاضي ، ب 6.

وهذا معناه أنّ دليل العقل وغيره لا يثبت الحكم الشرعي ولا يجوز العمل بالحكم الشرعي ؛ لأنّه طريق آخر غير أهل البيت علیهم السلام .

فالروايات التي ندّدت بالعمل بالأدلّة العقليّة كثيرة جدّا كقوله علیه السلام : « إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » ، والروايات التي أكّدت على لزوم العمل بما ورد عن أهل البيت علیهم السلام دون غيرهم ، وأنّه لا يقبل أي عمل من دون الاعتراف بهم كثيرة جدّا أيضا ، كقوله علیه السلام : « بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ».

والحاصل : أن الروايات دلّت على أنّ أي عمل لا يكون مصدره أهل البيت علیهم السلام فلا يكون مقبولا.

والصحيح : أنّ الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدّعى ، وإنّما هي بصدد أمور أخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقليّة.

وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطا في صحّة العبادة.

وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الأدلّة الشرعيّة والتوجّه رأسا إلى الاستدلالات العقليّة ، مع أنّ التوجّه إلى الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة.

والصحيح : أنّ الروايات التي استندوا إليها ليست حجّة على مدّعاهم من عدم حجّيّة الدليل العقلي القطعي ، وذلك لأنّ هذه الروايات يمكن تصنيفها إلى عدّة طوائف :

الأولى : الروايات التي تنهى عن العمل بالظنّ والرأي والاستحسان ونحو ذلك من الأدلّة العقليّة الظنيّة ، ونحن قلنا بأنّ دليل العقل إن كان ظنّيّا فهو ليس حجّة في نفسه ، بل يحتاج إلى دليل على حجّيّته. فتكون هذه الروايات دليلا على عدم ثبوت الحجّيّة لمثل هذه الظنون العقليّة.

الثانية : الروايات التي تدلّ على أنّ الولاية شرط لقبول العمل وصحّة العبادة ، وهذه معناها أنّ سائر العبادات من دون أن تكون مقرونة بولاية أهل البيت علیهم السلام لا تجدي نفعا لصاحبها.

ص: 454

الثالثة : الروايات التي تمنع من التوجّه ابتداء إلى الأدلّة العقليّة ، وهذه مفادها أنّه لا بدّ من طلب حكم اللّه تعالى من الكتاب والسنّة أوّلا ، فمع عدم وجوده فيهما حينئذ يتوجّه إلى الأدلّة العقليّة. والسرّ في ذلك هو أنّ الأدلّة الشرعيّة كثيرا ما تحول دون حصول القطع من الاستدلالات العقليّة ؛ لأنّ العقل قد يخطئ في اكتشافه للملاك بتمامه مع كلّ ما أخذ فيه ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة ، حيث استغرب أبان كيف تكون دية الأربع أصابع عشرين مع كون دية الثلاثة أصابع ثلاثين ، فإنّ استغرابه هذا ناشئ من استدلاله بعقله على الحكم من دون أن يرجع فيه أوّلا إلى أهل البيت علیهم السلام .

وهكذا يظهر أنّ الروايات ليست دليلا على المنع من الأخذ بدليل العقل القطعي.

وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي وبذلك نختم الكلام في مباحث الأدلّة من الحلقة الثالثة.

وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية 1397 ه. ق ، وكان الفراغ في اليوم الثالث والعشرين من شهر رجب 397 ه. ق.

وبما ذكرناه يتمّ الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة إن شاء اللّه تعالى ، وهو في مباحث الأصول العمليّة. وإلى المولى سبحانه نبتهل أن يتقبّل منّا هذا بلطفه ، ويوفّقنا لمراضيه ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

* * *

ص: 455

ص: 456

الفهرس

الدليل العقلي... 5

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور... 21

شرطيّة القدرة ومحلّها ... 23

حالات ارتفاع القدرة... 35

الجامع بين المقدور وغيره... 45

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ... 53

[ ثمرات بحث الترتّب ]... 71

ما هو الضدّ؟... 81

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة... 87

التقييد بعدم المانع الشرعي... 95

قاعدة إمكان الوجوب المشروط... 101

المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات... 117

القسم الأوّل : المقدّمات الوجوبيّة :... 120

القسم الثاني : المقدّمات الوجوديّة الشرعية... 121

القسم الثالث : المقدّمات الوجوديّة العقلية... 122

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد [ أو مبحث الشرط المتأخر ]... 131

زمان الوجوب والواجب... 149

المسئوليّة عن المقدّمات قبل الوقت [ أو المقچمات المفوتة ]... 163

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم... 177

تمهيد :... 179

ص: 457

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ... 180

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله ... 195

الواجب التوصّلي والتعبّدي... 201

بيان الاشتباه والمغالطة في البرهان المتقدّم ... 208

اعتراض السيّد الخوئي على هذا البرهان... 216

ثمرة هذا البحث ... 219

التخيير في الواجب... 225

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب... 239

تعريف الواجب الغيري ... 241

خصائص الوجوب الغيري... 247

مقدّمات غير الواجب... 257

الثمرة الفقهيّة للنزاع في الوجوب الغيري... 261

شمول الوجوب الغيري... 273

تحقيق حال الملازمة... 283

حدود الواجب الغيري... 289

مشاكل تطبيقيّة... 299

دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء... 307

دلالة الأوامر الاضطراريّة على الإجزاء عقلا... 313

دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلا... 323

ويرد على ذلك ... 328

امتناع اجتماع الأمر والنهي... 335

الفارق بين المسلكين ... 345

حكم الخروج في نفسه ... 363

حدود امتناع اجتماع الأمر والنهي ... 371

ثمرة البحث في مسألة الاجتماع... 372

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه... 379

ص: 458

المقام الأول : في الضدّ العام... 382

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ... 387

الفرق بين المانعيّة والتمانع ... 395

ثمرة البحث... 397

اقتضاء الحرمة للبطلان... 401

موضوع البحث ... 403

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة... 405

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة... 415

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع... 423

المصلحة والمفسدة ... 427

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع... 429

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع... 435

حجّيّة الدليل العقلي... 447

الدليل الآخر على عدم حجّيّة الدليل العقلي ... 453

الفهرس... 457

ص: 459

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.