شرح الحلقة الثّالثة المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 426

المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

2

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الثاني

مباحث الألفاظ

الدليل الشرعي اللفظي

إثبات صغری الدليل الشرعي

حجية الظهور

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

المفاهيم

اشارة

ص: 5

ص: 6

المفاهيم

تعريف المفهوم :

لا شكّ في أنّ المفهوم مدلول التزامي للكلام ، ولا شكّ أيضا في أنّه ليس كلّ مدلول التزامي يعتبر مفهوما بالمصطلح الأصولي.

ومن هنا احتجنا إلى تعريف يميّز المفهوم عن بقية المدلولات الالتزاميّة.

المفهوم : هو المدلول الالتزامي للكلام ، بخلاف المنطوق فإنّه المدلول المطابقي للكلام ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه. إلا أنّ المداليل الالتزاميّة للكلام كثيرة وليس كلّها تسمّى مفهوما بالمصطلح الأصولي ، بل خصوص واحد منها ، ولذلك تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

فمثلا حرمة الضدّ مدلول التزامي لوجوب ضدّه ، فإذا وجبت الصلاة كان مدلولها الالتزامي حرمة تركها أو فعل المنافي لها المؤدّي إلى فواتها. ووجوب المقدّمة مدلول التزامي لوجوب ذيها ، فإذا وجب الحجّ وجب السفر إلى مكّة قبل يوم عرفة للنائي.

وبطلان العبادة مدلول التزامي للنهي عنها ، فإذا قيل : ( لا تصلّ في المغصوب ) كان لازمه بطلان الصلاة فيه. ووجوب صلاة الجمعة يدلّ بالالتزام على عدم وجوب الظهر يوم الجمعة ، وطلوع الفجر يدلّ بالالتزام على ذهاب الليل. ووجود أحد الضدّين يدلّ بالالتزام على انتفاء الضدّ الآخر. ووجود الوصف يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، وهكذا الشرط والغاية ونحو ذلك.

ومن الواضح أنّ هذه المدلولات الالتزاميّة ليست كلّها مفهوما بالمصطلح الأصولي وإن كانت مفهوما لفظيّا للكلام ، بمعنى أنّها تفهم من وراء هذه الألفاظ ؛ ولأجل ذلك نحتاج في بيان المفهوم بالمصطلح الأصولي إلى تعريف يميّز هذا المدلول الالتزامي الذي يسمّى مفهوما أصوليّا عن سائر المداليل الالتزاميّة الأخرى.

ص: 7

وعليه وجدت عدّة تعريفات للمفهوم ، أهمّها :

وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه بهذا الصدد : أنّ المفهوم هو اللازم البيّن مطلقا أو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ في مصطلح المناطقة (1).

عرّف المحقّق النائيني المفهوم بقوله : ( هو المدلول الالتزامي للجملة على وجه يكون بيّنا بالمعنى الأخصّ ) وفقا لما جاء في تعريف ( فوائد الأصول ) (2).

إلا أنّ السيّد الخوئي في أجود التقريرات فسّر كلام الميرزا بنحو يتناسب مع اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ أيضا.

ولأجل اختلاف التقريرات ردّد السيّد الشهيد بقوله : ( هو اللازم البيّن مطلقا أو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ).

والمقصود من هذين المصطلحين هو المصطلح المنطقي لهما.

فاللازم البيّن بالمعنى الأخصّ : هو ما يلزم من تصوّر ملزومه تصوّره بلا حاجة إلى توسّط شيء آخر. كتصوّر الحرارة بمجرّد تصوّر النار ، وكتصوّر البرودة عند تصوّر الثلج.

واللازم البيّن بالمعنى الأعمّ : هو ما يلزم من تصوّره وتصوّر ملزومه وتصوّر النسبة بينهما الجزم بالملازمة. كتصوّر أنّ الاثنين نصف الأربعة ، فإنّه يحتاج إلى تصوّر الاثنين والأربعة والنسبة بينهما.

والحاصل : أنّه يشترط في المفهوم أن يكون لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ ، بمعنى أنّ الذهن ينتقل من تصوّر المعنى للّفظ إلى تصوّر معنى آخر خارج عن اللفظ ، بنحو يكون التلازم بينهما عقليّا من دون حاجة إلى توسّط شيء آخر غير تصوّر اللفظ ومعناه.

ونلاحظ على ذلك : أنّ بعض الأدلّة التي تساق لإثبات مفهوم الشرط مثلا تثبت المفهوم كلازم عقلي بحت دون أن يكون مبيّنا على ما يأتي (3) إن شاء اللّه تعالى.

ص: 8


1- راجع فوائد الأصول 1 : 477 ، أجود التقريرات 1 : 414.
2- فوائد الأصول 1 : 378.
3- في بحث مفهوم الشرط.

ويرد على هذا التعريف سواء أريد منه اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ أو بالمعنى الأخصّ أو كليهما ، أنّهم قد استدلّوا على ثبوت المفهوم في بعض الجمل بأدلّة عقليّة أو فلسفيّة محضة غير بيّنة ولا واضحة عرفا. من قبيل استدلالهم على ثبوت مفهوم الشرط بالقاعدة الفلسفية القائلة ب- ( أنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، وهذه القاعدة ليست عرفيّة ولا بيّنة أصلا ، بل هي لازم غير بيّن.

مضافا إلى أنّ بعض اللوازم بالمعنى الأخصّ ليست من المفهوم ، فمثلا إذا قيل : ( إنّ الماء مطهّر ) فلازمه الأخصّ البيّن عرفا أنّه طاهر ، مع أنّ هذا اللازم ليس مفهوما بالمصطلح الأصولي.

فهذا التعريف غير تامّ ؛ لأنّه غير مانع كما في النقض الأوّل ، وغير جامع كما في النقض الثاني.

فالأولى أن يقال : إنّ المدلول الالتزامي تارة يكون متفرّعا على خصوصيّة الموضوع في القضيّة المدلولة للكلام بالمطابقة على نحو يزول باستبداله بموضوع آخر ، وأخرى يكون متفرّعا على خصوصيّة المحمول بهذا النحو ، وثالثة يكون متفرّعا على خصوصيّة الربط القائم بين طرفي القضيّة على نحو يكون محفوظا ولو تبدّل كلا الطرفين.

والتحقيق : أنّ المدلول الالتزامي للكلام على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة الموضوع الموجود في الكلام ، بنحو إذا أبدلنا هذا الموضوع بموضوع آخر انتفى المدلول الالتزامي السابق. كما إذا قيل مثلا : ( أكرم ابن العالم ) فإنّه يدلّ التزاما على وجوب إكرام العالم نفسه ، إلا أنّ هذا المدلول الالتزامي مرتبط بهذا الموضوع بخصوصه ؛ وذلك لوجود خصوصيّة وملاك فيه ، فلو أبدل بموضوع آخر كقولنا : ( أكرم اليتيم ) فلا يدلّ التزاما على وجوب إكرام أمّه مثلا.

وهذا النحو من المدلول الالتزامي ليس من المفهوم المصطلح بشيء ، وإن أطلق عليه اسم مفهوم الأولويّة أو مفهوم الموافقة ؛ لأنّ البحث أصوليّا عن مفهوم المخالفة فقط.

الثاني : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة في المحمول الموجود في

ص: 9

الكلام ، بنحو إذا أبدل هذا المحمول بآخر لم يثبت المدلول الالتزامي الذي كان ثابتا من قبل ، كما إذا قلنا : ( صلّ ) فإنّ وجوب الصلاة يلزم منه وجوب مقدّماتها كالوضوء ونحوه ، إلا أنّ هذا المدلول الالتزامي ينتفي لو كانت الصلاة مباحة ، فإنّه لا يجب تهيئة المقدّمات عندئذ. وهذا ليس من المفهوم المصطلح أيضا.

الثالث : أن يكون المدلول الالتزامي متفرّعا على خصوصيّة الربط الموجود بين طرفي القضيّة أي بين الموضوع والمحمول ، بأن كان هناك ربط مخصوص بين الموضوع والمحمول وكان المدلول الالتزامي متفرّعا عن هذا الربط ، فهذا إذا أبدلنا الموضوع والمحمول بآخرين مع بقاء خصوصيّة الربط فإنّ المدلول الالتزامي يبقى على حاله ولا ينتفي ؛ من قبيل قولنا : ( صم إلى الليل ) فإنّ الموضوع هو الصيام والمحمول هو الوجوب إلى الليل.

فلأجل الارتباط الخاصّ بين الموضوع والمحمول وهو أنّ وجوب الصوم معلّق على الليل يستلزم انتفاء وجوب الصوم إذا دخل الليل ، وهذا المدلول الالتزامي لا يتغيّر ولا يتبدّل حتّى لو غيّرنا الطرفين بآخرين ما دام الربط المذكور موجودا ؛ لأنّ المدلول الالتزامي كان متفرّعا على هذا الربط وعلى خصوصيّة في الموضوع أو المحمول. وهذا هو المفهوم بالمصطلح الأصولي.

ولتوضح ذلك قال السيّد الشهيد :

فقولنا : ( إذا زارك ابن كريم وجب احترامه ) يدلّ التزاما على وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته ، وعلى وجوب تهيئة المقدّمات التي يتوقّف عليها احترام الابن الزائر ، وعلى أنّه لا يجب الاحترام المذكور في حالة عدم الزيارة.

فهذه الجملة فيها ثلاثة أنحاء من المداليل الالتزاميّة :

الأول : المدلول الالتزامي المتفرّع على الموضوع لخصوصيّة فيه ، وهو وجوب احترام الكريم نفسه عند زيارته ؛ لأنّه إذا وجب احترام ابنه فمن الأولى احترامه هو نفسه ، وهذا ما يسمّى بمفهوم الموافقة والأولويّة.

الثاني : المدلول الالتزامي المتفرّع على خصوصيّة المحمول ، وهو وجوب تهيئة المقدّمات للاحترام ، فإنّ وجوب المقدّمات لازم لوجوب الاحترام نفسه.

الثالث : المدلول الالتزامي المتفرّع على الربط الخاصّ بين الموضوع والمحمول ، وهو

ص: 10

عدم وجوب الإكرام إذا انتفت الزيارة ، بمعنى أنّه لا إكرام للكريم إذا لم تتحقّق منه الزيارة.

وحينئذ نقول :

والمدلول الأوّل مرتبط بالموضوع ، فلو بدّلنا ابن الكريم باليتيم مثلا لم يكن له هذا المدلول.

والمدلول الثاني مرتبط بالمحمول وهو الوجوب ، فلو بدّلناه بالإباحة لم يكن له هذا المدلول.

أمّا المدلول الالتزامي الأوّل فهو مرتبط بالموضوع ؛ لأنّ إكرام الكريم نفسه فرع خصوصيّة الموضوع ، وهي أنّه إذا وجب إكرام ابنه فمن الأولى وجوب إكرامه هو. وهذا يعني أنّنا لو أبدلنا ( ابن الكريم ) ب- ( اليتيم ) وقلنا : ( أكرم اليتيم ) لم يكن لهذا الكلام دلالة التزاميّة كالسابق ؛ إذ لا يدلّ على وجوب إكرام أمّه مثلا.

وكذلك الحال في المدلول الالتزامي الثاني ؛ لأنّه مرتبط بالمحمول. فإنّ المقدّمات تجب فيما إذا كان ذو المقدّمة واجبا ، وأمّا إذا كان مستحبّا فإنّه لا تكون مقدّماته مستحبّة أيضا.

والمدلول الثالث متفرّع على الربط الخاصّ بين الجزاء والشرط ، ومهما غيّرنا من الشرط والجزاء يظلّ المدلول الثالث بروحه ثابتا معبّرا عن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، وإن كان التغيير ينعكس عليه فيغيّر من مفرداته تبعا لما يحدث في المنطوق من تغيّر في المفردات. وهذا هو المفهوم.

وأمّا المدلول الثالث وهو انتفاء وجوب الاحترام عند انتفاء الزيارة ، فهذا متفرّع عن الربط المخصوص بين الجزاء والشرط ، وهو كون الجزاء متوقّفا على الشرط ، فإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء.

وهذا المدلول الالتزامي يبقى ثابتا حتّى لو تغيّر الشرط والجزاء وأبدلناهما بشرط وجزاء آخرين ، فإنّه يبقى هذا الربط المخصوص بين الشرط والجزاء - وهو التوقّف - ثابتا لا يتغيّر.

نعم ، تتغيّر المفردات في المفهوم تبعا لتغيّرها في المنطوق ، فقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) وقولنا : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) لا يختلفان من حيث كون الجزاء

ص: 11

متوقّفا على الشرط ، وهو المدلول الالتزامي المسمّى بالمصطلح الأصوليّ مفهوما. نعم ، تتغيّر المفردات من المجيء والإكرام إلى زوال الشمس والصلاة ، وهذا التغيّر في المفردات لا يضرّ في بقاء المدلول الالتزامي المذكور ؛ لأنّه متفرّع على الربط المخصوص فمتى تحقّق هذا الربط تحقّق المفهوم ، ولا ارتباط له بالموضوع أو المحمول لينتفي بانتفائهما.

وهذا هو المفهوم المصطلح عليه أصوليّا ، ولكن بشرط آخر وهو :

لكن على أن يتضمّن انتفاء طبيعي الحكم لا شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب ، تمييزا للمفهوم عن قاعدة احترازيّة القيود التي تقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد.

والشرط الآخر في المفهوم هو أن يكون المنتفي طبيعي الحكم لا شخصه ، فقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء على أساس الربط المخصوص بين الشرط والجزاء وهو التوقّف ، لكن المنتفي هو كلّي وطبيعي وجوب الإكرام لا وجوب خاصّ ، بمعنى أنّه لا يجب إكرامه مطلقا إذا لم يأت حتّى لو كان عالما أو عادلا أو فقيرا... إلى آخره.

وبهذا اختلف المفهوم في موارد ثبوته عن قاعدة احترازيّة القيود ، فإنّ المنتفي فيها هو شخص الحكم المعلّق على الوصف أو القيد.

فإذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) دلّ ذكر قيد العدالة في القضيّة على أنّ الحكم ينتفي عن العالم إذا لم يكن عادلا ، ولكنّه لا يدلّ على انتفاء طبيعي وكلّي وجوب الإكرام عن العالم ، ولذلك لا مانع من إكرامه بوصف آخر كأن يكون فقيرا مثلا.

والحاصل في تعريف المفهوم أن يقال : ( إنّ المفهوم هو المدلول الالتزامي المتفرّع عن خصوصيّة الربط القائم بين طرفي القضيّة بنحو يكون المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه ).

وبهذا التعريف تخرج المداليل الالتزاميّة المتفرّعة عن خصوصيّة في الموضوع فقط ، أو في المحمول فقط ، ويخرج المدلول الالتزامي المتفرّع على الربط القائم بين طرفي القضيّة إذا لم يكن المنتفي فيه طبيعي الحكم أيضا.

ص: 12

ضابط المفهوم :

ونريد الآن أن نعرف الربط المخصوص الذي يؤخذ في المنطوق ويكون منتجا للمفهوم.

وتوضيح ذلك : أنّا إذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال للقضايا التي يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها ، نجد أنّ لها مدلولا تصوّريّا ومدلولا تصديقيّا.

وحينما نفترض المفهوم للجملة الشرطيّة : تارة نفترضه على مستوى مدلولها التصوّري ، بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم يكون داخلا في المدلول التصوّري للجملة. وأخرى نفترضه على مستوى مدلولها التصديقي بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم لا يكون مدلولا عليه بدلالة تصوّريّة ، بل بدلالة تصديقيّة.

بعد أن عرفنا أنّ المفهوم هو المدلول الالتزامي للكلام على نحو يوجب انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء موضوعه ، لا بدّ أن نعرف النكتة والملاك في كيفيّة اقتناص المفهوم من الجملة ليتمّ تطبيق ذلك على كلّ الجمل التي ادّعي دلالتها على المفهوم لنرى أنّ هذا الضابط هل هو موجود فيها فيثبت لها المفهوم ، أو لا فلا يثبت لها المفهوم؟

فهذا الربط الخاصّ بين طرفي القضيّة متى يتحقّق ، وما هو ملاكه؟

ففي قولنا : ( إذا جاءك زيد أكرمه ) إذا أردنا إثبات المفهوم لهذه القضيّة علينا إثبات وجود الربط الخاصّ فيها الموجب لانتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الموضوع أو الشرط.

وبما أنّ لكلّ جملة مدلولا تصوّريّا ومدلولا تصديقيّا فلا بدّ إذا أن يقع البحث عن اقتناص ضابط المفهوم في مقامين :

المقام الأوّل : في مرحلة المدلول التصوّري للجملة ، وهو المدلول اللفظي والصورة الذهنيّة التي وضعت لها ، فإنّ كلّ لفظ موضوع لمعنى. فالجملة الشرطيّة مثلا ما هو المعنى الذي وضعت له لنرى أنّ هذا المعنى هل يفي بالربط المخصوص لاستفادة المفهوم أو لا؟ فإذا كان وافيا به تصوّرا فهو ثابت استعمالا وتصديقا جدّيّا.

المقام الثاني : في مرحلة المدلول التصديقي للجملة ، وذلك فيما إذا لم يكن المعنى الموضوع للجملة كافيا في الربط المخصوص ، فيبحث عن وجود نكتة إثباتيّة دلاليّة

ص: 13

على أساسها يثبت هذا الربط الخاصّ ، كالإطلاق وقرينة الحكمة مثلا على ما سيأتي توضيحه.

والحاصل : أنّ البحث عن ضابط المفهوم والربط الخاصّ الموجب للمفهوم يقع في مقامين :

الأوّل : المرحلة الثبوتيّة وهي مرحلة المدلول التصوّري للجملة.

الثاني : المرحلة الإثباتيّة وهي مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي للجملة.

وسوف نبحث عن هذين المقامين تباعا ، فنقول :

أمّا الضابط لإفادة المفهوم في مرحلة المدلول التصوّري فهو أن يكون الربط المدلول عليه بالأداة أو الهيئة في هذه المرحلة من النوع الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ ربط قضيّة أو حادثة بقضيّة أو حادثة أخرى إذا أردنا أن نعبّر عنه بمعنى اسمي وجدنا بالإمكان التعبير عنه بشكلين :

فنقول تارة : ( زيارة شخص للإنسان تستلزم أو توجد وجوب إكرامه ).

ونقول أخرى : ( إنّ وجوب إكرام شخص يتوقّف على زيارته أو هو معلّق على فرض الزيارة وملتصق بها ).

أمّا المقام الأوّل : فإذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فإثبات المفهوم والربط الخاصّ في مرحلة المدلول التصوّري والوضعي للجملة متوقّف على إثبات أنّ الربط المدلول عليه في هذه الجملة سواء كان الدالّ هو الأداة أي أداة الشرط أو كان الدالّ هو الهيئة أو تفريع الجزاء على الشرط ، وهذا الترديد في العبارة لأجل وجود قولين بينهم ، فبعض يقول : إنّ الدالّ على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء هو الأداة ، بينما يقول البعض الآخر. كالأصفهاني. إنّ الدالّ على الربط الخاصّ هو تفريع الجزاء على الشرط بالفاء الموجودة أو المقدّرة ، وعلى كلّ فالربط الخاصّ المدلول عليه في الجملة لكي يكون وافيا بضابط المفهوم لا بدّ أن يكون هذا الربط بنحو يكون موجبا ومستلزما لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

فارتباط قضيّة بقضيّة أخرى إذا كان دالا على الانتفاء عند الانتفاء كان موجبا لاستفادة المفهوم.

ص: 14

وحيث إنّ الجملة الشرطيّة الدالّة على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء سواء بالأداة أو بالهيئة من المعاني الحرفيّة ، فهي تدلّ على هذا الربط الخاصّ بنحو المعنى الحرفي ، وهكذا الحال في سائر الجمل التي يبحث حول دلالتها عن المفهوم.

وهذا المعنى الحرفي يوازيه معنى اسمي ؛ لأنّ كلّ معنى حرفي يوجد معنى اسمي مواز له ، فإذا أردنا أن نعبّر عن هذا الربط الخاصّ الذي هو معنى حرفي بالمعنى الاسمي الموازي له وجدنا أنّ هناك نحوين من التعبير :

ففي قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) تارة نعبّر عن الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء بقولنا : ( مجيء زيد مستلزم وموجد لوجوب إكرامه ) بحيث يكون المعنى الحرفي هو النسبة الإيجاديّة أو النسبة الاستلزاميّة.

وأخرى نعبّر عن هذا الربط بقولنا : ( وجوب إكرام زيد متوقّف أو معلّق أو ملتصق بمجيئه ) بحيث يكون المعنى الحرفي هو النسبة التوقّفيّة أو التعليقيّة أو الالتصاقيّة.

فإذا يوجد نحوان من الممكن أن تكون الجملة الشرطيّة موضوعة لهما هما :

1 - أن تكون موضوعة للنسبة الإيجاديّة أو الاستلزاميّة.

2 - أن تكون موضوعة للنسبة التوقّفيّة أو الالتصاقيّة أو التعليقيّة.

وحينئذ يأتي البحث التالي :

ففي القول الأوّل استعملنا معنى الاستلزام ، وفي القول الثاني استعملنا معنى التوقّف والتعليق والالتصاق ، والمعنى الأوّل لا يدلّ التزاما على الانتفاء عند الانتفاء ، والثاني يدلّ عليه.

فإذا كانت الجملة الشرطيّة مثلا موضوعة لغة للربط الخاصّ وللنسبة الاستلزاميّة الموازية لمفهوم الاستلزام كمعنى اسمي فلا يمكن استفادة المفهوم للجملة ؛ إذ لا يكون هذا المعنى وافيا ودالا بالالتزام على الانتفاء عند الانتفاء.

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة الإيجاديّة أو الاستلزاميّة معناها أنّ هذا موجد لذاك أو سبب وعلّة له ، فإذا وجد الشرط وجد الجزاء ؛ لأنّ الشرط علّة وسبب ومستلزم للجزاء. إلا أنّ هذا لا يعني أنّه إذا انتفى الشرط انتفى الجزاء أيضا ؛ إذ لعلّ هناك سببا وعلّة وموجدا للجزاء غير هذا الشرط.

فنفس الإيجاد والاستلزام لا يكفي وحده على مستوى المدلول التصوّري الوضعي

ص: 15

للجملة في اقتناص المفهوم ، وإنّما نحتاج في إثباته إلى الإطلاق وقرينة الحكمة في الشرط لإثبات كونه العلّة الوحيدة المنحصرة للجزاء ، وهذا بحث إثباتي تصديقي لا علاقة له بالمدلول التصوّري للجملة.

وأمّا إذا كانت الجملة موضوعة لغة بحسب المدلول التصوّري الوضعي للربط الخاصّ وللنسبة التوقّفية أو التعليقية أو الالتصاقيّة كانت استفادة المفهوم والانتفاء عند الانتفاء ثابتة ومتحقّقة في مرحلة المدلول التصوّري للجملة ؛ وذلك لأنّ الجملة الشرطيّة مثلا معناها على هذا الفرض أنّ الجزاء معلّق ومتوقّف وملتصق بالشرط ، فإذا وجد الشرط وجد الجزاء ، وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء أيضا ؛ لأنّ المعيّة والالتصاق فيهما تفترض أنّهما معا دائما وجودا وعدما ، وهذا معناها لانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ الجزاء يدور مدار الشرط إذ هو معلّق عليه وملتصق به.

وعلى هذا التفسير سوف تكون الجملة الشرطيّة مثلا وغيرها من الجمل أيضا دالّة على المفهوم وضعا وتصوّرا ؛ لأنّها تدلّ على الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء إلا وهو النسبة التوقّفية أو الالتصاقيّة أو التعليقيّة.

وبهذا ظهر أنّ الاستلزام يكون بمثابة الموجبة الجزئيّة التي تسكت عن بقيّة الأفراد ، بينما التوقّف بمثابة الموجبة الكلّيّة التي تتحدّث عن كلّ الأفراد.

فلكي تكون الجملة الشرطيّة مثلا مشتملة في مرحلة المدلول التصوّري على ضابط إفادة المفهوم ، لا بدّ أن تكون دالّة على ربط الجزاء بالشرط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي للتوقّف والالتصاق ، لا على الربط بما هو معنى حرفي مواز للمعنى الاسمي لاستلزام الشرط للجزاء.

والحاصل : أنّ دلالة الجملة الشرطيّة - مثلا - وغيرها أيضا على المفهوم في مرحلة المدلول التصوّري الوضعي للجملة متوقّف على أمرين :

الأمر الأوّل : أن تكون دالّة على الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، وهذا معناه أنّه لا بدّ أن تكون موضوعة لغة لمعنى حرفي وللنسبة الموازية للمعنى الاسمي الذي هو التوقّف أو الالتصاق أو التعليق ، كما تقدّم توضيحه. لا أن تكون موضوعة لغة للمعنى الحرفي والنسبة الموازية لمفهوم الاستلزام والإيجاد الاسمي بين الشرط والجزاء ، فإذا ثبت ذلك كانت الجملة دالّة وضعا على

ص: 16

المفهوم من دون حاجة إلى أدلّة إثباتيّة تصديقيّة كالإطلاق بقرينة الحكمة ونحو ذلك.

ولا بدّ - إضافة إلى ذلك - أن يكون المرتبط على نحو التوقّف والالتصاق طبيعي الوجوب لا وجوبا خاصّا ، وإلا لم يقتض التوقّف إلا انتفاء ذلك الوجوب الخاصّ ، وهذا القدر من الانتفاء يتحقّق بنفس قاعدة احترازيّة القيود ولو لم نفترض مفهوما.

والأمر الثاني : أن يكون المرتبط طبيعي الحكم لا شخصه ، ففي الجملة الشرطيّة المذكورة مثلا يكون الربط الخاصّ بين الشرط والجزاء موجبا لانتفاء طبيعي الجزاء عند انتفاء الشرط ، فعندها يتحقّق المفهوم للجملة ، وهو أنّه لا وجوب مطلقا لإكرام زيد عند عدم مجيئه ، وأمّا انتفاء شخص الحكم فقط فهو لا يكفي لإفادة المفهوم ؛ وذلك لأنّ انتفاء شخص الحكم ثابت على أساس قاعدة احترازيّة القيود وإن لم يكن هناك مفهوم أصلا.

توضيح ذلك : أنّ قاعدة احترازيّة القيود توجب أنّ القيد المذكور في الكلام دخيل في موضوع الحكم ، بحيث إنّ الفاقد للوصف والقيد ينتفي عنه هذا الحكم المقيّد به ، فإذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) دلّت احترازيّة القيود على أنّ كلّ قيد يقوله في الكلام يكون دخيلا في المراد الجدّي.

وهذا معناه أنّ وجوب إكرام العالم يشترط فيه العدالة ، فإن لم يكن عادلا كان وجوب إكرامه منتفيا إلا أنّ وجوب الإكرام المنتفي عنه من جهة كونه عالما غير عادل ، وهذا لا يمنع ثبوت وجوب الإكرام للعالم غير العادل بقيد وملاك آخر كأن يكون فقيرا أو هاشميّا مثلا.

وعلى هذا فنقول : إنّ المفهوم كمصطلح أصولي هو انتفاء طبيعىّ الحكم لا شخصه ؛ لأنّه لو أريد انتفاء الشخص فقط كان البحث عن المفهوم للجملة لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ، إذ انتفاء شخص الحكم ثابت بقاعدة الاحترازيّة ، فما الحاجة لإثبات انتفاء هذا الشخص ثانيا على أساس المفهوم؟!

وأمّا لو كان المنتفي هو الطبيعي والكلّي لكان للمفهوم معنى تأسيسيّ جديد لم يكن موجودا من قبل ، وهذا معناه أنّ المنتفي هو طبيعي الحكم بما هو هو من دون نظر إلى الأفراد وليس المنتفي هو صرف الطبيعة ؛ لأنّ الطبيعة الصرفة تتحقّق بفرد من أفرادها ، فلو

ص: 17

كان المنتفي هو الصرف لكان معناه أنّ المنتفي هو فرد من أفرادها وهذا لا فائدة منه كما تقدّم ، بل المراد انتفاء الطبيعة بما هي هي من دون لحاظ شيء آخر عليها.

وإذا ثبتت دلالة الجملة في مرحلة المدلول التصوّري على النسبة التوقّفية والالتصاقيّة ثبت المفهوم ، ولو لم يثبت كون الشرط علّة للجزاء أو جزء علّة له ، بل ولو لم يثبت اللزوم إطلاقا وكان التوقّف لمجرّد صدفة.

فإذا تمّ هذان الأمران كان للجملة مفهوم على مستوى المدلول التصوّري الوضعي ، ولا نحتاج إلى المرحلة الإثباتيّة لإثبات أنّ الشرط علّة تامّة أو جزء العلّة التامّة للجزاء كما هو مسلك المشهور ، بل ما دامت الجملة دالّة تصوّرا على التوقّف والالتصاق بنحو المعنى الحرفي يثبت المفهوم ، وإن كان الجزاء متفرّعا على الشرط لمجرّد الصدفة المحضة ولم يكن بينهما علّة انحصاريّة أو علّة تامّة أو جزء علّة أو حتّى لزوم أيضا. فإذا قيل : ( إذا جاء الأستاذ كانت الساعة التاسعة ) وكان هناك توقّف بينهما ولو صدفة كفى ذلك في استفادة المفهوم وأنّه لا تكون الساعة التاسعة إذا لم يأت.

وأمّا على مستوى المدلول التصديقي للجملة ، فقد تكشف الجملة في هذه المرحلة عن معنى يبرهن على أنّ الشرط علّة منحصرة أو جزء علّة منحصرة للجزاء ، وبذلك يثبت المفهوم.

وأمّا المقام الثاني : وهو إثبات المفهوم على مستوى المدلول التصديقي للجملة في المراد الجدّي ، فإذا أخذنا الجملة الشرطيّة كمثال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، وقلنا : إنّ المدلول التصوّري الوضعي ليس هو النسبة التوقّفية ، بل كان النسبة الاستلزاميّة أو الإيجاديّة ، فمع ذلك يمكن أن يدّعى استفادة المفهوم أي الانتفاء عند الانتفاء على أساس وجود دلالة إثباتيّة تصديقيّة كما سيأتي بيانه مفصّلا عند الكلام في الجمل

الشرطيّة ، وإن كان الصحيح عدم تماميّة شيء ممّا ذكر ، ولكن مع ذلك نقول : قد يدّعى وجود دلالة إثباتيّة لإفادة أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء أو جزء علّة منحصرة ، فإذا ثبت كون الجزاء علّة تامّة منحصرة مثلا كان معنى ذلك أنّ الجزاء يتوقّف وجوده على الشرط ، فإذا عدم الشرط انعدم الجزاء أيضا ، فثبت المفهوم.

وإثبات العلّيّة الانحصاريّة في الشرط يتوقّف على أدلّة وبراهين منها :

وهذا من قبيل المحاولة الهادفة لإثبات المفهوم تمسّكا بالإطلاق الأحوالي للشرط

ص: 18

لإثبات كونه مؤثّرا على أي حال ، سواء سبقه شيء آخر أم لا ، ثمّ لاستنتاج انحصار العلّة بالشرط من ذلك ، إذ لو كانت للجزاء علّة أخرى لما كان الشرط مؤثّرا في حال سبق تلك العلّة.

من الأدلّة الإثباتيّة على وجود الربط الخاصّ في الجملة الشرطيّة مثلا وهو الانتفاء عند الانتفاء الإطلاق وقرينة الحكمة.

وتقريب ذلك : إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ثبت بالإطلاق الأحوالي للشرط أنّه علّة تامّة منحصرة للجزاء ، بمعنى أنّ المجيء علّة لإكرام زيد في جميع حالاته وهي ما إذا ( جاء زيد ) من دون وجود شيء آخر مع هذا المجيء ، وفيما إذا ( جاء زيد ) وكان مسبوقا أو ملحوقا بشيء آخر كالفقر أو العدالة أو العلم أو المرض ونحو ذلك من قيود وأوصاف أخرى.

فبالإطلاق الأحوالي للشرط نثبت أنّه لو كان هناك شيء آخر مقارن لهذا الشرط أو بديل عنه أو لاحق له للزم ذكره في الكلام بالعطف ب- ( الواو ) أو ب- ( أو ) ، وبما أنّه لم يقل ذلك فهو لا يريده ، فيثبت أنّ المجيء شرط وحيد وعلّة تامّة منحصرة ، للجزاء ، فيكون مؤثّرا مطلقا وفي كلّ الحالات سواء كان معه شيء أو لا ، أو سبقه شيء أو لا ، أو لحقه شيء أو لا.

وهذا معناه أنّه لو كان هناك وصف آخر كالعدالة مثلا موجودة ومتحقّقة في زيد ، وكان هناك علّة أخرى للجزاء تقدّمت أو قارنت المجيء لكان معنى ذلك أنّ الشرط المؤثّر في الجزاء هو هذه العلّة لا المجيء ، فيكون ذكر المجيء لغوا وتحصيلا للحاصل.

وهذا معناه أنّ المجيء لم يكن علّة مؤثّرة في الجزاء ، وهذا مخالف للإطلاق الأحوالي للمجيء الذي ذكر شرطا.

فعلى أساس هذه القرينة ومقدّمات الحكمة والإطلاق الأحوالي نثبت كون الشرط علّة منحصرة للجزاء فنثبت المفهوم.

ومن الأدلّة أيضا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة في الجزاء.

ومن الأدلّة التمسّك بالقاعدة الفلسفيّة القائلة : إنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ، وسيأتي تفصيل ذلك.

فإنّ هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقي ؛ لأنّ الإطلاق الأحوالي للشرط

ص: 19

مدلول لقرينة الحكمة ، وقد تقدّم سابقا أنّ قرينة الحكمة ذات مدلول تصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوّري.

هذا ما ينبغي أن يقال في تحديد الضابط.

فاستفادة المفهوم من هذه الأدلّة الإثباتيّة معناه أنّ المفهوم ثابت في مرحلة المدلول التصديقي للكلام لا في المدلول التصوّري ؛ وذلك لأنّ الإطلاق الأحوالي في الشرط مرجعه إلى قرينة الحكمة ، وهي ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان لتمام موضوع حكمه ، فلو كان يريد القيد لذكر ما يدلّ عليه فما دام لم يذكره فهو لا يريده.

وهنا لو كان يريد علّة أخرى جزءا أو بدلا عن المجيء لذكر ذلك ، فما لم يذكر يثبت أنّ المجيء هو تمام الشرط المؤثّر في الجزاء. ومن الواضح أنّ قرينة الحكمة إنّما تجري لإثبات المدلول التصديقي الثاني وهو المراد الجدّي للمتكلّم ، وليس لها علاقة في تكوين المدلول التصوّري للكلام ؛ لأنّ مرجعها إلى ظهور حال المتكلّم وظهور حاله لا علاقة له بمدلول اللفظ الوضعي والتصوّري.

ولذلك قلنا : إنّ هذه الأدلّة على فرض تماميّة شيء منها فهي تثبت المفهوم على مستوى المدلول التصديقي لا التصوّري.

هذا تمام الكلام في تحديد ضابط المفهوم على ضوء تصوّرات السيّد الشهيد.

وأمّا المشهور فقد اتّجهوا إلى تحديد الضابط للمفهوم في ركنين ، كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) :

أحدهما : استفادة اللزوم العلّي الانحصاري.

والآخر : كون المعلّق مطلق الحكم لا شخصه.

وأمّا المشهور فقد سلكوا في تحديد ضابط المفهوم مسلكا آخر وهو أنّ ثبوت المفهوم للجملة يتوقّف على ركنين إذا تحقّقا تمّ المفهوم ، وإذا انتفى أحدهما على الأقلّ فلا مفهوم للجملة ، وهذان الركنان هما :

الأوّل : استفادة اللزوم العلّي الانحصاري ، فمثلا إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كانت الجملة دالّة على المفهوم إذا كان الشرط فيها

ص: 20


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : ضابط المفهوم.

علّة منحصرة للجزاء ، وكان تفريع الجزاء على الشرط لزوميّا لا من قبيل الاتّفاق والصدفة.

وهذا الركن يمكن إثباته بأحد الأدلّة التي سيأتي التعرّض لها كقرينة الحكمة والإطلاق في الشرط أو الجزاء.

الثاني : كون المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ففي الجملة المذكورة يجب أن يكون المنتفي هو كلّي وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء ؛ لأنّه لو انتفى شخص الإكرام لكان الإكرام ثابتا بشرط آخر ، فلا يكون للجملة مفهوم.

وهذا الركن يمكن إثباته أيضا بالإطلاق وقرينة الحكمة كما سيأتي.

والحال أنّ استفادة المفهوم عند المشهور تنحصر في المدلول التصديقي ؛ لأنّ كلّ الأدلّة المذكورة عندهم تثبت المراد الجدّي للمتكلّم ، ولا مدخليّة لها في تحديد المدلول التصوّري للجملة.

ولا كلام لنا فعلا في الركن الثاني.

أمّا الركن الثاني وهو كون المعلّق الكلّي والطبيعي فلا كلام لنا فيه بالفعل ، وهذا لا ينفي وجود الكلام فيه والإشكال عليه ، فهو قضيّة مطلقة عامّة ، أي أنّه بالفعل لا كلام وأمّا أنّه بالقوّة يوجد كلام أو لا فهذا مسكوت عنه ، وسيأتي أنّ ما ذكروه لإثبات ذلك غير تامّ.

وأمّا الركن الأوّل فالالتزام بركنيّته غير صحيح ؛ إذ يكفي في إثبات المفهوم - كما تقدّم - دلالة الجملة على الربط بنحو التوقّف ولو كان على سبيل الصدفة.

وأمّا الركن الأوّل وهو كون المفهوم متوقّفا على استفادة اللزوم العلّي الانحصاري فلا نسلّم به ؛ إذ يكفي كما ذكرنا في استفادة المفهوم على

مستوى المدلول التصوّري أن يكون هناك ربط خاصّ بنحو يوجب الانتفاء عند الانتفاء. وهذا يتحقّق إذا كان الربط الخاصّ بنحو التوقّف والالتصاق بنحو المعنى الحرفي ، ولا يشترط أن يكون هناك لزوم علي انحصاري ، بل يثبت المفهوم إذا كان هناك توقّف والتصاق ولو لم يكن هناك انحصار علي أو لم يكن هناك علّة تامّة ، أو لم يكن هناك علّيّة أصلا ، بل ولو لم يكن هناك لزوم بأن كان التوقّف مجرّد صدفة

ص: 21

واتّفاق ، فإنّ المدار في ثبوت المفهوم على التوقّف والالتصاق مهما كان نوعه وكيفما اتّفق (1).

مورد الخلاف في ضابط المفهوم :

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه اللّه (2) ذهب إلى أنّه لا خلاف في أنّ جميع الجمل التي تكلّم العلماء عن دلالتها على المفهوم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، أي على التوقّف ؛ وذلك بدليل أنّ الكلّ متّفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد شرطا أو وصفا ، وإنّما اختلفوا في انتفاء

ص: 22


1- قد يشكل على كلام السيّد الشهيد بقولنا : إنّ التوقّف ولو صدفة ما ذا يراد منه؟ فإذا كان المراد أنّ الجزاء متوقّف على الشرط وجودا وعدما ، بحيث كان الجزاء يدور مدار الشرط كان معنى ذلك هو العلّيّة الانحصاري التي قالها المشهور ؛ لأنّ التوقّف كمعنى حرفي عبارة عن النسبة المتقوّمة بالطرفين فيكون مفهوم التوقّف منتزعا من الخارج. فإذا كان الشرط والجزاء في الخارج يحدثان معا وينتفيان معا ، وكان وجود أحدهما موجبا لوجود الآخر وانتفاؤه موجب لانتفائه ، فهذا معناه أنّه علّة تامّة منحصرة ؛ إذ لا وجود لهذا المفهوم في الخارج إلا في العلّة التامّة المنحصرة. وإذا كان المراد من التوقّف ولو صدفة هو المصطلح المعروف للصدفة أي احتمال الوقوع واحتمال العدم ، فهذا يعني أنّه يحتمل وجود الجزاء عند وجود الشرط ويحتمل انتفاؤه عند انتفائه ، ويحتمل أيضا عدم وجوده عند وجود الشرط أو عدم انتفائه عند انتفاء الشرط ، وبالتالي لا يكون مجيء زيد موجبا لمجيء عمرو ؛ إذ قد يوجبه وقد لا يوجبه ، فكيف يتمّ المفهوم إذا؟ والحاصل : أنّه على التفسير الأوّل للتوقّف الصدفتي يكون النزاع لفظيّا بين المشهور والسيّد الشهيد ؛ لأنّهما يتّفقان في النتيجة العمليّة ، وأمّا على التفسير الثاني فلا يكون هناك مفهوم أصلا. هذا ، ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بقولنا : إنّ التوقّف لا يتوافق في الخارج على العلّيّة دائما ، بل قد يحصل مع العلّيّة وقد يحصل بدونها ، فيكون التوقّف أعمّ من العلّيّة في كلام المشهور ؛ وذلك لإمكان فرض التوقّف في الخارج في المفاهيم المتضايفة كقولنا : إنّ تعقّل البنوّة متوقّف على تعقّل الأبوّة ، والفوق على التحت وهكذا ، فإنّ المتضايفين يتوقّف أحدهما على الآخر وجودا وعدما في الخارج ، ولهذا يكون للتوقّف المذكور معنى أعمّ من قول المشهور ، فصحّ ذكره والاعتماد عليه ولو صدفة أيضا.
2- مقالات الأصول 1 : 396 - 397 ، نهاية الأفكار 1 : 470 - 473.

طبيعي الحكم ، فلو لا اتّفاقهم على أنّ الجملة تدلّ على الربط الخاصّ المذكور لما تسالموا على انتفاء الحكم ولو شخصا بانتفاء القيد.

ذكر المحقّق العراقي أنّ ضابط المفهوم ينبغي أن ينصبّ حول ما إذا كان المنتفي هو طبيعي الحكم أو شخصه ، فإذا ثبت أنّ المنتفي طبيعي الحكم كان للجملة مفهوم وإلا فلا.

وحينئذ فلا نحتاج للبحث عن الركن الأوّل وهو كون الموضوع أو الشرط أو الوصف أو الغاية ونحو ذلك علّة تامّة منحصرة ، والوجه في ذلك أنّهم قد اتّفقوا على أنّ جميع الجمل التي وقعت محلاّ للكلام وموردا للنزاع عندهم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف كما فسّره السيّد الشهيد.

فمثلا قولنا : ( أكرم العالم العادل ) لا إشكال عندهم أنّ وصف العدالة دخيل في ملاك الحكم بنحو يكون هو العلّة لوجوب إكرام العالم ، بحيث إنّ العالم لو لم يكن عادلا فلا يجب إكرامه ، وإنّما موضع الخلاف بينهم في أنّ المنتفي عند انتفاء وصف العدالة هل هو طبيعي الحكم ليثبت المفهوم للوصف ، أو شخصه فلا مفهوم له؟

وهكذا الحال في جملة الغاية كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإنّ الليل أخذ حدّا وعلّة لانتهاء الصيام فلا صوم بعد الليل ، إلا أنّ المنتفي هل هو طبيعي الصوم بحيث لا يوجد فرد من أفراد الصوم يكون في الليل أو الشخص فقط؟

وفي الجملة الشرطيّة : ( إذ جاءك زيد فأكرمه ) تدلّ على أنّه إذا انتفى المجيء انتفى وجوب الإكرام ، إلا أنّ المنتفي هو الطبيعي أو الشخصي فهذا يحتاج إلى دليل.

وهكذا يتّضح أنّهم متّفقون على الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في جميع الجمل المطروحة للبحث ، وإنّما الخلاف بينهم في أنّ المنتفي فيها هل هو الطبيعي أو الشخصي؟

وعليه ، فينبغي أن يكون ضابط المفهوم هو الركن الثاني فقط دون الأوّل ؛ إذ لو لا أنّهم متّفقون على أنّ هذه الجمل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء والربط الخاصّ لم يكن هناك وجه لانتفاء شخص الحكم أيضا ، مع أنّهم متّفقون على أنّه في جمل الوصف واللقب والعدد ونحوها ممّا لا مفهوم فيها ينتفي شخص الحكم بانتفاء

ص: 23

الوصف أو القيد أو اللقب. وهذا معناه أنّ الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء موجود فيها ، وإلا لم ينتف حتّى شخص الحكم.

واستدلّ المحقّق العراقي على ما ذكره بأنّهم يجمعون بين المطلق والمقيّد المثبتين بحمل المطلق على المقيّد كقولنا : ( أعتق رقبة ) وقولنا : ( أعتق رقبة مؤمنة ) حيث يفسّرون المراد من المطلق هو المقيّد ، ويكون المراد شيئا واحدا وهو عتق الرقبة المؤمنة فقط.

وهذا دليل صريح منهم على أنّ الوصف علّة تامّة منحصرة لوجوب الإكرام ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، وكان توجد علّة أخرى لم يكن هناك حاجة لهذا الجمع ؛ ولصحّ وجوب عتق الرقبة الكافرة أيضا ، فجمعهم بينهما دليل على وجود الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء في الجملة الوصفيّة.

وإن لم يكن لها مفهوم من جهة أنّ المنتفي هو شخص الحكم لا الطبيعي ، ففهمهم للتنافي بين المطلق والمقيّد دليل على وجود الربط الخاصّ في الجملة الوصفيّة ، وإلا فليكن المقيّد هو الأفضل والأهمّ من المصاديق مثلا.

وعلى هذا الأساس فالبحث في إثبات المفهوم في مقابل المنكرين له ينحصر في مدى إمكان إثبات أنّ طرف الربط الخاصّ المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيّة ؛ ليكون هذا الربط مستدعيا لانتفاء الطبيعي بانتفاء القيد ، وإمكان إثبات ذلك مرهون بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الجزاء ونحوها ممّا يدلّ على الحكم في القضيّة.

فالخلاف بين المثبتين للمفهوم والمنكرين له يجب أن ينصبّ حول إمكانيّة استفادة أنّ الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء هل يوجب انتفاء شخص الحكم فقط ، أو كلّي الحكم؟ فإذا كان المنتفي هو شخص الحكم لم يكن للجملة مفهوم وإن كان هناك انتفاء عند الانتفاء ، وإذا كان المنتفي الطبيعي كان للجملة مفهوم.

فالركن الأوّل وهو الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء سواء بنحو العليّة أو التوقّف لا يكفي وحده لإثبات المفهوم ، والبحث فيه لا معنى له لاتّفاقهم عليه.

وأمّا إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي لا الشخصي فهذا يحتاج إلى أدلّة من قبيل الإطلاق وقرينة الحكمة في هيئة الجزاء في الجمل الشرطيّة مثلا ، أو في هيئة الجملة المتضمّنة للحكم ، كالهيئة الحصريّة والاستثنائيّة والغائيّة ونحو ذلك.

ص: 24

فمثلا إذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يثبت للجملة مفهوم إذا جرت قرينة الحكمة في الجزاء أي في مفاد هيئة ( أكرمه ) لإثبات أنّ الوجوب المدلول عليه في الهيئة المذكورة هو كلّي وجوب الإكرام لا شخص خاصّ منه ، إذ لو كان شخص الوجوب هو المعلّق والمتفرّع والمعلول للشرط لكان ينبغي للمتكلّم أن يبيّن ذلك في كلامه ، فما لم يذكر ذلك كان معناه أنّ المنتفي هو كلّي الوجوب عند انتفاء الشرط ؛ إذ لو كان يوجد مع غيره لكان يجب ذكره في الكلام فما لم يذكره فهو لا يريده.

وهكذا يعود البحث في ثبوت المفهوم لجملة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) أو لجملة : ( أكرم الإنسان العالم ) إلى أنّه هل يجري الإطلاق في مفاد أكرم في الجملتين لإثبات أنّ المعلّق على الشرط أو الوصف طبيعي الحكم أو لا؟

ونسمّي هذا بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

ففي الجملة الشرطيّة : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) لكي يثبت المفهوم فيها لا بدّ من إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء. بينما في الجملة الوصفيّة :

( أكرم الإنسان العالم ) لا يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة في مفاد هيئة الجزاء فلا مفهوم ، وأمّا إذا جرى الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الجملة الوصفيّة فيكون لها مفهوم.

وهذا يسمّى بمسلك المحقّق العراقي في إثبات المفهوم.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الركن الأوّل لا يمكن الاستغناء عنه ؛ لأنّ الربط الخاصّ والانتفاء عند الانتفاء كما يتحقّق بالعلّيّة والتوقّف كذلك يتحقّق بالاستلزام أيضا ، وقد تقدّم أنّ الاستلزام لا يكفي في إثبات المفهوم.

وعليه ، فلا يكفي أن يكون هناك انتفاء عند الانتفاء ، بل لا بدّ من إثبات أنّ هذا الانتفاء هل هو بنحو العلّيّة كما هو المشهور ، أو بنحو التوقّف كما هو المختار؟ ولذلك يكون البحث في الركن الأوّل غير مفروغ عنه.

مضافا إلى أنّ هيئة الجزاء في الجملة الشرطيّة والجملة الوصفيّة المذكورتين واحد ، فلما ذا جرى الإطلاق وقرينة الحكمة في أحدهما دون الآخر؟

* * *

ص: 25

ص: 26

مفهوم الشرط

اشارة

ص: 27

ص: 28

مفهوم الشرط

ذهب المشهور إلى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، وقرّب ذلك بعدّة وجوه :

المشهور أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، إلا أنّ التقريبات التي ذكروها لذلك غير تامّة ؛ لقصورها عن إفادة ضابط المفهوم وفقا لتصوّرات المشهور حيث أنّ الركن الأوّل عند المشهور هو إثبات اللزوم العلّي الانحصاري.

فذكروا لإثبات هذا الركن وجوها : بعضها يثبت المدلول للجملة الشرطيّة في مرحلة المدلول التصوّري كالوضع والتبادر والانصراف ، وبعضها يثبت المفهوم في مرحلة المدلول التصديقي كالإطلاق وقرينة الحكمة في الشرط.

وسوف نذكر هذه الوجوه تباعا مع المناقشة في كلّ واحد منها فنقول :

الأوّل : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة بالوضع على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.

الدليل الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها موضوعة لغة للّزوم العلّي الانحصاري. بمعنى أنّ الشرط فيها علّة منحصرة للجزاء ، فتكون دلالتها على الربط العلّي الانحصاري على مستوى الدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، والشاهد على ذلك هو التبادر ، فإنّه علامة الحقيقة.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) يتبادر إلى الذهن أنّ وجوب الإكرام معلول للمجيء ، وأنّ المجيء هو العلّة المنحصرة للإكرام دون غيره.

فالركن الأوّل تامّ ، وبضمّ الركن الثاني كما سيأتي يثبت المفهوم ، وهذا الوجه ذكره صاحب ( المعالم ).

وعلى الرغم من صحّة هذا التبادر اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة وهي :

ص: 29

أنّها تؤدّي إلى افتراض التجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم الانحصار ، وهو خلاف الوجدان ، فكأنّه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بدّ من التوفيق بينهما :

أحدهما : وجدان التبادر المدّعى في هذا الوجه.

والآخر : وجدان عدم الاحساس بالتجوّز عند استعمال الجملة الشرطيّة في حالات عدم الانحصار.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التبادر المدّعى على فرض صحّته إلا أنّه يصطدم بشبهة تمنع من الأخذ به ما لم تحلّ هذه الشبهة ، وحاصلها : أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة في الموارد التي تستعمل فيها الجملة الشرطيّة ولا يكون الشرط فيها علّة تامّة منحصرة ، أو علّة تامّة ، أو لا يكون هناك لزوم أصلا.

فمثلا إذا قيل : ( إذا أكلت في شهر رمضان فقد أفطرت ) فإنّها لا تدلّ على أنّ الأكل هو العلّة التامّة المنحصرة ؛ إذ توجد علل أخرى للإفطار كالشرب وغيره. وإذا قيل : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) لا تدلّ على أنّ خفاء الجدران هو العلّة التامّة ؛ وذلك لوجود خفاء الأذان أيضا فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة.

وإذا قيل : ( إذا جاء المدرّس إلى الدرس كانت الساعة التاسعة ) ليس فيها عليّة ولا لزوم أصلا ؛ إذ هي مجرّد صدفة واتّفاق.

فمع كلّ هذا لا نحسّ أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في هذه الموارد مجاز ، مع أنّه بناء على ما ذكر من كونها موضوعة لغة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر الدالّ على الحقيقة يجب أن تكون هذه الموارد مستعملة مجازا ؛ لأنّها مستعملة في غير ما وضعت له.

ففي الحقيقة يوجد إحساسان ووجدانان عرفيّان هما :

1 - الإحساس المدّعى وهو كون الجملة موضوعة للربط العلّي الانحصاري بشهادة التبادر.

2 - الإحساس والوجدان القاضي بعدم المجازيّة في موارد استعمالها في غير المعنى المذكور.

وهذان الوجدانان متعارضان ؛ لأنّها إن كانت موضوعة للربط العلّي الانحصاري

ص: 30

لزم المجازيّة في بقيّة الموارد ، وإن لم يكن هناك مجازيّة في سائر الموارد لم تكن موضوعة للربط العلّي الانحصاري ، فأحدهما يعارض الآخر ويكذّبه ، فلا بدّ من حلّ لهذا التعارض بين هذين الوجدانين ، وإلا لم يمكن الأخذ بأيّ منهما (1).

الثاني : دعوى دلالة الجملة الشرطيّة على اللزوم وضعا ، وعلى كونه لزوما علّيّا انحصاريّا بالانصراف ؛ لأنّه أكمل أفراد اللزوم.

الدليل الثاني : أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة اللزوم فقط ، بمعنى أنّ هناك ملازمة وترتّب بين الشرط والجزاء ، فإذا تحقّق الشرط تحقّق الجزاء ، وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، والشاهد على ذلك هو التبادر والوجدان السابق. فالشرط إذا علّة للجزاء.

وأمّا كون هذا اللزوم والعلّيّة في الشرط منحصرة فهذا يثبت بالانصراف ؛ وذلك لأنّ العلّيّة الانحصاريّة أكمل أفراد اللزوم العلّي ، بمعنى أنّ اللزوم العلّي له أفراد منها اللزوم العلّي الانحصاري ، ومنها اللزوم العلّي غير الانحصاري ، والفرد الأكمل منهما هو الأوّل. ولذلك إذا أطلق اللزوم العلّي انصرف إلى الفرد الأكمل من أفراده وهو اللزوم العلّي الانحصاري.

ولوحظ على ذلك أنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف ، وأنّ الاستلزام في فرض الانحصار ليس بأقوى منه في فرض عدم الانحصار.

ص: 31


1- وعلى هذا ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى عدم دلالة الشرطيّة على الربط العلّي الانحصاري ؛ لتعارضها مع الوجدان الآخر ، ولذلك أنكر دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ؛ إذ لا يعلم كونها موضوعة للربط العلّي الانحصاري ولا يمكن إثبات ذلك ، ولكنّه مع ذلك فقد التزم بالمفهوم للجملة الشرطيّة فقهيّا ، وإن أنكره أصوليّا. وذهب آخرون إلى أنّ اللزوم العلّي الانحصاري يستفاد من الإطلاق وقرينة الحكمة لا بالوضع ، ولذلك فسّروا الوجدان الآخر بأنّه لم تتمّ فيه مقدّمات الحكمة. والصحيح : هو صحّة الوجدان الثاني لا الأوّل ، فإنّ الجملة الشرطيّة ليست موضوعة للّزوم العلّي الانحصاري ، بل هي موضوعة للربط الخاصّ بمعنى التوقّف وهو أعمّ من العلّيّة واللزوم والصدفة المحضة ، ولذلك يكون استعمال الجملة في الموارد التي لا مفهوم فيها على نحو الحقيقة ؛ لأنّ التوقّف موجود فيها ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني وهو انتفاء طبيعي الحكم غير متحقّق ، وسيأتي توضيح ذلك.

يلاحظ على هذه الدعوى : أنّنا ننكر الدلالة على الانحصاريّة المذكورة سواء الصغرى أو الكبرى ، وتوضيحه :

أمّا الكبرى فما ذكر من كون الأكمليّة موجبة للانصراف ممنوع ؛ لأنّ الانصراف إنّما يتحقّق في صورتين : الأولى كثرة الاستعمال ، والثانية ندرة الأفراد الأخرى غير الفرد المدّعى الانصراف إليه ، وفي غير هاتين الصورتين لا يكون هناك انصراف وإن كان أحد الأفراد أكمل من غيره.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم الإنسان ) فإنّه يعمّ كلّ فرد من أفراده ولا ينصرف إلى خصوص الإنسان المؤمن مثلا بحجّة كونه الفرد الأكمل من أفراد الإنسان ، بل لا بدّ أن يكون الانصراف ناشئا من مناسبات الاستعمال للّفظ في الفرد الخاصّ ، أو يكون ناشئا نتيجة الأنس الذهني ببعض الأفراد دون غيره كذلك.

وأمّا الصغرى وهي كون اللزوم العلّي الانحصاري أكمل من اللزوم العلّي غير الانحصاري فهي ممنوعة أيضا ، والوجه في ذلك أنّ معنى العلّيّة واللزوم في كلا الفردين على حدّ سواء ، من دون أشدّيّة أو أولويّة ؛ إذ العلّيّة واللزوم معناهما أنّه إذا وجد هذا وجد ذاك ، وإذا انتفى هذا انتفى ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلا الفردين بنحو واحد ، ومجرّد كون العلّة هنا منحصرة وكونها هناك غير منحصرة لا يوجب تفاوتا بأصل العلّيّة واللزوم ، وهذا معناه أنّه لا أكمليّة أصلا (1).

الثالث : دعوى دلالة الأداة على الربط اللزومي وضعا ، ودلالة تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرّعه عنه ثبوتا ، وكون الشرط علّة تامّة له لأصالة التطابق بين مقام الإثبات والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الإطلاق الأحوالي في الشرط على أنّه علّة تامّة بالفعل دائما ، وهذا يستلزم عدم وجود علّة أخرى للجزاء ، وإلا لكانت العلّة في حال اقترانها المجموع لا الشرط بصورة مستقلّة ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، فيصبح الشرط جزء العلّة ، وهو خلاف الإطلاق الأحوالي المذكور.

ص: 32


1- مضافا إلى المناقشة في أصل كون الشرطيّة موضوعة للّزوم ، فإنّ لازم هذه الدعوى كونها في غير موارد اللزوم كالاتفاقيّات مثلا مجازا مع أنّنا لا نحسّ بالمجازيّة فيها. وهذا شاهد ومنبّه على عدم صحّة وضع الشرطيّة للّزوم أصلا ، كما سيأتي بيانه.

الدليل الثالث لإثبات مفهوم الشرط ناظر إلى الدلالة التصوّريّة ، وهذا الدليل مركّب من ثلاث مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إثبات الربط اللزومي بين الشرط والجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بدعوى أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بأداتها على الربط اللزومي ، بمعنى كونها موضوعة لغة للربط اللزومي دون الاتفاقيّات ، فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّت الأداة على أنّ هناك ملازمة بين المجيء والإكرام ، فيكون استعمالها في الاتفاقيّات مجازا.

والدليل على أنّها موضوعة للربط اللزومي هو الوجدان العرفي والتبادر الدالّ على الحقيقة.

المقدّمة الثانية : إثبات كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، وهذا الأمر يمكن إثباته بأصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، أو بين عالم الكلام وعالم الواقع ، بتقريب : أنّ الجملة المذكورة تدلّ إثباتا على تفريع الجزاء على الشرط بدلالة الفاء الموجودة في الجزاء حقيقة أو تقديرا ، والفاء موضوعة لغة لإفادة تفريع هذا على ذاك وكونه مرتّبا عليه ، إذا في المرحلة الإثباتيّة تدلّ الجملة على التفرّع والترتيب بين الشرط والجزاء.

وحينئذ نقول : بناء على أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت أو الكلام والواقع ينتج أنّ التفرّع والترتّب موجود واقعا وفي نفس المتكلّم ، فيكون المراد الجدّي للمتكلّم هو كون الجزاء مترتّبا ومتفرّعا على الشرط واقعا وحقيقة وثبوتا.

ومن الواضح أنّ التفرّع والتّرتب الواقعي بين الجزاء والشرط معناه أنّ الشرط علّة تامّة للجزاء ؛ لأنّه لو لم يكن علّة تامّة له لم يكن متفرّعا عليه واقعا ، فالتفرّع والترتّب واقعا يستلزم العليّة التامّة ؛ لأنّ عدم كون الشرط علّة أو عدم كونه علّة تامّة معناه أنّ الجزاء ليس متفرّعا عليه ، فلو لم يكن الشرط علّة لما وجد الجزاء ولما تفرّع عليه ، وإذا كان علّة ناقصة أي جزء علّة لما كان متفرّعا عليه أيضا ، بل عليه وعلى شيء آخر.

وبهذا يثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء ، إذ التفرّع معناه أنّه يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه فيتمّ الترتّب بينهما.

المقدّمة الثالثة : إثبات كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وهذا يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط.

ص: 33

بتقريب : أنّ الإطلاق في الشرط يفيد أنّ الشرط وحده هو العلّة التامّة والمنحصرة للجزاء ؛ إذ لو كان هناك علّة أخرى للجزاء للزم ذكرها في الكلام معطوفة على الشرط ب- ( أو ) ، ولو كان الشرط جزء العلّة للزم ذكر الجزء الآخر معطوفا ب- ( الواو ) ، فما دام المتكلّم لم يذكر ذلك يثبت أنّ الشرط وحده علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وهذا معناه أنّ الشرط في كلّ حالاته يؤثّر في الجزاء ، سواء قارنه شيء أو سبقه أو لحقه ، أو كان وحده. ففي جميع هذه الحالات يكون المؤثّر هو الشرط فقط ، إذ لو كان هناك علّة مقارنة للشرط أو سابقة عليه ولم يكن الشرط مؤثّرا في الجزاء ، بل كانت تلك العلّة السابقة هي المقارنة أو كانا معا العلّة لأنّ العلل المستقلّة إذا اجتمعت معا وتقارنت كان المجموع المركّب منها هو العلّة لا كلّ واحدة بخصوصها.

وهذا مخالف للإطلاق الأحوالي في الشرط المثبت ؛ لكون الشرط علّة تامّة منحصرة ، إذ فرض المقارنة معناه أنّه جزء علّة وفرض السبق معناه أنّه توجد علّة أخرى غيره ، وكلا هذين الأمرين قد نفاهما الإطلاق الأحوالي للشرط.

فإذا تمّت هذه المقدّمات الثلاث يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بعد ضمّ الركن الثاني ، وهو كون المنتفي طبيعي الحكم لا شخصه.

ولا يخفى أنّ المقدّمة الأولى تثبت اللزوم لو تمّت دعوى وضع الأداة لذلك.

وأمّا المقدّمة الثانية فهي لا تثبت العلّة التامّة ، بل تثبت العلّيّة فقط ، والتماميّة تحتاج إلى الإطلاق الأحوالي للشرط كما هو الحال بالنسبة للانحصاريّة.

وأمّا تعبير السيّد الشهيد بقوله : ( علّة تامّة بالفعل دائما ) فهذا إشارة إلى قضيّتين موجّهتين :

الأولى : المطلقة العامّة الدالّة على تحقّق النسبة بالفعل ووقوعها في الخارج.

الثانية : الدائمة المطلقة الدالّة على دوام الثبوت والاتّصاف بين المحمول والموضوع وأنّ الانفكاك بينهما لم يقع.

ويكون المراد هنا أنّ الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء فعلا ، بمعنى أنّه في الواقع الخارجي علّة تامّة منحصرة ، وأنّ هذا الأمر واقع ومتحقّق في الخارج ، وأنّ اتّصاف الجزاء يكون معلولا للشرط على نحو العلّة التامّة المنحصرة ، وهذا الاتّصاف لا ينفكّ ولم يتحقّق الانفكاك بينهما أصلا في الخارج.

ص: 34

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية :

أوّلا : أنّه لا ينفي - لو تمّ - وجود علّة أخرى للجزاء فيما إذا احتمل كونها مضادّة بطبيعتها للشرط ، أو دخالة عدم الشرط في علّيّتها للجزاء ، فإنّ احتمال علّة أخرى من هذا القبيل لا ينافي الإطلاق الأحوالي للشرط ؛ إذ ليس من أحوال الشرط حينئذ حالة اجتماعه مع تلك العلّة.

ويرد على هذا الوجه ملاحظات ثلاث :

الملاحظة الأولى : أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت أنّ الشرط في جميع حالاته علّة تامّة للجزاء ، وهذه الحالات هي وجود الشرط وحده ووجوده مقارنا لعلّة أخرى ووجوده مسبوقا بعلّة ووجوده ملحوقا بعلّة ، ففي هذه الحالات يكون الشرط هو العلّة لما تقدّم في البرهان بعد إجراء الإطلاق الأحوالي.

إلا أنّه يمكننا أن نفترض حالتين لهذه العلّة الأخرى بحيث لا تكون من هذه الحالات الأربع التي تثبت فيها كون الشرط العلّة التامّة المنحصرة ، وحينئذ لا يكون الإطلاق الأحوالي نافيا لهما ؛ لأنّهما ليس من حالات الشرط.

وتوضيح ذلك : أن نفترض أنّ العلّة الأخرى للجزاء مضادّة بطبيعتها للشرط بحيث لا يمكن اجتماعهما أبدا لاستحالة اجتماع الضدّين ، ففي هذه الحالة تكون العلّة الأخرى مؤثّرة على نحو الاستقلال في الجزاء ، فلم يكن الشرط هو العلّة الوحيدة حينئذ ؛ لأنّ هذه الحالة ليست من حالات الشرط لتكون منفيّة بالإطلاق الأحوالي ؛ كما إذا قيل مثلا : ( إذا كسفت الشمس تجب صلاة الآيات ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا خسف القمر تجب صلاة الآيات ) ؛ لأنّ الخسوف والكسوف لا يمكن اجتماعهما معا.

ويمكننا أن نفترض أيضا أنّ العلّة الأخرى للجزاء قد أخذ فيها عدم الشرط أي عدم العلّة الأخرى ، فهنا لا يمكن اجتماعهما معا ، لأنّه إذا وجدت العلّة الأخرى فهذا يعني أنّ عدم العلّة الأولى أي الشرط هو المحقّق ، وإذا وجدت العلّة الأولى أي الشرط فالعلّة الثانية منتفية ؛ لأنّ قيدها وهو عدم العلّة الأولى - أي الشرط - منتف ؛ إذ الثابت هو الشرط لا عدمه.

فحينئذ لا تكون هذه العلّة الثانية من حالات الشرط والعلّة الأولى ؛ ليكون الإطلاق الأحوالي للشرط نافيا لها.

ص: 35

كما إذا قيل مثلا : ( إذا رأت الصبيّة الدم قبل التسع فهو ليس بحيض ) فهذا لا يمنع من قولنا : ( إذا يئست المرأة فالدم الذي تراه ليس بحيض ) ، فإنّ الصبية واليائسة لا يجتمعان ؛ لأنّ اليائسة قد أخذ فيها ألا تكون صبيّة ؛ لأنّها التي تبلغ الخمسين أو الستين عاما.

وكقولنا : ( إذا تطهّرت الطهارة المائيّة جاز لك مسّ الآيات ) و ( إذا تيمّمت جاز لك مسّ الآيات ) فإنّ التيمّم قد أخذ فيه عدم الوضوء والغسل كما لا يخفى ، بحيث إنّه إذا توضّأ فلا تيمّم وإذا تيمّم فلا وضوء.

ثانيا : أنّ كون الشرط علّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط في الكلام الكاشف عن التفريع الثبوتي والواقعي ؛ وذلك لأنّ التفريع الثبوتي لا ينحصر في العلّيّة بدليل أنّ التفريع ب- ( الفاء ) كما يصحّ بين العلّة والمعلول كذلك بين الجزء والكلّ ، والمتقدّم زمانا والمتأخّر كذلك ، فلا معيّن لاستفادة العلّيّة من التفريع.

الملاحظة الثانية : أنّ دعوى دلالة التفريع في الكلام على التفرّع في الواقع المستدلّ بها على العلّيّة غير تامّة ؛ لأنّ دعوى التفرّع الثبوتي وإن كانت صحيحة تبعا لأصالة التطابق بين الثبوت والإثبات ، أو الواقع والكلام ، إلا أنّ هذا التفرّع لا يتلازم مع العلّيّة بمجرّده ، أي أنّ إطلاق التفرّع الثبوتي لا يقتضي كون هذا التفرّع بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ التفرّع أعمّ من العلّيّة فلا ينحصر التفرّع واقعا بالعلّيّة ، بل يشملها هي وجزء العلّة أيضا ، ويشمل تفرّع الكلّ على الجزء ، ويشمل تفرّع المتأخّر في الزمان على المتقدّم.

وتوضيح ذلك : أنّ التفريع بالفاء الموجود إثباتا في الكلام كما يصحّ بين العلّة والمعلول فيقال : ( إذا شربت السم فتموت ) ، كذلك يصحّ التفرّع بين الجزء والكلّ. فإنّ الكلّ لا يوجد في الواقع إلا بعد وجود جميع الأجزاء فوجوده في الخارج متفرّع عن وجودها ، ولذلك يصحّ أن يقال : ( بنيت الجدران والسقف والأبواب والنوافذ فصارت غرفة ).

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين المتقدّم والمتأخّر زمانا ، فيقال : ( إذا طلع الفجر فتطلع الشمس ) فإنّ طلوع الشمس متأخّر زمانا عن طلوع الفجر في الزمان ، وإنّ أحدهما ليس علّة للآخر.

ص: 36

وكذلك يصحّ التفرّع الثبوتي بين شيئين متزامنين إلا أنّ بينهما اختلافا في الرتبة ، كما في المعلولين لعلّة واحدة ، كقولنا : ( غلى الماء فتبخّر ) فإنّهما معا معلولان لسخونة الماء بالحرارة ، أو كقولنا : ( فتحت الباب بالمفتاح فانفتح ).

وهكذا يتّضح أنّ التفريع ب- ( الفاء ) كما ينسجم مع العلّيّة ينسجم مع غيرها أيضا ، ولا يتعيّن بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت كون التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة ، بل هو أعمّ أيضا. ولذلك يحتاج إثبات العلّيّة إلى أمر آخر غير أصالة التطابق. ولا يكفي مجرّد التطابق لإثبات العلّيّة ؛ لأنّ ثبوت الأعمّ لا يقتضي ثبوت الأخصّ ، بل يحتمل ثبوته ويحتمل عدمه.

ثالثا : إذا سلّمنا استفادة علّيّة الشرط للجزاء من التفريع ، نقول : إنّ كون الشرط علّة تامّة للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط ؛ لأنّ التفريع يتناسب مع كون المفرّع عليه جزء العلّة.

الملاحظة الثالثة : لو سلّمنا أنّ التفريع بين الشرط والجزاء ثبوتا بنحو العلّيّة ، إلا أنّه مع ذلك نقول : إنّ هذه العلّيّة الثبوتيّة بينهما كما تصحّ فيما إذا كان الشرط علّة تامّة للجزاء كذلك تصحّ فيما إذا كان الشرط جزء العلّة ؛ لأنّ التفرّع الثبوتي بنحو العلّيّة يتناسب مع العلّة التامّة ومع جزء العلّة أيضا ؛ لأنّ المعلول يترتّب ويتفرّع على العلّة إذا كانت تامّة ، ويترتّب على جزئها الأخير إذا كانت أجزاؤها الأخرى متحقّقة أيضا.

ولذلك لا يكفي مجرّد العلّيّة لإثبات أنّها علّة تامّة إذ قد تكون علّة ناقصة أو جزء العلّة التامّة فقط ؛ لأنّه كما يصحّ أن يقال : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) كذلك يصحّ أن يقال : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فالتفريع العلّي ثابت في الحالين فيحتاج تعيين أحدها إلى طريق آخر غير مجرّد التفرّع.

وهذا الطريق يمكن إثباته بالإطلاق الأحوالي للشرط بأن يقال :

وإنّما يثبت بالإطلاق ؛ لأنّ مقتضى إطلاق ترتيب الجزاء على الشرط أنّه يترتّب عليه في جميع الحالات ، مع أنّه لو كان الشرط جزءا من العلّة التامّة لاختصّ ترتّب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الآخر ، فإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزء العلّة.

نعم ، يمكن إثبات أنّ العلّة تامّة وليست جزء علّة ، وذلك عن طريق الإطلاق

ص: 37

الأحوالي في الشرط بأن يقال : إنّ الإطلاق في الشرط يقتضي كونه علّة للجزاء في جميع الحالات ، أي سواء سبقه شيء أو تأخّر عنه شيء أو قارنه شيء أو لم يوجد شيء آخر.

ففي هذه الحالات الأربع يثبت كون الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ، إذ لو كان هناك علّة أخرى أو كان الشرط جزء العلّة لوجب على المتكلّم أن يذكرها ؛ لأنّ الشرط إذا لم يكن علّة تامّة كان معنى ذلك أنّه ليس المؤثّر في الجزاء ، بل هو مع الجزء الآخر ، ولذلك لا بدّ من ذكر الجزء الآخر أيضا ؛ كأن يقال مثلا : ( إذا خفيت الجدران وخفي الأذان فقصّر ) ولا يكتفي بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) فاكتفاؤه بالشرط من دون ذكر للجزء الآخر يدلّ على أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء. ولو كان جزء العلّة فقط لكان معناه أنّ الجزاء لا يترتّب على الشرط في كلّ الحالات بل في بعضها فقط ، وهي حالة اجتماعه مع الجزء الآخر.

وهذا خلاف الإطلاق الأحوالي في الشرط الذي يثبت كونه العلّة في جميع الحالات المذكورة.

وبهذا يظهر أنّ الإطلاق الأحوالي للشرط يثبت لنا كونه علّة تامّة ، وكذلك يثبت لنا كونه العلّة التامّة المنحصرة كما تقدّم سابقا ، وأوردنا عليه الملاحظة الأولى.

فهذا الإطلاق الأحوالي يثبت كون الشرط علّة تامّة وينفي كونه جزء علّة ، وأمّا ما هو المراد من نفيه لجزء العلّة؟ فهذا توضيحه فيما يلي :

إلا أنّه إنّما ينفي النقصان الذاتي للشرط ( والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته محتاجا في إيجاد الجزاء إلى شيء آخر ) ولا ينفي النقصان العرضي الناشئ من اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ( حيث إنّ هذا الاجتماع يؤدّي إلى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ) ؛ لأنّ هذا النقصان العرضي لا يضرّ بإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط.

المقصود من النقصان الذاتي : أنّ الشرط بطبيعته وفي نفسه ليس ممّا يتفرّع عليه الجزاء ، بل يحتاج في ذاته إلى الجزء الآخر فهو جزء للعلّة وليس علّة تامّة.

والمقصود من النقصان العرضي : أنّ الشرط بطبيعته ونفسه ممّا يتفرّع عليه الجزاء ،

ص: 38

إلا أنّه عند ما يجتمع مع علّة أخرى يصبح كلاهما العلّة ، أي المجموع منهما ، فصار كلّ منهما جزء العلّة ، فهذا نقصان عرضي بسبب اجتماع العلّتين معا ؛ لأنّه من المستحيل أن يكون كلا العلّتين تامّتين في حالة اجتماعهما ؛ لأنّه لا يجتمع مؤثّرين على معلول واحد في زمان واحد.

وأمّا النقصان العرضي فالإطلاق الأحوالي لا ينفيه عن الشرط وليس مخالفا له ؛ لأنّه يعني أنّ الشرط لو وجد مستقلاّ فهو علّة تامّة وهذا موافق للإطلاق الأحوالي.

وأمّا إذا وجدت معه علّة تامّة أخرى فهل يكون أيضا علّة تامّة مع كونها الأخرى علّة تامّة؟ فهذا لا يمكن للإطلاق الأحوالي إثباته للشرط ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع مؤثّرين مستقلّين على معلول واحد ، وهذا يستحيل عقلا ؛ لأنّ المعلول إذا وجد مع الأولى فلا يوجد مع الثانية في نفس الوقت. وكذا العكس لاستحالة اجتماع المثلين ، فلأجل هذه الاستحالة يتحوّل الشرط في هذا الفرض إلى جزء علّة ، وهذا التحوّل عرضي وليس ذاتيّا ؛ لأنّه لو انفرد واستقلّ لكان علّة تامّة للجزاء.

وبهذا ظهر أنّ الإطلاق الأحوالي غاية ما يثبت به أنّ الشرط بنفسه علّة تامّة وينفي كونه جزء العلّة لو كان منفردا ومستقلاّ ، وأمّا أنّه يصبح جزء علّة بالعرض لأجل اجتماعه مع علّة تامّة أخرى فهذا لا نظر فيه للإطلاق الأحوالي ولا يمكنه أن ينفيه أصلا ، وإلا لكان هناك محذور عقلي في ذلك.

وعليه ، فكما يصحّ التفرّع فيما إذا كان الشرط علّة تامّة كذلك يصحّ التفرّع فيما لو كان جزء علّة بالعرض أيضا. فلا يثبت المطلوب من كون الشرط علّة تامّة دائما.

مضافا إلى الإشكال الأوّل أيضا في إثبات الانحصاريّة بالشرط ؛ لأنّنا نفترض علّة أخرى للجزاء لا تجتمع مع الشرط أو أخذ عدم الشرط في علّيّتها ، فيكون هذا الوجه باطلا في دعاويه الثلاث جميعا.

الرابع : ويفترض فيه أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّه لو كانت هناك علّة أخرى فإمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ سببا للحكم ، وإمّا أن يكون السبب هو الجامع بين العلّتين بدون دخل لخصوصيّة كلّ منهما في العلّة ، وكلاهما غير صحيح.

ص: 39

أمّا الأوّل فلأنّ الحكم موجود واحد شخصي في عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصي يستحيل أن تكون له علّتان.

وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر الجملة الشرطيّة كون الشرط بعنوانه الخاصّ دخيلا في الجزاء.

الوجه الرابع : لإثبات مفهوم الشرط أن يقال : إنّ اللزوم مستفاد من وضع الجملة الشرطيّة بأداتها أو بهيئتها لذلك لغة ، فيكون المدلول اللغوي التصوّري للجملة هو اللزوم.

والعلّيّة تستفاد أيضا كما تقدّم في الوجه السابق من دلالة التفرّع بمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الإثبات والثبوت ، فما دام قد ذكر التفرّع في الكلام فهو يريده ثبوتا ، ويثبت أنّ التفرّع بنحو العلّيّة ؛ لأنّ التفرّع ظاهر في ذلك. أو يقال بأنّ العليّة مستفادة من الوضع أيضا.

وهكذا الحال بالنسبة للتماميّة فيمكن استفادتها من الإطلاق الأحوالي للشرط الذي ينفي عنه النقصان في جميع الحالات.

يبقى كون هذه العلّة التامّة هي العلّة الوحيدة المنحصرة ، فهذا ما يمكن إثباته بالتقريب التالي :

إذا فرض وجود علّة أخرى للجزاء غير الشرط بأن كانت هناك علّتان للجزاء إحداهما الشرط والأخرى شيء آخر ، فلا يخلو الأمر إمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ علّة للجزاء كأن يقال : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) و ( إذا كان زيد عالما فأكرمه ) ، فكان كلّ من المجيء والعلم بعنوانه الخاصّ علّة للإكرام.

وإمّا أن تكون كلتا العلّتين مؤثّرة في الجزاء لا بعنوانها الخاصّ ، بل بما هي مصداق للعلّة الحقيقيّة والتي هي الجامع بين العلّتين ، كأن تكون علّة الجزاء مثلا الإفطار وكان كلّ من الأكل والشرب مصداقا لهذه العلّة ، فيقال : ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ) و ( إذا شربت فيه فكفّر ) فالأكل والشرب علّتان للجزاء بما هما مصداقان للعلّة الحقيقيّة التي هي الجامع بينهما أي ( الإفطار ) ، فكأنّه قيل : ( إذا أفطرت في شهر رمضان فكفّر ) وكان الأكل والشرب مصداقين للإفطار. وكلا هذين الاحتمالين باطل.

ص: 40

إذا فلا يوجد علّة أخرى للجزاء ، والوجه في بطلانهما هو : أمّا الأوّل بأن كان كلّ من العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة تامّة مستقلّة للجزاء ، فحيث إنّ الجزاء وجود واحد شخصي في عالم التشريع - ويقصد من ذلك أنّ الوجوب مثلا الذي هو مدلول هيئة الجزاء واحد بالنوع أو بالشخص في عالم الجعل والتشريع والواقع - فيستحيل أن يكون صادرا عن علّتين ؛ لأنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ، كما هو مقتضى القاعدة الفلسفيّة.

فلا بدّ إذا من فرض علّة واحدة أثّرت في المعلول الواحد ، وهذا معناه أنّ الافتراض الأوّل باطل ؛ لأنّه يستلزم تعدّد العلل مع وحدة المعلول ، وهو مخالف للقاعدة الفلسفيّة المذكورة (1).

وأمّا الثاني بأن كان الجامع بين العلّتين هو العلّة المؤثّرة في الجزاء كالوجوب مثلا فهنا لا يأتي المحذور السابق ؛ لأنّ الجامع واحد وقد صدر منه واحد أيضا ، إلا أنّ هذا على خلاف الظاهر والفهم العرفي من الجملة الشرطيّة.

فإنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، الظاهر منه كون الشرط بعنوانه الخاصّ هو العلّة للجزاء ؛ لأنّه المتبادر والمنسبق إلى الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ العلّة هي الشرط لا أنّ الشرط مصداق للعلّة الحقيقيّة ، فالعرف لا يفهم أنّ هذا الشرط كان مصداقا للعلّة وليس هو نفسه العلّة ، وإنّما العقل هو الذي يحلّل هذا الأمر فيكون هذا الفرض مخالفا للظاهر وللفهم العرفي ، والشارع سار على طريقة

ص: 41


1- إنّ القاعدة المذكورة ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) إن كانت مختصّة بالواحد الشخصي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل : إنّ الواحد الشخصي لا يصدر إلا من واحد شخصي ، وبما أنّ الوجوب الذي هو مدلول الجزاء واحد شخصي باعتبار ملاكاته ومبادئه فلا بدّ من صدوره من واحد شخصي أيضا ، فيستحيل كون العلّتين معا كلّ منهما علّة مستقلّة للوجوب. وإن كانت شاملة للواحد النوعي فيكون تصوير المحذور بهذا الشكل : إنّ الواحد بالنوع لا يصدر إلا من الواحد بالنوع ، وحيث إنّ الوجوب واحد بالنوع بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، أو بلحاظ عالم المجعول ، فلا بدّ أن يصدر من واحد بالنوع أيضا لا هذا بخصوصه ولا ذاك ، فيستحيل إذا كون كلا العلّتين بعنوانهما الخاصّ علّة مستقلّة للوجوب ، بل لا بدّ من فرض علّة واحدة بالنوع تكون هي العلّة للوجوب.

العقلاء في التفاهم والتخاطب وليس له مسلك آخر.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد علّة أخرى للجزاء لا بعنوانها الخاصّ ولا بما هي مصداق لعنوان جامع بينها وبين الشرط ، فيكون الشرط هو العلّة الوحيدة للجزاء.

والجواب : أنّ بالإمكان اختيار الافتراض الأوّل ، ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين متعدّدين في عالم التشريع ، أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاصّ ، والآخر معلول لعلّة أخرى ، فالبيان المذكور إنّما يبرهن على عدم وجود علّة أخرى لشخص الحكم لا لشخص آخر مماثل.

وجواب هذا البرهان : أنّنا نختار الشقّ الأوّل من الافتراضين المذكورين بأن نقول :

إنّه توجد علّة أخرى للجزاء بعنوانها الخاصّ بحيث تكون هناك علّتان مستقلّتان للجزاء كلّ منهما مؤثّرة فيه بعنوانها الخاصّ.

ولا يرد المحذور ( إنّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، وأنّه كيف صدر الوجوب من علّتين مع أنّه واحد بالشخص أو بالنوع؟

لأنّنا نفترض أنّ كلاّ من العلّتين مؤثّر في جعل وجوب غير الوجوب الذي تجعله الأخرى كالخيارات الموجبة للفسخ.

وبتعبير آخر : نفترض أنّ الشرط علّة للجزاء بعنوانه الخاصّ ( إذا أكلت في شهر رمضان فكفّر ).

ونفترض أيضا علّة أخرى لا لهذا الجزاء بعنوانه الخاصّ والشخصي ، بل لجزاء مماثل له فنقول : ( إذا شربت في شهر رمضان فكفّر ) بنحو يكون وجوب الكفّارة في الأكل غيره في الشرب وإنّما هو مماثل ومشابه له.

فكان الجزاء في كلّ من العلّتين المستقلّتين مشابها ومماثلا للآخر ، وليس الجزاء فيهما واحد شخصي جزئي ليقال بأنّه يستحيل اجتماع علّتين مستقلّتين على شيء واحد شخصي.

وبهذا يتّضح أنّ البرهان المذكور لا يتمّ هنا ؛ لأنّ غاية ما يدلّ على أنّه يستحيل اجتماع علّتين على شيء واحد أو يستحيل صدور الواحد من المتعدّد ، وهنا لم يصدر الواحد من متعدّد ، بل كلّ وجوب صدر من علّة مستقلّة ؛ لأنّ هذا الوجوب ليس هو نفس ذلك الوجوب ، بل هو وجوب آخر مماثل له. وإذا فرض

ص: 42

اجتماع هاتين العلّتين معا بأن أكل وشرب فيكون المجموع منهما هو العلّة ، كما تقدّم بسبب طرو النقصان العرضي عليهما بسبب اجتماعهما (1).

الخامس : ويفترض فيه أيضا أنّا استفدنا العلّيّة على أساس سابق ، فيقال في كيفيّة استفادة الانحصار : إنّ تقييد الجزاء بالشرط على نحوين :

أحدهما : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، والآخر أن يكون تقييدا به أو بعدل له على سبيل البدل.

والنحو الثاني : ذو مئونة ثبوتيّة (2) تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف العدل ب- ( أو ) ، فإطلاق الجملة الشرطيّة بدون عطف ب- ( أو ) يعيّن النحو الأوّل. وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه اللّه (3) : أنّ هذا إطلاق في مقابل التقييد ب- ( أو ) الذي يعني تعدّد العلّة ، كما أنّ هناك إطلاقا للشرط في مقابل التقييد ب- ( الواو ) الذي يعني كون الشرط جزء العلّة ، وكون المعطوف عليه ب- ( الواو ) الجزء الآخر.

الوجه الخامس : لإثبات مفهوم الشرط هو أن يقال : إنّنا نستفيد اللزوم من خلال الوضع بأن ندعي أنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة للربط اللزومي. ونستفيد العليّة من خلال التفرّع بأصالة التطابق بين مقامي الإثبات والثبوت ، أو على أساس الوضع أيضا. يبقى استفادة العلّة التامّة وكونها منحصرة وهذا يثبت بالتقريب التالي :

ص: 43


1- ومن هنا كان الأصل الأوّلي هو عدم تداخل المسببات فيما بينها ، فإذا أكل ثمّ بعد ذلك شرب كان هناك وجوبان للكفّارة بحسب الأصل الأوّلي ، إلا إذا قام دليل خاصّ على التداخل وعدم تكرار الكفّارة. يضاف إلى ذلك عدم صحّة الاستدلال بالقاعدة الفلسفيّة في مقامنا ؛ لأنّ الوجوب مثلا إن أريد به الوجوب الثابت في عالم الجعل والتشريع فهو معلول للشارع لا للشرط أو لغيره ، بمعنى أنّ الشارع هو الذي يجعل الوجوب لا الشرط ، وإنّما دور الشرط التقييد والتحصيص فقط. وإن أريد به الوجوب في عالم المجعول فهو مجرّد اعتبار محض لا وجود له ؛ لأنّ عالم المجعول عالم افتراضي ليس إلا.
2- الظاهر وقوع تصحيف من الطبع في الكلمة وأنّ الصحيح إثباتيّة ، إذ لا معنى وجيه للمئونة الثبوتيّة.
3- أجود التقريرات 1 : 418.

أمّا الانحصار فوجهه : أنّه لا إشكال في أنّ قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) كون الجزاء فيه مقيّدا بالشرط ، بمعنى أنّه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، وليس الجزاء مطلقا من ناحية الشرط بحيث إنّه إذا وجد الشرط لا يوجد الجزاء ؛ لأنّ هذا مخالف للظاهر من الجملة الشرطيّة.

ثمّ إنّ تقييد الجزاء بالشرط يحتمل فيه أمران :

الأوّل : أن يكون تقييدا بالشرط فقط ، وهو معنى كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الثاني : أن يكون تقييدا بالشرط أو بعدل آخر بديل عن الشرط وهو معنى عدم الانحصار بالشرط.

فإذا كان الشرط علّة منحصرة وكان التقييد بالشرط فقط كانت الجملة كافية يبذلك ؛ لأنّه لم يذكر فيها سوى الشرط فقط : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لا ثبوتا ولا إثباتا.

وإذا كان للشرط علّة بدليّة أو عدل آخر فهذا يحتاج إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ؛ لأنّه حينئذ لا يكفي ذكر الشرط وحده في التعبير عن وجود علّة أخرى بديلة عنه ، بل لا بدّ من ذكر شيء في الكلام يدلّ عليها أيضا ، فيقال : ( إذا جاء زيد أو كان عالما فأكرمه ) ، وهذا يعني أنّنا نحتاج إلى عطف العلّة الأخرى على الشرط ب- ( أو ) للدلالة على البدليّة.

وحيث إنّ الجملة الشرطيّة لم يذكر فيها العطف ب- ( أو ) ، وكانت مطلقة من هذه الناحية فيتعيّن كون المراد هو الاحتمال الأوّل ؛ لأنّه لو أراد الاحتمال الثاني لذكر ما يدلّ عليه ، فحيث لم يذكر ذلك فهو لا يريده ، فبالإطلاق وقرينة الحكمة يتعيّن الأوّل دون الثاني ، وهذا معناه أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

وأمّا العلّة التامّة فوجهها : أنّ تقييد الجزاء بالشرط فيه احتمالان أيضا :

الأوّل : أن يكون الشرط علّة تامّة للجزاء ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بعلّته التامّة.

الثاني : أن يكون الشرط جزء العلّة ، بمعنى أنّ تقيّد الجزاء بالشرط بنحو تقيّد المعلول بالجزء الأخير من العلّة.

ص: 44

والاحتمال الأوّل لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، بل يكفي أن يذكر الشرط وحده : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأمّا الاحتمال الثاني فهو يحتاج إلى مئونة ثبوتيّة زائدة لا بدّ من التعبير عنها بذكر شيء إثباتا ، كأن يقال : ( إذا جاء زيد وكان عالما فأكرمه ).

فإطلاق الجملة الشرطيّة وعدم العطف ب- ( الواو ) معناه أنّ الشرط هو العلّة التامّة للجزاء ؛ لأنّه لو كان جزء العلّة للزم العطف ب- ( الواو ) ، وحيث إنّه لم يذكر ذلك إثباتا فهو لا يريده ثبوتا ، فيثبت كون الشرط علّة تامّة للجزاء.

والحاصل : أنّ العلّة التامّة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد ب- ( الواو ) ، وكون العلّة منحصرة نثبتها بالإطلاق وقرينة الحكمة في مقابل التقييد ب- ( أو ).

وكلّ هذه الوجوه الخمسة تشترك في الحاجة إلى إثبات أنّ المعلّق على الشرط طبيعي الحكم ، وذلك بالإطلاق وإجراء قرينة الحكمة في مفاد الجزاء.

وأمّا الركن الثاني فالوجوه الخمسة المذكورة تحتاج إلى إثباته ، وذلك بالإطلاق وقرينة الحكمة في الجزاء بأن يقال : إنّ طبيعي الحكم في كلّ أحواله معلّق على الشرط بحيث ينتفي كلّ فرد من أفراده بانتفاء الشرط ، لا أنّه ينتفي شخص الحكم فقط بانتفاء الشرط كما تقدّم سابقا.

والتحقيق : أنّ الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطيّة : تارة يكون بمعنى توقّف الجزاء على الشرط ، وأخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه للجزاء ؛ كما عرفنا سابقا (1).

والتحقيق فيما ذكره الميرزا هو : أنّ تقيّد الجزاء بالشرط المستفاد من تفريع الجزاء على الشرط في الجملة الشرطيّة ، حيث إنّ مقتضى التفرّع على الشرط أن يكون الجزاء مقيّدا بالشرط وليس مطلقا بحيث يوجد إذا انتفى الشرط أو ينتفي إذا وجد الشرط ، فهذا التقيّد ما ذا يراد به؟

هل يراد أنّ الجزاء مقيّد بالشرط بمعنى كونه متوقّفا على الشرط وملتصقا به ومعلّقا عليه إذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء؟ أو يراد أنّ الجزاء

ص: 45


1- في ضابط المفهوم.

مقيّد بالشرط بمعنى أنّ الشرط يستلزم ويوجد الجزاء بحيث إذا وجد الشرط وجد الجزاء ، وأمّا إذا انتفى الشرط فقد ينتفي الجزاء وقد لا ينتفي كذلك؟

فعلى الأوّل يتمّ إثبات المفهوم بلا حاجة إلى ما افترضه المحقّق النائيني رحمه اللّه من إطلاق مقابل للتقييد ب- ( أو ) ؛ وذلك لأنّ الجزاء متوقّف على الشرط بحسب الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لما كان متوقّفا عليه.

فإن كان التقيّد بمعنى التوقّف بنحو المعنى الحرفي أي النسبة التوقّفيّة فيثبت للجملة الشرطيّة مفهوم بلا حاجة إلى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) ؛ لأنّ معنى توقّف الجزاء على الشرط - كما تقدّم سابقا - أنّ الجزاء معلّق وملتصق ومتوقّف على الشرط ، وهذا معناه أنّ الجزاء يدور مدار الشرط وجودا وعدما ، وهذا هو الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء.

وبذلك يكون الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء - عند المشهور - ويكون المفهوم ثابتا على مستوى المدلول التصوّري بلا حاجة إلى التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، سواء المقابل ل- ( أو ) أو المقابل ل- ( الواو ) ؛ لأنّهما في رتبة متأخّرة ، إذ يثبتان المفهوم - لو تمّا - في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

وبهذا ظهر أنّه على هذا الاحتمال لا معنى لما ذكره الميرزا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وعلى الثاني لا يمكن إثبات الانحصار والمفهوم بما سمّاه الميرزا بالإطلاق المقابل ل- ( أو ) ؛ لأنّ وجود علّة أخرى لا يضيّق من دائرة الربط الاستلزامي بين الشرط والجزاء ، فلا يكون العطف ب- ( أو ) تقييدا لما هو مدلول الخطاب لينفى بالإطلاق ، بل إفادة لمطلب إضافي.

وأمّا إن كان التقيّد بمعنى الاستلزام والإيجاد بنحو المعنى الحرفي ، فلا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم حتّى وإن جرى الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) أو ( الواو ).

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة الاستلزاميّة أو الإيجاديّة يعبّر عنها بالمفهوم الاسمي الموازي لها بقولنا : ( مجيء زيد مستلزم أو موجد لإكرامه ) ، وهذا معناه بيان علّيّة المجيء لوجوب الإكرام على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فإذا تحقّق المجيء تحقّق وجوب الإكرام ؛ لأنّ المعلول يوجد إذا وجدت علّته.

ص: 46

وأمّا إذا انتفى المجيء فمن المحتمل انتفاء وجوب الإكرام بأن كان المجيء علّة تامّة منحصرة ، ومن المحتمل أيضا عدم انتفائه مطلقا ؛ إذ قد يكون له علّة أخرى يثبت بثبوتها ؛ لأنّ طبيعة الاستلزام تقتضي هذا المعنى لا أكثر ، وعليه فيكون المنتفي هو شخص هذا الوجوب ولا يمنع ذلك من ثبوت شخص آخر للوجوب مماثل لهذا بعلّة أخرى.

والحاصل : أنّ الاستلزام يثبت لنا قضيّة موجبة جزئيّة وهي أنّ الشرط علّة للجزاء ، وأمّا كون الشرط هو العلّة التامّة الوحيدة والمنحصرة للجزاء فهذا لا يثبت بمجرّد الاستلزام ، بل نحتاج في إثباته إلى مطلب آخر.

وأمّا ما ذكره الميرزا من إمكانيّة إثبات الانحصار بالإطلاق وقرينة الحكمة النافي للتقييد ب- ( أو ) فهو وإن صحّ إلا أنّه لا يفيد ذلك.

ببيان : أنّ الربط الاستلزامي العلّي بين الشرط والجزاء لا يتضيّق ولا يتوسّع ؛ لأنّه قضيّة جزئيّة ومن الواضح أنّ القضايا الجزئيّة تمتنع في نفسها من الصدق على كثيرين ، ولذلك فهي غير قابلة للتوسعة أصلا لتكون قابلة للتضييق.

فإذا قلنا : ( مجيء زيد علّة لوجوب إكرامه ) لا يكون وجود علّة أخرى والتقييد ب- ( أو ) موجبا لتضييق علّيّة المجيء لوجوب الإكرام ، بل يكون إفادة لمطلب آخر زائد لم يكن موجودا ، وهو أنّه يوجد علّة أخرى للوجوب ، ووجود العلّة الأخرى لا يؤثّر في علّيّة الشرط للجزاء سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ علّيّة الشرط كانت بنحو أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا الاستلزام لا يتبدّل ولا يتغيّر مع وجود العلّة الأخرى.

فإذا قلنا : شرب السمّ علّة للموت ، وقلنا : الاحتراق علّة للموت ، والغرق علّة للموت لا يؤثّر أحدهما في علّيّة الآخر تضييقا أو توسعة ؛ لأنّ العلّيّة معناها أنّ هذا يستلزم ذاك ، وهذا المعنى موجود في كلّ هذه العلل.

وبهذا يتّضح أنّ وجود ( أو ) وعدم وجودها لا يؤثّر في كون الشرط مستلزما للجزاء سلبا أو إيجابا. وعليه فلا يكون الإطلاق وقرينة الحكمة لنفي التقييد ب- ( أو ) موجبا للتوسعة ؛ لأنّ وجود ( أو ) لا يوجب التقييد أصلا ، حيث إنّ المفهوم الثابت في الجملة الشرطيّة بناء على هذا الاحتمال مفهوم جزئي لا يقبل الإطلاق ولا التضييق.

ص: 47

ولذلك لا معنى لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الإطلاق إنّما يجري في المفاهيم الكلّيّة القابلة للتضييق ك- ( العالم ) مثلا في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فيجري الإطلاق لنفي القيود التي لو كانت موجودة لكانت موجبة للتضييق في مفهوم العالم كقولنا : ( أكرم العالم العادل ).

فإذا نفينا القيود يثبت أنّ المفهوم واسع غير مقيّد ، وبالتالي فهو يشمل كلّ الأفراد القابل للانطباق عليها ، سواء العادل والفاسق بخلاف تقييده بالعادل ، فإنّه يوجب اختصاصه بأفراد العالم العادل فقط دون الفاسق.

وأمّا هنا فإنّ وجود التقييد ب- ( أو ) كعدمه لا يوجب سعة ولا ضيقا في علّيّة الشرط للجزاء ؛ إذ العلّيّة لا تقبل التوسعة والتضييق في نفسها ، بل هي إمّا أن توجد وإمّا أن تعدم عن الشرط. وبهذا يمكننا ذكر قاعدة كلّيّة مفادها :

وليس كلّما سكت المتكلّم عن مطلب إضافي أمكن نفيه بالإطلاق ، ما لم يكن المطلب المسكوت عنه مؤدّيا إلى تضييق وتقييد في دائرة مدلول الكلام.

بيان هذه القاعدة : أنّ المطلب الإضافي المسكوت عنه على نحوين :

تارة يكون المطلب الإضافي المسكوت عنه موجبا - على فرض وجوده - للتضييق والتقييد في مدلول الكلام المذكور.

وأخرى لا يكون هذا المطلب المسكوت عنه موجبا - على فرض وجوده - للتضييق والتقييد كذلك.

فإذا كان المطلب المسكوت بالنحو الأوّل أمكن نفيه بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه لو كان موجودا للزم وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الموجود والمدلول عليه في الكلام ، فيقال في نفيه : إنّ المتكلّم لو كان يريده جدّا وواقعا للزم أن يذكر ما يدلّ عليه في الكلام ، فما لم يذكر شيئا وسكت عن إفادته فهو لا يريده جدّا فيثبت كون المفهوم المراد هو المفهوم الواسع لا المفهوم الضيق.

كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّه لو كان يريد غير هذا المفهوم الواسع وكان مراده الجدّي التقييد لكان ذكر ما يدلّ عليه ؛ لأنّ هذا المفهوم الآخر المقيّد يوجب وجود مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل أضيق منه دائرة ، فما دام سكت عن إفادة هذا المطلب الإضافي فهو لا يريده جدّا ، وإلا لكان ذكر ما يدلّ عليه في الكلام.

ص: 48

فهنا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة ويكون لجريان الإطلاق فائدة وهي إثبات المفهوم الواسع ونفي المفهوم الضيق.

وأمّا إذا كان المطلب المسكوت عنه من النحو الثاني ، فلا معنى لإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة لنفيه ؛ لأنّ وجوده وعدمه لا يؤثّر في المفهوم المدلول عليه في الكلام ؛ إذ المفروض أنّ هذا المطلب الإضافي لا يوجب وجوده التضييق في المفهوم الموجود ولا يوجب عدمه التوسعة فيه أيضا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ المفهوم المدلول عليه في الكلام قضيّة جزئيّة وهي لا تقبل التوسعة كما لا تقبل التضييق ؛ لأنّ الجزئي لا ينطبق إلا على نفسه وليس لديه قابلية للانطباق على غيره لينفى ذلك بالإطلاق.

فهنا لا يكون للإطلاق فائدة أصلا وبالتالي يلغو جريانه ؛ لأنّه لو جرى لم يكن لجريانه فائدة ، وكلّ ما كان وجوده يستلزم اللغويّة فهو باطل.

ومقامنا من النحو الثاني ؛ لأنّ النسبة الاستلزاميّة المدلول عليها بالجملة الشرطيّة قضيّة جزئيّة غير قابلة للتوسعة أو التضييق ، فحتّى لو كان هناك تقييد ب- ( أو ) فهو لا يوجب ضيقا في مفهوم الربط الاستلزامي فضلا عن عدم وجوده ، ولذلك لا يجري الإطلاق هنا ؛ لأنّه لغو وبلا فائدة.

وبذلك صحّ قولنا : ( ليس كلّ مطلب إضافي سكت عنه أمكن نفيه بالإطلاق ). والمراد منها أنّ المطلب المسكوت عنه قد ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الأوّل ، ولا ينفى بالإطلاق إذا كان من النحو الثاني.

فالأولى من ذلك كلّه أن يستظهر عرفا كون الجملة الشرطيّة موضوعة للربط بمعنى التوقّف والالتصاق من قبل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.

والصحيح أن نقول : إنّ الجملة الشرطيّة موضوعة لغة لإفادة الربط الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، بمعنى أنّها موضوعة للنسبة التوقّفيّة ، فإنّ هذا النحو من الربط يكفي وحده لإثبات المفهوم من دون حاجة إلى ما ذكر من الوجوه السابقة ؛ لأنّ توقّف الجزاء على الشرط معناه أنّ الجزاء ملتصق بالشرط فإذا وجد الشرط وجد الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء ، ولا يكون للجزاء علّة أخرى في حال انتفاء الشرط ؛ لأنّ وجود مثل هذه العلّة يتنافى مع التوقّف المدلول عليه في الجملة.

فإذا استظهرنا من الجملة الشرطيّة التوقّف كان ذلك كافيا لإفادة أنّ هناك التصاقا بين

ص: 49

الشرط والجزاء ، وأنّ هذا الربط لا ينفكّ أبدا ، وهو معنى العلّيّة الانحصاريّة عند المشهور.

وهذا المعنى يدلّ عليه الوجدان العرفي والتبادر والمنساق إلى الذهن أيضا.

ويضاف إلى ذلك الركن الثاني وهو كون المعلّق على الشرط هو طبيعي الجزاء لا شخصه ، وهذا ما نثبته بالإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة.

وأمّا ما نحسّه من عدم التجوّز في حالات عدم الانحصار فيمكن أن يفسّر بتفسيرات أخرى ، من قبيل أنّ هذه الحالات لا تعني عدم

استعمال الجملة الشرطيّة في الربط المذكور ، بل عدم إرادة المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يثلم الإطلاق وقرينة الحكمة ، ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

يبقى تفسير استعمال الجملة الشرطيّة في الموارد التي لا مفهوم لها ، حيث نحسّ بالوجدان أنّ استعمالها في سائر الجمل ليس مجازا ، فكيف يتمّ التوفيق بين عدم الإحساس بالمجازيّة في تلك الموارد وبين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة؟ وهذا الأمر يمكننا بيانه بما يلي :

تارة تستعمل الجملة الشرطيّة ويكون لها مفهوم كقولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

وأخرى تستعمل ولا يكون الشرط علّة منحصرة ، بل هناك علل أخرى فلا يكون لها مفهوم ، كقولنا : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ).

وثالثة تستعمل ولا يكون الشرط علّة تامّة بل جزء العلّة ، وهذه أيضا لا مفهوم لها ، كقولنا : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

ورابعة تستعمل ولا يكون هناك لزوم بين الشرط والجزاء ، بل وإن لم يكن فيها ربط أصلا بأن كانت لمجرّد صدفة واتّفاق ، كقولنا : ( إذا جاء زيد تكون الساعة التاسعة ).

وخامسة تستعمل ولا يكون هناك أي ربط أصلا بين الشرط والجزاء ، كقولنا : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ).

وسادسة يكون الجزاء جملة إخباريّة ، كقولنا : ( إذا شربت السمّ فتموت ).

فنقول في بيان عدم ثبوت المفهوم في هذه الجمل ، ما يلي :

أمّا الجملة الأولى : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فالجملة موضوعة لغة للتوقّف ، والذي

ص: 50

معناه الانتفاء عند الانتفاء ، وبضمّ كون المعلّق هو طبيعي الجزاء لا شخصه يثبت للجملة مفهوم.

وأمّا الجملة الثانية : ( إذا كسفت الشمس فصلّ ) فهذه لا مفهوم لها ؛ لأنّ الإطلاق في الجزاء مختلّ حيث ثبت أنّ الجزاء يثبت مع علّة أخرى وقد بيّن المتكلّم ذلك ، فيكون قد قيّد الجزاء بقوله : ( إذا خسف القمر فصلّ ) ، فالجملة مستعملة في معناها الموضوعة له وهو التوقّف ، غاية الأمر أنّ الركن الثاني هو المختلّ لعدم جريان الإطلاق ؛ لأنّه قد بيّن التقييد وذكره ولو منفصلا ، فلا مجازيّة هنا.

وأمّا الجملة الثالثة : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ) ، فكان الشرط جزء العلّة لا العلّة التامّة ، فهذا أيضا ناشئ من عدم جريان الإطلاق في الشرط حيث ثبت القيد بدليل آخر ، وهو قوله : ( إذا خفي الأذان فقصّر ) الدالّ على أنّ الشرط وحده ليس العلّة بل هو جزءها ، وهذا لا يلزم المجازيّة ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف أيضا بين الشرط والجزاء ، غاية الأمر كان التوقّف على جزء العلّة.

وأمّا الجملة الرابعة : ( إذا جاء زيد فتكون الساعة العاشرة ) ، فهي كالجملة السادسة :

( إذا شربت السمّ فتموت ) ، الجزاء فيها إخبار عن قضيّة خارجيّة أي إخبار عن النسبة التصادقيّة في الخارج بين هذا وذاك ، ولا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّه يعلم بكذب هذه النسبة التصادقيّة وأنّ التصادق بينهما كان خطأ لا واقعيّة له ، فلا مجازيّة أيضا ؛ لأنّ الجملة تدلّ على التوقّف إلا أنّ المتوقّف عليه هو النسبة وقد تبيّن كذبها.

وأمّا الجملة الخامسة : ( إذا كان الإنسان ناطقا فالحصان صاهل ) ، فهي خطأ في التركيب وغلط ، إذ لا يوجد فيها أي نحو من التوقّف ولو ادّعاء ؛ لأنّ كون الحصان صاهلا لا يرتبط أصلا بكون الإنسان ناطقا ، فهذا من الخطأ في الاستعمال.

وبهذا يتمّ التوفيق بين ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد التوقّف وبين عدم المجازيّة في موارد عدم ثبوت المفهوم للجملة بالنحو الذي ذكرناه.

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :

يلاحظ في كلّ جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء ، وهي : الحكم والموضوع والشرط ، والشرط تارة يكون أمرا مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، وأخرى يكون محقّقا لوجوده.

ص: 51

تتألّف الجملة الشرطيّة من أداة الشرط ، والشرط ، والموضوع ، والجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ).

ف- ( إذا ) أداة شرط ، والمجيء هو الشرط ، وزيد هو الموضوع ، ووجوب الإكرام هو مفاد الجزاء.

ثمّ إنّ الشرط الموجود في الجملة على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ المجيء الذي هو الشرط مغاير لزيد الذي هو موضوع الحكم ، بحيث إنّه إذا انتفى الشرط يبقى الموضوع موجودا.

الثاني : أن يكون الشرط محقّقا وموجدا لموضوع الحكم في الجزاء ، بحيث إذا انتفى الشرط ينتفي الموضوع أيضا ؛ لأنّه يوجد بالشرط ، كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ الشرط الذي هو رزق الولد ، والموضوع الذي هو الولد ليسا متغايرين ؛ لأنّ الولد لا يتحقّق إلا إذا رزقه اللّه تعالى ، فإذا انتفى الرزق فلا وجود للولد أصلا ، وهذا ما يسمّى بالجملة الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع.

ومن هنا يبحث في هذين القسمين حول ثبوت المفهوم للشرطيّة فيهما ، ولذلك قال :

فالأوّل كما في قولنا : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) فإنّ موضوع الحكم زيد ، والشرط المجيء ، وهما متغايران.

والثاني كما في قولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) فإنّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط أن ترزق ولدا ، وهذا الشرط ليس مغايرا للموضوع ، بل هو عبارة أخرى عن تحقّقه ووجوده.

أمّا النحو الأوّل فالموضوع ثابت سواء تحقّق الشرط أو انتفى ، ولذلك يبحث في مثل هذه الجملة حول ثبوت المفهوم لها ، فبعد انتفاء الشرط عن الموضوع هل يبقى الحكم ثابتا للموضوع أم أنّه ينتفي عنه؟

بينما في النحو الثاني فالشرط محقّق وموجد للموضوع ، بحيث إنّه لو لا الشرط لم يكن الموضوع موجودا ، ولهذا فإذا انتفى الشرط انتفى الموضوع أيضا. فلا معنى للبحث عن ثبوت المفهوم لمثل هذه الجملة ؛ لأنّ الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 52

ومفهوم الشرط ثابت في الأوّل ، فكلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطيّة على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.

أمّا القسم الأوّل وهو كون الشرط مغايرا للموضوع فلا إشكال في ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة كما تقدّم سابقا ؛ لأنّها تدلّ على التوقّف والالتصاق للشرط بالجزاء ، وبهذا يمكننا بيان ضابطة كلّيّة مفادها :

كلّما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة ، بحيث ينتفي الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط كما هو مقتضى التوقّف بينهما ، وهذا ما كنّا نبحث عنه فعلا فيما سبق.

وأمّا حالات الشرط المحقّق للموضوع فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال الختان المتقدّم.

والآخر : أن يكون الشرط أحد أساليب تحقيقه ، كما في : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة أخرى عن إيجاد النبأ ، ولكنّه ليس هو الأسلوب الوحيد لإيجاده ؛ لأنّ النبأ كما يوجده الفاسق يوجده العادل أيضا.

بعد أن عرفنا المراد من الشرط المحقّق للموضوع ، وأنّه عبارة عن نوع اتّحاد بين الشرط والموضوع بحيث يكون الشرط هو المحقّق والموجد للموضوع ، نبحث حول ثبوت المفهوم لهذه الجمل وعدم ثبوته.

فنقول : إنّ هذه الجمل على قسمين :

الأوّل : أن يكون الشرط المحقّق لوجود الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّق الموضوع ، بحيث لا يمكن تحقّق ووجود الموضوع من دون هذا الشرط ، فليس هناك طريقة أخرى ولا أسلوب آخر لتحقّق الموضوع غير هذا الشرط ، كما في مثال الختان : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) ، فإنّ رزق الولد يحقّق ويوجد الولد وهو الأسلوب الوحيد لتحقّقه ؛ إذ لا يمكن أن يوجد الولد في الخارج من دون أن يكون مرزوقا من اللّه عزّ وجلّ ؛ لأنّه إذا لم يرزق الإنسان ولدا فلا مجال لتحقّقه ووجوده.

الثاني : أن يكون الشرط أحد أساليب وطرق تحقّق الموضوع بحيث يمكن أن يتحقّق

ص: 53

الموضوع بشرط آخر أيضا ، فهنا نحوان وطريقان لتحقّق الموضوع ، أحدهما الشرط الموجود ، والآخر شرط آخر ، كما في قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّ النبأ الذي هو موضوع الحكم بوجوب التبيّن له نحوان من التحقّق والوجود ، فتارة يتحقّق بمجيء الفاسق بالنبإ ، وأخرى يتحقّق بمجيء العادل بالنبإ ، وهذا معناه أنّ الشرط الموجود وإن كان محقّقا للموضوع وموجدا له ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لذلك ؛ لأنّ النبأ يتحقّق بشرط آخر أيضا وهو مجيء العادل.

ولذلك يبحث في ثبوت المفهوم وعدم ثبوته للجمل الشرطيّة المسوقة لتحقّق الموضوع على أساس هذين التقسيمين ، فنقول :

ففي القسم الأوّل : لا يثبت مفهوم الشرط ؛ لأنّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجه مخصوص ، فإذا كان الشرط عين الموضوع ومساويا له فليس هناك في الحقيقة ربط للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) في قوّة قولنا : ( اختن ولدك ).

إنّ مفهوم الشرط متوقّف على وجود ربطين في الجملة الشرطيّة : أحدهما : ربط الحكم بالموضوع ، والآخر : ربط الحكم وموضوعه بالشرط.

والربط الأوّل لا يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث إذا انتفى الموضوع انتفى الحكم المرتبط به ، كما هو الحال في كلّ جملة فيها موضوع وحكم ، كقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ وجوب الإكرام مرتبط بالعالم الذي هو الموضوع ، فإذا انتفى الموضوع ينتفي الحكم المرتبط به تبعا للعلاقة بين الحكم والموضوع ، وهو المسمّى بالسالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الربط الثاني فهو يوجب ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ، فيما إذا كان ربط الحكم وموضوعه بالشرط بالنحو الخاصّ الموجب للانتفاء عند الانتفاء وهو التوقّف.

فقولنا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) يرتبط وجوب إكرام زيد بمجيئه ، فهنا إذا انتفى المجيء ينتفي وجوب إكرام زيد ؛ لأنّه متوقّف ومعلّق على مجيئه كما تقدّم سابقا ويكون للجملة مفهوم.

والحاصل : أنّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة موقوف على أن يكون هناك ربط بين

ص: 54

الحكم وموضوعه بالشرط ، ويكون هذا الربط موجبا للانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف.

وأمّا ربط الحكم بموضوعه فهو لا علاقة له بالمفهوم أصلا ؛ لأنّ كلّ حكم مرتبط بموضوعه بحيث ينتفي إذا انتفى الموضوع ويكون انتفاؤه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وفي مقامنا لكي يكون للجملة المسوقة لتحقّق الموضوع مفهوم يجب أن يكون هناك ربط بين الحكم وموضوعه بالشرط ، ولا يكفي أن يكون الحكم مرتبطا بالموضوع فقط.

وعليه ، فإذا كان الشرط المسوق لتحقيق الموضوع هو الأسلوب الوحيد لتحقّقه بحيث كان الموضوع لا يوجد إلا بالشرط المذكور ولا يوجد مع غيره ، فهذا معناه أنّ الموضوع والشرط متساويان ومتّحدان معا ، فيكون أحدهما تعبيرا عن الآخر ، وليس شيئا زائدا عنه ، وبالتالي لا يكون لدينا إلا ربط واحد فقط وهو ربط الحكم بالموضوع ؛ لأنّ الشرط بحسب الفرض هو نفس الموضوع فربط الحكم بالشرط تعبير آخر عن ربط الحكم بالموضوع فهناك ربط واحد ، وهذا الربط الواحد لا يكفي لثبوت المفهوم.

فقولنا مثلا : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) يوجد فيها ربط واحد ، وهو أنّ وجوب الختان مرتبط برزق الولد أو مرتبط بالولد فإنّهما شيء واحد ، ولا معنى لأن نقول : إنّ وجوب ختان الولد مرتبط برزق الولد ؛ لأنّه يكون حينئذ من القضيّة بشرط المحمول وهي بقوّة قولنا : ( اختن ولدك ) أي بقوّة الموجبة الحمليّة ، فإذا انتفى الولد فلا وجوب للختان من باب المفهوم ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا في القسم الثاني : فيثبت المفهوم ؛ لأنّ ربط الحكم بالشرط فيه أمر وراء ربطه بموضوعه ، فهو تقييد وتعليق حقيقي. وليس قولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ القول الثاني لا يختصّ بنبإ الفاسق بينما الأوّل يختصّ به ، وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه فيكون للجملة مفهوم.

وأمّا إذا كان الشرط أحد أساليب تحقّق الموضوع ، فهذا معناه أنّه يوجد ربطان في الجملة الشرطيّة ، أحدهما ربط الحكم بموضوعه والآخر ربط الحكم وموضوعه

ص: 55

بالشرط ، فيثبت للجملة مفهوم ، حيث يكون هناك ربط آخر زائدا عن ربط الحكم بموضوعه ، وهذا الربط الآخر ربط حقيقي وليس ربطا صوريّا وتعبيرا آخر عن ربط الحكم بالموضوع.

فقولنا : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) هناك ربط لوجوب التبيّن بالنبإ وهناك ربط آخر وهو ربط وجوب تبيّن النبأ بمجيء الفاسق ، وهذا الربط الثاني ربط حقيقي وليس تعبيرا آخر عن الربط الأوّل ؛ لأنّ المفروض أنّ مجيء الفاسق ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقّق النبأ ، بل يتحقّق النبأ بغيره أيضا أي بمجيء العادل ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ يثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّ الموضوع متحقّق أيضا مع مجيء العادل حين انتفاء الفاسق فلا يجب التبيّن.

وليست هذه الجملة : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) في قوّة قولنا : ( تبيّنوا النبأ ) ؛ لأنّ الجملة الأولى الشرط فيها هو مجيء الفاسق فالحكم بوجوب التبيّن للنبإ مرتبط ومعلّق على مجيء الفاسق ، بينما في الجملة الثانية يكون وجوب التبيّن شاملا لمجيء الفاسق ومجيء العادل ، وهذا غير محتمل من قوله تعالى ؛ لأنّه يجعل العادل كالفاسق وهو خلاف الظاهر من الآية (1).

ص: 56


1- هذا كلّه بناء على أنّ الموضوع في الآية هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، فيكون للجملة مفهوم. وأمّا إذا كان الموضوع هو نبأ الفاسق والشرط هو مجيء الفاسق فيكون الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ؛ إذ من الواضح أنّ نبأ الفاسق لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق فيكون الشرط متّحدا مع الموضوع ، فيوجد ربط واحد فقط وليس هناك ربطان ، ولذلك لا يكون للجملة مفهوم. والصحيح : هو الأوّل أي أنّ الموضوع هو النبأ والشرط هو مجيء الفاسق ، وبما أنّه ليس الأسلوب الوحيد فيثبت للجملة مفهوم.

مفهوم الوصف

ص: 57

ص: 58

مفهوم الوصف

إذا تعلّق حكم بموضوع وأنيط بوصف في الموضوع ، كوصف العدالة الذي أنيط به وجوب الإكرام في : ( أكرم الفقير العادل ) فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعي الحكم بوجوب الإكرام عن غير العادل من الفقراء ، بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

الوصف على أنحاء أربعة ، هي :

الأول : أن يكون مساويا للموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان الناطق ) ، فهنا لا شكّ في عدم المفهوم ؛ لأنّ انتفاء أحد المتساويين يوجب انتفاء الآخر ، فإذا انتفى الناطق ينتفي الإنسان ، وبالتالي ينتفي موضوع الحكم فيكون الحكم منتفيا من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني : أن يكون الوصف أعمّ من الموصوف كقولنا : ( أكرم الإنسان الهاشمي ) فهاهنا أيضا لا مفهوم ؛ لأنّ انتفاء الأعمّ يوجب انتفاء الأخصّ ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذان الموردان خارجان عن محلّ الكلام أصلا.

الثالث : أن يكون بين الوصف والموصوف عموم وخصوص من وجه ، كقوله علیه السلام : « في الغنم السائمة زكاة » فإنّ السوم والغنم قد يجتمعان ويفترقان ، ولذلك فإذا انتفى أحدهما قد يبقى الآخر وقد ينتفي ، فيدخل هذا المورد في محلّ الكلام.

الرابع : أن يكون الوصف أخصّ من الموصوف ، كقولنا : ( أكرم الإنسان العادل ) فإنّ العادل أخصّ من الإنسان ، فإذا انتفى قد ينتفي الإنسان ، وقد لا ينتفي ؛ لأنّ الأخصّ إذا انتفى لا يوجب انتفاء الأعمّ جزما ، وهذا داخل في محلّ الكلام أيضا.

ثمّ إنّ الوصف دخيل في موضوع الحكم بلا شكّ ، فقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا

ص: 59

شكّ في أنّ وصف العدالة دخيل في الموضوع ، وذلك بناء على قاعدة احترازيّة القيود في أنّ المتكلّم كلّ ما يذكره في كلامه فهو يريده جدّا.

وقد ذكر هنا وصف العدالة فيكون دخيلا في موضوع الحكم ، ولذلك إذا انتفى وصف العدالة ينتفي شخص هذا الحكم بوجوب إكرام الفقير ، أي أنّ الفقير غير العادل لا يجب إكرامه من جهة العدالة جزما ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه.

وإنّما الكلام في أنّه هل ينتفي طبيعي وجوب الإكرام عند انتفاء الوصف أم لا؟ وهذا معناه أنّه هل للجملة الوصفيّة مفهوم أم لا؟ وهذا ما ينبغي البحث عنه هنا ، فنقول :

والجواب : أنّه على مسلك المحقّق العراقي رحمه اللّه في إثبات المفهوم يفترض أنّ دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وإنّما يتّجه البحث إلى أنّ المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن أن نثبت كونه طبيعي الحكم بالإطلاق وقرينة الحكمة أو لا؟

فإذا أخذنا بمسلك المحقّق العراقي القائل بأنّ كلّ الجمل المبحوث عنها في ثبوت المفهوم لها أو عدم ثبوته تدلّ على ذاك الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء - أي التوقّف أو العلّيّة - كما تقدّم سابقا عند الحديث عن ضابط المفهوم وأسمينا هذا المسلك بمسلك المحقّق العراقي ، وهذا يعني أنّ الركن الأوّل مفروغ عنه.

يبقى الكلام في إثبات الركن الثاني وهو أنّ المنتفي والمعلّق عليه هل هو طبيعي الحكم أو شخصه؟ وهذا يثبت عند إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مدلول الهيئة الدالّة على الحكم ، فإذا جرت قرينة الحكمة يثبت أنّ المعلّق هو الطبيعي فيكون المنتفي أيضا هو الطبيعي ، وإلا كان المعلّق والمنتفي شخص الحكم فقط.

وعلى هذا فلا بدّ من البحث حول جريان الإطلاق في الجملة الوصفيّة أو عدم جريانه فنقول :

والصحيح : أنّه لا يمكن ؛ لأنّ مفاد هيئة ( أكرم ) مقيّدة بمدلول المادّة باعتباره طرفا لها ، ومدلول المادّة مقيّد بالفقير ؛ لأنّ المطلوب إكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه. وينتج ذلك أنّ مفاد هيئة ( أكرم ) هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص

ص: 60

بين مفاد أكرم والوصف انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة - وهذا واضح - لانتفاء طبيعي الحكم.

والصحيح أنّ الإطلاق وقرينة الحكمة لا يمكن إجراؤها في مفاد الهيئة.

وتوضيح ذلك : أنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تدلّ هيئة ( أكرم ) فيه على وجوب الإكرام ، وهذا الوجوب مقيّد بالإكرام بحيث تجب هذه المادّة لا غيرها ، وهذا ناتج عن طبيعة العلاقة بين الحكم والمادّة التي ينصبّ عليها بحيث يكون هناك نسبة بين الحكم ومادّته وكلّ منهما يقع طرفا لهذه النسبة.

ثمّ إنّ الإكرام المدلول عليه من مادّة ( أكرم ) مقيّد أيضا بالفقير ؛ لأنّ وجوب الإكرام موضوعه الفقير فيكون هناك نسبة أخرى طرفها الأوّل وجوب الإكرام والثاني الفقير.

ثمّ إنّ الموضوع وهو الفقير مقيّد أيضا بوصف العدالة فهناك نسبة ثالثة بين الفقير والعدالة تنتج تقيّد الفقير بالعدالة تقيّد الوصف بموصوفه.

وينتج من خلال هذه النسب الثلاث أو من هذه التقييدات الثلاثة أنّ وجوب الإكرام مقيّد بالفقير العادل ، فهناك نسبة واحدة من مجموع هذه النسب وهي أنّ وجوب الإكرام منصبّ على الفقير العادل ، وهذا يعني أنّ هذا الوجوب له حصّة خاصّة من الفقير وهو خصوص العادل لا مطلق الفقير ، وهذا معناه أنّ هناك حصّة خاصّة من وجوب الإكرام وهي وجوب إكرام الفقير العادل على نحو القضيّة الموجبة الجزئيّة ، فيثبت للفقير العادل وجوب إكرام ، وأمّا غيره فمسكوت عنه سلبا وإيجابا.

ومنشأ ذلك أنّ وجوب الإكرام قد حصّص إلى حصص متعدّدة وإحدى هذه الحصص هي وجوب إكرام الفقير العادل ؛ لأنّ كلّ نسبة تقييديّة من هذه النسب هي نسبة ناقصة ، والنسبة الناقصة توجب التحصيص ، فينتج من المجموع نسبة تقييديّة محصّصة بحصّة خاصّة.

والحاصل : أنّ هذا الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف أي بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل مفاده كون هذا الوجوب الثابت هو حصّة خاصّة من الوجوب لا مطلق الوجوب ؛ لأنّ الوصف يفيد التحصيص ، فالثابت هو شخص الحكم والمنتفي هو شخص الحكم أيضا لا الطبيعي.

ص: 61

إذ لا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد الهيئة ( أكرم ) ؛ وذلك لأنّه إن أريد من الإطلاق لمفاد الهيئة الإطلاق الأحوالي ، فمن الواضح أنّ الوجوب لا يثبت في كلّ الحالات ، بل في خصوص الفقير العادل تبعا لتقيّد الحكم بموضوعه والموضوع بوصفه ، وإن أريد من الإطلاق الإطلاق الأفرادي أي كلّ أفراد الوجوب حتّى الوجوب الثابت لغير الفقير ولغير العادل فهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالفقير تبعا لتقييد الإكرام بالفقير.

وبهذا يتّضح أنّه لا يمكن جريان الإطلاق ؛ لأنّ الوجوب مقيّد ومع وجود القيد لا يجري الإطلاق ، ولذلك فلا مفهوم للجملة الوصفيّة.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي ، وسلكنا المسلك المختار من أنّ إثبات المفهوم يتوقّف على ركنين أحدهما إثبات التوقّف ، والآخر إثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي ، والثاني قد اتّضح ممّا سبق عدم تماميّته ، ونضيف إلى ذلك أنّ الركن الأوّل أيضا وهو التوقّف الموجب للانتفاء عند الانتفاء غير موجود أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ الجملة الوصفيّة كقولنا : ( أكرم الفقير العادل ) لا بدّ من البحث فيها لإثبات ما يدلّ على التوقّف ، سواء بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، وسيتّضح عدم وجود شيء في الجملة

الوصفيّة يصلح لإثبات التوقّف أصلا ، وبيان ذلك :

فإنّ ربط مفاد ( أكرم ) بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديّتين ؛ لأنّ مفاد هيئة الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل ، وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييديّة بالفقير ، وهذا مرتبط بنسبة ناقصة تقييديّة بالعادل ، ولا يوجد ما يدلّ على التوقّف والالتصاق لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي.

إنّ قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) تحتوي على عدّة نسب تقييديّة ، وهي :

1 - نسبة تقييديّة بين الحكم والمادّة ، أي بين الوجوب والإكرام.

2 - نسبة تقييديّة بين وجوب الإكرام وبين الفقير.

ص: 62

3 - نسبة تقييديّة بين الفقير والعادل.

4 - نسبة تقييديّة بين وجوب إكرام الفقير وبين العادل.

والنسبة التقييديّة الأخيرة بين الوجوب والوصف إنّما تثبت بتوسّط نسبتين تقييديّتين ناقصتين هما النسبة التقييديّة بين الوجوب والإكرام ؛ لأنّ الوجوب منصبّ على الإكرام الذي هو الفعل ، وهذا بدوره - أي الإكرام - مرتبط بالفقير بنسبة تقييديّة ناقصة ؛ لأنّه موضوع الحكم.

والفقير أيضا مرتبط بالعادل ارتباط الوصف بموصوفه ، فينتج نسبة تقييديّة بين الوجوب والوصف على هذا الأساس.

وإذا لاحظنا هذه النسب التقييديّة لم نجد فيها نسبة تدلّ على مفهوم التوقّف والالتصاق بما هو معنى حرفي ، وإذا لاحظنا أطراف النسب أيضا لم نجد فيها مدلولا اسميّا يدلّ على التوقّف أيضا ؛ إذ لا يوجد في الجملة الوصفيّة أداة أو هيئة تدلّ على التوقّف والالتصاق. إذا فالركن الأوّل منتف.

فالصحيح : أنّ الجملة الوصفيّة ليس لها مفهوم. نعم ، لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة وفقا لما نبّهنا عليه في الحلقة السابقة (1).

وبهذا ظهر أنّ الجملة الوصفيّة لا مفهوم لها ، إذ لا يوجد فيها ما يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء بنحو التوقّف والالتصاق ، فضلا عن كون المعلّق ليس هو الطبيعي ، بل شخص الحكم لعدم جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم ؛ لأنّها مقيّدة بحسب الفرض بحصّة خاصّة.

نعم ، الجملة الوصفيّة تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا لم يكن الفقير عادلا فلا يجب إكرامه بشخص هذا الوجوب ، وهذا لا يمنع من وجوب إكرام الفقير من جهة وحيثيّة أخرى ككونه عالما مثلا ، وبهذا تكون الجملة الوصفيّة دالّة على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة ، والمفهوم إنّما يثبت إذا كان الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الكلّيّة أي انتفاء الطبيعي.

ص: 63


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : مفهوم الوصف.

ص: 64

مفهوم الغاية

ص: 65

ص: 66

مفهوم الغاية

ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية ، من قبيل قولنا : ( صم إلى الليل ) ، فيبحث عن دلالتها على انتفاء طبيعي وجوب الصوم بتحقّق الغاية.

من الجمل التي يبحث حول ثبوت المفهوم لها جملة الغاية ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) ، فإنّ الليل غاية للصوم بحيث إذا دخل الليل تتحقّق الغاية ، ويرتفع وجوب الصوم ؛ لأنّ المغيى وهو وجوب الصوم لا يدخل في الغاية وهو دخول الليل.

وكقوله علیه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (1) وقوله علیه السلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (2).

فيبحث هنا في أنّ المنتفي بعد تحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم ، أي بعد تحقّق الليل في المثال المذكور هل ينتفي طبيعي وجوب الصوم فلا صوم أصلا في الشريعة بعد دخول الليل ، أو أنّ المنتفي بعد دخول الليل شخص الحكم بحيث يمكن أن نفترض وجوبا آخر للصوم بعد دخول الليل أيضا؟

ولا شكّ هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ معنى الغاية يستبطن ذلك ، فمسلك المحقّق العراقي في جملة الغاية واضح الصواب. ومن هنا يتّجه البحث إلى أنّ المغيّى هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الأوّل يثبت المفهوم ، دونه على الثاني.

ص: 67


1- الكافي 5 : 313 / 39 ، باب المملوك يباع وله مال. من لا يحضره الفقيه 3 : 341 / 4208.
2- تهذيب الأحكام 1 : 285 / 832.

لا شكّ في أنّ جمل الغاية تدلّ على الربط المخصوص المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، إمّا بنحو التوقّف أو بنحو العلّيّة ؛ وذلك لأنّ معنى الغاية في اللغة هو انتهاء الحكم المثبت في المغيّى.

ففي قولنا : ( صم إلى الليل ) تدلّ الغاية على أنّ وجوب الصوم ينتهي عند حلول الليل ، وهذا تعبير آخر عن كون وجوب الصوم متوقّف على الليل ، فإذا كان هناك ليل فلا وجوب للصوم ، وإن لم يكن الليل بل كان النهار موجودا فالصوم ثابت ووجوبه متحقّق.

فمفهوم الانتهاء يدلّ بالالتزام أو بالتضمّن على التوقّف أو على العلّيّة عند المشهور. فالركن الأوّل متحقّق وثابت.

يبقى الكلام في الركن الثاني وهو أنّ المنتفي بعد دخول الليل وتحقّق الغاية هل هو طبيعي الحكم فلا وجوب أصلا للصوم بعد تحقّق الليل ، أو أنّ المنتفي هو شخص الحكم بمعنى أنّ هذا الوجوب منتف وأمّا وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل فهذا مسكوت عنه قد يثبت وقد لا يثبت؟

ولذلك فمسلك المحقّق العراقي تامّ هنا ، بمعنى أنّه في جمل الغاية لا إشكال في ثبوت الركن الأوّل وهو الانتفاء عند الانتفاء ، وإنّما الكلام في الركن الثاني فقط ، فهل يمكننا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في جملة الغاية بلحاظ الهيئة الدالّة على الحكم أو لا يمكننا ذلك؟ (1).

ص: 68


1- وقد أجاب المحقّق العراقي عن ذلك بأنّ الغاية إن رجعت إلى النسبة الحكميّة فلا إشكال في جريان الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات أنّ المعلّق هو الطبيعي فيثبت للجملة مفهوم ، بخلاف ما إذا كانت الغاية راجعة للحكم أو للموضوع فلا تجري قرينة الحكمة فلا يثبت المفهوم ، ثمّ استظهر أنّ جمل الغاية كلّها ترجع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة ، ولذلك فيثبت لها المفهوم عنده. 1 - أن تكون الغاية راجعة للموضوع ، كقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فهنا إلى المرافق غاية للموضوع أي ( الأيدي ). 2 - أن تكون الغاية راجعة للحكم ، كقولنا : ( الصوم واجب إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للحكم وهو الوجوب. 3 - أن تكون الغاية راجعة لمتعلّق الحكم ، كقولنا : ( صم إلى الليل ) فإلى الليل هنا غاية للصوم الذي هو متعلّق للوجوب. 4 - أن تكون الغاية راجعة للنسبة الحكميّة كقولنا : ( أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج ) فالغاية هنا راجعة إلى النسبة الوجوبيّة المدلول عليها من هيئة الجزاء في ( أكرم ) فإنّه يدلّ على النسبة ، فيكون المراد ( وجوب إكرام زيد مغيّا بقدوم الحاجّ ). وهذا النحو الأخير هو الذي استظهره المحقّق العراقي في كلّ الجمل الشرطيّة. وأمّا المحقّق النائيني ومدرسته فذهب إلى التفصيل بين هذه الأنحاء الأربعة ، بالشكل التالي : إذا كانت الغاية راجعة لمتعلّق الحكم أو للموضوع فلا مفهوم. إذا كانت الغاية راجعة للنسبة الحكميّة فيثبت المفهوم. إذا كانت الغاية راجعة للحكم فقال الميرزا بعدم ثبوت المفهوم وقالت مدرسته بثبوته.

ولتوضيح المسألة : يمكننا أن نحوّل الغاية من مفهوم حرفي مفاد بمثل ( حتّى ) أو ( إلى ) إلى مفهوم اسمي مفاد بنفس لفظ ( الغاية ) ، فنقول : تارة ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، ونقول أخرى : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ).

والتحقيق أن يقال : إنّ جمل الغاية تدلّ على الغاية فيها بعض الحروف الموضوعة لغة للغاية ، ككلمتي ( إلى ) و ( حتّى ) فإذا قلنا : ( صم إلى الليل ) كانت الجملة دالّة على الغاية بنحو المعنى الحرفي ، وكلّ معنى حرفي يوازيه معنى اسمي ، فإذا أردنا أن نعبّر عن هذا المعنى الاسمي الموازي للمعنى الحرفي وجدنا أنّه بالإمكان التعبير عنه بأحد تعبيرين هما :

1 - وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل.

2 - جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بدخول الليل.

فعلى الأوّل يثبت للجملة مفهوم بخلافه على الثاني.

بيان ذلك :

وبالمقارنة بين هذين القولين نجد أنّ القول الأوّل يدلّ عرفا على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، لأنّ هذا هو مقتضى الإطلاق. فكما أنّ قولنا : ( الربا ممنوع ) يدلّ على أنّ طبيعي الربا ومطلقه ممنوع ، كذلك قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا ) يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا ، فوجوب الصوم بمثابة الربا ، ( ومغيّا ) بمثابة ( ممنوع ) ، فتجري قرينة الحكمة على نحو واحد.

ص: 69

أمّا القول الأوّل : فهو يدلّ عرفا على أنّ المغيّى هو طبيعي الحكم لا شخصه ، لجريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ، فإنّ هذه الجملة تتركّب من طرفين ، الأوّل قولنا : ( وجوب الصوم ) وهذا الطرف بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة يثبت كون الوجوب هو كلّي وطبيعي الوجوب ؛ لأنّ اسم الجنس المحلّى ب- ( اللام ) أو المضاف إلى المحلّى ب- ( اللام ) يجري فيه الإطلاق لإثبات العموم والاستغراق ، كما تقدّم.

فيكون المقصود أنّ كلّي وطبيعي وجوب الصوم مغيّا بدخول الليل وليس المغيّى شخص هذا الوجوب فقط ، فهو على وزان قولنا : ( أحلّ اللّه البيع ) أي كلّ بيع بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في البيع الذي هو اسم جنس.

وكقولنا : ( الربا ممنوع ) فإنّ هذه الجملة لها طرفان ، الأوّل وهو ( الربا ) يجري فيه الإطلاق لإثبات كونه مطلق الربا لا ربا مخصوصا ، والآخر ممنوع وهو حكم ، فوجوب الصوم بمنزلة الربا ؛ لأنّ كلاّ منهما وقع موضوعا لحكم ، وكلّ واحد منهما اسم جنس محلّى ب- ( اللام ) ، فيجري الإطلاق وقرينة الحكمة فيهما على حدّ واحد ، فيثبت أنّ الموضوع مطلق وشامل لكلّ الأفراد.

والدليل على ذلك هو الوجدان العرفي القاضي بعدم الفرق بين هذين النحوين ، والقاضي بالتعارض فيما لو ثبت هناك وجوب آخر للصوم حتّى بعد دخول الليل ، فإنّ التعارض بينهما دليل على أنّ المنتفي بعد دخول الليل إنّما هو كلّي وجوب الصوم لا وجوبا خاصّا منه.

ولذلك يكون لجمل الغاية مفهوم إذا رجعت الغاية فيها إلى هذا النحو من التعبير.

وأمّا القول الثاني فلا يدلّ على أنّ طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، بل يدلّ على إصدار وجوب مغيّا بالغروب ، وهذا لا ينافي أنّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّا بالغروب ، فالقول الثاني إذن لا يثبت أكثر من كون الغروب غاية لذلك الوجوب الذي تحدّث عنه.

وأمّا القول الثاني : فهو لا يدلّ عرفا على أنّ الطبيعي هو المغيّى بالغروب ؛ لأنّ قولنا : ( جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب ) مشتمل على نسب تقييديّة ناقصة وهي :

ص: 70

1 - وجوب الصوم ، أي أنّ الشارع أنشأ وجعل الوجوب على هذه المادّة التي هي الصوم.

2 - الصوم المغيّى ، أي أنّ هذا الصوم متّصف بكونه مغيّا.

3 - المغيّى بالغروب ، وهذه الغاية هي الغروب.

وينتج من ذلك أنّ الصوم المغيّى بالغروب قد شرّعه الشارع وجعله واجبا.

وهذا لا ينافي أن يصدر من الشارع تشريعا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ويجعله واجبا ، فلا منافاة بين الدليلين لو صدرا من الشارع ؛ لأنّ كلاّ منهما يتحدّث عن وجوب للصوم غير الآخر وعن صوم غير الآخر ، فلا تعارض بينهما ، بل يكون كلّ منهما موجبة جزئيّة فقط ، والمنتفي في كلّ منهما إنّما هو شخص الحكم المبرز والمجعول لا مطلق الحكم والوجوب.

وبهذا يظهر أنّ القول الثاني لا يمكن أن يثبت المفهوم لجملة الغاية ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من كون الغروب ودخول الليل قد جعل غاية لذاك الوجوب الذي جعله الشارع والذي هو وجوب مقيّد لا مطلق ، ولأجل ذلك فلا يمكن جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه ؛ لأنّ الوجوب المرتبط بالغاية إنّما يرتبط بها عن طريق نسبتين ناقصتين تقييديّتين هما : ( وجوب الصوم ) و ( الصوم المغيّى ) ، فيكون هناك حصّة خاصّة من الوجوب كما هو مقتضى التحصيص المستفاد من الجملة الوصفيّة الناقصة.

فإذا اتّضح هذا يتبيّن أنّ إثبات مفهوم الغاية في المقام وأنّ المغيّى هو طبيعي الحكم ، يتوقّف على أن تكون جملة ( صم إلى الليل ) في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ، لا في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ).

فإذا أردنا أن نثبت أنّ للغاية مفهوما يجب أن نستظهر من جمل الغاية أنّ المغيى فيها هو طبيعي الحكم لا شخصه ، وهذا الاستظهار يتوقّف على إثبات أن تكون جملة الغاية في قوّة القول الأوّل لا القول الثاني.

فجملة ( صم إلى الليل ) لكي يكون لها مفهوم يجب أن تكون في قوّة قولنا :

( وجوب الصوم مغيّا بالليل ) فحينئذ يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ المعلّق عليه هو طبيعي الحكم بعد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة فيه لأنّه اسم جنس محلّى ب- ( اللام ).

وأمّا إذا كانت هذه الجملة بقوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالليل ) فلا

ص: 71

يستفاد منها أنّ المغيّى هو الطبيعي ، ولا يجري الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات ذلك ، وبالتالي لا يكون للجملة مفهوم ؛ لأنّ الوجوب هنا مقيّد بالصوم المغيّى ، أي بحصّة خاصّة من الصوم وهو هذا الصوم المغيّى بالغروب ، وأنّ الشارع قد جعله واجبا.

وهذا لا ينفي ولا يعارض أن يجعل الشارع وجوبا آخر لصوم غير مغيّا بالغروب ، كأن يجعل وجوبا للصوم المغيّى بالزوال أو بعد منتصف الليل ، وهكذا.

ولا شكّ في أنّ الجملة المذكورة في قوّة القول الثاني لا الأوّل ؛ إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلا وإبرازه بذلك الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ، وإنّما تدلّ على انتفاء شخص الحكم كما تدلّ على السالبة الجزئيّة التي كان الوصف يدلّ عليها أيضا كما تقدّم.

والصحيح : أنّ الجملة المذكورة في قوّة قولنا : ( جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب ) لا في قوّة قولنا : ( وجوب الصوم مغيّا بالغروب ) ؛ وذلك لأنّه يستفاد من قولنا : ( صم إلى الليل ) جعل وإنشاء حكم فعلي بوجوب الصوم إلى الليل.

وهذا الحكم الفعلي يبرز إلى المكلّف من خلال هذا الدليل الكاشف عن كون هذا الوجوب مجعولا ثبوتا من الشارع ، وهذا يتناسب مع القول الثاني لا الأوّل ، فلا مفهوم للغاية إذا ؛ لأنّه فرع كون المغيّى هو الطبيعي.

وفي النسب الناقصة كما هنا لا يمكن إثبات أنّ المغيّى هو الطبيعي ؛ لأنّ النسب الناقصة وخصوصا النسبة التقييديّة تفيد حصّة خاصّة فقط.

نعم ، تدلّ جملة الغاية على انتفاء شخص الحكم بعد تحقّق الغاية ، فلا يجب الصوم بعد دخول الليل ، بمعنى أنّ هذا الوجوب للصوم يرتفع وينتفي بنحو السالبة الجزئيّة ، وهو لا يمنع من الموجبة الجزئيّة بأن يكون هناك وجوب للصوم إلى ما بعد الغروب أيضا ، إذا لا تنافي بين الجزئيّتين السالبة والموجبة مع اختلاف الجهة فيهما.

* * *

ص: 72

مفهوم الاستثناء

ص: 73

ص: 74

مفهوم الاستثناء

ونفس ما تقدّم في الغاية يصدق على الاستثناء ، فإنّه لا شكّ في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى ، ولكنّ المهمّ تحقيق أنّ المنفي عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل هو طبيعي الحكم أو شخص ذلك الحكم؟

جملة الاستثناء ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ، والاستثناء لغة يدلّ على إخراج شيء عن الحكم الثابت في المستثنى منه ، وهذا معناه أنّ الفسّاق لا يشملهم الحكم بوجوب الإكرام ، فهي تستبطن الدلالة على التوقّف ؛ لأنّ الوجوب متوقّف على غير الفسّاق.

ولذلك فهي تدلّ على الربط المخصوص الموجب للانتفاء عند الانتفاء ، فيكون مسلك المحقّق العراقي تامّا هنا أيضا ، بمعنى أنّ البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن إثبات أنّ المنتفي هو الطبيعي أو لا يمكن ذلك بعد الفراغ من كونها تفيد انتفاء شخص الحكم عن المستثنى تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود؟

والشاهد على أنّها تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء هو التعارض عرفا بين قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) وبين قولنا : ( أكرم الفسّاق ).

والاستثناء كالغاية له حالات أربع أيضا :

1 - أن يكون الاستثناء راجعا للمتعلّق ، كقولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) فهنا الاستثناء من وجوب الإكرام ، وكقولنا : ( لا تصدّق إلا الثقة ).

2 - أن يكون الاستثناء راجعا للموضوع ، كقوله تعالى : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ) فهنا الاستثناء للمرأة من أحد ، وكذا قولنا ( أكرم العالم غير الفاسق ).

3 - أن يكون الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( إكرام الفقراء واجب إلا الفسّاق ) فالاستثناء من الوجوب.

ص: 75

4 - أن يكون الاستثناء راجعا للنسبة ، كقولنا : ( أكرم العلماء إلا أن يفسق أحدهم ) أي أنّ وجوب إكرام العلماء يستثنى منه فسق أحدهم.

وهنا أيضا لو حوّلنا الاستثناء في قولنا : ( يجب إكرام الفقراء إلا الفسّاق ) إلى مفهوم اسمي لوجدنا أنّ بالإمكان أن نقول تارة : ( وجوب إكرام الفقراء يستثنى منه الفسّاق ) ، وأن نقول أخرى : ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ) ، والقول الأوّل يدلّ على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم.

ولأجل معرفة أنّ للجملة مفهوما نحوّل الجملة من دلالتها على الاستثناء بنحو المعنى الحرفي إلى الاستثناء بنحو المعنى الاسمي ، فإنّ كلّ حرف يوازيه اسم ، فكلمة ( إلا ) ونحوها من الأدوات الدالّة على الاستثناء ( ما عدا ، ما خلا ، حاشا ، سوى وغير ) يوازيها معنى اسمي يدلّ على الاستثناء ، وهو نفس مفهوم الاستثناء ، ولذلك نجد أنّه بالإمكان التعبير عن هذا المعنى الاسمي بأحد نحوين :

1 - أن نقول بدل قولنا : ( أكرم الفقراء إلا الفسّاق ) ( وجوب إكرام الفقراء مستثنى منه الفساق ).

2 - أن نقول بدلا عن الجملة المذكورة ( جعل الشارع وجوبا لإكرام الفقراء مستثنى منه الفسّاق ).

وبالمقارنة بين هذين النحوين نجد أنّ النحو الأوّل منهما يدلّ على المفهوم ؛ وذلك لإمكان جريان الإطلاق وقرينة الحكمة في موضوع الحمليّة وهو ( وجوب إكرام الفقراء ) ، فإنّه على وزان قولنا : ( الربا ) في جملة : ( الربا حرام ) ، أي أنّه اسم جنس محلّى ب- ( اللام ) أو مضاف للمحلّى ب- ( اللام ) ، فيجري فيه الإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات العموم والاستغراق لكلّ الأفراد ، فيكون الاستثناء راجعا إلى طبيعي الوجوب ، أي أنّ الفسّاق استثني طبيعي وجوب إكرامهم فلا إكرام لهم أبدا.

بينما النحو الثاني لا يدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الجملة لا تدلّ على أكثر من أنّ هناك وجوبا مجعولا من الشارع على الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، وهذا لا يمنع من وجود وجوب آخر لا يستثنى منه الفسّاق ، أي أنّ المنتفي والمستثنى هو شخص الحكم لا الطبيعي.

ص: 76

ولا يمكن هنا إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ الوجوب في هذه الجملة مقيّد بحصّة خاصّة من الفقراء وهم الفقراء المستثنى منهم الفسّاق ، فإنّ تقيّد الفقراء بالفسّاق عبارة عن نسبة تقييديّة ناقصة وهي تقيّد التحصيص.

فهناك إذا حصّة خاصّة من الوجوب جعلها الشارع ، وهذا لا ينفي ولا يعارض بقيّة الحصص ؛ لأنّ الجزئيّة الموجبة لا تعارض الجزئيّة السالبة مع اختلاف الجهة فيهما.

وبهذا يتّضح أنّ جملة الاستثناء إن رجعت إلى النحو الأوّل كان لها مفهوم ، وإلا فلا ، ولذلك نقول :

فإن رجعت الجملة الاستثنائيّة إلى مفاد القول الأوّل كان لها مفهوم ، وإن رجعت إلى مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الأصحّ كما مرّ في الغاية.

والصحيح هو أنّ جملة الاستثناء ترجع إلى النحو الثاني لا الأوّل ، ولذلك فلا مفهوم لها (1).

ص: 77


1- إلا أنّه في تقريرات بحثه أثبت المفهوم للجملة الاستثنائيّة فيما إذا كان الاستثناء راجعا للحكم كقولنا : ( أكرم العلماء إلا الفسّاق ) أو ( لا تصدّق أحدا إلا الثقة ) ؛ لأنّ الاستثناء يدلّ على الاقتطاع وهو لا يكون إلا في النسب التامّة ، وهذا يعني تماميّة النسبة في قولنا : ( أكرم العلماء ) أو ( لا تصدّق أحدا ) ، وبالتالي يجري الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الحكم لإثبات أنّه الطبيعي لا الشخصي. والوجدان يشهد لذلك ، فإنّ العرف يرى أنّ القائل : ( الإنسان أسود إلا الزنجي ) قد كذب مرّتين لا مرّة واحدة ، وليس ذلك إلا لثبوت المفهوم للجملة وإلا لم يكن كاذبا إلا مرّة واحدة فقط. وأمّا في الجملة الاستثنائيّة المنفية فلا تحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ نفي الطبيعة لا يكون إلا بتمام أفرادها كما تقدّم سابقا.

ص: 78

مفهوم الحصر

ص: 79

ص: 80

مفهوم الحصر

لا شكّ في أنّ كلّ جملة تدلّ على حصر حكم بموضوع تدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع المحصور به.

الجملة الحصرية ، كقولنا : ( إنّما العالم زيد ) ، وكقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ، وقولنا : ( العالم زيد ).

والحصر لغة يدلّ على كلا الركنين في المفهوم ، أي على التوقّف وعلى أنّ المحصور هو طبيعي الحكم لا شخصه ، ولذلك كان مفهوم الحصر أقوى المفاهيم ؛ لأنّ دلالته عليه بكلا ركنيه وضعيّة ، فلا نحتاج إلى قرينة خارجيّة أصلا.

ومعنى الحصر إفادة تأكيد الربط الحاصل والموجود في الجملة قبل دخول أداة الحصر عليها ، فقولنا مثلا : ( زيد عالم ) هناك ربط بين زيد والعلم إلا أنّه لا ينفي العلم عن غيره ، فإذا دخلت أداة الحصر فصارت الجملة : ( إنّما العالم زيد ) أفادت معنى جديدا لم يكن موجودا في الجملة وهو أنّ هذا الربط بين العلم وزيد بنحو الحصر ، أي أنّه العلم محصور على زيد ومتوقّف ثبوته على زيد ولا يوجد إلا معه ، فإذا انتفى زيد انتفى العلم ، فالربط الخاصّ متحقّق إذا.

والحصر بنفسه قرينة على أنّ المحصور طبيعي الحكم لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذ ؛ لأنّ حكم الموضوع الخاصّ مختصّ بموضوعه دائما. وما دام المحصور هو الطبيعي فمقتضى ذلك ثبوت المفهوم ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وأمّا الركن الثاني وهو أنّ المحصور هو طبيعي الحكم فهذا مستفاد من أداة الحصر أيضا ؛ لأنّ شخص الحكم محصور بموضوعه ومختصّ به دائما تبعا للعلاقة بين الحكم وموضوعه.

ص: 81

فقولنا : ( يجب إكرام زيد ) يفيد أنّ هناك وجوبا خاصّا بإكرام زيد ومحصور به ولا ينطبق على غيره ؛ لأنّ الخاصّ لا ينطبق إلا على نفسه. فإذا دخلت أداة الحصر ( إنّما يجب إكرام زيد ) دلّت على أنّ الحكم المحصور هو طبيعي الوجوب لا شخصه ؛ لأنّ شخصه محصور في رتبة سابقة فلا معنى لحصره من جديد ، بل لا يكون لأداة الحصر فائدة أصلا من حصر شخص الحكم إلا التأكيد الذي هو خلاف الظاهر من وضع أدوات الحصر في اللغة ؛ لأنّ الأصل فيه أنّه موضوع لمعنى جديد. وبذلك يثبت الركن الثاني أيضا.

والنتيجة ثبوت المفهوم لجملة الحصر بلا إشكال منهم.

وإنّما الكلام في تعيين أدوات الحصر ، فمن جملة أدواته كلمة ( إنّما ) ، فإنّها تدلّ على الحصر وضعا بالتبادر العرفي.

نعم ، وقع الخلاف بينهم في تعيين أدوات الحصر ، ومن جملة هذه الأدوات التي وقع النزاع فيها كلمة ( إنّما ).

فقال الشيخ الأنصاري بعدم دلالتها على الحصر ؛ لأنّ موارد استعمالها مختلفة ، ولا يوجد في الفارسيّة مرادف لها ليعرف ما هو المتبادر منها.

وأجابه في ( الكفاية ) بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللغة والعرف ، والعرف اللغوي والمتبادر أنّ هذه الكلمة تدلّ على الحصر. ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التبادر العرفي من هذه الكلمة هو الحصر.

ومن أدواته جعل العامّ موضوعا مع تعريفه والخاصّ محمولا ، فيقال : ( ابنك هو محمّد ) بدلا عن أن نقول : ( محمّد هو ابنك ) ، فإنّه يدلّ عرفا على حصر البنوّة بمحمّد ، والنكتة في ذلك أنّ المحمول يجب أن يصدق بحسب ظاهر القضيّة على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاصّ على العامّ إلا بافتراض انحصار العام بالخاصّ.

ومن الأدوات التي وقع النزاع فيها كون العامّ المعرّف هو الموضوع وكون الخاصّ هو المحمول ، كقولنا : ( العالم هو زيد ) و ( ابنك هو محمّد ) ، فإنّ الأصل في هاتين الجملتين هو ( زيد هو العالم ) و ( محمّد هو ابنك ).

ولا إشكال في دلالة هذا السياق على الحصر للتبادر وللفهم العرفي ، حيث يفهم

ص: 82

من الجملة الأولى حصر العالميّة بزيد ، ومن الثانية حصر البنوّة بمحمّد ، فلا عالم غير زيد ، ولا ابن غير محمّد.

والسرّ في ذلك أنّه في القضيّة الحمليّة يجب أن يصدق المحمول على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، فقولنا : الإنسان ضاحك أو الإنسان ماش أو الإنسان حيوان ناطق يجب أن يصدق المحمول الذي هو حكم على تمام أفراد الموضوع سواء كان الصدق بينهما في المفهوم والمصداق أو في المصداق فقط.

وفي مقامنا : ( ابنك هو محمّد ) يجب أن يصدق محمّد على تمام أفراد الابن ليتمّ الحمل ويكون صحيحا ، وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا لم يكن هناك ابن آخر سوى محمّد ، فحينئذ يكون محمّد صادقا على تمام ما يصدق عليه الابن ، وهذا هو الحصر ، أي أنّ كلّ أفراد البنوّة ينطبق عليها محمّد وهذا معناه أنّه لا ابن غيره. فيكون العامّ وهو الابن منحصرا بالخاصّ ليتمّ صدق الخاصّ على تمام أفراد العام (1).

ص: 83


1- وخالف في ذلك بعض ، كصاحب ( الكفاية ) حيث ادّعى بعدم كفاية ذلك لإفادة الحصر ، بل لا بدّ من قرينة خاصّة على ذلك. ومن الجمل التي وقع النزاع فيها العدد واللقب ، ولا شكّ في عدم المفهوم لهما ولا كلام فيهما زائدا عمّا تقدّم.

ص: 84

تحديد دلالات الدليل الشرعي

اشارة

ص: 85

ص: 86

الدليل الشرعي غير اللفظي

اشارة

الدليل الشرعي غير اللفظي يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلّ منهما.

والدليل الشرعي غير اللفظي هو كلّ ما يصدر عن المعصوم علیه السلام ممّا ليس من نوع الكلام ، ويكون له دلالة على الحكم الشرعي باعتباره موقفا من المعصوم علیه السلام .

وهذا يشمل نحوين : فتارة يقوم المعصوم بفعل ما يكون دالا على حكم شرعي ، وأخرى يسكت عن فعل تمّ بمحضره أو سمع بفعل فسكت عنه ، فهذا يسمّى بالتقرير والإمضاء لهذا الفعل ، وسوف نبحث عن كلا القسمين :

دلالات الفعل :

تقدّم منّا في الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل أو الترك ، وأنّه إن اقترن بقرينة فيتحدّد مدلوله على أساس تلك القرينة ، وإن وقع مجرّدا كان له بعض الدلالات من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ، ودلالة الإتيان به على وجه عبادي على مطلوبيّته ، إلى غير ذلك.

تقدّم فى الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل والترك ، وهناك قلنا : إنّه توجد حالتان لذلك :

فتارة يقترن فعل أو ترك المعصوم بقرينة حاليّة أو مقاليّة سابقة أو لاحقة تفيد بأنّ هذا الفعل مختصّ بالمعصوم ، كما في تعدّد الزوجات أكثر من أربعة أو وجوب التهجّد بالليل أو جواز الزواج بهبة المرأة نفسها ، ونحو ذلك ممّا علم اختصاصه به.

ص: 87

وقد تكون القرينة دالّة على أنّ فعله هذا إرشادي وتعليمي فيؤخذ به أيضا ، كالدليل اللفظي من قبيل ما ورد عنه في أمر الحجّ كقوله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : « خذوا مناسككم عنّي » أو « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » فهذا قرينة على أنّ فعله ليس مختصّا به ، وأنّه لأجل التعليم والإرشاد ويجب الأخذ والعمل به.

وأخرى لا تكون هناك قرائن من هذا القبيل لتعيّن الوجه الذي وقع عليه الفعل هل هو من الأمور المختصّة به أو هو من الأمور التي يجب الأخذ والاقتداء به فيها؟ فهنا لا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن من فعله وهو :

إن كان هناك فعل فيدلّ فعله على عدم الحرمة ؛ لأنّ المعصوم لا يفعل الحرام. وإن كان هناك ترك دلّ تركه على عدم وجوبه ؛ لأنّ المعصوم لا يترك الواجب. وإن كان لهذا الفعل أو الترك وجه عبادي بأن كان لا يتأتّى هذا الفعل أو الترك إلا من قبل الشارع فيستفاد كون الفعل مطلوبا وراجحا ، وكون الترك مرجوحا خصوصا إذا تكرّر منه ذلك بنفس الظروف.

وقد يقال أكثر من ذلك بأن يكون فعله دالا على الاستحباب لا على مجرّد الجواز فقط ، وأن يكون تركه دالا على الكراهة لا على مجرّد عدم الحرمة ، بناء على أنّ المعصوم لا يفعل المكروه ولا يترك الأولى ، خاصّة إذا كان الفعل عباديّا ، كالصلاة مثلا.

إلا أنّ الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات ؛ لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، وإنّما يثبت ذلك الحكم في كلّ حالة مماثلة لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونها مؤثّرة في ثبوت ذلك الحكم ، على ما مرّ سابقا (1).

ثمّ إنّ فعل المعصوم الكاشف عن الحكم الشرعي بطريق الإنّ ، حيث إنّ فعله معلول للحكم الشرعي ، لا يمكن تعميمه وإطلاقه لكلّ الحالات والظروف حتّى تلك التي لم تكن موجودة حين فعله أو تركه ؛ وذلك لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، حيث إنّ الإطلاق والعموم من شئون الألفاظ والفعل ليس لفظا ؛ ليجري فيه الإطلاق أو ليثبت كونه عامّا.

ص: 88


1- الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : دلالة الفعل.

وعليه ، فإذا كانت هناك حالة مختلفة عن الحالات التي وقع فيها الفعل ، أو احتمل وجود ظروف لها مدخليّة في فعله ، فلا يمكن إسراء الحكم المستكشف من هذا الفعل إلى تلك الحالات التي لا توجد فيها تلك الظروف التي يحتمل مدخليّتها في الفعل ، وإنّما يقتصر في دلالة الفعل على ذاك الحكم فيما إذا كان هناك ظروف مشابهة لظروف المعصوم ؛ لأنّها القدر المتيقّن ، بحيث يعلم أنّ هذه الظروف هي المؤثّرة في صدور الفعل منه.

وبهذا يظهر أنّ تعميم الحكم المستكشف من الفعل يشترط فيه إحراز تلك الظروف التي كانت موجودة حين صدوره منه ، وأمّا غيرها من الحالات والظروف فلا يمكن تعدية هذا الحكم لها ، إذ لا دليل على ذلك (1).

دلالات التقرير :

سكوت المعصوم عن موقف يواجهه يدلّ على إمضائه : إمّا على أساس عقلي باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف متّفقا مع غرضه لكان سكوته نقضا للغرض ، أو باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف سائغا شرعا لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه عليه.

وإمّا على أساس استظهاري باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.

إذا سكت المعصوم عن موقف جرى بمرأى وبمسمع منه فإنّ سكوته هذا يدلّ على إمضائه ، وذلك بإحدى النكات التالية :

الأولى : نقض الغرض ، فإنّ هذا الموقف الذي سكت عنه المعصوم إذا كان متّفقا مع غرضه فكان سكوته عنه حسنا عقلا ، وأمّا إن لم يكن متّفقا مع غرضه كمعصوم

ص: 89


1- وقد يقال : إنّ نفس مقام العصمة والنبوّة والإمامة ظرف وحالة من الحالات التي وقع الفعل فيها ، ولذلك فلا يمكن تعميم الحكم والعمل به حتّى وإن اتّحدت سائر الظروف المحتملة ؛ لأنّ مقام العصمة غير موجود عندنا. والجواب : أنّ هذه الشبهة واضحة الدفع ؛ لأنّ الآيات الدالّة على وجوب الاقتداء والتأسّي بالنبي والإمام تدلّ على وجوب العمل وفقا لما فعله المعصوم ، وهي بنفسها دالّة على إلغاء خصوصيّة هذا المقام وعدم اعتباره مانعا من التأسّي والاقتداء به.

فيكون السكوت عنه قبيحا عقلا ؛ لأنّه يكون قد نقض غرضه بنفسه والعاقل لا يقدم على ذلك ، إذا فالفعل المذكور ليس مخالفا لغرض المعصوم وإلا لردع عنه لو كان كذلك.

وغرض المعصوم هو أنّه بحكم عصمته فهو يهدف إلى إيجاد مجتمع صالح من خلال تعليمه وإرشاده وتوجيهه نحو الصواب والصراط القويم ، فهذا الفعل المسكوت عنه يجب أن يصبّ في هذا الطريق والغرض ، وإلا لكان المعصوم يسمح بعدم تحقّق غرضه ، وهذا ما يأباه مقام العصمة المفروض ، فيكون عدم الردع دالا عقلا على إمضائه وكونه مشروعا.

الثانية : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ المعصوم بوصفه مكلّفا كغيره من الناس يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا الموقف المسكوت عنه مصداقا للمعروف فيكون سكوته عنه جائزا وموافقا لتكليفه ، وأمّا إذا كان هذا الموقف منكرا فالسكوت عنه حرام ، بل يجب عليه النهي والردع عنه وقلعه من جذوره وبيان مفاسده وأضراره. فإذا سكت عنه كشف سكوته عن عدم كونه منكرا أو حراما أو غير مشروع ، وإلا لكان المعصوم مخلاّ بتكليفه وهذا يأباه مقام العصمة ، فالعقل يحكم بمشروعيّة هذا الموقف نتيجة لسكوت المعصوم عنه الكاشف عن حسنه شرعا.

وهذا طبعا يشترط فيه توفّر سائر الشروط والظروف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتي من جملتها عدم التقيّة أيضا ، فإذا أحرز أنّ شروط الأمر والنهي لم تكن متحقّقة كما إذا كان في مورد التقيّة ونحوها لم يستكشف من سكوته كون هذا الموقف سائغا شرعا.

الثالثة : ظهور حال المعصوم ، فإنّ المعصوم هو المسئول عن تقويم الزيغ والاعوجاج وإيجاد الصلاح والاستقامة في المجتمع ، ولذلك فهو بحكم هذه المسئوليّة يقوم دائما بمراقبة المجتمع الإسلامي وتصحيح التصرّفات وتوجيهها نحو الخير والصلاح ، فإذا كان هذا الموقف غير منسجم مع هذا الشيء بأن كان يؤدّي بالمجتمع إلى الانحراف عن جادّة الصواب لكان الواجب يحتّم عليه تقويمهم وردعهم عن ذلك ، وبما أنّه سكت عنه فيستكشف من ظهور حاله بأنّه في مقام المراقبة والتوجيه أنّ هذا الموقف

ص: 90

ليس منافيا مع تلك الأمور التي يراقبها المعصوم ويصونها من الضياع والانحراف.

وهذا استظهار لحال المعصوم وهو لا يتوقّف على توفّر شروط الأمر والنهي.

والموقف قد يكون فرديّا ، وكثيرا ما يتمثّل في سلوك عامّ يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، ومن هنا كانت السيرة العقلائيّة دليلا على الحكم الشرعي ، ولكن لا بذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وإمضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه ، وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة.

ثمّ إنّ الموقف الذي يواجهه المعصوم على نحوين :

الأوّل : أن يواجه المعصوم موقفا فرديّا كأن يقوم شخص أو بعض الأشخاص بالقيام بفعل معيّن أو بترك فعل كذلك ، ومثل هذا الموقف يكون سكوت المعصوم عنه متحدّدا بظروف وشروط ومن ضمنها وجود خصوصيّة لهذا الشخص أو الأشخاص ، ولذلك يكون سكوته كاشفا عن الحكم الشرعي لهؤلاء لا لغيرهم ، إلا إذا اتّحدت الظروف معهم تماما وأحرز ذلك.

الثاني : أن يواجه المعصوم موقفا عامّا وهو الأكثر ، وهذا ما يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة ، بأن يكون للعقلاء جميعا موقف ما يعملون على أساسه ويتصرّفون من خلاله في مختلف النواحي والأغراض والشئون ، وهذا الموقف الذي هو سلوك عامّ للعقلاء إذا سكت المعصوم عنه ولم يردع دلّ سكوته على إمضائه ، وكونه مشروعا وجائزا ويصبّ في غرضه.

ولهذا كانت السيرة العقلائيّة كاشفة عن الحكم الشرعي لا بذاتها ونفسها ، بل بضمّ سكوت وإمضاء المعصوم وعدم ردعه عنها ، فإنّ مجرّد السيرة وبناء العقلاء على أمر لا يكون بنفسه موجبا لوجود حكم شرعا يصحّح عملهم ، بل العكس هو الصحيح. نعم مع سكوت المعصوم وعدم ردعه تكون سيرتهم كاشفة عن الحكم ، ولذلك لا بدّ من إحراز عدم ردع المعصوم عن هذه السيرة لتكون دالّة على الحكم الشرعي إنّا.

ثمّ إنّ هذه السيرة العقلائيّة تنقسم إلى قسمين.

أو بتعبير آخر : أنّ الموقف الذي يتّخذه العقلاء بشكل عامّ يكون على نوعين :

أحدهما : السيرة بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن

ص: 91

باعتباره الموقف الذي ينبغي اتّخاذه واقعا في نظر العقلاء ، سواء كان مرتبطا بحكم تكليفي - كالسيرة على إناطة التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظيّا - أو بحكم وضعي ، كالسيرة على التملّك بالحيازة في المنقولات.

النوع الأوّل : السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة : والمقصود من ذلك أن يتّخذ العقلاء موقفا ما باعتباره أنّه الموقف الذي ينبغي للشارع اتّخاذه واقعا ، فيكون بناؤهم العقلائي على أنّ هذا الموقف الذي ساروا عليه وتبانوا واتّفقوا عليه بما هم عقلاء ينبغي أن يكون له نظير في الشريعة واقعا ، بأن يكون هناك حكم واقعي على طبق الموقف الذي اتّخذوه ، وهذا يمكن إثباته بلحاظ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن موقفهم ، فمعناه أنّه يوجد حكم واقعي على طبقه.

ثمّ إنّ هذا الموقف تارة يكون بلحاظ حكم واقعي تكليفي ، وأخرى يكون بلحاظ حكم واقعي وضعي.

فإذا كان موقف العقلاء وسيرتهم على حلّيّة شيء ونحوها من الأحكام التكليفيّة كان موقفهم هذا بلحاظ الحكم الواقعي التكليفي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّه يجوز التصرّف بمال الغير بمجرّد طيب نفسه ولو لم يأذن بذلك لفظيّا ، فيكفي عندهم الرضا القلبي للمالك وإن لم يتلفّظ بذلك ، فهذا موقف على الجواز الذي هو أحد الأحكام التكليفيّة.

وإذا كان موقفهم وسيرتهم على حكم معاملي كالملكيّة ونحوها فيكون موقفهم بلحاظ الحكم الواقعي الوضعي ، من قبيل بناء العقلاء على أنّ الحيازة سبب للملكيّة فيحكمون بأنّ من حاز شيئا من المشتركات العامّة لكلّ الناس فهو مالك له ، ومن الواضح كون الملكيّة من الأحكام الوضعيّة.

والنوع الآخر : السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن في حالة الشكّ في أمر واقعي اكتفاء بالظنّ مثلا ، من قبيل السيرة على الرجوع إلى اللغوي عند الشكّ في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد سوى الظنّ ، أو السيرة على رجوع كلّ مأمور في التعرّف على أمر مولاه إلى خبر الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائيّة على الاكتفاء بالظنّ أو الاحتمال في مورد الشكّ في الواقع.

ص: 92

النوع الثاني : السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة : والمقصود من ذلك اكتفاء العقلاء بالظنّ عند الشكّ في الأمر الواقعي ، فيعتمد العقلاء على الظنّ والاكتفاء به عند انسداد الواقع أمامهم كموقف وطريق للعمل ظاهرا.

ثمّ إنّ اعتمادهم على هذا الظنّ بوصفه حكما ظاهريّا له نحوان :

فتارة يعملون بالظنّ ويكتفون به كموقف وحلّ عملي ظاهري في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، كاعتمادهم على قول اللغوي الموجب للظنّ بوضع الكلمات لمعانيها فيما إذا شكّ بوضع كلمة لهذا المعنى أو لغيره ، فيرجع إلى اللغوي ويعتمد على قوله مع أنّه لا يفيد سوى الظنّ ، وليس ذلك إلا لأنّ الظنّ باعتقادهم هو الطريق الوحيد للعمل ظاهرا عند انسداد الواقع والعلم.

وأخرى يعتمدون على الظنّ ويكتفون به في مجال أغراضهم التشريعيّة ، من قبيل اكتفاء المأمورين العرفيّين بخبر الثقة المفيد للظنّ للاطّلاع على أوامر المولى العرفي في حالة انسداد الواقع والعلم بأوامره. فيجعلون الظنّ كالعلم منجّزا ومعذّرا ، بحيث يستحقّ المأمور المؤاخذة عند عدم امتثاله لأوامر المولى إذا أخبره الثقة بها ، ويكون معذورا إذا اعتمد على خبر الثقة وكان مخالفا للواقع فيما إذا كان شاكّا في الواقع أو محتملا له ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر البناءات العقلائيّة كالظهور واليد.

وبهذا ظهر أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تشمل الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة معا.

والسيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة تشمل الأغراض التكوينيّة والأغراض التشريعيّة معا.

وعليه ، فلا بد من الحديث عن كلا هذين النوعين لنرى سكوت المعصوم وعدم ردعه للموقف العقلائي ما ذا يثبت به؟

أمّا النوع الأوّل : فيستدلّ به على أحكام شرعيّة واقعيّة ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ من حاز يملك ، وهكذا. ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه ، حيث إنّ الشارع لا بدّ أن يكون له حكم تكليفي أو وضعي فيما يتعلّق بذلك التصرّف ، فإن لم يكن مطابقا لما يفترضه العقلاء ويجرون عليه من حكم كان على المعصوم أن يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الإمضاء.

ص: 93

أمّا النوع الأوّل : وهو السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة كجواز التصرّف في ملك الغير بمجرّد رضاه وكالملكيّة بمجرّد الحيازة ، فيمكن الاستدلال بهذه السيرة على ثبوت الحكم الواقعي على طبق هذه السيرة ، فيستكشف منها أنّ الشارع قد حكم بجواز التصرّف بملك الغير بمجرّد رضاه ، وأنّه قد حكم بالملكيّة بمجرّد الحيازة.

وتقريب ذلك : أنّ للشارع أحكاما واقعيّة ثابتة في كلّ الوقائع والقضايا إمّا بنحو التفصيل أو بنحو العموم ، وهذا معناه أنّ للشارع حكما بشأن تحقّق الملكيّة بالحيازة أو عدمها ، وبجواز التصرّف في ملك الغير أو بحرمته ، فإذا كان هذا الموقف العقلائي موافقا للحكم الشرعي الواقعي كان سكوت المعصوم عنه صحيحا وله مبرّر عقلي وبالتالي يكون سكوته إمضاء لصحّة البناء العقلائي.

وأمّا إذا لم يكن هذا الموقف العقلائي مطابقا للواقع بمعنى أنّ الشارع لم يكن حكمه الواقعي على وفق ما سار عليه العقلاء ، فهنا يجب على المعصوم المعاصر والشاهد لهذا الموقف أن يردع عنه وينبّههم إلى الموقف الشرعي الصحيح ، وحيث إنّه سكت ولم يردع دلّ سكوته على أنّ هذا الموقف ليس مخالفا للشرع ، وإلا لكان المعصوم مفوّتا لغرضه أو راضيا بالمنكر أو لا يريد بناء مجتمع صالح ، وهذه كلّها مستحيلة بحقّه لمقام العصمة التي يتّصف بها ، والتي تجعله مدافعا عن الشريعة وناهيا عن المنكر ورادعا عنه - مع توفّر شروطه - ومرشدا وهاديا لبناء مجتمع صالح وعادل ، ولذلك تجري هنا كلّ تلك الأدلّة الثلاثة التي ذكرت لاستكشاف الإمضاء من سكوته وعدم ردعه ، وبالتالي يثبت الحكم الشرعي الواقعي وأنّه مطابق لما قامت عليه السيرة العقلائيّة.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، ولذلك تكون السيرة العقلائيّة حجّة أي منجّزة ومعذّرة لا بذاتها ، وإنّما بواسطة إمضاء المعصوم لها المستكشف من سكوته وعدم ردعه.

وأمّا النوع الثاني : فيستدلّ به عادة على أحكام شرعيّة ظاهريّة ، كحكم الشارع بحجّيّة قول اللغوي وحجّيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وفي هذا النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : أنّ التعويل على الأمارات الظنّيّة كقول اللغوي وخبر الثقة له مقامان :

وأمّا النوع الثاني من السيرة وهو السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة كحجّيّة خبر

ص: 94

الثقة وقول اللغوي المفيدين للظنّ فقط ، فيراد من خلال سيرة العقلاء على العمل بذلك أن يستكشف أنّ الشارع أيضا قد حكم ظاهرا بحجّيّة خبر الثقة وقول اللغوي ، فيما إذا شكّ المكلّف في الحكم الواقعي وانسدّ عليه باب العلم بالواقع.

وهنا يثار إشكال في تطبيق أدلّة الإمضاء على سكوت المعصوم بحيث يقال : إنّ سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء لا يضرّ ولا يؤثّر في نقض غرضه أو عدم نهيه عن المنكر أو في ظهور حاله ؛ لأنّ هذه السيرة لا تتنافى مع ذلك.

ولتوضيح الإشكال لا بدّ من التوسّع والتفصيل ، فنقول : إنّ سيرة العقلاء على العمل والاكتفاء بالأمارات الظنّيّة كحكم ظاهري يرجع إليه كخبر الثقة وقول اللغوي لها مجالان :

المقام الأوّل : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لأغراضه الشخصيّة التكوينيّة ، من قبيل أن يكون لشخص غرض في أن يستعمل كلمة معيّنة في كتابه ، فيرجع إلى اللغوي في فهم معناها ليستعملها في الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظنّ الحاصل من قول اللغوي.

المقام الأوّل : أن يكون المراد التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، كما إذا كان هناك غرض لشخص في معرفة وفهم المعنى اللغوي لكلمة ما ليعلم معناها ، فيرجع إلى اللغوي ويأخذ بقوله في فهم ومعرفة معناها وإن لم يفده قوله إلا الظنّ فقط ، وبالتالي يكتفي بقوله كمرجع له ويرتّب عليه الآثار المطلوبة منه فيستعملها في الموضع المناسب الذي أخبر اللغوي به.

أو أن يكون هناك غرض شخصي لإنسان في الاعتماد على خبر الثقة في معرفة بعض الأمور الشخصيّة التكوينيّة فيرجع إليه ويأخذ بخبره ، كما هو الحال بخبر الطبيب مثلا أو المهندس ونحوهما ، ويرتّب الأثر التكويني على إخبارهم هذا وإن لم يفد سوى الظنّ.

المقام الثاني : التعويل عليها بصدد تحصيل المأمور لمؤمّن أمام الآمر ، أو لتحصيل الشخص الآمر لمنجّز للتكليف على مأموره ، من قبيل أن يقول الآمر : ( أكرم العالم ) ولا يدري المأمور أنّ كلمة ( العالم ) هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه أو لا؟

ص: 95

فيرجع إلى قول اللغوي لتكون شهادته بالشمول منجّزة وحجّة للمولى على المكلّف ، وشهادته بعدم الشمول معذّرة وحجّة للمأمور على المولى.

المقام الثاني : أن يكون التعويل على الظنّ الحاصل من قول اللغوي وخبر الثقة من أجل تحصيل منجّز أو معذّر وهو الحجّيّة بالمصطلح الأصوليّ ، بمعنى أنّ الآمر يرجع إلى قول اللغوي أو خبر الثقة ليكون قولهما منجّزا لتكاليفه وأوامره على مواليه وعبيده ومأموريه ، ويرجع المأمور إليهما ليكون قولهما معذّرا عن التكليف المحتمل أو المشكوك.

من قبيل أن يأمر المولى العرفي بقوله : ( أكرم العالم ) ولا يعلم المأمور أنّ كلمة العالم هل تشمل جميع العلماء حتّى من كان عالما ثمّ زال عنه العلم ، أو أنّه يختصّ بمن هو عالم بالفعل؟

وبالتالي فهو يشكّ في وجوب إكرام من هو فاقد للعلم فعلا ولكنّه كان متلبّسا به من قبل. فيرجعان إلى قول اللغوي ليرى ما هو قوله في ذلك ، وهل أنّ كلمة العالم التي هي من المشتقّات تشمل من كان متلبّسا بالمبدإ وزال عنه أو أنّها تختصّ بالمتلبّس بالمبدإ فعلا؟

فإذا شهد بأنّ الكلمة تشمل الموردين كان قوله حجّة بمعنى كونه منجّزا للتكليف على المأمور فيجب عليه الامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة ، وإذا شهد بأنّ الكلمة مختصّة بالعالم فعلا فيكون حجّة بمعنى كونه معذّرا للمأمور عند عدم امتثال إكرام من زال عنه العلم فعلا وكان الآمر يريد إكرامه واقعا.

وهكذا الحال بالنسبة لخبر الثقة يرجع إليه الآمر والمأمور في التنجيز والتعذير عن الأحكام التكليفيّة التي لا يعلم بها ، فيكون إخباره بالإلزام منجّزا للتكليف وإخباره بالترخيص مؤمّنا ومعذّرا عن التكليف.

وبعد أن اتّضح ذلك نرجع إلى بيان الإشكال فنقول :

وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع إلى اللغوي والتعويل على الظنّ الناشئ من قوله : إن كان المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأوّل فهذا لا يعني حجّيّة قول اللغوي بالمعنى الأصولي أي المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكون بالنسبة إلى الأغراض التشريعيّة التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة إلى

ص: 96

الأغراض التكوينيّة ، فلا يمكن أن يستدلّ بالسيرة المذكورة على الحجّيّة شرعا.

إنّ السيرة العقلائيّة بلحاظ الأحكام الظاهريّة إن كان المقصود منها السيرة القائمة على الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، أي المقام الأوّل فمن الواضح أنّ الاعتماد على قول اللغوي أو خبر الثقة لتحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا يرتبط بالحجّيّة كمصطلح أصولي الذي هو عبارة عن المنجّزيّة والمعذّريّة ؛ إذ لا يوجد في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة تكاليف شرعيّة ولا يوجد آمر ومأمور ليكون قول الآمر منجّزا أو عدم امتثال المأمور معذورا فيه.

ولذلك لا يصلح هذا القسم من السيرة للاستدلال به على أنّ الشارع قد جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ لأنّ الحجّيّة الشرعيّة تفترض مسبقا وجود علاقة مولويّة بين الآمر والمأمور ، وتفترض أنّ المأمور يجب عليه إطاعة وامتثال أوامر المولى بحيث يكون التخلّف عنها موجبا للذمّ والعقاب ، فالحجّيّة إذا من شئون الأغراض التشريعيّة لا الأغراض التكوينيّة.

وبهذا يكون هذا النحو من السيرة خارجا عن محلّ الكلام تخصّصا ؛ إذ محلّ الكلام حول الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة شرعا ، وهذه السيرة تثبت أنّ العقلاء يعوّلون على قول اللغوي وخبر الثقة في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة لا التشريعيّة ، فالاستدلال بها باطل تماما.

وإن كان المقصود بناء العقلاء في المقام الثاني فمن الواضح أنّ جعل شيء منجّزا أو معذّرا من شأن المولى والحاكم لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول اللغوي منجّزا ومعذّرا إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمر يجعل قول اللغوي حجّة في فهم المأمور لما يصدر عنه من كلام بنحو ينجّز ويعذّر.

وإن كان المقصود من السيرة وبناء العقلاء هو المقام الثاني ، أي الأغراض التشريعيّة ، بمعنى أنّ العقلاء يجعلون قول اللغوي وخبر الثقة حجّة بين الآمر والمأمور ، فيكون منجّزا ومعذّرا ، فهذا يدخل في مورد الكلام ويمكن أن يستدلّ به ولكن بنحو آخر وهو : أنّ الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة لغير العلم تحتاج إلى جعل خاصّ من قبل نفس المولى والحاكم ، بمعنى أنّ المولى والحاكم يعتبر أنّ هذا الطريق حجّة بينه وبين

ص: 97

مواليه بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط ولا مدخليّة للمأمورين في ذلك ، فليس لهم حقّ التدخّل بما هم مأمورون في شئون المولى.

وعليه فمعنى سيرتهم وبنائهم أنّ سيرة الآمرين والحكّام قد انعقدت على جعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة لا سيرة المأمورين ، إذ لا مدخليّة لهم في جعل شيء حجّة وعدم ذلك ، فيكون المقصود من سيرة العقلاء خصوص سيرة الآمرين والموالي والحكّام من العقلاء ، وأنّهم جعلوا قول اللغوي حجّة منجّزا ومعذّرا ، ويمكن تعميم السيرة للمأمورين أيضا بأن يقال :

وبعبارة أشمل : إنّ سيرة كلّ عاقل اتّجهت إلى أنّه إذا قدّر له أن يمارس حالة آمريّة يجعل قول اللغوي حجّة على مأموره.

أو يقال : إنّ سيرة العقلاء تشمل كلّ الناس سواء الآمرين والمأمورين لا خصوص الآمرين فقط ، وذلك بأن نفترض أنّ كلّ عاقل لو قدّر له أن يصبح حاكما وآمرا فهو يتّخذ خبر الثقة وقول اللغوي حجّة بينه وبين مواليه ومأموريه ، وهذا يشمل الآمرين والمأمورين ؛ لأنّهم من العقلاء فتنطبق هذه القضيّة الشرطيّة بالفعل على الآمرين وبالقوّة على المأمورين ، وحينئذ نقول :

ومن الواضح أنّ السيرة بهذا المعنى لا تفوّت على الشارع الأقدس غرضه ، حتّى إذا لم يكن قد جعل قول اللغوي حجّة ومنجّزا ومعذّرا بالنسبة إلى أحكامه ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولى في نطاق أغراضه التشريعيّة مع مأموريه ، ولا يهمّ الشارع الأغراض التشريعيّة للآخرين.

وحينئذ يرد الإشكال وهو : أنّ هذه السيرة بهذا المعنى وهي أنّ سيرة الآمرين انعقدت فعلا أو سيرة العقلاء جميعا فرضا وتقديرا على العمل بقول اللغوي وخبر الثقة في نطاق الأحكام التشريعيّة الظاهريّة ، لا تضرّ بالأحكام التشريعيّة للشارع الأقدس ولا تفوّت غرضه حتّى وإن لم يجعل خبر الثقة وقول اللغوي حجّة ( منجّزا ومعذّرا ) ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة المفروض أنّها سيرة بين كلّ آمر مع مأموريه بلحاظ أغراضه التشريعيّة لا بلحاظ الأغراض التشريعيّة للآخرين.

إذ لا مولويّة لهذا الشارع على سائر الموالي والحكّام الآخرين ليعتبر سيرته بينه وبين مواليه ومأموريه حجّة على أولئك ويجب عليهم العمل على وفقها ، بل كلّ شارع

ص: 98

ومولى وحاكم له مولويّة وسلطة على خصوص مواليه ومأموريه ولا علاقة له بغيره من الموالي والحكّام.

وعليه فسيرة الآمرين العقلائيّين إنّما تثبت أنّ الآمرين قد اتّفقوا على جعل قول اللغوي حجّة ، إلا أنّ اتّفاقهم هذا لا يلزم الشارع الأقدس ولا يجب عليه أن يسير وفقا لآراء العقلاء ، بل هم أنفسهم لا يعتبرونه ملزما باتّباع سيرتهم ؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ كلّ شارع له الحريّة المطلقة في أن يجعل ما يشاء حجّة بينه وبين مأموريه ومواليه ولا يجب عليه الالتزام بسيرة الآخرين واتّباع آرائهم.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه عن سيرة العقلاء هذه كاشفا عن إمضائه ورضاه بها ، إذ لا يجب عليه الالتزام بها وهي ليست ملزمة له أصلا لكي يتّخذ منها موقفا إيجابا أو سلبا ، بل لا يعنيه ذلك ؛ لأنّ كلّ شارع إنّما يحدّد العلاقة بينه وبين مأموريه هو نفسه لا غيره ، ولذلك لا يكون هناك ضرر من سيرتهم في حال عدم الردع عنها ، وإن كان الشارع الأقدس لا يقبلها ، بل عليه أن يبيّن ما جعله حجّة بينه وبين مأموريه بقطع النظر عن سيرة العقلاء.

فكم فرق بين سيرة العقلاء على ملكيّة الحائز ، وسيرتهم على حجّيّة قول اللغوي ؛ لأنّ السيرة الأولى تقتضي سلوكا لا يقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سببا للملكيّة.

وأمّا ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوك فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغوي منجّز ومعذّر في علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على أي حال.

فهناك فرق شاسع بين السيرتين المذكورتين وهو : أنّ السيرة بلحاظ الأحكام الواقعيّة تفترض أنّ العقلاء قد اتّخذوا موقفا وسلوكا لو كان خطأ وغير مقبول لدى الشارع لكان مؤثّرا على أغراضه التشريعيّة ؛ لأنّ العقلاء اعتبروا أنّ الحيازة سبب للملكيّة ، وأنّ الرضا القلبي كاف لجواز التصرّف في ملك الغير.

وهذا الأمر وغيره من الأحكام التشريعيّة التي لا بدّ أن يكون للشارع فيها حكم إن كان مطابقا لغرضه فسكوته معتبر وصحيح عقلا ، وإن كان مخالفا له فيكون سكوته مع عدم قبوله لسيرتهم ناقضا لغرضه وهدفه وهو قبيح عقلا صدوره من العاقل

ص: 99

الحكيم ، ولذلك كان بناء العقلاء يمسّ مباشرة أحكام الشارع ولذلك كان سكوته إمضاء وقبولا بها.

وأمّا السيرة بلحاظ الأحكام الظاهريّة التي تتعلّق بالأغراض التشريعيّة للآمرين والمأمورين ، فقد تقدّم أنّ هذا البناء إنّما يحدّد ويلزم كلّ آمر مع مأموريه بما جعله حجّة بينه وبينهم بحيث يكون منجّزا ومعذّرا ، ولا ارتباط لذلك بغيره من الآمرين ، ولو فرض اتّفاق الآمرين من العقلاء جميعا على جعل شيء حجّة فهو لا يلزم الشارع الأقدس بأن يجعله حجّة أيضا ؛ لأنّ كلّ شارع له الخيار ومطلق الحريّة في أن يجعل أي شيء يراه مناسبا حجّة بينه وبين مأموريه ولا يلزمه أحد بذلك ولا يختار له أحد الطريق ويفرضه عليه ، إذ لا مولويّة لأحد عليه كما هو المفروض.

ولذلك لا يكون سكوت المعصوم وعدم ردعه قبولا ببناء العقلاء وإمضائه لحجّيّة قول اللغوي أو خبر الثقة حتّى بلحاظ أحكامه التشريعيّة ، إذ لا ربط له بهم كما لا ربط لهم به ؛ ولأنّ سيرتهم إنّما تلزم من كان من الآمرين العرفيّين فقط ، وأمّا الشارع الأقدس فلا يمكنهم إلزامه بما يرونه ويتّفقون عليه ، بل العكس هو الصحيح ، ولذلك لا مجال للاستدلال بالسيرة على جعل الحجّيّة الظاهريّة في مجال الأغراض التشريعيّة.

فإن قال قائل : لما ذا لا يفترض بناء العقلاء على أنّ قول اللغوي حجّة بلحاظ كلّ حكم وحاكم وأمر وآمر بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّا بالشارع إذا لم يكن قد جعل الحجّيّة لقول اللغوي؟!

فإذا قيل : نفترض أنّ الشارع داخل في السيرة العقلائيّة أيضا باعتباره من جملة العقلاء ، بل هو رئيس العقلاء ، وحيث إنّ العقلاء قد اتّفقوا على أنّ كلّ عاقل إذا مارس حالة الآمريّة والحاكميّة فهو يجعل قول اللغوي وخبر الثقة حجّة ، فيكون الشارع داخلا في سيرتهم.

وعليه ، فإذا كان مخالفا لهم فيجب أن يردعهم عن ذلك ، فمع سكوته وعدم ردعه يستكشف إمضاؤه وقبوله لهذه السيرة حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ، وإلا لكان بناؤهم مضرّا بالشارع ومفوّتا لغرضه وهو قبيح عقلا.

قلنا : إنّ كون قول اللغوي منجّزا لحكم أو معذّرا عنه أمر لا يعقل جعله واتّخاذ قرار به ، إلا من قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة إلى مأموره ومكلّفه ، فكلّ أب مثلا

ص: 100

قد يجعل الأمارة الفلانيّة حجّة بينه وبين أبنائه بلحاظ أغراضه التشريعيّة التي يطلبها منهم ، ولا معنى لأن يجعلها حجّة بالنسبة إلى سائر الآباء الآخرين مع أبنائهم ، وهكذا يتّضح أنّ الحجّيّة المتبانى عليها عقلائيّا إنّما هي في حدود الأغراض التشريعيّة لأصحاب البناء أنفسهم فلا يضرّ الشارع ذلك.

كان الجواب : أنّ فرض دخول الشارع في البناء والاتّفاق العقلائي مصادرة على المدّعى ؛ وذلك لأنّ جعل قول اللغوي مثلا حجّة ومنجّزا ومعذّرا لا يعقل صدوره وجعله واتّخاذ قرار به إلا من قبل نفس الجاعل للحجّيّة بينه وبين مأموريه ومواليه ، ولا ربط لذلك ببقيّة الآمرين وليس ملزما لهم إلا أن يكون داخلا معهم في الاتّفاق المذكور ، وهنا الاتّفاق إنّما صدر من الموالي العرفيّين ولا يعلم بدخول الشارع معهم في سيرتهم ، فلا يكون بناؤهم حجّة عليه وملزما له ويجب قبوله وإمضاؤه ؛ لأنّ كلّ آمر وحاكم هو الذي يحدّد كيفيّة العلاقة بينه وبين مأموريه ولا شأن له بالآخرين ، كما أنّه لا شأن للآخرين به.

فمثلا الأب له ولاية على أبنائه فإذا جعل الأب بينه وبين أبنائه أمارة معيّنة حجّة منجّزة ومعذّرة كان ذلك ملزما له فقط ، ولا يكون ملزما لسائر الآباء مع أبنائهم ، فإنّ كلّ أب منهم له الحقّ بأن يجعل الأمارة التي يراها مناسبة بينه وبين أبنائه ، ولا يضرّه الاتّفاق المبرم بين ذاك الأب وأبنائه.

وهنا الاتّفاق والبناء المذكور إنّما صدر من الآمرين العقلائيّين العرفيّين فيكون حجّة وملزما لكلّ آمر وحاكم من العقلاء والموالي العرفيّين ، ولا يكون ملزما للشارع الأقدس ليكون سكوته عنه إمضاء وقبولا ، أو ليجب الردع عنه إذا كان مخالفا لما يراه حجّة بينه وبين مأموريه.

فالاستدلال بالسيرة إذا غير تامّ للفارق الكبير بين العقلاء والشارع الأقدس.

والأسس الثلاثة المذكورة سابقا لا تجري هنا ؛ لأنّ تفويت الغرض إنّما يضرّ لو كانت السيرة مضرّة بأغراض الشارع التشريعيّة ، وقد تبيّن أنّها غير مضرّة بغرضه فسكوته ليس نقضا للغرض ، مضافا إلى أنّها ليست منكرا لينهى عنه ؛ إذ هي خارجة عن نطاق تشريعاته.

وأمّا ظهور حاله في مجتمع صالح فهو غير تامّ ؛ لأنّ العقلاء ليسوا مخالفين للطريق

ص: 101

القويم ؛ إذ هم متّبعون لما يرونه بعقولهم صحيحا ولا يضرّ ذلك بالأغراض التشريعيّة للشارع الأقدس.

وليس بالإمكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجّيّة بأفضل من القول بأنّها تمسّ الشارع ؛ لأنّها توجب على أساس العادة الجري على طبقها حتّى في نطاق الأغراض التشريعيّة لمولى لم يساهم في تلك السيرة ، وتوحي ولو ارتكازا وخطأ بأنّ مؤدّاها مورد الاتّفاق من الجميع ، وبذلك تصبح مستدعية للردع على فرض عدم التوافق ، ويكون السكوت عندئذ كاشفا عن الإمضاء.

والصحيح : أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة بلحاظ الأحكام الظاهريّة تامّ ، وبالتالي تكون حجّة مع عدم الردع عنها.

وبيان ذلك : أنّ السيرة والبناء متّفق عليه من جميع العقلاء سواء الآمرين والمأمورين فعلا وقوّة كما تقدّم ، وهذا البناء والاتّفاق معناه أنّ كلّ آمر وحاكم حتّى وإن لم يكن داخلا فعلا في هذا الاتّفاق والبناء ، إلا أنّه يعتبر مساهما ومشاركا فيه ويكون بنظرهم ملزما بالجري على طبق هذا البناء والاتّفاق.

وعلى هذا فيرتكز في أذهان العقلاء ولو خطأ واشتباها أنّ الشارع الأقدس أيضا يسير وفقا لهذا البناء في تنظيم علاقاته بينه وبين مأموريه عند الشكّ وعدم العلم ، ويعتبرون أنّه موافق لبنائهم واتّفاقهم ؛ لأنّه لو لم يكن موافقا لهم لكان عليه أن يردعهم ويبيّن لهم الطريق الذي يجعله حجّة بينه وبين مواليه ومأموريه.

ولذلك تكون هذه السيرة من شأنها الإضرار بالأحكام التشريعيّة للشارع الأقدس فيما إذا لم يكن موافقا لها ؛ لأنّ هذا الارتكاز يمسّ بصورة مباشرة أحكام الشارع أيضا ؛ لأنّ هذا الارتكاز يوحي أنّ الشارع موافق على بنائهم ، إذ لو لم يكن موافقا لبيّن ذلك ، فسكوته وعدم ردعه يعتبر إمضاء عندهم وإن كان خطأ واشتباها. إلا أنّه بعد حصوله وتحقّقه يكون مضرّا بالأحكام التشريعيّة للشارع ومفوّتا لغرضه في حالة عدم التوافق معهم ، وهذا يحتّم عليه الردع والنهي وعدم السكوت ، فالسكوت إذا يكشف عن الإمضاء.

وبهذا نعرف أنّ الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على الحجّيّة بمعناها الأصوليّ - المنجّزيّة والمعذّريّة - أن تكون السيرة العقلائيّة في مجال التطبيق قد

ص: 102

افترضت - ارتكازا - اتّفاق الشارع مع غيره في الحجّيّة ، وجرت في علاقاتها مع الشارع على أساس هذا الافتراض ، أو أن تكون على الأقلّ بنحو يعرّضها لهذا الافتراض والجري.

وبهذا ظهر أنّه يشترط للاستدلال بالسيرة العقلائيّة على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ أي المنجّزيّة والمعذّريّة أن تكون السيرة مرتكزة عند العقلاء ، ويكون هذا الارتكاز يفترض - ولو خطأ واشتباها - أنّ الشارع قد اتّفق مع العقلاء ببنائهم هذا وأمضاه بمجرّد سكوته عن سيرتهم.

وهذا يتطلّب أن تكون السيرة مستحكمة عند العقلاء لا يشذّ عنها عاقل ، فإنّها إذا صارت بهذه الكيفيّة من الاستحكام والارتكاز فسوف تشكّل ضررا على أحكام الشارع فيما إذا كان غير راض عنها ، ويتوجّب الردع عنها والنهي عنها في حالة مخالفتها مع المجعول حجّة من قبل الشارع.

أو تكون على الأقلّ بنحو يجعلها لأن تكون مستحكمة ومرتكزة بحيث توجب افتراض أنّ الشارع معهم.

وحينئذ يمكن الاستدلال بها على إمضاء الشارع ؛ لأنّه لو سكت عنها ولم يردع لكان العقلاء يتعاملون مع الأحكام الشرعيّة للشارع كما يتعاملون مع أحكامهم أنفسهم نتيجة لهذا الافتراض الارتكازي ، بل يمكن القول أكثر من ذلك وهو :

وهذا معنى قد يثبت في السيرة العقلائيّة على العمل بالأمارات الظنيّة في المقام الأوّل أيضا أي في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، فإنّها كثيرا ما تولّد عادة وذوقا في السلوك يعرّض المتشرّعة بعقلائيّتهم إلى الجري على طبق ذلك في الشرعيّات أيضا ، فلا يتوقّف إثبات الحجّيّة بالسيرة على أن تكون السيرة جارية في المقام الثاني ومنعقدة على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ.

بل يمكن الاستدلال بالسيرة العقلائيّة المنعقدة على العمل بالأمارات الظنيّة في المقام الأوّل ، أي في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة بتقريب : أنّ هذه السيرة وإن كانت بلحاظ الأغراض الشخصيّة وليست منعقدة فعلا على الحجّيّة بالمعنى الأصوليّ ، إلا أنّها إذا كانت مستحكمة ومرتكزة فهي توحي وتفترض لدى المتشرّعة

ص: 103

من العقلاء بوصفهم عقلاء أن يسيروا ويجروا على طبق هذه السيرة في الأغراض التشريعيّة أيضا ، حتّى وإن كان هذا الإيحاء والارتكاز مخطئا.

وهذا معناه أنّ هذه السيرة في الأغراض التكوينيّة من الممكن في كثير من الأحيان أن تؤثّر وتمسّ الأغراض التشريعيّة ولو في اعتقاد المتشرّعة الخاطئ ، حيث إنّهم يحسّون نتيجة لارتكاز السيرة عندهم بأنّ الشارع يقبل بها ويرضاها في مجال أغراضه التشريعيّة بلحاظ مرحلة الظاهر أي الحجّيّة الأصوليّة ، ممّا يعرّض أحكامه للضياع ويكون مفوّتا لغرضه إذا لم يردع عنها فيما إذا كانت مخالفة لما يجعله حجّة ، وبالتالي يكون السكوت عنها إمضاء لهذا الارتكاز الخاطئ عند المتشرّعة وبالتالي يكون تطبيقه على التشريعيّات ممضى ومقبولا عند الشارع ؛ لأنّه سكت ولم يردع عنها.

وبهذا نعرف أنّه لا يتوقّف الاستدلال بالسيرة على كونها منعقدة فعلا على الحجّيّة ، بل حتّى لو كانت منعقدة على الأغراض التكوينيّة ولكنها كانت مستحكمة ومرتكزة ، وتفترض اتّفاق الشارع بإسراء هذا البناء على أحكامه التشريعيّة ، لكانت حجّة أيضا على الاستدلال بأنّ الشارع قد جعل الحجّيّة الأصوليّة لقول اللغوي ولخبر الثقة.

والحاصل : أنّ الاستدلال بالسيرة بقسميها يتوقّف على وجود هذا المرتكز والإيحاء ولو كان خاطئا ؛ لأنّه يمسّ مباشرة أو بالالتزام الأحكام التشريعيّة للشارع فالسكوت عنها إمضاء لها.

ومهما يكن الحال فلا شكّ في أنّ معاصرة السيرة العقلائيّة لعصر المعصومين علیهم السلام شرط في إمكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي ؛ لأنّ حجّيّتها ليست بلحاظ ذاتها ، بل بلحاظ استكشاف الإمضاء الشرعي من التقرير وعدم الردع ، فلكي يتمّ هذا الاستكشاف يجب أن تكون السيرة معاصرة لظهور المعصومين علیهم السلام لكي يدلّ سكوتهم على الإمضاء.

وهنا شرط آخر مضافا إلى وجود الارتكاز الموحي ولو خطأ برضا الشارع بقبول البناء العقلائي ، وهو اشتراط معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام ، وهذا الشرط واضح ؛ لأنّ السيرة ليست دليلا على الحكم الشرعي بنفسها ، وإنّما بعد ضمّ الإمضاء المستكشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه ، وهذا يفترض وجود المعصوم وكونه

ص: 104

حاضرا ومعاصرا لهذه السيرة لتكون على مرأى ومسمع منه ، لكي يكون سكوته عنها موجبا للإمضاء.

وأمّا إذا لم تكن السيرة معاصرة للمعصوم فلا تكون حجّة لاختلال الركن الثاني ، إذ ما دام المعصوم غير حاضر وغير معاصر للسيرة فكيف يحرز أنّه أمضاها ، فإنّ الإمضاء تابع لسكوته وسكوته فرع وجوده ومعاصرته ، فإذا لم يكن موجودا كانت حجيّة السيرة منتفية من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا واضح.

وأمّا أنّه كيف يمكننا نحن في هذا العصر أن نثبت أنّ السيرة المتحقّقة فعلا من العقلاء كانت معاصرة للمعصوم؟ فهذا الأمر يمكن إثباته بعدّة طرق تقدّمت مفصّلا في الحلقة السابقة ، ولذلك قال الشهيد :

وأمّا السيرة المتأخّرة فلا يدلّ عدم الردع عنها على الإمضاء كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، وأمّا كيف يمكن إثبات أنّ السيرة كانت قائمة فعلا في عصر المعصومين فقد مرّ بنا البحث عن ذلك في الحلقة السابقة (2).

قد يقال : إنّه بالإمكان الاستدلال بالسيرة القائمة فعلا على الحكم الشرعي ، وذلك من خلال سكوت الحجّة - عجّل اللّه فرجه - عنها فإنّه معاصر لهذه السيرة فيكون سكوته عنها إمضاء لها.

ويرد عليه : أنّ نفس مرحلة الغيبة والاختفاء وعدم الظهور يمنع من الاستدلال بسكوته ؛ لأنّ هذه المرحلة تحتّم عليه عدم التعرّض لشئون الناس والتدخّل في تصرّفاتهم وإلا لما احتيج إلى الغيبة.

وقد يقال : إنّ المعصوم قد أمضى السيرة العقلائيّة لا بما هي سيرة شخصيّة منعقدة على أمر معيّن فحسب ، بل أمضاها بما هي نوع أي أنّ كلّ سيرة عقلائيّة تنعقد على أمر فهي حجّة.

وفيه : أنّ السيرة ليست دليلا لفظيّا كما أنّ الإمضاء المستكشف من السكوت ليس دليلا لفظيّا ، ولذلك لا يكون هناك إطلاق ولا عموم أصلا.

ص: 105


1- ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : السيرة.
2- ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عنوان : الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي.

وبهذا نعرف أنّ السيرة المتأخّرة المعاصرة للحجة علیه السلام لا يمكن الاستدلال بها على الحكم الشرعي من خلال سكوته عنها ؛ لأنّه ليس مكلّفا بالأمر والنهي ، وليس مكلّفا بإرشاد وهداية المجتمع وتوجيهه ، وإلا لما كان غائبا. نعم ، يمكن الاستدلال بهذه السيرة المعاصرة لنا بعد إثبات كونها معاصرة للمعصومين علیهم السلام غير الحجّة ( عجّل اللّه فرجه ).

وقد تقدّم سابقا عدّة طرق لإثبات معاصرتها ، نشير إليها إجمالا :

1 - إثبات المعاصرة بالنقل التاريخي والشهادة.

2 - إثبات عدم التغيّر والتبدّل أو أصالة الثبات ، وذلك إذا كانت السيرة معتمدة على نكات فطريّة عامّة لكلّ العقلاء.

3 - استقراء الأوضاع الاجتماعيّة في مختلف المجتمعات وملاحظة النقاط المتّفق عليها ، بحيث يمكننا تعميم الحكم من خلال ذلك إلى سائر المجتمعات الأخرى الآتية والماضية.

4 - أن يكون هناك لازم إذا لم تكن هذه السيرة معاصرة وكان الموضوع محلّ ابتلاء للناس عادة ، وهذا اللازم هو كثرة السؤال عنه ، والحال أنّ هذا اللازم منتف ، إذا ينتفي الملزوم فتثبت المعاصرة.

5 - أن يكون هناك بديل إذا لم تكن السيرة معاصرة وكان مهمّا بحيث يجب نقله تاريخيّا ؛ لأنّه سوف يكون سلوكا غريبا مخالفا للعادة ، وحيث إنّ هذا البديل لم ينقل مع توفّر الدواعي لنقله ، فيدلّ على عدم وجوده وأنّ السيرة كانت معاصرة.

إلا أنّ اشتراط المعاصرة إنّما هو في السيرة التي يراد بها إثبات حكم شرعي كلّي ، والكشف بها عن دليل شرعي على ذلك الحكم ، وهي التي كنّا نقصدها بهذا البحث بوصفها من وسائل إثبات الدليل الشرعي.

وهذا الشرط - المعاصرة - إنّما هو في السيرة التي يراد بها اكتشاف الحكم الشرعي الكلّي وإثباته ، أو الكشف عن دليل شرعي كلّي يصلح للاستدلال والاستنباط في كلّ الحالات والظروف والعصور.

وما تقدّم من بحوث إنّما كان يقصد هذا النوع من السيرة ، فإنّ التملّك بالحيازة أو جواز التصرّف استنادا على الرضا القلبي حكم شرعي كلّي يعمّ كلّ الأزمنة

ص: 106

والعصور ، وكذلك الاستناد إلى قول اللغوي وخبر الثقة ليس مختصّا بزمان دون آخر ، فهي كلّها أحكام شرعيّة كلّيّة.

فهذا النوع من السيرة يحتاج إلى إثبات المعاصرة ليكون السكوت إمضاء لها ، وكاشفا عن هذا الحكم الشرعي الكلّي.

ولكن هناك نحو آخر من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعي على حكم كلّي ، وإنّما يحقّق صغرى لحكم شرعي كلّي قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة.

إلا أنّه يوجد نحو آخر من السيرة العقلائيّة وهو السيرة العقلائيّة على تحقيق صغرى الحكم الشرعي ، بعد أن كان الحكم الشرعي الكلّي مفروغا من ثبوته لقيام الدليل الخاصّ عليه في مرتبة سابقة ، والمقصود من كون السيرة محقّقة لصغرى الحكم هو :

أنّ السيرة تارة تكون منقّحة لفرد حقيقي من أفراد الموضوع ، بمعنى أنّها توجد مصداقا حقيقيا لموضوع الحكم الكلّي.

فمثلا قوله تعالى : ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) المقصود من المعروف هو ما كان معروفا وشائعا ، وهذا الموضوع له مصاديق عديدة ، فإذا قامت السيرة على أنّ هذا الشيء معروف كانت بذلك موجدة لمصداق حقيقي لهذا الموضوع الذي هو موضوع لحكم شرعي كلّي بوجوب الإمساك.

وأخرى تكون منقّحة لفرد ادّعائي بمعنى أنّها توجد فردا اعتباريّا كما في الاتّفاقيّات بين المتعاملين ، فإنّ غالب الاتّفاقيّات تشكّل صغرى لحكم شرعي كلّي المدلول عليه بقوله علیه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » فتكون كلّ الشروط الضمنيّة دخيلة في العقد وإن لم تذكر في متنه ، وذلك لقيام السيرة على مدخليّتها واعتبارها.

وبهذا يتّضح أنّ هذا النحو من السيرة لا يحتاج إلى إثبات كونها معاصرة ؛ لأنّه لا يراد بها اكتشاف حكم شرعي كلّي ، بل يراد بها اكتشاف تطبيقي ومصداقي لموضوع الحكم الشرعي ، ومن المعلوم أنّ تشخيص الموضوع والمصداق خارجا بيد المكلّف ولا مدخليّة للشارع به ، ولذلك لم نحتج إلى معاصرتها للمعصوم ، وإلى ذلك أشار السيّد الشهيد بقوله :

وإلى هذا النحو من السيرة ترجع على الأغلب البناءات العقلائيّة التي يراد بها

ص: 107

تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهما النوعيّة في مقام التعامل بنحو يحقّق صغرى لأدلّة الصحّة والنفوذ في باب المعاملات.

فإنّ أغلب البناءات العقلائيّة ترجع إلى هذا النحو من السيرة ، أي إلى تحقيق الصغرى وإثبات الموضوع أو مصداق هذا الموضوع ، خصوصا البناءات العقلائيّة في موارد التعامل والعقود ، حيث إنّ السيرة تحقّق لنا المقاصد التي يقصدها المتعاملين نوعا ، أي أنّ كلّ متعاملين باعتبارهما النوعي يقصدان شروطا ضمنيّة وهي ما قامت عليه السيرة والبناء العرفي العقلائي وإن لم تذكر في متن العقد. ولذلك تكون هذه الشروط الضمنيّة موضوعا للأحكام الشرعيّة بوجوب الوفاء بها وبصحّتها ونفوذها شرعا ، وترتيب الآثار عليها.

ومثال ذلك : ما يقال من انعقاد السيرة العقلائيّة على اشتراط عدم الغبن في المعاملة ، بنحو يكون هذا الاشتراط مفهوما ضمنا وإن لم يصرّح به ، وعلى هذا الأساس يثبت خيار الغبن بالشرط الضمني في العقد ، فإنّ السيرة العقلائيّة المذكورة لم تكشف عن دليل شرعي على حكم كلّي ، وإنّما حقّقت صغرى لدليل : « المؤمنون عند شروطهم » (1).

ومثال ذلك : قيام السيرة والبناء العقلائي على اشتراط عدم الغبن في المعاملة ، فإنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ متعاملين يبنيان على عدم الغبن ، بحيث إنّ كلّ واحد منهما لا يرضى بأن يكون مغلوبا ومقهورا وخاسرا في المعاملة ، بل يصرّ دائما لتحقيق الربح والفائدة ، فإذا علم أنّ هذه المعاملة فيها خسارة محقّقة فلا يقدم عليها.

ولذلك كان عدم الغبن شرطا ضمنيّا عند كلّ متعاملين ، وهذا معناه أنّ المعاملة تقع مشروطة من أساسها بأن لا يكون هناك غبن ، فإذا ظهر كون أحدهما مغبونا بنحو لا يرضى به العرف - حيث إنّه لا بدّ أن يكون هناك تفاوت في كلّ معاملة - ولا يتسامح بمقداره كان له خيار فسخ المعاملة بنظرهم واعتقادهم ؛ لأنّ الآخر يجب عليه الوفاء بتعهّده وشروطه ومن جملة هذه الشروط هو عدم الغبن الذي هو شرط ضمني.

فإذا حكم العقلاء بذلك تحقّقت صغرى لحكم شرعي كلّي وهو وجوب الوفاء بالشروط والالتزامات والتعهّدات لكلّ مؤمن ؛ لقوله علیه السلام : « المؤمنون عند

ص: 108


1- وسائل الشيعة 15 : 30 ، أبواب المهور ، ب 20 ، ح 4.

شروطهم ». وهذا الشرط - عدم الغبن - كان موجودا ضمن العقد لبناء العقلاء واتّفاقهم وسيرتهم على ذلك ، وعليه فيجب الوفاء به ، ومقتضاه جواز فسخ المعاملة للطرف الآخر ، فكانت هذه السيرة محقّقة لشرط من الشروط في المعاملة وهو عدم الغبن فيطبّق عليها الحكم الشرعي المفروغ عن ثبوته وهو وجوب الوفاء بالشرط.

وكلّ سيرة من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها على هذا النحو أن تكون معاصرة للمعصومين علیهم السلام ؛ لأنّها متى ما وجدت أوجدت صغرى لدليل شرعي ثابت ، فيتمسّك بإطلاق ذلك الدليل لتطبيق الحكم على صغراه.

ومن هنا نعرف أنّ كلّ سيرة من هذا القبيل لا يشترط فيها أن تكون معاصرة للمعصوم علیه السلام ؛ وذلك لأنّها لا تثبت الحكم الشرعي الكلّي ليقال باحتياجها إلى الإمضاء المستكشف من السكوت ، وإنّما هذه السيرة تثبت لنا مصداقا وتطبيقا من تطبيقات الحكم الشرعي وتفترض أنّ هذا موضوع ومصداق لذاك الحكم ، إمّا حقيقة وإمّا ادّعاء واعتبارا.

وهذا معناه أنّها تشخّص موضوع الحكم أو مصداقه أو فرد من أفراد الموضوع ، وهذا لا مدخليّة للشارع به ليسكت أو يردع عنه ؛ إذ الشارع لا يتدخّل في تحقيق وتشخيص المواضيع إلا إذا كانت هذه المواضيع من اختراع الشارع ، وأمّا إذا كانت موضوعات أحكامه واضحة ومفهومة عرفا فمصداقها يكون بيد العقلاء ، فمتى ما وجدت السيرة بهذا النحو كان معناها أنّها توجد الصغرى للدليل الشرعي بتطبيق الكبرى عليها ، وينتج من ذلك ترتيب آثار الحكم الشرعي على هذا الموضوع والمصداق. ومن هنا كان دليل خيار الغبن ثابتا باشتراطه الضمني المستكشف من جريان السيرة العقلائيّة عليه.

وبهذا نفرّق بين هذه السيرة وبين السيرة السابقة التي كنّا نتحدّث عنها ، فإنّها كانت تثبت الحكم الشرعي الكلّي من خلال سكوت المعصوم وعدم ردعه ، ولذلك احتاجت لمعاصرة المعصوم ليتحقّق سكوته ويحرز إمضاؤه.

وهناك فوارق أخرى بين السيرتين ، فإنّ السيرة التي يستكشف بها دليل شرعي على حكم كلّي تكون نتيجتها ملزمة حتّى لمن شذّ عن السيرة ، فلو فرض أنّ شخصا لم يكن يرى - بما هو عاقل - أنّ طيب نفس المالك كاف في جواز

ص: 109

التصرّف في ماله وشذّ في ذلك عن عموم الناس ، كانت النتيجة الشرعيّة المستكشفة بسيرة عموم الناس ملزمة له ؛ لأنّها حكم شرعي كلّي.

ومن جملة الفوارق بين السيرتين :

إنّ السيرة التي يستكشف بها حكم شرعي كلّي كالتملّك بالحيازة وجواز التصرّف بملك الغير بمجرّد رضاه القلبي وحجيّة خبر الثقة وقول اللغوي ، إذا ثبت بالإمضاء المستكشف من السكوت وعدم الردع ، كانت هذه السيرة مثبتة للحكم الشرعي الكلّي ، ومن المعلوم أنّ الأحكام الشرعيّة الكليّة عامّة لكلّ الناس في مختلف العصور والأزمنة إلى يوم القيامة.

وهذا معناه أنّه لو شذّ بعض الأشخاص عن هذه السيرة ولم يعتبروا أنّ الحيازة سبب للملكيّة ، أو أنّ خبر الثقة ليس حجّة لم يكن رأيهم صحيحا ، بل كان مخالفا للحكم الشرعي ؛ لأنّ هذه السيرة قد ثبت بها الحكم الشرعي فلا يحقّ لأحد من الناس أن يشذّ عنه ويخالفهم بحجّة أنّه لم يدرك هذا الأمر ، أو أنّه لم يكن من أبناء السيرة التي انعقدت على هذا الأمر ، أو أنّه لم يساهم في الاتّفاق والبناء ، إذ مثل هذه الدعوى لا تسمع ويكون ملزما بالجري وفقا لما ثبت بالسيرة ، وهذا معناه أنّ هذه السيرة ملزمة لكلّ الناس ؛ لأنّها تثبت حكما شرعيّا كلّيّا والأحكام الشرعيّة الكلّيّة شاملة لكلّ المكلّفين كالصلاة والصيام.

وأمّا السيرة التي تحقّق صغرى لمفاد دليل شرعي فلا تكون نتيجتها ملزمة لمن شذّ عنها ؛ لأنّ شذوذه عنها معناه أنّ الصغرى لم تتحقّق بالنسبة إليه فلا يجري عليه الحكم الشرعي.

ففي المثال المتقدّم لخيار الغبن إذا شذّ متعاملان عن عرف الناس وبنيا على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت غبنيّة لم يثبت لأي واحد منهما خيار الغبن ؛ لأنّ هذا يعني عدم الاشتراط الضمني ومع عدم الاشتراط لا يشملهما دليل « المؤمنون عند شروطهم » مثلا.

وأمّا في السيرة التي يستكشف منها صغرى لحكم شرعي ، أي يعرف بها المصداق والموضوع للحكم الشرعي الكلّي ، فهذه السيرة ليست ملزمة لكلّ الناس حتّى الذين لا يرون ولا يبنون على هذا الأمر ، بل كانوا يبنون على خلافه ؛ وذلك لأنّه في فرض

ص: 110

شذوذهم عن هذه السيرة وعدم البناء عليها معناه أنّ هذه الصغرى والمصداق لم يتحقّق بالنسبة إليهم ، فإذا لم تتحقّق الصغرى فلا يمكن تطبيق الكبرى ؛ إذ من الواضح أنّه مع عدم تحقّق الموضوع لا معنى لفرض تحقّق الحكم وإلزامهم بالعمل به ، بل يكون منتفيا لانتفاء موضوعه.

فمثلا إذا شذّ بعض المتعاملين عن السيرة القائلة باشتراط عدم الغبن في المعاملة ورضيا فيما بينهم على القبول بالمعاملة حتّى وإن كانت غبنيّة وإن لم يصرّحا بذلك ، فإنّ هذا معناه عدم ثبوت خيار الغبن لأي منهما ؛ لأنّهما قد رضيا بالغبن. وهذا معناه أنّه لا يوجد شرط ولو ضمنا لأحدهما بالخيار عند ظهور الغبن ، بل الشرط على خلاف ذلك ، أي أنّهما اشترطا ضمنا عدم الفسخ وقبول المعاملة وإن ظهر الغبن فيها ، وهذا بمثابة إسقاط للخيار أو بمثابة عدم الاشتراط الضمني فلا يشمله « المؤمنون عند شروطهم » ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يوجب الوفاء بالشروط سواء الصريحة أو الضمنيّة لا يمكن تطبيقه في المقام ؛ لأنّ صغراه وهي وجود الشرط غير متحقّقة ؛ لأنّ الشرط قد ألغي ببنائهم على قبول المعاملة مطلقا أو صار هناك شرط آخر وهو إسقاط الخيار وإن ظهر الغبن فيما بعد ، وبالتالي لا يمكن إلزامهما بفسخ المعاملة إذا رضيا بها إذ لا موضوع لذلك.

* * *

ص: 111

ص: 112

البحث الثاني : إثبات صغرى ، الدليل الشرعي

اشارة

ص: 113

ص: 114

البحث الثاني

إثبات صغرى الدليل الشرعي

بعد أن تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعي نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل من الشارع.

وهي على نحوين :

أحدهما : وسائل الإثبات الوجداني.

والآخر : وسائل الإثبات التعبّدي.

فالكلام يقع في قسمين :

اشارة

كان الحديث فيما تقدّم من بحوث حول إثبات الدلالات العامّة للدليل الشرعي ، أي أنّ الدليل الشرعي ما هو مفاده وما هو مدلوله ، وذكرنا لذلك مباحث الألفاظ من عموم وإطلاق ومفهوم إلى آخره.

وبعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثانية من البحث وهي إثبات صدور الدليل من الشارع ، أي أنّ هذا الدليل الذي دلّ على هذا المطلب هل هو صادر من الشارع أم لا؟ وكيف يمكننا أن نثبت كونه صادرا من الشارع؟

وهنا يوجد طريقان لإثبات صدور الدليل من الشارع :

الأوّل : الوسائل الوجدانيّة وهي الطرق التي تثبت لنا صدور الدليل من الشارع بنحو اليقين والقطع والجزم كالتواتر والإجماع.

الثاني : الوسائل التعبّديّة وهي الطرق والأمارات التي جعلها الشارع حجّة لإثبات الأدلّة عند الشكّ والاحتمال وانسداد باب العلم والواقع كخبر الثقة مثلا. فالبحث يقع في مقامين :

ص: 115

ص: 116

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني

اشارة

ص: 117

ص: 118

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني

تمهيد :

المقصود بالإثبات الوجداني : اليقين ، ولمّا كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال كالتواتر والإجماع ونحوهما على ما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، فمن المناسب أن نتحدّث بإيجاز عن كيفيّة تكوّن اليقين على أساس حساب الاحتمال فنقول :

المقصود من الإثبات الوجداني هو حصول القطع واليقين ، فهذه الوسائل توجب القطع واليقين بصدور الدليل من الشارع وجدانا وتكوينا ، ونحن نرى أنّ وسائل الإثبات الوجداني كالتواتر والإجماع كلّها تعتمد على حساب الاحتمال وهو حساب رياضي ذكر مفصّلا في كتاب ( الأسس المنطقيّة للاستقراء ).

ولذلك كان لا بدّ لنا من الحديث ولو بصورة موجزة وإجماليّة عن هذا المبدأ لنرى كيف يحصل اليقين والقطع على أساسه.

وهذا المبنى خلافا لمشهور الأصوليّين حيث اعتمدوا على حصول اليقين من التواتر والإجماع على قضايا بديهيّة منطقيّة ، بينما في الحقيقة لا بدّ أن يحصل اليقين من قضايا استنتاجيّة حدسيّة ، وسنرى أنّ كلّ ما ذكروه يعود في نهايته إلى كونه مصادرة أوّليّة.

ولهذا سوف نعقد البحث أوّلا للحديث عن هذا المبدأ ثمّ كيفيّة تطبيقه على تلك الوسائل التي تثبت وجدانا الدليل الشرعي ، فنقول :

ص: 119


1- ضمن البحث عن وسائل الإثبات الوجداني ، تحت عناوين : الخبر المتواتر والإجماع وسيرة المتشرّعة.

إنّ اليقين - كما عرفنا في مباحث القطع - موضوعي وذاتي ، ونحن حينما كنّا نتكلّم عن حجّيّة القطع بعد افتراض تحقّقه لا نفرّق بين القسمين ، إذ نقول بحجّيّتهما معا كما تقدّم (1) ، ولكن حينما نتكلّم عن الوسائل الموجبة للإثبات والإحراز فمن المعقول أن نهتمّ بالتمييز بين أدوات اليقين الموضوعي وغيرها ؛ ابتعادا بقدر الإمكان عن التورّط في غير اليقين الموضوعي.

تقدّم سابقا أنّ اليقين يقسّم إلى قسمين : موضوعي وذاتي.

فاليقين الذاتي هو اليقين الحاصل من عوامل ذاتيّة ونفسيّة يتأثّر بها القاطع ولا يكون ناشئا من مبرّرات منطقيّة.

واليقين الموضوعي هو اليقين الحاصل من مبرّرات منطقيّة وموضوعيّة تفترض على الإنسان أن يقطع بالقضيّة.

وعند ما كنّا نتحدّث سابقا عن حجّيّة القطع لم نفرّق بين هذين النحوين من اليقين ؛ لأنّ اليقين بعد تحقّقه وحصوله يكون حجّة منجّزا ومعذّرا ولا يمكن للشارع أن يردع عنه ، نعم يمكنه أن يردع عن مقدّماته ومناشئه كما تقدّم.

وأمّا هنا فلا بأس من التفرقة بين هذين النحوين من اليقين لنعرف الطرق والوسائل والأدوات التي تثبت لنا اليقين الموضوعي لكي نسير معها ونبتعد بالتالي عن كلّ المبرّرات والأدوات التي توجب القطع الذاتي.

ومن هنا كان للتفرقة بين النحوين وجه معقول. ولذلك نتحدّث عن اليقين الموضوع وكيفيّة حصوله لكي لا نتورّط باليقين الذاتي ، فنقول :

واليقين الموضوعي قد يكون أوّليّا ، وقد يكون مستنتجا ، واليقين الموضوعي المستنتج بقضيّة ما له سببان :

ثمّ إنّ اليقين الموضوعي يقسّم إلى قسمين :

الأوّل : اليقين الموضوعي الأوّلي أي البديهي والضروري ، وهو اليقين الحاصل من مجرّد التوجّه إلى طرفي القضيّة بحيث لا يحتاج فيه إلى إعمال الفكر والنظر ، وإنّما يشترط فيه فقط سلامة الحواس ، كاليقين الحاصل من القضيّة القائلة بأنّ النقيضين لا

ص: 120


1- في هذه الحلقة ، ضمن البحث عن حجّيّة الظهور ، تحت عنوان : حجّيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي.

يجتمعان أو بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فإنّ القطع والتصديق بهذا النحو من القضايا لا يحتاج الى أكثر من تصوّر معنى النقيضين ومعنى الاجتماع ليحكم العقل بأنّه مستحيل.

الثاني : اليقين الموضوعي المستنتج من قضيّة ما أي اليقين الذي يحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، كاليقين الحاصل من الأقيسة أو من الاستقراء ، فإنّ هذا اليقين يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وتوفّر مقدّمات لتكون النتيجة قطعيّة وصحيحة.

وهذا اليقين الاستنتاجي له سببان هما القياس والاستقراء.

والبحث عن القياس محلّه المنطق ، وأمّا الاستقراء فهو الذي يعتمد عليه بحثنا هنا أي حساب الاحتمالات ، فإنّه قائم على أساس الاستقراء كما سيأتي توضيحه.

أحدهما : اليقين الموضوعي بقضيّة أخرى تتضمّن أو تستلزم تلك القضيّة ، ويكون الاستنتاج حينئذ قائما على أساس قياس من الأقيسة المنطقيّة.

السبب الأوّل هو القياس ، فإنّه ينتج يقينا موضوعيّا مستنتجا من قضيّة أخرى على أساس أحد الأقيسة المنطقيّة ، بحيث تكون النتيجة متضمّنة أو مستلزمة لتلك القضيّة.

فمثال القضيّة المتضمّنة ، كقولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فإنّ هذه النتيجة متضمّنة في القضيّة الثانية ؛ لأنّ قولنا : ( كلّ إنسان ناطق ) يشمل زيد ؛ لأنّه إنسان أيضا.

ومثال القضيّة المستلزمة ، كقولنا : ( إذا كان زيد عالما فيجب إكرامه ، ولكنّه ليس بعالم ، إذا لا يجب إكرامه ) فهذه النتيجة لازم لكونه غير عالم ، إذ العالم يجب إكرامه بمقتضى القضيّة الشرطيّة وبمقتضى مفهومها لا يجب إكرام غير العالم ، والمفهوم مدلول التزامي للكلام.

والآخر : اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المستنتجة ، ولكنّ كلّ واحدة منها تشكّل قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات تلك القضيّة ، وبتراكم تلك القيم الاحتماليّة تزداد درجة احتمال تلك القضيّة حتّى يصبح احتمال نقيضها قريبا من الصفر ، وبسبب ذلك يزول لضآلته ، وكون الذهن البشري مخلوقا على نحو لا يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.

السبب الثاني لحصول اليقين الموضوعي هو الاستقراء المبني على حساب

ص: 121

الاحتمالات ، فإنّ القضيّة المراد إثباتها والتوصّل إلى اليقين بها ليست موجودة ضمن القضايا المراد الاستدلال بها ، وليست ملازمة لها كما هو الحال في القياس ، وإنّما هناك مجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضيّة المراد استنتاجها والتيقّن بها.

وإنّما هذه القضايا تشكّل بمجموعها قيمة احتماليّة بدرجة ما لإثبات هذه القضيّة بحيث تكون كلّ قضيّة فيها درجة من الاحتمال تضمّ إلى الدرجة الموجودة في القضيّة الأخرى ليحصل من المجموع على أساس الضرب حاصل لقيمة الصدق واليقين كبيرة جدّا ، ويحصل مقابل ذلك حاصل لقيمة النقيض أي لاحتمال الكذب والخلاف درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

وبسبب ضآلة هذه القيمة الاحتماليّة للكذب والنقيض وبسبب أنّ الذهن البشري مفطور على عدم الاحتفاظ بقيمة كهذه تكون هذه القيمة قريبة من العدم ، بحيث إنّها تزول عمليّا وإن كانت بالدقّة العقليّة المتناهية لا تزال موجودة.

وبالتالي يحصل المستقرئ على يقين مستنتج من خلال استقراء مجموع هذه القضايا.

ولمزيد توضيح نضرب المثال التالي :

ومثال ذلك : أنّ نشاهد اقتران حادثة معيّنة بأخرى مرّات كثيرة جدّا ، فإنّ هذه الاقترانات المتكرّرة لا تتضمّن ولا تستلزم أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، إذ قد يكون اقترانهما صدفة ويكون للحادثة الأخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث إنّ من المحتمل في كلّ اقتران الا يكون صدفة وإلاّ تكون هناك علّة غير منظورة فيعتبر كلّ اقتران قرينة احتماليّة على علّيّة إحدى الحادثتين للأخرى ، وبتعدّد هذه القرائن الاحتماليّة يقوى احتمال العلّيّة حتّى يتحوّل إلى اليقين.

إذا شاهدنا اقتران حادثة بأخرى مرّات عديدة بحيث كان هذا الاقتران متكرّرا كثيرا ، فإنّه من المحتمل أن تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ هذا الاحتمال يبرّر لنا الاقتران المتكرّر بينهما ، فإنّ العلّة إذا وجدت وجد المعلول بعدها ، ولكن يحتمل أيضا ألا تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ، بل يكون اقترانهما معا مجرّد صدفة ، ويكون هناك علّة كانت موجودة لكنّنا لا نعلم بها هي التي برّرت وجود الحادثة الأخرى.

ص: 122

فلأجل تعيين أحد الاحتمالين نقول : إنّ كلّ اقتران من هذه الاقترانات الكثيرة جدّا يبعد كونه صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر ولا تكون دائميّة. والحال هنا أنّ هذا الاقتران قد تكرّر دائما ضمن هذه الاقترانات الكثيرة ، فهذا يبعّد الصدفة ، يبقى أنّ هناك علّيّة بين الحادثتين إلا أنّ هذا الفرض أيضا يحتمل فيه أمران :

1 - أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي الحادثة الأولى وهي منظورة وموجودة.

2 - أن تكون العلّة للحادثة الأخرى هي حادثة ثالثة غير منظورة ولا نعلم بها ، ولكنّها كانت توجد صدفة عند ما تقترن الحادثة الأولى بالثانية.

ولأجل إثبات الاحتمال الأوّل دون الثاني نقول : إنّ كلّ اقتران للحادثة الأخرى بالحادثة الأولى عبارة عن قيمة احتماليّة بدرجة ما يثبت أنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الأخرى ، وهذه القيمة الاحتماليّة موجودة في كلّ اقتران بين الحادثتين.

فإذا كانت هناك اقترانات كثيرة جدّا فإنّ القيمة الاحتماليّة لكون الحادثة الأولى علّة للحادثة الثانية سوف تكون كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة لكون العلّة هي تلك الحادثة غير المنظورة التي اقترنت صدفة في مجموع هذه الاقترانات الكبيرة جدّا سوف تكون ضئيلة جدّا ، الحاصلة من ضرب كلّ قيمة احتماليّة في كلّ اقتران بمثلها في الاقتران الآخر ، بحيث يكون الحاصل من مجموع ضرب القيم الاحتماليّة ببعضها عبارة عن رقم ضئيل جدّا لا يحتفظ العقل البشري بمثله ، بل يراه قريبا من الصفر والعدم.

وبذلك يحصل اليقين عمليّا بأنّ الحادثة الأولى هي العلّة للحادثة الثانية ، وهذا هو المسمّى بحساب الاحتمالات.

وهذا المبدأ يرتكز على أمور ثابتة مبرهن عليها في الرياضيّات ، وهي :

1 - أنّ الصدفة لا تتكرّر دائما ، فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة.

2 - أنّ القيمة الاحتماليّة لكلّ اقتران تضرب بالقيمة الاحتماليّة للآخر فيما إذا لم تكن احتمالات المخالفة والكذب متلازمة ، بل كانت متفاوتة وليس لها مبرّر واحد دائما ، وإنّما كان لها مبرّرات عديدة. وهذا القانون سوف يضعف القيمة الاحتماليّة لاحتمال المخالفة والكذب وسوف يقوّي بدرجة عالية جدّا احتمال الصدق ؛ لأنّه ذو مبرّر واحد.

ص: 123

فإذا أخذنا القضيّة التجريبيّة التالية :

تناول حبّة الأسبرين والشفاء من الصداع ، ثمّ كرّرنا هذه التجربة مرّتين ، واحتملنا في كلّ تجربة من هاتين التجربتين أن يكون الأسبرين هو علّة الشفاء ، واحتملنا أيضا أن يكون علّة الشفاء حادثة أخرى كانت موجودة عند تناول الأسبرين ، كأن يكون قد شرب الأسبرين والشاي فشفي من الصداع ، ثمّ شرب الأسبرين والنعناع فشفي من الصداع ، فهنا سوف يتكوّن لنا علم إجمالي من أربعة أطراف وهو :

1 - أن تكون العلّة الأخرى للشفاء من الصداع موجودة في التجربة الأولى فقط.

2 - أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربة الثانية فقط.

3 - أن تكون العلّة الأخرى موجودة في التجربتين معا.

4 - أن تكون العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين أصلا.

فهنا سوف يتوزّع رقم اليقين (1) على هذه الاحتمالات الأربعة فيكون لكلّ احتمال قيمة 1 / 4 بالتساوي.

والآن علينا أن نجمع القيم الاحتماليّة لإثبات أنّ الأسبرين هو العلّة ، ونجمع أيضا القيم الاحتماليّة التي تثبت أنّ العلّة هي حادثة أخرى غير منظورة.

فنقول : فعلى الاحتمال الأوّل وهو أنّ العلّة موجودة في التجربة الأولى فقط ، فالموجود فيها هو الأسبرين فيكون قيمة 1 / 4 لصالح علّيّة الأسبرين ؛ لأنّها الحادثة الموجودة في التجربة الأولى.

وهكذا بالنسبة للاحتمال الثاني ، فإنّ الأسبرين هو الموجود في التجربة الثانية فيكون قيمة 1 / 4 أيضا لصالحه.

وعلى الاحتمال الثالث فإنّ الأسبرين كالعلّة الأخرى موجود في التجربتين معا ، فيكون قيمة الربع لصالحهما.

وأمّا على الاحتمال الرابع حيث يفرض فيه أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين فالقيمة الاحتماليّة سوف تكون لصالح الأسبرين أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة الأخرى غير موجودة في التجربتين.

والوجه في ذلك أنّ العلّة لو كانت غير الأسبرين لما تخلّفت في التجربتين الأولى والثانية ، فمثلا لو كانت العلّة هي الشاي في التجربة الأولى فكيف تحقّق المعلول في

ص: 124

الثانية مع غيره؟ ولو كان النعناع في التجربة الثانية هو العلّة فكيف تحقّق المعلول في الأولى؟ ولو كانت العلّة غير موجودة في التجربتين فكيف تحقّق المعلول فيهما مع عدم وجود الشاي والنعناع معا فيهما؟ فالتخلّف دليل على أنّ الأسبرين هو العلّة بناء على الاحتمالات الثلاثة ؛ لأنّه موجود فيها جميعا. فمبرّر كونه علّة موجود بخلاف غيره.

والنتيجة هي : أنّ القيمة الاحتماليّة التي تكون لصالح علّيّة الأسبرين من خلال هاتين التجربتين وبناء على هذه الأطراف الأربعة للعلم الإجمالي سوف تكون 3 / 4 ، بينما علّيّة الحادثة الأخرى غير المنظورة سوف تكون 1 / 4.

ثمّ إنّ هذه القيمة سوف تنقسم أيضا بالتساوي بين الأسبرين وبين العلّة الأخرى غير المنظورة ؛ لأنّه يحتمل أنّ العلّة الموجودة في التجربتين هي الأسبرين ، كذلك يحتمل كونها العلّة الأخرى فيكون لكلّ منهما نصف الربع أي 1 / 8.

وتكون القيمة النهائيّة لعلّيّة الأسبرين هي مجموع 3 / 4+ 1 / 8 6+ 1 / 8 7 / 8 وفي مقابلها 1 / 8 للعلّة الأخرى.

فإذا تكرّرت هذه التجربة مرّة ثالثة فإنّ أطراف العلم الإجمالي سوف تكون أزيد من أربعة أي ستّة أطراف ، وفي التجربة الرابعة سوف تكون أطراف العلم الإجمالي ثمانية ، وهكذا. وتكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين في التجربة الثالثة 13 / 16 ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى 1 / 16 ، وفي التجربة الرابعة تكون القيمة الاحتماليّة للآسبرين 31 / 32 ، وللعلّة الأخرى 1 / 32.

فإذا كرّرت التجربة عشرات المرّات أو مئات المرّات فسوف تكون القيمة الاحتماليّة لصالح علّيّة الأسبرين كبيرة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للعلّة الأخرى ضئيلة جدّا لا يحتفظ الذهن البشري بمثلها عادة ، فتصل إلى قريب من الصفر والعدم ، وتكون بحكم الملغاة عمليّا ، وإن كانت هذه القيمة الاحتماليّة موجودة بالدقّة العقليّة المتناهية.

والقاعدة التي يعتمد عليها حساب الاحتمال هي قاعدة ضرب الكسور ببعضها لتكون قيمة احتمال الخلاف والكذب كسرا كبيرا جدّا ، وكلّما كان الكسر كبيرا جدّا كان قريبا من الصفر.

ص: 125

والوجه في اعتماد هذا المبدأ على قاعدة ضرب الكسور لا على قاعدة جمع الكسور هو : أنّ قاعدة جمع الكسور إنّما تكون فيما إذا لم يكن هناك احتمال الخلاف والكذب.

فمثلا إذا أعطى شخص لزيد 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص آخر 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص ثالث 1 / 4 ثمّ أعطاه شخص رابع 1 / 4 ، فهنا يكون مجموع ما أعطاه الأشخاص الأربعة لزيد هو واحد ، أي حاصل جمع 1 / 4+ 1 / 4+ 1 / 4 1 / 4 1 / 4* 1+ 1+ 1+ 1 / 4 4 / 4 1 ؛ لأنّه هنا لا يوجد احتمال الكذب والخلاف ؛ لأنّه يعلم يقينا بأنّ كلّ شخص أعطاه 1 / 4 ولا يحتمل الكذب أو الخلاف.

وهكذا الحال فيما إذا كان عليه لكلّ شخص من هؤلاء الأربعة ( 1 / 4 ) فإنّه يكون مدينا (1).

وأمّا قاعدة ضرب الكسور فهي تكون فيما إذا كان هناك احتمال للخلاف والكذب ، ولكن كانت احتمالات الصدق لها مبرّر واحد ، بينما احتمالات الكذب لها مبرّرات عديدة ومختلفة.

كما هو الحال في مقامنا ، فإنّ مبرّر صدق علّيّة الأسبرين للحادثة الأخرى التي اقترنت بها واحد ؛ لأنّ الأسبرين موجود في كلّ التجارب ، بينما احتمال علّيّة غيره لها مبرّرات كثيرة ، فتارة يكون هو الشاي وأخرى هو النعناع وهكذا ، واحتمال علّيّة هذه الأمور الأخرى كلّها بعيد ؛ لأنّ العلّة إذا وجدت فلا يتخلّف عنها المعلول أبدا ، واحتمال علّيّة شيء آخر صادف وجوده في كلّ هذه التجارب غير الأسبرين بعيد جدّا أيضا ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر. وسيأتي مثل ذلك في التواتر والإجماع أيضا.

ونسمّي كلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس قياس منطقي باليقين الموضوعي الاستنباطي ، وكلّ يقين موضوعي بقضيّة مستنتجة على أساس تراكم القرائن الاحتماليّة باليقين الموضوعي الاستقرائي.

وهكذا ظهر أنّ اليقين على قسمين : قياسي واستقرائي.

فاليقين المعتمد على القياس يكون مستنتجا من قياس منطقي ويكون يقينا استنباطيّا ، أي أنّ القضيّة المستنبطة والتي حصل اليقين بها موجودة ضمن إحدى القضيّتين أو مستلزمة لإحدى القضيّتين.

ص: 126

واليقين المعتمد على الاستقراء يكون مستنتجا من تراكم القيم الاحتماليّة على أساس استقراء وتتبّع عدّة تجارب ، ولا تكون القضيّة المراد استنتاجها واليقين بها متضمّنة أو مستلزمة لإحدى القضيّتين ، بل هي أجنبيّة عنها ، وإنّما تحصل من مجموع التجارب.

والنتيجة في القياس مستبطنة دائما في المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر منها أو مساوية لها ، والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنة في المقدّمات التي تكوّن منها الاستقراء ؛ لأنّها أكبر وأوسع من مقدّماتها.

والفارق بين هذين النوعين من اليقين الموضوعي الاستنتاجي هو : أنّ النتيجة في اليقين الموضوعي الاستنباطي المعتمد على القياس تكون دائما مستبطنة ضمن المقدّمات ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية.

فمثلا قولنا : ( زيد إنسان ، وكلّ إنسان ناطق ، إذا زيد ناطق ) فهنا القضيّة المستنتجة وهي ( زيد ناطق ) موجودة ضمن إحدى المقدّمتين وهي ( كلّ إنسان ناطق ) ؛ لأنّ زيد مصداق من الإنسان فهو أصغر منه.

وقولنا : ( كلّ إنسان ناطق ، وكلّ ناطق حيوان ، إذا كلّ إنسان حيوان ) تكون النتيجة المستنتجة وهي ( كلّ إنسان حيوان ) مساوية لإحدى المقدّمتين وهي ( كلّ ناطق حيوان ) ؛ لأنّ الناطق والإنسان متساويان.

فدائما في اليقين الاستنباطي القياسي النتيجة فيه موجودة في إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها إمّا أصغر أو مساوية لها. وأمّا النتيجة في اليقين الاستنتاجي الاستقرائي فهي ليست موجودة ضمن إحدى المقدّمتين ؛ لأنّها أكبر وأوسع وأعمّ منهما ، وهما أصغر منها ، والوجه في ذلك أنّ الاستقراء والتتبّع إنّما هو للقضايا الجزئيّة ومن هذه الجزئيّات يستنتج قاعدة كلّيّة.

والطرق التي تذكر عادة لإثبات الدليل الشرعي وإحرازه وجدانا من التواتر والإجماع والسيرة كلّها من وسائل اليقين الموضوعي الاستقرائي ، كما سنرى إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ كلّ الطرق والوسائل التي تذكر عادة في علم الأصول لإثبات وإحراز الدليل الشرعي وجدانا ، وأنّه صادر من الشارع يقينا كلّها تعتمد على اليقين

ص: 127

الموضوعي الاستقرائي وبالتالي على حساب الاحتمالات ، سواء في ذلك الإجماع أو التواتر أو السيرة العقلائيّة التي تثبت الحكم الشرعي الكلّي لا التي تحقّق الصغرى ، ولا سيرة المتشرّعة فإنّهما خارجان كما سيأتي ؛ خلافا للمشهور حيث إنّ هذه الوسائل عندهم من وسائل اليقين الموضوعي القياسي ، وسيأتي عدم تماميّة مدّعاهم.

* * *

ص: 128

التواتر
اشارة

ص: 129

ص: 130

التواتر

الخبر المتواتر من وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي.

وقد عرّف في المنطق : بأنّه إخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبموجب هذا التعريف يمكن أن نستخلص أنّ المنطق يفترض أن القضيّة المتواترة ، مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى ، وهي تواجد عدد كبير من المخبرين. والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ كلّ عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.

الخبر المتواتر من جملة وسائل الإثبات والإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذا المقدار ممّا لا شكّ فيه ، فإنّ التواتر يفيد اليقين الموضوعي الاستنتاجي. إلا أنّ الخلاف هو : في أنّ هذا اليقين هل هو من قسم اليقين الموضوعي الاستنباطي أم هو من نوع اليقين الموضوعي الاستقرائي؟

ذهب المشهور إلى الأوّل حيث عرّفوا التواتر تبعا للمنطق الأرسطي بأنّه : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب ) ، وهذا التعريف للتواتر مستنتج من مجموع قضيّتين :

1 - الصغرى : وهي وجود عدد كبير من الأخبار أو المخبرين.

2 - الكبرى : وهي أنّ إخبار هذه الجماعة الكبيرة من الأخبار أو المخبرين يمتنع اجتماعها على الكذب.

والنتيجة : هي أنّ هذه الأخبار أو المخبرين التي تبلغ من الكثرة هذا الحدّ يمتنع اجتماعها على الكذب فتكون صادقة ، وبالتالي يحصل اليقين منها.

أمّا الصغرى فلا كلام لنا فيها ؛ لأنّها ثابتة وجدانا بالحسّ حيث إنّ هذه الإخبارات موجودة فعلا.

ص: 131

وإنّما الكلام في الكبرى التي اعتمد عليها المشهور ، فنقول :

وهذه الكبرى يفترض المنطق أنّها عقليّة ، ومن القضايا الأوّليّة في العقل ، ومن هنا عدّ المتواترات في القضايا الضروريّة الستّ التي تنتهي إليها كلّ قضايا البرهان.

ذهب المشهور تبعا للمنطق الأرسطي أنّ هذه الكبرى ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقها على الكذب ) من القضايا العقليّة البديهيّة والضروريّة والأوّليّة التي لا تحتاج إلى البرهان والدليل ولا إلى إعمال الفكر والنظر. ولذلك عدّ المنطق الأرسطي المتواترات من جملة القضايا الستّ الأوّليّة التي يعتمد عليها كلّ برهان ودليل استنتاجي. وهذه القضايا الستّ هي : الأوّليّات والمشاهدات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات والفطريّات.

فكلّ برهان ودليل لا بدّ أن يرجع إلى إحدى هذه القضايا ؛ ليكون الاستدلال به صحيحا ومنتجا لقضيّة يقينيّة موضوعيّة على أساس القياس الاستنباطي.

وهذه القضايا نفسها لا تحتاج إلى دليل وبرهان ، بل العقل البشري بفطرته التي خلق عليها يؤمن ويصدّق بهذه القضايا بمجرّد الالتفات إليها ، من دون حاجة إلى إعمال الفكر والنظر.

وعليه ، فكبرى القياس لا بدّ أن تعود إلى إحدى هذه القضايا الستّ ؛ ليكون القياس الاستنباطي منتجا لليقين ، وإلا فلا يكون منتجا إلا الظنّ فقط.

وهذا التفسير المنطقي للقضيّة المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه للقضيّة التجريبيّة التي هي إحدى تلك القضايا الستّ ، فإنّه يرى أنّ علّيّة الحادثة الأولى للحادثة الثانية ( التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ) مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما بمثابة الصغرى وهي أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى في عدد كبير من المرّات ، والأخرى بمثابة الكبرى وهي أنّ الاتّفاق لا يكون دائميّا.

وتفسير المشهور للقضيّة المتواترة يشبه تماما تفسيرهم للقضيّة التجريبيّة في المنطق التي هي إحدى القضايا الستّ الأوّليّة ، فالمنطق يرى أنّ استنتاج العلّيّة من اقتران الحادثتين معا مرّات عديدة معتمد على مقدّمتين :

ص: 132

1 - الصغرى ، وهي أنّ الاقتران للحادثة الثانية بالأولى كان في مرّات عديدة.

2 - الكبرى ، وهي أنّ الصدفة والاتّفاق لا يكون دائميّا.

فالنتيجة هي أنّ هذا الاقتران المتكرّر للحادثة الثانية بالأولى الثابت بالتجربة ليست اتّفاقا وصدفة ، بل هو بنحو العلّيّة.

والصغرى ثابتة وجدانا بالحسّ ؛ لأنّ هذه الاقترانات موجودة فعلا أمامنا بالتجربة.

وأمّا الكبرى فيفترض المنطق الأرسطي أنّها بديهيّة وأوّليّة يؤمن بها العقل بمجرّد تصوّرها ولا نحتاج إلى دليل وبرهان ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا.

وبكلمة أخرى :

بمعنى أنّه يمتنع أن يكون هذا الاقتران في كلّ هذه المرّات صدفة ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة ، وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضيّة عقليّة أوّليّة ، ولا يمكن في رأيه أن تكون ثابتة بالتجربة ؛ لأنّها تشكّل الكبرى لإثبات كلّ قضيّة تجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هي بنفسها قضيّة تجريبيّة؟!

فالمنطق الأرسطي يؤمن بأنّ الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا فإذا تكرّرت فهي ليست صدفة ، بل تكون إحدى الحادثتين علّة للأخرى ؛ لأنّ الصدفة لا تتكرّر إلى هذه الدرجة ، فالاستمرار والدوام في التكرّر بنفسه يدلّ على أنّه ليس صدفة ، ولا يحتاج إلى إعمال فكر ونظر وبرهان ، ولذلك اعتبرها قضيّة بديهيّة.

ولا يمكن أن تكون هذه الكبرى وهي : ( أنّ المرّات الكثيرة جدّا يمتنع أن تكون صدفة واتّفاقا ) قضيّة تجريبيّة يقام عليها البرهان والدليل ، وإلا لامتنع الوصول إلى قضيّة يقينيّة من التجربة ؛ إذ سوف تكون كلّ تجربة بحاجة إلى تجربة أخرى ، وكلّ قضيّة لا بدّ من إجراء التجربة عليها مجدّدا وهذا يؤدّي عندهم إلى الدور أو التسلسل الممتنع.

ولذلك قالوا باستحالة كون هذه الكبرى ثابتة بالتجربة وبالبرهان ، وإنّما العقل يؤمن ويصدّق بها إيمانا أوّليّا ، ولذلك تشكّل الكبرى والأساس الذي يعتمد عليه القياس الاستنباطي في كلّ القضايا التجريبيّة ، فكيف يعقل أن تكون هذه الكبرى تجريبيّة أيضا وثابتة بالدليل والبرهان؟!

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مردّها إلى

ص: 133

نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ؛ لأنّ كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصيّة معيّنة دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبرين معناه افتراض أنّ مصلحة المخبر الأوّل في الإخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ، والمصلحتان معا اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه وهكذا ، على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضا تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضيّة التجريبيّة والقضيّة المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما واعتقد بأنّ القضيّة المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها.

ثمّ إنّنا إذا لاحظنا الكبرى في القضيّة التجريبيّة وهي : ( أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّر دائما ) ، والكبرى في القضيّة المتواترة : ( إخبار جماعة كثيرة يمتنع اتّفاقهم على الكذب ) ، وجدنا أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مرجعها إلى الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة التجريبيّة ، أي أنّها تعتمد على أنّ الاتّفاق والصدفة لا يتكرّران دائما.

وبيان ذلك : أنّ الإخبارات الكثيرة التي حصلنا عليها بالحسّ والوجدان من الممكن أن تكون صادقة ، ومن المحتمل أن تكون كاذبة كلّها ، ثمّ إنّ مبرّرات صدقها جميعا واحد وهو أن يكون مضمون هذه الإخبارات قد صدر فعلا من المتكلّم ، ولهذا فإنّ كثرة الإخبار عنه صادقة ولها مبرّر معقول.

وأمّا مبرّرات كذبها فهي مختلفة كثيرا وافتراض وحدتها معناه أنّ كذب المخبر الأوّل معناه وجود مصلحة له في الكذب والإخفاء للواقع ، والحقيقة هي التي دفعته إلى الكذب وتغيير الواقع وهذا معقول في نفسه ، ولكن مصلحة الثاني في الكذب إن لوحظت في نفسها فهي كالمصلحة الأولى ، ولكن اقتران المصلحتين معا في الكذب فى شيء واحد احتمال وإن كان معقولا ولكنّه يعني أنّ المصلحتين قد اقترنتا صدفة للكذب في هذا الخبر بالخصوص.

فإذا كان هناك أخبار كثيرة جدّا فهذا يعني اقتران المصلحة في الكذب والإخفاء في كلّ خبر منها ببقيّة الأخبار لمجرّد الصدفة والاتّفاق ؛ لأنّ المفروض أنّ هؤلاء المخبرين

ص: 134

من أصناف شتّى من الناس ومن مناطق مختلفة ومن مذاهب دينيّة وسياسيّة وطبقات اجتماعيّة وإلى غير ذلك ، فكون اتّفاق الجميع على مصلحة الكذب والواقع في خصوص هذا الخبر صدفة واتّفاقا من دون أن يجمعهم على الكذب أمر واحد بعيد في نفسه ، بل غير معقول ؛ لأنّه يعني أنّ الصدفة تتكرّر دائما أو غالبا أو كثيرا جدّا.

فيكون ذاك المبرّر وهو كون المتكلّم قد صدر منه هذا الكلام هو العلّة التي تبرّر اتّفاقهم على الإخبار ، لا الكذب والمصلحة في الإخفاء ، رغم اختلافهم الشديد من جميع النواحي والجهات الذي يقتضي اقتران هذه المصالح المختلفة معا صدفة واتّفاقا.

وبهذا ظهر أنّ المنطق الأرسطي يؤمن بالقضيّة المتواترة كإيمانه بالقضيّة التجريبيّة بأنّها تعتمد على أحد الأقيسة المنطقيّة المؤلّف من المقدّمتين المشار إليهما سابقا.

ويؤمن أيضا بأنّ القضيّة المستنتجة التي حصل اليقين بها هي قضيّة مستبطنة في المقدّمتين : إمّا لأنّها أصغر ، أو لأنّها مساوية. وبالتالي ليست أكبر من المقدّمات.

هذا خلاصة رأي المشهور والمنطق الأرسطي.

ولكن الصحيح أنّ اليقين بالقضيّة التجريبيّة والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وأنّ الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتماليّة الكثيرة في مصبّ واحد.

فإخبار كلّ مخبر قرينة احتماليّة من المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتماليّة على العلّيّة بينهما ، ومن المحتمل بطلانها - أي القرينة - لإمكان افتراض علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنّها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة ، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتماليّة وازداد احتمال القضيّة المتواترة أو التجريبيّة ، وتناقص احتمال نقيضها حتّى يصبح قريبا من الصفر جدّا ، فيزول تلقائيّا لضآلته الشديدة.

والصحيح أنّ اليقين المستنتج من القضيّتين المتواترة والتجريبيّة عبارة عن يقين موضوعي استقرائي مبني على مبدأ حساب الاحتمالات الذي يبتني على أنّ تراكم القيمة الاحتماليّة الكثيرة لها مصبّ واحد فقط.

وتوضيح ذلك : أمّا في القضيّة التجريبيّة فقد تقدّم أنّ اقتران الحادثة الثانية بالأولى يشكّل قرينة احتماليّة على أنّ هذا الاقتران بينهما إنّما هو لأجل أنّ الحادثة

ص: 135

الأولى علّة للحادثة الثانية ، ولكن يحتمل في الوقت نفسه ألا تكون إحداهما علّة للأخرى ، بل هناك علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة كلّما اقترنت الحادثة الثانية بالأولى. وقلنا : إنّ تكرّر اقتران الحادثة الأولى والثانية يشكّل قيمة احتماليّة كبيرة لفرضيّة أنّ إحداهما علّة للثانية ، وفي الوقت نفسه تتضاءل وتتناقص القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة كانت توجد صدفة عند كلّ اقتران بين الحادثتين ، وكلّما كان التكرار كثيرا جدّا ، وكلّما ازدادت التجارب كانت القيمة الاحتماليّة لافتراض العلّيّة أكبر وكانت القيمة الاحتماليّة لافتراض علّة أخرى غير منظورة أضعف ، حتّى تصل القيمة الاحتماليّة لفرض العلّة الأخرى غير المنظورة إلى درجة قريبة من الصفر وتزول تلقائيّا وعمليّا ؛ لأنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهكذا قيم احتماليّة ضئيلة جدّا.

وهذا الكلام ذاته يقال في القضايا المتواترة ، فإنّ كلّ إخبار من الإخبارات يشكل قيمة احتماليّة لصدق إخباره وكون المتكلّم الذي يحكي عنه بأنّه قال هذا الكلام قد صدر منه هذا الكلام واقعا وحقيقة.

ولكن يحتمل أيضا أن يكون هذا الإخبار مخالفا للواقع ، وأنّ المخبر قد كذب وأخفى الواقع وغيّره وبدّله لمصلحة دعته إلى ذلك ، فإذا جاء إخبار ثان بنفس مضمون الخبر الأوّل كان ذلك يشكّل قيمة احتماليّة لفرضيّة صدق الخبر وصدور الكلام من المتكلّم أزيد ، وكان احتمال الكذب والخلاف أضعف ؛ وذلك لأنّ مبرّر الصدق في الخبرين واحد ، وهو صدور الكلام من المتكلّم واقعا ، ولذلك أخبر عنه الأوّل والثاني ، بينما مبرّر الكذب في الخبرين متعدّد ؛ لأنّ معناه أنّ مصلحة الأوّل في الكذب قد اقترنت صدفة واتّفاقا مع مصلحة الثاني في الكذب مع اختلافهما في الأهواء والمذاهب والاتّجاهات والأفكار والاعتقادات والأماكن ونحو ذلك.

فإذا تكرّرت الإخبارات كثيرا ازدادت القيمة الاحتماليّة للصدق ؛ لأنّ مبرّرها واحد ، بينما تتضاءل القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ لأنّ مبرّرات الكذب متعدّدة واقترانها فيما بينها ليست إلا صدفة واتّفاقا ، وكلّما كان هناك مبرّرات متعدّدة ومختلفة وغير متلازمة ومترابطة فيما بينها نطبّق قانون الضرب ممّا يؤدّي إلى تضاؤل القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى درجة ضئيلة جدّا قريبة من الصفر.

ص: 136

فمثلا إذا كان هناك إخباران عن قضيّة ما فهنا توجد قيمة احتماليّة لكلّ من الصدق والكذب موزّعة على أساس رقم اليقين (1) بالنحو التالي :

ففي الفرض المذكور يوجد لدينا علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف في هذين الخبرين كما تقدّم في القضيّة التجريبيّة ، بحيث تكون القيمة الاحتماليّة لكلّ طرف هي 1 / 4 ، وهذه القيمة سوف تكون لصالح فرضيّة الصدق في ثلاثة أطراف أي 3 / 4 ويكون 1 / 4 في الطرف الرابع موزّعا بالتساوي بين فرضيّة الصدق وفرضية الكذب ، فيكون حاصل القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق 3 / 4 نصف الربع أي 1 / 8 7 / 8 ويقابلها قيمة احتماليّة بدرجة 1 / 8 لفرضيّة الكذب.

فإذا كانت الإخبارات ثلاثة ازدادت أطراف العلم الاجمالي وتوزّع رقم اليقين عليها بالتساوي ويكون لصالح فرضيّة الصدق 7 / 8+ نصف الثمن أي 1 / 16 من مجموع القيمة الاحتماليّة في الأطراف ، وهو عبارة عن 7 / 8+ 1 / 16 14+ 1 / 16 15 / 16 ، ويقابلها 1 / 16 لصالح فرضيّة الكذب ، وهكذا الحال كلّما تعدّدت الإخبارات كلّما ازدادت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق وتناقصت القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الكذب إلى أن تصل إلى درجة قريبة من الصفر فتزول.

ونفس الكبرى التي افترضها المنطق القديم ليست في الحقيقة إلا قضيّة تجريبيّة أيضا ، ومن هنا نجد أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخل في تقوية القرائن الاحتماليّة نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينة احتماليّة أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتماليّة أسرع.

وبهذا ظهر أنّ نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان التجريبيّة والمتواترة التي افترضها المنطق الأرسطي القديم وسار عليها المشهور هي بنفسها قضيّة تجريبيّة وليست بديهيّة ، بمعنى أنّ ( الصدفة لا تتكرّر دائما أو غالبا ) التي هي الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة القائلة : ( بأنّ اجتماع عدد كبير من المخبرين على الكذب ممتنع ) والقضيّة التجريبيّة القائلة : ( بأنّ الصدفة والاتّفاق لا تتكرّران ) ، ليست قضيّة بديهيّة أوّليّة ، بل هي قضيّة استدلاليّة تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر وهي مستنتجة من خلال التجربة والاستقراء القائم على مبدأ حساب الاحتمالات ، وهذا معناه أنّها أكبر من مقدّماتها دائما.

ص: 137

ويدلّ على ذلك : أنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبيّة يرتبط بكلّ ما له دخالة في تقوية وازدياد القيمة الاحتماليّة لفرضيّة الصدق والعلّيّة ، وكلّ ما له دخالة في تضعيف القيم الاحتماليّة لفرضيّة الكذب والعلّة الأخرى غير المنظورة.

وبتعبير آخر : أنّه كلّما كانت الظروف المختلفة في شتّى النواحي والميادين مختلفة بين المخبرين كلّما كان احتمال الصدق أقوى وأوضح ، وكلّما كانت القيمة الاحتماليّة أسرع ازديادا لصالح فرضيّة الصدق ؛ لأنّ الاختلاف في تلك الأمور سواء بالخبر والقضيّة المتواترة يقوّي عدم الكذب ؛ إذ يصعب الاتّفاق على الكذب مع هذا الاختلاف والبون الشاسع بين المخبرين.

وهكذا الحال بالنسبة للقضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان الاقتران بين الحادثتين موجودا رغم اختلاف الظروف المكانيّة والزمانيّة والمناخيّة كان معنى ذلك أنّ افتراض العلّيّة أقوى وأوضح من افتراض علّة أخرى غير منظورة.

وهكذا أيضا فيما إذا كانت الظروف في القضيّتين قريبة من بعضها وكان الاختلاف قليلا ، فإنّ القيمة الاحتماليّة لافتراض الصدق والعلّيّة سوف يكون أبطأ وأقلّ ، ويحتاج إلى إخبارات واقترانات عديدة لكي تترسّخ فكرة الصدق والعلّيّة.

وهذا الأمر واضح وجدانا وهو منبّه أيضا على بطلان ما يفترضه المنطق الأرسطي من كون هذه الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة والتجريبيّة بديهيّة وأوّليّة ؛ إذ فرضها أوّليّة معناه أنّ الظروف العوامل التي ذكرناها لن يكون لها تأثير قوّة وضعفا أو وضوحا وغموضا في افتراض الصدق والكذب ؛ لأنّ القضايا البديهيّة لا تتأثّر ولا تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة.

فمثلا الكلّ أكبر من الجزء ، أو النقيضان لا يجتمعان لا يختلف فيها أحد من الناس أبدا مهما اختلفت ظروفهما وأهوائهما وأمكنتهما بشرط سلامة الحواسّ طبعا. فعدم الاختلاف في القضايا البديهيّة والاختلاف في هذه الكبرى دليل على أنّها ليست بديهيّة وأوّليّة ، أو على الأقلّ شاهد وجداني على ذلك.

وعلى هذا الأساس نلاحظ أنّ مفردات التواتر إذا كانت إخبارات يبعد في كلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصيّة تدعو إلى الإخبار بصورة معيّنة - إمّا لوثاقة المخبر أو لظروف خارجيّة - حصل اليقين بسببها بصورة أسرع. وكذلك

ص: 138

الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ، فإنّه كلّما كان احتمال وجود علّة غير منظورة أضعف كانت الدلالة الاحتماليّة لكلّ اقتران على العلّيّة أقوى ، وبالتالي يكون اليقين بالعلّيّة أسرع وأرسخ.

ومن هنا يظهر أنّه كلّما كانت الإخبارات في القضيّة المتواترة إخبارات يبعد في كلّ واحد منها الكذب والمصلحة في الإخفاء والتزوير كانت القيمة الاحتماليّة للصدق أقوى وأرسخ ، وحصل اليقين بصورة أسرع ممّا لو كانت الإخبارات لا يبعد فيها الكذب ، أو كان احتمال الكذب ليس بعيدا بتلك المثابة فإنّ حصول اليقين سوف يكون بطيئا ومحتاجا إلى مفردات أكثر من الإخبار.

فمثلا وثاقة الراوي وعدالته تكون القيمة الاحتماليّة لخبره أكبر من القيمة الاحتماليّة لخبر المجهول أو الضعيف أو الأقلّ وثاقة وعدالة ، وكذلك الظروف المحيطة بالراوي أو الرواية أو القضيّة المخبر بها من خوف وتقية ، أو كونها ممّا ينتظر فيها الإخبار والنصّ أو عدم ذلك ، وكذلك الظروف السلبيّة والاجتماعيّة ونحو ذلك فكلّها تؤثّر سلبا أو إيجابا على القيمة الاحتماليّة للصدق ، وتجعل اليقين يختلف سرعة وبطءا.

ونفس هذا الكلام يجري في القضيّة التجريبيّة ، فإنّه كلّما كان احتمال العلّيّة أكبر وأقوى وأوضح نتيجة الاقترانات الكثيرة كان حصول اليقين بعلّيّة الحادثة الأولى للثانية أقوى وأسرع ممّا لو كان احتمال العلّيّة أضعف أو أبعد من احتمال العلّة الأخرى غير المنظورة.

فإنّ هذا الاختلاف والتفاوت يؤثّر على مفردات القضيّة التجريبيّة والمتواترة سلبا وإيجابا ، فنحتاج مثلا إلى عدد غير كبير فيما إذا كانت القيمة الاحتماليّة للصدق والعلّيّة أقوى وأوضح ، بينما نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا ممّا إذا لم تكن قويّة وواضحة ، وقوّتها وضعفها راجع إلى الظروف المحيطة بالقضيّتين ، والوجه في هذا الاختلاف هو :

وليس ذلك إلا لأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيّات ناتج عن تراكم القرائن الاحتماليّة وتجمّع قيمها الاحتماليّة المتعدّدة في مصبّ واحد ، وليس مشتقّا من قضيّة عقليّة أوّليّة كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق.

والوجه في هذا الاختلاف راجع إلى وحدة المصبّ وتعدّده ، فكلّما كان المصبّ

ص: 139

واحدا والمبرّر للصدق والعلّيّة واحدا كانت القرائن والقيم الاحتماليّة أكبر وأسرع وأوضح ممّا لو كان المصبّ متعدّدا والمبرّر مختلفا ، فإنّ القيم والقرائن الاحتماليّة تكون أقلّ وأضعف. وهذا الاختلاف شاهد آخر على أنّ الكبرى التي تعتمد عليها القضيّتان المتواترة والتجريبيّة ليست إلا قضيّة مستنتجة من تراكم القيم الاحتماليّة القائم على مبدأ حساب الاحتمال والاستقراء والتتبّع للمفردات الجزئيّة.

بخلاف مذهب المشهور المعتمد على المنطق الأرسطي القديم القائل بأنّ هذه الكبرى أوّليّة وبديهيّة ومستنتجة من القياس المنطقي الاستنباطي ، فإنّه على هذا المذهب يجب ألا يحصل مثل هذا الاختلاف والتفاوت ؛ إذ القضايا البديهيّة يصدّق بها العقل البشري في مختلف الظروف والأمكنة والعصور والأشخاص مع سلامة حواسّهم.

فالاختلاف والتفاوت سرعة وبطأ يؤكّد ويشهد أنّ هذه الكبرى مستنتجة على أساس الاستقراء لا على أساس القياس. وبالتالي تكون أكبر من مقدّماتها لا أصغر ولا مساوية.

الضابط للتواتر :

والضابط في التواتر الكثرة العدديّة ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضيّة المتواترة ؛ لأنّ ذلك يتأثّر بعوامل موضوعيّة مختلفة وعوامل ذاتيّة أيضا.

تقدّم أنّ القضيّة المتواترة يحصل اليقين بها على أساس حساب الاحتمالات نتيجة تجمّع القيم الاحتماليّة من المفردات الكثيرة ، وهذا معناه أنّ الكثرة العدديّة هي السرّ والنكتة والملاك في التواتر ، فكلّما كان هناك مفردات أكثر كان حصول اليقين أقوى وأشدّ وأرسخ.

إلا أنّ هذه الكثرة العدديّة لا تحديد لها برقم معيّن ، فلا يوجد تحديد دقيق لهذه الكثرة ، وما هو العدد الموجب لحصول اليقين ؛ وذلك لأنّ حصول اليقين يرتبط بالقيمة الاحتماليّة لكلّ خبر ، فقد تكون القيمة الاحتماليّة لخبر ضئيلة ، وتكون في آخر أكبر ، وهكذا.

وهذا التفاوت والاختلاف يرجع إلى عوامل عديدة بعضها عوامل موضوعيّة ترتبط

ص: 140

بنفس القضيّة المتواترة من حيث المخبر ونوعيّة الخبر والظروف وما إلى ذلك ، وبعضها عوامل ذاتيّة نفسيّة ترتبط بالسامع ومدى وثاقته واطمئنانه بالراوي أو القضيّة وما إلى ذلك.

وما قيل : من أنّ العدد المطلوب في التواتر 313 أو 12 أو 70 أو أكثر من 4 وما إلى ذلك ليست إلا تحديدات وهميّة وخياليّة ؛ بناء على ما ذكرناه من المبنى الصحيح لحصول اليقين من القضيّة المتواترة.

نعم ، لعلّ منشأ هذه التحديدات هو المنطق الأرسطي الذي اعتمد على أنّ الكبرى في القضيّة المتواترة بديهيّة ، وهي أنّ اجتماع عدد كبير على الكذب ممتنع ، فإنّهم يسلّمون بهذه الكبرى فبحثوا في الصغرى فقط ، وهو مقدار هذا العدد الذي يمتنع تواطؤه على الكذب.

والحاصل : أنّه يوجد عوامل موضوعيّة وعوامل ذاتيّة تؤثّر على القيمة الاحتماليّة ، وسوف نتحدّث عنها بالتفصيل :

أمّا العوامل الموضوعيّة :

فمنها : نوعيّة الشهود من حيث الوثاقة والنباهة.

أمّا العوامل الموضوعيّة فهي العوامل المرتبطة بنفس الخبر من حيث المضمون والسند ، وهي على أنحاء :

الأوّل : نوعيّة الشهود الذين أخبروا بمضمون الحادثة التي سمعوها أو شاهدوها ، فإنّه إذا شهد الثقة النبيه الفطن الذي يعرف بذكائه وأنّه لا ينسى وأنّه ثقة كبير لا يكذب فإنّ القيمة الاحتماليّة لصدق خبره سوف تكون كبيرة ، وأكبر ممّا لو كان هذا المخبر ضعيف الحال معروف بالنسيان وعدم الفطنة ، أو أنّه يكذب في بعض الأحيان ، أو أنّه مجهول الحال لا يعرف عنه شيء من هذه النواحي ، فإنّ ذلك يوجب كون القيمة الاحتماليّة لصدق خبره ضعيفة وضئيلة.

والثمرة العمليّة بين هذه الحالات أنّه إذا كان ثقة فطنا فإنّ حصول اليقين بالقضيّة المتواترة سوف يكون أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بينما في غير هذه الحالة تحتاج إلى مفردات أكثر ؛ لأنّ القيم الاحتماليّة تكون ضئيلة وضعيفة ، ولذلك لا يحصل اليقين منه بسرعة ، بل يكون حصوله بطيئا ويحتاج إلى عدد أكبر من سابقه.

ص: 141

ومنها : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ؛ إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعا في كون هذا الإخبار الخاصّ ذا مصلحة شخصيّة داعية إليه بالنسبة إلى جميع أولئك المخبرين - على ما بينهم من اختلاف في الظروف - أبعد بحساب الاحتمال.

الثاني : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ، فإنّه إذا كانت المسالك السياسيّة والدينيّة والمذهبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والعقائديّة مختلفة بين الشهود الذين يخبرون بالقضيّة فإنّ درجة احتمال صدقهم سوف تكون أكبر بكثير ممّا لو كانوا متّفقين في بعض هذه الأمور أو في أكثرها.

والوجه في ذلك : أنّ مبرّر صدقهم مع كونهم مختلفين في هذه المسالك والظروف يكون واحدا ، وهو أنّ هذه القضيّة قد صدرت فعلا وواقعا ، بينما يكون مبرّر كذبهم متعدّدا ؛ إذ معناه افتراض اقتران مصالحهم صدفة ، وهذا بعيد بحساب الاحتمال ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق أكبر وحصول اليقين أسرع.

وأمّا لو كانت هذه المسالك والظروف متقاربة أو متشابهة أو متّفقة في أكثرها أو في جلّها فإنّ مبرّر الكذب حينئذ لن يكون متعدّدا ؛ إذ المفروض أنّهم متّفقون في الأهواء والمصالح ، فيكون هناك مصلحة واحدة مشتركة هي التي دعتهم للكذب ، مع احتمال صدقهم أيضا بأن تكون قد صدرت هذه الواقعة فعلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وضعيفة أو مساوية لاحتمال الكذب ، وعليه نحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين بطيئا ممّا كان عليه سابقا (1).

ومنها : نوعيّة القضيّة المتواترة ، وكونها مألوفة أو غريبة ، لأنّ غرابتها في نفسها تشكّل عاملا عكسيّا.

الثالث : نوع القضيّة ، فإنّ القضيّة المتواترة التي يخبر بها إذا كانت مألوفة بحيث إنّه من المتوقّع صدورها ؛ لأنّها كانت مورد حاجة أو موضع ابتلاء للناس ، فإنّ درجة التصديق بها سوف تكون أسرع وأكبر ممّا لو كانت هذه القضيّة غريبة وغير معتادة

ص: 142


1- وهذا العامل قد التفت إليه بعض من القدماء فاشترط في التواتر أن يكون المخبرون من بلدان متعدّدة أو من أديان مختلفة ، وليس ذلك إلا لأنّهم أحسّوا بفطرتهم ووجدانهم أنّ هذا الاختلاف يقوّي اليقين أكثر ويجعله أرسخ ممّا لو كانوا متّفقين في المسكن والمذهب.

ولا يتوقّع صدورها ، فإنّ درجة احتمال الصدق تكون ضئيلة وحصول اليقين يكون أبطأ. وبالتالي سوف تكون درجة احتمال الكذب وعدم الصدور أقوى ، ولذلك نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا وإلى عدد أكبر بكثير من الحالة السابقة لكي يترسّخ اليقين في النفوس.

ومنها : درجة الاطّلاع على الظروف الخاصّة لكلّ شاهد بالقدر الذي يبعّد أو يقرّب بحساب الاحتمال افتراض مصلحة شخصيّة في الإخبار.

الرابع : اطّلاع الشاهد المخبر على هذه القضيّة ومدى تصديقه وإيمانه بما يخبر به ، فإنّه إذا كان قد شاهد القضيّة أو سمعها فإنّ درجة إيمانه وتصديقه بالقضيّة يقينيّة ؛ لأنّها معتمدة على الحسّ ، ولذلك فإنّ نقله لها وإخباره عنها سوف يشكّل قيمة احتماليّة كبرى للصدق ، وبالتالي يبعد كونه ذا مصلحة شخصيّة دعته للإخبار ، بينما إذا كان إيمانه وتصديقه لما يخبر به لا يصل إلى درجة اليقين ، بل كان يظنّ بذلك نتيجة اعتماده على الحدس والاستنتاج ، فإنّ إخباره لن يكون ذا قيمة احتماليّة كبيرة لصالح الصدق والوقوع ؛ إذ يحتمل كبيرا خطؤه في تحليله واستنتاجه ؛ ولذلك يكون حصول اليقين أسرع وأقوى وأرسخ في النحو الأوّل دونه في النحو الثاني ، بل تحتاج إلى مفردات عديدة وكثيرة جدّا.

وبتعبير آخر : إنّ هذا المخبر إذا كان متأثّرا بظروف خاصّة تحيط به دعته إلى الإخبار عن القضيّة دون أن يكون قد رآها أو سمعها وإنّما استنتجها بحدسه فقط ، فسوف تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب أو لوجود مصلحة دعته لهذا الإخبار قويّة وأكبر ، بخلاف ما إذا لم يكن متأثّرا بأي نحو من العوامل والظروف الخاصّة ، بل كان يخبر مجرّدا عن انطباعاته وتصوّراته ، فإنّ اليقين يكون أسرع حصولا وأرسخ ولا نحتاج إلى مفردات كثيرة.

ومنها : درجة وضوح المدرك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيّة حسيّة مباشرة كنزول المطر ، وقضيّة ليست حسيّة ، وإنّما لها مظاهر حسيّة كالعدالة ؛ وذلك لأنّ نسبة الخطأ في المجال الأوّل أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الأوّل أسرع.

الخامس : وضوح المدرك المدّعى للشهود أو عدمه :

ص: 143

فكلّما كانت القضيّة المخبر بها والتي يشهد عليها قضيّة حسيّة مباشرة يمكن إدراكها بالحواسّ ، كنزول المطر أو حدوث الزلزلة ونحو ذلك كانت درجة الصدق والقيمة الاحتماليّة وحصول اليقين أقوى وأسرع وأرسخ ، بينما إذا كانت القضيّة المشهود بها قضيّة حدسيّة استنتاجيّة من خلال بعض المظاهر الحسيّة كالإخبار عن العدالة لشخص من خلال كونه يصلّي ويصوم مثلا ، فإنّ درجة احتمال الصدق وحصول اليقين والقيمة الاحتماليّة تكون أقلّ وأبطأ وتحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا.

والفرق بين هذين النحوين تابع للملاك الموجود فيهما : فإنّه إذا كانت القضيّة حسيّة كان احتمال الخطأ والاشتباه والغفلة والنسيان وعدم التذكّر بعيد جدّا في نفسه ؛ لأنّ الأصل أن يكون الإنسان المشاهد للحادثة سليم الحواسّ وملتفتا وذاكرا لكلّ ما يجري أمامه ، وأنّ ما ينقله هو كلّ ما رآه أو سمعه دون زيادة أو نقصان ، ولذلك يكون التصديق أقوى وأسرع وأرسخ.

وأمّا إذا كانت القضيّة حدسيّة فإنّ احتمال الخطأ والغفلة والاشتباه في الاستنتاج والحدس الذي اعتقد به الشخص المخبر ليس بعيدا في نفسه ، وذلك لكثرة الخطأ في الاستنتاجات والاعتقادات الظنيّة ، فيحتمل احتمالا كبيرا أنّ ما استنتجه غير صحيح ، أو أنّه لا يدلّ على ما حدس به واعتقده بتلك المثابة التي حصل عليها ، أو أنّ هذه الشواهد كانت برأينا غير كافية لحصول الحدس بالعدالة مثلا ، ولذلك تكون القيمة الاحتماليّة للصدق ضئيلة وتحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول اليقين وترسّخه في الذهن.

والسرّ في ذلك أنّ استنتاجات الأشخاص ونظريّاتهم وأفكارهم تختلف عن بعضها كثيرا ، بخلاف الحسيّات فإنّه مع سلامة الحواسّ لا يختلف اثنان فيما يشاهدانه أو يسمعانه.

إلى غير ذلك من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجابا أو سلبا على أساس دخلها في حساب الاحتمال وتقييم درجته.

فكلّ عامل من العوامل التي ذكرناها مضافا الى عوامل أخرى لم نذكرها لها تأثير سلبي أو إيجابي على درجة التصديق وعلى مفردات القضيّة وعلى القيمة الاحتماليّة.

وأمّا العوامل الذاتيّة :

ص: 144

فمنها : طباع الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ،

فإنّ هناك حدّا أعلى من الضآلة لا يمكن لأي ذهن بشري أن يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه ، مع الاختلاف بالنسبة إلى ما هو أكبر من الاحتمالات.

الأوّل : من العوامل الذاتيّة والنفسيّة التي تختلف باختلاف الأشخاص الذين ينقل إليهم الخبر المشهود به هو طباع الناس ، فإنّ الطبائع مختلفة بين الناس إلى درجة لا تجد اثنين متّفقين على طبع واحد ، إلا أنّه يوجد بعض القواسم المشتركة لهذه الطبائع لا اختلاف فيها.

فإذا بلغت القيمة الاحتماليّة للكذب وعدم الصدق درجة كبيرة جدّا ، بحيث إنّ الذهن البشري السليم لا يحتفظ بمثل هذه القيمة ولا يلتفت إليها أبدا في سيرته وتعامله الخارجي بأن كانت درجة احتمال الخلاف والكذب واحدا من مئات الآلاف أو آلاف الآلاف ، فإنّه لا يعتني بها مطلقا نظريّا وعمليّا ، وكأنّها غير موجودة أصلا.

نعم ، هناك بعض القيم الاحتماليّة تختلف فيها طبائع الناس ، فبعض الناس يحتفظ ببعضها ويعتني بها عمليّا ، والبعض الآخر لا يلتفت إليها أصلا ، أو يلتفت إليها ولكنّه لا يعتني بها عمليّا.

وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة سوف تتأثّر زيادة وضآلة بمدى احتفاظ الذهن البشري لهذه الدرجة ، وبالتالي سوف تؤثّر سلبا أو إيجابا على حصول اليقين ، أو على سرعته وبطئه أو على رسوخه وارتكازه ، ممّا يتطلّب قلّة أو كثرة المفردات.

ومنها : المبتنيات القبليّة التي قد توقّف ذهن الإنسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال وإن لم تكن إلا وهما خالصا لا منشأ موضوعي له.

الثاني : المبتنيات القبليّة التي يؤمن بها الشخص الذي ينقل إليه القضيّة ، فمثلا إذا كان لهذا الشخص بعض المعتقدات الخاطئة أو بعض الشبهات حول العصمة أو حول علم المعصوم ونحو ذلك ، فإنّ نقل القضيّة التي تخبر عن سعة علمه أو غير ذلك سوف تتعارض مع معتقداته وإن لم تكن إلا وهما وخيالا ولا أساس لها من الصحّة ، إلا أنّها على كلّ حال سوف تقف حاجزا بين هذا الشخص وبين حصوله على اليقين والتصديق ، بحيث يحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا لتزيل تلك المبتنيات من ذهنه.

وأمّا إذا كانت المبتنيات القبليّة متّفقة مع القضيّة المخبر بها ، فإنّ درجة اليقين سوف

ص: 145

تكون أسرع حصولا وأرسخ في ذهنه ، ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة لحصول ذلك.

فهذه المبتنيات القبليّة لها تأثير سلبي أو إيجابي في القيمة الاحتماليّة ، ولها تأثير على حصول اليقين والتصديق كذلك.

ومنها : مشاعر الإنسان العاطفيّة التي قد تزيد أو تنقص من تقييمه للقرائن الاحتماليّة ، أو من قدرته على التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعا للتفاعل معه إيجابا أو سلبا.

الثالث : المشاعر العاطفيّة فإنّ القضيّة المخبر بها إذا كانت على خلاف مشاعره وإحساساته سوف تكون القيمة الاحتماليّة لدرجة التصديق ضئيلة ، وبالتالي درجة احتمال الكذب كبيرة فيحتاج إلى مفردات أكثر ويكون حصول اليقين أبطأ.

وأمّا إذا كانت القضيّة المخبر بها موافقة لعواطفه وإحساساته ومشاعره ، فإنّ درجة احتمال الصدق فيها سوف تكون أكبر ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بل يكون حصول اليقين عنده أسرع وأرسخ.

فهذه كلّها مؤثّرات نفسيّة وذاتيّة تختلف باختلاف الأشخاص ، وتبعا لها تختلف القيم الاحتماليّة للصدق والكذب ويكون حصول اليقين مختلفا أيضا سرعة وبطأ.

وهذه العوامل تسمّى بالمضعّف الكيفي الذي يضاف إلى المضعّف الكمّي الناتج عن حساب الاحتمال.

تعدد الوسائط في التواتر :

إذا كانت القضيّة الأصليّة المطلوب إثباتها ليست موضعا للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ، وإنّما هي منقولة بواسطة شهادات أخرى - كما هو الغالب في الروايات - فلا بدّ من حصول أحد أمرين ليتحقّق ملاك التواتر.

المقصود من تعدّد الوسائط في التواتر هو أن يكون نقل القضيّة المطلوب إثباتها ليس من المخبر المباشر الذي رأى أو سمع القضيّة ، وإنّما ينقلها عنه شخص أو أكثر ، كأن ينقل زيد عن عمرو أنّه سمع أو رأى خسوف القمر ، فهنا كيف يحصل التواتر؟

وهل هو كالنقل المباشر من دون واسطة في ابتنائه على حساب الاحتمالات؟

أو إنّه يوجد طريق آخر لذلك؟

ص: 146

علما بأنّ أغلب القضايا المتواترة قد نقلت إلينا بالواسطة لا مباشرة ، فكيف يتمّ تحصيل اليقين مع هذه الواسطة؟

وكيف يتحقّق ملاك ومناط التواتر الذي هو تجميع القيم الاحتماليّة؟

وهنا يوجد طريقان لتحصيل اليقين من النقل مع الواسطة : أحدهما على مبنى المشهور ، والآخر على المسلك الصحيح ، فنقول :

أحدهما : أن تكون كلّ واحدة من تلك الشهادات الأخرى موضوعا للإخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ التواتر في كلّ حلقة.

الطريق الأوّل : مسلك المشهور وهو أنّ نقل القضيّة المتواترة مع الواسطة يحتاج إلى أن تكون كلّ حلقة من الحلقات التي تؤلّف بمجموعها الخبر متواترة أيضا ؛ وذلك لأنّ كلّ حلقة وواسطة تعتبر إخبارا مستقلاّ في نفسه.

فإذا قال زيد بأنّ عمرا سمع أو رأى خسوف القمر أو الزلزلة ، فهذا معناه أنّه يخبر عن عمرو. فلكي يثبت إخبار عمرو في نفسه لا بدّ أن يكون النقل عنه متواترا أيضا بأن يخبر جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب بأنّ عمرا سمع أو رأى تلك القضيّة ، فإذا تحقّق التواتر ثبت قول عمرو بأنّه شاهد أو سمع.

وأمّا القضيّة نفسها فلا بدّ أيضا أن ينقلها جماعة كثيرة أيضا يمتنع تواطؤها على الكذب لتكون يقينيّة ، وهذا يفترض أنّ التواتر لا بدّ أن يلحظ في كلّ حلقة من حلقات السلسلة ، بأن ينقل جماعة كثيرة عن عمرو وجماعة كثيرة عن كلّ واحد من الذين شاهدوا أو رأوا أو سمعوا القضيّة.

فلو فرضنا على سبيل المثال أنّ الذين نقلوا القضيّة مباشرة كان عددهم 100 ، فلا بدّ أن يكون خبر كلّ واحد من هؤلاء المائة قد نقل إلينا متواترا ، بأن يكون مثلا مائة نقلوا عن الأوّل ومائة أخرى نقلت عن الثاني وهكذا ، فيكون مجموع المفردات في هذا المثال 100* 100 يساوي 10000 ، هذا إذا كانت الواسطة واحدة.

وأمّا إذا كانت الواسطة أكثر فنحتاج إلى مفردات أكثر ، فلو نقل بكر عن زيد عن عمرو بأنّه شاهد أو سمع القضيّة فلا بدّ من إثبات التواتر في نقل بكر وإثبات التواتر في نقل زيد ، فحيث إنّ العدد كان في الواسطة الأولى عبارة عن 10000 مخبر

ص: 147

فتكون المفردات في الواسطة الثانية حاصل ضرب 10000* 100 ويساوي 1000000 أي مليون مخبر.

ومن الواضح أنّ الأخبار التي نقلت إلينا بالواسطة لا تقلّ الواسطة فيها عن اثنين ، بل هي أكثر من ذلك عادة ، وهذا معناه أنّه لا بدّ على الأقلّ من مليون مخبر ليتحقّق التواتر عندنا ، وهذا فرض خيالي ونادر بل لعلّه لم يقع أصلا في أية حادثة أصلا ، لذلك يكون هذا الطريق بلا فائدة أصلا أو نادرا جدّا.

والآخر : أن نبدأ عمليّة تجميع القرائن الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتماليّة للخبر غير المباشر ، فتلحظ القيمة الاحتماليّة لقضيّة يشهد شخص بوجود شاهد بها ، وتجمع مع قيم احتماليّة مماثلة ، وهكذا حتّى يحصل الإحراز الوجداني.

الطريق الآخر ما هو الصحيح والمختار من أنّنا نجمع القيم الاحتماليّة التي نحصل عليها من هذا الخبر غير المباشر على أساس حساب الاحتمالات ، بحيث إنّنا نلحظ القيمة الاحتماليّة للقضيّة التي يشهد شخص بوجود شخص سمعها أو رآها ، وبعد أن تحصل هذه القيمة الاحتماليّة المبتنية على أساس أنّ صدق المخبر متوقّف على صدق الشخص الذي شاهد القضيّة تضاف إلى القيم الاحتماليّة المماثلة أو المشابهة لها والتي استنتجناها من سائر الإخبارات غير المباشرة.

وبعد تجميع القيم الاحتماليّة هذه من كافّة الإخبارات سوف يحصل الإحراز الوجداني.

فمثلا لو أخبر زيد بأنّ عمرا شاهد خسوف القمر ، أو وقوع الزلزلة ، فهنا القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد في نفسه هي 1 / 2 ؛ لأنّ كلّ خبر في نفسه يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.

وكذلك أيضا القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو عن القضيّة ، فإنّه في نفسه يساوي 1 / 2 ، إلا أنّ المفروض هنا أنّ صدق زيد متوقّف على صدق عمرو ، إذ لو كان عمرو كاذبا لم يكن إخبار زيد بوقوع الحادثة عن طريق عمرو صادقا. نعم ، إخباره في نفسه بأنّ عمرا شاهد القضيّة يحتمل الصدق والكذب ، وعلى هذا فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الإخبار غير المباشر وفقا لقاعدة الاحتمال المشروط هي القيمة الاحتماليّة لإخبار

ص: 148

زيد ضرب القيمة الاحتماليّة لإخبار عمرو على القيمة الاحتماليّة لإخبار زيد ، أي :

أ * أ * ب 1 / 2 * 1 / 2 1 / 2 1 / 2 * 1 / 4 1 / 8 ، فتكون القيمة الاحتماليّة لهذا الخبر هي 1 / 8 ، ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة أي 1 / 8 تضاف إلى سائر القيم الاحتماليّة المستنتجة من الإخبار الأخرى ؛ ليحصل الإحراز الوجداني واليقين الموضوعي.

فلو فرضنا أنّ قيمة الكذب في هذا الخبر هي 7 / 8 ؛ لأنّها القيمة المقابلة لقيمة الصدق ، فيما إذا كان هناك خبران سوف تقلّ وتضعف القيمة الاحتماليّة للكذب ؛ وذلك لأنّ محور الصدق واحد وهو ثبوت القضيّة واقعا ، بينما محور الكذب متعدّد وهو المصالح المختلفة المتنوعة لكلّ شخص ؛ إذ يبعد اتّفاق مصالحهم صدفة على الكذب ؛ لأنّ الصدفة كما تقدّم لا تتكرّر دائما ، وهذا معناه أنّ 7 / 8 تضرب باثنين فتكون النتيجة 7 / 16 احتمال الكذب ويقابلها 9 / 16 احتمال الصدق.

وإذا جاء خبر ثالث سوف تضرب 7 / 16 باثنين فتكون النتيجة وهكذا... حتّى يصل الأمر إلى كسر ضئيل لا يحتفظ به الذهن البشري.

والوجه في أنّنا نضرب باثنين هو أنّه كلّما جاء خبر جديد كان هناك علم إجمالي مكوّن من أطراف مضاعفة عن السابق ، فإنّ أطراف العلم الإجمالي في الخبرين هي أربعة ، بينما تكون في الأخبار الثلاثة ثمانية وفي الأربعة ستة عشر وهكذا ، ولذلك يضرب باثنين.

وهذا طريق صحيح ، غير أنّه يكلّف افتراض عدد أكبر من الشهادات غير المباشرة ؛ لأنّ مفردات الجمع أصغر قيمة منها في حالة الشهادات المباشرة.

وهذا الطريق صحيح ومنتج وله آثار وثمرات عمليّة بحيث يكون منتجا لليقين بعدد معقول عقلا وعرفا ، وليس حالة خياليّة أو نادرة ؛ لأنّه يعتمد على تجميع القيم الاحتماليّة على أساس حساب الاحتمال وضرب الكسور في القيم المخالفة التي ليس لها محور واحد.

وهذا الطريق كالطريق السابق في استنادهما على نكتة واحدة وأساس واحد ، وهو حساب الاحتمال ، وضرب القيم الاحتماليّة المخالفة ، غاية الأمر أنّه في الإخبار المباشر لم نكن نحتاج إلى مفردات كثيرة جدّا من الإخبارات المباشرة ؛ وذلك لأنّ درجة

ص: 149

احتمال الكذب كانت في نفسها ضئيلة ، بينما هنا فإنّ درجة احتمال الكذب في نفسها ليست ضئيلة ، ولذلك نحتاج إلى مفردات أكثر بكثير ممّا كنّا نحتاجه في الإخبار المباشر ، ولكن عددها ليس كبيرا بحيث يصبح فرضا نادرا ، بل هو معقول وواقع أيضا.

أقسام التواتر :
اشارة

إذا واجهنا عددا كبيرا من الأخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :

التواتر على أقسام ثلاثة :

التواتر الإجمالي ، والتواتر المعنوي ، والتواتر اللفظي.

وسنتكلّم عن كلّ واحد منها بالتفصيل :

الحالة الأولى : أن لا يوجد بين المدلولات الخبريّة مشترك يخبر الجميع عنه ، كما إذا جمعنا بطريقة عشوائيّة مائة رواية من مختلف الأبواب ، ففي هذه الحالة من الواضح أنّ كلّ واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر.

القسم الأوّل : التواتر الإجمالي :
اشارة

وتوضيحه ضمن النقاط التالية :

الأولى : أن نعلم إجمالا بوجود مائة رواية كاذبة ضمن الروايات الموجودة عندنا في الكتب الأربعة مثلا ، فإذا التقطنا مائة رواية بصورة عشوائيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فإنّ هذه المائة تشكّل طرفا من أطراف العلم الإجمالي.

فهنا نتساءل : هل تكون هذه المائة كاذبة لكونها طرفا للعلم الإجمالي ويجب الاجتناب عنها على أساس منجّزيّة العلم الإجمالي المذكور للاجتناب عن كلّ أطرافه أم لا؟

وهنا لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لكلّ أطرافه ، وإلا لكانت كلّ مائة مائة يجب الاجتناب عنها ، والمفروض أنّ أطراف العلم الإجمالي هنا كثيرة جدّا بحيث تصل إلى عدد كبير للغاية ، وبالتالي تكون النتيجة الاجتناب عن كلّ الأحاديث الموجودة ضمن الكتب الأربعة وهذا لا يقوله أحد.

ولا إشكال أيضا في أنّه لا يثبت صحّة أو كذب كلّ واحد من هذه المائة ، فلو

ص: 150

أخذ كلّ رواية من هذه الروايات المائة فلا يمكننا إثبات صحّتها أو كذبها بالعلم الإجمالي المذكور ، وإلا لانحلّ العلم الإجمالي ضمن الأفراد المعلوم كذبها وصار هناك شكّ بدوي في غيرها ، فنجري البراءة ويزول العلم الإجمالي.

ومن هنا يتّضح أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لتمام أطرافه لكثرتها التي تجعله من الشبهة غير المحصورة ، وأنّ كلّ واحد من مفردات أطرافه لا علم تفصيلي فيه لا سلبا ولا إيجابا.

وإنّما يقع الكلام في إثبات أحدها على سبيل العلم الإجمالي لكي ترتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

النقطة الثانية : نعم ، يقع الكلام في أنّنا هل يمكننا إثبات صحّة واحد من هذه الروايات المائة على سبيل الإجمال ، بأن يكون هناك علم إجمالي بصدق رواية واحدة ضمن هذه الروايات المائة أم لا يمكننا ذلك؟

فإذا استطعنا إثبات صحّة واحدة من الروايات ضمن المائة فيمكننا ترتيب آثار العلم الإجمالي بوجود رواية صحيحة غير معلومة تفصيلا ، وبالتالي يجب الأخذ بهذه الرواية التي ثبت صدقها لكونها حجّة منجّزة أو معذّرة.

والتحقيق في ذلك : أنّ قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّا ؛ لوجود مضعّف وهو عدد الاحتمالات التي ينبغي أن تضرب قيمها من أجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع ، وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا تضاءلت نتيجة الضرب تبعا لزيادة تلك العوامل ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكمّي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلا جدّا ، ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد على الأقلّ.

النقطة الثالثة : إنّنا على أساس حساب الاحتمالات نستطيع أن نثبت صدق رواية واحدة على الأقلّ ضمن مائة رواية مأخوذة عشوائيّا.

وبيان ذلك : أنّ أطراف العلم الإجمالي المذكور كثيرة جدّا ، وهذا معناه وجود المضعّف الكمّي الذي يعتمد عليه حساب الاحتمالات ، وعلى أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة ضئيلة جدّا.

وأمّا أطراف هذا العلم الإجمالي الكثيرة جدّا فيمكننا الحصول عليها عن طريق حساب التوافق ، فإنّنا لو فرضنا أنّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة تبلغ عشرة

ص: 151

آلاف رواية ، فإنّ العلم الإجمالي بكذب مائة من هذه الروايات تكون أطرافه مكوّنة من حاصل ضرب عشرة آلاف في نفسها فتبلغ الأطراف مائة مليون طرف ؛ لأنّه يمكننا أن نفرض المائة الأولى من الواحد إلى المائة ، والمائة الثانية من الاثنين إلى المائة وواحد ، والثلاثة إلى المائة والاثنين ، وهكذا.

وهذا معناه أن القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة سوف تكون 1 / 100000000 أي واحد من مائة مليون ؛ لأنّ رقم اليقين وهو الواحد يقسم بالتساوي على أطراف العلم الإجمالي ، وهذه قيمة احتماليّة ضئيلة جدّا ؛ لأنّها ناتجة عن ضرب عوامل الضرب التي هي أطراف العلم الإجمالي. وكلّما كانت عوامل الضرب كسورا كانت القيمة ضئيلة جدّا تبعا لكثرة وازدياد عوامل الضرب أي ( أطراف العلم الإجمالي ).

وبهذا ظهر أنّه على أساس هذا المضعّف الكمّي سوف تكون قيمة احتمال كذب هذه المائة بجميع مفرداتها ضئيلة جدّا ، وفي مقابل ذلك سوف يحصل اطمئنان بصدق واحدة من هذه الروايات المائة ؛ لأنّ قيمة احتمال الصدق تكون مقابلة لقيمة احتمال الكذب ، وحيث إنّ قيمة احتمال الكذب هي 1 / 100000000 فسوف تكون قيمة الصدق هي 9999999 / 100000000 ، وبهذا فإذا أخذنا واحدة من الروايات فإنّنا سوف نطمئنّ بصدقها.

يبقى هناك تساؤل آخر وهو :

هل يمكننا الوصول إلى اليقين بصدق هذه الرواية التي أخذناها من مجموع المائة أو لا يمكننا ذلك؟ وهذا ما نبحثه ضمن النقطة الرابعة ، فنقول :

ولكنّ هذا الاطمئنان يستحيل أن يتحوّل إلى يقين ، بسبب الضآلة.

ووجه الاستحالة : أنّنا نعلم إجمالا بوجود مائة خبر كاذب في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي التقطناها تشكّل طرفا من أطراف ذلك العلم الإجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على أيّة مائة أخرى تجمع بشكل آخر ، فلو كان المضعّف الكمّي وحده يكفي لإفناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّة مائة نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الإجمالي ، وهو خلف.

النقطة الرابعة : أنّ القيمة الاحتماليّة بصدق رواية من المائة التي التقطناها عشوائيّا

ص: 152

يستحيل أن تصبح يقينا استنادا إلى ضآلتها ؛ إذ لا يوجد هناك مضعّف كيفي على أساسه تزول تلك القيمة الاحتماليّة للكذب.

فهنا دعويان :

الأولى : عدم وجود المضعّف الكيفي في هذه الروايات ؛ لأنّ المفروض أنّنا التقطناها عشوائيّا من مختلف الأبواب فلا يوجد فيها قاسم مشترك ، ولا تتحدّث عن موضوع واحد ، وألفاظها مختلفة ، ومضامينها متعدّدة ، ورواتها مختلفون وكلّ واحد منهم يروي حديثا غير الآخر ولا يرتبط معه بشيء.

وهذا معناه أنّ النسبة بين هذه الروايات المائة فيما بينها هي نسبة التباين والاختلاف ، فهناك احتمال كذب كلّ واحد من الروايات بنحو معتدّ به وهو النصف المقابل للصدق ، وليس أحدهما أكثر من الآخر ولا يمكن تضعيف احتمال الكذب في كلّ رواية ؛ لعدم وجود المضعّف الكيفي المذكور ، فتبقى القيمة الاحتماليّة على حالها.

الثانية : أنّ المضعّف الكمّي الموجود والذي على أساسه تضاءلت القيمة الاحتماليّة لكذب هذه المائة بجميع مفرداتها لا يكفي وحده لإفادة اليقين وزوال هذا الكسر وإن كان ضئيلا جدّا.

والوجه في ذلك هو : أنّنا حصلنا في النقطة الثالثة على نتيجة وهي أنّ كذب هذه المائة بجميع أفرادها ضئيل جدّا ، وبالتالي فإنّ صدق رواية واحدة منها على الأقلّ كبير جدّا ، إلا أنّ هذه القيمة الاحتماليّة للصدق ليست إلا اطمئنانا ولا تتحوّل إلى اليقين ؛ إذ لو تحوّلت إلى اليقين على أساس هذا المضعّف الكمّي لفعلنا ذلك في كلّ مائة أخرى ، وبالتالي نصل إلى اليقين بكلّ خبر خبر من مجموع الروايات في الكتب الأربعة ، وهذا يعني القطع بصدق جميع الروايات ، وهذا مخالف للعلم الإجمالي بكذب مائة رواية فيها ؛ لأنّه يعني زوال العلم الإجمالي مع أنّه موجود قطعا.

وبيان ذلك : أنّه لو حصلنا على اليقين بأنّ المائة من واحد إلى مائة فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من اثنين إلى مائة وواحد فيها رواية صادقة ، وأنّ المائة من ثلاثة إلى مائة واثنين فيها رواية صادقة وهكذا... سوف نصل في نهاية الأمر إلى أنّ كلّ مائة مائة من هذه الروايات في كلّ منها رواية صادقة.

وبالتالي سوف تكون كلّ الروايات صادقة ؛ لأنّ المئات التي نحصل عليها من عشرة

ص: 153

آلاف حديث قلنا : إنّها مائة مليون طرف ، فلو كان في كلّ مائة منها رواية واحدة صادقة لكان مجموع الروايات الصادقة هو حاصل تقسيم مائة مليون على عشرة آلاف مجموع الروايات ، وتكون النتيجة هي عشرة آلاف رواية صادقة وهي كلّ الروايات ، وهذا معناه أنّنا حصلنا على اليقين بصدق كلّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة ، وهذا معناه زوال العلم الإجمالي بكذب مائة رواية منها ، وهو خلف المفروض.

وبهذا اتّضح أنّ القيمة الاحتماليّة لصدق رواية من مائة في جميع أطراف العلم الإجمالي لا يمكن أن تتحوّل إلى اليقين ، بل لا تتعدّى الاطمئنان فقط ، وحينئذ ننتقل إلى النقطة الخامسة وهي :

وهكذا نعرف أنّ درجة احتمال صدق واحد من الأخبار على الأقلّ تبقى اطمئنانا ، وحجّيّة هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائيّة على العمل بالاطمئنان ، وهل تشمل الاطمئنان الإجمالي المتكوّن نتيجة جمع احتمالات أطرافه أو لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الإجماليّة.

النقطة الخامسة : هل أنّ هذه القيمة الاحتماليّة المفيدة للاطمئنان بصدق رواية من مائة حجّة أم لا؟

وهذا البحث مرتبط بأنّ دليل حجّيّة الاطمئنان والذي هو السيرة العقلائيّة هل يشمل كلّ اطمئنان سواء كان منشؤه العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات أو كان منشؤه الفهم العرفي المسامحي فقط؟

ولعلّ الصحيح هو أنّ السيرة العقلائيّة لم تنعقد على العمل بالاطمئنان الناتج عن العلم الإجمالي القائم على حساب الاحتمالات ؛ لعدم وجود مثل هذا العلم الإجمالي في حياتهم وسيرتهم العمليّة ، ولو فرض وجوده فهو نادر جدّا لا يمكن الاستدلال بالسيرة على مثله ، وبالتالي لا يكون مثل هذا الاطمئنان حجّة (1).

ص: 154


1- وهذا هو الصحيح بنظر السيّد الشهيد ؛ ولذلك لم يذكر هذا القسم من أقسام التواتر في الحلقة الثانية ، ولعلّ ذكره هنا مسامحة واضحة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى اليقين بل إلى الاطمئنان فقط ، والمطلوب من التواتر إفادة اليقين ؛ لأنّه من وسائل الإحراز الوجداني لا التعبّدي كما تقدّم سابقا. ولعلّ ذكره هنا من باب مناسبة المنهجة العلميّة فقط.

الحالة الثانية : أن يوجد بين المدلولات الخبريّة جانب مشترك يشكّل مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، إمّا على نسق المدلول التضمّني أو على نسق المدلول الالتزامي ، مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله ، كالإخبارات عن قضايا متغايرة ولكنّها تتضمّن جميعا مظاهر من كرم حاتم مثلا.

القسم الثاني هو التواتر المعنوي :

والمقصود من التواتر المعنوي هنا خصوص قسميه التضمّني والالتزامي ، وأمّا القسم الثالث من التواتر المعنوي فهو داخل في الحالة الثالثة أي التواتر اللفظي ، كما سيأتي.

والتواتر المعنوي هنا أن يكون هناك قاسم مشترك بين الإخبارات بحيث يكون هذا الجانب مدلولا تحليليّا لكلّ خبر ، بمعنى أنّه إذا أردنا أن نحلّل كلّ خبر وجدنا أنّه يدلّ على هذا الجانب إمّا بالتضمّن أو بالالتزام ، إلا أنّه لا يوجد اتّفاق وتطابق بين هذه الإخبارات لا باللفظ ، فكلّ خبر له لفظ يختلف عن الآخر ، ولا بالمعنى المطابقي فكلّ خبر له مدلول مطابقي غير الآخر.

مثال ذلك : أن يخبر الأوّل عن كون زيد قد قرأ كتابا في النحو ، والثاني على أنّه قرأ بعض كتاب من المنطق ، والثالث على أنّه طالع كتب الشعر والأدب ، وهكذا...

فهذه الإخبارات مختلفة لفظا ومعنى من حيث المدلول المطابقي ، ولكنّها بالتحليل يوجد جانب مشترك بينها ، وهي أنّه قد قرأ بعض الصفحات على الأقلّ وهذا مدلول تضمّني تحليلي لكلّ خبر.

أو أن يخبر شخص عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، وآخر على أنّه تصدّق بماله ، والثالث على أنّه يطعم الفقراء ، وهكذا... فإنّ هذه الإخبارات كلّها تدلّ بالتحليل عن كونه كريما ، وهذا مدلول التزامي لكلّ خبر من هذه الإخبارات المختلفة باللفظ والمعنى أي المدلول المطابقي.

فهنا هل يمكننا أن نثبت بالتواتر هذا المدلول التضمّني أو الالتزامي

أو لا يمكننا ذلك؟

والجواب : أنّه يمكننا ذلك ونصل إلى اليقين أيضا ؛ وذلك لوجود المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي أيضا ، وبيان ذلك :

ولا شكّ هنا في وجود المضعّف الكمّي الذي رأيناه في الحالة السابقة ، يضاف

ص: 155

إليه مضعّف آخر وهو : أنّ افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحة شخصيّة لدى كلّ مخبر دعته إلى الإخبار بذلك النحو ، وهذه المصالح الشخصيّة إن كانت كلّها تتعلّق بذلك الجانب المشترك ، فهذا يعني أنّ هؤلاء المخبرين على الرغم من اختلاف ظروفهم وتباين أحوالهم اتّفق صدفة أن كانت لهم مصالح متماثلة تماما.

وإن كانت تلك المصالح الشخصيّة تتعلّق بالنسبة إلى كلّ مخبر بكامل المدلول المطابقي ، فهذا يعني أنّها متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكيفي يضاف إلى ذلك المضعّف الكمّي.

لا إشكال هنا في وجود المضعّف الكمّي المذكور سابقا ، بحيث إنّ القيمة الاحتماليّة لكذب الجميع تكون قيمة ضئيلة جدّا ، بينما القيمة الاحتماليّة للصدق تكون كبيرة جدّا على أساس الضرب في القيم الاحتماليّة ، كما تقدّم سابقا في القضيّة التجريبيّة والمتواترة.

فإنّ كلّ خبر بنفسه يشكّل قيمة احتماليّة للصدق مساوية للقيمة الاحتماليّة للكذب ، ولكن إذا لوحظ كلّ خبر مع غيره فإنّ القيمة الاحتماليّة للصدق سوف تزداد ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تضعف وتتضاءل ؛ لأنّه إذا أخذنا الخبرين الأوّلين سوف يتشكّل علم إجمالي مكوّن من أربعة أطراف ، وتكون القيمة الاحتماليّة للصدق فيه 7 / 8 ، بينما القيمة الاحتماليّة للكذب 1 / 8 ، فإذا أخذ ثلاثة أخبار تكون القيمة الاحتماليّة للكذب 1 / 16 وفي الأربعة تكون 1 / 32 وهكذا. إلى أن تصل القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا يقابلها قيمة احتماليّة للصدق كبيرة جدّا ، وهذا هو المضعّف الكمّي.

ثمّ إنّ هذه القيمة الاحتماليّة للكذب تزول وتصل إلى اليقين ، وذلك على أساس مضعّف آخر يضاف إلى المضعّف الكمّي ، وعلى أساس هذا المضعّف الكيفي سوف تكون القيمة الاحتماليّة للكذب أكثر ضآلة ممّا كانت عليه ؛ وذلك للأسباب التالية :

عرفنا فيما سبق أنّ العوامل الموضوعيّة والذاتيّة تشكّل بمجموعها المضعّف الكيفي ، وهنا العوامل الموضوعيّة معناها أنّنا إذا لم نفترض الصدق والجزم بصدور هذه القضيّة المخبر عنها وأنّها ليست ثابتة واقعا فهذا معناه أنّ كلّ مخبر قد كذب في إخباره ، وكذبه هذا ناتج عن وجود مصلحة شخصيّة دعته إلى الكذب. وهذا معناه أنّنا

ص: 156

نفترض وجود مصالح شخصيّة للمخبرين جميعا هي التي دعتهم إلى الاختلاق والكذب ، بينما المبرّر الوحيد للصدق هو ثبوت القضيّة واقعا.

وهنا إذا لاحظنا هذه المصالح الشخصيّة المتعدّدة تارة نجدها متّفقة تماما وأخرى نجدها متقاربة.

فإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر في أنّ يخبر بذاك المدلول التحليلي ( التضمّني أو الالتزامي ) الذي نريد إثباته بالتواتر ، فهذا معناه افتراض عدد كبير من المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على ذاك الجانب ، على الرغم من الاختلاف بين المخبرين في الظروف والأحوال والأمكنة والمذاهب والمستوى العلمي والثقافي ونحو ذلك ، وهذا بعيد في نفسه بحساب الاحتمالات ، فإنّه إذا كانت تلك العوامل الموضوعيّة مختلفة كانت مبرّرات الكذب والخلاف والصدفة بعيدة جدّا في نفسها ، ممّا يجعل مبرّر الصدق والثبوت أقوى وأرسخ.

وإذا كانت المصلحة الشخصيّة لكلّ مخبر تدعوه إلى الإخبار بمدلول كلامه المطابقي فقط من دون أن يلاحظ المدلول التحليلي لكلامه ( التضمّني أو الالتزامي ) ، فهذا معناه أنّ هذه المصالح الشخصيّة على الرغم من الاختلاف في العوامل الموضوعيّة بينهم قد كانت متقاربة جدّا فيما بينها ؛ لأنّها جميعا تتضمّن أو تستلزم ذاك الجانب المشترك ، وهذا وإن كان محتملا لكنّه بعيد أيضا بحساب الاحتمالات.

وهكذا نصل إلى اليقين بعد ضمّ المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي بناء على حساب الاحتمالات.

ولهذا نجد أن قوّة الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة أكبر منها في الحالة السابقة ، والاحتمال القوي هنا يتحوّل إلى يقين بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم من ذلك أن ينطبق هذا على كلّ مائة خبر نجمعها ؛ لأنّ المضعّف الكيفي المذكور لا يتواجد إلا في مائة تشترك ولو في جانب من مدلولاتها الخبريّة.

وبالمقارنة بين هذه الحالة والحالة السابقة نجد أنّ القيمة الاحتماليّة للصدق هنا أكبر بكثير من القيمة الاحتماليّة للصدق هناك ؛ وذلك لأنّه هناك كان يوجد فقط المضعّف الكمّي والذي على أساسه حصل الاطمئنان بالصدق ؛ لأنّ درجة احتمال الكذب كانت بنسبة واحد من مائة مليون ، بينما هنا فإنّ هذه النسبة سوف تتضاءل أكثر ؛

ص: 157

لوجود المضعّف الكيفي في الإخبار جميعا. ولذلك سوف تضرب هذه القيمة الاحتماليّة للكذب بنفسها فتكون نسبة الكذب واحدا من آلاف الملايين.

ولذلك لا تقاس هذه الحالة على تلك أو العكس ؛ لأنّه في الحالة الأولى لم يكن هناك مضعّف كيفي في جميع الإخبارات. نعم ، يوجد مضعّف كيفي في كلّ مائة تشترك جميعا في جانب من مدلولاتها الخبريّة ، كأن تكون هذه المائة من باب الصوم جميعا أو الصلاة ، وهكذا.

ولكنّ المفروض أنّنا حصلنا على كلّ مائة عشوائيّا من مختلف الأبواب الفقهيّة ، بحيث لم يكن بينها جانب مشترك أو كان بين بعضها جانب مشترك لكنّه خفي وضئيل.

الحالة الثالثة : أن تكون الإخبارات مشتركة في المدلول المطابقي بالكامل ، كما إذا نقل المخبرون جميعا أنّهم شاهدوا قضيّة معيّنة من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي معا.

القسم الثالث : التواتر المعنوي واللفظي : والمقصود هنا أن تكون الأخبار كلّها متّفقة في المدلول المطابقي ، بحيث يخبر الجميع عن حادثة وواقعة واحدة معيّنة ، وهذا الاتّفاق في المدلول المطابقي قد يكون بلحاظ المعنى فقط دون الألفاظ وهو التواتر المعنوي بلحاظ القسم الثالث منه ، وقد يكون بلحاظ المعنى واللفظ أيضا وهو التواتر اللفظي.

فإذا أخبر جماعة كثيرة تصل إلى حدّ التواتر عن قضيّة معيّنة شخصيّة بحيث كان مدلولهم المطابقي واحدا ، بأن أخبروا عن كون حاتم قد ذبح جزورا لضيوفه ، فهنا يوجد كلا المضعّفين ( الكمّي والكيفي ) ، والنتيجة هي أنّ القيمة الاحتماليّة للكذب سوف تكون ضئيلة جدّا على أساس المضعّف الكمّي وحده ، فإذا انضمّ إليه المضعّف الكيفي سوف تزول هذه القيمة الاحتماليّة للكذب وبالتالي يحصل اليقين بثبوت هذه القضيّة.

غير أنّ هذا اليقين يختلف سرعة وشدّة ورسوخا ووضوحا بين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى فقط وبين ما إذا كان متّفقا بالمعنى واللفظ معا ، فإنّ الثاني أقوى وأرسخ وأسرع من الأوّل ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 158

ولكن المضعّف الكيفي هنا أشدّ قوّة منه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّ مصالح الناس المختلفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها صدفة في محور أضيق كان ذلك أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات ؛ لما بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف والأحوال ، فكيف أدّت مصلحة كلّ واحد إلى نفس ذلك المحور الذي أدّت إليه مصلحة الآخرين ، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى إذا كان الكلّ ينقلون واقعة واحدة بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم جميعا أبعد ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة بينها جانب مشترك.

أمّا كون المضعّف الكيفي هنا أقوى وأرسخ منه في الحالة السابقة فلأنّه إذا كانت المصالح الشخصيّة - التي هي مبرّر الكذب والمفروض أنّها مختلفة من شخص لآخر نتيجة اختلاف ظروفه وأحواله والعوامل الموضوعيّة التي تدعوه لذلك - قد فرض اجتماعها واتّفاقها صدفة على محور واحد فتكون القيمة الاحتماليّة للكذب ضئيلة جدّا أكثر ممّا إذا كانت المصالح الشخصيّة قد اتّفقت صدفة على محاور متعدّدة يوجد بينها جانب مشترك أي مدلول تحليلي ( تضمّني أو التزامي ).

وعليه ، فإذا كان جميع الرواة ينقلون واقعة واحدة متّفقة بمدلولها المطابقي فضلا عن التضمّني والالتزامي ، فاحتمال كذبهم واتّفاق مصالحهم على ذلك أبعد بكثير ممّا إذا كانوا ينقلون وقائع متعدّدة متّحدة بالمدلول التضمّني أو الالتزامي ولكنّها مختلفة بالمدلول المطابقي.

وهنا حيث إنّ المدلول المطابقي للجميع واحد بخلافه في الحالة السابقة ، فاحتمال الكذب واجتماع مبرّراته على محور واحد رغم تعدّدها سوف يكون أبعد وأكثر ضآلة من احتمال الكذب واجتماع المبرّرات على محاور مختلفة يوجد بينها جامع أو جانب مشترك ، كما هو مقتضى حساب الاحتمالات والمضعّف الكيفي.

وعلى هذا الأساس نقول أيضا :

وفي هذه الحالة كلّما كان التوحّد في المدلول أوضح ، والتطابق في الخصوصيّات بين إخبارات المخبرين أكمل ، كان احتمال الصدق أكبر والمضعّف الكيفي أقوى أثرا.

ص: 159

ومن هنا كان اشتمال كلّ خبر على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدّيا إلى تزايد احتمال الصدق بصورة كبيرة.

والمضعّف الكيفي في هذه الحالة يختلف بين ما إذا كان النقل دقيقا جدّا بحيث كان المدلول المطابقي للجميع واحدا في اللفظ والمعنى ، وبين ما إذا كان المدلول المطابقي متّفقا بالمعنى دون الألفاظ ، فلأنّه إذا كان نقل التفاصيل كاملة في كلّ الأخبار بنحو واحد ، كان احتمال الكذب واجتماع المصالح على ذلك المحور الضيّق جدّا أبعد بكثير ممّا إذا اختلفوا في نقل التفاصيل أو نقلها البعض دون الآخر.

فلو أنّهم جميعا أخبروا بكافّة التفاصيل التي تمّت فيها تلك الحادثة ، كذبح حاتم الجزور لضيوفه بحيث نقل الجميع عدد الضيوف وكيفيّة الذبح والمناسبة لذلك وتاريخها ومكانها ، كان ذلك أقوى وأرسخ ممّا لو نقل البعض ذلك أو اختلفوا في بعض هذه التفاصيل ، وهذا سوف يؤثّر سرعة ورسوخا على اليقين. فإنّه إذا كان هناك اتّفاق في كافّة التفاصيل فسوف يكون احتمال الصدق كبيرا جدّا ، واحتمال الكذب ضئيلا جدّا ، ويكون حصول اليقين أسرع ولا يحتاج إلى مفردات كثيرة ، بخلاف ما إذا تفاوت نقل التفاصيل زيادة ونقصانا ، فإنّه يحتاج إلى مفردات أكثر من السابق ويكون حصول اليقين أقلّ سرعة منه كما هو واضح.

ومن أهمّ أمثلة ذلك : التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما إذا نقل الجميع كلاما لشخص بلفظ واحد ؛ لأنّنا نتساءل حينئذ : هل اتّفق أن كانت للجميع مصلحة في إبراز نفس الألفاظ بعينها مع إمكان أداء المعنى نفسه بألفاظ أخرى؟! أو كان هذا التطابق في الألفاظ عفويّا وصدفة؟! وكلّ ذلك بعيد بحساب الاحتمالات.

ومن هنا نستكشف أنّ هذا التطابق ناتج عن واقعيّة القضيّة وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.

ومن أهمّ أمثلة التطابق والتوحّد في المدلول المطابقي والخصوصيّات هو التطابق في صيغة الكلام المنقول بلفظه ، فإذا أخبر الجميع بخبر واحد متّفق لفظا ومعنى وبكافّة التفاصيل والخصوصيّات كان ذلك أقوى وأشدّ بكثير من اختلافهم في ذلك.

لأنّنا نتساءل هنا : هل اتّفق صدفة أن كانت مصالح الجميع في الكذب أن ينقلوا

ص: 160

جميعا هذا الخبر المتّحد لفظا ومعنى؟ أو أنّ مصالحهم الشخصيّة رغم العوامل الموضوعيّة المختلفة لكلّ واحد التي تدعوه للكذب قد اتّفقت على إبراز ذلك الكلام بلفظه رغم إمكانيّة أدائه بالمعنى ، أو مع الاختلاف ولو اليسير بينهم؟!

فإنّ ذلك كلّه بعيد في نفسه على أساس حساب الاحتمالات ؛ لأنّه يفترض حدّا أعلى من الصدفة والاتّفاق لا يحتمله العقل أصلا. وعليه ، فيكون المبرّر الوحيد لهذا النقل هو صدقهم جميعا ، وأنّه قد صدر هذا الكلام بألفاظه المعيّنة من المتكلّم ، ولذلك نقلوه كاملا حفاظا على الدقّة والأمانة في النقل.

فيستكشف من هذا الاتّفاق في اللفظ أنّ الواقعة والقضيّة ثابتة واقعا ، إذ لا مبرّر لهذا الاتّفاق سوى الصدق فقط.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي من المعنوي ، والمعنوي من الإجمالي ، كما هو واضح.

وبناء على ما تقدّم يتّضح لنا الوجه في أقوائيّة التواتر اللفظي على المعنوي ، والمعنوي على الإجمالي ، فإنّه رغم وجود المضعّف الكمّي في الجميع إلا أنّ المضعّف الكيفي يختلف حاله بينهم ، فإنّ المضعّف الكيفي ليس موجودا أصلا في التواتر الإجمالي أو هو موجود بنسبة ضئيلة جدّا ، ولذلك لم نحصل على اليقين منه ، بل غاية ما نحصل عليه منه هو الاطمئنان والذي ليس بحجّة هنا ، بينما هذا المضعّف الكيفي موجود في التواتر المعنوي واللفظي معا ، ولكن وجوده في التواتر اللفظي أوضح وأشدّ وأكبر منه في التواتر المعنوي كما هو واضح.

* * *

ص: 161

ص: 162

الإجماع
اشارة

ص: 163

ص: 164

الإجماع

الإجماع يبحث عن حجّيّته في إثبات الحكم الشرعي.

تارة : على أساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف.

منشأ الإجماع هو العامّة حيث استدلّوا به على صحّة خلافة البعض بدعوى إجماع أهل الحلّ والعقد أو المدينة ونحو ذلك ، والكلام هنا في حجّيّة الإجماع.

استدلّ لحجّيّته بوجوه :

الأوّل : قاعدة اللطف أو الطريقة الحسيّة ، والمقصود منها - بنحو مختصر - هو : أنّ حكمة اللّه وعدله يوجبان عليه تعالى الا يترك عباده يقعون في المفاسد أو تفوت عليهم المصالح ، ولذلك يجب عليه أن يقرّبهم إلى كلّ ما فيه مصلحة وخير لهم ، ويبعّدهم عن كلّ ما فيه مفسده وضرر عليهم ، سواء في ذلك الأمور التكوينيّة أو الأمور التشريعيّة.

وهذه القاعدة استند عليها القدماء كالشيخ الطوسي وغيره للاستدلال على وجوب إرسال الرسل ونصب الأئمّة علیهم السلام .

وبهذه القاعدة يراد الاستدلال على حجّيّة الإجماع أيضا بتقريب :

إنّ الشارع إذا رأى العلماء قد أجمعوا على رأي ما ، فإن كان صوابا فيكون سكوته وعدم ردعه عنه صحيحا ؛ لتطابقه مع المصالح إن كان بنحو الوجوب أو المفاسد إن كان بنحو التحريم. وأمّا إذا لم يكن صوابا فالواجب يقتضي بحكم عدالته أن يبثّ الخلاف فيما بينهم ولو بإيجاد رأي مخالف لما اتّفقوا عليه ، وإلا لوقعوا في المفسدة أو لفاتت عليهم المصلحة ، وهذا لا يعقل صدوره من الشارع الحكيم العادل.

ص: 165

وبهذا يتّضح أنّ العقل يحكم بمدركاته العمليّة أنّ ما ينبغي للشارع فعله هو هذا الأمر وغير ذلك يقبح صدوره منه تعالى عن ذلك ، ولذلك كانت قاعدة اللطف عقليّة ؛ لأنّها من مدركات العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون.

وأخرى : على أساس قيام دليل شرعي على حجّيّة الإجماع ولزوم التعبّد بمفاده ، كما قام على حجّيّة خبر الثقة والتعبّد بمفاده.

الثاني : أن يستدلّ على حجّيّة الإجماع من خلال وجود دليل شرعي على حجّيّته ، فيكون الإجماع حجّة تعبّدا ، كما هو كذلك بالنسبة لخبر الثقة حيث قام الدليل الشرعي من آيات وروايات على حجّيّته ، فيؤخذ بالإجماع من باب كونه كاشفا تعبّديّا على الحكم الشرعي لا من باب كونه كاشفا وجدانيّا ، غاية الأمر كون الإجماع أحسن حالا من خبر الثقة ؛ لأنّه عبارة عن خبر عالي السند لوجود المعصوم بين المجمعين.

وثالثة : على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، كما في الحديث المدّعى : « لا تجتمع أمّتي على خطأ » (1).

الثالث : أن يستدلّ على الإجماع بأنّ المعصوم قد شهد وأخبر بأنّ الإجماع لا يخالف الواقع ، فإذا كان هناك إجماع فهو مطابق للواقع ، وهذا دليل إنّي أي يستكشف من الإجماع وجود حكم شرعي واقعي مطابق له.

وهذا المسلك سلكه العامّة حيث ادّعوا أنّ النبيّ قد شهد بصحّة الإجماع ومطابقته للواقع بقوله : « لا تجتمع أمتي على ضلالة ». وهي أعمّ من الإثم والخطأ والمعصية والانحراف.

لكنّهم فسّروا الضلالة بخصوص الخطأ ، ولذلك نقل السيّد الشهيد الحديث هنا بالمعنى وفقا لتفسيراتهم ، فيكون الإجماع حجّة ؛ لأنّه يكشف عن الحكم الشرعي عن طريق إخبار المعصوم بأنّ الإجماع مطابق للواقع دائما.

ص: 166


1- لم نعثر عليه بهذا اللفظ سوى ما ذكره السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 608 ، إلا أنّ الموجود في مظانّه لا تجتمع أمّتي على ضلالة. انظر : سنن ابن ماجة 2 : 1303 الحديث 3950، كنوز الحقائق 2 : 287 الحديث 8854 ، كشف الخفاء 2 : 470 الحديث 2999.

ورابعة باعتباره كاشفا عن دليل شرعي ؛ لأنّ المجمعين لا يفتون عادة إلا بدليل ، فيستكشف بالإجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي.

الرابع : أن يكون مستند الإجماع هو الحدس والاستنتاج القائمين على الاستقراء وتتبّع فتوى العلماء ، فإنّه إذا كانت فتوى العلماء واحدة استنتج من ذلك وجود مدرك شرعي استدلّ به على هذا الحكم الشرعي ؛ لأنّ العلماء لا يفتون إلا إذا كان هناك دليل شرعي يستندون عليه بحسب العادة والغالب ، وإن كان يحتمل استنادهم في فتواهم على دليل عقلي مثلا إلا أنّ الأغلب والأكثر هو استنادهم على دليل شرعي.

وهذا أيضا معناه أنّ الإجماع يستكشف منه بطريق الإنّ وجود الدليل الشرعي وليس هو دليلا شرعيّا بنفسه ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي المستكشف من الإجماع هنا ليس رواية وحديثا لفظيّا ، وإنّما هو بناء عقلائي أو متشرّعي كان مرتكزا في الأذهان على أساس عمل المعصوم أو سكوته مثلا ، وإلا لنقل لنا ذلك المستند اللفظي ولكان الاستدلال به أولى.

ويقوم هذا المسلك على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه ، وهو المسلك الصحيح المختار.

والفارق بين الأساس الرابع لحجّيّة الإجماع والأسس الثلاثة الأولى ، أنّ الإجماع على الأسس الأولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة ، وأمّا على الأساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم.

والفارق بين هذه المستندات أنّه بناء على الأسس الثلاثة لحجّيّة الإجماع يكون الاجماع بنفسه حجّة شرعا يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهو في نفسه دليل يعتمد عليه لاستنباط الحكم الشرعي ، غاية الأمر أنّ حجّيّته تارة تكون بحكم العقل وأخرى بحكم الشارع ، لكنّه على كلّ حال دليل وعلّة يستكشف بها الحكم الشرعي المعلول له ، فهو طريق للاستدلال من العلّة إلى المعلول.

وأمّا بناء على الأساس الرابع فإنّ الإجماع في نفسه ليس دليلا شرعيّا على الحكم ، وإنّما هو طريق يستكشف من خلال وجود الدليل الشرعي على الحكم فيكون كاشفا عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم.

وهذا معناه أنّ الإجماع إنّما يكون معلولا لوجود الدليل الشرعي ، إذ لو لا وجود

ص: 167

الدليل الشرعي لما حدث إجماع ، فهو طريق للاستدلال من المعلول على العلّة التي يستنبط منها الحكم الشرعي.

والحاصل : أنّ الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يعتبر دليلا مباشرا على الحكم ؛ لأنّه علّة له. بينما على الأساس الرابع لا يكون الإجماع دليلا مباشرا على الحكم ، وإنّما يدلّ على الدليل الشرعي وهو بدوره يدلّ على الحكم فهو دليل غير مباشر على الحكم.

وهناك فارق آخر أيضا وهو :

والبحث عن حجّيّة الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي على الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيّته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى الدليل الشرعي ، ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.

وهناك فارق آخر بين هذه المستندات ، فإنّه بناء على الأسس الثلاثة الأولى لحجّيّة الإجماع يخرج الإجماع عن عنوان بحثنا أي ( وسائل الإثبات الوجداني لصدور الدليل الشرعي ) ؛ لأنّه بناء على الأساس الأوّل فالإجماع حجّة بدليل العقل ، فيكون كاشفا عن الحكم الشرعي على أساس الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيثبت بالإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي.

وبناء على الأساس الثاني فالإجماع حجّة ؛ لأنّ الشارع قد جعل الحجّيّة له على أساس وجود دليل شرعي لفظي أو غير لفظي ، كالسيرة مثلا على حجيّة الإجماع ولزوم العمل والتعبّد بمفاده ، فيستكشف بالإجماع الحكم الشرعي أيضا على أساس كونه حجّة شرعا يجب العمل به ، ولا يستفاد منه ثبوت الدليل الشرعي على الحكم.

وبناء على الأساس الثالث فالإجماع حجّة ؛ لأنّ المعصوم قد شهد بأنّه لا يخطأ بل يصيب الواقع ، وهذا يعني أنّه إذا قام الإجماع على شيء فهذا الشيء ثابت واقعا ، وهو الحكم الذي أجمع العلماء عليه.

والحاصل : أنّه بناء على الأسس الثلاثة يستكشف من الإجماع الحكم الشرعي لا الدليل الشرعي ، وهذا الحكم كان دليله الإجماع ، والإجماع بنفسه ليس دليلا

ص: 168

شرعيّا ؛ لأنّ الدليل الشرعي إنّما هو الكتاب والسنّة اللفظيّة وغير اللفظيّة ، أي الآيات والروايات وفعل المعصوم وتقريره ، وهو ليس منها. وعليه ، فيكون البحث عن الإجماع حينئذ بحثا عن دليل غير شرعي يراد الاستدلال به على الحكم الشرعي ، وهذا معناه أنّه خارج عن عنوان بحثنا ؛ لأنّ البحث هنا معقود لإثبات صدور الدليل على الحكم الشرعي لا لإثبات الحكم نفسه.

وأمّا بناء على الأساس الرابع ، فإنّ الإجماع كان يثبت الحكم الشرعي بتوسّط كشفه عن الدليل الشرعي على أساس الملازمة بين إجماع العلماء على فتوى معيّنة وبين وجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى ؛ لأنّ العلماء لا يفتون عادة إلا إذا كان هناك دليل شرعي على الفتوى.

وهذا يعني أنّ الإجماع يكشف عن الدليل ، والدليل هو الكاشف عن الحكم ، فيكون البحث عن الإجماع بحثا عن إحراز صغرى الدليل الشرعي ، أي أنّ هذه الفتوى المجمع عليها يوجد عليها دليل شرعي ، ففي مورد هذا الإجماع يوجد دليل شرعي ، وهذا صغرى لكبرى كلّيّة وهي كلّما ثبت الدليل الشرعي على شيء فيحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال والعمل ، فيكون البحث حينئذ من الوسائل التي تثبت وتحرز الدليل الشرعي إحرازا وجدانيّا لا تعبديّا ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع هنا كانت على أساس كاشفيّته التكوينيّة عن الدليل القائم على أساس الملازمة المذكورة.

يبقى علينا أن نبحث عن هذه الملازمة وأنّه ما هو المنشأ لها ، وعلى أي أساس كان هناك تلازم بين الإجماع على شيء وبين وجود الدليل الشرعي عليه ، وأنّ هذه الملازمة هل هي مستنتجة من خلال القياس الاستنباطي أو مستنتجة على أساس الاستقراء وحساب الاحتمالات؟

وهذا البحث نريد أن نتناوله الآن فنقول :

وقد قسّم الأصوليّون الملازمة - كما نلاحظ في ( الكفاية ) (1) وغيرها (2) - إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بحثوا عن تحقّق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي وهي : الملازمة العقليّة والعاديّة والاتّفاقيّة ، ومثّلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر

ص: 169


1- كفاية الأصول : 322.
2- مصباح الأصول 2 : 138 - 140.

وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتّفاق آراء المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.

هذا التقسيم راجع لبيان وجه الملازمة بين الإجماع على شيء وبين وجود دليل شرعي عليه ، فإنّهم بعد أن ذكروا أنّ الإجماع يكشف عن الدليل الشرعي الكاشف عن الحكم أرادوا أن يبيّنوا الوجه في هذه الكاشفيّة وأنّها على أي نحو من أنحاء الملازمة ، حيث إنّ الأساس الرابع يثبت أنّ هناك ملازمة بين الإجماع وبين الدليل الشرعي ، فكلّما تحقّق الإجماع كان هناك دليل شرعي.

ولذلك قسّموا الملازمة تبعا للمنطق إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : الملازمة العقليّة :

وهي الملازمة الذاتيّة بين وجود شيء ووجود شيء آخر يستحيل انفكاكه عنه ، فإذا وجد أحدهما كان الآخر موجودا لا محالة ، كالعلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، ومثّلوا لها أصوليّا بتواتر الخبر وصدقه ، فإنّه إذا كان الخبر متواترا كان صادقا بحيث لا ينفكّ الصدق عنه ، فلا يمكن أن يكون متواترا وفي نفس الوقت غير صادق ، ولذلك كان التواتر من وسائل الإثبات الوجداني اليقيني كما تقدّم.

الثاني : الملازمة العاديّة :

وهي الملازمة التي تقتضيها العادة والعرف والطبع العامّ ، بحيث لا يستحيل الانفكاك عقلا ، إلا أنّه لا يقع الانفكاك عادة مع إمكان وقوعه أيضا ، كالملازمة بين صفات الإنسان الدالّة على الألم والمرض والضجر.

ومثّلوا لها في الأصول باتّفاق المرءوسين على شيء ملازم لرأي رئيسهم على ذلك أيضا ، فإنّهم إذا اتّفقوا على شيء كان لازمه أنّ رأي رئيسهم كذلك ، إلا أنّ ذلك ليس بمعنى استحالة الانفكاك ، بل لأنّ العادة والطبع والعرف يقتضي هذا الأمر ، وإلا فقد يتخلّف.

الثالث : الملازمة الاتّفاقيّة :

وهي الملازمة بين شيئين على سبيل الصدفة والاتّفاق ، بحيث إنّه لا يوجد تلازم عقلي ذاتي ولا تلازم طبعي بحسب العادة والعرف ، وإنّما اتّفق صدفة أن حصل التلازم نتيجة التكرر ، كالتلازم بين مجيء زيد ومجيء عمرو مثلا.

ص: 170

ومثّلوا لها في الأصول بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه ، فإنّ استفاضة الخبر لا توجب بنفسها الصدق ، وليس هناك عادة وعرف على ذلك ، بل قد يصدق وقد لا يصدق أيضا ، ولكنّه صادف أنّه تكرّر صدقه ، فحدثت الملازمة.

وبعد ذلك ذكروا أنّ الملازمة بين الإجماع ووجود الدليل الشرعي من النحو الأوّل ، أي الملازمة العقليّة الذاتيّة بحيث يستحيل أن ينفكّ الصدق عن الإجماع.

والتحقيق : أنّ الملازمة دائما عقليّة ، والتقسيم الثلاثي لها مردّه في الحقيقة إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة.

والصحيح : أنّ التقسيم المذكور غير صحيح ، فإنّ الملازمة بين شيئين عقليّة دائما ؛ لأنّ العقل هو الذي ينتزع الملازمة من خلال التلازم الخارجي بين شيئين ، بحيث إنّ العقل إذا رأى أنّه إذا تحقّق هذا الشيء تحقّق ذاك وتكرّر ذلك انتزع من ذلك مفهوم الملازمة ، فالملازمة مفهوم عقلي منتزع من الخارج ، ولذلك ينبغي ملاحظة الخارج ؛ ليعرف وجه التلازم بين هذين الشيئين ( اللازم والملزوم ) ، فالتقسيم في الحقيقة مردّه إلى طرف الملازمة الذي هو الملزوم الذي يلزم منه وجود ذاك الشيء أي اللازم ، ولذلك نقول :

فإنّ الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سمّيت الملازمة عقليّة ، كالملازمة بين النار والحرارة.

إذا كان الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما وفي كلّ الحالات والظروف لا يشذّ عنها مطلقا ، بحيث إنّه إذا ثبت ذات الملزوم ترتّب اللازم عليها ، فهذا النوع من التلازم بين الشيئين يسمّيه العقل الملازمة العقليّة ، كالملازمة بين العلّة والمعلول والأثر والمؤثّر ، فإنّه إذا ثبت ذات النار ترتّب عليها الحرارة ، فالحرارة تابعة لذات النار لا تنفكّ عنها أبدا في مختلف الأحوال والظروف ، فلأجل أنّ الملزوم يترتّب عليه اللازم دائما يسمّى بالملازمة العقليّة.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سمّيت الملازمة عاديّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات ولكنّها كانت هذه الظروف والحالات متوفّرة ومتحقّقة غالبا وعادة فتسمّى الملازمة بينهما عاديّة ،

ص: 171

فالملازمة بينهما إنّما تنتزع فيما إذا وجدت هذه الظروف والحالات لا مطلقا ، بحيث إذا اختلّت هذه الظروف لم يكن هناك تلازم بينهما ، ولا ينتزع العقل مفهوم الملازمة.

ومثال ذلك : الملازمة بين الهرم والشيخوخة وكبر السنّ ، فإنّه إذا تحقّق الملزوم أي كبر السنّ فالغالب بحسب ما جرت عليه العادة أن يتحقّق اللازم ، إلا أنّه إنّما يتحقّق فيما إذا كان هناك ظروف وأحوال معيّنة لا مطلقا ، ولكن الغالب أن توجد هذه الظروف إلا أنّه لا يعني ثبوت اللازم دائما ، بل قد ينفكّ عن الملزوم في حالات وظروف أخرى.

وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف قد يتّفق وجودها فالملازمة اتّفاقيّة.

وإذا كان اللازم يترتّب على الملزوم في بعض الظروف والحالات التي قد يصادف وجودها فالملازمة تسمّى اتّفاقيّة ، بمعنى أنّه لا يوجد تلازم بين ذات الملزوم واللازم لا دائما ولا غالبا ، وإنّما قد تتحقّق بعض الظروف والحالات الخاصّة توجب ترتّب اللازم ، إلا أنّ هذه الظروف نادرة وقليلة وليست إلا من قبيل المصادفة فقط ، كمجيء عمرو عند مجيء زيد ، فإنّ الملازمة بينهما تنشأ نتيجة بعض الظروف الخاصّة التي لا تتوفّر دائما ولا غالبا.

وبهذا ظهر أنّ الأقسام الثلاثة تابعة للملزوم مع لازمه في الخارج لا للملازمة التي ينتزعها العقل ، فإنّها مفهوم واحد لا اختلاف فيه ، وهو أنّه إذا تحقّق شيء تحقّق شيء آخر معه ، وهذا المعنى موجود في الأقسام الثلاثة.

والصحيح : أنّه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضيّة فضلا عن الإجماع.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة ، كما أنّه لا ملازمة أيضا بين الإجماع وثبوت القضيّة ، فما ذكر من أنّ هناك ملازمة عقليّة بين التواتر والإجماع من جهة وبين ثبوت القضيّة من جهة أخرى غير صحيح ؛ لأنّ الملازمة العقليّة عرفنا أنّ مردّها إلى التلازم بين ذات الملزوم وبين اللازم بحيث إنّه إذا تحقّق ذات الملزوم كان اللازم متحقّقا في كلّ الأحوال والظروف ، ولا يمكن أن ينفكّ عنه ؛ لأنّه مترتّب على ذات الملزوم.

وهنا إذا ثبت التواتر أو الإجماع فلا يترتّب على ذاتيهما ثبوت اللازم وهو ثبوت القضيّة المتواترة أو المجمع عليها ؛ لأنّه كما تقدّم سابقا في التواتر أنّ ثبوت القضيّة تابع

ص: 172

للمضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي ، الذي يتأثّر بالظروف والأحوال والعوامل الموضوعيّة والذاتيّة ، فليس ثبوت القضيّة مترتّبا على ذات التواتر فضلا عن الإجماع ، بل يرتبط ذلك بكثير من الظروف والأحوال إذا وجدت ثبتت القضيّة وإلا فلا تثبت.

وهذا لا ينفي أنّنا نعلم بالقضيّة القائلة : ( كلّ قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ؛ لأنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفكّ عن الموضوع غير العلم بأنّه لا يمكن أن ينفكّ عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الأوّل على أساس تراكم القيم الاحتماليّة وزوال الاحتمال المخالف لضآلته ، لا لقيام برهان على امتناع محتمله عقلا.

فإن قيل : إنّنا نعلم بالقضية القائلة : ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) ، فكيف يقال : إنّه لا ملازمة بين التواتر وبين ثبوت القضيّة؟!

كان الجواب : إنّ إنكار الملازمة العقلية بين التواتر أو الإجماع وبين ثبوت القضيّة لا يعني إنكار ونفي هذه القضيّة ، بل إنّ هذه القضيّة صادقة وصحيحة ، ولا تعارض ولا تنافي بين إنكار الملازمة العقلية وبين الإيمان بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك هو : أنّ العلم بأنّ ( كل قضيّة ثبت تواترها فهي ثابتة ) معناه إذا تحقّق التواتر أو الإجماع على شيء كان ذلك الشيء ثابتا واقعا ، فنحن نعلم بثبوت القضيّة إذا تحقّق التواتر أو الإجماع ، أي أنّنا نعلم بتحقق المحمول إذا تحقّق الموضوع بحيث إذا وجد الموضوع وجد المحمول ولا ينفك المحمول عنه ، إلا أنّ هذا العلم أي ( أنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع ) ليس معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، فهناك فرق بين أمرين هما الإمكان الوقوعي والإمكان الذاتي.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم بأنّ المحمول لا ينفك عن الموضوع معناه أنّ المحمول ثابت وصادق ، وهذا قد يصدق مع استحالة الانفكاك عقلا كالنار والحرارة ، وقد يصدق من دون استحالة الانفكاك كما في العرض اللازم كالضاحك الذي هو وصف للإنسان فإنّه لا ينفك إلا أنّه لا يعني عدم إمكان الانفكاك عقلا ، لأنّ الإنسان لا يتوقّف على الضاحك وليس من ذاتياته ، بل يكفي كونه حيوانا ناطقا بخلاف النار والحرارة فإنّ الحرارة ، من ذاتيات النار لا تنفك عنها عقلا.

فإذا قلنا : إنّه لا ينفك فهذا معناه نفي الإمكان الوقوعي للانفكاك لا الذاتي.

وفي مقامنا عند ما نعلم بأنّ صدق القضيّة لا ينفك عن التواتر أو الإجماع ليس

ص: 173

معناه أنّه يستحيل الانفكاك عقلا ، بل قد ينفك لكنّه لم يقع خارجا ، أي أنّ المستحيل هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي المقابل للوجوب أو الامتناع العقليّين.

ومن جهة أخرى : أنّ الملازمة العقلية بين شيئين معناها أنّه إذا وجد الملزوم وجد اللازم ويستحيل انفكاكه عنه كالعلة والمعلول والنار والحرارة ، فالملازمة معناها استحالة الانفكاك ، وهذه القضيّة لا تعني استحالة الانفكاك بل إنّ الانفكاك لم يقع ، أمّا أنّه مستحيل أو لا ، فهذا غير معلوم.

فما نعلم به غير الملازمة لأنّ الملازمة معناها الاستحالة وما نعلم به هو عدم الانفكاك. وهذا العلم بعدم الانفكاك وأنّه لم يقع في الخارج ليس ناشئا من دليل عقلي على امتناع واستحالة الانفكاك ، بل هو ناشئ على أساس حساب الاحتمالات وتجمع القيم الاحتماليّة التي تزداد وتكبر لصالح الصدق وتتضاءل وتصغر لصالح الكذب ، إلى أن يزول احتمال الخلاف والكذب كما تقدّم ، فزوال احتمال الكذب والمخالفة للواقع كان على أساس حساب الاحتمالات المعتمد على المضعف الكمي والكيفي معا ولم يكن الزوال نتيجة برهان عقلي على استحالة الكذب ومخالفة الواقع ، ولذلك قلنا بأنّه ( إذا ثبت تواتر القضيّة ثبت صدقها ) فإنّ العلم بثبوت صدقها ناشئ من حساب الاحتمالات لا من دليل عقلي على استحالة الكذب ؛ ولذلك لا يحكم العقل باستحالة الكذب والمخالفة للواقع ، بل ذلك أمر ممكن لكنّه لم يقع في الخارج ، وهذان أمران متغايران فإنّ الاستحالة شيء وعدم الوقوع شيء آخر كما هو واضح.

فالصحيح ربط كشف الإجماع بنفس التراكم المذكور ، وفقا لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر ، على فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها أخبارا حدسية ومفردات التواتر بوصفها أخبارا حسية ، وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة.

وبهذا يتّضح أنّ الإجماع كالتواتر يعتمد على حساب الاحتمالات وتراكم القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب.

فالإجماع يكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم المجمع عليه على أساس حساب الاحتمالات كما سيأتي توضيحه.

ص: 174

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين مفردات التواتر ومفردات الإجماع ، وهذا يؤثّر على القيم الاحتماليّة ، فإنّ التواتر كانت مفرداته عبارة عن أخبار حسية تعتمد على المشاهدة أو السماع ونحوهما ، بينما مفردات الإجماع تعتمد على إفتاء كل مجتهد من المجتهدين بحكم مطابق لما أفتى به المجتهد الآخر ، فهو يخبرنا بالفتوى ومن خلالها نستنتج وجود الدليل الشرعي أي أنّه إخبار حدسي استنتاجي بوجود الدليل الشرعي بينما التواتر كان إخبارا حسيا مباشرا عن الدليل الشرعي.

وهذا الفارق يؤثّر على القيمة الاحتماليّة للصدق سلبا أو إيجابا ؛ لأنّ احتمال الكذب والخطأ والاشتباه في الحدس والاستنتاج أكبر منه في الحس والمشاهدة والسماع ولذلك تكون قيمة احتمال الكذب أكبر من الصدق في كل مفردة من مفردات الإجماع على عكس التواتر.

مضافا إلى فوارق أخرى تقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية ، فليراجع.

وتقوم الفكرة في تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا ، وبقدر احتمال الإصابة يتشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمع القرائن الاحتماليّة لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة ، تتحول بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف.

وأمّا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي فتقوم على أساس حساب الاحتمالات حيث إنّ الفقيه إذا أفتى بقضية فهو يعتمد على دليل لذلك ؛ لأنّ الفقيه من جملة المتشرّعة المتديّنين الذين لا يفتون إلا بعلم فهو يعتقد بوجود دليل شرعي على فتواه وإلا لما أفتى بها ، لأنّ الإفتاء بلا علم من المحرمات الواضحة لدى المتشرّعة بنص الكتاب ، وحيث إنّه من الممكن أن يكون مصيبا باعتقاده في وجود الدليل الشرعي ، فإنّه يحتمل أن يكون مخطئا أيضا بأن يكون استند إلى ما ليس بحجّة شرعا باعتقاد أنّه حجّة شرعا ، ولذلك فإنّ فتواه هذه قد تكشف عن الدليل الشرعي وقد لا تكشف ، فهي بذاتها يحتمل فيه الإصابة وعدمها ، ولكن إذا ضمّ إلى فتواه فتوى المجتهد الآخر فسوف تتشكّل قرينة احتماليّة على الإصابة أكبر بالنحو المتقدّم في

ص: 175

التواتر ، فإذا تجمعت مفردات كثيرة للاجماع سوف تتراكم القيم الاحتماليّة للإصابة وسوف تزداد تبعا للمضعف الكمي ، وبالتالي سوف تتضاءل القيمة الاحتماليّة للخلاف وبضم المضعف الكيفي حيث إنّه يبعد أن يكون كل فقيه رغم اختلاف ظروفه وأحواله وما إلى ذلك من عوامل موضوعية قد تعمد الخلاف أو الكذب ، أو أنّه اشتبه وأخطأ بنفس ما اشتبه وأخطأ فيه الآخر ، وهذا يؤدّي إلى زوال القيمة الاحتماليّة للخلاف ويحصل اليقين بوجود الدليل الشرعي على هذه الفتوى المجمع عليها.

ويستفاد من كلام المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعي من الإجماع بالنقطتين التاليتين :

ثمّ إنّه أشكل على استفادة الدليل الشرعي من الإجماع بإشكالات عديدة أهمها الاعتراض الذي ذكره المحقّق الأصفهاني ، وهذا الاعتراض يتكّون من نقطتين ، هما :

الأولى : أنّ غاية ما يتطلبه افتراض أنّ الفقهاء لا يفتون بدون دليل هو أن يكونوا قد استندوا إلى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في إثبات الحكم وحجيّتها سندا ، وليس من الضروري أن تكون الرواية في نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها ، كما أنّه ليس من الضروري أن يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها كذلك عندنا ؛ إذ قد لا نبني إلا على حجيّة خبر الثقة ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجيّة الحسن أو الموثّق.

أمّا النقطة الأولى : فإنّ ما ذكر من كون الفقهاء لا يفتون عادة إلا استنادا إلى دليل شرعي لا يفيد ، وذلك لأنّه من المحتمل قويا أن يكون الفقيه قد استند إلى رواية عن المعصوم اعتقد بأنّها تامّة سندا ودلالة ، أي أنّها بحسب فهمه كانت تدلّ على الفتوى التي أفتى بها ، وبحسب مبانيه الأصولية أو الرجالية كانت صحيحة السند. إلا أنّ هذين الأمرين يختلف حالهما من فقيه لآخر ، فليس من الضروري أنّه إذا فهم فقيه شيئا من رواية أن نفهمه نحن أيضا ؛ إذ قد تكون هناك بعض النكات والقرائن والشواهد ولذلك يختلف ما يستظهره عمّا نستظهره نحن ، فكون الرواية دالة على فتواه ليس ملزما لنا ، إذ قد لا تكون دالة على هذه الفتوى بنظرنا ؛ لوجود أشياء خفيت عليه أو العكس ، وكذلك الأمر بالنسبة للسند فإنّه قد يكون اعتمد على رواية

ص: 176

صحيحة السند باعتقاده لكنها ضعيفة السند عندنا ، فإنّ المباني في الأسانيد مختلفة ، فقد يكونون قد استندوا على حجيّة الخبر الحسن وهو الإمامي الممدوح من دون توثيق أو الخبر الموثق وهو غير الإمامي الذي شهد له بالوثاقة ، بينما نحن لا نقول إلا بالخبر الصحيح وهو الذي رواه العدل الإمامي ، فيكون السند غير حجّة عندنا.

والحاصل : أنّ إفتاء العلماء معناه استنادهم على دليل شرعي ، ولكن ليس معناه أنّ هذا الدليل الشرعي تام الدلالة والسند حتّى بالنسبة إلينا ؛ ليكون حجّة علينا أيضا ، بل قد يكون ساقطا عن الاعتبار دلالة أو سندا أو كلاهما (1).

الثانية : أنّ أصل كشف الإجماع عن وجود رواية خاصّة دالة على الحكم ليس صحيحا ، لأنّنا إن كنّا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها لا بالإجماع ، ولا بدّ من تقييمها بصورة مباشرة ، وإن كنّا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن أن نفترض وجود رواية ؛ إذ كيف نفسر حينئذ عدم ذكر أحد من المجمعين لها في شيء من كتب الحديث أو الاستدلال؟ مع كونها هي الأساس لفتواهم على الرغم من أنّهم يذكرون من الأخبار حتّى ما لا يستندون إليه في كثير من الأحيان.

النقطة الثانية : أنّ الإجماع لا يكشف عن وجود رواية دالة على الحكم المجمع عليه ، وذلك لأنّه إذا كانت هناك رواية فإما أن تكون موجودة في كتب الحديث وهذا يعني أن الرواية والدليل الشرعي قد وصل بنفسه إلينا لا عن طريق الإجماع ، فالإجماع لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّ الدليل الشرعي موجود بنفسه حينئذ ، فلا بد من الرجوع إلى هذه الرواية وتقييمها من حيث السند والدلالة فإن كانت تامّة فيؤخذ بها مستندا ودليلا للحكم وإلا فلا.

وإن لم تكن منقولة في كتب الحديث فكيف يمكننا أن نفترض مثل هذه الرواية؟

إذ المفروض أنّها كانت مستندا تام الدلالة والسند للحكم المجمع عليه ، والمفتون جميعا استندوا عليها ، فكيف لم ينقلها أحد منهم مع أنّهم نقلوا في كتبهم الكثير من

ص: 177


1- وهذا الاشكال مبني على أن يكون المبنى الجديد الذي نقول به نحن غير موجود عند المجمعين أو لا قائل به منهم ، وإلا فلا يتمّ الإشكال لأنّه لو كان موجودا بينهم فمعناه أنّه لا يضر بصحّة الرواية دلالة وسندا وإلا لما أجمعوا على الفتوى كلّهم.

الروايات الصحيحة والضعيفة؟ فلما ذا لم تنقل هذه الرواية مع توفر الدواعي والظروف لنقلها؟ فعدم نقلها يدلّ على عدم وجودها وإلا لنقلت.

والحاصل : أنّ الإجماع يمنع كونه كاشفا عن الدليل الشرعي ، فلا يكون حجّة.

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول :

إنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين لا نريد به أن نكتشف رواية على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريبا ، وإنّما نكتشف به - في حالة عدم وجود مستند لفظي محدد للمجمعين - ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقى من الطبقات السابقة على أولئك الفقهاء المتقدمين ، لأنّ تلقّي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسر حينئذ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين على الرغم من عدم وجود مستند لفظي مشخص بأيديهم.

أمّا الجواب على النقطة الثانية وهي أنّنا لا نجد هذه الرواية في كتب الحديث والفقه ؛ فهو أنّ الإجماع من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين أي الذين قاربوا عصر الغيبة كالصدوق والكليني والمفيد والمرتضى والطوسي ونحوهم ، لا نريد به أن نثبت وجود رواية لفظية دلت على الحكم الذي أجمعوا عليه ؛ لكي يعترض علينا بأنّ هذه الرواية غير منقولة في الكتب وأنّ عدم نقلها غريب.

وإنّما نريد بالإجماع المنعقد اكتشاف دليل شرعي على الحكم الذي أجمعوا عليه ، وحينئذ إذا لم يكن هذا الدليل الشرعي لفظيّا - وهو كذلك حيث لم ينقل إلينا - فمن الواضح أنّه لن ينقل إلينا في كتب الحديث والفقه ؛ لأنّ الإجماع يكشف عن وجود دليل شرعي غير لفظي على الحكم المجمع عليه ، وهذا الدليل غير اللفظي هو الارتكاز والوضوح في الرؤية - أي سيرة عملية قد تلقاها فقهاء عصر الغيبة المتقدمين من الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت النص.

إذ لا يوجد مبرّر يمكن التعويل عليه في تفسير هذه الإجماع - مع عدم وجود مستند لفظي ( آية أو رواية ) - سوى أن يكون فقهاء عصر الغيبة المتقدمين قد عاشوا جوا وارتكازا ووضوحا على هذا الحكم ولذلك أجمعوا عليه ، وإلا فكيف أجمعوا على الحكم مع أنّ المفروض أنّهم لا يفتون من دون مستند شرعي باعتبارهم من

ص: 178

المتشرّعة المتدينين الذين لا يعملون إلا بالدليل ويبعد جدا ، بل لعلّه يستحيل أن يجمعوا على حكم من دون مستند شرعي له؟!

وبهذا نعرف أنّ الإجماع المنعقد من هؤلاء الفقهاء قد كان مستندا إلى ذلك الارتكاز والوضوح في الرؤية على هذا الحكم ، وهذا الارتكاز قد أخذوه ممّن كان قبلهم إلى أن تصل إلى الطبقات المعاصرة للنص فيثبت أنّ هذا الارتكاز والوضوح قد عمل به المتشرّعة بحضور الإمام علیه السلام ولم يردعهم عنه ولذلك يكون قد أمضاه بسكوته ، بل قد يكون هذا الارتكاز نتيجة فعل قام به المعصوم فأخذوه منه وساروا عليه.

وهذا الارتكاز والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمّة علیهم السلام يكشف عادة عن وجود مبررات كافية في مجموع السنّة التي عاصروها من قول وفعل وتقرير أوحت إليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ؛ إذ لا يفترض تلقي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة رواية محددة وعدم إشارتهم إليها ، وإنّما تلقوا جوا عاما من الاقتناع والارتكاز الكاشف ، فمن الطبيعي ألا تذكر رواية بعينها.

وهذا الارتكاز والوضوح الذي استند عليه الفقهاء المجمعون من عصر الغيبة كان موجودا عند الطبقات السابقة عليهم والتي عاصرت الأئمّة علیهم السلام كالكليني والصدوق ونحوهما وهذا معناه أنّ هذا الارتكاز يكشف عادة عن وجود المبررات الكافية للحكم الشرعي الذي أجمع عليه ، ولا يشترط أن تكون هذه المبررات التي يكشف عنها هذا الارتكاز دليلا شرعيا لفظيّا ؛ ليقال : إنّ عدم نقله غريب ، بل إنّ هذه المبررات استفيدت من مجموع السنّة الأعم من القول والفعل والتقرير بحيث إنّ مجموع السنّة قد أوحى إلى تلك الطبقات بهذا الجو العام والارتكاز والوضوح على الحكم ولذلك لم يطالبوا بدليل لفظي ، بل استندوا على هذا الوضوح والارتكاز ، ولهذا فلا مجال للاستغراب المذكور في الاعتراض بأنّه كيف لم تنقل إلينا هذه الرواية الصحيحة سندا ودلالة مع كونها هي المستند للحكم المجمع عليه؟ لأنّه لا توجد هناك رواية لفظية خاصّة كانت المستند لهذا الحكم وإنّما كان هناك جو عام وارتكاز ووضوح ؛ أي سيرة عمليّة من المتشرّعة.

ص: 179

ومن الواضح أنّ السيرة العمليّة من المتشرّعة ليست رواية لفظية لكي تنقل في كتب الحديث والفقه وليكون عدم نقلها غريبا.

والحاصل : أنّ الاجماع يكشف عن دليل شرعي ولكنّه ليس لفظيّا بل يكشف عن ارتكاز ووضوح أي سيرة متشرعية ، أو فلنقل كان المستند مستنتجا من مجموع السنّة الشاملة للقول والفعل والتقرير فليست هناك رواية خاصّة محددة كانت هي المستند لتنقل إلينا ، بل ذاك الارتكاز والوضوح ومن الطبيعي جدا ألا ينقل في كتب الحديث والفقه.

وعلى هذا الضوء يتّضح الجواب على النقطة الأولى أيضا ، لأنّ المكتشف بالإجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميتها سندا أو دلالة ، بل هذا الجوّ العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي.

وبهذا ظهر الجواب عن النقطة الأولى من أنّ هذه الرواية يحتمل ألا تكون تامّة سندا أو دلالة ، لأنّ المكتشف بالإجماع - كما تقدّم - ليس رواية لفظية ، بل ارتكازا وجوّا عاما ووضوحا في الرؤية مستنتج من مجموع السّنة القولية والفعليّة والتقرير ، ولنقل إنّها رواية غير لفظية أي سيرة عمليّة من المتشرّعة المعاصرين للأئمّة علیهم السلام قد انتقلت إلى من بعدهم من الأجيال والطبقات حتّى وصلت إلينا عن طريق إجماع العلماء.

فلا موضوع للاعتراض أصلا لأنّه مبني على أن المكتشف بالاجماع

هو رواية لفظية ، بينما المكتشف بالإجماع ليس إلا ارتكازا فقط ، أي سيرة عمليّة أو رواية غير لفظية.

وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثاله من معاصري الأئمّة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل الشرعي.

والنكتة في كشف الإجماع عن الدليل الشرعي هو الارتكاز المذكور ، فالإجماع يكشف عن الارتكاز والارتكاز بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فيكون الإجماع كاشفا عن الدليل الشرعي بتوسط هذا الارتكاز ، ولذلك يقوم

ص: 180

الارتكاز بدور الوسيط بين إجماع الفقهاء من عصر الغيبة وبين الدليل الشرعي.

وبتعبير آخر : أنّ الإجماع معلول للارتكاز والجوّ العام الذي أوحت به السّنة بمجموعها والارتكاز بدوره معلول لوجود الدليل الشرعي الصادر من المعصوم والذي ليس رواية لفظية بل الأعم من قوله وفعله وتقريره.

فالكاشف المباشر والحقيقي عن الدليل الشرعي إنّما هو الارتكاز المذكور لأنّه معلول له فيكون كاشفا عنه من طريق كشف المعلول عن علته ، وبما أنّ الإجماع معلول لهذا الارتكاز فيكون كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا لأنّه معلول له أيضا.

ولهذا فإنّ أي بديل للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدّي نفس دور الإجماع ، فإذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفة أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معين ، كفى ذلك في إثبات هذا الحكم.

وعلى هذا الأساس اتّضح أنّ الاجماع يكشف عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي. وعليه ، فلو قام شيء آخر يكشف عن هذا الوسيط لكان كاشفا عن الدليل الشرعي أيضا كالإجماع ، فلا خصوصيّة للإجماع حينئذ ، بل دوره دور الكاشف عن الوسيط فقط.

فإذا كانت السيرة المتشرعية الآن المنعقدة على حكم ما كاشفة عن هذا الوسيط كانت كاشفة أيضا عن الدليل الشرعي.

وأمّا كيف تكون السيرة المتشرعية المنعقدة الآن كاشفة عن الوسيط؟ فهذا يحتاج إلى إثبات كونها معاصرة للمعصومين علیهم السلام أو للمخالطين وللمعاصرين منهم ، أو كونها كاشفة عن اقتناعات ومرتكزات الأئمّة علیهم السلام أو أصحابهم ، فإذا أمكن ذلك كانت هذه السيرة كاشفة عن الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي أيضا.

وبهذا نعرف أنّ حجيّة الإجماع ليست ذاتية ، ولا مجعولة من الشارع ، وإنّما الإجماع يقوم بدور الكاشف عمّا هو حجّة شرعا ، وهو الارتكاز والسيرة العمليّة الكاشف عن وجود الدليل الشرعي.

وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما ينفع في

ص: 181

مجال تشخيص بعض هذه القرائن.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن بعض الطرق التي يمكننا من خلالها إثبات معاصرة السيرة سواء المتشرعية أو العقلائيّة للأئمّة علیهم السلام أو لمن خالطهم وعاشرهم من أصحابهم ، وهي :

1 - عدم التغير والتحوّل.

2 - النقل التاريخي.

3 - أن يكون لعدم هذه السيرة لازم منتف بالوجدان.

4 - أن يكون لعدم هذه السيرة بديل غريب.

5 - التحليل والاستقراء للمرتكزات الوجدانيّة.

الشروط المساعدة على كشف الإجماع :

وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالإجماع وتسلسلها يمكن أن نذكر الأمور التالية كشروط أساسية لكشف الإجماع عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدّمة الذكر أو مساعدة على ذلك ، وهي :

بعد أن عرفنا كيفيّة كشف الإجماع عن الدليل الشرعي وأنّه بتوسط الارتكاز ، فيمكننا هنا أن نذكر بعض العوامل والشروط التي إما أن تكون شروطا أساسيّة لا بدّ من توفرها وتحققها لكشف الإجماع أو أنّها شروط تساعد على كاشفيّته عن الدليل الشرعي.

وهذه الشروط من شأنها أن تساهم مساهمة كبيرة في ازدياد القيم الاحتماليّة للصدق والإصابة أكثر وأرسخ ، وهي :

الأوّل : أن يكون الإجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين ، لأنّ هؤلاء هم الذين يمكن أن يكشفوا عن ارتكاز عام لدى طبقة الرواة ومن إليهم دون الفقهاء المتأخرين.

الأوّل : أن يكون الإجماع متحققا عند الفقهاء القدماء القريبين من عصر الغيبة جدا بحيث يكون عصرهم وعهدهم متصلا بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام ، لأنّ الإجماع يراد به اكتشاف الوسيط أي الارتكاز ،

ص: 182

وهذا الارتكاز لا يمكن الكشف عنه إلا من قبل القدماء المتصلين بأصحاب الأئمّة ورواة الحديث والمتشرّعة المعاصرين ، لأنّ أي إجماع آخر من غير هؤلاء لا يكون كاشفا عن الوسيط المذكور إلا إذا ثبت كون هذا الإجماع قد انعقد في زمان العلماء القدماء أيضا ؛ إذ لو كان القدماء مخالفين لإجماع المتأخرين لم يكن إجماع المتأخرين حجّة ، لأنّه لا يكون كاشفا عن الارتكاز ، إذ كيف يثبت الارتكاز والحال أنّ قسما من المتشرّعة وعلى رأسهم العلماء المتقدمين لم يعملوا به ، ولم يعتقدوا وجوده؟!

فالعلماء المتقدمون المتصلون بعصر النص أو بالأصحاب أو بالمتشرعة من رواة الأحاديث وغيرهم الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام هم الذين يمكن أن يكشفوا عن هذا الارتكاز دون غيرهم من الفقهاء المتأخرين إلا إذا ثبت موافقة القدماء لهم ، وبالتالي يرجع الأمر إلى القدماء.

الثاني : ألا يكون المجمعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرحوا بمدرك محدد لهم ، بل ألا يكون هناك مدرك معين من المحتمل استناد المجمعين إليه ، وإلا كان المهم تقييم ذلك المدرك. نعم ، في هذه الحالة قد يشكّل استناد المجمعين إلى المدرك المعين قوّة فيه ويكمل ما يبدو من نقصه.

الثاني : ألا يكون هناك مدرك للإجماع ولو احتمالا ، فهنا مطلبان :

1 - ألا يكون هناك مدرك للإجماع إذ لو كان للإجماع مدرك استندوا إليه وصرحوا بوجوده سواء كان آية أو رواية أو دليلا عقليا فحينئذ لا يكون الإجماع حجّة ، إذ لا يكون كاشفا عن هذا الوسيط الكاشف عن الدليل الشرعي ، حيث تقدّم إنّ الإجماع إنّما يكون حجّة فيما إذا كان كاشفا عن الوسيط أي الارتكاز ، فإذا لم يكن كاشفا عنه لم يكن حجّة ، لأنّه ليس حجّة بذاته لا وجدانا ولا تعبدا. وعليه ، فيجب الرجوع إلى هذا المدرك ليرى أنّه تام سندا ودلالة وجهة أو لا.

فإذا كان تامّا أخذ به وإلا فلا. وهذا ما يسمّى بالإجماع المدركي.

2 - الا يكون هناك احتمال لوجود مدرك قد استندوا إليه في إجماعهم ، فإنّه إذا كنّا نحتمل وجود المدرك احتمالا معتدا به ، فحينئذ لا نقطع بأنّ الإجماع كاشف عن الوسيط والارتكاز ، وبالتالي لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي. نعم ، يبقى هناك ظن بذلك إلا أنّ الظن ما لم يقم الدليل الشرعي للتعبد به لا يمكن التعويل عليه ، كما

ص: 183

هو الحال هنا ، فإنّ الإجماع ليس دليلا تعبديّا فلا يؤخذ به إلا إذا كان كاشفا عن الارتكاز ، فإنّ لم يكن كاشفا عنه ولو احتمالا فلا يؤخذ به.

نعم ، قد يشكّل استناد المجمعين إلى هذا المدرك الذي صرحوا به أو المحتمل قوّة في سند أو دلالة الدليل بحيث يكون تعويلهم عليه جابرا لضعف سنده إن كان فيه ضعف ولو احتمالا ، ويكون فهمهم عاضدا للدلالة وإن لم يكن مستظهرا منها بالنسبة إلينا ، لأنّ هذا الفهم الخاص يكشف عن أنّه توجد قرائن وشواهد غابت علينا ؛ لكنّهم فهموا من لحن أو من بعض الأجواء الخاصّة ، أو أنّهم استوحوها من خلال قربهم من عصر النص والرواة.

ومن هنا يقال إن عمل الأصحاب برواية جابر لضعفها سندا ودلالة.

ومثال ذلك : أن يثبت فهم معنى معين للرواية من قبل كل الفقهاء المتقدمين القريبين من عصر تلك الرواية ، والمتاخمين لها ، فإنّ ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى نظرا لقرب أولئك من عصر النص وإحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.

مثال ذلك : أنّ الفقهاء القدماء المعاصرين لرواة الحديث والقريبين من عصر النص جدا إذا فهموا من الرواية معنى معين لم يكن ظاهرا منها ، أو كان هناك معنى آخر أظهر من المعنى الذي فهموها كان فهمهم هذا مرجحا على فهم الفقهاء المتأخرين في حالة التعارض بينهما ، ويكون هذا الفهم قاضيا على كل التشكيكات التي تأتي فيما بعد في صحّة هذا المعنى الذي استظهروه من الرواية ، وذلك لأنّ قربهم من عصر النص واتصالهم بحملة الحديث ومتاخمتهم من عصر صدور الرواية يعتبر مرجحا لفهمهم ؛ إذ قد يكونوا قد عولوا على قرائن وشواهد خفيت علينا نتيجة ابتعادنا عن عصر النص بحيث كانت هذه القرائن غير لفظية وإلا لنقلت إلينا كما هو مقتضى الأمانة والوثاقة للراوي ، فإذا لم ينقل إلينا شيء ومع ذلك فهم المتقدمون من الرواية شيئا مغايرا لما فهمناه منها كان معنى ذلك أنّه توجد قرائن حالية أو مقامية أو ظروف معينة قد اطلع عليها القدماء ، ولكنّها حجبت عنا نتيجة بعض الملابسات والظروف.

الثالث : ألا توجد قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمّة علیهم السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللذان

ص: 184

يراد اكتشافهما عن طريق إجماع الفقهاء المتقدمين ، والوجه في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفيّة تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط المشار إليه فيه.

الثالث : ألا تكون هناك قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والأصحاب والمتشرّعة الذين عاصروا الأئمّة علیهم السلام لم يكن هذا الارتكاز والوضوح والجو العام المراد اكتشافه بالإجماع موجودا ؛ لأنّه إذا كان هناك مثل هذه القرائن فلا يكون الإجماع حينئذ كاشفا عن وجود الارتكاز والوضوح والجو العام ، إذ المفروض وجود ارتكاز معاكس له فلا يكون حجّة ؛ لأنّ حجيّة الإجماع كانت مرتبطة بمدى كشفه عن ذاك الوسيط على أساس حساب الاحتمالات.

فإذا كان الارتكاز المراد اكتشافه يعلم بعدم وجوده أو كان هناك ارتكاز آخر معارض له ، كان معنى ذلك أنّ الإجماع لم يكشف عن الارتكاز الموجود في عصر الأئمّة علیهم السلام ، بل كشف عن ارتكاز آخر لم يكن موجودا في عصرهم فلا يكون دالا على الدليل الشرعي حينئذ لعدم كشفه عن الارتكاز في عصر الأئمّة علیهم السلام .

ومثال ذلك : نجاسة الكتابي وطهارته ، فإنّ مجموع الأسئلة التي طرحت على الأئمّة علیهم السلام كانت مقيّدة بقيود كثيرة كشربه للخمر أو أكله للحم الخنزير ونحو ذلك ، وهذا معناه أنّ نجاسة الكتابي لم تكن مرتكزة وواضحة عندهم وإلا لما سألوا بهذا النحو من الأسئلة فإذا انعقد إجماع على نجاسة الكتابي لم يكن هذا الإجماع كاشفا عن الوسيط والارتكاز ، أو على الأقلّ يشك في كاشفيّته عنه ولذلك لا يكون حجّة ، لأنّه توجد قرائن معاكسة لهذا الارتكاز الذي يراد اكتشافه بالإجماع.

الرابع : أن تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها عادة إلا من قبل الشارع ، وأمّا إذا كان بالإمكان تلقيه من قاعدة عقلية مثلا ، أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل أو إطلاق فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.

الرابع : أن تكون المسألة التي انعقد الإجماع عليها من المسائل التي لا مجال لصدور الحكم فيها إلا من قبل الشارع ، فيكون حينئذ الإجماع كاشفا عن الارتكاز ، وهو بدوره يكشف عن الدليل الشرعي على هذا الحكم المجمع عليه.

ص: 185

وأمّا إذا كانت هذه المسألة من الممكن أن تستفاد وتستنتج من قاعدة عقليّة بأن كانت من مسائل الحسن والقبح أي المستقلاّت العقلية ، أو كانت من الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، أو حرمة شيء وبطلانه ، أو الأمر بشيء وحرمة ضده ونحوها من الملازمات العقلية ، فحينئذ لا يكون الإجماع على هذه المسألة كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه يحتمل أن يكون دليلها هو حكم العقل ، ومع الاحتمال لا يقطع بالكاشفية ومع عدم الكاشفيّة لا يكون الإجماع حجّة ، لأنّه ليس حجّة بنفسه.

وكذلك الحال إذا كانت هذه المسألة من الممكن استفادتها من عموم أو إطلاق بأن كانت من جملة التفريعات والمصاديق لهذا الإطلاق والعموم ، فإنّ إجماعهم على المسألة لا يكون كاشفا عن الدليل الشرعي ؛ لأنّه من الممكن أن يكون مستندها ودليلها هو هذا الإطلاق والعموم ، وحينئذ تبطل كاشفيّة الإجماع فلا يكون حجّة ، ويجب حينئذ الرجوع إلى هذا الإطلاق والعموم وتقييمه ليرى أنّ هذه المسألة هل تصلح أن تكون من تفريعاته ومصاديقه أم لا؟ (1).

مقدار دلالة الإجماع :

لمّا كان كشف الإجماع قائما على أساس تجمّع أنظار أهل الفتوى على قضيّة واحدة اختص بالمقدار المتّفق عليه ، ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الإجماع إلا بالنسبة لمورد الخاص.

يثبت بالإجماع المقدار المتيقن المتّفق عليه من الجميع ، وذلك لأنّه دليل لبيّ والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقن ، ولا يتعدى إلى الزائد عن ذلك إلا لدليل خاص ، وحيث إنّ الإجماع قائم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة لصدق القضيّة في محور واحد كان ذلك مرتبط بالمحور الذي تم الاتفاق عليه دون الزائد عنه ، لأنّ هذه القيم الاحتماليّة إنّما حصلت وتراكمت

ص: 186


1- وهذا الشرط يمكن إرجاعه إلى الشرط الثاني ، حيث يحتمل وجود المدرك للإجماع غاية الأمر أنّ المدرك هنا عقلي أو عموم وإطلاق دليل بينما هناك كان المدرك لفظيّا. ويدخل في هذا الشرط أيضا كل مدرك ومستند يحتمل تعويل المجمعين عليه ، أو يحتمل رجوع المسألة المجمع عليها إليه كالعرف أو السيرة العقلائيّة أو الظهور ونحو ذلك.

نتيجة الاتفاق على قضيّة خاصّة دون سائر الموارد والقضايا وان كانت مرتبطة أو متفرّعة عنه.

فمثلا إذا كانت بعض فتاوى المجمعين عامّة ومطلقة وبعضها خاص ومقيّد ، كان المقدار الثابت بالإجماع هو الخاص والمقيّد فقط دون العموم والإطلاق ، لأنّ القيم الاحتماليّة المتراكمة على المحور الأضيق هي القدر المتيقن الذي لا شكّ فيه ، دون سائر التفصيلات الأخرى ، فإنها تحتاج إلى قرائن احتمالية أكثر ، وبالتالي إلى فتاوى أكثر.

ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضيّة المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات التفصيلية للحكم ؛ وذلك لأنّا عرفنا سابقا أنّ كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم ، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد أنّ احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبيّا من احتمال خطأهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز ، فإنّ الارتكاز بحكم كونه قضيّة معنوية غير منصبة في ألفاظ محددة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.

ثمّ إنّ كشف الإجماع عن القضيّة بنحو الإهمال من دون إطلاق أو تقييد أقوى من كشفه عن كونها مطلقة مثلا.

فإذا أجمع العلماء على قضيّة ما كان إجماعهم كاشفا عن أصل تحقّق القضيّة بقطع النظر عن كونها مطلقة أو مقيّدة أقوى فإنّه القدر المتيقن من كشف الإجماع ، وأمّا كونها مطلقة أو مقيّدة فهذه تفصيلات زائدة تحتاج إلى مفردات وقيم احتمالية أكبر.

والسّر في ذلك : أنّنا عرفنا أنّ الإجماع قائم على أساس كشفه عن الوسيط والذي بدوره يكشف عن الدليل الشرعي ، فإذا تحقّق الإجماع على مسألة كشف ذلك عن وجود ارتكاز لدى الطبقات السابقة ووضوح في الرؤية على أصل تحقّق هذه المسألة في الشرع ، وأنّها قضيّة قد صدر الدليل الشرعي بشأنها ، وهذا يثبت لنا أنّ أصل هذه القضيّة صحيح ، وأمّا كونها مطلقة أو عامّة وأنّها تشمل كل التفريعات والتفصيلات فهذا لا يمكننا أن نثبته بمجرّد الإجماع على القضيّة من دون أن يكون هناك تصريح بذلك ، لأنّ احتمال الخطأ في أصل وجود الارتكاز بعيد جدا بحساب الاحتمالات

ص: 187

أكثر من احتمال الخطأ في كون هذا الارتكاز عاما ومطلقا ، لأنّ الإجماع يكشف لنا لبّا وحدسا واستنتاجا عن وجود الدليل الشرعي ، إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير موجود بأيدينا لنرى أنّه مطلق أو عام أو شامل لكل التفصيلات والتفريعات ، فإنّ الإجماع دليل لبّي يثبت به الدليل الشرعي غير اللفظي أي الارتكاز الكاشف عن وجود دليل شرعي إلا أنّ هذا الدليل الشرعي غير محدد بألفاظ معينة ، بل يحتمل قويا جدا أنّه عمل أو تقرير أو سيرة من المتشرّعة ، وهذا معناه عدم إمكانيّة اكتشاف الإطلاق والعموم من الإجماع على القضيّة ما لم يكن هناك إجماع أيضا على إطلاقها أو عمومها ، وأمّا إذا كان الإجماع منعقدا على القضيّة من دون ذكر للتفصيلات أو مع الاختلاف بذكرها أو عدم ذكر البعض لها فهذا كلّه يمنع عن انعقاد الإطلاق ؛ إذ لا يوجد دليل لفظي مكتشف بالإجماع ليكون مطلقا ، وإنّما هناك دليل لبّي معنوي وقضيّة حدسية فلا يمكن استكشاف الإطلاق والتفصيلات لأنّها تبقى غامضة ، بخلاف أصل ثبوت القضيّة فإنّه محرز ومسلّم حينئذ.

الإجماع البسيط والمركّب :

يقسم الإجماع إلى بسيط ومركب :

فالبسيط : هو الاتفاق على رأي معين في المسألة ، والمركّب : هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالإجماع المركّب.

وما تقدّم من الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط.

الإجماع البسيط : هو اتفاق آراء العلماء على وجه واحد من الوجوه المحتملة في القضيّة ، كأن يفتي الجميع بالوجوب مثلا ، وهذا هو الذي كنّا نتكلم عنه إلى الآن.

وهذا الإجماع حجّة إذا كان كاشفا عن الارتكاز استنادا إلى حساب الاحتمالات كما تقدّم.

الإجماع المركّب : هو انقسام آراء العلماء إلى رأيين أو أكثر من مجموع الوجوه المحتملة في المسألة ، كأن يفتي البعض بالوجوب والبعض الآخر بالاستحباب أو بالحرمة ، فهنا وإن لم يكن هناك إجماع على أصل المسألة ، حيث إنّهم اختلفوا في حكمها ، إلا أنّه يوجد إجماع آخر مركب من هذين الرأيين وهو الإجماع على نفي القول الثالث ، فإنهم

ص: 188

إذا أفتوا بالوجوب والاستحباب فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الحرمة مثلا ، أو إذا أفتوا بالوجوب والحرمة فهذا يدلّ على أنّ الحكم ليس هو الترخيص.

فالمقصود من الإجماع المركّب هو نفي الثالث الذي لم يقل به أحد منهم ، فعلى أساس التلفيق والتركيب من هذين القولين استنتجنا وجود إجماع على نفي الثالث ، فهل هذا النحو من الإجماع حجّة أم لا؟ والجواب :

وأمّا المركّب من الإجماع ، فإن افترضنا أنّ كل فقيه من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورة مستقلّة عن تبنيه لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على نفي الثالث.

الجواب : إنّ الإجماع المركّب على نحوين من جهة نفي الثالث :

الأوّل : أن يكون كل فقيه من المجمعين المنقسمين إلى رأيين ينفي الثالث بمدلول كلامه المطابقي أو الالتزامي أو الضمني مستقلا عن الرأي الذي ذهب إليه ، بمعنى أنّ كل فقيه يبني ويلتزم بعدم وجود هذا الثالث إما تصريحا وإما تلويحا فهو في عرض المدلول المطابقي لرأيه ، فإذا كان هناك إجماع منقسم بين الوجوب والحرمة فإنّ كل واحد منهم حينما يفتي بالوجوب أو الحرمة يبني في مرحلة سابقة عن ذلك على أنّ الحكم ليس هو الترخيص في هذه المسألة ، بل الأمر دائر بين هذين الأمرين فقط ولا يحتمل وجود حكم آخر غيرهما ، فإنّ هذا البناء يعتبر إجماعا من كل الفقهاء على نفي الثالث ، ويكون نفيه حينئذ قائما على أساس الإجماع البسيط لا المركّب ، فهو في الحقيقة مصداق للإجماع البسيط أيضا ؛ لأنّهم جميعا ينفون الثالث أوّلا ، ثمّ اختلفوا على هذين الرأيين ثانيا ، بحيث يكون كل واحد قد ذهب إلى الوجوب أو الحرمة بعد أن اعتقد بعدم الترخيص أولا ، فيكون الإجماع المركّب على نفي الثالث حجّة أيضا كالبسيط بل هو من البسيط في الحقيقة.

وإن افترضنا أنّ نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا بإثبات ما تبناه من رأي ، فهذا هو الإجماع المركّب على نفي الثالث ولا حجيّة فيه ؛ لأنّ حجيّته إنّما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمع القيم الاحتماليّة لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطإ عند أحد الفريقين المتنازعين ، فلا يمكن أن تدخل القيم الاحتماليّة كلّها في تكوين الكشف للإجماع المركّب ؛ لأنّها متعارضة في نفسها كما هو واضح.

ص: 189

الثاني : أن يكون كل واحد من الفقهاء المنقسمين إلى الرأيين يبني على نفي الثالث من خلال الرأي الذي ذهب إليه بحيث يكون نفي الثالث مرتبطا بهذا الرأي وغير مستقل عنه ، وحينئذ يكون نفي الثالث مدلولا التزاميّا لما ذهب إليه من رأي غير منفصل عنه أي أنّه في طول المدلول المطابقي لا في عرضه لانه لم ينف الثالث ابتداء بل كان نفيه له لازما للرأي الذي اختاره.

وعلى هذا فلا يكون الإجماع المركّب لنفي الثالث حجّة ، إذ لا يكشف لنا عن الارتكاز والوضوح في الرؤيا ؛ ببيان أنّ الإجماع إنّما كان حجّة باعتبار كشفه عن الوسيط الكاشف عن الدليل ، وهذا الكشف يقوم على أساس حساب الاحتمالات وتجميع القيم الاحتماليّة للصدق وتضاؤل القيم الاحتماليّة للكذب والخطأ ، بحيث نصل إلى احتمال ضئيل للغاية للخطإ حتّى يزول احتمال الخطأ عمليّا وواقعيّا.

وفي مقامنا نحن نعلم بالخطإ لدى أحد الفريقين إذ لا يمكن أن يكون الحكم الشرعي هو الوجوب والحرمة معا ، بل هو أحدهما وهذا معناه أنّ القيم الاحتماليّة للوجوب متعارضة مع القيم الاحتماليّة للحرمة ، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى ، فيتعارضان ويتساقطان ، فإذا سقط الوجوب والحرمة عن الحجيّة سقط معهما أيضا المدلول الالتزامي المرتبط بهما وهو نفي الثالث ؛ لأنّه كان ناشئا ومبتنيا عليهما ، فمع سقوطهما يسقط هو أيضا لما تقدّم سابقا من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقية في الحجيّة لأنّ نسبة الكشف فيهما على حد سواء ، وبهذا لا يكون هناك دليل على نفي الثالث ليستند عليه.

* * *

ص: 190

الشهرة

ص: 191

ص: 192

الشهرة

كلمة الشهرة بمعنى الذيوع والوضوح لغة ، وتضاف في علم الأصول إلى الحديث تارة وإلى الفتوى أخرى ، ويراد بالشهرة في الحديث تعدد رواة الحديث بدرجة دون التواتر ، ويراد بالشهرة في الفتوى انتشار الفتوى المعينة بين الفقهاء وشيوعها بدرجة دون الإجماع.

الشهرة في اللغة : هي الذيوع والوضوح فيقال : هذا الشيء مشتهر أو مشهور ، أي أنّه ذائع ومنتشر وواضح.

واصطلاحا تستعمل في مقامين :

الأول : أن تضاف إلى الحديث ، فيقال : حديث مشهور أو مشتهر ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الروائيّة ، والمقصود من اشتهار الحديث كونه مرويّا بطرق متعدّدة لا تبلغ حد التواتر أي أنّ عدد الرواة لهذا الحديث لا يبلغ مقدار التواتر.

الثاني : أن تضاف إلى الفتوى ، فيقال : فتوى مشهورة ، ويعبّر عن ذلك بالشهرة الفتوائية ، والمقصود من اشتهار الفتوى كونها منتشرة بين العلماء والفقهاء ، ولكن بدرجة دون الإجماع ، بمعنى أنّه يوجد هناك من يخالف في هذه الفتوى لكنّه قليل.

فالحديث عن الشهرة وحجيّتها تارة على أساس أنّها كالتواتر أم لا ، وأخرى أنّها كالإجماع أم لا ، فنقول :

ونحن إذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا بالتعدد الواصل إلى درجة موجبة للعلم - ولو بمعنى يشمل الاطمئنان - فسوف لا تتجاوز الشهرة في الحديث - التي فرض فيها أن تكون دون التواتر - درجة الظن ، والخبر الظني ليس من وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، بل يحتاج ثبوت حجيّته إلى التعبد الشرعي كما يأتي.

أمّا الشهرة الروائيّة : فإذا حددنا التواتر تحديدا كيفيّا كما هي مقالة المشهور : ( من

ص: 193

أنّه اجتماع عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب ) بحيث يكون هذا العدد من الرواة مفيدا للعلم الشامل للاطمئنان أيضا ، فإذا تحقّق هذا العدد كان هناك تواتر وعلم وإلا فلا ، فهذا معناه أنّ الشهرة الروائية التي هي دون التواتر سوف تكون موجبة للظن أي أنّ الرواة لا يفيد عددهم العلم والاطمئنان ، بل غاية ما يفيده الظن فقط.

وحينئذ تخرج الشهرة الروائيّة بهذا المعنى عن موضوع بحثنا ، لأنّنا نبحث عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ، وهذه الوسائل المطلوب منها إفادة العلم ولو بنحو يشمل الاطمئنان الذي هو علم عرفا. وأمّا الظن فهو بنفسه ليس حجّة ، بل يحتاج إلى ثبوت التعبد الشرعي للعمل به ، وهذه معناه دخول الشهرة بهذا المعنى في وسائل الإحراز التعبّدي للدليل الشرعي ، فيبحث حول وجود دليل شرعي يفيد التعبد بالظن الناشئ من الشهرة أو عدم ذلك.

وأمّا إذا حدّدنا التواتر تحديدا استقرائيا على أساس حساب الاحتمالات كما هو الصحيح ، فلا بدّ من تقييم القرائن الاحتماليّة وتجميع قيمها ليرى أنّها تفيد العلم وتزيل احتمال الخلاف مع ضمّ المضعف الكيفي إلى ذلك أم لا؟

وهذا معناه أنّ الشهرة قد تفيد العلم وقد لا تفيده ، فترتبط حجيّتها بمقدار القيم الاحتماليّة المتراكمة عندنا ، وحيث إنّ هذه القيم الاحتماليّة متعارضة فيما بينها لوجود قيم احتمالية على الخلاف أيضا في الطرف المقابل للمشهور فسوف لا تكون الشهرة مفيدة للعلم أو الاطمئنان وبالتالي لا تكون حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا بتعدّد المفتين إلى درجة موجبة للعلم - ولو بمعنى يشمل الاطمئنان - فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى - التي فرض أن تكون دون الإجماع - درجة الظن بالدليل الشرعي ، وهو ليس كافيا ما لم يقم دليل على التعبد بحجيّته.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة : فإذا حددنا الإجماع تحديدا كيفيّا من أنّه إجماع الفقهاء على الفتوى بحيث يكون هذا الإجماع مفيدا للعلم أو الاطمئنان سواء كان من جميع الفقهاء أو من أغلبهم ، فهذا معناه أنّ الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع سوف تكون مفيدة للظن فقط ؛ لأنّ الاجماع إذا كان مفيدا للعلم أو الاطمئنان فما يكون دونه درجة يكون مفيدا للظن.

ص: 194

وحينئذ يخرج البحث عن الشهرة بهذا المعنى عن وسائل الإحراز الوجداني للدليل الشرعي ويدخل في وسائل الإحراز التعبّدي ، وأنّ هذا الظن هل قام الدليل على حجيّته ولزوم التعبد به أم لا؟ فإذا لم يثبت دليل على حجيّته فلا يكون حجّة لأنّ الظن بنفسه ليس حجّة.

وإذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا باتفاق مجموعة الفقهاء ، كان معنى الشهرة في الفتوى تطابق الجزء الأكبر من هذه المجموعة ، إمّا مع عدم وجود فكرة عن آراء الآخرين أو مع الظن بموافقتهم أيضا ، أو مع العلم بخلافهم.

وأمّا إذا حددنا الإجماع تحديدا عدديّا من حيث الكم فقط ، فقلنا : إنّ الإجماع عبارة عن اتفاق كل الفقهاء على الفتوى ، فسوف تكون الشهرة في الفتوى والتي هي دون الإجماع درجة تطابق أكثر أو أغلب آراء الفقهاء على الفتوى ، بحيث تكون الأغلبية أو الأكثرية من مجموعة الفقهاء قد ذهبت للوجوب مثلا.

وأمّا باقي الفقهاء ، فإما أن يكونوا موافقين لهم أيضا أو مخالفين ، وإمّا أن يكون رأيهم مجهولا لنا ، فهذه احتمالات ثلاثة يمكن تصوّرها بالنسبة لآراء العدد المقابل للمشهور.

والشهرة بهذا المعنى قد تدخل في الإجماع بالتحديد الكيفي المتقدّم ، وتوجب إحراز الدليل الشرعي بحساب الاحتمال ، وهو أمر يختلف من مورد لآخر.

وحينئذ سوف تكون الشهرة بالغة عددا كبيرا من آراء الفقهاء ، وهذا معناه أنّ هذا العدد من المفتين قد يدخل في التحديد السابق للإجماع من أنّه عدد من المفتين يوجب العلم أو الاطمئنان ؛ إذ قد يستفاد من خلال هذه العدد المشهور اليقين أو الاطمئنان على أساس حساب الاحتمالات من خلال تجميع القيم الاحتماليّة للصدق ، وتضاؤل القيم الاحتماليّة للخلاف.

فالمضعف الكمي الذي يبتني عليه المنهج الاستقرائي وحساب الاحتمالات موجود ، يبقى وجود المضعف الكيفي ، وهذا يرتبط بنوعية المفتين وعلمهم وطبقتهم ونحو ذلك من عوامل موضوعية ، ويرتبط أيضا بالطرف المقابل للمشهور المخالف له في الفتوى ونوعيتهم وعلمهم إلى آخره.

ولذلك فقد تفيد هذه الشهرة العلم إذا كان المضعف الكيفي موجودا بدرجة

ص: 195

كبيرة وقد لا تفيد العلم إذا لم يكن المضعف الكيفي موجودا ، كما إذا كان المخالف للمشهور معتدا به علميّا ، أو يكون موجودا بصورة ضئيلة وضعيفة ، بأن لم يكن رأيه معتدا به أو كان رأيه مجهولا.

كما أنّ إحراز مخالفة البعض يعيق عن الكشف القطعي للشهرة بدرجة تختلف تبعا لنوعية البعض وموقعه ولخصوصيات أخرى.

ثمّ إنّ ذاك البعض المقابل للمشهور إن كان رأيه موافقا فلا إشكال في إمكانيّة استفادة اليقين من هذه الشهرة ، بل هي في الحقيقة إجماع ، وبالتالي يكون كاشفا عن الدليل الشرعي على أساس حساب الاحتمالات كما تقدّم.

وإن كان هذا البعض رأيه مجهولا فقد تفيد الشهرة للعلم أيضا إذا كان هناك المضعف الكيفي بدرجة كبيرة.

وأمّا إذا كان الطرف المقابل للمشهور مخالفا وعلم بذلك ، فهذا قد يمنع من استفادة العلم من الشهرة خصوصا إذا كان هذا المخالف معتدّا به علميّا وثقافيّا واطلاعا ونحو ذلك من خصوصيات موجودة فيه تمنع من أن يكون مثله قد غفل عن ذاك الارتكاز المدلول عليه بالإجماع ؛ ولذلك لا تكون الشهرة حجّة حينئذ للتعارض بين القيم الاحتماليّة فيما بينها في كل من الطرفين.

ثمّ إنّ في الشهرة في الفتوى بحثا آخر في حجيّتها الشرعيّة تعبدا ، وهذا خارج عن محل الكلام وإنّما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.

وأمّا كون هذه الشهرة الفتوائية حجّة شرعا بمعنى أنّ الشارع هل جعلها دليلا يتعبدنا به للاستدلال على الحكم الشرعي ، أم لا؟

فهذا بحث خارج عن مقامنا لأنّنا نتكلم عن وسائل الإحراز الوجداني التي تفيد اليقين والتي تكون حجيّتها ناتجة عن إفادتها للقطع ، وليست موقوفة على التسامح وجعل الحجيّة التعبديّة.

ولذلك فإنّ الحديث عن كون الشهرة حجّة أو لا؟ حديث عن كون هذا الدليل غير الشرعي هل جعل الشارع له الحجيّة أم لا؟ لأنّ الشهرة ليست آية ولا رواية وإنّما هي فتوى كالاجماع والإجماع دليل غير شرعي يستكشف به الدليل الشرعي ، والشهرة كذلك.

ص: 196

القسم الثاني : وسائل الإثبات التعبّدي

اشارة

ص: 197

ص: 198

القسم الثاني

وسائل الإثبات التعبّدي

وأهم ما يذكر في هذا المجال عادة خبر الواحد ، وهو كل خبر لا يفيد العلم ، ولا شكّ في أنّه ليس حجّة على الإطلاق وفي كل الحالات ، ولكن الكلام في حجيّة بعض أقسامه كخبر الثقة مثلا.

القسم الثاني : من وسائل إثبات صدور الدليل الشرعي هو الطريق التعبّدي ، والمقصود به ما لا يفيد العلم الحقيقي والوجداني ، ولكن الشارع اعتبره حجّة أو علما أو طريقا لإثبات الصدور ، فهو حجّة لذلك.

وهذا القسم يشتمل على بعض الطرق والحجج التي اعتبرها الشارع من الوسائل لإثبات الصدور ، ومن أهم هذه الطرق هو خبر الواحد.

وتعريفه : هو كل خبر لا يفيد العلم سواء كان واحدا في حقيقته أم أكثر من واحد.

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّه ليس كل خبر حجّة مطلقا وفي كل الحالات ، وإنّما بعض أقسامه فقط.

فالمقصود إذا من البحث عن حجيّة خبر الواحد البحث عن حجيّته في الجملة لا مطلقا ، أي أنّه حجّة في بعض الموارد والأقسام ، في مقابل من أنكر حجيّته مطلقا كالسيّد المرتضى وغيره ، فخبر الثقة هو المقصود من البحث لا غيره.

وكذلك ليس كل خبر ثقة حجّة أيضا مطلقا وفي كل الحالات ، فإنّ بعض أخبار الثقات ليس حجّة بالمصطلح الأصوليّ ، وإنّما الخبر الذي يكشف عن الحكم الشرعي دون الأخبار عن الامور التكوينيّة أو الشخصيّة فإنّها خارجة عن محل الكلام.

ص: 199

والكلام يقع على مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجيّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

ثمّ إنّ الكلام عن حجيّة خبر الواحد يقع ضمن مرحلتين :

المرحلة الأولى : في إثبات حجّة خبر الواحد على نحو القضيّة المهملة ، أي أصل ثبوت الشيء وأنّه حجّة في الجملة ، أي في بعض أقسامه لا مطلقا ، وهذا البحث في مقابل المنكرين لحجيته مطلقا.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة حجيّة خبر الواحد وأنّه حجّة في كل الموارد والحالات مطلقا ، أو أنّه توجد شروط وقيود لهذه الحجيّة.

وهذا ما سنتحدّث عنه بالتفصيل.

* * *

ص: 200

المرحلة الأولى في إثبات أصل حجيّة الأخبار
اشارة

ص: 201

ص: 202

المرحلة الأولى

في إثبات أصل حجيّة الأخبار

والمشهور بين العلماء هو المصير إلى حجيّة خبر الواحد ، وقد استدل على الحجيّة بالكتاب الكريم والسنّة والعقل.

المشهور هو حجيّة خبر الواحد في الجملة ، أي أنّهم قبلوا أصل حجيّة الخبر بالجملة ، ولكنهم اختلفوا في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها وأقسام الخبر الحجّة ، فبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الواحد مطلقا ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر العادل فقط ، وبعضهم ذهب إلى حجيّة خبر الثقة ، وهكذا.

وأمّا أصل الحجيّة بنحو القضيّة المهملة في مقابل المنكرين للحجيّة مطلقا فالمشهور على الحجيّة ، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة والعقل.

[ 1 - الكتاب الكريم ]
اشارة

أمّا ما استدل به من الكتاب فآيات :

منها : آية النبأ ، وهي قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1) ، ويمكن الاستدلال بها بوجهين :

القسم الأوّل من الأدلّة التي أقيمت على حجيّة خبر الواحد هو الاستدلال بالكتاب الكريم ، وأهم الآيات التي ذكرت هي آية النبأ وآية النفر.

أمّا آية النبأ فتقريب الاستدلال بها يتمّ بأحد وجهين :

ص: 203


1- الحجرات : 6.

الأوّل : الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد عن طريق مفهوم الشرط.

الثاني : الاستدلال بها من خلال مفهوم الوصف.

الوجه الأوّل : أن يستدلّ بمفهوم الشرط فيها على أساس أنّها تشتمل على جملة شرطية تربط الأمر بالتبيّن عن النبأ بمجيء الفاسق به فينتفي بانتفائه ، وهذا يعني عدم الأمر بالتبيّن عن النبأ في حالة مجيء

العادل به ، وبذلك تثبت حجيّة نبأ العادل.

الوجه الأوّل : تقريب الاستدلال بها على أساس مفهوم الشرط بأن يقال : إن الآية الكريمة تشتمل على جملة شرطية وهي تتكون من شرط وجزاء وموضوع ، أمّا الشرط هنا فهو مجيء الفاسق ، وأمّا الجزاء فهو وجوب التبيّن ، وأمّا الموضوع فهو النبأ ، فيكون المنطوق فيها هو : أنّه يجب التبيّن عن النبأ الذي يأتي به الفاسق ، ومفهومها هو أنّه لا يجب التبيّن عن النبأ الذي لا يأتي به الفاسق أي خبر العادل لا يجب فيه التبيّن.

وبهذا تثبت حجيّة خبر العادل ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن معناه كونه حجّة دون خبر الفاسق الذي يجب التبيّن عنه ، وإلا لكان خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، لأنّ عدم وجوب التبيّن يتلاءم مع رد الخبر من دون تبيّن ويتلاءم مع أخذه وقبوله من دون تبيّن ، والأوّل يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، لأنّ خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ أخذه أو رده بعد ذلك ، فلا يعقل أن يكون خبر العادل يجب أن يرد مباشرة من دون تبيّن ، فيتعين وجوب الأخذ به وهو معنى حجيّته.

ولا يكفي أن ننفي التبيّن عن خبر العادل للقول بحجيّته بناء على حمل الوجوب للتبيّن على النفسي الذي هو أحد الاحتمالات في تفسير التبيّن ووجوبه ، لأنّ هذا التفسير خلاف الظاهر من الآية ، فإنّ الأمر بالتبيّن فيها لا يمكن حمله على الوجوب النفسي وإلا لما كانت هناك مناسبة بين صدر الآية وذيلها الظاهر في تعليل وجوب التبيّن بخوف الإصابة بجهالة ، والذي يعني أنّ التبيّن كان لأجل العمل به لا لنفس الخبر ، ولأنّه على هذا لا يمكن أن يستفاد حجيّة خبر العادل لأنّ نفي وجوب التبيّن عنه لو كان نفسيا معناه أنّ خبر العادل لا يتبين عنه من أجل لزوم التجسس والإهانة من التبيّن.

وكذا لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن طريقيّا ؛ لأنّ غايته نفي الطريقية عن خبر

ص: 204

الفاسق وإثباتها لخبر العادل ، وأمّا أنّ هذه الطريقية هل هي حجّة ومعتبرة شرعا أم لا؟ فهذا لا يستفاد من الآية لوحدها.

ولا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن غيريّا ، لأنّه يعني أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن فيه ؛ لأنّه ليس فيه إصابة بالجهالة والسفاهة ، بخلاف خبر الفاسق ، إلا أنّ الوجوب الغيري يحتاج إلى أن يكون هناك وجوب نفسي أيضا ليكون التبيّن مقدّمة له ، وهذا غير موجود في الآية.

فيبقى هناك احتمالان في تفسير الأمر بالتبيّن ، هما :

لأنّ الأمر بالتبيّن الثابت في منطوق الآية ، إما أن يكون إرشادا إلى عدم الحجيّة ، وإمّا أن يكون إرشادا إلى كون التبيّن شرطا في جواز العمل بخبر الفاسق وهو ما يسمّى بالوجوب الشرطي ، كما تقدّم في مباحث الأمر.

إذا فالاستدلال بمفهوم الشرط في الآية متوقف على أحد هذين التفسيرين لوجوب التبيّن والأمر به ، وهما :

الأول : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى عدم الحجيّة ، بمعنى أنّ خبر الفاسق ليس حجّة ، ولذلك أمر الشارع بلزوم التبيّن إرشادا إلى هذا الأمر ، فلا يكون المقصود من الأمر هنا معناه الموضوع له لغة أي الوجوب ، بل أريد به الإرشاد إلى حكم وضعي وهو الحجيّة وعدمها ، فخبر الفاسق ليس حجّة بينما خبر العادل حجّة.

الثاني : أن يكون الأمر بالتبيّن إرشادا إلى أنّه شرط في جواز العمل بخبر الفاسق ، فإذا أريد العمل بخبر الفاسق يجب التبيّن والفحص ، فيكون الأمر بالتبيّن شرطا لجواز العمل في خبر الفاسق ، بينما جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن.

والأوّل هو مختار السيّد الشهيد ؛ لأنّ هذا اللسان يستفاد منه الإرشاد إلى الحجيّة وعدمها ، كغيره من الألسنة التي تدلّ عليها.

والثاني مختار الشيخ الانصاري.

فعلى الأوّل : يكون نفيه بعينه معناه الحجيّة.

أمّا على التفسير الأوّل من أنّ الأمر بالتبيّن بالنسبة لخبر الفاسق إرشاد إلى عدم الحجيّة ، فيكون انتفاء الأمر بالتبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبإ معناه إثبات الحجيّة وبهذا يثبت أنّ خبر العادل حجّة لأنّه لا يجب التبيّن عنه ، ولا نحتاج إلى ضمّ تلك

ص: 205

المقدّمة من أنّه يلزم من عدم حجيّته كونه أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وذلك لأنّ نفي الأمر بالتبيّن بنفسه يساوق الحجيّة لأنّه أحد ألسنتها.

وعلى الثاني - يعني نفيه - : أنّ جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبيّن - وهو معنى الحجيّة - ويلائم عدم جواز العمل به حتّى مع التبيّن ، لأنّ الشرطيّة منتفية في كلتا الحالتين ، ولكن الثاني غير محتمل لأنّه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، ولأنّه يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي نظرا إلى أنّ الخبر بعد تبيّن صدقه يكون قطعيّا ، فيتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

وأمّا على التفسير الثاني للأمر بالتبيّن من كونه وجوبا شرطيا لجواز العمل فيكون المنطوق مفاده أنّه يشترط التبيّن فيما إذا كان الفاسق قد جاء بنبإ ، والمفهوم هو أنّه لا يشترط التبيّن فيما إذا جاء العادل بالنبإ فخبر العادل لا يشترط التبيّن فيه.

ثمّ إنّ نفي اشتراط التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه أمران :

1 - أن يكون خبر العادل حجّة ولذلك لا يشترط التبيّن عنه ، فيكون لازم نفي التبيّن إثبات الحجيّة. وعليه ، فيجوز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ، بخلاف خبر الفاسق فلا يجوز العمل به إلا بعد التبيّن.

2 - أن يكون المراد أن خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن أم لا ، فيكون جواز العمل بخبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، بل إنّه سواء كان هناك تبيّن أم لم يكن فلا يجوز العمل بخبره ، وهذا لازمه عدم حجيّة خبر العادل مطلقا سواء تبيّن عنه أم لا.

وكلا هذين الاحتمالين ممكن نظريّا ، لأنّ الشرطيّة منتفية فيهما ، فإنّ عدم الأمر بالتبيّن كما يصدق على كونه حجّة كذلك يصدق على كونه ليس حجّة ، فإنّ كان حجّة فلا يجب التبيّن عنه ، وإن لم يكن حجّة لا يجب التبيّن عنه أيضا ، فسواء تبيّن أم لا فهو حجّة على الأوّل ، وسواء تبيّن أم لا فهو ليس حجّة على الثاني فكما لا يضر التبيّن وعدمه بناء على حجيّته كذلك لا يفيد التبيّن وعدمه بناء على نفي الحجيّة عنه.

إلا أنّ الاحتمال الأوّل هو المتعيّن بحسب الفهم العرفي دون الثاني ؛ وذلك لأنّه على الاحتمال الثاني يكون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهذا غير محتمل عقلائيّا ، فإنّ العقلاء إما أن يعتبروا خبر العادل أحسن حالا من خبر الفاسق أو على

ص: 206

الأقلّ فهو مساو له ، ولا يتعقلون كونه أقل شأنا منه ، فإذا كان خبر الفاسق يجب التبيّن فيه ثمّ بعد ذلك يجوز العمل به ، فلا بد أن يكون خبر العادل مثله أو أحسن ، بأن يجوز العمل به بعد التبيّن أو يجب العمل به من دون تبيّن لا أنّه يجب طرحه وأنّه لا يجوز العمل به حتّى مع التبيّن ، وهذا ما يسمّى بدليل الأسوئيّة.

وثانيا : لو كان المراد أنّ خبر العادل لا يجوز العمل به سواء تبيّن عنه أم لا ، كان لازمه المنع عن العمل بالدليل القطعي ، وهو واضح البطلان ، لأنّ القطع لا يعقل المنع عن العمل به.

والوجه في ذلك أنّه بعد التبيّن عن خبر العادل قد يثبت لنا صدقه أو كذبه ، فإذا ثبت صدقه صار دليلا قطعيّا لإفادته العلم واليقين فكيف لا يجوز العمل به والحال هذه؟! ولذلك لا يعقل هذا التفسير ، فيتعين الاحتمال الأوّل ، وبه يتمّ الاستدلال بالآية على حجيّة خبر العادل الذي هو أحد أقسام خبر الواحد فثبت أنّ خبر الواحد يجوز العمل به وإن لم يفد العلم ، وذلك لجعل الحجيّة له شرعا.

ويوجد اعتراضان مهمّان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام :

أحدهما : أنّ الشرط في الجملة مسوق لتحقق الموضوع ، وفي مثل ذلك لا يثبت للجملة الشرطيّة مفهوم.

ثمّ إنّه قد وجّهت لهذا الاستدلال عدة اعتراضات أهمها اثنان ، ذكرهما الشيخ في الرسائل ، هما :

الاعتراض الأوّل : أنّ الجملة الشرطيّة إنّما يصحّ الاستدلال بمفهومها فيما إذا لم تكن مسوقة لتحقق الموضوع ، وإلا فتكون جملة شرطية بظاهرها ولكن روحها وجوهرها الجملة الحملية التي لا مفهوم لها أصلا ليصح الاستدلال به.

وهنا الجملة الشرطيّة في الآية مسوقة لتحقق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الشرط فيها هو مجيء الفاسق بالنبإ ، والجزاء هو وجوب التبيّن والموضوع هو نبأ الفاسق ، وعلى هذا يكون الشرط والموضوع متحدين لأنّ نبأ الفاسق الذي هو الموضوع لا يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق الذي هو الشرط ، فكان الشرط تعبيرا آخر عن الموضوع ، وليس شيئا زائدا عليه ، فلو لا الشرط لما تحقّق الموضوع لأنّ نبأ الفاسق لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا جاء به الفاسق دون غيره ، فتكون هذه الجملة بقوّة قولنا : ( تبيّن نبأ الفاسق عند

ص: 207

مجيئه ) ، ومثل هذه الجملة لا مفهوم لها ، لأنّها قضيّة حمليّة جزئيّة لا يستفاد منها أكثر من منطوقها ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ ينتفي الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، لا من باب المفهوم ، أي أنّه لا يجب التبيّن لأنّه لا موضوع له ، وأمّا أنّ خبر العادل يجب التبيّن عنه أم لا فهذا مطلب آخر يحتاج إلى دليل خاص يدلّ عليه.

والتحقيق : أنّ الموضوع والشرط في الجملة الشرطيّة المذكورة يمكن تصويرهما بأنحاء :

منها : أن يكون الموضوع طبيعي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به.

ومنها : أن يكون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيئه به ، فكأنّه قال : ( نبأ الفاسق إذا جاءكم به فتبينوا ).

ومنها : أن يكون الموضوع الجائي بالخبر ، والشرط فسقه ، فكأنّه قال : ( الجائي بالخبر إذا كان فاسقا فتبينوا ).

والجواب عن هذا الاعتراض أن يقال : إنّ الموضوع والشرط في هذه الجملة الشرطيّة يمكن تصويرهما على ثلاثة أنحاء ، فيثبت المفهوم في اثنين منها دون الثالث ، فلا بد من بيان هذه الأنحاء الثلاثة لمعرفة ما هو المقصود منها في مقامنا.

فنقول : تارة يكون الموضوع طبيعي النبأ من دون قيد ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. فيكون المعنى أنّ النبأ إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وأخرى يكون الموضوع نبأ الفاسق أي النبأ المقيّد بالفاسق ، والشرط هو مجيء الفاسق به ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ نبأ الفاسق إذا جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه.

وثالثة يكون الموضوع الجائي بالنبإ ، أو النبأ المجيء به ، والشرط هو فسق الجائي ، والجزاء هو الأمر بالتبيّن. ويكون المعنى أنّ الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن عنه.

وحينئذ لا بدّ من البحث حول ثبوت المفهوم وعدمه في كل من هذه الأنحاء الثلاثة ، فنقول :

ولا شكّ في ثبوت المفهوم في النحو الأخير لعدم كون الشرط حينئذ محققا للموضوع.

ص: 208

أمّا النحو الثالث وهو كون الجائي بالنبإ إن كان فاسقا فيجب التبيّن ، فلا شكّ في ثبوت المفهوم فيه ؛ وذلك لأنّ الموضوع والشرط متغايران ، فإنّ النبأ والجائي به قد يصدق مع الفاسق وقد يصدق مع العادل ، فليس الشرط إذا مسوقا لتحقق الموضوع أصلا ، لأنّه يثبت بدونه أيضا ، فإذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ لا ينتفي النبأ بل يثبت مع العادل أيضا ، ويكون المفهوم إنّه إذا جاء العادل بالنبإ فلا يجب التبيّن بخلاف مجيء الفاسق به.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وهو الذي اختاره صاحب ( الكفاية ).

كما لا شكّ في عدم المفهوم في النحو الثاني ، لأنّ الشرط حينئذ هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع.

وأمّا النحو الثاني ، وهو كون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا الشرط والموضوع متحدان ، فيكون الشرط مسوقا لتحقيق الموضوع ، وهو أيضا الأسلوب الوحيد لتحقيقه ؛ لأنّه يستحيل أن يتحقّق نبأ الفاسق من دون أن يأتي به الفاسق ، فإذا انتفى مجيء الفاسق فينتفي النبأ ، وبالتالي ينتفي الحكم والجزاء من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا يكون للجملة مفهوم لأنّها بقوّة قولنا : ( يجب تبيّن نبأ الفاسق عند مجيئه به ) ، وأمّا إذا جاء غيره به كالعادل فهذا مسكوت عنه سلبا وإيجابا ، ويحتاج إلى دليل خاص خارج عن مفاد الجملة.

وأمّا في النحو الأوّل فالظاهر ثبوت المفهوم ، وإن كان الشرط محققا للموضوع ، لعدم كونه هو الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، وفي مثل ذلك يثبت المفهوم كما تقدّم توضيحه في مبحث مفهوم الشرط.

وأمّا النحو الأوّل وهو كون الموضوع طبيعي وكلّي النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به ، فهنا يكون الشرط محققا للموضوع ، لأنّ مجيء الفاسق بالنبإ يحقق النبأ ، إلا أنّه ليس الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، فإنّ النبأ كما يتحقّق مع مجيء الفاسق به كذلك يتحقّق مع مجيء العادل به أيضا ، وقد تقدّم سابقا في بحث مفهوم الشرط أنّ الشرط المحقّق للموضوع على قسمين : فتارة يكون الأسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع فلا يكون للجملة مفهوم ، وأخرى لا يكون الأسلوب الوحيد لتحقيقه ، بأن كان هناك شرط آخر لذلك فثبت للجملة مفهوم ، وهنا حيث إنّ الشرط ليس هو الأسلوب

ص: 209

الوحيد لتحقيق الموضوع فيثبت للجملة مفهوم ؛ لأنّه إذا انتفى مجيء الفاسق بالنبإ فيثبت مجيء العادل به ، وحينئذ لا يجب التبيّن عنه ، وهو معنى حجيّته ، لأنّه للإرشاد كما هو المختار ، أو بضم تلك المقدّمة ان كان الوجوب شرطيا.

والظاهر من الآية الكريمة هو النحو الأوّل ، فالمفهوم إذا ثابت.

والمستظهر من الآية الكريمة من بين هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، حيث إنّ الوارد فيها هو كون الشرط مجيء الفاسق لقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) ، والموضوع هو النبأ لقوله : ( بِنَبَإٍ ) .

والوجه في هذا الاستظهار أن الجزاء هو قوله : ( فَتَبَيَّنُوا ) يشتمل على ضمير مستتر أو محذوف جوازا والتقدير ( فتبينوه ) وهذا الضمير يرجع إلى النبأ ، وهو مطلق وكلّي وغير مقيّد.

والاعتراض الآخر يتلخص في محاولة لإبطال المفهوم عن طريق عموم التعليل بالجهالة الذي يقتضي إسراء الحكم المعلل إلى سائر موارد عدم العلم.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الطوسي وغيره من أنّنا لو سلّمنا دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم من الآية المذكورة ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن استفادة المفهوم منها ، وذلك لأنّه معارض بما هو مقدم عليه.

وبيان ذلك : أنّ المفهوم المستفاد من الآية مفاده عدم وجوب التبيّن فيما إذا كان المخبر عادلا ، وهذا المفهوم عام يشمل ما إذا كان خبر العادل مفيدا للعلم أم لا.

إلا أنّ هذا المفهوم معارض بعموم التعليل بقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ، فإنّ هذا التعليل عام يشمل ما إذا كان الخبر غير مفيد للعلم أيضا ، سواء كان خبر فاسق أم خبر عادل.

فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي خبر العادل الظني غير المفيد للعلم ، فإنّ عموم المفهوم يثبت حجيّته وجواز العمل على وفقه بمقتضى عدم وجوب التبيّن فيه ، وعموم التعليل يثبت عدم حجيّته لأنّه خبر غير علمي ؛ لاحتمال الإصابة بالجهالة والندم فيه فحاله حال كل ما لا يفيد العلم ، حيث لا يؤمن معه الخطأ والاشتباه والغلط.

وحينئذ يرجح عموم التعليل على عموم المفهوم في مادة الاجتماع ؛ وذلك لأنّ العلّة أقوى من المفهوم لأنّ العلّة توجب التعميم والتخصيص كما لا يخفى ، فإنّ

ص: 210

الحكم يدور مدار علته ، فإذا كان الحكم خاصا معللا بشيء اقتضى ذلك تعميم الحكم لكل موارد ثبوت العلّة تبعا لعموم العلّة ، وإذا كان الحكم عاما ، وله علّة خاصّة اقتضت تخصيصه ، وهنا الإصابة بالجهالة والندم على ذلك علّة لكل خبر لا يفيد العلم حتّى وان كان خبر عادل.

والحاصل : إنّه يدور الأمر بين تخصيص عموم العلّة لإخراج خبر العادل منها أو طرح المفهوم رأسا ، والثاني هو المتعين لأنّ العلّة دليل على طرحه وترك العمل به ، مضافا إلى أنّ العلّة دليل لفظي بينما المفهوم ليس مدلولا لفظيّا ، واللفظ نص بينما المفهوم ظاهر ، فيقدم النص على الظاهر.

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه :

أحدها : أنّ المفهوم مخصّص لعموم التعليل ، لأنّه يثبت الحجيّة لخبر العادل غير العلمي ، والتعليل يقتضي عدم حجيّة كل ما لا يكون علميا ، فالمفهوم أخص منه.

الجواب الأوّل : أن يقال : إنّ المفهوم وإن كان يشمل بظاهره خبر العادل المفيد للعلم وغير المفيد للعلم ، إلا أنّه بحسب الدقة لا يشمل إلا خبر العادل غير المفيد للعلم ، لأنّ هذا هو مقتضى المنطوق أيضا ، فإنّه لا يشمل إلا خبر الفاسق غير المفيد للعلم ؛ إذ لو كان خبر الفاسق مفيدا للعلم لكان حجّة لحجيّة العلم ، ولا ويجب التبيّن عنه حينئذ كخبر العادل المفيد للعلم أيضا.

وبهذا تكون النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص المطلق ، فالمفهوم يختص بخبر العادل غير العلمي ، بينما عموم التعليل يشمل خبر العادل وخبر الفاسق غير العلميين ، وفي مثل هذه الحالة يجمع بين المفهوم والتعليل جمعا عرفيا ، فيخصص عموم التعليل بالمفهوم لأنّه أخص منه ، والخاص مقدّم على العام ، فالتعارض بينهما غير مستقر كما سيأتي بحثه في مباحث التعارض.

ويرد عليه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ثمّ عارض عموما من العمومات فإنّه يخصصه ، وأمّا في المقام فلا ينعقد للكلام ظهور في المفهوم ، لأنّه متصل بالتعليل ، وهو صالح للقرينية على عدم انحصار الجزاء بالشرط ، ومعه لا ينعقد الظهور في المفهوم لكي يكون مخصصا.

ويرد على هذا الجواب : أنّه إنّما يتمّ فيما لو انعقد للجملة الشرطيّة ظهور في

ص: 211

المفهوم ، ثمّ بعد ذلك ورد التعليل منفصلا عن الجملة فيقع التعارض بينهما ، ويحل بالجمع العرفي المذكور ، إلا أنّه في مقامنا ليس كذلك ؛ لأنّ التعليل متصل بالجملة الشرطيّة ، وهو شامل بعمومه للخبر غير العلمي سواء العادل وغيره ، فيكون هذا التعليل قرينة متّصلة بالخطاب تمنع من أصل انعقاد الجملة الشرطيّة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد المفهوم أوّلا ثمّ يعارض التعليل ثانيا.

وفي هذه الحالة يرفع اليد عن أصل ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم لمنع دلالتها على التوقف بين الشرط والجزاء ، وهذا المانع هو التعليل الذي هو قرينة متّصلة بالخطاب الدالة على عدم حجيّة خبر العادل والفاسق غير العلميّين.

وبتعبير آخر : ما دام التعليل متصلا بالجملة فهو يمنع عن أصل انعقادها في المفهوم لأنّه يكون قرينة على عدم التوقف أو العليّة بين الشرط والجزاء ، لأنّه يشمل كل أفراد الخبر غير العلمي والذي منه خبر العادل أيضا.

فلو سلّم كون المفهوم أخص من التعليل إلا أنّه مع ذلك لا يتقدّم عليه أصلا ، لأنّ ملاك ثبوت المفهوم هو عدم ذكر ما يدلّ على خلاف المفهوم ، والتعليل يصلح لأنّ يكون قرينة على الخلاف ، لأنّه بمثابة النص ، حيث إنّه يشمل مورد المفهوم بينما الجملة الشرطيّة ظاهرة بذلك ، والظاهر إنّما يؤخذ به إذا لم يصرّح المتكلّم بخلافه ، وعموم التعليل تصريح بخلافه فيكون التعليل بعمومه مانعا عن أصل انعقاد ظهور الجملة في المفهوم ، لا أنّه ينعقد ثمّ يعارض التعليل ليقال بأنّه أخص منه ، لأنّ ذلك فرع استقرار وثبوت المفهوم ، وهو غير متحقّق مع التعليل المتّصل.

ثانيها : أنّ المفهوم حاكم على عموم التعليل ، على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه ؛ وذلك لأنّ مفاده حجيّة خبر العادل ، وحجيّته معناها على مسلك جعل الطريقية اعتباره علما ، والتعليل موضوعه الجهل وعدم العلم ، فباعتبار خبر العادل علما يخرج عن موضوع التعليل ، وهو معنى كون المفهوم حاكما.

الجواب الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني من كون المفهوم حاكما على عموم التعليل.

وبيانه : أنّه على مسلك جعل الطريقية والعلمية في الأمارات والحجج يكون مفاد جعل الحجيّة للأمارة جعلها علما وبذلك تكون حاكمة على قاعدة قبح العقاب بلا

ص: 212

بيان ، وفي مقامنا حيث إنّه ثبتت الحجيّة لمفهوم الشرط ، فيكون مفادها جعله علما ، وحينئذ يكون حاكما على عموم التعليل في الآية ؛ لأنّ عموم التعليل مفاده أنّ كل خبر غير علمي لا يؤمن معه من الإصابة بالجهالة والندم ، وهو وإن كان شاملا بعمومه ابتداء لخبر العادل الظني ، إلا أنّه بعد جعل الحجيّة للمفهوم يصبح خبر العادل علما وبذلك يخرج عن دائرة التعليل ، لأنّ موضوع التعليل الجهل وعدم العلم ، وخبر العادل على هذا المسلك صار علما تعبديّا لجعل الحجيّة له من الشارع ، فيكون دليل الحجيّة حاكما على عموم التعليل ومخرجا لأحد أفراده تعبدا ، فلا تعارض ولا منافاة بينهما ، لأنّ الحكومة من موارد الجمع العرفي بين الدليل الحاكم والمحكوم.

ويرد عليه : أنّه إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علما فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق ، وعليه فالتعليل يكون ناظرا إلى توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه على كل ما لا يكون علميا ، فكأنّ التعليل يقول : إنّ كل ما لا يكون علما وجدانا لا أعتبره علما ، وبهذا يكون مفاد التعليل ومفاد المفهوم في رتبة واحدة ، أحدهما يثبت اعتبار خبر العادل علما والآخر ينفي هذا الاعتبار ، ولا موجب لحكومة أحدهما على الآخر.

ويرد على هذا الجواب :

إنّنا لو سلّمنا ما ذكره الميرزا من كون جعل الحجيّة للمفهوم معناها جعله واعتباره علما ، فهذا يقتضي أيضا على أساس المقابلة بين المفهوم والمنطوق أن يكون خبر الفاسق ليس حجّة بمعنى أنّه ليس علما.

وحينئذ نقول : إنّ عموم التعليل الوارد في الآية يريد أن يعمّم عدم حجيّة وعدم علمية كل خبر ليس مفيدا للعلم الوجداني أي أنّ خبر الفاسق غير المفيد للعلم الوجداني وكل ما لا يفيد العلم الوجداني فهو ليس حجّة وليس علما تعبديّا.

وعلى هذا فيكون مفاد التعليل سلب الحجيّة والعلمية التعبديّة حتّى عن خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ، بينما جعل الحجيّة لخبر العادل على أساس المفهوم معناها جعل العلمية التعبّدية له ، فيكون بينهما تعارض في مادة الاجتماع وهي خبر العادل غير المفيد للعلم الوجداني ؛ لأنّ المفهوم يثبت علميته على أساس أنّه حجّة بينما عموم التعليل ينفي علميته على أساس أنّه ليس علما وجدانيا ، وفي مثل هذه الحالة يقع

ص: 213

التعارض بين المفهوم والتعليل ، لأنّ موردهما واحد ، وكلاهما ينظر إليه في نفس المرتبة التي ينظر فيها الآخر ، وليس بينهما طولية ونظر ، وبالتالي لا يكون أحدهما حاكما على الآخر إذ لا يحرز نظره إليه.

وبكلمة أخرى : أنّ المفهوم كما يثبت حجيّة وعلمية خبر العادل فكذلك التعليل ينفي علمية وحجيّة خبر العادل وخبر الفاسق أيضا ، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر ولا لحكومته كذلك ؛ إذ هما في مرتبة واحدة عرضية ، لأنّهما واردان معا في دليل واحد ، أحدهما يثبت الحجيّة والعلمية والآخر ينفيها ، فيتعارضان ويتساقطان ، بل يقال بتقديم عموم التعليل لأنّه قرينة شخصيّة معدة من قبل المتكلّم فهو كالنّص الصريح ، لأنّ العلّة تنظر إلى المورد وتعمّمه أو تخصّصه بحسب مناسبات الحكم والموضوع ، بينما المفهوم لا يحرز نظره وحكومته على عموم التعليل ليقدم عليه ، ومجرّد كون المفهوم أخص لا يبرر تقديمه على التعليل بملاك الحكومة ما دام النظر غير محرز فيه.

مضافا إلى أنّ لسان الحكومة كلسان التخصيص فما أورد على الجواب الأوّل يرد هنا أيضا ، حيث يصلح التعليل للقرينية على عدم انعقاد الجملة في المفهوم أساسا.

ثالثها : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه اللّه من أنّ الجهالة المذكورة في التعليل ليست بمعنى عدم العلم ، بل بمعنى السفاهة والتصرف غير المتزن ، فلا يشمل خبر العادل الثقة ، لأنّه ليس سفاهة ولا تصرفا غير متزن.

الجواب الثالث : ما ذكره الآخوند : من أنّ الإشكال المذكور نشأ من تفسير الجهالة الواردة في التعليل بالجهل وعدم العلم ، فيكون التعليل بعمومه شاملا لخبر العادل ؛ لأنّه ليس علما فيقع التعارض بينهما ، ويقدم عموم التعليل كما مر.

إلا أنّ الصحيح إنّ الجهالة ليست بهذا المعنى ، بل هي بمعنى الطيش والسفاهة ، فيكون المراد من التعليل أنّ كل خبر يكون العمل به موجبا للطيش وللسفاهة والعمل غير المتزن لا يكون حجّة ، ويجب تركه والتبيّن فيه قبل العمل بمفاده ، وهذا لا يشمل خبر العادل بعد إثبات حجيّته ؛ لأنّ العمل به يكون مقبولا عند العقلاء والتصرف على أساسه لا يكون طيشا وسفها.

وبهذا يتّضح أنّه لا معارضة بين المفهوم والتعليل ، لأنّ المفهوم يثبت أنّ العمل بخبر

ص: 214

العادل حجّة ، وهذا يعني أنّ العمل به مقبول عقلائيّا بينما التعليل يثبت أنّ العمل بكل ما فيه السفاهة والطيش ليس حجّة ، فلكل منهما موضوع مغاير للآخر ، فلا تعارض بينهما أصلا (1).

الوجه الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ، حيث أنيط وجوب التبيّن بفسق المخبر ، فينتفي بانتفائه.

ومفهوم الوصف تارة يستدلّ به في المقام بناء على ثبوت المفهوم للوصف عموما ، وتارة يستدلّ به لامتياز في المقام ، حتّى لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد أخرى.

التقريب الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ببيان : أنّ وجوب التبيّن في الآية الشريفة قد أنيط بكون المخبر فاسقا ، أي أنّه يجب التبيّن عن خبر الفاسق ، فإذا انتفى الفاسق وجاء العادل بالخبر فلا يجب التبيّن ، فيكون المفهوم عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل ، وهذا يعني حجيّته بعد ضم مقدمة الأسوئية السابقة ؛ لأنّه يحتمل أن يكون عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل لأجل أنّه يطرح ابتداء حتّى مع التبيّن ، وإما أن يكون معنى حجيّته ، والأوّل يجعله أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وهو غير محتمل عقلائيّا ، فيتعيّن الاحتمال الثاني.

ثمّ إنّ الاستدلال بمفهوم الوصف يتوقّف على أحد أمرين :

الأوّل : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف مطلقا ، فيكون موردنا من مصاديق حجيّة مفهوم الوصف التي لا بدّ من قيام البرهان والدليل عليها.

الثاني : أن يبنى على حجيّة مفهوم الوصف في خصوص المقام لا مطلقا ، بمعنى أنّنا لو أنكرنا حجيّة مفهوم الوصف بنحو عام فلا بدّ أن نستفيد حجيّة مفهوم الوصف في خصوص الآية الكريمة لميزة في الآية تجعلنا نقول بثبوت المفهوم ، وهذه الميزة هي :

ص: 215


1- ويمكن الجواب على هذا بأنّ حمل الجهالة على السفاهة وعدم الاتزان لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ؛ لأنّ الندم يتناسب مع عدم إصابة الواقع ، وهذا مشترك بين خبر الفاسق وخبر العادل غير العلميين ، فيكون هذا قرينة على أنّ المراد هو الجهل وعدم العلم ، فالتعارض على حاله. وبهذا ظهر أنّ هذا الإشكال وارد على هذا الاستدلال ، ولا يمكن دفعه بما ذكر.

وذلك بأن يقال : إنّ مقتضى قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبيّن بانتفاء الفسق. وعليه ، فوجوب التبيّن عن خبر العادل ، إن أريد به شمول شخص ذلك الوجوب له فهو على خلاف القاعدة المذكورة ، وإن أريد به شخص آخر من وجوب التبيّن مجعول على عنوان خبر العادل ، فهذا غير محتمل ؛ لأنّ معناه أنّ خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في وجوب التبيّن هذا ، وهو غير محتمل ، فإنّ وجوب التبيّن إما أن يكون بملاك مطلق الخبر أو بملاك كون المخبر فاسقا ، ولا يحتمل دخل عدالة المخبر في جعل وجوب التبيّن.

وهذا الميزة يمكن إبرازها ببيان : أنّه بناء على قاعدة احترازية القيود القائلة بأنّ كل ما يقوله ويذكره في كلامه فهو مراد له جدا ، فحيث إنّه ذكر في كلامه عنوان الفسق فيكون له مدخليّة في الحكم بوجوب التبيّن وهذا معناه أنّه إذا لم يكن المخبر فاسقا فلا يجب التبيّن المستفاد من الكلام المذكور ، أي أنّ شخص وجوب التبيّن ينتفي عن خبر العادل ، وأمّا أنّه هل يثبت وجوب التبيّن عن خبر العادل بدليل آخر أم أنّه يجب التبيّن فيه؟ فهذا يحتاج إلى دليل آخر ، وفي المقام يوجد هذا الدليل على أنّه لا يجب التبيّن عن خبر العادل وذلك على أساس أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل يحتمل فيه عدة أمور ، هي :

الأوّل : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بنفس الملاك الموجود في المنطوق ، بأن يكون نفس وجوب التبيّن الوارد في المنطوق شاملا للفاسق وللعادل معا.

وهذا الاحتمال غير صحيح لأنّه على خلاف قاعدة احترازية القيود ، حيث إنّها تدلّ على انتفاء شخص الحكم عند انتفاء الوصف ، فإذا انتفى الفسق فلا يجب التبيّن عن خبر العادل بهذا الوجوب ، بل لا بدّ من إثباته بوجوب آخر مماثل.

الثاني : أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل ثابتا بدليل آخر غير ما ورد في المنطوق ، ويكون موضوعه خبر العادل بأن يكون هناك وجوب آخر للتبيّن مجعول على نفس عنوان خبر العادل بما هو كذلك.

وهذا الاحتمال غير تام أيضا ، لأنّه يعني أنّ العدالة قد أنيط بها وجوب التبيّن بما هي كذلك ، أي لذاتها وعنوانها ، وهذا معناه أنّ العلّة والملاك للتبيّن عن خبر العادل هي كونه عادلا وهذا ممّا لا يحتمله العقلاء والعرف.

ص: 216

نعم ، يمكن أن يكون وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله كعنوان وجوب التبيّن عن مطلق الخبر الظني غير المفيد للعلم ، فإنّه شامل للعادل وللفاسق معا ، أو يكون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط.

فعلى الثاني يثبت حجيّة خبر العادل ، وعلى الأوّل يلزم أن يؤخذ في المنطوق ما يدلّ على أخذ عنوان الخبر مطلقا وهو غير موجود في ظاهر الكلام ، فهو على خلاف الظاهر ، فيتعين كون وجوب التبيّن مختصا بالفاسق فقط دون العادل.

أمّا اللحاظ الأوّل للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه إنكار المفهوم للوصف ، خصوصا في حالة ذكر الوصف بدون ذكر الموصوف.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف أنّنا ننكر حجيّة مفهوم الوصف رأسا ، فيكون الاستدلال بمفهوم الوصف على حجيّة خبر العادل تامّا على مبنى القول بحجيّة مفهوم الوصف ، والمختار كما هو المشهور عدم حجيّته.

مضافا إلى أنّ الوصف إذا ذكر ولم يذكر الموصوف فيكون لقبا وهو أضعف من مفهوم الوصف ، فعدم تماميّة الاستدلال على هذا أوضح ، لأنّه إذا قيل : ( أكرم الفقيه ) فهذا العنوان لقب ؛ لأنّ الموصوف وهو العالم محذوف فلا يدلّ على عدم وجوب إكرام غير الفقيه من العلماء.

وأمّا اللحاظ الثاني للاستدلال فجوابه : أنّ وجوب التبيّن ليس حكما مجعولا ، بل هو تعبير آخر عن عدم الحجيّة ، ومرجع ربطه بعنوان إلى أنّ ذلك العنوان لا يقتضي الحجيّة ، فلا محذور في أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بهذا المعنى ، لأنّ موضوعيته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم موضوعيته للحجيّة.

ويرد على الاستدلال بمفهوم الوصف بخصوص الآية الكريمة أنّ وجوب التبيّن عن خبر العادل لو كان وجوبا نفسيا تكليفيا لكان من غير المحتمل أن يكون العادل بما هو كذلك موضوعا لحكم تكليفي بالتبيّن كما تقدّم في الاستدلال لعدم مدخليّة العدالة في وجوب التبيّن بنفسها.

إلا أنّ الصحيح إنّ الأمر بالتبيّن عن خبر الفاسق إرشاد إلى عدم حجيّته في نفسه ، ولذلك يجب التبيّن عنه ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر الفاسق لسانا من ألسنة نفي الحجيّة ؛ إذ لا يعقل الأمر النفسي بالتبيّن لذاته ، وعليه فيكون إناطة وجوب التبيّن

ص: 217

بعنوان الفسق في منطوق الآية مرجعه إلى أنّ هذا العنوان بنفسه ليس فيه مقتضي الحجيّة.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ خبر العادل فيه مقتضي الحجيّة ؛ إذ من الممكن ألا يكون فيه أيضا مقتضي الحجيّة ، ولكن لا بعنوان العدالة ، بل بعنوان آخر يشمله ويشمل الفاسق أيضا ، كالخبر غير العلمي أو الذي يحتمل عدم إصابته للواقع ، فيكون خبر العادل موضوعا أيضا لوجوب التبيّن لدخوله تحت هذا العنوان العام ، فيجب التبيّن عنه لا لكونه عادلا بل لكونه خبرا لا يفيد العلم مثلا ، أو لأنّه لا يظن بصدقه أو يظن بخلافه وهذا معناه أنّه من المحتمل أن يكون خبر العادل موضوعا لوجوب التبيّن بمعنى أن هذا العنوان لا يقتضي الحجيّة لكونه مصداقا لذاك العنوان العام لا لنفسه.

والحاصل : أنّ المحذور في وجوب التبيّن عن خبر العادل فيما إذا كان عنوان العدالة بنفسه هو الموضوع الذي أنيط به وجوب التبيّن ، وأمّا إذا كان وجوب التبيّن عن خبر العادل بعنوان آخر يشمله ويشمل خبر الفاسق كعنوان الخبر الذي لا يفيد العلم ، فيكون وجوب التبيّن عن خبر العادل كخبر الفاسق بمعنى عدم وجود موضوع الحجيّة فيهما لا بعنوانهما الخاص ، بل بعنوانهما العام المذكور.

ومنها : آية النفر وهي قوله سبحانه وتعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

وتقريب الاستدلال بها يتمّ من خلال الأمور التالية :

تقريب الاستدلال بالآية يتمّ فيما إذا كان التحذر عند الإنذار واجبا سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا يعني حجيّة قول المنذر مطلقا وهو المطلوب.

وهذا الاستدلال يتوقّف على إثبات وجوب التحذر أوّلا وعلى كونه مطلقا ثانيا ، فحينئذ تثبت الحجيّة.

أوّلا : أنّها تدلّ على وجوب التحذر لوجوه :

أحدها : أنّه وقع مدخولا لأداة الترجي الدالة على المطلوبية في مثل المقام ، ومطلوبيّة التحذر مساوقة لوجوبه ، لأنّ الحذر إن كان له مبرّر فهو واجب وإلا لم يكن مطلوبا.

ص: 218


1- التوبة : 122.

الأمر الأوّل : إثبات كون التحذّر واجبا فيتم بوجوه :

الوجه الأوّل لصاحب ( المعالم ) : أنّ التحذّر وقع مدخولا لأداة الترجي في قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) والترجي الحقيقي مستحيل على الشارع ، فيحمل على أقرب المعاني إليه وهو المطلوبية والمحبوبية في مقامنا ؛ لأنّ الكلام من الشارع. ومعنى المطلوبية والمحبوبية للتحذّر كونه واجبا ؛ إذ لو كان التحذّر له مبرر لطلبه كما هو المفترض فهو واجب لرجحانه ، وإن لم يكن هناك مبرّر لطلبه فلا معنى لمحبوبيّته ورجحانه ، وبالتالي لا يكون مطلوبا أصلا ، فلا معنى لذكره في الكلام.

وبتعبير آخر : أنّ معنى كون التحذّر مطلوبا للشارع ومحبوبا له كونه واجبا في مقامنا ، وذلك للإجماع المركّب الحاصل من انقسام الفقهاء إلى قولين : أحدهما لم يجوّز العمل بالخبر مطلقا ، والآخر أوجب العمل به ، والذي على أساسه ننفي كون الرجحان والمطلوبية للاستحباب ، فيتعين الوجوب ، إذ لا قول بالفصل.

ثانيها : أنّ التحذّر وقع غاية للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة.

الوجه الثاني لإثبات وجوب التحذّر أن يقال : إنّ التحذّر وقع غاية للنفر ، لأنّ الآية مفادها تعليل وجوب الإنذار بالتحذر من القوم بقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وحيث إنّ الإنذار واجب فيكون التحذر واجبا أيضا ؛ لأنّ غاية الواجب واجبة لأنّ الشارع لا يرضى بتفويت الواجب ، فهو لا يرضى بتفويت غايته أيضا ، فتكون واجبة مثله.

وبتعبير أدق : أنّ الانذار لمّا كان واجبا فهو مطلوب ومحبوب ، وحيث إنّ التحذّر وقع غاية للإنذار الواجب فيكون مطلوبا ومحبوبا أيضا ، ولا معنى لذلك إلا كونه واجبا ، فهناك ملازمة بين وجوب الشيء ووجوب غايته ، ولا يعقل التفكيك بينهما.

ثالثها : إنّه بدون افتراض وجوب التحذر يصبح الأمر بالنفر والإنذار لغوا.

الوجه الثالث لإثبات وجوب التحذر أن يقال : إنّ التحذر إما أن يكون واجبا أو لا يكون كذلك ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يجعل الأمر بالنفر والانذار لغوا ، لأنّه إذا لم يجب التحذّر عند الإنذار لما كان معنى لإيجاب النفر والإنذار على النافرين للتفقه ؛ إذ لا فائدة من إنذارهم ونفرهم للتفقه ما دام الناس لن يتحذروا عند سماع إنذارهم فيكون إيجابهما بلا فائدة.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع لمّا أوجب على النافرين الإنذار فهذا يلازمه وجوب العمل

ص: 219

على طبق كلامهم من قبل المنذرين ، وإلا لم يكن لهذا الوجوب معنى ، لأنّه ليس واجبا لذاته ، إذ المفروض أنّه مغيّا بالتحذر.

ثانيا : أنّ وجوب التحذر واجب مطلقا ، سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أو لا ، لأنّ الوجوه المتقدّمة لإفادته تقتضي ثبوته كذلك.

الأمر الثاني : وهو إثبات كون وجوب التحذّر مطلقا ، فيدل عليه نفس الوجوه الثلاثة المتقدّمة في إفادته الوجوب ، فيكون التحذّر واجبا سواء أفاد العلم للسامع أم لا ، لأنّ وجوب التحذّر قد وقع غاية للإنذار بنفسه سواء أفاد هذا الإنذار العلم أم لا ، لأنّ مقتضى إطلاقه هو شموله للموردين ، بل لو كان وجوب التحذر ثابتا حال إفادة الإنذار للعلم فقط لكان التحذر واجبا من باب العلم لا من باب الإنذار ، وهو خلاف الظاهر ، حيث كان التحذر غاية لنفس الإنذار ، بل يلزم أيضا لغوية الإنذار لو كان التحذر مختصا بحال العلم لأنّ الأغلب الا يفيد قول المنذر العلم فهو بحكم إلغائه أو تخصيصه بالفرد النادر.

ثالثا : أنّ وجوب التحذر حتّى مع عدم حصول العلم لدى السامع مساوق للحجيّة شرعا ؛ إذ لو لم يكن إخبار المنذر حجّة شرعا لما وجب العمل به إلا في حال حصول العلم منه.

الأمر الثالث : وهو إثبات حجيّة إخبار المنذر وذلك بأن يقال : إنّ وجوب التحذر عند الإنذار إمّا أن يكون مختصا بحال إفادة الإنذار العلم للسامع ، وإمّا أن يكون مطلقا سواء أفاده العلم أم لا ، فالثاني يعني الحجيّة التعبّدية لإخبار المنذر ؛ لأنّه حجّة ويجب التحذر عنده ، وإن لم يفد العلم وهو المطلوب ، والأوّل معناه أن يكون إخبار المنذر حجّة حال إفادته العلم فقط ، فيكون التحذر واجبا في هذه الحالة فقط ، إلا أنّه غير معقول في نفسه لما تقدّم من أنّ وجوب التحذر مطلق سواء أفاد قول المنذر العلم أم لا ، ولأنّه يوجب أن يكون جعل الحجيّة له مختصا بحال العلم.

ومن الواضح أنّ حجيّة العلم لا يعقل جعلها أو رفعها ، فلا يكون هناك معنى لجعل الحجيّة لإخبار المنذر إلا كونه حجّة مطلقا وإلا لزم جعل الحجيّة عند العلم وحجيّة العلم لا يمكن جعلها من الشارع.

ص: 220

وبهذا ظهر أنّ الاستدلال بآية النفر تام لو تمّت هذه الأمور الثلاثة ، إلا أنّه يمكن النقاش في كل واحد من هذه الأمور كما يلي :

وقد يناقش في الأمر الأوّل بوجوهه الثلاثة ، وذلك بالاعتراض على أوّل تلك الوجوه بأن الأداة مفادها وقوع مدخولها موقع الترقّب لا الترجي ، ولذا قد يكون مدخولها مرغوبا عنه ، كما في قوله : « لعلك عن بابك طردتني ».

المناقشة في الأمر الأوّل : يرد على الأمر الأوّل أي إثبات وجوب التحذر أنّنا نمنع الوجوه الثلاثة التي ذكرت لإفادة الوجوب.

أمّا الوجه الأوّل : فيعترض عليه بأنّه يتمّ فيما لو كانت الأداة تفيد المطلوبية والمحبوبية لمدخولها ، إلا أنّها ليست كذلك ، لأنّ مدخول الأداة يقع موضع التّرقب أيضا ، كما في قولك : ( لعلك تزورنا ) أي إنّنا نترقب زيارتك ، ويقع أيضا في غير مقام المحبوبية أصلا ، بأن يكون مكروها ومبغوضا كقوله علیه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي : « لعلك عن بابك طردتني » فهو يخشى ذلك ولا يحبّه.

والحاصل : أنّ كلمة ( لعل ) لا تدلّ فقط على الترجي بل هي أعم من طلب وقوع المحبوب ومن طلب عدم وقوع المبغوض ، فتكون موضوعة للترقّب الذي يتلاءم مع كلا المعنيين ، فإنّه إن كان المدخول مطلوبا ومحبوبا كانت تفيد التّرقب لوقوعه ، وإن كان مبغوضا ومرغوبا عنه كانت تفيد التّرقب لعدم وقوعه (1).

وبالاعتراض على ثاني تلك الوجوه بأنّ غاية الواجب ليست دائما واجبة ، وإن كانت محبوبا حتما ، ولكن ليس من الضروري أن يتصدى المولى لإيجابها بل قد يقتصر في مقام الطلب على تقريب المكلّف نحو الغاية وسدّ باب من أبواب عدمها ، وذلك عند وجود محذور مانع من التكليف بها وسدّ كل أبواب عدمها كمحذور المشقّة وغيره.

وأمّا الوجه الثاني : فيعترض عليه أنّه ليس دائما كلما كان شيء واجبا كانت

ص: 221


1- في الآية الشريفة يحتمل كلا النحوين من الترقب ، فنحتاج إلى دليل لترجيح أحدهما على الآخر ، وهو وإن كان يمكن استفادته من الآية كما هو الظاهر إلا أنّه يحتمل أن يكون التحذّر مطلوبا لإفادة الإنذار والإخبار للعلم لا مطلقا ، أي أنّ التحذر يكون واجبا لأنّه يترقّب أن يكون الإنذار مفيدا للعلم لا مطلقا. وهذا ما ذكره الأصفهاني.

غايته واجبة أيضا ، بل قد تكون غايته واجبة وقد لا تكون واجبة فيما إذا كان في إيجابها حرج أو مشقة أو عسر على المكلّف.

فنحن نسلّم بأنّ الغاية محبوبة ومطلوبة وراجحة ولكنّنا لا نسلّم أنّها تكون واجبة دائما ، فيمكن للمولى أن يتصدى لإيجابها بأن كانت مقدورة للمكلّف ولا مشقّة عليه بامتثالها ، ويمكن للمولى عدم إيجابها إذا لم تكن مقدورة للمكلف أو كان في إيجابها مشقة حرجية ؛ ولهذا نمنع الكبرى الكليّة.

والوجه في ذلك : أنّ الغاية إذا كان في إيجابها عسر ومشقة وحرج على المكلّف فالمولى حينئذ يقتصر على إيجاب ذي الغاية فقط ، والذي من شأنه أن يقرّب المكلّف نحو الغاية فيما إذا كان للغاية أسباب وأبواب متعدّدة فإنّه إذا أوجب ما يقرّب إليها يكون قد سدّ بابا من أبواب عدمها لا جميع أبواب عدمها ؛ إذ المفروض أنّ سدّ جميع أبواب عدمها يساوق إيجاب الغاية نفسها ، والمفروض أنّ المولى لا يريد إيجابها لما فيها من العسر والحرج والمشقّة على المكلّف.

والحاصل : أنّه إذا كان إيجاب الغاية نفسها أو سد جميع أبواب عدمها حرجيا على المكلّف فالمولى يقتصر في مقام تقريب المكلّف نحو الغاية في إيجاب أحد أسبابها وسدّ أحد أبواب عدمها فقط ، ولذلك تكون غير واجبة ولكنّها في نفس الوقت مطلوبة ومحبوبة للمولى لكنّه لم يوجبها لمحذور ومانع.

وبهذا يتّضح أنّ الملازمة بين وجوب شيء ووجوب غايته على إطلاقها غير تامّة. نعم ، هي تامّة بنحو الموجبة الجزئيّة فقط وإثبات كونها واجبة في مقامنا يحتاج إلى دليل آخر غير ما ذكر (1).

وبالاعتراض على ثالث تلك الوجوه بأنّ الأمر بالنفر والإنذار ليس لغوا مع عدم الحجيّة التعبديّة ، لأنّه كثيرا ما يؤدّي إلى علم السامع فيكون منجزا ، ولمّا كان المنذر يحتمل دائما ترتب العلم على إنذاره أو مساهمة إنذاره في حصول العلم ولو لغير السامع المباشر فمن المعقول أمره بالإنذار مطلقا.

ص: 222


1- مضافا إلى أنّ وجوب الإنذار ثابت على النافرين بينما وجوب التحذر ثابت على القوم المنذرين ، فمن عليه الوجوب ليس نفس من عليه التحذر ، فلا ملازمة بين الإيجابين لاختلاف موضوع كل منهما.

وأمّا الوجه الثالث : فيعترض عليه بأنّه يمكن أن يكون هناك أمر وإيجاب للنفر والإنذار ومع ذلك لا يقال بالحجيّة التعبديّة لإخبارهم مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وذلك لأنّه غالبا أو كثيرا ما يؤدّي الإنذار والإخبار إلى علم السامع فيكون الإنذار منجزا عليه لمنجزية العلم لا لنفس الخبر.

وعليه ، فيمكن للشارع أن يكون قد جعل الإنذار واجبا ، لأنّه يؤدّي إلى العلم ولكنّه لم يقيّد في لسان الدليل بذلك حفاظا على بقاء الإنذار ، لأنّه لو قال : إنّ الإنذار إنّما يكون واجبا فيما لو أفاد العلم للسامع ، فعندئذ سوف يتوقّف المنذر في كثير من الأحيان عن الإنذار لعدم إفادة إنذاره العلم لدى السامع بنظر المنذر مع أنّه قد يفيده العلم أو قد يفيد غير السامع أو قد يساهم الإنذار في حصول العلم بعد ضمّ غيره من القرائن والشواهد إليه ، فلأجل أن يحافظ الشارع على وجوب التحذّر عند إفادة الإنذار العلم جعل وجوب الإنذار في خطابه مطلقا لحالتي إفادته العلم وعدمها من أجل أن يتحقّق الإنذار من كل النافرين سواء كان مفيدا للعلم بنظرهم أم لا ، لأنّ المهم هو أن يحصل العلم للسامع أو للمنقول إليه الإنذار.

والحاصل : أنّ الملاك الواقعي للمولى هو كون وجوب التحذر عند إفادة العلم لدى السامع من إنذار النافر ، ولكن إذا أبرز الشارع هذا القيد في ظاهر كلامه فسوف يتوقّف كثير من المنذرين النافرين حيث إنّهم في كثير من الأحيان يعتقدون أنّ إنذارهم لا يفيد السامع العلم ؛ لأنّه خبر واحد ظني وبالتالي سوف لن يتحقّق التحذر الواجب في كثير من موارده الواقعيّة.

وأمّا إذا أبرز وجوب الإنذار مطلقا سواء أفاد العلم أم لا سوف يتحفظ على ملاك وجوب التحذر الواقعي لأنّه سوف يتحذر دائما عنه لأنّ الوجوب صار مطلقا ظاهرا وإن كان واقعا مقيّدا بالعلم.

وهذه المناقشة إذا تمت جزئيا فلا تتم كليّا ، لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المطلوبية غير قابلة للإنكار ، وكون مفادها الترقب وإن كان صحيحا

ولكن كونه ترقب المحبوب أو ترقب المخوف يتعيّن بالسياق ، ولا شكّ في تعيين السياق في المقام للأوّل.

الجواب عن هذه المناقشة : أنّها تتمّ في الوجهين الثاني والثالث ، ولكنّها غير تامّة

ص: 223

في الوجه الأوّل ، فهي تامّة جزئيا لا كليّا ، وذلك : لأنّ دلالة كلمة ( لعل ) على المحبوبية والمطلوبية غير قابلة للإنكار ، فإنها تدلّ على مطلوبيّة ومحبوبية المدخول في كثير من الموارد كما في قولك : ( لعلّني أدخل الجنة ).

وأمّا ما ذكره المحقّق الأصفهاني من كون الأداة موضوعة للترقب الأعم من المحبوب والمبغوض فهو صحيح أيضا ، لكن تعيين أنّ المترقب هو المحبوب أو المخوف والمبغوض راجع للسياق ، وسياق الآية هنا يعيّن كون الترقب للمحبوب لأنّ التحذر في نفسه شيء حسن وجيّد لئلاّ يقع الإنسان في الخطأ.

فالوجه الأوّل لإثبات أنّ التحذّر واجب تام وبه يثبت الأمر الأوّل وهو وجوب التحذّر.

وقد يناقش في الأمر الثاني - بعد تسليم الأوّل - بأنّ الآية الكريمة لا تدلّ على إطلاق وجوب التحذر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذر ، وذلك لوجهين :

المناقشة في الأمر الثاني : وقد يرد على الأمر الثاني وهو إثبات وجوب التحذر مطلقا بأنّه لا إطلاق في الآية الكريمة لحالة عدم علم السامع بصدق المخبر بالإنذار ، وإنّما هي مقيّدة بحالة علمه فقط ، ويمكن إثبات التقييد وبطلان الإطلاق بأحد وجهين ، ذكرهما الشيخ الأنصاري :

أحدهما : أنّ الآية لم تسق من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذر ؛ لنتمسك بإطلاقها لإثبات وجوبه على كل حال ، وإنّما هي مسوقة لإفادة وجوب الإنذار ، فيثبت بإطلاقها إنّ وجوب الإنذار ثابت على كل حال ، وقد لا يوجب المولى التحذر إلا على من حصل له العلم لكنّه يوجب الإنذار على كل حال ، وذلك احتياطا منه في مقام التشريع لعدم تمكنه من إعطاء الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الانذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.

الوجه الأوّل : منع الإطلاق في الآية ، وذلك لأنّ الآية بصدد بيان أصل وجوب الإنذار على النافرين بهدف تحذير الناس وليست في مقام إثبات وجوب التحذر ، وإنّما قلنا بوجوب التحذر للملازمة بين الإنذار والتحذر لئلا تلزم اللغوية.

وعليه ، فما ثبت إطلاقه من الآية هو أنّ الإنذار واجب على النافرين على كل حال

ص: 224

سواء أفاد إنذارهم العلم أم لا ، وأمّا أنّ وجوب التحذر مطلق أيضا فهذا لا دليل عليه ؛ إذ الآية لم تتعرض لوجوبه أساسا فضلا عن كونه مطلقا.

وحينئذ لا مانع من التفكيك بين الوجوبين ، بأن يكون وجوب الإنذار مطلقا لحالتي العلم وعدمه ، بينما يكون وجوب التحذر مختصا فيما إذا استفاد السامع العلم من إخبار المنذر ، ولا ملازمة بين إطلاق الإنذار وإطلاق التحذر أصلا.

والغرض من إيجاب الإنذار مطلقا مع أنّ إيجاب التحذّر ليس كذلك هو الاحتياط والتحفّظ على الأحكام الواقعيّة التي يخبر عنها المنذر ضمن مجموع إخباراته التي لا يفيد بعضها العلم ، فإنّ السامع قد يستفيد العلم من بعض هذه الإنذارات فتكون حجّة عليه ويجب عليه التحذر عنها وهو المطلوب والمراد للشارع من إنذار النافرين.

وبتعبير آخر : أنّ الشارع يريد أن يتحذر الناس عن الإنذارات التي تفيدهم العلم ولكن لمّا لم يكن بالإمكان إعطاء الضابطة الكليّة والعامّة لهذا الأمر أوجب الإنذار على النافرين على كل حال سواء كان إنذارهم مفيدا للعلم أم لا ، وذلك حفاظا على أن يتحقّق الإنذار المفيد للعلم لدى السامع من مجموع هذه الإنذارات فيتحذر عنها بالخصوص ، أو أن يكون لهذا الإنذار مساهمة في إفادة العلم لدى السامع بعد ضمّ بعض الشواهد والقرائن الأخرى إليه.

وهذه فائدة معقولة جدا حفاظا على الملاكات الواقعيّة للأحكام عند الاختلاط أو عند عدم تمييزها عن غيرها بأن يجعل الشارع حكما ظاهريّا عاما بقصد الحفاظ على الملاكات الواقعيّة ضمن مجموع دائرة الإنذارات.

بل لو أنّ الشارع قد جعل وجوب الإنذار مختصا بما إذا كان مفيدا لعلم السامع لتعطلت كثير من الإنذارات فيما إذا اعتقد المنذر بأنّها لا تفيد السامع العلم ، وبالتالي سوف لن ينذر حتّى بالأحكام الواقعيّة التي تفيد العلم واقعا بتخيل واعتقاد عدم إفادتها للعلم ، وهذا يفوّت الملاكات الواقعيّة للأحكام الإلزاميّة في فرض كونها أهم من ملاكات الترخيص والإباحة.

وهذا الأمر يتناسب مع حقيقة وروح جعل الحكم الظاهري كما تقدّم ، ولذلك لا دليل على أنّ وجوب التحذر مطلق.

ص: 225

والوجه الآخر : ما يدّعى من وجود قرينة في الآية [ تدلّ ] على عدم الإطلاق ، لظهورها في تعلّق الإنذار بما تفقّه فيه المنذر في هجرته ، و[ في ] كون الحذر المطلوب مترقبا عقيب هذا النحو من الإنذار ، فمع شكّ السامع في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لإثبات مطلوبيّة الحذر.

الوجه الثاني : أنّه يوجد ما يدلّ على التقييد وهو : أنّ التحذّر يجب فيما يجب فيه الإنذار ، أي أنّ موضوعهما واحد ، وهو الأحكام الواقعيّة بقرينة التفقه في الدين ، أي معرفة الأحكام الإلهية الواقعيّة ، وحينئذ يجب التحذر عن هذه الأحكام الواقعيّة إذا كان الإنذار بها وأمّا إذا لم يكن الإنذار بالأحكام الواقعيّة فلا يجب التحذر عنها قطعا.

فالتحذّر المترقّب وقوعه من الناس هو التحذر عند الإنذار بالأحكام الواقعيّة لا غير.

وعليه ، فإذا شكّ المنذر بأنّ هذا الإنذار من الأحكام الواقعيّة أو ليس منها فلا يحرز موضوع وجوب التحذر فلا يجب ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من إحراز الموضوع وهو معنى كون التحذّر واجبا عند إفادة الإنذار لعلم السامع لا مطلقا (1).

ويمكن النقاش في الأمر الثالث : بأنّ وجوب التحذر مترتّب على عنوان الإنذار لا مجرّد الإخبار ، والإنذار يستبطن وجود خطر سابق ، وهذا يعني أنّ الإنذار ليس هو المنجز والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع الحجيّة له ، وإنّما هو مسبوق بتنجز الأحكام في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي أو الشك قبل الفحص.

المناقشة في الأمر الثالث : ويرد على الأمر الثالث وهو استفادة حجيّة خبر الواحد من خلال كون الإنذار والتحذر مطلقين أمران :

الأوّل : أنّ وجوب التحذر مطلقا سواء أفاد العلم للسامع أم لا مترتب على عنوان الإنذار ؛ لأنّ التحذر وقع عقيب الأمر بالإنذار فيكون التحذر واجبا مطلقا عند تحقّق عنوان الإنذار.

ص: 226


1- إلا أنّ هذا الوجه يمكن الجواب عنه بأنّه يكفي كون الإنذار منجزا للواقع ولو ظاهرا ، بمعنى أنّ التحذر يجب فيما إذا كان الإنذار فيه مقتضي المنجزية وهو الإخبار بالأحكام الإلزامية التي يعتقد المنذر كونها واقعيّة ، وإلا لزم التشكيك في كثير من الإنذارات وهو خلاف ما ورد عنهم من أنّه لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا.

إلا أنّ هذا لا يعني حجيّة خبر الواحد مطلقا ، بل حجيّة الخبر المستتبع والمتضمن للإنذار ، لأنّ عنوان الإنذار أخص من عنوان الإخبار فإنّ الإخبار يشمل ما إذا كان في الخبر إنذار أم لا ، والإنذار هو الخبر الذي فيه تخويف وتهديد بالعقاب على فعل أو ترك كانا منجزين على المكلّف في مرتبة سابقة.

وحينئذ تكون الآية ناظرة إلى حجيّة خصوص الخبر الذي فيه وعيد وتخويف وتهديد وتحذير من العقاب على فعل أو ترك كان المكلّف يعلم إجمالا بتنجزهما عليه.

وهذا يعني أنّ الحجيّة المجعولة شرعا ليس موضوعها عنوان الإنذار بالدقة ، وإنّما المنجّز القبلي الذي يستبطنه ويتضمنه هذا الإنذار ، وليس موضوعها مجرّد الإخبار لأنّه خلاف ظاهر الآية.

ثمّ إنّ هذا المنجز السابق الذي بوجوده يتحقّق الانذار والتخويف إما أن يكون هو العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية منجّزة ضمن دائرة الاخبار التي يحكي عنها الرواة ، حيث إنّ كل مكلّف يعلم إجمالا بتنجز كثير من هذه الأحكام ضمن الإخبارات والإنذارات فتكون الحجيّة لهذا العلم الإجمالي المنجز.

وإمّا أن يكون هو الشك قبل الفحص ، ولو لم يكن هناك علم إجمالي ، فإنّ البراءة سواء العقلية أم الشرعيّة لا تجري إلا في الشبهات بعد الفحص ، وأمّا قبل الفحص فيجب الاحتياط أو التوقف فيكون المنجز هو الاحتياط العقلي قبل الفحص.

وعلى كل حال لا يثبت بالآية حجيّة مطلق خبر الواحد ، وإنّما خصوص الخبر الذي يتضمن الإنذار والوعيد والتهديد المستتبع والمستلزم لوجود منجز قبلي في مرتبة سابقة على هذا الانذار.

هذا مضافا إلى أنّ تنجّز الأحكام الإلزاميّة بالإخبار غير القطعي لا يتوقّف على جعل الحجيّة للخبر شرعا بناء على مسلك حق الطاعة كما هو واضح.

الثاني : أنّنا لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب التحذر مطلقا عند الإنذار وسلّمنا أنّ الإنذار يراد به الإخبار هنا إلا أنّ هذا لا يلزم منه كون الخبر حجّة شرعا ، بناء على مسلك حق الطاعة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك فالقاعدة الأولية بحكم العقل هي الاحتياط والاشتغال لأنّ كل احتمال منجز عقلا. وعليه ، فهذا الخبر إنّما يكون

ص: 227

مستتبعا للمنجزية ولوجوب التحذّر لكونه يشكّل ولو احتمالا على وجود حكم إلزامي ، فالمنجزيّة والحجيّة لهذا الاحتمال لا للخبر بعنوانه الخاص.

والنتيجة : أنّنا لو سلّمنا كون التحذر واجبا مطلقا سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أم لا فلا نسلّم بكون ذلك لأجل حجيّة الخبر ، بل ذلك لأجل منجزية الاحتمال الناشئ من هذا الخبر لأنّ كل احتمال وانكشاف للتكليف منجز عقلا.

* * *

ص: 228

السنّة
اشارة

ص: 229

ص: 230

2 - السنّة

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها :

أحدهما : الأخبار الدالة على الحجيّة ، ولكي يصحّ الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن تكون قطعية الصدور.

وتذكر في هذا المجال طوائف عديدة من الروايات ، والظاهر أنّ كثيرا منها لا يدلّ على الحجيّة. وفيما يلي نستعرض بإيجاز جلّ هذه الطوائف ليتضح الحال.

القسم الثاني : هو الاستدلال بالسّنة الشريفة على حجيّة خبر الواحد.

والاستدلال بالسّنة يتوقّف على ثبوتها ، وهنا يوجد طريقان لإثبات هذه السنّة ، هما :

الطريق الأوّل : الأخبار الكثيرة الدالة على حجيّة خبر الواحد.

ولكن يشترط في صحّة الاستدلال بهذه الأخبار على حجيّة خبر الواحد كونها قطعيّة الصدور ، وإلا لزم الدور أو الخلف ، فيجب أن تكون متواترة ولو إجمالا ولا يصحّ أن تكون ظنيّة الصدور والسند ، وإلا كان مصادرة على المطلوب ، لأنّه من الاستدلال على الشيء بنفسه.

ثمّ إنّ هذه الأخبار على طوائف بعضها تام وله دلالة على الحجيّة ، وبعضها الآخر لا دلالة فيه ، ولذلك نستعرض أهم هذه الطوائف.

الطائفة الأولى : ما دلّ على التصديق الواقعي ببعض روايات الثقات ، من قبيل ما ورد عن العسكري علیه السلام عند ما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن ، إذ قال : « هذا ديني ودين آبائي وهو الحق كلّه ».

وهذا مردّه إلى الإخبار عن المطابقة للواقع وهو غير الحجّية التعبّدية التي تجعل عند الشك في المطابقة.

ص: 231

الطائفة الأولى : الأخبار التي استدل بها على حجيّة خبر الواحد ، الواردة بلسان التصديق الواقعي ببعض أخبار الثقات ، أي الشهادة من المعصوم على أنّ هذه الأخبار التي رواها بعض الثقات واقعيّة وصادرة عن المعصومين علیهم السلام ، ومن أمثلة هذه الطائفة :

ما ورد عن العسكري علیه السلام حينما عرض عليه كتاب ( يوم وليلة ) ليونس بن عبد الرحمن فأثنى عليه بقوله : « هذا ديني... وهو الحق » وهذا الإطراء منه والشهادة بصدقه معناه أنّ يونس ثقة وصادق في إخباراته وهذا معناه أنّ كل ثقة يكون صادقا ويجب العمل بخبره.

إلا أنّ الصحيح عدم تماميّة الاستدلال بهذا النحو من الروايات لأنّها :

أوّلا : لا تدلّ على أكثر من كون يونس بن عبد الرحمن ثقة ، وأنّه لا يقول إلا الحق والصادر عنهم ، فهي واقعة وقضيّة تكوينية خارجية مشخصة لا إطلاق فيها لعموم الثقات أو لكل خبر واحد.

وثانيا : أنّها إخبار عن كون ما في هذا الكتاب صادرا واقعا وأن الراوي ثقة وعدل ، وهذا يعني أنّنا نعمل بما ذكره يونس لا من باب كونه ثقة وعدلا قد جعلت له الحجيّة ، وإنّما من باب شهادة الإمام بأنّها واقعيّة وهذا معناه أنّها أصبحت يقينية فيعمل بها من باب العلم بصدورها لا من باب كونها حجة تعبّدا وما نريده هو إثبات حجيّتها التعبديّة سواء علم بصدورها أم لا. وهو خلاف صريح هذا اللسان.

الطائفة الثانية : ما تضمّن الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ، من قبيل قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه اللّه فقيها عالما يوم القيامة ».

وهذا لا يدلّ على الحجيّة أيضا ، إذ لا شكّ في أنّ تحمّل الحديث وحفظه من أهم المستحبات ، بل من الواجبات الكفائية لتوقف حفظ الشريعة عليه ، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول تعبدا مع الشك. ومثل ذلك ما دلّ على الثناء على المحدّثين أو الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة.

الطائفة الثانية : من الأخبار ما ورد بلسان الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ونقله للآخرين ، كالنبوي المشهور : « من حفظ على أمتي... بعثه اللّه عالما فقيها... ».

ص: 232

والاستدلال بهذا النحو من الأخبار على أساس الملازمة بين حفظ الحديث ونقله للناس وتحمله وبين قبول الناس لهذا الحديث وعدم رده ، إذ لو لم يجب القبول لما كان هناك معنى للحث المذكور ولكان لغوا ، فلكي تكون هناك فائدة لهذا الحث يلزم أن يكون إخبارهم ونقلهم لهذه الأخبار حجّة على المنقول إليهم ، وهذا يعني حجيّة خبر الواحد.

وفيه : أنّ هذا اللسان لا يفيد الحجيّة التعبديّة ؛ وذلك لأنّ مجرّد الحث على التحمّل والحفظ والنقل للحديث ولو كان واجبا كفائيا فضلا عمّا إذا كان مستحبا ومن أفضل الأعمال ، إلا أنّه لا يدلّ على الحجيّة التعبديّة لخبر الواحد ، إذ قد يكون المراد من الحث المذكور هو أن تكثر الحملة والحفّاظ وبالتالي يكثر الرواة للحديث فيحصل العلم لدى المنقول إليه.

ولا معنى للقول بأنّ حثّهم على ذلك يتلازم مع وجوب قبول أخبارهم مطلقا حتّى إذا لم يستفد السامع منها العلم ، بل قد تكون حجّة في حالة إفادتها للعلم فقط ، ويكون الحث عليها من أجل الحفاظ على الملاكات الواقعيّة عند الشك والحيرة كما تقدّم توضيحه مفصّلا في حقيقة الحكم الظاهري.

ونظير هذه الطائفة ما ورد عنهم بلسان الثناء والمدح للرواة والمحدثين كقوله : « اللّهمّ ارحم خلفائي... الذين يبلّغون حديثي وسنّتي... » ، وما ورد من الأمر بحفظ الكتب والترغيب في الكتابة كقوله : « احفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها ».

فإنّ الاستدلال بهذه الأخبار مستند إلى الملازمة بين ذلك وبين قبول إخباراتهم وكتبهم ووجوب العمل على طبقها ، سواء أفادت العلم أم لا ، إلا أنّنا ذكرنا أنّ هذه الملازمة غير تامّة.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على الأمر بنقل بعض النكات والمضامين ، من قبيل قول أبي عبد اللّه علیه السلام : « يا أبان ، إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث ».

والصحيح أنّ الأمر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تماميّة الحجّة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين ، ولا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثالثة : من الأخبار ما ورد بلسان الأمر بنقل الحديث وبعض المضامين والنكات ، من قبيل ما ورد من أمر الإمام الصادق علیه السلام لأبان بن تغلب بأنّه

ص: 233

إذا قدم الكوفة فليرو هذا الحديث وهو : « من قال لا إله إلا اللّه مخلصا وجبت له الجنّة ».

فإنّ الأمر بنقله لهذا الحديث سواء باللفظ أو بالمعنى أو بكليهما معناه أنّه يجب على الناس المستمعين والمنقول إليهم هذا الحديث أن يقبلوه ويعملوا به ويصدّقوه في إخباره ونقله ؛ إذ لو كان القبول غير واجب عليهم لكان أمره بالنقل لغوا ، فلكي يكون كلام الإمام وأمره وجيها لزم القول بحجيّة قول أبان مطلقا ، أي سواء أفاد العلم أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّه يكفي لدفع محذور اللغوية وتوجيه كلام الإمام أن يكون إخبار أبان يوجب العلم أو الاطمئنان أو الوثوق بصدقه وأنّ ما ينقله صادر عنهم أو كان يساهم في حصول العلم ، فلا يكون التصديق والعمل والاتباع واجبا على المستمعين مطلقا ، وإنّما إذا أفادهم العلم ونحوه فقط ، ويكون أمره بالنقل مطلقا من أجل الحفاظ على هذا الأمر الواقعي.

فلا دلالة في هذا اللسان على الحجيّة التعبديّة إلا على القول بالملازمة التي لا نسلّم بها.

الطائفة الرابعة : ما دلّ على أن انتفاع السامع بالرواية

قد يكون أكثر من انتفاع الراوي ، من قبيل قولهم : « فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

ونلاحظ أنّ هذه الطائفة ليست في مقام بيان أنّ النقل يثبت المنقول للسامع تعبدا ، وإلا لكان الناقل دائما من هذه الناحية أفضل حالا من السامع ؛ لأنّ الثبوت لديه وجداني ، بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن توضح أنّ المهم ليس حفظ الألفاظ بل إدراك المعاني واستيعابها ، وفي ذلك قد يتفوّق السامع على الناقل.

الطائفة الرابعة : من الأخبار ما ورد بلسان أنّ السامع للحديث قد يكون انتفاعه به أكثر من الراوي الناقل له ، من قبيل النبوي المشهور : « ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

والاستدلال بها على أساس أنّ الراوي والناقل إذا لم يكن خبره حجّة على السامع المنقول إليه مطلقا فكيف يصير أفقه منه.

ص: 234

وبتعبير آخر : أنّ خبر الناقل إذا لم يكن حجّة على الآخرين وإنّما حجّة على نفسه فقط فهو يكون أفقه من المنقول إليه قطعا ، لأنّ المنقول إليه لن ينتفع من خبره إلا في حالات قليلة جدا ، وذلك إذا حصل له العلم من نقله فقط ، فكيف يكون أفقه منه؟! فهذا التعبير يساوق الحجيّة التعبديّة للخبر.

وفيه : أنّ هذا اللسان من الروايات ليس مفاده التعرض لإثبات الحجيّة للخبر أصلا ، أو أنّه متى يمكننا إثبات صدور الخبر عن المعصومين؟ وإلا لكان الراوي والناقل للخبر أفضل حالا دائما من السامع والمنقول إليه ، وذلك لأنّ الفقه الذي يحمله الناقل ثابت لديه وجدانا ، لأنّه سمعه من المعصوم بينما المنقول إليه هذا الفقه على القول بالحجيّة يكون ثابتا لديه تعبدا والحال أنّ الثبوت الوجداني أفضل دائما من الثبوت التعبّدي ، فيلزم أن يكون الناقل أفضل حالا من المنقول إليه دائما ، فكيف يقول الحديث : إنّ المنقول إليه قد يكون أفقه من الناقل؟!

والصحيح أنّ الحديث بصدد بيان مطلب آخر وهو أنّه بعد فرض ثبوت الصدور وأنّ هذا الفقه المنقول ثابت واقعا ، فحينئذ قد يكون المنقول إليه أفقه من الناقل في فهمه وإدراك معانيه وتوضيح مطالبه ومضامينه وأقدر على استيعابه منه ، لأنّ أفهام الناس تختلف بهذه الأمور كما هو واضح.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن خبر الواحد مقبولا لما كان هناك أثر للكذب ليستحق التحذير.

والصحيح أنّ الكذب كثيرا ما يوجب اقتناع السامع خطأ ، وإذا افترض في مجال العقائد وأصول الدين كفى في خطره مجرّد إيجاد الاحتمال والظن ، فاهتمام الأئمّة بالتحذير من الكاذب لا يتوقّف على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الخامسة من الأخبار : ما ورد بلسان ذمّ الكذب والكذّابين والوضّاعين الذين يختلقون الأحاديث من عندهم ، من قبيل قوله علیه السلام : « من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار ».

وتقريب الاستدلال بها : أنّ خبر الواحد إذا لم يكن حجّة للسامع ويوجب تصديقه والعمل به لما كان هناك وجه للتحذير من الكذب فيه وذمّه ، وهذا معناه أنّ

ص: 235

خبر الواحد حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة ، وجاء التحذير لئلا يقع الناس في الخطأ ومخالفة الواقع.

وفيه : أنّه لا دلالة أصلا في هذه الطائفة على المقصود ؛ لأنّها بصدد بيان أنّ الكذب في نفسه محرم وأنّ الاختلاق والوضع يوجب الخلود في النار ، وليست بصدد التعرض لكون قوله حجّة مطلقا أم لا.

مضافا إلى أنّ خبر الكاذب قد يوجب اقتناع السامع وتصديقه ووثوقه ، أو اطمئنانه بصدور هذا الخبر فيعمل به فيقع في مخالفة الواقع والمفسدة ، أو يكون خبر الكاذب في مجال العقائد وأصول الدين وهذا يؤدّي إلى تشويش اعتقاد السامع فيما لو احتمل أو ظنّ صدقه وهذا خطر كبير من الكذب فجاء التحذير منه.

والحاصل أنّه لا ملازمة بين تحذير الأئمّة علیهم السلام من الكذب عليهم وبين كون الخبر حجّة مطلقا تعبدا ، بل قد يكون التحذير من الكذب لأجل أنّه يشكّل خطرا على معتقدات السامع فيما لو احتمل أو ظن أو وثق به.

الطائفة السادسة : ما ورد في الإرجاع إلى آحاد من أصحاب الأئمّة بدون إعطاء ضابطة كلية للإرجاع ، من قبيل إرجاع الإمام إلى زرارة بقوله : « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » أو قول الإمام الهادي علیه السلام : « فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني ، وأقرأه مني السلام ».

وروايات الإرجاع التي هي من هذا القبيل لمّا كانت غير متضمّنة للضابطة الكليّة فلا يمكن إثبات حجيّة خبر الثقة بها مطلقا حتّى في حالة احتمال تعمّد الكذب ؛ إذ من الممكن أن يكون إرجاع الإمام بنفسه معبّرا عن ثقته ويقينه بعدم تعمّد الكذب ما دام إرجاعا شخصيا غير معلّل.

الطائفة السادسة من الأخبار : ما ورد بلسان الإرجاع إلى بعض الرواة أو الثقات أو الأصحاب ، من قبيل الإرجاع إلى زرارة أو إلى عبد العظيم الحسني. فإنّ هذا الإرجاع معناه أنّ ما يحدّث به هؤلاء حجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، وهو معنى الحجيّة التعبديّة.

وفيه : أنّ هذا الإرجاع لمّا لم يكن معلّلا ببيان الضابطة الكليّة العامّة التي من خلالها أرجع الإمام إلى هؤلاء فلا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة.

ص: 236

نعم ، لو كان هذا الإرجاع معلّلا ببيان الملاك والضابط الذي على أساسه كان هذا الإرجاع بأن قال : لأنهم ثقات أو عدول أو نحو ذلك لكانت لها دلالة على الحجيّة المطلوبة ، إلا أنّها ليست كذلك.

وحينئذ فكما يحتمل أن يكون الإرجاع لمجرّد كونهم ثقات فكذلك يحتمل أن يكون الإرجاع من أجل كونهم لا يكذبون أصلا ولا يحدّثون إلا بما هو صادر من المعصوم ، أو لأنّ إخبارهم كان يفيد العلم للسامع في أكثر الأحيان نتيجة علم الإمام بوثاقتهم وتدينهم ويقينه بصدقهم دائما ، وأنّ هذا الصدق يلازم حصول اليقين للسامع ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بها على الحجيّة التعبديّة حتّى إذا لم يفد قولهم العلم للسامع ، بل يمكن أن يكون مختصّا بما إذا استفاد السامع العلم منهم ، ولهذا أرجع الإمام إليهم.

الطائفة السابعة : ما دل على ذم من يطرح ما يسمعه من حديث

بمجرّد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله علیه السلام : « وأسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي يسمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأزّ منه وجحده وكفّر من دان به ، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ». إذ يقال : لو لا حجيّة الخبر لما استحق الطارح لهذا الذم.

والجواب : إنّه استحقه على الاعتماد على الذوق والرأي في طرح الرواية بدون تتبع وإعمال للموازين وعلى التسرّع بالنفي والإنكار مع أنّ مجرّد عدم الحجيّة لا يسوّغ الإنكار والتكفير.

الطائفة السابعة من الأخبار : ما ورد بلسان الذمّ والتقريع على من يسمع الحديث فيطرحه لمجرّد أنّه لم يوافق ذوقه ورأيه ولم يستحسنه ؛ إذ لعلّه يكون صادرا من عندهم فيكون بذلك قد طرح ما هو صحيح وثابت ، وبالتالي يكون قد استخفّ بما يروى عنهم لمجرّد إعمال رأيه وذوقه.

وهذا اللسان يدلّ على الحجيّة التعبديّة للخبر بتقريب أنّ الخبر إذا لم يكن حجّة شرعا لما كان يستحق هذا الشخص مثل هذا الذم والتقريع ، لأنّه مع عدم حجيّته يجب طرحه عرض الحائط ، كما ورد في بعض الأخبار فاستحقاقه للذمّ لمجرّد طرحه يلازم كون الخبر حجّة في نفسه ولذلك لمّا طرحه استحق هذا الذم واللوم

ص: 237

والتقريع لأنّه طرح ما هو حجّة شرعا وما يجب العمل والالتزام به وتصديقه.

وفيه : أنّ هذه الطائفة من الروايات أجنبية عن مقامنا لأنّها بصدد بيان أنّ من يطرح الأخبار لمجرّد إعمال الرأي والاستحسان ، ولمجرّد عدم موافقتها لذوقه وطبعه يكون بذلك قد عمل بهواه ورأيه وترك السنّة والجادة القويمة فيكون من قبيل الاجتهاد مقابل النّص ؛ إذ بطرحه للأخبار لمجرّد عدم استحسانه لها يكون قد طرح ما هو ثابت واقعا وصادر عنهم وبالتالي يكون قد استخفّ بهم فيخرج من ولايتهم كما ورد في ذيل ذلك الخبر.

وهذا أمر آخر غير الحجيّة التعبديّة للخبر ، إذ حتّى لو كانت الحجيّة غير ثابتة للخبر شرعا فلا ينبغي لمن ينقل إليه الخبر أن يطرحه ابتداء وتشفيا لمجرّد عدم موافقته لطبعه ، بل يجب عليه التريّث والفحص والتثبت فإنّ حصل ما يوجب كذبه طرحه وإن حصل ما يطمأن معه بصدوره أخذ به ، وإن بقي شاكا ومتحيرا يقف ولا يحكم بصدقه ولا كذبه ، ويرجئه حتّى يعلم فيما بعد ، فطرحه للخبر بالنحو المذكور يستحق الذم واللوم لأنّه قد خالف ما يجب فعله عليه.

مضافا إلى أنّ تكفير من دان بالعمل بهذا الخبر مستهجن وغريب ؛ إذ قد يكون الذي عمل به قد حصل له العلم بذلك فكيف يدان ويكفّر لمجرّد أن هذا السامع لم يوافق طبعه وذوقه ، فإنّ هذا الأمر لا ينبغي صدوره من الإنسان الملتزم والذي يطبّق أعماله وأحكامه طبق الموازين الشرعيّة ، فإنّ التكفير لا يجوز بحال خصوصا في مثل هذه الموارد ؛ لأنّه على الأقلّ يحتمل أن يكون الآخر معذورا في أخذه بالخبر والالتزام به حتّى وإن قطع السامع بأنّه غير صادر منهم فإنّ ذلك حجّة عليه فقط دون غيره من الناس.

الطائفة الثامنة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلو لا أنّ خبر الواحد حجّة لما كان هناك معنى لفرض التعارض بين الخبرين وإعمال المرجحات بينهما.

ونلاحظ أنّ دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدورا إذا تعارضا ، فلا يتوقّف تعقّله على افتراض الحجيّة التعبديّة.

الطائفة الثامنة : من الأخبار ما ورد في مقام علاج التعارض بين الخبرين بتقديم

ص: 238

الموافق للكتاب على المخالف له وبتقديم المخالف للعامة على الموافق لهم ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة حيث ورد فيهما : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسّنة وخالف العامّة فيؤخذ به ».

وتقريب الاستدلال بها أن يقال : إنّ الخبر الذي لا يكون حجّة في نفسه لا معنى لمعالجة معارضته فإذا لم يكن خبر الواحد حجّة فلا معنى لعلاج تعارضه مع غيره ، لأنّه إذا كان لا يعمل به لو جاء وحده فكذلك لو كان له معارض.

وعليه ، فروايات العلاج تدلّ بالالتزام على أنّ الخبر في نفسه حجّة ويجب العمل به ولأجل ذلك فإذا كان هناك خبر آخر معارضا للخبر السابق فإنّ المكلّف سوف يقع في الحيرة في مقام الأخذ والعمل لأنهما متعارضان ، فجاءت هذه الروايات لحل التعارض كما هو منطوقها ومدلولها المطابقي ، ولتدل بالالتزام على أنهما حجّة في أنفسهما لو لا المعارضة.

وفيه : أنّ روايات الترجيح المذكورة تتناسب أيضا مع علاج الخبرين الذين ثبت قطعا صدورهما من الشارع دون غيرهما ، وهذا معناه أنّه إذا قطع بخبر فيجب العمل به فإذا كان له خبر آخر معارض له قطعي الصدور أيضا فحيث إنّه يجب العمل بمثل هذين الخبرين جاءت الروايات لتعالج هذا التعارض ، ولا دلالة فيها على أنّ كل خبرين يقع بينهما التعارض يعالجان بهذا النحو ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان أحدهما حجّة دون الآخر فإنّه يطرح الآخر ويعمل بما هو حجّة.

وليست هذه الروايات بصدد بيان أصل الحجيّة وإنّما هي تبيّن علاج المعارضة بين الخبرين الذين ثبتت حجيتهما ، وأمّا كيف كانا حجّة فهذا لا تتعرض له هذه الأخبار ، وعليه فيحتمل كونهما حجّة لأجل القطع بصدورهما فكيف يمكن الاستدلال بها على حجيّة كل خبر مع وجود هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ علاج التعارض لا يتوقّف على فرض حجيّة الخبر مطلقا ، سواء علم به أم لا ، وسواء قطع بصدوره أم لا بل يمكن فرضها على تقدير القطع بصدور الخبرين.

الطائفة التاسعة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بالأوثقية ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر وقوّة الظن بصدوره. وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الطائفة السابقة.

ص: 239

ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيين ، لأنّ الأوثقية لا أثر لها فيهما ما دام كل منهما مقطوع الصدور.

الطائفة التاسعة من الأخبار : ما ورد في علاج الخبرين المتعارضين بترجيح الخبر الذي يحتوي على بعض الصفات التي ترجّح صدوره وتوجب قوّة الظن بأنّه صادر عن المعصومين علیهم السلام ، كما ورد في المقبولة والمرفوعة أيضا من قوله : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » وقوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما... ».

فإنّ الأوثقية والأعدلية والأصدقية والأورعية من الصفات التي ترجع إلى نفس الراوي وهذا يعني أنّ الإمام والسائل قد افترضا وجود خبرين لا يقين بصدورهما ولا قطع بسندهما ومع ذلك عالج الإمام التعارض بينهما بترجيح الواجد لبعض هذه الصفات ، وهذا يعني أنّ الخبر حجّة مطلقا سواء علم به أم لا ، وسواء كان قطعي الصدور والسند أم لا ، وهذا هو معنى الحجيّة التعبديّة ، وإلا لما كان هناك معنى لهذا الترجيح ؛ إذ فرض عدم حجيّة الخبر الظني لا يتناسب مع علاج المعارضة ، لأنّه إذا لم يكن حجّة في نفسه فهو ليس حجّة حتّى مع وجود المعارض له بطريق أولى وأوضح.

ويلاحظ هنا : أنّ هذا النحو من الأخبار لا يمكن حمله على الخبرين القطعيين من جهة السند والصدور ؛ لأنّ الأوثقية ونحوهما معناها أنّ السند فيها ظني إذ لو كان السند قطعيّا لما كان هناك أثر وفائدة من الأوثقية ونحوها في الترجيح بل كان اللازم الترجيح بالصفات التي ترجع إلى المضمون لا السند كما هو واضح.

فالاستدلال بهذه الأخبار تام فيما إذا كانت هذه الصفات راجعة إلى الراويين ، وأمّا إذا كانت راجعة للحاكمين كما هو موردها فلا يمكن الاستدلال بها على المطلوب ، لأنّها تكون مختصّة في مقام رفع المخاصمة والقضاء بين الناس كما هو الظاهر.

الطائفة العاشرة : ما دلّ بشكل وآخر على الإرجاع إلى كلّي الثقة ، إما ابتداء وإما تعليلا للإرجاع إلى أشخاص معيّنين على نحو يفهم منه الضابط الكلّي. وهذه الطائفة هي أحسن ما في الباب.

الطائفة العاشرة من الأخبار : ما دلّ على إرجاع الناس إلى كلّي الثقة بهذا

ص: 240

العنوان ، بحيث كان لهذا الإرجاع ضابطة كلية عامّة وهي أنّ خبر الثقة حجّة أو الثقة يجوز التعويل والاعتماد على إخباره ، وهذا الإرجاع جاء في بعض الأخبار ابتداء من الإمام بأن كان ردّا وجوابا على سؤال من استعلم عمّن يرجع إليه ، أو كان تعليلا للأمر بالرجوع إلى بعض الأشخاص والأخذ عنهم بحيث يفهم من ذلك أنّ الإرجاع لم يكن له عنوان خاص وإنّما كان لأجل كونهم ثقات.

وهذه الطائفة أحسن ما يمكن أن يستدلّ به على حجيّة خبر الواحد مطلقا ، لأنّ لسانها ومنطوقها يدلّ على ذلك صريحا.

ثمّ إنّ أخبار هذه الطائفة تقسم إلى قسمين : فبعضها يمكن المناقشة فيها دلالة ، وبعضها الآخر تام الدلالة ، يبقى إثبات صدورها فقط ، ولذلك قال :

وفي روايات هذه الطائفة ما لا يخلو من مناقشة أيضا ، من قبيل قوله : « فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا بأننا نفاوضهم بسرّنا ونحمله إياهم إليهم ».

فإنّ عنوان ( ثقاتنا ) أخصّ من عنوان ( الثقات ) ، ولعلّه يتناول خصوص الأشخاص المعتمدين شخصيا للإمام والمؤتمنين من قبله ، فلا يدلّ على الحجيّة في نطاق أوسع من ذلك.

القسم الأوّل من أخبار الطائفة العاشرة ، ما ورد منهم بلسان الإرجاع إلى بعض الأشخاص تحت عنوان ( ثقاتنا ) ، فإنّ هذا اللسان يمكن المناقشة فيه ، بمنع دلالته على حجيّة مطلق خبر الثقة بالنحو المبحوث عنه أصوليّا ؛ وذلك لأنّ عنوان الثقات المضاف إليهم أخصّ من عنوان الثقات مطلقا. وعليه ، فربما يكون الإرجاع إلى هؤلاء الثقات من باب إحراز الإمام لوثاقته ويقينه بأنّه لا يقول إلا الصدق فقط ، وإنّ قوله يوجب العلم لدى السامع ، ولذلك لا ينبغي التشكيك فيما يرويه هذا الثقة والمعتمد.

فغاية ما تدلّ هذه الأخبار على أنّ هؤلاء الثقات الذين وثّقهم الإمام والذين يفاوضهم الإمام بسرّه يجب قبول ما يحدّثون به حتّى وإن لم يفد العلم للسامع ، لأنّ أمثالهم لا يحدّثون إلا بما هو صادر عن الأئمّة وبما هو ثابت واقعا ، ولا دلالة لها على أنّ مطلق الثقة يجب قبول خبره.

مضافا إلى أنّ الرواية تضمّنت ما يحتمل معه كون هؤلاء الثقات يحدّثون بأخبار

ص: 241

عن أحوال الأئمّة الخاصّة التي لا يطّلع عليها إلا الخواص من الأصحاب ولذلك لا ينبغي رفضها لمجرّد غرابتها أو عدم العلم بها.

وفي روايات هذه الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد بن عيسى ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا علیه السلام : جعلت فداك إني لا أكاد أصل إليك لأسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : « نعم ».

ولمّا كان المرتكز في ذهن الراوي أنّ مناط التحويل هو الوثاقة وأقرّه الإمام على ذلك دلّ الحديث على حجيّة خبر الثقة.

القسم الثاني من أخبار الطائفة العاشرة : ما ورد بلسان الإرجاع إلى الثقات بعنوان عام وكلّي بحيث يفهم منها أنّ مناط الإرجاع إليهم كان لمجرّد وثاقتهم التي يشخصها ويحرزها الراوي لا الإمام ، بحيث يفهم من الرواية المذكورة أنّ الراوي قد ارتكز في ذهنه أنّ كل ثقة يجب العمل بخبره ، ولذلك سأله عن تشخيص الصغرى فقط وهي : أنّ يونس هل هو ثقة لكي آخذ عنه معالم الدين أو ليس كذلك؟ فأجابه الإمام أنّه ثقة وسكت عن الكبرى ، فسكوته عن هذه الكبرى إقرار وإمضاء بأنّ كل ثقة يجوز بل يجب التعويل على إخباره وقوله ، وهذه الكبرى معناها حجيّة خبر الثقة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ، لترك الإمام والسائل الاستفصال عن ذلك.

فدلالة هذه الأخبار تامّة ، يبقى إثبات صدورها وسندها ، فنقول :

غير أنّ عدد الروايات التامّة دلالة على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر لأنّه عدد محدود. نعم ، قد تبذل عنايات في تجميع ملاحظات توجب الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سندها ونحو ذلك.

وأمّا سند هذه الروايات فهو ليس قطعيّا لأنّها أخبار آحاد فهي ظنيّة السند ولذلك لا يمكن الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لأنّها هي نفسها أخبار آحاد فيكون الاستدلال بها مصادرة على المطلوب ، حيث ان الاستدلال عين المدعى ، فيلزم منه الدور الباطل ، وليست هذه الأخبار بالغة مستوى التواتر ليقال بصحّة سند بعضها على أساس التواتر لأنّها من حيث العدد والكم لا يمكن أن يحصل منها على أساس

ص: 242

المضعّف الكمّي المتقدّم في حساب الاحتمالات اليقين لأنّ مجموع هذه الروايات لا يتجاوز الخمسة عشر رواية فقط.

نعم ، قد يقال بأنّه توجد بعض الخصوصيات والمزايا والملاحظات والقرائن توجب حصول الاطمئنان الشخصي بصدور بعض هذه الأخبار لوجود مزايا في رجال سندها ، كما هو الحال في رواية الحميري المروية في الكافي ج 1 ص 330 ، فإنّه بضمّ هذه الخصوصيات والمزايا والتي هي المضعّف الكيفي إلى المضعّف الكمّي المتقدّم يمكن أن يحصل الاطمئنان الشخصي بصدور هذه الرواية وأنّها قطعية فتتمّ بذلك الدلالة على حجيّة خبر الواحد دلالة وسندا (1).

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة ، وذلك بتقريبين :

الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة على العمل بأخبار الثقات ، وقد تقدّم كيفيّة استكشاف الدليل الشرعي عن طريق السيرة ، سواء كانت سيرة أولئك المتشرّعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعي أو بما هم عقلاء.

الطريق الثاني : أن يستدلّ على حجيّة خبر الواحد بالسيرة التي يستكشف بها السنّة ، وهذه السيرة يتمّ استكشاف السنّة بها على أحد أساسين لأنّها على قسمين ، سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء.

التقريب الأوّل : أن يستدلّ بسيرة المتشرّعة من أصحاب الأئمّة حيث إنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بأخبار الثقات الذين كانوا ينقلون الأخبار عن الأئمّة المتقدمين ، فعملهم هذا دليل على أنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة مطلقا ، سواء أفاد العلم أم لا ؛ لأنّ أصحاب الأئمّة ليس كلّهم على تلك الدرجة الرفيعة من الوثاقة والعدالة والورع ، بل كانوا يختلفون بذلك ، فليس كلّهم كان خبره يفيد العلم ليقال

ص: 243


1- ويمكن بيان هذه المزية بأن كتاب ( الكافي ) الذي وردت فيه رواية الحميري مقطوع كونه للكليني الذي هو ثقة الإسلام والراوي الجليل الذي لا يتعمد الكذب ، والراوي لهذه الرواية هو الحميري الذي اتفق الأصحاب على وثاقته ومكانته وأنّه شيخ الأصحاب في قم الذين يدققون جدا في سند الأخبار والضعفاء كما هو المعروف تاريخيا عنها. وبهذا يثبت أنّ هذه الرواية صادرة عن المعصومين : ودلالتها واضحة كما تقدّم فيثبت ويتمّ الاستدلال بها على المطلوب.

باختصاص العمل وقبول أخبارهم فيما إذا أفاد العلم فقط ، بل كان فيهم الثقة الجليل وكان فيهم دون ذلك بدرجات.

يبقى إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة بالفعل على العمل بأخبار الثقات ، وهذا يمكن إثباته بإحدى الطرق التي تقدمت في إثبات السيرة في الحلقة الثانية ، والتي أهمّها أنّه لو لم يكن العمل بخبر الثقة ثابتا بين المتشرّعة مع احتياجهم لطريق معرفة أحكامهم لكان المفروض وجود طريق آخر هو المعتمد في ذلك ، وحيث إنّ المسألة محل ابتلاء فلا بدّ أن يستعلم عنها وبالتالي يكثر السؤال والجواب ، وكما هو المعتاد لا بدّ أن يصلنا شيء عن هذا الطريق الآخر البديل مع توفر الدواعي لنقله حيث إنّ الرواة رووا ما لا حاجة للناس به وما ليس موردا للابتلاء نوعا ، وحيث إنّه لا وجود لهذا الطريق الآخر البديل لزم كون العمل بخبر الثقات كان هو المتبع والمعتمد عند الأئمّة خصوصا مع وجود الروايات المتقدّمة التي بعضها يدلّ على العمل به صريحا أو التزاما ، وهذا المقدار يكفي للقول بأنّ عمل أصحاب الأئمّة بخبر الواحد كان مستفادا من المعصومين أنفسهم علیهم السلام ، وهذا بدوره يكشف عن طريق الإن على وجود السنّة الشريفة ؛ لأنّ عمل الأصحاب معلول دائما للدليل الشرعي ، وذلك بوصفهم متدينين ومتشرعين لا يعملون إلا وفق الموازين الشرعيّة ، فيكون عملهم هذا بنفسه كاشفا عن السنّة كشف المعلول عن علته ، ولا يحتاج إلى إثبات رضا الإمام بذلك عن طريق السكوت وعدم الردع.

نعم ، يحتاج إلى ذلك فيما إذا كان المتشرّعة يعملون بخبر الثقة على أساس طبيعتهم وسليقتهم العرفية العقلائيّة لا بوصفهم متشرّعة ، فهنا نحتاج إلى ضمّ سكوت الإمام وعدم ردعه عن عملهم وبنائهم ليكون كاشفا عن الإمضاء والقبول ، وهذا الأمر يمكن إثباته أيضا بأحد الطرق المتقدّمة ؛ لأنّ عملهم هذا إذا لم يكن مورد القبول من الأئمّة لكان من اللازم الردع عنهم ونهيهم عن ذلك ، لأنّ بناءهم هذا يؤثّر على الأحكام الشرعيّة ، إما بنحو مباشر أو غير مباشر ، وبالتالي لا بدّ من وجود ما يدلّ على هذا النهي ، كما هو الحال بالنسبة للقياس وغيره ، وحيث إنّه لم يصلنا شيء يدلّ على النهي عن العمل بخبر الواحد بل الواصل عكس ذلك ثبت أنّ خبر الواحد والعمل به صحيح وجائز شرعا ، وهو المطلوب.

ص: 244

الثاني : الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على أخبار الثقات ، وذلك أنّ شأن العقلاء - سواء في مجال أغراضهم الشخصيّة التكوينيّة أم في مجال الأغراض التشريعيّة وعلاقات الآمرين بالمأمورين - العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه ، وهذا الشأن العام للعقلاء يوجب قريحة وعادة لو ترك العقلاء على سجيتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع ولعوّلوا على أخبار الثقات في تعيين أحكامه ، وفي حالة من هذا القبيل لو أنّ الشارع كان لا يقرّ حجيّة خبر الثقة لتعيّن عليه الردع عنها حفاظا على غرضه ، فعدم الردع حينئذ معناه التقرير ومؤداه الإمضاء.

التقريب الثاني : أن يستدلّ على استكشاف السنّة من خلال السيرة العقلائيّة ، وهذه السنّة مؤداها العمل بخبر الواحد وحجيّته.

وتقريب الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أن يقال : إنّ العقلاء يعملون بخبر الواحد في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة بحيث إنّ كل عاقل يعتمد على خبر الواحد الثقة في تحصيل غرضه الشخصي التكويني كالرجوع إلى اللغوي مثلا لتحصيل الغرض الشخصي والاطلاع على معنى الكلمة ، أو الرجوع إلى الأطباء وغيرهم من ذوي الخبرات في الأمور التي يختصون بها وقبول إخباراتهم فيها لمجرّد الوثوق بهم ، هذا في الأغراض التكوينيّة.

ويمكن أيضا أن تكون السيرة العقلائيّة قائمة أيضا على الاعتماد على العمل بخبر الثقة في مجال أغراضهم التشريعيّة وذلك نظرا إلى علاقة الآمرين بالمأمورين ، والرؤساء بالمرءوسين ، حيث إنّهم يحتجّون بخبر الثقة إذا أخبر بأحكام المولى والرئيس ، فيما لو ادّعى المأمور بأنّ خبر الثقة ليس حجّة فلا يكون منجزا أو معذّرا ، فيرون أنّه يستحق المؤاخذة والعقوبة لتركه العمل بخبر الثقة لمجرّد ادعاء عدم الحجيّة له ، وهكذا أيضا يكون معذّرا للعبد فيما لو أمره بعدم التكليف فلم يمتثل فإنّه يصحّ أن يحتج به على مولاه.

وعلى كل حال سواء كانت السيرة العقلائيّة وبناء العقلاء قائمة على العمل بخبر الثقة في أغراضهم التشريعيّة أم على الأقلّ كانت قائمة على العمل به في الأغراض التكوينة ، فهي في كلا الحالين تشكّل إيحاء لدى العقلاء - ولو كان هذا الإيحاء خاطئا - بأنّ الشارع يرضى بالعمل بخبر الواحد الثقة بلحاظ أغراضه التشريعيّة بينه

ص: 245

وبين عبيده ومواليه أيضا ، وأنّ العمل بخبر الثقة جائز شرعا وحجّة كذلك ، على أساس تأثرهم بالعمل به في أغراضهم والتعويل عليه في تحصيل وتنظيم العلاقات التشريعيّة عندهم ، فإنّ هذا الإيحاء بحكم كونه سيرة عامّة فإنّه يكون مستحكما ، وحينئذ يكون الشارع أمام أحد أمرين ، فإنّه إذا كان راضيا بذلك وأنّ العمل بخبر الواحد حجّة أيضا في تحصيل أغراضه التشريعيّة فيكفيه السكوت ، لأنّ بناء العقلاء وعادتهم وسجيتهم هذه كافية لتحقيق ذلك.

وأمّا إن لم يكن راضيا بالعمل به ولم يكن يعتبره حجّة لكان من اللازم عليه أن ينهاهم عن العمل به ، وأن يرشدهم إلى الطريق الصحيح لتحصيل أغراضه التشريعيّة ، وبالتالي لا بدّ أن تتوفر دواعي الردع والنهي عن العمل بخبر الواحد ، وسوف تكون هناك نواه عديدة وكثيرة جدا بحكم استحكام العمل بخبر الواحد عند العقلاء ، ولا بدّ في هذه الحالة من أن تكثر الأسئلة والأجوبة أيضا ، وحيث إنّه لا يوجد شيء يدلّ على الردع عن العمل بخبر الواحد ولا يوجد هكذا استفسارات دل ذلك على أن العمل بخبر الواحد حجّة شرعا ومقبول عند الشارع ، وأنّ السيرة العقلائيّة موافقة لرأي الشارع فيكون السكوت وعدم الردع عنها إمضاء لها ، وأنّها شرعية ، وبالتالي تكون هذه السيرة كاشفة عن وجود السنّة على حجيّة خبر الواحد.

والفارق بين التقريبين :

أنّ التقريب الأوّل يتكفل مئونة إثبات جري أصحاب الأئمّة على العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثاني لا يدعي ذلك بل يكتفي بإثبات الميل العقلائي العام أي العمل بخبر الثقة ، الأمر الذي يفرض على الشارع الردع عنه - على فرض عدم الحجيّة - لئلا يتسرّب هذا الميل إلى مجال الشرعيات.

والفارق بين سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء هو أنّ سيرة المتشرّعة لا تحتاج إلى إثبات السكوت وعدم الردع الدال على الإمضاء والحجيّة ؛ وذلك لأنّ عمل الأصحاب والمتشرّعة بخبر الثقة بنفسه يدلّ على وجود دليل شرعي يجوّز العمل والتعويل على خبر الثقة ، لأنّ المتشرّعة بحكم كونهم متدينين لا يعملون إلا إذا كان هناك دليل شرعي لأنّ عملهم معلول للدليل الشرعي ، فيكون جريهم وعملهم بنفسه كاشفا عن

ص: 246

الدليل الشرعي ، ولا يحتاج إلى توسط عدم الردع ، ولذلك يكون عمل المتشرّعة متحدّدا بالمقدار الذي انعقد عليه عملهم ، لأنّ سيرتهم تعني انعقاد العمل فعلا في الخارج ، فالثابت بهذه السيرة هو الموضوع الجزئي فقط.

وأمّا سيرة العقلاء فتحتاج إلى إثبات عدم الردع والسكوت الكاشف عن الإمضاء وذلك لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة وتعويلهم عليه في مجال أغراضهم التكوينيّة أو حتّى التشريعيّة إنّما يكشف عن وجود إيحاء وميل وعادة لدى العقلاء على ذلك ، وأمّا أنّ هذه العادة والبناء حجّة شرعا أو ليس كذلك فهذا لا تثبته نفس السيرة ، بل نحتاج في إثباته إلى دليل آخر كما تقدّم في محلّه من كون الشارع هادفا أو كونه آمرا وناهيا أو كونه يريد تحقيق أهدافه وأغراضه أو ظهور حاله ، فإنّ ذلك كلّه يشكل دلالة على أنّه لو لم يكن خبر الثقة حجّة لدى الشارع لنهى عنه وردع عن العمل به في مجال أغراضه التشريعيّة ، وعدم ردعه وسكوته عن ذلك يكشف عن إمضائه وهو كاشف عن وجود الدليل الشرعي على حجيّته.

ولذلك فهذه السيرة تثبت مفهوما كليّا أي تلك القضيّة القائلة بأن خبر الواحد حجّة في الأحكام الشرعيّة ، فالممضى هو ذاك الأمر الكلّي سواء كان هناك عمل فعلي في الخارج أم لا. وعليه ، فيكون الإمضاء أوسع من الخارج لأنّه إمضاء لمفهوم وقضيّة كليّة لا جزئيّة.

وهناك اعتراض يواجه الاستدلال بالسيرة وهو أنّ السيرة مردوع عنها بالآيات الناهية عن العمل بالظن الشاملة بإطلاقها لخبر الواحد.

الاعتراض على السيرة :

ثمّ إنّه يعترض على الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة خبر الواحد بأنّ هذه السيرة كما تقدّم تحتاج إلى إثبات عدم الردع عنها لتكون كاشفة عن الإمضاء والحجيّة ، والحال أنّ الردع عنها ثابت وذلك بإطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظن من قبيل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، وغيرها من الآيات التي تنهى عن العمل بما ليس بعلم.

وحيث إنّ خبر الواحد المطلوب الاستدلال على حجيّته هو الخبر الذي لا يفيد العلم فيكون مشمولا لإطلاق النهي وداخلا في موضوعها لأنّه ليس علما ، فيكون

ص: 247

العمل به منهيا عنه ومردوعا وبالتالي لا تكون هذه السيرة ممضاة من الشارع لأنّه قد ثبت الردع عنها.

والحاصل : أنّ هذه السيرة قد ثبت الردع عن العمل بها ، لأنّ مطلقات النهي عن العمل بما ليس علما وبكل ما هو ظن تشمل خبر الواحد لأنّه ظني ولا يفيد العلم ، فكيف يستدلّ بها على الحجيّة مع وجود الردع عنها؟!

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض :

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه من أنّ السيرة حاكمة على تلك الآيات ، لأنّها تخرج خبر الثقة عن الظن وتجعله علما ، بناء على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجيّة.

الجواب الأوّل : ذكر المحقّق النائيني جوابا عن هذا الاعتراض مبنيا على ما اختاره في جعل الحجيّة من مسلك جعل الطريقية والعلمية في الحجج والإمارات ، فالسيرة العقلائيّة حيث إنّها تجعل الحجيّة لخبر الواحد والحجيّة معناها العلمية فيكون مفادها أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، وحينئذ تكون حاكمة على مطلقات النهي وعمومات الآيات التي تنهى عن العمل بالظن وكل ما ليس بعلم ؛ لأنّ هذه المطلقات والعمومات وإن كانت شاملة لخبر الواحد باعتباره ليس علما تكوينا إلا أنّها صارت محكومة للسيرة التي تدّعي أنّ خبر الواحد علم تعبدا ، حيث إنّ السيرة تخرج مصداقا حقيقيا عن دائرة المطلقات والعمومات بلسان تعبّدي ادعائي ومثل هذا اللسان يسمّى بالحكومة كما تقدّم وسيأتي مفصّلا في محلّه.

ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم مقدم على الدليل المحكوم بمقتضى قواعد الجمع العرفي التي سيأتي ذكرها في باب التعارض ؛ لأنّ الحكومة لسانها التوسعة أو التضييق ، وهنا السيرة توسّع من موضوع العلم ليشمل العلم الوجداني التكويني والعلم التعبّدي الادعائي ، فكما أنّ مطلقات النهي لا تشمل حقيقة العلم الوجداني لأنّه خارج من موضوعها تكوينا ، فكذلك لا تشمل العلم التعبّدي لأنّه خارج عن موضوعها ادّعاء ، فالحكومة هنا كالتخصيص أو التقييد يعتبر قرينة عرفيّة نوعيّة على الجمع العرفي بين الدليلين ، وبه يحلّ التعارض البدوي لأنّه تعارض غير مستقر.

ص: 248

والنتيجة هي : أنّ السيرة تقدّم على مطلقات النهي لحكومتها عليها ، والدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم عرفا ، لأنّه قرينة على تفسير المراد منه.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه إذا كان معنى الحجيّة جعل الأمارة علما كان مفاد الآيات النافية لحجيّة غير العلم نفي جعلها علما ، وهذا يعني أنّ مدلولها في عرض مدلول ما يدلّ على الحجيّة ، وكلا المدلولين موضوعهما ذات الظن فلا معنى لحكومته المذكورة.

ويرد على ما ذكره الميرزا :

أوّلا : أنّه لا معنى للحكومة المذكورة بين السيرة والآيات ، وذلك لأنّ جعل الحجيّة على المبنى المذكور وإن كان معناه جعل الأمارة علما فتكون السيرة مفادها جعل العلمية لخبر الواحد ، إلا أنّه في مقابل ذلك تكون مطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم مفادها أيضا نفي جعل الحجيّة لكل ظن ، وبالتالي تنفي العلمية عن الظن وعن غير العلم.

وحينئذ يكون هناك دليلان أحدهما السيرة التي تثبت الحجيّة والعلمية لخبر الواحد الظني ، والآخر مطلقات النهي التي تنفي الحجيّة والعلمية عن كل ظن ، وحيث إنّ موضوعهما واحد ، وهو الظن وكل ما ليس بعلم تكوينا فيكونان في مرتبة واحدة ، أي أنّ مدلولهما ومفادهما في عرض واحد ، أحدهما يثبت والآخر ينفي ، ومثل هذا المدلول لا يمكن أن يصار إلى الجمع العرفي فيه ، لأنّه تعارض مستقر ، وبالتالي لا معنى لحكومة أحدهما على الآخر ؛ لأنّ الحكومة تتصور بين المدلولين الطوليين حيث يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر لسان توسعة أو تضييق ، وهنا لسان السيرة لا يمكن أن يكون ناظرا إلى مفاد مطلقات النهي لأنّه بصدد إثبات أصل الحجيّة والعلمية لخبر الواحد ، ولا يعقل أن يكون ناظرا إلى هذا الأمر وإلى حكومة مفادها على مفاد الآيات والمطلقات ، لأنّهما شيئان مترتبان في التعقّل والتصور ، لأنّ الشيء يثبت أوّلا ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين غيره ثانيا ، فالدليل الذي يثبت أصل جعل الحجيّة والعلمية لا يمكنه أن يتعرض إلى النسبة بينه وبين غيره ؛ لأنّ هذا في طول ذاك وبعد الفراغ عنه.

والحاصل : أنّ التعارض بين مفاد السيرة والمطلقات تعارض مستقر ، لأنّ

ص: 249

موضوعهما واحد ومحمولهما متناف فيكون التعارض مستحكما ، وحينئذ يحكم بالتساقط ولا يصار إلى أحدهما ، إلا أنّ النتيجة العمليّة تكون إلى صالح المطلقات حيث إنّه يرجع إلى الأصول العمليّة عند الشك في الحجيّة لخبر الواحد ، والأصل عند الشك في الحجيّة عدمها ، كما تقدّم سابقا (1).

وثانيا : أنّ الحاكم إن كان هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول ؛ لأنّ الحاكم يوسّع موضوع الحكم أو يضيّقه في الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه أو تضييقه ، ولا معنى لأنّ يوسع العقلاء أو يضيقوا حكما مجعولا من قبل غيرهم.

وإن كان الحاكم الموسّع أو المضيّق هو الشارع بإمضائه للسيرة فهذا يعني أنّه لا بدّ لنا من العلم بالإمضاء لكي نحرز الحاكم ، والكلام في أنّه كيف يمكن إحراز الإمضاء مع وجود النواهي المذكورة الدالة على عدم الحجيّة؟!

ويرد عليه ثانيا : أنّ الدليل الحاكم كما تقدّم يوسع أو يضيق الدليل المحكوم وهذا يستلزم أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، وإحراز النظر إنّما يكون ثابتا فيما إذا كانت التوسعة والتضييق في الدليل المحكوم من شئون جاعل الدليل الحاكم.

وعلى هذا نقول : إنّ الدليل الحاكم الذي هو السيرة العقلائيّة ، إن كان المقصود به نفس البناء العقلائي القائم على العمل بخبر الواحد فهذا البناء لا يعقل أن يكون حاكما على مطلقات النهي وموسعا أو مضيقا لمفادها ؛ وذلك لأنّ مطلقات النهي مجعولة من الشارع حيث إنّها من الأحكام الشرعيّة التي بيد الشارع جعلها ورفعها ، بينما السيرة العقلائيّة بناء للعقلاء ، ولا يحق للعقلاء التدخل في أحكام غيرهم ؛ لأنّها ليست من شئونهم ، وجعلها ورفعها ليس بيدهم ، بل يحرم عليهم التدخل في أحكام الشارع لأنّهم مكلفون بالإطاعة والامتثال لها.

وهذا معناه أنّ سيرة العقلاء المذكورة لا يمكن أن تكون حاكمة على مطلقات النهي لأنّ الجاعل في الدليل الحاكم هو العقلاء ، بينما الجاعل في الدليل المحكوم هو الشارع ، فمع اختلاف الجاعل لا تكون هناك حكومة ، لأنّه لا يحرز النظر الذي هو

ص: 250


1- مضافا إلى أنّ الحكومة إنّما تتصور بين الأدلّة اللفظيّة ، والسيرة هنا ليست دليلا لفظيّا وإنّما هي دليل لبّي فلا مورد للحكومة أصلا.

شرط الحكومة ، إذ من الواضح حينئذ أنّ مطلقات النهي لا يمكن للعقلاء أن يوسعوها أو يضيقوها لأنّ ذلك يعدّ تصرفا منهم في أحكام غيرهم من دون أن يكون لهم الحق في ذلك.

وأمّا إن كان المقصود من السيرة العقلائيّة الموسّعة أو المضيّقة هو الشارع حيث إنّ السيرة العقلائيّة بنفسها لا اعتبار لها شرعا ، وإنّما تكون معتبرة وحجّة فيما إذا سكت الشارع عنها ، فيكون سكوته وعدم ردعه إمضاء لها ، فيكون الحاكم في الحقيقة هو إمضاء الشارع للسيرة الكاشف عن قبوله وحجيّتها شرعا ، فهذا ممكن لأنّ الجاعل في الدليلين الحاكم والمحكوم صار واحدا وهو الشارع ، إلا أنّنا لا بدّ أن نحرز أنّ الشارع قد أمضى ولم يردع عن السيرة لتكون حجّة وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات النهي.

وهذا الأمر كيف يمكن إحرازه في الفرض المذكور ، حيث إنّ مطلقات النهي تصلح أن تكون رادعة عن السيرة وبالتالي لا تكون حاكمة ؛ إذ مع الردع عنها لا تكون حجّة أصلا ، فكيف يمكننا إحراز إمضاء الشارع والحال هذه؟!

نعم ، لو فرض ثبوت الإمضاء في مرحلة سابقة لكانت السيرة حجّة شرعا ، وبالتالي تكون حاكمة على مطلقات ومخرجة منها أحد أفرادها ، وهو خبر الواحد إخراجا ادعائيا تعبديّا.

وأمّا قبل إحراز الإمضاء المذكور تبقى السيرة العقلائيّة مشكوكة من حيث جعل الحجيّة لها وعدم ذلك خصوصا مع وجود النواهي عن العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، ومع الشك في الحجيّة يحكم بعدمها كما تقدّم مرارا ، وبالتالي لا تصلح لأنّ تكون دليلا على الحجيّة فضلا عن كونها حاكمة على غيرها.

والحاصل : أنّ النظر غير محرز على كلا الاحتمالين ، إما لاختلاف الجاعل بين الدليلين ، وإما لعدم الإمضاء الدال على الحجيّة.

الجواب الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه من أنّ الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول ، لأنّه دور.

وبيانه : أنّ الردع بالعمومات عنها يتوقّف على حجيّة تلك العمومات في العموم ، وهذه الحجيّة تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، وعدم وجود

ص: 251

مخصّص يتوقّف على كونها رادعة عن السيرة ، وإلا لكانت مخصّصة بالسيرة ولسقطت حجيّتها في العموم.

الجواب الثاني على الاعتراض المذكور ، ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الردع عن السيرة بمطلقات وعمومات النهي غير معقول في نفسه ، لاستلزامه الدور المحال ، وكل ما يلزم منه الدور فهو غير معقول.

وبيان الدور أن يقال : إنّ مطلقات النهي إنّما تكون رادعة عن السيرة فيما إذا كانت هذه المطلقات والعمومات حجّة في إطلاقها وعمومها ، إلا أنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص أو المقيّد لها ؛ إذ لو كان هناك مخصّص أو مقيّد لها لم تكن حجّة في العموم وبالتالي لا تكون رادعة عن السيرة ، فلا بد من إثبات عدم وجود مثل هذا المخصّص أو المقيّد.

غير أنّ عدم وجود هذا المخصّص أو المقيّد فرع أن تكون هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة بحيث تكون السيرة مشمولة لعموم النهي ، لأنّه إذا لم تكن رادعة عنها وانعقدت السيرة على حجيّة خبر الواحد كانت مخصصة أو مقيّدة لهذه العمومات والمطلقات ، وبالتالي تسقط العمومات عن الحجيّة في العموم.

فتحصّل أنّ رادعية العمومات والمطلقات عن السيرة متوقفة على شمولها للسيرة ورادعيّتها عنها ، وهو توقف الشيء على نفسه الذي هو دور صريح ، لأنّها إذا لم تكن شاملة للسيرة ورادعة عنها لم تكن حجّة في العموم ، وبالتالي تكون مخصّصة بالسيرة فلا تصلح للرادعية.

والجواب على ذلك :

إنّ توقف الردع بالعمومات على حجيّتها في العموم صحيح ، غير أنّ حجيّتها كذلك لا تتوقّف على عدم وجود مخصّص لها ، بل على عدم إحراز المخصّص ، وعدم إحراز المخصّص حاصل فعلا ما دامت السيرة لم يعلم بإمضائها ، فلا دور.

ويرد على هذا الجواب :

إنّ الدور المذكور متوقف على مقدمة غير تامّة ، حيث إنّه ذكر أنّ رادعيّة العمومات والمطلقات متوقفة على أن تكون هذه العمومات والمطلقات حجّة في العموم ، وأنّ حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص ، فإنّنا وإن كنّا نسلّم

ص: 252

بما ذكره أوّلا من توقف الرادعيّة بالعمومات والمطلقات على كونها حجّة في العموم ؛ إذ مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا يتمّ الردع ، إلا أن ما ذكره من كون حجيّتها في العموم متوقفة على عدم وجود المخصّص غير صحيح ، لما تقدّم في مبحث العموم من أنّ العموم حجّة ما لم يعلم بوجود المخصّص ، سواء كان هناك مخصّص واقعا أم لا ، فما دام المخصّص غير محرز كان العموم حجّة في نفسه ، وينعقد للكلام ظهور في العموم ، ولذلك إذا جاء المخصّص فيما بعد لم يكن رافعا لأصل ظهور الكلام في العموم ، وإنّما يكون معارضا له ويقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ؛ لأنّ المخصّص يكون نصا عادة والنص مقدم على الظاهر.

فالحاصل : أنّ حجيّة العمومات والمطلقات في العموم والشمول فرع عدم إحراز المخصّص لا فرع عدم وجوده واقعا.

وعليه ، فالآيات الناهية عن العمل بالظن ظاهرة في العموم والشمول لكل ظن وما ليس بعلم ، ومفادها نفي الحجيّة عنه.

يبقى أنّ السيرة المنعقدة على العمل بخبر الواحد هل هي حجّة شرعا لتكون مخصّصة لهذا العموم أو ليست حجّة ، فيكون العموم شاملا لها ورادعا عن العمل بها؟

وهذا المطلب يتوقّف على أنّ هذه السيرة هل هي ممضاة من الشارع أو أنّها مردوع عنها فإذا كانت ممضاة فهي حجّة فتكون مخصصة ، وإن لم تكن ممضاة فهي ليست حجّة ، وبالتالي يتمّ الردع عنها ، وحيث انّ مطلقات النهي تصلح لأنّ تكون رادعة وشاملة لها ، وحيث إنّ الإمضاء للسيرة غير محرز يقينا صحّ القول بأنّ المخصّص لعموم الآيات غير محرز ظاهرا ، وبالتالي تتم حجيّة العموم ؛ لأنّها فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا متحقّق فعلا ، فيتم العموم وتصبح الآيات رادعة عن السيرة ، ولا يلزم عن ذلك محذور الدور المتقدّم.

وبتعبير آخر : أنّ محذور الدور إنّما يتمّ لو كانت حجيّة الآيات في العموم فرع ألا يكون هناك مخصّص واقعا ، بينما الصحيح أنّ الحجيّة المذكورة فرع عدم إحراز المخصّص ، وهذا ثابت وجدانا ، لأنّنا نشك في حجيّة السيرة للشك في أنّها ممضاة أم لا ، ومع الشك يصدق أنّنا لا نعلم ولا نحرز وجود المخصّص فينعقد العموم ويشمل السيرة فيتم الردع عنها.

ص: 253

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه من أنّ ظهور العمومات المدعى ردعها لا دليل على حجيّته ، لأنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة ، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ، لأنّ العمل بالمتناقضين غير معقول.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ رادعية مطلقات النّهي عن السيرة يلزم منه محذور اجتماع النقيضين.

وبيانه : أنّ مطلقات وعمومات النهي ظاهرة في العموم والشمول للسيرة ، فلكي تكون رادعة عنها يلزم أن يكون ظهورها في العموم حجّة لأنّه مع عدم حجيّتها في العموم لا تكون شاملة للسيرة ، فلا تكون رادعة عنها ، إذن نحتاج إلى إثبات أنّها ظاهرة في العموم وأنّ هذا الظهور حجّة.

أمّا أنّها ظاهرة في العموم فهذا مسلّم ، لأنّه وجداني ، وأمّا أنّ هذا الظهور حجّة فيحتاج إلى دليل ، وحيث إنّ الدليل على حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة كان لا بدّ أن تكون السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بظهور مطلقات وعمومات النهي ، ولكن بما أنّ سيرة العقلاء قد انعقدت على العمل بخبر الثقة استحال انعقادها على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم ؛ وذلك لأنّ انعقادها على العمل بخبر الثقة معناه أنّهم يبنون على العمل بما يفيد الظن لأنّ خبر الثقة غاية ما يفيد الظن فقط ، بينما انعقاد سيرتهم على العمل بظهور عمومات النهي في العموم معناه أنّهم لا يبنون على العمل بكل ظن وما ليس بعلم ، وانعقاد مثل هاتين السيرتين محال ، لأنّه يعني انعقاد سيرتين متناقضتين ، إحداهما تجوّز العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى تمنع من العمل بكل ظن ، وهذا معناه انعقاد سيرتين على موضوع واحد بينما محمولهما متناف ومتغاير ، إذا إحدى القضيتين موجبة جزئيّة ، وهي البناء على العمل بخبر الثقة الظني ، والأخرى سالبة كلية وهي حجيّة العموم الظاهر في النهي عن العمل بكل ما يفيد الظن.

والنتيجة هي أنّه ما دامت سيرتهم قد انعقدت فعلا على العمل بخبر الثقة الظني ؛ لأنّ ذلك ثابت وجدانا فمن المحال أن تنعقد على العمل بظهور مطلقات النهي في العموم والشمول لأنّه إذا ثبت أحد النقيضين امتنع الآخر. وعليه ، فلا ظهور لمطلقات النهي في العموم ، وبالتالي لا تكون رادعة من العمل بخبر الثقة.

ص: 254

وهذا الجواب غريب ؛ لأن انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور وتنجّزه بذلك ، وهذا لا ينافي استقرار عمل آخر لهم على خلاف ما تنجّز بالظهور ، فالعمل العقلائي بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ولا ينافي نفس

بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفا وحجة.

ويرد عليه : أنّه وقع خلط بين مطلبين ، هما : بناء العقلاء على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن مراد المتكلّم ، والآخر العمل بمدلول الظهور أو المنكشف به.

وتوضيح ذلك : أنّ انعقاد السيرة العقلائيّة على الأخذ بالظهور واعتباره حجّة معناه أنّ مراد المتكلّم يكتشف من خلال ما ظهر من كلامه سواء كان منجزا أم معذرا ، فإذا قال : ( أكرم العالم ) انعقد لكلامه ظهور في الإطلاق فيعلم بذلك أنّ مراده الجدّي هو الإطلاق ، وأنّه يجب إكرام كل عالم من العلماء سواء كان عادلا أم فاسقا ، ولا يختص كلامه بالعادل فقط ، لأنّه على خلاف ظهور كلامه ، فيتمسك بهذا الظهور ويعتبر حجّة لتفسير كلام المتكلّم ومراده الجدّي.

والأمر الآخر هو أنّ المنكشف بهذا الظهور والمدلول الظاهر للكلام هو الشمول والعموم والإطلاق لكل أفراد العالم ، وأنّه في مقام العمل والامتثال يجب إكرام الجميع من دون فرق بين العادل والفاسق.

وهذان المطلبان وقع الخلط بينهما في كلام المحقّق الأصفهاني ، حيث اعتبر أنّه يوجد تناقض وتناف بين القول بحجيّة الظهور والأخذ بالظهور في مقام اكتشاف مراد المتكلّم الجدّي ، وبين العمل بمدلول ومفاد المنكشف بهذا الظهور ، مع أنّه لا تنافي بينهما لأنّ أحدهما في طول الآخر ، والتعارض والتنافي إنّما يكون بين شيئين في رتبة واحدة وفي عرض واحد.

وحينئذ لا تعارض بين انعقاد سيرة العقلاء على حجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلاله ، وبين انعقاد سيرتهم على العمل بخبر الثقة ؛ لأنّ العمل بخبر الثقة لا ينافي ظهور عمومات ومطلقات النهي في العموم لأنّها أسبق رتبة منه ، وإنّما ينافي مدلول هذا العموم ، وهو أنّ كل ظن لا يجوز العمل به ، فإنّ هذا المفاد في

ص: 255

رتبة العمل بخبر الثقة ، إلا أنّ هذا التنافي والتعارض ينحلّ بتقديم أحد العملين والمفادين على الآخر أو بتساقطهما معا إن لم يكن هناك مرجّح لأحدهما على الآخر ولم يمكن الجمع العرفي بينهما ، لا أنّه ينحلّ برفع اليد عن أصل انعقاد سيرة العقلاء بالأخذ بحجيّة الظهور واكتشاف مراد المتكلّم الجدّي من خلال ظاهر كلامه ، لأنّه لا معارضة بين هذه السيرة وبين العمل بخبر الثقة لاختلاف الرتبة بينهما كما ذكرنا.

ولأجل ذلك كان الجواب المذكور غريبا لأنّه صوّر التعارض بين شيئين لا اتحاد بينهما في الرتبة ، ولأنّه حلّ التعارض برفع اليد عن أصل الظهور وحجيّته.

وبتعبير آخر : أنّ القول بحجيّة الظهور واعتباره حجّة وكاشفا عن المراد يختلف عن العمل بمدلول ومفاد هذا الظهور ، ولذلك لا يقع التنافي بينهما ، لأنّ كل واحد منهما ينظر إلى مطلب غير ما ينظر إليه الآخر ، فالأوّل يراد به اكتشاف المراد بينما الثاني يراد به العمل بالمدلول والمفاد ، فلا يتصور التعارض بينهما لاختلاف الرتبة ، فإنّ الأوّل مدلول تصوّري بينما الثاني مدلول تصديقي من أجل الامتثال والعمل (1).

فالصحيح في الجواب أن يقال :

إنّه إن ادّعي كون العمومات رادعة عن سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين من صحابة ومحدّثين فهذا خلاف الواقع لأنّنا أثبتنا في التقريب الأوّل أنّ هذه السيرة كانت قائمة بالفعل على الرغم من تلك العمومات ، وهذا يعني أنّها لم تكن كافية للردع وإقامة الحجّة ، وإن ادّعي كونها رادعة عن السيرة العقلائيّة بالتقريب الثاني فقد يكون له وجه ، ولكن الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضا ؛ لأنّ مثل هذا الأمر المهم لا يكتفى في الردع عنه عادة بإطلاق دليل من هذا القبيل.

والصحيح في الجواب عن الاعتراض المذكور أن يقال : إنّه إن أريد أنّ عمومات

ص: 256


1- وهذا نظير ظهور عمومات الآيات الآمرة بالصلاة أو الصوم ونحوهما فإنّ ظهورها حجّة والعقلاء يبنون على حجيّة هذا الظهور من أجل اكتشاف مراد المتكلّم وأنّه عام وشامل لكل الناس ، وهذا لا يتنافي ولا يتعارض مع عدم امتثال كثير من الناس لهذا الظهور بل ومخالفته صريحا ، فإنّ عدم قيامهم بالصلاة والصيام لا يعني أنّ العمومات المذكورة لا ظهور لها في العموم أو أنّ ظهورها فيه ليس حجّة ، كما هو واضح.

ومطلقات النهي عن العمل بالظن وما ليس بعلم رادعة عن سيرة المتشرّعة الذين كانوا معاصرين للنبي صلی اللّه علیه و آله وللأئمّة علیهم السلام ، فهذا غير معقول ، لأنّ الوجدان والواقع على خلاف ذلك ؛ إذ من الواضح أنّ سيرة المتشرّعة من صحابة ومحدّثين ورواة ومتدينين كانت منعقدة بالفعل على العمل بخبر الثقة كما تقدّم بيانه على أساس الطريق الثالث ، على الرغم من وجود هذه العمومات والمطلقات ، وهذا يدلّ التزاما على أنّ هذه المطلقات ليست شاملة لخبر الثقة وإلا لم يكن هناك ما يبرّر التزامهم وبناءهم على العمل والأخذ بخبر الثقة رغم تديّنهم المانع من كونهم يتصرّفون على أساس الآراء والأهواء ، فمثل هذه السيرة تدلّ على أنّ مطلقات النهي ليست صالحة للردع عن العمل بخبر الثقة ، وإلا لكانوا ارتدعوا عن ذلك مع توفّر المبرّرات الكافية لردعهم لأنّهم متشرعة ومتدينون لا يتصرّفون إلا وفق الموازين الشرعيّة.

وإن أريد أنّ هذه العمومات والمطلقات رادعة عن السيرة العقلائيّة فهذا ، وإن كان ممكنا ثبوتا ومعقولا في نفسه إلا أنّه لا يمكن القول به ؛ وذلك لأنّ الإيحاء والعادة التي توحيها سيرتهم وبناءهم على العمل بخبر الثقة كانت بدرجة من الاستحكام والقوة بحيث لا يكفي معها عادة الردع بظهور إطلاق أو عموم رغم الخطر الكبير الذي سوف يقع لو كان الشارع لا يرى حجيّة هذه السيرة العقلائيّة ، لأنّ المفروض في ظروف كهذه أن يكون الردع والنهي بدرجة قويّة جدّا ، ولكان المفروض أيضا أن يكون لسان النهي والردع صريحا لا احتمال على خلافه ، وفي مثل هكذا حالة لكان لا بدّ من وصول شيء صريح يدلّ على النهي والردع عن العمل بخبر الثقة في مجال الأغراض الشرعيّة ، والحال إنّه لم يصلنا شيء من هذا القبيل رغم توفّر الدواعي للنقل لكثرة الابتلاء بهذا الأمر إذ العمل بخبر الثقة لا يقلّ شأنا وأهمية عن القياس ونحوه من الأدلّة الظنية التي نهى الشارع عنها نهيا صريحا وقويا.

والحاصل : أنّ هذه المطلقات لا تصلح للردع عن السيرة بكلا نحويها ، وبالتالي تكون السيرة على العمل بخبر الثقة حجّة وممضاة شرعا ، وبها تثبت الحجيّة للخبر بلا معارض.

* * *

ص: 257

ص: 258

دليل العقل
اشارة

ص: 259

ص: 260

[ 3 - دليل العقل ]

وأمّا دليل العقل فله شكلان

الشكل الأوّل : ويتلخّص في الاستدلال على حجيّة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الإجمالي.

وبيانه : أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير من هذه الروايات عن المعصومين علیهم السلام ، والعلم الإجمالي منجّز بحكم العقل كالعلم التفصيلي على ما تقدّم في حلقة سابقة ، فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالعمل بكل تلك الروايات التي يعلم إجمالا بصدور قسط وافر منها.

الدليل الثالث : على حجيّة خبر الثقة هو العقل ، وتقريب الاستدلال به بأحد وجهين :

الشكل الأوّل : أن يستدلّ بمنجزية العلم الإجمالي على لزوم العمل بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا ؛ وذلك لأنّنا إذا لاحظنا مجموع أخبار الثقات ضمن هذه الكتب تشكّل لدينا علم إجمالي بأنّ بعض هذه الأخبار صادرة عن المعصومين ، أو أنّ بعضها مطابق للواقع ؛ إذ من غير المعقول أن تكون هذه الأخبار بمجموعها كاذبة أو غير مطابقة للواقع.

وبهذا يحصل لنا علم إجمالي بصدق وبصدور بعضها ، ولمّا كان هذا البعض غير معلوم تفصيلا ، وكان يحتمل أن يكون كل خبر من أخبار الثقات داخلا في هذا المعلوم بالإجمال ، كان هذا العلم الإجمالي منجّزا لجميع أطرافه وهي دائرة أخبار الثقات ضمن هذه الأخبار الواصلة إلينا ، وحينئذ يجب العمل بهذه الأخبار كلّها لأنّ منجزية العلم الإجمالي تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة كالعلم التفصيلي تماما ، وهذا معناه لزوم الأخذ والعمل بأخبار الثقات لتنجّز العمل بها بالعلم

ص: 261

الإجمالي ، وهذا يعني أنّ أخبار الثقات حجّة يجب العمل بها ، فثبت المطلوب من حيث النتيجة العمليّة.

وهذا نظير العلم الإجمالي بنجاسة عدد من الإناءات ضمن مجموع مائة إناء موجودة عندنا ، فإنّه يحتمل أن يكون كل إناء بنفسه داخلا فيما علم إجمالا نجاسته ، فيكون طرفا للعلم الإجمالي ، وحيث إنّ هذا العلم الإجمالي منجّز ، ومنجزيته تقتضي لزوم الموافقة القطعيّة كان الاجتناب عن كل هذه الإناءات واجبا بحكم هذه المنجزية العقلية للعلم الإجمالي ، وبالتالي يجب ترك جميع هذه الإناءات ، وهذه النتيجة كالنتيجة في العلم التفصيلي بنجاسة المائة جميعا من جهة وجوب الاجتناب عن الجميع.

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين :

الأوّل : نقضي ، وحاصله :

أنّه لو تمّ هذا لأمكن بنفس الطريقة إثبات حجيّة كل خبر حتّى أخبار الضعاف لأنّنا إذا لاحظنا مجموع الأخبار بما فيها الأخبار الموثّقة وغيرها نجد أنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكل تلك الأخبار تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي؟!

اعترض الشيخ الأنصاري في رسائله على هذا الشكل من دليل العقل باعتراضين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

أمّا النقض : فحاصله أنّنا يمكننا أن نطبّق هذا العلم الإجمالي في كل الأخبار الواصلة إلينا ، سواء كانت أخبار الثقات أو غيرهم من الضعاف والمجهولين ، وذلك على أساس أنّنا إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار كلّها نجد أنّه من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة بل بعضها صادر وبعضها مطابق للواقع حتّى ضمن أخبار الضعاف ؛ إذ لا يعقل أن تكون كل أخبار الضعفاء ليست مطابقة للواقع بل يحتمل أن يكون بعضها مطابقا للواقع.

وحينئذ يقال : إنّه لو كان العلم الإجمالي المذكور سابقا منجزا لجميع أطرافه بسبب العلم بصدور بعض الأخبار من المعصومين ضمن دائرة أخبار الثقات لكان هذا العلم الإجمالي أيضا منجّزا لجميع الأخبار بما فيها الضعفاء لأنّه يعلم بصدور أو بمطابقة بعض هذه الأخبار للواقع ، فهل يمكن الالتزام بوجوب العمل بكل خبر حتّى ما كان ضعيفا أو غير ثقة أو مجهولا؟!

ص: 262

فحيث إنّه لا يلتزم بذلك كان معناه أنّ العلم الإجمالي المذكور ليس منجّزا لوجوب العمل بأخبار الثقات بمجرّد العلم بصدور بعض أخبارهم ، إذ لو كان منجزا لها لكان العلم الإجمالي الذي ذكرناه منجّزا أيضا لجميع الأخبار بما فيهم الضعفاء ، لأنّه يعلم بمطابقة بعضها للواقع ، فإما أن يلتزم بذلك أو يرفع اليد عن أصل هذا الدليل ، إذ لا وجه للتفكيك بين هذين العلمين والقول بأنّ الأوّل منجّز وحجّة دون الثاني ، لأنّ أركان العلم الإجمالي موجودة فيهما على حدّ سواء ، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام بالعلم الإجمالي الثاني دلّ هذا على أنّ الالتزام بالعلم الإجمالي الأوّل غير تام.

والجواب على هذا النقض ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من انحلال أحد العلمين الإجماليين بالآخر وفقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير - المتقدّمة في الحلقة السابقة - إذ يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الذي أبرز من خلال هذا النقض وأطرافه كل الأخبار.

والثاني : العلم المستدل به وأطرافه أخبار الثقات ، ولانحلال علم إجمالي بعلم إجمالي ثان وفقا للقاعدة التي أشرنا إليها شرطان - كما تقدّم في محلّه - :

أحدهما : أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف الأوّل.

والآخر : ألا يزيد المعلوم بالأوّل عن المعلوم بالثاني.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) على هذا النقض بأنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي السابق تطبيقا لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير.

أمّا كون العلم الإجمالي المذكور في النقض كبيرا فلأنه يشمل أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا كون العلم الإجمالي المذكور في الاستدلال صغيرا فلأنّه مختص بأخبار الثقات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا.

ومن الواضح أنّ دائرة أخبار الثقات أخص وأصغر من دائرة أخبار الثقات والضعاف وغيرهم.

وأمّا وجه انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير فهذا يتوقّف على وجود شرطين هما :

ص: 263

الأوّل : أن يكون العلم الإجمالي الصغير داخلا في العلم الإجمالي الكبير ، أي أن تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فكلّ أطراف العلم الإجمالي الصغير داخلة في أطراف العلم الإجمالي الكبير.

والثاني : أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير أزيد من حيث العدد والمصداق من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، بل إما أن يكون أقل منه أو مساويا له.

مثال ذلك : أن نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع مائة إناء مختلفة الألوان ، ثمّ نعلم إجمالا بنجاسة خمسة إناءات من مجموع الإناءات السوداء في مجموع الإناءات المائة ، فهنا أطراف العلم الإجمالي الصغير وهي الإناءات السوداء من جملة أطراف العلم الإجمالي الكبير ، والمعلوم بالإجمال في العلمين متساو ، وهو الإناءات الخمسة ، ولذلك ينحل العلم الكبير بالعلم الصغير.

وتطبيق هذا الكلام على موردنا بأن يقال :

وكلا الشرطين منطبقان في المقام فإنّ العلم الإجمالي الثاني في المقام - أي العلم المستدل به على الحجيّة - أطرافه بعض أطراف العلم الأوّل الذي أبرز في النقض ، والمعلوم في الأوّل لا يزيد عن المعلوم فيه فينحل الأوّل بالثاني وفقا للقاعدة المذكورة.

وفي مقامنا نقول : إنّ العلم الإجمالي المستدلّ به على حجيّة خبر الثقة كانت دائرة أطرافه خصوص أخبار الثقات الواصلة إلينا في الكتب المعتبرة ، وهذه الأخبار تعتبر جزءا من دائرة أطراف العلم الإجمالي الذي أبرز في النقض لأنّ أطرافه كل الأخبار سواء منها أخبار الثقات وأخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الأوّل موجود (1).

ص: 264


1- والتحقيق في المسألة عدم تماميّة الاستدلال بهذا العلم الإجمالي ، لأنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل فيه لعدم توفر الشرط الثاني فصحيح أنّ أخبار الثقات داخلة ضمن أطراف العلم الإجمالي الكبير الشامل لأخبار الثقات وغيرها ، إلا أنّ المعلوم بالإجمال الموجود في العلم الإجمالي الكبير أزيد من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ، وذلك لأنّنا بعد أن نفرز أخبار الثقات يبقى لدينا علم بوجود تكاليف ضمن سائر الشبهات والأخبار الأخرى ، إذ من غير المعقول أن تكون كلّها كاذبة وغير صادرة ، فيبقى العلم الإجمالي الكبير منجزا لها أيضا.

ثمّ إنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير وهو أنّ عددا كبيرا من هذه الأخبار صادر عن المعصومين علیهم السلام لا يزيد عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير ضمن دائرة أخبار الثقات ، وذلك لأنّنا لو فرزنا أخبار الثقات من مجموع الأخبار في مختلف الأبواب الفقهية لكان المعلوم بالإجمال كونه صادرا من المعصومين موجودا فيها أيضا بحيث لا يبقى مجال لاحتمال صدور الأحكام في غيرها من أخبار الضعفاء وغيرهم ، فالشرط الثاني موجود.

والنتيجة هي أنّ المعلوم بالإجمال صدوره واقعا صار ضمن دائرة أخبار الثقات فقط فيكون منجّزا لها وموجبا للموافقة القطعيّة بالعمل على وفق أخبار الثقات وهو معنى الحجيّة.

وأمّا سائر الأخبار الأخرى فلا يعلم إجمالا بصدور بعض منها أو يشك شكا بدويا في كونها صادرة عنهم ، وفي مثل هذه الحالة تجري الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة ونحوها لإثبات المعذرية والترخيص.

فتحصّل أنّ العلم الإجمالي المستدلّ به تام ومنجّز ، وبه تثبت حجيّة أخبار الثقات.

الثاني : جواب حلّي ، وحاصله : أنّ تطبيق قانون تنجيز العلم الإجمالي لا يحقق الحجيّة بالمعنى المطلوب في المقام ، وذلك :

أوّلا : لأنّ هذا العلم لا يوجب لزوم العمل بالأخبار المتكفلة للأحكام الترخيصيّة ، لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا وملزما في حالة كونه علما إجماليا بالتكليف لا بالترخيص ، بينما الحجيّة المطلوبة هي حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجزا إذا أنبأ عن التكليف ، ومعذّرا إذا أنبأ عن الترخيص.

وأمّا الحلّ : فتقريبه : أنّ هذا العلم الإجمالي لو فرض تماميّة الاستدلال به فهو لا يثبت حجيّة خبر الثقة بالمعنى المراد من الحجيّة ؛ وذلك لأنّ الحجيّة معناها كون الشيء منجزا ومعذرا ، فإذا قامت الحجّة على التكليف كانت منجزة لوجوب الالتزام بهذا التكليف فعلا أو تركا ، كما لو قام خبر الثقة على وجوب التصدّق عند رؤية الهلال ، أو على حرمة شرب التتن ، وإذا قامت الحجّة على نفي التكليف كانت معذرة للمكلف إذا خالف الواقع وكان التكليف ثابتا كما لو قام خبر الثقة على نفي وجوب

ص: 265

التصدّق وكان الوجوب ثابتا في الواقع ، فإنّ المكلّف يكون معذورا لأنّه استند إلى ما هو حجّة شرعا أو تكوينا.

وفي مقامنا المطلوب هو الاستدلال على حجيّة خبر الثقة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ، وأمّا العلم الإجمالي الذي ذكر دليلا على حجيّة خبر الثقة فهو لا يثبت هذه الحجيّة وإنّما يثبت المنجزية فقط دون المعذرية.

وتوضيحه : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة لو فرض كونه دائرا بين طرفين إلزاميين أو كان المعلوم بالإجمال إلزاما وتكليفا كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، أو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فهنا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الإتيان بالظهر والجمعة ولحرمة ارتكاب الإناءين أو أحدهما.

وأمّا إذا كان العلم الإجمالي علما إجماليا بعدم التكليف كما إذا علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين فإنّه لا يوجب الالتزام بطهارة كلا الإناءين ، أو علم إجمالا بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف أي التي تثبت الترخيص والجواز أو الاستحباب أو الكراهة ، فهنا لا يقال بكونه منجزا للدائرة التي يعلم باشتمالها على هذه الأخبار ، لأنّه من الواضح أنّ المنجزية الثابتة للعلم الإجمالي كانت لأجل الاحتياط العقلي وعدم الابتلاء بمخالفة الواقع الإلزامي ، وأمّا هنا فلا مخالفة للواقع أصلا ، لأنّه لو علم تفصيلا بهذه الأخبار النافية للتكليف لم يلزم العقل بها لأنّه يجوّز للمكلف الفعل والترك ، فلا يكون العلم الإجمالي ملزما بفعلها أو تركها ، لأنّه ليس بأحسن حالا من العلم التفصيلي.

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي غاية ما يثبت به التنجيز فقط ، وهو جزء من الحجيّة لا الحجيّة كلّها ، فالدليل أخصّ من المدّعى فلا يثبته.

وثانيا : لأنّ العمل بأخبار الثقات على أساس العلم الإجمالي إنّما هو من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالإجمال ، ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يسوّغ أن يجعل خبر الثقة مخصّصا لعام أو مقيّدا لمطلق في دليل قطعي الصدور ، فإنّ التخصيص والتقييد معناهما رفع اليد عن عموم العام أو إطلاق المطلق في دليل قطعي الصدور ومعلوم الحجيّة.

ص: 266

ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عمّا هو معلوم الحجيّة إلا بحجيّة أخرى تخصيصا أو تقييدا ، فما لم تثبت حجيّة خبر الثقة لا يمكن التخصيص بها أو التقييد ، فإذا ورد مطلق قطعي الصدور يدلّ على الترخيص في اللحوم مثلا ، وورد خبر ثقة على حرمة لحم الأرنب لم يكن بالإمكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر ما لم تثبت حجيّته بدليل شرعي.

والوجه الثاني لمنع حجيّة خبر الثقة على أساس العلم الإجمالي ، أن يقال : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجزا للتكليف من باب الاحتياط العقلي ، حيث إنّ التكليف المنكشف إجمالا يكون موردا للاحتياط ، إذ لو ترك العمل به لاحتمل مخالفة الواقع ، فالاحتياط يقتضي العمل بالتكليف لئلا يقع المكلّف في مخالفة الواقع.

وحينئذ نقول : إنّ التخصيص أو التقييد للعموم أو الاطلاق إنّما يكونان فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة ، لأنّ العام أو المطلق إذا كانا قطعيي الصدور بأن كانا من الكتاب أو السنّة المتواترة وكانا ظاهرين في العموم والإطلاق فإنّ هذا الظاهر حجّة ، لأنّ كل ظهور حجّة ، وبالتالي يتعيّن العمل بالعموم والإطلاق لكونهما حجّة ، ولا يجوز رفع اليد عنهما إلا إذا كان المخصّص أو المقيّد حجّة أيضا ، حيث يقع التعارض بين حجتين : إحداهما ظاهرة والأخرى نص ، ويقدم النص على الظاهر ، لأنّه قرينة على تفسير المراد من الظاهر.

وهذا يفترض أن يكون الخاص أو المقيّد كلاهما حجّة ، إمّا تكوينا أو تعبدا ، كما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يدلّ على حليّة أو إباحة كل اللحوم ، وورد خبر ثقة حجّة في حرمة لحم الأرنب ، فهنا يقال بالتخصيص أو التقييد لكون خبر الثقة حجّة تعبدا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ خبر الثقة يجب العمل به لأجل منجزية العلم الإجمالي من باب الاحتياط العقلي فهنا مجرّد الاحتياط لا يسوّغ لنا رفع اليد عن العموم أو الإطلاق والقول بالترخيص أو التقييد ؛ لأنّ العموم والإطلاق لمّا كانا قطعيي الصدور ، وكان ظاهرهما حجّة لم يمكن رفع اليد عمّا هو حجّة بدليل لم تثبت حجيّته لا تكوينا ولا تعبّدا ، وإنّما كان العمل به لازما من باب الاحتياط العقلي ، لأنّ العمل بخبر الثقة على هذا الأساس لا يعني الحجيّة التعبديّة كما ذكرنا ؛ لأن الحجيّة التعبديّة معناها التنجيز

ص: 267

والتعذير ، والاحتياط العقلي يوجب العمل بخبر الثقة المنجّز فقط دون المعذّر ، إذ لا احتياط في العمل بخبر الثقة النافي للتكليف.

وعلى هذا ، فلا يمكن رفع اليد عن العموم أو الإطلاق لمجرّد أنّ العمل بخبر الثقة المنجّز موافق للاحتياط ، ففي المثال المذكور لا يمكن التخصيص أو التقييد بالخبر الدال على حرمة لحم الأرنب ، لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ، بينما العموم والإطلاق حجّة ، ورفع اليد عن الحجّة لا يكون إلا بحجّة أقوى والحال أنّه لا يوجد حجّة أقوى في مفروض الكلام ، وهذا فارق عملي بين القول بحجيّة خبر الثقة تعبّدا ، وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط ومنجزية العلم الإجمالي.

اللّهمّ إلا أنّ يقال : إنّ مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصيّة في الأدلّة القطعيّة الصدور يعلم إجمالا بطروّ التخصيص والتقييد عليها ، فإذا لم تثبت حجيّة خبر الثقة بدليل خاص فسوف لن نستطيع أن نعيّن مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعا تنفيذا لقانون تنجيز العلم الإجمالي.

وبهذا ننتهي إلى طرح إطلاق ما دل على حلية اللحوم في المثال والتقيّد احتياطا بما دلّ على حرمة لحم الأرنب مثلا ، وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التي ينتهى إليها عن طريق التخصيص والتقييد.

نعم ، قد يقال هنا : إنّ عدم التخصيص والتقييد بخبر الثقة - لأنّه ليس حجّة شرعا - يوجب أن يكون العموم والإطلاق حجّة وبالتالي لا نرفع اليد عنهما أبدا ، بل نطرح هذا الخبر الدال على التقييد أو التخصيص تمسكا بما هو حجّة وطرحا لما لم تثبت حجيّته.

وهذا المقدار لا يمكن الالتزام به ؛ وذلك لأنّنا نعلم إجمالا بطروّ المقيّدات والمخصصات لكثير من العمومات والإطلاقات ، حتّى اشتهر القول : إنّه ما من عام إلا وقد خصّ. فهذا العلم الإجمالي يثبت صدور المقيّدات والمخصّصات في الشريعة ، ونحن نحتمل أن يكون هذا العلم الإجمالي موجودا ضمن دائرة أخبار الثقات الدالة على التخصيص والتقييد ، وهذا علم إجمالي منجّز يوجب الموافقة القطعيّة ، ومفاده لزوم العمل بأخبار الثقات المخصّصة والمقيّدة من باب الاحتياط العقلي ومنجزية العلم الإجمالي وبالتالي نرفع اليد عن عموم العام وإطلاق المطلق في كل مورد ثبت فيه خبر الثقة الدال على التخصيص أو التقييد.

ص: 268

ففي المثال المذكور نلتزم بحرمة لحم الأرنب لا من باب كون خبر الثقة الدال على الحرمة مخصّصا أو مقيّدا للعموم أو الإطلاق لأنّه لم تثبت حجيّته بعد ليرفع اليد به عمّا هو ثابت الحجيّة ، وإنّما نلتزم بذلك من باب الاحتياط العقلي والعلم الإجمالي الذي مفاده وجود المخصصات والمقيّدات لكثير من العمومات والمطلقات ، وحيث إنّ هذا العام والإطلاق يحتمل كون التقييد والتخصيص قد صدر له واقعا ، فلا يمكن الأخذ به ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز لنا كل المقيّدات والمخصّصات ضمن دائرة أخبار الثقات ويوجب العمل بها تطبيقا لقانون منجزية العلم الإجمالي لكل أطرافه.

وحينئذ سوف ننتهي إلى نفس نتيجة القول بحجيّة خبر الثقة المخصّص أو المقيّد للعموم والإطلاق ، لأنّنا رفعنا اليد عن العموم والإطلاق عمليّا وإن كنّا لا نحكم بالتخصيص والتقييد لأنّه لم تثبت الحجيّة لخبر الثقة.

فيكون الفارق نظريا بين كون خبر الثقة حجّة تعبدا وبين كونه يجب العمل به احتياطا في مثل هذا المورد (1).

الشكل الثاني للدليل العقلي ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهو - لو تمّ - يثبت حجيّة الظن بدون اختصاص بالظن الناشئ من الخبر فيكون دليلا على حجيّة مطلق الأمارات الظنية بما في ذلك أخبار الثقات ، وقد بيّن ضمن مقدمات :

الشكل الثاني للدليل العقلي على حجيّة خبر الثقة : ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهذا الدليل لو تمّ فهو يثبت لنا حجيّة مطلق الظن لا خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة ، بل الأعم منه ومن الظن الناشئ من الشهرة والإجماع المنقول والقياس وكل الأمارات الظنية ، فيكون كل ظن حجّة بحكم العقل أي أنّ العقل هو الذي يحكم بالحجيّة لمطلق الظن ، وهذا ما يسمّى بمسلك الحكومة ، أو يكون العقل كاشفا عن جعل الحجيّة لمطلق الظن شرعا أي أنّ الشارع حكم بحجيّة كل ظن والعقل كشف عن ذلك وهذا ما يسمّى بمسلك الكشف.

ص: 269


1- نعم ، تبقى مسألة الآثار واللوازم الأخرى فإنّها تثبت على القول بحجيّته لأنّه من جملة الأمارات حيث انّ مثبتات الأمارة حجّة ، بينما لا تثبت على القول بأنّه يجب العمل به احتياطا لأنّ الاحتياط يتقدّر بمقداره ، حيث إنّه احتياط عقلي والاحتياط العقلي من جملة الأدلّة اللبّية فيقتصر فيه على القدر المتيقن ولا يتعدّى إلى أكثر من ذلك.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذا الدليل يتمّ عن طريق مقدمات خمسة ، كما رتّبها صاحب ( الكفاية ) ، وهي :

الأولى : إنّا نعلم إجمالا بتكاليف شرعية كثيرة في مجموع الشبهات ، ولا بدّ من التعرض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الأولى : وجود علم إجمالي منجّز وبيانه :

إنّنا إذا لاحظنا دائرة الشبهات يحصل لنا علم إجمالي بوجود تكاليف شرعيّة صادرة من المعصومين ضمن دائرة هذه الشبهات ، لأنّها تتضمن أحكاما إلزاميّة وجوبا أو تحريما.

وحيث إنّ هذه الأحكام والتكاليف موجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات فيجب بحكم العقل امتثال هذه الأحكام ، وحيث إنّها معلومة إجمالا لا تفصيلا والعلم الإجمالي منجّز فيجب امتثال كل الأحكام الإلزاميّة الموجودة في هذه الشبهات تحصيلا للبراءة اليقينية بفراغ الذمة وخروجها عن عهدة الامتثال والطاعة.

الثانية : إنّه لا يوجد طريق معتبر - لا قطعي وجداني ولا تعبدي قام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته - يمكن التعويل عليه في تعيين مواطن تلك التكاليف ومحالّها ، وهذا ما يعبّر عنه بانسداد باب العلم والعلمي.

المقدّمة الثانية : أنّ تحصيل العلم الوجداني بهذه الأحكام والتكاليف الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات لا يمكن لأنّه من الواضح جدا أنّ الأحكام والتكاليف المعلومة قطعا ووجدانا قليلة جدا بالنسبة لمجموع الأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنّه قادر على تحصيل العلم الوجداني بكل هذه الأحكام ؛ لأنّ أكثرها أو جلّها واردة في طرق غير قطعية السند والصدور ، حيث إنّ الأحكام والتكاليف الموجودة في الكتاب الكريم والسنّة المتواترة قليلة جدا كما هو واضح لمن تأمل ذلك ، فالعلم الوجداني لا يمكن التعويل عليه لتحصيل كل الأحكام والتكاليف.

وأمّا العلم التعبّدي أي الطريق الخاص الذي جعله الشارع حجّة لاستكشاف الأحكام والتكاليف عن طريقه ، فهذا أيضا غير موجود لعدم ثبوت مثل هذا الدليل الخاص في موردنا - كما هو المفروض - بمعنى أنّه يدعى عدم قيام الدليل القطعي

ص: 270

الخاص على حجيّة هذه الطرق الخاصّة التي يدعى أنّها مجعولة من الشارع ، وما يذكر من أدلة على ذلك كلّها ظنيّة لا توجب العلم.

وهذا معناه أنّ باب العلم الوجداني وباب العلم التعبّدي منسدّان لا يمكن التعويل عليهما في تشخيص الأحكام والتكاليف الشرعيّة الموجودة ضمن دائرة مجموع الشبهات ، وهذه المقدّمة تسمّى بانسداد باب العلم والعلمي أي انسداد باب العلم الحقيقي الوجداني وباب العلمي أي ما جعله الشارع كالعلم أي العلم التعبّدي (1).

الثالثة : أنّ الاحتياط بالموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى غير واجب ، لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج نظرا إلى كثرة أطراف العلم الإجمالي.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذا العلم الإجمالي المنجّز لمجموع الأحكام والتكاليف ضمن دائرة الشبهات لا يمكن موافقته القطعيّة ، وذلك عن طريق الاحتياط العقلي في كل شبهة من الشبهات الالزاميّة ، لأنّ هذا الاحتياط يؤدّي إلى العسر والحرج ، إذ لا يمكن للإنسان أن يحتاط في كل هذه الشبهات ، لأنّها كثيرة جدا تخرج عن حدّ الحصر ، ولذلك لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط التام في كل الشبهات الدالة على الإلزام لهذا المحذور.

مضافا إلى أنّ الشريعة الإسلامية يعلم أنّها غير مبتنية على الاحتياط بمعنى أنّها لا تتبنى الاحتياط كمسلك عام يسلكه الناس جميعا في كل الشبهات ، لأنّها شريعة سمحاء مبتنية على التخفيف والتوسعة على الناس ، ورفع الحرج والمشقّة والضيق عنهم ، والحال أنّ سلوك الاحتياط التام يؤدّي إلى خلاف روح هذه الشريعة (2).

ص: 271


1- وهذه المقدّمة هي الأساس الذي يبتني عليه دليل الانسداد ، إذ لو قيل بانفتاح باب العلمي أي لو ثبت قيام الدليل القطعي الخاص على حجيّة بعض الأمارات والطرق لكان التعويل عليها في اكتشاف الأحكام والتكاليف ضمن تلك الشبهات ، ولذلك تكفي هذه المقدّمة عن سائر المقدّمات.
2- وثالثا : أنّ الاعتماد على الاحتياط التام في سائر الشبهات لكل الناس يؤدّي إلى اختلال النظام الاجتماعي للناس لما يحتويه من التوقف والإرجاء والتكرار والتريث في كثير من المواقف والموارد التي لا تتحمل بطبيعتها ذلك. ورابعا : يؤدّي إلى عدم حصول الترخيص والإباحة ونحوهما من الأحكام الترخيصيّة ، لأنّ المكلّف سوف يحتاط دائما في كل شبهة يحتمل فيها التكليف الإلزامي ، وهذا الأمر موجود في كل مورد ، لأنّه لن يحصل على العلم الوجداني كما هو المفروض سابقا.

الرابعة : أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة في كل شبهة بإجراء البراءة ونحوها ، لأنّ ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الإجمالي.

المقدّمة الرابعة : إنّه اذا لم يمكن التعويل على الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج ، إلا أنّه مع ذلك لا ينحل هذا العلم الإجمالي ولا تبطل منجزيته ، وهذا معناه أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة ، كالبراءة والطهارة والحلية والتخيير واستصحاب عدم التكليف ، لأنّ جريان مثل هذه الأصول يؤدّي إلى الترخيص في كل شبهة من الشبهات ، وبالتالي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وحيث إنّنا نعلم إجمالا بوجود تكاليف إلزامية ضمن هذه الشبهات ، فجريان الأصول الترخيصيّة فيها جميعا يؤدّي إلى ترك التكليف المعلوم بالإجمال ، وهذا ممنوع عقلا.

مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي نفسه يقتضي عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أطرافه ، لأنّها قد تنجّزت به ومعه لا مجال لجريان الأصول ، لأنّها إنّما تجري في الشبهات التي لم تتنجز بعد.

وثالثا : أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في كل الشبهات معناه أنّه لا توجد أحكام إلزامية وجوبية أو تحريمية ، وهذا بديهي البطلان.

الخامسة : أنّه ما دام لا يجوز إهمال العلم الإجمالي ، ولا يتيسّر تعيين المعلوم الإجمالي بالعلم والعلمي ، ولا يراد منا الاحتياط في كل واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع إلى الأصول العمليّة ، فنحن إذن بين أمرين : إمّا أن نأخذ بما نظنه من التكاليف ونترك غيرها ، وإمّا أن نأخذ بغيرها ونترك المظنونات ، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن الأوّل.

وبهذا يثبت حجيّة الظن بما في ذلك أخبار الثقات.

المقدّمة الخامسة : وهي النتيجة للمقدمات السابقة حيث يقال : إنّه ما دام هناك علم إجمالي منجّز للتكاليف ضمن دائرة الشبهات كلّها ، وهذا العلم الإجمالي لا يجوز إهماله لأنّه كما تقدّم يؤدّي إلى إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال ، وما دام هذا المعلوم بالإجمال لا يمكن تعيينه لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبّدي لانسدادهما كما هو المفروض ، وما دام الاحتياط غير ممكن لاستلزامه العسر والحرج ،

ص: 272

ولأنّه غير مطلوب شرعا ، وما دام لا يجوز الرجوع إلى الأصول العمليّة الترخيصيّة لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

إذن يدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما : إمّا أن نعمل بالظن الحاصل من كل شبهة نواجهها.

وإمّا أن نعمل بالاحتمال المقابل للظن ، لأنّ كل ظن يقابله احتمال مخالف لما يظن.

ومن الواضح أنّ العمل بالظن هو المتعيّن لأنّ العمل بالاحتمال المقابل له معناه ترجيح الاحتمال الموهوم على الاحتمال الراجح ، وهذا قبيح عقلا ؛ ولأنّ العمل بالمظنون أقرب من العمل بالوهم من حيث المطابقة والإصابة للواقع ، ولأنّ الظن في حالة الانسداد يصبح كالعلم الوجداني حالة الانفتاح من حيث كونه طريقا لمعرفة الأحكام والتكاليف بناء على الحكومة ، وبناء على الكشف كذلك ، إذ لا يعقل أن يجعل الشارع الحجيّة للموهوم والمشكوك دون المظنون ، لأنّ كاشفيّة الظن أقوى من كاشفيتهما.

فإذا تمّت هذه المقدّمات ثبت أنّ الظن مطلقا هو الطريق الذي يعوّل عليه لمعرفة الأحكام ، وحيث إنّ خبر الثقة يحتمل كونه حجّة تعبّدا فهو القدر المتيقن من جملة الظنون ولذلك يقدم على غيره ويكون العمل به هو المتعيّن دون سائر المظنونات ، لأنّه كلما كان هناك قدر متيقن في مقام الشك أخذ به خصوصا مع كون الدليل العقلي المذكور دليلا لبّيا والدليل اللبّي يقتصر في الأخذ به على القدر المتيقن وهو خبر الثقة ؛ لأنّه إمّا حجّة تعبدا وإمّا حجّة مطلقا.

وأمّا إذا لم تحتمل الحجيّة التعبديّة لخبر الثقة فهو كغيره من الطرق الظنيّة يكون حجّة لحجيّة مطلق الظن ، وبالتالي تثبت الحجيّة لكل الأمارات الظنية الأخرى ويجب الأخذ بها جميعا.

ونلاحظ على هذا الدليل :

أوّلا : إنّه يتوقّف على عدم قيام دليل شرعي خاص على حجيّة خبر الثقة ، وإلا كان باب العلمي مفتوحا وأمكن بأخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالإجمال ، فكأن دليل الانسداد ينتهى إليه حيث لا يحصل الفقيه على أيّ دليل شرعي خاص يدلّ على حجيّة بعض الأمارات الشائعة.

ص: 273

الجواب عن هذا الدليل : أولا : المنع من المقدّمة الثانية التي هي عمدة الاستدلال بهذا الدليل.

وتوضيح ذلك : أنّه ادعي في المقدّمة الثانية أنّ باب العلم الوجداني منسدّ ، فهذا وإن سلّم به لقلة موارد القطع والعلم التكويني في كثير من الفروع والتفصيلات ، إلا أنّ باب العلم التعبّدي مفتوح ، بمعنى أنّ الشارع قد جعل بعض الطرق والأمارات الكاشفة كشفا ظنيا عن الواقع حجّة شرعا وأنّه يجوز التعويل عليها لاكتشاف أحكام الشارع ، كما هو الحال بالنسبة للظهورات ولخبر الثقة اللذين هما أهم الطرق والأمارات الظنية وعليهما العمدة في اكتشاف مراد الشارع وأحكامه وتكاليفه.

وعلى هذا فلا يتمّ هذا الدليل لأنّه متوقّف على تماميّة هذه المقدّمة التي لا مجال للتسليم بها أبدا ، فإنّ الدليل القطعي قد قام على حجيّة الظهور وخبر الثقة سواء من الشارع ابتداء كالآيات والأخبار التي يقطع بصدور بعضها أو إمضاء كالسيرة العقلائيّة القائمة على العمل بهذين الطريقين في مرأى ومسمع من الشارع ولم يردع عنهما.

نعم ، لو فرضنا عدم تماميّة شيء من الطرق والحجج والأمارات ولم يقم الدليل القطعي الخاص على حجيّتها والتعبد بها لأمكن المصير إلى هذا الدليل بعد تماميّة سائر المقدّمات الأخرى.

وبهذا اتّضح أنّ الاستدلال بدليل الانسداد على حجيّة مطلق الظن متوقّف على القول بانسداد الطريق العلمي التعبّدي وأنّه لا يوجد دليل خاص يدلّ على حجيّته شرعا ، وقد عرفت قيام هذا الدليل.

وثانيا : أنّ العلم الإجمالي المذكور في المقدّمة الأولى منحلّ بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات كما تقدّم ، والاحتياط التام في حدود هذا العلم الإجمالي ليس فيه عسر ومشقة.

وثانيا : المنع من المقدّمة الأولى ، فإنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه مع توفر كلا الشرطين للانحلال.

وبيان ذلك : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود عدد كبير من التكاليف ضمن دائرة الشبهات

ص: 274

كلّها ، إلا أنّنا لو أخذنا أخبار الثقات في مختلف الأبواب الفقهية لوجدنا إنّا نعلم إجمالا بصدور عدد كبير منها لا يقل عن العدد المعلوم إجمالا في العلم الإجمالي الكبير ، وحيث إنّ أخبار الثقات داخلة في العلم الإجمالي الكبير أيضا فينحل هذا العلم ، وبالتالي تبطل منجزيته الشاملة لمجموع الشبهات ، ويصبح العلم الإجمالي الصغير الذي دائرته خصوص أخبار الثقات هو المنجّز فقط.

وحينئذ ، فغاية ما يقتضيه هذا العلم الإجمالي هو وجوب الموافقة القطعيّة لكل أطراف دائرة أخبار الثقات تبعا لمنجزيته العقلية فيجب الاحتياط بالأخذ بالتكاليف التي تتضمنها أخبار الثقات وهذا الاحتياط لا مانع منه ولا محذور فيه ، لأنّ دائرة أخبار الثقات أطرافها يمكن الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا مشقة في ذلك ، ولأنّ الاحتياط فيها لا يلازمه وجوب الاحتياط في كل الشبهات لأنّ سائر الشبهات الأخرى تصبح مشكوكة شكا بدويا فتكون مجرى للأصول الترخيصيّة ، وبالتالي لن يكون الاحتياط هو المسلك والطريق الذي تعتمده الشريعة الإسلامية ، وإنّما هناك طرق أخرى يسلكها المكلّف في سائر الشبهات. فإذا مثل هذه الاحتياط ممكن عقلا ، ومطابق للشريعة أيضا.

وعلى هذا فلا يثبت حجيّة مطلق الظن في سائر الشبهات كما هو المدّعى في هذا الدليل ، وإنّما خصوص الظن الناشئ من خبر الثقة فقط ، ضمن دائرة أخبار الثقات.

وثالثا : إنّا إذا سلّمنا عدم وجوب الاحتياط التام - لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج - فهذا إنّما يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج ، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه ، لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها ، فيكون الأخذ بالمظنونات حينئذ باعتباره مرتبة من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجيّة الظن؟!

وثالثا : أنّ عدم وجوب الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج إنّما هو فيما إذا كان المقصود من الاحتياط الاحتياط الكامل والتام في سائر الشبهات ، فإنّ هذا يؤدّي إلى العسر والحرج وهما منفيان شرعا ، إلا أنّ نفيهما شرعا ليس معناه نفي الحكم لا حقيقة ولا ادعاء ، وإنّما معناه رفع اليد عن إطلاق الحكم لحالة يكون فيها ضرر أو حرج. وهذا

ص: 275

معناه أنّه لا إطلاق للأحكام الشرعيّة لحالتي العسر والحرج ، لا أنّه لا حكم أصلا في هذين الموردين.

وعلى هذا فيكون المنفي هو الاحتياط التام والكامل أي المرتبة العليا من الاحتياط الشاملة لكل الشبهات والوقائع والحوادث ، لأنّه القدر المتيقن من لزوم العسر والحرج.

وأمّا سائر المراتب الأخرى من وجوب الاحتياط والتي لا عسر ولا حرج فيها فتبقى على حالها من وجوب الاحتياط فيها ، إذ لا عسر ولا حرج ليرفع اليد عنها.

ومن الواضح : أنّ الضرورات تقدر بقدرها لا بأزيد من ذلك ، فإذا كان هناك محذور من الأخذ بالاحتياط فهو في الاحتياط الكامل والتام الشامل لكل الشبهات دون غيره من المراتب الأخرى ، فإنّه لا محذور فيها فيجب الأخذ بالاحتياط في مواردها.

وحينئذ يجب الأخذ بما يظن أنّه الحكم الشرعي الواقعي من باب الاحتياط لا من باب حجيّة مثل هذا الظن.

وفرق كبير بين القول بحجيّة مطلق الظن الشامل بإطلاقه للظن بالتكليف والظن بعدمه ، وبين القول بوجوب الأخذ بالظن من باب الاحتياط العقلي ، فإنّه يختص فيما إذا ظن بالتكليف فقط ، لأنّه يوافق الاحتياط العقلي ، وأمّا إذا ظن بعدم التكليف فلا يكون هذا الظن موافقا للاحتياط العقلي إذ لا احتياط بترك التكليف كما هو واضح.

وهذا معناه لزوم العمل بخصوص الظن بالتكليف أي الظن الذي يكون منجّزا للحكم لا الأعم منه ومن الظن المعذّر أيضا ، وهذا المعنى لا يساوق ولا يلازم الحجيّة ، لأنّ الحجيّة معناها المنجزية والمعذرية على حدّ سواء ، فكان هذا الدليل أخصّ من المدّعى فلا يتمّ المطلوب.

اللّهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس الاحتياط ، فإذا ضمّت هذه الدعوى أمكن أن نستكشف حينئذ أنّه جعل الحجيّة للظن.

اللّهم إلا أن يدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط كطريق عام يسلكه الناس جميعا في سائر الشبهات وفي مختلف الأبواب الفقهية وفي شتّى ميادين الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والقضاء والحدود وغيرها.

فإنّ المتتبّع للشريعة الإسلامية ولمفاهيمها وعقائدها يحصل له القطع بأنّ الإسلام

ص: 276

دين الحياة بمختلف نواحيها وميادينها وقد سنّ القوانين والقواعد والأحكام العامّة والكليّة لبني البشر جميعا على أساس الملاكات والمبادئ والمصالح والمفاسد والاحتياط إنّما جعل في بعض الأبواب والفروع فقط ، ولم يجعل الاحتياط واجبا وطريقا ومسلكا لمعرفة الأحكام الشرعيّة جميعا ، وإنّما جعل الاحتياط حسنا فقط.

وهذه الدعوى لا يبعد صحتها فإنّ الشارع لا يرضى بكون الاحتياط هو الأسلوب الوحيد للتعامل مع أحكامه لأنّ الشريعة سهلة سمحاء ، ولأنّها مبنية على التخفيف والتوسعة في كثير من الحالات ، فهذا كلّه يجعلنا نستبعد أن يكون العمل بالمظنونات كان لأجل موافقتها للاحتياط كما ذكرنا آنفا ، وإنّما كان العمل بالمظنونات من أجل حجيّة الظن وكاشفيّته عن الواقع ولو كشفا ناقصا ، ولذلك إمّا أن يكون العمل بالظن قد ثبت بشكل مطلق من الشارع ، وإمّا أن يكون العمل به قد ثبت بنحو خاص ، والأوّل يتوقّف على تماميّة مثل هذه الدليل والذي تقدّم النقاش في كثير من مقدماته ، والثاني هو المدّعى في خصوص الظهورات وخبر الثقة.

وعلى كلا التقديرين فالعمل بالظن لأجل كاشفيّته وحجيّته إما عقلا وإما تعبدا وإما بنحو مطلق وإما بنحو خاص ، وليس التعويل على الظن من باب كونه احتياطا لأنّ الاحتياط يقطع بكونه غير مطابق لروح الشريعة الإسلامية السمحاء.

وقد تلخص من استعراض أدلة الحجيّة أنّ الاستدلال بآية النبأ تام ، وكذلك بالسّنة الثابتة بطريق قطعي كسيرة المتشرّعة والسيرة العقلائيّة.

وإلى هنا نخلص بنتيجة مفادها : أنّ خبر الواحد حجّة لقيام الدليل الشرعي الخاص على حجيّته سواء من الكتاب الكريم كآية النبأ التي مفادها حجيّة خبر العادل الذي هو قسم من خبر الواحد ، أو من السنّة الشريفة القطعيّة الثابتة بسيرة المتشرّعة أو سيرة العقلاء القائمتين على العمل بخبر الثقة (1).

وبهذا يتمّ الدليل الخاص على انفتاح باب العلمي المانع من تماميّة الاستدلال بدليل الانسداد المبتني على انسداد باب العلمي كما تقدّم.

ص: 277


1- وأمّا الإجماع فلا يمكن ادعاء كونه قائما على العمل بخبر الثقة ليجعل دليلا على حجيّته ، لأنّ الإجماع على خبر الثقة لا يمكن ادعاؤه مع وجود المخالف له بل مع وجود الإجماع على خلافه أيضا كما ادعاه البعض ، ولذلك لا يمكن جعله دليلا في المقام.

ص: 278

المرحلة الثانية في تحديد دائرة حجيّة الأخبار
اشارة

ص: 279

ص: 280

المرحلة الثانية

في تحديد دائرة حجيّة الأخبار

ونأتي الآن إلى المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة وشروطها.

والتحقيق في ذلك : أنّ مدرك حجيّة الخبر إن كان مختصا بآية النبأ فهو لا يثبت سوى حجيّة خبر العادل خاصّة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل ، وأمّا إذا لم يكن المدرك مختصا بذلك ، وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضا على ما تقدّم فلا شكّ في وفاء السيرة والروايات بإثبات الحجيّة لخبر الثقة ولو لم يكن عادلا.

المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجيّة ، فبعد أن ثبت في المرحلة الأولى أنّ خبر الواحد حجّة ، نأتي الآن لتحديد المراد والمقصود من خبر الواحد ، بمعنى أنّه هل يشمل كل خبر سواء كان فاسقا أم عادلا ، أو يختصّ بخبر العادل فقط؟

والتحقيق في ذلك أنّه لا بدّ من الرجوع إلى المدرك والدليل الذي نعتمد عليه في المرحلة الأولى لنرى مفاده وهل هو شامل لكل خبر أو لخصوص بعض أقسامه فقط؟

ولذلك نقول : إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد مختصا بآية النبأ فقط ولم يتمّ شيء من الآيات الأخر كآيتي الكتمان والنفر ولم يتمّ شيء من الروايات ولا السنّة أصلا ولا دليل العقل.

فحينئذ إذا لاحظنا الآية المذكورة نجد أنّ منطوقها كان نفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، فيكون مفهومها حجيّة خبر العادل ، وهذا العنوان أخص من خبر الثقة وخبر الواحد ، بمعنى أنّه لا يثبت بهذا المفهوم إلا خبر الواحد العادل لا مجرّد الثقة فقط ، فإنّ النسبة بين عنواني الثقة والعادل عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الثقة هو الذي لا

ص: 281

يكذب ولكنّه قد يكون فاسقا ، والعادل هو الذي يكون عادلا من جميع الجهات بما في ذلك الكذب وغيره ، ولذلك إذا أحرز وصف العدالة فوصف الثقة محرز فيه قطعا ، بينما إذا أحرز وصف الثقة فليس بالضرورة إحراز وصف العدالة فيه لأنّه أعم ، ولذلك لا يشمل خبر العادل خبر الثقة.

وأمّا إن كان المدرك والدليل على حجيّة خبر الواحد آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات والسنّة المستكشفة بالسيرة سواء سيرة المتشرّعة أم سيرة العقلاء ، فهنا يكون مفاد هذا المدرك حجيّة خبر الثقة الأعم من الفاسق والعادل لا خصوص خبر العادل ، لأنّ عنوان الثقة كان مأخوذا في مفاد بعض ألسنة الروايات كما تقدّم في الطائفة العاشرة من الأخبار التي استدل بها على الحجيّة ، ولأنّ السيرة بقسميها قائمة على العمل بخبر الثقة لأنّه المناط والملاك في قبول خبره وردّه.

ولو كان المدرك لحجيّة خبر الواحد دليل العقل بأحد تقريبيه فهو يثبت حجيّة الظن إما ضمن دائرة أخبار الثقات كما هو مقتضى التقريب الأوّل ، وإما ضمن دائرة مطلق الشبهات الشاملة لمطلق الخبر كما هو مقتضى دليل الانسداد.

ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة الشامل بإطلاقه للثقة الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدال بإطلاقه على عدم حجيّة خبر الفاسق ولو كان ثقة ، وقد يقال حينئذ بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجيّة خبر الثقة الفاسق ، إذ لم يتمّ الدليل على حجيّته.

وعلى أساس اختلاف المدرك لحجيّة خبر الواحد ، حيث إنّ آية النبأ تثبت حجيّة خبر العادل ، بينما الآيات الأخر والسنّة تثبت حجيّة خبر الثقة ، قد يقال بوقوع التعارض بينهما في مادة الاجتماع ، لأنّ النسبة بين هذين المدركين هي العموم والخصوص من وجه ، فآية النبأ تثبت بمفهومها حجيّة خبر العادل ، وبمنطوقها تنفي الحجيّة عن خبر الفاسق ، وهذا المنطوق شامل للفاسق من جهة الكذب الخبري ومن سائر الجهات أيضا ، بمعنى أنّ المنطوق ينفي الحجيّة عن كل خبر فاسق حتّى وإن كان ثقة من حيث الإخبار.

بينما الأدلّة الأخرى تثبت حجيّة خبر الثقة سواء كان عادلا من سائر الجهات أم غير عادل.

ص: 282

فيجتمعان في خبر الثقة الفاسق من سائر الجهات غير الكذب الإخباري ، فآية النبأ بمنطوقها تنفي الحجيّة عنه ، بينما الأدلّة الأخرى تثبت الحجيّة له ، وحينئذ يتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ إذ لا مرجّح لأحدهما على الآخر ، وبعد تساقطهما يرجع إلى الأصول الأوليّة في المقام حيث يشك في أنّ خبر الثقة الفاسق هل هو حجّة أم لا؟

وفي مثل هذا الأصل عدم الحجيّة ، كما تقدّم سابقا لأنّ القاعدة الأولية عند الشك في الحجيّة هو عدمها حتّى تثبت الحجيّة بدليل خاص معتبر ، وهذا الدليل الخاص لم يتمّ كما هو المفروض لوجود المعارض له.

وأمّا خبر الثقة العادل فآية النبأ تثبت حجّيته ، وكذلك سائر الأدلّة الأخرى ، فيؤخذ به بالخصوص.

ولكن الصحيح أنّه لا إطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ، لأنّ التعليل بالجهالة يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهة ، وهذا يختص بخبر غير الثقة ، فلا تعارض إذن ، وبذلك يثبت حجيّة خبر الثقة دون غيره.

والصحيح أنّه لا تعارض بين منطوق آية النبأ وبين ما دلّ على حجيّة خبر الثقة ، وذلك لأنّ منطوق آية النبأ مختص بخبر الفاسق الذي يكون فسقه ناتجا عن الكذب ، فلا إطلاق فيها للفاسق الكاذب وغيره ، ولذلك تكون بمفهومها دالة على حجيّة خبر العادل بمعنى حجيّة خبر غير الفاسق ، والوجه في ذلك أحد أمرين :

الأوّل : مناسبات الحكم والموضوع التي يستفاد منها أنّ التوقف والتّبين إنّما كان بملاك الكذب في الخبر لا مطلقا ، خصوصا أنّ اصطلاح الفسق بما يشمل سائر الجهات لم يكن شائعا ومعروفا فيحمل على معناه اللغوي وهو الكذب.

الثاني : التعليل بالجهالة في ذيل الآية فإنّ العلّة تعمّم أو تخصّص الحكم ، وحيث إنّ التعليل في وجه رفض حجيّة خبر الفاسق ووجوب التّبين عنه كان بسبب الجهالة التي هي بمعنى الطيش والسفاهة وعدم الاتزان كان معنى ذلك أنّ التعليل يضيّق دائرة الحكم ويخصّصها في خبر الفاسق الذي يوجب هذه الأمور.

ومن الواضح أنّ خبر الفاسق إنّما يوجب ذلك فيما إذا كان كاذبا لا مطلقا ، فيكون

ص: 283

المقصود خصوص الفسق في الإخبار الذي هو الكذب ؛ إذ لا سفاهة في العمل بخبر الثقة الفاسق من سائر الجهات ، وعليه فلا تعارض بين هذين المدركين ، بل هما متفقان على حجيّة خبر الثقة حتّى وإن كان فاسقا من سائر الجهات الأخرى ، فيؤخذ به بلا إشكال.

وهل يسقط خبر الثقة عن الحجيّة إذا وجدت أمارة ظنيّة نوعيّة على كذبه؟

وهل يرتفع خبر غير الثقة إلى مستوى الحجيّة إذا توفرت أمارة من هذا القبيل على صدقه؟

فيه بحث وكلام ، وقد تقدّم موجز عن تحقيق ذلك في الحلقة السابقة.

ثمّ إنّه يوجد هنا مطلبان :

المطلب الأوّل : لو فرض وجود خبر واجد لشروط الحجيّة بأن كان عادلا أو ثقة ، وقامت أمارة ظنيّة نوعيّة على خلافه ، وأنّ مضمونه كاذب كما لو قامت الشهرة الفتوائية على خلافه ، فهل يسقط مثل هذا الخبر عن الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف تفسير الوثاقة المأخوذة في شروط الحجيّة ، فهل الوثاقة المأخوذة فيه بنحو الطريقية أم أنّها بنحو الموضوعية؟

فإنّ قيل بأنّها مأخوذة على وجه الطريقية وبما هي سبب لحصول الوثوق بالصدق وبصحّة قوله وما يرويه ، فهنا تكون الأمارة الظنية على خلاف الخبر موجبة لضعفه وتسقطه عن الحجيّة ، من قبيل إعراض المشهور عن العمل بالخبر الصحيح ، فإنّ إعراضهم يعتبر قرينة ظنيّة نوعيّة على عدم صحّة ما يرويه وإن كان واجدا لشرائط الحجيّة ؛ وذلك لأنّ طريقيته تسقط ولا توجب الوثوق بالصدق.

وإن قيل : إنّها مأخوذة على نحو الموضوعية فهذا يعني أنّ المدار على كون الخبر واجدا لشرائط الحجيّة فقط بقطع النظر عن كونها تفيد الوثوق أو لا ، وعلى هذا فلا يكون إعراض المشهور أو قيام قرينة ظنيّة على خلافه موجبا لوهنه وسقوطه ، بل يبقى على حجيّته.

والصحيح هو الأوّل ، لأنّ بناء العقلاء الذي هو المدرك الأساسي في حجيّة الخبر قائم على أساس نكتة الكاشفيّة ، فمع وجود القرينة الظنية المعاكسة تسقط هذه الكاشفيّة أو يوجد لها معارض وهو كاف في منع كاشفيتها.

ص: 284

المطلب الثاني : لو فرض وجود خبر غير واجد لشرائط الحجيّة ، بأن كان خبر غير ثقة ، ولكن قامت بعض القرائن الظنية النوعيّة على صدقه بأن عمل المشهور به ، فهل يوجب عملهم به ارتفاعه إلى مستوى الحجيّة أم لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف المبنى كما تقدّم ، فإنّ كانت الوثاقة المأخوذة شرطا في الحجيّة بنحو الموضوعية فلا ينفع موافقة هذا الخبر للأمارة المذكورة ، لأنّ الوثاقة غير محرزة ، وإن كانت بنحو الطريقية كانت هذه الأمارة موجبة لجبر ضعف الخبر كما هو المشهور.

والصحيح أنّه يبنى على الكاشفيّة ، وحيث إنّ الخبر المذكور لا كاشفيّة فيه فلا ينفعه وجود قرينة ظنيّة على صدقه. نعم ، إذا أوجبت هذه القرينة الاطمئنان الشخصي بمفاد الخبر فيعمل به من باب حجيّة مثل هذا الاطمئنان لكون الخبر صار حجّة شرعا.

ولا شكّ في أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسي المبني على النظر والاستنباط ، وإنّما تختص بالخبر الحسي المستند إلى الإحساس بالمدلول كالإخبار عن نزول المطر ، أو الإحساس بآثاره ولوازمه العرفية كالإخبار عن العدالة.

وعلى هذا فقول المفتي ليس حجّة على المفتي الآخر بلحاظ أدلة حجيّة خبر الثقة لأنّ إخباره بالحكم الشرعي ليس حسيا بل حدسي واجتهادي. نعم ، هو حجّة على مقلديه بدليل حجيّة قول أهل الخبرة والذكر.

الإخبار الحدسي :

ثمّ إنّ أدلّة حجيّة خبر الثقة أو خبر العادل هل تختص فقط بالإخبار الحسي ولا تشمل الإخبار الحدسي أم لا؟

والجواب على ذلك أن يقال : إذا كان مستند الإخبار هو الحدس والاستنتاج والاستنباط والاعتماد على الفكر والنظر والبرهان والدليل لم يكن مثل هذا الإخبار داخلا في نطاق موضوع أدلة الحجيّة ؛ لأنّ الوثاقة المأخوذة مناطا في القول بحجيّة الخبر إنّما كانت من أجل كاشفيّة مثل هذا الخبر عن الواقع وعن صدقه وصحته بعد استبعاد الغفلة والخطأ والاشتباه ، والحال أنّ الغفلة والخطأ والاشتباه في الاستنتاج

ص: 285

والاستنباط لا يمكن استبعادها لكثرة الوقوع في الخطأ في الحدسيّات ، ولذلك لم يكن مشمولا لأدلة الحجيّة.

بخلاف ما إذا كان مستند الإخبار هو الحس إمّا بنحو مباشر كالاخبار عن نزول المطر المستند إلى النظر واللمس ونحوه فهذا داخل يقينا في موضوع الحجيّة كالسماع أيضا ، لأنّ أصالة عدم الغفلة والاشتباه والخطأ تجري هنا بلا إشكال ، إذ يستبعد الخطأ في ذلك إلا نادرا ، فالكاشفية محفوظة هنا ، وكذلك الأخبار المستند إلى آثار ولوازم الحس كالعدالة المستندة إلى لوازم وقرائن حسية كالمواظبة على فعل الطاعات وترك المحرمات فإنّها أيضا وإن كانت مستنتجة وحدسية ولكن مدركها ومنشؤها هو الحس ، فالكاشفية محفوظة فيها أيضا.

وعلى هذا الأساس تتفرّع مسألة وهي : أنّ إخبار المجتهد أو المفتي أو القاضي ليس حجّة على مجتهد آخر ، لأنّ إخباره عن الحكم ليس حسيا بل هو حدسي واجتهادي مبني على نظره واستنتاجه واستنباطه ، فلا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة المستفادة من الآيات والروايات والسيرة. نعم ، يمكن القول بحجيّة قول المجتهد على مجتهد آخر لأدلة الحكومة والولاية ، فإنّ حكم الحاكم نافذ حتّى على حاكم آخر ، بمقتضى الأدلّة الخاصّة في المقام ، وليس بمقتضى أدلة حجيّة خبر الثقة.

ويستثنى أيضا من عدم الحجيّة مقلّدوه ، فإنّ قول المجتهد حجّة على مقلّديه ، ولكن لا من باب حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّه خبر حدسي ، وإنّما من باب الأدلّة الخاصّة الدالة على وجوب التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم كآية الذكر والسيرة العقلائيّة والمتشرعية وحكم العقل.

ومن أجل ذلك يقال بأنّ الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء على الفتوى فأخبر بقول المعصوم استنادا إلى اتفاق ذلك العدد لم يكن إخباره حجّة في إثبات قول المعصوم ، لأنّه ليس إخبارا حسّيا عنه ، وإنّما يكون حجّة في إثبات اتفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى - إذا لم يعلم منه التسامح عادة في مثل ذلك - لأنّ إخباره عن اتفاق هذا العدد حسي ، فإنّ كان اتفاق هذا العدد يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه وإلا فلا.

ص: 286

ويترتّب على ما ذكرنا من أنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص بالخبر الحسي لا الحدسي.

مسألة أخرى ، وهي : أنّه إذا اكتشف شخص من خلال استنتاجه ونظره واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتفاق عدد معيّن من العلماء أقل من الإجماع على فتوى ما ، فأخبرنا بقول المعصوم بذلك مستندا في إخباره عن قول المعصوم إلى اتفاق هذا العدد المعيّن من العلماء ، فهل يكون إخباره هذا حجّة أم لا؟

الصحيح أنّ مثل هذا الإخبار لا يكون حجّة ولا تشمله أدلة حجيّة خبر الثقة ، لأنّ إخباره بقول المعصوم لم يكن مستندا إلى الحس أو إلى شيء من لوازم وآثار الحس ، وإنّما كان مستندا إلى الاجتهاد والنظر والحدس ولذلك لا يكون داخلا في موضوع أدلة حجيّة خبر الثقة ، فلا يقبل قوله هذا.

نعم يقبل قوله في وجود هذا الاتفاق ، فإنّ إخباره عن قول المعصوم كان مستندا إلى ما رآه من اتفاق هذا العدد المعيّن على الفتوى فيكون هناك إخباران في الحقيقة ، الأوّل لم يثبت وهو قول المعصوم ؛ لأنّه مستند إلى الحدس ، والآخر وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على الفتوى بالحكم ، وهذا الإخبار مستند إلى الحس ، لأنّه تتبع ونظر أو سمع هذه الآراء ، فمستند الاتفاق المذكور حسي ، ولذلك يقبل قوله فيه ، بشرط ألا يكون متسامحا بدعوى الاتفاق كبعض العلماء الذين كانوا يدّعون الإجماعات على كثير من الفتاوى مع وجود المخالف لها ، أو مع وجود الإجماع المعارض في نفس الزمان.

وحينئذ يثبت وجود اتفاق من عدد معيّن من العلماء على هذه الفتوى ، وأمّا أنّ هذا الاتفاق هل هو حجّة وكاشف عن الحكم الشرعي بنظرنا أم ليس كذلك؟ فهذا بحث آخر ، ولذلك فإنّ كان هذا الاتفاق يفيدنا العلم أو الوثوق فيؤخذ به من باب حجيّة العلم والاطمئنان الشخصي ، وإن لم يفدنا ذلك لم يكن حجّة وكاشفا عن الحكم ، ولا قيمة له أصلا.

وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّه كان يقال عادة : إنّ نقل الإجماع حجّة في إثبات الحكم الشرعي ، لأنّه نقل بالمعنى لقول المعصوم وإخبار عنه.

ص: 287

وقد اعترض على ذلك المحققون المتأخرون بأنّه ليس نقلا حسّيا لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسي مبني على ما يراه الناقل من كشف اتفاق الفتاوى التي لاحظها عن قول المعصوم فلا يكون حجّة في إثبات قول المعصوم بل في إثبات تلك الفتاوى فقط.

الإجماع المنقول : وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّ الإجماع المنقول هو الإجماع الذي ينقله أحد العلماء كالشيخ وغيره ، بأنّه يوجد إجماع على هذا الحكم ، فهل يكون هذا الإجماع المنقول بخبر الثقة حجّة أم لا؟

المتقدّمون من العلماء يرون حجيّة مثل هذا الإجماع المنقول ، كالإجماع المحصّل بالتتبع والاستقراء ، غاية الأمر أنّ الإجماع المحصّل يقوم به الشخص بنفسه فيحصل على اكتشاف الحكم الشرعي من خلال اتفاق العلماء المجمعين على أساس أنّ لازم اتفاقهم على الحكم وجود المعصوم وموافقته لهم بحكم قاعدة اللطف وغيرها ، كما تقدّم سابقا.

بينما الإجماع المنقول يقوم به الغير وينقله إلينا ، والمفروض كونه ثقة لا يكذب في ذلك ، فيثبت مفاده إلينا أيضا ؛ وذلك لأنّ مفادهما واحد وهو الإخبار عن قول المعصوم بالمعنى لا باللفظ ، فإذا كان الإجماع المحصّل حجّة لقيام الشخص به مباشرة مع أنّه لا يثبت أكثر من دخول قول المعصوم ضمن المجمعين استنادا للأدلة المذكورة في محلّه كان الإجماع المنقول حجّة لقيام الثقة به وإخباره بذلك.

إلا أنّ المتأخّرين اعترضوا على ذلك - كما هو الصحيح - فإنّ أدلة حجيّة خبر الثقة تختص في الإخبارات المستندة إلى الحسّ ، ولا تشمل الإخبارات المستندة إلى الحدس ، ولذلك لا يكون الإجماع المنقول حجّة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وعن قول المعصوم ، بخلاف الإجماع المحصّل وذلك للفرق بينهما ، فإنّ الإجماع المحصّل ثابت للشخص بالحس بينما الإجماع المنقول ثابت للشخص المنقول إليه بالحدس ، ولذلك لا يكون مشمولا لأدلة الحجيّة ؛ لأنّه يعتمد على نظر واستنتاج الشخص المتتبع لآراء العلماء وقد يخطأ بنظرنا في استنتاج الإجماع.

نعم ، يمكن إثبات هذا الاتفاق المذكور فإنّ إخباره عن إجماع العلماء على الحكم ثابت لديه بالحسّ بخلاف إخباره عن قول المعصوم ، ولذلك يفصل بينهما

ص: 288

فيقبل إخباره عن وجود مثل هذا الاتفاق ، ولكن لا يقبل إخباره عن وجود قول المعصوم.

وحينئذ لا بدّ لنا من ملاحظة هذه الفتاوى وأنّها توجب لدينا الاطمئنان والوثوق الشخصي بدخول المعصوم ضمن المجمعين ، أو أنّها لا توجب ذلك؟ وهذا بحث صغروي يختلف من شخص لآخر.

* * *

ص: 289

ص: 290

حجيّة الخبر مع الواسطة

ص: 291

ص: 292

حجيّة الخبر مع الواسطة

ولا شكّ في أنّ حجيّة الخبر تتقوّم بركنين :

أحدهما بمثابة الموضوع لها وهو نفس الخبر.

والآخر بمثابة الشرط وهو وجود أثر شرعي لمدلول الخبر ، لوضوح أنّه اذا لم يكن لمدلوله أثر كذلك فلا معنى للتعبّد به وجعل الحجيّة له ، والحجيّة متأخّرة رتبة عن الخبر تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعن افتراض أثر شرعي لمدلول الخبر تأخّر المشروط عن شرطه.

كان هذا البحث يذكر عادة في ذيل الكلام حول آية النبأ ، إلا أنّه لا ربط له بالآية بنحو يجعلنا نذكره هناك ، ولذلك أفرده السيّد الشهيد جانبا ، لأنّه بحث كلّي مرتبط بالدائرة والحدود ومعنى حجيّة خبر الثقة بعد الفراغ عن ثبوتها ، ولذلك جعلها في المرحلة الثانية أولى وأحسن من بحثه في المرحلة الأولى.

وعلى هذا فنقول : إنّ حجيّة خبر الثقة تتقوّم بركنين أساسيين هما :

الأوّل : أن يكون هناك خبر ثقة ، لأنّه بمثابة الموضوع ، والحجيّة حكم.

ومن الواضح : أنّ جعل الحجيّة على خبر الثقة يفترض أوّلا ثبوت وتصوّر خبر الثقة ثمّ بعد ذلك تثبت أو تنفى عنه الحجيّة ، وأمّا إذا لم نفترض وجود خبر الثقة فلا معنى للبحث عن حجيّته ثبوتا أو نفيا.

الثاني : أن يكون هناك أثر شرعي لمدلول الخبر يمكن التعبد به شرعا.

وهذا الركن بمثابة الشرط ؛ بمعنى أنّه يشترط في حجيّة خبر الثقة أن يكون لهذا الخبر أثر يمكن للشارع أن يتعبّدنا به ، إذ لا معنى لأنّ يجعل الشارع الحجيّة لخبر لا أثر له شرعا ، ولا يترتب على مفاده ومدلوله شيء من الآثار الشرعيّة ، لأنّ جعل الحجيّة ولزوم التعبد بمفاد الخبر إنّما يكون فيما إذا كان لجاعل الحجيّة آثار وأحكام يمكن أن

ص: 293

تترتب على هذا الخبر ، وإلا لم يكن هناك فائدة في لزوم التعبد بمثل هذا الخبر ما دام يحكي عن آثار ولوازم ليس للجاعل حق التدخل فيها سلبا أو إيجابا.

ثمّ إنّ الحجيّة المجعولة شرعا متأخّرة رتبة عن الخبر وعن افتراض الأثر الشرعي أيضا.

أمّا تأخر الحجيّة عن الخبر فلأنّ المفروض أنّ الخبر بمثابة الموضوع للحجيّة ، والموضوع متقدم على حكمه ولو رتبة ، بمعنى أنّه يثبت الموضوع أوّلا ثمّ يثبت الحكم ثانيا ، فالحكم متأخر عن موضوعه دائما ، والحجيّة بما أنّها حكم موضوعه الخبر فيجب تأخرها عنه تأخر الحكم عن موضوعه ؛ إذ لا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع ، لأنّه يكون حكما على شيء مجهول أو غير موجود ، وكلاهما باطل.

وأمّا تأخر الحجيّة عن افتراض الأثر الشرعي ، فلأن المفروض أنّ الأثر شرط لهذه الحجيّة وهي مشروطة به.

ومن الواضح أنّ الشرط يثبت أوّلا ثمّ يثبت المشروط ، ولا يعقل أن يثبت المشروط ثمّ بعد ذلك يثبت شرطه ؛ إذ هو مخالف لطبيعة العلاقة التكوينيّة والسببية بين الشرط ومشروطه ، فما دامت الحجيّة مشروطة بوجود الأثر في الخبر المراد التعبد بحجيّته فلا بد من افتراض وجود هذا الأثر أوّلا ليكون الخبر حجّة. نعم ، تحقّق الأثر في الخارج يكون بعد الالتزام والعمل والتعبد بالخبر ، إلا أن الكلام في أصل جعل الحجيّة في عالم التصوّر والثبوت فلا بد حينئذ من تصوّر هذا الأثر لتجعل الحجيّة بعد ذلك.

وعلى هذا الأساس قد يستشكل في شمول دليل الحجيّة للخبر مع الواسطة ، وتوضيح ذلك :

إنا إذا سمعنا زرارة ينقل عن الإمام أنّ السورة واجبة ، أمكننا التمسّك بدليل الحجيّة بدون شكّ ، لأنّ كلا الركنين ثابت ، فإنّ خبر زرارة ثابت لدينا وجدانا بحسب الفرض ، ومدلوله ذو أثر شرعي لأنّه يتحدث عن وجوب السورة ، وأمّا إذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور فقد يتبادر إلى الذهن أنّنا نتمسّك بدليل الحجيّة أيضا ، وذلك بتطبيقه على الشخص الناقل عن زرارة أوّلا ، فإنّ إخباره ثابت لنا وجدانا وعن طريق حجيّته ثبت لدينا خبر زرارة كما لو كنّا سمعنا منه ، وحينئذ نطبّق دليل الحجيّة على خبر زرارة لإثبات كلام الإمام.

ص: 294

ثمّ إنّ هذين الركنين يثبتان فيما إذا كان الخبر مباشرا عن المعصوم ، فإذا أخبرنا زرارة بأنّ الإمام حكم بوجوب السورة فهنا نتمسّك بدليل حجيّة خبر الثقة ؛ لأنّ الركن الأوّل وهو ثبوت الخبر محرز وجدانا ، لأنّ المفروض أنّ زرارة يخبرنا مباشرة ، فخبره ثابت لنا بالسماع منه مباشرة. هذا طبعا إنّما يتمّ في صورة المعاصرة.

والركن الثاني أيضا ثابت لأنّ مدلول ومفاد خبر زرارة عبارة عن أثر شرعي وهو وجوب السورة في المثال ، وعلى هذا نطبق دليل الحجيّة لأنّ موضوعه وشرطه ثابتان ، وبالتالي يثبت لنا تعبدا هذا الحكم الشرعي استنادا إلى دليل الحجيّة.

وأمّا إذا وصل إلينا خبر زرارة عن طريق نقله في كتب الأحاديث والأخبار ، كما لو أخبر شخص بأنّ زرارة أخبر بوجوب السورة ، وأنّ الإمام حكم بوجوبها ، فهنا هل يمكننا تطبيق دليل الحجيّة على هذا الخبر مع الواسطة أم لا؟

قد يتبادر إلى الذهن أنّنا نطبّق دليل الحجيّة في هذا الفرض أيضا ؛ وذلك لأنّنا إذا طبقنا دليل الحجيّة على الواسطة باعتباره ثابتا لنا بالوجدان ، فإنّ إخبار هذا الشخص ثابت في الفرض المذكور وهو خبر ثقة ، فنطبق عليه دليل حجيّة خبر الثقة ، وبذلك نحرز تعبدا مفاده ومدلوله ؛ وحيث إنّ مفاده هو أنّ زرارة يحكي أنّ الإمام قد أوجب السورة فيكون خبر زرارة ثابتا لدينا أيضا ، والمفروض وجود أثر شرعي لخبره فيتم كلا الركنين.

غاية الأمر أنّه يوجد فرق بين الفرضين ، وهو أنّه في الفرض الأوّل كان خبر زرارة ثابتا لنا وجدانا وله مدلول شرعي بينما في الفرض الثاني كان خبر زرارة ثابتا لدينا بالتعبد والمفروض أنّه ذو أثر شرعي أيضا.

ومجرّد كون ثبوت خبر زرارة وجدانيا في الأوّل وتعبديّا في الثاني لا يعتبر فرقا بين الصورتين ليكون مانعا من تطبيق دليل الحجيّة على الفرض الثاني دون الأوّل ، لأنّه في كلتا الحالتين يثبت لنا أنّ زرارة قد أخبر بوجوب السورة عن الإمام ، إما وجدانا وإما تعبدا ، والثبوت التعبّدي كالوجداني بناء على مسلك القوم في تفسير الحجيّة المجعولة شرعا.

ولا يخفى أنّ هذا التبادر صحيح لقيام السيرة على الأخذ بالخبر مع الواسطة سواء من المتشرّعة أو من العقلاء على مرأى ومسمع من المعصوم ، والحال أنّه سكت عن ذلك ولم يردع فيدل على حجيّة مثل هذا الخبر.

ص: 295

إلا أنّ هذا التبادر يواجه مشكلة لا بدّ من حلّها وإلا فيكون مانعا من الأخذ به ، وتوضيح ذلك :

ولكن قد استشكل في ذلك وقيل بأنّ تطبيق دليل الحجيّة على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة بتقريبين :

الأوّل : أنّه يلزم منه إثبات الحكم لموضوعه ، مع أنّ الحكم متأخّر رتبة عن موضوعه ؛ وذلك لأنّ خبر زرارة لم يثبت إلا بلحاظ دليل الحجيّة مع أنّه موضوع للحجيّة المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى إثبات الحكم لموضوعه.

التقريب الأوّل : أنّ القول بحجيّة الخبر مع الواسطة محال ؛ لأنّه يلزم منه محذوران لا يمكن الالتزام بهما. وفي الحقيقة أنّ كلا الركنين المفروضين في دليل الحجيّة من ثبوت الموضوع أوّلا ووجود الشرط ثانيا لا يتحققان في مقامنا.

وبيان ذلك : لو قيل بتطبيق دليل الحجيّة على الخبر مع الواسطة للزم منه :

أوّلا : محذور اتحاد الحكم مع موضوعه ، أو كون الحكم موجدا ومثبتا لموضوعه وهو محال ؛ لأنّ الموضوع متقدم على الحكم والحكم متأخر عنه ، ولذلك يستحيل اتحادهما معا أو كون أحدهما مثبتا للآخر.

وتوضيح ذلك بأن يقال : إنّ خبر زرارة المنقول بالواسطة إنّما يثبت لنا بعد تطبيق دليل الحجيّة على الواسطة ، وحيث إنّ زرارة خبره ثقة ، فلكي يثبت مفاده لا بدّ من تطبيق دليل الحجيّة عليه أيضا ، وهذا معناه أنّ خبر زرارة قد ثبت ووجد بدليل الحجيّة وهو مع ذلك موضوع لدليل الحجيّة ، وهذا الأمر لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ كونه موجودا بدليل الحجيّة لازمه أن دليل الحجيّة متقدّم عليه وهو متأخر عنه ، بينما كونه موضوعا لدليل الحجيّة لازمه أنّه متقدم عليه ، ودليل الحجيّة متأخّر عنه ، وهذا خلف ودور.

ومن جهة أخرى : أنّ تطبيق دليل الحجيّة متوقف على ثبوت الخبر أوّلا ، لأنّه موضوعه والحكم متأخر عن موضوعه ، فإذا كان خبر زرارة ثابتا بدليل الحجيّة كان معناه أنّ دليل الحجيّة أثبت موضوعه وهو محال ، لأنّ الحكم متأخر عن موضوعه فكيف يثبته؟!

ومن جهة ثالثة : أنّ دليل الحجيّة الذي نريد تطبيقه على خبر زرارة متوقف على

ص: 296

تطبيق دليل الحجيّة أوّلا على خبر الواسطة ، وهذا معناه أنّ دليل الحجيّة متوقف على نفسه أو متحد مع موضوعه ؛ لأنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بدليل الحجيّة ، والمفروض أنّ دليل الحجيّة نريد تطبيقه على خبر زرارة أيضا ، فكان دليل الحجيّة ثابتا قبل خبر زرارة وبعده أيضا ، فكان متقدما على موضوعه ومتأخرا عنه كذلك.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الحجيّة يراد تطبيقه على الخبر الناقل لقول المعصوم ، وهو خبر زرارة ، والحال أنّ خبر زرارة لا يثبت إلا بتطبيق دليل الحجيّة أوّلا ، فكان لازم ذلك أنّ دليل الحجيّة يثبت ويوجد خبر زرارة الذي هو موضوع لتطبيق دليل الحجيّة ، فكان الحكم متحدا وموجدا لموضوعه ، أو كان متأخرا ومتقدما أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل غير تام ؛ لأنّ الموضوع قد اتحد مع الحكم ، ومع اتحاده كذلك يكون جعل الحجيّة للموضوع لغوا ، لأنّه ما دام الموضوع والحجيّة شيئا واحدا فيلغو جعل الحجيّة للخبر مجدّدا ، لأنّ المفروض ثبوتها بثبوت الموضوع أولا.

الثاني : أنّه يلزم منه اتحاد الحكم مع شرطه على الرغم من تأخر الحكم رتبة عن شرطه ، وذلك لأنّ حجيّة خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود أثر شرعي لما ينقله هذا الناقل ، وهو إنّما ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعا لخبر زرارة إلا الحجيّة ، فقد صارت الحجيّة محقّقة لشرط نفسها.

التقريب الثاني : راجع إلى الركن الثاني الذي يفترض وجود أثر شرعي للخبر ، من أجل تطبيق دليل الحجيّة عليه.

وهذا المحذور يبرز لنا اتحاد الشرط مع المشروط ، مع أنّ الشرط يجب أن يكون مغايرا للمشروط ، ويثبت لنا أنّ المشروط يوجد الشرط مع أنّ المشروط متوقف على الشرط فكيف يوجده؟!

وبيان ذلك : أنّنا لو قلنا بحجيّة الخبر مع الواسطة لزم من ذلك اتحاد الشرط مع الحكم ، أي مع المشروط وهو الحجيّة ؛ وذلك لأنّنا قلنا في الركن الثاني : إنّ شرط تطبيق الحجيّة على خبر الثقة هو وجود أثر شرعي لهذا الخبر لكي يتعبّدنا الشارع به ، فإذا طبقنا دليل الحجيّة على خبر الناقل لزم أن يكون لخبره أثر شرعي وإلا فلا يصحّ التعبد به ، وبما أنّ مفاد خبر الناقل هو أنّ زرارة أخبر بقول المعصوم فيثبت لنا إخبار زرارة ، وحينئذ لا بدّ أن يكون لخبر زرارة أثر شرعي ليتم دليل الحجيّة في خبر الناقل

ص: 297

المشروط بوجود هذا الأثر ، والحال أنّ الأثر الشرعي لخبر زرارة ليس إلا التعبّد لحجيته فقط ؛ إذ لا أثر شرعا للخبر إلا كونه حجّة ، وأمّا الحكم الشرعي فهو أثر شرعي لحجيّة خبر زرارة لا لنفس خبر زرارة.

وحينئذ نقول : إنّ دليل الحجيّة كان أثره هنا الحجيّة التعبديّة لخبر زرارة ، وهذا معناه أنّ الحكم والمشروط الذي هو دليل الحجيّة كان أثره وشرطه هو التعبد بدليل الحجيّة فلزم اتحاد الشرط مع المشروط ، والحكم مع الأثر وهو محال ؛ لأنّ المفروض هو التغاير بين الحكم والأثر والشرط والمشروط.

ويلزم أيضا أن يكون الحكم موجدا ومثبتا لأثره ؛ لأنّ دليل الحجيّة الذي هو المشروط والحكم بعد تطبيقه على خبر الناقل يثبت به خبر زرارة الذي أثره تطبيق دليل الحجيّة ، فكان دليل الحجيّة مثبتا وموجدا لدليل الحجيّة أيضا.

وجواب كلا التقريبين : إنّ حجيّة الخبر مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة على موضوعها وشرطها المقدّر الوجود ، وفعلية الحجيّة المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدّر ، وتعدد الحجيّة الفعليّة بتعدّدهما ، كما هو الشأن في سائر الأحكام المجعولة على هذا النحو.

والجواب عن هذين الإشكالين : إنّ الحجيّة المجعولة لخبر الثقة كغيرها من الأحكام مجعولة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفرض فيها الموضوع ويقدر فيكون مفادها أنّه إذا وجد خبر الثقة فهو حجّة ، فالحجيّة متوقفة على فرض وجود خبر الثقة ؛ بمعنى أنّه في الخارج كلما وجد خبر ثقة يكون حجّة ، وهذا معناه أنّ فعلية هذه الحجيّة المجعولة في الخارج إنّما تكون بفعلية موضوعها أو شرطها ، أي بوجود خبر ثقة في الخارج ، ولذلك فإنّ هذه الحجيّة تتعدد وتتكثر في الخارج تبعا لتعدد وتكثر الموضوع وتحقّق الشرط.

فإذا كان هناك مائة ثقة في الخارج كان هناك مائة حجيّة لكل خبر حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر.

وبذلك يندفع كلا المحذورين ، لأنّ الحجيّة التي هي حكم ومشروط إنّما تكون متأخّرة عن الموضوع والشرط المقدر الوجود أي أنّها على تقدير ثبوت وتحقّق الموضوع والشرط تثبت الحجيّة فهي متأخّرة رتبة عنهما.

ص: 298

وأمّا الوجود الفعلي الخارجي للحجيّة فهو مرتبط بوجود الخبر في الخارج ، ولذلك يحصل التقدم والتأخر في ثبوت الحجيّة والخبر في الخارج ، ولا يلزم من ذلك أي محذور ، لأنّ الحجيّة الثابتة في الخارج غير الحجيّة التي لم تثبت بعد وليست نفسها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وعليه فنقول : إنّه توجد في المقام حجيتان : الأولى حجيّة خبر الناقل عن زرارة ، والثانية حجيّة خبر زرارة.

وما هو الموضوع للحجيّة الثانية وهو خبر زرارة لم يثبت بالحجيّة الثانية بل بالحجيّة الأولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الأوّل ، كما أنّ الشرط المصحح للحجيّة الأولى وهو الأثر الشرعي يتمثل في الحجيّة الثانية لا في الحجيّة الأولى فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الثاني.

بيان رفع المحذورين : أنّ الخبر مع الواسطة معناه وجود خبرين : أحدهما خبر الناقل والآخر خبر زرارة ، ولكل من هذين الخبرين حجيّة مستقلّة عن حجيّة الآخر ، لما ذكرناه من أنّ الحجيّة تتعدّد في الخارج بتعدّد موضوعها أو شرطها. فللناقل حجيّة ولخبر زرارة حجيّة أيضا.

وحينئذ نقول : إنّ حجيّة خبر الناقل موضوعها خبر الناقل نفسه ، وحجيّة خبر زرارة موضوعها خبر زرارة لا حجيّة خبر الناقل ، وخبر زرارة الذي هو موضوع لحجيّة مستقلّة ثبت لدينا بحجيّة خبر الناقل لا بالحجيّة المجعولة له على تقدير ثبوته ؛ ولذلك لم يكن الحكم متحدا أو موجدا لموضوعه ، بل هما مختلفان ومتغايران ، فإنّ الحكم هو الحجيّة الأولى وما يوجد بها هو خبر زرارة وحكمه هو الحجيّة الثانية لا نفس الحجيّة الأولى.

وكذلك لم يكن الحكم متحدا مع شرطه وأثره لأنّ أثر الحجيّة الأولى هو التعبد بثبوت خبر زرارة الذي أثره الشرعي ثبوت الحجيّة له إلا أنّ هذا الأثر الشرعي هو الحجيّة الثانية المترتبة على خبر زرارة لا الحجيّة الأولى الثابتة لخبر الناقل ، فاختلف الأثران.

وبتعبير آخر : أنّ الحجيّة التي هي حكم إنّما هي حجيّة خبر الناقل ، والحجيّة التي هي أثر شرعي إنّما هي الحجيّة الثانية ، والموضوع الذي هو موضوع للحجيّة الأولى هو خبر الناقل ، بينما الموضوع للحجيّة الثانية هو خبر زرارة.

ص: 299

والأثر للحجيّة الأولى هو التعبّد بثبوت خبر زرارة وكونه حجّة ، بينما الأثر للحجيّة الثانية هو التعبد بثبوت قول المعصوم وكون الحكم الذي يحكيه حجّة ، ولذلك لم يتحد ولم يتداخل أحدهما بالآخر لا موضوعا ولا أثرا ولا حكما.

والوجه في ذلك : هو أنّ فعلية حجيّة خبر زرارة متوقفة على الحجيّة الفعليّة لخبر الناقل ، وهذا يعني أنّ ثبوت الحجيّة الخارجيّة لخبر الناقل هو الذي تتوقّف عليه فعلية الحجيّة لخبر زرارة ، وأمّا نفس حجيّة خبر زرارة الثانية فهي ثابتة بالفرض والتقدير ، لأنّها مصداق للحجيّة المجعولة لخبر الثقة مطلقا بنحو القضيّة الحقيقيّة المقدّرة الموضوع.

وفرق بين الحجيّة الخارجيّة الفعليّة وبين الحجيّة الثانية ، فإنّ الأولى متوقفة على تحقّق قيودها وشروطها في الخارج ، بينما الثانية لا تتوقّف إلا على فرض وتقدير وجود هذه القيود والشروط وتصوّرها ذهنا ، ولذلك لا يحصل الاتحاد أصلا (1).

ص: 300


1- مضافا إلى وقوع نظير ذلك في كثير من الموارد الفقهية كالشهادة على الشهادة والإقرار على الإقرار ونحو ذلك. على أنّه بالإمكان القول : أنّ كل واحد من الخبرين موضوع مستقل للحجيّة ، بمعنى أنّه يلاحظ كل خبر وحده كما لو كان مستقلا ، فخبر الناقل لو لوحظ بنفسه فهو خبر ثقة فهو حجّة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو إخبار زرارة ، وهو ثقة يجب تصديقه والعمل بمضمونه ، ومضمونه هو ثبوت قول المعصوم والحكم الشرعي ، فيتم المطلوب. كما إنّه بالإمكان دفع الإشكال بالقول : أنّ الحكم الشرعي الذي يحكي عنه الخبر مع الواسطة إنّما يثبت لنا فيما إذا لم يكذب زرارة ولم يكذب الناقل ، وهذا معناه أنّه توجد قضيّة شرطية مفادها أنّه إذا لم يكذب المخبر فالحكم ثابت ، فإذا أمكن إثبات تحقّق الشرط فيثبت الجزاء ، وهنا إذا طبقنا دليل حجيّة خبر الثقة على كلا المخبرين باعتبار وثاقتهما ثبت لدينا الشرط وهو أنّ المخبرين لم يكذبا ، فيثبت الجزاء وهو ثبوت الحكم وهو المطلوب.
قاعدة التسامح في أدلة السّنن
اشارة

ص: 301

ص: 302

قاعدة التسامح في أدلة السّنن

ذكرنا أنّ موضوع الحجيّة ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة ، على تفصيلات متقدّمة ، ولكن قد يقال في خصوص باب المستحبات أو الأحكام غير الإلزامية عموما : إنّ موضوع الحجيّة مطلق الخبر ولو كان ضعيفا استنادا إلى روايات دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبيّ لم يقله ، كصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه ».

بدعوى أنّ هذه الروايات تجعل الحجيّة لمطلق البلوغ في موارد المستحبات.

تقدّم أنّ موضوع حجيّة الخبر خصوص خبر الثقة لا مطلق الخبر ، وهذا معناه أنّ خبر غير الثقة ليس بحجّة شرعا ، ولا يجوز العمل به والتعويل على مفاده والأخذ بالحكم الذي يحكيه ؛ لأنّه يكون تشريعا باطلا ومذموما.

كما وأنّه تقدّمت بعض التفصيلات لهذه الحجيّة وكونها مختصّة بالخبر الذي يحكي حكما أو موضوعا لحكم ونحو ذلك ، إلا أنّه قد يقال بأنّه في خصوص باب المستحبات يجوز العمل بخبر غير الثقة ؛ بمعنى أن موضوع حجيّة الخبر في خصوص هذا المقام أعم من خبر الثقة وغير الثقة ، فحتى خبر الضعيف يعتبر حجّة إذا كان مفاده استحباب شيء.

ويدلّ على ذلك بعض الأخبار والروايات الدالة على أنّ من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله كان له أجره وإن لم يكن هذا الثواب صادرا من الشارع واقعا ، كما في صحيحة هشام بن سالم المذكورة في المتن ، فإنها تدلّ على أن بلوغ الثواب على عمل ما عن طريق خبر المخبر بأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قال ذلك فقام

ص: 303

الشخص المنقول إليه هذا الخبر بفعل ذلك العمل فيكون مستحقا لهذا الثواب حتّى وان لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قاله.

بل قد يقال أكثر من ذلك : ويدعى أنّه لو كان هناك خبر ضعيف غير ثقة يحكي عن المكروه لكان ذلك حجّة أيضا ؛ لأنّ في ترك المكروه ثوابا أيضا ، فيكون المدعى أنّ مطلق الإخبار عن حكم غير إلزامي حجّة ولو كان المخبر غير ثقة استنادا إلى هذه الروايات التي تسمّى بأخبار ( من بلغ ).

ولهذا اشتهر بينهم ما يسمّى ب- ( قاعدة التسامح في أدلة السنن ) ، بمعنى أنّه لا يشترط في الخبر الذي يحكي عن الاستحباب أو الكراهة أن يكون رواية ثقة بل هو حجّة مطلقا.

والتحقيق أنّ هذه الروايات فيها - بدوا - أربعة احتمالات :

الأوّل : أن تكون في مقام جعل الحجيّة لمطلق البلوغ.

الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق البلوغ بوصفه عنوانا ثانويا.

الثالث : أن تكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلا.

والتحقيق في هذه الروايات : أنّها وإن كانت تامّة السند ، فإنّ بعضها صحيح السند فلا نقاش لنا في صدورها ، إلا أنّ دلالتها على القاعدة المذكورة ليست تامّة.

ولتوضيح الحال نذكر الاحتمالات المتصورة في هذه الرواية من حيث مضمونها :

الاحتمال الأوّل : أن تكون هذه الرواية وغيرها في مقام جعل الحجيّة الظاهرية التعبديّة على عنوان البلوغ مطلقا ، بمعنى أنّه بمجرّد تحقّق هذا العنوان يثبت للخبر الحجيّة ، فيكون مفادها جعل الحجيّة لخصوص الأخبار التي تخبر عن الثواب فكلّ من يبلغه شيء من الثواب على عمل فهذا البلوغ حجّة ، سواء كان المخبر به ثقة أم غير ثقة ، فيكون لسانها جعل حكم ظاهري وهو الحجيّة على عنوان البلوغ من أجل التحفظ على الملاكات الواقعيّة للاستحباب الواقعي كما هو شأن الأحكام الظاهرية.

ص: 304

الاحتمال الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحباب واقعي نفسي على طبق عنوان البلوغ ، أي أنّه بمجرّد أن يتحقّق هذا العنوان فإنّه يكون الفعل مستحبا واقعا وفي نفسه لا مجرّد استحباب ظاهري طريقي حفاظا على ملاكات الواقع ، بل استحباب نفسي حقيقي مجعول شرعا على عنوان البلوغ باعتباره عنوانا ثانويا ، فالعنوان الأولي للشيء الذي بلغنا عليه الثواب قد لا يكون هو الاستحباب ؛ لأنّ هذا الخبر ضعيف وغير ثقة فقد يكون كاذبا ، وبالتالي لا يكون ما أخبر به ثابتا في الواقع ، إلا أنّه لمّا تحقّق عنوان البلوغ صار لهذا الشيء حكم ثانوي آخر وهو الاستحباب مجعول على عنوان البلوغ.

الاحتمال الثالث : أن تكون هذه الروايات مفادها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط ، وأنّ المحتاط يستحق الثواب بحكم العقل ؛ وذلك لأنّه لا شكّ في أنّ الاحتياط حسن على كل حال ، إذ العقل يحكم بحسنه ، بل بوجوبه في كثير من الموارد تحفظا على أحكام الشارع ورعاية لحقه ولمولويته والتزاما بطاعته ، فالعقل يرى حسن الاحتياط ، وأنّ من يفعل شيئا احتياطا يكون مستحقا للثواب ؛ لأنّه كالمنقاد الذي يحترم حدود المولى ويحافظ على طاعته والالتزام بكل تكاليفه وتشريعاته ، فيما أنّ العقل يرى ذلك فتكون هذه الروايات إرشادا إلى هذا المطلب ، وأنّ ما حكم به العقل صحيح ومؤيد من الشارع أيضا ، وهذا ما ذهب إليه السيّد الخوئي.

الاحتمال الرابع : أن تكون وعدا مولويا لمصلحة في نفس الوعد ، بمعنى أنّ هناك وعدا من الشارع لمن بلغه الثواب على هذا العمل فعمله ، لكنّه لم يكن ثابتا في الواقع ، بأنّه إذا فعل ذلك فإنّ الشارع سوف يعطيه مثل هذا الثواب الذي وصله وبلغه ، ومن المعلوم أنّ الشارع إذا وعد بشيء وفى به.

وهذا الوعد كان من أجل مصلحة رآها الشارع ولعلها احترام النبيّ وتعظيم أقواله أو الاحتياط في الالتزام بكل ما يسمعه الشخص أو ينقل إليه عن النبيّ لأنّ الالتزام بأقواله كلّها يحافظ على الأقوال الصادرة منه واقعا ، فيكون لهذا الوعد فائدة كبرى من هذه الناحية ، وبالتالي يكون الموعود له مطيعا لله وللرسول ومستحقا للثواب على ذلك.

والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح ، فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي في عدم تضمنه إعمال المولوية بوجه ، والاحتمالان

ص: 305

الأخيران يختلفان عن الأولين في عدم تضمنهما جعل الحكم ، ويختلف الأوّل عن الثاني - مع اشتراكهما في جعل الحكم - في أنّ الحكم المجعول على الأوّل ظاهري وعلى الثاني واقعي.

الفارق بين هذه الاحتمالات :

ويوجد بين هذه الاحتمالات فوارق نظرية وأخرى عملية ، أمّا الفوارق النظرية فهي إنّنا ذكرنا : أنّ الاحتمال الأوّل فيه حكم مجعول من الشارع وهو جعل الحجيّة التي هي حكم ظاهري طريقي.

بينما الاحتمال الثاني فيه حكم مجعول من الشارع أيضا ، ولكنّه جعل الاستحباب النفسي الواقعي الثانوي.

والاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط ، فليس فيه أي إعمال للمولوية من الشارع.

والاحتمال الرابع عبارة عن وعد من الشارع ، ولكنّه لا يوجد فيه حكم مجعول لا ظاهري ولا واقعي ، وإنّما مجرّد وعد على إعطاء الثواب للمحتاط.

وبهذا نخلص بنتيجة وهي : أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني فيهما حكم مجعول ، بخلاف الاحتمالين الثالث والرابع.

وأنّ الاحتمال الأوّل الحكم المجعول فيه ظاهري طريقي بينما الاحتمال الثاني الحكم المجعول فيه واقعي ثانوي.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو إرشاد محض من دون إعمال للمولوية بينما الاحتمال الرابع فيه وعد مضافا إلى الإرشاد إلى حكم العقل.

وأمّا الأثر العملي لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضا ؛ إذ لا يبرّر الاحتمالان الأخيران الإفتاء بالاستحباب بينما يبرّر الاحتمالان الاوّلان ذلك.

وأمّا الفوارق العمليّة بين هذه الاحتمالات فهي : أنّ الاحتمالين الأوّلين كما ذكرنا فيهما حكم مجعول من الشارع ، ولذلك يجوز إسناد هذا الحكم إلى الشارع والإفتاء بمضمونه باعتبار أنّه حكم شرعي ، ولذلك يجوز للمفتي أن يفتي بالاستحباب إما ظاهرا بناء على جعل الحجيّة لمطلق البلوغ ، وإما واقعا بناء على جعل حكم واقعي نفسي ثانوي على عنوان البلوغ.

ص: 306

بينما على الاحتمالين الأخيرين لا يجوز للمفتي الإفتاء بالاستحباب ؛ وذلك لأنّ الاحتمال الثالث ليس إلا إرشادا لحكم العقل بحسن الاحتياط وليس فيه أيّ شيء من شئون المولوية ، والاحتمال الرابع وإن كان فيه وعد مولوي إلا أنّه ليس حكما أيضا ، فالإفتاء بالاستحباب على أساسها لا مبرّر له ، إذ لا يوجد دليل شرعي على ذلك لا ظاهري ولا واقعي فيكون إفتاء من دون علم وهو تشريع باطل.

يبقى الكلام في أنّه هل توجد ثمرات عمليّة بين القولين الأولين ، أو بين القولين الأخيرين أم لا يوجد فيهما أثر عمليّا؟

أمّا القولان الأخيران فلا ثمرة عمليّة بينهما ؛ لأنهما معا لا يسوّغان الافتاء بالاستحباب ، ولخلوهما عن الحكم المجعول رأسا.

وأمّا القولان الأولان فقد وقع الخلاف في تصوير الثمرة بينهما ولذلك قال :

ولكن قد يقال - كما عن السيّد الاستاذ - : إنّه لا ثمرة عمليّة يختلف بموجبها الاحتمالان الأولان ؛ لأنهما معا يسوّغان الفتوى بالاستحباب ، ولا فرق بينهما في الآثار.

ولكن التحقيق وجود ثمرات عمليّة يختلف بموجبها الاحتمال الأوّل عن الاحتمال الثاني خلافا لما أفاده رحمه اللّه ، ونذكر فيما يلي جملة من الثمرات :

الثمرة بين الاحتمالين الأولين :

ذكر السيّد الخوئي أنّه لا ثمرة عمليّة بين القولين الأوّل والثاني ؛ ، لأنّهما معا حكمان مجعولان من الشارع ، وكلاهما أيضا يجوّز للمجتهد الإفتاء بالاستحباب وإسناده إلى الشارع ، غاية الأمر أنّه تارة يكون ظاهريّا وأخرى واقعيا ، وهذا فارق نظري وأمّا عمليّا فلا فرق بين الاستحباب الظاهري والواقعي في ترتيب الآثار واللوازم كما تقدّم سابقا من أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي في ترتيب الآثار واللوازم.

إلا أنّ الصحيح وجود ثمرات عمليّة بين هذين القولين رغم اشتراكهما في كونهما يتضمنان الحكم الشرعي ويسوّغان الحكم والإفتاء والإسناد ، ولذلك نذكر بعض هذه الثمرات :

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ، وخبر ثقة على نفي استحبابه.

ص: 307

فإذا بني على الاحتمال الأوّل وقع التعارض بين الخبرين لحجيّة كل منهما بحسب الفرض ، ونظرهما معا إلى حكم واقعي واحد إثباتا ونفيا.

وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ؛ لأنّ الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعي مترتب على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقّق ، وكونه معارضا لا ينافي صدق عنوان البلوغ فيثبت الاستحباب.

الثمرة الأولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعل ويدل خبر ثقة على نفي استحبابه.

فعلى الاحتمال الأوّل من أنّ مفاد الروايات جعل الحجيّة على عنوان البلوغ يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف مفاده أنّ الاستحباب المحكي به حجّة شرعا ، لأنّ موضوع الحجيّة تام فيه وهو بلوغ الثواب على هذا العمل ، بينما الخبر الصحيح مفاده أنّ الاستحباب ليس ثابتا شرعا لهذا الفعل ، وهذا معناه نفي بلوغ الثواب على هذا العمل ، فكلاهما ينظران إلى موضوع واحد ، وهو هذا العمل الخاص ، وأحدهما يثبت الاستحباب له والآخر ينفي الاستحباب عنه ، والمفروض أنّهما معا حجّة ظاهرا وتعبدا ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر فيحكم بتعارضهما وتساقطهما وبالتالي لا يثبت الاستحباب.

وقد تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعيّة يمكن تصوّر التعارض فيها ؛ وذلك بلحاظ التكاذب والتنافي فيها فيما تحكي عنه من النظر إلى الملاكات الواقعيّة في مقام التزاحم الحفظي وبيان الأهم من هذه الملاكات ، فالخبر الضعيف مفاده الالتزامي أنّ ملاكات الاستحباب هي الأهم ويجب الحفاظ عليها ، بينما الخبر الصحيح ينفي ذلك ، وحيث إنّهما معا حجّة فيتعارضان ويتساقطان.

وأمّا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب واقعي نفسي ثانوي على طبق عنوان البلوغ فلا يقع التعارض بين هذين الخبرين ؛ وذلك لأنّ الخبر الضعيف لا يثبت مؤدّاها واقعا ولا يحكي عن ثبوت استحباب في الواقع بالعنوان الأولي ، بينما الخبر الصحيح يحكي عن عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بلحاظ العنوان الأولي ، وحينئذ لا مانع من عدم ثبوت الاستحباب الواقعي بالعنوان الأولي

ص: 308

كما هو مفاد الخبر الصحيح ، بينما يثبت لنا الاستحباب الواقعي الثانوي كما هو مفاد الخبر الضعيف ، لأنّ الأوّل إنّما ينفي وجود الاستحباب لهذا العمل بعنوانه الخاص الأوّلي ، بينما الثاني يثبت الاستحباب لهذا العمل لا بعنوانه الخاص الأوّلي بل بعنوان آخر ثانوي وهو عنوان البلوغ ؛ إذ عنوان البلوغ محقق في مقامنا سواء كان الاستحباب ثابتا واقعا أم لا ، كما هو صريح الروايات ( وإن لم يكن قاله ) ، وبهذا نتعبد بكلا الخبرين ، أي أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما فيحكم بعدم ثبوت الاستحباب واقعا بعنوان العمل الأولي بينما يحكم بثبوت الاستحباب بعنوان آخر ثانوي ، ولا تنافي بينهما لاختلاف الجهة في الفرض المذكور.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على وجوب شيء.

فعلى الاحتمال الثاني لا شكّ في ثبوت الاستحباب لأنّه مصداق لبلوغ الثواب على عمل.

وأمّا على الاحتمال الأوّل فلا يثبت شيء لأنّ إثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذر لعدم حجيّته في إثبات الأحكام الالزاميّة ، وإثبات الاستحباب به متعذّر أيضا لأنّه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقا وحجّة لإثبات غير مدلوله؟!

وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذّر أيضا ؛ لأنّه مدلول تحليلي للخبر فلا يكون حجّة لاثباته عند من يرى - كالسيّد الأستاذ - أنّ حجيّة الخبر في المدلول التحليلي متوقفة على حجيّته في المدلول المطابقي بكامله.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على الوجوب ، فهل يمكننا إثبات شيء من مداليل هذا الخبر سواء المدلول المطابقي أي الحكم بالوجوب أم المدلول الالتزامي أي الحكم بالاستحباب ، أم الحكم بالرجحان والطلب الذي هو مدلول تحليلي للوجوب ، أو أنّه لا يثبت شيء من ذلك؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

فإذا بنينا على الاحتمال الثاني أي أنّ الروايات تثبت الاستحباب النفسي على عنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا إشكال في عدم ثبوت المدلول المطابقي أي الوجوب لأنّه يشترط في الخبر الدال على الإلزام أن يكون راوية ثقة كما هو المشهور ، وأمّا الاستحباب والرجحان فيمكن إثباتهما ؛ وذلك لأنّه يصدق مع وجود مثل هذا الخبر

ص: 309

الدال على الوجوب أنّ الثواب قد بلغنا لأنّ الوجوب فيه ثواب ورجحان ، ولذلك يتحقّق العنوان الثانوي فيحكم بالاستحباب الواقعي الثانوي.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الأوّل أي على جعل الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان بلوغ الثواب ، فهنا لا يثبت شيء من هذه المدلولات أصلا.

وتوضيح ذلك : أمّا أنّه لا يمكن إثبات الوجوب فواضح ؛ لأنّ الخبر الضعيف لا يدعي أحد أنّه يثبت الحكم الإلزامي ، فالخبر الضعيف لو قيل بحجيّته فلا يقال بها في إثبات الحكم الإلزامي كالوجوب والحرمة ، إذ لا دليل على ذلك أبدا ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يكون حجّة في إثبات الاستحباب أو الكراهية أم لا؟

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الاستحباب به فلأنّ الدال على الاستحباب والثواب ليس المدلول المطابقي لهذا الخبر وإنّما يستفاد الاستحباب والثواب بالدلالة الالتزاميّة ، لأنّ الشيء إذا كان واجبا فهذا يعني وجود مصلحة في فعله وأنّه يوجد ثواب على ذلك وأنّه جائز فعله ، وهذا يفترض أنّ المدلول المطابقي للكلام لا بدّ أن يكون تامّا وحجّة لكي يكون المدلول الالتزامي حجّة أيضا ، والمفروض هنا أنّ المدلول المطابقي الذي هو الوجوب لم تثبت حجيّته بعد ، لأنّ الخبر ضعيف السند ، فكيف يمكن أن يكون المدلول الالتزامي حجّة مع أنّ المدلول الالتزامي ساقط عن الحجيّة من أوّل الأمر؟!

وبتعبير آخر : أنّ الوجوب لم يثبت أصلا ليقال بأنّ مدلوله الالتزامي حجّة ، فإذا لم يثبت الوجوب فكيف يمكننا استكشاف الاستحباب والثواب من هذا الخبر؟ وكيف يكون هذا الخبر طريقا ودالا على شيء ليس من مدلوله وليس داخلا في مفاده؟ لأنّ دلالته على الاستحباب فرع دلالته على الوجوب أوّلا ، والمفروض أنّه ليس دالا أو ليس حجّة في الوجوب فكيف يكون دالا وحجّة في الاستحباب والثواب؟!

وأمّا أنّه لا يمكن إثبات الجامع أي عنوان الرجحان والطلب ، فلأنّ هذا الجامع ليس مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا لهذا الخبر وإنّما هو مدلول التزامي تحليلي بحسب ما يدركه العقل من الوجوب والاستحباب من كونهما راجحين ومطلوبين للشارع ، وهذا المدلول التحليلي الالتزامي ناشئ ومتفرّع من ثبوت المدلول المطابقي للدليل أي الوجوب والاستحباب ، والمفروض أنّ هذا الخبر لا يدلّ على الاستحباب ودلالته على الوجوب ساقطة ، لأنّه ليس حجّة في إثباته ، وحينئذ يحكم بسقوط هذا المدلول

ص: 310

والجامع خصوصا عند السيّد الخوئي القائل بسقوط المدلول الالتزامي دائما عند سقوط المدلول المطابقي لأنّه مساو له دائما بحسب رأيه ، - كما تقدّم سابقا - ، وهنا المدلول المطابقي ساقط عن الحجيّة فيتبعه المدلول الالتزامي أيضا.

وهذه ثمرة عمليّة مهمة بين هذين القولين كما هو واضح.

الثمرة الثالثة : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس مثلا ، على نحو لا يفهم منه أنّ الجلوس بعد ذلك مستحب أو لا.

فعلى الاحتمال الأوّل يجري استصحاب بقاء الاستحباب ، وعلى الثاني لا يجري لأنّه مجعول بعنوان ( ما بلغه ثواب عليه ) وهذا مقطوع الارتفاع لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

الثمرة الثالثة : أن يرد خبر ضعيف السند يدلّ على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس ، ولا يفهم أو لا يعلم من نفس هذا الدليل أنّ الاستحباب المذكور هل هو ثابت بعد طلوع الشمس أيضا أم ينتهي عند طلوعها؟

والسؤال هنا هو : هل يجري استصحاب الحكم بالاستحباب إلى ما بعد الطلوع أيضا حيث إنّه مشكوك أم لا؟

والجواب على ذلك يختلف باختلاف الوجهين الأوّل والثاني.

وتوضيح ذلك : أنّا إذا قلنا بأنّ روايات من بلغه تفيد الحجيّة التعبديّة الظاهرية لعنوان البلوغ فيثبت بهذا الخبر استحباب ظاهري ؛ لأنّ عنوان بلوغ الثواب متحقّق فيتحقق بذلك موضوع الحجيّة ، فيحكم بحجيّة هذا الخبر.

وحيث إنّه يشك في بقاء حجيّة هذا الخبر بعد طلوع الشمس فيحكم باستصحاب حجيّته إلى ما بعد الطلوع أيضا ؛ لأنّ الاستحباب ظاهرا معلوم الحدوث سابقا ، ومشكوك البقاء لاحقا فيجري الاستصحاب ، والاستصحاب كما يجري في الأحكام الثابتة واقعا كذلك يجري في الأحكام الثابتة تعبدا.

وأمّا إذا بنينا على الاحتمال الثاني من أنّ مفاد الروايات جعل استحباب نفسي واقعي ثانوي على عنوان ( من بلغه ) فهنا لا يمكن إجراء استصحاب بقاء الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس ؛ وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يحكم بثبوت الاستحباب الواقعي على طبق عنوان البلوغ.

ص: 311

وحيث إنّ عنوان البلوغ قد ثبت مقيّدا بطلوع الشمس ، فيثبت لنا هذا المقدار ، وأمّا الاستحباب بعد الطلوع فهذا لا دليل عليه ؛ لأنّه لم يتحقّق فيه البلوغ المجوّز للحكم بالاستحباب الواقعي ، إذ لم يرد في هذا الخبر ثواب على الجلوس بعد طلوع الشمس ، والاستحباب إنّما ثبت قبل الطلوع بعنوان ثانوي وهو محدّد بمقداره - أي قبل الطلوع - ولا يمكن جريان استصحابه لأنّه يقطع بارتفاع الاستحباب الثابت قبل طلوع الشمس عند طلوعها ، وأمّا بعد طلوعها فيشك في أصل ثبوته لا في بقائه ؛ لأنّه لو كان الاستحباب ثابتا بعد الطلوع فهو استحباب آخر غير الاستحباب الثابت قبل الطلوع ، فالشك فيه شكّ في أصل ثبوته لا في بقائه. ولذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال أحد أركانه ، إذ لا شكّ في البقاء للموضوع ، وإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم الثابت له ، فإذا شكّ في الحكم مجدّدا فيشك فيه من جهة أنّه هل تحقّق موضوع آخر لهذا الحكم أم لا؟ وهنا لا نحرز بل نقطع بعدم البلوغ بعد الطلوع إذ لا دليل عليه بهذا الخبر.

ومهما يكن فلا شكّ في أنّ الاحتمال الأوّل مخالف لظاهر الدليل ، كما تقدّم في الحلقة السابقة ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجيّة الخبر في باب المستحبات.

بعد أن عرفنا هذه الاحتمالات والفوارق النظرية والعمليّة بينها نعود الآن لنرى أنّ هذه القاعدة أي التسامح في أدلة السنن المبنية على هذه الروايات هل هي تامّة أم لا؟

لا إشكال في أنّ الاحتمالين الرابع والثالث لا يمكن الاستناد إليهما كمستند لهذه القاعدة ، لأنّهما لا يتضمنان أىّ نوع من أنواع الحكم لا الظاهري ولا الواقعي ، وإنّما مجرّد إخبار عن حسن الاحتياط عقلا ، وأنّ هناك ثوابا على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، مضافا إلى أنّه لا يمكن المصير إليهما لمخالفتهما لظاهر هذه الروايات فإنها بصدد التشريع وإعمال المولوية لا مجرّد الإخبار.

ولذلك يدور الأمر بين الاحتمالين الأوّل والثاني ، فإن قيل بالاحتمال الأوّل تمت القاعدة المذكورة لأنّ مفاده حجيّة الخبر الضعيف في باب المستحبات ، وهذا يتناسب مع القاعدة لأنّ مفادها أنّه في أدلة السنن يتسامح فيها والتسامح فيها يكون بلحاظ السند أي أنّه لا يشترط في أدلة السنن صحّة الخبر بنحو يكون واجدا لشرائط الحجيّة ،

ص: 312

بل يتسامح في ذلك ويتنازل عن شروط الحجيّة أو أنّه يتسامح في ذلك وتوسّع دائرة الحجيّة لتشمل كل خبر حتّى الخبر الضعيف سندا.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو لا يتناسب مع القاعدة ، ولا يصلح مستندا لها ؛ لأنّ مفاده جعل استحباب واقعي تحت عنوان ثانوي ، وهذا لا يتناسب مع التنازل أو التوسعة في شروط الحجيّة ، لأنّها تنظر إلى الحكم الظاهري بينما الاحتمال الثاني ينظر إلى الواقع.

فالصحيح هو أنّ الاحتمال الأوّل لا يمكن المصير إليه أيضا لكونه مخالفا لظاهر هذه الروايات ، فإنّ ظاهرها إنشاء استحباب مجعول على عنوان من بلغه سواء كان هذا الاستحباب ثابتا في الواقع أم لا ، وهذا يتناسب مع العنوان الثانوي الذي هو موضوع للحكم الواقعي لا الظاهري ، لأنّ الحكم الظاهري مجعول في مقام الشك في الواقع وهذه الروايات تصرح بأن هذا الحكم بالاستحباب ثابت حتّى مع عدم مطابقته للواقع ، بقوله : « وإن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقله » ، وهذا لا يتناسب مع الحكم الظاهري بل مع الحكم الواقعي ، ولذلك يتعين القول بأنّها بصدد إنشاء حكم واقعي بالاستحباب على عنوان البلوغ الثانوي ، وعليه فلا تتم القاعدة المذكورة (1).

ص: 313


1- ذكر السيّد الشهيد في بحوثه أنّه لا معيّن للاحتمال الثاني على الأوّل ، رغم مخالفته لظاهر الروايات ، ولذلك لم يرجّح أحدهما على الآخر ، إلا أنّ بعض مشايخنا ذكر في تقريراته للسيد الشهيد أنّه قد رجّح الثاني على الأوّل كما هو مذكور هنا.

ص: 314

البحث الثالث : في حجيّة الظهور

اشارة

ص: 315

ص: 316

البحث الثالث

في حجيّة الظهور

أقسام الدلالة :

الدليل الشرعي قد يكون مدلوله مرددا بين أمرين أو أمور وكلّها متكافئة في نسبتها إليه ، وهذا هو المجمل ، وقد يكون مدلوله متعيّنا في أمر محدّد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه ، وهذا هو النص ، وقد يكون قابلا لأحد مدلولين ولكنّ واحدا منهما هو الظاهر عرفا والمنسبق إلى ذهن الإنسان العرفي ، وهذا هو الدليل الظاهر.

بعد الحديث عن إثبات صدور الدليل والوسائل والطرق الوجدانية والتعبديّة لإحرازه ، وبعد الحديث عن مفاد ومدلول بعض الألفاظ وإثبات ظهورها في معانيها ، نأتي إلى البحث الثالث وهو أن هذا الظاهر من لسان الدليل بحكم دلالة اللفظ عليه هل هو حجّة أم لا؟

وقبل البحث عن حجيّة الظهور نتعرض بشكل عام للحديث حول أقسام دلالة الكلام والألفاظ على المعاني فنقول :

أقسام الدلالة :

الدليل عموما والدليل الشرعي بشكل خاص ، لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : أن يكون مجملا بمعنى أن يكون مدلوله ومفاده مردّدا بين أمرين أو أمور ، بحيث يكون كل واحد منها صالحا لانطباق الدليل عليه بحسب النظام اللغوي

ص: 317

للكلام بأن كان اللفظ الموجود في الدليل مشتركا بين عدة معان وكل هذه المعاني متساوية النسبة إليه ، ولا معين لأحدها على الآخر ؛ كقولك : رأيت عينا ، فإنّ العين تصلح لأنّ تكون العين النابعة أو الباصرة أو الشيء.

الثاني : أن يكون نصّا بمعنى أن يكون المدلول واحدا ولا يحتمل معه شيء آخر ، فتكون دلالة اللفظ على المعنى قطعية لا شكّ فيها أبدا بحسب النظام اللغوي ، بحيث لا يكون هناك معنى آخر بديلا عن هذا المعنى ؛ كقولك : رأيت رجلا.

الثالث : أن يكون ظاهرا ، بمعنى أنّه يوجد لمدلول الدليل عدة معان ، ولكن كان أحد هذه المعاني هو الأسبق تصوّرا في الذهن من البقية ، أي أنّ الذهن عند ما يتصور هذا اللفظ ينتقل فورا إلى أحد معانيه مع احتمال إرادة سائر المعاني الأخرى أيضا ، إلا أنّ ما تصوّره الذهن هو المعنى المتبادر والمنسبق من اللفظ بحسب النظام اللغوي ، أو بحسب المتفاهم عرفا ، كظهور اللفظ الخالي من القيود في الإطلاق ، أو ظهور بعض الجمل في المفهوم ونحو ذلك.

وهذا هو المقصود من البحث هنا ، وسيأتي الحديث عنه مفصّلا بعد الحديث عن المجمل والنص.

فتلخّص من ذلك أنّ : النص هو أن يدلّ اللفظ على معناه من دون احتمال شيء آخر معه.

والمجمل هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان كلّها متساوية ومتكافئة ولا ترجيح لأحدها.

والظاهر هو أن يدلّ اللفظ على عدّة معان لكنّ أحدها أسبق تصوّرا من البقيّة عرفا ولغة.

أمّا المجمل فيكون حجّة في إثبات الجامع بين المحتملات ، إذا كان له على إجماله أثر قابل للتنجيز ، ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إما بتعيين المراد من المجمل مباشرة ، وإما بنفي أحد المحتملين فإنّه بضمه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر ، وإما بمجمل آخر مردّد بين محتملين ويعلم بأن المراد بالمجملين معا معنى واحد وليس هناك إلا معنى واحد قابل لهما معا فيحملان عليه ، وإما بقيام دليل على إثبات أحد محتملي المجمل فإنّه وإن كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل

ص: 318

في حالة عدم التنافي بين المحتملين ، ولكنّه يوجب سقوط حجيّة المجمل في إثبات الجامع وعدم تنجزه ؛ لأنّ تنجز الجامع بالمجمل إنّما هو لقاعدة منجزية العلم الإجمالي وهذه القاعدة لها أركان أربعة وفي مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة ، حيث إنّ أحد المحتملين إذا ثبت بدليل فلا يبقى محذور من نفي المحتمل الآخر بالأصل العملي المؤمّن.

الدليل المجمل : أمّا حجيّة المجمل مع بقائه على إجماله فهي إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك جامع بين المحتملين أو المحتملات ، وكان لهذا الجامع بما هو كذلك أثر شرعي تنجيزي ، فإنّه في هذه الحالة سوف يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف الإلزامي المنجز ويشك في الأفراد ، وفي مثل هذه الحالة يتنجز الجامع على المكلّف دون أن تتنجز نفس المحتملات ؛ لأنّها غير معلومة كما إذا ورد دليل يدلّ على مطلوبيّة صلاة الليل ، ولكن كان اللفظ الدال على ذلك مجملا ومردّدا بين الوجوب أو الاستحباب ، فهنا يعلم إجمالا بجامع الطلب والرجحان والإرادة ولكن لا يعلم بالخصوصيات والمصاديق ، ولذلك لا يسري العلم من الجامع إلى الأفراد ، فإذا فرض لهذا الجامع أثر تنجيزي فيكون الدليل المجمل حجّة في إثباته وإلا فلا.

وهذا الجامع يكون منجّزا على المكلّف ما لم تختل منجزيته كما لو اختلت إحدى أركان منجزية العلم الإجمالي ، كما في الصور التالية :

الأولى : أن يأتي سبب من الخارج يبطل منجزية العلم الإجمالي وبالتالي لا يتنجز الجامع بأن كان هناك دليل خاص يعيّن المراد من الدليل المجمل مباشرة ، بأن كان هذا الدليل الخاص ناظرا إلى تفسير المقصود والمراد منه ، فيصبح حينئذ الدليل نصّا ، وبالتالي يتنجز أحد المحتملات السابقة دون غيره.

وهذا النظر والتفسير للمراد إما أن يكون بقرينة عامّة كالتخصيص والتقييد والأظهرية ، وإما أن يكون بقرينة خاصّة كالحكومة ، فلو كان الدليل المجمل مردّدا بين وجوب صلاة الليل أو استحبابها ، ثمّ جاء دليل آخر مفاده تفسير المراد من هذا المجمل وعيّن المراد منه بأنه الاستحباب ؛ لكان هذا الدليل حاكما بالحكومة التفسيرية - كما سيأتي - وبالتالي تنحلّ منجزية العلم الإجمالي بالجامع إلى الفرد ، ويكون المقصود من الطلب والرجحان خصوص الاستحباب.

ص: 319

الثانية : أن يكون هناك دليل من الخارج ينفي أحد المحتملين ، فإنّه إذا ضمّ هذا الدليل إلى الدليل المجمل الدائر أمره بين هذين المحتملين فقط تعيّن أن يكون المراد من المجمل هو المحتمل الثاني.

وهذا أيضا كالسابق لسانه التفسير والقرينة والنظر إلى الدليل المجمل وحل إجماله ببيان المقصود منه ، غاية الأمر أنّه في الصورة الأولى كان المقصود مبيّنا في الدليل الآخر مباشرة بينما هنا بالملازمة فإنّ الدليل الآخر ينفي أحد المحتملين بخصوصه ولمّا كان المجمل يدور بينهما بنحو مانعة الجمع ، فإذا انتفى أحدها تعيّن الآخر ، ففي المثال المتقدّم لو جاء الدليل ونفى وجوب صلاة الليل فإنّه يتعيّن استحبابها لأنّ الدليل المجمل يدور أمره بينهما فقط ، وحيث انتفى الوجوب تعين الاستحباب بمقتضى الحصر المذكور.

الثالثة : أن يأتي دليل آخر ولكنّه مجمل كالدليل السابق ، ولكن يعلم بأنّ المراد من هذين المجملين شيء واحد بأن كانا معا ناظرين إلى موضوع واحد ، وكان كل منها يشتمل على طرف يصلح لتفسيرهما معا لو حملا عليه ، بخلاف ما لو حمل كل منهما على غيره ، فهنا يتعيّن حملهما على هذا المحتمل الذي له القابلية لحلّ الإجمال فيهما بقرينة كونهما معا ينظران إلى مقصود واحد ، ولذلك ينحل العلم الإجمالي وتبطل منجزية الجامع لسريان العلم إلى الفرد.

مثال ذلك : المثال الفقهي المعروف في مسألة تحديد الكرّ بالأرطال ، حيث ورد دليل مفاده أنّ الكرّ تقديره ألف ومائتا رطل ؛ ولكنّه مردّد بين الرطل العراقي أو الرطل المكي.

وورد دليل آخر مفاده أنّ الكرّ تقديره ستمائة رطل وهو مردّد أيضا بين العراقي والمكّي.

فهنا حيث إنّنا نعلم أنّ المقصود منهما شيء واحد لاتحاد موضوعهما ، وحيث نعلم أيضا من الخارج بأنّ الرطل العراقي يساوي نصف الرطل المكي فيمكننا تحديد المقصود منهما وحلّ الإجمال بحمل الدليل الأوّل على الرطل المكي والثاني على الرطل العراقي ، إذ لو لم نفعل ذلك لوقع التناقض والتكاذب بين الدليلين مع أنّنا نعلم بأنّهما ناظران إلى شيء واحد.

ص: 320

وبهذا التفسير ينحل الإجمال في الدليلين وبالتالي تبطل منجزية العلم الإجمالي بالجامع لسريانه إلى الفرد.

الرابعة : أن يأتي دليل من الخارج ويثبت أحد المحتملين من الدليل المجمل ، ولكن لا بنحو يكون هذا الإثبات مستلزما لنفي الآخر ، بل يبقى الآخر محتملا في نفسه أيضا ، بأن كان المجمل يدور أمره بينهما على أساس مانعة الخلو ولكن يحتمل اجتماعهما أيضا ، فهنا لا يكون هذا الدليل موجبا لبطلان منجزية العلم الإجمالي بالجامع مباشرة ، وإنّما يوجب اختلال الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي الذي هو جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين ، فإنها لا تجري في المحتمل الذي ثبتت منجزيته بهذا الدليل الخاص ، ولذلك تجري في المحتمل الآخر من دون مانع ولا محذور فينحل العلم الإجمالي حينئذ.

وتوضيح ذلك : إذا ورد دليل يدلّ على جواز التيمم بالصعيد ، ولكنّه مجمل ومردّد بين كون المراد من الصعيد مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ التيمم بالتراب ، فهنا يكون هذا الدليل مثبتا لأحد المحتملين من المجمل ، ولكنّه لا ينفي المحتمل الآخر ، إذ لا منافاة بين الأمرين ، ولكن مع ذلك يسقط الجامع لاختلال الركن الثالث من أركانه ، لأنّ أحد طرفيه قد تنجّز على كل تقدير ولذلك لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة المؤمّنة ، بينما تجري في الآخر من دون معارض ولذلك ينحلّ الجامع وتبطل منجزيته.

وكما في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) وتردّد المراد من الأم بين النسبيّة أو هي والسببيّة ، ثمّ يأتي دليل آخر يثبت أنّ الأمّ النسبيّة هي التي تحرم على الإنسان ، فإنّه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية لأنّ أحد أطرافه قد تنجز بمنجز شرعي فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر من دون معارض ، إذ لا يمكن جريانها في الطرف الذي قام عليه المنجز ، وبالتالي تنحل منجزية هذا العلم الإجمالي بالجامع.

وأمّا النصّ فلا شكّ في لزوم العمل به ولا يحتاج إلى التعبد بحجيّة الجانب الدلالي منه إذا كان نصّا في المدلول التصوّري والمدلول التصديقي معا.

وأمّا حجيّة النص فهي ممّا لا شكّ فيها ويجب العمل بمفاده ، ولا نحتاج إلى التعبد

ص: 321

بحجيّة الظهور فيه أصلا ، فيما إذا كان نصّا في مدلوله التصوّري والاستعمالي والتصديقي الجدّي كما هو المفروض من النص ، وذلك لأنّه يكون حجّة تكوينا ووجدانا ، وبالتالي يجب العمل والامتثال لمدلوله بحكم الحجيّة التكوينيّة الثابتة للقطع.

* * *

ص: 322

دليل حجيّة الظهور

اشارة

ص: 323

ص: 324

دليل حجيّة الظهور

وأمّا الظاهر فظهوره حجّة ، وهذه الحجيّة هي التي تسمّى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأوّل : الاستدلال بالسنّة المستكشفة من سيرة المتشرعين من الصحابة وأصحاب الأئمّة علیهم السلام حيث كان عملهم على الاستناد إلى ظواهر الأدلّة الشرعيّة في تعيين مفادها ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة توضيح الطريق لإثبات هذه السيرة.

وأمّا الدليل الظاهر :

فظهوره حجّة ، للأدلة التي سوف نذكرها ، وهي :

الوجه الأوّل : الاستدلال بسيرة المتشرّعة من الصحابة والأصحاب فإنّ عمل المتشرّعة كان قائما على الأخذ بظاهر كلام الشارع سواء من الكتاب أم السّنة ، وعملهم هذا بعد إثباته بأحد الطرق المذكورة سابقا يثبت به أنّ الشارع يرضى بالعمل والأخذ بالظهور ، لأنّ سيرة المتشرّعة تكشف عن طريق الإن موافقة المعصوم ، لأنّها معلولة للدليل الشرعي ، إذ فرض كونهم متشرعة معناه أنّهم لا يعملون ولا يتصرفون بشيء إلا إذا كان صادرا من الشارع ، فعملهم هذا يكشف يقينا عن رضى المعصوم ، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك ، لأنّ المعلول إذا تحقّق فعلته متحققة حتما ، ولا يمكن وقوعه من دونها إذ هذا خلف معلوليّته لها.

إلا أنّ المهم هنا هو إثبات انعقاد سيرة المتشرّعة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر ، وهذا يمكن إثباته بالطرق المذكورة سابقا ، والمهم منها هنا هو الطريق الخامس الذي مفاده أنّه إذا لم يكن العمل بالظهور حجّة وصادرا من الشارع لكان هناك سلوك آخر بديل عنه ، وهذا السلوك الآخر البديل يعتبر ظاهرة غير مألوفة وغريبة ، ولذلك لا بدّ من

ص: 325

ذكرها وتسجيلها وبالتالي لا بدّ أن تصل إلينا إلا أنّ الواصل إلينا خلاف ذلك ، فهذا يدلّ على أنّه لم يكن هناك سلوك بديل عنها.

مضافا إلى النقل التاريخي عبر كتب التاريخ والسيرة وكتب الأخبار التي يستفاد منها استدلال الأئمّة علیهم السلام وغيرهم بظواهر الكتاب والسنّة والتمسّك بها والعمل بمفادها ، وكذلك فإنّ أصالة عدم النقل أو عدم التغيّر تثبت أنّ السيرة المنعقدة الآن على الأخذ بالظواهر ليست سيرة حادثة بل هي ممتدة إلى عصر النصّ والتشريع أيضا.

الوجه الثاني : الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائيّا ممّا لا شكّ فيه ، لأنّها محسوسة بالوجدان ، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين ، إذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجيّة الظهور.

الوجه الثاني : أن يستدلّ بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور بتقريب أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العقلاء يبنون على العمل والأخذ بظهور الكلام سواء في ذلك الأغراض التكوينيّة الشخصيّة كما في الرجوع إلى كتب اللغة لمعرفة معنى الكلام أم في الأغراض التشريعيّة لهم أي في علاقات الآمرين والمأمورين معا ، فإنهم يحكمون باستحقاق المأمور للعقاب لو لم يعمل بظاهر كلام الآمر ، ولا يسمع منه أنّ ظاهر كلامه ليس حجّة ، بل يكون عذره هذا أقبح عندهم من مخالفته ، كما أنّهم يعتبرون المأمور مطيعا ويستحق المدح أو الثواب لو عمل بظاهر كلام الآمر ولا يسمع من الآمر احتجاجه بأنّه لا يبني على حجيّة الظهور.

ثمّ إنّ هذا البناء العقلائي يشكّل ميلا وارتكازا وإيحاء ولو خطأ في أنّه يجوز استكشاف مراد الشارع اعتمادا على ما يظهر من كلامه ، وهذا يشكّل خطرا على أغراض الشارع وأحكامه فيما لو لم يكن يرى الظهور حجّة ولكان يجب عليه الردع عن هذه السيرة ، فسكوته وعدم ردعه عنها معناه أنّه يرضى بالعمل والأخذ بالظهور وهذا معنى حجيّة الظهور.

والدليل على أنّ سيرة العقلاء منعقدة فعلا على العمل والأخذ بالظواهر هو

ص: 326

الوجدان الشاهد بذلك ، لأنّ بناءهم هذا محسوس لدى كل عاقل من العقلاء في كل المجتمعات وليست هذه السيرة مختصّة بفترة زمنية معينة ، فإنّ سيرة العقلاء المعاصرة تأخذ بالظواهر وعن طريق أصالة عدم النقل أو عدم التغير نثبت كونها كانت موجودة حتّى في عصر الشارع وليست حادثة وطارئة ومتأخّرة عنه ، بل كانت قبله ومعه وبعده.

مضافا إلى أنّنا لو تتبعنا واستقرأنا كل المجتمعات بوصفها العقلائي لاستكشفنا أنّه لم يعهد للعمل بالظواهر بديل آخر بحيث إنّه لا يوجد مجتمع من المجتمعات لا يبني على العمل بالظواهر ، وهذا معناه أنّها مرتكزة عند كل عاقل في كل زمان ومكان.

الوجه الثالث : التمسّك بما دلّ على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة والعمل بهما ، بتقريب أنّ العمل بظاهر الآية أو الحديث مصداق عرفا لما هو المأمور به في تلك الأدلّة فيكون واجبا ، ومرجع هذا الوجوب إلى الحجيّة.

الوجه الثالث : أن يستدلّ على حجيّة الظهور بالروايات الصحيحة سندا الدالة على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة ، كحديث الثقلين ، أو الدالة على الرجوع إلى الكتاب والسنّة وتحكيمهما عند التعارض أو عند الاختلاف والتنازع والتحاكم.

فإنّ هذه الروايات تدلّ إما على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة بما هما ألفاظ أو بما هما معان ، وعلى كلا التقديرين يكون العمل بالظاهر أي بظاهر الآية أو بظاهر الرواية عملا بالكتاب إمّا لكونه مصداقا للعمل بالألفاظ وإمّا لكونه مصداقا للعمل بالمعنى ، وهذا يعني أنّ هذه الأخبار لها إطلاق لفظي أو مقامي للعمل بالظاهر ؛ لأنّ العمل بالظاهر يعتبر - عرفا - مصداقا للتمسّك والعمل بالكتاب والسنّة ، وحيث إنّ التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة قد وقعا متعلّقا للأمر فيكونان واجبين ، وبما أنّ العمل بالظاهر مصداق عرفا لهما فيكون العمل به واجبا أيضا ، لكونه مصداقا للمأمور به ، وليس هناك معنى لوجوبه إلا كونه حجّة شرعا فيثبت المطلوب.

وبين هذه الوجوه فوارق :

فالوجه الثالث مثلا بحاجة إلى تماميّة دليل على حجيّة الظهور ولو في الجملة دونهما ، لأنّ مرجعه إلى الاستدلال بظهور الأحاديث الآمرة بالتمسّك وإطلاقها فلا بد من فرض حجيّة هذا الظهور في الرتبة السابقة.

ص: 327

كما أنّ الوجهين الأوّلين يجب ألا يدخل في تتميمهما التمسك بظهور حال المولى لإثبات الإمضاء ، لأنّ الكلام الآن في حجيّته ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة.

الفوارق بين هذه الوجوه :

ثمّ إنّه توجد بعض الفوارق بين هذه الوجوه ، منها :

إنّ الوجه الثالث وهو الاستدلال بما دل على التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة يحتاج إلى فرض حجيّة الظهور في الجملة ؛ وذلك لأنّ تماميّة الاستدلال بهذه الروايات متوقفة على كون ظهورها في الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي الشاملين للعمل بالظاهر حجّة في رتبة سابقة ، إذ لو لم يكن هذا المقدار حجّة لم يمكن الاستدلال بهذا الدليل لاستلزامه الدور أو المصادرة على المطلوب لأنّ الكلام في إثبات حجيّة الظهور مطلقا - أي كل ظهور - وهذا مبنيّ على أن يكون ظهور تلك الروايات بشكل خاص ثابتا وجدانا أو يوجد اطمئنان شخصي به ، أو كان ظهورهما في مرتبة عليا من الظهور لا يمكن التشكيك بها.

وبتعبير آخر : أنّ هذا الدليل كان يستدلّ بظاهر الروايات الدالة على لزوم التمسّك والعمل بالكتاب والسنّة الشاملة بإطلاقها للعمل بظاهر الكتاب والسنّة ، فإذا كان الظهور لم يفرغ عن حجيّته بعد فكيف يستدلّ بظهور هذه الروايات على العمل بالظهور وعلى حجيّة الظهور؟ إذ من الواضح حينئذ أنّ المدّعى والبرهان واحد.

والجواب : إنّنا نفترض أنّ ظهور الروايات الدالة على التمسّك بالكتاب والسنّة حجّة في مرتبة سابقة ، وذلك بأن نفرض حجيّة الظهور بالجملة ، أي أنّه توجد هناك مرتبة من الظهور لا إشكال في حجيّتها وفي العمل بها ، وهذه المرتبة موجودة في هذه الروايات ، ونريد أن نستدلّ من خلال ظهور هذه الروايات الواصلة إلى تلك المرتبة على حجيّة كل ظهور ، أي نريد الاستدلال بالروايات بعد الفراغ عن حجيّة الظهور بالجملة على حجيّة الظهور بكل تفصيلاته وجزئيّاته ، بحيث يكون الظهور الإجمالي الموجود في هذه الروايات حجّة للاستدلال على الظهور التفصيلي المطلوب إثباته.

وهذا نظير التبادر الذي يكون علامة على الحقيقة ، فإنّه متوقف على العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع ، ويراد بالتبادر معرفة الوضع التفصيلي.

ص: 328

وأمّا الوجهان الأولان فلا يتوقفان على ذلك ، لأنّ السيرة ؛ - سواء المتشرعية أم العقلائيّة - ليست دليلا لفظيّا ليتمسك بظاهرها ، وإنّما هي من الأدلّة اللبّية.

نعم ، يشترط في الاستدلال بالسيرة العقلائيّة (1) أن تكون كاشفة عن الإمضاء عن طريق عدم الردع ، ولكن اكتشاف عدم الردع فيها يجب أن لا يكون على أساس ظهور حال الشارع في مقام التوجيه والإرشاد والتعليم والمراقبة على تطبيق الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ هذا معناه أن يكون الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجيّة الظهور متوقفا على حجيّة ظهور حال الشارع ، وهذا النحو من الظهور الحالي لم نفرغ من إثبات حجّيته بعد ، فيكون مصادرة على المطلوب ؛ لأنّ حجيّة الظهور المراد إثبات حجّيتها تشمل كل ظهور سواء اللفظي أو المقامي أو الحالي.

فلا بدّ من اكتشاف عدم الردع عن السيرة العقلائيّة من خلال الدليلين العقليين أي كون الشارع آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر أو كونه هادفا وله غرض.

وقد يلاحظ على الوجه الأوّل :

إنّ سيرة المتشرّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكن الشواهد التاريخية إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجيّة الظهور أخفى من غيرها ، كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجيّة الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة.

وهنا نقول : إنّ مدرك الحجيّة إذا كان هو سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن نتأكد أنّها جرت فعلا على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟ وأمّا إذا كان مدرك الحجيّة السيرة العقلائيّة فيمكن للقائلين بالحجيّة أن يدعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة أيضا.

ص: 329


1- وأمّا الاستدلال بالسيرة المتشرعية فلا نحتاج فيها إلى ذلك ، لأنّها لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع أصلا ، لأنّها تكشف عن قول الشارع بطريق الإن ، وشمول العبارة لها من باب السالبة بانتفاء الموضوع أو من باب المسامحة في التعبير.

قد يشكل على الاستدلال بالسيرة المتشرعية أنّها وإن كان يحرز انعقادها فعلا أيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، إلا أنّ هذا العمل كان قائما على الأخذ بظواهر ألفاظ الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ، - أي بالظهور اللفظي - وأمّا سائر الظواهر التي يراد إثبات حجيّتها كالظهور الحالي مثلا الذي لا دلالة عليه في الكلام فكيف يمكننا التأكد أنّ سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على الأخذ به ، مع عدم اليقين بذلك؟ بل حتّى بعض الظهورات اللفظيّة الخفية لا يمكن التأكد واليقين بالعمل والأخذ به من خلال سيرة المتشرّعة ، وبما أنّ السيرة دليل لبّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن لا أزيد وهو هنا الظواهر اللفظيّة الواضحة والجلية دون غيرها.

وبهذا تكون سيرة المتشرّعة عبارة عن قضيّة خارجية شخصيّة لا يمكن تعميمها لكل الحالات الأخرى ، فهي تثبت العمل والأخذ بالظواهر بنحو مجمل ، وقدره المتيقن هو الظواهر اللفظيّة الواضحة فتكون قضيّة مهملة بقوّة الجزئيّة ، فكيف يمكن استفادة حجيّة الظهور منها ، كقاعدة كلية عامّة تشمل كل موارد الظهور وأقسامه؟!

ومثال ذلك : أنّ احتمال اتّصال الكلام بقرينة متّصلة يعتبر من الحالات التي وقع الخلاف فيها ، بمعنى أنّ احتمال وجود مثل هذه القرينة في الكلام هل يمنع من انعقاد ظهور الكلام أو لا يمنع من ذلك؟

مذهب المشهور أنّ ذلك لا يمنع من التمسّك بالظهور ، بل يبقى الظهور على حجيّته ما لم تحرز هذه القرينة المتّصلة ، فاحتمال وجودها عندهم كالقطع بعدمه.

بينما اخترنا نحن أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها يمنع من انعقاد ظهور الكلام إذ من المحتمل أن تكون هذه القرينة على فرض اتصالها ووصولها إلينا مانعة وصارفة للظهور ، فكيف يمكن الاعتماد على الظهور والقول بحجيّته؟ فلو وصل إلينا حديث مقتطع الذيل واحتملنا أن يكون هذا المقتطع قرينة صارفة للظهور فكيف يمكننا التمسّك به؟

ولذلك قلنا : إنّ هذا الاحتمال يوجب على الأقلّ الإجمال في الدليل وعدم القطع بظهوره ، ومع عدم القطع بالظهور فكيف يقال بحجيّته ويتمسك بها ؛ إذ الحجيّة فرع التسليم أوّلا بظهور الكلام في المعنى وهذا غير متحقّق في الفرض المذكور؟

ص: 330

وحينئذ نقول : إنّه في هذه الحالة مثلا كيف يمكننا إثبات أنّ سيرة المتشرّعة كانت منعقدة فعلا على الأخذ والعمل بالظهور رغم وجود هذا الاحتمال؟

والجواب : هو أنّ سيرة المتشرّعة لو كانت هي المدرك الوحيد لحجيّة الظهور بمعزل عن السيرة العقلائيّة فلا يمكننا إثبات حجيّة الظهور في كل الحالات ، وخاصّة في هذه الحالة ، لما ذكرنا من أنّها تثبت حجيّة الظهور بنحو القضيّة المهملة ، التي هي بقوّة الجزئيّة ، والتي يقتصر فيها على القدر المتيقن وهو العمل والأخذ بحجيّة ظواهر الكتاب والسنّة الواضحة والجلية دون سائر موارد الظهور الأخرى ، فإنّه لا يمكن الجزم والتأكد بانعقاد سيرتهم على العمل والأخذ بحجيّة الظهور فيها.

نعم ، لو كان مدرك حجيّة الظهور هو السيرة العقلائيّة فيمكن تعميم البناء العقلائي لكل الموارد الأخرى استنادا إلى وجود الإيحاء والارتكاز عند العقلاء في الأخذ بالظهور ولو في بعض الموارد ، فإنّ هذا الارتكاز يوحي لهم ولو خطأ بأنّ العمل بالظهور في كل الموارد الأخرى حجّة أيضا ، وإلا لردع الشارع عنه ، فما دام لم يردع وسكت فيعمم العمل. والأخذ بالظهور من خصوص ظواهر الكتاب والسنّة الثابتين بالسيرة المتشرعية إلى كل ظهور سواء كان لفظيّا أم حاليّا وسواء كان واضحا جليا أم خفيا استنادا إلى الارتكاز والبناء العقلائي.

ولذلك يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ سيرة المتشرّعة وإن كانت قائمة على العمل والأخذ بالظواهر اللفظيّة الواضحة إلا أنّه بعد ضم البناء العقلائي على العمل بالظهور ولو في موارد خاصّة يعمّم هذا العمل كل الظهورات الأخرى.

وبالجملة : نستطيع أن نعمّم الحجيّة إلى سائر الموارد الأخرى ، فتكون سيرة المتشرّعة محتاجة إلى سيرة العقلاء من أجل تعميم الحجيّة فقط ، ورغم ذلك لا نحتاج إلى إثبات الإمضاء وعدم الردع ؛ لأنّ سيرة المتشرّعة منعقدة فعلا على العمل بالظهور بالجملة ومن خلال عملهم هذا ثبت أيضا أنّ العقلاء يبنون على العمل بالظهور في الجملة أيضا بوصفهم من جملة العقلاء أيضا ، إذ لو كان عملهم هذا بوصفهم المتشرعي البحت ولم يكن موجودا عند العقلاء ؛ لكان سلوكا غير مألوف ولكان يجب التأكيد عليه من الشارع وشيء من هذا لم يحصل.

وقد يلاحظ على الوجه الثاني ، وهو الاستدلال بالسيرة العقلائيّة أمران :

ص: 331

أحدهما : أنّه قاصر عن الشمول لموارد وجود أمارة معتبرة عقلائيّا على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرة شرعا ، كالقياس مثلا - لو قيل بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور - فلا يمكن إثبات حجيّة الظهور المبتلى بهذه الأمارة على الخلاف بالسيرة العقلائيّة ، إذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلا.

وقد يشكل على الاستدلال بالسيرة العقلائيّة بإشكالين :

الإشكال الأوّل : أنّ سيرة العقلاء وإن سلّم أنّها منعقدة على العمل بالظهور ، وأنّ هذه السيرة لم يردع الشارع عنها إلا أنّه لا يسلّم انعقادها على العمل بكل ظهور حتّى الظهور الذي يبتلى بقرينة على خلافه ، وإن لم تكن هذه القرينة والأمارة حجّة شرعا.

والوجه في ذلك : أنّ مثل هذه القرينة الظنية تكشف عن الواقع وسيرة العقلاء إنّما يعمل بها لكونها كاشفة عن الواقع ، فعند ما تعتبر سيرة العقلاء قائمة على العمل بالظهور فهذا يعني أنّ الظهور يعتبر كاشفا عن الواقع والمراد الجدّي للمتكلّم ، إذ من غير المعقول أن يبني العقلاء على العمل بالظهور من باب التعبّد المحض ، إذ لا وجود للتعبدات المحضة في بناء العقلاء ، وهذا يعني أنّ هذه الأمارة العقلائيّة الظنيّة الكاشفة عن الواقع والمراد تكون معارضة ومخالفة للظهور فكيف يكون كاشفا حينئذ؟ إذ على الأقلّ تشكّل هذه الأمارة مانعا من كاشفيّة الظهور بمعنى أنّ الكاشفتين بحكم تساقطهما ، وحينئذ يكون العمل بالظهور رغم سقوط كاشفيّته تعبديّا محضا ، وهو غير متصوّر أصلا.

فمثلا لو كان القياس قائما على خلاف ما ظهر من الكلام والقياس يفرض كونه من القرائن والأمارات العقلائيّة التي تكشف كشفا ظنيا عن الواقع والمراد - وإن لم يكن حجّة شرعا فإنّ هذا مطلب آخر - ففي هذه الحالة تكون السيرة القائمة على العمل بالظهور مبتلية بما يدلّ ويكشف على خلاف الظهور فكيف يمكن الاعتماد والتعويل على السيرة في خصوص هذه الحالة بالذات؟!

اللّهم إلا إذا استفيد من دليل اسقاطها عن الحجيّة تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار.

ص: 332

نعم ، هذا الإشكال مبنيّ على أن تكون هذه الأمارة العقلائيّة غير منهي عنها شرعا ، فإنّه إذا كان منهيا عنها شرعا واستفيد من دليل إسقاطها عن الحجيّة أنّ وجودها كعدمها لم يكن لقيامها على خلاف الظهور أىّ أثر ، بمعنى أنّ الظهور يبقى على حجيّته حتّى مع وجودها على خلافه ؛ لأنّ الشارع قد اعتبرها وكأنّها غير موجودة ، فكان وجودها وعدمها سيّان ، وبالتالي تكون السيرة تامّة ولا معارض لها أصلا.

والحاصل : أنّ هذا الاشكال مبنيّ على ألا تكون هذه الأمارة مردوعا عنها شرعا ، هذا أوّلا.

وثانيا : مبنيّ على ألا يستظهر من دليل النهي عنها - على فرض وجوده - أنّها نزّلت منزلة العدم ، وإلا لم يكن لها تأثير على منع كاشفيّة الظهور حتّى مع قيامها على خلافه كما هو الصحيح.

ولكنّ الصحيح أنّ هذا الكلام إنّما يتّجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت للعقلاء ، غير أنّك عرفت في الحلقة السابقة أنّ الإمضاء يتّجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل ، وهي في المقام الحجيّة الاقتضائية للظهور مطلقا ، وكل حجيّة كذلك لا يرفع اليد عنها إلا بحجّة ، والمفروض عدم حجيّة الأمارة على الخلاف شرعا ، فيتعيّن العمل بالظهور.

جواب الإشكال :

والصحيح أنّ هذا الإشكال إنّما يرد لو قيل بأنّ الإمضاء بالنسبة للسيرة العقلائيّة يتحدّد بحدود العمل الصامت الذي انعقدت عليه فعلا سيرة العقلاء ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ سيرة العقلاء لم تنعقد على العمل بالظهور فيما إذا كان هناك أمارة ظنيّة عقلائيّة على خلافه حتّى وان لم تكن معتبرة شرعا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّه ينصبّ على المرتكز والإيحاء والبناء العقلائي الذي يوجبه انعقاد سيرتهم على أمر ما بحيث إنّهم على أساس هذا البناء يوسّعون دائرة الإمضاء إلى سائر الأغراض الأخرى التي لم تنعقد سيرتهم على العمل به فعلا.

وقد تقدّم عند الحديث عن السيرة أنّها وإن انعقدت على أغراضهم التشريعيّة أو

ص: 333

التكوينيّة فقط إلا أنّ هذه السيرة توحي إليهم ولو خطأ بأنّ الشارع يرضى بسيرتهم حتّى بلحاظ أغراضه التشريعيّة ؛ ، ولذلك كان يجب على الشارع النهي والردع عن سيرتهم هذه لو لم يكن موافقا لهم ، فإذا سكت ولم يردع كان ذلك إمضاء لهذه السيرة المتضمنة لهذا الإيحاء والارتكاز. ففي الحقيقة الإمضاء متوجه لهذه التوسعة الناشئة من الإيحاء والبناء والارتكاز.

وفي مقامنا يعلم بانعقاد سيرة العقلاء على الأخذ بالظهور في أغراضهم التكوينيّة والتشريعيّة ، فسكوت الشارع عند ذلك يعتبر إمضاء لبنائهم بالعمل بالظهور حتّى بلحاظ أغراض الشارع أي أنّه يحكم بحجيّة الظهور في كلام الشارع أيضا ، وحينئذ يكون الشارع قد جعل الظهور حجّة بمعنى أنّه يقتضي الحجيّة ، فحجيته اقتضائية فيؤخذ بها ما لم يوجد هناك حجّة أخرى أقوى تمنع من الأخذ بهذا الظهور ، وهذه الحجيّة الأقوى لا بدّ أن تكون معتبرة شرعا ، لأنّ الكلام في ظهور كلام الشارع ، فإذا كان لظهور الكلام في العموم أو الإطلاق حجّة أخرى أقوى منه كالتخصيص والتقييد وكانت معتبرة شرعا فإنّه يرفع اليد عن هذا الظهور وبالتالي لا يكون حجّة فعلا ، وإن كان يقتضي الحجيّة بذاته لو لا هذا المانع.

وأمّا إذا قامت قرينة وأمارة على خلاف الظهور ولم تكن معتبرة شرعا فهذا يعني أنّه لا يمكن أن يرفع اليد بها عن حجيّة الظهور المعتبرة شرعا ، لأنّ الحجّة لا يرفع اليد عنها إلا إذا قامت حجّة أقوى منها على خلافها ، وهنا لم تقم الحجّة الأقوى بل لم تقم الحجّة أصلا ، لأنّ مثل هذه الأمارة غير معتبرة شرعا ، فهي ليست حجّة تعبّدا ليعوّل عليها في تفسير المراد الجدّي من كلام الشارع ، فهي وإن كانت عقلائيّة ولكنها ظنيّة فتحتاج إلى التعبد الخاص من الشارع والمفروض أنّ خلافه هو الموجود.

ولذلك يتعيّن العمل بالظهور ولا تضرّ مثل هذه القرينة والأمارة.

والأمر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الثاني أنّ السيرة العقلائيّة إنّما انعقدت على العمل بالظهور واتخاذه أساسا لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادة ، والشارع ليس من هذا القبيل ، فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالة متعارفة ولا توجد حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.

ص: 334

الإشكال الثاني : على السيرة العقلائيّة هو : أنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت منعقدة فعلا على العمل بالظهور لاكتشاف المراد الجدّي للمتكلّم بحيث يكون ظاهر كلامه هو مراده الجدّي وإلا لبيّن ما يدلّ عليه ، إلا أنّ هذا لا ينفعنا في إثبات حجيّة الظهور بالنسبة لكلام الشارع ؛ وذلك لوجود فارق كبير ومهم جدا بين معقد السيرة وبين ظهورات الشارع ، حيث إنّ السيرة معقدها الإنسان العرفي الذي عادة وغالبا ما لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بل يذكر كل ما له دخالة في مراده الجدّي في شخص كلامه ، ويكون غريبا ونادرا عند العقلاء الاعتماد على القرائن المنفصلة في توضيح المراد وبيانه ، ولذلك كان ما يظهر من كلام هذا الإنسان العرفي الاعتيادي حجّة له وعليه.

وأمّا بالنسبة لكلام الشارع فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة في بيان مراده الجدّي كثير جدا ، حتّى اشتهر القول بأنّه ما من عام إلا وقد خصّ ، وهذا يعني أنّه من المحتمل قويا ألا يكون مراده الجدّي هو ما ظهر من كلامه الآن ؛ لاحتمال أن يأتي بقرينة منفصلة تكشف عن المراد الجدّي المخالف لهذا الظهور.

وحينئذ كيف يمكننا أن نستدل على حجيّة ظهور كلام الشارع مع احتمال وجود القرينة المنفصلة أو مع احتمال صدورها فيما بعد؟ باعتبار أنّ طريقة الشارع في محاوراته تختلف عن طريقة العقلاء في محاوراتهم فلا يمكن لسيرة العقلاء أن تكون حجّة كاشفة عن أنّ الشارع يقبل حجيّة الظهور ولو في خصوص هذه الحالة للعلم باختلافهما.

وعلى هذا فيكون كلام الشارع مجملا إذا احتمل ورود القرينة المنفصلة على الخلاف وهو بقوّة القضيّة المهملة فيؤخذ منه بالقدر المتيقن فقط لا أكثر.

وهذا الاعتراض إنّما قد يتّجه إذا كان دليل الإمضاء متطابقا في الموضوع مع السيرة العقلائيّة ، فكما أنّ السيرة العقلائيّة موضوعها المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة كذلك دليل الإمضاء ، ولكنّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت مختصّة بالمتكلم الاعتيادي إلا أنّها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضا ، إما للعادة أو لعدم الاطلاع إلى فترة من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن

ص: 335

الحالة الاعتياديّة وهذا يشكّل خطرا على الأغراض الشرعيّة يحتّم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الأخذ بظواهر كلامه.

ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجيّة الظهور في الكلام الصادر منه.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّه مبنيّ على أن يكون الإمضاء المستكشف من عدم الردع عن السيرة متحددا ومطابقا لما انعقدت عليه السيرة من عمل ، فحيث إنّ السيرة قد انعقدت على الأخذ بظهور كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة غالبا وعادة فكذلك يكون دليل الإمضاء مقيّدا بهذا المقدار أي يستكشف بالسيرة حجيّة ظهور كلام الشارع فيما إذا لم يعتمد على القرائن المنفصلة ، وبما أنّنا نعلم أنّ الشارع مخالف لطريقة العقلاء في محاوراته وأنّه قد اعتمد فعلا على القرائن المنفصلة بحيث صار ذلك طريقا عاما وسلوكا شائعا عند الشارع فلا يمكننا بهذه السيرة الممضاة شرعا أن نثبت حجيّة ظهور كلام الشارع لاختلاف الدليل والمدّعى في الموضوع اختلافا يمنع من تماميّة الاستدلال لأنّ موضوع الدليل هو المتكلّم الذي لا يعتمد على القرائن المنفصلة ، بينما موضوع المدّعى هو الشارع وظهور كلامه الذي ثبت يقينا اعتماده على القرائن المنفصلة.

إلا أنّ الصحيح مع ذلك هو أنّ دليل الإمضاء المستكشف من عدم الردع أوسع وأشمل من موضوع السيرة العقلائيّة ، بل إنّه في الحقيقة لا يتوجه إلى السيرة بما هي عمل صامت أصلا ، بل الإمضاء يتوجه إلى النكتة التي ارتكزت عند العقلاء كما تقدّم سابقا فإنّ سيرة العقلاء إذا انعقدت على الأخذ بالظهور ولو في حدود كلام المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة إلا أنّها في الحقيقة سوف تشكّل إيحاء وارتكازا وعادة عند العقلاء بأنّ الشارع أيضا يعتمد على الأخذ بظهور كلامه ، فإذا أمضى الشارع هذه السيرة بسكوته عنها وعدم ردعها كان هذا السكوت امضاء لهذا البناء والارتكاز العقلائي الذي يقتضي تعميم الأخذ بالظهور حتّى في كلام الشارع.

ومجرّد العلم بأنّ الشارع قد اعتمد على القرائن المنفصلة لا يمنع من حجيّة هذه السيرة أو على الأقلّ لا يردع عنها ؛ إذ هناك موارد سوف يعتمد العقلاء فيها على

ص: 336

حجيّة ظهور كلام الشارع وذلك قبل اطلاعهم على طريقة الشارع ومسلكه بالنسبة لاكتشاف مراده الجدّي أي بلحاظ بداية التشريع ، فإنّه في تلك الفترة لا يعلم باعتماد الشارع على القرائن المنفصلة فيبني العقلاء حينئذ على حجيّة ظهور كلامه لاعتيادهم على ذلك في حياتهم الشخصيّة والتشريعيّة.

وهذا معناه أنّ هناك أحكاما للشارع سوف تتعرّض للخطر والضياع فيما لو سكت الشارع عن السيرة ولم يردع عنها إذا كان مخالفا لها ، إذ لا مبرّر لسكوته وعدم ردعه في تلك الفترة الزمنية ما دامت السيرة سوف تشكّل خطرا على أغراضه وأحكامه ، وهذا يحتّم عليه الردع وعدم السكوت ، وبما أنّه سكت ولم يردع ، كان ذلك معناه أنّ الأخذ بظهور الكلام حجّة حتّى بالنسبة للمتكلّم الذي يعتمد على القرائن المنفصلة إذا لم يعلم صدورها ، ومجرّد احتمالها كالقطع بعدمها.

ومن هنا كان سكوت الشارع وعدم ردعه عن السيرة ولو في بداية التشريع كاشفا عن حجيّتها في كون العمل بالظهور حجّة مطلقا.

وعلى هذا الأساس يكون احتمال القرينة المنفصلة غير مضرّ بانعقاد كلام المتكلّم وظهوره في مراده الجدّي. نعم ، عند ما تأتي هذه القرينة المنفصلة تكون معارضة لظهور كلامه المنعقد فعلا ، وحينئذ إذا أمكن الجمع بينهما فهو وإلا وقع التعارض ، فإذا كانت القرينة أقوى قدّمت عليه ، وكذا العكس وإلا فيحكم بالتساقط.

* * *

ص: 337

ص: 338

تشخيص موضوع الحجيّة

اشارة

ص: 339

ص: 340

تشخيص موضوع الحجيّة

ظهور الكلام في المعنى الحقيقي قسمان - كما تقدّم - تصوّري وتصديقي.

والظهور التصوّري كثيرا ما لا ينثلم حتّى في حالة قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ، فإذا قال المولى : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) ، كانت الجملة قرينة على أنّ المراد بالبحر معنى آخر غير معناه الحقيقي ، وعلى الرغم من وجود القرينة فإنّ الظهور التصوّري لكلمة البحر في معناها الحقيقي لا يزول ، وإنّما يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلّم لذلك المعنى الحقيقي.

تقدّم سابقا أنّ للكلام ثلاثة ظهورات :

الأول : الظهور التصوّري وهو الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ ، أي عبارة عن المعنى الموضوع له اللفظ ، ولذلك يكون منشأ هذا الظهور هو الوضع والعلم به.

الثاني : الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية ، فإذا كان المتكلّم ملتفتا وعاقلا وتلفّظ بهذا اللفظ يعلم بأنّه قد أراد استعمال اللفظ في معناه وإخطار هذا المعنى في ذهن السامع.

الثالث : الظهور التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة ، فإذا كان المتكلّم حكيما وعاقلا وملتفتا وتكلم بكلام فيكون له مراد جدي وراء تصوّر المعنى وإخطاره في الذهن ، وهذا المراد الجدّي هو أنّه يريد واقعا ما ظهر من كلامه أو ما أفاده من كلام ومعنى وليس هازلا.

والظهوران التصديقيّان الثاني والثالث يعتمدان على ظهور حال المتكلّم كما هو واضح.

وحينئذ نقول : إنّ الظهور التصوّري لا ينثلم ولا ينهدم أبدا حتّى مع وجود القرينة المتّصلة على خلافه.

ص: 341

وتوضيح ذلك : إذا قال المتكلّم أو المولى العرفي : ( اذهب إلى البحر وخذ العلم منه ) كانت الجملة الأخيرة قرينة متّصلة على أنّ المراد الجدّي للمتكلّم من كلمة البحر ليس معناها الحقيقي ، وإنّما معنى آخر له مناسبة مع المعنى الأوّل وهو العالم ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ كلمة ( البحر ) عند سماعها في هذه الجملة لا تدلّ على معناها الحقيقي ، بمعنى أنّ الصورة الذهنية التي تحضر إلى الذهن عند سماعها هي تلك الصورة التي وضعت لها هذه الكلمة لغة.

نعم ، يعلم بأنّ المتكلّم لم يستعملها في معناها الحقيقي ولم يرد جدا هذا المعنى ، فالمدلول التصديقي الاستعمالي والجدّي هما اللذان ينهدمان بالقرينة المتّصلة على الخلاف ؛ لأنّهما كما تقدّم يعتمدان على ظهور حال المتكلّم وظاهر حال المتكلّم هنا أنّه لا يريد استعمالا وجدا المعنى التصوّري اللفظي لكلمة البحر ، للقرينة التي نصبها على الخلاف.

وأمّا الظهور التصوّري فهو لا يرتبط بظهور حال المتكلّم لينهدم إذا من ظهور حاله في أنّه ليس في مقام الاستعمال والإرادة الجديّة للمعنى الحقيقي ، وإنّما يرتبط بالوضع اللغوي وهذا لا ينثلم أبدا ؛ لأنّ الوضع ثابت من الواضع.

والدليل على ذلك أنّ هذا اللفظ لو صدر من غير العاقل لحضر المعنى إلى الذهن وكان دالا على معناه التصوّري ، فالظهور التصوّري محفوظ دائما.

ومن هنا صحّ القول بأنّ الظهور التصوّري للفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف ، وأنّ الظهور التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتّصلة ، غير أنّه محفوظ حتّى مع ورود القرينة المنفصلة ، فإنّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن أصل الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي ، وإنّما تسقطه عن الحجيّة كما مرّ بنا في حلقة سابقة.

وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنّ الظهور التصديقي للكلام محفوظ دائما ، سواء كان هناك قرينة متّصلة أو منفصلة على الخلاف أم لا ؛ لأنّ هذا الظهور كما تقدّم مرتبط بالمدلول الوضعي للفظ للمعنى ، فإذا وجد اللفظ وجد معناه الحقيقي.

وأمّا الظهور التصديقي في أنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي وأنّه مراد جدا

ص: 342

فهذا إنّما يكون محفوظا فيما إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، ففي المثال المتقدّم لا يكون هناك ظهور تصديقي استعمالي ولا جدي لكلمة ( البحر ) في أنّها استعملت في معناها الحقيقي وأنّه مراد جدا ، وأمّا اذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف فينعقد هذا الظهور التصديقي ، وتكون الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي ، وأنّه مراد جدا ، كما لو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ).

نعم ، إذا كان هناك قرينة منفصلة على الخلاف فتكون هذه القرينة هادمة لحجيّة الظهور التصديقي الثاني لا الأوّل ، فلو قال المتكلّم : ( اذهب إلى البحر ) انعقد للكلام ظهور تصوّري وظهور تصديقي أوّل وظهور تصديقي ثان أي أنّه أخطر المعنى الحقيقي من اللفظ وأنّه استعمله فيه وأنّه أراده جدا ، فإذا قال بعد ذلك : ( وخذ العلم منه ) كانت هذه القرينة المنفصلة هادمة للمراد الجدّي أي الظهور التصديقي الثاني دون الظهور التصديقي الأوّل أو الظهور التصوّري ، بمعنى أنّه يتبين من خلال هذه القرينة المنفصلة أنّ المتكلّم لا يريد جدّا من كلمة البحر معناها الحقيقي لا أنّه لم يخطرها ولم يستعملها في المعنى الحقيقي.

ولذلك نقول : إنّ الظهور التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعمالية متوقفة على عدم القرينة المتّصلة لا المنفصلة.

وأمّا الظهور التصديقي الثاني فهو يتوقّف على عدم القرينة المنفصلة بلحاظ حجيّته لا بلحاظ أصل انعقاده ، وأمّا القرينة المتّصلة فهي تمنع من أصل انعقاده كالظهور التصديقي الأوّل.

وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي ، وبعد الفراغ عن حجيّة الظهور عقلائيّا وعن سقوطها مع ورود القرينة ، لا بدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجيّة ، وكيفيّة تطبيقها على موضوعها ، وبهذا الصدد نواجه عدة محتملات بدوا :

ثمّ إنّه بعد أن ميّزنا بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي بقسميه ، وعرفنا أنّ الأوّل محفوظ دائما ، والثاني منوط بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، وبعد أن أثبتنا حجيّة الظهور عقلائيّا أي أنّها من الأمارات العقلائيّة التي تكون كاشفة عن المراد الواقعي للمتكلّم ، وبعد أن عرفنا أنّ هذه الحجيّة تسقط مع وجود القرينة ، نأتي

ص: 343

للبحث عن موضوع هذه الحجيّة ، وأنّه أي واحد من الظهورين هو؟ وعن كيفيّة تطبيق هذه الحجيّة على موضوعها بعد تشخيصه؟

ومن أجل استيعاب البحث في هذا الأمر نذكر الاحتمالات المفروضة في هذه المسألة لنرى ما هو الصحيح منها؟ وهنا توجد ثلاثة محتملات هي :

المحتمل الأوّل : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصوّري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة.

المحتمل الثاني : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة.

المحتمل الثالث : أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينة منفصلة على خلافه.

والفارق بين هذا وسابقه أنّ عدم القرينة واقعا دخيل في موضوع الحجيّة على الاحتمال الثاني ، وليس دخيلا على الاحتمال الثالث بل يكفي عدم العلم بالقرينة.

الاحتمال الأوّل : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين هما :

الأول : الظهور التصوّري للكلام مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف ، سواء كانت متّصلة أم منفصلة. وهذا يعني أنّه في موارد وجود القرينة مطلقا يرفع اليد عن حجيّة الظهور لاختلال أحد الركنين ، إلا أن الظهور التصوّري محفوظ دائما ، ولذلك عند ما يشك في وجود القرينة مطلقا على الخلاف نتمسّك بأصالة الظهور لأنّها محفوظة وموضوعها متحقّق بكلا جزئيه ، لأنّ الظهور التصوّري موجود.

الثاني : وعدم العلم بالقرينة يتناسب مع الشك فيها ، فهو موجود أيضا ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في هذا المقام.

الاحتمال الثاني : ما ذكره الميرزا تبعا للشيخ من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركّب من أمرين أيضا ، هما : الظهور التصديقي للكلام ، أي المراد الجدّي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف. وهذا يعني أنّ صدور القرينة المنفصلة على الخلاف واقعا وإن لم تصل إلينا يكون مانعا من التمسّك بأصالة الظهور حتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة ، إذ يحتمل مع ذلك كونها صادرة فيكون شكا في تحقّق

ص: 344

الموضوع ومعه لا يتمسك بحجيّة الظهور ابتداء ، بل نحتاج إلى أصل ينفي هذه القرينة.

وأمّا إذا علم بعدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف فينعقد للكلام ظهور في المراد الجدّي ، ويكون هذا الظهور حجّة لأنّ كلا الركنين تام.

الاحتمال الثالث : ما هو مختار السيّد الشهيد ، من أنّ موضوع حجيّة الظهور مركب من أمرين أيضا :

الأوّل : الظهور التصديقي كما أفاده الميرزا.

والثاني : عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، لا عدم صدورها واقعا ، سواء وصلت أم لا.

وهذا يعني أنّه يكفي عدم وجود قرينة متّصلة على الخلاف لتتم وتنعقد أصالة الظهور ؛ لأنّه يصدق أنّه لا علم بوجود القرينة المنفصلة على الخلاف ، وحتّى في موارد الشك في وجود القرينة المنفصلة يتمسك بأصالة الظهور ابتداء لأنّ موضوعها متحقّق ؛ إذ عدم العلم بالقرينة المنفصلة يتناسب مع الشك في وجودها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر لينتفي به هذا الاحتمال بل نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة.

نعم ، في موارد احتمال القرينة المتّصلة احتمالا ذا منشأ معتدّ به لا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء وذلك لعدم تحقّق موضوعها ، إذ عدم القرينة المتّصلة غير متحقّق ، فلا ينعقد الظهور ليتمسك به ، ونحتاج هنا إلى نفي هذا الاحتمال في رتبة سابقة ليتنقح موضوع الحجيّة.

ثمّ إنّ هذا الاحتمال يشترك مع الاحتمال الثاني في أنّ الجزء الأوّل من موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ويختلف عنه في أنّ الجزء الثاني هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم وجودها واقعا ، كما في الاحتمال الثاني.

وتختلف هذه الاحتمالات في كيفيّة تطبيق الحجيّة على موضوعها ، فإنّه على الاحتمال الأوّل تطبق حجيّة الظهور على موضوعها ابتداء حتّى في حالة احتمال القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة لأنّ موضوعها هو الظهور التصوّري بحسب الفرض ، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتّصلة المحتملة فضلا عن المنفصلة كما عرفت ، فلا نحتاج إذا إلا إلى أصالة الظهور.

ص: 345

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الاحتمالات :

إنّه على الاحتمال الأوّل كان موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري ، مع عدم العلم بالقرينة مطلقا ، فإذا شكّ في وجود القرينة سواء كانت متّصلة أم منفصلة كان موضوع حجيّة الظهور تامّا ، ولذلك نتمسّك بأصالة الظهور ابتداء في هذه الحالة ، ولا نحتاج إلى أصالة أخرى ؛ وذلك لأنّ الظهور التصوّري الذي هو موضوع الحجيّة محفوظ دائما في الكلام حتّى مع وجود القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة فالجزء الأوّل تام ؛ ولأنّ عدم العلم بالقرينة على الخلاف موجود أيضا لأنّه في فرض الشك واحتمال وجود القرينة يصدق أيضا أنّه لا يعلم بوجودها ، فكلا الركنين متحقّق فتجري أصالة الظهور لتمامية موضوعها ، ولا نحتاج إلى أصل آخر في مرتبة سابقة لا في احتمال القرينة المتّصلة ولا في المنفصلة أيضا.

وأمّا على الاحتمال الثاني فإنما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع الجزم بعدم القرينة ، ولا يمكن الرجوع إليها كذلك مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة على هذا الاحتمال - الظهور التصديقي - وهو غير محرز مع احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف ، فلو قيل بحجيّة الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أوّلا افتراض أصل عقلائي ينفي القرينة المتّصلة لكي ينقّح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة.

وكذلك لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة - على الاحتمال الثاني - مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ المفروض أنّه قد أخذ عدمها في موضوع حجيّة الظهور ، فمع الشك فيها لا تحرز حجيّة الظهور ، بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أوّلا لتنقيح موضوع الحجيّة في أصالة الظهور.

وأمّا على الاحتمال الثاني القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف ، فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور فيما إذا علمنا يقينا بعدم القرينة على الخلاف متّصلة أو منفصلة ، لأنّه في هذه الحالة يتحقّق كلا الركنين ؛ إذ مع الجزم بعدم القرينة المتّصلة يكون الظهور التصديقي تام ، لأنّه منوط بعدم القرينة المتّصلة كما تقدّم سابقا ، إذ القرينة المتّصلة تمنع من انعقاد الظهور التصديقي ، ومع الجزم بعدم القرينة المنفصلة يتحقّق الجزء الثاني وهو عدم صدور

ص: 346

القرينة المنفصلة لأنّه مع القطع والجزم بعدمها يقطع بعدم صدورها أيضا ، إذ لو كان صدورها محتملا لم يكن هناك قطع بعدمها.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة أو المنفصلة فلا يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ؛ وذلك لأنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف يكون الجزء الأوّل من موضوع الحجيّة مختلاّ لأنّ الظهور التصديقي للكلام إنّما ينعقد ويحرز وجوده إذا لم يكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف ، فمع احتمالها والشك في وجودها شكّا ذا منشأ عقلائي معتدّ به لا يحرز هذا الظهور التصديقي وجدانا ، لأنّه حينئذ لا يعلم بأنّ المراد الجدّي مطابق للظهور التصديقي ؛ ولذلك يكون الظهور التصديقي مشكوكا غير معلوم فيكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، حيث يشك في الموضوع.

ولذلك لو أريد تطبيق حجيّة الظهور هنا لكان ذلك متوقفا أوّلا على نفي هذه القرينة المتّصلة وهذا يحتاج إلى افتراض وجود أصل عقلائي في المقام ينفي لنا احتمال هذه القرينة ، فإنّه حينئذ يتنقح موضوع حجيّة الظهور ويكون الظهور التصديقي محرزا على أساس هذا الأصل العقلائي المسمّى بأصالة عدم القرينة المتّصلة.

وهكذا لو احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فإنّه لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء لاختلال ركنها الثاني ، إذ مع وجود هذا الاحتمال لا يعلم بعدم صدور القرينة المنفصلة واقعا مع أنّ عدم صدورها واقعا شرط في هذه الحجيّة ، فهذا الاحتمال يتنافى مع اشتراط العلم بعدم وجود القرينة ، إذ قد تكون القرينة المنفصلة موجودا واقعا لكنها لم تصل إلينا لبعض الظروف والملابسات ، فيكون الشك في وجودها كالقطع بصدورها مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، فنحتاج أيضا إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال لكي ينقّح به موضوع الحجيّة ، وهذا الأصل يسمّى بأصالة عدم القرينة المنفصلة.

وبهذا ظهر أنّ احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة يمنع من التمسّك بأصالة الظهور ابتداء ، ونحتاج في هذين الموردين إلى التمسّك بأصالة عدم القرينة لنفي هذين الاحتمالين لكي ينقّح بعد ذلك موضوع أصالة الظهور.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم إمكان الرجوع إلى أصالة

ص: 347

الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المتّصلة لأنّ موضوع الحجيّة وهو الظهور التصديقي غير محرز مع هذا الاحتمال ، إلا أنّ الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المنفصلة ، لأنّ موضوع الحجيّة - على الاحتمال الثالث - محرز حتّى مع هذا الاحتمال بينما لم يكن محرزا معه على الاحتمال الثاني.

وأمّا على الاحتمال الثالث القائل بأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف ، فهو يتمّ فيما إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، فإنّه يتحقّق كلا الركنين لموضوع الحجيّة إذ مع العلم بعدم القرينة المتّصلة يتحقّق الظهور التصديقي لأنّه منوط بعدم العلم بالقرينة المتّصلة على الخلاف وهذا معلوم وجدانا ، ومع العلم بعدم القرينة المتّصلة يصدق أنّه لا يعلم بوجودها واقعا أيضا ، فيتحقق الركن الثاني ، ويتمسك بأصالة الظهور بلا شكّ في هذه الحالة.

يبقى أنّه في موارد احتمال القرينة المتّصلة أو المنفصلة على الخلاف هل يمكن التمسّك بأصالة الظهور ابتداء أم لا؟

والجواب : أنّنا إذا احتملنا وجود القرينة المتّصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال مانعا عن التمسّك بأصالة الظهور مباشرة وابتداء ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل ، فإنّ الظهور التصديقي للكلام لا ينعقد إلا مع عدم وجود القرينة المتّصلة فمع احتمال وجودها أو الشك في ذلك لا يعلم بعدم القرينة المتّصلة واقعا ، ولذلك يشك في تحقّق الظهور التصديقي ، ومعه يكون التمسّك بأصالة الظهور ابتداء تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ؛ إذ موضوعها غير محقّق ، فنحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة ينفي لنا هذا الاحتمال ليتنقّح به موضوع أصالة الظهور ، كما هو الحال في الاحتمال الثاني.

وأمّا إذا احتملنا وجود القرينة المنفصلة على الخلاف فيمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء خلافا للاحتمال الثاني ، وذلك لأنّ موضوع الحجيّة هنا هو الظهور التصديقي وهو محرز في الفرض لأنّ القرينة المتّصلة غير موجودة ولا يحتمل وجودها أيضا ، فالجزء الأوّل تام ، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة محرز أيضا ؛ لأنّ عدم العلم بها يتناسب مع الشك في وجودها أو احتماله ، إذ يصدق في الفرض المذكور أنّنا لا نعلم

ص: 348

بوجود القرينة المنفصلة واقعا ، فالجزء الثاني تام أيضا ، فتطبّق أصالة الظهور مباشرة ولا تحتاج إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة هنا ، خلافا للاحتمال الثاني فإنّه يحتاج فيه في هذا الفرض إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة لأنّ موضوع الحجّة كان عدم وجود القرينة المنفصلة وهذا غير محرز مع احتمال وجودها ، فنحتاج إلى أصل ينفي هذا الاحتمال في مرتبة سابقة.

والحاصل أنّنا نتمسّك بأصالة الظهور مباشرة في موارد احتمال القرينة المنفصلة ، بينما في موارد احتمال القرينة المتّصلة نحتاج إلى أصالة عدم القرينة في رتبة سابقة.

والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات : أنّ الاحتمال الأوّل ساقط لأنّ المقصود من حجيّة الظهور تعيين مراد المتكلّم بظهور كلامه ، وهي إنّما تناط عقلائيّا بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود ، إذ ليس مبنى العقلاء في الحجيّة على التعبد المحض ، وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوّري بل التصديقي ، فإناطة الحجيّة بغير حيثيّة الكشف بلا موجب عقلائيّا ، فيتعيّن أن يكون موضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي.

ونأتي الآن لتحقيق الحال في هذه الاحتمالات وتعيين الاحتمال الصحيح منها فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل الذي ذكره المحقّق الأصفهاني : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصوّري مضافا إلى عدم العلم بالقرينة مطلقا فهو غير صحيح ؛ وذلك لأنّ المراد من حجيّة الظهور تعيين المراد الجدّي والواقعي للمتكلّم من خلال ظهور كلامه.

ومن المعلوم أنّ مراده الجدّي إنّما يكون ثابتا فيما إذا كان للكلام ظهور تصديقي لأنّ المراد الجدّي يعتمد على ظهور حال المتكلّم العاقل الحكيم الملتفت في أنّ ما أخطره واستعمله تصوّرا في كلامه هو مراده الجدّي الواقعي ، وإلا لكان مخلا لما هو المتعارف عقلائيّا في المحاورات ، وعلى هذا فما يكون كاشفا عن المراد الجدّي إنّما هو المدلول التصديقي للكلام وليس المدلول التصوّري لأنّ المدلول التصوّري مرتبط بالوضع.

ولذلك قلنا : إنّه لا ينهدم سواء كان هناك قرينة على خلافه أم لا ، ولذلك لا

ص: 349

يتحدّد المراد الجدّي من خلال الظهور التصوّري ما لم يكن هناك ظهور تصديقي ، وبهذا يعرف أن الكاشف عن المراد الجدّي هو الظهور التصديقي ، وحجيّة الظهور يراد أن يكتشف بها المراد الجدّي للمتكلّم من خلال كلامه ، فيكون الظهور التصديقي هو موضوع حجيّة الظهور ، لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي.

وأمّا اعتبار المدلول التصوّري هو موضوع حجيّة الظهور فهذا معناه أنّ موضوع الحجيّة لم يكن هو الحيثية الكاشفة عن المراد الجدّي ، وهذا خلف اعتماد العقلاء على حجيّة الظهور لأنّهم إنّما يبنون على حجيّة الظهور باعتبارها كاشفة عن المراد الواقعي فتعليقها على الظهور التصوّري يعني أنّه لم يلاحظ في حجيّة الظهور حيثيّة الكشف وأنّهم أناطوها بالظهور التصوّري من باب التعبّد المحض ، وهذا لا وجود له في حياة العقلاء ، إذ العقلاء لا يعملون بشيء من الأمارات إلا إذا كانت لها كاشفيّة عن المراد الجدّي ولو كشفا ظنيا ، والحال أنّ الظهور التصوّري لا يوجد فيه أي كشف عن المراد الجدّي الواقعي ، إلا اذا كان هناك تطابق بينه وبين المدلول التصديقي فيكون المعيار والمناط في الحقيقة هو الظهور التصديقي لأنّه الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي دون غيره.

والحاصل : أنّ هذا الاحتمال يجعل موضوع الحجيّة على خلاف ما يعتقده ويبني عليه العقلاء في الحجج والأمارات من كونها كاشفة عن الواقع ؛ ، وذلك لأنّه لا يوجد كشف عن الواقع في الظهور التصوّري ، لأنّه محفوظ دائما سواء كان الواقع مطابقا له أم لا ، فالمناط وموضوع الحجيّة هو الظهور التصديقي لأنّه هو الذي يكشف عن الواقع والمراد الجدّي وهذا هو المراد من حجيّة الظهور.

كما أنّ الاحتمال الثاني ساقط أيضا ، باعتبار أنّه يفترض الحاجة في مورد الشك في القرينة المنفصلة إلى إجراء أصالة عدم القرينة أوّلا ثمّ أصالة الظهور ، مع أنّ نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرّر له عقلائيّا إلا كاشفيّة الظهور التصديقي عن إرادة مفاده ، وأنّ ما قاله يريده ، وهي كاشفيّة مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.

وحيث إنّ الأصول العقلائيّة تعبّر عن حيثيات من الكشف المعتبرة عقلائيّا ، وليست مجرّد تعبدات بحتة ، فلا معنى حينئذ لافتراض أصالة عدم القرينة ثمّ

ص: 350

أصالة الظهور ، بل يرجع إلى أصالة الظهور مباشرة ، لأنّ كاشفيّته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة ، لا أنّها مترتبة على نفي القرينة بأصل سابق.

وأمّا الاحتمال الثاني الذي ذكره الميرزا : من أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة ، فهو صحيح بالنسبة للجزء الأوّل - أي أن المدلول التصديقي موضوع للحجيّة كما تقدّم في الرد على الاحتمال الأوّل - لأنّه هو الكاشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم ، إلا أنّ الجزء الثاني ليس صحيحا إذ يكفي عدم العلم بصدور القرينة المنفصلة سواء كانت صادرة واقعا أم لا.

وتوضيح ذلك : أنّنا ذكرنا في الفارق بين الاحتمالين الثاني والثالث أنّه على الثاني لا يمكننا التمسّك بأصالة الظهور ابتداء في حالة الشك في صدور القرينة المنفصلة بل نحتاج إلى أصالة عدم القرينة بخلافه على الاحتمال الثاني فإنّه يتمسك بأصالة الظهور ابتداء كما هو الصحيح. وهنا نقول : إنّه لا معنى لأصالة عدم القرينة المذكورة في فرض الشك في صدور القرينة المنفصلة ؛ وذلك لأنّ هذه الأصالة والتي هي من الأمارات العقلائيّة إذا كانت تعبديّة محضة من دون أن يكون لها كاشفيّة عن الواقع وعن المراد الجدّي للمتكلّم فهذا مخالف للأمارات العقلائيّة من أنّها تكون بداعي الحيثية الكاشفة ، إذ لا وجود للتعبّدات المحضة في حياة العقلاء ، فيتعيّن أن يكون العمل بهذه الأصالة بناء على كاشفيتها ، وحينئذ لا بدّ أن نعرف ما هو المنشأ لهذه الكاشفيّة الذي من أجله بنى العقلاء على هذه الأصالة في الفرض المذكور.

والجواب : أنّه لا مبرّر ولا منشأ لهذه الكاشفيّة سوى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا صدر منه كلام فإنّ كان نصّا فلا بحث لحجيّة الظهور أصلا كما تقدّم ، وإن كان مجملا لم يكن له ظهور في معناه فلا يمكننا الأخذ به ، بل نتوقف وننتظر إلى أن يأتي ما يدلّ عليه ويفسّره وإلا أخذنا بالقدر المتيقن فيه ، وإن كان له ظهور في معناه أخذنا بهذا الظهور وعملنا به. فإذا احتملنا صدور قرينة منفصلة على الخلاف كان هذا الاحتمال منفيا بنفس ظهور الكلام في معناه بمعنى أنّ هذا الظهور الذي هو حجّة لا ترفع اليد عنه إلا بحجّة أقوى منه وهذه الحجّة الأقوى لم تثبت بعد فلا يوجد مبرّر لرفع اليد عن هذا الظهور فنتمسك به.

وهذا معناه أنّ نفي هذا الاحتمال يكفي فيه التمسّك بالظهور وكونه حجّة ولا

ص: 351

نحتاج إلى أن نتمسّك بأصل سابق ؛ إذ هذا الأصل السابق لا وجود له إذا لم يكن للكلام ظهور كما ذكرنا ، ومع وجود الظهور نستغني عن هذا الأصل لأنّ الظهور بنفسه ينفي مثل هذا الاحتمال لصدور القرينة المنفصلة لأنّ مفاد هذا الظهور أنّ المتكلّم قد أفاد تمام مراده الجدّي بما ظهر من كلامه لأنّه لو كان مراده الجدّي شيئا آخر لكان اللازم ذكره وبيانه في هذا الكلام ، فمع عدم ذكره فيه يدلّ ظاهر حاله على أنّه لا يوجد شيء آخر دخيل في مراده الجدّي الذي أبرزه وإلا لكان مخلا بما هو المتعارف في المحاورات العقلائيّة والعرفية والمفروض أنّ الشارع قد سلك طريقة العقلاء في المحاورة والبيان.

وبهذا يظهر أنّ نفس التمسّك بأصالة الظهور يساوق نفي هذه القرينة المنفصلة المحتملة ولا نحتاج إلى أصل عقلائي في رتبة سابقة.

وعلى أساس أصالة الظهور يتفرع نفي احتمال القرينة المنفصلة وليس العكس.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثالث ، وعليه فإن علم بعدم القرينة مطلقا رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداء ، وان شك في القرينة المتّصلة فهناك ثلاث صور :

فالصحيح : هو أنّ الاحتمال الثالث هو المتعين فيكون موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة وعلى هذا فإذا علمنا بعدم وجود قرينة أصلا لا متّصلة ولا منفصلة فيكون موضوع حجيّة الظهور محرزا وجدانا ، وكذلك إذا علمنا بعدم القرينة المتّصلة وشككنا في صدور القرينة المنفصلة فإنّ موضوع الحجيّة محرز أيضا ، أمّا الجزء الأوّل فلعدم وجود القرينة المتّصلة للعلم بعدمها ، وأمّا الجزء الثاني فلأنّ احتمال القرينة المنفصلة مساوق لعدم العلم بوجودها أيضا.

وأمّا إذا احتملنا صدور القرينة المتّصلة في الكلام فهنا لا بدّ أن نتحدث عن الصور المفترضة في هذه المسألة وهي ثلاث صور كما يلي :

الصورة الأولى : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة لأنّها على خلاف العادة وظهور الحال ، وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقح الظهور الذي هو موضوع الحجيّة ، ونسمّي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة لأنّه بها تنتفي القرينة.

ص: 352

الصورة الأولى : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم إلا أنّ السامع قد غفل عنها ولم يلتفت إليها بحواسه فيكون منشأ احتمال القرينة المتّصلة هو غفلة السامع عن ذكرها في الكلام بأن يفرض أنّ المتكلّم قد ذكرها لكنّ السامع لم ينتبه إليها.

فهنا لا إشكال في تماميّة موضوع حجيّة الظهور ، فيتمسك به ؛ وذلك لأنّ احتمال هذه القرينة المتّصلة الناشئة من الغفلة تنفى بأصل عقلائي ثابت عند العقلاء وكاشف عن المراد الجدّي والواقع ، وهو أنّ الإنسان حين سماعه لكلام المتكلّم يكون ملتفتا وذاكرا لما يقوله ولا يغفل عمّا يذكره من كلام إلا أن يعلم يقينا بذلك.

وعليه ، فيكون الأصل في هذه الحالة هو عدم غفلة السامع وبالتالي يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة منتفيا لانتفاء منشئه ، فإذا انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة تنقّح بذلك موضوع حجيّة الظهور ، وهو المدلول التصديقي حيث إنّه لا وجود للقرينة المتّصلة استنادا إلى هذا الأصل العقلائي والقرينة المنفصلة لا يعلم وجودها كما هو المفروض فيتحقق موضوع حجيّة الظهور ، وأصالة عدم الغفلة نسميها أصالة عدم القرينة ، لأنّه على أساس هذه الأصالة انتفى احتمال وجود القرينة المتّصلة ، وهذا يعني أنّه لا يوجد أصل عقلائي يسمّى بأصالة عدم القرينة في هذه الحالة ، وإنّما من باب المناسبة فقط.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في وجودها لاحتمال اسقاط الناقل لها ، وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ولو ضمنا بأنّه استوعب في نقله تمام ما له دخل في إفادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع أصالة الظهور.

الصورة الثانية : أن يحتمل وجود القرينة المتّصلة في كلام المتكلّم لكن الناقل الذي يروي كلامه أسقط هذه القرينة من كلامه بأن كان نسيها مثلا فلم يذكرها ، وهذا يعني أنّ الناقل إما أن يكون قد تعمد إسقاطها ، وإما أن يكون نسيها.

وعلى كل حال فإنّ هذا الاحتمال يمكن نفيه على أساس شهادة الراوي ووثاقته ، فإنّ إحراز وثاقة الراوي يتكفّل مئونة نفي احتمال تعمّد الكذب ، إذ هو خلاف وثاقته المحرزة ، وشهادة الراوي الذي ينقل الكلام تدلّ بالمطابقة على أنّ المتكلّم قد تكلم بهذا الكلام وتدلّ بالتضمّن أو بالالتزام على أنّه لم يقل شيئا آخر ، أي أنّه قال هذا الكلام

ص: 353

فقط ، ولم يقل كلاما آخر له مدخليّة في تفسير المراد من الكلام السابق ، فإنّ شهادة الراوي هذه تعتبر في الحقيقة شهادة ضمنية أو شهادة سلبية مستفادة من سكوت الراوي وعدم ذكره إلا لهذا الكلام الذي يعني أنّ المتكلّم قد قال هذا فقط ولم يقل شيئا آخر ، ولذلك سكت الناقل ولم ينقل شيئا آخر زائدا على ما ذكره من باب الأمانة والدقة في النقل.

وبهذا ننفي احتمال أن يكون الناقل قد أسقط القرينة المتّصلة عند نقله لكلام المتكلّم لأنّه ثقة ، ولأنّه شهد بأنّ هذا هو كلام المتكلّم لا أزيد ؛ وهذا أصل عقلائي أيضا ، فإنّ العقلاء يبنون على صحّة النقل المذكور وأنّه لا يوجد شيء آخر لم ينقل لأنّ ظاهر حال المتكلّم الثقة الأمين أنّه ينقل كل كلام المتكلّم دون زيادة أو نقصان ، وحينئذ يتنقّح موضوع حجيّة أصالة الظهور ، ولا نحتاج إلى أصالة عدم القرينة أيضا.

الصورة الثالثة : أن يكون الشك في وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ولا من الإسقاط المذكور ، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداء ، للشك في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح موضوعها بإجراء أصالة عدم القرينة لأنّه لا توجد حيثيّة كاشفة عقلائيّة عن عدم القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنوا على أصالة عدم القرينة.

وبهذا نعرف أنّ احتمال القرينة المتّصلة في مثل هذه الحالة يوجب الإجمال.

الصورة الثالثة : أن يكون احتمال وجود القرينة المتّصلة ليس منشؤه احتمال الغفلة أو احتمال إسقاط الناقل لها. وإنّما يكون منشؤه شيئا آخر وراء هذين الاحتمالين ، كما لو وصلنا كلام المتكلّم في رسالة مقتطعة الذيل واحتملنا أن يكون الذيل عبارة عن مقيّد أو مخصّص لإطلاق أو لعموم كلامه في الصدر ، أو كما إذا كان هناك قرائن حالية لبيّة متّصلة بالخطاب اعتمد عليها المتكلّم لإفهام السامع والناقل لم يذكرها الناقل لأنّها ليست قرينة لفظية وإنّما هي من المرتكزات اللبيّة التي لا يجب على الناقل ذكرها عند نقله.

فهنا لا يمكن إجراء أصالة عدم الغفلة أو الاعتماد على وثاقة وشهادة الناقل كما في الصورتين السابقتين ، إذ لا مورد لهما هنا وكذلك لا يمكن نفي هذا الاحتمال استنادا إلى أصالة عدم القرينة لأنّه لا يوجد منشأ لهذه الأصالة يكون كاشفا ظنيا

ص: 354

عقلائيّا عن المراد الجدّي للمتكلّم ، إذ لا وجود لهذه الأصالة عند العقلاء كأصل تعبّدي لأنّهم لا يبنون على الأصول التعبديّة كما تقدّم والمنشأ المذكور لهذا الاحتمال لا يوجد أصل عقلائي ينفيه ، إذ لا يوجد ما يكشف عن المراد الواقعي ليعتمد عليه لا أصالة عدم الغفلة ولا وثاقة الراوي وشهادته ، ولا ظهور الكلام لأنّه مع وجود هذه القرينة لا ينعقد للكلام ظهور ، ومع الشك يشك في أصل انعقاد الظهور وبالتالي لا يحرز ولا يتنقّح موضوع حجيّة الظهور وهو المدلول التصديقي إذ لا علم بعدم القرينة المتّصلة لأنّ المفروض إنّنا نحتمل وجودها ومع الاحتمال لا علم.

ولهذا يكون هذا الاحتمال موجبا للاجمال في كلام المتكلّم ومانعا من انعقاد ظهور كلامه ، ولذلك قلنا سابقا : إنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة كالقطع بوجودها إذا كان احتمالها من هذا القبيل.

وبهذا ظهر أنّ موضوع حجيّة الظهور هو المدلول التصديقي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وأمّا مع احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من مثل هذا الاحتمال فيكون مانعا عن انعقاد الظهور وموجبا للإجمال في الكلام ، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال بأصالة عدم القرينة لما تقدّم من عدم الكاشفيّة عن المراد الجدّي في مثل هذه الحالة ، ولا يمكن جريان أصالة عدم الغفلة أو وثاقة وشهادة الراوي لأنّه لا مورد لهما هنا.

وبما ذكرناه اتّضح أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة كلّ منهما أصل عقلائي في مورده ، فالأوّل يجري في كل مورد أحرزنا فيه الظهور التصديقي وجدانا أو بأصل عقلائي آخر ، والثاني يجري في كل مورد شكّ فيه في القرينة المتّصلة لاحتمال الغفلة ، ولا يرجع أحد الأصلين إلى الآخر ، خلافا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة ، ولصاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور.

وحاصل الكلام : اتّضح ممّا ذكرناه أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة أصلان عقلائيان مستقلان عن بعضهما ، ولكل منهما مورده الخاص وموضوعه الذي يجري فيه ، بحيث لا يكون لهما موضوع واحد. مضافا إلى الاختلاف بينهما سلبا أو إيجابا.

ص: 355

فأصالة الظهور أصل عقلائي وجودي يتمسك بها في كل مورد أحرز فيه الظهور التصديقي للكلام إمّا وجدانا بأن علمنا يقينا بعدم القرينة المتّصلة والمنفصلة على الخلاف ، وإما بأصل عقلائي آخر كأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقيقة ، ونحوها من الأصول اللفظيّة الوجودية التي ترجع في حقيقتها إلى أصالة الظهور عند الشك في كون المدلول التصديقي هو العموم أو الاطلاق أو الحقيقة ، أو عند الشك في إسقاط القرينة المتّصلة لاحتمال إسقاط الناقل لها فإنّ هذا الاحتمال ينفي كما تقدّم تمسّكا بوثاقة وشهادة الناقل الضمنيّة السلبية ، فإنّ الوثاقة والشهادة من الكواشف الظنية العقلائيّة عن المراد الجدّي والواقعي.

بينما أصالة عدم القرينة التي هي أصل عقلائي سلبي تجري في كل مورد احتمل فيها وجود القرينة المتّصلة من جهة احتمال الغفلة والخطأ وعدم الانتباه كما تقدّم في الصورة الأولى ، فإنّ هذه القرينة تنفى بأصالة عدم الغفلة التي قلنا : إنها تسمّى بأصالة عدم القرينة أيضا ، لأنّه إذا انتفت الغفلة فتنتفي القرينة أيضا.

والحاصل : أنّ كلا من هذين الأصلين أصل مستقل في نفسه عن الآخر له مورده وموضوعه الخاص به ولا يرجع أحدهما إلى الآخر ؛ لأنّ أصالة الظهور عبارة عن أصل وجودي يتمسك فيها بما هو موجود ، بينما أصالة عدم القرينة أصل عدمي يتمسك فيها لنفي وجود شيء.

وخالف في ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة كما هو المتراءى من بعض عبائره ، بمعنى أنّ الشك في الظهور وانعقاده مسبّب عن الشك في وجود القرينة وعدمها ، فإذا كان هناك قرينة على الخلاف فلا ظهور وإن لم يكن هناك قرينة فالظهور تام ، وهذا معناه أنّ أصالة عدم القرينة هي التي تنقّح أصالة الظهور دائما ، فأصالة الظهور في طول أصالة عدم القرينة.

والوجه في كلامه ما أفاده المحقّق العراقي من أنّ القول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لازمه القول المذكور ، إذ لو كان هناك قرينة ولكنّه لم يذكرها كان معناه أنّه أخرّ البيان عن وقت الحاجة فدائما إذا انتفت القرينة تنقّحت أصالة الظهور.

وخالف أيضا في ذلك صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور ؛ وذلك لأنّ الشك في وجود القرينة وعدمها راجع إلى

ص: 356

الشك في تحقّق الظهور وعدمه ، فإذا كان الكلام ظاهرا وظهوره ثابت وجدانا فهذا معناه أنّه لا توجد قرينة على الخلاف ، وإن لم يكن كذلك فمعناه أنّه توجد قرينة مخالفة للظهور ، فالشك في وجود القرينة دائما مسبّب عن الشك في انعقاد الظهور وتماميته وعدمه.

والوجه في ذلك أنّ العقلاء لا يوجد عندهم أصلان مستقلان لكل منهما كاشفيّته الخاصّة ومورده الخاص ، وإنّما عندهم أصل واحد وكاشفيّة واحدة ، فالعقلاء يعملون بأصالة الظهور سواء كان هناك علم بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف أو لم يكن هناك علم بعدمهما بأن كانت القرينة محتملة ، لأنّهم يعتبرون أنّ أصالة الظهور كاشفة عن المراد الجدّي للمتكلّم وأنّ مراده الواقعي مطابق لظاهر كلامه ، فظاهر كلامه هو الكاشف عن المراد الجدّي فيتمسك به.

* * *

ص: 357

ص: 358

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

اشارة

ص: 359

ص: 360

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

الظهور سواء كان تصوّريا أم تصديقيا تارة يراد به الظهور في ذهن إنسان معيّن ، وهذا هو الظهور الذاتي.

وأخرى يراد به الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام ، وهذا هو الظهور الموضوعي.

والأوّل يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصيّة للذهن والتي تختلف من فرد إلى آخر تبعا إلى أنسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني الذي له واقع محدد يتمثل في كل ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام.

الظهور الذاتي والموضوعي :

الظهور كما تقدّم يقسم إلى قسمين : ظهور تصوّري وهو الذي ينشأ من وضع اللفظ للمعنى ، وظهور تصديقي وهو الذي ينشأ من ظاهر حال المتكلّم في إرادة استعمال اللفظ في معناه وكونه مرادا له جدا.

والظهور كما تقدّم حجّة وموضوعه هو الظهور التصديقي ، والبحث الآن في أنّ الظهور الحجّة هل هو الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي؟

والمراد من الظهور الذاتي هو الظهور الذي يحصل في ذهن إنسان معيّن أي الظهور لدى الشخص ذاته.

والمراد من الظهور الموضوعي هو الظهور الثابت كحقيقة واقعيّة تكوينية بموجب علاقات اللغة ووضع اللفظ للمعنى على أساس ما هو المتعارف عند العرف والشرع العام من أساليب التعبير في محاوراتهم العرفية.

والفرق بين هذين الظهورين أنّ الظهور الذاتي أمر نسبي يختلف من شخص لآخر لأنّه يتأثّر بالعوامل والظروف الذاتية والشخصيّة للفرد وهذه الظروف تختلف

ص: 361

من فرد لآخر تبعا لما هو مرتكز عنده وما هو موجود في ذهنه من أنس على أساس يوجب انصراف ذهنه إلى معنى معيّن نتيجة ندرة وجود غيره عنده أو كثرة استعماله فيه.

بينما الظهور الموضوعي أمر حقيقي ثابت بنحو مطلق لدى النوع والعرف ولا يتغيّر ولا يختلف من شخص لآخر ، لأنّه تابع لقوانين اللغة وقواعدها وأساليب المحاورات والتعبير العام لدى أهل اللغة ، وهذه ثابتة عند العرف العام والنوع.

وعلى هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح فنقول :

وما هو موضوع الحجيّة الظهور الموضوعي لأنّ هذه الحجيّة قائمة على أساس أنّ ظاهر حال كل متكلّم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله باعتباره إنسانا عرفيّا إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعيّا لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصيّة في ذهن هذا السامع أو ذاك.

والصحيح : أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ؛ وذلك لأنّ حجيّة الظهور قائمة على حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم من خلال ظهور حاله في أنّه أراد جدّا ما استعمله وأخطره من معنى في كلامه.

ومن الواضح أنّ المعنى يرتبط باللفظ على أساس أنّ اللفظ موضوع للمعنى ، والوضع إنّما كان لأهل اللغة بشكل عام لا للفرد الشخصي.

فالمتكلم يتحدد مراده الجدّي باعتباره فردا من أبناء اللغة لا باعتباره الشخصي وهذا يعني أنّه يريد المعنى الذي يفهمه النوع العام وفقا لقواعد اللغة وأساليب التعبير.

فحجيّة الظهور التي تقوم على أساس الكاشفيّة إنّما تكون كذلك لأنّ اللفظ يكون كاشفا عن المعنى وكاشفيّته مرتبطة بوضعه له ، وليس على أساس بعض الظروف والملابسات التي يتأثّر بها الشخص ، فإنّ هذا الظاهر ليس حجّة إلا على نفس الشخص فقط ، ولا يكون كاشفا وحجّة لدى النوع.

والمراد من حجيّة الظهور كون ما يظهر من الكلام حجّة للسامع باعتباره النوعي لا باعتباره الشخصي ، لأنّ حجيّة الظهور كانت قائمة على أساس السيرة العقلائيّة لأهل اللغة والعرف والمحاورة ، فيجب أن يكون المعنى ظاهرا عندهم ليكون حجّة.

وأمّا الظهور الذاتي وهو ما قد يعبّر عنه بالتبادر أو الانسباق فيمكن أن يقال

ص: 362

بأنّه أمارة عقلائيّة على تعيين الظهور الموضوعي ، فكلّ إنسان إذا انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئا محدّدا شخصيا يمكن أن يفسّر ذلك الانسباق فيعتبر هذا الانسباق دليلا على الظهور الموضوعي.

وأمّا الظهور الذاتي فيمكن أن يكون له فائدة وهي :

بما أنّ الظهور الذاتي عبارة عمّا ينسبق ويتبادر إلى ذهن الشخص من معنى فهناك حالتان :

الأولى : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ نتيجة لبعض الظروف والملابسات والأنس الشخصي كما تقدّم وفي هذه الحالة لا يكون هذا الظهور حجّة ، ولا يكون كاشفا عن المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ ، لأنّه يعلم بأنّه كان ناتجا عن العوامل والظروف الشخصيّة المحيطة بالشخص ذاته.

الثانية : أن يكون انسباق المعنى إلى الذهن وتبادره من اللفظ غير متأثر بهذه العوامل والظروف والملابسات الشخصيّة بأن فحص الإنسان ودقّق في هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه فلم يجد شيئا من العوامل الذاتية والشخصيّة كان مؤثرا على تبادر هذا المعنى ، فهنا يمكن لهذا الشخص بعد التأكد من عدم وجود مبرّر شخصي وذاتي لتبادره أن يستكشف أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنه هو نفس المعنى الموضوع له اللفظ عند العرف العام والنوع من أهل اللغة والمحاورة. وبالتالي يكون هذا التبادر كاشفا عن الظهور الموضوعي أي أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ ظاهر لكل أبناء النوع من أهل اللغة والمحاورة ، والظهور الموضوعي بدوره يكون كاشفا عن الوضع الحقيقي وأنّ هذا المعنى هو المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ.

وبهذا ينبغي أن يميّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.

فالأوّل : كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع.

والثاني : كاشف إنّي تكويني - مع عدم القرينة - عن الوضع.

وبهذا يتّضح أنّه يوجد نحوان من التبادر يجب التمييز بينهما ، هما :

الأوّل : التبادر على مستوى الظهور الذاتي والذي يكون كاشفا عن الظهور الموضوعي كما ذكرنا ، والظهور الموضوعي يكشف عن الوضع ، فيكون هذا التبادر

ص: 363

كاشفا عن الوضع بتوسط الظهور الموضوعي ، وأمّا منشأ هذا التبادر فقد يكون الوضع وقد يكون عدم وجود المبررات والظروف الذاتية والشخصيّة.

الثاني : التبادر على مستوى الظهور الموضوعي وهو الذي تقدّم سابقا أنّه كاشف عن وضع اللفظ للمعنى على نحو الحقيقة في مقابل المجاز ، فهذا التبادر يكشف عن الوضع ابتداء مع عدم وجود القرينة على المجاز ، لأنّه في الحقيقة معلول للوضع فيكون كاشفا إنيّا عن الوضع ، أي أنّ هذا المعنى الذي تبادر إلى الذهن منشؤه الوضع العام عند أهل اللغة والمحاورة.

* * *

ص: 364

الظهور الموضوعي في عصر النص

ص: 365

ص: 366

الظهور الموضوعي في عصر النص

لا شكّ في أنّ ظواهر اللغة والكلام تتطور وتتغير على مرّ الزمن بفعل مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية واجتماعية ، فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث.

وموضوع الحجيّة هو الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له ، لأنّها حجيّة عقلائيّة قائمة على أساس حيثيّة الكشف والظهور الحالي.

ومن الواضح أنّ ظاهر حال المتكلّم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلا في زمان صدور الكلام منه ، وعليه فنحن بالتبادر نثبت - بطريق الإنّ - الظهور الذاتي وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع.

بعد أن عرفنا أنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ، فنسأل هل الظهور الموضوعي الذي هو الموضوع للحجيّة هو الظهور في عصر النّص ، أو في عصر السماع؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بأس بالإشارة إلى أمر وهو أنّ اللغة في حالة تطور وتغير دائما على مرّ العصور والأزمنة ، وهذا الأمر لا شكّ فيه ؛ لأنّه ثابت بالوجدان فهناك الكثير من المفردات في اللغة قد هجرت أو نقلت عن معناها ، وهناك الكلمات والمفردات الدخيلة على اللغة ، والتي صارت بمرور الوقت جزءا من اللغة ، ومنشأ هذا التغير والتطور هو العوامل والظروف المختلفة ، فإنّ الفكر الإنساني في حالة تقدّم دائما ، وكلما اكتشف شيئا جديدا لا بدّ أن يضع بإزائه لفظا يدلّ عليه وهذا لم يكن موجودا سابقا ، وكذلك العوامل الاجتماعية من اختلاط الناس والألسنة والشعوب وانتقال الثقافات وتبادلها بين الشعوب. وعلى هذا الأساس قد يكون اللفظ ظاهرا في

ص: 367

معنى في عصر النصّ والصدور وليس ظاهرا فيه الآن أو العكس ، وقد يكونان متطابقين معا ، من قبيل كلمة الشبهة أو الشك الواردتين في الأحاديث فإنّ معناها في عصر النصّ يختلف عن معناها الآن خصوصا في علم الأصول والفقه.

بعد هذا نعود للإجابة عن السؤال المطروح ، فإنّ موضوع حجيّة الظهور هو الظهور الموضوعي للفظ في معناه الثابت في عصر النصّ والصدور ، وليس في عصر السماع المغاير له. نعم ، لو كانا متطابقين فلا إشكال في كون الحجيّة موضوعها كلا الظهورين.

والوجه في كون الظهور الموضوعي في عصر النصّ هو الموضوع للحجيّة هو أنّ حجيّة الظهور كما تقدّم قائمة على أساس حيثيّة الكشف عن المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم والذي يستكشف من خلال ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدا ما ذكره وقاله ، وما هو ظاهر كلامه.

ومن الواضح أنّ كل متكلّم يريد جدا ما ظهر من كلامه فعلا ، فالشارع إذا تكلم بكلام له ظهور فيكون مراده الجدّي ما يكون ظاهرا من كلامه فعلا أي حين التكلم وليس ما سوف يظهر من كلامه في المستقبل إذ يلزم أن لا يكون مبينا لمراده الجدّي مع كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي بشخص كلامه كما تقدّم ، ولهذا يكون مخلاّ بما هو المتعارف عند العقلاء وأهل المحاورة من أساليب التعبير. وبهذا ظهر أنّ مراده الجدّي يتحدد طبقا لما يدلّ عليه ظاهر كلامه حين تكلمه وهذا يعني أنّ الظهور الموضوعي للكلام في عصر النصّ وصدور الكلام هو موضوع الحجيّة دون غيره.

وأمّا كيفيّة إثبات الظهور الموضوعي فقد تقدّم سابقا أنّ إحراز الظهور الموضوعي إمّا بالوجدان بأن يعلم المتكلّم أنّ هذا اللفظ يدلّ على هذا المعنى عند النوع ، وإما من خلال الظهور الذاتي فإنّ ما يتبادر إلى الذهن من معنى إذا لم يكن هناك عوامل ذاتية وشخصيّة لنشوئه دلّ ذلك من طريق الإنّ على الظهور الموضوعي.

وبتعبير آخر : أنّ الظهور الذاتي القائم على أساس التبادر الشخصي دالّ بطريق الإنّ على الظهور الموضوعي عند عدم وجود المبررات الذاتية ، إلا أنّه يدلّ على الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع.

ص: 368

وأمّا كيفيّة إثبات أنّ هذا الظهور الموضوعي الثابت في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي الثابت في عصر النصّ فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي ثابت في المقام يسمّى بأصالة عدم التغير أو عدم النقل أو الاستصحاب القهقرى ، وفقا للتوضيح التالي :

ويبقى علينا أن نثبت أن الظهور الموضوعي في عصر السماع يطابق الظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجيّة ، وهذا ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه أصالة عدم النقل ، وقد نسمّيه بأصالة الثبات في اللغة.

وأمّا إثبات التطابق بين الظهور الموضوعي في عصر السماع وبين الظهور الموضوعي في عصر النصّ والصدور والكلام ، فهذا يمكن إثباته بأصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا ، وهذا الأصل العقلائي عبّر عنه بتعبيرات مختلفة ، ففي كلمات القدماء عبّر عنه بالاستصحاب القهقرى والمراد منه : الاستصحاب الذي يكون اليقين فيه لاحقا والشك سابقا بعكس الاستصحاب المصطلح.

فنحن هنا على يقين بأنّ هذا اللفظ يدلّ على المعنى في عصر السماع ونشك في أنّه يدلّ عليه أيضا في عصر الصدور والنصّ الذي هو أسبق زمانا على عصر السماع أم لا؟ فيقال : إنّ هذا الاستصحاب يجري لإثبات أنّ المعنى كان ثابتا هناك أيضا ، وبالتالي يرتفع الشك ويثبت التطابق بين العصرين.

وحديثا يعبّر عن هذا الأصل بأصالة عدم النقل أو أصالة عدم التغير أو أصالة الثبات في اللغة ، فإنها تعبيرات مختلفة ولكن المقصود واحد وهو أنّ الأصل في الألفاظ الموضوعة لمعانيها أنّها لم تنقل إلى معنى آخر لأنّ النقل يحتاج إلى دليل وقرينة ، وهو غير موجود ، وكذلك فإنّ اللغة والوضع الأصل فيهما عدم التّغير أي أنّهما ثابتان فإذا شككنا في أنّهما قد تغيّرا أم لا نتمسّك بأصالة الثبات وعدم التغير ، وبالتالي يثبت أنّ هذا المعنى الظاهر من اللفظ في عصر السماع هو نفسه المعنى الذي كان ظاهرا من اللفظ في عصر النصّ على أساس أنّ التّغير خلاف الأصل ، ويحتاج إلى دليل لإثباته ، لأنّ الثبات في اللغة هو الأساس والأصل الأوّلي ولا يرفع اليد عنه إلا في كل مورد خاص يثبت فيه النقل والتغير.

يبقى أنّ هذا الأصل العقلائي لا بدّ أن يكون له كاشفيّة نوعيّة ليكون التمسّك به

ص: 369

عقلائيّا ، ولذلك لا بد أن نعرف الحيثية الكاشفة وكيفيّة دلالتها على المدّعى ، وعليه فنقول :

وهذا الأصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيّل لأبناء العرف - نتيجة التجارب الشخصيّة - من استقرار اللغة وثباتها ، فإنّ الثبات النسبي والتطور البطيء للغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن.

وهذا الإيحاء وإن كان خادعا ولكنّه على أيّة حال إيحاء عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائيّة نادرة تنفى بالأصل ، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل ، أو أصالة الثبات ، ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور وإنّما يعني من الناحية التشريعيّة جعله احتمال التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

والمنشأ لهذا الأصل العقلائي هو أنّ العقلاء من أبناء اللغة والعرف يخيّل إليهم أنّ اللغة مستقرة وثابتة لما يشاهدونه بأنفسهم من خلال تجاربهم الشخصيّة واستقرائهم لظهور الألفاظ ودلالتها على معانيها ، فإنّ كل فرد منهم يتخيّل أنّ هذه اللغة الموجودة الآن والمعاني الموضوعة لها الألفاظ كانت ولم تتغير عن حالتها.

والوجه في هذا التخيّل هو أنّ تغيّر اللغة وتطورها وإن كان حقيقة ثابتة وواقعيّة ، ولكن اللغة إنّما يحدث فيها التغير والتطور مع مرور الزمن وليس فجأة ، وهذا معناه أنّ الثبات نسبي أي أنّه موجود في حياة الفرد ؛ لأنّ التغير لا يتمّ إلا بوقت طويل. وعليه ، فكلّ فرد يتخيّل الثبات لما يحسّه بالوجدان.

وهذا التخيّل مع التطوّر البطيء للغة يوحي للناس العاديين أنّ ظواهر اللغة ثابتة وغير متغيرة ، ولكن بالدقة والتحليل نجد أنّ التغير موجود ، إلا أنّ هذا الإيحاء وإن كان خادعا وخاطئا لكنّه يشكّل ظاهرة عامّة لدى كل الناس العاديين بأنّ الظواهر مستقرة ولذلك يبنون على إلغاء احتمال التغير أو يعتبرونه حالة نادرة واستثنائيّة ، فإذا شكّ في التغير في مورد ما يبنى على عدمه على أساس أصالة عدم النقل وعدم التغير وعلى أساس هذا الإيحاء بالثبات للغة.

والشارع لاحظ هذا الأمر في حياة العقلاء ومع ذلك سكت عنه فهذا يكشف عن إمضائه وبالتالي نستكشف أن أصالة عدم النقل مقبولة شرعا والشارع أجاز التعبّد بها.

ص: 370

وبهذا نعرف أنّ أصالة عدم النقل وعدم التغيّر كاشفة عن الثبات وبالتالي تكشف عن الظهور الموضوعي في عصر النصّ أيضا ، وأنّه مطابق للظهور الموضوعي في عصر السماع ، وهذه الكاشفيّة ولو كانت خادعة إلا أنّ الشارع أمضاها ، وإمضاؤه معناه أنّه سمح باكتشاف ظهور كلامه على أساس هذا الأصل.

وليس معنى إمضائه أنّه قد صادق وصوّب على صحّة هذا الإيحاء ، بل الإيحاء خاطئ بالدقة إلا أنّ الشارع اعتبر أنّ هذا الإيحاء كاشف تعبدي عن الظهور ، وأنّ احتمال الخلاف منتف. وبالتالي فيكون احتمال التطابق بين الظهورين حجّة إلا أن يثبت خلافه ، وأنّ التغير قد وقع في هذا المورد بخصوصه فعلا.

هذا كلّه بالنسبة للسيرة العقلائيّة وكيفيّة الاستدلال بها على أصالة عدم النقل.

ولا شكّ أيضا في أنّ المتشرّعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيال عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع أنّها كانت فترة حافلة بمختلف المؤثّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد يتغيّر الظهور بموجبها.

ويستدلّ أيضا على أصالة عدم النقل والتغير بسيرة المتشرّعة ممّن عاصر الأئمّة علیهم السلام خلال أجيال متعدّدة ، تبلغ قرنين ونصف من الزمان ، فإنّ سيرتهم كانت قائمة فعلا على الأخذ بظاهر كلام النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة الماضين علیهم السلام وفق ما هو ظاهر بالفعل في عصرهم ، بمعنى أنّهم كانوا في عصر الإمام الحادي عشر مثلا يعملون بما يرونه ظاهرا فعلا من كلام الإمام الأوّل مثلا ، أو كلام النبيّ - عليه وآله الصلاة والسلام - من دون شكّ أو ارتياب في ذلك ، ومن دون الالتفات إلى التغير النسبي في اللغة بل كانوا يسيرون عمليّا ويبنون على أصالة عدم النقل وأنّ الظاهر من اللفظ الآن هو المعنى الذي كان ظاهرا سابقا ، وهذا يعني إلغاء احتمال الخلاف وعدم التطابق في الظهور بين العصرين.

وهذا العمل والبناء من المتشرّعة كان قائما بالفعل رغم تدينهم واحتياطهم وعدم تصرفهم إلا بما يكون صادرا ومقبولا من الشارع ، ولذلك يكشف عملهم هذا بطريق الإنّ عن كون العمل بالظهور الفعلي حجّة شرعا ، وأنّ الشارع يقبل بذلك على الرغم

ص: 371

من أنّ تلك الفترة بالذات قد شهدت تغيرات كثيرة في اللغة بحيث كانت كل العوامل والظروف التي تساعد على التغير والتطور موجودة آنذاك من دخول أقوام ولغات وشعوب متعدّدة على بلادهم ، فكلّ ذلك لم يكن بنظرهم واعتقادهم مانعا عن العمل بالظهور الفعلي وكونه حجّة.

وبذلك يظهر أنّ العمل بالظهور في عصر السماع حجّة لأنّه كاشف عن الظهور في عصر النصّ والصدور ، ومجرّد احتمال التغير لا يشكّل مانعا عن ذلك إلا إذا ثبت في مورد خاص التغير والنقل ، ولذلك نقول :

ولكن أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا علم بأصل التغير في الظهور أو الوضع ، وشك في تاريخه لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة.

والسرّ في ذلك أنّ البناءات العقلائيّة إنّما تقوم على أساس حيثيات كشف عامّة نوعيّة ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفا يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائيّة في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائيّة فلا تبقى حيثيّة كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدمها.

ثمّ إنّ أصالة عدم النقل لا تجري في موردين ، هما :

المورد الأوّل : أن يعلم بأصل وجود النقل والتغير في اللغة أو الظهور أو الوضع ، بحيث نجزم بأنّ هذا اللفظ كان ظاهره مغايرا لما هو الظاهر منه الآن ، إلا أنّنا لا نعلم تاريخ هذا النقل وأنّه هل حصل التغير قبل صدور الكلام من الشارع أم بعده؟ فلو كان التغير موجودا قبل صدور الكلام من الشارع فهذا معناه أنّ الكلام كان ظاهرا من أول الأمر في المعنى الجديد الموجود عندنا الآن ، وإن كان قبل صدوره فهذا يعني أنّ المعنى الظاهر من كلام الشارع مغاير لما هو موجود الآن.

وحيث إنّنا نشك في فترة وتاريخ التغير والنقل فلا تجري أصالة عدم النقل والتغير لنفي احتمال التغير ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون في هذه الحالة على إلغاء احتمال التغيّر إذ المفروض العلم بحصوله ولو إجمالا ، ففي هذه الحالة يختلّ البناء العقلائي المبرّر لجريان أصالة عدم النقل.

والوجه في ذلك : أنّ البناءات العقلائيّة كما ذكرنا مرارا تقوم على أساس الكاشفيّة

ص: 372

عن الواقع والمراد وليس عند العقلاء أصول وبناءات تعبّدية محضة ، وعلى هذا فحيثية الكشف الموجودة في أصالة عدم النقل والتغير في موارد جريانها هي ذلك الإيحاء الخادع الذي يوحي بالثبات في اللغة نتيجة كون التغير بطيئا بحيث لا يحصل في حياة الفرد عادة.

وهذه الحيثية يعلم بعدم وجودها هنا لأنّه مع العلم بالنقل والتغير كيف يمكننا إلغاء احتمال التغير بأصالة عدم النقل؟ إذ لا مبرّر ولا كاشفيّة لهذه الأصالة في الفرض المذكور حيث يعلم بوقوع التغير جزما والكاشفيّة كانت تعتمد على تخيل الثبات والاستقرار في اللغة والوضع ، وهي لا تجتمع مع العلم المفروض.

بل لا يخلو التمسّك بأصالة عدم النقل من الاشكال في الموارد التي علم فيها بوجود ظروف معينة بالإمكان أن تكون سببا في تغيّر مدلول الكلمة ، وإنّما المتيقن منها عقلائيّا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.

المورد الثاني : فيما إذا علم بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المختلفة سواء الفكرية والاجتماعية واللغوية وغير ذلك ، فإنّ هذه المؤثّرات من شأنها حال وجودها في فترة ما أن تؤثر على اللغة فتغيّر من ظواهرها أو تدخل ألفاظا جديدة على اللغة بحسب التقدم والتطور الفكري والاجتماعي للشعوب.

وهذا يعني أنّه من المظنون جدا أن يحصل النقل والتغير في ظواهر الالفاظ في الفترة التي توجد فيها هذه المؤثّرات النوعيّة ؛ ولذلك فيكون احتمال النقل والتغير احتمالا معتدا به نوعا لوجود كافة المبررات لذلك. وحينئذ لا يمكننا التمسّك بأصالة عدم النقل لأنّ المفروض وجود أمارات ظنيّة معاكسة لهذه الأصالة تقتضي حصول التغير والنقل ، وهذه الأمارات لها كاشفيّة ظنيّة نوعيّة عن الواقع لأنّه في الغالب والعادة أن تحدث التغيرات عند حصول أسبابها وظروفها ، والمفروض أنّنا نعلم بوجود هذه الأسباب والظروف والعوامل ونشك في حصول التغير مع كون البناء العقلائي هنا على حدوثه وحصوله.

وعلى هذا فيقع التعارض بين أصالة عدم النقل الكاشفة نوعا عن إلغاء احتمال التغير والنقل وبين هذه الأمارات الظنية الكاشفة نوعا عن التغير والنقل وإذ لا ترجيح لأحدهما فيتعارضان ويتساقطان ، وبالتالي لا يمكن إثبات عدم النقل والتغير.

ص: 373

وبهذا يتلخص أنّ أصالة عدم النقل إنّما تجري في موارد الاحتمال الساذج للنقل والتغير ، أي الاحتمال البدوي الذي لا يكون مقرونا بعلم إجمالي بحصول أصل التغير أو بعلم تفصيلي بوجود الظروف والعوامل والمؤثّرات المقتضية للنقل والتغير ، وأمّا مع الاحتمال المقرون بأحد هذين العلمين فلا يمكن نفيه على أساس أصالة عدم النقل لعدم وجود الحيثية الكاشفة لها عندئذ.

ص: 374

التفصيلات في الحجيّة

اشارة

ص: 375

ص: 376

التفصيلات في الحجيّة

توجد عدة أقوال تتجه إلى التفصيل في حجيّة الظهور - وقد أشرنا إلى أحدها في الحلقة السابقة - ونذكر فيما يلي اثنين من تلك الأقوال :

توجد ثلاثة أقوال تفصّل في حجيّة الظهور :

القول الأوّل : ما ذهب إليه الأخباريّون وقد تقدّم ذكره في الحلقة السابقة ولا بأس بالإشارة إليه إجمالا.

فنقول : ذهب الأخباريّون إلى أنّ ظواهر الكتاب الكريم ليست حجّة ، فالإطلاق والعموم الكتابيان لا يمكن التمسّك بحجيتهما استنادا إلى حجيّة الظهور ، فإنّ هذه الحجيّة يجب رفع اليد عنها في خصوص ظواهر الكتاب ، وذلك لوجوه :

1 - الآيات التي تنهى عن الأخذ بالمتشابه بدعوى أنّ المتشابه يشمل المجمل والظاهر أيضا.

2 - الروايات والأخبار الكثيرة التي ينصّ بعضها على حرمة تفسير القرآن بالرأي ، وبعضها الآخر على اختصاص فهم القرآن بالأئمّة المعصومين دون غيرهم ، وبعضها على عدم جواز تفسير القرآن إلا بالرجوع إلى المعصومين.

3 - العلم الإجمالي وذلك أنّنا نعلم بطروّ المخصصات والمقيّدات على عمومات وإطلاقات الكتاب بالجملة ، وهذا يعني أنّ هذه الإطلاقات والعمومات ليست حجّة في ظهورها في العموم والإطلاق ، وحيث لا يعلم تفصيلا مقدار العموم والإطلاق اللذين خصّصا وقيّدا فيكون هناك علم إجمالي منجز لكل أطرافه فيجب الاجتناب عن الأخذ بما هو ظاهر الكتاب.

والصحيح عدم الفرق بين الكتاب وغيره ، فالظهور حجّة مطلقا ما لم تثبت القرينة على الخلاف.

ص: 377

القول الأوّل : التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يعتبر الظهور حجّة بالنسبة إليه ، لأنّ احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له - مع عدم إحساسه بها - إلا احتمال غفلته عنها فينفى ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلا عقلائيّا ، وأمّا غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك بل له منشأ آخر وهو احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة تمّ التواطؤ عليها بصورة خاصّة بينه وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي أصالة عدم الغفلة لنفيه ، فلا يكون الظهور حجّة في حقّه.

وأمّا القولان الآخران اللذان يتجهان للتفصيل في حجيّة الظهور ، فهما :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( القوانين ) من التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره ، فالمقصود بالإفهام يكون الظهور بالنسبة إليه حجّة ، وأمّا غيره فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّ احتمال وجود قرينة متّصلة على خلاف الظهور بالنسبة لمن قصد إفهامه لا منشأ له إلا احتمال غفلة المتكلّم أو السامع عن هذه القرينة ، لأنّ المفروض أنّ المقصود إفهامه لم يحرز وجود هذه القرينة ولم يحسّ بوجودها ، وهذا الاحتمال يمكن نفيه استنادا إلى أصالة عدم الغفلة في كلّ منهما ، فالمتكلم وخصوصا الشارع المعصوم يبين كل ما هو دخيل في مراده الجدّي ، فعدم ذكره للقرينة على الخلاف معناه أنّ تمام مراده الجدّي هو ظاهر كلامه ، وأمّا المقصود بالإفهام سواء كان حاضرا أم غائبا ، أي سواء كان مشافها بالكلام أم مراسلا به ، فاحتمال وجود القرينة إليه مع عدم إحساسه بها لا مبرّر له إلا أن يكون المتكلّم قد ذكر القرينة ولم يلتفت إليها السامع وغفل عنها ، وهذا على خلاف المتعارف من كون الإنسان يكون ملتفتا إلى ما يسمعه أو يقرأه ، فينفى هذا الاحتمال اعتمادا على أصالة عدم الغفلة والتي هي أصل عقلائي كاشف عن الواقع كشفا نوعيّا.

وأمّا غير المقصود بالإفهام كأمثالنا فاحتمال وجود القرينة على خلاف الظهور لا ينحصر في الغفلة عنها بل هناك مناشئ عديدة لهذا الاحتمال من جملتها أن يكون المتكلّم قد اتفق مع المقصود إفهامه على قرينة متّصلة غير لفظية كالإشارة مثلا أو كونه في مقام التقية أو كان هناك قرينة لبيّة مرتكزة في ذهن من قصد

ص: 378

إفهامه ، ولأجل ذلك لم تنقل إلينا هذه القرينة لأنّها ليست لفظا لتذكر في الرواية.

وعلى هذا فلا تنفعنا أصالة عدم الغفلة هنا لوجود مناشئ أخرى ، وهذه المناشئ الأخرى لا يمكن نفيها بأصل عقلائي آخر ، لأنّنا نعلم إجمالا باختفاء كثير من القرائن بسبب الضياع أو الاتلاف وغيرها ، وعليه فلا يكون ظهور الكلام حجّة ما لم يحرز عدم وجود القرينة على الخلاف ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن التمسّك بحجيّة الظهور.

وقد اعترض على ذلك جملة من المحقّقين بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي برأسه يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة ، وليس مردّها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذّر إجراؤها في حق غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد إفهامه على القرينة.

وقد اعترض على هذا التفصيل جملة من العلماء المحقّقين كالشيخ وغيره ، وذهبوا إلى عدم الفرق في الحجيّة بين من قصد إفهامه وبين غيره ؛ وذلك لأنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه ينفى بما ذكر من أصالة عدم الغفلة وأمّا بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فإنّ هذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم القرينة ، فإنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي قائم بذاته بنحو مستقل عن أصالة عدم الغفلة وليس مردّه إليها ليقال بعدم جريانه هنا.

والوجه في ذلك : أنّ سيرة العقلاء قائمة على الأخذ بظهور كلام المتكلّم عند عدم وجود القرينة على الخلاف ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة عند احتمالها على أساس أصالة عدم القرينة من دون فرق بين من قصد إفهامه وغيره.

وكذلك سيرة أهل اللسان والعرف والمحاورة في التمسّك بظاهر كلام المتكلّم عند عدم القرينة على الخلاف من دون فرق أيضا.

وسيرة العلماء على ذلك أيضا ، فإنهم يأخذون بالإقرار والوصية والشهادة الواصلة إليهم كتابة ويعملون بظاهرها مع أنّهم ليسوا مقصودين بالإفهام ، ويعتمدون على أصالة الحقيقة أيضا عند عدم وجود القرينة على الخلاف ، بل إنّ سيرة المتشرّعة قائمة على العمل بظواهر الأخبار التي نقلت إليهم عن الأئمّة السابقين كما تقدّم سابقا مع أنهم ليسوا مقصودين بالإفهام.

وهناك الكثير من الأدلّة والشواهد على عدم الفرق بين من قصد إفهامه وبين غيره

ص: 379

في كون ما يظهر من الكلام حجّة ، ولا يلتفت إلى احتمال وجود قرينة تمّ التواطؤ عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام خاصّة ، لأنّه على خلاف المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة ، ويبنون على عدم وجود مثل هذه القرينة لمجرّد احتمالها استنادا على أصالة عدم القرينة.

والتحقيق : أنّ هذا المقدار من البيان لا يكفي لأنّ الأصل العقلائي لا بدّ أن يستند إلى حيثيّة كشف نوعيّة لئلا يكون أصلا تعبّديا على خلاف المرتكزات العقلائيّة ، وهي متوفرة لنفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها ، فإذا أريد نفي احتمال القرينة المتّصلة الناشئ من سائر المناشئ أيضا بأصل عقلائي فلا بدّ من إبراز حيثيّة كشف نوعيّة تنفي ذلك ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفتّش عن مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر عموما وملاحظة مدى إمكان نفي كل واحد منها بحيثية كشف نوعيّة مصحّحة لإجراء أصل عقلائي مقتض لذلك.

والتحقيق في هذه المسألة : أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي ردّا على ما ذكره المفصّل ؛ وذلك لأنّ أصالة عدم القرينة إن كانت أصلا تعبديّا بحتا فلا بدّ من وجود دليل خاص عليها وهو مفقود ؛ إذ لا يوجد دليل شرعي يدلّ على حجيّة مثل هذا الأصل مضافا إلى أنّ الأصول العقلائيّة ليست تعبّدية بل هي قائمة على أساس حيثيات الكشف النوعي فيها.

وإن كانت أصلا عقلائيّا - كما هو الصحيح - فلا بد أن تكون مستندة على حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء ؛ وذلك لأنّ العقلاء لا يبنون على الأصول والقواعد إلا إذا كانت كاشفة كشفا نوعيّا عن الواقع والمراد.

وحينئذ نقول : إنّ احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن قصد إفهامه منشؤه كما ذكر في التفصيل احتمال الغفلة وهذا الاحتمال ينفى بأصالة عدم الغفلة لأنّها أصل عقلائي كاشف نوعا عن المراد والواقع ، حيث إنّ العقلاء في مثل هذه الحالة يبنون على حجيّة ظاهر كلام المتكلّم ، ويعتبرون أنّ احتمال الغفلة عنها ساقط عن الاعتبار ؛ لأنّ الأصل في كل إنسان أن يكون ملتفتا لما يقول ويسمع ، فمع عدم إحساسه بالقرينة على الخلاف يعني ذلك أنّها غير موجودة واقعا.

وأمّا احتمال وجود القرينة على الخلاف بالنسبة لمن لم يقصد بالإفهام فلا ينحصر

ص: 380

بما ذكره المفصّل في الغفلة بل يوجد لهذا الاحتمال مناشئ عديدة ومختلفة أيضا ، فإذا أريد نفي هذا الاحتمال بأصل عقلائي كأصالة عدم القرينة مثلا فلا بدّ أن يكون هذا الأصل العقلائي ذا حيثيّة كشف نوعيّة عن المراد والواقع.

وعلى هذا فلا بدّ أن نفتّش عن المناشئ التي يمكن على أساسها أن ينشأ احتمال وجود القرينة على الخلاف لنرى أنّه هل بالإمكان نفي هذا الاحتمال أم لا؟ فإذا كان بالإمكان نفيه فهذا يعني وجود أصل عقلائي له حيثيّة كشف نوعيّة تصحّح لنا نفي هذا الاحتمال.

والحاصل : أنّ الاعتماد على أصالة عدم القرينة لنفي احتمال وجودها لا بدّ أن يكون له منشأ عقلائي وهذا يفترض مسبقا أن يكون هناك حيثيّة كشف نوعيّة لدى العقلاء يمكن الاستناد عليها وتبرير نفي هذا الاحتمال على أساسها ، فإذا أمكننا التوصل إلى هذا فلا يكون للتفصيل مورد ، وإلا لكان التفصيل في محلّه.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصب على هذه النقطة بالذات ولا يكفي مجرّد ادعاء وجود مثل هذا الأصل عند العقلاء.

ومن هنا نقول : إنّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في إرادة المتكلّم للمعنى الظاهر ينشأ من أحد أمور :

الأوّل : احتمال كون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيمه بكلامه.

الثاني : احتمال كونه معتمدا على قرينة منفصلة.

الثالث : احتمال كونه معتمدا على قرينة متّصلة غفل عنها السامع.

الرابع : احتمال كونه معتمدا على قرينة ذات دلالة خاصّة متفق عليها بين المتكلّم وشخص آخر كان نظر المتكلّم إليه.

الخامس : احتمال وجود قرينة متّصلة التفت إليها السامع ولكنّه لم ينقلها إلينا ولو من أجل أنّها كانت متمثّلة في لحن الخطاب أو قسمات وجه المتكلّم ونحو ذلك ممّا لا يعتبر لفظا.

ونأتي الآن لاستعراض المناشئ التي توجب احتمال وجود القرينة على الخلاف ، وأنّ المتكلّم لم يرد ظاهر كلامه بالنسبة للشخص غير المقصود بالإفهام ، ولذلك نقول بأنّه توجد مناشئ خمسة لهذا الاحتمال ، وهي :

ص: 381

الأوّل : أن يكون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيم مراده الجدّي لغير المقصود بالإفهام ، أي أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان والتفهيم لمراده الجدّي بل كان في مقام الإجمال والإهمال والإخفاء ، وعلى هذا الأساس لم يرد ما هو ظاهر كلامه بل أظهر في كلامه ما هو مخالف لمراده الحقيقي والواقعي ، ولأجل ذلك لم يكن الظاهر حجّة لغير المقصود بالإفهام.

الثاني : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة منفصلة لبيان ما هو مراده الجدّي والواقعي ، ولهذا يكون مريدا لخلاف ما هو الظاهر من كلامه ، وإنّما مراده واقعا مطابق لما تحكيه هذه القرينة المنفصلة ؛ ولأجل ذلك لم يكن خطابه مبيّنا للشخص غير المقصود بالإفهام لأنّ مراده الجدّي غير ما هو الظاهر فعلا.

الثالث : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة في كلامه إلا أنّ السامع غفل عنها ولذلك لم ينقلها إلى غيره ممّن لم يقصد بالإفهام ، فيكون احتمال عدم حجيّة ظاهر الكلام ناشئا من وجود هذه القرينة المتّصلة التي لم تنقل بسبب الغفلة عنها ، وبهذا يكون المراد الجدّي للمتكلّم على خلاف الظهور الفعلي الذي لم تذكر فيه القرينة.

الرابع : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة لها دلالة خاصّة وليست نوعيّة وعامّة ، وهذه القرينة الخاصّة تمّ الاتفاق عليها بين المتكلّم والمقصود بالإفهام بنحو لا يتمكن غير المقصود بالإفهام من معرفتها لأنّها ليست قرينة عامّة نوعيّة يفهمها العرف وأهل اللغة بل هي خاصّة متفق عليها بينهما.

الخامس : أن يكون المتكلّم قد اعتمد على قرينة متّصلة التفت إليها السامع والمقصود بالإفهام فقط ، ولكنّه لم ينقلها إلينا باعتبار أنّ هذه القرينة لم تكن لفظية ، بل كانت لبّية أو قرينة حالية ، كالإشارة أو حركة اليد أو تقسيمات الوجه ونحو ذلك من القرائن غير اللفظيّة ، وعلى هذا لم يكن ظاهر كلامه حجّة لغير المقصود من أجل احتمال وجود مثل هذه القرينة.

فبأحد هذه المناشئ احتمل غير المقصود بالإفهام أنّ ظاهر كلام المتكلّم لم يكن هو المراد الجدّي والواقعي ، ولذلك لم يكن الظهور حجّة له.

والفرق بين المقصود بالإفهام وغيره أنّ المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال

ص: 382

الأوّل بشأنه ، وكذلك الاحتمال الرابع ، كما أنّ الاحتمال الخامس غير موجود بشأن السامع المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا.

وحجيّة الظهور في حق غير السامع ممّن لم يقصد إفهامه تتوقّف على وجود حيثيات كشف مبرّرة عقلائيّا لإلغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه ، وهي موجودة فعلا ، بالبيان التالي :

والفرق في هذه الاحتمالات الخمسة بين المقصود بالإفهام وغيره هو أنّ الاحتمال الأوّل غير وارد بالنسبة للمقصود بالإفهام أصلا ؛ لأنّ كونه مقصودا بالإفهام يعني أن المتكلّم أراد أن يبيّن له على الأقلّ مراده الجدّي ، فهو في مقام البيان والتفهيم بالنسبة له ، ولا يتصور كونه مجملا ومهملا لمراده بالنسبة إليه ، لأنّه خلاف مراده من كونه مقصودا بالإفهام.

وأمّا الاحتمال الثاني فيستوي فيه المقصود بالإفهام وغيره ، بمعنى أنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة معقول في نفسه بحقهما.

والاحتمال الثالث كذلك فإنّه يمكن للمتكلّم أن يعتمد على قرينة متّصلة يغفل عنها السامع المقصود بالإفهام وغيره.

وأمّا الاحتمال الرابع فلا يرد بحق المقصود بالإفهام إذ لا معنى لأنّ يتفق المتكلّم مع شخص آخر غيره على قرينة تبيّن المراد الجدّي من دون أن يكون المقصود بالإفهام عالما بها ، إذ هذا خلاف كونه مقصودا بالإفهام الذي يحتّم على المتكلّم أن يبيّن له كل ما هو دخيل في مراده الواقعي والذي من جملته هذه القرينة الخاصّة. نعم ، هذا الاحتمال وارد بحق من لم يقصد إفهامه.

وأمّا الاحتمال الخامس فهو لا يشمل المقصود بالإفهام وكذلك لا يشمل السامع الموجود في المجلس المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالإفهام أم لا ، لأنّ هذه القرينة اللبيّة أو الحاليّة كانت في المجلس والمفروض أنّ هذا الشخص كان موجودا هناك فيكون ملتفتا إليها أيضا.

ثمّ بعد ذلك نأتي إلى البحث حول إمكانية نفي هذه المناشئ والاحتمالات على أساس حيثيات كشف عقلائيّة نوعيّة فهل بالإمكان وجود مثل هذه الحيثيات الكاشفة التي يمكن على أساسها نفي احتمال وجود القرينة على الخلاف بحق غير المقصود بالإفهام أم لا؟

ص: 383

والجواب : أنّ هذا ممكن ، لأنّه توجد هذه الحيثيات الكاشفة لإبطال كل المناشئ لاحتمال وجود القرينة على الخلاف ؛ ولتوضيح ذلك نذكر الحيثية الكاشفة في كل واحد من هذه الاحتمالات فنقول :

أمّا الاحتمال الأوّل فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.

أمّا الاحتمال الأوّل القائم على أساس الاخفاء والإجمال لمن لم يقصد إفهامه ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه ، وهذا الظهور يشمل المقصود بالإفهام وغيره على حدّ سواء ، لأنّ الإجمال والإخفاء مخالف لما هو المتعارف عند أهل اللسان والمحاورة من العقلاء ، ولذلك يكون نفي هذا الاحتمال قائما على حيثيّة كشف نوعيّة وهي أنّه مخالف للعقلاء والعرف.

وأمّا الاحتمال الثاني فينفى بظهور حاله في أن ما يقوله يريده ، أي أنّه في مقام تفهيم مراده بشخص كلامه.

وأمّا الاحتمال الثاني القائم على أساس اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة ، فهذا يمكن إبطاله على أساس التمسّك بظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي الواقعي ، ولما هو دخيل في موضوع حكمه بنفس هذا الخطاب وشخصه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما يذكره ويبيّنه في شخص كلامه فقط فيكون ظاهر كلامه حجّة ، بحيث يكون اعتماد المتكلم على القرائن المنفصلة حالة نادرة واستثنائيّة عند العقلاء والعرف وأهل المحاورة ، ولذلك ينفى هذا الاحتمال على أساس حيثيّة الكشف النوعيّة العقلائيّة من عدم الاعتماد على القرائن المنفصلة غالبا إلا إذا أحرز ذلك في مورد خاص ، ومع عدم إحراز ذلك يتمسك بظاهر الكلام لاكتشاف المراد الجدّي والواقعي.

وأمّا الاحتمال الثالث فينفى بأصالة عدم الغفلة

وأمّا الاحتمال الثالث القائم على أنّ المتكلّم ذكر قرينة متّصلة غفل عنها السامع ولم ينقلها ، فهذا يمكن إبطاله بأصالة عدم الغفلة ، والتي هي من الأصول العقلائيّة الكاشفة عن المراد الجدّي على أساس أنّ الغالب كون الإنسان ملتفتا لما يقوله ويسمعه

ص: 384

وينقله إلا إذا ثبت الخلاف في مورد خاص ، وهنا لم تثبت الغفلة لا بحق المتكلّم ولا بحق السامع ولا بحق المنقول إليه.

وأمّا الاحتمال الرابع - وهو ما أبرزه المفصّل - فينفى بظهور حال المتكلّم العرفي في استعمال الأدوات العرفية للتفهيم ، والجري وفق أساليب التعبير العام.

وأمّا الاحتمال الرابع الذي أبرزه صاحب هذا التفصيل من إمكان اعتماد المتكلّم على قرينة خاصّة متفق عليها بينه وبين المقصود بالإفهام فقط ، فهذا يمكن إبطاله ونفيه بالتمسّك بظهور حال المتكلّم العرفي في أنّه يستعمل الأدوات والألفاظ والقرائن المتعارفة عند أهل اللغة والمحاورة وفقا لأساليب التعبير العام وطبقا لما هو ثابت في اللغة ، ولذلك يكون اعتماده على قرائن خاصّة جدا حالة شاذة ونادرة عمّا هو المتعارف ، وهذا الاحتمال ينفى بأنّ المتكلّم يتبع ما هو المتعارف عند أهل لغته وعرفه ولا يشذّ عنهم إلا إذا ثبت في مورد خاص ذلك ، وأمّا مع الشك والاحتمال فيحمل على أنّه استعمل وعبّر بما هو المتعارف فقط ، وهذا يشمل المقصود بالإفهام وغيره ، لأنّهما معا من أبناء العرف واللغة.

وأمّا الاحتمال الخامس فينفى بشهادة الناقل - ولو ضمنا - بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد.

وأمّا الاحتمال الخامس القائم على أساس أنّ السامع التفت إلى القرينة لكنّه لم ينقلها إلينا فهذا ينفى بشهادة الناقل الضمنيّة في أنّه استوعب في نقله تمام ما هو دخيل في مراد المتكلّم الجدّي الواقعي ، لأنّ عدم النقل لهذه القرينة إن كان عمدا فهو خلاف إحراز وثاقته التي هي شرط في حجيّة نقله ، وإن كان غفلة ونسيانا وسهوا فهو خلاف أصالة عدم الغفلة ، ولذلك فلا يوجد مبرّر لعدم النقل إلا أنّ المتكلّم لم يذكرها في كلامه أو ليست دخيلة في تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ، وبهذا يكون ظاهر الكلام حجّة لغير المقصود بالكلام أيضا ، لأنّ هذا الاحتمال منفي بحيثية كشف نوعيّة عقلائيّة كما أوضحنا.

وبهذا ظهر أنّ هذا التفصيل غير صحيح.

القول الثاني : وتوضيحه : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن - على

ص: 385

الأقلّ - بأنّ مراد المتكلّم هو المعنى الظاهر ، لأنّه أمارة ظنيّة كاشفة عن ذلك ، فإذا لم تحصل أمارة ظنيّة على خلاف ذلك أثّر الظهور فيما يقتضيه وحصل الظن الفعلي بالمراد ، وإذا حصلت أمارة ظنيّة على الخلاف وقع التزاحم بين الأمارتين فقد لا يحصل حينئذ ظنّ فعلي بإرادة المعنى الظاهر بل قد يحصل الظن على خلاف الظهور تأثرا بالأمارة الظنية المزاحمة.

وعلى هذا فقد يستثنى من حجيّة الظهور حالة الظن الفعلي بعدم إرادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال بأنّ حجيّة الظهور أساسا مختصّة بصورة حصول الظن الفعلي على وفق الظهور.

ويمكن تبرير هذا القول بأنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبديّا ، وإنّما هي على أساس كاشفيّة الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظني الفعلي على وفقه.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي من أنّ حجيّة الظهور يشترط فيها عدم الظن الفعلي بالخلاف ، فإذا حصل ظن فعلي بالخلاف فلا يكون الظهور حجّة.

وتوضيح ذلك : أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن بأنّ المتكلّم يريد واقعا وجدّا ما هو ظاهر من كلامه ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور يعتبر أمارة عقلائيّة كاشفة عن الواقع والمراد الجدّي ، وهذا يجعل الظهور مفيدا للظن على أقل تقدير ، وحينئذ فهذا الظن الحاصل من الظهور يكون حجّة ويجوز التمسّك به والتعويل عليه إذا لم يكن هناك ظن فعلي على خلافه ، وإلا سوف يتعارض الظن النوعي الحاصل من الظهور مع الظن الفعلي الحاصل للشخص من وجود أمارة ظنيّة أخرى على خلافه ، سواء كانت معتبرة شرعا أم لا ، وعليه فيحصل التزاحم والتعارض بين هاتين الكاشفيتين فإنّ كان الظهور الفعلي المخالف أقوى فهذا يعني تقديمه على الظن الحاصل من الظهور ، وإن لم يكن أقوى فهو مانع ومزاحم للعمل بالظن الحاصل من الظهور لأنّه لن يوجب حصول الظن الشخصي الفعلي بالوفاق.

وبتعبير آخر : أنّ الظن الحاصل من الظهور إما ألا يكون هناك ظن فعلي شخصي على خلافه وإما أن يكون هناك ظن فعلي على خلافه ، وإما أن يكون هناك ظني فعلي شخصي على وفاقه.

ص: 386

فإذا كان هناك ظن فعلي على وفاقه أو لم يكن ظن فعلي على خلافه فالظهور حجّة ، وأمّا إذا كان هناك ظن فعلي شخصي على خلافه فلا يكون حجّة.

والوجه في ذلك أنّ الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الظهور تتعارض مع الكاشفيّة الظنية الحاصلة من الأمارة على الخلاف ، سواء كانت حجّة شرعا أم لا ، كالقياس مثلا أو الشهرة الفتوائية ونحوها ، وحينئذ إما أن تكون الأمارة الظنية الشخصيّة على الخلاف أقوى فتقدّم على الظهور ، وإما ألا تكون أقوى فتعارضه وتزاحمه وتمنع عن تماميّة كاشفيّته.

وبهذا ظهر وجه التفصيل المذكور فإنّ الظهور حجّة إلا فيما إذا كان هناك أمارة عقلائيّة - وإن لم تكن حجّة شرعا - موجبة للظن الشخصي لا النوعي بالخلاف ، فلا يكون الظهور حجّة حينئذ.

بل قد يقال أكثر من ذلك : وهو التفصيل بين الظهور الذي قام الظن الشخصي الفعلي على وفاقه فهو حجّة ، وبين الظهور الذي لم يقم ظن فعلي على وفاقه سواء كان هناك ظن فعلي على خلافه أم لا ، فلا يكون حجّة.

فتكون حجيّة الظهور من الأساس مشروطة بحصول ظن شخصي على الوفاق ولا يكفي الظن النوعي.

والوجه في ذلك أنّ حجيّة الظهور ليست حكما تعبّديا لأنّها أصل عقلائي ، والأصول العقلائيّة إنّما تكون على أساس حيثيّة كشف نوعيّة ، فإذا لم يكن هناك كشف فلا معنى للقول بحجيّة الظهور. وعليه ، فإذا لم يكن الظهور مؤثّرا في حصول الظن للشخص فلا معنى للتمسّك به ، والقول بحجيّته ، لأنّه في هذه الحالة يكون العمل به تعبديّا وهو خلاف المفروض في الأمارات والأصول العقلائيّة ، ولذلك يجب أن يكون الظهور مؤثّرا ومفيدا لحصول الظن لدى الشخص بالوفاق ، فإنّه في هذه الحالة يكون كاشفا عن المراد الجدّي والواقعي.

ومن الأمثلة التي طرحت لهذا التفصيل هو ما إذا كان هناك خبر صحيح وقامت الشهرة على خلافه مع أنّ الشهرة ليست حجّة ولكنها توجب المنع من العمل بهذا الظهور.

وكذا لو كان لدينا عموم أو إطلاق وكان هناك خبر مجمل يحتمل كونه

ص: 387

مخصّصا أو مقيّدا فإنّه يمنع من التمسّك بالعموم والإطلاق ، وكذلك لو كان هناك كلام ظاهر في معناه الحقيقي ووجد ما يصلح أن يكون صارفا له إلى المجاز ، فإنّه يمنع من حمله على الحقيقة.

فهذه الأمثلة كلّها ترجع إلى أنّه لا يحصل ظن فعلي للشخص على الوفاق ، ولذلك لا يمكن التمسّك بالظهور.

وقد اعترض الأعلام على هذا التفصيل بأنّ مدرك الحجيّة بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرّقون بين حالات الظن بالوفاق وغيرها ، بل يعملون بالظهور فيها جميعا ، وهذا يكشف عن الحجيّة المطلقة.

واعترض على هذا التفصيل بأنّه مخالف لسيرة العقلاء والعلماء وأهل اللغة فإنّهم لا يتوقّفون في العمل بالظهور إلا إذا ثبت بدليل معتبر عدم إرادته ، وأمّا إذا لم يتمّ مثل هذا الدليل فلا يفرّقون في حجيّة الظهور والتمسّك به بين ما إذا كان هناك ظن شخصي فعلي على خلافه أم لا ، لأنّ المناط هو وجود الظن النوعي ، حيث إنّ مدرك حجيّة الظهور هو بناء العقلاء وسيرتهم القائمة على أساس كاشفيّة الظهور النوعيّة عن المراد والواقع ، وهذا الظن النوعي لا يرفع اليد عنه - بعد أن كان حجّة عقلائيّة ممضاة من الشارع أيضا - إلا إذا وجدت حجّة أقوى منه ، والمفروض هنا أنّه لا توجد مثل هذه الحجيّة ، ومجرّد الظن الشخصي بخلافه أو عدم الظن الشخصي بوفاقه لا يكون مانعا عن العمل بالظهور بعد أن كان كاشفا نوعيّا عن المراد والواقع.

والحاصل : أنّ العقلاء يبنون على الظهور وعلى حجيّته مطلقا في كل الموارد والحالات باعتباره كاشفا نوعيّا ، إلا إذا كان هناك أمارة ظنيّة نوعيّة معارضة له فلا يكون حجّة في هذه الحالة ، وأمّا الظن الشخصي على الوفاق أو الخلاف فلا مدخليّة له في الحجيّة ؛ ليكون وجوده وعدمه مؤثّرا في بقاء حجيّته وعدمها.

وهذا الاعتراض من الأعلام قد يبدو غير صحيح بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد أنّ التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد الأسعار إذا ظنّ بأنّه لا يريد ما هو ظاهر كلامه ، وأنّ المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظنّ بأنّه يريد غير ما هو ظاهر كلامه ، وهكذا.

وهذا الكلام من العلماء على إطلاقه غير صحيح ، فإنّ العقلاء يمتنعون عن العمل

ص: 388

بالظهور في بعض الموارد التي يكون فيها ظن فعلي شخصي على الخلاف ، أو لا يكون فيها ظن فعلي على الوفاق ، وليس دائما يبنون على حجيّة الظهور.

فمثلا التاجر الذي يخبره تاجر آخر بأسعار السلع وأنّه يجب بيعها بهذا الثمن فقط لا أكثر ، فإنّه إذا حصل لهذا التاجر ظن شخصي فعلي بأنّ هذا التاجر الذي أخبره بتحديد أسعار السلع لا يريد ما هو ظاهر كلامه واقعا وجدّا ، وإنّما أخبره بذلك لرغبات شخصيّة ونحو ذلك ، فهنا لا يتمسّك هذا التاجر بظهور كلامه ويعتمده حجّة بل لا يتأمّل فيه أصلا.

وكذا الحال بالنسبة للمشتري الذي يخبره البائع بثمن السلعة فإنّه إذا حصل له ظن شخصي بالخلاف أو لم يظن بالوفاق لا يعمل بظهور كلام البائع بل يسأل غيره ولعلّه يتركه فورا ولا يبتاع منه.

فهذا كلّه دليل وشاهد وجداني على أنّ العقلاء يفرّقون بين الظهور الذي لا يوجد ظن فعلي على خلافه أو الظن على وفاقه وبين الظهور الذي يوجد على خلافه ظن شخصي أو لا يحصل على وفاقه ظن شخصي.

وليس كما قال الأعلام أنهم مطلقا وفي كل الحالات يعملون بالظهور ولا يفرّقون بين الحالات الشخصيّة وغيرها.

ومن هنا عمّق المحقّق النائيني رحمه اللّه اعتراض الأعلام ، إذ ميّز بين العمل بالظهور في مجال الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ، والعمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.

ففي المجال الأوّل لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة معتدّ بها من الكشف الفعلي ، وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا وتعذيرا ، ولو لم يحصل ظن فعلي بالوفاق أو حصل ظن فعلي بالخلاف.

والأمثلة المشار إليها تدخل في المجال الأوّل لا الثاني.

ومن أجل ما ذكرناه من أمثلة تدلّ على أنّ العقلاء يفرّقون بين حالات الظهور ، عمّق الميرزا اعتراض الأعلام بنحو آخر.

فقال : إنّ العمل بالظهور في حياة العقلاء على نحوين :

ص: 389

فتارة يعمل العقلاء بالظهور في مجال تحصيل الأغراض التكوينيّة الشخصيّة.

وأخرى يعملون بالظهور في مجال الأغراض التشريعيّة فيما بينهم أي بين الآمرين والمأمورين.

فإذا أريد المجال الأوّل أي الاعتماد على الظهور من أجل اكتشاف وتحصيل الغرض الشخصي التكويني بأن كان للشخص غرض في معرفة معنى الكلمة ليضعها في كتابه أو رسالته ، فهنا يكون الظهور حجّة ما لم يقم على خلافه ظن فعلي شخصي أو لم يكن على وفاقه ظنّ كذلك ؛ وذلك لأنّ هذا الشخص لا يكتفي بالاعتماد على الظن النوعي الحاصل من الظهور لتحصيل غرضه الشخصي إلا اذا كان هذا الظهور النوعي يفيد لديه حصول الظن الشخصي الفعلي أيضا ، وإلا فلا يكون طريقا للغرض الشخصي ، بمعنى أنّ كل عاقل من العرف إذا كان له غرض شخصي خاص به يريد تحصيله فإنّه يتبع ويستخدم الطرق والوسائل التي تؤدّي إلى تحصيل هذا الغرض بنظره واعتقاده لا بنظر واعتقاد الآخرين. وعليه فإذا كانت وسائل وطرق الآخرين توجب تحصيل الغرض بنظره فيأخذ بها من باب أنّها كاشفة عن الواقع والمراد كشفا معتدّا به في نظره لا في نظرهم ، وإلا فلا يأخذ بها.

وإذا أريد المجال الثاني أي الاعتماد على الظهور لتنظيم العلاقات بين الآمرين والمأمورين فهنا لا يوجد غرض شخصي بل هناك غرض نوعي عام بين كل آمر وكل مأمور ، بمعنى أنّ كل آمر يعتمد على الطرق والأساليب التي تستخدم عادة وعرفا ونوعا بين كل آمر مع مأموريه ، ولذلك يكون الظهور النوعي الكاشف عن الواقع عند عامّة الناس من العقلاء وأبناء اللغة وأهل المحاورة ، حجّة لأنّه يراد به إثبات التنجيز أو التعذير من خلال ظاهر كلام الآمر وهذا يرتبط بمدلول الكلام لا بما يفهمه كل شخص لوحده ، لأنّ الآمر لا يوجّه كلامه وخطابه لهذا الشخص دون ذاك وإنّما للعموم ، وبما أنّ كلامه لهم جميعا واحد فيجب أن يكون مراده الجدّي الواقعي واحد أيضا.

وهذا لا يمكن إلا إذا استند على تفسير كلامه بما هو المتّفق عليه عند النوع بأن يؤخذ بظاهر كلامه لأنّه كاشف نوعي لدى الجميع ، بخلاف الظن الشخصي بالوفاق أو عدم الظن الشخصي بالخلاف فإنّه يختلف من شخص لآخر ، ولذلك يختلف فهم وتفسير مراد المولى وبالتالي يختلّ نظام العلاقة بين الآمر والمأمور.

ص: 390

وبهذا ظهر أنّه في الأغراض الشخصيّة يبنى في حجيّة الظهور على عدم وجود ظن بالخلاف أو على وجود ظن بالوفاق.

بينما في الأغراض التشريعيّة يبنى على حجيّة الظهور مطلقا سواء كان هناك ظن بالوفاق أم لا وسواء كان هناك ظن بالخلاف أم لا.

والأمثلة التي ذكرت سابقا كانت داخلة في الأغراض التكوينيّة الشخصيّة ولذلك احتاج العمل بالظهور إلى عدم وجود ظن على خلافه أو على وجود ظن بوفاقه.

وهذا الكلام وإن كان صحيحا وتعميقا لاعتراض الأعلام ، ولكنّه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ولا يحلّ الشبهة التي يستند إليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفا.

وهذا الكلام من الميرزا متين وصحيح في نفسه ، إلا أنّه لا يبرز النكتة التي على أساسها كان الظهور حجّة في مجال الأغراض التشريعيّة ولم يكن حجّة في مجال الأغراض الشخصيّة التكوينيّة ، وعليه فيمكن أن يقال اعتراضا على كلامه بأنّ حجيّة الظهور ما دامت ليست تعبديّة محضة لأنّها من الأصول العقلائيّة التي تكون بلحاظ ما لها من حيثيّة كشف عن الواقع والمراد فكيف كانت هذه الكاشفيّة حجّة في الأغراض التشريعيّة وليست حجّة في الأغراض الشخصيّة مع أنّ الكاشفيّة فيهما على حدّ سواء.

وعليه ، فالشبهة تبقى على حالها أو أنّه أجاب عن الشبهة السابقة إلا أنّه حصلت شبهة أخرى لا بدّ من الإجابة عنها.

فالتحقيق الذي يفي بذلك أن يقال :

إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلّف بل كشفه في نظر المولى ، بمعنى أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه فتارة يلحظها بنظرة تفصيلية فيستطيع بذلك أن يميّز بصورة جازمة ما أريد به ظاهره عن غيره ، لأنّه الأعرف بمراده ، وأخرى يلحظها بنظرة إجماليّة فيرى أنّ الغالب هو إرادة المعنى الظاهر ، وذلك بجعل الغلبة كاشفا ظنيا عند المولى عن إرادة المعنى الظاهر بالنسبة إلى كل كلام صادر منه حينما يلحظه بنحو الإجمال ، وهذا الكشف هو ملاك الحجيّة لوضوح أنّ حجيّة الأمارة حكم ظاهري وارد لحفظ الأغراض الواقعيّة الأكثر

ص: 391

أهمية ، وهذه الأهميّة قد اكتسبتها الأغراض الواقعيّة التي تحفظها الأمارة المعتبرة بلحاظ قوّة الاحتمال ، كما تقدّم في محلّه.

ومن الواضح أنّ قوّة الاحتمال المؤثّرة في اهتمام المولى إنّما هي قوّة احتماله لا قوّة احتمال المكلّف ، فمن هنا تناط الحجيّة بحيثية الكشف الملحوظة للمولى وهي الظهور لا بالظن الفعلي لدى المكلّف.

والتحقيق في الإجابة عن هذا التفصيل مع إبراز نكتة الفرق بين الأغراض التشريعيّة والأغراض الشخصيّة ، أن يقال : إنّ ملاك حجيّة الظهور هو كونه كاشفا عن المراد والواقع ، وهذا الكشف بلحاظ ما رآه المولى لا المكلّف ، ولذلك فيكون المدار على وجود الكاشفيّة للظهور وعدمها عند المولى ، لا عند المكلّف.

وتوضيح ذلك : أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه الصادرة منه في مقام التشريع أي الأوامر والنواهي يكون بين أمرين :

الأوّل : أن يلحظ هذه الظواهر بنحو التفصيل بأن يلحظ كل ظهور ظهور ، فهنا يمكنه أن يميّز بصورة قاطعة بين الظهور الذي يكشف عن مراده الواقعي وبين الظهور الذي لا يفي بذلك ، بمعنى أنّ المولى باعتباره عالما بمراده الجدّي الواقعي يمكن أن يلحظ هذا الظهور ليرى هل هو كاشف عن مراده أو ليس بكاشف؟ وهنا يعطي المولى ضابطة شخصيّة تتعلّق بكل ظهور تبعا لما لاحظه بنفسه تفصيلا من كاشفيّته وعدمها.

الثاني : أن يلحظ المولى ظواهر كلامه بصورة عامّة وإجماليّة في مجموع ظواهر كلامه لا كل ظهور ظهور ، فهنا إمّا أن يرى أنّ الغالب في هذه الظهورات كونها كاشفة عن مراده الجدّي أو يرى أنّ الغالب فيها عدم الكاشفيّة أو لا يكون هناك أغلبيّة لشيء منهما ، فإذا لم يكن الأغلب فيها الكاشفيّة ، أو كان احتمال الكاشفيّة وعدمها متساويا فيها فهنا لن يجعل الشارع الظهور حجّة ، وهذا يستدعي منه أن يصدر حكما ظاهريّا ينهى فيه عن العمل بظواهر كلامه باعتبار أنّ السيرة العقلائيّة منعقدة على العمل بالظهور ممّا يحتّم على الشارع الردع والنهي في حالة مخالفته.

وقد تقدّم سابقا أنّ الشارع سكت ولم يردع عن هذه السيرة ممّا يعني أنّه أمضى السيرة المذكورة ، وهذا يعني أنّ الشارع قد لاحظ أنّ الأغلب في مجموع الظهورات

ص: 392

أن تكون كاشفة عن مراده الواقعي ، وحينئذ يجعل الشارع هذه الغلبة كاشفا ظنيا عن المراد الجدّي والواقعي للكلام الصادر منه.

والطريق الذي اختاره الشارع هو الثاني لا الأوّل لأنّه الأوثق بتنظيم العلاقة بين الشارع وعبيده والأسهل بالنسبة إلى كيفيّة جعل الأحكام وأنّها عامّة وشاملة لكل المكلّفين في كل زمان ومكان.

وعلى هذا الأساس نصل إلى أنّ حجيّة الظهور كانت بملاك أنّ الغالب في الظهورات عند ما يلحظها الشارع بصورة إجماليّة هو كونها كاشفة عن المراد الواقعي للكلام الصادر منه ، فملاك الحجيّة هو هذه الكاشفيّة لدى الشارع.

والدليل على ذلك : هو أنّ حجيّة الظهور من الأمارات التكوينيّة الكاشفة عن الواقع ؛ لأنّه بناء على ما ذكرنا كان جعل الشارع الحجيّة للظهور باعتبار غلبة كشفه عن الواقع ، وقد تقدّم في بحث الحكم الظاهري أنّه على ثلاثة أقسام : لأنّه إما أن يكون بملاك قوّة الاحتمال أي الكاشفيّة فقط أو بملاك قوّة المحتمل فقط من دون ملاحظة الكشف فيه ، أو بملاك المحتمل والاحتمال معا ، والأوّل هو الأمارة ، والثاني هو الأصل العملي المحض ، والثالث هو الأصل المحرز أو التنزيلي.

وبما أنّ الحجيّة كانت بملاك الغلبة الكاشفة عن الواقع فهي إمارة ؛ لأنّه من خلال هذه الكاشفيّة يكون الشارع قد لاحظ ما هو الأهم من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فعند ما يجعل الشارع الظهور حجّة من باب الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الظهور والعمل به يكون أحفظ لملاكات وأغراض الشارع الواقعيّة من غيره.

ومن الواضح أيضا كما تقدّم أن قوّة الاحتمال والكاشفيّة التي تجعل الشيء أمارة إنّما هي الكاشفيّة بنظر المولى لأنّه الأعرف بأغراضه الواقعيّة وبكيفيّة الحفاظ عليها لأنّ المولى هو الذي يشخّص هذه الأهميّة باعتبارها تتعلّق بأحكامه هو ، وليس للمكلف أيّة مدخليّة في ذلك.

ومن هنا نعرف أنّ مناط الحجيّة للظهور هو كونه كاشفا عن الملاكات الواقعيّة وأنّه الأهم في مقام الحفاظ عليها ، وهذا يستلزم أن يكون الشارع هو الذي شخّص هذه الكاشفيّة والأهميّة لا المكلّف ، ولذلك فيكون الظهور حجّة باعتباره كاشفا بنظر

ص: 393

المولى بقطع النظر عن حال المكلّف وأنّه سوف يحصل له ظن فعلي شخصي بالوفاق أو بالخلاف أم لا.

وعلى هذا الأساس اختلف مجال الأغراض التكوينيّة عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ؛ إذ المناط في المجال الأوّل كاشفيّة الظهور لدى نفس العامل به فقد يكون منوطا بحصول الظن له ، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه لدى الآمر الموجب لشدة اهتمامه الداعية إلى جعل الحجيّة.

وعلى هذا الأساس نعرف وجه الفرق بين الأغراض الشخصيّة التكوينيّة وبين الأغراض التشريعيّة ، فإنّه في الأغراض الشخصيّة تكون حجيّة الظهور منوطة بالكشف الظني الذي يحصل لنفس الشخص الذي يريد العمل بالظهور إذ لا يوجد طرف آخر غيره ، وهنا يعقل التفصيل بين الظهور الذي لا يوجد ظن على خلافه فهو حجّة دون غيره ، أو الظهور الذي يوجد ظن على وفاقه فهو حجّة دون غيره.

بينما في الأغراض التشريعيّة حيث يوجد طرفان ( آمر ومأمور ) فإنّ المناط في حجيّة الظهور كون الظهور كاشفا عن المراد لدى شخص الآمر ، لأنّ حجيّته كما ذكرنا باعتباره كاشفا عن الملاكات الواقعيّة الأهم في مقام الشك والاختلاط وعدم التمييز والشارع والآمر هو الذي يشخّص هذه الغالبيّة والأهميّة ، ولذلك لا مدخليّة لظن المكلّف لا بالوفاق ولا بالخلاف ، بل المناط على ظهور الكلام عند النوع ؛ لأنّ الشارع لم يلاحظ شخص المكلّف ولا كل ظهور وإنّما لاحظ مجموع الظهورات لكل المكلّفين.

فالصحيح إذا عدم التفصيل هنا ، بل الظهور حجّة مطلقا ولا عبرة بالظن الفعلي على الخلاف أو على الوفاق.

* * *

ص: 394

الخلط بين الظهور والحجيّة

ص: 395

ص: 396

الخلط بين الظهور والحجيّة

اتّضح ممّا تقدّم أن مرتبة الظهور التصوّري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة ، لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه يفيد مراده بشخص كلامه ، فإذا كانت القرينة متّصلة دخلت في شخص الكلام ولم يكن إرادة ما تقتضيه منافيا للظهور الحالي ، وأمّا عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور وليس مقوّما له ، وإنّما هو شرط في استمرار الحجيّة بالنسبة إليه.

تقدّم سابقا أنّ الظهور ينقسم إلى قسمين : تصوّري ، وتصديقي.

والظهور التصوّري : هو المعنى الذي يخطر في الذهن من سماع اللفظ ، ولذلك يتوقّف على وضع اللفظ للمعنى.

والظهور التصديقي - وهو على نحوين - : الظهور التصديقي على مستوى الدلالة التصديقيّة الأولى أي الإرادة الاستعمالية ، والظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة الثانية أي الإرادة الجديّة.

وهذا الظهور يتوقّف على عدم وجود القرينة المتّصلة على الخلاف فإنّ كل متكلّم يؤخذ بمراده الجدّي الظاهر من كلامه فعلا أي ما يكون مرادا جديّا له بشخص كلامه لا بكلام آخر سوف يأتي فيما بعد.

وعلى هذا فنقول : إنّ لم تكن هناك قرينة متّصلة على الخلاف كان المدلول التصديقي مطابقا للمدلول التصوّري وانعقد المراد الجدّي على طبقه ، وإن كان هناك قرينة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي ينعقد على خلاف الظهور التصوّري وهذا يعني أنّ الظهور التصوّري محفوظ دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف فضلا عن المنفصلة ، ويعني أيضا أنّ القرينة المتّصلة تدخل في تكوين المراد الجدّي والظهور

ص: 397

التصديقي باعتبارها ممّا ذكره في شخص كلامه ، ولا منافاة بين كون مراده الجدّي على طبق هذه القرينة المتّصلة وبين ظهور حاله في أنّ كل ما يريده فإنّه يذكره في شخص كلامه ، وذلك لأنّه ذكر أنّ مراده على طبق هذه القرينة المتّصلة فلا يكون مخالفا لظهور عرفي سياقي.

وأمّا القرينة المنفصلة فوجودها وعدمها لا يؤثّر على أصل انعقاد الظهور ، بمعنى أنّ الكلام إذا تمّ ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فينعقد مراده الجدّي على طبق ما ظهر من كلامه ويكون ظهور كلامه حجّة وكاشفا عن المراد الواقعي ، فإذا جاءت بعد ذلك قرينة منفصلة على خلاف هذا الظهور كانت معارضة له وبالتالي قد تتقدم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي ، فترتفع حجيّة الظهور من حين مجيء هذه القرينة المنفصلة لا من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ استمرار حجيّة الظهور ينهدم ، وأمّا إذا لم تأت القرينة المنفصلة على الخلاف فيستمر الظهور على حجيّته.

وبهذا نعرف أنّ القرينة المنفصلة ليست مقوّمة لأصل الظهور وانعقاده ، وإنّما هي شرط في استمرار حجيّة الظهور وعدمه ، بخلاف القرينة المتّصلة فإنها مقوّمة لأصل انعقاد الظهور لأنّها تدخل في شخص كلام المتكلّم فتكون دخيلة في أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة.

ومن هنا يتّضح وجه الخلط في كلمات جملة من الأكابر الموهمة لوجود ثلاث رتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، ككلام المحقّق النائيني رحمه اللّه ، وهي :

الأولى : مرتبة الظهور التصوّري.

الثانية : مرتبة الظهور التصديقي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه قال كذا وفقا لهذا الظهور.

الثالثة : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحو يسوّغ لنا التأكيد على أنّه أراد كذا وفقا لهذه المرتبة من الظهور.

والأولى لا تتقوّم بعدم القرينة ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتّصلة ، والثالثة تتقوّم بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة.

والحجيّة حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة - فضلا عن المتّصلة - هدمت المرتبة الثالثة من الظهور ورفعت بذلك موضوع الحجيّة.

ص: 398

إلا أنّ بعض كلمات الأعلام وقع فيها خلط بين الظهور والحجيّة ، كما حصل بالنسبة لكلام الميرزا حيث ذكر : أنّ هناك ثلاث مراتب من الظهور كلّها سابقة على الحجيّة ، والحجيّة مترّتبة عليها ، هي :

أوّلا : مرتبة الظهور التصوّري للكلام ، وهذه المرتبة لا تتقوّم بالقرينة مطلقا لا المتّصلة ولا المنفصلة ، كما ذكرنا لأنّها ناشئة من الوضع ، ولذلك فإنّ هذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة على الخلاف.

وثانيا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن أنّه أراد إخطار هذا المعنى في ذهنه وفي ذهن السامع ، أي الارادة الاستعمالية ، وهذه المرتبة متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، بمعنى أنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف دلّ ذلك على أنّه قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي الموضوع له تصوّرا ووضعا ، وإذا ذكر القرينة المتّصلة اختل هذا الظهور وانعقد للكلام ظهور آخر في أنّه أراد استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له على سبيل المجاز لا الحقيقة.

وثالثا : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الجدّي الواقعي على نحو يمكننا التأكيد بأنّه أراد واقعا وجدّا هذا المعنى الذي ظهر من كلامه ، وهذا - باعتقاد الميرزا - متوقف على عدم ذكر القرينة مطلقا المتّصلة والمنفصلة ، خلافا لما اخترناه من أنّه متوقف على عدم القرينة المتّصلة فقط.

وعلى مبناه فإذا جاءت القرينة المنفصلة على الخلاف دلّت على عدم انعقاد ظهور كلامه في معناه الذي ظهر منه في أوّل الأمر ، فتكون رافعة وهادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع حجيّة الظهور ، وهذا يعني أنّ حجيّة الظهور متوقفة على عدم ذكر القرينة المنفصلة فضلا عن المتّصلة.

والحاصل : أنّ القرينة المنفصلة - على مبنى الميرزا - تهدم أصل الظهور من أوّل الأمر لا أنّها تهدم استمرار حجيّة الظهور فقط ، وهذا الكلام منه خلط بين الظهور وبين الحجيّة ، فإنّه جعل الظهور متوقفا على عدم ذكر القرينة المنفصلة ، بينما الصحيح هو أنّ الحجيّة هي التي تتوقّف على عدم ذكر القرينة المنفصلة لا الظهور ، فإنّه متوقف على عدم ذكر القرينة المتّصلة على الخلاف.

ولتوضيح ذلك نقول :

ص: 399

وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره ، فإنّه وإن كان على حقّ في جعل الظهور التصديقي موضوعا للحجيّة كما تقدّم ، غير أنّ الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي استعمالا جديّا ليس متقوّما بعدم القرينة المنفصلة ، بل بعدم القرينة المتّصلة فقط ؛ لأنّ هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلّم في التطابق بين المدلول التصوّري لكلامه والمدلول التصديقي ، والتطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والمدلول التصديقي الثاني ، والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمنه من خصوصيات ، فإذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوّري والمعنى المستعمل فيه تنجّز ظهور حال المتكلّم في أنّ ما قاله وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدا ، ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي لا أنّه يعني نفيه موضوعا.

والتحقيق : أنّ ما ذكره الميرزا لا يمكن قبوله على ظاهره وإطلاقه ، فهو وإن كان محقّا بالنسبة للظهور التصوّري حيث إنّه لا يتقوّم بالقرينة مطلقا ، وبالنسبة لجعل موضوع حجيّة الظهور هو الظهور التصديقي لا التصوّري ، إلا أنّ ما ذكره بالنسبة للمدلول التصديقي الذي على أساسه نحدّد المراد الجدّي الواقعي للمتكلّم غير صحيح ، فإنّه جعله متقوّما بعدم ذكر القرينة المنفصلة على الخلاف بينما الصحيح كونه متقوّما بعدم ذكر القرينة المتّصلة فقط.

والوجه في ذلك : هو أنّ المتكلّم إذا تكلم بكلام ولم يذكر فيه قرينة متّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصوّري في أنّه أخطر هذا المعنى من اللفظ ، وانعقد على طبق هذا المدلول التصوّري مدلول تصديقي أوّل وهو أنّه استعمل هذا اللفظ في ذاك المعنى ، أي أنّه أراد أن يخطر هذا المعنى في الذهن ، بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل.

ثمّ إنّه إذا لم يذكر القرينة المتّصلة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور تصديقي ثان في أنّه أراد جدّا هذا المعنى الذي أخطره واستعمل اللفظ فيه بناء على أصالة التطابق بين المدلولين التصديقي الأوّل والثاني.

ومن هنا يصحّ لنا القول بأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه أراد جدّا المعنى الذي استعمل اللفظ فيه والذي أخطره هذا اللفظ في الذهن تبعا لوضعه له لغة.

ص: 400

إذا هذا الظهور التصديقي الذي يحدّد المراد الجدّي يعتمد على شخص كلام المتكلّم وأنّه لم يذكر فيه القرينة على الخلاف استنادا إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، فإذا لم يذكر هذه القرينة على الخلاف انعقد لكلامه ظهور وصار هذا الظهور حجّة بالفعل باعتباره كاشفا عن المراد والواقع ، بل حتّى لو ذكر القرينة متّصلة على الخلاف فإنّ المراد الجدّي والواقعي ينعقد على طبق هذه القرينة باعتبارها داخلة في شخص كلامه لأنّه ذكر وقال ما أراده جدا وواقعا ، فلا يكون ذكر القرينة المتّصلة متنافيا مع ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يذكره ويقوله ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي لأنّه بحسب الفرض قد ذكر هذه القرينة في شخص كلامه ، غاية الأمر يختل التطابق بين الدلالات الثلاث فقط ، وهذا لا مانع منه لأنّه لا يؤثّر على ظهور حال المتكلّم العرفي المذكور.

وأمّا إذا ذكر القرينة منفصلة بعد أن انعقد ظهور لكلامه على طبق ما ذكره وقاله واستعمل اللفظ فيه ، وبعد أن تنجّز عليه الظهور وصار حجّة ، فهنا تكون هذه القرينة المنفصلة مكذّبة لهذا الظهور المنعقد فعلا والكاشف عن المراد الواقعي لا أنّها رافعة وهادمة له من أوّل الأمر ، بل إنّ هذه القرينة المنفصلة تكشف عن كون المراد الواقعي ليس على طبق الظهور المنعقد فعلا وأنّ هذا الظهور المنعقد بالفعل ليس مطابقا للمراد الجدّي الواقعي ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بين ما هو المنكشف في هذه القرينة المنفصلة وبين ما هو منكشف فعلا على أساس الظهور التصديقي ، فلا بدّ من تحكيم قواعد التعارض عليهما وأنّه مستقر أو يمكن الجمع العرفي بينهما إلى غير ذلك.

فالصحيح إذا أنّ موضوع الحجيّة ليس متوقفا على عدم القرينة المنفصلة لأنّ الظهور التصديقي الثاني منعقد فعلا عند عدم القرينة المتّصلة على الخلاف. نعم ، استمرار حجيّة هذا الظهور تتوقّف على عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أقوى من الظهور السابق.

والدليل على ما ذكرناه هو :

ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الأصل العقلائي ؛ لأنّ ذلك على خلاف الظهور الحالي ، ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هو موضوع الحجيّة من الظهور لما كان ذلك على خلاف الطبع ولكان حاله

ص: 401

حال الاعتماد على القرائن المتّصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على طبق المدلول التصوّري.

ويدلّ على ما ذكرناه - من عدم كون القرينة المنفصلة هادمة لأصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة - أنّ الاعتماد على القرائن المنفصلة لا وجود له في حياة العقلاء ، بل يعتبر الاعتماد عليها حالة استثنائيّة نادرة مخالفة للطبع وللمرتكز وللبناء العقلائي ، ومخالفة لظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويذكره ويستعمل اللفظ فيه هو مراده الجدّي ، لأنّه بذلك يكون قد أراد جدّا وواقعا ما لم يذكره في شخص كلامه مع أنّ ظاهر حاله أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي والواقعي في شخص كلامه.

وعليه فلو جاز أن يقال : إنّ القرينة المنفصلة يعتمد عليها لهدم ولرفع أصل الظهور التصديقي الذي هو موضوع الحجيّة كما ذكرنا سابقا عن الميرزا لكان الاعتماد على القرائن المنفصلة كالاعتماد على القرائن المتّصلة في كونها مطابقة للطبع وللميل العقلائي من دون فرق بينهما ، وهذا معلوم البطلان فإنّ العقلاء يرون الاعتماد على القرينة المنفصلة في مقام الدلالة على المراد الجدّي الواقعي على خلاف مقام المتكلّم وظهور حاله في أنّه يبيّن ويريد ما هو موجود في كلامه من ألفاظ.

وبتعبير آخر : أنّ العقلاء يرون أنّ الاعتماد على القرينة المتّصلة موافق للطبع ولظهور حال المتكلّم لأنّه يكون قد أراد جدّا ما ذكره في كلامه. نعم ، يكون ذكر القرينة المتّصلة هادما لأصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي ، وليس خارقا لما هو المتعارف بين العقلاء عند التخاطب والتحاور.

بينما الاعتماد على القرينة المنفصلة يكون بنظر العقلاء حالة نادرة وشاذة لأنّه يكون مخالفا لما هو المتعارف في مقام المحاورة وخارقا لظهور عرفي سياقي في أن كل ما يقوله ويذكره هو مراده الجدّي والواقعي.

* * *

ص: 402

الظهور الحالي

ص: 403

ص: 404

الظهور الحالي

وكما أنّ الظهور اللفظي حجّة كذلك ظهور الحال ، ولو لم يتجسّد في لفظ أيضا ، فكلما كان للحال مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ اجتماعيّا أخذ به.

الظهور الحالي هو الظهور الذي لا يكون لفظا وإنّما ينشأ من حال المتكلّم ، بمعنى أنّ المتكلّم قد تصدر منه بعض الأفعال والحركات والتصرّفات تدلّ على أنّه يريد معنى معينا من خلال ما صدر منه ، وهذا ما يسمّى بالتقرير أو الفعل بالنسبة للمعصوم فإنّ المعصوم إذا فعل شيئا فظاهر حاله أنّ هذا الفعل صحيح وكذا إذا سكت عن فعل.

وأمّا المتكلّم الاعتيادي فقد يصدر منه فعل أو تصرّف أو حتّى سكوت أو تقطيب للوجه ، أو عبوس فإنّ هذا كلّه له ظهور. فهل يكون ظهور الحال كظهور اللفظ حجّة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ المعنى الذي ينسبق إلى ذهن الإنسان الاجتماعي عند ما يلاحظ هذا الحال هل يكون حجّة أم لا؟

والجواب عن ذلك : أنّه توجد ثلاثة أدلة لحجيّة الظهور اللفظي فهل بالإمكان تماميّة شيء من هذه الأدلّة هنا أم لا؟

غير أنّ إثبات الحجيّة لهذه الظواهر غير اللفظيّة لا يمكن أن يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلا في عصر المعصومين على العمل في مقام استنباط الأحكام بظواهر الأفعال والأحوال غير اللفظيّة ؛ لأنّ طريق إثبات قيامها في الظواهر اللفظيّة قد لا يمكن تطبيقه في المقام لعدم شيوع ووفرة هذه الظواهر الحاليّة المجرّدة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات المتعدّدة.

الطريق الأوّل : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو سيرة المتشرّعة.

والصحيح أنّ سيرة المتشرّعة لا يمكن من خلالها إثبات حجيّة الظهور الحالي ، لأنّه

ص: 405

لا يمكن إثبات قيام وانعقاد سيرة الصحابة والأصحاب فعلا على الأخذ والعمل بظهور حال الشارع ؛ لأنّ تصرفات وأفعال وأحوال الشارع كانت نادرة جدا بحيث لا يمكننا من خلال عدد من الوقائع أن نثبت أنّ الشارع قد اعتمد على استنباط أحكامه من خلال ظهور حاله ، فإنّ الأحكام التي استفيدت من ظهور حال الشارع كانت من خلال ما نص عليه هو نفسه كما بالنسبة للحج وأفعاله أو للصلاة حيث إنّه أمر بالأخذ عنه حسب ما يفعله ويقوم به ، ولا توجد ظواهر توجب أو توحي بأن سيرة المتشرّعة كانت قائمة فعلا على العمل بظهور حال الشارع لاستنباط الأحكام الشرعيّة منه.

ومع عدم إمكانيّة إثبات السيرة لا يمكن جعلها دليلا على الحجيّة كما هو واضح.

كما لا يمكن أن يكون إثبات الحجيّة لها بالأدلة اللفظيّة الآمرة بالتمسّك بالكتاب وأحاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام كما هو واضح ، لعدم كونها كتابا ولا حديثا.

الطريق الثاني : للاستدلال على حجيّة الظهور الحالي هو الأحاديث الآمرة بالتمسّك بالكتاب والسنّة كحديث الثقلين وغيره.

والصحيح أنّ هذا الطريق لا يمكننا من خلاله إثبات أكثر من كون الكتاب والسنّة كألفاظ يجب العمل بها وبظهورها ، - كما تقدّم سابقا - وأمّا الظهور الحالي فهو ليس كتابا ولا سنّة ولا حديثا ؛ ليكون داخلا في عموم الكتاب والسنّة كما هو واضح.

وإنّما الدليل هو السيرة العقلائيّة على ألا يدخل في إثبات إمضائها التمسّك بظهور حال المولى وسكوته في التقرير والإمضاء لأنّ الكلام في حجيّة هذا الظهور.

الطريق الثالث : هو السيرة العقلائيّة.

والصحيح أنّه يمكن الاستدلال بسيرة العقلاء على حجيّة الظهور الحالي ، وذلك لأنّ بناء العقلاء منعقد فعلا على العمل بظهور حال المتكلّم سواء في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أم في الأغراض التشريعيّة.

ووجه الاستدلال بها من خلال الارتكاز والإيحاء الموجب للإضرار بغرض الشارع فيما لو لم يكن راضيا بذلك ، فإنّ هذا البناء من شأنه بحكم ارتكازه عند العقلاء أن

ص: 406

يعمل به في أحكام الشارع أيضا بأن تستنبط الأحكام وفقا لظهور حال الشارع ، فمع عدم ردعه وسكوته يكتشف إمضاؤه وتقريره وقبوله بهذا البناء العقلائي.

إلا أنّه يشترط في كيفيّة اكتشاف الإمضاء ألا يدخل فيه استظهار حال الشارع ، بل يكتشف من خلال الطريق العقلي أي كونه آمرا وناهيا أو كونه هادفا وذا غرض ، والعاقل لا يفوّت غرضه.

وأمّا استظهار حال الشارع فاكتشاف الإمضاء به يكون مصادرة ودورا واضحا لأنّ الكلام في أصل إثبات حجيّة مثل هذا الظهور الحالي فما لم تثبت حجيّته لا يمكن جعله دليلا كما هو واضح.

* * *

ص: 407

ص: 408

الظهور التضمّني

اشارة

ص: 409

ص: 410

الظهور التضمّني

إذا كان للكلام ظهور في مطلب فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي ، وله ظهور ضمني في كل جزء من أجزاء ذلك المطلب ، ومثال ذلك أداة العموم في قولنا : ( أكرم كل من في البيت ) ونفرض أن في البيت مائة شخص ، فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور ضمني في الشمول لكل واحد من وحدات هذه المائة ، ولا شكّ في حجيّة كل ظواهرها الضمنيّة.

تقدّم سابقا أنّ للكلام مدلولا مطابقيّا ومدلولا التزاميّا ، وهنا نريد أن نذكر المدلول الثالث وهو المدلول التضمني للكلام فهل هو حجّة أم لا؟

المراد من المدلول التضمني هو أن يكون للكلام ظهور في مطلب ما ويكون له ظهور في الشمول والاستيعاب لتمام أفراده ومصاديقه وأجزائه ، فإنّ ظهوره هذا يسمّى بالظهور الضمني أو التضمني.

ومثاله أدوات العموم ، كقولنا : ( أكرم كل من في البيت ) وفرضنا أنّ الموجودين في البيت مائة شخص ، فهنا يكون للكلام ظهور استقلالي ومدلول مطابقي وهو ثبوت حكم واحد على هذا المجموع ، وله أيضا ظهور تضمني في الشمول لكل فرد من الأفراد الموجودين في البيت بحيث ينحل وجوب الإكرام إلى وجوبات عديدة بعدد الأفراد الموجودين.

وكذلك الحال بالنسبة للأمر بالمركّب كالصلاة ، فإنّ وجوبها ينحل ويتعدّد بتعدّد الأجزاء ، فيسمّى وجوب الركوع والسجود ونحوهما وجوبا ضمنيّا ، ولا إشكال في حجيّة هذا الظهور التضمني ؛ لأنّ الشمول والاستيعاب والانحلال لكلّ الأفراد دخيل في وضع أداة لغة في لفظ العموم أو في حقيقة المركّب ، وهذا لا كلام لنا فيه.

ص: 411

ولكن إذا ورد مخصّص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض أفراد العام ، ولنفرض أنّ هذا البعض يشمل عشرة من المائة ، فهذا يعني أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة لمجيء المخصّص.

والسؤال هنا : هو أنّ الظواهر الضمنيّة الأخرى التي تشمل التسعين الباقين هل تبقى على الحجيّة أو لا؟

فإن قيل بالأوّل كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بالثاني كان معناه التبعيّة ، كما تكون الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

وكلامنا فيما إذا ورد مخصّص منفصل يدلّ على عدم وجوب إكرام بعض الأفراد كما في المثال المذكور ، فنفرض أنّه ورد لا تكرم هؤلاء العشرة من الموجودين في البيت ، فهنا لا إشكال في سقوط المدلول المطابقي عن حجيّته وشموله لكل الأفراد ، لأنّنا نعلم بعدم الشمول ، وهذا يستلزم أيضا أنّ بعض الظواهر الضمنيّة سوف تسقط عن الحجيّة بسبب مجيء المخصّص المنفصل إذ العشرة التي ورد فيها المخصّص المنفصل ساقطة عن الحجيّة ولا يشملها العموم.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وإنّما الإشكال والكلام في وجوب الباقي من المدلولات والظهورات التضمنيّة فهل الأفراد الأخرى التي لم يرد فيها مخصّص حجّة أم أنّها تسقط عن الحجيّة تبعا لسقوط المدلول المطابقي أيضا؟

فإنّ قيل بأنّها لا تسقط عن الحجيّة بل تبقى واجبة كان معناه أنّ الظهور التضمني غير تابع للظهور المطابقي الاستقلالي في الحجيّة ، وإن قيل بأنّها تسقط عن الحجيّة أيضا ، كان معناه أنّها تابعة للظهور الاستقلالي في الحجيّة ، كما كانت الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة.

والأثر العملي بين القولين أنّه على الأوّل نتمسّك بالعام لإثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص ، وعلى الثاني تسقط حجيّة الظواهر التضمنيّة جميعا ولا يبقى دليل حينئذ على أن الحكم هل يشمل تمام الباقي أم لا؟

والفارق العملي بين القولين : هو أنّه على القول بعدم تبعيّة المدلول التضمني

ص: 412

للمدلول الاستقلالي في الحجيّة سوف تكون الظواهر التضمنيّة الباقية على حجيّتها ، وذلك تمسكا بالعام ، فإنّ العام حجّة في الشمول والاستيعاب لكل أفراده خرج منه بعض الأفراد والمفروض أنّ هذا التخصيص للبعض لا يؤثّر على ظهور العام في الباقي فيكون الباقي لا يزال داخلا تحت العام ومشمولا لحكمه.

بينما على القول بتبعيّة الظهور التضمني للاستقلالي فهذا يعني أنّ الظهورات الباقية لا دليل على ثبوت الحكم فيها ؛ إذ المفروض أنّ العام سقطت حجيّته في الشمول لكل الأفراد ، وأنّ كل الظهورات التضمنيّة سقطت عن الحجيّة ، وعليه فلا يعلم الحكم المقصود من العام من حيث الأفراد هل هو شامل لتمام الأفراد الباقية أم لا؟

وقد ذهب بعض الأصوليّين إلى سقوط الظواهر والدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة ؛ وذلك لأنّ ظهور الكلام في الشمول لكل واحد من المائة في المثال المذكور إنّما هو باعتبار نكتة واحدة وهي الظهور التصديقي لأداة العموم في أنّها مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد أن علمنا أنّ الأداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل ورود المخصّص وإخراج عشرة من المائة نستكشف أنّ المتكلّم خالف ظهور حاله واستعمل اللفظ في المعنى المجازي ، وبهذا تسقط كل الظواهر الضمنيّة عن الحجيّة ؛ لأنّها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض أن تكون الأداة في المثال مستعملة في التسعين أو في تسعة وثمانين لأنّ كلا منهما مجاز ، وأيّ فرق بين مجاز ومجاز؟!

ذهب بعض الأصوليّين ممّن تقدّم على سلطان المحقّقين إلى أنّ العام بعد تخصيصه بالمخصّص المنفصل يسقط عن الحجيّة في الباقي ، وهذا هو معنى سقوط الدلالات التضمنيّة جميعا عن الحجيّة بعد ورود المخصّص المنفصل على العام ، فإذا قيل : ( أكرم كل من في الدار ) وكان المجموع مائة.

ثمّ ورد مخصّص منفصل يستثني عشرة منهم لسبب خاص فهنا يعلم بأن أداة العموم لم تستعمل في معناها الحقيقي الذي وضعت له لغة وهو الشمول والاستيعاب لكل أفراد المدخول ، إذ المفروض أنّ المخصّص المنفصل قد أسقط بعض الأفراد عن الحجيّة وأخرجها عن العموم والاستيعاب المدلول عليه بالأداة ، وهذا يعني أنّ المراد الجدّي الواقعي لم يكن متطابقا مع المراد الاستعمالي وهذا أيضا لم يكن متطابقا مع

ص: 413

المدلول التصوّري للأداة ؛ لأنّ المراد الجدّي المنعقد وفقا للقرينة المنفصلة يدلّ على أنّه استعمل أداة العموم في غير ما وضعت له أي الاستيعاب لكل الأفراد لأنّه علم يقينا بأنّها لم تستعمل إلا في البعض لا في تمام الأفراد كما هو مفاد المخصّص المنفصل.

فينتج من ذلك أنّ أداة العموم مستعملة في المعنى المجازي لا الحقيقي والدليل الكاشف عن ذلك هو ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الأفراد عن الشمول والاستيعاب ، فيكون المتكلّم مخالفا لظهور حاله أوّلا في أنّه قد استعمل أداة العموم في الشمول والاستيعاب لكل الأفراد والذي هو المعنى الحقيقي الموضوعة الأداة له ، وإنّما استعملها في معناها المجازي بقرينة ورود المخصّص المنفصل المسقط لبعض الظواهر التضمنيّة.

وبما أنّه قد ثبت أنّ الأداة غير مستعملة في معناها الحقيقي وإنّما استعملت في المعنى المجازي فلا دليل ولا معيّن لحجيّة العموم في باقي الأفراد إذ كما يحتمل أن يكون ما هو الباقي على الحجيّة هو التسعين كذلك يحتمل الأقلّ من ذلك وحيث لا معين لأحدها على الآخر يكون المراد الجدّي بعد التخصيص مجملا ، ولا يعلم يقينا أيّة مرتبة من مراتب المجاز أراد ؛ لأنّ كل المراتب الأخرى مجاز إذ لا استيعاب فيها لتمام الأفراد ، وما دام الاستعمال مجازيا فأيّ فرق بين هذا المجاز وذاك؟! إذ كل المراتب على حدّ سواء في ذلك ، ومجرّد أقربيّة التسعين مثلا من غيرها إلى المائة لا يوجب ترجيحها وتعيينها على غيرها لأنّ هذه الأقربيّة ليست من المعنى وإنّما من المصداق والعدد خارجا.

وقد أجاب على ذلك جملة من المحقّقين كصاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه بأنّ المخصّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلّم لظهور حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وإنّما يكشف فقط عن عدم تعلّق إرادته الجديّة بإكرام الأفراد الذين تناولهم المخصّص ، فبالإمكان الحفاظ على هذا الظهور وهو ما كنّا نسمّيه بالظهور التصديقي الأوّل فيما تقدّم ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني وهو ظهور حال المتكلّم في أن كل ما قاله وأبرزه باللفظ مراد له جدا ، فإنّ هذا الظهور لو خلّي وطبعه يثبت أنّ كل ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّا ، غير أنّ المخصّص يكشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا كذلك ، فكلّ فرد كشف

ص: 414

المخصّص عن عدم شمول الإرادة الجديّة له نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ، وكل فرد لم يكشف المخصّص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لإثبات حكم العام له.

وقد أجاب بعض المحقّقين على ذلك بأنّه بالإمكان التمسّك بالعام في الأفراد الباقية بعد التخصيص. فذكر صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه أنّ للكلام ثلاثة مداليل كما تقدّم ، وهي :

1 - مرحلة المدلول التصوّري وهي مرتبطة بوضع اللفظ للمعنى وهذه المرتبة محفوظة دائما حتّى مع القرينة المتّصلة على الخلاف.

2 - مرحلة المدلول التصديقي الأوّل أي الإرادة الاستعماليّة وهي أنّه أراد إخطار واستعمال هذا اللفظ في معناه الموضوع له لغة ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، إذ مع وجودها يكون استعمال اللفظ مجازا.

3 - مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، أي الإرادة الجديّة ، أي أنّه أراد جدّا هذا المعنى الموضوع له اللفظ ، وهذه المرتبة تتوقّف على عدم ورود القرينة مطلقا سواء المتّصلة والمنفصلة على الخلاف.

وعلى هذا فإذا ورد المخصّص المنفصل كشف عن أن مراده الجدّي ليس مطابقا لمراده الاستعمالي ، بمعنى أنّه أراد جدّا خلاف ما أراده استعمالا ، ولذلك يختلّ التطابق بين الارادة الاستعماليّة والإرادة الجديّة ، فيكون المخصّص المنفصل كاشفا عن عدم تعلّق مراده الجدّي بإكرام تمام الأفراد خلافا لما أفاده في مرحلة الإرادة الاستعماليّة ، وهذا يعني أنّ المنثلم هو المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، فالأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي الذي وضعت له ، بينما المدلول التصديقي الثاني وهو مراده الجدّي والذي كنّا نثبته على أساس ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يقوله ويبرزه في كلامه فهو مراده الجدّي ، ينكشف بالمخصّص المنفصل عدم تحققه.

وبتعبير آخر : أنّ ظهور حال المتكلّم في أنّه أراد جدا ما أبرزه واستعمل اللفظ فيه لو خلّي وطبعه ولم يذكر المتكلّم قرينة على خلافه فهو يقتضي أنّ كل ما أفاده وقاله هو مراده الجدّي ، وحيث إنّه ذكر الأداة الدالة على العموم والاستيعاب لكل الأفراد ، فيكون مراده الجدّي هو شمول الحكم لتمام الأفراد ، فإذا جاء المخصّص المنفصل

ص: 415

كشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا مرادين جدّا ، وأمّا سائر الأفراد الأخرى فهي داخلة تحت العموم والاستيعاب ، إذ لا مخرج لها.

وبكلمة أوضح : أنّ كل فرد من الأفراد داخل في المراد الجدّي ولا يرفع اليد عن العموم بلحاظه ما لم تكن هناك قرينة على الخلاف ، فإذا جاء المخصّص المنفصل وأخرج بعض الأفراد من المراد الجدّي ثبت عدم إرادة العموم والشمول لهذا البعض من الأفراد.

وأمّا سائر الأفراد الأخرى فحيث إنّه لم يثبت خروجها عن المراد الجدّي ، وحيث إنّ الأداة لا تزال مستعملة في معناها الحقيقي وهو الشمول والاستيعاب فهي لا تزال داخلة في العموم ، فإذا شكّ في عدم إرادتها بعد ورود التخصيص أمكننا التمسّك بالعام لإثبات حكمه بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّ العام يبقى على حجيّته بلحاظ الأفراد الباقية بعد ورود المخصّص المنفصل ، وذلك تمسّكا بالعام فيها ، إذ لا دليل على خروجها عن عموم العام (1).

ص: 416


1- وأجاب الميرزا النائيني عن ذلك أيضا وفقا لمبناه من أنّ الظهور التصديقي متوقف على عدم القرينة المنفصلة على الخلاف فمع ورود المخصّص المنفصل يثبت أنّ مراده الجدّي هو الباقي بعد التخصيص ، لأنّ ورود المخصّص المنفصل يكشف عن كون المراد الجدّي ليس تمام الأفراد بل البعض فقط ولذلك يكون الظهور التصديقي منعقدا من أوّل الأمر على شمول باقي الأفراد فقط ، لا للجميع ، وذلك بقرينة ورود المخصّص المنفصل الذي أخرج ذلك البعض. وبهذا لا يكون المخصّص المنفصل موجبا للمجازية أصلا ، وإنّما يوجب تضييق دائرة المراد الجدّي والظهور التصديقي ، فبعد أن كانت دائرته أوسع صارت دائرته أضيق بسبب هذا المخصّص المنفصل. وعليه ، فالمخصّص المنفصل يوجب تضييق دائرة مدخول الأداة فقط ، وهي لا تزال مستعملة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فتكون باقي الأفراد حجّة وداخلة تحت العام وضمن المراد الجدّي. وأجاب الشيخ الأنصاري عن ذلك بأنّنا نلتزم بالمجازية مع ورود المخصّص المنفصل ، ولكن مع ذلك يبقى العام حجّة في باقي الأفراد ؛ وذلك لأنّ دلالة العام على كل فرد فرد ليست مترابطة من حيث الدلالة ، فكلّ فرد يشمله العام بقطع النظر عن الفرد الآخر ، فمع ورود المخصّص المنفصل المخرج لبعض الأفراد معناه أنّ الأداة لم تستعمل في معناها الحقيقي أي الشمول لكل الأفراد ، إلا أنّ شمولها للبعض لا يزال ثابتا إذ لا ارتباط لهذا البعض بالبعض الآخر ، والمفروض أنّه لا دليل على خروجه أيضا فيتمسك بالعام بلحاظه.

وفي بادئ الأمر قد يخطر في ذهن الملاحظ أنّ هذا الجواب ليس صحيحا ، لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض في الحجيّة من مرحلة الظهور التصديقي الأوّل إلى مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة فلما ذا لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل؟ وإذا كان تابعا له كذلك فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجيّة بعض متضمناته دون بعض؟

قد يقال : إنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) لا يجيب عن التساؤل المطروح سابقا ؛ وذلك لأنّه لم يصنع شيئا سوى أنّه نقل التبعيض من الدلالة التصديقيّة الأولى إلى الدلالة التصديقيّة الثانيّة ، أي أنّه ادّعى أنّ المخصّص المنفصل يوجب التبعيض في المراد الجدّي لا في المراد الاستعمالي خلافا لما تقدّم سابقا من وجه سقوط الظواهر التضمنيّة المبني على أنّ الأداة استعملت مجازا ، وهذا لا يعد وأن يكون دعوى مقابل دعوى ، إذ لم يذكر النكتة والمناط الذي على أساسه يكون المخصّص المنفصل موجبا للتبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّه وان كان على حقّ في نقل هذا التبعيض إلى هذه المرحلة إلا أنّه لم يبيّن نكتة ذلك.

وعليه فيمكن لمعترض أن يقول : إنّ الظهور التضمني إذا كان تابعا للظهور الاستقلالي في الحجيّة فما دام قد علم بسقوط الظهور الاستقلالي فهذا يستلزم سقوط الظهور التضمني سواء كان التبعيض في مرحلة المدلول التصديقي الأوّل كما هو الادّعاء السابق ، أم المدلول التصديقي الثاني كما هو ادّعاء صاحب ( الكفاية ) ؛ لأنّه إذا كان ساقطا فلا يضرّنا كون التبعيض في الارادة الاستعمالية وأنّ الأداة مستعملة مجازا ، أو كونها مستعملة حقيقة والتبعيض في الإرادة الجديّة.

وإذا كان الظهور التضمني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجيّة بمعنى أنّه حتّى وإن سقط المدلول المطابقي عن الحجيّة فالمدلول التضمني لا يزال على الحجيّة فهنا نتمسّك بحجيّة هذا المدلول التضمني لإثبات بقاء الباقي تحت العام سواء كان التبعيض في الإرادة الاستعمالية أم في الإرادة الجديّة ، أي سواء كانت الأداة مستعملة حقيقة أم مجازا لأنّ الباقي ما دام حجّة فلا يضرنا الأوّل ولا ينفعنا شيئا زائدا الثاني.

والحاصل أنّ كلام الآخوند لم يصنع شيئا في الجواب على هذا الإشكال إذ مجرّد

ص: 417

التبعيض من دون إبراز المناط والنكتة لا يفيد شيئا ، إذ لا مرجّح لإحدى الدعويين على الأخرى ، إذ الأوّل يفيد اختلال التطابق بين المدلول التصوّري والإرادة الاستعمالية ، والثاني يفيد اختلال التطابق بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجديّة وكلا الاصالتين مبتنيتان على ظهور حال المتكلّم الذي علم بالمخصّص المنفصل انهدامه.

وردّنا على هذه الملاحظة :

إنّ فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من مرحلة إلى مرحلة هي أنّ الظواهر الضمنيّة في مرحلة الظهور التصديقي الأوّل مترابطة ولها نكتة واحدة ، فإن ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنيّة ، والنكتة هي ظهور حال المتكلّم في أنّه يستعمل اللفظ استعمالا حقيقيّا ، فإنّ هذا هو الذي يجعلنا نستظهر أنّ هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل ، وهكذا.

فإذا علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازا وأنّ المتكلّم قد خالف ظهوره الحالي المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض أن هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق الاستعمال.

ويمكننا الإجابة عن هذه الملاحظة بأنّه توجد نكتة على أساسها ينقل التبعيض من المدلول التصديقي الأوّل إلى الثاني.

وتوضيح ذلك : أنّ الظواهر الضمنيّة تارة تكون بلحاظ المدلول التصديقي الأوّل ، وأخرى بلحاظ المدلول التصديقي الثاني ، فإن كانت على مستوى الإرادة الاستعمالية فهذا يعني أنّنا أثبتنا أنّ أداة العموم في المثال المتقدّم مستعملة في معناها الحقيقي الموضوعة له وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد ، فالمثبت لهذه الظواهر هو أصالة التطابق بين المدلول التصوّري في أنّه أخطر المعنى من اللفظ الموضوع له ، وبين المدلول التصديقي الأوّل في أنّه استعمل اللفظ في هذا المعنى استنادا إلى ظهور حال المتكلّم في أنّ كل ما يخطره في الذهن فهو يريد استعماله على نحو الحقيقة لا المجاز ، وعلى أساس هذه الأصالة يثبت دخول كل فرد من الأفراد التي ينطبق عليه مدخول الأداة في الإرادة الاستعمالية ، وهذه الأصالة لا يرفع اليد عنها إلا إذا ثبت أنّه خالف ظهور حاله ، واستعمل اللفظ في غير المعنى الموضوع له مجازا ، فإن وجد ما يدلّ على المجاز بأن ذكر قرينة متّصلة على الخلاف كان ذلك هادما لهذه الأصالة والتي هي النكتة

ص: 418

الوحيدة التي تثبت دخول كل الأفراد في الاستعمال ، فإذا اختلت وبطلت هذه النكتة لم يبق دليل على أنّ هذا الفرد داخل في الاستعمال أو ذاك.

وبذلك يكون كلام المستشكل تامّا هنا إذ لا فرق في المجاز بين إرادة هذا البعض دون الآخر ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح فيكون الكلام مجملا ، وبالتالي لا يمكننا إثبات أنّ العام مستعمل في باقي الأفراد ؛ لأنّ النكتة الوحيدة التي تفيد هذا الترابط قد علم بطلانها.

وهذا خلافا للظواهر الضمنيّة في مرحلة المدلول التصديقي الثاني ، فإنّ نكتة كل واحدة منها مستقلّة عن نكتة الباقي ، فإنّ كل جزء من أجزاء مدلول الكلام - أي المعنى المستعمل فيه - ظاهر في الجديّة ، فإذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض أجزاء الكلام فلا يسوّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الأجزاء الأخرى من مدلول الكلام في الجديّة.

وأمّا إذا كانت الظواهر الضمنيّة على مستوى المدلول التصديقي الثاني أي الإرادة الجديّة أي أنّ أداة العموم المستعملة حقيقة في العموم يراد بها جدّا الاستيعاب والشمول لكل فرد من الأفراد ، فإنّ النكتة في كون كل فرد من الأفراد مرادا على نحو الجديّة تختلف عن النكتة في سائر الأفراد ، أي أنّه لا يوجد ترابط بين إرادة هذا الفرد وبين إرادة غيره ؛ إذ يمكن للمتكلّم أن يريد تمام الأفراد أو بعضها فإنّ هذا تابع لما هو المراد الجدّي الواقعي ، والذي يعرف من خلال أصالة التطابق بين المدلول التصديقي الأوّل والثاني ، أي أنّه أراد جدّا ما استعمل اللفظ فيه ، وحيث إنّه استعمل اللفظ في العموم والشمول لكل الأفراد لأنّه لم ينصب قرينة على الخلاف فهو يريد جدا دخول كل فرد من الأفراد.

وعليه ، فإذا علمنا فيما بعد بعدم إرادة دخول تمام الأفراد بأن ذكر قرينة منفصلة على إخراج بعض الأفراد دلّ هذا على أنّ مراده الجدّي ليس متعلّقا بالجميع ، وأمّا أنّ الباقي هل هو مراد جدا له أم لا؟ فهذا يثبت بما ذكرناه الآن من أنّ كل فرد له نكتة مستقلّة عن غيره من الأفراد على مستوى الإرادة الجديّة ؛ ولذلك يثبت بالمخصّص المنفصل سقوط النكتة الموجبة لدخول الأفراد الذين دلّ المخصّص على خروجها وأمّا الأفراد الباقية فنكتة إرادتها جدا لا تزال على حالها ولا موجب لسقوطها.

وبذلك يكون كلام صاحب ( الكفاية ) تامّا أي أنّه إذا كان التبعيض في الإرادة

ص: 419

الجديّة لا الاستعمالية أمكننا إثبات حجيّة الباقي بنفس كون العام مستعملا في معناه الموضوع له على نحو الحقيقة وهو الاستيعاب والشمول لكل الأفراد.

وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي ،

وحيث إنّنا ذكرنا سابقا أنّ المخصّص المنفصل لا يتدخّل في الإرادة الاستعمالية ولا في أصل انعقاد الإرادة الجديّة وإنّما يكشف فقط عن عدم حجيّة الظهور التصديقي من حين مجيء المخصّص المنفصل ، فهذا يعني أنّ التبعيض كان بلحاظ المدلول التصديقي الثاني لا الأوّل ، وبالتالي يكون ما ذكره صاحب ( الكفاية ) صحيحا ، لأنّنا نتمسّك بنفس العام لإثبات دخول الباقي في المراد استنادا إلى أنّ اللفظ لا يزال مستعملا في معناه الحقيقي فهو يشمل كل الأفراد تصوّرا وقد استعمل في ذلك تصديقا غير أنّه علم بخروج بعض الأفراد وأنّها ليست مرادة جدّا ، وأمّا الباقي فهو لا يزال على حاله لأنّ نكتة دخوله في الإرادة الجديّة غير مرتبطة بغيرها بل مستقلّة عن النكتة لكلّ فرد من الأفراد الأخرى.

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ الاستشكال في حجيّة العام في تمام الباقي بعد التخصيص - على النحو المتقدّم - إنّما أثير في المخصّصات المنفصلة دون المتّصلة ، نظرا إلى أنّه في حالات المخصّص المتّصل كما في ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) تكون الأداة مستعملة في استيعاب أفراد مدخولها حقيقة غير أنّ المخصّص المتّصل يساهم في تعيين هذا المدخول وتحديده ، فلا تجوّز ليقال : أيّ فرق بين مجاز ومجاز؟

هذا كلّه بالنسبة إلى المخصّص المنفصل ، وأمّا المخصّص المتّصل فلم يستشكل أحد في أنّ الباقي بعد التخصيص حجّة.

والوجه في ذلك : هو أنّه إذا قيل : ( أكرم كل من في البيت إلا العشرة ) دلّ ابتداء على أنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب تمام أفراد مدخولها فلا بدّ إذا من تحديد هذا المدخول.

وهنا لا بدّ أن يلاحظ كل ما ذكره في كلامه لتحديد مدخول الأداة ، وحيث إنّه ذكر ( كل من في البيت إلا العشرة ) فتكون الأداة داخلة على هذا المفهوم الذي أخرج منه العشرة أي أنّها داخلة ابتداء على التسعين وتفيد الاستيعاب والشمول لتمام أفراد

ص: 420

التسعين ابتداء ، فتكون مستعملة في استيعاب تمام أفراد التسعين وطبقا لأصالة التطابق نستفيد أنّه يريد جدّا إكرام تمام أفراد التسعين إذ لم ينصب قرينة على خلاف ذلك.

وهذا المخصّص المتّصل لا يوجب كون الأداة مستعملة في غير معناها الموضوعة له ، إذ هي لا تزال مستعملة في الاستيعاب والشمول لتمام أفراد مدخولها ، غاية الأمر أنّ أفراد مدخولها قد تكون كثيرة وأخرى تكون قليلة وكثرتها وقلّتها لا مدخليّة لها في الاستعمال. وهذا نظير ما تقدّم من أنّ التقييد إنّما يوجب وجود مفهوم آخر مغاير للمفهوم الموجود في الإطلاق تكون أفراده أقلّ من الآخر مصداقا وتكوينا ، وقلّة الأفراد وكثرتها في الخارج لا توجب تغيير الاستعمال من الحقيقة إلى المجاز ما دام اللفظ مستعملا في معناه الموضوع له لغة في كلا الحالتين.

وبهذا يختلف المخصّص المتّصل عن المنفصل ، لأنّ الأوّل يتدخّل في أصل تكوين مدخول الأداة ابتداء ومن أوّل الأمر ، ولذلك يكون التطابق موجودا بين الاستعمال والمراد الجدّي بخلاف الثاني فإنّه لا يتدخّل في أصل تكوين مدخول الأداة والمعنى المستعمل فيه ، وإنّما ينظر إلى المراد الجدّي وحجيّته فقط ، ولذلك يكون وجوده موجبا للتوهم وأنّ اللفظ استعمل بنحو الحقيقة أو المجاز ، وقد تقدّم أنّه لا يزال على جهة الحقيقة أيضا.

وعلى أيّة حال فبالنسبة إلى الصيغة الأساسيّة للمسألة المطروحة - وهي حجيّة الظهور التضمني - اتّضح أنّ الظواهر التضمنيّة إذا كانت جميعا بنكتة واحدة وعلم ببطلان تلك النكتة سقطت عن الحجيّة كلّها ، وإذا كانت استقلاليّة في نكاتها لم يسقط بعضها عن الحجيّة بسبب سقوط البعض الآخر.

والحاصل : أنّ مسألة حجيّة الظواهر التضمنيّة بعد سقوط المدلول الاستقلالي تتوقّف على كونها ذات نكتة واحدة أو نكات متعدّدة.

فإذا كانت الظواهر التضمنيّة جميعا ذات نكتة واحدة وعلم بطلانها فهذا يستلزم سقوط الظواهر التضمنيّة كلّها عن الحجيّة ، كما ذكرنا ذلك بالنسبة للإرادة الاستعمالية فإنّ النكتة فيها واحدة وهي ظهور حال المتكلّم في التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول التصديقي الأوّل.

وإذا كانت الظواهر التضمنيّة ذات نكات متعدّدة أي لكل ظهور نكتة خاصّة

ص: 421

ومستقلّة عن النكتة في الظهور الآخر فإنّ سقوط بعض هذه الظواهر عن الحجيّة لا يوجب سقوط الجميع

لأنّ نكاتها لا تزال موجودة بحسب المفروض.

وهذا يتصوّر في مرحلة الإرادة الجديّة فإنّ لكل فرد نكتة خاصّة عن الفرد الآخر بلحاظ دخوله في المراد الجدّي. وأمّا متى تكون النكتة واحدة ومتى تكون متعدّدة فهذا يتوقّف على شيء آخر ، وهو أنّ الدلالة التضمنيّة ان كانت تحليليّة فالنكتة في الجميع واحدة ، كقولنا : ( أكرم كل من في البيت ) فإنّ الإكرام ينحل إلى وجوبات عديدة بعدد الأفراد الموجودة في البيت ، ولكن النكتة في الجميع واحدة وهي كونهم في البيت مثلا.

وإن كانت غير تحليليّة فالنكتة لكلّ فرد تختلف عن النكتة للفرد الآخر ، كقولنا :

( أكرم كل عالم ) فإنّ الإكرام ينحلّ إلى وجوبات عديدة غير أنّ كل وجوب ينصب على الفرد لنكتة خاصّة به لا ترتبط بالنكتة الموجودة في الفرد الآخر.

* * *

ص: 422

الفهرس

المفاهيم... 5

تعريف المفهوم... 7

ضابط المفهوم... 13

مورد الخلاف في ضابط المفهوم... 22

مفهوم الشرط... 27

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية... 35

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع... 51

مفهوم الوصف... 57

مفهوم الغاية... 65

مفهوم الاستثناء... 73

مفهوم الحصر... 79

تحديد دلالات... 85

الدليل الشرعي... 85

الدليل الشرعي غير اللفظي... 87

دلالات الفعل ... 87

دلالات التقرير ... 89

البحث الثاني : إثبات صغرى ، الدليل الشرعي... 113

القسم الأوّل : وسائل الإثبات الوجداني... 117

تمهيد :... 119

التواتر... 129

الضابط للتواتر ... 140

ص: 423

أمّا العوامل الموضوعيّة ... 141

وأمّا العوامل الذاتيّة ... 144

تعدد الوسائط في التواتر ... 146

أقسام التواتر ... 150

القسم الأوّل : التواتر الإجمالي ... 150

القسم الثاني هو التواتر المعنوي ... 155

القسم الثالث : التواتر المعنوي واللفظي ... 158

الإجماع... 163

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول ... 178

الشروط المساعدة على كشف الإجماع ... 182

مقدار دلالة الإجماع ... 186

الإجماع البسيط والمركّب ... 188

الشهرة... 191

القسم الثاني : وسائل الإثبات التعبّدي... 197

الكلام يقع على مرحلتين ... 200

المرحلة الأولى في إثبات أصل حجيّة الأخبار... 201

الكتاب الكريم... 203

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه ... 211

السنّة... 229

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها ... 231

الطريق الأوّل : الأخبار... 231

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة... 243

الاعتراض على السيرة ... 247

وتوجد عدة أجوبة على هذا الاعتراض ... 248

ونلاحظ على ذلك ... 249

والجواب على ذلك ... 252

ص: 424

فالصحيح في الجواب أن يقال ... 256

دليل العقل... 259

وأمّا دليل العقل فله شكلان... 261

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين ... 262

ونلاحظ على هذا الدليل ... 273

المرحلة الثانية في تحديد دائرة حجيّة الأخبار... 279

الإخبار الحدسي ... 285

حجيّة الخبر مع الواسطة... 291

قاعدة التسامح في أدلة السّنن... 301

والتحقيق أنّ هذه الروايات فيها - بدوا - أربعة احتمالات ... 304

الفارق بين هذه الاحتمالات ... 306

الثمرة بين الاحتمالين الأولين ... 307

البحث الثالث : في حجيّة الظهور... 315

أقسام الدلالة ... 317

الدليل المجمل... 317

دليل حجيّة الظهور... 323

وأما دليل حجيّة الظهور... 325

وبين هذه الوجوه فوارق ... 327

الفوارق بين هذه الوجوه ... 328

وقد يلاحظ على الوجه الأوّل ... 329

وقد يلاحظ على الوجه الثاني... 331

جواب الإشكال ... 333

تشخيص موضوع الحجيّة... 339

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي... 359

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي... 361

الظهور الموضوعي في عصر النص... 365

ص: 425

التفصيلات في الحجيّة... 375

الخلط بين الظهور والحجيّة... 395

الظهور الحالي... 403

الظهور التضمّني... 409

وردّنا على هذه الملاحظات... 418

وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي ... 420

الفهرس... 423

ص: 426

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.