شرح الحلقة الثّالثة المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی الله عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 528

 المكتبة الإسلامية

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

1

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

شرح الحلقة الثالثة

المتن الكامل مع الشرح المقطي وبعض التعليقات

تأليف: الشيخ حسن محمد فياض حسين العاملي

الجزء الأول

مباحث الألفاظ

الدليل الشرعي اللفظي

منشورات شركة دارالمصطفی لأِحياء التراث

ص: 3

ص: 4

الإهداء

إلى سيّدي ومولاي الحجّة الغائب ( عجّل اللّه فرجه ) أهدي ثواب هذا العمل ، راجيا منه القبول وأعتذر إليه عن كلّ تقصير أو نقص فيه ، وأرجوه أن ينظر إليّ نظرة يتطلّع إليها كلّ محبّ.

ص: 5

ص: 6

المقدمة

تعتبر حلقات الأصول خطوة انتقالية في الدراسة الأصولية على مختلف المستويات ، فمن الناحية العلمية حافظت الحلقات بسلسلتها الثلاثية - مضافا إلى التدرّج وعرض الفكرة وتعميقها - على مضمونها العلمي المتين الذي تميّز بالدقة والتحقيق وقوّة الاستدلال ، بل والتجديد في تقديم أفكار علمية مبنية على أسس ثابتة.

وخير دليل على ذلك استناده في كثير من المسائل الأصولية وبنائها بناء جديدا على أسس علمية جديدة ، من قبيل التواتر والإجماع والشهرة والسيرة ، حيث أقام صرحها وشيدها على أساس المبنى العلمي المسمّى ب- : ( حساب الاحتمالات ). وهذا لا يعني أنّه ألغى أو لا يعتقد بالمبنى الذي كانت قائمة عليه ومؤسّسة على طبقه ، بل بمعنى أنّه يمكن بناؤها على ركائز أخرى أيضا لتقديمها أكثر قوّة ومتانة ودقة ، على أنّه توجد آثار وفوارق بين المبنيين إن من ناحية عملية وإن من ناحية علمية كما هو مبين في محله.

ومن الناحية المنهجية فإنّ الحلقات تتميّز عن غيرها بالترتيب في المسائل الأصولية ترتيبا يختلف بعض الشيء - أو كثيرا - عن غيرها ، بحيث إنّ بعض المسائل قد أدرجت فيها تحت عنوان بينما هي كانت مدرجة فى غيرها من الكتب تحت عنوان آخر. والملاحظ هنا يجد أنّ الترتيب الذي جاء به السيد الشهيد رحمه اللّه أفضل وأنسب.

وكذلك الأسلوب الذي أسمح لنفسي أن أطلق عليه السهل الممتنع ، فإنّ سهولة التعبير والصياغة والعرض واستعمال الكلمات والعبارات المتداولة والواضحة يتضمّن العمق العلمي والدقة الاستدلالية وقوّة الفكرة.

ص: 7

ومن هنا كانت الحلقات لطالب العلم ضرورية لدراسة علم الأصول واستيعاب ما يحتويه من قواعد ومسائل ، فإنّها تؤمّن له هذه الحاجة وتختصر له الطريق للوصول إلى الهدف.

ولذلك كان لا بدّ من الاعتناء بها دراسة وشرحا وتعليقا ، وإعطائها المكانة التي تستحقها في هذا الفنّ.

وقد قام بعض الفضلاء من العلماء - جزاهم اللّه خيرا - بتقديم شروحات لها ، وخاصة الحلقة الثالثة منها التي تمثل المرحلة الأخيرة من هذه الحلقات والتي تتميّز بالشمولية والدقة أكثر ، وهذه الشروحات ركز كل واحد منها على جهة ما.

ووجدت أنّ الطالب الدارس لهذه الحلقات يحتاج أيضا إلى الشرح المقطعي الذي اعتيد عليه في كثير من الكتب الدراسية ، وهذا الشرح يمتاز عن غيره بأنّه يتناول كل فقرة وكل عبارة بالشرح والتوضيح ، ويزيل كل الغموض والخفاء الذي قد يكون موجودا ، ويبرز النكات والفكرة التي يريدها الكاتب من وراء كلماته أو من خلال تعبيراته.

وإن كان قد يؤاخذ على الشرح المقطعي بأمور لعلها صحيحة أيضا ولكنّها لا تشكّل مانعا من القيام به وتقديمه للقارئ سواء كان طالبا أم أستاذا لهذه المادة ، فإنّ الفائدة المرجوّة تشملهما معا.

على أنّه حاولت في هذا الشرح أن تكون الأمثلة التي تحتاجها الفكرة الأصولية المعروضة في هذا الكتاب مستخرجة من واقع الفقه مهما أمكن ؛ لأنّ العلاقة بين الأصول والفقه هي علاقة التطبيق فعند ما عيّنا المثال فقهيا تقترب الفكرة إلى الذهن الفقهي ويعتاد على التطبيق أكثر.

مضافا إلى أنّني قد ذكرت بعض التعليقات على بعض المسائل في الهامش دون إدراجها في الشرح ؛ لئلا يقع الخلط والإيهام بين ما يريده الكاتب وما يراه الشارح. ولذلك كان الترتيب في هذا الشرح هو الاحتفاظ بالمتن ثم عرض الشرح ثم ذكر التعليق في الهامش.

وأخيرا أرجو أن يكون هذا العمل الذي جاء استجابة لدوافع واقعية ونفسية مقبولا عند اللّه - عزّ وجلّ - خدمة لدينه ولمن سلك هذا الطريق ، على أنّ النقص وعدم

ص: 8

الكمال والتمام هما من صفات البشر العاديين أمثالي ، فكل نقص وجد فهو منّي ، وكل ما يمكن أن يكون كمالا فهو من اللّه تعالى.

نسأل اللّه تعالى القبول والتوفيق

حسن محمّد فياض حسين

ص: 9

ص: 10

تمهيد

اشارة

تعريف علم الأصول

موضوع علم الأصول

الحكم الشرعي وتقسيماته

تقسيم بحوث الكتاب

ص: 11

ص: 12

تعريف علم الأصول

عرّف علم الأصول بأنّه : ( العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ) (1).

المراد من العلم : هو حضور صورة الشيء في الذهن ، أو انطباع نفس ما هو موجود في الواقع الخارجي في الذهن ، بنحو يكون ما في الذهن حاكيا ومطابقا للخارج حكاية ومطابقة تامّة لا يشوبها شكّ ولا يعتريها ريب. ولا يخفى أنّ أخذ العلم في تعريف علم الأصول لا يخلو من مسامحة ؛ وإلا لزم الدور أو أخذ الشيء في تعريف نفسه.

والمراد من القواعد : هي الضوابط العامّة الكليّة التي يوجد تحتها المصاديق والجزئيّات المختلفة والمتنوّعة ؛ وذلك لأنّ القاعدة هي المفهوم الكلّي الذي يستنتج من مجموع المسائل الجزئيّة والمصاديق الخارجيّة.

والمراد من الممهّدة التي هي صفة للقواعد : هو التمهيد والتعبيد وتسهيل العبور إلى المقصود والهدف والغاية ؛ ليصبح الوصول إلى استنباط الحكم الشرعي أمرا سهلا لمن سلك هذه الطرق الممهّدة ، وهي القواعد الكليّة.

والمراد من الاستنباط : هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لأجل معرفة ما هو مجهول بمعنى إرادة الاستخراج.

والمراد من الحكم الشرعي : هو التكليف الإلهي الأعمّ من الأحكام الخمسة أي الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة ، فهذا الحكم هو التكليف الذي يريده الشارع ، والذي يحكم العقل بلزوم إطاعته والسير على وفقه ؛ لما فيه من الخير والصلاح للإنسان في الدنيا والآخرة.

ص: 13


1- انظر القوانين 1 : 5 ، وورد ما يقاربه في الفصول : 9 ، وهداية المسترشدين : 12.

وكلمة ممهّدة في هذا التعريف : إذا قرئت مبنيّة لاسم المفعول ، فهذا يعني أنّ هذه القواعد موصوفة بصفة التمهيد في مرحلة سابقة عن تدوينها في علم الأصول ، مع أنّ المراد من التعريف هو إعطاء الضابطة لمعرفة القاعدة الأصوليّة من غيرها ، والذي على أساسها يمكننا تمييز القواعد الأصوليّة عن غيرها. فإذا كانت هذه القواعد قد اكتسبت صفة التمهيد ، فنسأل عن هذا الضابط الذي بموجبه كانت أصوليّة. فالتعريف قاصر عن أداء ما هو مطلوب منه ، وهذا الإشكال ذكره السيّد الشهيد في الحلقة الثانية.

وأمّا إذا قرئت مبنيّة لاسم الفاعل فيرد عليه :

وقد لوحظ على هذا التعريف :

أوّلا بأنّه يشمل القواعد الفقهيّة كقاعدة أنّ ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ).

الملاحظة الأولى على هذا التعريف : أنّ القواعد الفقهيّة كالقاعدة المذكورة وغيرها تقع في طريق الاستنباط ، وتمهّد الطريق للوصول إلى الحكم الشرعي ؛ إذ قاعدة الضمان مثلا يستخدمها الفقيه في مختلف أبواب المعاملات كالبيع والإجارة ونحوهما ، فهذا التعريف ينطبق على مثل هذه القاعدة فتدخل على هذا في علم الأصول ؛ لأنّها قاعدة مهّدت لاستنباط الحكم الشرعي مع أنّه من المعلوم أنّها قاعدة فقهيّة وليست أصوليّة. وهذا يعني أنّ التعريف غير مانع من دخول الأغيار تحته ؛ لأنّ القاعدة الأصوليّة هي ما كانت لها الصلاحيّة لأن تجري في مختلف الأبواب الفقهيّة من دون استثناء ، وهذه القاعدة وأمثالها مختصّة ببعض الأبواب الفقهيّة ؛ لأنّها لا تجري في مثل باب الصلاة والصوم ونحوهما من أبواب العبادات.

وثانيا بأنّه لا يشمل الأصول العمليّة ؛ لأنّها مجرّد أدلّة عمليّة وليست أدلّة محرزة ، فلا يثبت بها الحكم الشرعي ، وإنّما تحدّد بها الوظيفة العمليّة.

الملاحظة الثانية على هذا التعريف : هي أنّه لا تدخل فيه الأصول العمليّة ؛ لأنّها ليست إلا أدلّة لتحديد الموقف العملي والوظيفة العمليّة للمكلّف اتّجاه الواقع المشكوك ، فالبراءة والاحتياط ونحوهما من الأصول العمليّة يستخدمها الفقيه عند الشكّ في الحكم الشرعي والجهل به ؛ لأجل تحديد الوظيفة والموقف أمام هذا الواقع المجهول ، فلا يستنبط منها حكم شرعي ؛ لأنّه قد أخذ في موضوعها الشكّ في الحكم

ص: 14

الشرعي فلا يكون الحكم الشرعي محرزا بها. وعلى هذا فينبغي إخراجها عن علم الأصول ؛ لأنّ التعريف غير منطبق عليها ، إلا أنّها بلا شكّ من جملة القواعد الأصوليّة ، وهذا يعني أنّ التعريف غير جامع ؛ لأنّه أخرج من العلم ما كان داخلا فيه.

ومراده من الأدلّة العمليّة تلك القواعد التي تحدّد الموقف العملي اتّجاه الحكم الشرعي المشكوك والمجهول.

ومراده من الأدلّة المحرزة هي القواعد التي توصل وتكشف عن الحكم الشرعي ، فهذه تحدّد الوظيفة والموقف العملي أيضا إلا أنّها تحدّده وفقا للحكم الشرعي ، بينما تلك تحدّد الموقف العملي على أساس طبيعة الشيء المشكوك مع ظرف الشكّ إمّا بنحو الاجتماع أو كلّ واحد على حدة.

وثالثا بأنّه يعمّ المسائل اللغويّة كظهور كلمة ( الصعيد ) مثلا ؛ لدخولها في استنباط الحكم.

الملاحظة الثالثة : هي شمول هذا التعريف لمثل مسائل اللغة مع أنّها ليست من علم الأصول ، بل ولا علم الفقه أيضا وإنّما هي من مختصّات علوم العربيّة ، ومع ذلك فهذا التعريف ينطبق على بعضها كظهور كلمة الصعيد ونحوها ، فإنّ الفقيه يحتاج إلى تنقيح (1) ظهورها في مرحلة متقدّمة بحيث تكون ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ، فلا بدّ له من البحث عن تحديد مدلولها بنفسه أو الرجوع فيها إلى أهل اللغة ، وهذا يجعلها من القواعد التي مهّدت للاستنباط ووقعت في طريق الوصول إلى الحكم الشرعي. وكذلك الحال بالنسبة لمسائل علم الرجال ، فإنّ الفقيه يحتاج إلى البحث فيها حول التعديل والتوثيق والتضعيف والجرح. وهذان الأمران يجعلان التعريف منطبقا على ما هو خارج عن العلم ؛ لأنّه من الواضح أنّ بحوث اللغة وكذا بحوث علم الرجال علمان مستقلاّن عن الأصول ، بل والفقه وإن احتاج الفقيه إليهما في استنباطه. وهذا يعني أنّ التعريف يشمل الأغيار فهو غير مانع أيضا.

أمّا الملاحظة الأولى فتندفع بأنّ المراد بالحكم الشرعي الذي جاء في التعريف :

ص: 15


1- فيبحث في أنّ المدلول لهذه الكلمة ما هو؟ وهذا البحث صغرى لكبرى في مسائل اللغة هي البحث عن ظواهر الألفاظ ، أو البحث عن مدلولات الألفاظ ، فهذه قاعدة كليّة احتاج إليها الفقيه في استنباطه.

جعل الحكم الشرعي على موضوعه الكلّي ، فالقاعدة الأصوليّة ما يستنتج منها جعل من هذا القبيل ، والقاعدة الفقهيّة هي بنفسها جعل من هذا القبيل ، ولا يستنتج منها إلا تطبيقات ذلك الجعل وتفصيلاته.

أمّا الملاحظة الأولى فيجاب عنها بأنّ المراد من الحكم الشرعي الذي ورد ذكره في التعريف هو الحكم الكلّي لا الجزئي ، بمعنى أنّ القاعدة الأصوليّة هي التي يستنبط منها جعل كلّي على موضوعه المقدّر الوجود بنحو القضيّة الحقيقيّة.

فالموضوع والمحمول في القضيّة المستنبطة عن القاعدة الأصوليّة كلاهما كلّي ، بينما القاعدة الفقهيّة هي التي يستنبط منها جعل جزئي ، فهي تطبيق لتلك الكليّة التي استنبطت من القاعدة الأصوليّة ، وهذا يعني أنّ القاعدة الفقهيّة لا يستنبط منها إلا مصاديق وتطبيقات لذلك الجعل الكلّي ولا يستنبط منها جعل كلّي ، بل هي بنفسها جعل كلّي.

وبهذا التفسير للحكم الشرعي وهو الجعل الكلّي سوف لا تدخل القواعد الفقهيّة ؛ لأنّه لا يستنبط منها جعل كلّي والذي هو المعنى المصطلح عليه في الأصول للحكم الشرعي ، وإنّما يستنبط منها تطبيقات مصاديق لهذا الجعل الكلّي. وأمّا الجعل الكلّي نفسه فهو نفس وحقيقة القاعدة الفقهيّة ؛ ولأجل زيادة توضيح هذا الفارق نضرب مثالا لذلك وهو قوله :

ففرق كبير بين حجيّة خبر الثقة والقاعدة الفقهيّة المشار إليها ؛ لأنّ الأولى يثبت بها جعل وجوب السورة تارة وجعل حرمة العصير العنبي أخرى ، وهكذا فهي أصوليّة. وأمّا الثانية فهي جعل شرعي للضمان على موضوع كلّي ، وبتطبيقه على مصاديقه المختلفة كالإجارة والبيع مثلا نثبت ضمانات متعدّدة مجعولة كلّها بذلك الجعل الواحد.

هذا مثال لبيان الفرق بين القاعدة الأصوليّة والفقهيّة ، وهو أنّ مثل حجيّة خبر الثقة والتي هي من القواعد الأصوليّة حيث إنّه بتطبيق هذه الحجيّة على مختلف الأبواب الفقهيّة نستنتج جعلا كليّا كوجوب السورة أو حرمة العصير العنبي ، وهذان الحكمان جعلان كلّيّان على موضوع كلّي ، وهكذا نستطيع أن نثبت بها جعولات كليّة على موضوعات كليّة أخرى ، وفي مختلف الأبواب الفقهيّة. فهي قاعدة أصوليّة لذلك.

ص: 16

وأمّا القاعدة الفقهيّة كالقاعدة المشار إليها في الإشكال وهي قاعدة الضمان ، فهذه نستطيع أن نثبت بها تطبيقات للضمان على مصاديق وموارد خارجيّة في بعض الأبواب الفقهيّة كالبيع والإجارة ونحوهما ، فالمستنتج من هذه القاعدة هو الجعولات الجزئيّة ؛ لأنّها تابعة لمواردها ومصاديقها المشخّصة في الخارج ، ولا يستنتج منها جعل كلّي ، بل هي بنفسها جعل كلّي يوجد تحته مصاديق متعدّدة وجزئيّات مختلفة.

وهذه الضمانات المتعدّدة المستنتجة من قاعدة الضمان تعتبر أحكاما جزئيّة على موضوعها الجزئي. وبهذا ظهر الفرق بين القاعدتين ، مضافا إلى أنّ القاعدة المذكورة مختصّة في بعض الأبواب الفقهيّة ولا تشمل مختلف الأبواب الأخرى كأبواب العبادات مثلا (1).

وأمّا الملاحظة الثانية فقد يجاب عليها تارة بإضافة قيد إلى التعريف ، وهو ( أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) كما صنع صاحب ( الكفاية ) (2).

الملاحظة الثانية - وهي عدم شمول التعريف للأصول العمليّة - فقد أجيب عليها أوّلا بإضافة قيد إلى التعريف المذكور من باب التتميم والإلحاق والاستدراك ، كما صنع صاحب ( الكفاية ) حيث قال في تعريفه لعلم الأصول : ( إنّ علم الأصول صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ).

ص: 17


1- وهذا الكلام تامّ في مثل هذه القاعدة الفقهيّة ، وأمّا غيرها من القواعد كقاعدة الفراغ والصحّة والطهارة والحليّة فلا يتمّ فيها ؛ لأنّ هذه القواعد يستنتج منها جعل كلّي على موضوع كلّي أيضا كالقاعدة الأصوليّة. فتبقى داخلة في التعريف المذكور ولا تخرج من التعريف حتّى على هذا التفسير للحكم الشرعي ، مع أنّها قواعد فقهيّة وليست أصوليّة ؛ لأنّ بعضها مختصّ في الشبهات الموضوعيّة وبعضها في الشبهات الحكميّة ، فلا تجري في مختلف الحالات والشكوك فلذلك لا تكون أصوليّة ؛ لعدم قابليّتها للجريان في مختلف الأبواب والحالات مع أنّ التعريف منطبق عليها ؛ لأنّ مثال قاعدة الطهارة أو الحليّة يستنبط منهما جعل كلّي على موضوع كلّي كقولنا : ( كلّ شيء طاهر ، وكلّ شيء حلال ). ولعلّ مراد السيّد الشهيد من قوله : ( كالقاعدة المشار إليها ) إشارة إلى ما ذكرناه من أنّ بعض القواعد الفقهيّة يستنبط منها جعل كلّي لا مجرّد تطبيقات ومصاديق للجعل الكلّي.
2- كفاية الأصول : 23.

فعلى هذا سوف تدخل الأصول العمليّة ؛ لأنّها قواعد ينتهى إليها في مقام العمل حيث إنّها تحدّد الوظيفة والموقف العملي اتّجاه الواقع المشكوك ، فيستفاد منها جعل كلّي ينتهي إليه المكلّف في مقام العمل ، وبالتالي تندفع هذه الملاحظة بهذا القيد ، إلا أنّ هذا القيد يؤكّد أنّ التعريف المذكور كان واردا عليه ذلك الإشكال ؛ وإلا لما احتيج إلى هذا التتميم بالقيد المذكور.

وأخرى بتفسير الاستنباط بمعنى الإثبات التنجيزي والتعذيري ، وهو إثبات تشترك فيه الأدلّة المحرزة والأصول العمليّة معا (1).

وأجيب ثانيا على الملاحظة الثانية بتفسير الاستنباط الوارد في التعريف بنحو يتلاءم وينسجم مع الأصول العمليّة ، فإنّا إذا فسّرنا الاستنباط بمعناه اللغوي وهو استخراج الحكم الشرعي ، فهذا سوف لا ينعكس على الأصول العمليّة ؛ لأنّه لا يستنبط منها حكم شرعي بهذا التفسير.

وأمّا على التفسير الآخر والذى ذكره السيّد الخوئي فسوف تدخل الأصول العمليّة في التعريف حيث قال : ( علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة ... ) ثمّ قال : ( إنّ المراد من الاستنباط هو الاثبات التنجيزي والتعذيري ).

وعلى هذا التفسير الاصطلاحي للاستنباط سوف تندفع الملاحظة الثانية ؛ لأنّ المراد من الاستنباط هو الإثبات سواء كان تنجيزا كالاحتياط ونحوه أو تعذيرا كالبراءة ونحوها ، فالأصول العمليّة كالأدلّة المحرزة من هذه الناحية يشتركان معا في الإثبات ؛ لأنّ الأدلّة المحرزة كالكتاب والسنّة مثلا يثبتان التنجيز والتعذير بواسطة إثباتهما للأحكام التكليفيّة الخمسة مباشرة. وأمّا الأصول العمليّة فهي تثبت التنجيز والتعذير بواسطة القواعد الأصوليّة الجارية في موردها عند ما يتحقّق موضوعها ، فالبراءة مثلا تنفي التكليف فيثبت التعذير والاحتياط يثبت التكليف فيثبت التنجيز ، فالبراءة تؤمّن وتعذّر والاحتياط يثبت وينجّز ، فموارد الأصول العمليّة تثبت أحد أمرين : فهي إمّا أن تنفي لزوم الفعل فتثبت التعذير ، وإمّا أن تثبت لزوم الفعل أو الترك فتثبت التنجيز.

وبأحد هذين الوجهين سوف تنحلّ مشكلة الأصول العمليّة.

ص: 18


1- المحاضرات 1 : 9.

وأمّا الملاحظة الثالثة فهناك عدّة محاولات للجواب عليها :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني قدّس اللّه روحه (1) من إضافة قيد الكبرويّة في التعريف لإخراج ظهور كلمة ( الصعيد ) ، فالقاعدة الأصوليّة يجب أن تقع كبرى في قياس الاستنباط ، وأمّا ظهور كلمة ( الصعيد ) فهو صغرى في القياس وبحاجة إلى كبرى حجيّة الظهور.

تبقى الملاحظة الثالثة : وهي دخول المسائل اللغويّة ومسائل علم الرجال في التعريف المذكور ؛ لأنّها قواعد تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعي ، حيث يحتاج الفقيه إليها في كثير من الموارد والحالات. وللإجابة عن هذا الإشكال وجدت عدّة محاولات أهمّها اثنتان :

المحاولة الأولى : ما ذكره المحقّق النائيني في تعريفه لعلم الأصول حيث قال : ( إنّ علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي ). فهذا التعريف يشتمل على قيد الكبرويّة ، وهذا القيد أضافه الميرزا إلى التعريف بعد أن اعترف بأنّ تعريف المشهور السابق لا يخلو من مناقشات : إمّا من جهة عدم شموله لما هو داخل فيه ، أو عدم طرده لما هو خارج عنه ، فهو يرى أنّ هذا التعريف لا يرد عليه شيء من الإشكالات والملاحظات ، وهذا القيد بالخصوص يحلّ الملاحظة الثالثة ؛ وذلك لأنّ القاعدة الأصوليّة وفقا لهذا القيد هي التي تقع كبرى في القياس الاستنباطي ، وكلّ قاعدة تقع صغرى في هذا القياس فهي ليست قاعدة أصوليّة ، فمثلا إذا أردنا استنباط حكم شرعي فرعي كلّي من آية أو خبر ، فهو يتوقّف على عدّة أمور : منها سند الحديث ، ومنها مدلولات الكلمات الواردة في الخبر ومعرفة معانيها وظواهرها ، ومنها حجيّة الظهور أو حجيّة خبر الثقة. وهنا البحث الأوّل يتكفّل به علم الرجال ، والثاني يتكفّله علم اللغة العربيّة ، والثالث يتكفّله علم الأصول ؛ وذلك لأنّ حجيّة الظهور تقع كبرى في القياس الاستنباطي فيقال مثلا : خبر الثقة دلّ على الوجوب ، وخبر الثقة حجّة. إذا خبر الثقة الدالّ على الوجوب حجّة.

فهنا وقعت حجيّة خبر الثقة كبرى في القياس الاستنباطي ولذلك فهي قاعدة

ص: 19


1- فوائد الأصول 1 : 29.

أصوليّة ، بينما كلمة الصعيد مثلا فهي لا تقع كبرى في القياس ، بل تقع صغرى حيث يقال : كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض ، وكلّ ظاهر حجّة ، إذا ظهور كلمة الصعيد حجّة. وكذلك الحال بالنسبة للمسائل الرجاليّة ، حيث يقال مثلا : زرارة ثقة وكلّ خبر ثقة حجّة فخبر زرارة حجّة ، فدائما تقع المسائل اللغويّة والرجالية صغرى في القياس الاستنباطي ؛ لاحتياجهما إلى حجيّة الظهور وحجيّة خبر الثقة حيث تقعان كبرى لتلك المسائل.

وبهذا يتّضح أنّ ضابط كون القاعدة أصوليّة هي وقوعها كبرى في قياس الاستنباط للحكم الفرعي الكلّي الإلهي ، وأمّا القاعدة التي تقع صغرى في هذا القياس فهي ليست أصوليّة ، فتخرج مسائل اللغة والرجال لوقوعها صغرى في هذا القياس دائما.

ويرد عليه : أنّ جملة من القواعد الأصوليّة لا تقع كبرى أيضا ، كظهور صيغة الأمر في الوجوب ، وظهور بعض الأدوات (1) في العموم أو في المفهوم ، فإنّها محتاجة إلى كبرى حجيّة الظهور ، فما الفرق بينها وبين المسائل اللغويّة؟!

ما ذكره الميرزا النائيني يرد عليه أوّلا : أنّ قيد الكبروية الذي أضافه إلى التعريف - والذي على أساسه تعرف القاعدة الأصوليّة من غيرها ، وهو كونها واقعة كبرى في القياس الاستنباطي - وإن استطاع أن يحلّ مشكلة المسائل اللغويّة والرجاليّة وإخراجها من التعريف ؛ لأنّها لا تقع كبرى في القياس بل صغرى دائما - ، إلا أنّه يلزم منه إشكال من جهة أخرى ، وهي خروج بعض القواعد الأصوليّة من التعريف ؛ لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط. فمثلا ظهور بعض الأدوات في العموم أو المفهوم ، أو ظهور صيغة الأمر في الوجوب تحتاج دائما إلى كبرى حجيّة الظهور ، فيقال مثلا : هذه صيغة أمر وكلّ أمر ظاهر في الوجوب فهذه تقع صغرى لكبرى حجيّة الظهور ، حيث يقال : وكلّ ظاهر حجّة إذن صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب حجّة. فوقعت صيغة

ص: 20


1- من قبيل أداة الشرط لا الحصر ؛ لأنّ الأولى ظاهرة في المفهوم بخلاف الثانية فهي نصّ فيه ؛ لأنّها موضوعة لغة لذلك. ومن قبيل الإطلاق بالألف واللام والسياق ، فإنّها ظاهرة في العموم والاستيعاب ، بخلاف كلمة كلّ وجميع فإنّها نصّ في ذلك ؛ لكونها موضوعة لغة للاستيعاب والشمول.

الأمر صغرى في القياس فيلزم ألاّ تكون أصوليّة بناء على هذا القيد الذي ذكره الميرزا في إضافة قيد الكبرويّة إلى التعريف.

وكذلك بالنسبة لبعض أدوات العموم والمفهوم حيث يقال : إنّ النكرة في سياق النفي أو النهي ظاهرة في العموم فتحتاج إلى كبرى حجيّة الظهور أيضا ؛ لإثبات حجيّة ظهورها في العموم.

وكذا أدوات الشرط الظاهرة في المفهوم حيث تكون دالّة على التوقّف والالتصاق فتحتاج إلى حجيّة الظهور ؛ لتنقيح أنّ ظهورها في المفهوم حجّة.

فهذه القواعد قد وقعت صغرى لحجية الظهور ، كما وقعت كلمة الصعيد صغرى لحجيّة الظهور أيضا ، فما هو الفرق بينهما والذي على أساسه كانت تلك القواعد أصوليّة ، ولم تكن كلمة الصعيد ونحوها من القواعد الأصوليّة رغم اشتراكهما في الاحتياج إلى حجيّة الظهور؟!

فهذا القيد الذي أضافه الميرزا لم يبيّن حقيقة القاعدة الأصوليّة ؛ لأنّه غير تامّ في جميع القواعد الأصوليّة ، فهناك فارق جوهري غير ما ذكره الميرزا يكون موجودا في تمام القواعد الأصوليّة وغير موجود في المسائل اللغويّة والرجاليّة ، وعلى أساسه ينبغي بيان ضابطة القاعدة الأصوليّة في التعريف (1).

ص: 21


1- هنا يمكن أن يكون ما ذكره الميرزا من القيد في التعريف والذي على أساسه أعطى الضابطة للقاعدة الأصوليّة صحيحا ؛ وذلك ببيان أنّ الميرزا قال في تعريفه بما حاصله : إنّ القاعدة الأصوليّة هي التي تقع كبرى دائما في قياس الاستنباط ، ولا تقع صغرى أبدا في هذا القياس ، بينما القاعدة غير الأصوليّة كالمسائل اللغويّة والرجاليّة والفقهيّة تقع صغرى دائما في القياس ولا تقع كبرى فيه أبدا. يبقى الإيراد الذي ذكره السيّد الشهيد من احتياج صيغة الأمر ونحوها إلى كبرى حجيّة الظهور ، فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه ليس إشكالا واردا على تعريف الميرزا ؛ لأنّ وقوعها صغرى في القياس الذي ذكره السيّد الشهيد لا يضرّ ولا يمنع من كونها أصوليّة ؛ لأنّ القياس الذي وقعت فيه صغرى ليس هو قياس الاستنباط الفقهي الذي يستنتج منه حكم فرعي كلّي على حدّ تعبير الميرزا ؛ إذ قولنا : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة يستنتج منه أنّ صيغة الأمر حجّة في الوجوب ، وهذه النتيجة ليست نتيجة فقهيّة ؛ لأنّها ليست حكما شرعيّا. فهذا القياس ليس هو القياس الذي أراده الميرزا إذ الميرزا أراد القياس الفقهي الذي يستنبط منه الحكم الشرعي ، فحينما نقول : .. ... هذه صيغة أمر وكلّ أمر ظاهر في الوجوب يستنتج أنّ هذه الصيغة ظاهرة في الوجوب ، والوجوب حكم شرعي كلّي يفتي به الفقيه على أساس هذا القياس. وبعبارة أخرى : يوجد هنا قياسان : قياس الاستنباط الفقهي والذي يستنبط منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي. وقياس الاستنباط الأصولي والذي يستنبط منه قاعدة أصوليّة أو قاعدة فقهيّة. والذي أراده الميرزا هو القياس الأوّل ، وفي هذا القياس لا تقع القاعدة الأصوليّة إلا كبرى ، وهذا لا يمنع من وقوعها صغرى في القياس الثاني ولا يضرّ بأصوليّتها ، ففي الحقيقة وقع خلط في إيراد السيّد الشهيد رحمه اللّه بين هذين القياسين. فما ذكره الميرزا صحيح وتامّ بالنسبة للقياس الفقهي وما أورده السيّد الشهيد هو وقوعها صغرى في القياس الأصولي ، وهذا يعني اختلاف الجهة واللحاظ بين الميرزا والشهيد. وبهذا يكون تعريف الميرزا والقيد الذي أضافه قادرا على دفع الملاحظة الثالثة.

وكذلك أيضا مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ الامتناع فيها يحقّق صغرى لكبرى التعارض بين خطابي : صلّ ولا تغصب ، والجواز فيها يحقّق صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق.

ويرد ثانيا على ما ذكره الميرزا من إضافة قيد الكبروية إلى التعريف - والذي على أساسه أعطى ضابطة لتعريف القاعدة الأصوليّة - : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي والتي هي من المسائل الأصوليّة تقع صغرى في القياس تارة لكبرى التعارض على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، وأخرى لكبرى حجيّة الإطلاق على القول بجواز اجتماعهما في مصداق واحد. وتوضيح ذلك : إنّه يوجد خلاف في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهناك قول بامتناع ذلك وقول آخر بجوازه كما سيأتي في محلّه. فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فإذا صلّى المكلّف في مكان مغصوب فهذا الفرد الخارجي مصداق لأحد الخطابين ، ولكن حيث إنّ خطاب ( صلّ ) يشمل هذا الفرد الخارجي ويعتبره مصداقا للمأمور به ، وحيث إنّ خطاب ( لا تغصب ) يشمل هذا الفرد أيضا باعتباره محقّقا لماهيّة الغصب ، فيقع التعارض بين الخطابين في هذا الفرد الخارجي ؛ لأنّه يستحيل أن يكون مصداقا لكلا الخطابين بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ويستحيل أن يكون مصداقا لأحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وحيث إنّ كلاّ من الخطابين شامل لهذا

ص: 22

المصداق فيتعارضان فيه ، فتقع هذه المسألة صغرى لإحدى القواعد الكليّة والكبرويّة في باب التعارض ، وهي التساقط أو التخيير أو الترجيح ، حيث يطبّق على هذه المسألة إحدى هذه الكبريات لتحديد ما هو الموقف العملي الذي يتّخذه الفقيه في عمليّة الاستنباط عند هذه المسألة. وهذا يعني أنّ هذه المسألة ليست أصوليّة ؛ لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط. وعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فهذا يعني أنّ الصلاة في المكان المغصوب تحقّق مصداقا لكلا الخطابين ، فمن جهة يقال : إنّ هذا الفرد الخارجي مصداقا للفرد الصلاتي المأمور به ، ومن جهة أخرى يقال : إنّه مصداق لماهيّة الغصب. فهو من جهة مأمور به لكونه صلاة ، ومن جهة أخرى منهي عنه لكونه غصبا ، فسوف تقع مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق ؛ لأنّ إطلاق الأمر بالصلاة شامل لهذا المورد وإطلاق النهي عن الغصب شامل لهذا المورد أيضا ، ولمّا كان اجتماعهما ممكنا وجائزا فتقع مسألة الاجتماع صغرى لحجيّة الإطلاق ، حيث يقال : هذا الفرد مصداق للصلاة وكل صلاة مأمور بها فهذا المصداق مأمور به ، وهذا الفرد مصداق للغصب وكلّ غصب منهي عنه فهذا منهي عنه ، فحجيّة الإطلاق وقعت كبرى ومسألة اجتماع الأمر والنهي وقعت صغرى لها فيلزم أن تكون أصوليّة بناء على تعريف الميرزا ؛ لأنّه قيّد القاعدة الأصوليّة بكونها كبرى قياس الاستنباط (1).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ من استبدال قيد الكبرويّة بصفة أخرى ، وهي أن تكون القاعدة وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي بلا ضمّ قاعدة أصوليّة أخرى (2) ، فيخرج ظهور كلمة الصعيد ؛ لاحتياجه إلى ضمّ ظهور صيغة افعل في الوجوب ، ولا يخرج ظهور صيغة افعل في الوجوب ، وإن كان محتاجا إلى كبرى حجيّة الظهور ؛ لأنّ هذه الكبرى ليست من المباحث الأصوليّة للاتّفاق عليها (3).

ص: 23


1- وهذا الإيراد أيضا قابل للنقاش كما تقدّم في الإيراد السابق بلا فرق بينهما ، على أساس الاختلاف بين القياس الفقهي والقياس الأصولي.
2- المحاضرات 1 : 8.
3- المحاضرات 1 : 6.

المحاولة الثانية لدفع الملاحظة الثالثة : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من وصف القاعدة الأصوليّة بالوحدة ، حيث قال في تعريفه لعلم الأصول : ( هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصوليّة أخرى إليها ). وهذا يعني أنّ القاعدة الأصوليّة ضابطها أن تكون وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي ، من دون أن تحتاج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى في القياس ، وأمّا مع احتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى لها فهي ليست بأصوليّة ، وعلى أساس هذا الضابط الجديد سوف لا تدخل مسائل اللغة ومسائل علم الرجال والقواعد الفقهيّة ؛ وذلك لأنّها محتاجة إلى ضميمة قاعدة أصوليّة إليها في قياس الاستنباط.

فمثلا : كلمة الصعيد لا تكفي وحدها لاستنباط الحكم الشرعي بوجوب التيمّم عند فقد الماء ، بل هي بحاجة إلى ضمّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب ؛ لأنّ كلمة الصعيد وقعت مدخولا لصيغة الأمر بقوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) فما لم يتمّ لصيغة الأمر الظهور في الوجوب فلا يستنتج من كلمة الصعيد أي حكم شرعي ، وهذه القاعدة التي انضمّت إلى كلمة الصعيد من القواعد الأصوليّة ، ممّا يعني أنّ كلمة الصعيد ونحوها من مباحث اللغة ليست من القواعد الأصوليّة ؛ لأنّها احتاجت إلى القاعدة الأصوليّة في قياس الاستنباط. وكذا الحال في مسائل علم الرجال ، فهي تحتاج إلى ضمّ قاعدة حجيّة خبر الثقة إليها ؛ ليستقيم الاستنباط للحكم الشرعي ، وحجيّة خبر الثقة من القواعد الأصوليّة ، فالاحتياج إليها يعني أنّ مسائل علم الرجال لا تدخل في الأصول ولا ينطبق عليها التعريف.

ولا يقال هنا : إنّ هذا الضابط يخرج منه بعض القواعد الأصوليّة ؛ لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة كظهور صيغة الأمر ، حيث تحتاج إلى حجيّة الظهور.

وكذا غيرها من القواعد الأصوليّة كالعموم والمفاهيم ونحوهما حيث يقال : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة ، فهنا وقعت صغرى لكبرى حجيّة الظهور والتي هي قاعدة أصوليّة ، فيلزم ألاّ تكون صيغة الأمر من القواعد الأصوليّة على هذا التعريف ؛ لهذه الضميمة الأصوليّة.

ص: 24


1- النساء : 43. المائدة : 6.

فإنّه يقال في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ احتياج صيغة الأمر إلى كبرى حجيّة الظهور لا يخرجها من كونها قاعدة أصوليّة ؛ وذلك لأنّ كبرى حجيّة الظهور ليست من القواعد الأصوليّة ؛ بسبب الاتّفاق والتسالم عليها من قبل جميع العقلاء ، فلا يوجد خلاف في حجيّة الظهور ليبحث عنها في الأصول لتكون قاعدة أصوليّة ، بل هي من القواعد العقلائيّة والمرتكزات العرفيّة التي يقبلها العرف بأدنى توجّه وتأمّل ، وهذا يعني أنّ صيغة الأمر لم تحتج إلى ضميمة قاعدة أصوليّة ، بل احتاجت إلى ضميمة قاعدة عرفيّة عقلائيّة ، فلذلك تكون داخلة تحت ضابطة التعريف من دون أي إشكال في المقام.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى أصوليّة أخرى ، وإن احتاجت إلى بعض القواعد الأخرى العقلائيّة والعرفيّة أو بعض المسائل اللغويّة والرجاليّة ، فهذا لا يضرّ في أصوليّتها ، كما أنّ حجيّة الظهور التي تحتاج إليها بعض القواعد الأصوليّة ليست أصوليّة ؛ للاتّفاق عليها عند العقلاء فلا تدخل في علم الأصول ، بل هي من المرتكزات العامّة عند العرف.

ونلاحظ على ذلك أوّلا : أنّ عدم احتياج القاعدة الأصوليّة إلى أخرى إن أريد به عدم الاحتياج في كل الحالات فلا يتحقّق هذا في القواعد الأصوليّة لأنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا بحاجة في كثير من الأحيان إلى دليل حجيّة السند حينما تجيء الصيغة في دليل ظنّي السند ، وإن أريد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة فهذا قد يتفق في غيرها كما في ظهور كلمة الصعيد إذا كانت سائر جهات الدليل قطعيّة.

الإيراد الأوّل على ما ذكره السيّد الخوئي من تعريف هو : أنّ عدم الاحتياج الذي اشترطه في ضابطة القاعدة الأصوليّة إمّا أن يراد به عدم الاحتياج مطلقا وفي كل الحالات فالقاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة مطلقا ، بل تكون بنفسها كافية لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، فهذا لا يتّفق في كثير من القواعد الأصوليّة لأنّها تحتاج إلى بعضها في أغلب الأحيان ؛ فمثلا صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب تحتاج في كثير من الأحيان إلى تنقيح دليل السند أو تنقيح الدلالة فيما إذا وردت في دليل ظنّي السند أو ظنّي الدلالة ، فدلالة صيغة الأمر على الوجوب لا تتمّ لها الحجيّة فيما إذا لم تتنقح حجيّة السند والدلالة ، وهذا يعني أنّه بناء على تفسير

ص: 25

عدم الاحتياج بالعدم المطلق سوف تخرج مثل صيغة الأمر من ضابطة تعريف القاعدة الأصوليّة لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، لأنّ البحث حول حجيّة السند وحول حجيّة الدلالة بحث أصولي.

وإمّا أن يراد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة أي مسمّى عدم الاحتياج الذي يصدق على المرّة الواحدة بأن كانت القاعدة الأصوليّة هي التي يستنبط منها حكم شرعي وتكون كافية في هذا الاستنباط ولو لمرّة واحدة على الأقل وإن احتاجت إلى غيرها في الحالات الأخرى ، فهذا قد يتّفق في غير القواعد الأصوليّة أيضا بمعنى أنّ بعض القواعد غير الأصوليّة تكون ولو لمرّة واحدة كافية لاستنباط الحكم الشرعي وحدها من دون أن تحتاج إلى غيرها ، كما في ظهور كلمة ( الصعيد ) فيما إذا كانت كلّ الجهات المعتبرة قطعيّة ، فمن حيث السند يفترض أنّها وردت في القرآن الكريم أو السنّة المتواترة ، ومن حيث الدلالة يفترض كون الدلالة على الوجوب بنحو المفهوم الاسمي لا الصيغة التي هي معنى حرفي.

فهنا يكون البحث حول ظهور كلمة ( الصعيد ) بحثا أصوليّا بناء على هذا التفسير لعدم الاحتياج ؛ لأنّها لم تحتج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، إذ المفروض أنّ جميع الجهات المعتبرة قطعيّة فلا بحث للفقيه إلا في تنقيح ظهور كلمة ( الصعيد ) ليستنبط الحكم الشرعي.

وبهذا ظهر أنّ هذا التعريف : إمّا أن يكون غير جامع بناء على التفسير الأوّل ؛ لعدم الاحتياج ، وإمّا أن يكون غير مانع بناء على التفسير الثاني ، فهذا الوصف الذي أضافه إلى التعريف غير دقيق وليس تامّا في جميع الموارد والحالات (1).

ص: 26


1- ويضاف أيضا : أنّه يلزم الدور من هذا التعريف ؛ لأنّه قد عرّف القاعدة الأصوليّة : بأنّها القاعدة التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة أخرى ، فهنا وبقطع النظر عن المراد من عدم الاحتياج قد أدخل في ضابط القاعدة الأصوليّة عدم الاحتياج إلى القاعدة الأصوليّة ، مع أنّ المطلوب من الضابط إعطاء الحدّ أو الرسم الذي على أساسه تعرف القاعدة الأصوليّة ، فقبل معرفة القاعدة الأصوليّة ، كيف عرفنا أنّ تلك القاعدة الأخرى التي احتيج إليها كانت أصوليّة؟! فإمّا أن يلزم أخذ الشيء في تعريف نفسه والذي هو ملاك الدور ، وإمّا أن يلزم منه التقدّم والتأخّر ؛ لأنّ القاعدة الأصوليّة على هذا معلومة قبل هذا التعريف ؛ وإلا لزم التعريف بالمجهول والكلّ باطل.

وثانيا : أنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب وأىّ ظهور آخر بحاجة إلى ضمّ قاعدة حجيّة الظهور ، وهي أصوليّة ؛ لأنّ مجرّد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة لا تكتسب أصوليّتها من الخلاف فيها ، وإنّما الخلاف ينصبّ على المسألة الأصوليّة. وهكذا يتّضح أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.

الإيراد الثاني على ما ذكره السيّد الخوئي هو : أنّ احتياج ظهور صيغة الأمر في الوجوب وغيرها من الظهورات كظهور أدوات العموم والمفاهيم إلى حجيّة الظهور ، والتي هي من القواعد الأصوليّة يعني أنّ عدم الاحتياج الذي ورد في التعريف غير تامّ كما تقدّم في الإيراد الأوّل ، ومجرّد كون حجيّة الظهور من القواعد المتسالم والمتّفق عليها عند العقلاء لا يخرجها من كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة لا تكتسب أصوليّتها من وجود الخلاف فيها ؛ ليكون عدم الخلاف مخرجا لها من كونها أصوليّة. وليس هذا يعدو سوى مجرّد دعوى لا دليل عليها ، بل يلزم على هذا خروج كثير من القواعد الأصوليّة ؛ لعدم وجود الخلاف فيها ، ويلزم دخول القواعد غير الأصوليّة ؛ بسبب وجود الخلاف فيها أيضا ، وكلاهما باطل. وإنّما الصحيح أنّ القاعدة تكون أصوليّة في مرحلة سابقة ، ثمّ يطرأ عليها الخلاف والبحث ، بمعنى أنّ الخلاف عارض على المسألة الأصوليّة ، فيلزم أوّلا تنقيح المسألة الأصوليّة عن غيرها ليعرض الخلاف والبحث عليها ثانيا ، فما ذكر من ادّعاء غير تامّ.

وبتعبير آخر : إنّ الخلاف من الأحكام الموجبة العارضة على المسألة الأصوليّة ، والأحكام الموجبة تستدعي ثبوت الموضوع أوّلا ، فيلزم أن تكون أصوليّة المسألة متحقّقة في مرحلة متقدّمة على طروّ الخلاف عليها ، ممّا يعني أنّ الخلاف في المسألة لا ربط له في تحديد أصوليّة المسألة ؛ إذ لو كان شرطا فيها لكان دخيلا في الموضوع أيضا فيصبح الحكم محقّقا لموضوعه ، وهو باطل. نعم الخلاف في المسألة يكشف عن كون المسألة المختلف فيها أصوليّة إلا أنّ هذا لا يعني أنّه هو الذي أكسبها هذه الصفة وجعل لها هذا العنوان.

وهكذا تبيّن أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور بكلّ صيغه وإضافاته وقيوده.

ص: 27

والأصحّ في التعريف أن يقال : ( علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي ). وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغويّة كظهور كلمة الصعيد ؛ لأنّها لا تشترك إلا في استنباط حال الحكم المتعلّق بهذه المادّة فقط ، فلا تعتبر عنصرا مشتركا.

هذا هو التعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد والذي على أساسه سوف تحلّ كلّ الملاحظات والإيرادات السابقة ؛ وذلك لأنّ الأصول العمليّة تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط تجري في مختلف الأبواب الفقهيّة ، ويستنتج منها جعل شرعي كلّي. وأمّا القواعد الفقهيّة فهي لا تدخل في التعريف ؛ لأنّها ليست عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، وإنّما هي عناصر خاصّة ؛ لأنّ الفقيه يستخدمها في بعض الأبواب الفقهيّة ، وفي بعض الشبهات لا جميع الأبواب ولا جميع الشبهات. نعم بعض هذه القواعد الفقهيّة يستنبط منها جعل كلّي شرعي كما تقدّم ، كقاعدة الطهارة أو الحليّة إلا أنّها مختصّة ببعض الشبهات لا جميعها ؛ لأنّها لا تجري في الشبهات الحكميّة ، وكقاعدة الفراغ وأصالة الصحّة فهي وإن كانت تشكّل عنصرا مشتركا إلا أنّها أيضا مختصّة ببعض الشبهات وبعض الأبواب لا جميعها. وأمّا المسائل اللغويّة كظهور كلمة الصعيد وبعض المسائل الرجاليّة فهي عناصر خاصّة وليست عناصر مشتركة ؛ لاختصاصها ببعض الموارد والحالات والأبواب الفقهيّة. فهذا التعريف لا يرد عليه شيء من الإشكالات ، مضافا إلى أنّه يعطي الضابطة العامّة لمعرفة القاعدة الأصوليّة ويميّزها عن غيرها ، وهي القاعدة التي تعتبر عنصرا مشتركا يجري في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث يستنبط منها جعل شرعي كلّي. فهو تعريف جامع ومانع ، بخلاف غيره من التعاريف فإنّها لا تخلو من الإشكال إمّا بعدم الطرد وإمّا بعدم العكس.

ص: 28

موضوع علم الأصول

ص: 29

ص: 30

موضوع علم الأصول

موضوع علم الأصول - كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) - : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي. والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها.

عادة يذكر لكلّ علم موضوع ، والمراد من الموضوع هو ذاك المفهوم الكلّي الذي يكون جامعا بين موضوعات مسائل العلم. فإنّ العلم عبارة عن مجموعة من المسائل ولكلّ مسألة موضوع خاصّ يختلف عن الموضوع في المسألة الأخرى ومحموله كذلك ، وتكوّن بمجموعها مسائل العلم. وهذه الموضوعات والمحمولات المختلفة يجمعها مفهوم كلّي وقضيّة كليّة بموضوعها ومحمولها ، وهذا يعني أنّ الموضوع في حقيقته هو نفس مسائل العلم وليس شيئا زائدا عليها ولذلك قالوا : إنّ الموضوع هو الذي يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة للعلم ، فموضوع كلّ علم إذن هو نفس مسائله وأبوابه ومباحثه وموضوعات مسائله ومحمولاتها ، وعليه فتكون النسبة بين العلم وموضوعه هي نسبة التساوي ؛ غاية الأمر الفرق بينهما في الإجمال والتفصيل ، فهما متّحدان في المفهوم والمصداق ومختلفان في الاعتبار ، أي أنّ المغايرة بينهما اعتباريّة.

وعلى كلّ حال فقد عرّف موضوع علم الأصول بتعاريف عديدة ومختلفة ، والتعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد هو ما ذكره بعض القدماء مع تطوير له ؛ وذلك لأنّهم ذكروا أنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة ، بينما الصحيح هو الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، وهذا أعمّ وأشمل من تعريف القدماء حيث خصّوا الموضوع بالأدلّة الأربعة فقط ، بينما هو الأدلّة المشتركة التي تشمل الأربعة وغيرها من الأدلّة ، فما ذكروه من الأدلّة صحيح ولكن ما حصروه من الأربعة غير صحيح ، بل هو الأعمّ منها ، فكلّ ما كان دليلا وعنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط

ص: 31


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : موضوع علم الأصول وفائدته.

والاستدلال الفقهي بالخصوص فهو داخل في موضوع علم الأصول.

والبحث في علم الأصول يدور حول دليليّة هذه الأدلّة وأنّها هل تصلح لأن تكون عنصرا مشتركا في عمليّة الاستدلال أو لا تصلح لذلك؟ فيبحث في الأصول حول ما إذا كانت هذه القاعدة أو ذاك الدليل له الصلاحيّة للجريان في مختلف الأبواب الفقهيّة أو ليس له ذلك. فالبحث الأصولي ينصبّ حول دليليّة هذه القواعد الأصوليّة ، فالبحث مثلا في حجيّة الظهور أو حجيّة خبر الثقة أو الملازمات العقليّة أو الأصول العمليّة ينصبّ حول إمكانيّة استنباط الحكم الشرعي منها ، وأنّها هل تصلح للدلالة على الحكم الشرعي الكلّي ويعتمد عليها في إثبات المنجّزيّة والمعذّريّة أو لا؟

وبهذا ظهر أنّ مسألة الموضوع لعلم الأصول بل لكلّ علم من المسائل الواضحة عند العقلاء ، بمعنى أنّ العقلاء بمجرّد التفاتهم إلى معنى الموضوع وما هو المقصود منه يحكمون بلزوم الموضوع لكلّ علم ، إلا أنّه مع ذلك فقد وقع التشكيك في وجود الموضوع لكلّ علم أو لعلم الأصول بخصوصه. وإلى هذا أشار السيّد الشهيد بقوله :

وعدم تمكّن بعض المحقّقين (1) من تصوير موضوع العلم على النحو الذي ذكرناه أدّى إلى التشكيك في ضرورة أن يكون لكلّ علم موضوع ، ووقع ذلك موضعا للبحث ، فاستدلّ على ضرورة وجود موضوع لكلّ علم بدليلين :

بعض الأصوليّين أنكر وجود موضوع لعلم الأصول ، وبعضهم شكّك في ضرورة وجوده ؛ وليس ذلك إلا لعدم إمكانيّة تصوير الموضوع بالنحو الذي ذكرناه من كون الموضوع هو الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم ، إلا أنّ التشكيك في الموضوع نشأ من مسألة أخرى وهي أنّهم عرّفوا الموضوع بأنّه ما يكون جامعا بين مسائل العلم. والحال أنّ مسائل العلم لا يمكن أن يوجد جامع بينها ؛ لأنّ بعضها مباين للبعض في أكثر الأحيان ؛ إمّا من جهة الموضوع ، أو المحمول ؛ فكيف يمكن تصوير مفهوم كلّي يكون جامعا بينها؟! وهذا الكلام ناظر إلى المسائل في مرحلة التدوين والتأليف ، فإنّ بعض المسائل تكون مباينة لبعضها من جهة الموضوع كالفعل والترك ، أو المحمول كالوجوب والحرمة أو الوجود والعدم وهكذا ... إلى آخره.

إلا أنّ الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم ؛ لأنّ الموضوع ليس معناه الجامع بين

ص: 32


1- كالمحقّق العراقي في نهاية الأفكار 1 : 9 - 12 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 20.

موضوعات مسائل العلم في مرحلة التدوين ، وإنّما المراد منه المفهوم الكلّي الجامع لكلّ مسائل العلم قبل مرحلة التدوين وبقطع النظر عنها. وقد استدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم بدليلين يضاف إليهما دليل ثالث على مبنى السيّد الشهيد :

أحدهما : أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى أنّ استقلال علم النحو عن علم الطبّ إنّما هو باختصاص كلّ منهما بموضوع كلّي يتميّز عن موضوع الآخر ، فلا بدّ من افتراض الموضوع لكلّ علم.

الدليل الأوّل : ما ذكره المشهور من أنّ العلوم تتمايز عن بعضها لأجل التمايز بين موضوعاتها ، فعلم النحو مثلا يمتاز عن علم الطبّ بموضوعه. فإنّ موضوع علم النحو الكلمة العربيّة وموضوع علم الطبّ الجسم الحي ، فلأجل تمايز الموضوع بينهما امتاز هذان العلمان عن بعضهما ، وعلى هذا فلا بدّ من افتراض موضوع لكلّ علم لكي يتحقّق التمايز بين العلوم ؛ إذ لو لم يكن لكلّ علم موضوع خاصّ به لما حصل التمايز بين العلوم ، وبما أنّ التمايز حاصل بين العلوم والتمايز لا يتمّ إلا باختلاف الموضوع فهذا يدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم يمتاز عن موضوع العلم الآخر. وهذا الدليل مؤلّف من مقدّمتين : الأولى أنّ هناك تمايزا بين العلوم ، والثانية أنّ التمايز بين العلوم هو باختلاف موضوعاتها ، فالنتيجة هي وجود الموضوع لكلّ علم والذي على أساسه يحصل التمايز.

وهذا الدليل أشبه بالمصادرة ؛ لأنّ كون التمايز بين العلوم بالموضوعات فرع وجود موضوع لكلّ علم ، وإلا تعيّن أن يكون التمييز قائما على أساس آخر كالغرض.

هذا الدليل شبيه بالمصادرة وليس مصادرة حقيقيّة ؛ لأنّ المصادرة هي أن يكون الدليل عين المدّعى بأن يستدلّ على المطلوب بنفسه. وأمّا الشبيه بالمصادرة فهو أن يكون الدليل من لوازم ومتفرّعات المطلوب ، وهنا استدلّوا على وجود الموضوع لا بالموضوع نفسه ليكون مصادرة ، بل بشيء لازم ومتفرّع عليه وهو التمايز ، إذ التمايز بالموضوعات بين العلوم فرع وجود الموضوع أوّلا ، فهو لازم ومتفرّع على وجود الموضوع فيثبت الموضوع أوّلا ، ثمّ تثبت لوازمه ومتفرّعاته. فلذلك كان هذا الدليل شبيها بالمصادرة وليس مصادرة حقيقية. ولا فرق بين المصادرة والشبيه بها في كون

ص: 33

الاستدلال بهما على المطلوب باطلا : أمّا المصادرة فواضح ؛ لأنّه يلزم من الاستدلال بالشيء على نفسه الدور والخلف والتقدّم والتأخّر ؛ لكون المدّعى مأخوذا دليلا على نفسه ، وهذا واضح البطلان (1).

ص: 34


1- وأمّا الشبيه بالمصادرة فبطلان الاستدلال به على المطلوب من وجوه : الأوّل : ما ذكره السيّد الشهيد من قاعدة الفرعيّة وهي القاعدة القائلة : إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له أوّلا. وهنا عند ما نثبت التمايز بين العلوم للموضوعات فهذا يلزم منه ثبوت الموضوع أوّلا ، ثمّ يتفرّع عنه كون التمايز به. فما لم يثبت الموضوع في مرحلة متقدّمة فلا معنى للكلام عن التمايز بين العلوم بالموضوعات ؛ إذ لعلّه لا يوجد موضوع للعلم ومع عدم وجوده لا محصّل للكلام عن كون التمايز بالموضوعات ؛ إذ لعلّه شيء آخر كالغرض والغاية ونحو ذلك. فلا بدّ من إثبات الموضوع ثمّ ينتقل إلى الحديث عن كون التمايز به أو بغيره ، فيعود الكلام إلى أصل وجود الموضوع وهو غير متحقّق بعد. فهذا وجه بطلان الاستدلال بلازم الشيء على الشيء نفسه والذي هو المسمّى بالشبيه بالمصادرة. الثاني : هناك مرتبة طوليّة بين الموضوع وبين التمايز بالموضوع ، والثاني في المرتبة الثانية لا يتحقّق إلا بعد تحقّق الأوّل فما لم تتحقّق المرتبة الأولى يلغو الكلام عن المرتبة الثانية ، إذ الحديث عن المرتبة الثانية وهي تقتضي التسليم بوجود المرتبة الأولى ، ومع التسليم بوجودها لا معنى للاستدلال عليها وعلى وجودها ؛ إذ هو تحصيل الحاصل حينئذ. ومع عدم وجود المرتبة الأولى لا وجود للمرتبة الثانية أيضا ، فكيف يستدلّ بشيء معدوم على وجود شيء؟! وهذا واضح البطلان. الثالث : أنّه يوجد فرق بين مفاد كان التامّة وبين مفاد الناقصة ؛ لأنّ الأولى تثبت أصل وجود الشيء في مقابل عدمه ، والثانية تثبت وجود صفة وحكم لهذا الشيء الثابت والموجود في مقابل عدم ثبوت هذا الحكم أو الوصف ، وأمّا أصل وجود الشيء فهو مفروغ عنه ومتحقّق في مرحلة سابقة. وهذا معناه أنّ مفاد ( كان ) الناقصة قد أخذ فيه الفراغ عن ثبوت الشيء مقابل عدمه ، وهنا كون التمايز بين العلوم بالموضوعات يثبت صفة التمييز إلى الموضوع والذي هو مفاد ( كان ) الناقصة ، والذي معناه كما ذكرنا الفراغ عن ثبوت الموضوع في مرحلة سابقة ، فلا معنى لإثبات وجود الموضوع بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ إثبات وجوده بها معناه أنّه لم يكن ثابتا قبل ذلك ، وهذا خلف ماهيّة وحقيقة كان الناقصة ، فيلزم منه التقدّم والتأخّر والخلف أو الدور ، والجميع باطل. الرابع : أنّ الأحكام السلبيّة يجوز إسنادها إلى موضوع معدوم وإلى موضوع موجود ، وأمّا الأحكام الإيجابيّة فلا يجوز إسنادها إلا إلى موضوع موجود ، وهنا ثبوت التمايز بين العلوم إلى الموضوعات حكم إيجابي وصفة وجوديّة للموضوع. وهذا معناه لزوم كون الموضوع .. ... موجودا وإلا لم يصحّ الحكم الإيجابي بالتمايز عليه ، ومع الفراغ عن وجود الموضوع طبقا لهذا فلا داعي للاستدلال على ما هو موجود لإثبات وجوده ؛ إذ ليس هذا إلا اللغو الباطل وتحصيل الحاصل. وبهذا كلّه يتضح أنّ هذا الدليل غير تامّ. مضافا إلى الإشكال الذي ذكره صاحب ( الكفاية ) وإن كان غير تامّ كما هو الصحيح من أنّ التمايز بالموضوعات يستلزم تكثّر العلوم ؛ لأنّ كلّ باب بل كلّ مسألة لها موضوع مختلف عنه في الباب والمسألة الأخرى ، مع أنّه لا يقول أحد بأنّ باب الفاعل علم مستقلّ في مقابل باب المفعول رغم كونهما من حيث الموضوع والمحمول مختلفين ، حيث يقال : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب.

والآخر : أنّ التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلا بدّ من موضوع لكلّ علم إذا : لكي يحصل التمايز. وإن كان بالغرض على أساس أنّ لكلّ علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الآخر ، فحيث إنّ الغرض من كلّ علم واحد والواحد لا يصدر إلا من واحد فلا بدّ من افتراض مؤثّر واحد في ذلك الغرض ، ولمّا كانت مسائل العلم متعدّدة ومتغايرة فيستحيل أن تكون هي المؤثّرة بما هي كثيرة في الغرض الواحد ، بل يتعيّن أن تكون مؤثّرة بما هي مصاديق لأمر واحد.

وهذا يعني فرض قضيّة كلّيّة تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات وبمحمولها جامعة بين المحمولات للمسائل ، وهذه القضيّة الكلّيّة هي المؤثّرة ، وبذلك يثبت أنّ لكلّ علم موضوعا ، وهو موضوع تلك القضيّة الكلّيّة فيه (1).

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) للاستدلال على وجود الموضوع :

فتارة نقول بمقالة المشهور : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، فيلزم وجود موضوع إذن ؛ لكي يحصل التمايز المذكور فيكون المطلوب حاصلا ، إلا أنّ هذا الافتراض غير صحيح كما تقدّم آنفا. فلا بدّ من فرض كون التمايز بين العلوم متحقّقا بشيء آخر غير الموضوع.

وأخرى نقول : إنّ التمايز بين العلوم بلحاظ الأغراض فلكلّ علم غرض مختلف عن الآخر ، وعلى هذا الافتراض يمكننا إثبات وجود موضوع العلم ، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين ونتيجة :

ص: 35


1- تجد خلاصة هذا البيان مع الإيراد عليه في ألسنة جملة من الأصوليّين ، منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 34 ، والسيّد الخوئي في هامش كتاب أجود التقريرات 1 : 4.

المقدّمة الأولى : على افتراض أنّ التمايز بين العلوم إنّما هو بلحاظ الغرض ، حيث إنّ لكلّ علم غرضا مستقلا عن الغرض من العلم الآخر ، فهنا حيث إنّ مفهوم الغرض مفهوم واحد وبسيط فلا بدّ من فرض مؤثّر في هذا الغرض ، وهذا المؤثّر في الغرض هو موضوع العلم.

المقدّمة الثانية : وفقا للقاعدة الفلسفيّة القائلة : بأنّ ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ). فلا بدّ من فرض المؤثّر في الغرض واحدا ؛ لأنّ الغرض واحد أيضا وهو لا يصدر إلا من واحد.

والنتيجة - بناء على هاتين المقدّمتين - : أنّ المؤثّر في الغرض - والذي قد فرض كونه واحدا نظرا إلى وحدة الغرض نفسه - إذا فرضناه نفس مسائل العلم لم تتمّ المقدّمة الثانية ؛ لأنّ مسائل العلم متعدّدة ومتكثرة فكيف يصدر عن الكثير بما هو كثير واحد بسيط وهو الغرض ، بحيث تكون هذه المسائل هي المؤثّرة فيه؟! فيلزم من هذا الغرض مخالفة القاعدة الفلسفيّة التي هي المقدّمة الثانية من هذا الدليل ، فهذا الفرض باطل ومستحيل.

فيلزم أن نفرض وجود قضيّة كليّة مؤلّفة من موضوع ومحمول هي المؤثّرة في الغرض ؛ لأنّها واحدة فيصدر منها الواحد. وهذه القضيّة الكليّة من حيث الموضوع جامعة بين موضوعات المسائل ، ومن حيث محمولها جامعة بين محمولات المسائل ، فتكون هذه القضيّة الكلّيّة المفروضة والتي موضوعها جامع بين موضوعات المسائل هي المؤثّرة في الغرض بلحاظ موضوعها. وهذا يعني أنّ تلك المسائل المتكثّرة قد أثّرت في الغرض ولكن لا بوصف كونها كثيرة ، بل بلحاظ كونها مصاديق وأفرادا لذلك الموضوع الكلّي الجامع لها. فالمؤثّر في الغرض هو القضيّة الكليّة أوّلا وبالذات ، ثمّ المسائل المتعدّدة ثانيا ، وبالعرض باعتبارها مصاديق وتعيّنات لموضوع القضيّة الكلّيّة ، وبهذا يثبت كون المؤثّر في الغرض أمرا واحدا هو القضيّة الكلّيّة.

ثمّ إذا نظرنا إلى موضوع تلك القضيّة الكليّة نجده جامعا بين موضوعات مسائل العلم ، ولا يقصد من الموضوع المراد إثباته أكثر من ذلك. فثبت بهذا الدليل وجود موضوع لكلّ علم ، وهذا الموضوع هو الموضوع الكلّي الجامع بين موضوعات مسائل العلم الواقع موضوعا للقضيّة الكليّة المفروضة والتي أثّرت في الغرض. وبهذا يتّضح أنّه

ص: 36

يمكننا إثبات وجود الموضوع للعلم من غير أن نفرض أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بل يمكننا إثباته بفرض أنّ التمايز بين العلوم بالغرض.

وقد أجيب على ذلك : بأنّ الواحد على ثلاثة أقسام : واحد بالشخص ، وواحد بالنوع وهو الجامع الذاتي لأفراده ، وواحد بالعنوان وهو الجامع الانتزاعي الذي قد ينتزع من أنواع متخالفة. واستحالة صدور الواحد من الكثير تختصّ بالأوّل (1) ، والغرض المفترض لكلّ علم ليست وحدته شخصيّة ، بل نوعيّة (2) أو عنوانيّة (3) ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في المقام.

أورد على هذا الدليل بمنع كلتا المقدّمتين :

أمّا المقدّمة الثانية : وهي قاعدة : ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، فإنّ تطبيقها على الغرض غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الواحد على ثلاثة أقسام هي :

الواحد الشخصي : وهو الجزئي الحقيقي كزيد فهو واحد بسبب تشخّصه وتعيّنه بالخارج.

والواحد بالنوع : وهو الجامع الذاتي لأفراده أي الكلّي الذي يكون جامعا بين المصاديق والجزئيّات والأفراد كالإنسان الجامع بين الأفراد الموجودة في الخارج ، وكالحيوان الجامع بين الأنواع ، وكالناطق فهذه كلّها مفاهيم كليّة جامعة بين أفرادها وأنواعها بنحو تكون دخيلة في ذاتها وهي واحدة أيضا.

والواحد بالعنوان : وهو الجامع العرضي والانتزاعي والذي يكون جامعا بين الأفراد والأنواع المتخالفة ، كالبياض الجامع بين الإنسان والحجر والطائر والقرطاس والثلج ... إلى آخره ؛ ولكن هذا الجامع ليس دخيلا في حقيقة هذه الأنواع والأفراد ، وإنّما هو متفرّع منها بنحو العارض الخارج عن الذات ، فهو مفهوم انتزاعي وعرضي ولكنّه واحد أيضا.

والقاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الشخصي بمعنى أنّ الواحد الشخصي وهو الجزئي الحقيقي يستحيل صدوره من كثيرين ولا يصدر إلا من واحد فقط.

وأمّا الواحد بالنوع أو الواحد بالعنوان فهما يصدران من الواحد ومن الكثير أيضا

ص: 37


1- كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.
2- كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.
3- كما ادّعاه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 34.

كما هو مبرهن عليه في الفلسفة. والغرض وحدته ليست وحدة شخصيّة ؛ لأنّه ليس جزئيّا بل هو مفهوم كلّي ، فهو إمّا واحد نوعي أو واحد عنواني على الخلاف في ذلك ، وعلى كلا الأمرين لا تنطبق عليه القاعدة الفلسفيّة المذكورة وعليه فلا يشترط كون المؤثّر في الغرض واحدا أيضا ، بل يمكن أن يكون المؤثّر فيه الكثير. فتلك القضيّة الكلّيّة المؤلّفة من موضوع جامع بين موضوعات مسائل العلم لا داعي ولا موجب لفرضها على هذا ، بل يمكن أن تكون مسائل العلم بما هي كثيرة مؤثّرة في الغرض ولا يلزم من ذلك أي محذور.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي افتراض وجود غرض بسبب وجود المؤثّر وهو تلك القضيّة الكليّة المفترضة فيرد عليها : أنّه مع وجود المؤثّر يلزم وجود الغرض دائما ويمنع من تخلّفه عنه ، وهذا الأمر غير متحقّق بنحو مطلق ؛ لأنّا نجد أنّ الغرض يتخلّف في كثير من الأحيان مع وجود المؤثّر فيه ، فنرى مثلا أنّ من يتعلّم المنطق أو النحو يخطئ في التفكير السليم والصحيح وفي النطق الصحيح مع كون المؤثّر موجودا ؛ لأنّه قد تعلّم مسائل العلم ، وهذا يعني أنّ الغرض قد تخلّف عن المؤثّر فيه.

إلا أنّ السيّد الشهيد لا يقبل كلا هذين الإيرادين ولذلك قال : ( وأجيب على ذلك ). ووجه ذلك :

أمّا المقدّمة الثانية : فالقاعدة الفلسفيّة لا تختصّ بالواحد الشخصي ، بل تشمل الواحد بالنوع أيضا والغرض واحد بالنوع (1).

وأمّا المقدّمة الأولى : فلأنّه يشترط في تأثير المؤثّر في الغرض أن يتمكّن المتعلّم من استخدام مسائل العلم على وجهها الصحيح وفي موردها ومصداقها ، فهي تمكّنه من الوصول إلى الغرض فيما لو أحسن استخدامها لا مطلقا ، والمخطئ لا يكون قد أحسن الاستعمال. فإذا تخلّف الغرض لم يصل إليه ؛ لأنّه لم يتحقّق شرط التأثير.

وهكذا يرفض بعض المحقّقين (2) الدليل على وجود موضوع لكلّ علم ، بل قد

ص: 38


1- بل إنّ القاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الحقيقي أي العلّة الحقيقيّة وهي الحقّ سبحانه وتعالى ، ولا تشمل العلل الاعتباريّة كالغرض في مقامنا ، ولذلك وقع خلط بين المقامين.
2- منهم المحقّق العراقي في المقالات 1 : 37 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 20.

يبرهن على عدمه بأنّ بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائله إلى مقولات ماهويّة وأجناس متباينة كعلم الفقه الذي موضوع مسائله الفعل تارة والترك أخرى والوضع تارة والكيف أخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟!

ولأجل عدم تماميّة الأدلّة التي ذكرت على وجود موضوع للعلم رفض بعض المحقّقين كالمحقّق العراقي وجود موضوع لكلّ علم ، بل إنّ بعضهم كالسيّد الخوئي قد أقام البرهان على عدم وجود موضوع للعلم. وحاصل هذا البرهان أن يقال : إنّنا إذا أخذنا علم الفقه كمثال نجد أنّ بعض موضوعات مسائل هذا العلم تشتمل على الفعل والوجود كالصلاة والحجّ ونحو ذلك ، وبعض موضوعات مسائله تشتمل على الترك والعدم كالصوم وحرمة الزنى وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك ، بل إنّنا إذا أخذنا باب الصلاة نجد أنّ الصلاة تشتمل على أفعال وجوديّة كالركوع والسجود والقراءة وهي من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، فإنّ الركوع والسجود من مقولة الوضع والقراءة من مقولة الكيف المسموع ، وإذا أخذنا باب الصوم نجد أنّه يشتمل على تروك وأعدام وهي أيضا من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، كترك الكذب على اللّه والرسول والأئمّة فهي من مقولة الكيف المسموع ، وكرمس الرأس في الماء فهي من مقولة الوضع وهكذا ... فكيف يمكن تصوير جامع كلّي بين هذه الأجناس المتباينة والمقولات الماهويّة المختلفة؟! إذ هي أجناس عالية ليس فوقها شيء يمكن تصوير الجامع بينها. وعليه فكيف يمكن تصوير الموضوع؟! لأنّه الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم كما تقدّم.

وكذلك الحال لو أخذنا علم الأصول كمثال آخر ، فإنّا نجده يشتمل على مسائل موضوعها الكشف والإراءة للواقع كالأمارات والأدلّة المحرزة ، وعلى مسائل موضوعها الشك ، والجهل وعدم الانكشاف للواقع كالأصول العمليّة المحضة. فكيف يمكن الجمع بين الكشف وعدمه وبين الإراءة للواقع والشكّ والجهل به؟! إذ الجامع بينها جامع بين النقيضين وهو باطل ومحال.

وعلى هذا الأساس رفض بعض الأصوليّين وجود الموضوع ، وليس ذلك إلا

ص: 39

لاستحالة تصوير هذا الجامع. وكيف يكون جامعا بين المسائل والموضوعات المتخالفة والمتباينة والمتناقضة؟!

وعلى هذا الأساس استساغوا ألاّ يكون لعلم الأصول موضوع ، غير أنّك عرفت أنّ لعلم الأصول موضوعا على ما تقدّم (1).

الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم من العلوم ومن جملتها علم الأصول بدليل حاصله :

إنّ كلّ علم من العلوم له محور يدور البحث حوله ، وكلّ مسائل العلم التي تدوّن في هذا العلم تأتي متأخّرة عن وجود هذا المحور ، فهو موجود قبل أن تتحقّق المسائل في الخارج ولا يتوقّف وجوده على وجودها ولذلك يمكن أن تختلف هذه المسائل في مرحلة التدوين والتصنيف عن هذا المحور ؛ نتيجة لتأثّر البحث أو الباحث بأمور خارجة عارضة عليه إلا أنّه لا يمنع من كون هذا المحور المذكور موجودا قبلها ، وهو الباعث على تدوينها في هذا العلم.

فمثلا علم الفلسفة يدور حول محور واحد وهو الوجود أو الموجود بما هو موجود ، وكلّ المسائل التي تبحث وتدوّن في هذا العلم تدور حول هذا المحور ، إلا أنّنا نجدها في مرحلة التدوين والتصنيف تختلف عن هذا المحور فنجد موضوعات مسائل هذا العلم موزّعة على الوجود والعدم والماهيّة والوجوب والإمكان والضرورة والحركة ... إلى آخره ، ونجد أنّ الوجود والذي هو المحور الذي يجب أن تدور البحوث حوله نجده يجعل محمولا لها ، فيقال : الماهيّة موجودة والإنسان موجود مع أنّها ليست إلا تعيّنات ومصاديق للوجود ، فهي التي تحمل عليه بحسب الحقيقة والدقّة ، إلا أنّ هذا لا يشكّل مانعا وذلك نتيجة لتأثّر الباحث بهذه الأمور فجعلها موضوعا وعكس الحمل.

وكذلك الحال بالنسبة لعلم الفقه فإنّ له محورا تدور حوله كلّ موضوعات مسائله ، وهذا المحور هو الحكم الشرعي ، فكلّ الأبواب الفقهيّة مهما اختلفت من جهة التدوين والتصنيف ومهما تغايرت ماهيّاتها ومقولاتها فهي تدور حول الحكم الشرعي ، والذي هو الأحكام التكليفيّة الخمسة الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة والأحكام الوضعيّة مثل الصحّة والفساد وغيرها. وعلم الأصول لا

ص: 40


1- في بداية هذا البحث.

يختلف عن بقيّة العلوم في وجود محور له تدور حوله موضوعات مسائله وهذا المحور هو : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، فكلّ البحوث والمسائل الأصوليّة تدور حول هذا المحور وهل أنّها تشكّل دليلا على استنباط الحكم الشرعي الكلّي أو لا؟ فالبحث فيها حول دليليّتها وأنّها دليل أو ليست بدليل.

وهكذا يتّضح أنّ هناك محورا دائما لكلّ علم من العلوم تدور حوله كلّ البحوث المطروحة في هذا العلم.

وهذا المحور مفهوم كلّي جامع بين موضوعات مسائل العلم ويطلق عليه اسم موضوع العلم. فمقصودنا من موضوع العلم هو ذلك المفهوم الكلّي الجامع بين موضوعات المسائل والذي يسمّى بالمحور ، وعلى أساس هذا المحور تتمايز العلوم فيما بينها ، ولذا صحّ ما قيل : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات بناء على أنّ المراد من الموضوع هو المحور الذي يدور حوله بحث كل مسائل العلم.

ص: 41

ص: 42

الحكم الشرعي وتقسيماته

ص: 43

ص: 44

الحكم الشرعي وتقسيماته

قد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفيّة ، والآخر الأحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقا نبذة عن الأحكام التكليفيّة. وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي على نحوين :

يقسّم الحكم الشرعي إلى قسمين ، هما : الحكم التكليفي ، والحكم الوضعي.

فالحكم التكليفي : هو الخطاب الشرعي المتكفّل لتوجيه عملي مباشر لأفعال الإنسان وتنظيم أموره.

والحكم الوضعي : لا يتعلّق مباشرة بأفعال الإنسان وإنّما له تأثير غير مباشر على أفعاله وتنظيم أموره.

ثمّ إنّ الحكم التكليفي يتكوّن من ثلاثة أمور هي : الملاك ، والإرادة ، والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الحاكم ويتصوّرها في الفعل أو الترك.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة للفعل بحسب ما فيه من الملاك.

والاعتبار : عمليّة إنشاء الحكم وجعله على ذمّة المكلّف.

وهذه المراحل الثلاث مترابطة فيما بينها ، فإنّ الإرادة إنّما تنشأ في نفس الحاكم على ضوء ما يحدّده من مصلحة أو مفسدة في الفعل ، وبعد ذلك يصيغ إرادته بنوع الاعتبار والجعل.

والحكم التكليفي يقسم إلى الأحكام الخمسة تبعا لنوع الإرادة ، فإنّه إذا كانت المحبوبيّة بدرجة عليا كان الحكم واجبا ، وإذا كانت أقلّ كان مستحبّا ، والمبغوضيّة إذا كانت عليا كان حراما وإلا كان مكروها ، ثمّ إذا تساوت المحبوبيّة والمبغوضيّة أو لم يكن فيه شيء منهما كان مباحا.

ص: 45


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الشرعي وتقسيمه.

وأمّا الحكم الوضعي فهو ليس محتويا لمبادئ الحكم التكليفي ، وإنّما هو خطاب يتعلّق بأمور لها تأثير على أفعال الإنسان فيكون له توجيه عملي لأفعال الإنسان بصورة غير مباشرة. فالحكم الوضعي ينصبّ على مسائل خارجيّة لها تأثير على سلوك الإنسان وفعله ، ولكن لا ينصبّ مباشرة عليها كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة والصحّة والفساد والجزئيّة ، بل على الأمور الانتزاعيّة كالزوجيّة والرقيّة ونحوهما ، ثمّ إنّ الحكم الوضعي يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي ، كالزوجيّة الواقعة موضوعا لوجوب الإنفاق ، والملكيّة الواقعة موضوعا لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.

القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا لحكم تكليفي بحيث يكون الحكم الوضعي متقدّما وسابقا من حيث الرتبة على الحكم التكليفي ، فإنّه بعد فرض وجود الحكم الوضعي يفرض ترتّب الحكم التكليفي عليه مثال ذلك : مفهوم الزوجيّة المنتزع من عقد الزواج بين الرجل والمرأة ، فإنّ مفهوم الزوجيّة قد جعل موضوعا لكثير من الأحكام التكليفيّة سواء من طرف الزوج أو الزوجة ، فيجب الإنفاق على الزوج ويجب التمكين على المرأة.

وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم الملكيّة المنتزع من العقد الواقع بين البائع والمشتري ، فإنّ مفهوم الملكيّة يقع موضوعا لبعض الأحكام التكليفيّة كحرمة تصرّف البائع بالسلعة من دون إذن المشتري ، وكوجوب تسليم السلعة إلى المشتري ونحو ذلك.

وهذا القسم يفترض فيه أوّلا الحكم الوضعي ثمّ ينشأ في طوله الحكم التكليفي.

الثاني : ما كان منتزعا عن الحكم التكليفي ، كجزئيّة السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركّب منها ، وشرطيّة الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة المنتزعة من الحكم التكليفي ، وهذا معناه افتراض الحكم التكليفي أوّلا ثمّ ينتزع منه الحكم الوضعي وفي طوله ، ولا يعقل وجود الحكم الوضعي إلا بعد افتراض وجود الحكم التكليفي ؛ لكونه منتزعا منه ، ومثاله : عنوان الجزئيّة المنتزع من الأمر بالمركّب منها كوجوب الصلاة

ص: 46

المركّب من عدد من الأجزاء ومنها السورة ، فلو لا وجود الأمر بالمركّب لم يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ؛ لأنّ الجزء لا يمكن أن يفترض أو يتصوّر إلا ضمن الكلّ والمركّب. وكذلك الحال في عنوان الشرطيّة ، فإنّه لا يتحقّق إلا بعد افتراض وجود الأمر المشروط كوجوب الصلاة المشروط بالزوال ، فانتزاع شرطيّة الزوال للصلاة لا يمكن فرضها وتصوّرها من دون افتراض الصلاة المشروطة بالزوال.

وهذا معناه أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة أمور انتزاعية من الأمر بالمركّب والأمر بالمشروط ، وهذا معناه أنّ وجودهما في طول ذاك المركّب والمشروط ، ولا يعقل تصوّرهما بعنوانيهما بمعزل عن المركّب والمشروط.

وعلى هذا يقع البحث في أنّ المولى هل يمكنه أن يجعل هذين القسمين من الأحكام الوضعيّة بنحو الاستقلاليّة أو لا يمكنه؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولا ينبغي الشكّ في أنّ القسم الثاني ليس مجعولا للمولى بالاستقلال ، وانّما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي ؛ لأنّه مع جعل الأمر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الأمر التكليفي في انتزاع عنوان الجزئيّة للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن أن تتحقّق الجزئيّة للواجب بمجرّد إنشائها وجعلها مستقلا.

لا شكّ في أنّ القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان منتزعا من الحكم التكليفي كالجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعله بالجعل الاستقلالي من المولى ، وإنّما هو منتزع من جعل الحكم التكليفي. فالمولى يجعل الحكم التكليفي بنحو الاستقلاليّة ثمّ بتبع ذلك ينتزع منه الحكم الوضعي كالجزئيّة والشرطيّة ولا يمكن جعله استقلالا ؛ لأنّ ذلك خلاف فرضها منتزعة إذ معنى انتزاعها وجود شيء متقدّم عليها في الوجود يكون له الجعل الاستقلالي.

والدليل على ذلك أوّلا : أنّه مع جعل الأمر بالمركّب كالصلاة المركّبة من السورة وغيرها من الأجزاء كان هذا الجعل وحده كافيا في انتزاع عنوان جزئيّة السورة للمركّب الواجب أي الصلاة ، ولا تحتاج إلى جعل مستقلّ لعنوان جزئيّة السورة ؛ لأنّه يكون لغوا أو تحصيلا للحاصل ، وبدون جعل الأمر بالمركّب أي إذا لم يجعل الشارع الصلاة واجبة أصلا فلا معنى لأن يكون هناك جعل استقلالي لجزئيّة السورة في الصلاة ؛ إذ ما دامت الصلاة غير موجودة أصلا فلا معنى لوجود وجعل عنوان الجزئيّة

ص: 47

على أحد أجزائها ، بل إنّه لا يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ولو جعلت بالجعل الاستقلالي ؛ لأنّ كونها جزءا يعني تصوّرها منضمّة إلى الكلّ والمركّب وبدون وجود المركّب أصلا يستحيل انتزاع عنوان الجزئيّة منه.

وبكلمة أخرى : إنّ الجزئيّة للواجب من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئيّة الجزء للمركّبات الخارجيّة من حيث كونها أمرا انتزاعيا واقعيّا ، وإن اختلفت الجزئيّتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئيّة أمرا واقعيّا فلا يمكن إيجادها بالجعل التشريعي والاعتبار.

الدليل الثاني على أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعلها بالجعل الاستقلالي عن المركّب : هو ما ذكره من كون الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة. وقبل بيان هذا الدليل لا بدّ من الإشارة إلى نكتة أساسيّة وهي :

المراد من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة هي التي لها تحقّق وراء جعلها فلها وجود حقيقي تبعا لوجود منشأ انتزاعها بحيث تترتّب عليها الآثار وهي على قسمين :

الأوّل : المركّبات الخارجيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم التحقّق الخارجي التكويني.

والثاني : المركّبات الشرعيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم الاعتبار والجعل ، والأمور الانتزاعيّة الواقعيّة في مقابل الأمور الاعتباريّة التي أمرها بيد المولى كالطهارة التي هي شرط في الصلاة.

وحينئذ نقول : إنّ الجزئيّة ما دامت من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة التي لها تحقّق وراء انتزاعها - عالم وعاء واقعها هو عالم الجعل والاعتبار للوجوب - فلها تحقّق في ذاك العالم في نفس المولى وجعله للأحكام. وهذا معناه أنّه لا فرق بين جزئيّة السورة في الواجب وبين جزئيّة الجزء كالغرفة مثلا في المركّبات الخارجيّة التكوينيّة ، فإنّ كلاّ منها يعتبر جزءا من الكلّ والمركّب ، ولا يمكن انتزاع عنوان الجزئيّة للسورة أو للغرفة بمعزل عن هذا المركّب ما دامت الجزئيّة من الأمور الواقعيّة الانتزاعيّة الذي يفترض وجود واقع تتحقّق فيه الجزئيّة ، نعم يختلف الأمر بين هاتين الجزئيّتين من جهة أخرى وهي وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، حيث إنّ جزئيّة المركّبات الخارجيّة وعاء واقعها ومنشأ

ص: 48

انتزاعها هو العالم الخارجي التكويني المادي ، بينما جزئيّة السورة في المركّبات الشرعيّة وعاء واقعها ومنشأ انتزاعها هو عالم الجعل والاعتبار للأحكام الشرعيّة.

وعلى هذا فما دامت الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة فلا يمكن إيجادها بالجعل الاستقلالي عن الأمر بالمركّب ، ولا يمكن أن يكون هناك تشريع أو اعتبار يثبت عنوان الجزئيّة بنحو مستقلّ عن الأمر بالمركّب ؛ وإلا لصارت من الأمور الاعتباريّة المحضة التي بيد الشارع جعلها ابتداء ، والمفروض أنّها من الأمور الانتزاعيّة التي لها واقع وراء انتزاعها ؛ وهو وعاء عالم الخارج التكويني أو عالم الجعل والاعتبار ، وعلى كلا الفرضين لا بدّ من فرض تحقّق المركّب أوّلا لينتزع منه الجزئيّة (1).

وأمّا القسم الأوّل فمقتضى وقوعه موضوعا للأحكام التكليفيّة عقلائيّا وشرعا هو كونه مجعولا بالاستقلال ، لا منتزعا عن الحكم التكليفي ؛ لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفي تقتضي سبقه عليه رتبة ، مع أنّ انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.

وأمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما ، فلا إشكال في كونه مجعولا بالجعل الاستقلالي وليس منتزعا عن الحكم الشرعي ، فهنا دعويان :

الأولى : كونه مجعولا بالاستقلال.

والثانية : كونه ليس منتزعا من الحكم الشرعي خلافا للشيخ الأنصاري. والدعوى الثانية متفرّعة عن الأولى ، وبرهانه : أنّ الملكيّة والزوجيّة من الأمور الاعتباريّة التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها ، والشارع أمضى هذه الملكيّة والزوجيّة وليست من الأمور الانتزاعيّة لدى الشارع. نعم ، قد يفرض الشارع بعض الشروط أو القيود أو الخصوصيّات أو ينفي بعضها ، إلا أنّها ليست من الأمور الانتزاعيّة عن الحكم التكليفي. وإنّما هي تقع موضوعا للأحكام التكليفيّة ، بحيث يترتّب على ثبوت الملكيّة أو الزوجيّة بأحد أسبابهما بعض الأحكام التكليفيّة. وهذا معناه افتراض وجود هذه الأحكام الوضعيّة في مرتبة سابقة ومتقدّمة عن الأحكام التكليفيّة على أساس أنّ ما جعل موضوعا لشيء بمقتضى موضوعيّته كونه متقدّما

ص: 49


1- هذا خلاصة الكلام في القسم الثاني وإن كان محلاّ للشكّ عند بعضهم كالسيّد الإمام رحمه اللّه حيث برهن على إمكان جعلها بالجعل الاستقلالي راجع الرسائل ج 1 ص 116.

وسابقا عليه رتبة ، وهذا يفترض كونها مجعولة بنحو الاستقلال وبمعزل عن تلك الأحكام التكليفيّة المترتّبة عليها ؛ لأنّ فرض انتزاعها عنها يستلزم الدور أو التقدّم والتأخّر ؛ إذ فرض كونها موضوعا يقتضي كونها متقدّمة وفرض كونها منتزعة يقتضي كونها متأخّرة ، فيلزم كونها متقدّمة ومتأخّرة في آن واحد من جهة واحدة وهو محال (1).

وقد تثار شبهة لنفي الجعل الاستقلالي لهذا القسم أيضا ، بدعوى أنّه لغو ؛ لأنّه بدون جعل الحكم التكليفي المقصود لا أثر له ، ومعه لا حاجة إلى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه.

قد يقال : إنّ القسم الأوّل وهو الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا للأحكام التكليفيّة يستحيل جعلها بالجعل الاستقلالي ، بل لا بدّ من فرضها منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، فالملكيّة مثلا تنتزع من جواز التصرّف في ماله وحرمة تصرّف الغير به ، والزوجيّة تنتزع من جواز الاستمتاع للزوج وحرمته على غيره ، وهكذا.

ويدّعى للبرهان على ذلك أنّ الجعل الاستقلالي لهذه الأحكام الوضعيّة لغو ، وبيانه : أنّه إذا جعلت الملكيّة ونحوها بالجعل الاستقلالي :

ص: 50


1- وممّا يدلّ على كونها أمورا اعتباريّة وليست انتزاعيّة أنّها موجودة عند كلّ الناس حتّى الذين لا يؤمنون بالشرع والشريعة ، وهذا يعني أنّها مجعولة بنحو الاستقلال عن الأحكام التكليفيّة. فمثلا قوله : ( الناس مسلّطون على أموالهم ) يستفاد منه ترتيب حرمة تصرّف الغير بأموال الناس وسلطنة الناس على أموالهم وتصرّفهم بها كيفما شاءوا ، وهذان الحكمان ينتزعان من فرض وجود الملكيّة في مرحلة سابقة ؛ وإلا لم يجز تصرّفهم أو لم يحرم تصرف غيرهم ما داموا ليسوا مالكين لها. وجواز الاستمتاع مترتّب ومتفرّع من وجود علاقة الزوجيّة في مرتبة سابقة ، وليست الزوجيّة منتزعة من جواز الاستمتاع للزوج. وعليه ، فبمجرّد إيقاع عقد الزواج أو عقد البيع تتحقّق الملكيّة والزوجيّة وإن لم يفرض وجود أي نوع من الأحكام التكليفيّة فيما بعد ، ويدلّ على صحّة ذلك كونهما موجودين عند العرف والعقلاء جميعا. ولو كانتا منتزعتين من الأحكام التكليفيّة لم يصحّ تحقّقهما من دون فرض الأحكام التكليفيّة.

فإن لم يترتّب عليها الحكم التكليفي المقصود ، كجواز التصرّف في ماله وسلطته عليه وحرمة ذلك على الغير لا يكون هناك أثر ولا فائدة من الجعل الاستقلالي المذكور ولا قيمة له ؛ إذ ما لم يكن هناك أحكام تكليفيّة على هذا الموضوع فما هو الداعي والغرض من جعله موضوعا بالجعل الاستقلالي؟! وليس هو إلا عبثا ولغوا.

وإن كان هناك أحكام تكليفيّة فوقيّة على هذا الجعل الاستقلالي لم نكن بحاجة إلى مثل هذا الجعل أيضا ؛ وذلك لأنّه بالإمكان أن يجعل الشارع ابتداء مثل هذه الأحكام التكليفيّة بالجعل الاستقلالي من دون جعل الأحكام الوضعيّة. نعم ، تكون هذه الأحكام الوضعيّة منتزعة منها ، وهذا معناه أنّ الجعل الاستقلالي لا طائل تحته ولا فائدة منه ما دام بالإمكان وجود تلك الأحكام التكليفيّة بمعزل عنها ، ففرضها موضوعا يمكن الاستغناء عنه بالجعل الابتدائي للأحكام التكليفيّة.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هناك معنى ولا فائدة لجعل الأحكام الوضعيّة ، بل بالإمكان جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه ، فيمكن للشارع أن يرتّب حقّ الاستمتاع والتمكين على نفس عنواني الزوج والمرأة من دون توسّط عنوان الزوجيّة ، ويمكنه أيضا أن يحكم بأنّ الماء الملاقي للنجاسة يحرم شربه من دون توسّط كونه نجسا ، وهكذا.

والجواب على هذه الشبهة : أنّ الأحكام الوضعيّة التي تعود إلى القسم الأوّل اعتبارات ذات جذور عقلائيّة ، الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفيّة وتسهيل صياغتها التشريعيّة ، فلا تكون لغوا.

إنّ الأحكام الوضعيّة المذكورة كالملكيّة والزوجيّة من الأمور العقلائيّة العرفيّة المرتكزة عندهم والتي يسيرون عليها بفطرتهم أو ببنائهم العرفي ، ولذلك أصبح لهذه الأحكام الوضعيّة تأصّلا وتجذّرا وارتكازا عندهم. وعلى هذا فالشارع عند ما أمضى هذه البناءات العقلائيّة كان الغرض من إمضائها وجعلها استقلالا أحد أمرين أو مجموعهما :

الأوّل : تنظيم الأحكام التكليفيّة حيث إنّ الأحكام الوضعيّة تكون محتوية وجامعة لعدد كبير من الأحكام التكليفيّة ، فبدلا من الإتيان بكلّ هذه الأحكام التكليفيّة في

ص: 51

كلّ مرحلة يمكنه الإتيان بهذا الحكم الوضعي الشامل لها جميعا. وهذا الأمر مستحسن عقلا ، وفيه فائدة وله أثر عملي وليس لغوا.

الثاني : تسهيل صياغة الأحكام التشريعيّة ؛ لأنّها مترتّبة على موضوعها وهو الحكم الوضعي ، فتوجد حيثما وجد من دون حاجة إلى إيجادها بجعل آخر جديد. فهذه الطريقة توفّر كثيرا من الجعولات ولذلك فلها فائدة عظيمة فليست لغوا.

ص: 52

شمول الحكم للعالم والجاهل

ص: 53

ص: 54

شمول الحكم للعالم والجاهل

وأحكام الشريعة - تكليفيّة ووضعيّة - تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم. وقد ادّعي أنّ الأخبار الدالّة على ذلك مستفيضة (1) ، ويكفي دليلا على ذلك إطلاقات أدلّة تلك الأحكام ، ولهذا أصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعي بين العالم والجاهل موردا للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ، إلا إذا دلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك في مورد.

الأحكام الشرعيّة سواء كانت تكليفيّة كالأحكام الخمسة ، أو كانت وضعيّة كالصحّة والفساد والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والسببيّة والطهارة والنجاسة - على قول - لا تختصّ بالعالم بها ، وإنّما هي مجعولة من قبل الشارع لكلّ الناس سواء في ذلك العالم بها والجاهل ؛ غاية الأمر أنّه لا منجزيّة على الجاهل إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير وتفريط منه ، وهذا الحكم بالاشتراك موجود في غالب الأحكام الشرعيّة لا في جميعها.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قد ادّعى كون الأخبار الدالّة على هذه القاعدة أي اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل مستفيضة ، وغيره ادّعى تواترها ، إلا أنّه في الحقيقة لا يوجد ما يدلّ على ذلك سوى بعض أخبار الآحاد ، فدعوى التواتر أو الاستفاضة غير تامّة.

ص: 55


1- بل قد ادّعى الشيخ الأنصاري في فرائده 1 : 113 أنّها متواترة. والظاهر أنّ المقصود بها أخبار الاحتياط الوارد جلّها في كتاب الوسائل الجزء 27 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، وذلك بدعوى أنّ هذه الأخبار لو لم تتمّ دلالتها على وجوب الاحتياط عند الشكّ ، فلا أقلّ من دلالتها على شمول الحكم الواقعي للإنسان الشاكّ ، وإن كان محكوما بالبراءة ظاهرا.

ولكن يكفي دليلا على قاعدة الاشتراك إطلاقات أدلّة الأحكام سواء التكليفيّة أو الوضعيّة ، فإنّ إطلاقها وعدم تقييدها بالعالم يعني كونها شاملة للعالم بها والجاهل على حدّ سواء ، فيتمسّك بهذا الإطلاق الظاهر في العموم والشمول لكلّ الأفراد من دون تقييد أو تخصيص للعالم فقط. وهذا الإطلاق حجّة ويكون كاشفا على أساس مقدّمات الحكمة أنّ المراد الجدّي للشارع هو الاشتراك لا الاختصاص.

وعلى هذا الأساس أصبحت قاعدة الاشتراك من الأمور المقبولة على وجه العموم بين الأصحاب ، بحيث يمكن دعوى الإجماع والتسالم على هذه القاعدة ، حيث إنّه لم يشذّ منهم أحد على دعوى الاشتراك ، ولهذا يكون الإجماع من الأصحاب دليلا آخر على صحّة هذه القاعدة.

نعم ، هناك بعض الموارد الخاصّة دلّ الدليل الخاصّ على عدم شمولها للجاهل ، وإنّما هي مختصّة بالعالم فقط. ولذلك عبّر السيّد الشهيد في كلامه بكلمة ( الغالب ). ومن هذه الموارد موارد الجهر والإخفات والإتمام والقصر ، فإذا جهر في مورد الإخفات جهلا أو بالعكس صحّ ذلك ، وكذا لو قصّر من حكمه الإتمام جهلا بالحكم فحكموا بصحّة صلاته.

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق إثبات استحالة اختصاص الحكم بالعالم ؛ لأنّه يعني أنّ العلم بالحكم قد أخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخّر الحكم رتبة عن العلم به وتوقّفه عليه وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

قد يقال في مقام الاستدلال على اشتراك الأحكام : إنّ اختصاص الأحكام بالعالم بها مستحيل ؛ حيث يلزم من ذلك أن يكون العلم قد أخذ موضوعا للعلم بالحكم ، وهذا يلزم منه عدّة محاذير لا يمكن الالتزام بها لاستحالتها ، وهي :

أوّلا : محذور الدور ببيان : أنّ العلم إذا أخذ قيدا في الحكم فيلزم كون الحكم موجودا في رتبة سابقة ليتعلّق به العلم ؛ لأنّ العلم مضاف إلى المعلوم وهو هنا الحكم ، والمفروض أنّ الحكم لا يثبت إلا إذا علم به ، وهذا لازمه أنّ الحكم متوقّف على العلم به ، والحال أنّ العلم متوقّف على ثبوت الحكم أوّلا فيدور.

وثانيا : محذور الخلف ببيان : أنّ العلم معناه الإراءة والانكشاف ، ففرض العلم

ص: 56

بالحكم يعني كونه منكشفا لدى العالم ، فإذا أخذ العلم قيدا في الحكم فمعناه أنّ الإراءة والانكشاف غير تامّين للعالم ، وهو خلف ؛ لأنّه عند ما يحصل العلم لا يحتاج إلى شيء آخر معه لتحقّق الانكشاف والإراءة لديه ، فإذا لا معنى لكون الانكشاف قيدا لثبوت الحكم ؛ إذ أخذه قيدا خلاف حقيقته ، فيؤدّي إلى لزوم التعارض والتناقض ولو في نظر المكلّف.

وثالثا : محذور التقدّم والتأخّر ببيان : أنّ الحكم متأخّر رتبة عن العلم به ؛ وذلك لأنّ الحكم متوقّف على العلم به ، وطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه تقتضي أن يكون الموضوع ثابتا أوّلا ، وهذا يعني فرض ثبوت العلم بعد ثبوت الحكم مع أنّ أخذ العلم قيدا معناه ثبوت العلم أوّلا ثمّ ثبوت الحكم ثانيا ؛ لأنّ المقيّد لا يوجد إلا بعد وجود القيد ، فيلزم كون العلم متقدّما ومتأخّرا عن الحكم معا وكذا العكس وهو محال.

ولكن قد مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه ، لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه.

هذا جواب من السيّد الشهيد على برهان الاستحالة وأنّه غير تامّ. وذلك كما تقدّم في الحلقة الثانية ، وبيانه : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوع الحكم المجعول ، وأمّا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول ، فلا مانع منه على أساس المبنى القائل بالفرق بين الجعل والمجعول.

فالجعل هو عالم الثبوت الواقعي للحكم في اللوح ، والمجعول هو عالم إثبات الحكم على المكلّفين في الخارج ، وصيرورته في ذمّتهم وعلى عهدتهم وذلك بعد تماميّة كلّ ما أخذ قيدا أو شرطا فيه.

وعلى هذا لا مانع من ورود أحكام من هذا القبيل كما هو الحال في القصر والإتمام والجهر والإخفات ، حيث إنّ الشارع اعتبر وجوب القصر على المكلّف العالم بالجعل ، فيكون العلم بجعل القصر مأخوذا في موضوع الحكم المجعول على المكلّف ، بحيث إنّه إذا لم يعلم بالجعل لا يكون هناك مجعول في حقّه ؛ لأنّه لا يكون هناك حكم أصلا ولو على مستوى الجعل. ولذلك فالأحكام على مستوى الجعل مشتركة

ص: 57


1- ضمن مباحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم.

بين العالم والجاهل بمعنى أنّها مشرّعة وثابتة في عالم الواقع التشريعي وعالم الاعتبار واللوح المحفوظ. وأمّا الأحكام على مستوى المجعول فهي تابعة لثبوت القيود والشروط فقد تثبت لشخص دون آخر.

وعليه ، فيمكن أخذ العلم بالحكم في عالم الجعل في موضوع الحكم المجعول ولا يلزم منه الدور أو الخلف.

ويترتّب على ما ذكرناه من الشمول : أنّ الأمارات والأصول التي يرجع إليها المكلّف الجاهل في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة قد تصيب الواقع ، وقد تخطئ. فللشارع إذن أحكام واقعيّة محفوظة في حقّ الجميع ، والأدلّة والأصول في معرض الإصابة والخطأ ، غير أنّ خطأها مغتفر ؛ لأنّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

ومن لوازم القول بقاعدة اشتراك الأحكام للجاهل والعالم هو القول بالتخطئة الذي انفردت به الإماميّة. ومعناه أنّ المكلّف والمجتهد قد يصيبان الحكم الواقعي اعتمادا على الأمارات والأصول وقد يخطئان الواقع ، وفي كلا الحالين هناك أحكام واقعيّة للشارع محفوظة سواء أصاب المكلّف أو المجتهد الواقع أو أخطأ. غاية الأمر أنّه في حال الخطأ يكون خطؤه مغتفرا ؛ لأنّ الشارع هو الذي أجاز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول حيث جعل لها الحجيّة.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف أو المجتهد عند ما يجهلان الحكم الواقعي أو يكون هناك شكّ يجوز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول التي جعلها الشارع حجّة في مورد الجهل والشكّ ، فإذا قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا المورد الحكم فيه الإباحة أو الحليّة أو الطهارة ، أو أنّ هذا الموضوع ليس خمرا مثلا ، فمقتضى جعل الحجيّة من الشارع للأدلّة والأصول جواز التعويل عليها. فإذا ارتكب ذلك فقد يكون مصيبا بأن يكون ما قامت عليه الأمارة أو الأصل مطابقا للحكم الواقعي ، وقد يكون مخطئا بأن لا تكون مطابقة للواقع ، إلا أنّه في حالة الخطأ يكون معذورا لاعتماده على ما هو حجّة شرعا. وهذا معناه انحفاظ الحكم الواقعي بحقّ العالم والجاهل ، وهو معنى التخطئة.

وفي مقابله ما يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو : أنّ أحكام اللّه تعالى ما يؤدّي

ص: 58

إليه الدليل والأصل ، ومعنى ذلك أنّه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وإنّما يحكم تبعا للدليل أو الأصل ، فلا يمكن أن يتخلّف الحكم الواقعي عنهما.

يوجد مقابل القول بالتخطئة الذي هو مذهب الإماميّة قول آخر بالتصويب وهو على قسمين :

الأوّل : التصويب الذي يقول به الأشاعرة وملخّصه : أنّ الأحكام الإلهيّة ليست ثابتة في مرحلة سابقة عن قيام الأمارة أو الأصل ، وإنّما تثبت الأحكام الإلهيّة وفقا لما قام عليه الدليل والأصل ، فالأحكام الإلهيّة تدور نفيا أو إثباتا مدار الأمارة والأصل ، فإذا قاما على الوجوب فيثبت الوجوب واقعا ، وإن قاما على الإباحة ثبتت الإباحة واقعا ، وقبل قيامهما لا وجود للأحكام الواقعيّة. وهذا معناه أنّ الأحكام الواقعيّة تابعة لرأي المجتهد الذي يستنبطه من الأمارة أو الأصل ، فاللّه تعالى يحكم وفقا لرأي المجتهد.

ولازم ذلك كون الأمارة أو الأصل مصيبة للواقع دائما ؛ لأنّ الواقع ينشأ على طبقهما فمن المستحيل الخطأ فيهما ، وهذا معنى التصويب.

وهناك صورة مخفّفة للتصويب ، مؤدّاها : أنّ اللّه تعالى له أحكام واقعيّة ثابتة من حيث الأساس ، ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة من أمارة أو أصل على خلافها ، فإن قامت الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.

القسم الثاني : من التصويب : هو التصويب الذي يقول به المعتزلة وملخّصه :

أنّه يوجد لله تعالى أحكام واقعيّة ثابتة في اللوح المحفوظ وفي عالم الواقع والجعل ، إلا أنّ هذه الأحكام الواقعيّة ليست ثابتة بنحو مطلق ، بل هي مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فإذا لم يقم على خلافها أمارة أو أصل فهذه الأحكام الواقعيّة ثابتة ومستمرّة ، وأمّا إذا قام على خلافها أمارة أو أصل فهذا يعني ارتفاع قيد استمرارها وبقائها ، وهذا يعني تبدّلها وتغيّرها وفقا لما قامت عليه الحجّة من أمارة أو أصل ، فمثلا إذا كان الحكم الواقعي حرمة شرب التتن وقامت الأمارة أو الأصل على حلّيّته ، فهذا يعني تبدّل الحرمة إلى الإباحة ؛ وذلك لأنّ الحرمة كانت مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فعند قيامها على الخلاف يرتفع موضوع الحرمة ؛ لارتفاع قيدها ويحلّ مكانها حكم آخر

ص: 59

هو الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة تصبح هي الثابتة والمستقرّة واقعا ما لم يتغيّر رأي المجتهد إلى رأي آخر أو يكتشف خطأ الأمارة أو الأصل. وهكذا تكون الأحكام الواقعيّة في حال تبدّل وتغيّر دائما تبعا للأمارة أو الأصل.

وهذا نحو من التصويب أيضا ؛ لأنّ معناه أنّ الحكم الواقعي يكون متلائما مع الأمارة والأصل دائما ، بل إنّه يتغيّر ويتبدّل وفقا لهما. ولكن هذا النحو أخفّ من النحو الأوّل ؛ لأنّه يفترض وجود أحكام واقعيّة في مرحلة متقدّمة بخلاف الأوّل فإنّه ينكر وجودها أصلا.

وكلا هذين النحوين من التصويب باطل :

أمّا الأوّل : فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث إنّ الأدلّة والحجج إنّما جاءت لتخبرنا عن حكم اللّه وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف تفترض أنّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!

الردّ على القسم الأوّل من التصويب وهو التصويب الأشعري : هو أنّ الأمارات والأصول إنّما جعلت لها الحجيّة في ظرف الشكّ في الحكم الواقعي الإلهي ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي في صورة مسبقة. وكذلك الأدلّة المحرزة فإنّها جاءت لتخبرنا عن الحكم الإلهي الواقعي لا لتنشأ حكما واقعيّا على وفق مؤدّاها ؛ ولذلك كانت كاشفا وطريقا إلى الواقع ، ولكنّها قد تكون كاشفا قطعيّا كما في القرآن والسنّة المتواترة والإجماع والعقل ، وقد تكون كاشفة كشفا ظنيّا كالأمارات التي جعلت لها الحجيّة. والأصول العمليّة جعلت لتحديد الموقف العملي اتّجاه الحكم الواقعي المجهول والمشكوك.

فكيف يقال : إنّ الأدلّة المحرزة والأمارات والأصول تثبت الحكم الواقعي مع أنّها جعلت وجاءت لتخبر عن الحكم الواقعي؟! فهذا خلاف ما هو المفروض فيها وعلى خلاف حقيقتها. وهذا شنيع ؛ لأنّه يفترض أنّ الشارع لم يكن حكيما حيث إنّه لم يعط أحكاما للناس مع وجود المصلحة أو المفسدة فيها.

وأمّا الثاني : فلأنّه مخالف لظواهر الأدلّة ، ولما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعيّة.

وأمّا الردّ على القسم الثاني وهو التصويب المعتزلي فأوّلا : إنّ ظواهر الأدلّة الدالّة

ص: 60

بعمومها وبإطلاقها على الأحكام معناها أنّ الأحكام الواقعيّة التي يسلّم هؤلاء بوجودها مطلقة وعامّة وليست مقيّدة ، فالتقييد مخالف للظاهر من الأدلّة.

وثانيا : مخالف للإجماع والتسالم على أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم بها والجاهل على حدّ سواء. فإنّ اشتراكهما في الأحكام يعني أنّ الأحكام الإلهيّة ثابتة مطلقا سواء علم بها أو جهل ولا تتبدّل ولا تتغيّر (1).

ص: 61


1- ثمّ لا بأس بالتنبيه على النكتة التي أدّت للقول بالتصويب بأحد نحويه فنقول : ذكروا أنّ أحكام اللّه تعالى ليست شاملة لكلّ الحوادث والجزئيّات وإلا للزم بيان أحكامها في الكتاب أو السنّة ، ومن المعلوم أنّ الكتاب والسنّة محدودان في عدد من المسائل والحوادث لا كلّها. وأمّا الحوادث التي لم يتعرّض الكتاب أو السنّة لبيانها ، فهي موكولة إلى علماء الإسلام القادرين على الاجتهاد وبذل الجهد والوسع لمعرفة أحكامها من الأدلّة والأصول التي جعلت لها الحجيّة. وهذا يعني أنّه لا يوجد حكم إلهي واقعي مسبقا ، وإنّما الحكم الإلهي لهذه الحوادث والجزئيّات يتبع رأي المجتهد ونظره ، ولذلك تكون أحكام المجتهد مصيبة دائما. وهذه النكتة غير مقبولة ؛ لأنّ لازمها وجود أحكام واقعيّة متناقضة ومتعارضة في الحادثة الواحدة ؛ وذلك فيما إذا اختلفت آراء المجتهدين فيها تحريما وتحليلا مثلا ، فتكون حادثة واحدة واجبة ومباحة أو محرّمة ومحلّلة واقعا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني اجتماع الضدّين واقعا ويعني أنّ اللّه تعالى يحكم بالضدّين معا وهو محال.

ص: 62

الحكم الواقعي والظاهري

ص: 63

ص: 64

الحكم الواقعي والظاهري

ينقسم الحكم الشرعي - كما عرفنا سابقا - إلى واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، وظاهري أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق. وقد كنّا نقصد حتّى الآن في حديثنا عن الحكم الأحكام الواقعيّة.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ الحكم الشرعي ينقسم إلى حكم واقعي وإلى حكم ظاهري.

فالحكم الواقعي : هو ما لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، بل الحكم ثابت على موضوعه ابتداء من دون قيد أو شرط زائد على الموضوع ، سواء كان الحكم مطلقا أو مقيّدا ، كالحكم بوجوب الصلاة الثابت للصلاة نفسها من دون أيّة مدخليّة لشيء آخر.

والحكم الظاهري : هو ما أخذ في موضوعه الشكّ سواء كان الشكّ تمام الموضوع أو جزأه ، فالأوّل كالأصول العمليّة والثاني كالأمارات الظنيّة الكاشفة. فيكون الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يفترض أنّ الحكم الواقعي سابق رتبة في وجوده عن الحكم الظاهري ؛ لأنّ الحكم الواقعي قد أخذ الشكّ فيه موضوعا للحكم الظاهري. ومن المعلوم أنّ الموضوع متقدّم في وجوده على الحكم ولو رتبة. وعليه ، فإذا علم بالحكم الواقعي ارتفع موضوع الحكم الظاهري ؛ لارتفاع موضوعه إذ مع العلم لا شكّ. ثمّ إنّ الكلام يقع في كلا القسمين :

أمّا الحكم الواقعي : فهو يشتمل على الملاك والإرادة والاعتبار ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) أنّ مرحلة الثبوت للحكم - الحكم الواقعي -

ص: 65


1- ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

تشتمل على ثلاثة عناصر ، وهي : الملاك والإرادة والاعتبار. وقلنا : إنّ الاعتبار ليس عنصرا ضروريا ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي.

ونريد أن نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالبا.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ مرحلة ثبوت الحكم التي هي عالم الجعل والتشريع تحتوي على ثلاثة عناصر ، فالشارع إذا أراد تشريع حكم فإنّ هذا الحكم ثبوتا يمرّ في ثلاث مراحل ، ثمّ بعد ذلك يخرج إلى عالم الإثبات والجعل على ذمّة المكلّف والدخول في عهدته. وهذه المراحل الثلاث هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يشتمل عليها الفعل.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة التي تنشأ على ضوء المصلحة أو المفسدة في الفعل.

والاعتبار - وهو في الغالب يستخدم لأجل صياغة وإنشاء الحكم - : هو عنصر ليس من الضروري وجوده في عالم الثبوت وليس من مراحل ثبوت الحكم ؛ لأنّه عمل تنظيمي صياغي إنشائي للحكم.

والعنصر الثالث هو نفسه الاعتبار وليس شيئا آخر مغايرا له ، وإنّما عبّر السيّد الشهيد بما يوهم التغاير لأجل الدلالة على أنّ المولى في الغالب يستخدم نفس الاعتبار للدلالة على حكمه وتشريعه ، إلا أنّه قد يبرز الإرادة والملاك والشوق من دون توسّط الاعتبار كما سيأتي توضيحه ، إذا فهناك نحوان من الاعتبار :

أحدهما الاعتبار في مرحلة الثبوت : وهو يعني الشوق المدلولي وحقّ الطاعة.

والآخر الاعتبار في مرحلة الإثبات : وهو يعني الصياغة الإنشائيّة لهذا الشوق والحقّ ، وقد يتّحدان وقد يختلفان.

وتوضيحه أنّ المولى كما أنّ له حقّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه ، كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة في حالات إرادته شيئا من المكلّف ، فليس ضروريا - إذا تمّ الملاك في شيء وأراده المولى - أن يجعل نفس ذلك الشيء في عهدة المكلّف مصبّا لحقّ الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدّمة ذلك الشيء التي يعلم المولى بأنّها مؤدّية إليه في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ،

ص: 66

فيكون حقّ الطاعة منصبّا على المقدّمة ابتداء وإن كان الشوق المولوي غير متعلّق بها إلا تبعا.

حاصل ما يمكن أن يقال في توضيح حقيقة العنصر الثالث المسمّى بالاعتبار في الغالب : إنّ المولى له حقّ الطاعة على عبيده في كلّ الأمور التي يريدها منهم ، وكذلك له الحقّ في تحديد مركز حقّ الطاعة وأنّه في هذا الشيء دون ذاك. فإنّ ذلك كلّه من شئون مولويّته التي يعملها كيفما شاء وحيثما شاء. وعليه ، فإذا أراد المولى شيئا من المكلّف ، بأن يكون حصل له ملاك وإرادة ومحبوبيّة وشوق لهذا الفعل مثلا كالصلاة ، فليس من الضروري إذا اكتملت مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق في هذا الفعل المراد أن يجعل المولى نفس ذلك الشيء الذي هو الصلاة في عهده المكلّف ، بحيث يكون مصبّ حقّ الطاعة هو نفس الصلاة بأن يقول : ( صلّ ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، بل بالإمكان أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر غير نفس الشيء الذي أراده ، بأن يجعل مصبّ حقّ الطاعة على مقدّمة ذاك الفعل التي تؤدّي إليه دائما ولا تنفكّ عنه ، فيأمر بتلك المقدّمة على نحو الاستقلاليّة إثباتا وإن لم تكن مشتملة على مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق مولوي ، حيث إنّ هذه المبادئ متعلّقة بالفعل نفسه لا بمقدّمته.

وهذا معناه أنّ الشوق المولوي والإرادة قد تعلّقا بشيء وهو ذات الفعل كالصلاة ، بينما مصبّ حقّ الطاعة كان متعلّقا بشيء آخر مغاير لما يتعلّق به الشوق المولوي ، إلا أنّه توجد علاقة وارتباط بين هذا الشيء وبين مقدّمته بحيث إنّه يترتّب الفعل عليها دائما ولا يتخلّف عنها.

فلا فرق بين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة على ذات الفعل الذي تعلّق به الشوق المولوي ابتداء وأصالة ، وبين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة مقدّمة هذا الشيء الموصلة له دائما ، فيكون الشوق المولوي متعلّقا بها بالتبعيّة لذي المقدّمة. فالنتيجة في الحالين واحدة وهو أنّ الفعل المراد لا بدّ من امتثاله وتحقّقه من المكلّف.

وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدّده المولى عند إرادته لشيء مصبّا له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادة للكشف عن المصبّ الذي عيّنه المولى لحقّ الطاعة ، فقد يتّحد مع مصبّ إرادته وقد يتغاير.

ص: 67

والنتيجة هي أنّ المولى على أساس حقّ الطاعة الثابت له بمولويّته الذاتيّة على المكلّفين له الحقّ بأن يحدّد مصبّ حقّ الطاعة ، كما له حقّ الطاعة على المكلّفين. فإذا أراد شيئا فإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة نفس ذلك الشيء ، وإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر يؤدّي إلى ذلك الشيء المراد حتما. فيكون الداخل في عهدة المكلّف هو هذا المصبّ لحقّ الطاعة ، وحينئذ فالاعتبار حقيقته هو الكشف عن هذا المصب ، الذي جعله المولى لحقّ طاعته. والاعتبار هو الذي يستخدم غالبا وعادة لبيان هذا المصبّ ، وإلا فبإمكان المولى أن يبيّن مصبّ حقّ الطاعة بنحو آخر غير الاعتبار ، بأن يبيّن الملاك للمكلّف مباشرة من دون توسّط الوجوب ونحوه. وهذا يتحقّق في القضايا الخارجيّة غالبا ، وهذا النحو يسمّى بالإبراز الذي يشمل الاعتبار أيضا (1)

ومن هنا فالاعتبار قد يتّحد مع مصبّ إرادة المولى بأن يكون الاعتبار كاشفا عن المصبّ الذي أراده المولى مباشرة ، وقد يكون الاعتبار مغايرا لمصبّ إرادة المولى بأن يصوغ المولى الحكم على المقدّمة المؤدّية إلى الشيء المراد ، ومثاله : أن يكون الغرض المولوي والمطلوب الحقيقي هو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. فهنا إمّا أن يصوغ الاعتبار بنحو متّحد مع هذا المراد فينهى عن الفحشاء بأحد الصيغ ، أو يصوغ الاعتبار على المقدّمة الموصلة لهذا الانتهاء كالصلاة مثلا فيأمر بها ؛ لأنّها مؤدّية إلى الانتهاء بنظر الشرع.

هذا بالنسبة للحكم الواقعي.

وأمّا الأحكام الظاهريّة فهي مثار لبحث واسع ، وجّهت فيه عدّة اعتراضات للحكم الظاهري تبرهن على استحالة جعله عقلا (2) ، ويمكن تلخيص هذه البراهين فيما يلي :

ص: 68


1- فالإبراز أعمّ من الاعتبار ؛ لأنّه يشمل حالات إبراز الملاك من دون جعل الحكم والوجوب ومن دون اعتبار له على ذمّة المكلّف ، بينما الاعتبار معناه خصوص إبراز الملاك والحكم ، فجعله على ذمّة المكلّف بنحو فيه إعمال للقانونيّة التشريعيّة المولويّة.
2- أثيرت هذه الشبهة حول حجيّة خبر الواحد غير القطعي من قبل محمّد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة على ما نسب إليه في المعالم : 189 ، كما نسب إليه الشبهة المذكورة أيضا حول حجيّة مطلق الأمارات غير القطعيّة في كتاب أجود التقريرات 2 : 63.

أمّا الأحكام الظاهريّة المجعولة في مقام الشكّ في الحكم الواقعي فقد وقعت محلاّ للبحث الواسع بين الأصوليّين بين مؤيّد ومنكر لها. وهناك عدّة اعتراضات تبيّن أن جعل الأحكام الظاهريّة مستحيل وغير ممكن الوقوع. ويمكن تلخيص هذه الشبهات التي جعلوها براهين على الاستحالة بثلاثة ، يطلق عليها شبهات ابن قبة.

وفي الحقيقة كان لهذه الشبهات والاعتراضات الأثر الكبير على علم الأصول حيث نقّحت مسائله وأدّت إلى تطوير وتوسيع البحث فيه. فكان لها دور مهم في ذلك ، وهذه الشبهات هي :

الأولى : إنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ لأنّ الحكم الواقعي ثابت في فرض الشكّ بحكم قاعدة الاشتراك المتقدّمة ، وحينئذ فإن كان الحكم الظاهري المجعول على الشاكّ مغايرا للحكم الواقعي نوعا كالحليّة والحرمة لزم اجتماع الضدّين ، وإلا لزم اجتماع المثلين.

مفاد هذه الشبهة أنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى المستحيل فهو غير ممكن ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو إلى اجتماع المثلين وكلاهما محال ، إذن جعله محال أيضا ؛ لأنّ ما يؤدّي إلى المحال محال كذلك. وبيان هذه الاستحالة :

إنّه بناء على القول الصحيح من كون الأحكام مشتركة بحقّ العالم بها والجاهل لازمه أنّ الحكم الواقعي ثابت ولا يتغيّر حتّى في فرض الجهل والشكّ به ، وحينئذ ففي فرض الشكّ يكون الحكم الواقعي ثابتا إلا أنّ الشاكّ لا يعلم به ، ولذلك يجري الأصول أو الأمارات لتحديد وظيفته اتّجاه هذا الواقع المشكوك. فإن أدّى إجراؤه للحكم الظاهري إلى إثبات حكم آخر مغاير للحكم الواقعي في نوعه كأن يكون الحكم الواقعي الحرمة ، ويكون مؤدّى الحكم الظاهري الحليّة أو العكس ، فهنا سوف يجتمع حكمان متضادّان على واقعة واحدة وهذا مستحيل ؛ لأنّه في الواقعة الواحدة لا يوجد إلا حكم تكليفي واحد لا حكمان. وإذا أدّى الحكم الظاهري إلى إثبات حكم مماثل للحكم الواقعي كأن يكونا معا واجبين فيؤدّي إلى اجتماع المثلين وهو محال أيضا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيكون جعله لغوا. ففي كلا الحالين لا مجال لجعل الحكم الظاهري ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحال (1).

ص: 69


1- وهذا الإشكال إنّما يرد على القول بالتخطئة كما هو الصحيح عندنا. وأمّا على القول ...... بالتصويب سواء عند الأشاعرة أو المعتزلة فلا يرد هذا الإشكال ؛ لأنّه لا يوجد حكم واقعي أو أنّه يتغيّر وفقا للحكم الظاهري ، فلا يؤدّي جعل الحكم الظاهري إلى وجود حكمين متضادّين أو متماثلين.

وما قيل سابقا (1) من أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ لأنّهما سنخان ، مجرّد كلام صوري إذا لم يعط مضمونا محدّدا ؛ لأنّ مجرّد تسمية هذا بالواقعي وهذا بالظاهري لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة وهي متضادّة.

هذا جواب عن الشبهة وردّه :

أمّا الجواب ، فقد قال الشيخ الأنصاري وتلميذه الشيرازي : إنّ هذه الشبهة تندفع بأن يقال : إنّه لا مانع من اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين أحدهما واقعي والآخر ظاهري ؛ وذلك لأنّ كلاّ منهما له سنخيّة تختلف عن الآخر. فإذا كانت لكلّ منهما سنخيّة غير الأخرى فهذا يعني اختلاف الجهة في الحكمين المتضادّين أو المتماثلين فلا استحالة. وهذه السنخيّة هي أنّ الحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ بينما الحكم الظاهري قد أخذ في موضوعه الشكّ في حكم مسبق ، وهذا يعني الطوليّة بين الحكمين فلم يكن هناك اجتماع بينهما ؛ لأنّه عند تحقّق الحكم الواقعي يرتفع موضوع الحكم الظاهري ، وعند تحقّق موضوع الحكم الظاهري لا تحقّق للحكم الواقعي ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر ولا يمكن اجتماعهما في رتبة واحدة. وأمّا الردّ فهو أنّ هذا الكلام مجرّد كلام صوري وشكلي ؛ لأنّه لم يحاول أن يبيّن حقيقة الحكمين الواقعي والظاهري ، وإنّما فرّق بينهما بلحاظ السنخيّة المذكورة وهذه ليست إلاّ مجرّد تسمية ، وهي لا تحلّ الإشكال ؛ لأنّ تسمية هذا الحكم بالواقعي وذاك بالظاهري لا يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ وذلك لأنّهما لا يخرجان عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة ، وقد تقدّم أنّها متضادّة يستحيل اجتماعها (2) في مورد واحد ، وبهذا

ص: 70


1- في الحلقة الثانية من هذا الكتاب ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : اجتماع الحكم الواقعي والظاهري.
2- واجتماعهما يكون بلحاظ ثبوت الحكم الواقعي سواء علم المكلّف به أم لا ، ممّا يعني أنّ ..... وصول الحكم الظاهري سواء كان مطابقا أم مغايرا للحكم الظاهري سوف يؤدّي إلى التضاد أو التماثل. وما قيل : من أنّه إذا تحقّق موضوع أحدهما ارتفع موضوع الآخر ناظر إلى مرحلة الفعليّة والتنجيز بالنسبة للمكلّف ، وليس ناظرا إلى الواقع ؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يرتفع بوصول الحكم الظاهري إلى المكلّف وإلا كان تصويبا باطلا كما لا يخفى. كما أنّه في حالة اجتماع المثلين لا يكون الثاني مؤكّدا للأوّل ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت كانت كاملة وتامّة من جميع الجهات ولا تحتاج لشيء زائد فيكون التأكيد لغوا لكونه تحصيلا للحاصل.

يتّضح أنّ الشبهة لا تزال مستحكمة ؛ لأنّ مجرّد الاختلاف في المحمول وكون هذا ظاهريّا وذاك واقعيّا لا يفيد ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان متضادّان وقد اجتمعا في واقعة واحدة وهو مستحيل ، وهذه الاستحالة يدركها العقل النظري الذي يدرك ما هو كائن وواقع.

الثانية : أنّ الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي - فحيث إنّ الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك - يلزم من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة وتفويت المصالح الواقعيّة المهمّة عليه.

تقدّم أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة حتّى في فرض الجهل بها بناء على اشتراك الأحكام للعالم والجاهل ، وهذا معناه أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه المتقدّمة وهي الملاك والإرادة حتّى في صورة الشكّ.

وحينئذ يقال : إنّ جعل الحكم الظاهري في صورة مخالفته للحكم الواقعي المحفوظ بمبادئه كلّها يلزم منه ثلاثة محاذير :

الأوّل : نقض المولى لغرضه ببيان : أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه ، وهذا يعني أنّ المولى له ملاك وإرادة وشوق في هذا الحكم الواقعي ، فإذا كان للمولى غرض في جعل الحكم الواقعي فكيف يسمح بتفويت هذا الغرض من المكلّف في صورة اعتماده على الحكم الظاهري المخالف للواقع؟! والحال أنّ الشارع الحكيم يكون ملتفتا إلى أنّ الاعتماد على الحكم الظاهري سوف يفوّت غرضه في صورة مخالفته للواقع ، فكيف يعقل بحقّه جعل مثل هذا الحكم؟!

ص: 71

الثاني : إلقاء المكلّف في المفسدة ؛ لأنّ الاعتماد على الحكم الظاهري المخالف للواقع معناه أنّ المكلّف قد فعل ما يجب تركه أو ترك ما يجب فعله ، وهذا معناه إلقاؤه في المفسدة المترتّبة على مخالفة المبادئ الواقعيّة للحكم.

ومثل هذا يقبح صدوره من الشارع الحكيم العادل بناء على مذهب العدليّة من المعتزلة والإماميّة. فإنّ اللّه عزّ وجلّ يستحيل أن يصدر منه خلاف العدل ، والإلقاء في المفسدة خلاف عدله.

الثالث : تفويت المصالح الواقعيّة المهمّة على المكلّف ؛ وذلك لأنّ مبادئ الحكم الواقعي محفوظة حتّى في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، وهذا يعني أنّ المصلحة الموجودة في الفعل أو الترك واقعا سوف تفوت على المكلّف في صورة مخالفة الحكم الظاهري للواقع ، وتفويت المصالح على المكلّفين من الشارع الحكيم قبيح (1).

الثالثة : أنّ الحكم الظاهري من المستحيل أن يكون منجّزا للتكليف الواقعي المشكوك ومصحّحا للعقاب على مخالفة الواقع ؛ لأنّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الأصل أو الأمارة المثبتين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان - والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص.

مفاد هذه الشبهة هو أنّ جعل الحكم الظاهري يتعارض مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. توضيح ذلك : إنّ الحكم الظاهري تارة يكون مؤمّنا عن التكليف وأخرى يكون منجّزا له.

ص: 72


1- وهذه المحاذير الثلاثة يدركها العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون ، فيدرك أنّ الشارع العاقل الحكيم العادل لا ينبغي أن يصدر منه مثل هذه الأمور ؛ لأنّ تفويت الغرض خلاف الحكمة ، والإلقاء في المفسدة خلاف العدل ، وتفويت المصلحة على العباد قبيح. وما دامت هذه المحاذير مترتّبة على جعل الحكم الظاهري ، فهذا معناه أنّ مثل هذا الجعل لا يمكن صدوره عن الشارع وإلاّ لزم هذه النتائج المستحيلة ، وما يؤدّي إلى المحال يكون محالا مثله. وأمّا على غير مذهب العدليّة فعندهم أنّه لا يقبح صدور شيء من هذه الأمور من الشارع ؛ لأنّ ما يصدر منه حسن دائما حتّى هذه الأمور ، فإنّها إذا صدرت من الشارع فيحكم بحسنها.

فإذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتأمين عن التكليف الواقعي المشكوك فهو يؤيّد مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا تعارض بينهما في هذه الصورة ؛ لأنّهما يثبتان معا المؤمّنيّة والمعذّريّة إلا أنّه لا داعي لجعله حينئذ ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا إذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتنجيز فهذا يعني أنّ مؤدّاه ثبوت التكليف على العهدة ، ولازم ذلك اشتغال الذمّة بالتكليف وصحّة العقاب على تركه ، إلا أنّ هذا مستحيل وذلك لأنّ ظرف جريان الحكم الظاهري سواء الأصل أو الأمارة هو فرض الشكّ في الحكم الواقعي ، ومع فرض الشكّ في الواقع يكون المورد مجرى للقاعدة العقليّة بقبح العقاب بلا بيان التي تثبت التأمين والمعذّريّة ، والأصل والأمارة لا يثبتان البيان والعلم بالواقع ؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يستفاد منهما الظنّ بالواقع ومع الظنّ يبقى الواقع مجهولا غير معلوم ؛ لأنّ الشكّ المفترض أعمّ من الشكّ والظنّ ، وحينئذ فلا يخرج هذا المورد عن كونه مشكوكا حتّى مع قيام الأمارة والأصل على إثبات التكليف. وهذا معناه أنّ الحكم الظاهري يستحيل أن يكون منجّزا للتكليف ومصحّحا للعقاب على تركه ؛ لأنّه معارض لحكم العقل بالتأمين في هذا الفرض المشكوك. نعم في صورة قيام الحكم الظاهري على التأمين لا مانع ولا استحالة.

ولا يقال هنا : إنّ الحكم الظاهري المثبت للتكليف والمنجّزيّة يكون مخصّصا للقاعدة العقليّة المذكورة وبالتالي يتقدّم عليها ؛ لأنّ الأخصّ يتقدّم على الأعمّ حيث إنّه مع قيام الحكم الظاهري على التنجيز يثبت البيان.

لأنّه يقال : إنّ القاعدة المذكورة من الأحكام العقليّة ، ومن المعلوم أنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص أو التقييد ؛ لأنّ موضوعها إمّا أن يتحقّق أو لا يتحقّق ، فهو بمثابة العلّة إذا وجدت وجد المعلول وإذا انتفت انتفى. وهكذا الحال بالنسبة لموضوع القواعد العقليّة فإذا تحقّق فلا مجال لرفع اليد عن الحكم وإلا فلا يتحقّق الحكم أصلا.

وفي مقامنا المورد هو صورة الشكّ والجهل بالواقع وهذا هو نفس موضوع القاعدة العقليّة ، فيتحقّق الحكم وهو قبح العقاب. ولا مجال لرفع اليد عن هذا الحكم ما دام موضوعه ثابتا ومتحقّقا وجدانا ؛ إذ عدم البيان لا يزال ثابتا ومعه يستحيل أن يثبت

ص: 73

التنجيز بالحكم الظاهري ؛ لأنّه يعني التخصيص لهذه القاعدة مع ثبوت موضوعها وهو محال ؛ لأنّه أشبه بالتفكيك بين العلّة والمعلول ، وعليه فيستحيل صدور مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا فائدة منه لأنّ ثبوت التنجيز مستحيل وثبوت التأمين حاصل أيضا ، إلا أن يقال بالتخصّص الذي هو ملاك الورود فيكون الحكم الظاهري واردا لا حاكما وسيأتي بيانه.

ص: 74

شبهة التضادّ و نقض الغرض

ص: 75

ص: 76

شبهة التضادّ ونقض الغرض

أمّا الاعتراض الأوّل فقد أجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) من أنّ إشكال التضادّ نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري حكم تكليفي ، وأنّ حجيّة خبر الثقة مثلا معناها جعل حكم تكليفي يطابق ما أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمّى بجعل الحكم المماثل ، فإن أخبر الثقة بوجوب شيء وكان حراما في الواقع تمثّلت حجيّته في جعل وجوب ظاهري لذلك الشيء وفقا لما أخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدّين ، وهما : الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

الجواب الأوّل : ما ذكره الميرزا النائيني رحمه اللّه من أنّ إشكال التضادّ المذكور إنّما نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي حكمان تكليفيّان فعندئذ يقال : إنّ الحكم الظاهري الذي هو حكم تكليفي معناه جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي ، فمثلا خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري جعلت الحجيّة له معناه جعل حكم مماثل على طبق ما أخبر عنه الثقة من أحكام تكليفيّة كالوجوب والحرمة ونحوهما.

فهنا إذا كان ما أخبر عنه الثقة من وجوب مطابقا للواقع يكون هناك حكمان تكليفيّان بالوجوب على واقعة واحدة وهو معنى اجتماع المثلين ، وإذا كان ما أخبر عن الثقة من الوجوب مغايرا للواقع بأن كان الحكم الواقعي الحرمة فهذا معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

فالإشكال والمحذور إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ الحكم الظاهري كالواقع حكم تكليفي ، وقلنا بجعل الحكم المماثل في الحكم الظاهري كما هو قول الأصفهاني والخراساني في بعض عباراته.

ص: 77


1- فوائد الأصول 3 : 105.

ولكنّ الافتراض المذكور خطأ ؛ لأنّ الصحيح إنّ معنى حجيّة خبر الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تامّا عن مؤدّاه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم التكليفي الواقعي ليلزم اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين ؛ وذلك لأنّ المقصود من جعل الحجيّة للخبر مثلا جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يحكي عنها ، وهذا يحصل بجعله علما وبيانا تامّا ؛ لأنّ العلم منجّز سواء كان علما حقيقة كالقطع ، أو علما بحكم الشارع كالأمارة. وهذا ما يسمّى بمسلك جعل الطريقيّة.

وأمّا إذا قلنا بمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة فلا يتوجّه الإشكال وبيان ذلك :

إنّ المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة عن الحكم الواقعي ، فجعل الحجيّة معناها الكاشفيّة والطريقيّة وهي حكم وضعي وليست حكما تكليفيّا ، فالحجيّة التي هي الطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل التي تنالها يد الشارع رفعا ووضعا ابتداء واستقلالا وليست متوقّفة على الحكم التكليفي أصلا بخلاف الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة كالجزئيّة والشرطيّة ، فإنّها تابعة للحكم التكليفي. فجعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله علما وكاشفا تامّا بعد أن كان خبر الثقة كاشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع ، فعند ما اعتبره الشارع حجّة يعني جعله كالعلم فهو يخبر ويكشف عن الواقع لا أنّه يوجد به حكما تكليفيا زائدا عمّا هو موجود في الواقع ، وهذا معناه وجود حكم واقعي تكليفي واحد وخبر الثقة كاشف وطريق يوصل إليه ، فإذا كان مؤدّى خبر الثقة مطابقا للواقع فالمنجّزيّة في الحقيقة للحكم الواقعي وإن أخطأه ، بأن قام خبر الثقة على الوجوب وكان الحكم الواقعي الحرمة فلا ينشأ حكم واقعي آخر مماثل للواقع ، بل يكون حال خبر الثقة عندئذ حال العلم خطأ في كونه معذّرا وموجبا لتوهّم المنجزيّة واستحقاق العقوبة على الترك ، وعليه فلا يلزم من جعل الحجيّة لخبر الثقة اجتماع حكمين تكليفيّين متماثلين أو متضادّين أصلا ، بل جعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يكشف ويحكي عنها ، وجعل المنجّزيّة لخبر الثقة لا يمكن أن يكون ثابتا للخبر بما هو هو ؛ لأنّه بنفسه كاشف ظنّي غير تامّ عن الواقع ، بل لا بدّ من اعتباره بيانا وعلما وكاشفا تامّا عن الواقع لتثبت له المنجّزيّة وهذا ما يسمّى بتتميم الكشف ، فالشارع عند ما جعل الحجيّة تمّم له الكشف الناقص وجعله كاشفا تامّا تعبّدا ، ولذلك تثبت له المنجّزيّة تبعا لصيرورته بيانا وعلما.

ص: 78

وعليه فالمنجّزيّة ثابتة للعلم وهو الكاشف التامّ ولا يمكن ثبوتها لخبر الثقة بنفسه ؛ لأنّه كاشف ناقص ولا يمكن جعلها له مباشرة من الشارع ؛ لأنّها ليست بيد الشارع جعلا ورفعا ، إلا أنّ الشارع لمّا جعل الحجيّة لخبر الثقة وتمّم له الكشف الناقص وجعله تامّا وبيانا وكاشفا فهذا يعني أنّه اعتبره علما ، وحينئذ تثبت له المنجّزيّة ؛ لأنّه من شئون العلم سواء كان العلم حقيقيّا كالقطع أو كان العلم تعبّديا ومجعولا من الشارع كالأمارات.

فهذا الإشكال ينحلّ بأنّ المجعول في الحكم الظاهري هو جعل الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة ، وبأنّ هذا الجعل ليس حكما تكليفيّا بل هو حكم وضعي ، فالحكم الواقعي واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، ولذلك لا تضادّ ولا تماثل لأنّه لا يوجد حكمان تكليفيّان.

والجواب على ذلك : أنّ التضادّ بين الحكمين التكليفيّين ليس بلحاظ اعتباريهما حتّى يندفع بمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من اعتبار الحكم التكليفي إلى اعتبار العلميّة والطريقيّة ، بل بلحاظ مبادئ الحكم كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

إنّ الجواب المذكور من المحقّق النائيني قدس سره لا يحلّ مشكلة اجتماع المثلين أو الضدّين ؛ وذلك لأنّ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة ليس بلحاظ الاعتبار ليقال مثلا بأنّ الحرمة حكم واقعي تكليفي والوجوب حكم ظاهري وضعي بمعنى جعل العلميّة والكاشفيّة التامّة ؛ لما تقدّم من أنّ الاعتبار سهل المئونة ؛ إذ ليس هو إلاّ مجرّد صياغة إنشائيّة لمبادئ الأحكام بما تشتمل عليه من مصلحة أو مفسدة ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة. فمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من كونه تكليفيّا إلى كونه علما وطريقا لا يفيد في حلّ الإشكال ؛ لأنّه إنّما يتعرّض لعالم الاعتبار والذي لا تضادّ فيه بين الأحكام التكليفيّة. وإنّما التضادّ بين الحكمين التكليفيّين يتصوّر بلحاظ المبادئ ، بأن يكون واقعا يوجد ملاكان أحدهما المصلحة والمحبوبيّة والآخر المفسدة والمبغوضيّة للشيء الواحد ، فإنّ ثبوتهما معا محال ؛ لأنّهما متضادّان لا يعقل وجودهما في واقعة واحدة معا. فيبقى الإشكال المذكور على حاله ولذلك قال السيّد الشهيد :

ص: 79


1- ضمن بحث ( الحكم الشرعي وأقسامه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

وحينئذ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهري ناشئ من مصلحة ملزمة وشوق في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم ، حصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة مهما كانت الصيغة الاعتباريّة لجعل الحكم الظاهري. وإن قيل بعدم نشوئه من ذلك - ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهري - زال التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، سواء جعل هذا حكما تكليفيّا أو بلسان جعل الطريقيّة.

بعد أن اتّضح أنّ مسألة تغيير الاعتبار والصياغة من الحكم التكليفي إلى جعل العلميّة والطريقيّة لا تفيد في حلّ الإشكال نقول : إنّ هذا الحكم الظاهري إمّا أن يكون ناشئا من مبادئ مستقلّة موجودة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ، وإمّا أن لا يكون ناشئا من ذلك.

فإن كان الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ وملاكات وإرادة وشوق ومحبوبيّة في نفس فعل المكلّف الذي قام خبر الثقة على وجوبه فهذا معناه أنّ الوجوب الذي هو مؤدّى خبر الثقة فيه مصلحة ملزمة ومحبوبيّة وشوق مولوي ، وهذا يعني أنّه مشتمل على مبادئ الوجوب فعندئذ يحصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. ولا تحلّ هذه المشكلة سواء قلنا بأنّ الحكم الظاهري مفاده جعل العلميّة والطريقيّة التي هي حكم وضعي أو قلنا بأنّ مفاده جعل حكم مماثل للحكم الواقعي ؛ لأنّ التنافي واقع بينهما لا محالة بلحاظ المبادئ ، وتغيير الصياغة الاعتباريّة المذكورة لا تفيد ولا تضرّ ؛ لأنّه لا تضادّ أصلا بلحاظ الاعتبار والإنشاء الخالي من المبادئ.

وإن لم يكن الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ خاصّة ومستقلّة في فعل المكلّف ، بل كانت هذه المبادئ ثابتة في نفس جعل هذا الحكم كما هو قول السيّد الخوئي الآتي مثلا ، فحينئذ لا تعارض ولا تنافي بين الحكمين ( الوجوب والحرمة ) ؛ لأنّه لا يوجد مبادئ في نفس الفعل زائدا عن المبادئ الثابتة واقعا ، ولذلك لا يضرّنا تسمية الحكم الظاهري بجعل الحكم المماثل أو بجعل الطريقيّة ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة إنشائيّة لا تضادّ فيها.

والحاصل : أنّ المهمّ في الجواب عن الإشكال إنكار وجود مبادئ مستقلّة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ؛ لأنّ التعارض بين الوجوب والحرمة إنّما هو

ص: 80

بلحاظ المبادئ سواء كان جعل الحكم الظاهري بلسان جعل الحكم المماثل أو بلسان جعل العلميّة والطريقيّة.

وهذا لا يستفاد من جواب المحقّق النائيني ؛ لأنّه إنّما غيّر الصياغة الاعتباريّة فقط ولم يتعرّض للمبادئ وأنّها موجودة أو ليست موجودة. فالإشكال على حاله إذن (1).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ (2) من أنّ التنافي بين الحرمة والوجوب مثلا ليس بين اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مبغوضا ومحبوبا ، وبين متطلّباتهما في مقام الامتثال من ناحية أخرى ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مخالفا لما يستدعيه الآخر.

الجواب الثاني على إشكال التضادّ ما ذكره السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ التنافي بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة إنّما يكون بأحد لحاظين هما المبدأ والمنتهى ، وأمّا عالم الاعتبار فلا تنافي بلحاظه ؛ لأنّه مجرّد صياغة إنشائيّة فقط فلا مانع من جعله على المتضادّين بأن يقال : ( يجب أداء الديون للناس ، وبأن يقول حقّ اللّه قبل حقّ الناس ويجب أداؤه ) ما دام مجرّد صياغة خالية عن المبادئ.

أمّا التنافي بلحاظ المبدأ فالمقصود به هو التنافي بلحاظ مبادئ الأحكام التكليفيّة من ملاك وإرادة ، فإنّه من المستحيل أن يكون هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة ثابتين معا ؛ لأن مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. فإنّ المصلحة لا يمكن أن تجتمع مع المفسدة على شيء واحد ، والمحبوبيّة لا تجتمع مع المبغوضيّة على

ص: 81


1- ولكن يمكن أن يقال : إنّ المحقّق النائيني قد أشار إلى عدم وجود مبادئ في الحكم الظاهري وذلك بقوله : ( فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم الواقعي ) ، فإنّ هذا معناه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من جعله وجود حكم بالوجوب مثلا كما أخبر به الثقة ، وإذا لم يكن هناك حكم بالوجوب فليست هناك مبادئ مستقلّة على وفق الحكم الظاهري ، بل هناك مبادئ الحكم الواقعي فقط ، ولذلك لا يوجد إلا حكم تكليفي واقعي واحد فقط. وبهذا يكون مقصود النائيني من نفي وجود الحكم الزائد المطابق للحكم الظاهري هو نفي مبادئه أيضا ؛ لأنّه إذا لم يكن هناك وجوب واقعي فليس هناك مبادئ لهذا الوجوب أيضا.
2- مصباح الأصول 2 : 108 - 111.

متعلّق واحد كذلك ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا وذا مصلحة وذا مفسدة في آن واحد من جهة واحدة.

وأمّا التنافي بلحاظ المنتهى فالمقصود به التنافي بين الأحكام بلحاظ ما يتطلّبه كلّ حكم في عالم الامتثال ، فالوجوب مثلا يتطلّب ويستدعي أن يقوم المكلّف بالفعل ويهيّئ مقدّماته وكلّ ما يتوقّف عليه الفعل فهو يبعث نحو المتعلّق ، وأمّا الحرمة فهي تتطلّب أن يترك المكلّف الفعل وينزجر عنه ويترك حتّى المقدّمات التي تكون موصلة إلى الفعل. ومن المعلوم أنّ هذه المتطلّبات متنافية ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بينها في متعلّق واحد ؛ إذ لا يمكنه الفعل وعدم الفعل في آن واحد.

إذن اتّضح أنّ منشأ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة هو أحد هذين اللحاظين المبدأ والمنتهى ، وهذا يتصوّر فيما إذا كان هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة واقعيّين أو ظاهريّين. وأمّا إذا كان الوجوب حكما ظاهريّا والحرمة حكما واقعيّا فلا تنافي بينهما ، وبيان ذلك :

فإذا كانت الحرمة واقعيّة والوجوب ظاهريّا فلا تنافي بينهما في المبادئ ؛ لأنّنا نفترض مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي ، ولا تنافي بينهما في متطلّبات مقام الامتثال لأنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة - كما يقتضيه جعل الحكم الظاهري في موردها - فلا امتثال لها ولا متطلّبات عمليّة ؛ لأنّ استحقاق الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجّز.

إنّ الحرمة الواقعيّة والوجوب الظاهري لا تنافي بينهما لا بلحاظ المبدأ أي المبادئ ولا بلحاظ المنتهى أي الامتثال والمتطلّبات.

أمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ فلأنّنا نقول : إنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق.

وتوضيحه : أنّ جعل الحجيّة للأمارات والأصول إنّما كان لأجل مصلحة في نفس هذا الجعل بقطع النظر عن الحكم الذي تحكي عنه وتؤدّي إليه ، فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة للمتعلّق وما يشتمل عليه من مصالح أو مفاسد ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة ، بل المصلحة موجودة في نفس جعل الحكم الظاهري ، فالاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير

ص: 82

وجودها أو التحذّر من الوقوع في المفسدة على تقدير وجودها ، والبراءة مجعولة لأجل مصلحة في نفس التسهيل والترخيص على المكلّف ، وأمّا المتعلّق فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة له ولما يشتمل عليه من المصالح أو المفاسد ، بل المصلحة في نفس جعلها فقط.

وهذا بخلاف الأحكام الواقعيّة ، فإنّها تابعة للمصالح أو المفاسد وللمحبوبيّة أو المبغوضيّة الموجودة في نفس متعلّقها وهو الفعل أو الترك بحيث يكون في نفس الفعل مصلحة أو في نفس الترك مصلحة كذلك ؛ لأنّ المصالح والمفاسد تابعة للمتعلّقات ذاتا.

وبهذا ظهر أنّ مبادئ الحكم الظاهري هي نفس جعلها بينما مبادئ الحكم الواقعي هي نفس المتعلّق ، فتغايرت الجهة فلا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ لاختلاف الجهة حيث إنّ وحدتها من شروط التناقض والتضادّ.

وأمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المنتهى أي عالم الامتثال والمتطلّبات فلأنّنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة إنّما تستدعي متطلّبات على تقدير تنجّزها على المكلّف ، وهذا لا يكون إلا بوصولها إليه ، فإذا كانت الحرمة الواقعيّة غير واصلة إلى المكلّف فلا تستدعي أي نحو من المتطلّبات ؛ لأنّ عدم وصولها يعني عدم تنجّزها وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال. فحكم العقل بلزوم الامتثال موضوعه الوصول والتنجّز فإذا ارتفع موضوعه يرتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال ، وإذا ارتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال فلا متطلّبات أصلا.

وهنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة فهي غير منجّزة فلا يحكم العقل بالإطاعة والامتثال ولزوم المتطلّبات ، والدليل على أنّها كذلك هو مقتضى جعل الحكم الظاهري في موردها ، فإنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي وعدم العلم به ، وهذا معناه أنّ الحرمة غير معلومة وغير واصلة فليست منجّزة فلا متطلّبات عمليّة لها. وإنّما هناك وصول وتنجّز للحكم الظاهري كالوجوب مثلا حيث إنّ الشارع جعل الحجيّة له على مستوى التنجيز والتعذير على أقلّ تقدير.

وبهذا ظهر أنّ الحرمة الواقعيّة إذا كانت واصلة فهذا يعني لزوم امتثالها فيكون لها متطلّبات ؛ لكونها متنجّزة عقلا ، ومعه لا يكون هناك حكم ظاهري بالوجوب ؛ لأنّ موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ومع تنجّز ووصول الحرمة الواقعيّة لا شكّ. وإذا لم

ص: 83

تكن واصلة فهي غير منجّزة فلا متطلّبات لها فيكون الحكم الظاهري هو الواصل والمتطلّبات له فقط. وهذا معناه دائما وصول أحدهما فقط إلى المكلّف ، فليس هناك إلا متطلّبات الحرمة فقط أو الوجوب فقط ولا يمكن اجتماعهما معا في عالم الوصول والتنجّز ؛ لأنّ وصول أحدهما يلزم منه ارتفاع موضوع الآخر قطعا.

وعليه فلا تنافي بين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة لا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال فضلا عن عالم الاعتبار. وبذلك يرتفع محذور التضادّ المذكور أو اجتماع المثلين.

وبهذا أيضا لا يكون المولى مفوّتا لغرضه ؛ لأنّ له غرضا متعلّقا في نفس جعل الحكم الظاهري ، وبهذا الفرض سوف يكون هناك مصلحة في الحكم الظاهري تعوّض مصلحة الواقع الذي يفوت.

ولكن نتساءل : هل يمكن أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتّفق حقّا أنّ المولى أحسّ بأنّ من مصلحته أن يجعل الوجوب على فعل بدون أن يكون مهتمّا بوجوده إطلاقا ، وإنّما دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما إذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع.

أقول : لو اتّفق ذلك حقّا فلا أثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، فافتراض أنّ الأحكام الظاهريّة ناشئة من مبادئ في نفس الجعل يعني تفريغها من حقيقة الحكم ومن أثره عقلا.

يرد على ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ الحكم الظاهري ملاكه في نفس جعله أنّه يؤدّي إلى تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ، ويؤدّي أيضا إلى نفي منجّزيته فلا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، وبالتالي لا أثر له. ولذلك يقول السيّد الشهيد : إنّنا نتساءل فعلا حول إمكانيّة أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة ظاهريّة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة لا لملاك موجود في متعلّق الوجوب أو الحرمة ، فهل يمكن مثل هذا الجعل أو لا؟

ثمّ لو فرضنا إمكانيّة مثل هذا الجعل تصوّرا ، فهل يمكن أن يقع هذا الجعل خارجا أو لا؟ ولو فرضنا وقوعه خارجا ، فهل يكون له فائدة وأثر كالحكم الحقيقي أو لا؟

والجواب بالنفي لكلّ هذه التساؤلات ، فإنّ مثل هذا الجعل غير ممكن أصلا بحقّ

ص: 84

الشارع الحكيم حيث إنّ الأحكام الإلهيّة على رأي العدليّة من الإماميّة والمعتزلة تابعة لملاكات في نفس الفعل والمتعلّق خلافا للأشاعرة.

ولو تنزّلنا وفرضنا إمكانيّة هذا الجعل عقلا وتصوّرا ، فلا يمكن أن نقبل بإمكانه الوقوعي ؛ وذلك لأنّا لو فرضنا أنّ هناك مشرّعا قد أحسّ وأدرك بوجود مصلحة في أن يجعل وجوبا أو حرمة على فعل ومتعلّق من دون أن يكون هناك مصلحة في نفس الفعل والمتعلّق فلا يكون لمثل هذا الجعل فائدة وأثر ، وتوضيح ذلك :

إنّنا لو فرضنا أنّ مشرّعا كان ينتظر مكافأة ما على نفس ذلك الجعل والتشريع بقطع النظر عن وجود مصلحة في الفعل المتعلّق لهذا الوجوب ، بحيث لم يكن هذا المشرّع مهتمّا بأن يحقّق مثل هذا المتعلّق خارجا ، ويمكن أن يكون مثاله أيضا الأمر بالأمر بالصلاة حيث تعلّقت المصلحة في نفس الأمر والجعل والتشريع من دون أن يكون هناك أدنى التفات إلى الفعل ووقوعه. فنقول : إنّ مثل هذه الجعل يكون فاقدا لمضمون الحكم وفارغا عن محتواه ؛ وذلك لأنّ حقيقة الحكم كالوجوب مثلا هي البعث والتحريك نحو المتعلّق الذي تعلّق للمولى غرض وشوق ومحبوبيّة فيه ، ومثل هذا الحكم الظاهري لا يمكن أن يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو المتعلّق ؛ إذ لا مصلحة في هذا المتعلّق أصلا.

ومن ثمّ فإنّ العقل لا يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لمثل هذا الحكم الفارغ من المحتوى والمضمون ؛ إذ حكم العقل بذلك فرع كون الحكم مطلوبا للمولى ومحبوبا له نظرا لحقّ الطاعة ، والمفروض أنّ كلّ ذلك منتف عن هذا الحكم ، ولذا لا يكون له أثر في المنجّزيّة لانتفاء موضوعها.

والحاصل : أنّ جعل الحكم الظاهري بهذا النحو المفروض ، وهو كون ملاكه في نفس جعله يعني تفريغه عن حقيقة الحكم وفقدانه للأثر التنجيزي العقلي الحاكم يوجب الإطاعة والامتثال. ومثل هذا الحكم يستحيل صدوره من الشارع الحكيم ، مضافا إلى أنّه بمجرّد جعله يكون الملاك المذكور قد استوفى وتحقّق فلا معنى لجعله على ذمّة المكلّف ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل أو من باب التكليف اللغوي ؛ لأنّه لا مصلحة موجودة ولا ملاك. فلما ذا يجعله على ذمّة المكلّف؟!

فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تام ، ولكنّه في

ص: 85

افتراضه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من مبادئ في متعلّقة بالخصوص تامّ ، فنحن بحاجة إذن في تصوير الحكم الظاهري إلى افتراض أن مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقة بالخصوص ؛ لئلاّ يلزم التضادّ ، ولكنّها في نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط لئلاّ يلزم تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم.

والنتيجة أنّ الجواب الذي ذكره السيّد الخوئي يتضمّن أمرين :

الأوّل : أنّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري في نفس جعله ، وهذا غير صحيح كما تقدّم سابقا.

الثاني : أنّ الملاك والمصلحة في الحكم الظاهري ليست في متعلّقة بالخصوص ، وهذا المقدار صحيح.

ولذلك فنحن بحاجة إلى بيان حقيقة الحكم الظاهري وكيف أنّ ملاكه ومصلحته ليست في متعلّقة بالخصوص ؛ إذ ليس من الضروري أن نفترض أنّ الملاك والمبادئ في نفس متعلّق الحكم الظاهري ليلزم التضادّ أو المثلين ، وفي نفس الوقت ليست هذه المبادئ والمصلحة موجودة في نفس الجعل ؛ لئلاّ يلزم ما تقدّم من تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ومن كونه لا فائدة ولا أثر له. فالصحيح أن يقال :

وذلك بأن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة.

والجواب الصحيح عن الإشكال المتقدّم أن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة من ملاك وإرادة وشوق ومحبوبيّة ليست في نفس الجعل وليست في متعلّقها بخصوصه ، وإنّما هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة ، ففي الحقيقة لا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط ولذلك لا تضادّ بين الحكمين. وتوضيح المطلب يتمّ بذكر أمور :

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ حرمة واقعيّة لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر في الوجوب ، وأمّا الإباحة فقد تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ ملاكها قد يكون اقتضائيا وقد يكون غير اقتضائي ؛ لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلّف مطلق العنان وقد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك.

ص: 86


1- ضمن بحث ( الحكم الشرعي وتقسيمه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

الأمر الأوّل : أنّ الحرمة الواقعيّة كالوجوب الواقعي لهما مبادئ وملاكات اقتضائيّة متعلّقة بالفعل ، فالحرمة الواقعيّة ملاكها الاقتضائي المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، والوجوب الواقعي ملاكه الواقعي المصلحة والمحبوبيّة كذلك ، فالوجوب والحرمة متعلّقان بالفعل وجودا أو تركا.

وأمّا الإباحة فهي على قسمين :

فتارة تنشأ من ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان.

وأخرى تنشأ من خلوّ الفعل من أي ملاك فعلا أو تركا.

وعليه فإذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدّ ذلك إلى تغيّر في الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعيّة ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضا ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته واقعا ولا يوجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.

الأمر الثاني : أنّه إذا اختلطت المباحات الواقعيّة والمحرّمات ولم يقدر المكلّف على تمييز بعضها عن البعض الآخر ، بمعنى انسداد باب الواقع أمامه ، فهذا لا يؤدّي إلى تغيير المحرّمات عن مبادئها الواقعيّة ولا إلى تغيير المباحات عن مبادئها الواقعيّة أيضا ، فالمحرّمات تبقى فيها مبادئ المفسدة والمبغوضيّة وإن لم يقدر المكلّف على معرفتها وتمييزها ، وكذلك الحال في مبادئ المباحات. وهذا معناه أنّ الحرام الواقعي ليس فيه إلا مبادئ الحرمة الواقعيّة من مفسدة ومبغوضيّة ولا يتغيّر ولا يتبدّل بعدم تمييزه ومعرفته ، والمباح الواقعي لا تتبدّل فيه مبادئ الإباحة ولا تتغيّر ، فلا الحرام يصبح مباحا ولا المباح يصير حراما ؛ نتيجة لعدم التمييز.

وهذا ثابت بحكم وجود أحكام واقعيّة ثابتة بحقّ الجميع سواء العالم بها والجاهل لا تتبدّل ولا تتغيّر.

غير أنّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه من ارتكاب ما يحتمل حرمته.

الأمر الثالث : أن المولى عند اختلاط الأحكام المباحة والمحرّمة على المكلّف لا بدّ أن

ص: 87

يوجّه هذا المكلّف عمليّا ، فهو بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته ، وهذا بطبيعته سوف يشمل الحرام الواقعي أيضا ؛ نتيجة عدم تمييزه عن المباح. وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا معناه أيضا الشمول للمباح الواقعي ؛ نتيجة عدم تمييزه عن الحرام.

وهذان الأمران لا ثالث لهما ؛ لأنّ المكلّف اتّجاه هذا الواقع المسدود إمّا أن يفعل أو يترك وليس له خيار ثالث بينهما.

وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهري ناشئ من مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

والنتيجة : أنّ المولى إذا كان مهتمّا بجانب المحرّمات ، فهذا يدعوه إلى إصدار منع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، كأن يأمر بالاحتياط في الشبهات ، وهذا المنع عن ارتكاب الشبهات التي يحتمل حرمتها سوف يشمل المباح الواقعي ؛ نتيجة للاختلاط وعدم التمييز للحرام عن المباح. فهناك مباحات ضمن دائرة ما يحتمل حرمته سوف يشمله المنع من الارتكاب ، إلا أنّ هذا المنع لم ينشأ من كون ما يحتمل حرمته واجدا لملاك ومبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ؛ إذ مبادئ الحرمة مختصّة بالحرمة الواقعيّة فقط لا كلّ حرمة محتملة ، بل إنّ هذا المنع كان لأجل الحفاظ على ملاكات الحرام الواقعي ولأجل الحرص على ضمان اجتنابها ، فإنّه إذا اجتنب كلّ هذه الشبهات التي يحتمل حرمتها يكون قد اجتنب الوقوع في الحرام قطعا ، فهذا المنع منع ظاهري ناشئ من الملاك والمبادئ في متعلّق الحرمة الواقعيّة ، وليس ناشئا من وجود مبادئ الحرمة في متعلّق الحكم الظاهري بخصوصه أو أن مبادئه في نفس جعله.

فليس في الحكم الظاهري ملاكات ومبادئ زائدة ومستقلّة عن ملاكات ومبادئ الحكم الواقعي بل هي نفسها ، والغرض منها هو الحفاظ على الملاكات الواقعيّة للحرمة وضمان اجتنابها وعدم توريط المكلّف بالوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وفي مقابل ذلك إن كانت الإباحة في المباحات الواقعيّة ذات ملاك لا اقتضائي فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع سيشمل الحرام

ص: 88

الواقعي والمباح الواقعي أيضا إذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله للمباح الواقعي لا يكون منافيا لإباحته ؛ لأنه - كما قلنا - لم ينشأ عن مبغوضيّة نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

وفي المقابل نقول : إنّ الإباحة في المباحات الواقعيّة إن كانت ذات ملاك لا اقتضائي بأن كانت ناشئة من خلوّ الفعل من أي ملاك ، فهنا لا يوجد أي مانع من إصدار المولى لذلك المنع الظاهري لكلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا ملازمه كما قلنا شمول المنع الظاهري للحرام الواقعي وللمباح الواقعي في حالة احتماله حرمته ؛ نتيجة عدم التمييز للمكلّف بينه وبين الحرام ، وهذا المنع الظاهري في حالة شموله للحرام الواقعي لا إشكال فيه ؛ لأنّ الحرام الواقعي على حرمته ففيه مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، وأمّا في حالة شموله للمباح الواقعي ، فقد يتوهّم كما في الإشكال المطروح لزوم اجتماع الضدّين إلا أنّه مجرّد توهّم واه ؛ وذلك لأنّ المباح الواقعي على إباحته ولا يتغيّر عنها فهو واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، غير أنّ المنع تعلّق به لأجل الحفاظ على ملاكات الحرمة الواقعيّة وضمان اجتنابها والحرص عليها ، وليس المنع متعلّقا به لأجل وجود مبادئ الحرمة في متعلّقه ؛ إذ تقدّم أنّ المباح أو الحرام لا يتغيّر حالهما بمجرّد عدم تمييز المكلّف لهما.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي فهي تدعو - خلافا للحرمة - إلى الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل إباحته ففيه ملاك الإباحة ، بل لضمان إطلاق العنان في المباحات الواقعيّة الموجودة ضمن محتملات الإباحة ، فهو ترخيص ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعيّة والحرص على تحقيقه.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان ، فهذا معناه أنّ المولى يرخّص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته حتّى الحرام الواقعي المحتمل إباحته ؛ نتيجة عدم التمييز والاختلاط. وهذا لا يعني أنّ كلّ ما يحتمل إباحته واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، بل لأجل ضمان الملاك للإباحة الواقعيّة الاقتضائي ، وهو إطلاق العنان والتسهيل والترخيص على المكلّف ، فإنّ هذا الملاك إذا كان بدرجة لا يسمح المولى بفواته على المكلّف فهو سوف يسمح له بارتكاب الحرام

ص: 89

الواقعي ، غير أنّه في هذه الحالة لا يتغيّر الحرام الواقعي عن مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، بل هو على تلك المبادئ الواقعيّة للحرمة. وإنّما رخّص المولى في ارتكابه ضمن دائرة المباحات المحتملة ؛ لأنّ ملاك هذه الإباحة وهو إطلاق العنان يقتضي الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته لأجل ضمان هذا الترخيص ولأجل الحرص على تحقّقه.

فالشارع أمامه أحد هذين الخيارين إمّا أن يمنع عن كلّ ما يحتمل حرمته إن كانت الإباحة ذات ملاك لا اقتضائي وإمّا أن يرخّص في كلّ ما يحتمل إباحته إن كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي ، وحينئذ :

وفي هذه الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص يشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته ؛ لأنّه لم ينشأ عن ملاك للإباحة في نفس متعلّقه ، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعيّة والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرّمات الواقعيّة أهمّ منع من الإقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهمّ.

ثمّ إنّه إذا كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي فيقع التزاحم في حالة الاشتباه وعدم التمييز للمباح عن الحرام بين الترخيص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته أو المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته. فهنا يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ فهو يرخّص في ارتكاب المحتملات. وهذا الترخيص سوف يشمل بطبيعة الحال الحرام الواقعي كما تقدّم ، إلا أنّ هذا الشمول لا يضرّ ؛ لأنّه شمول ظاهري لم ينشأ من وجود مبادئ الإباحة في متعلّق الحرام ، وإنّما هو على مبادئ الحرمة الواقعيّة. وإنّما تعلّق به الترخيص الظاهري لأجل مصلحة أخرى ، وهي الحفاظ على مبادئ الإباحة الواقعيّة المختلطة ضمن دائرة المحتملات.

وإن كان ملاك الحرمة الواقعيّة أهمّ وأقوى فهو يصدر منعا ظاهريا عن ارتكاب دائرة المحتملات للحرام ، والتي يوجد ضمنها المباح الواقعي أيضا ، والمصلحة في

ص: 90

إصدار هذا المنع هو الحفاظ على ضمان اجتنابها والتحفّظ من الوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلب كلّ نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.

وهكذا يتّضح لنا جوهر وحقيقة الأحكام الظاهريّة وهي كونها خطابات (1) لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المشتبهة على المكلّف ، حينما يكون كلّ نوع من هذه المبادئ الواقعيّة يتطلّب نحوا من الحفاظ عليه يتنافى مع الحفاظ على الآخر ، كما هو الحال في الوجوب والحرمة أو الإباحة معهما. وليست أحكاما حقيقة ؛ لأنّ الحكم ما كان فيه مبادئ في متعلّقة وهي ليست كذلك. فالمولى يلاحظ ما هو الأهمّ من هذه المبادئ الواقعيّة ويصدر حكما ظاهريّا على طبقها بأن يرخّص أو يمنع.

ولا بأس أن نذكر مثلا لذلك : لو فرضنا أنّ المولى تعلّق غرضه بإكرام زيد ، فأنشأ حكما بوجوب إكرام زيد وجعله في عهدة المكلّف ، إلا أنّ المكلّف قد اشتبه عنده زيد ضمن عشرة أفراد لهم نفس الاسم. فهنا نقول : المولى إذا كان اهتمامه بإكرام زيد بدرجة قوية جدّا بحيث لا يسمح بتفويته ، فهو لن يجد ما يحول دون إصدار حكم آخر بإكرام العشرة لكي يتحقّق غرضه من إكرام زيد المشتبه ضمنها. وهذا الحكم الثاني حكم ظاهري لم ينشأ من ملاك ومبادئ في نفس متعلّقه وهو العشرة ، وإنّما ينشأ من مبادئ الحكم الواقعي ومتعلّقه وهو إكرام زيد ، فيكون هذا الحكم الثاني مبرزا لاهتمام المولى ليس إلا ، من دون أن يكون فيه مبادئ في نفس متعلّقه ، بل مبادئه نفس مبادئ الحكم الواقعي المذكور.

وبهذا اتّضح الجواب على الاعتراض الثاني ، وهو أنّ الحكم الظاهري يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فإنّ الحكم الظاهري وإن كان قد يسبّب ذلك ، ولكنّه إنّما يسبّبه من أجل الحفاظ على غرض أهمّ.

وبهذا التحليل لحقيقة الحكم الظاهري اتّضح الجواب عن الشبهتين الأولى والثانية :

ص: 91


1- وتعبيره بكونها خطابات فيه مسامحة واضحة ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة في الحقيقة تعيّن الأهمّ. وليست خطابات ؛ لأنّ الخطابات هي الحاكية للحكم والتشريع الواقعي.

أمّا الأولى فلأنّه لا يوجد مبادئ في متعلّق الحكم الظاهري ، وإنّما مبادئه نفس مبادئ متعلّق الحكم الواقعي ولذلك لا تضادّ.

وأمّا الثانية فلأنّ الحكم الظاهري وإن كان يفوّت المصلحة الواقعيّة ويسبّب الإلقاء في المفسدة في حالة عدم مطابقته للواقع ، إلا أنّه إنّما يسبّب ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أقوى وأهمّ. ففي الحقيقة ليس هناك تفويت أو إيقاع في المفسدة ، وإنّما هناك تفويت لمصلحة مهمّة لأجل الحصول على مصلحة أهمّ. وهذا الأمر مقبول عقلا وعقلائيّا ، ومثاله في باب التزاحم الامتثالي : إذا دار الأمر بين إنقاذ غريق وبين إيقاع الصلاة بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، أو دار الأمر بين إنقاذ أحد غريقين وكان لأحدهما بعض المرجّحات ككونه عالما تقيّا مثلا ، فهنا يحكم بإنقاذ الغريق في فرض تزاحمه مع الصلاة ، ويحكم بإنقاذ الغريق العالم التقي في الفرض الثاني ، وهذا يعني فوات الصلاة وموت الغريق الثاني ، وهو تفويت للمصلحة وإيقاع في المفسدة إلا أنّه كان ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أهمّ وأقوى من تلك المصلحة.

وهذا مصداق لباب التزاحم الذي ملاكه ترجيح الأهمّ على المهمّ (1).

ص: 92


1- يمكن إرجاع ما ذكره السيّد الخوئي إلى هذا البيان وذلك بأن يقال : إنّ المثال الذي ضربه السيّد الخوئي للتمثيل على كيفيّة كون الحكم الظاهري ملاكه ليس في المتعلّق ، بل بنفس جعله يلقي ضوءا على أنّ مراده من تعبيره بنفس الجعل شيئا آخر غير ما ذكره السيّد الشهيد وأشكل عليه - وإن كان تعبيره المذكور غير صحيح - فذكر أنّ الاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها والتحذّر من الوقوع في المفسدة كذلك. وهذا يفهم منه أنّه يوجد ملاك لجعل الاحتياط لا أنّ ملاكه نفس جعله وإن صرّح بذلك ؛ لأنّ المصلحة المذكورة معناها الحفاظ على المصالح والملاكات الواقعيّة على تقدير وجودها ، فكان تشريع الاحتياط لأجل التحفّظ والتحذّر على الملاكات الواقعيّة لا لملاك في نفس الاحتياط بما هو هو ، بل بما هو مشتمل على التحفّظ والتحذّر. وهذا موافق لما ذكره السيّد الشهيد من أنّ إصدار المنع الظاهري إنّما هو بملاك الحفاظ على الأهمّ من الملاكات الواقعيّة كالحرمة مثلا ، فيصدر المنع عن دائرة ما يحتمل حرمته لأجل ضمان اجتنابها والحرص والحفاظ عليها. غاية الأمر أنّ السيّد الخوئي عبّر عن هذا المطلب بأنّ الملاك في نفس جعل الحكم الظاهري بينما السيّد الشهيد عبّر عنه بأنّ الملاك هو إبراز الأهمّ والحفاظ عليه وضمانه ، فلاحظ وتأمّل.

شبهة تنجّز الواقع المشكوك

ص: 93

ص: 94

شبهة تنجّز الواقع المشكوك

وأمّا الاعتراض الثالث فقد أجيب (1) بأنّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعي الذي أخبر عنه الثقة بلحاظ حجيّة خبره لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ المولى حينما يجعل خبر الثقة حجّة يعطيه صفة العلم والكاشفيّة اعتبارا على مسلك الطريقية المتقدّم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعي عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يصبح معلوما بالتعبّد الشرعي وإن كان مشكوكا وجدانا.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ الجواب على إشكال تنجّز الواقع المشكوك واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة قيام الحكم الظاهري على حكم إلزامي كالوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع الحكم العقلي بالتأمين في صورة الشكّ على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك أنّ موضوع القاعدة العقليّة عدم البيان والعلم فإذا لم يكن هناك علم بالتكليف فلا يكون منجّزا على المكلّف وبالتالي لا يعاقب على مخالفته. وأمّا إذا تحقّق البيان والعلم فيصبح التكليف منجّزا ويستحقّ العقاب على المخالفة للزوم الإطاعة والامتثال عقلا. وهنا الحكم الظاهري كخبر الثقة الدالّ على الإلزام كالوجوب والحرمة عند ما تجعل له الحجيّة شرعا معناه أنّ الشارع قد جعل خبر الثقة طريقا وكاشفا تامّا عن الواقع ، فيكون الشارع قد اعتبر خبر الثقة علما ؛ لأنّ المجعول في الأحكام الظاهريّة هو العلميّة والطريقيّة والكاشفيّة. وحينئذ نقول : إنّه لا منافاة بين الحكم الظاهري الدالّ على الإلزام وبين حكم العقل المذكور ؛ لأنّ الحكم الظاهري يثبت به العلم والبيان تعبّدا ، ومع تحقّق البيان والعلم يرتفع موضوع حكم العقل بالتأمين ؛ لأنّ موضوعه عدم البيان والعلم. والمفروض أنّهما متحقّقان وثابتان في الفرض المذكور ، فلا تنافي ؛ لأنّ حكم العقل مرتفع تبعا لارتفاع موضوعه ، حيث إنّ

ص: 95


1- يمكن استفادة ذلك ممّا جاء في أجود التقريرات 2 : 11.

الموضوع بمثابة العلّة للحكم إذا انتفى ينتفي الحكم معه ، وإلا لزم التفكيك بين العلّة والمعلول وهو محال.

والحاصل : أنّ موضوع الحكم العقلي هو عدم العلم والبيان الأعمّ من العلم الحقيقي كالقطع الوجداني ، ومن العلم التعبّدي كخبر الثقة الذي جعله الشارع علما بالتعبّد والاعتبار. وبهذا يتنجّز الواقع على المكلّف ، ويصبح ملزما بالامتثال والإطاعة وإلا لكان مدانا بحكم العقل. وبهذا ظهر أنّ الأحكام الظاهريّة واردة على القاعدة العقليّة ؛ لأنّها ترفع موضوعها حقيقة ؛ لأنّ موضوعها العلم والبيان الأعمّ من الوجداني أو التعبّدي الاعتباري.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه المحاولة إذا تمّت فلا تجدي في الأحكام الظاهريّة المجعولة في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة الاحتياط ، على أنّ المحاولة غير تامّة كما يأتي (1) إن شاء اللّه تعالى.

أورد السيّد الشهيد على كلام المحقّق النائيني إشكالين :

الأوّل : أنّ ما ذكره من جعل العلميّة للحكم الظاهري إنّما يتمّ على فرض التسليم بأصل المبنى في الأحكام الظاهريّة التي فيها كشف ظنّي ناقص من الواقع ، حيث إنّ جعل الحجيّة لها يكون متمّما لهذا الكشف فيعتبرها علما تعبّدا كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة مثلا. وأمّا في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة البراءة والاحتياط فلا يتمّ هذا الكلام ؛ لأنّه لا يوجد أي كشف عن الواقع في البراءة أو الاحتياط ؛ لأنّها مجرّد وظائف لتحديد الموقف العملي اتّجاه الواقع المشكوك ، من دون أن تكون كاشفا ولو كشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع. فجعل الحجيّة فيها معناه جعلها منجّزة ومعذّرة فقط دون أن يكون هناك أي علم وبيان فيها ، نعم في الأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب مثلا يوجد كشف ظنّي عن الواقع فهي كالأمارات.

الثاني : أنّ أصل المبنى غير صحيح ؛ لأنّنا لا نقبل أن يكون المجعول في الحكم الظاهري حتّى الأمارات منه الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة كما سيأتي في توضيحه عند البحث عن الأمارات والأصول. فهذه المحاولة غير صحيحة أصلا. وبهذا يظهر أنّ

ص: 96


1- ضمن المبادئ العامّة من مباحث الأدلّة المحرزة ، تحت عنوان : وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي.

شبهة التنجّز لا تزال مستحكمة بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. مضافا إلى أنّ حكومة الأمارات على القاعدة المذكورة متوقّفة على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي التزم به المحقّق النائيني ، ولكن مع ذلك فإنّ دليل حجيّة الأمارات والذي هو السيرة العقلائيّة قائم على العمل بالأمارات مقام القطع الطريقي ، إذ لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم ، ولو فرض وجوده فهو فرد نادر يحتاج إلى النظر إليه في الدليل الحاكم ، والنظر هنا غير محرز إذ لا يوجد ما يدلّ عليه في لسان دليل الحجيّة. فحتّى لو قبلنا الحكومة فهي لا تجدي ؛ لأنّها بلسان التخصيص ولكن على أساس التوسعة أو التضييق وقد قلنا : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص مطلقا. نعم يتمّ ذلك بناء على الورود إلا أنّه لا قائل به منهم.

والصحيح أنّه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ؛ لما تقدّم من أنّ هذا المسلك المختار يقتضي إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا. وقد تلخّص مما تقدّم أنّ جعل الأحكام الظاهريّة ممكن.

والجواب الصحيح على شبهة التنجّز : هو إنكار مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ على أساس هذا المبنى لا يمكن دفع هذه الشبهة. وأمّا على المسلك المختار عندنا وهو مسلك حقّ الطاعة فلا موضوع لهذه الشبهة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك يكون الشكّ والظنّ بل أدنى احتمال للتكليف منجّزا ، فضلا عن العلم به على أساس حقّ الطاعة الثابت بحكم العقل. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري كخبر الثقة مثلا الدالّ على الوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع حكم العقل ، بل يكون موافقا له (1). وبهذا يتلخّص أنّ جعل الأحكام ممكن لأنّ الإشكالات المذكورة مندفعة بما تقدّم.

ص: 97


1- إلا أنّه على مسلك حقّ الطاعة يكون الحكم الظاهري النافي للتكليف متنافيا مع حكم العقل بالمنجزية ؛ لأنّ هذا الحكم يثبت به التأمين والمعذّريّة بينما مسلك حقّ الطاعة يثبت به المنجّزيّة.

ص: 98

الأمارات والأصول

ص: 99

ص: 100

الأمارات والأصول

تنقسم الأحكام الظاهريّة إلى قسمين : هذا التقسيم للأحكام الظاهريّة إلى أمارات وأصول له فائدة تظهر في باب التعارض ، حيث يحكم هناك بتقدّم الأمارة على الأصل العملي المحرز وغيره ، والوجه في التقديم هو الفرق بين الأمارات والأصول والذي على أساسه يتمّ النكتة والوجه في التقديم.

أحدهما : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لإحراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلّب وجود طريق ظنّي له درجة كشف عن الحكم الشرعي ، ويتولّى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلّف التصرّف بموجبه ، ويسمّى الطريق بالأمارة ، ويسمّى الحكم الظاهري بالحجيّة ، من قبيل حجيّة خبر الثقة.

القسم الأوّل من الأحكام الظاهريّة : هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لإحراز الواقع بحيث تكون طريقا مؤدّيا إلى الواقع ، وكاشفا عنه ، وهذا معناه افتراض وجود طريق ظنّي موجود في هذه الأحكام الظاهريّة يكون له درجة ما من الكشف عن الحكم الواقعي ، فهذه الطرق لها كشف ظنّي تكويني إلا أنّه غير تامّ ، بحيث لا يصل إلى درجة الكشف التامّ كما هو الحال في القطع.

ثمّ إنّ الشارع يحكم على طبق هذا الطريق الظنّي حكما يلزم المكلّف بالتصرّف على وفقه والجري العملي على طبق هذا الطريق. وهذا الحكم الذي يقوم به الشارع هو جعل الحجيّة لهذا الحكم الظاهري ، والطريق الظنّي الكاشف والحجيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل التي تنالها يد التشريع رفعا ووضعا. وحينئذ يقال : إنّ الشارع جعل الحجيّة للحكم الظاهري الذي هو طريق وأمارة على الواقع ، فالطريق يسمّى بالأمارة والحكم الظاهري يسمّى بالحجيّة ، فخبر الثقة تارة يقال : إنّه

ص: 101

أمارة بلحاظ كونه طريقا ، وأخرى يقال : إنّه حكم ظاهري بلحاظ كونه حجّة.

والقسم الآخر : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لتقرير الوظيفة العمليّة تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها إحرازه ، وتسمّى بالأصول العمليّة.

القسم الثاني من الأحكام الظاهريّة هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لأجل تحديد الموقف العملي وتقرير الوظيفة العمليّة اتّجاه الواقع المشكوك ، فليس فيها أي كشف ظنّي عن الواقع ، ولا تفترض وجود طريق كاشف عن الواقع ولو ظنّيا ؛ لأنّه لا يراد من جعلها إحراز الواقع ، بل المراد تحديد الموقف فقط ، فهي إمّا أن تكون مثبتة للتنجيز كالاحتياط ، أو تكون مثبتة للتأمين كالبراءة.

وهذه الأحكام الظاهريّة تسمّى بالأصول العمليّة ، فالبراءة مثلا يقال : إنّها أصل عملي مؤمّن للواقع المشكوك.

ومن هنا ظهر أنّه يوجد فرق بين الأمارات والأصول مع كونهما حكمين ظاهريين ، ولذلك من حقّنا أن نتساءل عن وجه الفرق بينهما والذي على أساسه كانت الأمارات محرزة للواقع بخلاف الأصول مثلا. وللإجابة على ذلك هنا عدّة اتّجاهات منها :

ويبدو من مدرسة النائيني قدس سره (1) التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري ، فإن كان المجعول هو الطريقيّة والكاشفيّة دخل المورد في الأمارات ، وإذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجها إلى إنشاء الوظيفة العمليّة دخل في نطاق الأصول.

فرّقت مدرسة المحقّق النائيني بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما.

فإن كان المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة دخل هذا الحكم الظاهري تحت عنوان الأمارات. وإن كان المجعول الاعتباري فيه مجرّد

ص: 102


1- يبدو أنّ التفاصيل المنسوبة هنا إلى مدرسة المحقّق النائيني حصيلة ما جاء في مصادر عديدة ، وإن كان كلّ واحد منها غير خال عن الغموض والتشويش ، بل المغايرة أحيانا في جوانب تلك التفاصيل. انظر بهذا الصدد : أجود التقريرات 2 : 78 و 416، ومصباح الأصول 2 : 104 - 106 و 3 : 154.

إنشاء الوظيفة العمليّة وتحديد ما هو الموقف العملي كان المورد من الأصول.

مثال الأوّل خبر الثقة الكاشف كشفا تكوينيّا ناقصا عن الواقع ، فجعل الحجيّة له هو بلحاظ كاشفيّته وطريقيّته وتتميم هذا الكشف الناقص عن الواقع إلى الكشف التامّ اعتبارا وتعبّدا ، فكان المجعول هو الكاشفيّة والطريقيّة ولذلك فخبر الثقة من الأمارات ؛ لأنّه طريق.

ومثال الثاني البراءة والاحتياط والاستصحاب ، فإنّ المجعول فيها ليس الكاشفيّة والطريقيّة ؛ إذ لا يوجد كشف تكويني فيها ، بل هناك شكّ فقط في الطرفين. وهذا يعني أنّها مجعولة لأجل تحديد الموقف العملي اتّجاه هذا الواقع المشكوك ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يفعل أو يترك لا محالة ، فهي تحدّد له موقفه ووظيفته العمليّة ولذلك فهي أصول.

ولمزيد توضيح ذكر المحقّق النائيني تقسيم آخر للأصول العمليّة فإنّها تقسّم إلى قسمين ولذلك قال :

وفي هذه الحالة إذا كان إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي لا الإحرازي فالأصل تنزيلي أو أصل محرز ، وإذا كان بلسان تسجيل وظيفة عمليّة محدّدة بدون ذلك فالأصل عملي صرف.

مقدّمة : إنّ العلم الوجداني له جوانب أربعة :

1 - الاستقرار والإذعان النفسي بحيث لا ريب ولا شكّ عند النفس.

2 - الكشف التامّ عن الواقع بنحو لا يعتريه ريب ولا شكّ.

3 - الجري العملي على طبق ما انكشف وما علم كالبعث والتحريك أو الزجر.

4 - المنجزيّة والمعذريّة فهو يدخل التكليف في العهدة في صورة الإلزام ، ويؤمّن عنه في صورة قيامه على الترخيص والإباحة.

وعلى هذا الأساس ذكرت مدرسة الميرزا وجه التفرقة بين الأمارات والأصول من جهة ، وبين الأصول التنزيلية والمحرزة والأصول المحضة الصرفة من جهة أخرى.

ففي الأمارات يكون المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة ، ولذلك فهي طريق إلى الواقع.

ص: 103

وأمّا في موارد الأصول فالمجعول فيها أحد نحوين :

فتارة يكون إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، فهو أصلي تنزيلي.

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب للحالة السابقة كالوجوب أو الحرمة يقال فيه : أنّ الشارع نزّل مؤدّى الاستصحاب وهو الحكم المستصحب كالوجوب أو الحرمة منزلة الواقع بلحاظ الجري العملي ، فكأنّ الحرمة أو الوجوب ثابتين واقعا فهما يتطلّبان ويستدعيان بعثا وتحريكا في الوجوب وزجرا وتركا في الحرمة. فالمجعول هنا هو الجري العملي على أساس أنّ المؤدّى منزّل اعتبارا وتعبّدا منزلة الحكم الواقعي.

وهنا صورة أخرى لهذا التنزيل وهو أن يكون بلسان تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي أيضا لا في الجانب الإحرازي.

وتوضيحه : ما يقال أيضا بالنسبة للاستصحاب : من أنّ الشارع نزّل نفس الاستصحاب الذي هو أصل عملي منزلة الواقع ، أو نزّل الاحتمال المقوّم لهذا الاستصحاب وهو الحيثيّة الكاشفة فيه عن البقاء وهي : ( غلبة أنّ ما يوجد يبقى ) منزلة الواقع بلحاظ الجانب العملي أيضا لا بلحاظ الإحراز والكشف عن الواقع.

فالمجعول هنا هو الجري العملي أيضا على أساس تنزيل نفس الأصل أو الأصل المقوّم له منزلة الواقع. وهاتان الصورتان يطلق عليهما الأصل العملي المحرز أو الأصل العملي التنزيلي ، حيث يكون المجعول فيه هو الجري العملي. وأخرى يكون إنشاء الوظيفة العمليّة من دون تنزيل أصلا لا للمؤدّى ولا لنفس الأصل ولا للاحتمال المقوّم ، وإنّما يلاحظ فيه موضوعيّة الشك ، في الواقع وعلاجه على أساس تحديد الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك. فهذا الأصل يسمّى بالأصل العملي الصرف أو المحض حيث لا يوجد فيه تنزيل أصلا ، فالمجعول هنا هو المنجّزيّة والمعذّريّة فقط.

وهذا يعني أنّ الفرق بين الأمارات والأصول ينشأ من كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في عالم الجعل والاعتبار.

هذا إيراد على ما ذكرته مدرسة الميرزا من أنّ الفرق بين الأمارات والأصول إنّما هو في كيفيّة صياغة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة والأصل ، وهذه التفرقة إنّما هي

ص: 104

بلحاظ عالم الدلالة التي هي عالم الإثبات والصياغة والإنشاء ، ومن المعلوم أنّ الفرق الظاهري الإثباتي يكون ناشئا من وجود فرق حقيقي ثبوتي واقعي. وهذا لم يبرزه هذا التحليل المذكور حيث لم يبيّن جوهر الفرق بينهما. ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن التحقيق : أنّ الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فإنّ روح الحكم الظاهري في موارد الأمارة مختلف عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر عن نوع الصياغة ، وليس الاختلاف الصياغي المذكور إلا تعبيرا عن ذلك الاختلاف الأعمق في الروح بين الحكمين.

التحقيق في بيان حقيقة الفرق بين الأمارات هو أنّ روح وجوهر الحكم الظاهري المجعول في موارد الأمارات يختلف عنه في موارد الأصول ، سواء كانت الصياغة الاعتباريّة في الأوّل جعل الكاشفيّة والطريقيّة أم لا ، وسواء كانت بلحاظ المنجّزيّة والمعذّريّة والجري العملي في الثاني أم لا ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتبارية تكشف عن فارق جوهري بين الموردين وليست هي نفسها الفارق ، بل هي تعبير عنه ، أي أنّ الاختلاف الظاهري في الصياغة بين الموردين نشأ من وجود اختلاف في الروح والجوهر.

وتوضيح ذلك : أنّا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مردّها إلى خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوع منها ضمان الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر ، وكلّ ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلّف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرّمات مثلا.

تقدّم آنفا أنّ الأحكام الظاهريّة عبارة عن خطابات شرعيّة صادرة من المولى لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّه في صورة الاشتباه والشكّ في الحكم الواقعي معناه وجود طرفين يستدعي كلّ منهما متطلّبات متغايرة عن الآخر ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في مقام الامتثال وبحيث لا يمكن الحفاظ عليهما جميعا ، بل إنّ الحفاظ على أحدهما يستدعي فوات الآخر. ولذلك فإنّ المولى يبرز بهذا الحكم الظاهري الأهمّ الواقعي عنده ، وهذا واضح. وحينئذ عند ما يريد الشارع أن يصدر خطابا لتعيين الملاك الأهمّ فهو يلاحظ هذه الأهميّة ضمن إحدى صور ثلاث ، وهي :

ص: 105

والأهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقا لها : تارة تكون بلحاظ الاحتمال ، وأخرى بلحاظ المحتمل ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فالشارع عند ما يلاحظ الأهمّ من الملاكات الواقعيّة والتي على أساسها يجعل الحكم الظاهري أمامه أنحاء ثلاثة :

تارة تلاحظ الأهميّة بطرف الاحتمال الكاشف عن الواقع.

وأخرى تلاحظ الأهميّة بلحاظ نفس المحتمل وهو الحكم والمؤدّى.

وثالثة بلحاظ كلا الأمرين أي الاحتمال الكاشف والمحتمل الذي هو الحكم.

وتوضيح ذلك :

فإنّ شكّ المكلّف في الحكم يعني وجود احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذ فإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر وجعل الحكم الظاهري وفقا لها ؛ لقوّة احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهميّة بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم أمارة ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان جعل الطريقيّة أو وجوب الجري على وفق الأمارة.

القسم الأوّل : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال ، حيث يقال إنّ المكلّف الشاكّ في الحكم يعني وجود احتمالين أو احتمالات عنده ، فهو إمّا أن يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، فهذا الواقع المشكوك يحتمل كونه واجبا ويحتمل كونه مباحا ويحتمل كونه محرّما. وحينئذ فالشارع عند ما يريد أن يجعل حكما ظاهريّا لأجل إبراز ما هو الأهمّ من الملاكات والمبادئ واقعا ، فهذا الحكم الظاهري قد يجعله وينشئه بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع الموجود بهذا الحكم الظاهري وغلبة مطابقته للواقع وقلّة الخطأ فيه ، بقطع النظر عن نوعيّة الحكم والمحتمل الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري ، فكان الترجيح لأجل الاحتمال وقوّته فقط.

فهذا النحو من الأحكام الظاهريّة يسمّى بالأمارات ، مثال ذلك : خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري ، فعند ما يجعل الشارع الحجيّة لهذا الخبر فهو إنّما جعلها بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع الموجودة في الخبر ؛ لأنّه يفيد الظنّ أو الاطمئنان.

فالغالب فيه أن يكون مصيبا للواقع ، ولذلك رجّح الشارع هذا الاحتمال واعتبره

ص: 106

كاشفا وحجّة وعلما وطريقا إلى الواقع بسبب قوّة هذا الاحتمال ، بقطع النظر عن الحكم الذي يحكي عنه الثقة فإنّه غير مأخوذ بعين الاعتبار ؛ لأنّ خبر الثقة تارة يحكي عن الوجوب وأخرى عن الحرمة وثالثة عن الترخيص والإباحة وهكذا. فهناك أنواع مختلفة من الأحكام يخبر عنها الثقة وكلّها لم تكن ملاحظة عند جعل الحجيّة له ، بل كان الملاحظ فيه قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع وغلبة المطابقة. وحينئذ لا يضرّنا الصياغة الإنشائيّة التي يبرزها الشارع ، سواء كانت بلسان جعل العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة ، أو بلسان الجري العملي ، أو بلسان التنزيل فإنّها مجرّد إنشاءات فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر لأهميّة المحتمل بدون دخل لكاشفيّة الاحتمال في ذلك كان الحكم من الأصول العمليّة البحتة ، كأصالة الإباحة وأصالة الاحتياط الملحوظ في أحدهما أهميّة الحكم الترخيصي المحتمل ، وفي الآخر الحكم الإلزامي المحتمل ، بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان تسجيل وظيفة عمليّة أو لسان جعل الطريقيّة.

القسم الثاني : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ قوّة المحتمل ، بأن يكون لنوعيّة الحكم درجة من الأهميّة بسببها يجعل الشارع الحكم الظاهري من دون ملاحظة نوع الاحتمال ومدى درجة كاشفيّته عن الواقع ، فإنّه لا مدخليّة لذلك. وإنّما الشارع لاحظ المؤدّى والحكم الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري فجعله حجّة من قبيل أصالة الإباحة ، حيث إنّ الحكم الذي تحكي عنه هو الإباحة والترخيص ، فهذا النوع كان له أهميّة بنظر الشارع لأجل إصدار الحكم الظاهري ليجعل الحجيّة لهذه الإباحة عند الشكّ في الإباحة والحرمة أو الإباحة والوجوب ، فيكون كاشفا؟

هذا الحكم الظاهري عن كون الملاكات والمبادئ الواقعيّة الأهمّ عند الشارع هي ملاكات الترخيص والإباحة بأن كانت ذات ملاك اقتضائي يترجّح على ملاكات الإلزام.

وكذلك بالنسبة لأصالة الاحتياط الملحوظ فيها عند جعل الحكم الظاهري هو قوّة المحتمل وهو الحكم الإلزامي الذي تحكي عنه بحيث يكون الأهمّ بنظر الشارع هو ملاكات الوجوب أو الحرمة عند الاشتباه بين الوجوب والإباحة أو بين الحرمة

ص: 107

والترخيص ، وهذا معناه أنّ ملاكات الحرمة والوجوب كانت أهمّ من ملاكات الإباحة والترخيص.

وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة البحتة والمحضة والصرفة.

ولا فرق في ذلك سواء كان لسان جعلها وإنشائها لسان تحديد الموقف العملي وتسجيل الوظيفة العمليّة أو كان بلسان جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة أو بلسان الجري العملي والتنزيل ، فإنّها لا تضرّ ما دامت صياغات اعتباريّة إنشائيّة فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الأمرين من الاحتمال والمحتمل ، كان الحكم من الأصول العمليّة التنزيليّة أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.

القسم الثالث : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا بأن يكون لقوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع مضافا إلى نوعيّة المحتمل الذي تحكي عنه مدخليّة في جعل الحكم الظاهري. ومثاله : قاعدة الفراغ فإنّ الملحوظ فيها أمران :

الأوّل : قوّة الاحتمال والكاشفيّة ، وهو غلبة التذكّر والانتباه والالتفات أثناء العمل إلى ما يقوم به من أفعال وأنّها على وجهها الصحيح أكثر ممّا بعد الانتهاء والفراغ منه. وهذا يعني أنّه بعد الفراغ من العمل يوجد كاشف قوي على أنّه قد أتى بالعمل على وجهه المأمور به.

والثاني : قوّة المحتمل ، وهو كون هذا العمل قد فرغ منه وتمّ ولذلك لا تجري قاعدة الفراغ أثناء العمل لو كان الشكّ في الأثناء ، بل يحكم بلزوم الإعادة.

فهناك حيثيّتان موجودتان في قاعدة الفراغ إذا وجدتا معا كانت القاعدة حجّة وإذا انتفت إحدى الحيثيّتين تنتفي الحجيّة. وهكذا الحال بالنسبة للاستصحاب.

فهناك جانب قوّة الاحتمال والكاشفيّة وهي غلبة أنّ ما وجد يبقى ، وجانب قوّة المحتمل وهو أركان هذه القاعدة من وجود يقين وشكّ وقضيّة متيقّنة مشكوكة وأثر عملي ، أو هو الحالة السابقة نفسها. فإنّ الاحتمال الكاشف عن البقاء له دور في جعل الحجيّة للاستصحاب وكذلك تماميّة أركان القاعدة ، فإذا انتفى أحد الجانبين لم يكن الاستصحاب حجّة. وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة التنزيليّة أو بالأصول العمليّة المحرزة ؛ وذلك لوجود جهة الكاشفيّة والاحتمال ووجود جهة المحتمل

ص: 108

والمنكشف فيها ، سواء كان لسان جعلها الطريقيّة أو التنزيل للمؤدّى أو لنفس الاحتمال أو لنفس الأصل.

وبهذا اتّضح الفارق الحقيقي والجوهري بين الأمارات والأصول من جهة وبين الأصول المحضة والأصول المحرزة أو التنزيليّة من جهة أخرى ، سواء كانت الصياغة الإنشائيّة الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو الوظيفة العمليّة بالترتيب أو بالاختلاف.

نعم ، الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهري بلسان جعل الطريقيّة. والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ هذا الاختلاف الصياغي هو جوهر الفرق بين الأمارات والأصول.

وجه الأنسبيّة هو أنّ هناك توافقا بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، فإنّ الطريقيّة تتوافق مع الترجيح بقوّة الاحتمال لأنّ الاحتمال طريق كاشف. وتسجيل الوظيفة العمليّة وتحديد الموقف العملي يتناسب ويتوافق مع الأصول المحضة التي يكون الترجيح فيها بلحاظ نوع المحتمل حيث لم يؤخذ فيها ملاحظة الكاشفيّة وعدمها. والتنزيل للمؤدّى أو الأصل أو للاحتمال المقوّم يتناسب ويتوافق مع الترجيح بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

إلا أنّ هذا الاختلاف في الصياغة ليس هو جوهر الفرق ، وإنّما هو كاشف عن الفارق الجوهري الثبوتي الواقعي.

ص: 109

ص: 110

التنافي بين الأحكام الظاهريّة

ص: 111

ص: 112

التنافي بين الأحكام الظاهريّة

عرفنا سابقا (1) أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة نوعا - كالوجوب والحرمة والإباحة - متضادّة ، وهذا يعني أنّ من المستحيل أن يثبت حكمان واقعيّان متغايران على شيء واحد ، سواء علم المكلّف بذلك أو لا ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في الواقع.

تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة لا يمكن اجتماعها على شيء واحد ؛ وذلك لأنّها متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن أن يكون هناك وجوب وإباحة أو حرمة وإباحة أو وجوب وحرمة على متعلّق واحد ؛ لأنّ هذه الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها بحسب المبادئ والملاكات ، ولذلك لا يمكن أن يتصوّر شيء واحد فيه مصلحة ومفسدة أو يكون محبوبا ومبغوضا في آن واحد.

وهذه الاستحالة لا يفرّق فيها بين العالم والجاهل ؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة لهما معا كما تقدّم سابقا من قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، فسواء علم بوجود حكمين متغايرين أو لم يعلم بذلك فإنّ الاستحالة ثابتة على كلّ حال ؛ لأنّها واقعيّة وليست تابعة لعلم المكلّف أو جهله ، فجهله باجتماع الحكمين المتغايرين لا يدفع هذه الاستحالة ، كما أنّ علمه بذلك لا يثبت الاستحالة أيضا ، بل الاستحالة ثابتة في الحالين ؛ لأن موضوعها ثابت واقعا وهو الأحكام التكليفيّة المتغايرة بحسب الفرض. وهذا واضح.

والسؤال هنا : هو أنّ اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا هل هو معقول أو لا؟ فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة حراما ظاهرا أو مباحا ظاهرا في نفس الوقت؟

ص: 113


1- الحلقة الثانية ، ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

والسؤال هنا : هو أنّ الاستحالة المذكورة هل هي مختصّة بالأحكام الواقعيّة أو أنّها تشمل أيضا الأحكام الظاهريّة؟ فلا يمكن اجتماع الحرمة والإباحة الظاهريّين أيضا ، أو أنّه يعقل اجتماعهما ظاهرا بأن يكون مشكوك الحرمة حراما ومباحا ظاهرا؟ حيث إنّ مورد الأحكام الظاهريّة هو الشكّ ، ففي حال الشكّ في الواقع هل يمكن أن يكون هناك حكمان ظاهريّان على هذا الشيء المشكوك متغايران نوعا أو لا يمكن ذلك؟

والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعيّة.

فالإجابة تختلف هنا إمكانا واستحالة بحسب اختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري وحقيقته ، حيث تقدّم عند التوفيق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي وجود عدّة مبان ، كالمسلك القائل بأنّ الحكم الظاهري هو جعل الحكم المماثل ، وكمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة ، وكذلك هناك مبان للتوفيق بينهما كالقول بأنّ الحكم الظاهري حكم وضعي المجعول فيه الطريقيّة والكاشفيّة ، وكالقول : إنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ في متعلّقه وإنّما في نفس جعله ، فلا بدّ أن تختلف النتيجة باختلاف المبنى ولذلك نقول :

فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنّ مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلّقه أمكن جعل حكمين ظاهريّين بالإباحة والحرمة معا على شرط أن لا يكونا واصلين معا ، فإنّه في حالة عدم وصول كليهما معا لا تنافي بينهما لا بلحاظ نفس الجعل ؛ لأنّه مجرّد اعتبار ، ولا بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مركزها ليس واحدا ، بل مبادئ كلّ حكم في نفس جعله لا في متعلّقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ؛ لأن أحدهما على الأقلّ غير واصل فلا أثر عملي له. وأمّا في حالة وصولهما معا فهما متنافيان متضادان ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن.

بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي. وبناء على ما ذكره من أنّ التضادّ إنّما يكون بلحاظ المبدأ في عالم المبادئ أو بلحاظ المنتهى أي بلحاظ التنجيز ، فعلى هذا المسلك يمكن تصوير اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا كالحرمة والاباحة ، ولكن بشرط ألاّ يكونا واصلين معا إلى المكلّف. وتوضيح ذلك : إنّ الشارع

ص: 114

بناء على هذا المسلك يمكنه إصدار الحكمين الظاهريّين كالحرمة والإباحة على الواقعة المشكوكة ، ولكن يأخذ شرطا لئلا يصلا معا إلى المكلّف بأن يجعلا بنحو الترتيب مثلا ، فإنّه في هذه الحالة لا يكون هناك تضادّ بينهما لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

أمّا عالم الجعل فلما تقدّم من أنّه مجرّد اعتبار وصياغة إنشائيّة ، ولذلك لا مانع من وجود حكمين واقعيّين جعلا واعتبارا فضلا عن الحكمين الظاهريّين.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ كلّ واحد من الحكمين في نفس جعله وتشريعه ، وهذا يعني أنّ مبادئ الحرمة في نفس جعلها ومبادئ الإباحة في نفس جعلها. وجعل الإباحة يختلف عن جعل الحرمة ولذلك لكلّ منهما مصبّ يختلف عن الآخر ، فلم تجتمع مبادئ الحرمة ومبادئ الإباحة ؛ لعدم وجود مصبّ مشترك بينهما ؛ لاختلاف الجعل فيهما. والمفروض أنّ المبادئ بناء على هذا المسلك ليست في المتعلّق أي الواقع المشكوك ليلزم اجتماعهما بلحاظه.

وأمّا عالم الامتثال والمنجّزيّة والمعذّريّة فإنّ وجود الشرط المذكور يحول دون اجتماعهما ؛ لأنّه في حالة عدم وصولهما معا إمّا ألاّ يكون شيء منهما واصلا ، أو يكون أحدهما فقط هو الواصل ، فعلى الأوّل لا يلزم المكلّف شيء لعدم وجود شيء منهما ظاهرا بحقّه ، وعلى الثاني سوف يكون أحدهما واصلا فقط. وبالتالي نثبت له المنجّزيّة إن كان الواصل الحرمة ويحكم العقل بلزوم امتثالها ، أو نثبت المعذّريّة إن كان الواصل هو الإباحة ويحكم العقل بالمؤمّنيّة والمعذّريّة. فليس هناك إلا أثر عملي واحد واصل إلى المكلّف.

وبهذا ظهر أنّه يمكن اجتماع حكمين ظاهريّين معا ولا يلزم من ذلك التضادّ ولكن بشرط عدم وصولهما معا (1).

وأمّا في حالة وصولهما معا إلى المكلّف فلا تضادّ بينهما لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ، وإنّما يحصل التضادّ بينهما في عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ متطلّبات

ص: 115


1- بل لا يمكن وصولهما معا ؛ لأنّ وصولهما معا يعني انتفاء شرط جعل كلّ منهما ؛ لأنّ المفروض أنّ كلا منهما مشروط بعدم وصول الآخر فإذا وصل الآخر انتفى الأوّل ، والمقرر أنّ الأوّل واصل فينتفي الثاني ، ففي مرتبة حصولهما لا يكونان مجعولين أصلا.

الحرمة العمليّة تتنافى مع متطلّبات الإباحة ، حيث إنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مغايرا ومضادّا للآخر. مضافا إلى أنّهما متضادّان أيضا بلحاظ استحقاق العقوبة على الترك وعدمه ، فإنّ الحرمة تستلزم استحقاق العقوبة بخلاف الإباحة ، فإنّ الفعل والترك فيها سيّان. وكذلك فهما متضادّان على كلّ تقدير في نظر المكلّف.

وأمّا على مسلكنا في تفسير الأحكام الظاهريّة وأنّها خطابات تحدّد ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المختلطة ، فالخطابان الظاهريّان المختلفان - كالإباحة والمنع - متضادّان بنفسيهما ، سواء وصلا إلى المكلّف أو لا ؛ لأنّ الأوّل يثبت أهميّة ملاك المباحات الواقعيّة ، والثاني يبيّن أهميّة ملاك المحرّمات الواقعيّة ، ولا يمكن أن يكون كلّ من هذين الملاكين أهمّ من الآخر كما هو واضح.

وأمّا بناء على المسلك المختار من أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فهنا لا يمكن جعل خطابين ظاهريّين متغايرين كالإباحة والمنع ، سواء وصلا أم لم يصلا أو وصل أحدهما. والدليل على ذلك : أنّ الإباحة الظاهريّة معناها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع دون غيرها. أمّا المنع الظاهري فهو يثبت أنّ ملاكات الحرمة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع. وهذا يعني أنّه في مورد واحد وهو الواقعة المشكوكة يثبت أنّ الأهمّ هو الإباحة الواقعيّة وأنّ الأهمّ هو الحرمة الواقعيّة من حيث الملاكات والمبادئ ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع ، سواء وصل إلى المكلّف شيء منهما أو لم يصل أصلا.

فإنّ تشريع ذلك من الشارع محال ، ووجه الاستحالة أنّ أحدهما يكذّب الآخر وينفيه التزاما ؛ إذ الإباحة تدلّ بالمطابقة على ثبوت الملاكات الترخيصيّة وأنّها الأهمّ وبالالتزام على نفي شيء آخر ، والحرمة بالعكس فيقع التكاذب والتنافي بينهما من حيث المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي في كلّ منهما.

ولذلك فالمقصود من التضادّ هنا ليس المصطلح المنطقي من اجتماع شيئين على موضوع واحد ، وإنّما المقصود هنا هو أن كلّ واحد منهما يكذّب الآخر وينفيه.

وبذلك يتّضح أنّ التضادّ يقع بينهما في مرتبة سابقة عن الوصول فلا ينفع القيد المذكور سابقا في رفع هذه الاستحالة.

ص: 116

وظيفة الأحكام الظاهريّة

ص: 117

ص: 118

وظيفة الأحكام الظاهريّة

وبعد أن اتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الأهمّ من الأحكام الواقعيّة ومبادئها ، وليس لها مبادئ في مقابلها ، نخرج من ذلك بنتيجة وهي : أنّ الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعيّة المشكوكة ، فهو ينجّز تارة ، ويعذّر أخرى.

الثمرة والفائدة من الأحكام الظاهريّة بعد أن عرفنا أنّها خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الاشتباه والشكّ والاختلاط وعدم التمييز ، والذي معناه كما قلنا أنّه ليس فيها مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، هي أنّ الأحكام الظاهريّة وظيفتها التنجيز والتعذير فقط بمعنى أنّها تارة تؤدّي إلى تنجيز الأحكام الواقعيّة عند ما يكون مفادها إبراز الملاكات الإلزاميّة الواقعيّة وكونها الأهمّ ، وأخرى تؤدّي إلى التعذير والتأمين عند ما يكون مفادها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ.

فخبر الثقة مثلا والبراءة والاحتياط تؤدّي إلى التنجيز والتعذير بإبراز الملاك الواقعي الأهمّ ، ولذلك تكون المنجّزيّة والمعذّريّة من شئون الحكم الواقعي والعقل يحكم بهما تبعا للمبادئ الموجودة فيه دون الأحكام الظاهريّة ، فإنّه لا منجّزيّة ولا معذّريّة لها ؛ إذ لا مبادئ فيها ليحكم العقل بلزوم اتّباعها وإطاعتها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وليس موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعيّة ؛ لأنه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهرا يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه وعلى مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو.

فالأحكام الظاهريّة ليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ؛

ص: 119

لأنّ العقل إنّما يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند ما يكون هناك تكليف مولوي له مبادئ وملاكات ، والمفروض أنّ الأحكام الظاهريّة ليس لها مبادئ خاصّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، فليس هناك تنجيز وتعذير في مقابل الأحكام الواقعيّة ، بل تنجيزها يثبت لأجل منجّزيّة الأحكام الواقعيّة. ففي الحقيقة المنجّزيّة ثابتة للحكم الواقعي والحكم الظاهري كشف عنها فقط وأبرزها ، ولذلك فحكم العقل بالإطاعة والامتثال إنّما هو بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي التي أبرزها الحكم الظاهري ، واستحقاق العقاب على المخالفة واستحقاق الثواب على الإطاعة إنّما هو لأجل الحكم الواقعي لا للحكم الظاهري.

فالاحتياط مثلا حينما يحكم به الشارع ظاهرا إنّما يحكم به لأجل إبراز أنّ ملاكات الإلزام كالوجوب أو الحرمة هي الأهمّ بنظر الشارع ، وعندئذ يستقلّ العقل بالحكم بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل أو الحرمة المحتملة لا على الوجوب الظاهري أو الحرمة الظاهريّة ؛ إذ لا مبادئ ولا ملاكات مستقلّة للحكم الظاهري. ويحكم العقل أيضا باستحقاق العقاب أو الثواب عند المخالفة أو الموافقة لهذا التحفّظ ، فإذا ترك التحفّظ استحقّ العقاب على تركه وإذا قام بالتحفّظ استحقّ الثواب ، وليس هذا الاستحقاق لأجل مخالفة أو امتثال نفس الحكم بالوجوب والاحتياط الظاهري ؛ إذ لا ملاكات ولا مبادئ لهذا الاحتياط الظاهري ليكون موضوعا مستقلا لحكم العقل بالعقاب أو الثواب.

وهذا معنى ما يقال : من أنّ الأحكام الظاهريّة طريقيّة لا حقيقيّة ، فهي مجرّد وسائل وطرق لتسجيل الواقع المشكوك وإدخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون بنفسها موضوعا مستقلا للدخول في العهدة ؛ لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها.

والحاصل أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا وسائل وطرق لأجل إبراز الملاك الواقعي الأهمّ وإدخاله في عهدة المكلّف وتسجيله على ذمّته بحيث يصبح مطالبا بهذا الواقع تنجيزا أو تعذيرا ؛ لأنّ هذا الواقع هو تمام الموضوع لحكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة واستحقاق العقاب والثواب ؛ لأنّ حكم العقل بذلك تابع لحقّ الطاعة والذي مصبّه ما تعلّقت به إرادة الشارع وما يكون محبوبا أو مبغوضا للشارع ، وهو الحكم الواقعي المشتمل على الملاكات والمبادئ دون الحكم الظاهري لخلوه عن الملاكات والمبادئ في

ص: 120

نفسه ، ولذلك لا يكون موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بدخول التكليف في العهدة.

ولهذا فإنّ من يخالف وجوب الاحتياط في مورد ويتورّط نتيجة لذلك في ترك الواجب الواقعي لا يكون مستحقّا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعي ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل لعقاب واحد ، وإلا لكان حاله أشدّ ممّن ترك الواجب الواقعي وهو عالم بوجوبه.

وبناء على أنّ الأحكام الظاهريّة مجرّد طرق ووسائل وليست موضوعا مستقلا لحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة لا يكون مستحقّا لعقابين فيما لو خالف الإلزام الظاهري ، كأن قام الحكم الظاهري على وجوب فعل ما فتركه المكلّف ، فإنّه لا يكون بهذه المخالفة مستحقّا لعقابين أحدهما على مخالفة الإلزام والوجوب الظاهري والآخر على مخالفة الوجوب الواقعي لو فرض مطابقة هذا الحكم الظاهري للواقع وكان الوجوب ثابتا واقعا ، بل يستحقّ عقابا واحدا فقط على تركه التحفّظ فقط عن الوجوب الواقعي المحتمل ؛ وذلك لأنّه لا يوجد مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري ليعاقب على تركها.

والقول بأنّه يستحقّ عقابين كذلك مع عدم وجود مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري يعني أنّ حاله أسوأ وأشدّ ممّن علم بالحكم الواقعي وخالفه ؛ إذ مع العلم بالواقع ومخالفته يستحقّ عقابا واحدا ، بينما هذا الذي يجهل الواقع وقام عنده أمارة أو أصل على التنجيز يكون مستحقّا لعقابين. فيكون الجاهل المخالف أسوأ حالا من العالم المخالف ، وهذا واضح الفساد (1).

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لا طريقيّة ، بمعنى أنّ لها مبادئ خاصّة بها ، ومن أجل ذلك تشكّل موضوعا مستقلاّ للدخول في العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

فحاصل الكلام في الأحكام الظاهريّة أنّها طرق ووسائل فقط ليس لها مبادئ وليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بالإطاعة والامتثال والتنجيز ودخول التكليف في عهدة المكلّف ، بل هي مجرّد وسائط بين حكم العقل وبين الحكم الواقعي بمعنى

ص: 121


1- مضافا إلى أنّه يلزم إناطة العقاب على المطابقة للواقع والتي هي خارجة عن قدرة المكلّف ، فيكون معاقبا على شيء غير قادر عليه ، وهو قبيح عقلا.

أنّها تبرز الحكم الواقعي الأهمّ والذي على أساسه يحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على الترك والمخالفة.

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لها مبادئ مستقلّة بها وتكون موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقاب والثواب ، ولدخول التكليف في ذمّة المكلّف وعهدته بحيث يكون مسئولا عنه ومطالبا به ، لما تقدّم من أنّ حكم العقل موضوعه المبادئ والملاكات وهي موجودة في الحكم الواقعي ، فالمعذّريّة والمنجّزيّة عقلا تابعة لحقّ الطاعة ، وهو التكليف الذي وقع مصبّا للمبادئ والإرادة والشوق المولوي.

ص: 122

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة

ص: 123

ص: 124

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة

تقدّم (1) أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل ، واتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة تجتمع مع الأحكام الواقعيّة على الجاهل دون منافاة بينهما ، وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يتصرّف في الحكم الواقعي.

عرفنا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة حتّى في حالة الشكّ ، وهذا معناه اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم والجاهل فهي ثابتة في كلا الموردين. وعرفنا أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا طرق ووسائل ؛ لأجل تسجيل الواقع وإدخاله في عهدة المكلّف من خلال إبرازها لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة. وعليه ، فلا مانع من اجتماع حكمين واقعي وظاهري متضادّين ، ولا منافاة في ذلك لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال كما تقدّم. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يغيّر ولا يبدّل ولا يتصرّف بالحكم الواقعي ، بل هو ثابت دائما حتّى مع الشكّ والجهل فإن وافق الحكم الظاهري الحكم الواقعي فهو وإلا كان معذورا. ومقتضى ذلك أنّ الأحكام الظاهريّة في صورة الخطأ لا توجب الإجزاء ، كما إذا قامت الأمارة أو الأصل على الجواز والترخيص ثمّ تبيّن فيما بعد الخطأ بأن انكشف الواقع للمكلّف وعلم به ، فبناء على ما تقدّم ينبغي الإعادة ولا يكون هناك إجزاء ؛ لأنّ هذه المبادئ الواقعيّة والملاكات لا زالت موجودة والمكلّف لم يحصلها ولم يحقّق الامتثال الموجب لسقوطها.

ولكن هناك من ذهب إلى أنّ الأصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة - كأصالة الطهارة - تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، بمعنى أنّ الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة مثلا يتّسع ببركة أصالة الطهارة فيشمل الثوب المشكوكة

ص: 125


1- في هذه الحلقة ، تحت عنوان : شمول الحكم للعالم والجاهل.

طهارته الذي جرت فيه أصالة الطهارة حتّى لو كان نجسا في الواقع ، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج أنّ الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا ، ولا تجب إعادتها على القاعدة ؛ لأن الشرطيّة قد اتّسع موضوعها.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى التفصيل بين قسمين من الأحكام الظاهريّة :

1 - الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة والاحتياط ، فهذه لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، ولذلك فهي على القاعدة إن وافقت الواقع فلا إشكال ، وإن خالفت الواقع وعلم المكلّف بذلك فيما بعد. فإن كان في الأثناء تجب الإعادة ؛ لعدم تحقّق الامتثال والإطاعة واقعا ولبقاء الملاكات والمبادئ على حالها ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال ، وإن كان بعد فوات الوقت فالقضاء يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يستفاد من نفس أدلّة الأحكام ؛ لأنّ الزمان بمثابة قيد في الحكم.

2 - الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة والاستصحاب في الموضوعات ، فهذه تتصرّف بالأحكام الواقعيّة. ومعنى التصرّف هو أنّنا لو أخذنا الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة أي أنّه يشترط في الصلاة أن تكون بثوب طاهر ، فإنّ هذه الشرطيّة تتّسع ببركة أصالة الطهارة لتشمل الشرطيّة الواقعيّة أي الثوب المعلوم طهارته واقعا ، والشرطيّة الظاهريّة أي الثوب المشكوك الطهارة الذي تجري فيه أصالة الطهارة فإنّه ثوب طاهر ظاهرا فيكون مصداقا للشرطيّة المذكورة. فلو صلّى بهذا الثوب أي الطاهر ظاهرا ثمّ تبيّن فيما بعد أنّه نجس واقعا فإن كان في الأثناء فضلا عن خارج الوقت لا تجب الإعادة ؛ لأنّ الشرطيّة المذكورة قد اتّسعت لتشمل الثوب الطاهر واقعا وظاهرا ، بعد إن كان مقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة في الأثناء.

وهذا نحو من أنحاء التصويب أي كون الأحكام الظاهريّة مصيبة للواقع في خصوص هذا القسم دائما ؛ لأنّ الواقع يتغيّر على وفقها سعة وضيقا.

وتقريب ذلك : أنّ دليل أصالة الطهارة بقوله : ( كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ) يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ؛ لأنّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وإيجاد فرد له ، فالشرط موجود إذن.

ص: 126

والدليل على ما ذكره من التوسعة والتصرّف : هو أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحليّة أو استصحابها يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ، وهذا معناه أنّ شرطيّة طهارة الثوب قد اتّسعت ؛ لأنّ معنى الحكومة إيجاد فرد ومصداق ادّعائي تعبّدي للموضوع ، فدليل أصالة الطهارة يثبت لنا أنّ هذا الثوب المشكوك الذي جرت فيه أصالة الطهارة فرد من أفراد الشرطيّة ومصداق للشرطيّة.

وعليه ، فالمكلّف عند ما دخل في الصلاة بهذا الثوب يكون محقّقا للشرطيّة ؛ لأنّه جاء بفرد من أفرادها وهو الفرد الادّعائي التعبّدي. فالشارع اعتبر هذا الفرد مصداقا والمكلّف قد أتى به ، فلا وجه للإعادة حتّى لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّه أتى بالمأمور به والإتيان بالمأمور به مسقط للتكليف من حيث الفاعليّة كما سيأتي في محلّه. وهذه التوسعة ثبتت ببركة الحكومة التي هي مفاد لسان دليل الطهارة الذي يدّعي أنّ هذا طاهر.

وليس الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالأمارة فقط (1) ؛ لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة ليس جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقيّة والمنجّزيّة ، فهو بلسانه لا يوسّع موضوع دليل الشرطيّة ؛ لأنّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول : هذا طاهر ، بل يقول : هذا محرز الطهارة بالأمارة فلا يكون حاكما.

وأمّا لو كانت طهارة الثوب المشكوك ثابتة بالأمارة من قبيل إخبار الثقة بأنّ هذا الثوب طاهر فهنا لو انكشف الخلاف وتبيّن كون الثوب نجسا فتجب الإعادة في الأثناء ؛ وذلك لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة جعل خبر الثقة علما وطريقا كاشفا عن الواقع. وهذا معناه أنّ خبر الثقة يحرز لنا الواقع ولسانه : أنّ هذا الثوب طاهر واقعا ومحرز للطهارة الواقعيّة ، وليس لسانه لسان التوسعة للشرطيّة للأعمّ من

ص: 127


1- إضافة كلمة ( فقط ) لأجل موردين : أحدهما ما إذا كانت الأمارة ثابتة مع أصالة الطهارة في نفس المورد ، فهنا يلحق بالفرض السابق. والآخر ما إذا كانت الواقعة مشكوكة الطهارة ذاتا فيجري الأمارة دون أصالة الطهارة ، أو كانت الواقعة معلومة الطهارة والنجاسة سابقا وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما وقامت الأمارة على أحدهما فإنّهما يتعارضان ويتساقطان ، فتجري الأمارة وحدها فقط.

الثوب الطاهر واقعا والثوب الطاهر ظاهرا ، وإنّما لسانه إيجاد فرد حقيقي ومصداق واقعي للشرطيّة ، فهو يخبرنا عن كون هذا الثوب محرز الطهارة واقعا لا أنّه فرد من أفراد الشرطيّة الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة. والوجه في ذلك أنّ لسان الأمارات لسان الورود وهو معناه إيجاد فرد حقيقي للموضوع ، فالأمارة تدّعي أنّ هذا الثوب المشكوك طاهر واقعا ومصداق حقيقي للطهارة الواقعيّة ، ولذلك إذا أتى المكلّف بهذا المصداق ثمّ انكشف الخلاف تبيّن أنّه لم يأت بالشرطيّة ؛ لأنّه لم يحقّق مصداقها الواقعي الحقيقي ، وهذا يعني أنّه أتى بغير المأمور به وهو لا يجزي ولا يسقط التكليف عن فاعليّته فتبقى ذمّته مشغولة فتجب عليه الإعادة في الوقت دون خارجه ؛ لعدم الدليل الخاصّ على القضاء. وأمّا الإعادة فدليلها عدم تحقّق الامتثال فيحكم العقل بوجوب الامتثال ثانيا. هذا كلّه بناء على أنّ المجعول في الأمارات الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة (1).

وعلى هذا الأساس فصّل صاحب ( الكفاية ) بين الأمارات والأصول المنقّحة للموضوع ، فبنى على أنّ الأصول الموضوعيّة توسّع دائر الحكم الواقعي المترتّب على ذلك الموضوع دون الأمارات.

وعلى هذا الأساس من التفرقة بين الأمارات والأصول الموضوعيّة حيث إنّ الأولى تكون واردة بينما الثانية تكون حاكمة ، فصّل صاحب ( الكفاية ) بينهما بلحاظ الإجزاء وعدم الإعادة في الوقت في الثانية دون الأولى ؛ لأنّ الثانية توسّع الموضوع لما يشمل الظاهر والواقع دون الأولى فإنّها توجد فردا واقعيّا فقط.

وهذا غير صحيح ، وسيأتي بعض الحديث عنه إن شاء اللّه تعالى.

والصحيح : هو عدم الفرق بين الأمارات وبين الأصول الموضوعيّة في عدم الإجزاء ووجوب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ وذلك لأنّ هذه الأصول الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة واستصحابهما ليس مفاد دليلها التوسعة والحكومة للموضوع

ص: 128


1- وأمّا لو قلنا بأنّ المجعول فيها هو الحكم المماثل فهذا يعني أنّه بقيام الأمارة على كون هذا الثوب طاهرا يجعل المولى حكما تكليفيّا أو وضعيّا على وفقها أي أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب طبقا لمؤدّى الأمارة ، ولذلك تكون الصلاة صحيحة ولا تجب الإعادة في الأثناء فضلا عن الخارج ؛ لأنّ جعل الحكم المماثل أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب واقعا.

والشرطيّة ، بل هي كالأمارات واردة على الموضوع وتوجد فردا حقيقيّا من الموضوع (1).

ص: 129


1- والوجه في بطلان الحكومة أنّها إنّما تتصوّر بين دليلين عرضيّين لكي يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ، حيث إنّ إحراز النظر في الحكومة شرط لجريانها ، وأمّا إذا كان بين الدليلين مرتبة طوليّة فلا يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ؛ لاختلاف الرتبة بينهما. وهنا الحكم الواقعي سابق رتبة ومتقدّم عن الحكم الظاهري ، فالمرتبة بينهما طوليّة لا عرضيّة ، ولذلك لا نظر بينهما ؛ لأنّ لسان الحكم الظاهري كأصالة الطهارة مثلا لا يمكن أن يكون موجدا لأكثر من أصالة الطهارة بمعنى كون دليل أصالة الطهارة لسانه إنشاء أصالة الطهارة وجعلها ، ولا يمكن أن يكون ناظرا إلى كونها حاكمة على موضوع الطهارة الواقعيّة ؛ لأنّ اعتبارها حاكمة فرع ثبوتها أوّلا ثمّ تكون حاكمة ثانيا ؛ لأنّ الحكومة صفة وجوديّة لها والصفات الوجوديّة تفترض مسبقا تحقّق الموضوع أوّلا ، والمفروض هنا أنّ أصالة الطهارة لم تثبت إلا بهذا الدليل الذي يراد ادّعاء كونه ناظرا إلى أنّها حاكمة. وبتعبير آخر أنّ هذا الدليل إمّا أن يثبت أصالة الطهارة أو يثبت كونها حاكمة ، وأمّا كونه مثبتا للأمرين معا فهو غير ممكن لاستلزام ذلك تعدّد النظر في اللسان الواحد مع اختلاف الرتبة بين المنظورين والمفادين. مضافا إلى أنّ تعبير صاحب ( الكفاية ) بالحكومة ليس صحيحا ؛ لأنّ التطبيق الذي ذكره هو نفسه الورود فيكون تعبيره اللفظي بالحكومة ، ولكن المضمون والمحتوى هو الورود. ويدلّ على ذلك : أنّ الحكومة عنده هي الحكومة اللفظيّة التفسيريّة بإحدى الكلمات الدالّة على التفسير ( أعني ، أقصد ، أريد ) الدالّة على تفسير المراد من الكلام السابق. فما ذكره من مثال إنّما هو تطبيق صحيح للورود لا الحكومة عنده فتكون هذه الأصول مفادها الورود كالأمارات ، وحينئذ لا فرق بين الأمارات وبين الأصول من حيث الإجراء وعدمه. فإمّا أن يلتزم بالإجزاء فيهما معا ؛ لأنّ النكتة واحدة وهي الورود ، وإمّا ألاّ يلتزم بذلك فيهما أيضا. والصحيح : هو كون الأمارات والأصول جميعا غير موجبة للإجزاء في الفرض المذكور ، بل تجب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّ هذا النحو من الإجزاء يؤدّي إلى القول بالتصويب بنحو من أنحائه ولو بدرجة خفيفة ، وقد تقدّم أنّ التصويب باطل بكل معانيه ، والصحيح هو القول بالتخطئة.

ص: 130

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام

ص: 131

ص: 132

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام

مرّ بنا في الحلقة السابقة (1) أنّ الحكم تارة يجعل على نهج القضيّة الحقيقيّة ، وأخرى يجعل على نهج القضيّة الخارجيّة.

تقدّم أنّ الحاكم عند ما يجعل حكمه على موضوعه : تارة يجعله على نهج القضيّة الحقيقيّة أي يفترض وجود الموضوع بكلّ حيثيّاته وقيوده ، وأخرى يجعله على نحو القضيّة الخارجيّة ، بأن يشير إلى الموضوع المحقّق في الخارج ويجعل حكمه عليه. فهناك نوعان من الموضوع : الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، والموضوع الموجود فعلا في الخارج.

والقضيّة الخارجيّة : هي القضيّة التي يجعل فيها الحاكم حكمه على أفراد موجودة فعلا في الخارج في زمان إصدار الحكم ، أو في أي زمان آخر ، فلو أتيح لحاكم أن يعرف بالضبط من وجد ومن هو موجود ومن سوف يوجد في المستقبل من العلماء فأشار إليهم جميعا وأمر بإكرامهم ، فهذه قضيّة خارجيّة.

القضيّة الخارجيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في الخارج في أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ، بحيث يلاحظ الحاكم هذه الأفراد ويشير إليها في حكمه. فالأفراد فيها موجودة فعلا قد فرغ عن وجودها وقد لاحظها الحاكم في حكمه فعلا ، وهنا مثالان لذلك :

الأوّل : أن تكون الأفراد موجودة فعلا في زمان إصدار الحكم ، بأن يشير الحاكم إلى هذه الأفراد الموجودة فعلا ويحكم عليها ، ويكون وجودها مقارنا لوجود الحكم أي يتّحد زمان الحكم وزمان وجود الأفراد ، فيقول مثلا : ( أكرم كلّ من في هذا المعسكر من جنود ). فإنّ الجنود موجودون فعلا في زمان إصدار الحكم.

ص: 133


1- ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام.

الثاني : أن يكون زمان إصدار الحكم مقارنا لوجود بعض هذه الأفراد ومتقدّما عن وجود الأفراد الأخرى ، بأن يلاحظ الحاكم هذه الأفراد الموجودة سابقا والموجودة الآن والتي ستوجد فيما بعد إلى زمان معيّن ويشير إليها في حكمه ويصبّه عليها ، فيقول : ( أكرم العلماء الذين وجدوا سابقا والذين يوجدون الآن والذين سيوجدون إلى سنة مثلا ). فحكمه هنا منصبّ على موضوع خارجي ؛ لأنّه أشار إلى هذا الموضوع في حكمه ، وإن كان بعض أفراد الموضوع لم يكن فعليّا الآن ولكن يفترض أنّه أتيح له أن يحصي من سيوجد من العلماء في خلال الزمان الاستقبالي. فهذه قضيّة خارجيّة أيضا.

والحاصل : أنّ القضيّة الخارجيّة قد يكون أفراد موضوعها موجودين فعلا ، وقد يكونون موجودين في المستقبل. فإنّ المهمّ فيها هو أن يشير إليهم الحاكم في حكمه ، فالإشارة إلى الخارج هي الملاك في القضيّة الخارجيّة.

والقضيّة الحقيقيّة : هي القضيّة التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره وذهنه بدلا عن الواقع الخارجي ، فيشكّل قضيّة شرطيّة شرطها هو الموضوع المقدّر الوجود وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) ، وإذا قال : ( أكرم العالم ) قاصدا هذا المعنى فالقضية - روحا - شرطيّة وإن كانت - صياغة - حمليّة.

القضيّة الحقيقيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في نفس الأمر والواقع ، بمعنى أنّ الموضوع موجود في ذهن الشارع وتصوّره بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج الآن أو في الماضي أو في المستقبل ، فالشارع ينظر إلى الموضوع بما هو موجود فعلا في تصوّره وذهنه سواء كان موجودا في الخارج أم لا. فالوجود الخارجي للموضوع لم يكن مأخوذا بعين الاعتبار حين إصدار الحكم والتشريع. وهذا يعني أنّ الموضوع مفترض ومقدّر الوجود على نهج القضيّة الشرطيّة التي يكون الجزاء فيها معلّقا على تقدير تحقّق الشرط في الخارج ، وعلى هذا الأساس يصبّ المولى حكمه إمّا بلسان قضيّة شرطيّة ، وإمّا بلسان قضيّة حمليّة جوهرها وروحها قضيّة شرطيّة.

مثال الأوّلى : أن يقول : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فهذه القضيّة أخذ فيها الموضوع مقدّر ومفترض الوجود والتحقّق ؛ لأنّ تعليق الجزاء على الشرط يدلّ على ذلك وضعا.

مثال الثانية : أن يقول : ( أكرم العالم ) ، فإنّها وإن كانت في صياغتها الإنشائيّة قضيّة

ص: 134

حمليّة - والمفروض في القضايا الحمليّة أن يكون الموضوع موجودا فعلا - إلا أنّها في حقيقتها وجوهرها وروحها قضيّة شرطيّة ؛ لأنّها بالتحليل العقلي بمعنى قوله : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فبأحد هذين اللسانين يصوغ المولى القضيّة الحقيقيّة التي ملاكها أن يكون الموضوع مفترض الوجود في ذهن الحاكم وتصوّره ، بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج أو لا.

وهناك فوارق بين القضيّتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزى عملي.

توجد فوارق نظريّة وأخرى عمليّة بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة لا بأس بالإشارة إلى جملة منها :

فمن الفوارق : أنّنا بموجب القضيّة الحقيقيّة نستطيع أن نشير إلى أي جاهل ونقول : ( لو كان هذا عالما لوجب إكرامه ) ؛ لأنّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة وهذا مصداقها ، وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافا للقضيّة الخارجيّة التي تعتمد على الإحصاء الشخصي للحاكم ، فإنّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها لا بالفعل ولا على تقدير أن يكون عالما. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هي تنصبّ على موضوع ناجز.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو :

في القضيّة الحقيقيّة : ( أكرم العالم ) يمكننا أن نشير إلى فرد جاهل ونقول في حقّه هذه القضيّة الشرطيّة الافتراضيّة ، وهي : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة مجعولة على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، أي كلّ فرد يتّصف بماهيّة العلم يجب إكرامه في أي زمان وأي مكان. والقضيّة الشرطيّة المفروضة صادقة من حيث الفرض والتقدير والتصوّر ؛ لأنّ الجزاء فيها معلّق على فرض تحقّق الشرط والشرط متحقّق تصوّرا وذهنا وإن لم يكن متحقّقا صدقا وخارجا ؛ إذ يكفي في صدق القضيّة الشرطيّة أن تكون صادقة ذهنا وتصوّرا ، ولا يشترط أن يكون شرطها متحقّقا واقعا وصادقا خارجا.

وأمّا في القضيّة الخارجيّة فلا يمكننا الإشارة إلى هذا الفرد الجاهل ونقول : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ وذلك لأنّ القضيّة الخارجيّة تعتمد على إحصاء

ص: 135

الحاكم والاستقراء والتتبّع لأفراد موضوعه في الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فعند ما يصبّ حكمه يكون مصبّه هو الأفراد في الخارج الذين يتّصفون بهذا الوصف والماهيّة ، وهذا الجاهل ليس فردا من أفراد الموضوع لا فعلا ولا تقديرا. أمّا أنّه ليس فردا بالفعل فلأنّه جاهل بحسب الفرض وليس عالما فلم يكن داخلا في الأفراد الذين أحصاهم الحاكم ولاحظهم وأشار إليهم. وأمّا أنّه ليس فردا بالفرض والتقدير فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها فرض وتقدير في أفرادها ، بل أفرادها يكونون مصبّا للحكم بما هم موجودون في إحصاء الحاكم. فالقضيّة الخارجيّة تنصبّ على الموضوع الفعلي الناجز لا على الموضوع المفترض والمقدّر.

ومن الفوارق : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة وصف كلّي دائما يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم ، سواء كان وصفا عرضيّا كالعالم أو ذاتيّا كالإنسان. وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة أي ما يقبل أن يشار إليه في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة ، ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ؛ لأنّ الذات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) خارجا لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو محقّق الوجود.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة لا بدّ أن يكون وصفا كلّيّا دائما ، ولا يمكن أن يكون مفهوما جزئيّا ؛ لأنّ الوصف الكلّي هو الذي يقبل الافتراض والتقدير والذي هو جوهر القضيّة الحقيقيّة فيرتّب الحكم على هذا الموضوع الذي هو عنوان كلّي بفرض وجوده ، دون الجزئي الذي لا يكون إلا مشخّصا ومتميّزا في الخارج عن غيره ، ولذلك فهو لا يقبل الفرض والتقدير ؛ لأنّه موجود فعلا.

ثمّ إنّ هذا العنوان والقصد الكلّي على قسمين :

فتارة يكون وصفا عرضيّا كالعالم ، فإنّ العالم هو الذات التي يعرض عليها العلم. فالعلم عرض على الذات ، فيقال مثلا : ( أكرم العالم ) ، أو ( إن وجد عالم فأكرمه ). فينصبّ الحكم على هذا العنوان العرضي الكلّي المفترض الوجود.

وأخرى يكون وصفا ذاتيّا كالإنسان ، فإنّه ذات تتألّف بالتحليل العقلي من جنس وفصل ، وهي عنوان كلّي ، فيقال مثلا : ( أكرم الإنسان ) ، أو ( إن وجد إنسان فأكرمه ).

ص: 136

وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة المتشخّصة بوجودها والمتميّزة عن غيرها ، ولذلك فهي الجزئيّات والأفراد والمصاديق الموجودة فعلا ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة موضوعها ما يقبل الإشارة إليه ، والإشارة لا تتحقّق إلا إذا كان المشار إليه موجودا ومتشخّصا في وجوده ومتميّزا عن غيره بلحاظ أحد الأزمنة الثلاثة.

وعلى هذا فالافتراض والتقدير مستحيل في القضيّة الخارجيّة ؛ لأنّ الذوات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) أي ما يشار إليه لا بدّ من كونه موجودا بالفعل ، ولا معنى لافتراضه وتقديره. فهناك تناف بين الإشارة وبين الافتراض والتقدير ؛ لأنّ الإشارة معناها أنّ المشار إليه متحقّق الوجود بالفعل ، والافتراض والتقدير معناه أنّه ليس موجودا فعلا.

والحاصل : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة كلّي ، بينما في القضيّة الخارجيّة الذات المتشخّصة المشار إليها وهي الجزئيّات.

فإن كان وصف ما دخيلا في ملاك الحكم في القضيّة الخارجيّة تصدّى المولى لإحراز وجوده ، كما إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب إكرام أبناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم ، فإنّه يتصدّى بنفسه لإحراز تديّنهم ، ثمّ يقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ) أو ( إلا زيدا ) تبعا لما أحرزه من تديّنهم كلاّ أو جلاّ. وأمّا إذا قال : ( أكرم أبناء عمّك إن كانوا متديّنين ) فالقضيّة شرطيّة وحقيقيّة من ناحية هذا الشرط ؛ لأنّه قد أفترض وقدّر.

وهذا الفارق النظري يترتّب عليه ثمرة عمليّة وهي :

إذا كان هناك وصف ما دخيلا في ملاك الحكم أي كان يوجد في الملاك هذا الوصف والذي على أساسه صدر هذا الحكم ، فهنا إن كانت القضيّة خارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم يجب على الحاكم نفسه التصدّي لإحراز وجوده في الذوات الخارجيّة ، والأفراد التي انصبّ عليها حكمه وكانت موضوعا لحكمه. وليس المكلّف مطالبا بالتصدّي لإحراز هذا الوصف الدخيل في الملاك.

فمثلا : إذا أراد الحاكم من ولده إكرام أبناء عمّه وكان لوصف التديّن دخالة في الملاك ، فهنا وبما أنّ القضيّة الخارجيّة التي معناها : أنّ الحاكم يحصي الأفراد الذين هم مصبّ لحكمه ، فيجب أن يتصدّى الحاكم لإحراز هذا الوصف في كلّ فرد من أفراد

ص: 137

موضوعه. فإن أحرز وجوده فيهم جميعا أصدر حكمه بنحو عامّ وشامل فيقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ). وإن أحرز وجوده فيهم إلا واحدا منهم فيقول : ( أكرم أبناء عمّك إلا فلانا ) فيخرج الفرد الذي لم يتّصف بهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم.

وأمّا إن كانت القضيّة الخارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم لا يجب على الحاكم التصدّي لإحرازه ، بل يجب على المكلّف إحراز وجوده في مصاديق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الحاكم يجعل حكمه في القضيّة الحقيقيّة على نهج القضيّة الشرطيّة أي يفترض فيها ويقدّر وجود الشرط والموضوع فيقول : ( إن كان أبناء عمّك متديّنين فأكرمهم ). فهذه قضيّة شرطيّة حقيقيّة ؛ لأنّ موضوعها وشرطها مقدّر الوجود. ومعنى ذلك أنّ الموضوع والشرط إذا تحقّق وجوده وفرض وجود هذا الوصف في أحدهم فيجب إكرامه وإلا فلا يجب الإكرام ، بمعنى أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الموضوع في الخارج عن الفرد الفاقد للشرط والوصف ، وبما أنّ الحاكم يصبّ حكمه على الموضوع المتحقّق في ذهنه فلا يجب عليه التصدّي لإحراز الوصف في الخارج ؛ لأنّ نظره ليس إلى الخارج بل إلى ذهنه وتصوّره والوصف موجود في ذهنه واقعا. وأمّا تطبيق هذا الحكم على مصاديقه الخارجيّة فهي في عهدة المكلّف ، ولذلك يجب عليه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، فإن أحرزه بهذا وجب عليه الإكرام وإلا فلا.

ومن الفوارق المترتّبة على ذلك : أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة إذا انتفى ينتفي الحكم ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه ، وإن شئت قلت : لأنّه شرط ، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط ، خلافا لباب القضايا الخارجيّة ، فإنّ الأوصاف ليست شروطا وإنّما هي أمور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم. فإذا أحرز المولى تديّن أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم على نهج القضيّة الخارجيّة ثبت الحكم ، ولو لم يكونوا متديّنين في الواقع ، وهذا معنى أنّ الذي يتحمّل مسئوليّة تطبيق الوصف على أفراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقيّة ، وهو المولى في باب القضايا الخارجيّة لها.

من الفوارق العمليّة بين القضيتين هو :

إنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة يتصدّى المكلّف لإحرازه

ص: 138

في الخارج ، فإن أحرز وجوده فيترتّب عليه الحكم وإلا فلا يترتّب. وهذا يعني أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الوصف ويثبت بثبوته ؛ لأنّه حيثيّة تقييديّة للحكم يدور الحكم مدارها نفيا وإثباتا. وبتعبير آخر : إنّ الحكم هو الجزاء والوصف هو الشرط ، فإذا ثبت الشرط ثبت الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء.

فمثلا إذا قال : ( أكرم العالم إن كان عادلا ) فهذا يعني أنّ وجوب الإكرام معلّق على تحقّق العدالة ثبوتا وانتفاء. والمكلّف هو الذي يتصدّى لإحراز هذا الوصف في الخارج ويطبّقه على مصاديقه وأفراده دون المولى ؛ لأنّ هذا القيد محرز عنده تصوّرا في الواقع. وهذا معناه أنّ الوصف هنا حيثيّة تقييديّة ، فالحكم مقيّد بالوصف ثبوتا وانتفاء.

وأمّا الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الخارجيّة فهو ليس بمثابة الشرط للجزاء ، فليس هو حيثيّة تقييديّة وإنّما هو حيثيّة تعليليّة أي هي العلّة لإنشاء الحكم وعلّة الحكم فيتصدّى المولى لإحرازها بنفسه ؛ لأنّها هي السبب والعلّة والداعي لجعله الحكم. فإذا أحرزها المولى أنشأ حكمه ويجب على المكلّف الامتثال.

فمثلا إذا أحرز المولى وصف العدالة في أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم بسبب كونهم عادلين ، فأنشأ هذا الحكم على ذمّة المكلّف ، فهنا يجب على المكلّف الامتثال والإطاعة حتّى لو قطع بأنّهم غير عادلين كلاّ أو بعضا ؛ لأنّه ليس من شأنه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، وإنّما مهمّة إحرازه في عهدة المولى ، سواء كانوا متديّنين أو لم يكونوا متديّنين في الواقع بنظر المكلّف طبعا فيجب عليه إكرامهم.

وهذا مختصّ في المولى العرفي الذي قد يخطأ في تشخيص المصلحة واقعا وقد يصيب ، وإلا فالمولى الحقيقي يستحيل بحقّه ذلك. فإذا أحرز الوصف فقطعا الوصف ثابت واقعا ، وعلم المكلّف بالخلاف يكون خطأ أو شبهة أو جهلا مركّبا. والحاصل : أنّ الذي يتحمّل المسئوليّة في التصدّي لإحراز الوصف وتطبيقه على مصاديقه في باب القضايا الحقيقيّة هو المكلّف ، بينما في باب القضايا الخارجيّة يكون المتصدّي لإحراز الوصف هو المولى نفسه.

وينبغي أن يعلم أنّ الحاكم - سواء كان حكمه على نهج القضيّة الحقيقيّة أو على نهج القضيّة الخارجيّة ، وسواء كان حكمه تشريعيّا كالحكم بوجوب الحجّ

ص: 139

على المستطيع أو تكوينيّا وإخباريّا كالحكم بأنّ النار محرقة أو أنّها في الموقد - إنّما يصبّ حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي للحكم.

ذكرنا أنّ الحكم تارة يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفترض فيها الموضوع ويقدّر وجوده ، وأخرى على نهج القضيّة الخارجيّة التي يكون موضوعها الأفراد المشار إليهم في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة.

وهذا الحكم سواء كان موضوعه حقيقيّا أو خارجيّا ، تارة يكون حكما شرعيّا كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع أو وجوب الصلاة ، وأخرى يكون حكما إخباريّا تكوينيّا أي إخبار عن واقعة خارجيّة حدثت أو تحدث مستقبلا أو الآن أو يفترض حدوثها كالإخبار ( بأنّ النار محرقة أو النار في الموقد ). فإنّ الأوّل قضيّة إخبارية تكوينيّة بنحو القضيّة الحقيقية ؛ لأنّ روحها وجوهرها قضيّة شرطيّة وهي إن وجدت نار فهي محرقة ، بينما الثانية قضيّة إخباريّة تكوينيّة بنحو القضيّة الخارجيّة ، وهي الحكم على النار الموجودة في الخارج بأنّها في الموقد لا في مكان آخر.

فالحكم في هذه الموارد كلّها ينصبّ في الحقيقة على الصورة الذهنيّة للموضوع لا على الموضوع الحقيقي للحكم ، وتوضيح ذلك : إنّ حكم الحاكم أمر ذهني في تصوّر الحاكم ، فلا بدّ من فرض الموضوع في الذهن وما يوجد في الذهن إنّما هو الصورة لا نفس الموضوع الحقيقي ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

لأنّ الحكم لمّا كان أمرا ذهنيّا فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو حاضر في الذهن ، وليس ذلك إلا الصورة الذهنيّة.

فمصبّ الحكم الذي هو موضوعه لا بدّ أن يكون ذهنيّا ؛ لأنّ نفس الحكم ذهني حيث إنّه موجود في نفس الحاكم وتصوّره أوّلا لا ما هو موجود في الخارج ، وإلا صار هناك مغايرة سنخيّة بين الحكم وموضوعه.

وهي وإن كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ولكنّها عينه بنظر آخر. فأنت إذا تصوّرت النار ترى بتصوّرك نارا ، ولكنّك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، ولمّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي صحّ أن يحكم عليه بنفس

ص: 140

ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيّات كالإحراق بالنسبة إلى النار.

قبل الدخول في هذا التحليل العقلي لا بدّ من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : لدينا ثلاثة وجودات للنار وهي :

1 - النار بما هي مفهوم كلّي مجرّد من أي قيد وخصوصيّة ، أي ماهيّة النار بما هي هي.

2 - النار بما هي صورة ذهنيّة أي بما هي موجودة في الذهن بحيث أخذ الوجود الذهني قيدا لها.

3 - النار بما هي موجود خارجي أي بما هي موجودة في عالم الخارج والواقع التكويني بحيث أخذ الوجود الخارجي قيدا لها.

الثاني : أنّ النظر التصوّري والحمل الأوّلي المقابل للنظر التصديقي والحمل الشائع له عدّة معان هي :

1 - النظرة الساذجة البدويّة ، وفي مقابلها النظرة الفاحصة التدقيقيّة.

2 - حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، وفي مقابله حمل الشيء على غيره ثانيا وبالعرض.

3 - الاختلاف بالاعتبار والاتّحاد بالمفهوم ، وفي مقابله الاختلاف بالمفهوم والاتّحاد بالمصداق.

4 - تجريد الشيء من الوجود مطلقا سواء الذهني أو الخارجي ، وفي مقابله تقييد الشيء بالوجود الخارجي أو الذهني.

وحينئذ نقول : إنّ الصورة الذهنيّة للنار مباينة للموضوع الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ وذلك لأنّ النار الذهنيّة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات الثابتة للنار الموجودة في الخارج من الحرارة والإحراق.

ولكن هذه الصورة الذهنيّة للنار عين النار بما هي هي المجرّدة عن أي قيد وخصوصيّة أي بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة للنار ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات ، والنار التي هي مفهوم كلّي أي الماهيّة المجرّدة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات أيضا ، فكانت هذه عين ذلك.

وبتعبير آخر : إنّنا إذا تصوّرنا النار نرى أنّه يوجد في تصوّرنا نار ، ولكن هذه النار

ص: 141

التي تصوّرناها ليست إلا صورة ذهنيّة للنار لا نفس النار الموجودة في الخارج بسبب المغايرة بينهما من حيث الآثار والخصوصيّات ، فإنّ الصورة الذهنيّة ليس فيها الآثار والخصوصيّات ، بينما النار الموجودة في الخارج فيها الآثار والخصوصيّات.

إلا أنّ هذه الصورة الذهنيّة للنار هي عين النار الموجودة في الخارج بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي ، أي أنّنا إذا أخذنا هذه النار الموجودة في الخارج بالحمل الأوّلي الذي معناه المفهوم الكلّي والماهيّة بما هي هي مجرّدة من القيود والخصوصيّات وجدنا أنّ ما في الذهن هو عين ما في الخارج بهذا الحمل والتصوّر. وإن كانت تغاير الوجود الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي الذي معناه ملاحظة النار مقيّدة بالوجود فإنّها كذلك تتّصف بالخصوصيّات والآثار المفقودة في الصورة الذهنيّة.

ولكن لمّا كانت الصورة الذهنيّة عين النار الخارجيّة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري صحّ أن يحكم على النار بأنّها محرقة أو أنّها في الموقد ، ولا يصحّ ذلك لو لوحظت النار الخارجيّة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ للمغايرة بينهما في الآثار والخصوصيّات عندئذ. ومن هنا نخلص بنتيجة وهي :

وهذا يعني أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنيّة تكون بالنظر التصوّري عين الخارج وربط الحكم بها ، وإن كانت بنظرة ثانية فاحصة تصديقيّة - أي بالحمل الشائع - مغايرة للخارج.

المراد من إحضار الصورة الذهنيّة في الذهن أن تكون رابطة وحاكية عن الخارج حكاية تامّة بأن تكون عين الخارج ؛ لأنّ الحكم لا ينصبّ على الصورة الذهنيّة بما هي كذلك ، وإلا لصار الحكم ذهنيّا أيضا وموطنه الذهن فلا يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو الفعل والامتثال في الخارج.

وعلى هذا فهذه الصورة الذهنيّة الرابطة بين الموضوع الخارجي وبين الحكم يتعلّق بها الحكم بالعرض وبالذات ، أي بما هي مطابقة للخارج وعين الخارج لا بما هي هي ، وكون الصورة الذهنيّة عين الخارج إنّما يكون فيما إذا لوحظ الخارج بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري الذي معناه ملاحظة الماهيّة والمفهوم بما هو هو مجرّد عن القيود والخصوصيّات.

ص: 142

وأمّا إذا لوحظ الخارج بالحمل الشائع وبالنظر التصديقي فإنّ الصورة الذهنيّة لا تكون مطابقة للخارج ولا تكون عينه ؛ لأنّ الحمل الشائع معناه ملاحظة الماهيّة بما هي متّصفة ومقيّدة بالوجود الخارجي الذي فيه آثار وخصوصيّات الخارج ، وهي مفقودة في الصورة الذهنيّة.

ص: 143

ص: 144

تنسيق البحوث المقبلة

وسوف نتحدّث فيما يلي - وفقا لما تقدّم في الحلقتين السابقتين - عن حجيّة القطع أوّلا باعتباره عنصرا مشتركا عامّا ، ثمّ عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أدلّة محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أصول عمليّة ، وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض إن شاء اللّه تعالى.

ص: 145

ص: 146

العناصر المشتركة في عملية الاستنباط

اشارة

1 - حجّيّة القطع :

2 - الأدلة المحرزة :

3 - الأصول العملية :

4 - حالات التعارض :

ص: 147

ص: 148

حجّيّة القطع

اشارة

تقدّم في الحلقة السابقة (1) أنّ للمولى الحقيقي - سبحانه وتعالى - حقّ الطاعة بحكم مولويّته.

تقدّم سابقا في الحلقة الثانية أنّ المولى الحقيقي وهو اللّه - عزّ وجلّ - له حقّ الطاعة على عباده بحكم كونه مولى وخالقا وبحكم كونهم عبيدا له ، فإنّ من حقّ السيّد على عبده الطاعة بحكم العقل في السيّد الحقيقي ، بخلاف المولى الجعلي أي الذي جعلت له الولاية كالنبي والإمام وأولياء الأمر ، فإنّهم وإن كان لهم حقّ الطاعة على الناس ، إلا أنّ حقّهم هذا مجعول من اللّه وليس ذاتيّا لهم.

فالمولى الحقيقي يحكم العقل بوجوب إطاعته وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه.

وأمّا دائرة حقّ الطاعة فهي :

والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى منجّزيّة القطع ، كما أنّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ إلى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف جزما ، وهذا هو معنى معذّريّة القطع. والمجموع من المنجّزيّة والمعذّريّة هو ما نقصده بالحجّيّة.

هنا أمران : الأوّل : معنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، والثاني : ما هو المقصود من الحجّيّة.

أمّا الأوّل ، فنقول : إنّ القطع معناه الانكشاف التامّ عن الواقع بنحو لا شكّ ولا ريب ولا احتمال في قباله ممّا يوجب الإذعان والجزم والتصديق والاستقرار في النفس وعدم الحيرة. وهذا القطع تارة يكون منجّزا وأخرى يكون معذّرا ، فالمنجّزيّة والمعذّريّة من خصائص القطع وليستا نفس القطع.

فالمنجّزيّة للقطع معناها أنّ القطع بالتكليف يكون متعلّقا لحقّ الطاعة ومدخلا

ص: 149


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

للتكليف في عهدة المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عن هذا التكليف المقطوع لكونه داخلا في دائرة حقّ الطاعة. فإذا قطع المكلّف بالوجوب أو الحرمة فإنّ الوجوب والحرمة يتنجّزان عليه بحكم العقل ؛ لشمول مولويّة المولى لهما ودخولهما في دائرة حقّ الطاعة ، فيكون مطالبا بالامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة.

والمعذّريّة للقطع معناها أنّ القطع بعدم التكليف كالقطع بالترخيص والإباحة والحليّة يكون مبرّئا لذمّة المكلّف من الاشتغال ؛ لأنّ القاطع بعدم التكليف يستحيل أن يتحرّك نحوه ولا يمكن أن يكون منجّزا عليه ؛ لأنّه يعتقد بعدم وجوده فيقطع بأنّ المولى ليس له حقّ الطاعة في هذا الفرض ؛ لأنّه لا يوجد تكليف له فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ المعذّريّة والمنجّزيّة من الخصائص الثابتة للقطع بالتكليف وجودا وعدما.

وأمّا الثاني : فالحجّيّة لها ثلاثة معان :

1 - الحجيّة المنطقيّة : بمعنى وقوع القطع كبرى في القياس المنطقي.

2 - الحجّيّة التكوينيّة : وهي الإراءة والانكشاف والمحرّكيّة نحو استيفاء الغرض من الشيء المنكشف.

3 - الحجيّة الأصوليّة : وهي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة وهذا هو المقصود هنا ، فحجّيّة القطع معناها المعذّريّة والمنجّزيّة.

كما عرفنا سابقا (1) أنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضا ، فيكون الظنّ والاحتمال منجّزا أيضا ، ومن ذلك يستنتج أن المنجّزيّة موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا احتماليّا ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة.

تقدّم في الحلقة الثانية أيضا أنّ حقّ الطاعة لا يختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل يشمل كلّ تكليف منكشف ولو بدرجة ضعيفة ، بمعنى أنّ مطلق الانكشاف للتكليف يكون داخلا في دائرة حقّ الطاعة ويكون موضوعا للمنجّزيّة ، فيشمل القطع والاطمئنان والظنّ والشكّ والاحتمال. فكلّ هذه الانكشافات تكون منجّزة للتكليف

ص: 150


1- الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

وتدخله في حقّ الطاعة وعهدة المكلّف والامتثال ، خلافا لما هو المشهور من عدم شمول المنجّزيّة إلا للقطع بالتكليف دون الظنّ والاحتمال وهو المسمّى بقبح العقاب بلا بيان.

غير أنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمّن من قبل المولى نفسه في مخالفته ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيص جادّ منه في مخالفة التكليف المنكشف ؛ إذ من الواضح أنّه ليس لشخص حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخّص بصورة جادّة في مخالفته.

قلنا : إنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة تشمل كلّ انكشاف للتكليف سواء في ذلك القطع والظنّ والاحتمال ، إلا أنّ هذه المنجّزيّة يشترط فيها ألاّ يرد مؤمّن وترخيص من قبل المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف المنكشف ، وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ثابت والمنجّزيّة متحقّقة ما دام المولى نفسه لم يرخّص فيه ، فإنّه مع عدم الترخيص منه يحكم العقل بلزوم الطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وأمّا إذا حصل هذا المؤمّن وصدر ترخيص من المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف ، فهنا لا يحكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة ؛ وذلك لأنّ المولى نفسه قد رفع يده عن هذا التكليف وأخرجه عن دائرة حقّ الطاعة. وهذا يعني أنّه يرفع موضوع المنجّزيّة ويلغي حقّ الطاعة في هذا المورد ، ولذلك لا مجال للإدانة على المخالفة ؛ لأنّه هو الذي سمح بها والعقاب مع ذلك قبيح عقلا ؛ لأنّ العاقل إذا سمح وجوّز المخالفة فهو لا يعاقب عليها وإلا لكان أمر بالشيء وعاقب عليه ، وهو قبيح جدّا يستحيل صدوره من المولى الحكيم.

نعم ، قد يصدر ترخيص غير جادّ بمعنى ورود ما ظاهره الترخيص إلا أنّه ليس مرادا جدّا للمولى كما في موارد التقيّة مثلا ، فإنّه إذا ورد ترخيص في هذه الحالة فإنّه لا يحمل على الجدّيّة ، ولذلك يبقى التكليف داخلا في دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة. ولذلك اشترط السيّد الشهيد رحمه اللّه أن يكون هذا الترخيص جادّا أي مرادا جدّا له.

أمّا متى يتأتّى للمولى أن يرخّص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادّة؟ والسؤال الذي يطرح الآن : أنّ هذا الترخيص الجادّ متى يمكن صدوره من المولى؟

ص: 151

فهل يمكن صدوره في جميع حالات الانكشاف الشاملة للقطع والظنّ والاحتمال ، أو أنّه يختصّ في حالات الانكشاف بالظنّ والاحتمال فقط دون القطع؟ إذا فالبحث الآن في هذين الموردين فنقول :

فالجواب على ذلك : أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ ، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في موردها كأصالة الإباحة والبراءة.

إنّ الترخيص في مخالفة التكليف إنّما يمكن فيما إذا كان الانكشاف بنحو الظنّ أو الاحتمال أي الانكشاف الناقص ، فإنّه في هذه الموارد يمكن للشارع أن يصدر ترخيصا ظاهريّا عن هذا التكليف المظنون أو المحتمل ، وعلى أساسه يرتفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة ؛ لأنّ هذا الترخيص يرفع القيد المذكور ومع ارتفاع القيد يرتفع الموضوع فينتفي الحكم بالمنجّزيّة والإطاعة لانتفاء موضوعهما بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا الترخيص الظاهري يجعله الشارع بنحو جادّ ، فيجعل حكما بالإباحة أو بالبراءة ؛ ليرفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة عن هذا التكليف المظنون والمحتمل.

ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري والتكليف المحتمل أو المظنون ؛ لما سبق (1) من التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة ، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليّا ، بل المولى جادّ فيه ضمانا لما هو الأهمّ من الأغراض والمبادئ الواقعيّة.

قد يشكل على هذا الترخيص الظاهري المجعول في موارد الانكشاف بنحو الظنّ والاحتمال للتكليف بأحد أمرين :

الأوّل : أنّ جعل ترخيص ظاهري يتنافى مع الظنّ والاحتمال للتكليف ؛ لأنّ الترخيص ينفي وجود التكليف بينما الظنّ والاحتمال يكشفان عن وجود التكليف واقعا بدرجة ما من الكشف ، فكيف يمكن اجتماعهما معا على مورد واحد؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يمكن اجتماعه مع الإلزام الواقعي المجهول عند المكلّف ولا تنافي بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّه سهل المئونة ، ولا في عالم المبادئ ؛ لأنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، ولا في عالم الامتثال ؛ لأنّ أحدهما فقط هو الواصل.

ص: 152


1- في هذه الحلقة ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

وقد تقدّم ذلك مفصّلا عند التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

الثاني : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري لا يكون جادّا ، بل هو ترخيص هزلي ليس مرادا للمولى بنظر المكلّف ؛ وذلك لأنّ المكلّف يرى انكشاف الواقع وأنّه يوجد تكليف بدرجة ما ، فكيف يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص الذي مفاده عدم وجود تكليف أصلا؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يصدره الشارع لأجل إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فلذلك يكون مفاد الترخيص : أنّ ملاكات الإباحة هي الأهمّ من ملاكات الإلزام المظنونة والمحتملة ، فهو جاد في إبراز هذا المعنى وليس هزليّا. وهنا الواقع مجهول عند المكلّف ولا يدري ما هو ثابت واقعا للاشتباه والشكّ ، وهذا الترخيص يرفع له هذا الشكّ والحيرة ويبرز له الملاك الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك يكون جادّا في مؤدّاه ومفاده.

وبهذا ظهر أنّ جعل الترخيص الظاهري لا مانع منه عقلا ولا منافاة بينه وبين التكليف الواقعي المحتمل أو المظنون ، وهو ترخيص جادّ أيضا وليس هزليّا.

وعليه ، فيمكن جعله من قبل الشارع ، وهذا ما وقع فعلا حيث دلّت الروايات على التأمين والترخيص والإباحة والبراءة في موارد الشكّ والجهل وعدم العلم ، ولذلك نخرج عن القاعدة الأوّليّة العقليّة القائلة بالتنجيز إلى القاعدة الثانويّة الشرعيّة القائلة بالبراءة والترخيص.

وأمّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته ؛ لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعي حقيقي وإمّا حكم ظاهري طريقي ، وكلاهما مستحيل.

وأمّا إذا كان التكليف منكشفا بالقطع وهو الانكشاف التامّ كالقطع بوجوب أو حرمة هذا الفعل ، فهنا لا يمكن ورود ترخيص جادّ من المولى بحيث يسمح للمكلّف بالمخالفة لما قطع به ؛ لأنّ ورود الترخيص مستحيل في هذا المورد ؛ إذ لا يخرج هذا الترخيص إمّا أن يكون حكما واقعيّا حقيقيّا بالإباحة والبراءة والمؤمّنيّة ؛ بحيث يكون هناك حكم واقعي بالترخيص ويكون فيه ملاكات ومبادئ الترخيص ، وإمّا أن يكون حكما ظاهريّا طريقيّا لإحراز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الشكّ

ص: 153

والاشتباه ، بحيث يضمن المحافظة على ملاكات الواقع الترخيصيّة ويبرز أهمّيتها ورجحانها بنظر المولى. وكلا هذين الحكمين يستحيل صدورهما من الشارع والوجه في هذه الاستحالة :

والوجه في استحالة الأوّل : أنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتا في الواقع ، ويلزم اجتماعهما على أيّ حال في نظر القاطع ؛ لأنّه يرى مقطوعه ثابتا دائما ، فكيف يصدّق بذلك؟!

إذا كان الترخيص في المخالفة واقعيّا فلا يخلو الأمر إمّا أن يكون ما قطع به من تكليف ثابتا واقعا بأن كان قطعه مصيبا ، وإمّا ألاّ يكون ثابتا واقعا بأن كان قطعه جهلا مركّبا ومخطئا.

فإن كان قطعه مصيبا فهذا يعني أنّ التكليف ثابت في الواقع فيلزم من الترخيص أن يجتمع حكمان تكليفيّان واقعيّان على مورد واحد وهو محال ؛ لأنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها يستحيل اجتماعها واقعا على مورد واحد. وعليه فلا يمكنه التصديق بهذا الترخيص الواقعي ، لأنّ التصديق به يلزم منه اجتماع حكمين حقيقيّين متنافيين. وإن كان قطعه مخطئا فهذا يعني أنّه لا يوجد تكليف في الواقع ولكن المكلّف يعتقد بأنّ قطعه ليس مخطئا وإلا لما كان قاطعا ، فإنّ من يعتقد أو يحتمل بأنّ قطعه مخطئ لا يوجد عنده قطع ، بل يزول هذا القطع ويبدّل إلى الظنّ أو الاحتمال أو إلى القطع بالخلاف. وعليه فهو بنظره واعتقاده يرى أنّ قطعه مصيب ، وحينئذ يكون تصديقه بهذا الترخيص الظاهري معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متنافيين بنظره واعتقاده بقطع النظر عن الواقع. والمكلّف في هذه الحالة لا يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص ؛ لأنّه باعتقاده مخالف لقطعه ولما قطع به ولو بنظره واعتقاده.

والحاصل : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يصدّق بأنّ هذا الترخيص - سواء كان واقعيّا أم ظاهريّا - جدّي ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه بالتكليف مصيب ويرى مقطوعه ثابتا إمّا واقعا أو على الأقلّ بنظره واعتقاده وإلا لم يكن قاطعا. وعليه ، فالتصديق وحمل هذا الترخيص على الجدّيّة محال إمّا واقعا إذا كان مقطوعه ثابتا وكان قطعه مصيبا ، وإمّا بنظره واعتقاده بأن كان مقطوعه غير ثابت وكان قطعه مخطئا وجهلا مركّبا.

ص: 154

فهناك ترديد بين الأقلّ والأكثر ، أي إمّا المنافاة في نظره وفي الواقع في حالة الإصابة أو في نظره فقط في حالة الخطأ ، فالحال لا يخلو من أحدهما.

والوجه في استحالة الثاني : أنّ الحكم الظاهري ما يؤخذ في موضوعه الشكّ ولا شكّ مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري.

وإذا كان الترخيص ظاهريّا فجعله في مورد القطع بالتكليف محال ؛ وذلك لأنّ القاطع بالتكليف يرى أنّ الواقع هو هذا ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فهو يعتقد ويصدّق بأنّ التكليف ثابت واقعا. وهذا معناه أنّه لا شكّ ولا حيرة عنده ، وحينئذ لا يكون هناك معنى بنظره واعتقاده لهذا الترخيص الظاهري ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري قد جعل في مورد الشكّ والحيرة في الواقع ، ثمّ عدم الشكّ والحيرة لا مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه ، وهنا الأمر كذلك.

وعليه ، فالمكلّف لا يرى أنّ هذا الترخيص الظاهري شامل له بنحو جدّي ؛ لأنّه قاطع لا شكّ عنده. وهذا الحكم الظاهري متوجّه للشاكّ وهو ليس شاكّا ، فهو يرى أنّ هذا الترخيص مختصّ بالشاكّ وهو غيره ، فالترخيص وإن كان بظاهره مطلقا وعامّا إلا أنّ المراد الجدّي هو خصوص الشاكّ ولذلك لا يرى هذا القاطع أنّ هذا الترخيص جدّيّا بالنسبة له ، وإنّما شمله من باب ضيق الخناق وقصور اللفظ.

وقد يناقش في هذه الاستحالة بأنّ الحكم الظاهري كمصطلح متقوّم بالشكّ لا يمكن أن يوجد في حالة القطع بالتكليف ، ولكن لما ذا لا يمكن أن نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهري ولو لم يسمّ بهذا الاسم اصطلاحا؟ لأنّنا عرفنا سابقا أنّ روح الحكم الظاهري هي أنّه خطاب يجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو أهمّ منها.

قد يقال : إنّ جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف ممكن ؛ وذلك لأنّ الاستحالة المذكورة كانت لأجل أنّ الحكم الظاهري كما هو المصطلح المعروف مورده الشكّ ومتقوّم في ظرف الشاكّ وفي الواقع ، والشكّ يرتفع عند القطع بالتكليف ، ولكنّنا نفترض أنّ هذا الترخيص الظاهري يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّه ليس حكما ظاهريّا بالمصطلح المعروف المتقوّم بالشكّ ، بل نقول : إنّ هذا الترخيص الظاهري يجعله المولى عند اختلاط الملاكات والمبادئ وعدم

ص: 155

تمييزه لها ضمانا للحفاظ على ما الأهمّ من هذه الملاكات واقعا ، فيكون هذا الترخيص الظاهري المفترض يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّنا لا نسمّيه حكما ظاهريّا ؛ لئلاّ يرد المحذور من أنّه مأخوذ فيه الشكّ ولا شكّ مع القطع. وهذا الترخيص الظاهري المفترض هو :

فإذا افترضنا أنّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الإباحة الاقتضائيّة تستدعي الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات ، فلما ذا لا يمكن صدور الترخيص حينئذ؟!

عرفنا أنّ الحكم الظاهري الاصطلاحي هو الخطاب الذي يبرز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في موارد الشكّ والحيرة والاختلاط وعدم التمييز. وهنا لدينا حكم ظاهري باصطلاح جديد وهو الخطاب الذي يجعل في موارد القطع ضمانا لعدم وقوع المكلّف في القطع بالخطإ ، حيث إنّ الشارع قد لاحظ كثرة وقوع القاطعين في الخطأ والاشتباه لأجل عدم تمييزهم لموارد الترخيص عن موارد التكليف ، فيجعل المولى حكما ظاهريّا لا بالمصطلح المعروف المأخوذ فيه الشكّ ، بل بروح الحكم الظاهري وحقيقته في موارد القطع ، وهذا فيما إذا كان ملاكات الإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ ، بأن يكون المكلّف مطلق العنان بنظر الشارع وتستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمان عدم وقوع المكلّف في العسر والمشقّة والحرج أن يصدر الشارع مثل هذا الترخيص الظاهري في موارد القطع ضمانا للحفاظ عليها. فلما ذا لا يمكن جعل مثل هذا الترخيص الظاهري الذي ليس حكما ظاهريّا بالاصطلاح ، والاسم وإنّما هو حكم ظاهري من حيث الروح والجوهر والحقيقة؟!

والجواب على هذه المناقشة : أنّ هذا الترخيص لمّا كان من أجل رعاية الإباحة الواقعيّة في موارد خطأ القاطعين ، فكلّ قاطع يعتبر نفسه غير مقصود جدّا بهذا الترخيص ؛ لأنّه يرى قطعه بالتكليف مصيبا ، فهو بالنسبة إليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا فيما سبق : إنّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ في المخالفة.

الجواب : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري المفترض وإن كان ممكنا ثبوتا وتصوّرا إلا أنّه

ص: 156

لا يمكن وقوعه وصدوره من الشارع ؛ لأنّه لن يكون له أثر وفائدة فيكون جعله لغوا.

وبيان ذلك : أنّ هذا الترخيص افترض صدوره في موارد كثرة وقوع القاطعين في الخطأ وعدم تمييزهم لموارد التكليف من موارد الترخيص ، وهذا يعني أنّه متوجّه نحو القاطعين بالتكليف خطأ ، وهنا كلّ قاطع بالتكليف يرى أنّه مصيب في قطعه وأنّ مقطوعه ثابت واقعا ولا يراه مخطئا ، بل ولا يحتمل ذلك وإلا لما كان قاطعا ؛ لأنّ القطع كما تقدّم معناه الانكشاف التامّ وسكون النفس وعدم الحيرة والشكّ ، وحينئذ فكلّ قاطع لا يرى نفسه مشمولا لهذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا الترخيص متوجّه للقاطع بالخطإ وهو ليس قاطعا خطأ ، بل هو يرى نفسه قاطعا مصيبا ولو باعتقاده ونظره. فهو يرى نفسه خارجا عن هذا الترخيص ، ولو فرض كون هذا الترخيص عامّا ومطلقا ويشمله بإطلاقه وعمومه إلا أنّه يرى أنّ هذا الشمول له ليس جدّيّا ، بل هو من باب قصور الألفاظ وضيق الخناق ، فهو بالنسبة إليه ليس ترخيصا جدّيّا.

وقد قلنا سابقا : إنّ الترخيص من المولى في موارد التنجيز وحقّ الطاعة لا بدّ أن يكون جدّيّا حتّى يرتفع موضوع التنجيز ودائرة حقّ الطاعة ، وهنا لا يوجد ترخيص جدّي. فالمنجّزيّة وحقّ الطاعة على حالهما لبقاء موضوعهما.

ويتلخّص من ذلك :

أوّلا : أنّ كلّ انكشاف للتكليف منجّز ولا تختصّ المنجّزيّة بالقطع لسعة دائرة حقّ الطاعة.

أي أنّ كلّ انكشاف سواء كان قطعا أو ظنّا أو احتمالا فهو منجّز ويدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة وحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها.

وثانيا : أنّ هذه المنجّزيّة مشروطة بعدم صدور ترخيص جادّ من قبل المولى في المخالفة.

أي أنّ هذه المنجّزيّة لمّا كانت لأجل مولويّة المولى واحترام حقّ الطاعة فهي منجّزيّة متوقّفة على عدم صدور ترخيص مولوي جادّ وإلا فترتفع هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ المولى نفسه هو أذن وسمح بالمخالفة.

ص: 157

وثالثا : أنّ صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي ، ومن هنا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه ، بخلاف غيره من المنجّزات.

أي أنّ الترخيص الظاهري بالمخالفة يعقل صدوره في موارد الانكشاف غير القطعي كالظنّ والاحتمال ولا محذور في ذلك ؛ لما تقدّم من أنّه لا تنافي من اجتماع حكمين متغايرين أحدهما ظاهري والآخر واقعي.

وأمّا في موارد الانكشاف القطعي فلا يعقل صدور الترخيص الظاهري لا واقعا ولا ظاهرا ؛ لما تقدّم سابقا من استحالة ذلك.

وعليه ، فمنجّزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه بخلاف منجّزيّة الظنّ والاحتمال فإنّه يمكن سلبها عنهما. ولهذا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه بينما غيره من المنجّزات للتكليف كالظنّ والاحتمال يمكن سلبها عنهما ولا محذور في ذلك كما تقدّم.

هذا هو التصوّر الصحيح لحجّيّة القطع ومنجّزيّته ، ولعدم إمكان سلب هذه المنجّزيّة عنه.

فحجّيّة القطع معناها المنجّزيّة والمعذّريّة. والمنجزيّة تشمل كلّ انكشاف ، والمعذّريّة تشمل القطع بعدم التكليف.

والمنجّزيّة متوقّفة على عدم الترخيص في موارد الظنّ والاحتمال ، وليست متوقّفة على شيء في موارد القطع ، بل هي مطلقة وفعليّة.

والمنجّزيّة يعقل سلبها عن الظنّ والاحتمال دون القطع ، بل هي لازمة له.

غير أنّ المشهور لهم تصوّر مختلف ، فبالنسبة إلى أصل المنجّزيّة ادّعوا أنّها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ذهب المشهور إلى أنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بحيث إنّه إذا ثبت القطع في مورد ثبتت المنجّزيّة ولا يتوقّف ثبوتها على شيء آخر ، فالقطع بذاته وبما هو هو لازمه المنجّزيّة كما يقال : إنّ النار لازمها الذاتي الحرارة.

وعلى هذا فالمنجّزيّة لا يمكن أن تجعل للقطع بجعل جاعل ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه

ص: 158

أيضا ؛ لأنّ الذاتي والذاتيّات يوجدان معا وينتفيان معا ولا يوجد أحدهما دون الآخر.

وعلى هذا آمنوا بأنّ هذه المنجّزيّة تنتفي إذا انتفى القطع دون الظنّ أو الشكّ ؛ لأنّ المنجّزيّة تتبع القطع وهنا لا يوجد قطع ، ولذلك آمنوا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فما دام لا يوجد علم وبيان فلا منجّزيّة وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها. فالبراءة العقليّة متفرّعة إذا من القول بأنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو قطع.

هذا التصوّر الأوّل.

وبالنسبة إلى عدم إمكان سلب المنجّزيّة وردع المولى عن العلم بالقطع برهنوا (1) على استحالة ذلك بأنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصا في المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في القبيح محال ومناف لحكم العقل.

وذهب المشهور أيضا إلى أنّ سلب المنجّزيّة عن القطع وردعه عن العمل به مستحيل غير ممكن بدليل مركّب من أمور :

1 - أنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف يحكم العقل بلزوم إطاعته وقبح معصيته.

2 - أنّ المولى لو رخّص بترك هذا التكليف المقطوع لكان ذلك ترخيصا في فعل المعصية القبيحة بحكم العقل.

3 - أنّ الترخيص يستحيل صدوره من المولى ؛ لأنّه ترخيص قبيح عقلا فهو محال ؛ لأنّه مناف لحكم العقل بقبح المعصية.

فيؤلّف قياس من هذه الأمور الثلاثة ومفاده :

أنّ الترخيص بمخالفة القطع قبيح عقلا ؛ لأنّه ترخيص في فعل المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في فعل القبيح والمعصية يستحيل صدوره من الشارع الحكيم العادل العاقل.

ص: 159


1- ورد هذا البرهان في تقرير بحث المحقّق العراقي في نهاية الأفكار 1 ( ق 3 ) : 7 - 8 ، مع التفاته إلى ما أورده عليه السيّد الشهيد ، كما تمسّك بعضهم بمثل هذا البرهان في دعوى استحالة ورود الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي. انظر أجود التقريرات 2 : 241 ، ومصباح الأصول 2 : 345 - 346.

أمّا تصوّرهم بالنسبة إلى المنجّزيّة فجوابه : أنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في موارد القطع بتكليف المولى لا القطع بالتكليف من أي أحد ، وهذا يفترض مولى في الرتبة السابقة ، والمولويّة معناها : حقّ الطاعة وتنجّزها على المكلّف ، فلا بدّ من تحديد دائرة حقّ الطاعة المقوّم لمولويّة المولى في الرتبة السابقة ، وهل يختصّ بالتكاليف المعلومة أو يعمّ غيرها؟

هذا الجواب تقدّم مفصّلا في الحلقة الثانية وحاصله هنا : أنّنا ننكر كون المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو هو ، بل هي من لوازم القطع بتكاليف المولى فقط ؛ لوضوح أنّ القطع بتكليف الآخرين وأوامرهم ليس له هذه المنجّزيّة كما لو فرض القطع بأمر العدوّ أو العبد ، ولذلك فلا بدّ أن نفترض وجود المولى أوّلا والقطع بتكليفه ثانيا. والمولى المفترض القطع بتكليفه هو من له حقّ الطاعة على العباد والمكلّفين ، بحيث يحكم العقل بلزوم امتثال أوامره واستحقاق العقاب على المخالفة. فالمولويّة إذا معناها حقّ الطاعة ، والمنجّزيّة هي نفس حقّ الطاعة والمولوية ، وليست شيئا آخر.

ولذلك فالبحث في الحقيقة ينبغي أن ينصبّ حول دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة ، وهل هو مختصّ بموارد القطع بالتكليف أو يشمل كلّ موارد الانكشاف بالظنّ والاحتمال؟

ونحن آمنّا بأنّ حقّ الطاعة شامل لكلّ انكشاف ، فالمنجّزيّة عقلا ثابتة لا للقطع فقط بل للظنّ والاحتمال أيضا.

وما ذكره المشهور من الاختصاص بموارد القطع إنّما هو تحديد وتقييد لدائرة حقّ الطاعة ولموضوع المنجّزيّة وهو غير صحيح عندنا. فأصل المبنى الذي يرتكز عليه تصوّر المشهور ليس صحيحا.

وأمّا تصوّرهم بالنسبة إلى عدم إمكان الردع فجوابه : أنّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا في القبيح فرع أن يكون حقّ الطاعة غير متوقّف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقّف حتما لوضوح أنّ من يرخّص بصورة جادّة في مخالفة تكليف لا يمكن أن يطالب بحقّ الطاعة فيه ، فجوهر البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادّا ومنسجما مع التكاليف الواقعيّة أو لا؟ وقد عرفت أنّه غير ممكن.

ص: 160

وأمّا الجواب عن التصوّر الذي ذكره المشهور من أنّ الترخيص معناه الترخيص في فعل المعصية وهو قبيح عقلا فيستحيل صدوره ، فهذا التصوّر مبني على القول بأنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة فعليّة غير معلّقة على شيء ، أي بمجرّد ثبوت القطع بتكليف المولى فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ لأنّها معصية قبيحة فيكون الترخيص مستحيلا لكونه ترخيصا في فعل القبيح والمعصية.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لما تقدّم من أنّ المنجّزيّة وحقّ الطاعة متوقّف على عدم ورود ترخيص جادّ من الشارع الذي له حقّ الطاعة والمولويّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ الشارع إذا رخّص في مخالفة تكليفه وسمح للمكلّف بالاقتحام لا يطالبه بحقّ الطاعة ولا يدينه بالعقاب على المخالفة ؛ لأنّه هو نفسه قد أذن ورخّص له في المخالفة. فالمنجّزيّة معلّقة وليست فعليّة.

وعليه فالكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه المسألة ، وأنّه هل يمكن للمولى أن يرخّص في المخالفة في موارد القطع بالتكليف أو لا يمكنه ذلك؟ فإذا قيل بالإمكان فلا مخالفة ولا قبح ولا معصية. وإذا قيل بعدم الإمكان فتثبت المنجّزيّة لثبوت موضوعها فعلا.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الصحيح هو أنّه لا يمكن للشارع أن يرخّص في مخالفة التكليف المقطوع لا ترخيصا ظاهريّا ولا ترخيصا واقعيّا ؛ لاستحالة صدورهما منه ، ولو فرض الصدور فهو ليس جدّيّا بالنسبة للقاطع كما تقدّم.

هذا بالنسبة لمنجّزيّة القطع. وأمّا معذّريّة القطع فالكلام فيها نفس الكلام في المنجّزيّة ولذلك قال السيّد الشهيد :

وكما أنّ منجزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذّريّته ؛ لأنّ سلب المعذّريّة عن القطع بالإباحة ؛ إمّا أن يكون بجعل تكليف حقيقي أو بجعل تكليف طريقي ، والأوّل مستحيل ؛ للتنافي بينه وبين الإباحة المقطوعة ، والثاني مستحيل ؛ لأنّ التكليف الطريقي ليس إلا وسيلة لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم (1) ، والمكلّف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفا واقعيّا في مورد قطعه لكي يتنجّز ، فلا يرى للتكليف الطريقي أثرا.

ص: 161


1- تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهريّة.

كلّ ما ذكرناه بالنسبة إلى المنجّزيّة وأنّه لا يمكن سلبها عن القطع بالتكليف يأتي في الكلام عن المعذّريّة وسلبها عن القطع بالإباحة والترخيص ، فإنّ القاطع بالإباحة والترخيص يكون معذورا في عدم الامتثال والإطاعة لو كان هناك تكليف واقعي ؛ إذ لا يمكنه أن يتحرّك نحو تكليف لا يؤمن بوجوده بل لا يراه موجودا أصلا ، وهذا معنى معذّريّة القطع.

وهذه المعذّريّة لا يمكن سلبها عن القطع ؛ لأنّ سلبها إمّا أن يكون بصدور تكليف واقعي حقيقي ، وإمّا بصدور تكليف طريقي ، وكلاهما مستحيل ؛ أمّا عدم إمكان صدور التكليف الحقيقي الواقعي الذي له مبادئ وملاكات مستقلّة فلما تقدّم من أنّه يؤدّي إلى اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين لكلّ منهما ملاكات منافية للآخر على واقعة واحدة وهذا مستحيل ، وهذا فيما إذا كان القطع مصيبا وكانت الإباحة واقعيّة ، فيكون صدور التكليف الواقعي الآخر منافيا ومضادّا لها ويستحيل اجتماعهما ولذلك يشمل صدوره.

وإذا كان قطعه مخطئا وكانت الإباحة غير ثابتة واقعا فيلزم من التكليف الواقعي اجتماع الضدّين باعتقاد نظر المكلّف ؛ لأنّه يعتقد أنّ قطعه مصيب دائما وأنّ مقطوعه - وهو الإباحة - ثابت واقعا ، فيرى أنّ هذا التكليف مناقض ومناف لما يعتقده فهو مستحيل صدوره برأيه ، ولو فرض صدوره فهو ليس جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه شامل لمن قطع خطأ وهو يرى نفسه قاطعا مصيبا دائما.

وأمّا عدم إمكان صدور التكليف الطريقي سواء كان بحكم ظاهري أو على أساس حكم آخر يحمل روح الحكم الظاهري فهو لا يمكن ؛ لأنّ هذا التكليف الطريقي كان لأجل تنجيز التكليف والواقع على عهدة المكلّف بإبراز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ في حالة الشكّ والحيرة أو في حالة كثرة وقوع القاطعين في الخطأ. وهذا القاطع بالإباحة لا يرى أنّ هناك تكليفا وإلزاما ، بل لا يحتمل ذلك أصلا وإلا لم يكن قاطعا. ولذلك فصدور هذا التكليف الطريقي بالنسبة إليه ليس جدّيّا ؛ لأنّه صادر بحقّ من يقع في الخطأ بقطعه وهو لا يرى أنّه يقع في الخطأ ، بل يرى قطعه دائما مصيبا. ولذلك لن يحرّكه هذا التكليف الطريقي ولا يكون له أيّ أثر وفائدة بالنسبة إليه فيكون صدوره بلا أثر وفائدة لغوا ؛ لأنّه ليس جدّيّا. لذلك فهو مستحيل الصدور.

ص: 162

العلم الإجمالي

ص: 163

ص: 164

العلم الإجمالي

كما يكون القطع التفصيلي حجّة كذلك القطع الإجمالي - وهو ما يسمّى عادة بالعلم الإجمالي - كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة.

القطع التفصيلي هو العلم بالشيء على سبيل التعيين بحيث لا تردّد ولا حيرة ولا شكّ.

والقطع الإجمالي هو العلم بالشيء لا على سبيل التعيين بل يكون هناك تردّد وحيرة وشكّ.

إلا أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في كونه حجّة ومنجّزا للتكليف المعلوم وهو الجامع ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالدقّة العقليّة إلى علم تفصيلي بالجامع وشكّا في الأطراف ، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة فإنّه يعلم بوجوب صلاة ولكن هناك تردّد وحيرة وشكّ في أنّها الظهر أو الجمعة ، فالشكّ في الأطراف لا في الجامع.

ولا يقال : إنّه يحكم بالاحتياط بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّه يمكن الجمع بينهما ولا تضادّ بينهما ذاتا ؛ لأنّه يقال : إنّه وإن لم يكن بينهما تضادّ ذاتي إلا أنّ بينهما تعارضا بالعرض ؛ وذلك للعلم من الخارج بأنّه لم يفرض في الوقت الواحد إلا فريضة واحدة ولا يوجد إلا خمس صلوات في اليوم والليلة. فهذا العلم إذا ضممناه إلى ذلك حصل لنا العلم بكذب أحد الدليلين وعدم صدوره من المعصوم ، ولذلك فواحد فقط هو الحجّة دون الآخر.

ثمّ إنّ البحث حول منجّزيّة العلم الإجمالي يقع في مرحلتين :

ومنجّزيّة هذا العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : مرحلة المنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.

ص: 165

والثانية : مرحلة المنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة المساوق لإيجاب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

يقع البحث في منجّزيّة العلم الإجمالي في مرحلتين :

المرحلة الأولى : حرمة المخالفة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يمنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلّ الأطراف المردّدة والمشكوكة ؛ لأنّ هذا الترك سوف يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا.

المرحلة الثانية : وجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يوجب الإتيان بكلّ الأطراف المشكوكة والتي هي ضمن دائرة هذا العلم ، وهذه الموافقة القطعيّة مساوقة للمنع عن المخالفة الاحتماليّة بفعل بعض الأطراف دون البعض الآخر. فهل العلم الإجمالي ينجّز جميع الأطراف لا بعضها فقط أو لا؟ وهذه المرحلة محلّها الأصول العمليّة.

والكلام الآن يقع في المرحلة الأولى :

أمّا المرحلة الأولى فالكلام فيها يقع في أمرين :

أحدهما : في حجّيّة العلم الإجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة.

والآخر : في إمكان ردع الشارع عن ذلك وعدمه.

الكلام في المرحلة الأولى وهي المنع عن المخالفة القطعيّة يقع في أمرين :

الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي حجّة بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة أو ليس حجّة في ذلك ؛ بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع عن المخالفة القطعيّة بنحو العليّة أو بنحو الاقتضائيّة ، فهل هو نفسه علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة أو مقتضي فقط؟

الثاني : في أنّه هل يمكن للشارع سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي ؛ بمعنى أنّه هل يمكنه الردع عن هذه المنجّزيّة وإزالتها عن العلم الإجمالي أو لا يمكن ذلك ، فهل يمكن ورود الترخيص بالمخالفة للأطراف كلاّ أو جلاّ أو لا يمكن ذلك؟

أمّا الأمر الأوّل فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي حجّة بذلك المقدار ؛ لأنه مهما تصوّرناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلي بالجامع بين التكليفين ، فيكون مدخلا لهذا الجامع في دائرة حقّ الطاعة.

أمّا كون العلم الإجمالي يمنع عن حرمة المخالفة القطعيّة سواء بنحو العليّة أو

ص: 166

الاقتضائيّة فهذا المقدار مما لا شكّ فيه عند أحد ؛ لأنّ العلم الإجمالي على كثرة التصوّرات والمسالك الموجودة فيه وأنّه علم بالجامع وشكّ في الأطراف كما هو قول المشهور ، أو أنّه علم بالواقع المردّد بين الأطراف ، أو أنّه علم بالفرد المردّد من بين هذه الأفراد ، فهذا العلم الإجمالي مهما كان تصوّره فهو يستبطن العلم التفصيلي بالجامع بين التكليفين. وعليه فيكون هذا الجامع منكشفا انكشافا تامّا ، ولذلك يدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة ، ويكون موضوعا للمنجّزيّة عقلا ، فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة سواء في ذلك المسلك المشهور أو مسلكنا المختار. ولذلك قال السيّد الشهيد :

أمّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح. وأمّا على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلأنّ العلم الإجمالي يستبطن انكشافا تفصيليّا تامّا للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك حقّ الطاعة فقد قلنا سابقا : إنّ دائرة هذا الحقّ وموضوع المنجّزيّة يعمّ مطلق الانكشاف ، سواء في ذلك العلم والظنّ والاحتمال ، والعلم الإجمالي فيه كشف عن الواقع بدرجة ما لا تقلّ عن الاحتمال ، ولذلك يكون دخول الجامع في العهدة وحقّ الطاعة على مسلكنا على القاعدة. فهذا واضح جدّا.

وأمّا على مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان فهذا العلم الإجمالي قلنا : إنّه يتضمّن ويستبطن العلم التفصيلي بالجامع ، وهذا معناه أنّ الجامع قد تمّ البيان عليه فيكون خارجا عن موضوع هذه القاعدة تخصّصا ، أي أنّ القاعدة لا تشمله أصلا ؛ لأنّه علم وبيان بمقدار الجامع بين التكليفين.

ولا يمكن أن يكون داخلا في القاعدة بقبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يؤدّي إلى المنافاة بين المعلوم التفصيلي وهو الجامع بين الأطراف وبين التأمين عن هذا المعلوم التفصيلي (1).

ص: 167


1- وما دام الجامع قد تمّ البيان عليه فتحرم مخالفته ويجب امتثاله وإطاعته ، ومن الواضح أنّ مخالفة الجامع إنّما تكون بإعدام كلا الفردين ؛ لأنّ الطبيعة والماهيّة لا تنعدم إلا بانعدام تمام أفرادها ، وهذا يعني أنّ ترك كلا الفردين مخالفة قطعيّة للجامع المعلوم تفصيلا.

وأمّا الأمر الثاني : فقد ذكر المشهور (1) : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي غير معقول ؛ لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ويكون ترخيصا في القبيح ، وهو محال.

ذكر المشهور أنّ الدليل على عدم إمكان سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي والردع عن العمل به هو نفس الدليل المتقدّم في العلم التفصيلي وحاصله : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا المتنجّز على المكلّف والداخل في عهدته بحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة وكونها معصية قبيحة ، فيلزم من الترخيص في المخالفة الترخيص في فعل القبيح والمعصية ، ومن المستحيل صدور مثل ذلك من الشارع الحكيم ؛ لأنّه يناقض حكم العقل والشارع رأس العقلاء لا يحكم بما هو قبيح ومعصية عند العقل.

وهذا البيان غير متّجه ؛ لأنّنا عرفنا سابقا (2) أنّ مردّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحقّ الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة ، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة القطعيّة قبيحة عقلا.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصبّ على أنّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعيّة؟

الجواب على ذلك هو : أنّ ذلك يعتمد على أمرين كلاهما غير صحيح :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجّزيته فعليّة غير متوقّفة على شيء.

الثاني : أنّ حكم العقل بقبح المعصية والمخالفة ناجز وفعلي وليس معلّقا على شيء أيضا.

والصحيح أنّ العلم الإجمالي يختلف عن العلم التفصيلي في المنجّزيّة ، كما سيأتي بيانه. وحكم العقل بقبح المعصية والمخالفة مرجعه في الحقيقة إلى حقّ الطاعة للمولى ؛ بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بقبح المعصية ووجوب الامتثال والإطاعة رعاية لحقّ المولى ،

ص: 168


1- أجود التقريرات 2 : 241 ، مصباح الأصول 2 : 345 - 346.
2- في الردّ على تصوّر المشهور بالنسبة إلى عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع.

فلا بدّ أوّلا من تحديد دائرة هذا الحقّ وهل هو ثابت بنحو مطلق غير مشروط ، أو أنّه معلّق ومتوقّف على عدم الترخيص الجادّ من المولى؟

والجواب - كما تقدّم - أنّ حقّ الطاعة ووجوب الامتثال وقبح المعصية متوقّف على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى نفسه ؛ لأنّه من الواضح أنّه لا قبح ولا معصية ولا مخالفة فيما إذا سمح المولى نفسه وأذن في ترك الامتثال والإطاعة.

فيكون موضوع حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الإطاعة والامتثال مقيّدا ومشروطا ومتوقّفا على عدم ورود الترخيص الجادّ ، فإذا لم يأت هذا الترخيص كان حكم العقل بذلك فعليّا ، وأمّا إذا جاء الترخيص الجادّ في ترك الإطاعة والامتثال فهنا يرتفع موضوع حكم العقل بالقبح.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينصبّ البحث والكلام في أنّ هذا الترخيص الجادّ هل يعقل وروده في موارد العلم الإجمالي بالتكليف أو لا يمكن صدوره من المولى أصلا؟

والجواب : أنّه معقول ؛ لأنّ الجامع وإن كان معلوما ولكن إذا افترضنا أنّ الملاكات الاقتضائيّة للإباحة كانت بدرجة من الأهميّة تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصا ظاهريّا بروحه وجوهره ؛ لأنّه ليس حكما حقيقيّا ناشئا من مبادئ في متعلّقه ، بل خطاب طريقي من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة الواقعيّة.

والجواب على السؤال المذكور : هو أنّه ممكن ثبوتا ومعقول تصوّرا أن يصدر المولى ترخيصا ظاهريّا في موارد العلم الإجمالي بالتكليف. فهنا وإن كان يوجد علم تفصيلي بالجامع والترخيص الظاهري سيؤدّي إلى ترك هذا الجامع بترك الأطراف كلّها لورود الترخيص فيها ، إلا أنّ هذا يمكن فرضه فيما إذا كانت ملاكات الإباحة الواقعيّة بدرجة من الأهميّة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

والوجه في ذلك أنّ كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي بنفسه مشكوك ، ونحن قلنا : إنّ المنجّزيّة في موارد الظنّ والاحتمال والشكّ معلّقة على عدم ورود الترخيص

ص: 169

الجادّ من المولى ، وهذا يعني أنّه يمكن فرض ورود الترخيص الجادّ في كلّ طرف من الأطراف المشكوكة ، وهذا بالطبع سوف يؤدّي في نهاية الأمر إلى مخالفة المعلوم التفصيلي وهو الجامع ووقوع المكلّف في المخالفة القطعيّة ، إلا أنّ هذا لا يمنع من صدور الترخيص إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ واقعا بنظر الشارع من ملاكات الإلزام بأن كانت ملاكات الإباحة اقتضائيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان في حالات الشكّ والاحتمال والظنّ للتكليف.

فكما يعقل أن يصدر إلزام ظاهري في وجوب التحفّظ على ملاكات الإلزام في ضمن هذه الأطراف التي يحتمل فيها الإلزام ، والذي بدوره سوف يؤدّي إلى تفويت ملاك الترخيص في بعضها. فكذلك يعقل ورود الترخيص في كلّ الأطراف التي يوجد ضمنها ملاكات الإباحة ، وبالتالي سوف تفوت ملاكات الإلزام في بعضها أيضا ، فلا فرق في الموردين ؛ لأنّ هذا الحكم الظاهري وظيفته إبراز الأهمّ من ملاكات الواقع لأجل المحافظة على ضمانها ، فالمكلّف لأجل ذلك سوف يترك الإلزام أو يترك الترخيص ولكن لأجل تلك الملاكات الأهمّ.

وعلى هذا فيحتمل صدور مثل هذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه ليس فيه مبادئ وملاكات مستقلّة عن مبادئ وملاكات الواقع ؛ إذ ليس هو حكما واقعيّا حقيقيّا له مبادئ وملاكات مستقلّة في نفسه أو في متعلّقه بقطع النظر عن الحكم الواقعي ، بل هو خطاب طريقي يستخدمه المولى لأجل ضمان الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف بها.

وعلى هذا الأساس لا يحصل تناف بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعيّة ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالإجمال.

فإن قيل : إنّ هذا الترخيص الظاهري في كلّ الأطراف سوف يؤدّي إلى الترخيص في التكليف المعلوم بالإجمال ، فيكون هذا الترخيص الظاهري منافيا للتكليف الواقعي المعلوم إجمالا ولذلك يستحيل صدوره.

كان الجواب : أنّه لا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ وذلك لأنّ الترخيص الظاهري حكم طريقي ليس فيه مبادئ وملاكات

ص: 170

مستقلّة عن الحكم الواقعي ، وإنّما هو خطاب لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة.

والمفروض أنّ ملاكات الإباحة الاقتضائيّة كانت بنظر الشارع أهمّ من ملاكات الإلزام ، ولذلك يصدر هذا الترخيص الظاهري.

وتصوّر المنافاة فاسد ؛ إذ لا منافاة بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال.

أمّا أنّه لا منافاة بينهما في عالم الجعل فلأنّ الجعل والاعتبار سهل المئونة ، ولا منافاة في الاعتبار والصياغة كما تقدّم.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ الحكم الواقعي في متعلّقه ، بينما الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة ، ولذلك فلا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط والحكم الظاهري طريق لإبراز الأهمّ منها. فإن أصاب الواقع فلا إشكال ، وإن أخطأ كان المكلّف معذورا في ذلك ؛ لأنّه تعبّد بما هو حجّة عند الشارع.

وأمّا عالم الامتثال فلأنّ وصول الحكم الظاهري يقتضي أنّ الحكم الواقعي غير واصل إلى المكلّف ؛ لأنّ ظرف الحكم الظاهري هو الشكّ ومع الشكّ لا علم بالواقع ، ووصول الحكم الواقعي يعني أنّه لا شكّ في مجال الحكم الظاهري ، فلا وصول إلا لأحدهما فقط ، ولذلك لا امتثال إلا لواحد منهما فقط وهو الواصل والمنجّز على المكلّف.

فإن قيل : ما الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي؟ إذ تقدّم (1) أنّ الترخيص الطريقي في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل ، وليس العلم الإجمالي إلا علما تفصيليّا بالجامع.

حاصل الإشكال : أنّ العلم التفصيلي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه ويستحيل الردع عن العمل به ، وهذا معناه أنّ منجّزيّته فعليّة غير متوقّفة على صدور الترخيص ؛ إذ صدوره مستحيل كما تقدّم. والعلم الإجمالي لا يفترق عن العلم التفصيلي في مقدار المعلوم بالإجمال وهو الجامع فإنّ العلم الإجمالي كما تقدّم يتضمّن علما تفصيليّا بالجامع وشكّا في الأطراف ، إذا فهناك علم تفصيلي بالجامع فلما ذا يفرّق بين العلم التفصيلي السابق وبين العلم التفصيلي الموجود ضمن العلم الإجمالي؟ إذ كلاهما علم تفصيلي ، فما يثبت لأحدهما يثبت للآخر ولا معنى للتفرقة بينهما.

ص: 171


1- في بحث حجّيّة القطع على مبنى حقّ الطاعة.

كان الجواب على ذلك : أنّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيلي لا يرى التزامه بعلمه مفوّتا للملاكات الاقتضائيّة للإباحة ، لأنّه قاطع بعدمها في مورد علمه. والترخيص الطريقي إنّما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني أنّه يرى عدم توجّه ذلك الترخيص إليه جدّا.

والجواب : أنّه يوجد فرق كبير جدّا بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي وهو أنّه في موارد العلم التفصيلي بالتكليف كالقطع بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة أو كالقطع بنجاسة هذا الإناء ، فهنا القطع التفصيلي معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فالمكلّف يرى بسبب علمه التفصيلي أنّ الواقع هو الوجوب أو النجاسة مثلا ، وهذا معناه أنّه يرى أنّ الملاكات الواقعيّة الثابتة هي ملاكات الإلزام ، ولا يرى وجودا ولو احتمالا لوجود ملاكات الترخيص والإباحة ؛ لأنّه لو كان يحتمل وجوده ولو احتمالا ضئيلا لم يكن قاطعا ، والمفروض أنّه قاطع.

وحينئذ فهو لا يرى أنّ الالتزام بالتكليف كالوجوب أو النجاسة مفوّتا للملاكات الواقعيّة للترخيص والطهارة ولو احتمالا ؛ لأنّه يقطع بعدم وجودها بتاتا. ولذلك إذ ورد ترخيص طريقي لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة وضمانها فلا يراه متوجّها إليه جدّا ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود ملاكات الإباحة فضلا عن التحفّظ عليها ، فهو لا يصدّق أنّه مشمول لهذا الترخيص الظاهري ، بل يراه متوجّها لغيره ، وعمومه وإطلاقه كان لأجل قصور اللفظ وضيق الخناق وعدم إمكان التقيّد فيه.

وبتعبير آخر : أنّ التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة الذي هو ملاك الحكم الظاهري لا يحتمل وجوده بالنسبة للقاطع بالتكليف تفصيلا ؛ لأنّه لا يرى سوى ملاكات الإلزام وأنّها هي الثابتة واقعا دون غيرها ولو احتمالا. فالترخيص الظاهري الذي يحافظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة لا يعنيه في شيء وليس هو المقصود منه ، وليس شاملا له بنحو الجدّيّة ؛ لأنّه يعتقد أنّ هذا الترخيص الظاهري جاء ليبرز للمكلّف الملاك الواقعي الأهمّ بنظر الشارع في صورة الاشتباه والخطأ والحيرة والشكّ ، وهو ليس متحيّرا أو شاكّا أو مشتبها ولو باعتقاده ، بل يرى قطعه مصيبا ويرى مقطوعه ثابتا واقعا ولا يوجد سوى ملاكات الإلزام فقط ، فلا يمكن أن يصدّق بهذا التكليف أبدا.

ص: 172

وهذا خلافا للقاطع في موارد العلم الإجمالي ، فإنّه يرى أنّ إلزامه بترك المخالفة القطعيّة قد يعني إلزامه بترك المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعيّة. وعلى هذا الأساس يتقبّل توجّه ترخيص جادّ إليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة.

أمّا العلم الإجمالي بالتكليف كالعلم بوجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة أو العلم بنجاسة أحد هذين الإناءين. فهنا لا توجد إراءة تامّة عن الواقع وإنّما هناك كشف ناقص عن الواقع ؛ لأنّه لا مجال لتعيين المعلوم بهذا أو بذاك فإنّ نسبة الجامع إلى الواقع ليست معلومة وإنّما هي مشكوكة ، فالقاطع في موارد العلم الإجمالي أمامه فردان : أحدهما يحقّق المعلوم إجمالا وهو الوجوب أو النجاسة ، والآخر ليس واجبا وليس نجسا ؛ ولكنّه لا يعلم بذلك على وجه التعيين ، ولذلك فإنّ إلزامه بعدم المخالفة القطعيّة معناه إمّا وجوب الموافقة القطعيّة أو وجوب الموافقة الاحتماليّة ، فإمّا أن يأتي بالصلاتين ويترك كلا الإناءين ؛ ليتحقّق عدم المخالفة القطعيّة أو يأتي بصلاة واحدة ويترك إناء واحدا ، فإنّه لا يكون مخالفا قطعا ، بل احتمالا.

ففي الصورة الأولى يكون قد ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر لأجل تحقّق عدم المخالفة القطعيّة ، وفي الصورة الثانية يكون من المحتمل أنّه ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر ، بأن كانت الصلاة التي أدّاها ليست هي الواجبة أو الإناء الذي تركه ليس هو النجس واقعا. ففي كلتا الصورتين يعني إلزامه بترك المخالفة القطعيّة إلزامه بالمباح فعلا أو تركا لأجل عدم تحقّق المخالفة القطعيّة.

وعلى هذا الأساس لن يكون هناك مانع من ورود الترخيص الظاهري في ترك كلا الصلاتين أو جواز ارتكاب كلا الإناءين فيما إذا كانت ملاكات الإباحة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في الواجب الواقعي أو ارتكاب النجس الواقعي. ولذلك يكون هذا الترخيص بالنسبة إليه جدّيّا ؛ إذ كما أنّ الإلزام بترك المخالفة قد يؤدّي إلى الإلزام بفعل أو بترك المباح إذا كانت ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ فكذلك الترخيص في جواز المخالفة ، فإنّه يؤدّي إلى ترك الإلزام إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهم. فلا فرق بين الأمرين ولذلك كما أنّه يتقبّل الإلزام الظاهري يتقبّل الترخيص الظاهري ويكون ترخيصا جدّيّا كالإلزام. فالقاطع في موارد

ص: 173

العلم الإجمالي يرى وجودا للإباحة ولو احتمالا ، ولذلك فإلزامه بالتكليف قد يفوّت ملاكات الإباحة فالترخيص الجادّ الناشئ لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة يراه جدّيّا ؛ لأنّ ملاكات الإباحة محتملة عنده.

وبتعبير آخر : أنّ موارد التزاحم الحفظي متصوّرة هنا ؛ لأنّ القاطع إجمالا يحتمل الإباحة مضافا إلى التكليف ، ولذلك يكون موضوع التزاحم موجودا فلا مانع من صدور الترخيص كما لا مانع من صدور الإلزام ظاهرا.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الأصول؟

كان الكلام في المرحلة الثبوتيّة وقلنا : إنّه يعقل ورود الترخيص الظاهري في موارد العلم الإجمالي.

وأمّا المرحلة الإثباتيّة ، فهل يمكن إثبات أنّ هذا الترخيص قد ورد فعلا؟ أو هل يمكن إثبات الترخيص من خلال التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة والإباحة؟

فهل هناك دليل مستقلّ يدلّ على الترخيص في موارد العلم الإجمالي؟ أو أنّ دليل البراءة يشمل باطلاقه موارد العلم الإجمالي وغيره أيضا؟

والجواب : هو النفي ؛ لأنّ ذلك يعني افتراض أهميّة الغرض الترخيصي من الغرض الإلزامي حتّى في حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالا أو مساواته له على الأقلّ ، وهو وإن كان افتراضا معقولا ثبوتا ولكنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ الغالب في الأغراض العقلائيّة عدم بلوغ الأغراض الترخيصيّة إلى تلك المرتبة ، وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينة لبّيّة متّصلة على تقييد إطلاق أدلّة الأصول.

وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي عقلا.

والجواب : هو النفي ؛ لأنّه لا يوجد إثباتا دليل مستقلّ على ورود الترخيص في موارد العلم الإجمالي بالخصوص ، ولا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة لموارد العلم الإجمالي أيضا ؛ لأنّها مقيّدة.

وتوضيح ذلك : إنّ ورود الترخيص الظاهري وإن كان ممكنا ثبوتا ولا مانع منه عقلا ولا استحالة فيه ، إلا أنّه يعني أنّ الملاكات الواقعة للإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ

ص: 174

بنظر الشارع من ملاكات الإلزام عند الاختلاط والاشتباه وعدم التمييز ، أو على الأقلّ هي مساوية لها. وهذا الافتراض على خلاف المرتكزات العرفيّة العقلائيّة ، فإنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص والإباحة تصل إلى هذه الدرجة والمرتبة من الأهميّة أو المساواة ؛ لأنّ الغالب عندهم هو أهميّة ملاكات الإلزام عادة ، فالعقلاء في بنائهم وسيرتهم في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أو في أغراضهم التشريعيّة بين الموالي والعبيد العرفيّين يحكمون بأهميّة ملاكات الإلزام غالبا وعادة في موارد العلم الإجمالي بالإلزام ، ولا يرون أنّ ملاكات الإباحة والترخيص المحتملة تصل إلى تلك الدرجة من الأهميّة أو المساواة.

وحينئذ نقول : إنّه لا يوجد دليل إثباتي مستقلّ فيما وصل إلينا من الأدلّة يبرز أهميّة ملاكات الترخيص والإباحة على ملاكات الإلزام في خصوص موارد العلم الإجمالي.

يبقى إطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة كالإطلاق مثلا في قوله : ( رفع ما لا يعلمون ) الشامل بإطلاقه لموارد عدم العلم مطلقا سواء في الشبهات البدويّة أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، إلا أنّ هذا الإطلاق مقيّد بقيد لبّي متّصل وهو الارتكاز العقلائي المذكور. فإنّ هذا الارتكاز والبناء العقلائي يعتبر مقيّدا لبيّا حاليّا لهذا الإطلاق ، فعند صدور هذا الدليل كان هذا الارتكاز موجودا ومتّصلا به ، ولذلك فهو يقيّد ويمنع من إطلاقه لموارد العلم الإجمالي بالإلزام وبالتكليف.

ولا فرق بين المقيّد اللفظي المتّصل وبين المقيّد اللبّي المتّصل في كونهما يمنعان من انعقاد الإطلاق في أدلّة الأصول الترخيصيّة. وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي قال بها المشهور من أنّ العلم الإجمالي يثبت حرمة المخالفة القطعيّة ولكن عقلائيّا لا عقلا.

ويسمّى الاعتقاد بمنجّزيّة العلم الإجمالي لهذه المرحلة على نحو لا يمكن الردع عنها عقلا أو عقلائيّا بالقول بعلّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. بينما يسمّى الاعتقاد بمنجّزيّته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلا وعقلائيّا بالقول باقتضاء العلم الإجمالي للحرمة المذكورة.

أي أنّ المسلك الذي سار عليه المشهور من أنّ العلم الإجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعيّة عقلا وعقلائيّا ، أي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه عقلا وعقلائيّا يسمّى بمسلك

ص: 175

علّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. والمقصود من مسلك العلّيّة أنّ العلم الإجمالي بنفسه منجّز لحرمة المخالفة بنحو يستحيل تصوّر ورود الترخيص عقلا ، فإذا وجد العلم الإجمالي وجدت المنجّزيّة وإذا انتفى انتفت حرمة المخالفة القطعيّة ، فهو علّة وهي معلولة له.

وأمّا مسلك السيّد الشهيد القائل بأنّ العلم الإجمالي يقتضي المنجّزيّة بمعنى أنّه لا يستحيل صدور الترخيص في المخالفة القطعيّة عقلا ، بل هي ممكنة ثبوتا إلا أنّه يستحيل ذلك إثباتا للارتكاز العقلائي المذكور ، فيسمّى هذا المسلك باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة المذكورة. بمعنى أنّ هذه المنجّزيّة لحرمة المخالفة معلّقة على عدم ورود الترخيص الممكن ثبوتا وعقلائيّا ، فإذا ورد الترخيص إثباتا ارتفعت المنجّزيّة لارتفاع موضوعها ، وإذا لم يرد الترخيص ثبتت المنجّزيّة لتحقّق موضوعها ، وهذا مسلك صاحب ( الكفاية ) أيضا.

فالفرق بين مذهب العلّيّة والاقتضائيّة أنّه على الأوّل يستحيل صدور الترخيص بينما على الثاني لا يستحيل صدوره ، وإنّما لم يصدر لوجود المانع العقلائي. فالمنجّزيّة على الأوّل فعليّة ، بينما المنجّزيّة على الثاني معلّقة على عدم ورود الترخيص.

هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى.

وأمّا المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الأصول العمليّة إن شاء اللّه.

المرحلة الثانية هي المنع عن المخالفة الاحتمالية المساوقة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع بنحو العلّيّة أو بنحو الاقتضاء عن المخالفة الاحتماليّة ، فلا يسمح بترك أي طرف من الأطراف ، بل يوجب الالتزام بكلّ الأطراف فعلا في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أو تركا في موارد العلم الإجمالي بالحرمة ، أو لا. وهذا البحث سوف يأتي التعرّض له في مباحث الأصول العمليّة حيث إنّه مرتبط بها ، بمعنى أنّ الأصول العمليّة الترخيصيّة هل تجري في بعض الأطراف أو لا تجري؟

ص: 176

حجّية القطع غير المصيب ( وحكم التجرّي )

اشارة

ص: 177

ص: 178

حجّيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي

هناك معنيان للإصابة :

أحدهما : إصابة القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتا.

والآخر : إصابة القاطع في قطعه ، بمعنى أنّه كان يواجه مبرّرات موضوعيّة لهذا القطع ولم يكن متأثّرا بحالة نفسيّة ، ونحو ذلك من العوامل.

هنا سؤال وهو : هل أنّ القطع غير المصيب حجّة أو ليس حجّة؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من معرفة المراد من الإصابة المأخوذة في السؤال ، فإنّ الإصابة على نحوين :

الأوّل : الإصابة بمعنى مطابقة القطع للواقع ، أي أنّ قطعه كان صحيحا ومصيبا للواقع ، وهذا لازمه أنّ ما تعلّق به القطع وهو المقطوع ثابت في الواقع أيضا. فالقطع المصيب هو الذي طابق الواقع ، والقطع غير المصيب هو القطع الذي يخالف ما هو ثابت واقعا. فمثلا إذا قطع المكلّف بالوجوب وكان الوجوب ثابتا في الواقع فيقال : إنّ قطعه مصيب ، وإن لم يكن هناك وجوب في الواقع فيقال : إنّ قطعه غير مصيب بل مخطئ.

الثاني : الإصابة بمعنى موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، فإذا كان القاطع قد حصل له القطع استنادا إلى القوانين والضوابط الصحيحة المعتمد عليها في حصول القطع فيكون قطعه مصيبا ، أي أنّ قطعه صحيح من وجهة منطقيّة وموضوعيّة ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ، وفي مقابلة القطع الذي لا ينشأ من مبرّرات موضوعيّة وضوابط صحيحة ، بل كان ناشئا نتيجة لتأثّر القاطع ببعض العوامل النفسيّة والذاتيّة والظروف الخاصّة به بحيث أثّرت عليه في حصول القطع.

وقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة دون الثاني ، فلو أنّ مكلّفا قطع بوفاة

ص: 179

إنسان لإخبار شخص بوفاته وكان ميّتا حقّا غير أنّ هذا الشخص كانت نسبة الصدق في إخباراته عموما بدرجة سبعين في المائة ، فقطع المكلّف مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه غير مصيب بالمعنى الثاني ؛ لأنّ درجة التصديق بوفاة ذلك الإنسان يجب أن تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع أخباره.

والنسبة بين هذين المعنيين من الإصابة هي العموم والخصوص من وجه ، ولذلك يمكن اجتماعهما في مورد ويفترقان في مورد آخر. فقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة بأن يكون قطعه مصيبا للواقع ، بأن كان ما قطع به ثابتا واقعا. ولا يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة بأن لا يكون قطعه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة.

فمثلا لو أنّ شخصا أخبره بوفاة زيد وكان زيد ميّتا واقعا فقطع بوفاته استنادا إلى إخباره ، إلا أنّ هذا المخبر نفترض أنّ درجة الصدق في مجموع إخباراته لا توجب القطع ، بل توجب الظنّ فقط كنسبة سبعين في المائة. فهنا يطلق على هذا القاطع أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ ما قطع به ثابت واقعا فقطعه مطابق للواقع فهو مصيب ، ولكنّه لا يطلق عليه أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الثاني ؛ لأنّ المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة لم تكن متوفّرة لحصول القطع. وإنّما هذه المبرّرات توجب حصول الظنّ فقط ، فكان المناسب أن يظنّ بالوفاة لا أن يقطع بها ، لأنّ درجة الصدق من هذا الخبر لم تتناسب مع المبرّرات الموضوعيّة ، فلم يكن مصيبا في قطعه بلحاظ هذه المبرّرات والضوابط. نعم ، لو ظنّ بالوفاة في الفرض المذكور لكان مصيبا بالمعنى الثاني أيضا فيكون ظنّه مصيبا بالمعنى الأوّل ؛ لمطابقته للواقع ، ومصيبا بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين درجة التصديق هذه وبين المبرّرات الموضوعيّة (1).

ص: 180


1- وقد يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة دون الأوّل. فلو أنّ شخصا أخبر بوفاة زيد وكان مجموع إخباراته عموما تفيد الظنّ ، فظنّ هذا الشخص بالوفاة فهو مصيب في ظنّه بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين المبرّرات الموضوعيّة وبين درجة التصديق. فإذا لم يكن زيد ميّتا ، بل كان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لعدم مطابقة ظنّه للواقع. وقد يفرض القطع هنا بأن كان إخبار هذا الشخص يوجب القطع إلا أنّه لم يكن ميّتا واقعا ، ولكنّه مجرّد فرض ولعلّه غير صحيح ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة التامّة عن الواقع فكيف لا يكون مقطوعه ثابتا. نعم يمكن ذلك في حالات الجهل المركّب والتي هي ليست من العلم في شيء.

ونفس المعنيين من الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الأخرى أيضا ، فمن ظنّ بوفاة إنسان لإخبار شخص بذلك وكان ذلك الإنسان حيّا فهو غير مصيب في ظنّه بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني إذا كانت نسبة الصدق في إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.

وهذان المعنيان للإصابة يمكن فرضهما في درجات التصديق الأخرى كالظنّ ، فيقال : ظنّ مصيب بالمعنى الأوّل إذا كان الظنّ مطابقا للواقع وكان ما ظنّه ثابتا واقعا. ويقال : ظنّ مصيب بالمعنى الثاني إذا كان الظنّ مطابقا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ومتناسبا مع درجة التصديق.

فمثلا لو أخبره شخص بوفاة زيد فظنّ بالوفاة وكان ميّتا واقعا فهو مصيب بالمعنيين أمّا المعنى الأوّل فلأنّ ظنّه مطابق للواقع ؛ لأنّه ميّت ، وأمّا المعنى الثاني فلأنّ درجة التصديق التي عنده مطابقة للمبرّرات المنطقيّة ومتناسبة مع إخباره الذي يوجب الظنّ عموما.

ويمكن تحقّق أحدهما دون الآخر ، ففي المثال المذكور لو كان زيد حيّا واقعا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني. وقد يكون غير مصيب في المعنيين معا بأن قطع بالوفاة من خلال هذا الإخبار وكان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لكونه غير مطابق للواقع ، وغير مصيب بالمعنى الثاني لعدم التناسب بين درجة التصديق التي حصلت عنده وهي القطع مع المبرّرات الموضوعيّة التي توجب الظنّ من إخباره.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ) ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الذاتي والقطع الذاتي ).

المعنى الثاني من الإصابة وهو موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة ، فعدم الإصابة هو عدم مطابقة القطع لهذه المبرّرات الموضوعيّة. فالتصديق المصيب يسمّى التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ، وهو القطع واليقين والتصديق الموافق للمبرّرات الموضوعيّة. والتصديق غير المصيب يسمّى التصديق الذاتي والقطع الذاتي. وهو القطع واليقين والتصديق غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة.

ص: 181

وانحراف التصديق الذاتي عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئيّة ممّا ينغمس فيه كثير من الناس. وبعض مراتبه يعتبر شذوذا ومنه قطع القطّاع ، فالقطّاع إنسان يحصل له قطع ذاتي وينحرف غالبا في قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة.

عرفنا أنّ القطع الذاتي هو القطع غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة ، ولذلك فالقطع الذاتي انحراف عن جادّة الصواب. إلا أنّ هذا الانحراف مفهوم كلّي مشكّك ، أي له درجات ومراتب وأفراد ومصاديق بعضها أشدّ من البعض الآخر.

وبعض مراتب هذا الانحراف ممّا يتواجد في كثير من الناس ، وهي المرتبة الجزئيّة الأقلّ والتي فيها انحراف يسير فقط. فمثلا لو أنّ إنسانا أخبره بوفاة زيد وكانت درجة التصديق من إخباره بنسبة سبعين في المائة فحصل له ظنّ بنسبة خمسة أو سبعين أو ثمانين في المائة فهذا انحراف إلا أنّه جزئي ويسير ؛ لأنّه لا يزال ضمن دائرة الظنّ ولم يتحوّل من الظنّ إلى الدرجة الأعلى كالاطمئنان أو القطع. وهذه المرتبة والدرجة ينغمس فيها أكثر الناس بحيث لا تحصل الدرجة التصديقيّة المطابقة تماما للخبر ، بل تحصل لهم درجة تصديقيّة قريبة من درجة التصديق الموضوعيّة.

وأمّا بعض المراتب الأخرى من الانحراف فهي تعتبر شذوذا ، كأن يحصل له الاطمئنان بدرجة خمسة أو تسعين في المائة أو يحصل له القطع مائة في المائة من خلال إخبار شخص درجة التصديق في إخباره سبعين أو ستين في المائة فقط بحسب المبرّرات الموضوعيّة.

ومن هذه المرتبة في الانحراف والشذوذ قطع القطّاع ، وهو الإنسان الذي يحصل له قطع ذاتي غير مستند إلى مبرّرات موضوعيّة ، بل كان معتمدا على حالات نفسيّة معيّنة أوجبت له هذا الانحراف والشذوذ ، بحيث إنّه ينحرف في الغالب بدرجة كبيرة جدّا عن الدرجة التي تفرضها عليه المبرّرات الموضوعيّة ، بأن كانت المبرّرات توجد درجة التصديق بنسبة ستّين في المائة فقط ولكنّه ولأجل بعض الحالات النفسيّة والذاتيّة حصل له القطع واليقين مائة في المائة. فإنّ هذا انحراف كبير جدّا لا يتسامح فيه عرفا في الغالب.

ص: 182

وحجّيّة القطع من وجهة نظر أصوليّة - وبما هي معبّرة عن المنجّزيّة والمعذّريّة - ليست مشروطة بالإصابة بأي واحد من المعنيين.

وأمّا الجواب عن السؤال المتقدّم فهو أنّ القطع حجّة سواء كان مصيبا بالمعنيين أو لم يكن مصيبا فيهما ، فالحجّيّة الأصوليّة التي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة ثابتة للقطع كما تقدّم ، سواء كان منشؤه المبرّرات الموضوعيّة أو الحالات الذاتيّة والنفسيّة ، وسواء كان مصيبا للواقع أو لم يكن مصيبا للواقع.

فالحجّيّة لا يشترط فيها الإصابة بأي نحو من هذين المعنيين. والدليل على عدم الاشتراط هو :

أمّا المعنى الأوّل فواضح ؛ إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة ، كما أنّ القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ.

أمّا عدم اشتراط كون القطع مصيبا للواقع بحيث يكون القطع منجّزا سواء أصاب الواقع أم لا ، فلأنّ القطع بالتكليف المولوي هو تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها. وكذلك القطع بعدم التكليف هو تمام الموضوع ؛ لخروج هذا المورد الذي قطع المكلّف فيه بعدم التكليف عن دائرة حكم العقل بالمنجّزيّة والإطاعة ، وهو معنى معذّريّة القطع. فإذا حصل القطع بالتكليف حكم العقل بالمنجّزيّة وكان المورد داخلا في العهدة وفي موضوع حقّ الطاعة ، وإذا قطع بعدم التكليف حكم العقل بنفي العقاب إذ لا مخالفة ؛ لأنّه لا تكليف للمولى ليجب رعايته وامتثاله (1).

ص: 183


1- والدليل على ما ذكره السيّد الشهيد : هو أنّ موضوع حقّ الطاعة يمكن أن يتصوّر على أنحاء ثلاثة هي : 1 - أن يكون الموضوع هو التكاليف الثابتة واقعا سواء علم بها المكلّف أم لا. 2 - أن يكون الموضوع هو التكاليف الواقعيّة مع قيام الحجّة شرعا أو عقلا عليها. 3 - أن يكون الموضوع هو التكاليف التي تنجّزت بمنجّز شرعي أو عقلي ، أي التكاليف التي قامت الحجّة عليها شرعا أو عقلا. والصحيح هو الأخير ؛ لأنّ من حقّ المولى على المكلّف الإطاعة والامتثال في كلّ تكليف وصل إلى المكلّف. وهذا يعني أنّه لا بدّ من فرض الوصول ، وهذا يكون بفرض قيام الحجّة أي المنجّز المعتبر لدى الشارع ، سواء كان هذا التكليف ثابتا في الواقع أم لا. فيكون تمام ..... الموضوع لحقّ الطاعة هو ثبوت التكليف عند المكلّف بالقطع به أو قيام المنجّز المعتبر شرعا عليه ، وكذلك تمام الموضوع لخروج التكليف من موضوع حقّ الطاعة هو القطع بعدمه أو قيام الحجّة المعتبرة شرعا على نفيه والتأمين من ناحيته.

ومن هنا كان المتجرّي مستحقّا للعقاب كاستحقاق العاصي ؛ لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحو واحد. ونقصد بالمتجرّي : من ارتكب ما يقطع بكونه حراما ولكنّه ليس بحرام في الواقع. ويستحيل سلب الحجّيّة أو الردع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ؛ لأنّ مثل هذا الردع يستحيل تأثيره في نفس أي قاطع ؛ لأنّه يرى نفسه مصيبا وإلا لم يكن قاطعا.

المتجرّي : هو من يقطع بحرمة شيء أو بوجوبه ثمّ يخالف قطعه ، فيرتكب الحرام الذي قطع بحرمته ويترك الواجب الذي قطع بوجوبه ، ثمّ يتبيّن أنّه لم يكن حراما أو واجبا في الواقع. من قبيل أن يقطع بأنّ هذا المائع خمر فيشربه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء ، أو يقطع بأنّ هذه المرأة أجنبيّة فيطأها ، ثمّ يتبيّن أنّها جاريته أو زوجته. فهنا لم يكن قطعه مصيبا للواقع.

ولكن تقدّم منّا أنّ حجّيّة القطع ومنجّزيّته لا يشترط فيها الإصابة للواقع ؛ لأنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. وعليه فإنّ المتجرّي القاطع بالتكليف يجب عليه بحكم العقل الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ وذلك رعاية لحقّ المولى واحتراما لأدب العبوديّة المفروض عليه ، فهو كالقاطع بالتكليف ثمّ يعصيه. فلا فرق بين العاصي والمتجرّي من جهة أنّهما انتهكا حقّ المولى وخرجا عن حدود العبوديّة ؛ لأنّهما خالفا التكليف المقطوع والذي هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. ولذلك يحكم العقل بلزوم العقاب عليهما.

ومجرّد كون المتجرّي لم يصب الواقع بينما العاصي أصابه لا يصحّ أن يكون ملاكا للفرق بينهما في استحقاق العقاب للعاصي دون المتجرّي ؛ وذلك لأنّ إناطة العقاب بذلك معناه تعليق الحكم على شيء غير مقدور للمكلّف ، فإنّ الإصابة للواقع وعدمها ليست مقدورة للمكلّف ، فلا يمكن أن تكون شرطا في التكليف.

والدليل على ذلك : أنّ المنجّزيّة يستحيل سلبها عن القطع ويستحيل الردع عن العمل بالقطع ، فالقاطع يجب عليه العمل وفقا لقطعه ويكون قطعه منجّزا عليه ، وهذا

ص: 184

المعنى موجود سواء المتجرّي أو العاصي. فإنّ القاطع كما تقدّم يرى أنّ قطعه مصيب دائما للواقع ويرى مقطوعه ثابتا في الواقع ، فهو يعتقد ذلك ويؤمن به ، ولذلك لا يصدّق بسلب المنجّزيّة أو الردع عن القطع على أساس ترخيص ظاهري كما تقدّم ؛ لأنّه لا يراه جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه لا يحتمل وجودا إلا للتكليف ولا يحتمل عدمه أصلا ، وإلا لم يكن قاطعا.

ومن هنا نحكم على المتجرّي باستحقاق العقاب كالعاصي ؛ لأنّ ملاك الاستحقاق فيهما واحد ، وهو مخالفته للتكليف المقطوع به الذي هو تمام الموضوع للمنجّزيّة وحقّ الطاعة والامتثال والإطاعة ، خلافا للشيخ الأنصاري حيث نفى العقاب عنه.

والمتجرّي على نوعين :

الأوّل : التجرّي بالنيّة بأن ينوي فعل ما قطع بحرمته أو ينوي ترك ما قطع بوجوبه من دون أن يفعل ذلك. وهذا النحو ليس هو محلّ الكلام. وهذا اختلفت فيه الأخبار.

الثاني : التجرّي بفعل ما قطع بحرمته أو بترك ما قطع بوجوبه ، وهو محلّ الكلام فعلا.

وكما يستحقّ المتجرّي العقاب كالعاصي كذلك يستحقّ المنقاد الثواب بالنحو الذي يفترض للممتثل ؛ لأنّ قيامهما بحقّ المولى على نحو واحد. ونقصد بالمنقاد :

من أتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا أو تركا رعاية لطلب المولى ، ولكنّه لم يكن مطلوبا في الواقع.

المنقاد : هو ذاك الإنسان الذي يقطع بوجوب شيء ويمتثله رعاية لحقّ المولى ، أو الذي يقطع بحرمة شيء فيتجنّبه رعاية لحقّ المولى أيضا ، ثمّ يتبيّن أنّه لا وجوب ولا حرمة واقعا. من قبيل أن يقطع بوجوب صلاة الجمعة فيأتي بها ، ثمّ يتبيّن أنّها ليست واجبة ، أو يقطع بحرمة هذا المائع لأنّه خمر فيتجنّبه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء.

فهذا المنقاد يستحقّ الثواب كالمطيع والممتثل ؛ لأنّهما يشتركان معا في ملاك استحقاق الثواب ، وهو رعاية حقّ المولى والعمل على وفق ما يريده المولى من عبادة فعلا أو تركا.

فكما أنّ المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب ؛ لانتهاكهما حقّ المولى ، كذلك المنقاد كالمطيع في استحقاق الثواب ؛ لرعايتهما حقّ المولى.

ص: 185

والوجه في ذلك ما ذكرناه من أنّ تمام الموضوع لدائرة حقّ الطاعة والمنجّزيّة هو القطع بالتكليف. فإذا قطع بالتكليف فينجّز عليه ويجب إطاعته ويحرم مخالفته ويثاب على امتثاله ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ؛ لأنّها ليست شرطا كما تقدّم.

وأمّا المعنى الثاني فكذلك أيضا ؛ لأنّ عدم التحرّك عن القطع الذاتي بالتكليف يساوي عدم التحرك عن اليقين الموضوعي في تعبيره عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على السواء والتحرّك عن كلّ منهما وفاء بحقّ المولى وتعظيم له.

وأمّا عدم اشتراط المنجّزيّة للقطع بكونه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة بمعنى أنّ القطع منجّز ، سواء كان قطعا ذاتيّا ناشئا من حالات ذاتيّة ونفسيّة أو كان قطعا موضوعيّا ناشئا عن مبرّرات وضوابط منطقيّة وموضوعيّة.

والوجه في ذلك : أنّ القطع الذاتي مساو للقطع الموضوعي - في حالة عدم التحرّك عنه أي عدم الإطاعة والامتثال له فعلا أو تركا - في كونهما معبّرين عن الاستهانة بحقّ المولى وخرق حدود العبوديّة وهدر كرامة المولى وعدم احترامه ؛ لأنّ القطع فيهما واحد وهو موجب للتحرّك. فعدم التحرك عنه فيهما يعبّر عن العصيان وهو قبيح ، ولذلك يكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على حدّ واحد.

ويكون التحرّك عن كلّ من القطعين وفاء وتعظيما لحقّ المولى.

ولا يمكن سلب المنجّزيّة عن القطع الذاتي كما لا يمكن سلبها عن القطع الموضوعي ؛ لأنّ هذا الشخص بعد حصول القطع عنده يرى أنّه ملزم بالتكليف فعلا أو تركا ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه صحيح ومصيب ، ولذلك لا يصدّق بالترخيص ولا يؤمن بإمكان الردع عن هذه المنجّزيّة ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من أنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لدخول المورد في دائرة حقّ الطاعة ، سواء كان منشؤه الحالات الذاتيّة أو المبرّرات الموضوعيّة.

وقد يقال : إنّ القطع الذاتي وإن كان منجّزا لما ذكرناه ولكنّه ليس بمعذّر ، فالقطّاع إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتا في الواقع فلا يعذّر في ذلك لأحد وجهين :

كان الكلام إلى الآن في أنّ منجّزيّة القطع لا يفرّق فيها بين القطع الذاتي والقطع

ص: 186

الموضوعي وبين القطع المصيب للواقع وغير المصيب. وأمّا بالنسبة لمعذّريّة القطع فقد يقال : إنّ القطع الذاتي ليس معذّرا ، بمعنى أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف في مورد لا يكون مؤمّنا له عن استحقاق العقاب فيما إذا كان قطعه مخالفا للواقع وكان التكليف ثابتا ، فلا يكون معذورا.

والدليل على ذلك أحد أمرين :

الأوّل : أنّ الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتي أو ببعض مراتبه المتطرّفة على الأقلّ ، وهذا الردع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهي عن المقدّمات التي تؤدّي إلى نشوء القطع الذاتي للقطّاع أو بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان ، وهذا حكم طريقي يراد به تنجيز التكاليف الواقعيّة التي يخطئها قطع القطّاع وتصحيح العقاب على مخالفتها.

الوجه الأوّل لإثبات أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو : أنّ الشارع قد ردع عن العمل بالقطع الذاتي في جميع مراتبه أو على الأقلّ في المرتبة الشديدة الانحراف منه ، أي قطع القطّاع ومع صدور الردع عن العمل به لا يكون العمل به حجّة ومعذّرا ، فهو من قبيل القياس والاستحسان في كون العمل بهما ليس حجّة. وبالتالي يثبت العقاب فيما لو كان التكليف ثابتا وتركه هذا القاطع استنادا على القطع الذاتي.

لا يقال : إنّ الردع عن العمل بالقطع مستحيل سواء كان موضوعيّا أو ذاتيّا لما تقدّم سابقا من استحالة سلب الحجّيّة عن القطع ؛ لأنّ القاطع سواء بالتكليف أو بعدمه لا يحتمل شيئا آخر خلاف ما قطع به وإلا لم يكن قاطعا. وعليه فلا يتعقّل صدور مثل هذا الردع بنحو جادّ ، فيكون مثل هذا الردع لغوا ؛ لأنّه بلا فائدة وبلا أثر.

فإنّه يقال : إنّ هذا الردع عن القطع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ؛ لئلا يلزم المحذور المذكور ؛ لأنّه بعد حصوله لا يمكن الردع عنه لما ذكر. وإنّما الردع يكون بأحد نحوين :

إمّا بالنهي عن المقدّمات التي من شأنها أن تؤدّي إلى حصول هذا القطع ، بأن يشخّص الشارع هذه المقدّمات وينهى عن اتّباعها ؛ لأنّها تستلزم دائما أو غالبا

ص: 187

حصول القطع الذاتي ، ومع النهي عنها يحرم فعلها وارتكابها فيكون معاقبا عليها لا على قطعه.

وإمّا بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان وعدم التسرّع في استخلاص النتائج ، بل لا بدّ من التروي والهدوء فيكون أمرا إرشاديا للتأمّل والتدقيق في المسائل والموارد التي يحصل فيها القطع.

وهذا الردع بأحد هذين التصوّرين ليس حكما واقعيّا ؛ ليلزم اجتماع الضدّين واقعا أو في نظر المكلّف. وإنّما هو حكم ظاهري طريقي روحه وحقيقته إبراز الملاكات الواقعيّة للإلزام وأنّها أهمّ ، فيكون الغرض منه التنجيز للتكليف الواقعي في حالة الخطأ بالقطع الناتج غالبا عن قطع القطّاع ، فهو ردع طريقي في مقام خطأ قطع القطّاع لأجل إبراز الملاكات الالزامية الواقعيّة وأهمّيّتها بنظر الشارع ضمانا للحفاظ عليها وعدم تقويتها. والنتيجة هي أنّ القطّاع يكون مستحقّا للعقاب ؛ لمخالفة هذا التكليف الواقعي الذي أبرز أهمّيّة ملاكاتها هذا الحكم الطريقي.

وهذا أمر معقول ، غير أنّه لا دليل عليه إثباتا.

والجواب على هذا الوجه أنّه معقول ثبوتا وممكن من الناحية النظريّة ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ؛ إذ لا يوجد دليل خاصّ في هذا المورد ولا يوجد إطلاق في أدلّة الأصول العمليّة الإلزامية كالاحتياط لهذا المورد ؛ لأنّها مختصّة في صورة عدم العلم. وهنا يوجد علم بعدم التكليف.

الثاني : أنّ القطّاع في بداية أمره إذا كان ملتفتا إلى كونه إنسانا غير متعارف في قطعه ، كثيرا ما يحصل له العلم الإجمالي بأنّ بعض ما سيحدث لديه من قطوع نافية غير مطابقة للواقع لأجل كونه قطّاعا ، وهذا العلم الإجمالي منجّز.

الوجه الثاني لإثبات أنّ قطع القطاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو أنّ هذا القطّاع إذا التفت إلى كونه إنسانا قطّاعا يحصل له القطع الذاتي كثيرا ، فإنّه سوف يحصل له علم إجمالي من أوّل الأمر بأنّ بعض القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له في المستقبل ليست كلّها مطابقة للواقع بسبب علمه بكونه قطّاعا غير متعارف في قطعه ، وهذا العلم الإجمالي منجّز. ومقتضى المنجّزيّة لهذا العلم الإجمالي هي وجوب الاجتناب عن كلّ القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له ؛ لأنّه لا

ص: 188

يستطيع تمييز المخطئ من المصيب منها. فكلّ قطع بعدم التكليف يكون داخلا ضمن دائرة العلم الإجمالي بوجود قطوعات نافية مخطئة فيجب الاجتناب عنه.

وعليه ، فلو لم يجتنب بل سار وفقا لما قطع به من عدم التكليف لا يكون معذورا ؛ لأنّه مخالف لوجوب الاحتياط والاجتناب والتحفّظ الذي أبرزه العلم الإجمالي ، فإنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لا يمكن سلبها عنه عقلا أو عقلائيّا كما تقدّم.

فإن قيل : إنّ القطّاع حين تتكوّن لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يمكنه أن يشكّ في قطعه وهو قاطع بالفعل.

هذا إشكال على الوجه الثاني وحاصله : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ومع انحلاله لا يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف.

وكيفيّة الانحلال أن يقال : إنّ هذا القطّاع عند ما يحصل لديه قطع ناف للتكليف بالفعل فيقطع مثلا بعدم وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، فإنّ هذا القطع الذي تكوّن لديه وغيره أيضا من القطوعات الفعليّة النافية للتكليف سوف توجب زوال وانحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا القطع أو القطوعات التي حصل عليها بالفعل ليست داخلة ضمن دائرة ذلك العلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّه يراها مصيبة وصحيحة ولا يحتمل فيها الخطأ ؛ لأنّه لو احتمل كونها مخطئة أو ليست صحيحة لم يكن قاطعا ، وهذا خلف المفروض. إذا ينحلّ العلم الإجمالي لخروج بعض أطرافه من دائرته بالعلم التفصيلي ، فتبقى القطوعات الأخرى مشكوكة ، ولكنّه كلّما حصل لديه قطع ناف كان خارجا عن دائرة العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يشكّ ولا يحتمل الخطأ فيه لأنّه قاطع فعلا.

وعليه فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي ذا أثر أصلا فلا معنى لجعله وصدوره ؛ لأنّه لغو.

كان الجواب : أنّ هذا مبنيّ على أن يكون الوصول كالقدرة. فكما أنّه يكفي في دخول التكليف في دائرة حقّ الطاعة كونه مقدورا حدوثا - وإن زالت القدرة بسوء اختيار المكلّف - كذلك يكفي كونه واصلا حدوثا وإن زال الوصول بسوء اختياره.

هناك بحث سيأتي وهو أنّ القدرة شرط في التكليف ، بمعنى أنّه لا يجوز التكليف

ص: 189

بغير المقدور والحاكم بذلك هو العقل ؛ لأنّه لا تحريك ولا بعث مع عدم القدرة ، والتكليف يكون بداعي البعث والتحريك ، فيكون جعله هنا لغوا وهذا واضح. ويترتّب على البعث والتحريك الناشئين من التكليف حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وباستحقاق الثواب على الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ الإدانة متوقّفة على البعث والتحريك وهما متوقّفان على القدرة في التكليف.

ثمّ إنّ هذه القدرة المشروط بها التكليف هل يكفي حدوثها أو لا بدّ من بقائها واستمرارها؟ خلاف بينهم في ذلك.

والصحيح هو أنّ القدرة على التكليف شرط في صحّة التكليف عقلا حدوثا ، بمعنى أنّه إذا كانت هناك قدرة للمكلّف على الفعل فيصحّ جعل التكليف وتوجيهه إليه ، فإذا زالت عنه فيما بعد فلا يضرّ زوالها في التكليف ؛ لأنّ الشرط هو حدوثها لا بقاؤها.

وعلى هذا فإذا كان المكلّف قادرا على الفعل فعصى ولم يمتثل حتّى فات الوقت يكون قد عجّز نفسه عن الإتيان به فارتفعت القدرة باختياره ، وهذا لا يضرّ في بقاء التكليف ولذلك يكون أهلا للإدانة واستحقاق العقاب.

وكذلك إذا كان قادرا على الفعل فأوقع نفسه في التعجيز أي أنّه أذهب القدرة باختياره ، كمن كان قادرا على استعمال الماء في الوضوء فأراقه على الأرض اختيارا فأوقع نفسه في التعجيز وعدم القدرة على الوضوء ، فهنا أيضا يكون مدانا.

والحاصل : أنّ زوال القدرة بسوء الاختيار لا يرفع التكليف ؛ لأنّه يكفي في دخول التكليف في العهدة والذمّة وحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة أن يكون التكليف مقدورا عليه حدوثا وإن زالت القدرة عنه بقاء واستدامة بسوء اختيار المكلّف بأن اختار العصيان أو اختار التعجيز. فلا فرق بين العجز والتعجيز ما داما حاصلين بسوء الاختيار ، ولهذا اشتهر قولهم : ( إنّ العجز بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ).

والقول الآخر : إنّ القدرة كما أنّها شرط في التكليف ابتداء وحدوثا فهي شرط فيه أيضا بقاء واستدامة ، فإذا زالت القدرة عن التكليف يرتفع التكليف ، ولذلك فلا بعث

ص: 190

ولا إدانة على تركه للتكليف. نعم يكون معاقبا على فعله للمقدّمات التي أوصلت إلى ترك التكليف مثلا. والصحيح هو الأوّل.

فبناء على هذا المسلك نقول في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ الوجه الثاني الذي أبرز العلم الإجمالي للمكلّف بأنّ بعض قطوعاته النافية للتكليف غير صحيحة قد وصل إليه فعلا ، فإذا حصل له بعد ذلك علم بقطع ناف للتكليف فعلا ، فهذا العلم والقطع الذي حصل عليه القطّاع بالفعل لا يوجب انحلال العلم الإجمالي وخروج هذا القطع الفعلي بعدم التكليف عن ذكر العلم الإجمالي المنجّز.

والوجه في ذلك : أنّنا نقول : إنّ الوصول كالقدرة ، فكما إنّنا قلنا : إنّ القدرة على التكليف شرط حدوثا ولذلك لا يضرّ ارتفاعها بسوء الاختيار في بقاء التكليف واستحقاق الإدانة عقلا.

كذلك نقول في الوصول وتوضيحه : إنّ وصول العلم الإجمالي المنجّز إلى المكلّف لا ينحلّ ولا يزول بالقطع الفعلي النافي للتكليف ؛ لأنّ هذا القطع قد حصل للمكلّف بسوء اختياره إذ المفروض أنّه قد اتّبع المبرّرات الذاتيّة والنفسيّة للحصول على هذا القطع ولم يعتمد المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، وهو منهيّ عن اتّباع الحالات النفسيّة والذاتيّة بسبب العلم الإجمالي السابق بكونه قطّاعا ، وأنّ قطوعاته غير مطابقة للواقع. فحصول القطع بعدم التكليف كان بسوء اختيار منه ، بمعنى أنّه هو الذي أوقع نفسه في الدائرة التي يحصل فيها على القطع ، ولذلك يكون أوقع نفسه قهرا في الحصول على القطع النافي والذي ينحلّ به العلم الإجمالي برأيه واعتقاده ، فكان الانحلال للعلم الإجمالي بسوء الاختيار ، وهذا لا يوجب الانحلال واقعا وحقيقة أو حكما بنظر الشارع. وعليه ، فالعلم الإجمالي لا يزال منجّزا ولا يزال موجودا واقعا وحكما وهو يفيد المنع من اتّباع القطوعات النافية للتكليف فمع المخالفة يستحقّ الإدانة والعقاب.

وبتعبير آخر : إنّ وصول العلم الإجمالي للمكلّف يكفي في منجّزيّته للاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف أن يكون واصلا إلى المكلّف حدوثا وابتداء ، وهنا المكلّف يعلم من أوّل الأمر بأنّ كثيرا من قطوعاته النافية غير مطابقة للواقع بسبب كونه قطّاعا ، فالعلم الإجمالي واصل حدوثا. وهذا العلم الإجمالي لا ينحلّ واقعا بحصول

ص: 191

القطع النافي للتكليف فعلا ؛ لأنّ حصول هذا القطع لدى القطّاع كان بسوء اختياره ، فإنّ القطع الفعلي وإن كان يوجب الانحلال للعلم الإجمالي إلا أنّ القطّاع كان عليه الاجتناب عن هذا القطع الفعلي النافي للتكليف بسبب علمه الإجمالي السابق ، فحصول القطع الفعلي أوجب انحلال العلم الإجمالي بسوء اختياره. ولذلك فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يزول ، بل تبقى منجّزيّته على حالها ؛ لأنّه يشترط فيه ألاّ ينحلّ بسوء الاختيار ، وعليه فيبقى مكلّفا بالاجتناب ، فمع مخالفته وارتكابه يكون مدانا ومستحقّا للعقاب.

* * *

ص: 192

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

ص: 193

ص: 194

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

الدليل إذا كان قطعيّا فهو حجّة على أساس حجّيّة القطع ، وإذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به ، وأمّا إذا لم يكن قطعيّا وشكّ في جعل الحجّيّة له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجيّة.

الدليل سواء كان عقليّا أو شرعيّا إن كان قطعيّا فهو حجّة أي منجّز ومعذّر ؛ وذلك لأنّ القطع كما تقدّم حجّة سواء في ذلك القطع الموضوعي أو القطع الذاتي. وإن لم يكن قطعيّا بأن كان ظنيّا فهنا إن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به على أساس حجّيّة ذلك الدليل القطعي كخبر الثقة مثلا ، وإن قام دليل قطعي على عدم حجّيّته أخذ به أيضا كما في القياس. وهذا المقدار ثابت لا إشكال فيه.

وأمّا إذا لم يكن قطعيّا ولم يقم دليل قطعي على حجيّته أو على عدم حجيّته فهنا الأصل فيه يقتضي عدم الحجّيّة ، كما إذا أخبر الصبي المميّز بحكم شرعي ولا ندري هل الشارع جعل الحجّيّة لخبره أم لا؟.

ونعني بهذا الأصل : أنّ احتمال الحجّيّة ليس له أثر عملي ، وأنّ كلّ ما كان مرجعا لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا الاحتمال يظلّ هو المرجع معه أيضا.

المقصود من قولنا : ( الأصل عدم الحجّيّة ) : هو أنّ القاعدة الأوليّة التي كانت جارية في هذا المورد تظلّ حجّة فيه ، بمعنى أنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تؤثّر في رفع اليد عمّا كان ثابتا قبلها ، فالمكلّف يتعامل في هذا المورد وكأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة ليست موجودة أصلا ، فكما أنّه قبل مجيئها كان يعتمد على ما هو حجّة شرعا في هذا المورد يظلّ أيضا بعد مجيئها يعتمد عليه ، فما كان مرجعا بقطع النظر عنها يظلّ هو المرجع معها ، فالموقف العملي لا يتغيّر عمّا كان عليه.

ولتوضيح ذلك نطبّق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجّيّة يدلّ على وجوب

ص: 195

الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، وفي مقابله البراءة العقليّة - قاعدة قبح العقاب بلا بيان - عند من يقول بها ، والبراءة الشرعيّة ، والاستصحاب ، وإطلاق دليل اجتهادي تفرض دلالته على عدم وجوب الدعاء.

ولأجل توضيح وبيان ما ذكرناه من الأصل من قولنا : ( إنّ كلّ ما كان مرجعا قبل هذه الحجّيّة المشكوكة يظلّ هو المرجع معها ) نفرض أنّه دلّ خبر مشكوك الحجّيّة - كخبر المميّز أو خبر العامي الثقة أو خبر مجهول الحال أو خبر الثقة الفاسق - على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّه قبل مجيء هذا الخبر المشكوك الحجيّة كان المرجع في هذا المورد البراءة العقليّة ، أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند المشهور التي تقيّد التأمين عند عدم العلم وهذا مشكوك فلا عقاب في الترك ، والبراءة الشرعيّة عند السيّد الشهيد وهي تفيد أنّ كلّ ما لا يعلم فهو مرفوع أو حلال أو طاهر فهي تفيد التأمين ونفي الإلزام أيضا ، والاستصحاب أي استصحاب عدم الوجوب ؛ لأنّ الوجوب مشكوك والأصل عدمه إمّا بلحاظ ما قبل التكليف وإمّا بلحاظ صدر التشريع ، والدليل الاجتهادي كالإطلاق والعموم الدالّين على نفي الوجوب المذكور بأن كان لسانهما شاملا للمورد المذكور إن كان الحكم الواقعي عدم وجوب الدعاء بنحو الإطلاق أو العموم.

أمّا البراءة العقليّة فلو قيل بها كانت مرجعا مع احتمال حجّيّة الخبر أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجّيّة لا يكمل البيان ، وإلا لتمّ باحتمال الحكم الواقعي. ولو أنكرناها وقلنا : إنّ كلّ حكم يتنجّز بالاحتمال ما لم يقطع بالترخيص الظاهري في مخالفته ، فالواقع منجّز باحتماله من دون أثر لاحتمال الحجّيّة.

أمّا البراءة العقليّة فإن قلنا بها فمفادها التأمين عن العقاب في حال عدم البيان والعلم ، فما دام الحكم الواقعي لم يتمّ عليه البيان فالعقل يحكم بنفي العقاب والإدانة وهو معنى التأمين ، فهذه البراءة العقليّة موضوعها عدم العلم بالحكم الواقعي المساوق للشكّ به ، فمع قيام الحجّيّة المحتملة على وجوب الدعاء يبقى موضوع القاعدة ثابتا ، ولذلك تبقى القاعدة هي المرجع في هذه الحالة ؛ لأنّ البيان والعلم لم يتحقّقا. ومجرّد احتمال الحجّيّة لا يكفي في تماميّة البيان والعلم ولا يكمل البيان والعلم مع ضمّه للواقع المحتمل ، فإنّنا إذا ضممنا هذه الحجّيّة المحتملة إلى الحكم الواقعي بوجوب الدعاء

ص: 196

المحتمل أيضا فإنّه لا يكفي في تكميل البيان ؛ لأنّه مجرّد ضمّ احتمال إلى آخر وهو لا يخرج عن دائرة الشكّ وعدم العلم.

بل إنّنا لو فرضنا أنّ احتمال الحجّيّة كاف في تتميم البيان والعلم لكان احتمال الحكم الواقعي ابتداء كافيا في ذلك أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجيّة معناها احتمال الحكم الواقعي ؛ لأنّ المراد من الحجيّة لهذا الخبر المشكوك الحجّيّة الكشف عن الواقع.

ومن الواضح أنّه بناء على مسلك المشهور من البراءة العقليّة لا يكون احتمال الحكم الواقعي منجّزا ما لم يقم الدليل الشرعي الحجّة على الوجوب أو الحرمة ؛ لأنّه يعني رفع اليد عن القاعدة مطلقا في كلّ الموارد التي يحتمل فيها الحكم الواقعي ، وهذا خلاف حكم العقل عندهم. فهذا الافتراض واضح البطلان على مسلك المشهور ، وبه ثبت أنّ المرجع هو البراءة العقليّة لتماميّة موضوعها ولعدم وجود العلم والبيان لا حقيقة ولا تعبّدا ، ولذلك لا يرفع اليد عنها لعدم العلم والبيان.

وأمّا إذا أنكرنا البراءة العقليّة وقلنا بمسلك حقّ الطاعة من أنّ كلّ انكشاف للواقع ولو على مستوى الاحتمال يكون منجّزا للتكليف ولا يرفع اليد عن هذه المنجّزيّة إلا إذا ثبت الترخيص الشرعي الجادّ في المخالفة ، فهنا يكون الواقع منجّزا مع وجود هذه الحجّيّة المشكوكة لا لأجل احتمال الحجّيّة لها ، بل لأجل أنّ احتمال الحكم الواقعي بنفسه منجّز بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة المشكوكة أو عدم وجودها.

والحاصل : أنّه لا يوجد أثر لهذه الحجّيّة المشكوكة سواء قبلنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو أنكرناها ؛ لأنّه على قبولها يكون موضوع القاعدة تامّا وعلى إنكارها يكون التنجيز لاحتمال الحكم الواقعي ، وفي كلا الموردين لا أثر تنجيزي أو تعذيري لهذه الحجّيّة المشكوكة فالتقيّد بها كذلك لغو باطل.

وأمّا البراءة الشرعيّة فإطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجّيّة أيضا ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي ، وهو ثابت مع احتمال الحجّيّة أيضا ، بل حتّى مع قيام الدليل على الحجّيّة. غير أنّه في هذه الحالة يقدّم دليل حجّيّة الخبر على دليل البراءة ؛ لأنّه أقوى منه وحاكم عليه مثلا ، وأمّا مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل البراءة.

وأمّا البراءة الشرعيّة كقوله : « رفع ما لا يعلمون » وقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى

ص: 197

تعلم أنّه حرام » فهذه الألسنة مطلقة بمعنى أنّه في كلّ مورد لا يعلم الحكم الواقعي فيه فهو مرفوع وحلال ، وهو معنى نفي العقاب والتأمين في حالة المخالفة للواقع.

فموضوع البراءة الشرعيّة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي وهذا الموضوع ثابت في الفرض المذكور ، أي قيام دليل مشكوك الحجّيّة على الوجوب مثلا. فإنّ عدم العلم بالتكليف الواقعي متحقّق ؛ لأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تكشف عن الواقع كشفا تامّا بل إنّه يحتمل كونها كاشفة فقط. ومع هذا الاحتمال يصدق عدم العلم فتجري البراءة الشرعيّة. وهذا يعني أنّ المورد مشمول للبراءة لأجل إطلاق موضوعها ، بل يمكننا أن نقول أكثر من ذلك : وهو أنّ إطلاق البراءة الشرعيّة يشمل حالة قيام الحجّة المعتبرة شرعا على التكليف كقيام خبر ثقة دالّ على الوجوب ، فإنّ هذا الخبر كاشف ناقص عن الواقع فهو يفيد الظنّ فقط. غاية الأمر جعله الشارع حجّة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ؛ لأنّه يبرز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ وليس جعله حجّة بمعنى جعله علما كما هو مسلك الميرزا وغيره ، وحينئذ فعدم العلم بالتكليف الواقعي ثابت أيضا في صورة قيام الحجّة على التكليف فيقع التعارض بينهما ، ولكنّه تعارض غير مستقرّ ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة كالأخبار والسيرة العقلائيّة أقوى ظهورا ودلالة من دليل البراءة ولذلك يكون مقدّما عليها ، أو يكون حاكما على مسلك الميرزا والمشهور.

ومن المعلوم أنّ الحكومة نوع من التخصيص ؛ لأنّها توسّع أو تضيّق الموضوع أو المحمول بلسان التعبّد والادّعاء ، ولذلك يرفع اليد عن الإطلاق في دليل البراءة لثبوت هذا المخصّص الحاكم. وأمّا إذا لم يثبت هذا المخصّص فلا يؤخذ بالدليل الأضعف كالحجّيّة المشكوكة ويترك الدليل الأقوى وهو الإطلاق ، بل يبقى الإطلاق ثابتا وحجّة لعدم وجود حجّة أقوى منه تكون حاكمة عليه.

وكذلك الكلام في الاستصحاب.

فإنّ موضوعه العلم بالحكم الواقعي فمع عدم العلم به يكون موضوعه تامّا ولا يرفع اليد عنه بالشكّ ، وهذه الحجّة المشكوكة لا تفيد العلم بالحكم الواقعي ، فيبقى الاستصحاب حجّة لتحقّق موضوعه.

فقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر » يفيد أنّ اليقين

ص: 198

السابق حجّة ما لم يعلم بارتفاعه وانتقاضه. وعليه ، فاستصحاب عدم التكليف هو المرجع ؛ لأنّه متيقّن إمّا قبل البلوغ وإمّا في صدر التشريع ، فما لم يتحقّق العلم يبقى ثابتا حتّى مع قيام الحجّة شرعا كخبر الثقة ، فإنّ موضوعها ثابت. غاية الأمر يتقدّم دليل خبر الثقة على دليل الاستصحاب لكونه حاكما أو أقوى إذ هو أخصّ منه وأصرح دلالة.

وأمّا الدليل الاجتهادي المفترض دلالته بالإطلاق على عدم الوجوب فهو حجّة مع احتمال حجّيّة الخبر المخصّص أيضا ؛ لأن مجرّد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد عن الإطلاق.

وأمّا الدليل الاجتهادي الدالّ بإطلاقه أو بعمومه على عدم الوجوب في هذا المورد فهو حجّة ولا يرفع اليد عنه إلا مع إحراز حجّة أخرى معارضة له أقوى منه دلالة وظهورا. فإنّ حجّيّة الإطلاق والعموم مقيّدة بعدم حجّة أخرى على الخلاف ، فما لم يعلم أو يحرز هذه الحجّة الأخرى المعارضة والأقوى يبقى الإطلاق والعموم على الحجّيّة. وهنا هذه الحجّيّة المشكوكة لا يمكنها أن تعارض حجّيّة الإطلاق أو العموم ولا يرفع اليد عنهما ؛ لأنّه لم يثبت المخصّص أو المقيّد لهما فلم يرتفع موضوع الحجيّة فيهما.

فالإطلاق والعموم شاملان لكلّ فرد علم دخوله تحتهما أو شكّ في خروجه ؛ لأنّ الفرد المشكوك خروجه عن الإطلاق أو العموم والذي لا يعلم وجود الدليل على إخراجه لا يحكم بخروجه ؛ لأنّ إخراجه إنّما يكون بالتقييد أو التخصيص المحرزين والمعلوم حجّيّتهما وهو منتف في مقامنا (1).

ونستخلص من ذلك : أنّ الموقف العملي لا يتغيّر باحتمال الحجّيّة ، وهذا يعني أنّ احتمالها يساوق عمليّا القطع بعدمها.

والنتيجة من ذلك : هو أنّ احتمال الحجيّة والأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة ، أي أنّ احتمالها كالقطع بعدمها من دون فرق بينهما من الناحية العمليّة.

ص: 199


1- ولا يقال بأنّه يكون من الشبهة المصداقيّة فلا يشمله الإطلاق ولا التخصيص فيكون مجملا ؛ لأنّه يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الإخراج بالتخصّص لا بالتخصيص ، أي بالورود لا بالحكومة. والمفروض أنّ التقييد والتخصيص من أنحاء القرينة العامّة كالحكومة.

بمعنى أنّ الموقف العملي لا يتغيّر سواء قطع بعدم الحجّيّة أو احتمل وجود الحجّيّة. فعمليّا لا فرق بينهما في أنّ المكلّف يبقى متمسّكا بالقواعد والأصول والأدلّة التي تجري في المورد بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة.

نعم ، في الواقع من الممكن أن تكون هذه الحجّيّة المشكوكة ظاهرا ثابتة واقعا ، إلا أنّ هذا لا يكفي لرفع اليد عن تلك الأصول والأدلّة المعتبرة شرعا ؛ لأنّ موضوعها تامّ ، ومجرّد احتمال الحكم الواقعي لا يكفي لرفع اليد عنها.

غاية الأمر أنّ هذا الاحتمال ليس موجودا عند القطع بعدم الحجّيّة إلا أنّه لا فرق بينهما من ناحية عدم الأثر التنجيزي والتعذيري.

ونضيف إلى ذلك : أنّ بالإمكان إقامة الدليل على عدم حجيّة ما يشكّ في حجّيّته بناء على تصوّرنا المتقدّم للأحكام الظاهريّة ، حيث مرّ بنا (1) أنّه يقتضي التنافي بينها بوجوداتها الواقعيّة.

والدليل على أنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة : هو لزوم التنافي بين هذه الحجّيّة المشكوكة الدالّة على الإلزام والتنجيز للحكم الواقعي وبين تلك الأصول الجارية في المورد ، كالبراءة العقليّة والشرعيّة والاستصحاب والدليل الاجتهادي ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة لا يمكن أن يجتمع حكمان ظاهريّان متنافيان على مورد واحد أحدهما يؤمّن والآخر ينجّز ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة بناء على المسلك المختار متنافية فيما بينها بوجوداتها الواقعيّة في عالم ما تكشف عنه من المبادئ الواقعيّة. فإنّ الترخيص الظاهري يكشف عن كون ملاكات الإباحة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر المولى ، بينما الإلزام الظاهري يكشف عن كون الملاكات الواقعيّة للإلزام هي الأهمّ ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بينهما ، فلا يمكن جعلهما معا وصدورهما من الشارع للتنافي بينهما في عالم المبادئ والواقع ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

خلافا للمشهور حيث إنّ التنافي بين الأحكام الظاهريّة عندهم إنّما هو في فرض وصولهما معا إلى المكلّف وأمّا في حالة صدورهما ووصول أحدهما فلا تنافي بينهما عندهم.

ص: 200


1- تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

وهذا يعني أنّ البراءة عن التكليف المشكوك وحجّيّة الخبر الدالّ على ثبوته حكمان ظاهريّان متنافيان ، فالدليل الدالّ على البراءة دالّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحجّيّة المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجّيّة.

وحينئذ نطبّق هذه الفكرة على مقامنا فنقول : إنّ البراءة الشرعيّة الجارية في هذا التكليف المشكوك تثبت أنّ الملاكات الواقعيّة للترخيص والإباحة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما هذه الحجّيّة المشكوكة للخبر على فرض تماميّتها فهي تثبت أنّ الملاكات الإلزامية الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع.

وهنا تارة نقول : إنّ هناك مرتبة طوليّة بين هذين الحكمين الظاهريّين فلا تنافي بينهما ، بأن نفرض أنّ البراءة موضوعها الحكم الواقعي المشكوك والحجيّة للخبر الدالّ على الإلزام موضوعه الشكّ في الأحكام الظاهريّة ، بمعنى أنّه يوجد منجّز ظاهري أو ترخيص ظاهري إلا أنّ هذا مجرّد افتراض. وأخرى كما هو الصحيح يكون بينهما مرتبة عرضيّة ، بمعنى أنّ البراءة والحجيّة الأخرى موضوعهما الشكّ في الحكم الواقعي ، فهنا يكون ثبوتهما معا محالا ؛ للتنافي بينهما من حيث إنّ البراءة تبرز أهميّة ملاك الترخيص الواقعي ، بينما الحجّيّة الأخرى تبرز أهميّة ملاك الإلزام الواقعي. ولا يمكن أن يكونا معا مهمّين بنظر الشارع في مرتبة واحدة ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن البراءة أو رفع اليد عن الحجّيّة الأخرى.

وحينئذ نقول : إذا أخذنا بالحجّيّة الأخرى ورفعنا اليد عن البراءة فيلزم من ذلك رفع اليد عن البراءة مع تماميّة موضوعها ، وهذا يحتاج إلى عناية زائدة ودليل خاصّ يثبت أنّ الحجّيّة الأخرى أقوى وأرجح من البراءة ليتمّ تقديمها عليها ، وإلا كان تقديمها من دون دليل ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل. فيوجد محذور في الأخذ بالحجّيّة الأخرى.

وأمّا إذا أخذنا بدليل البراءة ورفعنا اليد عن الحجّيّة الأخرى فلا يلزم هذا المحذور فيكون متعيّنا ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على البراءة كقوله مثلا : « رفع ما لا يعلمون » يدلّ بالدلالة المطابقيّة على الترخيص والإباحة وأنّها الأهمّ بنظر الشارع ، ويدلّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي هذه الحجّيّة المذكورة ؛ لأنّه إذا كان الأهمّ بنظر الشارع واقعا هو الترخيص فهذا يعني أنّه لا أهميّة للملاكات الإلزامية ولا ثبوت للتكليف

ص: 201

واقعا ، فتكون الحجّيّة الأخرى منتفية لارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء ؛ إذ لا وجود للملاكات الإلزامية الواقعيّة لتجعل هذه الحجّيّة المذكورة ظاهرا من أجل الحفاظ عليها.

وعليه ، فلا محذور من الأخذ بدليل البراءة ولا يلزم منه إلغاء الحجّيّة الأخرى مع تماميّة موضوعها ، وإنّما تنتفي هذه الحجّيّة الأخرى وتلغى من باب ارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء.

فالبراءة هي الثابتة ما لم يقم دليل أقوى يدلّ على الإلزام ، فإنّه إذا قامت الحجّة المعتبرة شرعا الدالّة على الإلزام فإنّه يرفع اليد بها عن البراءة لكونها أقوى ، فتكون حاكمة على دليل البراءة ورافعة لموضوع البراءة تعبّدا وادّعاء ؛ لأنّ الدليل الدالّ على الحجيّة يكون أقوى وأظهر وأصرح من البراءة.

وقد يقام الدليل على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على النهي عن العمل بالظنّ وغير العلم ، فإنّ كلّ ظنّ يشكّ في حجّيّته يشمله إطلاق هذا النهي.

استدلّ الشيخ الأنصاري على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات والظنون الكاشفة كشفا ظنيّا ناقصا عن الحكم الواقعي بالآيات الكريمة الدالّة على النهي وحرمة العمل بالظنّ وغير العلم ، كقوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2) ، وكقوله : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِ ) (3).

فإنّ هذه الآيات وغيرها من الأخبار دالّة على حرمة العمل بالظنّ والافتاء به ونسبته إلى الشارع ، فإنّ العلم فقط هو الذي يجوز العمل به ؛ بل يجب. وأمّا غير العلم فإن كان هناك دليل قطعي دلّ على جواز العمل به فهو ، وإلاّ فيبقى إطلاق النهي شاملا لحرمة العمل بهذا الظنّ المشكوك جعل الحجّيّة له شرعا ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرة النهي ، والفرد الذي لا يعلم ولا يحرز خروجه عن الإطلاق أو

ص: 202


1- يونس : 59.
2- يونس : 36.
3- النساء : 157.

العموم يبقى الإطلاق والعموم حجّة فيه ، فهو مصداق وفرد كغيره من المصاديق الأخرى.

نعم ، الفرد الذي علم بخروجه من دائرة إطلاق النهي يحكم بعدم شمول النهي والحرمة له.

وقد اعترض المحقّق النائيني (1) - قدس اللّه روحه - على ذلك : بأنّ حجّيّة الأمارة معناها جعلها علما ؛ لأنّه بنى على مسلك جعل الطريقيّة ، فمع الشك في الحجّيّة يشكّ في كونها علما ، فلا يمكن التمسّك بدليل النهي عن العمل بغير العلم حينئذ ؛ لأنّ موضوعه غير محرز.

اعتراض الميرزا النائيني مبنيّ على مقدّمات :

الأولى : أنّ جعل الحجّيّة للأمارة بناء على مسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة معناه جعل الأمارة علما تعبّدا.

الثانية : أنّ سلب الحجّيّة عن أمارة ما كالقياس ونحوه معناه أنّ هذه الأمارة ليست علما ، بل هي ظنّ.

الثالثة : أنّ الحجّيّة المشكوكة لأمارة ما معناها الشكّ في أنّ هذه الأمارة علم تعبدا أو ليست علما ، وإنّما هي ظنّ.

الرابعة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل كلّ أمارة ظنّيّة ، ولا تشمل الأمارة العمليّة.

والنتيجة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّ موضوع النهي - وهو العمل بالظنّ وغير العلم - غير محرز في المقام ؛ وذلك لأنّ هذه الأمارة إن كانت حجّة فهي علم تعبّدي خارجة عن دائرة موضوع النهي ، وإن لم تكن حجّة فهي ظنّ فتكون داخلة في موضوع النهي. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ موضوع النهي هل هو متحقّق في هذه الأمارة المشكوكة أو ليس متحقّقا. وفي هذا الفرض لا يمكن التمسّك بإطلاق النهي لهذه الأمارة المشكوكة ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو باطل.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد : ( أكرم العالم ) فهو بإطلاقه شامل لكلّ فرد متّصف

ص: 203


1- أجود التقريرات 2 : 87.

بالعلم في الخارج ، فإذا شككنا في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا فلا يمكننا أن نتمسّك بالإطلاق لإثبات وجوب إكرامه ؛ لأنّ إطلاق الحكم لا يثبت موضوعه ، بل ينصبّ على موضوعه الثابت من قبل.

وهنا من هذا القبيل فإنّ هذه الأمارة المشكوكة لا يعلم ولا يحرز كونها موضوعا لإطلاق النهي ، فلا يمكن لهذا الإطلاق أن يثبت كونها موضوعا له ؛ لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه ولا يثبت مصداق موضوعه أيضا.

والنتيجة : أنّ هذا الإطلاق ليس شاملا للمورد ، أو على الأقلّ لا يحرز شموله للمورد فيكون الأمر مجملا.

وجواب هذا الاعتراض : أنّ النهي عن العمل بالظنّ ليس نهيا تحريميّا ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم حجّيّته ؛ إذ من الواضح أنّ العمل بالظنّ ليس من المحرّمات النفسيّة ، وإنّما محذوره التورّط في مخالفة الواقع فيكون مفاده عدم الحجّيّة.

والجواب على اعتراض الميرزا يتألّف من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : أنّ هذا الاعتراض مبنيّ على أنّ النهي الوارد في الآيات يفيد الحرمة النفسيّة ، فالعمل بالظنّ محرّم نفسيّا ، وكذلك اتّباع ما ليس بعلم ؛ وهذا معناه أنّ كلّ ظنّ وما ليس بعلم فهو محرّم اتّباعه والعمل به لنفسه ، وهذا يفترض مسبقا أنّ الظنّ ليس حجّة وليس معتبرا شرعا ، ثمّ بعد ذلك وفي رتبة ثانية طوليّة ينهى عن العمل به ويحرّم اتّباعه ، فالنهي والتحريم كان في طول نفي الحجّيّة عن الظنّ. ولذلك فإذا قام دليل قطعي على جعل الحجّيّة للظنّ فهو يكون حاكما على إطلاق النهي ومخصّصا ومقيّدا لهذا الإطلاق ؛ لأنّ الحكومة كالتخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء وتعبّدا. وأمّا إذا شكّ في الدليل على الحجّيّة لأمارة ما وظنّ معيّن فيكون شكّا في كونه علما وحجّة أو ليس بعلم وحجّة. وعليه ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق النهي في هذا المصداق ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع ؛ لأنّ العامّ والمطلق لا يثبت مصداقه.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ النهي الوارد في الآيات ليس نهيا وتحريما نفسيّا للظنّ وما ليس بعلم ؛ إذ من الواضح أنّه لا مفسدة في العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم في الأمور الشرعيّة ؛ لأنّ العقلاء يبنون على الظنّ في معاملاتهم الشخصيّة

ص: 204

والتشريعيّة وليس عملهم هذا مستنكرا لا عقلا ولا شرعا. فالنهي إذن إرشاد إلى أنّ العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم فيه محذور التورّط في مخالفة الواقع في الغالب ، فيكون النهي مفاده الإرشاد إلى عدم حجّيّة الظنّ إلا ما قام الدليل القطعي على اعتباره وحجّيّته شرعا.

فإذا كانت الحجّيّة بمعنى اعتبار الأمارة علما فهذا يعني أنّ مطلقات النهي تدلّ على نفي اعتبارها علما ، فيكون مفادها في رتبة مفاد حجّيّة الأمارة ، وبهذا تصلح لنفي الحجّيّة المشكوكة.

المقدّمة الثانية : بعد أن كانت الحجّيّة للأمارات معناها جعل الأمارة علما بناء على مسلك الطريقيّة والكاشفيّة ، فالآيات الناهية عن العمل بالظنّ قلنا : إنّها إرشاد إلى نفي الحجّيّة عن الأمارة والظنّ المشكوك جعل الحجّيّة لهما ، وهذا معناه أنّها تدلّ على نفي اعتبار الأمارة والظنّ المشكوكين علما ؛ لأنّ إثبات الحجّيّة يعني اعتبار العلميّة فيكون نفي الحجيّة عدم اعتبار العلميّة. وحينئذ فمطلقات النهي وأدلّة جعل الحجيّة للأمارة في رتبة عرضيّة واحدة ؛ لأنّ مطلقات النهي تنفي الحجيّة والعلميّة عن الأمارة والظنّ المشكوكين ، بينما أدلّة حجّيّة الأمارات تثبت الحجّيّة والعلميّة لهما ، ولذلك يقع التعارض بينهما في هذا المورد ويحكم بتساقطهما.

والنتيجة : أنّ هذه الأمارة والظنّ لم تثبت لها الحجّيّة والعلميّة ، والمفروض أنّها من أفراد الظنّ واقعا وتكوينا. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ هذا الظنّ التكويني الحقيقي هل خرج عن دائرة إطلاق النهي أو لم يخرج عنها بعد أن علمنا قطعا بأنّه فرد ومصداق لهذا الموضوع؟

وبتعبير آخر : إنّنا نشكّ في وجود الدليل على خروجه عن الإطلاق بالتخصيص أو بالحكومة ، فمع عدم العلم بالمخصّص والحاكم يصحّ التمسّك بالعامّ والمطلق لهذا الفرد والمصداق ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرته بعد العلم بكونه داخلا واقعا وتكوينا في موضوعه ، فالموضوع محرز ويشكّ في التخصيص المعلوم انتفائه فيتمسّك بالعامّ فيه ؛ لأنّ موضوعه محرز وجدانا وتكوينا. وبالتالي يكون هذا الفرد منهيّا عنه بمعنى أنّه ليس حجّة.

ص: 205

ص: 206

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

ص: 207

ص: 208

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

وكلما كان الطريق حجّة ثبت به مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزامي فيثبت في حالتين وهما : المدلول المطابقي : هو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ ، سواء كان نصّا فيه أو ظاهرا ، كقولنا : ( يجب إكرام العالم ) فإنّ كلمة ( يجب ) نصّ في الوجوب. وقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ صيغة ( أكرم ) ظاهرة في الوجوب ؛ لأنّها صيغة أمر.

وأمّا المدلول الالتزامي : فهو اللازم الذي يفهم من الكلام من دون أن يكون هناك لفظ يدلّ عليه بخصوصه ، من قبيل اللوازم العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة ، فقولنا : ( طلع الفجر ) لازمه التكويني ذهاب الليل مثلا. وقولنا : ( تجب صلاة الظهر يوم الجمعة ) لازمه الشرعي عدم وجوب الجمعة. وقولنا : ( تجب الصلاة ) لازمه حرمة تركها وهذا لازم عقلي ، وهكذا.

غير أنّ المدلول المطابقي يثبت سواء كان الطريق والدليل الذي يحكي عنه قطعيّا أو كان ظنّيّا قامت الحجّة عليه ، فالمدلول المطابقي يثبت شرعا إذا كان الدليل حجّة كالظنّ شرعا أو حجّة عقلا كالقطع.

وأمّا المدلول الالتزامي فهو يثبت بدون شكّ ولا ريب في حالتين هما :

أوّلا : فيما إذا كان الدليل قطعيّا.

وثانيا : فيما إذا كان الدليل على الحجيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان ينطبق على الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة على السواء ، كما إذا قام الدليل على حجّيّة عنوان الخبر وقلنا : إنّ كلاّ من الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة مصداق لهذا العنوان.

الحالة الأولى : أن يكون الدليل قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة والدليل العقلي

ص: 209

القطعي ، فإنّه إذا علم وجدانا بشيء يعلم أيضا بلوازمه ؛ لأنّ هذا الأمر إذا كان ثابتا واقعا وتكوينا كالعلم بحياة زيد بعد غيابه سبعين عاما فإنّه يعني أيضا العلم بأنّه كبير وذو لحية بيضاء وأنّه يحرم تقسيم تركته وإلخ ... إلى آخره. فإنّ هذه اللوازم تكون ثابتة وجدانا أيضا تبعا لثبوت ملزومها بالوجدان ، وتكون حجّة على أساس حجّيّة القطع والعلم كالمدلول المطابقي تماما.

الحالة الثانية : أن يكون الدليل ظنّيّا إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته يرتّب الحجّيّة على عنوان صالح للانطباق على الدلالتين معا ، كخبر الثقة مثلا. فإنّه دليل ظنّي إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته كالأخبار أو السيرة العقلائيّة يفترض أنّها ترتّب الحجّيّة لهذا الخبر لا على خصوص ما يحكي عنه ويؤدّيه ، بل على عنوان هذا الخبر ، أي إخبارات الثقة حجّة كلّها. فهنا إذا أخبرنا الثقة عن بقاء زيد حيّا بعد تلك المدّة الطويلة فهو يخبرنا أيضا عن هرمه وشيخوخته وحرمة تقسيم أمواله وعدم بينونة زوجته ، هكذا. فكانت الدلالتان المطابقيّة والالتزاميّة مصداقين لهذا العنوان أي الإخبار ، فإنّ كلاّ منهما إخبار أيضا.

فيكون المدلول الالتزامي حجّة على أساس كونه داخلا في موضوع الحجّيّة ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لإثبات حجّيّته.

والحاصل : أنّه في هاتين الحالتين لا إشكال في ثبوت المدلول الالتزامي وكونه حجّة ، إمّا على أساس حجّيّة القطع ، وإمّا على أساس حجّيّة الدليل الدالّ على حجّيّة هذا العنوان المنطبق على الدلالتين معا.

وأمّا في غير هاتين الحالتين فقد يقع الإشكال ، كما في الظهور العرفي الذي قام الدليل على حجّيّته فإنّه ليس قطعيّا ، كما أنّ دلالته الالتزاميّة ليست ظهورا عرفيّا. فقد يقال : إنّ أمثال دليل حجّيّة الظهور لا تقتضي بنفسها إلا إثبات المدلول المطابقي ما لم تقم قرينة خاصّة على إسراء الحجّيّة إلى الدلالات الالتزاميّة أيضا.

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولم يكن دليل الحجّيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان الخبر أو الظهور فهنا يقع الإشكال ، من قبيل الظهور العرفي كظهور صيغة ( افعل ) في الوجوب مثلا. فإنّ هذا الظهور حجّة ؛ لقيام الدليل على حجّيّته والعمل به استنادا إلى أصالة حجّيّة الظهور الثابتة عقلائيّا والممضاة شرعا. ولذلك يقال بأنّ ظهور صيغة الأمر في

ص: 210

الوجوب حجّة ، إلا أنّ المدلول الالتزامي لهذا الظهور العرفي ليس ظهورا عرفيّا ؛ ليكون حجّة أيضا استنادا على أصالة حجّيّة الظهور ، فإنّ المدلول الالتزامي للوجوب وهو حرمة الترك أو لزوم ترك ترك الضدّ ونحوهما من اللوازم العقليّة يدركها العقل بالتحليل والدقّة لا العرف. فهذا المدلول الالتزامي ليس مشمولا لدليل الحجّيّة لا بنفسه ولا بعنوانه ، وليس عرفيّا ليقال بحجّيّته عرفا.

فالنتيجة هي : أنّ مثل هذا المدلول الالتزامي لا يمكن إثباته بحجّيّة الظهور العرفيّة ؛ لأنّها لا تقتضي إلا إثبات المدلول المطابقي فقط لقيام البناء والفهم العرفي عليه ، فتحتاج في إثبات هذا المدلول الالتزامي إلى وجود دليل خاصّ يدلّ على أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلول المطابقي والالتزامي معا ، بمعنى سريانها وشمولها للمدلولين. ومع فقد هذا الدليل الخاصّ لا يمكن إثبات هذا المدلول الالتزامي أو على الأقلّ يشكل ذلك.

ولكنّ المعروف بين العلماء التفصيل بين الأمارات والأصول ، فكلّ ما قام دليل على حجّيّته من باب الأماريّة ثبتت به مدلولاته الالتزاميّة أيضا ، ويقال حينئذ : إنّ مثبتاته حجّة. وكلّ ما قام دليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فلا تكون مثبتاته حجّة ، بل لا يتعدّى فيه من إثبات المدلول المطابقي إلا إذا قامت قرينة خاصّة في دليل الحجّيّة على ذلك.

المشهور بين الأصوليّين هو التفصيل بين الأمارات والأصول ، فقالوا : إنّ كلّ ما قام الدليل على حجّيّته من باب كونه أمارة فيكون حجّة في مدلوله المطابقي والالتزامي معا ، ولذلك يقال : إنّ مثبتات الأمارة حجّة أي أنّ لوازمها حجّة ، وأما ما قام الدليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فهو حجّة في مدلوله المطابقي فقط. وأمّا مدلولاته الالتزاميّة فلا يثبت بنفس دليل الحجّيّة ، وإنّما تحتاج في إثباتها إلى دليل خاصّ أو قرينة في المقام تدلّ على إثباتها أيضا.

وقد فسّر المحقّق النائيني ذلك - على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقيّة في الأمارات - بأنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما فيترتّب على ذلك كلّ آثار العلم. ومن الواضح أنّ من شئون العلم بشيء العلم بلوازمه. ولكنّ أدلّة الحجّيّة في باب الأصول ليس مفادها إلا التعبّد بالجري العملي على وفق الأصل ، فيتحدّد الجري بمقدار مؤدّى الأصل ، ولا يشمل الجري العملي على طبق اللوازم إلا مع قيام قرينة.

ص: 211

عمّق المحقّق النائيني تفصيل المشهور وذلك بناء على مسلكه من جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة في باب الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل الأمارة علما بلحاظ الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع فيكون متمّما لهذه الكاشفيّة الناقصة في الأمارات. وعليه ، فدليل حجّيّة الأمارة يتمّم كشفها عن الواقع فتصبح علما تعبّديّا ، ولذلك فإنّ كلّ آثار العلم وخصائصه ولوازمه تترتّب على الأمارة والتي من جملتها ثبوت اللوازم ، فمثبتات الأمارة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى قرينة خاصّة ودليل مستقلّ. فخبر الثقة مثلا عند جعل الحجيّة له يصبح علما وكاشفا تامّا عن الواقع فلا فرق بينه وبين العلم الوجداني من حيثيّة الكشف التامّ ، غاية الأمر أنّ العلم الوجداني كاشف تامّ بنفسه ، بينما خبر الثقة كاشف تامّ بجعل الشارع الحجّيّة له ، ومن الواضح أنّه إذا ثبت العلم والكشف التامّ عن الواقع فتترتّب كلّ اللوازم الثابتة لهذا الواقع المكشوف ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا على القاعدة.

وأمّا دليل الحجّيّة في باب الأصول العمليّة فهو يجعل الأصول حجّة بلحاظ الجري العملي أو التنجيز والتعذير ، فالمجعول هو تحديد الموقف العملي والوظيفة العمليّة اتّجاه هذا الواقع المشكوك ، وليس هناك أي كشف عن الواقع ليكون دليل الحجّيّة هنا متمّما لهذا الكشف الناقص ، وعليه فيكون المقدار الثابت بجعل الحجّيّة للأصول هو المدلول المطابقي وما يحكي عنه الأصل ويؤدّي إليه وهو الجري العملي والتنجيز والتعذير. وأمّا اللوازم المترتّبة على ثبوت الشيء واقعا فهي تحتاج إلى دليل خاصّ مستقلّ أو إلى قرينة في دليل الحجّيّة ؛ لأنّ الجري العملي على طبق شيء وكونه منجّزا أو معذّرا لا يلازم ثبوت هذا الشيء واقعا لكي تترتّب كلّ آثار ولوازم الواقع عليه ، ولذلك نحتاج في إثبات هذه اللوازم إلى دليل خاصّ أو قرينة في دليل الحجّيّة.

فالبراءة أو الاحتياط أو الاستصحاب مؤدّاها التعبّد بالمنجّزيّة في الاحتياط وبالمعذّريّة في البراءة والجري العملي في الاستصحاب على طبق الحالة السابقة ، وهذا يعني أنّ دليل الحجّيّة يجعل هذا المؤدّى حجّة فقط من دون نظر إلى الواقع أصلا ، وإنّما النظر إلى حالة الشكّ والحيرة ، ولذلك فهو يحدّد الموقف والوظيفة في هذا الفرض المذكور. ولا نظر في دليل الحجّيّة إلى الواقع ؛ ليقال : إنّ التعبّد بالجري العملي تعبّد بالواقع وبالتالي تترتّب عليه ثبوت اللوازم ، بل تحتاج إلى دليل أو قرينة في المقام.

ص: 212

واعترض السيّد الأستاذ على ذلك بأنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات وإن كان يجعل الأمارة علما ولكنّه علم تعبّدي جعلي ، والعلم الجعلي يتقدّر بمقدار الجعل. فدعوى أنّ العلم بالمؤدّى يستدعي العلم بلوازمه إنّما تصدق على العلم الوجداني لا العلم الجعلي.

اعترض السيّد الخوئي على ما ذكره المحقّق النائيني من التفصيل بين الأمارات والأصول وكون اللوازم حجّة للأمارات دون الأصول ، بأنّ أساس التفرقة غير صحيح فإنّه أنكر أن يكون المجعول في الأصول خصوصا الاستصحاب الجري العملي ، بل المجعول فيه أيضا الطريقيّة ، فلا فرق بين الأمارات والاستصحاب إذا من جهة ثبوت اللوازم ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو قلنا بأنّ المجعول في باب الأمارات الطريقيّة والعلميّة دون الأصول إلا أنّ هذا لا يقتضي ثبوت اللوازم ؛ وذلك لأنّ هذا العلم المجعول للأمارات ليس علما حقيقيّا وجدانيّا ؛ وإنّما هو علم تعبّدي جعلي. والعلم الجعلي تعبّد من الشارع وحكم له حدود تتقدّر بمقدار ما يجعله الشارع سعة أو ضيقا.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الملازمة المدّعاة بأنّ العلم بشيء علم بلوازمه إنّما تصدق في العلم الوجداني الحقيقي ، فإنّ العلم بالملزوم كحياة زيد والعلم بوجود ملازمة بين ثبوت الملزوم واقعا وثبوت لوازمه ينتج لنا العلم بثبوت اللوازم واقعا كنبات لحيته أو هرمه.

وأمّا العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة غير متحقّقة ؛ لأنّه يشترط في صدقها وتحقّقها الالتفات والنظر إليها والعلم بها ، وهذا لا يعلم ولا يحرز من جعل دليل الحجّيّة للأمارات ؛ لأنّ العلم والتعبّد بثبوت الملزوم لا يكفي للعلم بثبوت اللوازم ؛ لأنّ اللوازم متوقّفة على العلم بالملازمة والالتفات إليها وأخذها في لسان التعبّد. وعليه فنحتاج إلى وجود قرينة أو دليل يدلّ على أنّ الشارع قد التفت إلى هذه الملازمة وأخذها بعين الاعتبار عند جعله الحجّيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الملازمة المذكورة بين ثبوت الملزوم وثبوت اللوازم إنّما تتمّ وتصدق في العلم الوجداني الحقيقي ؛ لأنّ ثبوت الملزوم واقعا وحقيقة يترتّب عليه اللوازم واقعا وحقيقة.

ص: 213

وأمّا في العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة لا يعلم بثبوتها بمجرّد جعل الأمارة علما ؛ لأنّ جعلها علما إنّما هو بلحاظ الملزوم والمؤدّى والتعبّد بثبوته ، فهو ثابت تعبّدا لا حقيقة ووجدانا ولذا قد لا يكون موجودا في الواقع أصلا ، وعليه فترتّب اللوازم على الملزوم المعلوم تعبّدا لا بدّ فيه من نظر الشارع والجاعل إلى هذه الملازمة والتعبّد بها أيضا ، وإلا فإنّه يمكن التفكيك بين ثبوت الملزوم تعبّدا وعدم ثبوت اللازم تعبّدا أيضا ؛ لأنّ التعبّد والجعل بيد الشارع والجاعل وهو يحدّده بالمقدار الذي يريده سعة وضيقا ؛ لأنّ الجعل بيده.

ومن هنا ذهب إلى أنّ الأصل في الأمارات أيضا عدم حجّيّة مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة ، وأنّ مجرّد جعل شيء حجّة من باب الأماريّة لا يكفي لإثبات حجّيّته في المدلول الالتزامي.

والنتيجة التي ينتهي إليها السيّد الخوئي هي : أنّ الأمارات والأصول علي حدّ سواء ، بمعنى أنّ الأصل والقاعدة الأوّليّة فيهما أنّ اللوازم غير حجّة وليست ثابتة ، بل تحتاج إلى قرينة أو دليل مستقلّ. فالأمارات كالأصول في عدم حجّيّة مثبتاتها ولوازمها. ومجرّد جعل شيء حجّة من باب كونه أمارة لا يكفي لإثبات حجّيّة اللوازم والدلالات الالتزاميّة ؛ لأنّ جعل الحجّيّة يتحدّد بالمقدار الذي يجعله الشارع سعة وضيقا ، فلا بدّ من النظر إلى دليل التعبّد لنرى هل يمكننا استظهار أنّ اللوازم حجّة أم لا؟

نعم ، في باب الأمارات التي لسانها الإخبار تكون اللوازم حجّة كالإقرار والبيّنة وخبر العادل ، فما يصدق عليه عنوان الإخبار والحكاية عن الواقع يكون العلم فيه علما بلوازمه أيضا ، والدليل على ذلك هو السيرة القطعيّة الممضاة (1).

والصحيح ما عليه المشهور من أنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات يقتضي حجّيّة

ص: 214


1- وهكذا التزم السيّد الخوئي بعدم حجّيّة مثبتات الأمارة إلا ما قام الدليل عليه ؛ كالسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة لوازم ما يكون إخبارا عن الواقع وحكاية عنه كخبر العادل ونحوه. وكان الأولى أن لا يلتزم بالمبنى أصلا ، بدلا من الالتزام به والخروج عمّا هو متعارف عقلائيّا ومشهور أصوليّا من حجّيّة لوازم الأمارات ، فيكون هذا المبنى فاسدا ؛ لأنّه يلزم منه هذا المحذور وهو عدم حجيّة الأمارات ، لا أنّنا نتمسّك به وننفي الحجّيّة عن الأمارات.

الأمارة في مدلولاتها الالتزاميّة أيضا ، ولكن ليس ذلك على أساس ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير.

الصحيح هو التفصيل بين الأمارات والأصول فنقول ما قاله المشهور : إنّ كلّ دليل كانت حجّيّته من باب كونه أمارة فلوازمه حجّة ، وكلّ ما قام عليه الدليل من باب كونه أصلا عمليّا لتحديد الوظيفة العمليّة فلوازمه ليست حجّة.

وهذا التفصيل ليست نكتته ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير ، وإنّما هناك نكتة أخرى لهذا التفسير تستند إلى المنهج الصحيح في التفرقة بين الأمارات والأصول ، خلافا للمبنى الذي سلكه الميرزا.

فإنّه فسّر ذلك بنحو يتناسب مع مبناه في التمييز بين الأمارات والأصول ، وقد مرّ بنا سابقا (1) أنّه - قدّس اللّه روحه - يميّز بين الأمارات والأصول بنوع المجعول والمنشأ في حجّيّتها ، فضابط الأمارة عنده كون مفاد دليل حجّيّتها جعل الطريقيّة والعلميّة ، وضابط الأصل كون دليله خاليا من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسّر حجّيّة مثبتات الأمارات بنفس النكتة التي تميّزها عنده عن الأصول ، أي نكتة جعل الطريقيّة.

التفسير الذي ذكره الميرزا يتناسب مع مسلكه في باب التمييز بين الأمارات والأصول ، فإنّه كما تقدّم في باب الحكم الظاهري يميّز بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما ، فإن كان المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة فهو أمارة ، وإن كان المجعول في دليل الحجّيّة تحديد الوظيفة والموقف العملي فقط كان أصلا عمليّا.

وعلى أساس هذا التمييز بينهما أراد أن يفسّر أيضا كيف أنّ مثبتات الأمارة حجّة دون مثبتات الأصل العملي. فقال : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعلها علما ، ولوازم العلم حجّة ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة ؛ لأنّ دليل حجّيّته ناظر إلى الجري العملي فقط وهو يتحدّد ويتقدّر بالمقدار الذي يراه الشارع ، وهو الموقف والوظيفة من دون نظر إلى الواقع وإلى الكاشفيّة أصلا ، فمثبتات الأصل ليس حجّة.

ص: 215


1- تحت عنوان : الأمارات والأصول.

فالنكتة التي ميّز على أساسها بين الأمارات والأصول جعلها أيضا هي النكتة في تفسير أنّ الأمارة حجّة دون الأصل ، أي نكتة جعل الطريقيّة والعلميّة في الأمارة دون الأصل.

مع أنّنا عرفنا سابقا (1) أنّ هذا ليس جوهر الفرق بين الأمارات والأصول ، وإنّما هو فرق في مقام الصياغة والإنشاء ، ويكون تعبيرا عن فرق جوهري أعمق.

والمبنى الذي ذكره الميرزا سواء في تمييز الأمارات عن الأصول أو في إبراز النكتة لحجّيّة لازم الأمارات دون الأصول تقدّم سابقا أنّه غير صحيح ، بمعنى أنّ الفارق بين الأمارات والأصول ليس في عالم الإثبات والدلالة والصياغة ليقال بأنّ المجعول إن كان الطريقيّة فهو أمارة وإن كان الوظيفة فهو أصل ، وإنّما الفارق بينهما ثبوتي وجوهري أعمق من هذا الفارق في عالم الصياغة والإنشاء ، نعم الفارق المذكور يكشف عن فارق جوهري عميق بينهما لا أنّه هو الفارق بينهما ، إذ هو مجرّد صياغة اعتباريّة وهي سهلة المئونة. وهذا الفارق الجوهري هو :

وهو أنّ جعل الحكم الظاهري على طبق الأمارة بملاك الأهميّة الناشئة عن قوّة الاحتمال ، وجعل الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهميّة الناشئة من قوّة المحتمل ، فكلّما جعل الشارع شيئا حجّة بملاك الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال كان أمارة ، سواء كان جعله حجّة بلسان أنّه علم أو بلسان الأمر بالجري على وفقه.

والفارق الجوهري العميق بين الأمارات والأصول ما تقدّم سابقا : من أنّ الحكم الظاهري يجعله الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة في صورة الاشتباه والشكّ وعدم التمييز. وهناك إن كانت الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالتوقّف والاحتياط ، ولو كانت الملاكات الترخيصيّة هي الأهمّ أصدر ترخيصا وإباحة. وهذه الأهمّيّة التي يلحظها الشارع تارة تكون بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف فيكون هذا الحكم الظاهري أساسا ، وأخرى يكون بلحاظ قوّة المحتمل والمنكشف فيكون أصلا عمليّا ، وثالثة يكون بلحاظ قوّة الاحتمال والمحتمل معا فهو أصل تنزيلي أو محرز.

ص: 216


1- تحت عنوان : الأمارات والأصول.

فالفارق إذا بين الأمارات والأصول ثبوتي في عالم الواقع ، فكلّ ما ثبت ترجيحه وأهمّيّته بلحاظ قوّة الاحتمال فهو أمارة ، سواء كان لسان جعله في عالم الإثبات والصياغة جعل الطريقيّة والعلميّة أو جعل الجري العملي ؛ لأنّ ذلك مجرّد صياغة اعتباريّة سهلة المئونة. وهكذا بالنسبة للأصول ، فحينئذ نقول :

وإذا اتّضحت النكتة الحقيقيّة التي تميّز الأمارة أمكننا أن نستنتج أنّ مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة حجّة على القاعدة ؛ لأنّ ملاك الحجّيّة فيها حيثيّة الكشف التكويني في الأمارة الموجبة لتعيين الأهميّة وفقا لها ، وهذه الحيثيّة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمداليل الالتزاميّة نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل في الحجّيّة ما دامت الحيثيّة المذكورة هي تمام الملاك في جعل الحجّيّة كما هو معنى الأماريّة.

وعلى أساس هذا الفارق الجوهري بين الأمارات والأصول نقول : إنّ مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى دليل مستقلّ أو قرينة خاصّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحجّيّة في الأمارة هي حيثيّة الكشف التكويني عن الواقع الثابت في الأمارة والذي على أساسه كانت هي الأهمّ بنظر الشارع ، فإنّ خبر الثقة مثلا فيه حيثيّة كاشفة ولذلك كان ترجيحه بلحاظ قوّة هذا الاحتمال الكاشف عن الواقع من دون دخالة لنوعيّة المحتمل ، فإنّه تارة يقوم على الإلزام وأخرى على الترخيص ، فالملاحظ هو حيثيّة الكشف التكويني بمعنى كونها تمام الملاك في جعل الحجّيّة له. وهذه الحيثيّة الكاشفة والتي هي تمام الملاك نسبتها إلى المدلول المطابقي والذي هو مؤدّى الأمارة ونسبتها إلى المداليل الالتزاميّة العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة على حدّ واحد ؛ لأنّ درجة الكشف في خبر الثقة كما أنّها تكشف كشفا ناقصا عن المدلول المطابقي ، فهي أيضا تكشف بهذه الدرجة عن المداليل الالتزاميّة ، ولذلك كان جعل الحيثيّة معناه أنّ ما تكشف عنه حجّة سواء المطابقي والالتزامي ، ولا معنى للتفكيك بين المدلول المطابقي وبين المداليل الالتزاميّة في الحجّيّة وعدمها ؛ لأنّ هذا معناه التفكيك بين شيئين مع وحدة الملاك والحيثيّة الكاشفة فيهما ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ العلّة الموجبة للترجيح والأهميّة وبالتالي لجعل الحجّيّة موجودة في المدلولين معا ، فاللازم هو حجّيّتهما معا ، ويكون التفكيك فيهما على خلاف القاعدة والأصل ويحتاج إلى دليل.

ص: 217

وهذا بخلاف الأصول العمليّة ، فإنّ الحيثيّة التي أوجبت الترجيح والأهمّيّة فيها إنّما هي قوّة المحتمل والمنكشف ، فالبراءة والاحتياط كان الترجيح فيهما بلحاظ نوع الحكم والمؤدّى ، وهو الترخيص دائما في البراءة والتنجيز دائما في الاحتياط ؛ بقطع النظر عن وجود احتمال كاشف أو عدم وجوده ، فإنّ تمام الملاك فيهما كان الترجيح بملاك أهمّيّة المحتمل ، وهذا الملاك محرز بالنسبة للمدلول المطابقي وهو الترخيص في البراءة.

وأمّا المداليل الالتزاميّة للبراءة فلا يحرز وجود هذا الملاك فيها ، ولذلك كان ثبوتها يحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة في لسان دليل الحجّيّة.

وهكذا بالنسبة للأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب والفراغ ، فإنّ الملحوظ فيهما قوّة الاحتمال والمحتمل معا ، إلا أنّ جزء الملاك والعلّة كان الترجيح بقوّة المحتمل ، وهذا لا يعلم ولا يحرز وجوده بالنسبة للمداليل الالتزاميّة ، وهذا كاف في عدم حجّيّة اللوازم والمثبتات وإن كان الترجيح بقوّة الاحتمال موجودا ومحرزا ؛ لأنّه يكفي في عدم العلّة عدم جزء منها فقط.

والنتيجة هي :

وهذا يعني أنّا كلّما استظهرنا الأماريّة من دليل الحجّيّة كفى ذلك في البناء على حجّيّة مثبتاتها بلا حاجة إلى قرينة خاصّة.

والنتيجة هي أنّنا إذا استظهرنا من دليل الحجّيّة الأماريّة كان ذلك كافيا في كون مثبتاتها حجّة من دون أن نحتاج إلى إثبات حجّيّتها بدليل خاصّ. وإذا استظهرنا من الدليل الأصل العملي كان معناه أنّ المثبتات

ليست حجّة على القاعدة ونحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات حجّيّتها.

والسرّ في ذلك هو حيثيّة الكشف عن الواقع الموجودة في الأمارة دون الأصل.

ص: 218

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

ص: 219

ص: 220

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

إذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الأمارة بالدلالة الالتزاميّة من قبيل اللازم الأعمّ فهو محتمل الثبوت حتّى مع عدم ثبوت المدلول المطابقي.

اللازم على ثلاثة أقسام :

1 - أن يكون اللازم مساويا للملزوم كالإخبار عن دخول إنسان إلى المسجد ، فلازمه المساوي وجود الناطق أو الضاحك في المسجد ، وهنا لا إشكال في تبعيّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في الحجّيّة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ المتساويين يوجدان معا ويرتفعان معا وإلا لم يكونا متساويين.

2 - أن يكون اللازم أخصّ من الملزوم كالإخبار بدخول حيوان إلى البيت ، فلازمه الأخصّ وجود إنسان في البيت مثلا. فهنا أيضا يسقط المدلول الالتزامي عند سقوط المدلول المطابقي عن الحجّيّة ؛ لأن الأخصّ لا يثبت بدون الأعمّ ، فإذا انتفى الأعمّ انتفى الأخصّ ضمنا.

3 - أن يكون اللازم أعمّ من الملزوم كالإخبار بدخول الإنسان إلى المسجد ، فلازمه الأعمّ وجود حيوان في المسجد ، فهنا إذا انتفى المدلول المطابقي وسقط عن الحجّيّة لوجود المعارض له مثلا أو للعلم بالخطإ والاشتباه فيه ، فهنا يحتمل سقوط المدلول الالتزامي ويحتمل بقاؤه ؛ وذلك لأنّ الأعمّ كما يصدق مع هذا الأخصّ كذلك يصدق مع غيره ، فإذا انتفى هذا الأخصّ فليس من الضروري أن ينتفي الأعمّ أيضا ؛ لإمكان وجوده مع غيره ، ولذلك يكون المدلول الالتزامي في هذا الفرض محتمل الثبوت أيضا. ومثال فقهي لذلك : الإخبار بوجوب شيء فلازمه الأعمّ الجواز مطلقا ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن لم يكن هناك وجوب فالجواز مطلقا يمكن ثبوته ؛ لأنّه يثبت مع الوجوب ويثبت مع غيره

ص: 221

كالاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخصّ ، فهو محتمل الثبوت لذلك.

وحينئذ إذا سقطت الأمارة عن الحجّيّة في المدلول المطابقي لوجود معارض أو للعلم بخطئها فيه فهل تسقط حجّيّتها في المدلول الالتزامي أيضا أو لا؟

والكلام حينئذ فيما إذا قامت الأمارة على وجوب شيء مثلا فكان الوجوب مدلولا مطابقيّا - لأنّه مؤدّى الأمارة - كخبر الثقة ، فحيث إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة كما تقدّم فالمدلول الالتزامي ثابت وهو الجواز مطلقا في المثال. فإذا تبيّن فيما بعد أنّ هذه الأمارة كانت مخطئة أو سقطت عن الحجّيّة لوجود معارض لها كخبر الثقة يدلّ على الاستحباب مثلا أو ينفي الوجوب.

فالسؤال هنا هو : إنّ هذا المدلول الالتزامي الأعمّ هل يسقط عن الحجّيّة أيضا تبعا لسقوط حجّيّة المدلول المطابقي أو لا يسقط؟

قد يقال : إنّ مجرّد تفرّع الدلالة الالتزاميّة على الدلالة المطابقيّة وجودا لا يبرّر تفرّعها عليها في الحجّيّة أيضا.

ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني إلى عدم سقوط المدلول الالتزامي عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي ؛ وذلك لأنّ دليل الحجّيّة العامّ يشملهما معا ، فكلّ منهما فرد مستقلّ لدليل الحجّيّة ؛ لأنّه إخبار مستقلّ عن الآخر. فإذا سقط أحدهما عن الحجّيّة بقي الآخر ؛ إذ لا مبرّر لسقوطه.

ومجرّد كون الدلالة الالتزاميّة متفرّعة وجودا أو ثبوتا على الدلالة المطابقيّة لا يكون مبرّرا للقول بأنّها متفرّعة عليها في الحجّيّة والسقوط أيضا ؛ إذ يمكن التفكيك بين الأمرين ظاهرا فيبقى حجّة ما لم يعلم بسقوطه

لقرينة أو دليل أو معارض ونحو ذلك.

وقد يقرّب التفرّع في الحجّيّة بأحد الوجهين التاليين :

القول الثاني وهو الصحيح : إنّ الدلالة الالتزاميّة كما أنّها تتبع الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود فهي تابعة لها في الحجّيّة والسقوط أيضا. وهذا ما يسمّى بأنّ الدلالة الالتزاميّة متفرّعة ومرتبطة بالدلالة المطابقيّة ثبوتا وحجّيّة.

وهنا يوجد تقريبان لهذا المبنى :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ من أنّ المدلول الالتزامي مساو دائما للمدلول

ص: 222

المطابقي وليس أعمّ منه. فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقي أو المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامي أيضا.

التقريب الأوّل : لإثبات سقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة عند سقوط المدلول المطابقي عنها : ما ادّعاه السيّد الخوئي من أنّ المدلول الالتزامي دائما مساو للمدلول المطابقي ، وهذه الدعوى واضحة فيما إذا كان اللازم مساويا أو أخصّ كما تقدّم سابقا.

وأمّا إذا كان اللازم أعمّ كالجواز اللازم الأعمّ للوجوب والحيوان اللازم الأعمّ للإنسان فهذا يحتاج إلى دليل لإثبات المساواة بينه وبين الملزوم الأخصّ. فإذا ثبتت المساواة بينهما فحينئذ يكون المعارض للمدلول المطابقي معارضا للمدلول الالتزامي أيضا ، فإذا سقط عن الحجّة تبعه في السقوط أيضا فيكون متفرّعا عليه ثبوتا وسقوطا.

فالمدلول الالتزامي وإن كان بظاهره أعمّ مطلقا من المدلول المطابقي إلا أنّه بالتحليل والدقّة مساو له دائما ، والوجه في ذلك :

والوجه في المساواة - مع أنّ ذات اللازم قد يكون أعمّ من ملزومه - أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان :

إحداهما مقارنة مع الملزوم الأخصّ ، والأخرى غير مقارنة.

والأمارة الدالّة مطابقة على ذلك الملزوم إنّما تدلّ بالالتزام على الحصّة الأولى من اللازم وهي مساوية دائما.

البرهان الذي ذكره السيّد الخوئي هو أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان : حصّة تقع طرفا في الملازمة ، وحصّة أخرى ليست واقعة كذلك. فالحصّة المقارنة مع الملزوم الذي هو المدلول المطابقي غير الحصّة الأخرى من اللازم الأعمّ وليست مقارنة لها.

فالحصّة المقارنة : هي التي تقع طرفا في الملازمة ثبوتا وسقوطا ؛ لأنّ الأمارة الدالّة على المدلول المطابقي الذي هو الملزوم إنّما تدلّ على ثبوت الحصّة المقارنة من اللازم لا على اللازم مطلقا ، لذلك فالمساواة بينهما دائميّة فيثبت التفرّع فيهما.

وتوضيح ذلك بالمثال : الأمارة الدالّة على وقوع قطرة بول في هذا الثوب المعيّن ، فإنّها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على النجاسة أيضا ، إلا أنّ النجاسة وإن كانت لازما أعمّ من وقوع قطرة البول - لأنّها تصدق معها ومع غيرها أيضا كقطرة الدّم مثلا -

ص: 223

لكنّها في الحقيقة مساوية للملزوم ؛ وذلك لأنّ الأمارة لا تخبر عن النجاسة مطلقا بوجودها السعي المنتشر ، وإنّما تخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة وهي الحصّة المقارنة مع الملزوم ، أي عن النجاسة الحاصلة من وقوع قطرة البول لا عن النجاسة مطلقا وبأي سبب آخر. وهذا يعني أنّ الدلالة الالتزاميّة هي التي تقع طرفا في الملازمة - حيث إنّ الملازمة تتألّف من اللازم والملزوم والعلاقة بينهما ، فالملزوم هو المدلول المطابقي واللازم هو المدلول الالتزامي والعلاقة هي الملازمة بينهما ولا تقع طرفا بما هي لازم أعمّ ، بل بما هي حصّة من اللازم وهي الحصّة المقارنة للملزوم. ولذلك فهناك مساواة بين وقوع قطرة البول وبين النجاسة ثبوتا ، وكذلك بينهما مساواة في الحجّيّة أيضا. فإذا علم بعدم حجّيّة المدلول المطابقي لخطأ الأمارة مثلا أو لوجود المعارض لها فإنّه يعلم أيضا بعدم حجّيّة المدلول الالتزامي أيضا ؛ لأنّه مساو دائما والمتساويان يثبتان معا ويرتفعان معا ، ولا معنى للتفكيك بينهما. فإذا سقطت هذه الحصّة من اللازم المقارنة للملزوم دائما لم يبق هناك ما يدلّ على بقاء اللازم وحجّيّته ، بل يحتاج ذلك إلى دليل خاصّ يدلّ عليه ؛ لأنّ الأمارة لا تدلّ على ثبوت اللازم مطلقا ومن جميع الحيثيّات ، بل من هذه الحيثيّة فقط ، فإذا انتفت هذه الحيثيّة انتفى اللازم وثبوته يحتاج إلى حيثيّة أخرى.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة ، فإن كان طرف الملازمة هو الحصّة كانت هي المدلول الالتزامي ، وإن كان طرفها الطبيعي وكانت مقارنته للملزوم المحصّصة له من شئون الملازمة وتفرعاتها كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي.

الملازمة مؤلّفة من طرفين اللازم والملزوم والعلاقة بينهما تسمّى بالملازمة ، وفي مقام بحثنا نقول : إنّ الملزوم هو المدلول المطابقي الذي هو مؤدّى الأمارة ، واللازم هو المدلول الالتزامي لهذا المؤدّى والمفاد.

وتفريع اللازم على الملزوم والعلاقة بين المدلول المطابقي والالتزامي تسمّى بالملازمة.

ثمّ إنّ هذا المدلول الالتزامي الذي يقع طرفا في الملازمة على قسمين :

الأوّل : ما كان له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الحصّة الخاصّة التي لها وجود مستقلّ قبل هذه الملازمة ،

ص: 224

فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة. فهنا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي.

الثاني : ما ليس له تحقّق وثبوت قبل طروء الملازمة بين اللازم والملزوم ، بل كان ثبوته وتحقّقه متفرّعا على وجود الملازمة وفي طولها ، بمعنى أنّ طرف الملازمة كان هو الطبيعي وذات الماهيّة والمفهوم ، وبعد طروء الملازمة يصبح هذا اللازم الطبيعي متحصّصا بحصص بعضها مقارن للملزوم وهو الحصّة المقارنة له والتي تحقّقت وتفرّعت وثبتت في طول الملازمة ، وبعضها غير مقارن له. فيكون المدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو ذات الطبيعي ، والحصّة إنّما نشأت في طول هذه الملازمة فهي متأخّرة وجودا وتحقّقا عنها وفي طولها.

فهنا لا يتمّ ما ذكره السيّد الخوئي. وتوضيح ذلك بالمثالين التاليين :

ومثال الأوّل : اللازم الأعمّ المعلول بالنسبة إلى إحدى علله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة إلى دخول زيد في النار ، فإذا أخبر مخبر بدخول زيد في النار فالمدلول الالتزامي له حصّة خاصّة من الموت ، وهي الموت بالاحتراق ؛ لأنّ هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.

القسم الأوّل : هو أنّ يكون طرف الملازمة هو الحصّة ، ومثاله اللازم الأعمّ وهذا اللازم معلول لإحدى علل كثيرة ، فهو بالنسبة إلى علله معلول وبالنسبة إلى واحدة منها بالخصوص فهو أعمّ. من قبيل الموت فإنّه لازم أعمّ لوجود علل كثيرة له كالضرب بالسيف والاحتراق وكالغرق وكشرب السمّ ونحو ذلك ، فإذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار واحتراقه فيها فهذا مدلول مطابقي وهذا له لازم أعمّ وهو موته بسبب الاحتراق لا موته مطلقا وبأي سبب آخر. وعليه ، فالمدلول الالتزامي الواقع طرفا في الملازمة هو الحصّة الخاصّة من الموت وهي الموت بالاحتراق لا الموت مطلقا ، وهذه الحصّة الخاصّة موجودة ومتحقّقة وثابتة قبل طروء الملازمة ، بمعنى أنّ الملازمة انصبّت على هذه الحصّة من الموت فاللازم هو الموت بالاحتراق والملزوم هو دخوله إلى النار ، والملازمة أنّه مات بالاحتراق بسبب دخوله إلى النار.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الحصّة من اللازم الأعمّ مقارنة ومساوية دائما للملزوم ، فإنّ الاحتراق مساو ومقارن للدخول إلى النار ، فإذا تبيّن فيما بعد اشتباه هذه الأمارة أو

ص: 225

خطؤها أو سقطت عن الحجّيّة لوجود المعارض لها سقط أيضا المدلول الالتزامي المساوي ؛ لأنّ المتساويين يصدقان معا ويرتفعان معا ، فيكون ما ذكره السيّد الخوئي تامّا هنا.

ومثال فقهي لذلك : النجاسة اللازم الأعمّ مع أحد أسبابها كالبول أو الدّم ونحوهما ، فإذا أخبر مخبر بسقوط قطرة بول على الثوب فلازمه تنجّس الثوب ، ولكن هذا اللازم الأعمّ ليس هو طرف الملازمة وإنّما طرفها هو الحصّة الخاصّة ، أي النجاسة المسبّبة عن البول لا مطلق النجاسة فطرف الملازم هو الحصّة المقارنة مع المدلول المطابقي وهي مساوية له دائما. وعليه ، فإذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة سقط المدلول الالتزامي أيضا ، فتنتفي النجاسة عن الثوب إذا علم بعدم وقوع البول ؛ لأنّ المخبر إنّما يخبر عن حصّة خاصّة من النجاسة لا عن ذات النجاسة.

فالملازمة بين دخوله إلى النار وبين الاحتراق والذي هو حصّة خاصّة من الموت ومن ثمّ يثبت الموت ؛ لأنّه معلول للاحتراق. فالطرف كان الحصّة ، والأعمّ كان متفرّعا عن الحصّة وفي طول ثبوتها أوّلا.

ومثال الثاني الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه ، كعدم أحد الأضداد بالنسبة إلى وجود ضدّ معيّن من أضداده.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول الالتزامي له عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ؛ لأنّ طرف الملازمة لوجود أحد الأضداد ذات عدم ضدّه لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وإنّما هذا التقيّد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا أنّه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

القسم الثاني : هو أن يكون طرف الملازمة الطبيعي ، ومثاله الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه كما إذا كان هناك تلازم من الجانبين معا ، فإنّ أحدهما ملازم للآخر وليس فيهما لازم وملزوم ؛ لأنّه ليس بينهما علّة ومعلول. من قبيل عدم أحد الأضداد عند وجود ضدّ معيّن من أضداده ، فإنّ التلازم متحقّق من الطرفين ، فوجود الضدّ يلازمه انتفاء الضدّ الآخر ، بناء على حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين معا.

فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول المطابقي أنّها صفراء ، وأمّا المدلول الالتزامي

ص: 226

فهو ذات عدم أحد الأضداد كالسواد مثلا. فنقول : إنّ ثبوت الصفرة للورقة يلازمه عدم سوادها مثلا على أساس حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، فالمدلول الالتزامي هو عدم السواد مطلقا وليس عدم حصّة معيّنة من عدم السواد والتي هي الحصّة المقارنة مع صفرة الورقة.

والوجه في أنّ المدلول الالتزامي لصفرة الورقة هو ذات عدم السواد لا الحصّة المقارنة هو أنّ منشأ هذا التلازم هو حكم العقل باستحالة اجتماع الضدّين ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت أحد الضدّين ارتفع ذات الضدّ الآخر لا حصّة معيّنة من الضدّ الآخر. وهنا كذلك فإنّه إذا ثبتت صفرة الورقة ارتفع عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي عدم السواد المقارن لوجود الصفرة.

نعم ، هذه الحصّة المقارنة والعدم المقيّد بذاك الوجود للضدّ إنّما يثبت في طول هذه الملازمة ، بحيث يكون متفرّعا ومترتّبا على الملازمة ومتحقّقا بعد الفراغ عن طروء الملازمة ، فإنّه يقال : إنّ عدم السواد الملازم للصفرة مقارن لوجود الصفرة ، إلا أنّ هذه الملازمة للحصّة المقارنة كانت في طول الملازمة الأولى ومتفرّعة عنها.

وحينئذ نقول : إذا سقط هذا المدلول المطابقي عن الحجّيّة وتبيّن أنّ الورقة ليست صفراء فهنا تسقط الحصّة المقارنة من اللازم وهي عدم السواد المقارن للصفرة ، إلا أنّ هذه الحصّة لم تكن هي المدلول الالتزامي ولم تقع طرفا للملازمة ، وإنّما ذات عدم السواد هو المدلول الالتزامي. وعليه ، فالساقط غير المدلول الالتزامي ، وأمّا المدلول الالتزامي فهو لا يزال باقيا على حجّيّته ؛ ولذلك فما ذكره السيّد الخوئي لا يتمّ هنا ؛ لأنّ ذات عدم الضدّ ليس داخلا في المعارضة ، وأمّا الحصّة المقارنة فهي تسقط لأنّها داخلة في المعارضة.

ومثال فقهي لذلك : الدليل الدالّ على الوجوب ، فالمدلول الالتزامي هو ذات عدم الترخيص مثلا الذي هو أحد أضداد الوجوب ، ثمّ بعد الملازمة تثبت الحصّة المقارنة للوجوب وهي عدم الترخيص المقارن كاللاحرمة مثلا ، وهذا هو يسقط عن الحجّيّة عند سقوط المدلول المطابقي. وأمّا المدلول الالتزامي والذي هو طرف الملازمة أي ذات عدم الترخيص فهو غير ساقط عن الحجّيّة ؛ لعدم دخوله في المعارضة ، وإنّما الداخل هو الحصّة أي اللاحرمة المقارنة فقط.

ص: 227

فالملازمة بين الوجوب أو الصفرة وبين ذات عدم الضدّ الذي هو اللازم الأعمّ. وبعد ذلك تتفرّع الحصّة المقارنة للملزوم ، فطرف الملازمة كان اللازم الأعمّ ثمّ بعد ذلك وفي طوله نشأت الحصّة.

الثاني : أنّ الكشفين في الدلالتين قائمان دائما على أساس نكتة واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في إدراكه الحسّي للواقعة ، فإذا أخبر الثقة عن دخول شخص للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار ، فإذا علم بعدم دخوله وأنّ المخبر اشتبه في ذلك فلا يكون افتراض أنّ الشخص لم يمت أصلا متضمّنا لاشتباه أزيد ممّا ثبت.

التقريب الثاني : بناء على ما هو الصحيح من أنّ المدلول الالتزامي إنّما يثبت لأجل أنّ الحيثيّة الكاشفة في الأمارة نسبتها إلى المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وعليه فالكشفان الثابتان في المدلولين الالتزامي والمطابقي قائمان على أساس نكتة واحدة وهي الحيثيّة الكاشفة عن الواقع والموجبة للنظر في الأمارة ، والتي على أساسها كان الترجيح.

ففي الأخبار والحكاية لدينا نكتة استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه عن الثقة الناقل للواقعة التي شاهدها حسّا أو رآها كذلك ، وفي الإنشاءات والقضايا التكوينيّة المجعولة لدينا نكتة الظهور وحجّيّته العقلائيّة على أساس كاشفيّته ، وحينئذ نقول : إذا أخبر الثقة بدخول زيد في النار يثبت مدلوله المطابقي وهو دخوله النار واحتراقه ، ويثبت مدلوله الالتزامي وهو موته بسبب ذلك. والوجه في الثبوت هو الحيثيّة الكاشفة الموجودة في المدلولين المطابقي والالتزامي على حدّ واحد ، وهذه النكتة هي استبعاد الكذب والخطأ والاشتباه في الإدراكات الحسيّة. فإذا علمنا فيما بعد أنّه أخطأ أو اشتبه أو كذب أو سقط مدلوله المطابقي عن الحجّيّة لوجود المعارض مثلا فهنا تسقط هذه الحيثيّة الكاشفة والتي كانت الأساس لثبوت المدلولين المطابقي والالتزامي ، ومع سقوطها يسقط المدلول المطابقي والالتزامي معا ؛ إذ لن يكون هناك عناية زائدة لإسقاط المدلول الالتزامي ؛ لأنّ نفس السبب الموجب لسقوط المدلول المطابقي هو نفس السبب الموجب لسقوط المدلول الالتزامي ، ولا نحتاج إلى افتراض نكتة أخرى زائدة.

ص: 228

وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيّين عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية الحريق ، فإنّ ذلك لا يبرّر سقوط الخبر الآخر عن الحجّيّة ؛ لأنّ افتراض عدم صحّة الخبر يتضمّن اشتباها وراء الاشتباه الذي علم.

ومقامنا يختلف عمّا إذا كان هناك خبران عرضيّان عن شخصين مختلفين يخبران عن دخول زيد إلى النار ، فإنّ المدلول الالتزامي في كلّ منهما هو احتراقه وموته. فإذا علمنا بأنّ أحد هذين الشخصين كان كاذبا أو مخطئا أو مشتبها في نقله لهذا الخبر ، وأنّ الشخص لم يدخل إلى النار أصلا ، فهنا يسقط مدلوله الالتزامي عن الحجّيّة كما تقدّم ؛ لأنّ النكتة واحدة في المدلولين.

وأمّا خبر الشخص الآخر فلا يسقط عن الحجّيّة سواء في مدلوله المطابقي أو الالتزامي ؛ لأنّ إسقاطه يحتاج إلى إثبات عناية زائدة عن النكتة التي أسقطت ذاك الخبر ؛ لأنّ اشتباه ذاك الشخص لا يستلزم اشتباه هذا الشخص أيضا ، بل كلّ منهما مستقلّ في إخباره ولكلّ منهما حيثيّة كشف خاصّة ومستقلّة عن الآخر. فإسقاطه يحتاج إلى إثبات أنّه كاذب أو مخطئ أو مشتبه زيادة على الاشتباه والخطأ والكذب في ذاك الشخص.

والسرّ في الفرق بين مقامنا وبين هذا المقام هو أنّه في مقامنا توجد حيثيّة كشف واحدة في المدلولين ، بينما هنا يوجد حيثيّتان كاشفتان مستقلّتان في كلّ خبر منهما.

فالصحيح أنّ الدلالة الالتزاميّة مرتبطة بالدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

فكما أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة ومتفرّعة عن الدلالة المطابقيّة في الثبوت والوجود كذلك هي متفرّعة عليها في السقوط والحجّيّة أيضا ، بناء على ما ذكرناه.

وأمّا الدلالة التضمّنيّة فالمعروف بينهم أنّها غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة.

الدلالة التضمّنيّة هي أن يكون للكلام ظهور ضمني في الشمول والعموم لكلّ جزء جزء ولكلّ فرد فرد من الأجزاء أو الأفراد.

فقولنا مثلا : ( تجب الصلاة ) تنحلّ إلى وجوبات ضمنيّة لكلّ جزء من أجزائها ، فالركوع واجب ضمني والسجود والقراءة ، وهكذا.

وقولنا : ( أكرم العالم ) ينحلّ إلى وجوبات ضمنيّة بإكرام كلّ فرد من أفراد العالم.

وقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) كذلك ينحلّ إلى وجوبات متعدّدة ضمنيّة لكلّ فرد فرد.

ص: 229

وقولنا : ( أكرم علماء هذه البلدة ) ينحلّ كذلك إلى وجوبات ضمنيّة بعدد الأفراد.

فهنا إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة بأن علم بعدم وجوب الصلاة أو عدم وجوب الإكرام فهل تسقط الدلالة التضمّنيّة عن الحجّيّة أم تبقى حجّة؟

ذهب المشهور إلى أنّ الدلالة التضمّنيّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة ، فتبقى ثابتة ولو سقط المدلول المطابقي (1).

ص: 230


1- والمشهور قبل سلطان العلماء هو التبعيّة في السقوط. والصحيح هو التفصيل بين نحوين من الدلالة التضمّنيّة : الأوّل : الدلالة التضمّنيّة التحليليّة كوجوب الصلاة وكالإطلاق ( أكرم العالم ) ، فإنّ هذه الدلالة التضمّنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّيّة أيضا ؛ وذلك لأنّ النكتة الكاشفة واحدة فيهما ، فإذا أسقطت هذه النكتة سقط المدلولان المطابقي والتضمّني معا إذ لا يوجد عناية زائدة لإسقاط المدلول التضمّني ؛ لأنّ الحيثيّة والنكتة فيهما معا واحدة. الثاني : الدلالة التضمّنيّة غير التحليليّة كالعموم الاستغراقي ( أكرم كلّ عالم ) ، كالعموم المجموعي ( أكرم علماء هذه البلدة ). فهنا يوجد لكلّ فرد من أفراد هذا العموم نكتة وحيثيّة كشف خاصّة مستقلّة عن الحيثيّة الموجودة في الآخر. ولذلك إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجّيّة وعلم بعدم وجوب إكرام كلّ العلماء لورود المخصّص المنفصل مثلا بالاستثناء لبعض هؤلاء العلماء من الإكرام ، فإنّ المقدار الباقي لا يسقط عن الحجّيّة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة فيه مستقلّة وليست مرتبطة بالحيثيّة الكاشفة في الأفراد الأخرى التي علم سقوطها. فإسقاط الدلالات التضمّنيّة الأخرى يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة في المقام. بهذا صحّ التفصيل بين هذين النحوين من الدلالة التضمّنيّة ؛ لأنّ الأوّل ليس فيه عناية زائدة إذ الحيثيّة الكاشفة واحدة في الجميع. بينما في الثاني يوجد عناية زائدة ؛ لأنّ الحيثيّة الكاشفة متعدّدة ومستقلّة عن البعض حيث لكلّ فرد حيثيّة خاصّة وسقوط بعضها لا يوجب سقوط البقية. وسيأتي مزيد تفصيل في بحث الظهور التضمّني الآتي.

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي

ص: 231

ص: 232

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي

إذا كان الدليل قطعيّا فلا شكّ في وفائه بدور القطع الطريقي والموضوعي معا ؛ لأنّه يحقّق القطع حقيقة.

القطع الطريقي : هو القطع الكاشف عن الواقع بحيث يكون القطع طريقا إليه وكاشفا عنه ، فالمقطوع ثابت به.

والقطع الموضوعي : هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم مترتّبا على الموضوع المقطوع به لا على الموضوع وحده.

ثمّ إنّ الدليل على الحكم الواقعي تارة يكون دليلا قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة وحكم العقل ، وأخرى يكون دليلا ظنّيّا كالأمارات.

فإن كان الدليل قطعيّا فلا إشكال في أنّه يقوم ويفي بدور القطع الطريقي ، وبدور القطع الموضوعي أيضا ؛ وذلك لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة هي نفس القطع وليست شيئا منفصلا عنه ، بمعنى أنّ القطع طريق وكاشف ذاتي عن الواقع ، فإذا ثبت القطع الحقيقي أي العلم الوجداني بشيء فقد تمّ الانكشاف وتحقّقت الطريقيّة إليه.

وحينئذ يمكن أن يؤخذ هذا القطع موضوعا للحكم ، فيقال : إذا قطعت بالموضوع وعلمت به يترتّب عليه الحكم الشرعي كوجوب القصر والإخفات ، فإنّهما واجبان على من علم بالموضوع لا مطلقا.

والحاصل : أنّ القطع الطريقي هو الكاشف عن الحكم ، فالحكم موجود واقعا سواء قطع المكلّف به أم لا ، إلا أنّه مع القطع به يكون منجّزا أو معذّرا. بينما القطع الموضوعي هو القطع الدخيل في ثبوت الحكم بحيث إنّ الحكم مقيّد به وجودا وعدما. فإذا حصل القطع بالموضوع فيترتّب الحكم وإلا فلا.

وأمّا إذا لم يكن الدليل قطعيّا وكان حجّة بحكم الشارع فهناك بحثان :

ص: 233

الأوّل : بحث نظري في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي مع الاتّفاق عمليّا على قيامه مقامه في المنجّزيّة والمعذّريّة.

والثاني : بحث واقعي في أنّ دليل حجّيّة الأمارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي أو لا؟

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولكن كان حجّة بحكم الشارع كالأمارات - التي هي أدلّة ظنّيّة كخبر الثقة والبيّنة واليد وحكم الحاكم إلا أنّ الشارع جعل الحجّيّة لها - فالبحث فيها يقع في مقامين :

الأوّل : بحث نظري في تحليل قيام الأمارات مقام القطع الطريقي بعد الاتّفاق عمليّا على قيامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بمعنى أنّه يوجد دليل إثباتي على قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، فهي مثله في كونها طريقا إلى الحكم وكاشفا عنه ؛ لأنّها وإن كانت كشفا ظنّيّا إلا أنّ الشارع قد جعلها حجّة فالغاية من جعل الحجّيّة لها قيامها مقام القطع الطريقي ، فهي منجّزة ومعذّرة في كونها طريقا وكاشفا عن الحكم وإلا لم يكن لجعل الحجّيّة لها أية فائدة وأثر ، إلا أنّه يبحث ثبوتا وتحليلا في كيفيّة قيامها مقام القطع الطريقي ، فهذا بحث نظري تحليلي. وهذا البحث النظري الثبوتي يراد به دفع ما يتوهّم أو يشكل على قيامها مقامه كما سيأتي.

الثاني : بحث واقعي أي أنّه بحث على مستوى الثبوت والإثبات معا في أنّ الأمارات هل يمكن أن يستفاد من دليل حجّيّتها كونها تقوم مقام القطع الموضوعي أيضا أو لا يمكن ذلك؟ ثمّ بعد وجود هذا الدليل يمكن البحث عن كيفيّة تصوير قيامها مقامه ، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل على قيامها مقامه فلا معنى للبحث التحليلي النظري ؛ إذ لا فائدة منه.

أمّا البحث الأوّل : فقد يستشكل تارة في إمكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة ، بدعوى أنّه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل أخرى في كيفيّة صياغة ذلك تشريعا ، وما هو الحكم الذي يحقّق ذلك؟

البحث الأوّل : في تصوير قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، والداعي إلى هذا البحث النظري هو الجواب عن الإشكالين التاليين :

ص: 234

الإشكال الأوّل : إنّ قيام الأمارات مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ العقل يحكم بالتأمين ونفي العقاب إذا لم يكن هناك علم وبيان على الحكم الواقعي. فإذا قامت الأمارة على التنجيز بأن أخبر الثقة عن الوجوب أو الحرمة فهذا لا يعني العلم بالحكم الواقعي ، فهو لا يزال غير معلوم ؛ لأنّ البيان والعلم لا يتحقّقان بقيام الأمارة ، ومعه يقع التعارض بين حكم العقل بالتأمين والمعذّريّة في صورة عدم العلم والبيان وبين الأمارة الدالّة على التنجيز في صورة عدم العلم والبيان أيضا ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا بالحكم الشرعي. وحينئذ كيف يمكن قيامها على المنجّزيّة مع كونها معارضة لحكم العقل القطعي؟!

نعم ، الأمارات الدالّة على التأمين والمعذّريّة ليست مخالفة لحكم العقل ؛ لأنّه يثبت التأمين والمعذّريّة أيضا.

الإشكال الثاني : بعد الفراغ عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي وحلّ الإشكال السابق ، وأنّها ليست معارضة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان يستشكل في كيفيّة صياغة دليل الحجّيّة للأمارات ؛ والذي يتكفّل في كونها قائمة مقام القطع الطريقي.

أي ما هي الصياغة الإنشائيّة التي ينشئها الشارع عند جعل الحجّيّة للأمارة ، بحيث تكون هذه الصياغة وافية في بيان ذلك المطلب الذي يجعله الشارع في الأمارات عند جعل الحجيّة لها ، بحيث يكون هذا الحكم المجعول فيها محقّقا لذاك المطلب؟

أمّا الاستشكال الأوّل فجوابه :

أوّلا : أنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.

الجواب عن الاستشكال الأوّل : إنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّ القاعدة العقليّة الأولى بناء على المسلك المختار هي الاشتغال والاحتياط العقلي ، على أساس أنّ مطلق انكشاف التكليف ولو احتمالا يكون منجّزا ما لم يثبت الترخيص والإذن الشرعي ، وهنا يكون الحكم العقلي عند الشكّ في الحكم هو التنجيز. وعليه ، فالأمارة الدالّة على التنجيز إنّما تؤكّد حقّ المولى في لزوم الإطاعة والامتثال ، فهي موافقة لحكم العقل وليست مخالفة له ، والأمارة التي تدلّ على التعذير تثبت وجود الإذن والترخيص الشرعي في الشارع في ترك التحفّظ وعدم لزوم الاحتياط العقلي في المورد كما مرّ توضيحه سابقا.

ص: 235

وثانيا : أنّه لو سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأمّا المشكوك الذي يعلم بأنّه على تقدير ثبوته ممّا يهتمّ المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولا للقاعدة من أوّل الأمر. والخطاب الظاهري - أي خطاب ظاهري - يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعيّة في مورده على تقدير ثبوتها وبذلك يخرجها عن دائرة قبح العقاب بلا بيان.

والجواب الثاني على الاستشكال الأوّل : إنّنا لو سلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا نسلّم بإطلاقها لكلّ الأحكام المشكوكة ، بل هي مختصّة بقسم منها فقط ؛ وذلك لأنّ الأحكام المشكوكة على ثلاثة أقسام :

1 - الأحكام المشكوكة التي يعلم على تقدير ثبوتها بأهمّيّتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عليها.

2 - الأحكام المشكوكة التي يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى يرضى بتفويتها أيضا حتّى في حال ثبوتها.

3 - الأحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، ولا يعلم بعدم أهمّيّتها على تقدير ثبوتها. بمعنى أنّه يشكّ في أنّها مهمّة أو ليست مهمّة على تقدير ثبوتها.

وحينئذ نقول : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مختصّة بالأحكام ، أي يعلم على تقدير ثبوتها بعدم أهمّيّتها ، بحيث إنّ المولى يرضى بتفويتها ، وبالأحكام المشكوك أهمّيّتها وعدم أهمّيّتها. فهنا تجري القاعدة العقليّة المذكورة لنفي التنجيز ولنفي التحفّظ ولإثبات التأمين عن هذه الأحكام المشكوكة.

وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم بأهمّيّتها على تقدير ثبوتها ، وأنّ المولى لا يرضى بتفويتها وترك التحفّظ عنها ، فهي ليست داخلة في موضوع القاعدة أصلا. بمعنى أنّها خارجة عنها تخصّصا ، ولا تحتاج في إثبات خروجها عن موضوع القاعدة إلى دليل خاصّ ليشكل بأنّها إذا كانت داخلة تحت القاعدة فكيف تخرج بالأمارة مع أنّها ليست علما؟!

فالمكلّف إذا شكّ في وجوب حفظ ابن الحاكم أو حفظ ماله من العدوّ فإنّه لا يمكنه الاعتماد على البراءة العقليّة هنا ؛ لأنّ هذا الحكم المشكوك على تقدير ثبوته فهو

ص: 236

ممّا لا يرضى المولى والحاكم بتفويته ، فيكون عدم الالتزام وترك التحفّظ موجبا لاستحقاق المؤاخذة والعقاب والدليل على ذلك هو السيرة العقلائيّة القائمة على ذلك بين الحاكم والمحكوم العرفيّين والشارع أمضى هذه السيرة.

فإذا اتّضح ذلك نقول : إنّ الأمارة الدالّة على التنجيز أو أي حكم ظاهري آخر كالأصول العمليّة المنجزة تبرز لنا أنّ هذا الحكم المشكوك من النوع الذي لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته ، فمهمّتها هي الكشف عن التكاليف الواقعيّة المهمّة بنظر الشارع في حال الشكّ فيها. وكذلك الأمارات والأصول الدالّة على الترخيص فهي تبرز أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا يرضى الشارع بتفويته على تقدير ثبوته فتجوز المخالفة وترك التحفّظ.

وبهذا تكون الأمارات المنجّزة مخرجة لهذا القسم من الأحكام المشكوكة التي هي مهمّة ولا يرضى الشارع بتفويتها على تقدير ثبوتها من دائرة القاعدة. فهي خارجة تخصّصا لا تخصيصا فلا يأتي الإشكال المذكور.

وهذا هو الجواب الفنّي الصحيح على هذا الإشكال حتّى بناء على التسليم بالقاعدة المذكورة. وغيره من الأجوبة التي ذكرها أصحاب هذا المسلك لا تصلح جوابا فنّيّا عن ذلك.

وأمّا الاستشكال الثاني فينشأ من أنّ الذي ينساق إليه النظر ابتداء أنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة تحصل بعمليّة تنزيل لها منزلته من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة.

وأمّا الاستشكال الثاني والذي هو إشكال على قيام الأمارة مقام القطع الطريقي نظريّا ومفاده : أنّه ما هي الصياغة التي يمكن من خلالها إبراز أنّ الشارع عند ما جعل الحجّيّة للأمارة قد أقامها مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة بعد التسليم بقيامها مقامه في هذا المقدار؟ إلا أنّ الاستشكال يرد على الصياغة الإنشائيّة وكيفيّة جعل الحجّيّة للأمارة ، وما هو المجعول في الأمارات وأي نحو من أنحاء الحكم هو كيفيّة تصويره؟ وللإجابة توجد عدّة اتّجاهات أهمّها :

الأوّل : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وهو الذي أوجب ورود الاستشكال المذكور وحاصل ما أفاده :

ص: 237

إنّ دليل حجّيّة الأمارة ينزّل الأمارة منزلة العلم ، فكلّ آثار العلم تترتّب على الأمارة. ومن جملة آثار العلم كونه منجّزا ومعذّرا ، فتثبت المنجّزيّة والمعذّريّة للأمارة بدليل التنزيل المجعول في دليل حجّيّتها. أو يقال : إنّ دليل الحجّيّة ينزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع المقطوع ، فمن المعلوم أنّ الواقع المقطوع به يكون منجّزا ومعذّرا إمّا بنفسه بأن كان المقطوع به حكما شرعيّا كالوجوب والإباحة ، وإمّا مع الواسطة بإن كان المقطوع به موضوعا لحكم شرعي. فإحراز الموضوع والقطع به يترتّب عليه التنجيز والتعذير ، فإنّه إن كان موضوعا لحكم إلزامي كان منجّزا ، وإن كان موضوعا للترخيص كان معذّرا.

ودليل الحجّيّة في الأمارة يجعل هذا المؤدّى كالمقطوع به منجّزا أو معذّرا لكون المؤدّى إما حكما أو موضوعا لحكم.

وهذا نظير تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة ، فإنّ معناه أنّ أحكام الصلاة تثبت للطواف من الطهارة الخبثيّة والحدثيّة ؛ لأنّه المنظور في دليل التنزيل.

وعلى هذا الأساس نشأ الاعتراض والاستشكال وهو :

ومن هنا يعترض عليه : بأنّ التنزيل من الشارع إنّما يصحّ فيما إذا كان للمنزّل عليه أثر شرعي بيد المولى توسيعه وجعله على المنزّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام القطع الطريقي ليس له أثر شرعي بل عقلي ، وهو حكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة ، فكيف يمكن التنزيل؟!

ومن هنا نشأ الاستشكال ، فإنّ القول بأنّ دليل الحجّيّة ينزّل الأمارة أو مؤدّاها منزلة العلم أو الواقع غير صحيح ؛ وذلك لأنّ التنزيل يفترض وجود منزّل وهو الحاكم والجاعل ، ووجود منزّل وهو المراد إسراء الحكم إليه ، ومنزّل عليه وهو المراد إسراء الحكم منه. وهذا التنزيل يفترض أن يكون المنزّل قادرا على إسراء الحكم من هذا إلى ذاك وإلا فلا يتمّ التنزيل ، وهنا المفروض أنّ المنزّل هو الشارع ، وهذا يعني أنّه لا بدّ أن يكون هناك أثر شرعي في المنزّل عليه يراد إسراؤه إلى المنزّل ؛ لأنّ الأثر الشرعي بيد الشارع جعله ورفعه وتضييقه وتوسيعه.

فمثلا تنزيل الطواف منزلة الصلاة في قوله : « الطواف في البيت صلاة » صحيح ؛ لأنّ المراد منه إسراء حكم المنزّل عليه وهو الطهارة إلى المنزّل أي الطواف. ومن المعلوم

ص: 238

أنّ الطهارة من الآثار الشرعيّة بيد الشارع جعلها ووضعها على الموضوع الذي يريده ؛ لأنّ أسباب الطهارة والنجاسة من الأسباب الاعتباريّة المجعولة من الشارع.

وأمّا في مقامنا فدليل التنزيل يريد إسراء المنجّزيّة والمعذّريّة الثابتتين للقطع الذي هو المنزّل عليه إلى الأمارة التي هي المنزّل ، وهذا التنزيل يصحّ فيما إن كانت المنجّزيّة والمعذّريّة من الآثار الشرعيّة للقطع ، بحيث يكون بيد المولى جعلها ووضعها ورفعها ، وهذا واضح البطلان ؛ إذ من المعلوم أنّ المنجّزيّة والمعذّريّة يثبتان للقطع بحكم العقل.

فإنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند القطع بتكليف الشارع ، ويحكم بالمعذّريّة عند القطع بعدم التكليف مع مخالفته للواقع ، وليستا من الآثار الشرعيّة ؛ إذ يستحيل أن يحكم الشارع بالمنجّزيّة والمعذّريّة لاستلزامه الدور ؛ إذ ما هو الدليل على لزوم إطاعة هذه المنجّزيّة والمعذّريّة؟ فإن كان حكم الشارع ينقل الكلام إليه ويتسلسل ، فلا بدّ أن ينتهي الأمر إلى أنّ الحاكم بذلك هو العقل ، والأوامر الإلهيّة في المقام ليست إلا إرشادا لحكم العقل بذلك.

فإذا ثبت كون المنجّزيّة والمعذّريّة من أحكام العقل وليس بيد الشارع وضعهما ورفعهما فكيف يصحّ التنزيل إذا؟! وعليه فكيف تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير؟! فإنّ هذا اللسان قاصر عن إبراز وإثبات وتصوير قيامها مقامه.

وقد تخلّص بعض المحقّقين (1) عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفي على طبق المؤدّى ، فإذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهرا ، وبذلك يتنجّز الوجوب ، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.

الثاني : يظهر من المحقّق الخراساني في حاشيته على ( الرسائل ) إلا أنّه عدل عنه في ( الكفاية ) وحاصله : أنّ دليل الحجيّة للأمارة لا ينزلها منزلة العلم أو الواقع ؛ لأنّه مستحيل كما تقدّم. وإنّما دليل الحجّيّة مفاده جعل حكم تكليفي على طبق مؤدّى الأمارة ، وهذا هو المسلك المعروف بجعل الحكم المماثل ، بمعنى أنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة فمعناه أن يجعل حكما تكليفيّا على طبق ما أدّت إليه الأمارة. فإذا

ص: 239


1- منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 3 : 59.

أخبر الثقة بوجوب السورة فإنّ الشارع عند ما جعل الأمارة حجّة حكم بوجوب السورة حكما ظاهريّا ، ولذلك تثبت المنجّزيّة ، وإذا أخبر بعدم وجوبه فيحكم الشارع حكما ظاهريّا بالترخيص ، وهذا الترخيص يحكم العقل بعدم استحقاق العقوبة على مخالفته لو كان الحكم ثابتا في الواقع وكانت الأمارة مخطئة ، وهذا هو معنى التعذير.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتان للأمارة بنفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده جعل الحكم المماثل وبالتالي يثبت قيامها مقام القطع الطريقي (1).

وتخلّص المحقّق النائيني (2) بمسلك جعل الطريقيّة قائلا : إنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقي لا تتمثّل في عمليّة تنزيل لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار الظنّ علما ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسدا على طريقة المجاز العقلي ، والمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين الوجود الحقيقي والاعتباري.

الثالث : ما ذكره المحقّق النائيني وسارت عليه مدرسته وهو أنّ دليل حجّيّة الأمارات ليس هو تنزيل الأمارة منزلة العلم أو تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ليرد الإشكال السابق من أنّه غير ممكن ؛ لأنّ المنجّزيّة والمعذّريّة ليستا من الآثار الشرعيّة فلا يتمّ التنزيل. وليس هو جعل الحكم المماثل ليلزم التصويب أو اجتماع الحكمين التكليفيّين المتماثلين أو المتضادّين.

وإنّما دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما ويعتبر الظنّ علما ، فالشارع عند ما جعل الأمارة حجّة وأنّها تقوم مقام القطع الطريقي في المنجّزيّة والمعذّريّة إنّما جعلها كذلك من حيث اعتبارها علما ، وبذلك تترتّب عليها كلّ آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ولا نحتاج إلى إثباتهما بدليل خاصّ ، بل إنّ نفس دليل الحجّيّة يثبتهما.

أمّا كيفيّة جعل الأمارة علما فهو على أساس الادّعاء والمجاز العقلي في المصداق لا

ص: 240


1- إلا أنّ هذا المسلك كما تقدّم سابقا يستلزم التصويب الذي هو خلاف مذهب الإماميّة ، فإنّ قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل تدفعه ؛ لأنّها تثبت وجود أحكام واقعيّة ثابتة حتّى في صورة قيام الأمارات. وحينئذ إن كان هناك حكم تكليفي آخر على طبق الأمارة فتأتي شبهة ابن قبة بأنّ هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقا للواقع فيلزم اجتماع المثلين ، وإن كان مخالفا فيلزم اجتماع الضدّين وكلاهما مستحيل.
2- فوائد الأصول 3 : 21.

في المفهوم ، نظير المجاز العقلي السكّاكي. فإنّ اعتبار الرجل الشجاع أسدا ليس فيه مجاز في اللفظ ، فإنّ الرجل الشجاع على معناه الحقيقي والأسد على معناه الحقيقي فالمفهوم ثابت من دون أيّة عناية مجازيّة ، وإنّما المجازيّة في المصداق بحيث إنّ العقل يحكم بوجود مصداق آخر للأسد ادّعاء واعتبارا. فالأسد يشمل الحيوان المعروف ويشمل الرجل الشجاع على حدّ واحد ، فهو مستعمل في معناه الحقيقي. غاية الأمر إنّ له فردين أحدهما حقيقي وتكويني ، والآخر ادّعائي واعتباري اخترعه العقل وأوجده.

وهنا كذلك فإنّ دليل الحجّيّة يعتبر الأمارة علما ادّعاء واعتبارا ، بمعنى أنّ العلم على حاله وهو الانكشاف التامّ ، وهذا المفهوم له فردان أحدهما فرد حقيقي تكويني وهو العلم الوجداني أي القطع واليقين ، والآخر هو العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي والذي هو الأمارة ، فالشارع جعل الأمارة وهذا الظنّ علما ، بمعنى أنّها مصداق من مصاديق العلم اعتبارا وادّعاء.

وحينئذ فإذا ثبت كونها علما ، فتترتّب عليها آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ، فإنّهما من آثار العلم والأمارة مصداق ادّعائي للعلم كما أنّ القطع مصداق حقيقي للعلم.

وفرق هذا عن التنزيل أنّ التنزيل ينزّل الأمارة منزلة القطع ، بحيث يريد إسراء آثار القطع عليها مع الحفاظ على كونها ظنّا ، فيرد عليه الإشكال السابق. وأمّا هنا فإنّه يسري آثار العلم للأمارة لا بوصفه أمارة وظنّا ، بل بوصفها علما ، أي أنّه يوجد الموضوع ، فإذا تحقّق الموضوع ثبت الحكم.

وهذا المسلك يسمّى بالحكومة ، أي أنّ أدلّة جعل الحجّيّة للأمارة حاكمة على ( قبح العقاب بلا بيان ) ؛ لأنّها توجد العلم والبيان ، بمعنى أنّها توسّع الموضوع ليشمل العلم الحقيقي والعلم الاعتباري (1).

ص: 241


1- إلا أنّ هذا المسلك غير صحيح في نفسه ، أوّلا. وثانيا : كما تقدّم من أنّ الحكومة نوع من التخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء ، والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص كما تقدّم في شبهة ابن قبة الثالثة. وثالثا : أنّ الحكومة كما سيأتي يشترط فيها النظر بين الحاكم والمحكوم ، وهنا الحاكم دليل شرعي والمحكوم هو دليل عقلي ولا يمكن النظر فيهما لعدم وحدة الرتبة ، فإنّ كلاّ منهما من سنخ خاصّ يختلف عن الآخر. ورابعا : أنّ ما ذكره الميرزا لا يتناسب مع الحكومة ؛ لأنّ المجاز العقلي المذكور يوجد فردا حقيقيّا لا أنّه يوجد فردا ادّعائيّا واعتباريّا ، ولذلك فكلامه يتناسب مع الورود ؛ لأنّه ايجاد فرد حقيقي بلسان تعبّدي اعتباري. ولذلك يسمّى هذا النوع بالحكومة الميرزائيّة تمييزا لها عن الحكومة الاصطلاحيّة أي الحكومة الظاهريّة ، إلا أنّه مع ذلك لا يتمّ ما ذكره ؛ لأنّ المجعول وإن كان هو العلميّة إلا أنّ هذا لا يمسّ حقيقة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة ، وإنّما هو مجرّد صياغة إنشائية في مقام التعبير عن هذا الحكم الثبوتي الملحوظ بنظر المولى ، وإلا فإنّ السؤال يبقى مطروحا ، وهو أنّ هذا الحكم الظاهري المبرز في الأمارة ، بلسان جعلها علما ما هي حقيقته وهل هو ناشئ من مبادئ ملاكات مستقلّة أو ليس ناشئا من ذلك؟ فإن قيل بوجود ملاكات مستقلّة جاءت شبهة ابن قبة في لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ، وإن لم يقل بوجود ملاكات مستقلّة فلا بدّ من بيان دور هذا الحكم الظاهري ، وما هي المهمّة التي جعل لأجلها؟

والصحيح : أنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في التنجيز وإخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان - على تقدير القول بها - إنّما هو بإبراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته كما تقدّم ، وعليه ، فالمهمّ في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزا لهذا الاهتمام من المولى لأنّ هذا هو جوهر المسألة.

والصحيح في حلّ هذا الإشكال المطروح - على مستوى الصياغة وكيفيّة جعل الأمارة ، بحيث يكون دليل جعلها حجّة وافيا بقيامها مقام القطع الطريقي ثبوتا بعد التسليم بوجوده إثباتا - أن نقول : إنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الاشتباه والاختلاط وعدم تمييز المكلّف لها في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، فإنّ الأمارات تنجّز وتعذّر ؛ لأنّها تحكي عن أهمّيّة الملاك الإلزامي أو الترخيصي بالمنجّزيّة والمعذّريّة للملاك الواقعي المبرز بهذه الأمارة.

وليس للأمارة منجّزيّة ومعذّريّة مستقلّة عن الواقع ، ولذلك لا يسجّل الإشكال أصلا.

وأمّا بناء على مبنى المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث إنّ القاعدة الأوّلية بحكم العقل عندهم هي البراءة والتأمين ، فالإشكال بمنجّزيّة الأمارة عند قيامها على الإلزام يمكن حلّه أيضا بأن نقول : إنّ القاعدة مختصّة بالأحكام المشكوكة التي

ص: 242

على تقدير ثبوتها ممّا يعلم بعدم اهتمام المولى بها ويرضى بتفويتها ، وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم باهتمام المولى بها ولا يرضى بتفويتها على تقدير ثبوتها فهي غير داخلة في القاعدة رأسا ، بل هي خارجة عنها تخصّصا. وحينئذ فالأمارة الدالّة على الإلزام إنّما تدلّ على أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته واقعا ، فهي تبرز لنا أهميّة الملاكات الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فتكون منجّزة ؛ لأنّها تبرز لنا الواقع وأنّه يوجد في الواقع حكم منجّز على تقدير ثبوته. وعليه فالمطلوب من الأمارة المنجّزة إبراز هذا الأمر ، فإنّ هذا هو المهمّ في جعل الحكم الظاهري مطلقا حتّى في الأصول العمليّة ، فالتنجيز تابع لإبراز الأمارة أو الأصل والواقع أنّ المولى لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته. وعليه فالصياغة الإنشائيّة يجب أن تكون وافية بهذا المقدار ؛ لأنّه جوهر البحث في المسألة.

وأمّا لسان هذا الإبراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظنّ منزلة العلم ، أو جعل الحكم المماثل للمؤدّى ، أو جعل الطريقيّة ، فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي وإنّما هو مسألة تعبير فحسب ، وكلّ التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بإبراز الاهتمام المولوي المذكور ؛ لأنّ هذا هو المنجّز في الحقيقة.

وحينئذ فلا تضرّ الصياغة الإنشائيّة في المقام ، لأنّها مجرّد صياغات إنشائيّة. فما دامت وافية بإبراز الغرض المذكور وهو أنّ المولى مهتمّ بهذا الواقع وأنّه لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته فالصياغة صحيحة مهما كانت ، وإن لم تكن وافية بذلك فهي مخطئة مهما كانت. فإنّ المسالك المذكورة لا تبرز جوهر المسألة والمنجّز الحقيقي في الأمارة وإنّما هي تعبيرات فقط ، فإن أدّت وحكت وكشفت عن الملاك الحقيقي المنجّز فهي صحيحة وإلا فلا.

وأمّا البحث الثاني : فإن كان القطع مأخوذا موضوعا لحكم شرعي بوصفه منجّزا ومعذّرا فلا شكّ في قيام الأمارة المعتبرة شرعا مقامه ؛ لأنّها تكتسب من دليل الحجّيّة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة فتكون فردا من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجّيّة في هذه الحالة واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يحقّق مصداقا حقيقيّا لموضوعه.

القطع له حيثيّتان نوريّتان فهو نور في نفسه ونور لغيره ، ولذلك فهو على نحوين :

ص: 243

الأوّل : بما هو نور في نفسه أي بما هو كاشف تامّ وبما هو حالة تحصل لدى النفس من الاستقرار والإذعان ، وهو المسمّى بالصفتيّة.

الثاني : بما هو نور لغيره أي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى غيره ، بحيث يكون منكشفا ومظهرا به وهو المسمّى بالكاشفيّة. ثمّ إنّ القطع من آثاره وأحكامه العقليّة كونه منجّزا ومعذّرا كما تقدّم.

ثمّ إنّه على القسمين الأوّلين تارة يؤخذ تمام الموضوع ، وأخرى يؤخذ جزء الموضوع ، فالمجموع أقسام خمسة للقطع الموضوعي.

فإن كان القطع المأخوذ في الموضوع للحكم الشرعي مأخوذا كذلك بوصفه منجّزا ومعذّرا أي بما هو حجّة ، أي بلحاظ أثره العقلي فهنا تقوم الأمارة مقامه ؛ لأنّ القدر المتيقّن من جعل الحجّيّة للأمارة كونها منجّزة للتكليف ومعذّرة عنه في صورة المخالفة.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان للأمارة كما تقدّم سابقا ، وبالتالي تقوم مقام القطع الموضوعي. فإذا قيل مثلا : إذا قطعت بخمريّة شيء فاجتنبه ، وكان القطع المأخوذ في الموضوع بنحو المنجّزيّة والمعذّريّة. فإذا قامت الأمارة على كون هذا خمرا فيجب اجتنابه ؛ لأنّها تحقّق المنجّزيّة. ففي الحقيقة لم تكن الخصوصيّة والمناط للقطع ، وإنّما للمنجّزيّة والمعذّريّة وليس هو إلا كمثال وكمصداق لها فقط ، ولذلك يقوم غيره من المصاديق مقامه.

وحينئذ نقول : إنّ دليل حجّيّة الأمارة الذي يكسبها المنجّزيّة والمعذّريّة يكون واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع بوصفه منجّزا ومعذّرا. فإنّ الدليل المفروض في المثال مفاده أنّ الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب موضوعه مركّب من الخمريّة والقطع بها ، ودليل حجّيّة الأمارة يجعلها منجّزة ومعذّرة ادّعاء ، بمعنى أنّه يحقّق فردا من أفراد المنجّزيّة والمعذّريّة ، ويدّعي أنّه مصداق حقيقي كغيره من المصاديق الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ القطع المأخوذ في الموضوع إنّما أخذ بوصفه مصداقا حقيقيّا للمنجّزيّة والمعذّريّة لا لنفسه أو بما هو كاشف تامّ ، ودليل الحجّيّة الذي يجعل الأمارة منجّزة ومعذّرة يدّعي أنّه يوجد مصداق حقيقي آخر لهذه المنجّزيّة والمعذّريّة. فهما ليستا محصورتين ضمن القطع ، بل موجودتان ضمن الأمارة أيضا. وبهذا يكون

ص: 244

دليلها واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب ؛ لأنّه يحقّق فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد ومصاديق موضوعه الذي هو المنجّزيّة والمعذّريّة ، والقطع وإن ذكر في الموضوع إلا أنّه ذكر بوصفه منجّزا ومعذّرا ، أي مصداقا لهما لا بوصفه كاشفا تامّا أو طريقا إلى الغير.

وهذا القسم ممّا لا شكّ فيه عند أحد منهم. والدليل عليه نفس دليل حجّيّتها ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وأمّا إذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تامّ فلا يكفي مجرّد اكتساب الأمارة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة من دليل الحجّيّة لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا بدّ من عناية إضافية في دليل الحجّيّة.

وأمّا إذا كان كان القطع مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي بوصفه كاشفا تامّا وطريقا محرزا لما تعلّق به وأضيف اليه أي المقطوع. فهنا لا يكفي أن تكون الأمارة منزّلة منزلة القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة أي القطع الطريقي ؛ للقول أنّها منزّلة منزلة القطع الكاشفيّة التامّة أي ( القطع الموضوعي ). فإنّ دليل الحجّيّة الذي يكسب الأمارة المنجّزيّة والمعذّريّة لا يفي بنفسه أيضا لإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما للقطع من كاشفيّة تامّة ؛ وذلك لأنّ هذه الكاشفيّة التامّة ليست موجودة في الأمارة لا حقيقة ؛ لأنّها كاشف ناقص ، ولا بدليل الحجّيّة ؛ لأنّ المستفاد من دليل الحجيّة كونها منجّزا ومعذّرا فقط أي حجّة وهذا غير الكاشفيّة.

إذا فنحتاج إلى إثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة (1).

وقد التزم المحقّق النائيني قدس سره بوجود هذه العناية بناء على ما تبنّاه من

ص: 245


1- مضافا إلى أنّ صاحب ( الكفاية ) أشكل على استفادة قيامها مقام القطع الموضوعي بما يلي : إنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما آلة ، بينما قيامها مقام القطع الموضوعي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما مستقلاّن ؛ وذلك لأنّ اللحاظ الأوّل إنّما يتمّ فيما إذا نزلت الأمارة منزلة القطع في المؤدّى والواقع ، بينما اللحاظ الثاني إنّما يتمّ إذا نزّلت الأمارة منزلة القطع مستقلاّ بنفسه ، والجمع بين التنزيلين معا في دليل واحد معناه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في دليل واحد وهو مستحيل ؛ لأنّهما متضادّان لا يجتمعان على شيء واحد.

مسلك جعل الطريقيّة فهو يقول : إنّ مفاد دليل الحجّيّة جعل الأمارة علما ، وبهذا يكون حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يوجد فردا جعليّا وتعبّديا لموضوعه فيسري حكمه إليه.

ذكر المحقّق النائيني أنّ دليل حجّيّة الأمارة يتكفّل بنفسه لإثبات قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي معا بنحو لا يلزم منه أي محذور ؛ وذلك لأنّ المحذور السابق كان مبنيّا على أنّ دليل الحجّيّة إنّما هو عمليّة تنزيل للأمارة منزلة العلم أو منزلة المؤدّى ، فيلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي بدليل واحد وهو محال. بينما الصحيح هو أنّ دليل حجّيّة الأمارة مفاده جعل الأمارة علما ، أي جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة. وعلى هذا فيكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه.

ووجه هذه الحكومة أنّ دليل الحكم الشرعي موضوعه القطع والعلم بما هو كاشف تامّ ، والعلم الوجداني الحقيقي مصداق حقيقي لذلك من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، ودليل حجّيّة الأمارة يعتبر الأمارة علما بمعنى أنّ الأمارة تكوينا وحقيقة ليست إلا الظنّ والكشف الناقص ، فجاء دليل الحجّيّة واعتبر هذا الظنّ علما وهذا الكشف الناقص كشفا تامّا فهو متمّم لهذا النقص. ولذلك فدليل الحجّيّة يدّعي بوجود فرد آخر جعلي واعتباري وتعبّدي من أفراد العلم وبهذا يكون موسّعا لموضوع الحكم الشرعي ليشمل الأعمّ من العلم الحقيقي الوجداني ومن العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي.

وحينئذ نقول : إنّ كل الآثار التي تترتّب على العلم الوجداني سواء الشرعيّة والعقليّة فهي تترتّب على الأمارة أيضا بوصفها علما ، ولذا تقوم الأمارة مقام العلم في كونه كاشفا وطريقا وتقوم مقامه في كونه منجّزا ومعذّرا أي حجّة ، وتقوم مقامه فيما إذا كان الحكم مترتّبا عليه نفسه بنحو الاستقلاليّة بأن كان موضوعا للحكم ، وهذا يستفاد من نفس دليل حجّيّتها الذي يجعلها علما ادّعاء وتعبّدا ، وبالتالي لا تحتاج إلى دليل آخر ؛ لأنّ هذه العناية والمئونة الزائدة يتكفّل بها دليل الحجّيّة. ولا يلزم محذور اللحاظين ؛ إذ ليس هناك إلا لحاظ واحد فقط وهو جعلها علما فقط.

ص: 246

غير أنّك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة (1) أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكما إذا كان ناظرا إلى الدليل المحكوم ، ودليل الحجّيّة لم يثبت كونه ناظرا إلى أحكام القطع الموضوعي ، وإنّما المعلوم فيه نظره الى تنجيز الأحكام الواقعيّة المشكوكة خاصّة إذا كان دليل الحجّيّة للأمارة هو السيرة العقلائيّة ؛ إذ لا انتشار للقطع الموضوعي في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجّيّة الأمارة ناظرة إلى القطع الموضوعي والطريقي معا.

والصحيح : هو أنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّ ما ذكره الميرزا من حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الحكم الشرعي المأخوذ فيه القطع موضوعا غير تامّ ؛ لأنّ الحكومة بين شيئين يشترط فيها النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، كما تقدّم ذلك في مبحث التعارض من الحلقة الثانية عند البحث في الحكومة والورود.

كما في « الطواف بالبيت صلاة » الحاكم على « لا صلاة إلا بطهور » فإنّه ناظر إلى آثار الصلاة في الطهارة ويوسّعها لتعمّ الطواف أيضا.

وكما في « لا ربا بين الوالد وولده » الحاكم على « الربا حرام » حيث إنّه ينظر إلى موضوعه ويخرج هذا الفرد منه ادّعاء والتالي يخرج عن الحرمة.

وأمّا هنا فإنّ دليل الحجّيّة ليس ناظرا إلى دليل الحكم الشرعي ؛ لأنّ حكومته عليه تستدعي كونه ناظرا إلى ترتيب آثار القطع الطريقي وآثار القطع الموضوعي معا ، وهذا غير محرز. إذ المتيقّن من دليل الحجّيّة هو جعلها منجّزة ومعذّرة فقط ، أي ترتيب آثار القطع الطريقي على الأمارة ، وأمّا آثار القطع الموضوعي فلا يحرز نظره إليها ؛ لأنّ ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأمارة إنّما يتمّ لو كانت الأمارة فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد العلم ، وهذا لا يتمّ إلا بالورود وهذا لا يقول به الميرزا.

الثاني : أنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما هو السيرة العقلائيّة ؛ لأنّ مهمّ الأمارات هو الظهور وخبر الثقة ، ودليل حجّيّتها السيرة العقلائيّة كما اعترف بذلك الميرزا نفسه ، والأخبار الدالّة على حجّيّتهما ليس إلا أدلّة إرشاديّة إلى ما هو المرتكز عند العقلاء ، فهي إمضائيّة فقط.

ص: 247


1- تحت عنوان : ( الحكم الأوّل : قاعدة الجمع العرفي ).

وحينئذ لا بدّ أن نلاحظ هذه السيرة وأنّها هل انعقدت على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا ، أو قيامها مقام القطع الطريقي فقط؟

والجواب : أنّ الملاحظ من سيرة العقلاء في أمورهم التكوينيّة والتشريعيّة أي علاقة المأمورين بالآمرين والأسياد بالعبيد والرؤساء بالمرءوسين والآباء بالأبناء أنّهم يتعاملون مع الأمارة ويبنون عليها بلحاظ آثار القطع الطريقي فقط أي بلحاظ الحجّيّة ( المنجّزيّة والمعذّريّة ). وأمّا آثار القطع الموضوعي فلم تنعقد سيرتهم على قيام الأمارة مقامه ؛ لعدم شيوعها في معاملاتهم المولويّة والتشريعيّة ، بل إنّه لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم المولويّة أصلا. ولذلك يكون دليل الحجّيّة قاصرا عن إفادة قيامها مقام القطع الموضوعي ، فنحتاج إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة وهو غير موجود (1).

ص: 248


1- وثالثا : أنّ الحكومة إنما تكون في الأدلة اللفظية لأنّ اللفظ هو الذي يقبل التوسعة أو التضييق في مفاده ومدلوله ، وأما الأدلة اللبيّة والعقليّة فهي لا يمكن فيها الحكومة ؛ لأنّها أدلة قطعية لا تقبل التوسعة والتضييق. وهنا دليل الحجيّة إنّما هو السيرة وهي دليل لبيّ فلا يمكن أن تتصور الحكومة بلحاظها ، والأدلة اللفظية الدالة على الحجيّة قلنا : إنّها إرشاد للمرتكز العقلائي وإمضاء له فهي تتحدّد بهذا المقدار الذي انعقدت عليه السيرة بحيث لا يقبل التوسعة أو التضييق. بقي شيء : - وهو القطع الموضوعي بنحو الصفتيّة وهذا مما لا إشكال عندهم فيه بعدم قيام الأمارة مقامه ؛ إذ لا يوجد استقرار وإذعان وجزم وتصديق في الأمارة بالنحو الذي هو ثابت للقطع بما هو صفة أي بما هو نور لنفسه فإنّ هذه النوريّة ليست موجودة في الأمارة.

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

ص: 249

ص: 250

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

يحرم إسناد ما لم يصدر من الشارع إليه ؛ لأنّه كذب ، ويحرم أيضا إسناد ما لا يعلم صدوره منه إليه وإن كان صادرا في الواقع.

إسناد شيء إلى الشارع لا بدّ فيه من العلم أو الإذن من الشارع في الإسناد.

فالأصل الأوّلي هو حرمة الإسناد لقوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) وعليه :

1 - فإذا علم بعدم صدور هذا الحكم من الشارع ومع ذلك أسند إليه فهو كذب وافتراء على اللّه تعالى ، وهو من أشدّ المحرّمات ؛ لحكم العقل بقبح ذلك إذ هو تعدّ على حقّ المولى واستهتار بكرامته وخروج عن حقّ الطاعة ورسم العبوديّة ، مضافا إلى الآيات والروايات التي تذمّ ذلك وتحرّمه ، ويضمّ إليه الإجماع الذي ادّعاه الوحيد البهبهاني.

2 - وإذا لم يعلم بصدور الحكم من الشارع ولم يعلم بعدم صدوره ، يعني يشكّ في صدوره وعدمه فأيضا يحرم إسناده إلى المولى ؛ لأنّه تشريع باطل منهيّ عنه ، حتّى وإن كان هذا الحكم ثابتا في الواقع ؛ فإنّ الحرمة موضوعها عدم الصدور ظاهرا أي عدم الوصول إلى المكلّف.

فإذا وصل الحكم إلى المكلّف فهو صادر وإلا فهو ليس بصادر ظاهرا ، ولذلك يحرم إسناده ونسبته إلى الشارع.

وهذا يعني أنّ القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الأولى فهو قطع طريقي ، وموضوع لنفي الحرمة الثانية فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.

ص: 251


1- يونس : 59.

فلدينا حرمتان :

الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا واقعا. فهنا عدم الصدور أخذ موضوعا في الحرمة ، فإذا علم بالصدور انتفت الحرمة ، فيكون العلم طريقا لنفي الموضوع والذي هو عدم الصدور ؛ لأنّه إذا علم بالصدور فهذا يعني أنّ العلم كان طريقا كاشفا عن كون موضوع الحرمة غير متحقّق لأنّ الصدور ثابت واقعا ، فالقطع هنا طريقي.

الحرمة الثانية : وهي حرمة إسناد غير معلوم الصدور. فهنا العلم أخذ في الموضوع ؛ لأنّ الموضوع مركّب من أمرين الصدور وعدم العلم به ، فإذا علم بالصدور كان هذا العلم رافعا للحرمة ؛ لأنّ الحرمة ثابتة لغير المعلوم صدوره ، فإذا علم بالصدور انتفى الموضوع بانتفاء جزء منه ومعه تنتفي الحرمة. فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع نفي الحرمة وعدمه مأخوذ في الحرمة.

وعليه ، فإذا كان الدليل قطعيّا انتفت كلتا الحرمتين ؛ لحصول القطع ، وهو طريق إلى أحد النفيين وموضوع للآخر.

فهنا توجد حالتان :

الأولى : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي قطعيّا كالتواتر والكتاب ، وحكم العقل القطعي كالمستقلاّت العقليّة : القبح والحسن فهنا يتحقّق العلم بصدور الحكم من الشارع ، وعندئذ يجوز إسناده إلى الشارع ولا حرمة فيه.

أمّا الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا فهي منتفية ؛ وذلك للعلم بالصدور. فهذا العلم كاشف عن الصدور فهو قطع طريقي ينفي موضوع الحرمة المذكورة ؛ لأنّه يكشف عن الصدور والطريق إليه فلا يكون عدم الصدور متحقّقا وإلا لزم اجتماع النقيضين.

وأمّا الحرمة الثانية : وهي حرمة ما ليس معلوما صدوره فهي منتفية أيضا ؛ لأنّ جزء الموضوع فيها وهو عدم العلم منتف ؛ وذلك لتحقّق العلم بالصدور. فكان هذا العلم نافيا لموضوع الحرمة فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه أخذ في موضوع عدم هذه الحرمة حيث إنّ عدمه كان مأخوذا في الحرمة.

وعليه ، فالحرمتان منتفيتان عند حصول العلم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه عندهم.

ص: 252

وإذا لم يكن الدليل قطعيّا بل أمارة معتبرة شرعا فلا ريب في جواز إسناد نفس الحكم الظاهري إلى الشارع ؛ لأنّه مقطوع به.

الثانية : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ظنيّا قامت الحجّة شرعا على التعبّد به كالأمارات وخبر الثقة ، فهنا نقول :

إنّ إسناد الحكم الظاهري نفسه إلى الشارع جائز ؛ لأنّه مقطوع به. فخبر الثقة الذي هو أمارة ظنيّة معتبرة شرعا يجوز لنا إسناد الحكم الظاهري المجعول له إلى الشارع فنقول : ( إنّ خبر الثقة جعله الشارع حجّة ) ، فالحجّيّة التي هي حكم ظاهري يمكن إسنادها إلى الشارع ونسبتها إليه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على حجّيّة خبر الثقة مقطوع به وهو السيرة العقلائيّة الممضاة شرعا.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وأمّا إسناد المؤدّى فالحرمة الأولى تنتفي بدليل حجّيّة الأمارة ؛ لأنّ القطع بالنسبة إليها طريقي ، ولا شكّ في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي. غير أنّ انتفاء الحرمة الأولى كذلك مرتبط بحجّيّة مثبتات الأمارات ؛ لأنّ موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزامي للأمارة الدالّة على ثبوت الحكم ؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على شيء مطابقة يدلّ بالالتزام على أنّ الإخبار عنه ليس كذبا.

وأمّا إسناد المؤدّى أي مؤدّى الأمارة وهو ما يحكي عنه الثقة من حكم كالوجوب والحرمة ، فهل يجوز إسنادهما إلى الشارع بأن يقال : هذا الوجوب الذي حكمت به الأمارة صادر من الشارع أو لا يجوز؟

والجواب : أنّ الحرمة الأولى وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا من الشارع تنتفي ؛ لأنّ القطع كان طريقا إلى نفي موضوعها ؛ لأنّه طريق إلى الصدور وكاشف عنه. وقد تقدّم سابقا أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي ، فنفس دليل حجّيّة الأمارة يبرّر لنا إسناد مؤدّاها إلى الشارع ؛ لأنّه يعبّدنا بأنّ مؤدّى الأمارة وما تحكي عنه وتكشفه صادر من الشارع وأنّه حكم اللّه الواقعي ، فكما أنّ القطع كان طريقا وكاشفا عن الصدور فكذلك الأمارة طريق وكاشف عن الصدور. وإذا ثبت كون الحكم صادرا فينتفي موضوع الحرمة ؛ لأنّ موضوعها هو ما ليس صادرا ، وهذا

ص: 253

منتف إمّا بالقطع وإمّا بالأمارة ؛ لأنّ دليلها يعبّدنا شرعا بمؤدّاها.

إلا أنّ هذا المقدار مرتبط بما تقدّم سابقا من البحث عن لوازم الأمارات ، وأنّها حجّة أو لا؟ فإذا قلنا : إنّ مثبتات الأمارة ليست حجّة - لأنّه لا يستفاد من دليل الحجّيّة فيها إلاّ التعبّد بالمؤدّى فقط دون لوازمها كما تقدّم عن السيّد الخوئي - فلا تنتفي هذه الحرمة. وأمّا إذا قلنا بحجّيّة لوازمها ومثبتاتها فتنتفي هذه الحجّيّة بنفس دليل الحجّيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ موضوع الحرمة الأولى وهو حرمة إسناد ما ليس صادرا كان عنوان الكذب ، فإنّ عدم الصدور معناه أنّه ليس ثابتا في الواقع وهو معنى الكذب أي هو عدم مطابقة الخبر للواقع. والأمارة مؤدّاها المطابقي هو ما تحكي عنه من وجوب أو حرمة ، وهذا المدلول المطابقي له مدلول التزامي ، وهو أنّ هذا الحكم الذي أدّت إليه الأمارة وكشفت عنه مطابق للواقع وليس كاذبا ، بناء على أنّ الإخبار عن شيء بالمطابقة يدلّ بالالتزام على أنّه صادق مطابق للواقع أي صادر من الشارع ، وحينئذ فيكون موضوع الحرمة الذي هو الكذب أو المخالفة للواقع أو عدم الصدور منتفيا على أساس المدلول الالتزامي للأمارة لا بالمدلول المطابقي.

فبناء على ما هو الصحيح من كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة فتكون هذه الحرمة منتفية لانتفاء موضوعها بالمدلول الالتزامي للأمارة ، وبالتالي يصحّ إسناد الحكم إلى الشارع وكونه صادرا منه. والدليل هو نفس دليل حجّيّة الأمارة.

بخلاف ما إذا لم تكن مثبتاتها ولوازمها حجّة فإنّه يحتاج إلى دليل آخر مستقلّ لإثبات انتفاء الحرمة الأولى.

وأما الحرمة الثانية فموضوعها - وهو عدم العلم - ثابت وجدانا ، فانتفاؤها يتوقّف إمّا على استفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي من دليل حجّيّتها ، أو على إثبات مخصّص لما دلّ على عدم جواز الإسناد بلا علم من إجماع أو سيرة يخرج موارد قيام الحجّة الشرعيّة.

وأمّا الحرمة الثانية وهي إسناد ما لا يعلم بصدوره فعدم العلم مأخوذ في موضوعها ، وانتفاء هذه الحرمة متوقّف على انتفاء عدم العلم ، فإذا ثبت العلم انتفى الموضوع.

وأمّا مع قيام الأمارة على الحكم وثبوته شرعا وكونه صادرا من الشارع فهذا لا

ص: 254

يخرج المورد إلى العلم ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا ، فالموضوع وهو عدم العلم لا يزال ثابتا بالوجدان.

وحينئذ يكون هذا البحث مرتبطا بالبحث المتقدّم من أنّ الأمارة هل تقوم مقام القطع الموضوعي أو لا؟

فإن قيل بأنّها تقوم مقام القطع الموضوعي من نفس دليل حجّيّتها - كما هي مقالة الميرزا - كان ذلك كافيا لإثبات أنّ الأمارة هنا تنفي موضوع الحرمة الثانية بنفس دليل حجّيّتها ولا تحتاج إلى دليل آخر.

وإن قيل بأنها لا تقوم مقامه - كما هو الصحيح - كان انتفاء الحرمة الثانية يحتاج إلى دليل خاصّ أو قرينة معيّنة تكون مخصّصا للدليل الدالّ على عدم جواز الإسناد بلا علم ، بأن كان هناك إجماع أو سيرة ممضاة شرعا على أنّ الحجّة المعتبرة شرعا كالأمارات خارجة عن موضوع هذه الحرمة ، كالعلم الوجداني ، وأمّا مع عدم وجود مثل هذا المخصّص فلا يمكننا إثبات أنّ الأمارة خارجة عن موضوع الحرمة الثانية من نفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّه لا يفيد قيامها مقام القطع الموضوعي.

ص: 255

ص: 256

إبطال طريقيّة الدليل

ص: 257

ص: 258

إبطال طريقيّة الدليل

كلّ نوع من أنواع الدليل حتّى لو كان قطعيّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال حجّيّته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقيّة إلى الموضوعيّة.

الدليل سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا وسواء كان شرعيّا أو عقليّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال طريقيّته وحجّيّته.

أمّا الدليل الظنّي فلا إشكال في إمكان إبطال حجّيّته ؛ لأنّها كانت متوقّفة على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، فمع وجودهما يبطل موضوع الحجّيّة ويرتفع بارتفاع قيده ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا الدليل القطعي فقد تقدّم أنّ حجّيّة القطع وطريقيّته من اللوازم الذاتيّة للقطع بتكليف المولى ، فإذا قطع بتكليف المولى حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة ، وهو معنى المنجّزيّة والحجّيّة. مضافا إلى كونه طريقا وكاشفا تامّا عن المقطوع ؛ لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة نفس القطع. فكيف يتمّ إبطال حجّيّته وطريقيّته؟!

والجواب : أنّ هذا يتمّ عن طريق تحويل القطع من القطع الطريقي إلى القطع الموضوعي ، وتوضيح ذلك :

بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليل خاصّ على الجعل الشرعي قيدا في الحكم المجعول ، فإذا قام هذا الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفيا فلا منجّزيّة ولا معذّريّة.

كيفيّة تحويل القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة : أن يأخذ الشارع عدم هذا الدليل القطعي الخاصّ موضوعا في الحكم المجعول بأن يقول مثلا : ( إذا قام هذا الدليل الخاصّ المعيّن القطعي على الجعل فالمجعول غير ثابت وغير متحقّق ؛ لأنّه يشترط في فعليّة

ص: 259

المجعول أن يكون عدم الدليل المذكور متحقّقا ، فإذا لم يكن هذا الدليل الخاصّ موجودا كان المجعول فعليّا ، وإذا كان موجودا لم يكن فعليّا ).

وقد تقدّم أنّ الجعل غير المجعول ، فالجعل : هو الحكم الثابت في عالم التشريع والواقع مع كلّ قيوده وشروطه المأخوذة فيه على نحو القضيّة الحقيقيّة ، بينما المجعول : هو الجعل الموجود والمتحقّق في الخارج ، وذلك بفعليّة قيوده وشروطه خارجا كالحجّ والاستطاعة. فإنّ الحجّ على المستطيع واجب وهذا موجود في عالم الجعل ، وأمّا وجوب الحج خارجا ففعليّته مرتبطة بتحقّق قيوده في الخارج بأن يوجد مكلّف مستطيع فيكون الوجوب فعليّا ، وإلا لم يكن فعليّا وإذا لم يكن فعليّا فلا أثر له.

وهنا يأخذ الشارع عدم هذا الدليل الخاصّ القطعي بالجعل في الحكم في موضوع الحكم المجعول ، فإذا كان عدم الدليل متحقّقا كان المجعول فعليّا والحكم الشرعي ثابتا ؛ لتحقّق قيوده في الخارج. وإن كان الدليل المذكور موجودا كان معنى ذلك أنّ القيد المأخوذ موضوعا في الحكم المجعول منتفيا فينتفي المجعول ؛ لانتفاء قيوده في الخارج. فإذا كان المجعول منتفيا في الخارج بانتفاء قيوده وعدم تحقّقها لم يكن له أثر تنجيزي أو تعذيري كالحجّ عند فقدان الاستطاعة. وهذا يعني أنّ هذا القطع الحاصل من الدليل الخاصّ فاقد للحجّيّة ؛ لأنّه ليس منجّزا ولا معذّرا وفاقد للطريقيّة ؛ لأنّه ليس كاشفا عن الحكم أو أنّ كشفه عن الحكم كان مساوقا لعدم كشفه عنه.

وبتعبير آخر : يدّعى أنّ القطع الحاصل من الدليل الخاصّ بالجعل قد أخذ عدمه قيدا في المجعول. بمعنى أنّ عدم القطع بالحكم الشرعي ( الدليل الخاصّ ) على مستوى الجعل شرط وقيد في فعليّة الحكم المجعول ، فإذا تحقّق ذلك بأن قطع بالحكم الشرعي من دليل آخر كان الحكم فعليّا ؛ لفعليّة قيوده في الخارج. وأمّا إذا قطع بالحكم الشرعي من الدليل الخاصّ الذي أخذ عدمه قيدا فالحكم ليس فعليّا ؛ وذلك لانتفاء قيده إذ قيده عدم هذا الدليل ، والموجود في الخارج هو تحقّق الدليل ، فإذا انتفى القيد انتفى المقيّد ، وبالتالي لا يكون الحكم فعليّا أي أنّ المجعول ليس فعليّا ، وإذا لم يكن فعليّا لم يكن منجّزا ولا معذّرا ، وهو معنى انتفاء حجّيّته.

وليس ذلك من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون

ص: 260

وجود هذا القطع ؛ لأنّ القطع المنجّز هو القطع بفعليّة المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، ولا قطع في المقام بالمجعول وإن كان القطع بالجعل ثابتا ، غير أنّ هذا القطع الخاصّ بالجعل بنفسه يكون نافيا لفعليّة المجعول نتيجة لتقيّد المجعول بعدمه.

وهذه الطريقة في إبطال حجّيّة القطع الخاصّ لا محذور فيها ثبوتا ، فلا يشكل بأنّها من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي بعد ثبوت القطع به ، وسلب المنجّزيّة عن القطع بعد ثبوته وتحقّقه مستحيل ؛ لأنّه تفكيك بين الذاتي والذات ولأنّه يلزم منه التناقض إمّا واقعا أو باعتقاد المكلّف كما تقدّم.

فإنّ إبطال المنجّزيّة غير سلب المنجّزيّة ، فإنّ سلب المنجّزيّة إنّما تكون بعد حصول القطع الفعلي المنجّز وهذا محال ، وأمّا إبطال المنجّزيّة فهو الحيلولة دون حصول وتحقّق هذه المنجّزيّة ، أي إيجاد المانع من تحقّقها كما هو محلّ كلامنا.

فإنّ القطع الذي يثبت كونه منجّزا ومعذّرا إنّما هو القطع بفعليّة الحكم المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، فإنّ القطع بوجوب الحجّ على المستطيع لا ينجّز وجوب الحجّ على القاطع بمجرّده ، وإنّما المنجّز لهذا القطع هو تحقّق الاستطاعة في الخارج ، أي ثبوت الحكم المجعول بثبوت قيوده في الخارج. وهنا كذلك فإنّ عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ مأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإذا تحقّق عدمه بأن كان القطع من دليل آخر كان الحكم المجعول فعليّا لفعليّة قيوده ، أي عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ. وأمّا إذا انتفى قيده بأن قطع بالحكم من هذا الدليل الخاصّ يكون الحكم المجعول منتفيا لانتفاء قيده ، إذ قيده هو عدم هذا الدليل والمفروض أنّ هذا الدليل موجود وثابت ، فالمجعول منتف لانتفاء فعليّة قيده وعدم وجوده في الخارج.

نعم ، الجعل ثابت ؛ لأنّه مقطوع به بهذا الدليل الخاصّ ، إلا أنّ هذا الجعل لا منجّزيّة له ؛ لأنّ المنجّزيّة كما ذكرنا ثابتة للمجعول لا للجعل ، فالثابت وهو الجعل ليس منجّزا ، والمنجّز وهو المجعول غير ثابت.

ومن هنا يقال : إنّ هذا القطع بالجعل الحاصل من هذا الدليل الخاصّ بنفسه ينفي الحكم المجعول ؛ لأنّه ينفي القيد المأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإنّ القيد هو عدم هذا الدليل والمتحقّق في الخارج هو ثبوت هذا الدليل لا عدمه ، ولذا فإنّ القطع بالحكم يساوق القطع بعدمه.

ص: 261

وقد سبق في أبحاث الدليل العقلي في الحلقة السابقة (1) أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، أو أخذ عدمه قيدا في المجعول ، ولا يلزم من كلّ ذلك دور.

وهذا التصوير لإبطال طريقيّة الدليل القطعي الخاصّ معقول ثبوتا ولا مانع منه ولا استحالة فيه ؛ لأنّه كما تقدّم في الحلقة الثانية من أبحاث الدليل العقلي أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، بأن يؤخذ العلم الحاصل من النقل بالجعل شرطا في المجعول ، فيقال : إذا حصل لديك علم بالجعل عن طريق النقل فالحكم فعلي. وكذا لا مانع من أن يؤخذ عدم علم مخصوص قيدا في المجعول أيضا ، بأن يقال : إنّ عدم العلم بالجعل عن طريق العقل قيد في المجعول ، فإذا علم بالحكم من طريق آخر كان الحكم فعليّا لفعليّة قيده ، وهو عدم العلم بالحكم عن طريق العقل.

وأمّا إذا علم بالحكم عن طريق العقل فالمجعول منتف لانتفاء قيده ، فلا يكون الحكم فعليّا وبالتالي لا يكون منجّزا.

وهذان النحوان لا دور فيهما ولا استحالة ؛ إذ محذور الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كان مسجّلا على أخذ العلم بالمجعول قيدا في المجعول أو أخذ عدم العلم بالمجعول قيدا في المجعول ، أي أخذ العلم أو عدمه في موضوع شخصه أو ضدّه أو مثله. كما سيأتي توضيحه في مباحث الدليل العقلي.

وقد ذهب جملة من العلماء (2) إلى أنّ العلم المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة.

ذهب الأخباريّون إلى أنّ العلم بالحكم الشرعي المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة ، بمعنى أنّ هذا الدليل العقلي لا يكون حجّة شرعا على الأحكام الشرعيّة واستكشافها. وقبل الحديث عن ذلك لا بدّ من معرفة المراد من الدليل العقلي فنقول :

الدليل العقلي : هو الحكم المستند إلى حكم العقل في مقام استنباط الأحكام الشرعيّة مع عدم وجود دليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع على هذا الحكم

ص: 262


1- تحت عنوان : حجّيّة الدليل العقلي.
2- نسبه الشيخ الأنصاري إلى بعض الأخباريّين في فرائد الأصول 1 : 51.

الشرعي. وهذا الدليل العقلي هو المفيد للقطع واليقين لا الدليل العقلي الظنّي كالقياس والاستحسان ونحوهما مما ثبت شرعا عدم حجّيّته.

وأمّا وجه عدم حجّيّة هذا الدليل العقلي القطعي فسيأتي الكلام فيه في بحث حجّيّة الدليل العقلي.

وقيل في التعقيب على ذلك : إنّه إن أريد بهذا تحويله من طريقي إلى موضوعي بالطريقة التي ذكرناها - بأن يكون عدم العلم العقلي بالجعل قد أخذ قيدا في المجعول - فهو ممكن ثبوتا ، ولكنّه لا دليل على هذا التقييد إثباتا.

فأجيب على هذه الدعوى بجوابين :

الأوّل : أنّه إذا أريد من عدم حجّيّة الحكم الشرعي المنكشف من الدليل العقلي القطعي أنّ الدليل العقلي قد أبطل الشارع حجّيّته عن طريق تحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي ، بأن يقال : إنّ الحكم الشرعي إن قطع به عن طريق العقل فهو ليس فعليّا فيؤخذ عدم الدليل العقلي بالجعل قيدا في الحكم المجعول ، فالعلم بالحكم الشرعي عن طريق العقل ينفي الحكم المجعول لانتفاء قيده ، وعدمه بأن قطع بالحكم عن طريق النقل يحقّق فعليّة المجعول لتحقّق قيده وفعليّته.

فهذا التحويل قلنا : إنّه ممكن عقلا وثبوتا إلا أنّ إثبات هذا التحويل بالنسبة إلى الدليل العقلي لا دليل عليه. بمعنى أنّه لم يثبت أنّ الشارع قد حوّل القطع العقلي إلى الموضوعيّة بدلا من الطريقيّة. وهذا بحث دلالي إثباتي.

والصحيح هو أنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة مطلقة وعامّة ، وليست مقيّدة بهذا القيد ، فيتمسّك بالإطلاق والعموم لإثبات حجّيّة القطع العقلي.

وإن أريد بهذا سلب الحجّيّة عن العلم العقلي بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ؛ لأن القطع الطريقي لا يمكن تجريده عن المنجّزيّة والمعذّريّة.

الجواب الثاني : أنّه إن أريد أنّ الدليل العقلي القطعي ليس بحجّة ، بمعنى أنّه ليس منجّزا بعد تحقّقه من دون أن يكون هناك تحويل لهذا القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة ، بمعنى أنّ هذا القطع العقلي قطع طريقي ومع ذلك ليس بحجّة فتسلب الحجّيّة عنه مع الحفاظ على طريقيّته فهذا مستحيل وغير ممكن ؛ لأنّ القطع إذا حصل وتحقّق وكان قطعا طريقيّا فهو منجّز ومعذّر ويستحيل سلب الحجّيّة عنه عندئذ من

ص: 263

باب اجتماع النقيضين أو التفكيك بين الذات والذاتي. أو لزوم الدور والخلف.

وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقلي (1) إن شاء اللّه تعالى.

وسيأتي الحديث عن حجّيّة الدليل العقلي في مباحثه (2).

ص: 264


1- تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.
2- وهنا نضيف شيئا آخر وهو : أنّ ظاهر الأخباريّين هو إنكار حجّيّة الدليل العقلي ؛ لأنّه ليس كاشفا تامّا عن الواقع ، بمعنى أنّ الدليل العقلي غالبا ما يؤدّي إلى الظنّ فقط ؛ وذلك لكثرة الاشتباه والخطأ في الأحكام العقليّة. وعليه ، فالقطع لا يمكن تحصيله من الدليل العقلي ، لا أنّه بعد حصول القطع تبطل حجيّته من باب التحويل أو من باب سلب المنجّزيّة ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوز. فالدليل العقلي ليس حجّة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى القطع. وهذا الدليل يناقش فيه : أوّلا : أنّ الروايات التي ذكروها على ذلك لا تنفع في إثبات المطلوب ؛ لأنّ بعضها ظاهر في الردّ على العامّة الذين اتّخذوا الأدلّة العقليّة حجّة ودليلا ، وبعضها ناظر إلى اشتراط الولاية في صحّة الأعمال ، وبعضها ناظر إلى التأنيب على ترك الفحص عن الأدلّة الشرعيّة ، فإنّه لا يلتجئ إلى العقل إلا بعد اليأس عن وجود الدليل في الكتاب والسنّة. وثانيا : أنّ الاعتماد على العقل الفطري الخالي من الشوائب والأخطاء لا العقل المتأثّر بحالات نفسيّة وموضوعيّة. وتفصيل ذلك خارج عن موضوع هذا الكتاب. مضافا إلى الروايات الكثيرة الآمرة باتّباع العقول وكونها حجّة باطنة لله تعالى.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة

ص: 265

ص: 266

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة

وسنقسّم البحث في الأدلّة المحرزة وفقا لما تقدّم في الحلقة السابقة إلى قسمين :

أحدهما : في الدليل الشرعي.

وهو الدليل النقلي كالكتاب والسنّة والإجماع والسيرة العقلائيّة والمتشرّعيّة والتواتر وخبر الواحد.

والآخر : في الدليل العقلي.

وهو الدليل الحدسي أي الاستنتاجي الاستنباطي الذي يحكم به العقل ، كالمستقلاّت العقليّة وهي مسائل القبح والحسن ، وغير المستقلاّت العقليّة كالملازمات العقليّة من قبيل وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

كما أنّ القسم الأوّل نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعي اللفظي.

كالكتاب والسنّة والأخبار والتواتر.

والآخر : الدليل الشرعي غير اللفظي.

كالسيرة بنوعيها أي فعل المعصوم وتقريره ، والإجماع.

والبحث في الدليل الشرعي :

تارة في تحديد ضوابط عامّة لدلالته وظهوره.

أي في البحث عن الدلالات والظهورات من الألفاظ ، وهذا يشمل مباحث الألفاظ جميعا كالعامّ والمطلق والمفاهيم ، ويشمل الدلالات التصوريّة والاستعماليّة والتصديقيّة ، والدلالات المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة.

وأخرى في ثبوت صغراه ، أي في حيثيّة الصدور.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي هل هو صادر عن المعصوم أو ليس بصادر؟ فالبحث

ص: 267

يقع في إثبات الصدور وهو بحث صغروي ؛ لأنّه بعد إثبات الصدور يقع البحث في تحديد دلالته وظواهره وحجّيّتها.

وثالثة في حجّيّة ظهوره.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي الذي حدّد معناه ودلالته وظهوره ، وبعد أن أثبتنا كونه صادرا يبحث في أنّ هذا الظهور هل هو حجّة أو ليس بحجّة؟

وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.

ص: 268

الدليل الشرعي

اشارة

البحث الأوّل :

تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي

ص: 269

ص: 270

الدليل الشرعي

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي

الدلالات الخاصّة والمشتركة :

هناك في الألفاظ دلالات خاصّة لا تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط تتولاّها علوم اللغة ولا تدخل في علم الأصول.

وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الأصول بوصفها عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، كدلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، ونحو ذلك.

الدلالات الخاصّة : هي مداليل الألفاظ التي لا تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط ، وإنّما تقع عنصرا خاصّا في عمليّة الاستنباط للحكم الشرعي ، فيبحث عنها الفقيه بوصفه من أهل اللغة ، أو يرجع إلى أهل اللغة إن وثق بقولهم ، أو يعتمد على ما يتبادر إلى ذهنه من معنى مدلول لهذا اللفظ. ولذلك لا تدخل مثل هذه الدلالات الخاصّة في علم الأصول ، فهي وإن كان لها تأثير في استنباط الحكم الشرعي إلا أنّها خارجة عن موضوع علم الأصول ؛ لأنّ موضوعه كما تقدّم هو الأدلّة والعناصر المشتركة ، وهي التي لها صلاحيّة للاستنباط في كلّ الأبواب الفقهيّة. وأمّا هذه الدلالات فهي تقع في طريق الاستنباط بوصفها بحثا فقهيّا من قبيل دلالة كلمة :

ص: 271

( الصعيد ) ، فإنّ البحث عن مدلول هذه الكلمة ليس أصوليّا ؛ لأنّ كلمة ( الصعيد ) ليس لها قابليّة للجريان في كلّ الأبواب ، وإنّما تختصّ في باب الصلاة والتيمّم مثلا. ولذلك كان البحث عنها في ذمّة أهل اللغة فيرجع الفقيه إليهم ، أو يبحث هو نفسه عنها إن كان من أهل اللغة ، أو اعتمد على التبادر.

الدلالات المشتركة : هي الدلالات العامّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث تكون لها الصلاحيّة للجريان والتطبيق في كلّ الأبواب على فرض وقوعها فيها. فيقع البحث الأصولي حول دلالتها إن كانت غامضة عند أهل اللغة ، أو يبحث في تحليل وكنه هذه الدلالة إن كانت معلومة عند أهل اللغة.

وهذا من قبيل دلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، فإنّ اللغوي يذكر أنّ هذه الصيغة تدلّ على الوجوب ، إلا أنّ تحليل هذه الدلالة وتفسيرها وهل هي وضعا أو عقلا أو إطلاقا؟ فهذا لا يستفاد من أهل اللغة مع أنّ ذلك له أهميّة كبيرة في كيفيّة الاستفادة من هذه الصيغة ، مضافا إلى أنّ هذه الصيغة تشكّل عنصرا مشتركا بحيث إنّها إذا وقعت في أي باب فقهي كانت لها الصلاحيّة لاستنباط الحكم الشرعي بالوجوب. وهكذا الحال بالنسبة لدلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ اسم الجنس وهو كلمة العالم لم تقيّد بقيد ، فيستدلّ على كون المراد هو الطبيعة بما هي هي المساوقة للإطلاق ، فإنّ هذه الدلالة على الإطلاق هل هي بقرينة الحكمة أو هي بالوضع بأن يكون اسم الجنس موضوعا للطبيعة المطلقة لغة؟ فإنّ ذلك له علاقة وطيدة في الاستنباط فيما إذا وردت هذه الكلمة في مختلف الأبواب.

وقد يقال : إنّ غرض الأصولي إنّما هو تعيين ما يدلّ عليه اللفظ من معنى أو ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدّد معانيه لغة ، وإثبات هذا الغرض إنّما يكون عادة بنقل أهل اللغة ، أو بالتبادر الذي هو عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان بلا حاجة إلى تعمّل ومزيد عناية ، فأي مجال يبقى للبحث العلمي ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولّى ذلك علم الأصول؟!

قد يشكل على ما ذكرناه من كون الدلالات المشتركة يبحث عنها علم الأصول

ص: 272

لكونها عناصر مشتركة بأنّ الغرض منها تعيين المعنى المراد منها ، أو تعيين المعنى الظاهر فيما إذا كان لها عدّة معان في اللغة. وليس هناك غرض آخر للأصولي من بحث هذه الدلالات المشتركة ، فهي كالدلالات الخاصّة يرجع فيها إلى أهل اللغة أو إلى التبادر. فالبحث عن كون صيغة ( افعل ) دالّة على الوجوب ، أو البحث عن كون اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق الغرض من ذلك أصوليّا هو إثبات أنّ صيغة ( افعل ) ظاهرة في الوجوب لا الاستحباب ، وإثبات أنّ اسم الجنس دالّ على الإطلاق.

وهذان البحثان يمكن الرجوع فيهما إلى أهل اللغة إن كان يثق الفقيه بنقلهم ، أو ببحثه كذلك بوصفه من أهل اللغة إن كان عالما باللغة ، أو يرجع إلى التبادر ؛ لأنّه يعيّن المعنى الظاهر والمدلول عليه من اللفظ. وقد تقدّم أنّ التبادر عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان من أهل اللغة والمحاورة ولا تحتاج إلى عناية ومئونة زائدة.

وحينئذ فما هو الداعي والغرض للأصولي من بحثها في علم الأصول وإتعاب نفسه تحليلا وتدقيقا في أنّ الظاهر هو الوجوب من صيغة الأمر أو أنّ اسم الجنس يدلّ على الإطلاق؟! بل إنّ البحث عنها كذلك ليس إلا تكرارا لغوا وتحصيلا للحاصل.

والتحقيق : أنّ البحوث اللفظية التي يتناولها علم الأصول على قسمين : أحدهما البحوث اللغويّة ، والآخر البحوث التحليليّة.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّ البحوث اللفظيّة التي يتناولها علم الأصول لم يبحث عنها في اللغة : إمّا من باب الإهمال والتقصير ، أو من باب خروجها عن موضوع اللغة. ولأجل توضيح ذلك نذكر هذه المقدّمة :

إنّ البحث عن صيغة ( افعل ) أو عن اسم الجنس ونحوهما يمرّ في عدّة مراحل من البحث ، وهي :

1 - البحث عن مدلول هذه الكلمة وتحديد المعنى المستفاد منها ، وهذا بحث لغوي يرجع فيه إلى أهل اللغة أو التبادر.

2 - البحث عن المصاديق والموضوع والأفراد الخارجيّة لهذه الكلمة والمفهوم ، وهذا بحث علمي طبيعي تتولاّه العلوم الطبيعيّة التجريبيّة.

3 - البحث عن حقيقة وكنه وجوهر هذا المفهوم الموجود في الخارج ، وهذا بحث فلسفي يتولاّه فقه اللغة أو فلسفة اللغة.

ص: 273

4 - البحث عن المفهوم وتحليله بما هو هو بقطع النظر عن وجوده الخارجي ، بمعنى البحث عمّا يتألّف منه هذا المفهوم ذاتا أو عرضا ، وهذا البحث يتولاّه علم المنطق.

5 - البحث عن حقيقة وجوهر هذا المفهوم بما هو حاك وكاشف عن الخارج ، أي البحث عن هذا المفهوم المتصوّر في الذهن بما هو حاك عن الخارج ، فالمعنى لهذا المفهوم متصوّر ذهنا إلا أنّ مطابقته للخارج وتفسير هذه المطابقة وتحليلها غير واضحة. وهذا البحث لم يتعرّض له أحد من العلوم المذكورة لا اللغة ولا المنطق ولا الفلسفة ولا الطبيعة ، ولذلك كان من واجب الأصولي التعرّض لهذا البحث لما له من علاقة وطيدة وارتباط وثيق في عمليّة الاستنباط. فإنّ تحليل هذا المفهوم الذهني وكيفيّة ارتباطه بالخارج وحكايته عنه يوصلنا إلى المعرفة الدقيقة للمعنى الموضوع له هذا اللفظ ، أو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ وإن لم يكن موضوعا له لغة.

وحينئذ يكون للبحث الأصولي فائدة كبيرة جدّا حول هذه الألفاظ ؛ لأنّها ترتبط مباشرة في الاستنباط بوصفها عناصر مشتركة.

ولتفصيل ذلك نقول : إنّ البحوث اللفظيّة على قسمين :

الأوّل : البحوث اللغويّة : وهي البحث عن مدلول الكلمة واكتشاف معانيها ، أو تفسير هذه المعاني والكشف عنها.

الثاني : البحوث التحليليّة : وهي البحث عن كيفيّة نشوء هذا المعنى بعد معرفته وتحليل ذلك.

أمّا البحوث اللغويّة : فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنى معيّن ، من قبيل البحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم.

البحوث اللغويّة التي يبحثها الأصولي لأجل اكتشاف دلالة اللفظ على المعنى المعيّن تنقسم إلى قسمين : الاكتشاف المحض والاكتشاف التفسيري. فصيغة الأمر هل تدلّ على الوجوب وكيف تدلّ على الوجوب؟

والجملة الشرطيّة التي تدلّ على المفهوم يراد اكتشاف وتفسير هذه الدلالة الثابتة وجدانا وما هو نوع الربط الذي يفيد المفهوم؟

وأمّا البحوث التحليليّة فيفترض فيها مسبقا أنّ معنى الكلام معيّن ودلالة الكلام

ص: 274

عليه واضحة ، غير أنّ هذا المعنى مستفاد من مجموع أجزاء الكلام على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى يقابله جزء في الكلام.

ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى واضحا ، ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح ، فيبحث بحثا تحليليّا عن تعيين المقابل.

البحوث التحليليّة هي أن يكون اللفظ دالاّ على المعنى ولا شكّ فيه ، والكلام المؤلّف من مجموعة أجزاء واضح المعنى أيضا على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى له جزء من اللفظ ، فمجموع المعنى يستفاد من مجموع الكلام.

غير أنّ هذه المعاني التي يقابلها ألفاظ بعضها واضح وبعضها الآخر فيه غموض ، ولذلك يأتي البحث التحليلي في علم الأصول ليكشف القناع عن هذا الغموض ، وأنّ هذا اللفظ كيف يمكنه أن يدلّ على ذاك المعنى بعد أن ثبت كونه دالاّ عليه بشكل إجمالي؟ فيبحث في تحليل هذه الدلالة وكيفيّة ثبوتها.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفيّة ، فإنّنا حين نقول : ( زيد في الدار ) نفهم معنى الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولة أن ندرك ما يقابل كلمة ( زيد ) وما يقابل كلمة ( دار ) ، وأمّا ما يقابل كلمة ( في ) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف ، وهو ليس بحثا لغويّا ؛ إذ لا يوجد فيمن يفهم العربيّة من لا يتصوّر معنى ( في ) ضمن تصوّره لمدلول جملة ( زيد في الدار ) ، وإنّما هو بحث تحليلي بالمعنى الذي ذكرناه.

من البحوث التحليليّة التي يراد فيها معرفة وتحليل دلالة اللفظ على المعنى بعد معرفة المعنى الحروف والمعاني الحرفيّة.

فمثلا جملة ( زيد في الدار ) تدلّ بمجموعها على معنى واضح ، وهو أنّ زيدا داخل الدار وموجود فيها. وكذلك فإنّ هذا المعنى المستفاد يوجد في الجملة ما يدلّ كلّ جزء فيها من اللفظ على جزء من المعنى على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول. فكلمة ( زيد ) تدلّ بوضوح على ذاك الشخص المعيّن ، وكلمة ( الدار ) تدلّ بوضوح أيضا على ذاك المبنى المعروف. وأمّا كلمة ( في ) الموجودة في الجملة والتي يقابلها جزء من المعنى المستفاد من مجموع الكلام يوجد غموض في دلالتها على الظرفيّة ، فهي تدلّ على الظرفيّة ولكن دلالتها على الظرفيّة ليست بنحو واضح ؛ لأنّ الظرفيّة كمعنى اسمي

ص: 275

ليس مرادفا لكلمة ( في ) بحيث لا يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر ، فكيف دلّت كلمة ( في ) على الظرفيّة إذا؟

ومن هنا يكون البحث حول مدلول كلمة ( في ) على الظرفيّة وفرقها عن استعمال كلمة ( الظرفيّة ) من مباحث علم الأصول ؛ لأنّ هذا البحث يرتبط ارتباطا وثيقا في عمليّة الاستنباط فيما إذا وردت كلمة ( في ) في دليل شرعي ، إذ توجد ثمرات وفوائد عمليّة كما سيأتي في محلّه. فإنّ هذه المعاني الحرفيّة هل الوضع فيها عامّ والموضوع له عامّ أو أنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ؟ والثمرة هي أنّه هل يمكن الإطلاق فيها أو لا؟

وهكذا الحالة بالنسبة لكثير من البحوث كهيئات الجمل التامّة والناقصة ، فإنّ المعنى مختلف فيهما مع أنّ الموادّ التي تتألّف منها الجملتان قد تكون واحدة ، فكيف حصل الاختلاف وما هو المعنى الذي تدلّ عليه هذه الهيئات تفصيلا؟

فإنّ كلّ هذه البحوث لم يتعرّض لها أهل اللغة مع كونها ذا أهميّة في علم الأصول.

ومن الواضح أنّ البحث التحليلي بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرّد التبادر أو نصّ علماء اللغة ، بل هو بحث علمي تولاّه علم الأصول في حدود ما يترتّب عليه أثر في عمليّة الاستنباط ، على ما يأتي (1) إن شاء اللّه تعالى.

وهذا البحث التحليلي لمدلول المعاني لا يمكن الرجوع فيه إلى أهل اللغة ؛ لأنّهم لم يبحثوا ذلك ، ولا يمكن الاعتماد فيه على التبادر ؛ لأنّه عمليّة عفويّة لتعيين المعنى المدلول من اللفظ أو الظاهر عند تعدّد المعاني. ونحن لا نشكّ في المعنى إجمالا ولكن نريد أن نتبيّن حقيقة هذا المعنى ، وكيف يدلّ عليه اللفظ. وهذا البحث العلمي التحليلي تولاّه علم الأصول بالحدود التي يترتّب عليها أثر عملي في عمليّة الاستنباط ، إذ لا يراد من البحث التحليلي هنا التوسّع في كيفيّة نشوء العلاقة بين اللفظ والمعنى وكيفيّة الارتباط بينهما ، وما هو منشأ العلاقة والارتباط ، وكيف تمّ جعل هذه العلاقة اللغويّة ، فإنّ ذلك موكول إلى فلسفة اللغة وفقهها.

فأهل اللغة مثلا قالوا : إنّ الجملة التامّة ما يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها.

ص: 276


1- في نهاية بحث المعاني الحرفيّة ، تحت عنوان : الثمرة.

وهذا المقدار لا يكفي لمعرفة الفارق الجوهري بين الجملتين ؛ إذ متى يحسن السكوت ومتى لا يحسن السكوت؟ وكيف كان السكوت حسنا في هذه دون تلك؟ وما هو المعنى الموجود في كلّ من الجملتين اللتين قد تتّفقان في الألفاظ مع اختلافهما في المعنى؟

وأمّا البحوث اللغويّة فهي يمكن أن تقع موضعا للبحث العلمي في إحدى الحالات التالية :

ذكرنا أنّ المعنى ليس واضحا في البحوث اللغويّة ، بل يراد معرفته واكتشافه وهي على قسمين :

البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة أي اكتشاف المعنى فقط.

والبحوث اللغويّة الاكتشافيّة التفسيريّة أي اكتشاف المعنى مع بيان المناط والملاك الموجود فيه.

الحالة الأولى : أن تكون هناك دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، ويراد إثبات ظهور الكلام في معنى كتطبيق لتلك القرينة الكلّيّة.

الحالة الأولى من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة ، وذلك اعتمادا على دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، فإنّ هذه القرينة إذا تمّت مقدّماتها جميعا في مورد تمّ اكتشاف أنّ هذا المورد يدلّ على الإطلاق. فنحن نريد أن نطبّق هذه الدلالة الكلّيّة لإثبات ظهور الكلام في المعنى المراد اكتشافه بحيث يكون تطبيقا وصغرى لهذه الدلالة الكلّيّة.

فهل هذه الصيغة المعيّنة أو هذه الكلمة الفلانيّة ظاهرة في المعنى المعيّن الذي هو الإطلاق او ليست ظاهرة فيه؟ فإثبات ذلك واكتشاف أنّ المعنى المعيّن يمكن استفادته من اللفظ أو من الصيغة يمكن إثباته بواسطة هذه الدلالة الكلّيّة التي هي قرينة الحكمة ، وذلك فيما إذا كانت مقدّماتها موجودة في هذه الصيغة أو الكلمة.

فعندئذ نحقّق صغرى ومصداقا تطبيقيّا لهذه القاعدة ، فتكون هذه الدلالة الكلّيّة دالّة على المعنى المراد اكتشافه من باب تطبيق القاعدة الكلّيّة على مصاديقها الخارجيّة.

ومثال ذلك : أن يقال بأنّ ظاهر الأمر هو الطلب النفسي لا الغيري ، والتعييني

ص: 277

لا التخييري ، تمسّكا بالإطلاق وتطبيقا لقرينة الحكمة عن طريق إثبات أنّ الطلب الغيري والتخييري طلب مقيّد فينفى بتلك القرينة ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (1) ، فإنّ هذا البحث في التطبيق يستدعي النظر العلمي في حقيقة الطلب الغيري والطلب التخييري ، وإثبات أنّهما من الطلب المقيّد.

مثال ذلك : إثبات أنّ الطلب الظاهر من الأمر هو الطلب الوجوبي لا الاستحبابي ، والطلب النفسي لا الغيري ، والطلب التعييني لا التخييري ، والطلب العيني لا الكفائي. وذلك عن طريق التمسّك بدلالة كلّيّة وهي قرينة الحكمة بحيث تكون مقدّماتها تامّة في الوجوب النفسي والتعييني والعيني وغير تامّة في مقابلاتها ، فإذا تمّت قرينة الحكمة في تلك الموارد أمكن التمسّك بها وتطبيقها عليها لإثبات المذكورات من باب كونها مصداقا للقاعدة الكلّيّة.

إلا أنّ هذا الأمر يتوقّف أوّلا على إثبات أنّ الطلب الوجوبي وأخواته ليس طلبا مقيّدا ، وثانيا إثبات أنّ الطلب الاستحبابي وأخواته من الطلب المقيّد بحيث يحتاج فيه إلى مئونة زائدة وقرينة خاصّة تدلّ عليه ، فإذا ثبت ذلك جرت قرينة الحكمة لنفي القيود في حالة الشكّ في وجودها مع عدم دليل عليها ، وبذلك يثبت الإطلاق في الأمر والذي يدلّ على النفسي و ...

وإثبات ذلك أيضا يحتاج إلى البحث عن حقيقة الطلب الغيري والتخييري ، والاستحبابي والكفائي ، لنرى أنّه هل فيها مئونة زائدة على أصل الطلب بحيث إنّ إرادتها تحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة معيّنة في لسان الدليل أو ليس فيها ذلك؟

وهذا بحث علمي يتولاّه علم الأصول لإثبات أنّها من الطلب المطلق أو من الطلب المقيّد.

فالطلب مدلول للأمر وهذا الطلب له أقسام متعدّدة وهي :

الطلب الوجوبي وهو شدّة الطلب ، ويقابله الطلب الاستحبابي وهو الطلب الضعيف.

الطلب النفسي وهو وجوب الشيء مستقلا عن غيره ، ويقابله الطلب الغيري وهو وجوب الشيء تبعا لغيره من باب الوجوب المقدّمي.

ص: 278


1- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : بعض التطبيقات لقرينة الحكمة.

الطلب التعييني وهو وجوب الشيء بعينه ولا يجزي غيره عنه ، ويقابله الطلب التخييري وهو وجوب هذا أو ذاك على نحو البدليّة.

الطلب العيني وهو وجوب الشيء على الشخص نفسه ، ويقابله الطلب الكفائي أي وجوب الشيء على الجميع ويسقط بفعل بعضهم.

فهنا بواسطة قرينة الحكمة يثبت الطلب بنحو مطلق على أساس نفي القيود الزائدة المشكوك وجودها كما سيأتي. وبهذا الإطلاق نثبت الطلب الوجوبي والتعييني والعيني والنفسي دون تلك الأقسام ؛ لأنّ تلك الأقسام تحتاج إلى مئونة زائدة لا بدّ من ذكرها في الكلام فعدم ذكرها يدلّ على عدم إرادتها.

وأمّا كيف أنّ تلك الأقسام كانت من الطلب المطلق ، وهذه من الطلب المقيّد فهذا بحث يتولاّه علم الأصول لاكتشاف الإطلاق من التقييد.

الحالة الثانية : أن يكون المعنى متبادرا عرفا ومفروغا عن فهمه من اللفظ ، وإنّما يقع البحث العلمي في تفسير هذه الدلالة ، وهل هي تنشأ من الوضع أو من قرينة الحكمة أو من منشأ ثالث؟

الحالة الثانية من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة بمعنى أنّ المعنى المدلول عليه من اللفظ واضح لا إشكال فيه ، استنادا إلى أهل اللغة أو إلى التبادر ، فليس هناك بحث في اكتشاف هذا المعنى ؛ لأنّه مفهوم ومفروغ عنه. وإنّما يقع البحث في تفسير هذه الدلالة وكيف كان هذا اللفظ دالاّ على المعنى المذكور؟ هل هو عن طريق الوضع بأن كان اللفظ موضوعا لغة لهذا المعنى ، أو هو عن طريق قرينة الحكمة ، بأن كان اللفظ دالاّ على الجامع بين هذا المعنى ومعنى آخر ، وكانت دلالته على المعنى الآخر فيها مئونة زائدة منتفية بقرينة الحكمة ، أو أنّ العقل هو الذي يحكم بأنّ اللفظ دالّ على المعنى المذكور؟ فهذا بحث علمي أصولي يختلف الأمر والثمرة فيه باختلاف هذا البحث التفسيري.

ومثال ذلك : أنّه لا إشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم الأصول أنّ هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دالّ آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الإحساس بالتبادر الساذج ، بل لا بدّ من جمع ظواهر عديدة ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

ص: 279

مثال ذلك : أنّ اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق للتبادر ، فقولنا : ( أكرم العالم ) يتبادر أنّه مطلق العالم وليس مختصّا بفرد دون آخر ، وهذا نحسّ به وجدانا وهو معنى التبادر ؛ إذ هو عمليّة عفويّة ساذجة تحصل لكلّ من كان من أهل اللغة. بخلاف قولنا : ( أكرم العالم العادل ) فإنّه لا إشكال في دلالته على التقييد وإرادة بعض الأفراد من العالم لا جميع الأفراد.

إلا أنّ الكلام يقع في أنّ هذا الإطلاق المستفاد من اسم الجنس الخالي من القيد ما هو الملاك والسبب فيه؟ وهل الإطلاق مستفاد لأجل كونه موضوعا لغة ، أو لأجل حكم العقل بذلك ، أو لأجل تطبيق قرينة الحكمة؟

والجواب عن هذا السؤال لا يكفي فيه مجرّد التبادر الساذج ؛ لأنّه يعيّن المعنى فقط ولا يفيدنا في معرفة واستنتاج الملاك والمناط لهذا المعنى بذاك اللفظ.

ولذلك يكون البحث العلمي الأصولي هو الجواب عن هذا التساؤل ، والذي له ثمرة مهمّة في عمليّة الاستنباط بوصف اسم الجنس عنصرا عامّا مشتركا ، ودلالته على الإطلاق وضعا تختلف عنها عقلا أو بقرينة الحكمة.

وحينئذ لا بدّ من البحث العلمي ، وهو يستند على جمع عدد من الظواهر المختلفة التي ورد فيها اسم الجنس ليستكشف من خلالها ملاك دلالته على الإطلاق ؛ كما هو الحال في العلوم التجريبيّة حيث يتمّ تطبيق النظريّة المفروضة على عدد من الظواهر في أوضاع مختلفة زمانا ومكانا وظروفا ، فإن كانت النتيجة واحدة في الجميع كانت النظريّة صحيحة ، وإن اختلفت في مورد لم تكن صحيحة.

وهنا نجمع عددا من الظواهر التي ورد فيها اسم الجنس في مختلف الحالات فمثلا :

1 - استعمال اسم الجنس مع القيد هل يدلّ على المجازيّة أم لا؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على المجاز ، فهذا دليل على أنّ اسم الجنس ليس موضوعا لغة للإطلاق ، وإلا لكان استعماله في غير معناه الذي وضع له مجازا.

2 - استعمال اسم الجنس في مقام الإبهام والإجمال هل يدلّ على الإطلاق؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على الإطلاق ، وهذا دليل على أنّ اسم الجنس في حالات الإجمال وعدم البيان لا يدلّ على الإطلاق.

ص: 280

3 - لما ذا كان العامّ متقدّما على الإطلاق؟

والجواب : أنّ العموم مدلول لفظي لأدوات العموم ، بينما الإطلاق ليس مدلولا لفظيّا لاسم الجنس. بمعنى أنّ العامّ يذكر صريحا العموم ، بينما اسم الجنس لا يذكر الإطلاق. وهذا معناه أنّ الدلالة على الإطلاق سكوتيّة.

4 - لما ذا يفرّق بين اسم الجنس الخالي من القيد في حالات عدم البيان وحالات البيان إذا كان الحاكم بالإطلاق هو العقل؟

والنتيجة : هي أنّه لا يصلح للإجابة عن هذه التساؤلات إلا القول أنّ الإطلاق مدلول لاسم الجنس على أساس قرينة الحكمة التي من مقدّماتها عدم ذكر القيد ، وكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم.

الحالة الثالثة أن يكون المعنى متبادرا ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق الأصولي عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلاّ فنيّا لتلك الشبهة.

الحالة الثالثة من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة أيضا ، وذلك بأن يكون المعنى واضحا ومفهوما لكونه متبادرا إلى الذهن العرفي ، إلا أنّه يوجد في مقابل هذا التبادر العرفي شبهة لا يمكن مع بقائها الأخذ بهذا التبادر ؛ لأنّها تشكّل نقضا عمليّا له ، ولذلك كان لا بدّ من حلّ هذه الشبهة والتوفيق بينها وبين ذاك التبادر ليمكن الأخذ به.

ومثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك نحسّ أيضا أنّ الشرط فيها وإذا لم يكن علّة وحيدة ومنحصرة للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع.

مثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم كقولنا مثلا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فتدلّ بالمفهوم على أنّه إذا لم يأت زيد فلا يجب الإكرام ، وهذه الدلالة على المفهوم نحسّ بها بالتبادر العرفي أي بوصفنا من أهل العرف واللغة والمحاورة ، إلا أنّنا نجد أنّ هذه الجملة الشرطيّة إنّما تدلّ على المفهوم فيما إذا كان الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وإذا لم يكن الشرط علّة تامّة للجزاء فلا مفهوم لها كما في قوله : ( إذا خفي الأذان

ص: 281

فقصّر ) فإنّه لا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّ الشرط ليس العلّة الوحيدة المنحصرة ؛ لأنّ التقصير ثابت مع خفاء الجدران بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

مع أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ليس مجازا ، كالمجازيّة في استعمال الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّه إذا قيل. ( زيد أسد ) ؛ لكونه شجاعا كان استعمالا مجازيّا ؛ لأنّه استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لمناسبة وهي الشجاعة. وفي مقامنا لا يوجد مجازيّة في استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ، مع أنّ التبادر الأوّل الذي يدلّنا على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد كون الشرط علّة تامّة منحصرة معناه أنّ أدوات الشرط موضوعة لغة لذلك.

فكيف يتمّ التوفيق بين هذين المفهومين المتبادرين المتنافيين ، وهما :

التبادر على أنّ الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، والذي معناه كونها موضوعة لذلك لغة.

والتبادر على عدم المجاز في موارد عدم المفهوم ، فإنّه لو كانت موضوعة للمفهوم كيف لم يكن هناك مجاز؟!

ومن هنا يتحيّر الإنسان في كيفيّة التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدّي ذلك إلى الشكّ في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصّل إلى تفسير يوفّق فيه بين الوجدانين.

والنتيجة هي الوقوع في الحيرة أمام هذين الوجدانين المتنافيين ، فهل يأخذ بالوجدان الأوّل ويحكم بالمجازيّة في موارد عدم المفهوم ، أو يأخذ بالوجدان الثاني ويحكم بعدم المفهوم في موارد العلّة التامّة المنحصرة؟ وكلا الأمرين لا دليل عليه وجدانا ، والأخذ بأحدهما وطرح الآخر ترجيح بلا مرجّح. ولذلك يؤدّي الأمر إلى الشكّ في دلالة الجملة على المفهوم أو إلى إنكار المفهوم ما لم يتوصّل إلى حلّ فنّي يوفّق بين الوجدانين.

وهذا الحلّ الفنّي يتولاّه علم الأصول وهو بحث تفسيري توفيقي بعد أن كان المعنى موجودا ، وهذا الحلّ يختلف باختلاف المباني والتصوّرات وعلى أساسه تختلف النتائج والتي تؤثّر في عمليّة الاستنباط ؛ لأنّ الجملة الشرطيّة من العناصر المشتركة في الاستنباط.

وهناك أيضا بعض الحالات الأخرى التي يجدي فيها البحث التحقيقي.

ص: 282

كما في موارد الاستثناء والحصر والعموم وأقسامه والإطلاق وأقسامه ، فإنّ البحث التحليلي أو التفسيري ينفع فيها ؛ لأنّها عناصر مشتركة في الاستنباط.

وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والأسلوب يتناول علم الأصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية ويبحثها لغويّا أو تحليليّا.

ص: 283

ص: 284

المعاني الحرفيّة

ص: 285

ص: 286

المعاني الحرفيّة

المعنى الحرفي مصطلح أصولي تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (1) ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة ، إذ لوحظ منذ البدء أنّ الحرف يختلف عن الاسم المناظر له كما مرّ بنا سابقا ، ففي تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفي وجد اتّجاهان :

المعنى الحرفي مصطلح أصولي يقابل المعنى الاسمي : وهو عبارة عن المعنى الرابط بين شيئين ، بحيث لو فصل عنهما لم يفهم له معنى محدّد. فحقيقته الربط ، ولذا لا يمكن تصوّره مستقلاّ بخلاف المعنى الاسمي. ولذلك كان المعنى الحرفي إيجاديّا ، بمعنى أنّه يوجد معنى في الكلام لم يكن موجودا بخلاف المعنى الاسمي فإنّه إخطاريّ ، أي يعبّر عن المعنى الموجود ويكشف ويحكي عنه فالمعنى موجود قبله.

وهنا يقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة وكيفيّة اختلافها عن المعاني الاسميّة ، وهل أنّ الفارق بينهما جوهري أو عرضي؟

والوجه في نشوء هذا البحث أنّه لوحظ أنّ المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي الموازي له ، فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) الدالاّن على مفهوم الابتداء يختلفان عن بعضهما ، بحيث لا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا يمكن وضع كلمة ( الابتداء ) بين طرفين كما توضع كلمة ( من ). وهذا البحث بحث تحليلي تولاّه علم الأصول لارتباطه بعمليّة الاستنباط ؛ لأنّ هذه المعاني تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ويتأثّر الاستنباط بها تأثّرا ملحوظا.

ومن هنا وجدت عدّة تخريجات لبيان وتحديد المعاني الحرفيّة وإبراز الفارق

ص: 287


1- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

بينها وبين المعاني الاسميّة. ومهمّ هذه الأقوال قولان : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ، وما ذكره المشهور (1).

الاتّجاه الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) (2) رحمه اللّه من أنّ معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتا. وإنّما يختلف عنه اختلافا طارئا وعرضيّا ، ف- ( من ) و ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ حقيقة الحرف لا تختلف اختلافا جوهريّا عن حقيقة الاسم ، فالمعنى الذي يدلّ عليه الحرف هو نفس المعنى الذي يدلّ عليه الاسم الموازي له ، لكن لا بنحو الترادف كما سيأتي توضيحه. نعم ، هناك اختلاف عرضي طارئ عليهما وهو كيفيّة الاستعمال. وأمّا الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فهو واحد فيهما ولا يختلفان إلا بنوعيّة الاستعمال.

فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد وهو كلّي الابتداء ، وإنّما يختلفان في نوعيّة الاستعمال. وتوضيح ذلك :

وهذا المفهوم إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدئ والمبتدأ منه ، إذ لا يمكن وقوع ابتداء في الخارج إلا وهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين.

مفهوم الابتداء إذا لوحظ وجوده في الخارج أي بالحمل الشائع فهذا دائما مرتبط بطرفين هما المبتدئ والمبتدأ منه ، أي المكان الذي حصل منه الابتداء والفاعل الذي فعل الابتداء ، إذ لا يمكن أن يوجد الابتداء في الخارج إلا إذا كان هناك طرفان ؛ لأنّ مصداق الابتداء في الخارج لا يتعقّل إلا بالطرفين. وليس هناك مصداق آخر للابتداء في الخارج يمكن وقوعه من دون الطرفين ، وهذا يعني أنّه لا يمكن أن يلحظ مفهوم

ص: 288


1- نعم ، هناك اتّجاه آخر لكنّه واضح الفساد ، ولذلك أعرض السيّد الشهيد عن ذكره وملخّصه : أنّ المعاني الحرفيّة علاميّة كهيئات الإعراب وعلاماته ، وهذا يعني أنّه ليس لها معنى أصلا وإنّما هي علامة تدلّ وتنبّه على أنّ مدخولها مظروف أو مبتدأ منه ونحو ذلك. ووجه بطلانه أنّه حينئذ يجوز الاستغناء عن الحرف في الجملة ؛ لأنّها ليست متقوّمة به ، ويلزم كون الجملة تامّة بدونه كالحركات الإعرابيّة وعلامات الإعراب. وهذا مخالف للوجدان اللغوي والعرفي ، إذ لا ريب بأنّ الجملة متغيّرة كلّيّا عند وجود الحرف وعند عدم وجوده.
2- كفاية الأصول : 26.

الابتداء في الخارج بالحمل الشائع إلا ضمن الطرفين ، فمعناه متقوّم بالطرفين في الخارج.

وإذا لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود : فتارة يلحظ بما هو ويسمّى باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا لواقعة الخارجي ويسمّى باللحاظ الآلي. وكلمة ( ابتداء ) تدلّ عليه ملحوظا بالنحو الأوّل و ( من ) تدلّ عليه ملحوظا باللحاظ الثاني.

وأمّا إذا لوحظ مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود في الذهن ، فهذا الوجود الذهني لكلّي الابتداء له نحوان من اللحاظ :

فتارة يلحظ مفهوم الابتداء بما هو هو ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدا عن كلّ القيود والخصوصيّات ، فهذا يسمّى باللحاظ النفسي والاستقلالي.

وأخرى يلحظ مفهوم الابتداء بما هو قائم بالطرفين ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الشائع والنظر التصديقي المقيّد بالوجود الخارجي. فهنا يكون لحاظ هذا المفهوم الذهني بما هو حالة قائمة في الطرفين هو عين مفهوم الابتداء الموجود في الخارج ؛ لأنّه قائم بالطرفين غير مستقلّ عنهما. وهذا يسمّى باللحاظ الآلي والربطي.

وحينئذ نقول : إنّ كلمة ( الابتداء ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي الذهني بما هو هو ، أي لحاظه مستقلاّ بالحمل الأوّلي.

وكلمة ( من ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود وحالة في الطرفين ، أي لحاظه آلة ورابطا بالحمل الشائع.

فالفارق بين مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معا.

إذا اتّضح أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) تدلاّن على معنى واحد وهو مفهوم الابتداء الكلّي الموجود في الذهن لا في الخارج. والفارق بينهما إنّما هو في نوعيّة اللحاظ فقط ، فإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو هو فتستعمل كلمة ( ابتداء ) للدلالة على ذلك ، وإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو حالة قائمة في الطرفين فتستعمل كلمة ( من ) للدلالة عليه. وهذا معناه أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه واحد وليس

ص: 289

هناك فارق جوهري بينهما وإنّما الفارق عرضي ، وهو نوعيّة اللحاظ وكيفيّته.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي مقوّم للمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه وقيد فيه ؛ لأنّ ذلك يجعل المعنى أمرا ذهنيّا غير قابل للانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

أمّا الإشكال فهو : أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي في كلمتي ( الابتداء ) و ( من ) معناه أنّ كلمة ( الابتداء ) قد وضعت للدلالة على مفهوم الابتداء واستعملت فيه بما هي مقيّدة باللحاظ الاستقلالي ، فصار هذا اللحاظ الاستقلالي مقوّما للمعنى الذي وضعت له واستعملت فيه ؛ لأنّه دخيل وقيد فيها. ومن الواضح أنّ اللحاظ أمر ذهني من شئون الذهن ، فإذا كان قيدا دخيلا ومقوّما للمعنى صار المعنى أمرا ذهنيّا ؛ لأنّه مقيّد بما هو أمر ذهني وهذا يجعله غير قابل للانطباق على الخارج ، وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ المراد من وضع الكلمات لمعانيها أن تكون حاكية عن المعاني المتحقّقة في الخارج بتوسّط تصوّرها ذهنا ، وإلا لم يكن هناك فائدة وأثر لوضع الألفاظ للمعاني الذهنيّة بما هي مقيّدة بالذهن من دون أن تكون حاكية عن الخارج. فيكون هذا اللحاظ الاستقلالي المقوّم لغوا ومستحيلا ؛ لأنّه يلغي الفائدة من الوضع. وكذلك الحال بالنسبة للّحاظ الآلي في كلمة ( من ).

وإنّما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعيّة المجعولة للواضع.

والجواب عن الإشكال : أنّ نوعيّة اللحاظ من الاستقلالي أو الآلي ليست دخيلة في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه ، وإنّما نحو اللحاظ المذكور دخيل في العلاقة الوضعيّة فقط ، وأمّا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه فهو غير متقوّم وليس مقيّدا بنوع اللحاظ ليلزم المحذور المذكور.

والمقصود من العلاقة الوضعيّة التي يكون اللحاظ دخيلا فيها هي العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى التي يجعلها الواضع ، فالواضع الذي جعل كلمة ( الابتداء ) موضوعة أو مستعملة بمفهوم الابتداء الكلّي الاستقلالي ، أو الذي جعل كلمة ( من ) الموضوعة والمستعملة في الابتداء بما هي حالة في الطرفين ، إنّما جعل هذا اللحاظ قيدا في نفس العلاقة بين اللفظ والمعنى بحيث يكون اللفظ دالاّ على المعنى المقصود ، إذا كانت

ص: 290

العلاقة الوضعيّة بين اللفظ وهذا المعنى ملحوظة باللحاظ الاستقلالي أو الآلي.

فالاستقلاليّة أو الآليّة ولحاظهما دخيل في نفس العلاقة أي نفس وضع اللفظ لهذا المعنى ، فهذه العلاقة التي جعلها الواضع والجاعل أخذ فيها اللحاظ وقيديّته ، بحيث إنّه إذا لم يكن هذا اللحاظ موجودا لم يكن هناك علاقة وضعيّة أصلا فيكون اللفظ مهملا من دون وضع أصلا. وبهذا يتّضح أنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه اللفظ لم يكن مقيّدا باللحاظ ليكون أمرا ذهنيّا ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، ولذلك يكون حاكيا ومنطبقا على الخارج. نعم ، العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى كانت مقيّدة باللحاظ فإذا وجد اللحاظ كان اللفظ موضوعا أو مستعملا في المعنى ، وإذا انتفى اللحاظ لم يكن للّفظ أيّ معنى أصلا ولم يكن موضوعا أو مستعملا لشيء من المعاني فيكون مهملا. ويترتّب على ذلك عدم المجازيّة ، وتوضيحه :

فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالي استعمال في معنى بلا وضع ؛ لأنّ وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة ، لا استعمال في غير ما وضع له.

وقد يشكل بأنّ كلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) ما دامتا موضوعتين ومستعملتين في معنى واحد مفهوم وارد وهو مفهوم الابتداء الكلّي ، والفارق بينهما إنّما هو بنوعيّة اللحاظ وكيفيّته والتي هي خارجة عن المعنى ، فهذا لازمه أنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر كالمترادفين مثلا من دون مجازيّة أصلا كأسد وليث ، أو يقال : إنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، ولكن بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا للّفظ في غير ما وضع له.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين فاسد ؛ لوضوح أنّه لا يقال : ( سار زيد ابتداء البصرة ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز.

وجوابه : أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) موضوعتين لمعنى واحد والاختلاف بينهما في نوعيّة اللحاظ ، ومع ذلك فلا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، لا بنحو الترادف ولا بنحو المجازيّة ، ولا منافاة بين الأمرين ؛ وذلك لأنّ نوعيّة اللحاظ تمنع من ذلك.

وتوضيحه : أنّنا ذكرنا أنّ الواضع عند ما يريد أن يجعل العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى يأخذ في هذه العلاقة الوضعيّة قيدا ، وهو أنّه عند ما يريد أن يضع كلمة ( من )

ص: 291

للابتداء ويستعملها فيه إنّما تكون دالّة عليه وموضوعة له ومستعملة فيه فيما إذا كان اللحاظ الآلي لهذا المفهوم هو المقصود. وهذا يعني أنّ كلمة ( من ) إنّما تكون موضوعة فيما إذا كان اللحاظ الآلي هو المقصود منها ، وأمّا إذا لم يكن اللحاظ الآلي هو المقصود منها فهي كلمة ولفظة مهملة بلا وضع. فالعلاقة الوضعيّة بين ( من ) والابتداء كمفهوم آلي مقيّدة ومتقوّمة باللحاظ الآلي ، فإذا انتفى اللحاظ الآلي انتفت العلاقة الوضعيّة ، وانتفاؤها معناه أنّ كلمة ( من ) لا وضع لها فهي مهملة ككلمة ( ديز ) مثلا.

وحينئذ لا يمكننا استعمال كلمة ( من ) مكان كلمة ( الابتداء ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا لكلمة من دون أن تكون موضوعة لمعنى أصلا ، ومن المعلوم أنّ الكلمة التي لم توضع لمعنى أصلا لا يجوز استعمالها لا حقيقة ولا مجازا.

فكما لا يصحّ استعمال كلمة ( ديز ) مكان كلمة ( زيد ) في قولنا : ( جاء زيد ) ؛ لأنّها كلمة مهملة لا وضع لها ، فكذلك لا يصحّ استعمال كلمة ( الابتداء ) مكان كلمة ( من ) في قولنا : ( سار زيد من البصرة ) ؛ لأنّ كلمة الابتداء عند عدم اللحاظ الاستقلالي لا وضع لها أصلا.

ففرق بين استعمال الكلمة التي لا وضع لها وبين استعمال الكلمة في غير ما وضعت له.

فالاستعمال الأوّل غير صحيح ؛ لأنّ الكلمة التي لا وضع لها تكون مهملة وهي لا تستعمل في الكلام لا حقيقة ولا مجازا.

بينما الاستعمال الثاني يصحّ مجازا فيما إذا كان هناك علاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي كقولنا : ( العالم بحر ، والرجل الشجاع أسد ). وبهذا ظهر أنّ المعنى في الكلمتين واحد ولكن نوع اللحاظ فيهما مختلف ، فالفارق بينهما عرضي وطارئ وليس جوهريّا.

والاتّجاه الثاني : ما ذهب إليه مشهور المحقّقين (1) بعد صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الحرفي والمعنى الاسمي متباينان ذاتا ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفيّة

ص: 292


1- أجود التقريرات 1 : 14 - 16 ، مقالات الأصول 1 : 89 - 91 ، المحاضرات 1 : 59 - 67.

اللحاظ فقط ، بل إنّ الاختلاف في كيفيّة اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين ، على ما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

ذهب مشهور المحقّقين بعد صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ المعنى الحرفي يختلف اختلافا جوهريّا عن المعنى الاسمي ، بحيث إنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف يختلف ذاتا عن المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الاسم. وليس الاختلاف بينهما عرضيّا في كيفيّة اللحاظ من الآلية والاستقلالية ، بل هذا الاختلاف في كيفيّة اللحاظ مسبّب وناتج عن ذاك الاختلاف الذاتي الجوهري بين المعنيين ؛ لأن الاختلاف في مرحلة الاثبات والدلالة يكشف ويحكي عن وجود فارق أعمق وجوهري في مرحلة الثبوت والواقع.

وعلى هذا الأساس لم يكن استعمال أحدهما مكان الآخر صحيحا لا حقيقة ولا مجازا ؛ للتباين بين المعنيين. فإن التباين بينهما يحول دون صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا علاقة ولا مناسبة بينها أبدا. والاستعمال المجازي يفترض وجود مناسبة ونحو علاقة بين المعنيين وهنا لا يوجد ذلك.

وأمّا تصوير هذا الفارق الجوهري بين المعنيين الحرفي والاسمي بعد الاتّفاق على وجوده فقد اختلفت كلمات المشهور في بيانه على أقوال متعدّدة كما سيأتي.

أمّا الاتّجاه الأوّل فيرد عليه : أنّ البرهان قام على التغاير السنخي والذاتي بين معاني الحروف ومعاني الأسماء. وملخّصه :

يرد على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) - من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء إنّما هو عرضي وطارئ ؛ لأنّه في كيفيّة اللحاظ فقط - أنّ البرهان دلّ على أنّ التغاير سنخي وذاتي. فالمعاني الحرفيّة سنخ معان تختلف بذاتها وحقيقتها عن المعاني الاسميّة ، فالمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف بذاته مغاير للاسم. وهذا الاختلاف الذي ذكره الآخوند يكشف عن وجود فارق جوهري ، وليس هو وحده الفارق بينهما ، بل هو يعبّر عن الاختلاف الذاتي والسنخي بين الحرف والاسم. والبرهان على ذلك هو :

أنّه لا إشكال في أنّ الصورة الذهنيّة التي تدلّ عليها جملة ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) مترابطة ، بمعنى أنّها تشتمل على معان مرتبطة بعضها ببعض ،

ص: 293

فلا بدّ من افتراض معان رابطة فيها لإيجاد الربط بين ( السير ) و ( زيد ) ، و ( البصرة ) و ( الكوفة ).

البرهان يتألّف من عدّة مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إذا أخذنا الجملة التالية : ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) نجد أنّ الصورة الذهنيّة التي تحصل عندنا من خلال هذه الجملة مترابطة فيما بينها وليست مفكّكة ومبعثرة. وهذا يعني أنّ الجملة تحتوي وتشتمل على معان مترابطة بعضها ببعض ، فالسير والبصرة والكوفة وزيد وهي المعاني الموجودة في الجملة قد انتقلت إلى ذهننا بصورة واحدة مرتبطة فيما بينها. وهذا يعني أنّه يوجد في الجملة معان رابطة هي التي ربطت بين هذه المعاني المفكّكة ورتّبتها بشكل منتظم أدّى إلى حصول صورة ذهنيّة واحدة ، فإذا يوجد في الجملة معان رابطة هي التي سبّبت وأوجدت الربط بين المعاني المفكّكة ، إذ لو لا هذه المعاني الرابطة لم يكن هناك صورة واحدة ، بل كان لدينا صور متعدّدة مفكّكة وهي : السير وزيد والبصرة والكوفة لا ربط فيما بينها. فإنّ هذه المعاني وحدها لا تفيد صورة واحدة مرتبطة ، وإنّما الذي أفاد ذلك هو وجود كلمتي ( من ) و ( إلى ) في الجملة.

وهذه المعاني الرابطة إن كانت صفة الربط عرضيّة لها وطارئة ، فلا بدّ أن تكون هذه الصفة مستمدّة من غيرها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وبهذا ننتهي إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها.

المقدّمة الثانية : أنّ هذه المعاني الرابطة إمّا أن تكون صفة الربط فيها عرضيّة وإمّا أن تكون ذاتيّة.

فإن كانت صفة الربط فيها ذاتيّة فتبيّن أنّه يوجد معان رابطة بذاتها ، أي أنّ حقيقتها وذاتها هي الربط.

وإن كانت صفة الربط فيها عرضيّة فهذا يعني أنّ هذه المعاني الرابطة اكتسبت صفة الربط من غيرها ، بحيث إنّ صفة الربط هذه كانت موجودة وثابتة لذات غيرها هي التي أعطتها هذه الصفة.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الذات الأخرى التي ثبت لها صفة الربط هل هذه الصفة ذاتيّة لها أو عرضيّة فإن كانت ذاتيّة ثبت المطلوب ، وإن كانت عرضيّة عاد السؤال

ص: 294

إلى تلك الذات الأخرى ، وهكذا إلى أن يلزم التسلسل وهو ممتنع باطل. فلا بدّ أن ننتهي إذا إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات ، كما هو مسلّم عندهم في الحكمة وإلا لزم التسلسل الممتنع. وهكذا نصل إلى أنّ هذه المعاني الرابطة الربط فيها عين حقيقتها وذاتي لها لا ينفكّ عنها أبدا ؛ لأنّه يستحيل التفكيك بين الذات والذاتي.

وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتيّا له ؛ لأنّ ما كان الربط ذاتيّا ومقوّما له - وبعبارة أخرى عين حقيقته - يستحيل تصوّره مجرّد عن طرفيه ؛ لأنّه مساوق لتجرّده عن الربط ، وهو خلف ذاتيّته له ، وكلّ مفهوم اسمي قابل لأن يتصوّر بنفسه مجرّدا عن أي ضميمة.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذه المعاني الرابطة والتي صفة الربط فيها ذاتيّة لا تنفكّ عنها ، إمّا أن تكون معاني اسميّة أو معاني حرفيّة ، ولا يمكن أن تكون معاني اسميّة إذا فيتعيّن كونها معاني حرفيّة.

أمّا أنّها ليست معاني اسميّة فلأنّ المعاني الاسميّة ليس شيء منها يكون الربط فيها ذاتيّا ؛ وذلك لأنّ الربط الذاتي هو ما يكون مقوّما للمعنى ؛ لأنّه إمّا أن يكون جنسا أو فصلا وكلاهما من المقوّمات الذاتيّة للشيء لا يمكن انفكاكها عنه ، فهنا الربط ذاتي ومقوّم فهو عين حقيقة الشيء ، بحيث إنّه يستحيل تصوّر الشيء منفكّا ومجرّدا عن الطرفين. وهذا يعني أنّ هذه المعاني يمكن أن تتجرّد وتنفكّ عن الربط ، وهذا خلف كون الربط ذاتيّا ، فما دام الربط ذاتيّا لهذه المعاني الرابطة فمعناه أنّه يستحيل انفكاكه عنها ويستحيل تصوّرها بدونه. وحينئذ نقول : إنّ المعاني الاسميّة لا يمكن أن تكون معاني رابطة ؛ لأنّها قابلة لأن تتصوّر بنفسها وقابلة لأن تتصوّر ضمن الجملة ، أي يمكن تصوّرها مستقلّة عن أي ضميمة أخرى ، ويمكن تصوّرها منضمّة إلى غيرها. وهذا يعني أنّها تتجرّد عن الربط فالربط ليس ذاتيّا لها ، نعم قد يعرض الربط عليها بضميمة شيء آخر.

وهذا يثبت أنّ المفاهيم الاسميّة غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتيّا لها ، وهذه المعاني هي مداليل الحروف ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ على تلك المعاني بعد استثناء الأسماء إلا الحروف.

ص: 295

النتيجة : بعد أن ثبت وجود معاني رابطة والربط ذاتي لها ، وثبت أنّ الأسماء ليست هي المعاني الرابطة نصل إلى النتيجة القائلة بأنّ المعاني الرابطة هي مداليل الحروف ومعانيها ؛ لأنّه لا يوجد لدينا إلا الأسماء والحروف. ولمّا ثبت بالبرهان في المقدّمة الثالثة أنّ الأسماء ليست هي تلك المعاني الرابطة تعيّن أن تكون الحروف هي تلك المعاني الرابطة ، ويكون الربط ذاتيّا لها وعين حقيقتها ولا ينفكّ عنها أبدا.

وبهذا ظهر الفارق الجوهري والحقيقي بين الأسماء والحروف ، فالأسماء تدلّ على معان استقلاليّة بينما الحروف تدلّ على معان رابطيّة ، فالموضوع له والمستعمل فيه الحرف يختلف بذاته وجوهره وحقيقته عن الاسم ، خلافا لصاحب ( الكفاية ).

وحتّى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتي النسبة والربط ليسا من المعاني الحرفيّة ، بل من المعاني الاسميّة ، لإمكان تصوّرهما بدون أطراف.

مفهوم النسبة والربط مفهومان ذهنيّان مدلولان لكلمتي النسبة والربط ، وليسا من المعاني الحرفيّة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المعاني الحرفيّة هي المعاني الرابطة التي يكون الربط فيها ذاتيّا ، ولا يمكن انفكاكه عنها ولا يمكن أن تتصوّر مجرّدة عنه.

وهنا النسبة والربط بما هما مفهومان ذهنيّان من المعاني الاسميّة ؛ لأنّنا يمكن أن نتصوّرهما من دون الطرفين في الخارج ، بل نتصوّر النسبة والربط ونحكم عليهما في الذهن بما نشاء من أحكام ، فنقول مثلا : النسبة موجودة أو الربط ليس موجودا. وهذا يعني تصوّرهما مستقلّين عن الأطراف ، فهما ليسا من المعاني الحرفيّة وإلا لاستحال تصوّرهما من دون الطرفين.

وهذا يعني أنّهما ليسا نسبة وربطا بالحمل الشائع وإن كانا كذلك بالحمل الأوّلي.

مفهوم النسبة والربط بالحمل الشائع ليسا نسبة وربطا ، بينما النسبة والربط بالحمل الأوّلي نسبة وربط.

وتوضيح ذلك : أنّ الحمل الشائع هو المصداق الخارجي للشيء ، أي ملاحظة الشيء بما هو مقيّد بالوجود الخارجي ، وهنا مفهوم النسبة ومفهوم الربط بما هما مفهومان ذهنيّان قلنا : إنّه يمكن تصوّرهما مستقلّين عن الطرفين. وهذا يعني أنّهما ليسا مصداقين للنسبة والربط ؛ لأنّ النسبة والربط بالحمل الشائع ، أي بقيد الوجود الخارجي

ص: 296

يستحيل انفكاكهما عن الطرفين ، إذ لا يمكن وجود نسبة وربط في الخارج إلا ضمن الطرفين ، فهما ليسا مصداقين للنسبة والربط بالحمل الشائع ؛ لأنّهما يتصوّران بدون طرفين.

وأمّا الحمل الأوّلي وهو حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات فالنسبة نسبة والربط ربط ، أي أنّ مفهوم النسبة نسبة بالحمل الأوّلي ومفهوم الربط ربط بالحمل الأوّلي ، أي من باب حمل الشيء على نفسه ، فإنّ الشيء مصداق أوّلي لنفسه فيحمل عليه ، كما يقال : الإنسان إنسان بالحمل الأوّلي ، ويقال : زيد إنسان بالحمل الشائع.

وقد مرّ عليك في المنطق أنّ الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع كالجزئي ، فإنّه جزئي بالحمل الأوّلي ولكنّه كلّي بالحمل الشائع.

وهذا نظير ما تقدّم في المنطق من أنّ الشيء يحمل على نفسه بالحمل الأوّلي ؛ لأنّه يصدق على نفسه ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، أي قد لا يكون مصداقا خارجيّا لنفسه ، فمثلا الجزئي وهو ما لا ينطبق على كثيرين أو ما يمتنع انطباقه على كثيرين ، فيمكن أن يقال : الجزئي جزئي بالحمل الأوّلي ، أي أنّ الجزئي كمفهوم يصدق على نفسه أوّلا وبالذات ؛ لأنّ الشيء يحمل حملا أوّليا على نفسه كالإنسان إنسان.

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ الجزئي جزئي بالحمل الشائع ؛ لأنّ مفهوم الجزئي وهو عنوان ما يمتنع صدقه على كثيرين ليس مصداقا حقيقيّا للجزئي الموجود في الخارج ؛ لأنّ الجزئي الموجود في الخارج جزئي حقيقي يمتنع صدقه على كثيرين. بينما مفهوم الجزئي في الذهن ليس جزئيّا ، بل كلّيّا ؛ لأنّه يصدق على كثيرين بما هو مفهوم.

فالجزئي كلّي بالحمل الشائع أي مصداق من مصاديق الكلّي ؛ لأنّ الجزئي كمفهوم ذهني لديه مصاديق عديدة ينطبق عليها ، فزيد جزئي وعمرو جزئي وهكذا.

وأمّا بالنسبة لمفهوم الكلّي فهو يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ويصدق على نفسه أيضا بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي كلّي بالحمل الأوّلي أي من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات. والكلّي كلّي بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي مصداق حقيقي في الخارج للكلّي كالإنسان ، فإنّه مفهوم كلّي وله مصاديق عديدة أيضا.

ص: 297

وهذا البيان كما يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحّة الاتّجاه الثاني إجمالا ، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :

فهذا البرهان يبرهن على عدم صحّة ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء عارض وطارئ وليس جوهريّا ؛ لأنّنا أثبتنا أنّ التغاير ذاتي بينهما. وهذا يعني أنّ الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه المشهور هو الصحيح ولكن بالجملة. والمقصود من قيد ( بالجملة ) أنّ التغاير الذاتي الذي ذكره المشهور صحيح ، إلا أنّ بيان هذا التغاير الذاتي وما هي حقيقة الحروف واختلافها جوهريّا عن الأسماء؟ فقد ذكر المشهور عدّة بيانات لذلك كلّها غير صحيحة (1).

والصحيح يحتاج إلى بيان عدّة مراحل فنقول :

المرحلة الأولى : أنّا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :

الأوّل : مفهوم بإزاء النار.

والثاني : مفهوم بإزاء الموقد.

ص: 298


1- ولا بأس بالإشارة إليها مختصرا قبل البدء في بيان الوجه الصحيح فنقول : ذهب المحقّق النّائينيّ إلى أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بينما المعاني الاسميّة إخطاريّة. وفسّر ذلك بعض مقرّري بحثه بأنّ الحرف يوجد معناه في مرحلة تقرّره ووجوده ، بينما الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود وإنّما يخطره في الذهن فقط. وذهب : المحقّق العراقي إلى أنّ المعاني الاسميّة تدلّ على الجواهر وبعض الأعراض ، بينما المعاني الحرفيّة تدلّ على الأعراض الإضافيّة التي تحتاج إلى موضوعين وطرفين ، حيث قسّم الوجود إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يحتاج إلى موضوع واحد وما يحتاج إلى موضوعين ، وأنّ العرض مع موضوعه لا بدّ من رابط بينهما ، وهذا الرابط هو المعاني الحرفيّة. وذهب السيّد الخوئي إلى أنّ المعاني الحرفيّة معان تحصّصيّة بخلاف المعاني الاسميّة ، فالمعاني الحرفيّة تحصّص المفهوم القابل للتحصيص وتضيّقه بحصّة معيّنة كقولنا : ( زيد في الدار ) فإنّه يدلّ على حصّة خاصّة من الظرفيّة لا على مفهوم الظرفيّة بما هو هو ، بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها تدلّ على المفهوم بما هو هو من دون تحصيص ، فنقول مثلا : الظرفيّة واسعة. وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة لوجود الرابط الخارجي ، بينما المعاني الاسميّة موضوعة لوجود الرابط الذهني. ومقصوده من ذلك : أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة للنسبة الاستهلاكيّة سواء وجدت في الذهن أو في الخارج بخلاف المعاني الاسميّة.

والثالث : مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار والموقد.

المرحلة الأوّل تتألّف من عدّة أمور :

الأمر الأوّل : أنّنا إذا شاهدنا حادثة تكوينيّة معيّنة كالنار الموجودة في الموقد في الخارج فيمكننا أن نحلّل هذه الواقعة إلى عدّة صور ومفاهيم ترتسم في الذهن من خلال مواجهتنا لها رغم أنّه في الخارج يوجد ارتباط واتّحاد بين هذه المفاهيم والصور ، ممّا يعني أنّه يوجد مفهوم واحد وصورة واحدة إلا أنّها بالتحليل الذهني تنتج عدّة صور ومفاهيم ، وهي :

1 - مفهوم بإزاء النار الموجودة في الخارج ، أي صورة ذهنيّة للنار الخارجيّة مجرّدة عن الوجود الخارجي وقيوده وخصوصيّاته.

2 - مفهوم بإزاء الموقد الموجود فعلا في الخارج ، وهي الصورة الذهنيّة للموقد لا الموقد نفسه.

3 - مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة القائمة بين النار والموقد ، وهي الصورة الذهنيّة الناشئة من كون النار في الموقد ، وهي تنشأ من خلال ارتباط هذين المفهومين معا واتّحادهما في محلّ واحد. بمعنى أنّ الموقد كان ظرفا ووعاء لحلول النار فيه ، فهناك نسبة ارتباطيّة بين النار والموقد ، وعلاقة خاصّة حدثت وهي الظرفيّة.

غير أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيّين ، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن.

الأمر الثاني : أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن هو التمكّن بواسطتهما من الحكم على النار والموقد الموجودين في الخارج ؛ لأنّ الحاكم عند ما يريد أن يحكم على الخارج يأتي بالصورة الذهنيّة التي تكون حاكية عن الخارج ، وبتوسّط هذه الصورة يتمّ الحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن وهو لا يتعلّق إلا بالصورة الذهنيّة لا الخارج مباشرة ؛ لأنّه لا سنخيّة بين الحكم وموضوعه عندئذ.

فلكي تتحقّق السنخيّة بين الحكم وموضوعه يجب أن يكون الموضوع ذهنيّا وليس هو إلا الصورة الذهنيّة للخارج لا الخارج نفسه ، وليس الغرض من إحضار مفهوم النار

ص: 299

والموقد إحضار الخصائص والصفات التي تتقيّد بها النار والموقد في الخارج ، إذ يستحيل الإتيان بهذه الخصائص في الذهن.

وواضح أنّه يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن نارا بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي لما تقدّم (1) منّا سابقا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.

إذا الغرض المذكور من إحضار مفهومي النار والموقد إلى الذهن ، وهو إصدار الحكم على الخارج بتوسّطهما ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، أي النار بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدة عن الوجود الخارجي وخصوصيّاته لا النار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ لأنّها مخالفة للصورة الذهنيّة وغير مطابقة لها بينما تلك عينها ومطابقة لها.

كما تقدّم سابقا حيث ذكرنا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج أن يكون الحاضر في الذهن هو المفهوم بالحمل الأوّلي لا الحمل الشائع.

وأمّا الغرض من إحضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجيّة والربط المخصوص بين النار والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ؛ لكي يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم في الذهن.

الأمر الثالث : أنّ الغرض من إحضار المفهوم الثالث وهو النسبة والعلاقة الخاصّة بين النار والموقد الخارجيّين هو أن يكون هناك نسبة حقيقيّة في الذهن وربطا حقيقيّا كذلك ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة الموجودة في الذهن لا يحصل الارتباط بينها إلا إذا كان هناك نسبة وربط حقيقي.

فمفهوم النار والموقد الذهنيّين لا يمكن أن يكونا مرتبطين في الذهن إلا إذا كان هناك معنى رابط في الذهن ، وهو عين النسبة والربط. فكان الغرض من إحضار مفهوم النسبة والربط في الذهن الحصول على الربط الحقيقي بين هذين المفهومين الذهنيّين.

فكما أنّ الطرفين في الخارج يحتاجان إلى نسبة وربط فكذلك الطرفان الموجودان في الذهن يحتاجان إلى مفهوم رابط.

ص: 300


1- ضمن بحث الحكم الشرعي وتقسيماته من بحوث التمهيد.

ولا يكفي أن يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي - أي مفهوم النسبة - وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا.

الأمر الرابع : أنّ إحضار مفهوم الربط والنسبة كان الغرض منه إحضار حقيقة الربط والنسبة في الذهن ؛ لكي يحصل الارتباط بين المفاهيم الذهنيّة. وهذا المفهوم لا يكفي فيه أن يكون نسبة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ لأنّ النسبة بهذا المعنى إنّما هي مفهوم النسبة والذي هو معنى استقلالي يمكن تصوّره مجرّدا عن حقيقة الطرفين والربط المخصوص.

وهذا يعني أنّ مفهوم النسبة الحاضرة في الذهن كان صورة ذهنيّة تحكي عن النسبة الخارجيّة الواقعيّة الحقيقيّة القائمة بين الطرفين ، وهذه النسبة لا يمكن أن تربط بين شيئين ؛ لأنّها ليست نسبة حقيقيّة وإنّما هي صورة ذهنيّة للنسبة فقط.

ولذلك فلا بدّ أن يكون هذا المفهوم المنتزع بإزاء النسبة نسبة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، أي نسبة حقيقيّة متقوّمة بالربط بين الطرفين بحيث يستحيل سلب الربط عنها.

وهذا يعني أنّها نسبة بالمعنى الحرفي ، أي أنّ حقيقتها وجوهرها الربط والطرفان ، وعندئذ تكون هذه النسبة الحقيقيّة الحاضرة في الذهن رابطة بين المفاهيم الذهنيّة ؛ لأنّها لا تتصوّر من دون الربط الحقيقي والطرفين فتصوّرها في الذهن وإحضارها فيه يعني وجود نسبة حقيقيّة في الذهنيّة متقوّمة بالطرفين ، أي مفهومي النار والموقد الذهنيّين.

وبذلك يتّضح أوّل فرق أساسي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وهو أنّ الأوّل سنخ مفهوم يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري. والثاني سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

الأمر الخامس : وهو أنّ الفارق الأساسي الأوّل بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هو أنّ المعاني الاسميّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن هو الحكم بواسطته على الخارج ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن مطابقا للخارج وعينه بالحمل

ص: 301

الأوّلي والنظر التصوّري ، أي أن يكون الشيء مجرّدا عن خصائص الوجود وقيوده ، بحيث يكون ما في الذهن وهو الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج بعد تجريده عن خصائص الوجود الخارجي. وهذا يتمّ بتصوّره بالحمل الأوّلي ، فيكون المفهوم الحاضر في الذهن مطابقا للصورة الذهنيّة أيضا ؛ لأنّ الحاضر في الذهن هو مفهوم الشيء المجرّد بما هو هو.

وأمّا المعاني الحرفيّة فإنّ الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون هناك مطابقة وعينيّة حقيقيّة ، بأن يكون ما في الذهن عين ما هو في الخارج ، وهذا لا يتحقّق إذا كان المفهوم متصوّرا بالحمل الأوّلي ، بل لا بدّ أن يكون عين ما في الخارج حاضرا بنفسه لا بصورته إلى الذهن.

وبتعبير آخر : أن يكون ما في الخارج مطابقا لما في الذهن ، بأن يكون حاضرا في الذهن مع كلّ خصائصه الخارجيّة. وهذا إنّما يتمّ إذا كان المفهوم مصداقا حقيقيّا للخارج بقيوده وخصائصه ، فيكون ما في الذهن حاكيا عن الخارج ؛ لأنّه عين حقيقته الخارجيّة.

والحاصل : أنّ المعاني الاسميّة إنّما تكون عين الخارج إذا جرّد من خصائصه ولوحظ بما هو هو أي بالحمل الأوّلي ، وإلا فإنّ المفهوم الذهني ليس مطابقا للخارج بالحمل الشائع ؛ لأنّه ليس مصداقا حقيقيّا له.

بينما المعاني الحرفيّة فهي تكون عين الخارج بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع معا ؛ لأنّ ما هو موجود في الذهن هو عين الخارج بقيوده وخصائصه لأنّه مصداق حقيقي له ، وليس مجرّد صورة ومفهوم يحكي عنه فقط. فإنّ الخارج عين ما في الذهن بكلّ خصائصه وقيوده.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة المعاني الحرفيّة ، بأن يراد بإيجاديّة المعنى الحرفي كونه عين حقيقة نفسه ، لا مجرّد عنوان ومفهوم يري الحقيقة تصوّرا ويغايرها حقيقة.

وما ذكرناه من أنّ المعاني الحرفيّة الغرض من إحضار مفهومها في الذهن أن تكون عين الحقيقة الخارجيّة لا مجرّد صورة وعنوان حاك عنها ، يعتبر معنى عميقا جدّا للقول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة بالمصطلح الأصولي المتعارفة.

ص: 302

إذ يراد من الإيجاديّة هنا أنّها نفس الخارج وحقيقته وليست عنوانا حاكيا عن الخارج تصوّرا وبالحمل الأوّلي ، ولكنّه يكون مغايرا للخارج بالحقيقة وبالحمل الشائع. فالمعاني الحرفيّة إيجاديّتها بمعنى كونها مطابقة للخارج تصوّرا وتصديقا بالحمل الأوّلي وبالحمل الشائع.

فالنسب والروابط الذهنيّة متقوّمة بطرفيها في الذهن أيضا ، بحيث إنّها تحضر إلى الذهن مع الطرفين ويستحيل انفكاكها وتجرّدها عن الطرفين ، وهذا يعني أنّ ما في الذهن من نسب وروابط هو عين الخارج ونفسه وليس شيئا آخر يغايره.

والأنسب أن تحمل إيجاديّة المعاني الحرفيّة التي قال بها المحقّق النائيني (1) على هذا المعنى ، لا على ما تقدّم في الحلقة السابقة (2) من أنّها بمعنى إيجاد الربط الكلامي.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ المعاني الاسميّة معان إخطاريّة بينما المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وفسّر كلامه بأنّ الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود ومتحقّق قبله في مرحلة سابقة عن اللفظ ، وإنّما اللفظ يخطر المعنى في الذهن ويحضره فيه. بينما الحرف يوجد معناه فلا معنى للحرف قبل وجوده ، ولذلك فهو لا يخطر ولا يحضر المعنى الذي كان موجودا ، إذ لا وجود للمعنى قبله ، وإنّما الحرف يوجد المعنى بوجوده اللفظي.

والأنسب أن تحمل الإيجاديّة التي ذكرها المحقّق النائيني على ما ذكرناه من أنّ الحرف سنخ معنى يراد به أن يكون عين الحقيقة تصوّرا وتصديقا لا تصوّرا فقط.

وأمّا بناء على الإيجاديّة بمعنى الربط الكلامي بين الطرفين فلا يمكن أن يتعقّل معنى للحروف وإن وجدت في الكلام ؛ لأنّه إذا لم يكن لها معنى في مرحلة سابقة عن الكلام فكيف استعمل لفظ لا معنى له وبعد استعماله صار له معنى؟! ولما ذا لا يتمّ ذلك في كلّ الألفاظ التي لا معنى لها في مرتبة سابقة؟

إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال لفظ لا معنى له في الكلام ؛ لأنّ الغاية من وضع الألفاظ واستعمالها كونها حاكية عن المعاني الموضوعة لها ، إذ لا يتكلّم إنسان

ص: 303


1- فوائد الأصول 1 : 37.
2- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

بالألفاظ جزافا وإنّما يعبّر بالألفاظ عمّا يجول في خاطره من معان كما هو واضح بالبداهة.

المرحلة الثانية : أنّ تكثّر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفيّة مثلا لا يعقل إلا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا ، كما في نسبة ( النار ) إلى ( الموقد ) ونسبة ( الكتاب ) إلى ( الرفّ ) ، أو موطنا كما في نسبة الظرفية بين ( النار ) و ( الموقد ) في الخارج وفي ذهن المتكلّم وفي ذهن السامع.

وهنا أمور :

الأمر الأوّل : ذكرنا أنّ النسبة التي هي معنى حرفي متقوّم بالطرفين يستحيل انفكاكها عنهما. وعليه ، فإنّ النوع الواحد من هذه النسب المختلفة ؛ حيث إنّه توجد النسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة والالتصاقيّة ... إلى آخره إنّما يحصل فيها التكثّر والتعدّد مع فرض التغاير بين الطرفين وتعدّدهما ، فكلّما كان هناك طرفان متغايران حصل لنا كثرة في هذه النسبة.

وهذا التغاير تارة يكون بلحاظ الذات أي أن يتغيّر نفس الطرفين ويحلّ مكانهما طرفان آخران كقولنا : ( النار في الموقد ، الكتاب في الرفّ ، زيد في البيت ) ، فهنا التغاير بين الطرفين ذاتي ؛ لأنّ كلّ طرفين في الجملة يتغايران مع الطرفين في الجملة الأخرى بذاتهما ، فإنّ زيدا والبيت والموقد والنار والكتاب والرفّ جواهر ذاتيّة متغايرة.

وأخرى يكون التغاير بلحاظ الواقع وعالم الوجود والتحقّق ، أي الموطن والعالم الذي يوجد فيه الطرفان مع وحدتهما ذاتا ، أي أنّه يوجد طرفان يتعدّد ويكثّر وجودهما بلحاظ اختلاف وتغاير الموطن ، كقولنا : النار في الموقد بلحاظ عالم الواقع الخارجي ، والنار في الموقد في ذهن المتكلّم ، والنار في الموقد في ذهن المخاطب والسامع. فإنّ هذه النسبة الواحدة التي لها طرفان متّحدان ذاتا متغايرة بلحاظ الموطن والعالم. وبأحد هذين الأمرين يحصل لنا التكثّر والتعدّد بالنسب.

وكلّما تكثّرت النسبة على أحد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتي حقيقي بينهما ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

الأمر الثاني : هو أنّه يستحيل أن يكون هناك جامع حقيقي بين النسب المختلفة والمتكثّرة بالأنواع ، بل حتى النوع الواحد من النسب يستحيل انتزاع جامع ذاتي بين

ص: 304

أفراده ومصاديقه ، كنسبه الظرفيّة مثلا فإنّه يستحيل أن تكون جامعا ذاتيّا بين النسب الظرفيّة المتكثّرة ذاتا أو موطنا ؛ وذلك لأنّه يشترط في الجامع الذاتي عدّة أمور كلّها ليست متوفّرة بلحاظ النسب ، وتوضيح ذلك :

أوّلا : أنّ الجامع الذاتي الحقيقي ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، خلافا للجامع العرضي الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال الأوّل : الإنسان بالنسبة إلى زيد وخالد. ومثال الثاني : الأبيض بالنسبة إليهما.

الجامع الذاتي الماهوي الحقيقي عبارة عن الكلّي الذي يحفظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد من جنس وفصل ؛ لأنّ فرضه ذاتيّا يعني ملاحظة الذاتيّات التي تتألّف منها الماهيّة بعد تجريدها عن الخصوصيّات والقيود الزائدة عنها والتي تعرض عليها ، سواء العرض الخاصّ أو العرض العامّ.

مثاله مفهوم الإنسان الذي يكون جامعا حقيقيّا ذاتيّا لأفراده الخارجيّة كزيد وعمرو وخالد بعد تجريدها عن العوارض والصفات التي تتميّز بها وتشخّصها عن غيرها ، فإنّ الإنسان يحتوي على الجنس والفصل الموجودين في هذه الأفراد وهما الحيوان والناطق ، فكلّ واحد من هذه الأفراد قد حفظ فيه المقوّمات الذاتيّة داخل هذا الجامع الذاتي الحقيقي.

وأمّا الجامع العرضي فهو لا يحافظ على المقوّمات الذاتيّة للأفراد ، وإنّما يلاحظ فيه جهة مشتركة بين الأفراد أو الأنواع وهذه الجهة المشتركة ليست دخيلة في التركيب الذاتي لهذه الأفراد وإنّما هي جهة وصفة عارضة عليها ، مثاله مفهوم الأبيض الذي يكون جامعا بالنسبة لزيد وخالد أو لهما وللثلج والحليب مثلا ، فإنّه لا يستبطن المقوّمات الذاتيّة لهذه الأفراد ولذلك فهو ليس جامعا ذاتيّا وحقيقيّا ، وإنّما يحتوي هذا الجامع على صفة مشتركة بينها لاحظها العقل وانتزعها من الأفراد وفرضها جامعا عرضيّا انتزاعيّا.

ثانيا : أنّ انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الأفراد مع إلغاء ما به الامتياز.

إنّ انتزاع الجامع الحقيقي من بين الأفراد أو الأنواع بملاحظة الجهة الذاتيّة المشتركة بين الأفراد أو الأنواع جميعا يكون بإلغاء كلّ الخصوصيّات والمشخّصات الأخرى

ص: 305

التي يمتاز بها هذا الفرد عن ذاك أو ذاك النوع عن الآخر. فمثلا : انتزاع مفهوم الإنسان من زيد وعمرو وخالد يكون بالحفاظ على الجهة الذاتيّة التي يشترك فيها الجميع ، وهي الحيوان الناطق مع إلغاء وتجريد كلّ فرد من خصوصيّاته ومميّزاته الشخصيّة التي تكون عارضة عليه وليس دخيلة في تركيبه الماهوي.

وكذلك انتزاع مفهوم الحيوان من الإنسان والفرس والأسد يكون بالحفاظ على الجهة المشتركة في الجميع ، وهي الحيوان مع إلغاء الفصول والعوارض والخصوصيّات التي تتنوّع بها هذه الأفراد.

ونفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على الجامع الانتزاعي العرضي الذي يلاحظ فيه جهة مشتركة أيضا بين الأفراد أو الأنواع المتكثّرة والمختلفة والمتميّزة ، كانتزاع الأبيض من زيد وعمرو والثلج والورق والحليب ، مع إلغاء كلّ الخصوصيّات والذاتيّات التي يمتاز بها هذا عن ذاك. وعليه فيكون الجامع العرضي يلاحظ فيه الجهة المشتركة العرضيّة.

ثالثا : أنّ ما به امتياز النسب الظرفيّة المذكورة بعضها على بعض إنّما هو أطرافها ، وكلّ نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ، وإلا لم تكن نسبة وربطا في هذه المرتبة.

وعلى أساس ما تقدّم - من أنّه لا بدّ من ملاحظة الجهة المشتركة وإلغاء ما به الامتياز - نقول :

إنّ المعاني الحرفيّة كالنسبة الظرفيّة مثلا التي لها أفراد متعدّدة ومتكثّرة ذاتا أو موطنا كقولنا : زيد في الدار ، وزيد في المدرسة ، وزيد في الدار كصورة في ذهن المتكلّم أو ذهن السامع أو في الخارج. فهذه النسب المتكثّرة والمتنوّعة نجد أنّ ما به امتياز كلّ نسبة فيها عن الأخرى إنّما هو طرفاها ، فهذه النسبة تختلف عن تلك تبعا لاختلاف الطرفين إمّا ذاتا وإمّا موطنا.

ونجد أيضا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة وهو الطرفان دخيلا في حقيقة النسبة ، بمعنى أنّه ذاتي لها ومقوّم لها ، إذ تقدّم سابقا أنّ النسبة والربط متقوّمة بالطرفين فهي عين الطرفين وهما حقيقة النسبة والربط.

ولذلك يستحيل تصوّر النسبة أو الربط مجرّدة عن الطرفين ؛ لأنّ الطرفين في مرتبة النسبة ذاتها أي هما عين حقيقتها وماهيّتها ، وما كان عين حقيقة الشيء وفي مرتبة

ص: 306

ذاته لا يمكن تعقّل الشيء مستقلاّ أو مجرّدا عنه ، ولذلك فلا يمكن تعقّل النسبة والربط مستقلاّ عن الطرفين.

ولو فرض أنّه أمكن تصوّر النسبة والربط بمعزل عن الطرفين فهذا معناه أنّ الطرفين ليسا مقوّمين وذاتيّين للنسبة وليسا عين حقيقة النسبة وليسا في مرتبة النسبة ذاتها ، ولذلك فما يكون متعقّلا ليس النسبة أو الربط وإنّما مفهوم النسبة والربط.

وقد ذكرنا سابقا أنّ مفهوم النسبة والربط معنى اسمي ؛ لأنّه يتعقّل مستقلاّ عن الطرفين ، بينما النسبة والربط الحقيقيّين فهما عين الطرفين ولا يمكن فصلهما عن بعضهما أصلا ولو تصوّرا.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ انتزاع الجامع بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف على إلغاء ما به الامتياز ، وهو هنا الطرفان لكلّ نسبة. ولمّا كان طرفا كلّ نسبة مقوّمين لها فما يحفظ من حيثيّة بعد إلغاء الأطراف لا تتضمّن المقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة ، فلا تكون جامعا ذاتيّا حقيقيّا.

الأمر الثالث : أنّ انتزاع الجامع الذاتي بين النسب الظرفيّة مثلا يتوقّف كما ذكرنا على الحفاظ على ما به الاشتراك المقوّم لكلّ هذه الأفراد من النسب ، بحيث تكون كلّها مشتركة في جهة ذاتية واحدة ، وعلى إلغاء ما به الامتياز والذي على أساسه يحصل التغاير والاختلاف والتكثّر بين أفراد النسب.

ونحن عرفنا سابقا أنّ ما به الامتياز في كلّ نسبة هو الطرفان ؛ لأنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ، فالطرفان وتكثّرهما ذاتا أو موطنا يسبّبان الاختلاف والتغاير والامتياز. فإذا أردنا أن نلغي ما به الامتياز أي الطرفين لم يبق شيء من النسبة ؛ لما تقدّم من أن كلّ نسبة متقوّمة بالطرفين ، بحيث إذا سلب عنها الطرفان لا يمكن تصوّرها أو تعقّلها ؛ لأنّ ذلك بمثابة سلب الشيء عن حقيقته وذاته.

وهذا معناه أنّه لا يوجد جهة اشتراك بين النسب أصلا أو بين أفراد النسبة الواحدة. فالمقوّمات الذاتيّة لا يمكن الحفاظ عليها عند إلغاء ما به الامتياز ؛ لأنّ ما به الامتياز هو نفس المقوّمات الذاتيّة للنسبة ، فإذا ألغي وجرّدت النسبة عنه ألغيت أيضا الجهة المشتركة الذاتيّة المقوّمة.

وحينئذ يستحيل وجود جامع ذاتي حقيقي ؛ لأنّه لا يوجد جهة مشتركة ليتمكّن

ص: 307

الجامع أن يحافظ عليها بعد إلغاء ما به الامتياز من النسب أي الطرفين ، إذ بعد إلغاء الطرفين لا يكون هناك نسبة ، وإنّما مفهوم واسم للنسبة فقط لا النسبة الحقيقيّة.

وهذا برهان على التغاير الماهوي الذاتي بين أفراد النسب الظرفيّة ، وإن كان بينها جامع عرضي اسمي وهو نفس مفهوم النسب الظرفيّة.

الأمر الرابع : أنّ النسب المتعدّدة أنواعا وأفرادا كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة الاستعلائيّة ، بل وأفراد النسبة الظرفيّة أيضا التي هي نوع واحد تحته أفراد ومصاديق متعدّدة ومتكثّرة ، كلّ هذه النسب متغايرة فيما بينها تغايرا ماهويّا ذاتيّا.

فكلّ نسبة وكلّ فرد من أفراد النسبة يختلف ويباين ويغاير الفرد الآخر من النسبة حتّى وإن كان متّحدا معه في النوع.

وهذا التغاير ذاتي وماهوي بمعنى أنّ ذات وماهيّة هذه النسبة تختلف وتباين ذات وماهيّة النسبة الأخرى ، لما عرفنا من أنّ كلّ نسبة تمتاز وتتقوّم بالطرفين. فما دامت النسبة بين الطرفين فهي مباينة للنسبة الأخرى لوجودها بين طرفين آخرين ، وكلّ طرفين مباينان ومغايران للطرفين في النسب الأخرى.

وبهذا ظهر أنّه يستحيل وجود جامع ذاتي ماهوي لعدم وجود مفهوم كلّي تحفظ فيه المقوّمات الذاتيّة للنسب المتعدّدة. نعم ، يمكن أن يكون هناك جامع عنواني اسمي وليس عرضيّا ، وهو نفس مفهوم النسبة الظرفيّة ، فإنّ هذا المفهوم كاسم ينطبق على كلّ النسب الظرفيّة يكون جامعا عنوانيّا اسميّا. وفرقه عن الجامع العرضي أنّ الجامع العرضي فيه جهة اشتراك بين النسب ، ولكنّها ليست ذاتيّة. وهنا لا توجد جهة اشتراك أصلا لا ذاتيّة ولا عرضيّة ، وإنّما هناك مفهوم لفظي اسمي ينطبق على الجميع.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم أثبت المحقّقون أنّ الحروف موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ (1) ؛ لأنّ المفروض عدم تعقّل جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له ، فلا بدّ من وضع الحرف لكلّ نسبة بالخصوص ، وهذا إنّما يتأتّى باستحضار جامع عنواني عرضي مشير ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا.

ص: 308


1- كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية 1 : 55 - 56 ، والسيّد الخوئي في المحاضرات 1 : 82 ، وغيرهما إلا أنّ اعتماد هؤلاء في هذه النظريّة على مثل هذا التفصيل الذي سبق في المتن غير واضح.

ذهب المحقّقون من الأصوليّين الى أنّ الحروف الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ كما هو الصحيح ؛ وذلك لأنّه لا يوجد جامع ذاتي حقيقي بين النسب المختلفة ، بل بين أفراد النسبة الواحدة ، ولذلك لا يوجد مفهوم كلّي ليوضع له اللفظ.

وإنّما هناك نسب متعدّدة ومتكثّرة وكلّ نسبة منها متقوّمة بطرفيها ، ولذلك يكون الوضع لكلّ نسبة نسبة على حدة بخصوصها.

ولكن حيث أمكن انتزاع جامع عرضي عنواني يكون مشيرا إلى أفراد النسبة الواحدة - كأفراد النسبة الظرفيّة مثلا المتعدّدة والمتكثّرة - كان الوضع بإزاء هذا المفهوم الانتزاعي العرضي المشير إلى الأفراد. فكان الوضع عامّا بملاحظة هذا الجامع العنواني العرضي والموضوع له خاصّ ؛ لأنّ الموضوع له هو كلّ نسبة بخصوصها ، إذ لا يوجد جامع حقيقي بين النسب المختلفة ليوضع له ويكون موضوعا.

وعليه ، فما قيل : من أنّ الوضع عامّ والموضوع له عامّ غير صحيح ؛ لأنّه متوقّف على الجامع الحقيقي وهو غير معقول في النسب كما تقدّم.

وليس المراد بالخاصّ الجزئي بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّ النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّيّة طرفيها ، بل كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فجزئيّة المعنى الحرفي جزئيّة بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

الإشكال : هو أنّ الموضوع له إذا كان خاصّا فهو جزئي بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين ، فوضع كلمة ( في ) للظرفيّة معناه أنّ الظرفيّة المتقوّمة بالطرفين خارجا وضع لها كلمة ( في ) ، فيلزم كون الوضع خاصّا أيضا بمعنى ما لا ينطبق على كثيرين. وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ كلمة ( في ) موضوعة للنسبة الظرفيّة التي هي مفهوم كلّي عرضي فيلزم كون الموضوع له عامّا أيضا.

والحاصل إمّا أن يكون الوضع خاصّا والموضوع له خاصّا أو يكون الوضع عامّا والموضوع له عامّا أيضا ، ولا معنى للوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

والجواب : أنّ الخاصّ الموضوع له اللفظ العامّ ليس المراد فيه الجزئي الحقيقي الذي لا ينطبق على كثيرين ؛ لأنّه من الواضح أنّ النسبة الظرفيّة مثلا وغيرها من النسب

ص: 309

تقبل الانطباق على كثيرين ؛ لأنّ الطرفين كلّيّان فتكون النسبة كلّيّة بتبع كلّيّة الطرفين.

وإنّما المراد من الخاصّ هنا هو كون الحرف موضوعا لكلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ، فالموضوع له خاصّ ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بالطرفين ومتخصّصة بهما. وهذا يعني أنّ المعنى الحرفي يطلق عليه عنوان الجزئي تبعا للطرفين المتقوّم بهما والذي لا ينفكّ عنهما. وأمّا الطرفان أنفسهما فهما كلّيّان لأنّهما ينطبقان على كثيرين في الخارج.

ولذلك يكون المراد من الخاصّ هو المفهوم الأخصّ من مفهوم آخر والذي يكون بذاته كلّيّا ، كالجزئي الإضافي فإنّه كلّي في نفسه ، ولكنّه إذا أضيف إلى مفهوم أوسع منه كان جزئيّا بالإضافة إليه ، كالإنسان المضاف إلى الحيوان فهو جزئي إضافي ولكنّه في نفسه كلّي.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الموضوع له وإن كان خاصّا تبعا لكون النسبة مخصوصة بطرفيها ، إلا أنّه عامّ ؛ لأنّ الطرفين ينطبقان على كثيرين في الخارج. فكان الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ ، أي المفهوم الكلّي الأضيق دائرة من الوضع ، حيث إنّ الوضع كان إزاء الجامع العرضي الانتزاعي المشير إلى النسب المختلفة المتكثّرة ، ولكن الموضوع له كان كلّ نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين.

ص: 310

هيئات الجمل

ص: 311

ص: 312

هيئات الجمل

كما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على أنحائها كذلك هيئات الجمل ، غير أنّ الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة ، وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

الجملة وهي الهيئة التركيبيّة ونحوها من تراكيب لغويّة من فعل وفاعل أو من مبتدأ وخبر تشتمل على مادّة وعلى هيئة كصيغة ( افعل ) و ( لا تفعل ) ، فإنّ المادّة التي تتكوّن منها الجملة مفهوم اسمي ؛ لأنّ المادّة هي المصدر وهو المفهوم القابل لأن يتصوّر عقلا ، مستقلاّ من الجملة من قبيل ( الضرب ) في قولنا : ( ضرب زيد ). نعم المادّة في الخارج مرتبطة دائما بالطرفين ، إذ يستحيل تحقّق المادّة من دونهما في الخارج.

وأمّا الهيئة وهي الصيغة التي ركّبت منها المادّة كهيئة : ( فعل ) أو ( افعل ) أو ( لا تفعل ) فهي معنى حرفي ؛ لأنّها لا تتصوّر إلا في طرفين هما المادّة أو المسند والمسند إليه ، أو الشرط والجزاء ، أو الفاعل أو المفعول. وهذا يعني أنّ الهيئة موضوعة للنسبة وللربط الحقيقتين ، أي بالحمل الشائع ، فحقيقتها الربط كما تقدّم في الحروف.

فكما أنّ الحروف موضوعة للنسبة على اختلاف أنحائها كالنسبة الظرفيّة والابتدائيّة والاستعلائيّة وغيرها كذلك هيئات الجمل موضوعة للنسبة على مختلف أنحائها.

وحيث إنّه يوجد في اللغة نحوان من الجمل هما الجملة الناقصة والجملة التامّة فيكون هناك أيضا نحوان من النسب. فالجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وخالف في ذلك السيّد الأستاذ ؛ إذ ذهب إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة

ص: 313

لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الأولى ، أي لقصد إخطار المعني. وأنّ هيئة الجملة التامّة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهو قصد الحكاية في الجملة الخبريّة أو الطلب ، وجعل الحكم في الجملة الانشائيّة ، وهكذا (1).

ذهب السيّد الخوئي رحمه اللّه إلى أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الأولى والتي هي إخطار الحصّة الخاصّة من المعنى في ذهن السامع. فالمتكلّم يقصد من هذه الجملة الناقصة أن يخطر في ذهن السامع الحصّة الخاصّة من المفهوم ، فقوله ( زيد العالم ) أو ( علم زيد ) الغرض منه بهذا التركيب الناقص أن يخطر هذه الحصّة الخاصّة من زيد أي علمه فقط ؛ تمهيدا للحكم عليه أو للإخبار عنه.

بينما هيئة الجملة التامّة موضوعة لغة للمدلول في الدلالة التصديقيّة الثانية ، أي لأجل الحكاية أو الطلب. فقولنا : ( زيد عالم ) أو ( ضرب زيد ) الغرض منه هو الحكاية والإخبار ، فالمتكلّم قصد من هذه الهيئة إخطار ذات المعنى والمفهوم في ذهن السامع لأجل الإخبار والحكاية عنه ، وقوله : ( اضرب زيدا ) أو ( لا تسرق ) الغرض هو الطلب وجعل الحكم كالوجوب أو الحرمة.

وهذا يعني أنّ الهيئة في الجملتين الناقصة والتامّة ليست موضوعة للنسبة ، وإنّما هي موضوعة للقصد ، ولكنّه قصد الإخطار في الجملة الناقصة تمهيدا للغرض عند المتكلّم ، بينما في الجملة التامّة يكون هذا القصد نفس الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم. وعليه فلا يعقل أن يكون الفرق بين الجملتين في كون النسبة في إحداهما ناقصة وفي الأخرى تامّة ؛ لأنّ النسبة لا تقبل الزيادة والنقصان أو القلّة والكثرة ، بل هي إمّا أن توجد أو لا توجد.

وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهّد الذي يقتضي أن تكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقيّا كما تقدّم (2).

ص: 314


1- أقرب ما وجدناه إلى هذا البيان في كلمات السيّد الخوئي ما جاء في هامش أجود التقريرات 1 : 24 كما جاءت الإشارة إليه في هامش الصفحة 31 من نفس المصدر.
2- في الحلقة الثانية ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة.

وما ذهب إليه السيّد الخوئي مبني على مسلك التعهّد الذي قال به بالنسبة للوضع ، حيث إنّه فسّر الوضع بالتعهّد. فالمتكلّم يتعهّد بأنّه لا يحضر اللفظ إلا إذا قصد إحضار المعنى ، كما تقدّم في الحلقة الثانية. والذي على أساسه سوف تكون الدلالة الوضعيّة دائما تصديقيّة ، والمدلول الوضعي تصديقي دائما.

فبناء على هذا المسلك فسّر الفرق بين الجملتين الناقصة والتامّة ، حيث قال بأنّ الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص. فالمتكلّم يخطر الحصّة الخاصّة من المفهوم في ذهن السامع تمهيدا للحكم أو الإخبار أو الطلب ، بينما الجملة التامّة موضوعة للتحصيص لنفس الإخبار والحكاية والطلب لذات المفهوم والمعنى.

فالمدلول الوضعي هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّ الوضع تعهّد ، والكاشف عن هذا التعهّد هو الدلالة التصديقيّة ؛ لأنّها تكشف عن أنّ المتكلّم أراد تفهيم السامع أمّا الحصّة أو ذات المفهوم.

والصحيح : ما عليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما في الكلمات الإفراديّة وفي الجمل ، وأنّ الجملة حتّى التامّة لا تدلّ بالوضع إلا على النسبة دلالة تصوّريّة ، وأمّا الدلالتان التصديقيّتان فهما سياقيّتان ناشئتان من ظهور حال المتكلّم.

الصحيح : ما ذهب إليه المشهور من أنّ المدلول الوضعي تصوّري دائما وليس تصديقيا ، سواء في الكلمات الإفراديّة كالبحر وزيد وعالم أو في الجمل : ( زيد عالم ) و ( زيد العالم ) و ( اضرب زيدا ) و ( لا تضرب عمرا ).

فإنّ الوضع في الجميع هو المدلول التصوّري والذي يكون محفوظا دائما ، سواء كان هناك قصد أم لم يكن ، وسواء كان هناك قصد للحقيقة أم المجاز. وقد تقدّم في الحلقة السابقة فساد مسلك التعهّد ؛ لاستلزامه تعدّد الوضع والواضع ، ولاستلزامه إلغاء المجاز ، ولاستلزامه إلغاء الوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال.

ويضاف إلى ذلك هنا : أنّ الجملة التامّة فضلا عن الجملة الناقصة لا تدلّ وضعا إلا على النسبة تصوّرا ؛ لأنّنا لو جرّدنا الجملة التامّة عن قصد الحكاية والإخبار أو الطلب وجعل الحكم لا يعني ذلك أنّها تصير كالجملة الناقصة ، فالفرق ثابت بينهما دائما في مرحلة سابقة عن القصد والمدلول التصديقي ، وهو فارق بلحاظ الدلالة التصوّريّة. ففرق بين قولنا : ( زيد العالم ) والتي هي جملة ناقصة وبين قولنا : ( هل زيد عالم )

ص: 315

والتي هي جملة تامّة مجرّدة عن قصد الحكاية والإخبار ؛ لأنّ الاستفهام يسلب الإخبار والحكاية ، وهذا يعني أنّ المدلول الوضعي التصوّري في الجملة الناقصة يختلف عن المدلول الوضعي في الجملة التامّة ، سواء كان فيها قصد أم لا. وهذا الفارق هو أنّ النسبة في الجملة الناقصة تختلف عن النسبة في الجملة التامّة ، فالدلالة الوضعيّة التصوّريّة في الجملتين مختلفتان ، وهذا الاختلاف هو أنّ الجملة الناقصة موضعة لنسبة ناقصة لم تتمّ ولذلك لا يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

وما ذكره من كون الجملة الناقصة تدلّ على حصّة من المعنى وتخطره في الذهن ، حيث جعلها كالحروف الدالّة على التحصيص غير صحيح ؛ لأنّ نظريّة التحصيص التي ذكرها غير تامّة في كلّ الحروف على فرض التسليم بها ، فإنّ حروف العطف والإضراب لا تدلّ على الحصّة ، بل على ذات المعنى والمفهوم كقولنا : ( جاء زيد بل عمرو ) وكقولنا : ( جاء زيد وعمرو ).

وأمّا الدلالتان التصديقيّتان الأولى والثانية فهما من شئون ظهور الحال للمتكلّم وكونه في مقام البيان والتفهيم ، فإذا لم ينصب قرينة على المجاز ولم يأت بما يخالف مراده كان ذلك سببا لحدوث الدلالتين التصديقيّتين في أنّه استعمل اللفظ في المعنى الحقيقي ، وأنّه يريده جدّا ، وليستا من شئون اللفظ والدلالة الوضعيّة التصوّريّة.

ص: 316

الجملة التامّة والجملة الناقصة

ص: 317

ص: 318

الجملة التامّة والجملة الناقصة

ولا شكّ في الفرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقي موضوعا له ميّز بينهما على أساس اختلاف المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

الجملة التامّة كقولنا : ( زيد عالم ) جملة يحسن السكوت عليها وتقبل الحكم عليها بالصدق أو الكذب من خلال مطابقتها للواقع وعدمه ، بينما الجملة الناقصة كقولنا : ( زيد العالم ) جملة لا يحسن السكوت عليها ولا تتّصف بالصدق والكذب.

ولذلك يوجد فرق بين الجملتين في المعنى الموضوع له فيهما ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عن المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة.

وحينئذ فإن قيل بأنّ المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له دائما كما هو مسلك السيّد الخوئي القائل بالتعهّد ، والذي يكون على أساسه المدلول الوضعي تصديقي دائما ؛ لأنّه لا يأتي باللفظ إلا عند قصد المعنى وإخطاره في ذهن السامع ، فهنا يكون التمييز بين الجملتين على أساس المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة ، بحيث يكون المعنى الموضوع له في الجملة الناقصة هو الحصّة الخاصّة من المعنى ويراد إخطارها في ذهن السامع ، بينما المعنى الموضوع له في الجملة التامّة هو ذات المعنى لأجل الحكاية والإخبار والطلب وجعل الحكم.

ونحن قد عرفنا عدم صحّة هذا المبنى فيبطل البناء عليه أيضا لأنّ الصحيح ما عليه المشهور وهو :

وأمّا بناء على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له فنحن بين أمرين :

ص: 319


1- ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : المقارنة بين الجمل التامّة والناقصة.

إمّا أن نقول : إنّه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوّري ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي. وإمّا أن نسلّم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوّري.

وأمّا على مبنى المشهور الصحيح من أنّ المدلول الوضعي هو المدلول التصوّري دائما ، والمعنى الموضوع له في الجملتين التامّة والناقصة هو المدلول التصوّري لا التصديقي ؛ لأنّ المدلول التصديقي مرتبط بظهور حال المتكلّم وأنّه في مقام البيان والتفهيم لمراده الحقيقي الجدّي ، بخلاف المدلول التصوّري المرتبط بالصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ في كلّ الحالات حتّى مجازا وهزلا. وحينئذ نحن بين أمرين :

الأوّل : إمّا أن نقول بمقالة صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الموضوع له في الحروف هو نفسه المعنى الموضوع له في الأسماء ، وإنّما الاختلاف بينهما في كيفيّة اللحاظ حال الاستعمال والذي يكون قيد في العلاقة الوضعيّة لا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

فحينئذ فالمدلول التصوّري في الجملتين التامّة والناقصة واحد ؛ لأنّهما يدلاّن على مفهوم واحد. وإنّما المدلول التصديقي مختلف بين الجملتين ، فينحصر الاختلاف في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّية دون أن يكون هناك خلاف بينهما في مرحلة المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة.

وهذا يتّفق مع مسلك التعهّد من حيث النتيجة ، ولكنّه يختلف عنه من حيث المبنى ، فإنّ مبنى التعهّد هو أنّ المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقي ، بينما على مسلك الآخوند فالمعنى الموضوع له هو المدلول التصوّري دائما.

الثاني : أن نقول بوجود الاختلاف بين الجملتين ، في مرحلة المدلول التصوّري أيضا ، كما هو المشهور والصحيح ، فالمعنى الموضوع له في الجملة التامّة يختلف عنه في الجملة الناقصة.

والأوّل باطل ؛ لأنّ المدلول التصوّري إذا كان واحدا وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلول تصديقي من قبيل قصد الحكاية على الجملة الناقصة؟! ولما ذا لا يصحّ أن يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟!

ص: 320

أمّا الافتراض الأوّل - وهو كون المدلول التصوّري في الجملتين واحدا وإنّما الاختلاف بينهما في المدلول التصديقي - فهو باطل ولا يمكن قبوله ؛ لأنّه لا يعطي تفسيرا معقولا لحقيقة الاختلاف بين الجملتين.

إذ من حقّنا أن نتساءل : أنّه إذا كان المدلول التصوّري في الجملتين واحدا فهذا يعني أنّ المعنى الموضوع له فيهما واحد والمدلول الوضعي هو المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الجملتين يدلاّن تصوّرا على نسبة واحدة ، فالنسبة الموضوعة لها الجملة التامّة تصورا هي نفس النسبة الموضوعة لها الجملة الناقصة. وعليه ، فكيف حصل الاختلاف بالنسبة في مرحلة المدلول التصديقي ، فكانت النسبة في الجملة التامّة من قبيل الحكاية والإخبار والطلب ، بينما كانت النسبة في الجملة الناقصة لمجرّد إخطار المعنى أو حصّة منه؟!

إذ ما دام المدلول التصوّري واحدا فمقتضى التطابق بين الدلالات الثلاث أن يكون المدلول التصديقي واحدا أيضا ، فما هو منشأ الاختلاف إذا مع عدم وجود دالّ زائد يدلّ على هذا الاختلاف؟! بل لما ذا لا يصحّ فرض العكس بأن تكون الجملة الناقصة فيها نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها ويقصد بها الإخبار والحكاية والطلب بدلا من الجملة التامّة؟!

وهذا معناه أنّ الفارق التصديقي بينهما لا يصلح تفسيرا وجوابا لهذه التساؤلات ولذلك يتعيّن التفسير الثاني.

وأمّا الثاني فهو يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقّق التماميّة والنقصان.

وأمّا الافتراض الثاني القائل بأنّ الاختلاف بين الجملتين موجود في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي فهو يصلح تفسيرا لهذا الاختلاف والإجابة عن التساؤلات المطروحة ، حيث تقدّم أنّ المدلول الوضعي إنّما هو الدلالة التصوّريّة ، ومن المعلوم أنّ هيئة الجمل من المعاني الحرفيّة وهي موضوعة للنسبة. وهذا يعني أنّ المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة ، ولمّا كان المدلول التصوّري في الجملتين مختلفا فهذا معناه وجود اختلاف في النسبة بين الجملتين.

ص: 321

فالنسبة التي هي مدلول وضعي تصوّري للجملة الناقصة تختلف عن النسبة التي هي موضوع تصوّري في الجملة التامّة. فعلى أساس اختلاف النسبة بين الجملتين حصل هناك اختلاف في المدلولين التصوّري والتصديقي ، وبناء على هذا الاختلاف أيضا كانت الجملة الناقصة تفيد مجرّد إخطار المعنى في الذهن بنحو لا يصحّ السكوت عليه ولا يكون قابلا للاتّصاف بالصدق أو الكذب ، بينما كانت الجملة التامّة مفيدة لقصد الحكاية والإخبار والطلب ولذلك يصحّ السكوت عليها وتكون قابلة للاتّصاف بالصدق والكذب.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو وجود نحوين من النسبة مختلفين أوجبا التماميّة والنقصان ، يبقى الكلام في بيان هاتين النسبتين فنقول :

والتحقيق : أنّ التماميّة والنقصان من شئون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج. ف- ( مفيد ) و ( عالم ) تكون النسبة بينهما تامّة إذا جعلنا منهما مبتدأ وخبرا ، وناقصة إذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل ( مفيد ) مبتدأ تارة وموصوفا أخرى أمر ذهني لا خارجي ؛ لأنّ حاله في الخارج لا يتغيّر كما هو واضح.

والتحقيق في كيفيّة نشوء التماميّة والنقصان في عالم النسبة هو : أنّ النسبة لها نحوان من الوجود ، فهي تارة تكون موجودة في الخارج ، وأخرى تكون موجودة في الذهن.

فإن كانت النسبة موجودة في الخارج فهي لا تكون إلا ضمن طرفين ويستحيل وجودها في الخارج من دون الطرفين ، ولذلك فالنسبة إمّا أن توجد وإمّا أن لا توجد في الخارج ، فإن وجدت كانت تامّة وإن لم توجد لم يكن هناك نسبة أصلا ، ولا يعقل وجود النسبة في الخارج ناقصة.

وأمّا النسبة الموجودة في الذهن فقد تقدّم في الحروف أنّ النسبة الموجودة في الذهن تارة تكون حاضرة بما هي في الخارج أي بالحمل الشائع فتكون عين الخارج في الذهن محتاجة إلى الطرفين ويستحيل تعقّلها مجرّدة عنهما بهذا اللحاظ. وأخرى تكون حاضرة بما هي هي بالحمل الأوّلي والذي هي مفهوم النسبة والربط لا الربط الواقعي الحقيقي ، بحيث يمكن تصوّرها من دون الطرفين. وهنا كذلك فإنّ النسبة تارة

ص: 322

تتصوّر كما هي في الخارج بين الطرفين وأخرى تتصوّر من دون الطرفين فعلا. ولذلك ينشأ لدينا التماميّة والنقصان.

فمثلا قولنا : ( مفيد عالم ) المؤلّفة من مبتدأ وخبر فالنسبة بينهما تامّة في الذهن ؛ لأنّ الطرفين حاضران فعلا في صقع الذهن ، وأمّا قولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) المؤلّفة من الصفة والموصوف أو المضاف والمضاف إليه فهي نسبة ناقصة ؛ لأنّ الطرفين غير حاضرين بالفعل في الذهن ، وإنّما هناك طرف واحد في الحقيقة وهو هذه الحصّة الخاصّة من المفيد.

وهذا يعني أنّ التماميّة والنقصان يحصلان في الذهن لا في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يكون المفيد عالما أو لا يكون عالما ، فالنسبة في الخارج إمّا أن تتّصف بالوجود فهي تامّة أو تتّصف بالعدم فهي غير موجودة أصلا فلا تتّصف بالنقصان.

وأمّا في عالم الذهن فالنسبة إن كانت حاضرة بطرفيها فهي تامّة ، وإن كانت حاضرة بطرف واحد فقط فهي ناقصة. فالملاك في التماميّة والنقصان هو :

وتكون النسبة في الذهن تامّة إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلا ، وهذا يتطلّب أن يكون لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين.

ملاك التماميّة في النسبة هو أن تكون النسبة الحاصلة في الذهن موجودة بما هي نسبة بالفعل ، أي بما هي متقوّمة وموجودة ضمن طرفيها ؛ لأنّ حقيقة النسبة وواقعها هي النسبة الحاضرة بين الطرفين. وهذا معناه أنّه يوجد في الذهن طرفان متغايران حصل الربط والانتساب بينهما ، وتكون هذه النسبة الموجودة في الذهن عين النسبة الموجودة في الخارج بالحمل الشائع. فكما أنّ النسبة الموجودة في الخارج تامّة ومتحقّقة بين الطرفين فكذلك النسبة الموجودة في الذهن تامّة ومتحقّقة ضمن الطرفين ، وهذان الطرفان موجودان في الذهن وحاضران فيه ومتغايران عن بعضهما البعض وجاءت النسبة لتربط بينهما.

وتكون النسبة ناقصة إذا كانت اندماجيّة ، تدمج أحد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا وحصّة خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة في صقع الذهن الظاهر ، وإنّما هي نسبة مستترة تحليليّة.

ص: 323

وملاك النقصان في النسبة هو أن تكون النسبة الحاضرة في الذهن اندماجيّة لا حقيقيّة ، بمعنى أنّها عين الخارج بالحمل الأوّلي ولكنّها تغايره وتباينه بالحمل الشائع ؛ لأنّ النسبة في الخارج متقوّمة بالطرفين الحاضرين فعلا والمتغايرين ، بينما النسبة الاندماجيّة في الذهن ليست حاضرة ضمن طرفيها وإنّما هذه النسبة تجعل الطرفين طرفا واحدا وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا ليقطع طرفا في الذهن ، والغرض من إحضاره كذلك هو وقوعه طرفا في نسبة أخرى جديدة فهو يحتاج إلى طرف آخر ليحقّقا نسبة جديدة.

وهذا يعني أنّ النسبة الحاضرة في الذهن غير متقوّمة بالطرفين ، إذ لا يوجد طرفان حقيقيّان متغايران ، وإنّما هناك طرف واحد نشأ من خلال اندماج الطرفين معا. ففي الحقيقة لا يوجد نسبة حقيقيّة واقعيّة ؛ لأنّها متقوّمة بالطرفين فعلا ، وهنا لا يوجد إلا طرف واحد. نعم ، هناك نسبة تحليليّة اندماجيّة ؛ وذلك لأنّنا إذا حلّلنا هذا الطرف الواحد الموجود في الذهن نجد أنّه يوجد فيه نسبة ، ولكنّها غير ظاهرة في صقع الذهن ، وإنّما هي مستترة ومستبطنة في الطرف.

فقولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) طرف واحد حاضر في الذهن ، ولكن هذا الطرف الواحد مركّب من نسبة حقيقيّة تحكي عن الخارج ، إلا أنّ هذه النسبة الحقيقيّة ليست بارزة بين الطرفين ، وإنّما هذه النسبة دمجت بين الطرفين وكوّنت منهما طرفا واحدا وحصّة واحدة ؛ لأجل وقوعها طرفا في نسبة أخرى جديدة ، فهي نسبة مستترة غير ظاهرة بين الطرفين. ويعبّر عنها بالنسبة الاندماجيّة التحليليّة المستترة المستبطنة ، وفي مقابلها النسبة الظاهرة البارزة الحقيقيّة الواقعيّة.

ومن هنا قلنا سابقا (1) : إنّ الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسب اندماجيّة أي تحليليّة ، وأنّ هيئات الجمل التامة موضوعة لنسب غير اندماجيّة.

وبهذا يتّضح لنا الفرق بين الجملتين التامّة والناقصة ، فالجملة التامّة موضوعة لنسبة غير اندماجيّة ، أي أنّها نسبة واقعيّة وحقيقيّة ظاهرة وبارزة بين طرفيها في صقع الذهن ، بينما الجملة الناقصة كالحروف موضوعة لنسبة اندماجيّة ، أي نسبة تحليليّة ليست حقيقيّة ولا ظاهرة بين طرفيها.

ص: 324


1- في الحلقة الأولى ، ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة التامّة والجملة الناقصة.

ومن هنا ذكرنا في الحلقة السابقة أنّ الحروف كالجمل الناقصة موضوعة للنسب الاندماجيّة ، بينما الجمل التامّة موضوعة للنسب الواقعيّة الحقيقيّة.

وحينئذ نقول : إنّه إذا كانت النسبة اندماجيّة فهذا يعني وجود طرف واحد أحضر في الذهن لأجل أن يقع طرفا في النسبة الأخرى فهو ينتظر الطرف الآخر ، ولذلك كان السكوت على هذه النسبة الاندماجيّة غير صحيح. من هنا كانت الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها ؛ لأنّ النسبة الحقيقيّة لم تتمّ ، إذ طرفها الآخر لم يتحقّق بعد.

وأمّا إذا كانت النسبة غير اندماجيّة أي واقعيّة وحقيقيّة فهي نسبة متحقّقة بطرفيها ، فالطرفان حاضران في الذهن وقد تمّ التصاق وصدق أحدهما على الآخر. وهذا يعني أنّ النسبة تامّة ، ولذلك صحّ السكوت عليها. ومن هنا كانت الجملة التامّة يصحّ السكوت عليها ويصحّ اتّصافها بالصدق أو الكذب ؛ لأنّها تحكي عن الخارج حكاية حقيقيّة إذ هي عين الخارج.

ص: 325

ص: 326

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

ص: 327

ص: 328

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

وتنقسم الجملة التامّة إلى خبريّة وإنشائيّة ، ولا شكّ في اختلاف إحداهما عن الأخرى حتّى مع اتّحاد لفظيهما كما في ( بعت ) الخبريّة و ( بعت ) الإنشائيّة ، فضلا عن ( أعاد ) و ( أعد ) ، وقد وجدت عدّة اتّجاهات في تفسير هذا الاختلاف :

تنقسم الجملة التامّة التي يصحّ السكوت عليها والتي قلنا : إنّها موضوعة لنسبة تامّة بالدلالة التصوّريّة إلى قسمين هما :

الجملة التامّة الخبريّة كقولنا : ( زيد قائم ) ، والجملة التامّة الإنشائيّة كقولنا : ( لا تضرب ).

ولا شكّ في اختلاف الجملتين ، فإنّ الجملة الخبريّة تفيد قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ، ولذلك تتّصف بالصدق أو الكذب. بينما الجملة الإنشائيّة تفيد طلب الوقوع أو عدمه ، أو جعل الحكم كالوجوب والحرمة على ذمّة المكلّف ، ولذلك لا تتّصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاختلاف بين الجملتين موجود حتى فيما إذا كانت الجملتان متّحدتين لفظا فضلا عمّا إذا كانتا مختلفتين صياغة.

فقولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا عن وقوع البيع البارحة يختلف عن قولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء لعقد البيع الآن ، مع أنّ اللفظ واحد والهيئة التركيبيّة واحدة ؛ تماما كالاختلاف بين قولنا : ( أعد الصلاة ) إنشاء لوجوب الإعادة وبين قولنا : ( أعاد زيد صلاته ) إخبارا عن تحقّق الإعادة منه سابقا ، فإنّ الوجدان شاهد على وجود الاختلاف والفرق بين الجملتين الإنشائيّة والإخباريّة في كلّ الموارد.

ولأجل بيان هذا الاختلاف وجدت عدّة اتّجاهات أهمّها ثلاثة :

الأوّل : ما تقدّم في الحلقة الأولى (1) عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، من وحدة

ص: 329


1- ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة.

الجملتين في مدلولهما التصوّري ، واختلافهما في المدلول التصديقي فقط ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

الاتّجاه الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره - كالمحقّقين العراقي والأصفهاني - من كون الجملتين الخبريّة والإنشائيّة متّحدتين في المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة أي النسبة ، فكلاهما موضوع للنسبة ، وإنّما يختلفان في المدلول التصديقي فقط ، فقصد الحكاية والإخبار عن الواقع في الجملة الخبريّة وقصد إبراز وطلب الوقوع في الجملة الإنشائيّة مع كون النسبة واحدة فيهما من شئون الاستعمال.

ولذلك فالإخبار والإنشاء خارجان عن المدلول الوضعي التصوّري وإنّما ينشآن من المدلول التصديقي.

والحاصل : أنّ النسبة المدلول عليها في الجملتين وضعا واحدة ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف في الاستعمال والقصد.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك حيث قلنا : إنّ هذا الكلام لو سلّم المبنى الذي سار عليه من وحدة المدلول التصوّري في الجملتين فهو إنّما يتمّ بلحاظ الجمل الإنشائيّة والإخباريّة التي يتّحد فيها اللفظ والصياغة ، كما في ( بعت ) التي تستعمل في الإنشاء والإخبار معا. وأمّا في الجمل التي تختلف فيها الصياغة والهيئة التركيبيّة كما في ( يعيد ) و ( أعد ) فلا يتمّ ما ذكر ؛ لعدم وحدة المدلول التصوّري الموضوع له في الجملتين. مضافا إلى ما تقدّم في النقاش السابق عن الجملتين التامّة والناقصة والنقض بموارد عدم قصد الحكاية والإخبار في الجملة الخبريّة كما إذا دخل عليها الاستفهام.

الثاني : أنّ الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوّري ، وذلك في كيفيّة الدلالة ، فقد يكون المدلول التصوّري واحدا ولكن كيفيّة الدلالة تختلف.

الاتّجاه الثاني : أنّ الاختلاف بين الجملتين ثابت في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي ، وهذا الاختلاف إنّما هو في كيفيّة الدلالة والاستعمال ، فإنّه إذا قصد الحكاية والإخبار جاء بالجملة الخبريّة وإذا قصد الطلب والإيجاد جاء بالجملة الإنشائيّة ، فالخبريّة والإنشائيّة خارجتان عن مدلول اللفظ ، وإنّما هما ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، فإنّه تارة يكون في مقام الإخبار وأخرى يكون في مقام الإيجاد فكيفيّة الدلالة مختلفة.

ص: 330

وأمّا المدلول التصوّري فقد يكون مختلفا وقد يكون متّحدا ، ولذلك فهو ليس جوهر الاختلاف بين الجملتين.

فإذا كان اللفظ واحدا في الجملتين كما في ( بعت ) الإخبارية والإنشائيّة فالمدلول التصوّري واحد ولكن كيفيّة الدلالة مختلفة.

وإذا كان اللفظ مختلفا كما في الجملة الإنشائيّة المتمحّضة في الإنشاء كصيغة الأمر والنهي والنداء المغايرة للجمل الإخبارية من قبيل ( أعد الصلاة ) و ( أعاد زيد الصلاة ) ، فإنّ المدلول التصوّري مختلف ، ولكنّه ليس سبب الاختلاف ؛ بل كيفيّة الدلالة هي سبب الاختلاف.

فإنّ جملة ( بعت ) الإنشائيّة دلالتها على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة ( بعت ) الإخباريّة دلالتها على مدلولها بمعنى إخطارها للمعنى وكشفها عنه. فكما ادّعي في الحروف أنّها إيجاديّة كذلك يدّعى في الجمل الإنشائيّة.

فسّر المحقّق النائيني الاختلاف في كيفيّة الدلالة في الجملتين الخبريّة والإنشائيّة كتفسيره للاختلاف بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي ، وذلك على أساس الإيجاديّة والإخطاريّة.

فجملة ( بعت الكتاب بدرهم ) لا يختلف مدلولها التصوّري الوضعي سواء استعملت للإنشاء أو استعملت للإخبار ، فهي تدلّ وضعا على إفادتها النسبة بين المبدأ والذات. إلا أنّ كيفيّة الدلالة على هذا المدلول تختلف ف- ( فبعت ) الإنشائيّة تدلّ على المدلول الوضعي بمعنى إيجادها للمدلول باللفظ ، أي أنّه يوجد شيئا لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، بينما ف- ( بعت ) الإخبارية تدلّ على مدلولها الوضعي بمعنى إخطارها له وكشفها عنه بهذا اللفظ ، أي أنّها توجب إخطار المعنى الموجود في ذهن السامع بهذا اللفظ. وأمّا متى يكون هذا الاختلاف في كيفيّة الدلالة؟

فالجواب : أنّه ينشأ من ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام الإنشاء أو في مقام الإخبار ، فالإنشائيّة والإخباريّة ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له اللفظ ، وإنّما هما من شئون الاستعمال وكيفيّة الدلالة والتي هي ظهور سياقي تابع لحال المتكلّم.

فكما أنّ الحروف تكون إيجاديّة والأسماء تكون إخطاريّة ، كذلك الجملة

ص: 331

الإنشائيّة تكون إيجاديّة بينما الجملة الخبريّة تكون إخطاريّة ، ولكن مع فارق بين هذين النحوين من الإيجاديّة والإخطاريّة وهو :

لكن مع فارق الإيجاديّتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجدا للربط الكلامي وهذه بمعنى كون ( بعت ) موجدة للتمليك بالكلام. فما هو الموجد في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام ، وما هو الموجد في باب الإنشاء أمر اعتباري مسبّب عن الكلام.

وأمّا الفارق بين إيجاديّة الحرف لمعناه وبين إيجاديّة الجملة الإنشائيّة لمعناها فهو أنّ الإيجاديّة في الحروف تتقوّم بأربعة أمور هي :

1 - إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الربط الكلامي بين المفهومين مثل ( النار في الموقد ).

2 - أن يكون المعنى الموجد قائما بغيره أي الطرفين ، فإنّه لا وجود ولا معنى للحرف إلا مع الطرفين.

3 - ألاّ يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت ، فلا موطن له إلا الاستعمال فيدور وجوده وعدمه مدار بقاء الاستعمال وعدمه.

4 - أن يكون المعنى مغفولا عنه وغير ملتفت إليه حين إيجاده ، إذ لا وجود له ليلتفت إليه قبل التلفّظ بالكلام ، وبعد التلفّظ يكون فانيا في الغير فلا يمكن الالتفات إليه.

وأمّا الإيجاديّة في الجملة الإنشائيّة فهي متقوّمة بأمور :

1 - إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الأمر الاعتباري المسبّب عن الكلام ، كالتمليك أو الزوجيّة المسبّبين عن قوله : ( بعتك الكتاب بدرهم ) أو ( زوّجتك فلانة ).

2 - أن يكون المعنى الموجد وهو الأمر الاعتباري قائما بنفسه ، فالملكيّة أو الزوجيّة لها تقرّر وثبوت بنفسهما بعد الإنشاء الكلامي.

3 - أن يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت في عالم الاعتبار ، فلا يدور مدار الاستعمال وجودا وعدما بعد وجوده.

4 - أن يكون المعنى الموجد غير مغفول عنه ، بل ملتفت إليه بعد وجوده ؛ لأنّه موجود بنحو مستقلّ في عالم الاعتبار.

ص: 332

فتحصّل من ذلك : أنّ الحرف يوجد الربط الكلامي بينما ( بعت ) توجد التمليك بالكلام. وهذا معناه أنّ الموجد في باب الحروف هو حالة قائمة بنفس الكلام ، أي الربط والفناء بين شيئين بنفس الكلام. بينما الموجد في باب الإنشاء هو الأمر الاعتباري كالتمليك والزوجيّة المسبّبين عن الكلام.

فالإيجاديّة واحدة إلا أنّ معناها يختلف بينهما (1).

ويرد على ذلك : أنّ التمليك اعتبار تشريعي يصدر من البائع ويصدر من العقلاء ومن الشارع.

ويرد على الاتّجاه الثاني المذكور والذي يفسّر الاختلاف بين الجملتين على أساس الاختلاف في كيفيّة الدلالة لا المدلول الوضعي التصوّري ، وأنّ هذا الاختلاف مردّه الى أنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بينما الجملة الإخباريّة إخطاريّة ، وأنّ مع ذكره على فرض التسليم به فهو مختصّ في الجمل المشتركة فقط ، ومع ذلك فهو غير تامّ فيها ؛ وذلك لأنّ مثل قولك : ( بعت ) ونحوها من إنشاءات المعاملات والعقود والتي تفيد

ص: 333


1- وهناك معان أخرى لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة نذكرها باختصار جدّا : الأوّل : أنّ اللفظ يوجد المعنى وفي طول ذلك يحصل إخطاره في الذهن ، فاللفظ يوجد المعنى خارجا والخارج يخطره في الذهن. وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ الإخطار يتمّ بواسطة اللفظ مباشرة. الثاني : أنّ الإنشاءات تخطر المعنى غير أنّ المتكلّم لا يقصد إلا إيجاد النسبة تنزيلا وادّعاء ، وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ المتكلّم يقصد إيجاد النسبة حقيقة بقصد الحكاية والإخبار. الثالث : أنّ الجملة الإنشائيّة موجدة لمعناها في مرحلة المدلول التصديقي وفي طوله ، بمعنى أنّ اللفظ يوجد المعنى تصوّرا ويكون مرادا جدّا في نفس المتكلّم ، وفي طول هذا المدلول التصديقي والمراد الجدّي ينشأ إخطار المعنى في ذهن السامع. بخلاف الجملة الإخبارية فإنّها تدلّ على إخطار المعنى في ذهن السامع مباشرة ؛ لأنّ المعنى ثابت في الخارج وهي تحكي وتكشف عنه. وهذا تامّ في المعاملات والطلب والأمر والنهي. الرابع : الجملة الإنشائيّة توجد معناها في مرحلة المدلول التصوّري ، بمعنى أنّ النسبة الملحوظة بها تكون فانية في واقع ينظر إليه بما هو مرحلة الثبوت والوجود بنفس الكلام ، فهي توجد النسبة بنفس الكلام. بخلاف الجملة الخبريّة فإنّ النسبة في مرحلة المدلول التصوّري منظورا إليها بما هي نسبة مفروغ عنها ، أي أنّها متحقّقة في رتبة سابقة عن الكلام ويكون الكلام كاشفا وحاكيا عنها. وهذا تامّ في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار فقط.

الملكيّة والتمليك لا يمكن أن تكون موجدة لهذا الأثر في مرحلة الاستعمال بقصد الإنشاء.

وتوضيح ذلك : أنّ التمليك - والذي هو أمر اعتباري تشريعي - من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل والتي لها جذور عقلائيّة ، تارة يصدر من البائع وأخرى يصدر عن العقلاء وثالثة يصدر من الشارع بجعله واعتباره.

وحينئذ يقول :

فإن أريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام الأوّل ، فمن الواضح سبقه على الكلام ، وأنّ البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار القائم في نفسه ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه.

فإن أريد من الإيجاديّة التمليك الذي يصدر من البائع فهذا غير تامّ ؛ لأنّ الكلام لا يوجد التمليك عند البائع ، بل العكس هو الصحيح. فإنّ التمليك موجود عند البائع أوّلا ومتصوّرا في نفسه ، ثمّ يصدره بهذا الكلام. وهذا معناه أنّ التمليك سابق على الكلام وموجود قبله.

فإذا أراد البائع أن ينشئ تمليك الكتاب بدرهم فإنّه يتصوّر ذلك في نفسه ثمّ ينشئه بالكلام ، فيكون الكلام كاشفا وحاكيا عن التمليك الموجود في نفس البائع ، لا أنّه موجد لهذا التمليك في نفسه. فالكلام لا يخلق ولا يوجد هذا الاعتبار ؛ لأنّه فعل نفساني مخلوق وموجود بالإرادة والاختيار عند البائع الناتجين عن النفس ؛ لأنّ الإرادة من الأمور النفسانيّة الاختياريّة. فيكون الكلام في طول الاعتبار والتمليك وفي رتبة متأخّرة عنه.

وإن أريد الثاني أو الثالث فهو وإن كان مترتّبا على الكلام ، غير أنّه يترتّب عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوّري وكشفه عن مدلوله التصديقي ، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصد أو كان هازلا لم يترتّب عليه أثر.

فترتّب الأثر إذا ناتج عن استعمال ( بعت ) في معناها ، وليس محقّقا لهذا الاستعمال.

وإن أريد من إيجاديّة ( بعت ) - للتمليك - التمليك عند العقلاء أو التمليك عند الشارع - فما ذكر من أنّ التمليك يوجد بالكلام ويكون مترتّبا عليه وفي طوله

ص: 334

صحيح ؛ لأنّ العقلاء أو الشارع إنّما يحكمون بترتّب هذا الأثر بعد صدور الكلام من البائع وقبوله من المشتري ، فيكون الكلام موجدا للتمليك.

إلا أنّ هذه الإيجاديّة متوقّفة على أن تكون كلمة ( بعت ) مستعملة في مدلولها التصوّري الوضعي ، والذي يكون بدوره كاشفا عن المدلول التصديقي الجدّي على أساس أصالة التطابق بين الدلالات الثلاثة.

وهذا معناه أنّ كلمة ( بعت ) تدلّ بمدلولها التصوّري الوضعي على التمليك ، ومن ثمّ تكون مستعملة فيه. وبعد ذلك يكون مرادا جدّيّا ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان البائع غير قاصد لصدور هذا الإنشاء منه ، أو لم يكن جدّيّا في ذلك بأن كان في مقام الهزل أو التقيّة لم يحكم العقلاء أو الشارع بترتّب هذا الأثر ( التمليك ) بمجرّد صدور الكلام منه ، أو بمجرّد استعماله في التمليك.

وهذا معناه أنّ التمليك إنّما يحكم به العقلاء والشارع بعد فرض أنّ الكلام مستعمل في مدلوله التصوّري الوضعي بنحو الحقيقة لا المجاز ، وبعد فرض أنّ هذا الاستعمال الحقيقي مراد جدّا وليس هزلا أو تقيّة. وأمّا مجرّد الاستعمال فقط ولو كان مجازا أو من دون قصد فلا يترتّب عليه هذا الأثر ، ولا يحكم العقلاء أو الشارع بالتمليك.

وهذا ينتج أنّ ترتّب الأثر وهو التمليك عقلائيّا أو شرعا فيما إذا كان ناتجا عن استعمال كلمة ( بعت ) في معناها الموضوعة له على نحو الحقيقة والإرادة الجدّية ، وليس الاستعمال وحده محقّقا لهذا الأثر فالتمليك ليس موجدا أو محقّقا بمجرّد الاستعمال. وهذا لازمه أن تكون كلمة ( بعت ) تدلّ تصوّرا ووضعا على هذا الأثر ، ثمّ تستعمل فيه بنحو الحقيقة والجدّيّة ، فالاستعمال مسبوق بالتمليك ويكون الاستعمال كاشفا عنه لا أنّه موجد له.

فهذا دليل على أنّ المعنى أي التمليك محفوظ في رتبة سابقة عن الاستعمال ، أي في مرحلة المدلول التصوّري الوضعي ، ثمّ يأتي بعد ذلك الاستعمال الكاشف عنه والمطابق له.

الثالث : أنّ الجملتين مختلفتان في المدلول التصوّري ، حتّى في حالة اتّحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة ، فإنّ الجملة الخبريّة موضوعة لنسبة تامّة

ص: 335

منظورا إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائيّة موضوعة لنسبة تامّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدّم في الحلقة الأولى (1).

الاتّجاه الثالث : وهو الصحيح عند السيّد الشهيد وهو أنّ الجملتين الخبريّة والإنشائيّة مختلفتان في مدلولهما التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي الاستعمالي أو الجدّي ، سواء كانت الجملتان متّحدتين باللفظ ( بعت ) الخبريّة والإنشائيّة أو كانتا مختلفتين كالطلب ونحوه من الإنشائيّات.

وكذا لو كان المدلول فيهما نسبة واحدة أي النسبة التصادقيّة ، فمع ذلك نقول : إنّ المدلول التصوّري الوضعي مختلف بينهما.

فالجملة الخبرية كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا وحكاية عن موضوع البيع بالأمس موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي حقيقة وواقعة وشيء مفروغ عن تحقّقه في الخارج. والمتكلّم إنّما يخبر ويحكي عن هذه النسبة فقط.

بينما الجملة الإنشائيّة كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء للمعاملة وللتمليك الآن عند صدور هذا الكلام موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة ، وهي النسبة التصادقيّة أيضا بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في الخارج. فهي واقعة وشيء لم يفرغ عن تحقّقه وثبوته قبل إنشاء هذه المعاملة ، وإنّما ينظر إليها بما هي نسبة في طور التحقّق والثبوت.

وبهذا يتّضح أنّ الاختلاف بين الجملتين جوهري ، وهو في المعنى الموضوع في كلّ منهما ، وليس فقط في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّيّة. وهذا الاختلاف ثابت حتّى وإن كانت الجملتان متّحدتين باللفظ وتدلاّن على نسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة.

ولمزيد من التوضيح نعرض رأي السيّد الشهيد بنحو من الاختصار في كلّ من الجمل الإنشائيّة والإخباريّة سواء المشتركتين أو المختلفتين.

فنقول : إذا كانت الجمل الإنشائيّة متمحّضة في الإنشاء كالطلب ( الأمر والنهي ) والتمنّي والترجّي والنداء ونحو ذلك ، فهي تحتاج إلى ثلاثة أطراف الأوّل والثاني

ص: 336


1- ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائية.

المفهومان اللذان يراد ربطهما معا ، والثالث هو الوعاء والواقع الذي يتحقّق فيه المفهومان الأوّل والثاني.

فقولنا : ( اضرب زيدا ) هناك نسبة تصادقيّة تامّة متحقّقة بين المفهومين ، أي الضرب وزيد. وأمّا وعاء هذين المفهومين فهو ليس الخارج ، وإنّما عالم الطلب وجعل الحكم ، وهذا الوعاء يتصوّره الذهن ويفترض تصادقهما فيه وهو الجعل والتشريع للحكم ، على خلاف الجمل الخبريّة كقولنا : ( ضرب زيد عمرا ) فإنّهما نسبة تصادقيّة بين المفهومين ، وهي ثابتة في وعاء الخارج والتحقّق.

وهكذا الحال في الاستفهام كقولنا : ( هل زيد عالم ) فالنسبة التصادقيّة متحقّقة في عالم السؤال الذي يفترضه الذهن ، وكذا التمنّي والترجّي.

إلا أنّ الفرق بين الاستفهام ونحوه وبين الطلب ونحوه أنّ الطلب يراد به تحقيق هذه النسبة في الخارج ، فينظر إليها بما هي في طور الثبوت والتحقيق خارجا. بينما في الاستفهام ونحوه قد تكون متحقّقة في الخارج وقد لا تكون موجودة إلا في عالم التخيّل فقط ، فإنّه إذا أجيب ب- ( نعم ) كان معناه أنّ النسبة موجودة في وعاء الواقع.

بينما إذا أجيب ( بلا ) كان معناه أنّه لا وجود لهذه النسبة واقعا ، وإنّما هي في عالم الاستفهام والسؤال المحض الذي يتصوّره الذهن.

وإذا كانت الجملة الإنشائيّة مشتركة مع الجملة الخبريّة باللفظ من قبيل ( بعت ) فأيضا يختلف المدلول التصوّري بينهما تبعا لاختلاف الوعاء. فإنّ وعاء الإنشاء هنا هو الاعتبار ، بينما وعاء الإخبار هو قصد الحكاية مع كونهما نسبة تصادقيّة تامّة.

إلا أنّ النسبة التصادقيّة في الجملة الخبريّة متحقّقة في عالم الواقع الخارجي ، وهي تتناسب مع قصد الحكاية والإخبار. بينما النسبة التصادقيّة في الجملة الإنشائيّة متحقّقة في عالم الاعتبار ، وتحقّقها في الخارج يكون بلحاظ مقصوده ومراده وحالة مترقّبة.

وهكذا تكون النسبة في الجملة الخبريّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي مفروغ عن تحقّقها وثبوتها في وعاء الواقع الخارجي. بينما تكون النسبة في الجملة الإنشائيّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في عالم الواقع الخارجي ، وإن كانت الآن متحقّقة في عالم الاعتبار والجعل فقط ، ولكن ينظر إليها بما هي في طور التحقّق والثبوت الخارجي.

ص: 337

ويمكن أن نفسّر على هذا الأساس إيجاديّة الجملة الإنشائيّة ، فليست هي بمعنى أنّ استعمالها في معناها هو بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى أنّ النسبة المبرزة بالجملة الإنشائيّة نسبة منظورا إليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والإيجاد.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر الإيجاديّة التي قالها المشهور والميرزا النائيني ، فليست الإيجاديّة بمعنى أنّ الجملة الإنشائيّة المستعملة في معناها توجد معناها باللفظ ويكون الكلام موجدا للأثر الاعتباري ، بل إنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بمعنى أنّ النسبة التامّة فيها ينظر إليها بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق والوجود ، لا بما هي نسبة تامّة ناجزة وقد فرغ عن جودها.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة.

* * *

ص: 338

الثمرة

ص: 339

ص: 340

الثمرة

قد يقال : إنّ من ثمرات هذا البحث أنّ الحروف بالمعنى الأصولي الشامل للهيئات إذا ثبت أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فهذا يعني أنّ المعنى الحرفي خاصّ وجزئي. وعليه ، فلا يمكن تقييده بقرينة خاصّة ، ولا إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ؛ لأنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص.

من جملة الثمرات التي ذكروها في الفرق بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هذه الثمرة ، وهي :

إنّ الحروف كمصطلح أصولي تشمل الحروف وهيئات الجمل والهيئات الإفراديّة ، وقد قلنا : إنّها موضوعة للنسبة وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها. وهذا يعني أنّ الحروف موضوعة للنسبة الخاصّة فتكون من باب الوضع العامّ ؛ لأنّ الحرف يوضع بإزاء العنوان العرضي الاسمي الجامع لفظا بين أنحاء النسب المختلفة ، ولكن الموضوع له الخاصّ ؛ لأنّ الحروف موضوعة بإزاء النسبة الخارجيّة أو الذهنيّة المتقوّمة بطرفيها والتي يستحيل تصوّرها من دونهما.

وهذا يعني أنّ الحروف معان جزئيّة لا تقبل الصدق على كثيرين بخلاف المعاني الاسميّة ، فإنّها قد تقبل الصدق على كثيرين كما في أسماء الأجناس.

وحينئذ نقول : إنّ الحروف لا تقبل التقييد ولا الإطلاق بخلاف الأسماء ، فإنّها تقبل التقييد والإطلاق. والوجه في ذلك أنّ الأسماء كالعالم يمكن تقييده بذكر قرينة خاصّة ؛ لأنّه مفهوم قابل للتحصيص ومفهوم واسع يشمل كلّ ذات لها العلم والتي هي حصص كثيرة ، ويمكن الإطلاق فيه بأن لا يذكر فيه القيد فتجري فيه قرينة الحكمة العامّة التي هي قرينة كلّيّة عامّة تجري في كلّ مورد تتمّ فيه أركانها ( وهي أن يكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي ولم يذكر قرينة على التقييد ، فهو يريد الإطلاق إذا ).

ص: 341

بينما الحروف ( من ) و ( إلى ) و ( افعل ) و ( لا تفعل ) ونحو ذلك فهي موضوعة لمعنى خاصّ وجزئي ، وهو لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّه مفهوم ومعنى ضيق لا ينطبق إلا على نفسه. ولذلك لا يقبل التقييد بقرينة خاصّة ؛ لأنّه غير قابل للتحصيص وليس له أفراد عديدة ، وليس قابلا للإطلاق ؛ لأنّه لا ينطبق إلا على نفسه فقط ولا يشمل غيره. وبهذا ظهر أنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص وهو الاسم لا الحرف بالمصطلح الأصولي.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ القيد إذا كان راجعا في ظاهر الكلام إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله ، كما في الجملة الشرطيّة فإنّ ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث إنّ هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفي وهو جزئي فلا يمكن تقييده ، فلا بدّ من تأويل الظهور المذكور.

وهنا إشكال : وهو أنّ القيد إذا كان راجعا إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله وإرجاعه إلى المادّة ؛ لأنّ الهيئة غير قابلة للإطلاق والتقييد ، إذ هي معنى حرفي كما تقدّم ، والمعاني الحرفيّة موضوعة لمعنى خاصّ جزئي غير قابل للتحصيص ولا ينطبق على كثيرين. ولذلك لا يمكن تقييده ؛ لأنّه لا يكون فيه الإطلاق إذ الإطلاق والتقييد متقابلان تقابل الملكة والعدم فكلّ مورد يصحّ فيه الإطلاق يصحّ فيه التقييد أيضا وكلّ مورد لا يصحّ فيه الإطلاق فلا يصحّ فيه التقييد. وحينئذ لا بدّ أن نلتزم بالتأويل فرارا من هذا المحذور.

فالجملة الشرطيّة مثلا ظاهرها تعليق مفاد الهيئة والجزاء والذي هو الوجوب على الشرط ، فيكون الشرط كما هو ظاهر الجملة قيدا في الوجوب ، ولكن حيث إنّ الوجوب المدلول عليه بهيئة الجزاء معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فهو غير قابل للتقييد ، كما أنّه ليس قابلا للإطلاق.

وحينئذ لا بدّ من الالتزام بالتأويل ومخالفة ظاهر الجملة وذلك بإرجاع القيد ، أي الشرط إلى المادّة أي متعلّق مفاد الهيئة والذي هو الواجب ؛ لأنّه مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد فيكون الواجب مقيّدا لا الوجوب.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّ الكلام بظهوره الأوّلي على أنّ المقيّد بالمجيء مدلول هيئة الأمر في الجزاء ، وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي فيكون الوجوب مشروطا.

ص: 342

مثال ذلك : الجملة الشرطيّة ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ ظاهرها الأوّلي كون الشرط وهو المجيء قيدا لهيئة الجزاء ( أكرمه ) ، وحيث إنّ مفاد هيئة الجزاء ومدلولها وهو الوجوب أو الطلب معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فيأتي المحذور والإشكال ، إذ كيف يمكن أن يكون الوجوب أو الطلب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي وهو الخاص ، والجزئي مقيّدا بالمجيء؟ مع أنّ كونه معنى حرفيّا معناه أنّه غير قابل للإطلاق ولا للتقييد ، فيكون هذا الظاهر الأوّلي من الجملة غير ممكن وفيه المحذور المذكور ، ولذلك كان لا بدّ من التأويل بالنحو التالي :

ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني الحرفيّة فلا بدّ من إرجاع الشرط إلى متعلّق الوجوب لا إلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقا ومتعلّقه مقيّدا بزمان المجيء على نحو الواجب المعلّق ، الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة (1).

وحلّ الإشكال أن نلتزم بالتأويل فنقول : إنّه حيث كان التقييد مستحيلا في المعاني الحرفيّة لكونها خاصّة وجزئيّة ومفهومها ضيّق ولا معنى لتضييق الضيّق في نفسه ، فنقول : إنّ هذا القيد وهو الشرط الذي بظاهره راجع إلى مدلول الهيئة وهو الوجوب لا بدّ من رفع اليد عنه ، وارجاعه إلى متعلّق الوجوب ، أي إلى الواجب والذي هو المادّة التي ركّبت فيها الهيئة أي الإكرام في المثال المذكور.

وحينئذ نقول : إنّ الوجوب الذي هو معنى حرفي ليس مقيّدا بالمجيء ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وإنّما المقيّد هو متعلّق الوجوب أي المادّة والواجب ، فيكون الإكرام الذي هو الواجب مقيّدا بزمان المجيء ؛ لأنّ الإكرام مفهوم اسمي كلّي واسع قابل التحصيص ، فإنّه يتحقّق مع المجيء وبدونه فيكون المطلوب هو الإكرام في زمان المجيء لا الإكرام مطلقا ، أي حصّة خاصّة من الإكرام لا مطلق الإكرام.

وبهذا يكون هذا التأويل من قبيل الواجب المعلّق لا الوجوب المشروط ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة تصوير الواجب المعلّق وملخّصه : أن يكون القيد أو الشرط راجعا إلى المادّة ، والواجب كما في شرطيّة الطهارة في الصلاة ، فإنّ الطهارة شرط في الصلاة لا في وجوبها ، ولذلك يجب تحصيله ويكون في ذمّة المكلّف بخلاف

ص: 343


1- في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

الشروط الراجعة إلى الوجوب ، فإنّه لا يجب على المكلّف تحصيلها ، ولذلك كان مقامنا من قبيله ونحوه لا منه حقيقة.

ولكنّ الصحيح أنّ كون المعنى الحرفي جزئيّا ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والإطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعا لقابليّة طرفيه ، وإنّما هو جزئي بلحاظ خصوصيّة طرفيه ، بمعنى أنّ كلّ نسبة مرهونة بطرفيها ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.

والصحيح عدم تماميّة الثمرة المذكورة ؛ لأنّها مبنيّة على كون المعنى الموضوع له في الحروف خاصّ وجزئي حقيقي لا يقبل الصدق على كثيرين ، فهو ضيّق لا يقبل الإطلاق ولا التقييد. إلا أنّ أصل هذا المبنى غير صحيح كما تقدّم ؛ لأنّ المراد من الخاصّ هنا ليس الجزئي الحقيقي ، وإنّما المراد منه الأخصّ ، أي المفهوم الأضيق دائرة من مفهوم آخر كالجزئي الإضافي.

فقولنا : المعنى الحرفي موضوع لمعنى خاصّ المقصود منه أنّه تارة يكون جزئيّا ، وذلك بلحاظ خصوصيّة الطرفين فإنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ويستحيل سلبها عن طرفيها وتعقّلها بدونهما ؛ لأنّها إذا سلبت عنهما انعدمت النسبة ، وإذا تغيّر الطرفان صار هناك نسبة أخرى غيرها ، فالجزئيّة بهذا اللحاظ.

إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون المعنى الحرفي مفهوما كلّيّا ، وذلك تبعا لكلّيّة الطرفين وتعدّد صدقهما في الخارج على كثيرين ، فالطرفان مفهوم كلّي ينطبق على كثيرين في الخارج ، وإن كانا بلحاظ كلّ نسبة بخصوصها مقوّمين لها ويستحيل تعقّلها بدونهما ذهنا ، وهو معنى الجزئيّة.

وحينئذ نقول : إنّ المعنى الحرفي بلحاظ كلّيّة طرفيه في الخارج معنى كلّي قابل للإطلاق والتقييد ، ولذلك لا تتمّ الثمرة المذكورة ؛ لأنّه يمكن إرجاع الشرط في الجملة الشرطيّة إلى الجزاء. وكون هيئة الجزاء مقيّدة بالشرط فيكون الوجوب مشروطا ، ولا موجب للتأويل المذكور (1).

ص: 344


1- هناك عدّة أجوبة على هذه الثمرة المذكورة أهمّها : 1 - على مسلك صاحب ( الكفاية ) : لا موضوع لهذه الثمرة ؛ لأنّه يقول بأنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ أيضا. فلا مجال للإشكال على مبناه ، وإن كان أصل المبنى غير صحيح. 2 - على مسلك الأصفهاني : يقال : إنّ علّة الجزئي إمّا أن تكون فعليّة فيكون فعليّا ، وإمّا أن تكون مقدّرة الوجود ومفروضة فيكون معلّقا عليها. وعلى فرض تحقّقها ووجودها وهذا يعني أنّه قابل للتقييد ، لا بمعنى أنّ معناه يتضيّق ؛ إذ يستحيل ذلك لأنّه جزئي حقيقي ، بل بمعنى كون وجوده معلّقا على علّته. 3 - على مسلك العراقي : يقال : إنّ الإطلاق والتقييد في المعنى الحرفي مستحيل بلحاظ الفرد ؛ لأنّه معنى جزئي حقيقي. وأمّا أحوال هذا الفرد فإنّه يمكن فيها التقييد والإطلاق ، فيجري الإطلاق الأحوالي والتقييد الأحوالي في المعنى الحرفي. وهنا ثمرة أخرى غير تامّة : وهي أنّ المعنى الاسمي يمكن التمسّك بإطلاقه لإثبات كون الوجوب نفسيّا وعينيّا وتعيينيّا ومطلقا غير مشروط ، بخلاف المعنى الحرفي فإنّه لا إطلاق فيه ليتمسّك به لإثبات ذلك ؛ لأنّه جزئي يمتنع فيه الإطلاق والتقييد. وعدم التماميّة اتّضحت ممّا سبق ؛ لأنّ الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ لا بمعنى الجزئي الحقيقي. نعم توجد ثمرة تامّة وهي : أنّه يوجد فرق بين قولنا : ( وجوب الصدقة معلّق على الغني ) ، وبين قولنا : ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ثابت ). ففي الحالة الأولى إذا شككنا أنّ التعليق لوجوب الصدق هل هو على طبيعي الغني أو على حصّة خاصّة من الغني كالغني العادل أو المؤمن مثلا؟ فهنا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الطبيعي ونفي القيود المتوهّمة والمشكوكة ؛ لأنّه لم يذكرها ، ولأنّ الغني مفهوم اسمي قابل للتقييد والإطلاق. وأمّا في الحالة الثانية فإذا شككنا في كون الوجوب معلّقا على طبيعيّ الغني أو على بعض أفراده وحصصه ، فلا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، مع أنّ الغني مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد أيضا ، فما الفرق بين الموردين إذا؟ والفرق بينهما هو أنّ الجملة الأولى فيها نسبة تامّة متقوّمة بين طرفين ظاهرين في صقع الذهن بارزين هما : ( وجوب الصدقة ) و ( الغني ) ، فيمكننا التمسّك بالإطلاق لإثبات كلّي الوجوب وطبيعيّه ولإثبات كلّي الغني وطبيعيّه. بينما الجملة الثانية فيها نسبة ناقصة ، وقد تقدّم أنّ النسبة الناقصة اندماجيّة تحليليّة ليست بارزة في صقع الذهن بين الطرفين ، وإنّما تجعل الطرفين طرفا واحدا وحصّة واحدة ، وهي هنا ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ) ، وهذا طرف واحد ليس فيه نسبة بين شيئين ظاهرا وليس بارزا ، وإنّما هناك حصّة خاصّة من وجوب الصدقة وهو الوجوب المعلّق على الغني. ولذلك لا يمكننا التمسّك بقرينة الحكمة هنا ؛ لأنّه يوجد حصّة خاصّة معيّنة ولا يوجد مفهوم اسمي كلّي ، فاختلّت إحدى مقدّمات الحكمة ؛ لأنّ المتكلّم ذكر القيد والحصّة الخاصّة ولم يقتصر على ذكر المفهوم الكلّي والطبيعي.

ص: 345

ص: 346

الأمر أو أدوات الطلب

ص: 347

ص: 348

الأمر أو أدوات الطلب

ينقسم ما يدلّ على الطلب إلى قسمين :

أحدهما ما يدلّ بلا عناية ، كمادّة الأمر وصيغته.

والآخر ما يدلّ بالعناية ، كالجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. فيقع الكلام في القسمين تباعا :

الأمر يدلّ على معان عديدة ، منها : الطلب ، والشيء ، والحادثة ، والغرض ؛ على نحو المشترك اللفظي.

والطلب يدلّ على معنيين : الطلب التكويني كطلب العطشان للماء ، والطلب التشريعي وهو تحريك الغير نحو المقصود.

فيلتقي الأمر والطلب في الطلب التشريعي أي إرسال الغير وتحريكه نحو المقصود ، فيصدق عليه عنوان الأمر وعنوان الطلب. وهذا يعني أنّ النسبة بين المفهومين العموم والخصوص من وجه.

ثمّ إنّ ما يدلّ على الطلب لغة يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يدلّ على الطلب من دون عناية ولا يحتاج إلى قرينة زائدة ، كما في مادّة الأمر أو صيغته كقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، فإنّهما يدلاّن على الطلب لغة بلا إشكال وبلا حاجة إلى عناية وقرينة زائدة.

الثاني : ما يدلّ على الطلب مع وجود العناية والقرينة الزائدة ، بحيث لا يكون موضوعا لغة للطلب ، وإنّما دلّ على ذلك لأجل وجود قرينة لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة كانت لها الدلالة على الطلب. كما في الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب كقولنا : ( أعاد الصلاة ، أو يعيد صلاته ، أو صلاته باطلة ) في جواب من سأل عن حكم الصلاة في حالة مخصوصة ، فإنّ كون المتكلّم في مقام بيان الأحكام وتشريعها قرينة على أنّ المراد من

ص: 349

الجملة الخبريّة هنا هو الإنشاء والطلب وجعل الحكم لا الإخبار والحكاية كما سيأتي.

القسم الأوّل : الطلب هو السعي نحو المقصود ، فإن كان سعيا مباشرا كالعطشان يتحرّك نحو الماء فهو طلب تكويني. وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي.

الطلب لغة : هو السعي نحو المقصود.

وهو على قسمين :

الأوّل : الطلب التكويني ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود سعيا مباشرا من نفس الطالب والمريد كما في العطشان الذي يطلب الماء ، فإنّه إذا سعى نحوه بنفسه وقام بتحصيله بتحرّك منه ذاتا كان طلبه للماء تكوينا. وبمعنى آخر أن يكون الطالب والمريد هو الذي يحصّل الغرض بنفسه ويتحرّك نحوه.

الثاني : الطلب التشريعي ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود بتحريك الغير وتكليفه كما في أوامر السادة مع عبيدهم والرئيس مع المرءوسين ، فإنّه يحرّكهم ويدفعهم نحو تحقيق الغرض الذي يريده ويطلبه. فكان الطالب والمريد غير المتحرّك والساعي نحو تحصيل الغرض.

والطلب التشريعي بدوره يقسم إلى قسمين :

الأوّل : الطلب التشريعي من العالي حقيقة ، سواء كان متظاهرا في علوّه أم لم يكن متظاهرا في ذلك.

الثاني : الطلب التشريعي من العالي ادّعاء ، وهو من يتظاهر بالعلوّ مع كونه ليس عاليا حقيقة.

ولا شكّ في دلالة مادّة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كلّ طلب ، بل الطلب التشريعي من العالي.

ثمّ إنّ مادّة الأمر تدلّ على الطلب بمعنى كونها موضوعة لغة للطلب ، كما أنّها موضوعة لغيره على نحو الاشتراك اللفظي كما تقدّم.

إلا أنّ المادّة ليست موضوعة لمطلق الطلب الشامل للتكويني والتشريعي ، بل هي موضوعة للطلب التشريعي ، وكذلك للطلب التشريعي الذي يكون من العالي حقيقة لا العالي ادّعاء.

ص: 350

فقوله : ( آمرك بالصلاة ) تدلّ مادّة الأمر لغة على الطلب التشريعي من العالي ، بنحو المعنى الاسمي ؛ وذلك لأنّ الطلب كمفهوم اسمي معناه السعي نحو المقصود والإرسال نحو المادّة ، والتشريعي معناه تحريك الغير وتكليفه ، فكلمة ( آمرك ) تدلّ على هذا المعنى كمفهوم اسمي ؛ لأنّ مادّة الأمر مفهوم اسمي وليست معنى حرفيّا ، حيث تقدّم في المعاني الحرفيّة أنّ المادّة مفهوم اسمي بخلاف الهيئة فإنّها معنى حرفي.

كما لا إشكال في دلالة صيغة الأمر على الطلب ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرساليّة ، والإرسال ينتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إنّ الإرسال سعيّ نحو المقصود من قبل المرسل.

ثمّ إنّه لا إشكال أيضا بأنّ صيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على الطلب أيضا لكن لا بما هو معنى مفهوم اسمي ، بل بما هو معنى حرفي ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة ( افعل ) هو النسبة التامّة المتحقّقة في الذهن بين المرسل والمرسل إليه. فهناك إذا نسبة تامّة إرساليّة تدلّ عليها صيغة ( افعل ) ؛ لأنّ الهيئة فيها معنى حرفي فهي تدلّ على النسبة حتما.

ثمّ إنّ هذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ وذلك لأنّ الإرسال معناه السعي نحو المقصود بإرسال الغير ، وهذا نفسه مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب سعي نحو المقصود أيضا بتحريك الغير.

وبهذا يتبيّن أنّ الهيئة لصيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على النسبة الإرساليّة ، وهذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب والإرسال كلاهما سعيّ نحو المقصود من الغير إمّا بتحريكه وإمّا بإرساله.

فتكون الهيئة دالّة على الطلب بالدلالة التصوّريّة تبعا لدلالتها تصوّرا على منشأ انتزاعه.

وحينئذ تكون هيئة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الارساليّة تصوّرا ؛ لأنّها موضوعة لها تدلّ أيضا على الطلب بالدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، وهذا يعني أنّها موضوعة لغة للدلالة على الطلب أيضا كمادّة الأمر.

غاية الأمر أنّ المادّة تدلّ على الطلب كمفهوم اسمي مباشرة وابتداء ، بحيث تكون المادّة موضوعة لغة للطلب ابتداء ومباشرة. بينما صيغة الأمر تدلّ على الطلب كنسبة من خلال دلالتها على النسبة الإرساليّة الموضوعة لها والتي هي منشأ الانتزاع للطلب ،

ص: 351

فتكون دالّة على الطلب بتوسّط دلالتها على النسبة الإرساليّة ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة تستبطن الدلالة على الطلب ؛ لأنّ مفهوم الطلب ينتزع من مفهوم الإرسال.

فإنّه إذا تحقّق الإرسال بإرسال الغير نحو المرسل إليه انتزع العقل من ذلك الطلب ؛ لأنّ هذا المرسل يسعى نحو المقصود وهو المرسل إليه ، ولمّا كانت الهيئة دالّة تصوّرا على النسبة الإرساليّة فهي تدلّ تصوّرا على الطلب المستبطن بداخلها ؛ لأنّها منشأ انتزاعه ومن الواضح أنّ الدلالة التصوّريّة هي المدلول الوضعي ، فتكون الهيئة موضوعة لغة للدلالة على الطلب كنسبة.

كما أنّ الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيّا للطلب ؛ لأنّها سعي نحو المقصود.

ثمّ إنّ صيغة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الإرساليّة وعلى الطلب تصوّرا ووضعا تكون تصديقا مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني عند صدورها بلحاظ داعي تحصيل المقصود ؛ لأنّ الطلب التكويني هو السعي نحو المقصود مباشرة والوجه في ذلك : أنّ الصيغة بحسب مدلولها التصوّري كما قلنا تدلّ على النسبة الإرساليّة ، ولكنّها بحسب مدلولها التصديقي لها عدّة دواع ، فتارة تكون بداعي التّرجي ، وأخرى بداعي التمنّي ، وثالثة بداعي الالتماس ، ورابعة بداعي الطلب.

فإن لوحظ صدورهما بداعي الطلب كانت مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني الذي هو السعي نحو المقصود ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة أو الطلبيّة المدلول عليها تصوّرا يكون مدلولها التصديقي الحقيقي أو الأقرب من غيره هو الطلب الخارجي ؛ لأنّه من خلال الطلب الخارجي والسعي نحو المقصود خارجا تتحقّق النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة على أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي ؛ لأنّ الدواعي الأخرى كالتمنّي والترجّي والالتماس ليس فيها سعي نحو المطلوب والمقصود في الخارج إلا مع العناية والتقدير. هذا كلّه بلحاظ الآمر وأمّا المأمور فسعيه نحو المقصود طلب تشريعي.

وممّا اتّفق عليه المحصّلون من الأصوليّين (1) تقريبا دلالة الأمر - مادّة وهيئة - على الوجوب ، بحكم التبادر وبناء العرف العامّ على كون الطلب الصادر من المولى

ص: 352


1- انظر : كفاية الأصول : 83 و 92. أجود التقريرات 1 : 87. المقالات 1 : 208 و 22.

بلسان الأمر مادّة أو هيئة وجوبا ، وإنّما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها إلى عدّة أقوال :

اتّفق الأصوليّون على أنّ الأمر - مادّة وهيئة - يدلّ على الوجوب على نحو الحقيقة ، بمعنى أنّ الأمر إذا أطلق من دون قرينة كان دالاّ على الوجوب. وهذا الاتّفاق تقريبي ؛ لأنّ بعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الندب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الجامع المشترك بين الوجوب والندب.

إلا أنّ الصحيح هو دلالتهما على الوجوب بنحو الحقيقة ، والدليل على ذلك :

أوّلا : التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن من إطلاق الأمر مادّة أو هيئة هو الوجوب والإلزام ، والتبادر علامة الحقيقة كما تقدّم سابقا.

وثانيا : الفهم العرفي ، فإنّ بناء العرف العامّ عند إطلاق الأمر مادّته أو هيئته هو دلالته على الوجوب ، مضافا إلى أنّ بناءهم وتعاملهم فيما بينهم على ذلك كما هو مقتضى سيرة الآمرين مع المأمورين العرفيّين ، والشارع ليس له طريقة جديدة على خلاف ما هو مرتكز عند العرف أو ما هو مبني عند العقلاء (1).

وهذا المقدار لا خلاف فيه تقريبا ، وإنّما الخلاف في توجيه وتفسير هذه الدلالة ، وأنّها على أي أساس تدلّ على الوجوب ، فهنا عدّة أقوال :

القول الأوّل : إنّ ذلك بالوضع (2) ، بمعنى أنّ لفظ الأمر موضوع للطلب الناشئ من داع لزومي ، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من ذلك. ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدّعاة لتفسير هذا التبادر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه المشهور من كون الأمر بمادّته وهيئته موضوعا لغة للطلب الوجوبي الناشئ من داع لزومي.

ص: 353


1- وثالثا : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من الاستشهاد للدلالة على الوجوب ببعض الآيات الشريفة كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) فإنّ التحذير من مخالفة تتناسب مع كون الأمر للوجوب لا للأعمّ أو لخصوص الندب. وقوله صلی اللّه عليه وآله : لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك فإنّ المشقّة تتناسب مع الوجوب أيضا ؛ وذلك لعدم المشقّة في الندب.
2- كما عليه ظاهر عبارة الكفاية : 83 و 92.

أمّا مادّة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على الطلب بمفهومه الاسمي لكن خصوص الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الطلب ينقسم إلى قسمين طلب ضعيف وطلب شديد. فالأمر موضوع للطلب الشديد لغة والذي هو الوجوب.

وأمّا صيغة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على النسبة الإرساليّة المتضمّنة للطلب ، وهذه النسبة الإرساليّة أيضا تنقسم إلى قسمين وذلك تبعا للطلب المتضمّن فيها ، فتكون موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي أي الوجوب.

والدليل على ذلك هو التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن عند إطلاق المادّة والصيغة هو الوجوب دون غيره.

وهذا الدليل يحتاج إلى ضميمة وهي إبطال المناشئ الأخرى التي تفسّر دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب ، فإذا بطلت سائر المناشئ تعيّن كونهما موضوعين للوجوب على أساس التبادر الذي هو علامة الحقيقة.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه اللّه (1) : من أنّ ذلك بحكم العقل ، بمعنى أنّ الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي ، وإنّما مدلوله الطلب ، وكلّ طلب لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالاستحباب.

القول الثاني : ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب إنّما هي بحكم العقل ، وتوضيح ذلك يكون برسم أمور :

الأول : أنّ الوجوب معناه الثبوت ، ومنه يقال الواجب بالذات والواجب بالغير أي الثابت ، والثبوت يحتاج إلى علّة.

الثاني : أنّ الطلب معناه البعث والتحريك من العالي حقيقة أي الشارع ، والطلب والبعث هو علّة الثبوت والوجوب.

الثالث : أنّ مادّة الأمر وصيغته موضوعة لغة للدلالة على الطلب ، فقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( صلّ ) مدلوله الوضعي اللفظي هو الطلب ، أي البعث والتحريك نحو المقصود.

ص: 354


1- فوائد الأصول 1 : 136.

والنتيجة هي أنّ الشارع مهمّته أن ينشأ ما يكون دالاّ على البعث والطلب وهو الأمر مادّة أو هيئة ؛ لأنّ وظيفته إيجاد العلّة أو الموجب والمقتضي فقط.

وأمّا التحرّك والانبعاث نحو المقصود والمطلوب فهو ليس من وظيفة الشارع ، بل إنّ العقل يحكم بذلك على أساس أنّ المولى له حقّ الطاعة على عبده.

فالعبد يحكم العقل عليه بوجوب الإطاعة والامتثال لطلب مولاه وبعثه وتحريكه.

وحينئذ يقال : إنّ هذا الطلب إذا اقترن بما يدلّ على جواز المخالفة والإذن والترخيص في الترك من الشارع فعندئذ لا يحكم العقل بالانبعاث والتحرّك ؛ لأنّ المولى نفسه قد سمح بذلك ، ولذلك يحكم العقل بأنّ هذا الطلب متّصف بالاستحباب ، أي البعث نحو المقصود مع جواز الترك.

وأمّا إذا لم يقترن هذا الطلب بما يدلّ على جواز المخالفة والترخيص في الترك فإنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال والانبعاث نحو المقصود الذي طلبه المولى وبعث العبد إليه ، وعندئذ ينتزع العقل وصف الوجوب.

فالحاصل : أنّ الوجوب والاستحباب ليسا مدلولين وضعيّين لفظيّين لمادّة الأمر وصيغته ، بل المدلول الوضعي اللفظي للمادّة والصيغة هو الطلب.

وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل ، فإنّ العقل ينتزع صفة الوجوب من كلّ طلب لم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، وينتزع صفة الاستحباب من كلّ طلب اقترن بالترخيص وجواز المخالفة.

ومن هنا كان تعريف الوجوب أنّه الطلب الذي لا يجوز تركه بينما الاستحباب هو الطلب الذي يجوز تركه ؛ لأنّه طلب مقترن بالترخيص في الترك.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ؛ لوضوح أنّ المكلّف إذا اطّلع - بدون صدور ترخيص من قبل المولى - على أنّ طلبه نشأ من ملاك غير لزومي ، ولا يؤذي المولى فواته ، لم يحكم العقل بلزوم الامتثال.

ويرد أوّلا على ما ذكره المحقّق النائيني - من أنّ العقل يحكم بالوجوب إذا صدر

ص: 355

الطلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة - أنّه غير تامّ في تمام الموارد ، ويكفي في إبطال الموجبة الكلّيّة أن يكون هناك سالبة جزئيّة.

وهنا يوجد بعض الموارد لا يتمّ فيها ما ذكر ، وذلك فيما إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، ولكنّنا نفرض أنّ المكلّف قد اطّلع على الملاك والمبادئ التي نشأ منها هذا الطلب ، بناء على أنّ الأحكام والتكاليف تابعة للملاك والمبادئ الواقعيّة.

فهنا إذا اطّلع المكلّف على هذا الملاك فوجده ملاكا غير لزومي بمعنى أنّ المكلّف علم بعد اطّلاعه على الملاك أنّ المولى لا يهتمّ كثيرا بتحقّق طلبه في الخارج ، بل يرضى بتفويته ولا يؤذيه فوات طلبه وعدم تحقّقه ؛ لأنّ ملاكه لم يكن ذا مصلحة ملزمة وشوق أكيد ، بل كان ممّا يحسن فعله ولكن لا يضرّ تركه. فلو فرضنا ذلك فهل يحكم العقل هنا بلزوم الانبعاث ووجوب التحرّك وحرمة المخالفة والترك أيضا؟!

من الواضح أنّ العقل لا يحكم بذلك ؛ لأنّ العقل إنّما يحكم بالوجوب والانبعاث وحرمة المخالفة ولزوم الامتثال رعاية لحقّ المولى ، والمفروض أنّ المولى يرضى بتفويت حقّه هنا ؛ لأنّ المكلّف اطّلع على أنّ الملاك والمبادئ ليست بدرجة من الأهمّيّة ، بل المولى يرضى بفواتها ولا يؤذيه ذلك.

وحينئذ نقول : إنّ المفروض هنا أنّ العقل يحكم بالانبعاث والوجوب بناء على ما ذكره الميرزا من القاعدة الكليّة ؛ لأنّ هذا الطلب صادر من المولى ولم يقترن بما يدلّ على الترخيص وجواز المخالفة ، مع أنّنا وجدنا أنّ العقل لم يحكم بذلك لاطّلاع المكلّف على الملاك ، والذي هو سنخ ملاك لا يؤذي المولى فواته ومخالفته ، فكيف يحكم العقل بالوجوب والحال هذه؟! بل الميرزا وغيره لا يقولون بالوجوب هنا.

ومثال ذلك : لو فرضنا أنّ المولى قد أمر عبده بأن يأتيه بالماء ليشربه ولم يقترن هذا الطلب بترخيص وإذن في المخالفة ، غير أنّ العبد علم أنّ المولى بعد ذلك قد شرب الماء وارتوى من عطشه ، فهل يحكم العقل عليه بوجوب الإتيان بالماء أيضا مع انتفاء الملاك الداعي للطلب؟!

فالوجوب العقلي فرع مرتبة معيّنة في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف

ص: 356

عنها إلا الدليل اللفظي ، فلا بدّ من فرض أخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب العقلي.

وممّا ذكر يتّضح أنّ الوجوب الذي يحكم به العقل ليس موضوعه صدور طلب من المولى غير مقترن بالترخيص فقط ، بل الوجوب العقلي موضوعه أن يكون هناك ملاك ملزم لا يرضى المولى بتفويته ، بأن كان بدرجة من الأهمّية يؤذيه فواته ومخالفته. فإنّ العقل حينئذ يحكم بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة ؛ رعاية لحقّ المولى وكون طاعته واجبة على عبيده.

وهذا معناه أنّ الوجوب فرع وجود مرتبة معيّنة من الملاك للطلب. فإذا كان الطلب صادرا من هذه المرتبة المعيّنة من الملاك والمبادئ حكم العقل بالوجوب ، وإن لم يكن صادرا عنها بأن كان الملاك الذي هو العلّة للطلب ذا مرتبة ضعيفة بحيث يرضى المولى بفوات طلبه ولا يضرّه مخالفته لم يحكم العقل بالوجوب. ويدلّ على ذلك أنّ المكلّف لو اطّلع على الملاك الملزم الذي لا يرضى المولى بفواته فيحكم العقل بوجوب الامتثال وحرمة المخالفة. وإن لم يصدر من المولى طلب بالفعل ، ويكون مدانا ومستحقّا للعقاب لو خالف ذلك بأن اطّلع على الملاك الإلزامي ولم يمتثله.

فموضوع الوجوب العقلي إذا هو هذه المرتبة من ملاك الطلب.

وحينئذ نقول : إنّ هذه المرتبة من ملاك الطلب الملزمة - والتي لا يرضى المولى بتفويت طلبه لأجلها لأنّها العلّة لطلبه - لا بدّ للمولى من أن يدلّ ويكشف عنها لعبده ، ولا يتركها للعبد نفسه إذا اطّلع عليها امتثل وإن لم يطّلع عليها لم يمتثل ؛ لأنّه بذلك يكون مفوّتا لغرضه بيده وهذا قبيح صدوره من الشارع الحكيم.

وهذا الكاشف والدالّ ليس هو إلا الدليل اللفظي ؛ لأنّ الشارع يتعامل مع عبيده بالتكاليف والأوامر والخطابات اللفظيّة ، فلا بدّ من فرض وجود هذه المرتبة من الملاك ضمن الدليل اللفظي. وهذا يعني أنّ اللفظ يدلّ ويكشف عن هذه المرتبة ، وحيث إنّه لا يوجد في الدليل اللفظي إلا الأمر بمادّته أو هيئته لأنّه الدالّ على طلب المولى ، فتكون هذه المرتبة موجودة في الأمر مادّة أو هيئة.

وهذا هو المقصود من الوجه الأوّل القائل بأنّ الأمر بمادّته وهيئته دالّ على الوجوب وضعا ، وبذلك يتنقّح موضوع الوجوب العقلي ؛ لأنّ المادّة والصيغة تدلاّن على الطلب

ص: 357

الناشئ من ملاك لزومي لا يرضى المولى بتفويته ، فإذا اتّضح هذا الموضوع حكم العقل بالوجوب وحرمة المخالفة.

وثانيا : أنّ لازم القول المذكور أن يبنى على عدم الوجوب فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر.

وتوضيح ذلك : وثانيا : أنّ لازم القول الذي ذكره الميرزا من أنّ الطلب إذا لم يقترن بالترخيص فيحكم العقل بالوجوب ، وإذا اقترن بالترخيص فيحكم العقل بالاستحباب ، هو أن يحكم بالاستحباب وعدم الوجوب في بعض الموارد ، مع أنّه لا يلتزم بذلك أحد من الفقهاء حتّى الميرزا نفسه.

وذلك فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر ، ومثاله : أن يصدر أمر من قبيل ( أكرم العالم العادل ) ويقترن هذا الأمر بدليل يدلّ على الإباحة والترخيص ويكون شاملا بعمومه لمورد الأمر من قبيل ( لا بأس بترك إكرام العالم ) أو ( يجوز ترك إكرام العالم ). فإنّ دليل الأمر موضوعه ( العالم العادل ) بينما دليل الترخيص موضوعه ( العالم ) وهو عنوان يشمل بعمومه وإطلاقه موضوع الأمر أي ( العالم العادل ) ؛ لأنّ النسبة بينهما العموم والخصوص مطلقا.

فهنا تختلف النتيجة على المسلكين المذكورين وتوضيح ذلك :

أنّه إذا بنينا على أنّ اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالأمر في الحالة في الحالة التي أشرنا إليها يكون مخصّصا لذلك العامّ الدالّ على الإباحة ومخرجا لمورده عن عمومه ؛ لأنّه أخصّ منه ، والدالّ الأخصّ يقدّم على الدالّ العامّ كما تقدّم (1).

إذا بنينا على مسلك المشهور القائل بأنّ الأمر بمادّته وصيغته يدلّ على الوجوب وضعا فحينئذ يكون هناك تعارض غير مستقرّ بين الدليلين المذكورين ؛ لأنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا. فيكون الأمر ( أكرم العادل العالم ) مخصّصا ومقيّدا للعامّ ( لا بأس بترك إكرام العالم ) الذي يدلّ على الإباحة والترخيص.

ومقتضى الجمع العرفي أن يكون الأمر الدالّ على الوجوب مقدّما على العامّ الدالّ على الإباحة والترخيص ، بمعنى أنّ دليل الأمر يخرج مورده وهو ( العالم العادل ) من

ص: 358


1- في بحث التعارض في الحلقتين الأولى والثانية.

موضوع دليل الإباحة ( العالم ) ، على أساس قانون الأخصّية والقرينيّة ، فإنّه سوف يأتي في مباحث التعارض أنّ موارد الجمع العرفي تتمّ فيما إذا كان أحد الدليلين قرينة على الآخر ومفسّرا للمراد منه.

وهذه القرينة على نوعين القرينة الشخصيّة وهي الحكومة ، والقرينة النوعيّة وهي تشمل موارد ثلاثة وهي : ( التقييد والتخصيص والأظهريّة ). وهنا يقع موردنا صغرى لكبرى القرينيّة بالتقييد أو التخصيص القائلة بأنّ كلّ مفهوم كان أضيق دائرة من مفهوم آخر فهو يصلح لأن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من المفهوم الأوسع الأعمّ.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ مفهوم ( العالم العادل ) أضيق دائرة من مفهوم ( العالم ) ولذلك يصلح أن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من العالم وأنّه غير العادل.

والنتيجة هي أنّ الأمر دالّ على وجوب إكرام العالم العادل ، بينما دليل الترخيص والإباحة دالّ على جواز ترك إكرام العالم غير العادل. والوجه في ذلك كما تقدّم هو الأخصّية والأضيقيّة.

وهذا جمع عرفي نوعي يحكم به العقلاء والعرف العامّ ، والشارع أمضى ذلك وسار على بنائهم وطريقتهم كما سيأتي بيانه مفصّلا.

وأمّا إذا بنينا على مسلك المحقّق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الأمر والعامّ ليقدّم الأمر بالأخصّيّة ؛ وذلك لأنّ الأمر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك ، بل المتعيّن بناء عليه أن يكون العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ؛ لأنّ العامّ ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى.

وأمّا إذا بنينا على مسلك الميرزا من أنّ الأمر لا يدلّ إلا على الطلب ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل الحاكم بالوجوب إذا لم يقترن الطلب بالترخيص ، والحاكم بالاستحباب إذا اقترن الطلب بالترخيص.

فهنا لا يكون هناك تعارض أصلا بين هذين الدليلين لا مستقرّ ولا غير مستقرّ ، فلا معنى للجمع العرفي المذكور بحمل الدليل العامّ على غير مورد الأمر كما تقدّم على

ص: 359

المسلك السابق ؛ لأنّ دليل الأمر لا يدلّ على الوجوب وضعا وإنّما يدلّ على الطلب فقط بحسب الوضع اللغوي.

وحينئذ لن يكون هناك تعارض بين قوله : ( أكرم العالم العادل ) وبين قوله : ( يجوز ترك إكرام العالم ) ؛ لأنّ الأمر الدالّ على الطلب كما أنّه يتناسب مع الوجوب كذلك يتناسب مع الاستحباب والإباحة والترخيص في الترك ، وهذا الطلب الذي يجوز تركه ينسجم مع دليل الإباحة الدالّ على جواز ترك إكرام العالم مطلقا حتّى العادل.

وبما أنّه لا تعارض بينهما فلا معنى للجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع بعد فرض وجود تعارض ولو بنحو غير مستقرّ بين الدليلين ، فلا معنى للتقديم بلحاظ الأخصّيّة والأضيقيّة لإمكان الأخذ بالدليلين معا من دون محذور أصلا.

وحينئذ لا معنى لحمل الأمر على الوجوب وكون دليل الإباحة مختصّا بالعالم غير العادل ، بل يتعيّن بناء على مسلك الميرزا المذكور أن يكون دليل الترخيص العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال والوجوب ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون الوجوب من أحكام العقل القائل بأنّه إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص فهو يدلّ على الوجوب.

فحكم العقل بالوجوب معلّق إذا على عدم ورود الترخيص من المولى ، فإذا ورد ترخيص من المولى كان حكم العقل منتفيا بانتفاء موضوعه ، وهنا العامّ ترخيص وارد وصادر من المولى ومقترن بدليل الأمر ، وهذا يعني ارتفاع موضوع حكم العقل المعلّق على عدم ورود الترخيص ؛ لأنّ الترخيص ثابت.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن الوجوب والحكم بالاستحباب لتماميّة موضوعه ؛ لأنّ العقل يحكم بالاستحباب في كلّ مورد صدر فيه طلب واقترن الترخيص ، وهذا طلب وأمر مقترن بالترخيص وهو العامّ فيحمل الأمر على الاستحباب بناء على مسلك الميرزا.

مع أنّ بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص العامّ في مثل ذلك والالتزام بالوجوب.

وهذا اللازم المذكور مخالف لبناء الفقهاء ومخالف للارتكاز العرفي وبناء العقلاء في محاوراتهم وأحكامهم التشريعيّة ، فإنّهم يحكمون في مثل هذا المورد بتخصيص

ص: 360

العامّ بهذا الأمر المقيّد ، فيكون الأمر دالاّ على الوجوب في ( العالم العادل ) ، بينما العامّ دالّ على الإباحة والترخيص وجواز الترك في ( العالم غير العادل ) ، بل إنّ الميرزا نفسه لا يلتزم بالنتيجة المبتنية على مسلكه ، وهذا منبّه على أنّ أصل المبنى المذكور غير صحيح ؛ لأنّه يكفي في إبطال الموجبة الكلّيّة السالبة الجزئيّة كما هو في المنطق.

وثالثا : أنّه قد فرض أنّ العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلّقا على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وحينئذ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلّقا على عدم اتّصال الترخيص بالأمر ، أو على عدم صدور الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة عن الأمر ، أو على عدم إحراز الترخيص ويقين المكلّف به؟ والكلّ لا يمكن الالتزام به.

وثالثا : أنّ هذا المسلك قد فرض أنّ العقل يحكم بالوجوب فيما إذا كان هناك طلب ولم يقترن بالترخيص ، فحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص ، وهذا يعني أنّه إذا ورد ترخيص يرتفع حكم العقل بالوجوب لارتفاع موضوعه أو لارتفاع شرطه وقيده ؛ لأنّ الطلب ثابت ولكن الترخيص شرط فيه قد يرد وقد لا يرد.

فهنا إذا ورد طلب من المولى واحتملنا ورود الترخيص بمعنى أنّنا لم نعلم بعدم ورود الترخيص بل يمكن وجوده ويمكن ألاّ يكون موجودا.

وبتعبير آخر احتملنا صدور الترخيص المنفصل من الشارع ولكنّه لم يصل إلينا نتيجة لبعض الظروف والملابسات ، فهنا هل يمكننا إثبات الوجوب أو لا؟

أمّا بناء على المشهور القائل بأنّ الأمر مادّة وهيئة موضوع للوجوب فيمكننا ذلك ، ويؤيّده البناء العقلائي والارتكاز الفقهي. فإنّ العقلاء والفقهاء لا يعتنون بمثل هذا الاحتمال ، بل يبنون على عدمه.

وأمّا بناء على مسلك الميرزا فإنّ الاحتمال المذكور سوف يسبّب لنا الشكّ في أصل الدلالة على الوجوب ؛ لأنّ هذا الترخيص المحتمل إذا كان صادرا فعلا فلا يحكم العقل بالوجوب ، وإن لم يكن صادرا فيحكم بالوجوب ، فنشكّ في أصل تحقّق حكم العقل بالوجوب وعدمه ؛ وذلك لأجل الشكّ في تحقّق موضوع حكم العقل وعدم تحقّقه. ولذلك لا بدّ أن نطرح هذا التساؤل وهو : أنّ عدم ورود الترخيص الذي أخذ قيدا وشرطا في حكم العقل ما ذا يراد به؟

ص: 361

وللإجابة على ذلك توجد ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المقصود أنّ حكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص المتّصل بالأمر والطلب ، فإذا ورد ( أكرم العالم ) ولم يكن معه ترخيص متّصل به حكم العقل بوجوب الإكرام ، وأمّا إذا اقترن معه ترخيص كأن ورد ( أكرم العالم إن شئت ) فلا يحكم العقل بالوجوب.

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود أنّ حكم العقل معلّق على عدم صدور الترخيص واقعا ، سواء كان متّصلا بالأمر أو منفصلا عنه ، فإذا ورد ( أكرم العالم ) ولم يصدر من الشارع ترخيص واقعي أصلا سواء كان الترخيص المفروض صدوره متّصلا أو منفصلا فيحكم العقل بالوجوب.

وأمّا إذا ورد الترخيص وصدر من الشارع واقعا سواء كان متّصلا بالخطاب أم منفصلا فلا يحكم العقل بالوجوب.

وهذا يعني أنّه يكفي صدور الترخيص واقعا من الشارع ، سواء وصل إلى المكلّف أو أنّ المكلّف علم بصدور الترخيص ولكنّه لم يصل إليه لأسباب عامّة أو خاصّة.

الاحتمال الثالث : أن يكون المقصود من عدم صدور الترخيص أو من كون حكم العقل معلّقا على عدم الترخيص ، ألاّ يحرز المكلّف الترخيص ولا يعلم به ، بمعنى أنّ المكلّف إذا لم يحرز الترخيص ولم يعلم به فالعقل يحكم بالوجوب ، سواء كان في الواقع ترخيص صادر أو لم يكن هناك ترخيص أصلا ، فالمدار على علم المكلّف وإحرازه للترخيص وعدم ذلك.

وهذه الاحتمالات الثلاثة لا يمكن الالتزام بها ، فلا يكون هناك معنى محصّل لعدم الترخيص المأخوذ في حكم العقل.

أمّا الأوّل فلأنّه يعني أنّ الأمر إذا ورد ولم يتّصل به ترخيص تمّ بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافيا لحكم العقل باللزوم فيمتنع ، وهذا اللازم واضح البطلان.

أمّا الاحتمال الأوّل : بأن يكون المقصود عدم الترخيص المتّصل ، فهو يستلزم نتيجة لا يمكن الالتزام بها فقهيّا. وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد أمر ولم يتّصل به ترخيص متّصل من قبيل ( أكرم العالم ) فهنا يتمّ موضوع حكم العقل وشرطه فيحكم

ص: 362

بالوجوب ؛ لأنّه أمر ولم يتّصل به ترخيص ، فإذا جاء بعد ذلك ترخيص منفصل من قبيل ( لا يجب إكرام العلماء ) أو ( يجوز ترك إكرام العلماء ) فهنا سوف يقع التنافي بين حكم العقل بالوجوب وبين هذا الدليل الشرعي الدالّ على الترخيص والإباحة.

فإنّ العقل يحكم بالوجوب وينفي كلّ ما عداه ، بينما الدليل المنفصل يدلّ على الترخيص وينفي كلّ ما عداه ، إلا أنّه من الواضح أنّ حكم العقل إذا تمّ موضوعه فهو حكم قطعي ؛ لأنّ موضوعات الأحكام العقليّة بمثابة العلل ، فإذا تمّ الموضوع فالعلّة موجودة فلا بدّ من ترتّب المعلول عليها وهو الوجوب ، ويستحيل الحكم بالترخيص.

فيكون هذا الدليل المنفصل غير صادر من الشارع أصلا إن كان ظنّي السند. وأمّا إن كان قطعي السند فلا بدّ من تأويله بحيث ينجسم مع حكم العقل القطعي ، وهذا معناه أنّه يمتنع الأخذ بهذا الدليل المنفصل الدالّ على الترخيص ؛ لأنّه مناف مع حكم العقل القطعي.

وهذه النتيجة لا يقول بها أحد حتّى الميرزا نفسه ؛ لأنّ الفقهاء وغيرهم يلتزمون بالقرائن المنفصلة وكونها قرينة على تحديد المراد من الكلام الصادر من المتكلّم ، ومفسّرة للمراد الجدّي من كلامه السابق ، بل إنّ القرائن المنفصلة واعتماد الشارع عليها كثيرة جدّا حتّى قيل : إنّه ( ما من عامّ إلا وقد خصّ ) فوجود المخصص المنفصل إذا دليل وكاشف على أنّ حكم العقل بالوجوب بالنحو المذكور غير صحيح ؛ لأنّ الشارع لا يصدر منه ما يخالف الحكم القطعي للعقل.

وأمّا الثاني فلأنّه يستلزم عدم إحراز الوجوب عند الشكّ في الترخيص المنفصل واحتمال وروده ؛ لأنّ الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهو معلّق بحسب الفرض على عدم ورود الترخيص ولو منفصلا ، فمع الشكّ في ذلك يشكّ في الوجوب.

وأمّا الاحتمال الثاني بأن يكون عدم الترخيص هو عدم الترخيص واقعا سواء المتّصل أو المنفصل ، فيلزم منه الإهمال والإجمال ، وذلك فيما إذا ورد أمر ( أكرم العالم ) واحتمل صدور الترخيص ولو منفصلا ، لكنّه لم يصل إلى المكلّف لظروف وأسباب كنسيان الراوي لما ذكره الإمام مثلا ، أو لضياعه مع الإشارة إلى ذلك ، فهناك أمر صادر وهناك ترخيص مشكوك ، ولكن يحتمل كونه صادرا أيضا.

ص: 363

وهذا يعني أنّ موضوع حكم العقل بالوجوب غير تامّ ؛ لأنّ الموضوع مركّب من صدور أمر وعدم صدور الترخيص ، فصدور الأمر متحقّق ولكن عدم صدور الترخيص مشكوك ، فلا يتمّ حكم العقل بالوجوب ؛ لأنّ الشكّ في صدور الترخيص وعدمه معناه الشكّ في الوجوب وعدمه ؛ لأنّ الوجوب معلّق فمع الشكّ في قيده وشرطه سوف يشكّ بالوجوب.

وحينئذ لا يحكم العقل بالوجوب ؛ لأنّ عدم الترخيص غير متحقّق ، ولا يحكم بالاستحباب ؛ لأنّ الترخيص أيضا غير متحقّق. وهذا يعني أنّ هذا الأمر ليس وجوبا وليس استحبابا.

وهذه نتيجة لا يلتزم بها أحد ، وإلا لكانت كلّ الأوامر الصادرة من الشارع مع احتمال وجود الترخيص مبتلية بالإجمال والإهمال ، وهذا يؤدّي إلى التعطيل في الأحكام وهو واضح البطلان.

وأمّا الثالث فهو خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم ، لا في المنجّزيّة.

وأمّا الاحتمال الثالث بأن يكون حكم العقل معلّقا على عدم إحراز الترخيص وعدم علم المكلّف بالترخيص ، فهو خروج عن محلّ الكلام.

وتوضيحه : أنّ فرض كون حكم العقل معلّقا على عدم إحراز الترخيص أو على عدم علم المكلّف بالترخيص ، معناه أنّ المكلّف إذا أحرز وعلم بالترخيص فالعقل يحكم بالاستحباب ، وإذا أحرز وعلم بعدم الترخيص فالعقل يحكم بالوجوب ، وهذا معناه أنّ الوجوب يدور مدار العلم وإحراز عدم الترخيص وعدم ذلك.

وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام في الوجوب الواقعي الثابت واقعا سواء علم به المكلّف أم لا ؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة يشترك فيها العالم والجاهل وليست مختصّة بالعالم دون الجاهل.

وأمّا الوجوب الظاهري فهو ثابت على العالم دون الجاهل ، بمعنى أنّ منجّزيّة الوجوب وكونه فعليّا بحقّ المكلّف فرع علم المكلّف به وإحرازه ، فإذا علم به وأحرزه فهو فعلي بحقّه ، وإذا جهله فهو ليس فعليّا في حقّه مع كون الوجوب ثابتا واقعا بحقّه ولكنّه معذور بسبب جهله.

ص: 364

وبعبارة أخرى : أنّ الوجوب الواقعي الذي هو محلّ الكلام لا يمكن إناطته وتعليقه على العلم والإحراز ، أو على عدم العلم والاحراز ؛ لأنّ قاعدة الاشتراك تثبت أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة مطلقا سواء علم بها أم لا.

نعم ، المنجّزيّة والتي هي بمرتبة الوجوب الظاهري تكون منوطة ومعلّقة بالعلم وعدمه ، بمعنى أنّه إذا علم بالوجوب يتنجّز عليه ، وإذا جهله فلا يتنجّز عليه. والمنجّزيّة وعدمها من الأحكام الظاهريّة لا الواقعيّة ، ولذلك لا مانع من اختصاصها بالعالم دون الجاهل.

إذا تعليق الوجوب على الإحراز أو العلم بعدم الترخيص معناه أنّ الوجوب هنا وجوب ظاهري ، أي كونه منجّزا أو ليس بمنجّز. وهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّنا نتكلّم عن الوجوب الواقعي الثابت مطلقا ، سواء علم به أم لا.

ولو سلّم فبالإمكان إحراز الترخيص بعد صدور الأمر بأدلّة الأصول المؤمّنة. وهذا يعني أنّه لا وجوب مطلقا أو غالبا. وهذا لا يقوله أحد (1).

ص: 365


1- يضاف إلى هذه الردود بعض النقوض الأخرى من قبيل : 1 - إذا ورد أمر وحكم العقل بالوجوب ؛ لأنّه لم يقترن بالترخيص ، ثمّ بعد ذلك نسخ هذا الوجوب ، فبناء على هذا المسلك يلزم أو يحكم العقل بالاستحباب ؛ لأنّ الأمر دالّ على الطلب والدليل الناسخ رفع الوجوب فيتعيّن الاستحباب ، بينما المشهور عندهم هو الحكم بالجواز فقط. 2 - إذا ورد أمر عقيب توهّم الخطر ، فبناء على هذا المسلك ينبغي الحكم بالوجوب ؛ لأنّه أمر لم يقترن بالترخيص ، مع أنّ المشهور أنّه يدلّ على الجواز والإباحة ، بل لا يلتزم أحد حتّى الميرزا بكونه وجوبا ؛ لأنّ توهّم الحظر قرينة غير لفظيّة على عدم إرادة الوجوب. ولذلك لعلّ الميرزا يبرّر عدم دلالته على الوجوب باعتبار أنّ توهّم الحظر بنفسه قرينة ولو غير لفظيّة على الترخيص ، فيكون دالاّ على مسلكه على الاستحباب ، وهو أيضا خلاف البناء الفقهي. 3 - إذا ورد أمر واحد له متعلّقات متعدّدة علم بعدم إرادة الوجوب من بعضها كما إذا قيل : ( اغتسل للجمعة وللعيدين وللجنابة ) فبناء على مسلك الميرزا سوف لا تسلّم دلالة الأمر على الوجوب ، حتّى لو علم بعدم إرادته من بعضها لقيام الدليل الخاصّ على الترخيص ، مع أنّ المشهور هو انثلام هذه الدلالة على الوجوب ؛ لأنّ معناه أنّ ( اغتسل ) تكون دالّة على الوجوب وعلى الاستحباب معا ، وهو غير صحيح.

القول الثالث : أنّ دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة. وتقريب ذلك بوجوه :

القول الثالث : أنّ دلالة الأمر مادّة وهيئة على الوجوب ليست بالدلالة الوضعيّة كما هو المشهور ، وليست بحكم العقل كما هو مسلك الميرزا ، وإنّما الأمر يدلّ على الوجوب بالإطلاق وقرينة الحكمة ، والتي هي دلالة عامّة نوعيّة ، وتقريب الاستدلال بقرينة الحكمة من وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ الأمر يدلّ على ذات الإرادة ، وهي تارة شديدة كما في الواجبات ، وأخرى ضعيفة كما في المستحبّات. وحيث إنّ شدّة الشيء من سنخه بخلاف ضعفه فتتعيّن بالإطلاق الإرادة الشديدة.

التقريب الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ الأمر بمادّته يدلّ على صرف الطلب وبصيغته على النسبة الإرساليّة بين الفاعل والمبدأ ، وحيث إنّ الطلب والإرادة متّحدان فالأمر بمادّته يدلّ على مفهوم الإرادة الصرفة ، وبصيغته يدلّ على الإرادة أيضا بتوسّط النسبة الإرساليّة حيث إنّه يستبطن الطلب.

وحينئذ فالأمر بمادّته وصيغته يدلّ على الطلب والإرادة المحضة الصرفة. وهذه الإرادة تارة تكون شديدة كما في الواجبات ، وأخرى تكون ضعيفة كما في المستحبّات. وهذا يعني أنّ الوجوب هو الإرادة الشديدة بينما الاستحباب هو الإرادة الضعيفة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ شدّة الشيء من سنخ الشيء ، فالإرادة الشديدة من سنخ الإرادة ؛ وذلك لأنّ الإرادة الوجوبيّة الشديدة هي الإرادة التامّة التي لا نقصان فيها ولا ضعف ، فلا يحتاج في بيان الإرادة الشديدة إلا إلى بيان الإرادة ، وهذا ما يتكفّل به لفظ الأمر بمادّته أو هيئته.

فالإرادة الشديدة إرادة بخلاف ضعف الشيء فإنّه ليس من سنخه ، فالإرادة الضعيفة ليست من سنخ الإرادة ؛ وذلك لأنّها تحتاج إلى مئونة زائدة وهي بيان النقص والضعف في الإرادة. فإنّ ضعف الإرادة ونقصها ليس إرادة ، فالإرادة الاستحبابيّة لا يكفي فيها بيان الإرادة باللفظ ، بل لا بدّ من بيان ما يدلّ على الضعف والنقصان.

والنتيجة هي : أنّه بالإطلاق وقرينة الحكمة تتعيّن الإرادة الشديدة ، أي الإرادة

ص: 366

الوجوبيّة ؛ وذلك لأنّها ليس فيها مئونة زائدة بخلاف الإرادة الاستحبابيّة ففيها مئونة زائدة ، فتنفى بالإطلاق ويتعيّن ما لا مئونة زائدة فيه. والوجه في ذلك :

لأنّها لا تزيد على الإرادة بشيء فلا يحتاج حدّها إلى بيان زائد على بيان المحدود ، بينما تزيد الإرادة الضعيفة بحدّها عن حقيقة الإرادة.

إنّ الإرادة الشديدة حدّها وتعريفها هو نفسه تعريف الإرادة والطلب ؛ لأنّ الوجوب والإرادة الشديدة من سنخ الإرادة كما تقدّم ، فحدّهما واحد وهو الطلب الذي هو السعي نحو المقصود ، بشكل يحافظ فيه على المبادئ والداعي ويمنع من تخلّفها.

فالوجوب حدّه الإرادة والطلب بنحو يمنع من التخلّف والترك ، وهذا الحدّ الوجوبي ليس شيئا زائدا عن حقيقة الإرادة والطلب ؛ لأنّ إرادة شيء تمنع من تركه والتخلّف عنه ، ولذلك لا يحتاج هذا الحدّ إلى بيان زائد عن بيان أصل الإرادة ، فيكون اللفظ الدالّ على الإرادة هو بنفسه دالاّ على هذا الحدّ أيضا.

وأمّا الإرادة الضعيفة فحدّها وتعريفها يختلف عن حدّ الإرادة والطلب ؛ لأنّ ضعف الشيء ليس من سنخه ، بل يحتاج إلى شيء آخر يدلّ عليه ، فتعريف وحدّ الإرادة الضعيفة هو الإرادة والطلب مع الترخيص في تركه ومخالفته.

وهذا يختلف عن تعريف وحدّ الإرادة والإرادة الشديدة ؛ لأنّ حدّهما هو الطلب مع المنع من التخلّف والترك. ولذلك كان حدّ الإرادة الضعيفة يحتاج إلى بيان زائد على أصل وحقيقة المحدود ، وهذا البيان الزائد لا بدّ من دليل يدلّ عليه ، ولا يكفي ذكر ما يدلّ على أصل الإرادة والطلب فقط.

وحينئذ نقول : إنّه إذا ورد أمر ( أكرم العالم ) ولم يذكر فيه ما يدلّ على الحدّ الزائد للإرادة الضعيفة تعيّن كون المراد من الإرادة والطلب في صيغة الأمر هنا هو الإرادة الشديدة ؛ لأنّه يكفي في بيان حدّها ذكر المحدود ، أي الإرادة فقط ؛ لأنّ الحدّ في الإرادة الضعيفة أمر وجودي وهو ذكر الترخيص ، بينما الحدّ في الإرادة الشديدة أمر عدمي وهو عدم التخلّف والمنع من الترك ، والأمر العدمي يكفي السكوت عنه بخلاف الأمر الوجودي. فبالإطلاق وقرينة الحكمة تتعيّن الإرادة الشديدة وهي الإرادة الوجوبيّة.

ص: 367

فلو كانت هي المعبّر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدّها الزائد ؛ لأنّ الأمر لا يدل إلا على ذات الإرادة.

وأمّا لو قال : ( أكرم العالم ) وقصد من ذلك الإرادة الضعيفة والاستحباب لكان يجب أن ينصب قرينة تدلّ على ذلك ؛ لأنّنا قلنا : إنّ الإرادة الضعيفة تحتاج إلى بيان زائد عن أصل الإرادة ، ولا يكفي بيان الإرادة فقط ؛ لأنّ حدّها ليس من سنخ حد الإرادة الضعيفة ، فالأمر الموجود في الجملة لا يدلّ إلا على الإرادة المحضة ، أي ذات الإرادة فقط.

وأمّا الإرادة الاستحبابيّة الضعيفة فهي تحتاج إلى بيان زائد عن حدّ الإرادة ؛ لأنّهما سنخان مختلفان وحدّهما يختلف ؛ لأنّ حدّ الإرادة الضعيفة أمر وجودي فتكون إرادة الاستحباب من لفظ الأمر مع عدم نصب ما يدلّ على هذا الحدّ الزائد على خلاف المتعارف عند أهل المحاورة والعرف.

بينما لو كان يريد الإرادة الوجوبيّة الشديدة لكان هذا الكلام كافيا ؛ لأنّ حدّها من سنخ حدّ الإرادة ولا يحتاج إلى بيان زائد عن أصل بيان الإرادة ؛ لأنّهما شيء وسنخ واحد. فبيان أحدهما بيان للآخر أيضا ، فبالإطلاق وقرينة الحكمة ينتفي ما يدلّ على الإرادة الضعيفة ويتعيّن ما يدلّ على الإرادة الشديدة.

وقد أجيب (1) على ذلك : بأنّ اختلاف حال الحدّين أمر عقلي بالغ الدقّة وليس عرفيّا ، فلا يكون مؤثّرا في إثبات إطلاق عرفي يعيّن أحد الحدّين.

أمّا ما ذكره من بيان فهو فنّي ومقتضى الصناعة ، إلا أنّ إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المقام غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّما تجري فيما إذا فرض لفظ موضوع لمعنى قابل للإطلاق وقابل للتقييد ، فإنّه إذا لم يذكر ما يدلّ على التقييد كان ذلك كافيا لاستفادة الإطلاق ؛ لأنّ إرادة التقييد مع عدم ذكر ما يدلّ عليه على خلاف أهل المحاورة والبناء العقلائي.

فقرينة الحكمة تعتمد على ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي من كلامه ، فلو كان يريد التقييد لكان ذكر ما يدلّ عليه ، فما دام لم يذكر ما يدلّ عليه فهو لا يريده كما هو مقتضى المحاورات العرفيّة.

ص: 368


1- نهاية الدراية 1 : 319.

وفي مقامنا وإن كان يوجد لفظ موضوع لمعنى يقبل التقييد والإطلاق - لأنّ لفظ الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب والإرادة وهي تنقسم إلى الإرادة الشديدة الوجوبيّة وإلى الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة - إلا أنّ اختلاف الحدّين والتعريفين ليس من الأمور التي يلتفت إليها العرف ويدركها ، بل اختلاف الحدّين من الأمور العقليّة البالغة الدقّة التي لا تدرك إلا بالتحليل والتدقيق ؛ لأنّ كون الإرادة الشديدة الوجوبيّة من سنخ الإرادة ، وكون الإرادة الضعيفة الاستحبابيّة ليست من سنخها لا يمكن فهمها عرفا ، بل تحتاج إلى التأمّل والتدقيق العقلي البالغ.

وهذا معناه أنّ العرف لا يرى فرقا بين الوجوب والاستحباب في كونهما إرادة ؛ لأنّ فارق الوجوب عن الاستحباب أمر عقلي بالغ الدقّة ، فهو ليس موجودا بنظر العرف والبناء العقلائي ، ولذلك كان لا بدّ من دليل على إرادة الوجوب ، كما أنّه لا بدّ من دليل على إرادة الاستحباب عند العرف.

ثمّ لو سلّمنا بكون الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد ، فمع ذلك نقول : إنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الوجوب ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة كما قلنا ظهور عرفي سياقي لحال المتكلّم ، والوجوب والاستحباب بهذين الحدّين ليسا من الظهورات العرفيّة ، بل هما من التحليلات العقليّة. فلا يؤثّر هذا الإطلاق في تعيين أحدهما ونفي الآخر ؛ وذلك لأنّ المرتكز المبني عليه الإطلاق هو العرف بينما الكلام هنا في الأمور العقليّة الدقيقة جدّا (1).

ص: 369


1- والمحقّق العراقي كأنّه التفت إلى هذا الإشكال : فأجاب عنه بأنّ هذين الحدّين وإن كانا من الأمور العقليّة إلا أنّهما مرتكزان عند العرف ، بحيث إنّ العقلاء لو التفتوا إلى ذلك لم ينكروا ، فهما من المرتكزات العقلائيّة التي تحتاج إلى التحليل والدقّة ليتمّ الالتفات ، ولكن الغفلة عنهما وعدم الالتفات الفعلي إليهما لا يضرّ في تعقّل العرف والعقلاء لهما لو التفتوا إليهما. وجوابه : أنّ العرف لا يلتفت إلى هذا الفارق ولو إجمالا وارتكازا ، بل هذا الفارق يحتاج إلى الخواصّ من أهل التدقيق والتحقيق. فحال الحدّين لا يدركهما حتى بعد التحليل إلا القليل من العلماء ، فهما ليسا من الأمور العرفيّة ولو ارتكازا. وبالجملة يضاف إلى ذلك : أنّ مفهوم الإرادة كلّي مشكّك لا ينطبق على أفراده بالتساوي ، بل بالتفاوت. وهذا يعني أنّ الوجوب والاستحباب أي الإرادة الشديدة والإرادة الضعيفة .. ... فردان من أفراد الإرادة ويدلّ عليه صحّة الحمل وعدم صحّة السلب ، فيحتاج كلّ منهما إلى دليل زائد عن الإرادة. بل لو كانت الإرادة المحضة والإرادة الشديدة متسانختين بينما الإرادة الضعيفة ليست إرادة لأنّها ليست من سنخها ، للزم المجاز في الصيغة والمادّة عند إرادة الاستحباب ؛ لأنّ الصيغة موضوعة للطلب وهو متّحد مع الإرادة وهي تدلّ على الإرادة الشديدة التي هي حدّ الوجوب. فالنتيجة : هي أنّ الصيغة تدلّ على الوجوب وضعا فيكون استعمالها في الاستحباب مجازا ؛ لأنّه استعمال في غير ما وضع له. وهذا لا يمكن قبوله عرفا.

ثانيها : وهو مركّب من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : أنّ الوجوب ليس عبارة عن مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ ذلك ثابت في المستحبّات أيضا ، فلا بدّ من فرض عناية زائدة بها يكون الطلب وجوبا.

التقريب الثاني : أنّ الأمر مادّة وهيئة كما تقدّم يدلّ على الطلب ، والطلب كما يتناسب مع الوجوب يتناسب مع الاستحباب أيضا. فالوجوب إذا ليس مجرّد طلب الفعل ؛ لأنّ طلب الفعل موجود في المستحبّات أيضا ، وهذا يعني أنّ الطلب حيثيّة مشتركة بينهما.

فلا بدّ إذا من فرض خصوصيّة وعناية زائدة يتميّز بها كلّ واحد منهما عن الآخر ، وعلى أساس تلك الخصوصيّة والعناية وبضمّها إلى الطلب يكون هناك وجوب واستحباب. هذا أوّلا.

وليست هذه العناية عبارة عن انضمام النهي والمنع عن الترك إلى طلب الفعل ؛ لأنّ النهي عن شيء ثابت في باب المكروهات أيضا.

الأمر الثاني : أنّ هذه العناية والخصوصيّة التي يتميّز بها الوجوب عن الاستحباب ليست هي النهي والمنع عن الترك منضمّا إلى الطلب ، بأن يقال : إنّ الوجوب هو طلب الفعل مع النهي عن تركه ؛ وذلك لأنّ النهي عن شيء ثابت في باب المكروهات أيضا ، فكيف ينشأ الوجوب من هذه الخصوصيّة النهي عن الترك مع أنّ هذه الخصوصيّة موجودة في المكروه؟

فإنّ هذه الخصوصيّة إن كانت مفيدة للّزوم لكان المكروه لازما أيضا ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المكروه يجوز فعله ويجوز تركه أيضا. ولا يمكن لهذه

ص: 370

الخصوصيّة أن تفيد اللزوم هنا ولا تفيده هناك ؛ إذ هو ترجيح بلا مرجّح.

فلا بدّ من القول : إنّها ليست الخصوصيّة والعناية التي يحتاجها الوجوب زائدا على الطلب. مضافا إلى أنّه يلزم أن يكون الوجوب قد عرّف بجنسين لا بجنس وفصل ، وهو باطل.

وإنّما هي عدم ورود الترخيص في الترك ؛ لأنّ هذا الأمر العدمي هو الذي يميّز الوجوب عن باب المستحبّات والمكروهات.

الأمر الثالث : أنّ هذه الخصوصيّة والعناية التي بها يتحقّق الوجوب ويتميّز عن غيره من الأحكام ، إنّما هي عدم ورود الترخيص في الترك. فيكون الوجوب هو طلب الفعل مع عدم الترخيص في تركه ، وهذه الخصوصية أمر عدمي لا تحتاج إلى بيان زائد ؛ إذ يكفي فيها عدم ورود

الترخيص فيكفي السكوت عن الترخيص ليتحقّق عدمه.

وبهذا يتميّز الوجوب عن الاستحباب وعن المكروه وعن المحرّم ؛ لأنّ المكروه والمحرّم فيهما نهي عن الفعل ، والوجوب فيه طلب الفعل فحصل التغاير. والاستحباب فيه ترخيص في الترك مع طلب الفعل ، بينما الوجوب ليس فيه ترخيص بالترك.

ونتيجة ذلك : أنّ المميّز للوجوب أمر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك ، فيكون مركّبا من أمر وجودي وهو طلب الفعل وأمر عدمي وهو عدم الترخيص في الترك. والمميّز للاستحباب أمر وجودي وهو الترخيص في الترك فيكون مركّبا من أمرين وجوديّين.

والنتيجة في هذه المقدّمة الأولى : أنّ المميّز للوجوب عن غيره هو هذه الخصوصيّة والتي هي أمر عدمي ، أي عدم الترخيص في الترك ، فيكون الوجوب مركّبا من شيئين :

أحدهما طلب الفعل والآخر عدم الترخيص في الترك.

وهذا يعنى أنّه مركّب من أمر وجودي وأمر عدمي والأمر العدمي هو الخصوصيّة المميّزة له عن غيره. بينما الاستحباب يتركّب من شيئين : أحدهما طلب الفعل والآخر الترخيص في الترك ، فيكون الاستحباب مركّبا من أمرين وجوديّين.

وهذا يعني أنّ المميّز للاستحباب عن غيره هو خصوصيّة وصفة وجوديّة لا عدميّة كما في الوجوب.

ص: 371

المقدّمة الثانية : أنّه كلّما كان الكلام وافيا بحيثيّة مشتركة ويتردّد أمرها بين حقيقتين : المميّز لإحداهما أمر عدمي والمميّز للأخرى أمر وجودي ، تعيّن بالإطلاق الحمل على الأوّل ؛ لأنّ الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

المقدّمة الثانية وهي إثبات كبرى كلّيّة مفادها : أنّه إذا كان هناك أمران مشتركان في حيثيّة واحدة تكون جامعا بينهما ، وكان أحدهما يتميّز عن الآخر بحيثيّة وخصوصيّة عدميّة بينما الآخر يتميّز عن الأوّل بحيثيّة وخصوصيّة وجوديّة ، كان مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة هو حمل ما يدلّ على الحيثيّة المشتركة من دون ذكر قيد وخصوصيّة زائدة عليها أن تحمل هذه الحيثيّة على ذاك الأمر الذي يتميّز بالحيثيّة والخصوصيّة العدميّة ، لا على الأمر الذي تميّز بالخصوصيّة والحيثيّة الوجوديّة ؛ وذلك لأنّ الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

فإنّهما وإن كانا ذات مئونة زائدة عن تلك الحيثيّة المشتركة بينهما إلا أنّ الحيثيّة الدالّة على الأمر العدمي يكفي في الدلالة عليها السكوت وعدم الإتيان بما يدلّ على الخصوصيّة العدميّة ، بينما الحيثيّة الدالّة على الأمر الوجودي لا يكفي فيها السكوت ، بل لا بدّ من التصريح بهذه الخصوصيّة الوجوديّة ، ولذلك كان الأمر العدمي أسهل مئونة من الأمر الوجودي.

فإذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر الوجودي مع أنّه لم يذكر الأمر الوجودي ، فهذا خرق عرفي واضح ؛ لظهور حال المتكلّم في بيان تمام المراد بالكلام.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر الوجودي الذي يتميّز عن الأمر العدمي بخصوصيّة وحيثيّة وجوديّة إذا كان مقصودا من الكلام ولم يذكر المتكلّم هذه الخصوصيّة الوجوديّة الدالّة عليه فيكون بذلك خارقا لما هو المتعارف في مقام التخاطب والمحاورات ؛ لأنّ العرف يرى أنّ المتكلّم إذا كان في مقام المحاورة والتخاطب أو التشريع فهو يبيّن كلّ ما يكون له مدخليّة في مراده الجدّي بهذا الكلام ، فإن كان يريد المقيّد لزم ذكر ما يدلّ على القيد وإن كان يريد أمرا وجوديّا ، فلا بدّ أن يذكر هذه الخصوصيّة الوجوديّة التي يتميّز بها ، وإلا لكان بذلك خارجا عن أساليب المحاورات والخطابات العرفيّة.

وخرقه هذا يكون بمثابة من الوضوح بحيث لا يمكن للعرف أن يغضّ النظر عن هذه المخالفة ؛ لأنّه أراد المقيّد بالأمر الوجودي ، ومع ذلك لم يذكر هذا الأمر

ص: 372

الوجودي ، فهذا الخرق لا يتسامح به العرف ، بل يراه مستهجنا ؛ لأنّ طرق بيان الأمر الوجودي منحصرة في ذكره والدلالة عليه بالقرينة ، ومخالفته تكون واضحة جدّا.

وأمّا إذا كان المقصود ما يتميّز بالأمر العدمي فهو ليس خرقا لهذا الظهور بتلك المثابة عرفا ؛ لأنّ المميّز حينما يكون أمرا عدميّا كأنّه لا يزيد على الحيثيّة المشتركة التي يفي بها الكلام.

وأمّا الأمر العدمي الذي يتميّز بخصوصيّة وحيثيّة عدميّة فإذا كان هو المقصود من الكلام ، ولم يذكر المتكلّم ما يدلّ على هذه الخصوصيّة العدميّة ، كان أيضا خارقا لهذا الظهور العرفي لحال المتكلّم في أنّه في مقام البيان لتمام مدلوله الجدّي بهذا الكلام ، مع أنّه لم يبيّن هذه الخصوصيّة العدميّة الدخيلة في المراد.

إلا أنّ العرف يرى أنّ هذا الخرق والخروج عمّا هو متعارف في أساليب الكلام والمحاورات يمكن غضّ النظر عنه والمسامحة فيه ؛ وذلك لأنّ هذا الأمر العدمي لمّا كان يتميّز بخصوصيّة عدميّة ، فكأنّه لا يزيد عن تلك الحيثيّة المشتركة. فإذا كان الكلام وافيا في الدلالة على تلك الحيثيّة المشتركة ، وكان مقصود المتكلّم هو الأمر العدمي المتميّز بخصوصيّة عدميّة ولم يذكر ما يدلّ عليها ، لم يكن بنظرهم التسامحي خارقا للظهور العرفي ؛ لأنّهم ينزّلون هذا الأمر العدمي منزلة الحيثيّة المشتركة في كون اللفظ كافيا للدلالة عليهما معا ؛ لأنّ الحيثيّة العدميّة المميّزة للأمر العدمي يكفي فيها ولو مسامحة السكوت عنها وعدم ذكر ما يدلّ على الأمر الوجودي ، وحينئذ يكون الدالّ على الحيثيّة المشتركة ، دالاّ أيضا على الأمر العدمي بالنظر العرفي التسامحي.

والحاصل : أنّه يوجد خرق عرفي هنا أيضا ، إلا أنّ هذا الخرق العرفي أخفّ وأقلّ مئونة من الخرق العرفي السابق ؛ لأنّه هنا يوجد طريقان لبيان الأمر العدمي :

الأوّل : أن يذكر ما يدلّ عليه في الكلام بأن يأتي بالقرينة.

الثاني : أن يكفّ ويسكت عن بيان علّة الوجود ؛ لأنّ عدم بيان علّة الوجود هي نفسها علّة العدم أيضا.

وحينئذ يكون من قصد الوجوب من الحيثيّة المشتركة ولم يذكر ما يدلّ على الأمر العدمي خارقا للظهور العرفي بطريقه الأوّل ، لكنّه موافق له بطريقة الثاني ، فالمخالفة أقلّ من المخالفة في الاستحباب.

ص: 373

ولذلك عند ما يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر يتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة الأقلّ ؛ لأنّ الأكثر فيه مئونة زائدة ، والوجه في ذلك أنّ الخصوصيّة العدميّة أقلّ مئونة من الخصوصيّة الوجوديّة ؛ لأنّه يكفي في بيان الخصوصيّة العدميّة مجرّد السكوت عن بيان الأمر الوجودي ولو بالنظر التسامحي العرفي ، بينما لا يكفي بيان الخصوصيّة الوجودية إلا ذكر ما يدلّ عليها في الكلام.

ومقتضى هاتين المقدّمتين تعيّن الوجوب بالإطلاق.

والنتيجة حينئذ : هي أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وذلك بتطبيق هاتين المقدّمتين على مقامنا.

فنقول : إنّ الأمر بمادّته وهيئته يدلّ على الطلب ، وهو حيثيّة مشتركة بين الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي.

ثمّ إنّ الطلب الوجوبي يتميّز عن الطلب الاستحبابي بخصوصيّة عدميّة وهي عدم الترخيص في الترك.

بينما الطلب الاستحبابي يتميّز عن الطلب الوجوبي بخصوصيّة وجوديّة وهي الترخيص في الترك.

فإذا ورد أمر وتردّد بين الطلب الوجوبي وبين الطلب الاستحبابي تعيّن الطلب الوجوبي ؛ لأنّه كما تقدّم في المقدّمة الثانية أنّ ما يتميّز بخصوصيّة عدميّة أسهل وأخفّ مئونة وأقلّ خرقا للظهور العرفي من المتميّز بخصوصيّة وجوديّة عند عدم ذكر ما يدلّ على الخصوصيّة في كلّ منها ، فيكون مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة حمل الكلام على الأقلّ مئونة والأخفّ خرقا على أساس أنّ العرف يتسامحون في بيان الخصوصيّة العدميّة وينزّلون ما يتميّز بها منزلة الحيثيّة المشتركة ، فما يدلّ عليها يدلّ عليه أيضا مسامحة.

بينما في الخصوصيّة الوجوديّة لا يوجد تسامح عرفي من هذا القبيل ، بل عدم ذكر الخصوصيّة الوجوديّة - مع كونها مقصودة واقعا - مستهجن عرفا.

ويرد عليه : المنع من إطلاق المقدّمة الثانية ، فإنّه ليس كلّ أمر عدمي لا يلحظ أمرا زائدا عرفا ، ولهذا لا يرى في المقام أنّ النسبة عرفا بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ والأكثر ، بل النسبة بين مفهومين متباينين ، فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق.

ص: 374

ويرد عليه : أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية ( من أنّ الأمر العدمي بنظر العرف المسامحي لا يلحظ كونه أمرا زائدا عن الحيثيّة المشتركة ، بل كأنّه إذا بيّن ما يدلّ على الحيثيّة المشتركة كان هذا كافيا للدلالة على ما يتميّز بالأمر العدمي كالوجوب ، فكأنّ حدّه لا يزيد عن حدّه ) ، فهذا على إطلاقه وعمومه بنحو القضيّة الكلّيّة ليس صحيحا. وإنّما يصحّ في بعض الأمور العدميّة لا كلّ الأمور العدميّة.

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة بين الأمر الوجودي وبين الأمر العدمي إن كانت نسبة الأقلّ والأكثر تمّت هذه الكبرى كما في موارد الإطلاق والتقييد ، فإنّ الإطلاق عدم لحاظ القيد بينما التقييد هو لحاظ القيد زائدا عن الطبيعة والماهيّة ، فيكون الإطلاق الملحوظ فيه ذات الطبيعة والماهيّة فقط بقطع النظر عن القيود.

بينما التقييد الملحوظ فيه الطبيعة مع القيد فهو أمر زائد يحتاج إلى بيان ودليل عليه بخلاف الإطلاق ، فإنّه يكفي بيان ما يدلّ على ذات الطبيعة والماهيّة. فالإطلاق هو الأقلّ والتقييد هو الأكثر ، فإذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر مع عدم وجود ما يدلّ على الأكثر تعيّن الأقلّ ، ولذلك يتعيّن الأقلّ بالإطلاق هنا ؛ لأنّه عرفا لا يلحظ فيه أمر زائد عن الماهيّة والطبيعة ، فكأنّ حدّها هو حدّه أيضا.

وأمّا إذا كانت النسبة بين الأمرين العدمي والوجودي نسبة التباين الكلّي ، كما في الوجوب والاستحباب فإنّهما أمران وجوديّان متضادّان لا يجتمعان على موضوع واحد من جهة واحدة ، فالعقل يرى أنّ حدّ الوجوب مباين لحدّ الاستحباب ؛ لأنّ الوجوب حدّه عدم الترخيص في الترك ، بينما الاستحباب حدّه الترخيص في الترك ، والترخيص وعدمه متباينان.

وأمّا النظر العرفي المسامحي الذي ينظر إلى المفاهيم بقطع النظر عن حدودها العقليّة الدقيقة فهو يرى أنّ الوجوب والاستحباب كلاهما طلب للفعل ، ولكن الوجوب طلب شديد ، بينما الاستحباب طلب ضعيف. إلا أنّ العرف مع ذلك لا يقول بأنّ النسبة بين الوجوب والاستحباب هي نسبة الأقلّ والأكثر لنطبّق عليهما الكبرى المذكورة في المقدّمة الثانية ؛ لأنّ النسبة ومعرفة حالها من شئون العقل لا العرف ، وقد تقدّم أنّ العقل يرى أنّ النسبة بينهما نسبة التباين.

وحينئذ لا يكون هناك فرق بين حدّ الوجوب وحدّ الاستحباب في لزوم ذكر ما

ص: 375

يدلّ عليه ، فإذا لم يذكره كان خرقا عرفيّا لظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان لتمام مراده الجدّي ، حتّى وإن كان المميّز للوجوب أمرا عدميّا ؛ لأنّ هذا الأمر العدمي يلحظ أمرا زائدا بنظر العرف عن أصل الحيثيّة المشتركة بين المفهومين المتباينين.

وعلى هذا فلا موجب لتعيين أحدهما بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح إذ لا فرق بين المفهومين المتباينين ولا ميزة لأحدهما على الآخر في كون كلّ منهما يتميّز بأمر زائد.

ثالثها : أنّ صيغة الأمر تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ، ولمّا كان الإرسال والدفع مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم للتحرّك والاندفاع ، فمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول التصديقي أنّ الطلب والحكم المبرز بالصيغة سنخ حكم يشتمل على سدّ تمام أبواب العدم ، وهذا يعني عدم الترخيص في المخالفة.

التقريب الثالث : وهو مؤلّف من عدّة أمور :

الأمر الأوّل : أنّ صيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي ؛ وذلك لأنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة فهي تدلّ على النسبة الإرساليّة أو النسبة الدفعيّة أو النسبة الطلبيّة حسب اختلاف التعابير عندهم ، والمقصود هو طلب تحقّق النسبة وإيقاعها من المرسل والمرسل إليه أو من المطلوب والمطلوب منه ، أو من المدفوع به نحو المدفوع إليه.

الأمر الثاني : أنّ الإرسال والطلب والدفع يساوق سدّ تمام أبواب العدم ؛ وذلك لأنّ التحرّك والاندفاع والانبعاث نحو تحقيق المطلوب والمرسل إليه في الخارج لا يتحقّق إلا إذا كانت جميع أبواب عدم التحرّك والاندفاع والإرسال مسدودة بتمامها ؛ لأنّه لو فرض كون باب من أبواب العدم مفتوحا ومرخّصا في دخوله لم يحصل المطلوب ولم يتحقّق الغرض من الإرسال والدفع نحو المراد والمطلوب والمرسل إليه. ولذلك عبّر بالمساوقة ؛ لأنّه لا يوجد مساواة حقيقيّة بينهما ، وإنّما في عالم الصدق الخارجي يكون الإرسال والاندفاع نحو تحقيق المقصود غير ممكن الوقوع والتحقّق إلا إذا كانت أبواب العدم مسدودة ، فتكون مقدّمة له فهي داخلة في أجزاء العلّة بهذا اللحاظ ، بمعنى أنّه يتوقّف عليها تحقّق المقصود في الخارج.

ص: 376

إذا بحسب المدلول التصوّري للصيغة هناك إرسال دفع وتحرّك وهو يساوق سدّ تمام أبواب العدم.

الأمر الثالث : أنّه وبمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّري وبين المدلول التصديقي الاستعمالي والجدّي ، يتعيّن أن يكون المقصود الجدّي والمراد التصديقي من الحكم والطلب الذي أبرز في الصيغة سنخ حكم يشتمل أيضا على سدّ تمام أبواب العدم ، بمعنى أنّ الشارع عند ما أخطر من الصيغة تصوّرا - الإرسال والتحرّك والدفع المساوق لسدّ تمام أبواب العدم - فهو أيضا في مرحلة المدلول التصديقي يريد استعمال هذه الصيغة بهذا المفاد تصوّرا ، ويريد هذا المفاد بنحو الإرادة الجدّية.

إذا فالمقصود الجدّي هو أيضا سدّ تمام أبواب العدم.

النتيجة : أنّ من جملة أبواب العدم التي لا بدّ من سدّها أيضا هو باب الترخيص في الترك ؛ لأنّ باب الترخيص في الترك لو بقي مفتوحا لم يتحقّق التحرّك والاندفاع نحو المقصود ، إذ يمكن للمكلّف أن يدخل من هذا الباب وبالتالي لا يحقّق المطلوب والمرسل إليه. فسدّ تمام أبواب العدم يقتضي سدّ باب الترخيص في المخالفة والترك.

وقد تقدّم سابقا أنّ الوجوب معناه عدم الترخيص في الترك والمخالفة والاستحباب معناه الترخيص في المخالفة والترك ، فيكون سدّ باب الترخيص في الترك مساويا لسدّ باب الاستحباب ، فإذا كان المتكلّم قد سدّ باب الاستحباب فهو يريد جدّا من الصيغة الوجوب أي عدم الترخيص في الترك ، وذلك على أساس الإطلاق ومقدّمات الحكمة التي مفادها أنّه لو كان يريد الاستحباب والترخيص في الترك والمخالفة لذكر ما يدلّ على ذلك تصوّرا ليكون مرادا تصديقا أيضا.

فما دام لم يذكر شيئا تصوّرا يدلّ على ذلك فهو لا يريده تصديقا وإلا لكان مخلاّ ببيان تمام مراده الجدّي من كلامه والذي هو على خلاف المتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، بل إنّ ذلك يعتبر شيئا مستهجنا جدّا.

فيتعيّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة الوجوب ؛ لأنّه قد أخطر تصوّرا سدّ تمام أبواب العدم والتي من جملتها باب الترخيص وهو يعني الوجوب ؛ لأنّه أيضا يسدّ باب الترخيص في المخالفة. فتكون بالنسبة بين الوجوب والاستحباب نسبة الأقلّ والأكثر

ص: 377

في الدلالة ؛ لأنّه يكفي في الدلالة على الوجوب السكوت ؛ لأنّ أصالة التطابق بين الدلالات تعيّن الوجوب وسدّ تمام أبواب العدم.

بينما لا يكفي في الدلالة على الاستحباب إلا ذكر ما يدلّ على الترخيص وأنّ باب العدم لا يزال مفتوحا ؛ لأنّه أخطر تصوّرا سدّ تمام أبواب العدم ، فإذا كان يريد جدّا فتحها فيجب ذكر ما يدلّ على هذا التغاير والاختلاف بين الدلالات. فالوجوب هو الأقلّ والاستحباب هو الأكثر.

ولعلّ هذا التقريب أوجه من سابقيه ، فإن تمّ فهو ، وإن لم يتمّ يتعيّن كون الدلالة على الوجوب بالوضع.

وهذا التقريب صحيح في الجملة ، بمعنى أنّه تامّ في صيغة الأمر دون مادّته ؛ وذلك لأنّ الصيغة تدلّ على النسبة الإرساليّة المنتزعة من الخارج ، وهو يكون مساوقا لسدّ تمام أبواب العدم ، فيكون هذا التقريب وجيها وتامّا فيها. وأمّا مادّة الأمر فقد تقدّم أنّها تدلّ على الإرسال والطلب بنحو المعنى الاسمي ، أي بما هو مفهوم ذهني غير منتزع من الخارج.

وعندئذ لا بدّ أن نرى أنّ هذا المفهوم هل ناشئ عن شوق وملاكات ومبادئ وإرادة شديدة ، أو أنّه ناشئ عن مبادئ وملاكات وإرادة ضعيفة؟

ولذلك لا يكفي لاستكشاف سدّ تمام أبواب العدم إلا بعد تحقيق تلك المرتبة التي نشأ منها الإرسال الطلب فيحتاج إلى التقريبين السابقين لتعيين الإرادة الشديدة وقد تقدّم عدم تماميتهما.

ولذلك لا يكون هناك معيّن للوجوب إلا اللفظ بأن يقال : إنّ لفظ الأمر بمادّته وصيغته موضوع لغة للطلب والإرسال الناشئ من داع لزومي ، فهذا التقريب تامّ جزئيّا لا كلّيّا بخلاف مسلك الوضع فإنّه تام كلّيّا.

وتترتّب فوارق عمليّة عديدة بين هذه الأقوال على الرغم من اتّفاقها على الدلالة على الوجوب.

ثمّ إنّ هذه الأقوال الثلاثة كلّها تتّفق على أنّ الأمر بمادّته وهيئته يدلّ على الوجوب ، ولكنّها تختلف فيما بينها في كيفيّة استفادة الوجوب وفي كيفيّة الدلالة عليه. فبعضها كان بحكم الوضع ، وبعضها كان بحكم العقل ، وبعضها كان بحكم

ص: 378

الإطلاق ومقدّمات الحكمة. وبين هذه الأقوال الثلاثة فوارق ليس نظريّة فقط ، بل هناك فوارق عمليّة نذكر بعضها :

ومن جملتها : أنّ إرادة الاستحباب من الأمر مرجعها على القول الأوّل إلى التجوّز واستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، ومرجعها على القول الأخير إلى تقييد الإطلاق ، وأمّا على القول الوسط فلا ترجع إلى التصرّف في مدلول اللفظ أصلا.

من الفوارق النظرية : أنّه إذا ورد أمر من قبيل ( أكرم العالم ) وكان هناك قرينة لفظيّة أو لبيّة على أنّ المراد من الأمر هنا هو الاستحباب لا الوجوب ، فكيف يتمّ تخريج ذلك؟

أمّا بناء على القول بالوضع فتكون الصيغة موضوعة لغة للطلب الناشئ من داع لزومي ، وعليه فاستعماله في الطلب الناشئ من داع غير لزومي الذي هو الاستحباب يكون من باب المجاز ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير المعنى الذي وضع له ، والمصحّح لهذا الاستعمال المجازي هو وجود المناسبة والمشابهة بين المعنيين. وهذا يعني أنّ إرادة الاستحباب من الأمر فيها تصرّف في مدلول اللفظ اللغوي.

وأمّا بناء على القول بأنّ الدلالة على الوجوب بحكم الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، فاللفظ موضوع لغة للجامع بين الوجوب والاستحباب ، فلا مجازيّة في استعماله في الاستحباب كما لا مجازيّة في استعماله في الوجوب ؛ لأنّ اللفظ صالح للانطباق عليهما.

غاية الأمر أنّه يلزم تقييد الإطلاق في مرحلة المراد الجدّي أي المدلول التصديقي الثاني ، وأمّا المدلول الاستعمالي والمدلول التصوّري فتارة يبقيان على حالهما وأخرى ينتفيان ؛ وذلك لأنّه إذا كان القيد متّصلا كما في ( أكرم العالم العادل ) فإنّ المدلول الوضعي ينعقد وفقا للصورة المقيّدة ، فتكون مستعملة في المقيّد ابتداء ، وإذا كان القيد منفصلا كما في ( أكرم العالم ) ثمّ ورد ( لا يجوز إكرام الفاسق ) فيكون المدلول الوضعي والاستعمالي مستعملين في المطلق. غاية الأمر كون المراد الجدّي واقعا ليس هو المطلق وإنّما هو المقيّد.

وهذا يعني أنّه يوجد تصرّف في مدلول اللفظ وهو المدلول التصديقي الثاني دائما. وأمّا المدلولين التصوّري والاستعمالي فقد يتصرّف بهما وقد لا يتصرّف.

ص: 379

وأمّا بناء على القول بأنّ الدلالة على الوجوب بحكم العقل فهنا لا مجازيّة ولا تصرّف في المدلول أصلا لا تصوّرا ولا استعمالا ولا جدّا ، وذلك لأنّ الأمر موضوع للطلب أو النسبة الإرساليّة المتضمّنة للطلب ، والوجوب والاستحباب وصفان منتزعان عقلا من ورد الترخيص وعدم وروده ، وهذا يعني أنّ اللفظ مدلوله التصوّري والاستعمالي والجدّي هو الطلب ، وهذا محفوظ في موارد الوجوب وموارد الاستحباب ؛ لأنّهما خارجان عن مدلول اللفظ ولا يستفادان من اللفظ ، وإنّما يستفادان من حكم العقل المعلّق على الترخيص وعدمه ، وهذا معناه أنّه لا يوجد تصرّف أصلا على هذا القول ؛ لأنّ المدلول محفوظ في المراحل الثلاث : التصوّرية والاستعماليّة والجدّيّة.

وعليه ، فإذا جاءت أوامر متعدّدة في سياق واحد ، وعلم أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة.

من الفوارق العمليّة أنّه إذا وردت أوامر متعدّدة في سياق واحد كما إذا قيل : ( اغتسل للجمعة وللعيدين وللجنابة وللزيارة ) ، أو ( اغتسل للجمعة ، اغتسل للعيدين ، اغتسل للجنابة ، اغتسل للزيارة ).

ثمّ علم من الخارج أنّ أكثرها أوامر استحبابيّة وليست وجوبيّة ، فهل يختلّ السياق الظاهر في كون الأوامر مستعملة في معنى واحد أو لا؟ فإنّ وحدة السياق دليل عرفا وعادة على وحدة المعنى ، فإذا علم بأنّ أكثر هذه الأوامر للاستحباب فهل ظهور الباقي في الوجوب يختلّ حفاظا على وحدة السياق ، أو أنّ وحدة السياق تختلّ فيكون بعض الأوامر للوجوب وبعضها للاستحباب؟

والجواب على هذا يختلف باختلاف المباني ، فنقول :

اختلّ ظهور الباقي في الوجوب على القول الأوّل ؛ إذ يلزم من إرادة الوجوب منه حينئذ تغاير مدلولات تلك الأوامر مع وحدة سياقها ، وهو خلاف ظهور السياق الواحد في إرادة المعنى الواحد من الجميع.

على القول الأوّل بأنّ الأمر موضوع لغة للوجوب يلزم اختلال ظهور الباقي في الوجوب ولا تشمله وحدة السياق ؛ لأنّ وحدة السياق ظاهرة في كون الأوامر كلّها مستعملة في معنى واحد ، بينما اختلاف وتغاير مدلولات تلك الأوامر معناه أنّ وحدة

ص: 380

السياق غير ظاهرة في كونها غير مستعملة في معنى واحد. فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور وحدة السياق في المعنى الواحد والالتزام بتعدّد المعنى وتغايره ، وبين إبقاء ظهور السياق في وحدة المعنى والالتزام بوحدة المعنى في الجميع حتّى في بقيّة الأوامر الظاهرة في الوجوب.

وهنا يقدّم وحدة السياق على ظهور الباقي في الوجوب ؛ لأنّ تعدّد المعاني في قوّة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؛ لأنّ وحدة السياق معناها أنّ مدلول الأمر في الجميع واحد.

فإذا كان بعض مدلوله استحبابا وبعضه الآخر وجوبا لزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو مستحيل ؛ لأنّ اللفظ الواحد لا يستعمل إلا في معنى واحد ؛ لأنّ اللفظ يفنى في المعنى ، فإذا أفني في هذا لم يبق ما يدلّ على ذلك. وهنا وإن كان هناك ألفاظ متعدّدة إلا أنّ وحدة السياق في قوّة اللفظ الواحد ، فيلزم المحذور مع تعدّد المعاني.

وأمّا على القول الثاني فالوجوب ثابت في الباقي ؛ لعدم كونه دخيلا في مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى في الجميع.

وأمّا على القول الثاني في كون الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب فقط ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما حكمان عقليّان خارجان عن مدلول اللفظ ، فهنا لا تنافي بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المدلولات وتغايرها بأن يكون بعضها وجوبا وبعضها استحبابا ؛ وذلك لأنّ المعنى المدلول عليه باللفظ والذي يجب حفظه بقرينة وحدة السياق هو الطلب فقط ، وهذا محفوظ في كلّ الأوامر ، سواء فيها الوجوبيّة والاستحبابيّة.

وأمّا دلالة بعضها على الوجوب وبعضها الآخر على الاستحباب فهذا لا ينثلم به وحدة السياق ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن مدلول اللفظ ، بمعنى أنّ اللفظ لم يستعمل إلا في معنى واحد في الجميع وهو الطلب ، وهذا الذي تقتضيه وحدة السياق.

وأمّا الوجوب والاستحباب فيحكم بهما العقل. فإذا ورد ترخيص حكم بالاستحباب ، وأمّا بقيّة الأوامر التي لم يرد فيه ترخيص فيحكم العقل بأنّها للوجوب.

ص: 381

والحاصل أنّنا نحافظ على وحدة السياق وعلى تعدّد المعاني ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر والحاكم فيهما متعدّد ؛ لأنّ الحكم بوحدة المعنى المدلول باللفظ هو الوضع ، بينما الحاكم بتعدّد المعاني وتغايرها هو العقل ، فلا تعارض ولا تنافي بينهما.

وكذلك الحال على القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيّة وبعضها استحبابيّة لا يعني - على هذا القول - تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنى واحد ، ولكنّه أريد في بعضها مطلقا وفي بعضها مقيّدا.

وكذلك الحال بناء على القول الثالث من أنّ الأمر يدلّ على الطلب والإرادة ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما خارجان عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ كلاّ منهما فيه مئونة زائدة ، إلا أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة كما تقدّم.

فهنا لا يلزم التنافي والتعارض بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المعنى وتغايره ؛ وذلك لأنّ وحدة السياق تقتضي وحدة المعنى المدلول عليه باللفظ وهو هنا الطلب والإرادة. فتكون كلّ الأوامر مدلولها واحدا هو الطلب والإرادة.

وأمّا كون هذه الإرادة في بعضها شديدة تفيد الوجوب وفي بعضها الآخر ضعيفة تفيد الاستحباب فهذا خارج عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ ذلك تابع للإطلاق ومقدّمات الحكمة كما تقدّم.

ومن المعلوم أنّ قرينة الحكمة عبارة عن ظهور حالي سياقي يعيّن المراد الجدّي ، أي الدلالة التصديقيّة الثانية ، بينما المدلول اللفظي هو الدلالة التصوّريّة فلا تتّحد الجهة ليقع التنافي بين وحدة السياق وبين تعدّد المعنى. فالمعنى واحد وهو الإرادة ، غاية الأمر كانت هذه الإرادة مفيدة للوجوب ؛ لأنّها إرادة شديدة وكانت مفيدة للاستحباب ؛ لأنّها إرادة ضعيفة ، والمعيّن للإرادة الشديدة الوجوبيّة هو الإطلاق وقرينة الحكمة ، بينما المعيّن للإرادة الضعيفة والاستحباب هو التقييد وذكر ما يدلّ على ذلك لفظا ، والإطلاق والتقييد من شئون مقصود المتكلّم الجدّي لا من شئون الدلالة اللفظيّة الوضعيّة. فلا مانع من الالتزام بوحدة السياق وتعدّد المعنى.

ص: 382

الأوامر الإرشاديّة

ص: 383

ص: 384

الأوامر الإرشاديّة

ومهما يكن فالأصل في دلالة الأمر أنّه يدلّ على طلب المادّة وإيجابها ، ولكنّه يستعمل في جملة من الأحيان للإرشاد.

بناء على ما تقدّم فالأصل في دلالة الأمر سواء المادّة أو الهيئة أنّه يدلّ على طلب الفعل ، وأنّ هذا الطلب ناشئ من داع لزومي ، فهو يدلّ على الوجوب على اختلاف الأقوال في كيفيّة هذه الدلالة.

إلا أنّ الأمر قد يخرج عن هذه الدلالة كلّيّا فلا يكون دالاّ على طلب الفعل أصلا فضلا عن كونه وجوبا أو استحبابا ، وإنّما يكون مستعملا للإرشاد الى شيء آخر ينتزع ويفهم من الكلام ، كما في الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والبطلان ونحو ذلك.

وتوضيح ذلك :

فالأمر في قولهم : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) ليس مفاده الطلب والوجوب ؛ لوضوح أنّ شخصا لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثما ، وإنّما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر إذا الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في التذكية ، وقد يعبّر عن ذلك بالوجوب الشرطي باعتبار أنّ الشرط واجب في المشروط.

إذا قيل : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) فهذا الأمر ليس مفاده ومدلوله الطلب والوجوب النفسي التكليفي للاستقبال ، بحيث يجب عليه الإطاعة والامتثال وإذا خالف يكون مستحقّا للعقاب ؛ لأنّه من الواضح أنّ من خالف ولم يستقبل القبلة عند الذبح لم يكن آثما وعاصيا ولا يستحقّ العقاب ، وكذلك من أطاع واستقبل القبلة لم يكن مستحقّا للثواب ، ومن المعلوم أنّ الطلب والوجوب النفسي يستلزم العقاب على الترك والمخالفة ويستتبع الثواب على الالتزام والإطاعة. وهذا يعني أنّ هذا الأمر ليس مفاده الوجوب النفسي الذي تقدّم الحديث عنه.

ص: 385

وإنّما المفاد هنا الإرشاد إلى نكتة أخرى وهي أنّ الاستقبال شرط في الذبح ، بحيث إنّه إذا لم يستقبل ترتّب على ذلك حكم آخر وهو عدم الصحّة أو عدم الحليّة والتذكية ، والتي هي من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليها بعض الأحكام التكليفيّة كحرمة الأكل مثلا.

فهذا الأمر يتفرّع منه مفهوم الشرطيّة ، ولذلك يعبّر عنه بالوجوب الشرطي والمقصود من هذا التعبير أنّ الاستقبال شرط في تحقّق المشروط وهو التذكية ، فيتّصف الاستقبال بالشرطيّة ؛ لأنّه إذا تحقّق تحقّق المشروط وإذا انتفى انتفى المشروط ، ويتّصف بالوجوب أيضا ، والمقصود الوجوب الوضعي بمعنى أنّه دخيل في المشروط وجودا وعدما.

والأمر في ( اغسل ثوبك من البول ) ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الإرشاد إلى نجاسته بالبول ، وأنّ مطهّره هو الماء.

وكذلك الحال في قولنا : ( اغسل ثوبك من البول ) ، فإنّ الأمر ليس مفاده هنا الوجوب النفسي التكليفي المستتبع للثواب والعقاب على الامتثال والمخالفة ؛ لوضوح أنّ من يخالف ولا يغسل الثوب لا يكون عاصيا وآثما ، وإنّما المراد من هذا الأمر هو الإرشاد إلى شيء آخر وهو أنّ البول سبب للنجاسة ، وأنّ الثوب المتنجّس بالبول يطهر بغسله بالماء.

ومن المعلوم أنّ النجاسة والطهارة من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليهما أحكام أخرى من قبيل حرمة شرب الماء المتنجّس ، وعدم صحّة الوضوء به ، وعدم صحّة الصلاة بالثوب الملاقي للبول ، وهكذا.

فمثل هذا الأمر يسمّى بالأمر الإرشادي أيضا.

وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده إلا الإرشاد إلى ما في الدواء من نفع وشفاء.

وهذا الأمر الإرشادي في الشريعة الإسلاميّة له مناظر في الأحكام العرفيّة العقلائيّة ، كما في أوامر الطبيب للمريض بأن يستعمل الدواء المعيّن. فإنّ العرف لا يحمل أمر الطبيب على الوجوب النفسي التكليفي كما يحمل أوامر الرئيس والسيّد على ذلك.

ص: 386

وإنّما يفهمون من أوامر الطبيب أنّ هذا الدواء فيه نفع وشفاء للمريض ، وهذا معناه أنّه يرشد إلى المنفعة الموجودة في استعمال الدواء ، وأنّه يسبّب الشفاء من المرض.

وفي كلّ هذه الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصوّري الوضعي ، وهو النسبة الإرساليّة ، غير أنّ مدلولها التصديقي الجدّي يختلف من مورد إلى آخر.

وفي هذه الحالات التي يكون الأمر فيها للإرشاد لا يعني ذلك أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى آخر غير المعنى الموضوع له في الأوامر التي تفيد الطلب والوجوب ، بل الصيغة مستعملة وموضوعة في معناها التصوّري الوضعي السابق وهو النسبة الإرساليّة.

فالمدلول التصوّري الوضعي محفوظ في الصيغة ، غاية الأمر أنّ المدلول التصديقي الجدّي يختلف من مورد لآخر ، ففي هذه الحالات يكون المدلول التصديقي مخالفا للمدلول التصوّري ؛ لأنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والإرسال والوجوب ، بل الإرشاد.

بينما في حالات الأمر المفيد للطلب والوجوب يكون المدلول التصديقي الجدّي مطابقا للمدلول التصوّري الوضعي. فإذا كانت هناك قرينة ولو لبيّة على أنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والوجوب فيؤخذ بها ، وإن لم تكن هناك قرينة من هذا القبيل فمقتضى أصالة التطابق بين الدلالات كون المراد الجدّي هو الوجوب والطلب أيضا.

وهذا من قبيل المجازات ( اذهب إلى البحر وخذ من علمه ) فإنّ المدلول الوضعي التصوّري للبحر محفوظ ، إلا أنّه ليس مرادا جدّا لوجود هذه القرينة بخلاف ( اذهب إلى البحر ) ، فإنّ المراد الجدّي هو المعنى الوضعي التصوّري لأصالة التطابق بين الدلالات.

القسم الثاني : ونقصد به الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. والكلام حولها يقع في مرحلتين :

القسم الثاني : ما يدلّ على الطلب بإعمال عناية في المقام سواء كانت لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة ، وذلك كالجمل الخبريّة التي تستعمل في إفادة الطلب ، سواء كان جملة اسميّة أو كانت جملة فعليّة. كما إذا قيل : ( إذا قهقه أعاد صلاته ) ، فإنّ استعمال الجمل الفعليّة كثير جدّا من قبيل ( يغتسل ) ( يعيد ) ( يصلي ) ( يصوم ).

ص: 387

ولا إشكال عندهم في صحّة استعمالها في الطلب ، ولكن اختلفوا في تخريج وتوجيه هذه الدلالة. واختلفوا أيضا في أنّها تدلّ على الطلب بنحو الوجوب أو على الطلب فقط الجامع بينه وبين الاستحباب؟ فالكلام يقع في مرحلتين :

الأولى : في تفسير دلالتها على الطلب ، مع أنّها جملة خبريّة مدلولها التصوّري يشتمل على صدور المادّة من الفاعل ، ومدلولها التصديقي قصد الحكاية ، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟

وفي تصوير هذه العناية وجوه :

المرحلة الأولى : في كيفيّة تفسير وتحليل دلالة هذه الجملة الخبريّة على الطلب. مع أنّها جملة خبريّة لا إنشائيّة.

ومن الواضح كما تقدّم أنّ الجملة الخبريّة مدلولها التصوّري النسبة التامّة التي فرغ عن تحقّقها ، فهناك نسبة صدوريّة بين الفاعل والمادّة قد تحقّقت وأحضرت إلى الذهن بما هي كذلك. ومدلولها التصديقي هو قصد الحكاية والإخبار عن وقوع هذه النسبة. فكيف استعملت هذه الجملة في الإنشاء والذي معناه النسبة التامّة التي ينظر إليها لا بما هي متحقّقة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق؟ بحيث يكون مدلولها التصوّري هو النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة ويكون مدلولها التصديقي جعل الحكم وإنشائه. فما هي هذه العناية التي جعلت هذه الجملة تخرج عن إفادة المعنى السابق وتفيد هذا المعنى الجديد؟

وللإجابة على ذلك وجدت عدّة اتّجاهات :

الأوّل : أن يحافظ على المدلول التصوّري والتصديقي معا ، فتكون الجملة إخبارا عن وقوع الفعل من الشخص ، غير أنّه يقيّد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه بمن كان يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، وهذا التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع لا نقل أنباء خارجيّة.

التفسير الأوّل : أن يقال : إنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها الموضوع لها تصوّرا وتصديقا ، فهي تدلّ على وقوع النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل تصوّرا ، وتدلّ تصديقا على قصد الحكاية والإخبار عن تحقّق ووقوع هذه النسبة في الخارج. فالفعل وقع الفاعل في الخارج وتحقّق منه هذا بحسب المدلول المطابقي للجملة تصوّرا وتصديقا.

ص: 388

وأمّا العناية التي من أجلها استعملت في مقام الطلب والتي على أساسها كان للجملة دلالة على الطلب أيضا فهي أنّنا نقيّد الشخص الذي أخبر عن وقوع النسبة منه وقصد الحكاية عن إيجاده للنسبة في الخارج بالشخص الذي يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، بحيث إنّه لا يفعل ولا يترك إلا إذا كان هناك أمر ونهي فيمتثل للأمر ولا يخالفه وينزجر عن النهي ولا يرتكبه.

وحينئذ سوف تتشكّل دلالة التزاميّة مفادها أنّ هذه النسبة التي صدرت من هذا الشخص وأوقعها في الخارج وحكي وأخبر عن ذلك كان فعله ناتجا ومعلولا لوجود أمر شرعي بذلك.

فهناك ملازمة بين وقوع الفعل من هذا الشخص والإخبار عن ذلك ، وبين كون هذا الفعل الذي وقع منه قد نشأ من وجود أمر شرعي بذلك.

فالشارع هنا أخبرنا عن وقوع النسبة وتحقّقها والتي هي المعلول ، وبالملازمة نعرف أنّ هناك علّة ؛ لأنّ المعلول لا يقع من دون علّة ، والعلّة هي وجود أمر شرعي بإيقاع النسبة وإيجادها ؛ لأنّنا فرضنا أنّ الشخص من المتشرّعة الذين يطبّقون أعمالهم وفقا لتعاليم الشريعة.

فيكون استعمال الجملة الخبريّة هنا أشدّ وآكد في الدلالة على الطلب والإنشاء من الجملة الإنشائيّة ؛ وذلك لأنّه في الجمل الإنشائيّة يبرز الشارع مراده ومطلوبه ، وهو إيقاع النسبة الذي هو العلّة ، وأمّا تحقّق النسبة ووقوعها في الخارج أي المعلول فقد يتحقّق إن كان الشخص ملتزما ، وقد لا يتحقّق إن كان عاصيا.

وأمّا هنا فالشارع قد أخبرنا عن تحقّق المعلول وأنّ هذا الشخص قد امتثل وأطاع وحقّق مراد الشارع ومطلوبه وهو إيقاع النسبة وإيجادها أي العلّة ؛ لأنّ الإخبار عن تحقّق المعلول يكشف عن وجود العلّة بذلك.

وأمّا الدليل على أنّ العناية هنا هي تقييد الشخص بمن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فهو ظهور حال الشارع في أنّه في مقام التشريع وإنشاء مراده ومطلوبه ، فإنّ ظاهر حال الشارع في كونه في مقام بيان وإنشاء حكمه ، ومع ذلك استعمل هذه الجملة الخبريّة أنّه يريد من هذه الجملة أن تدلّ على إنشاء الحكم وجعله.

ولمّا كان مدلولها التصوّري والتصديقي لا يزال مستعملا في الإخبار والحكاية

ص: 389

وقصد وقوع النسبة وتحقّقها بالمطابقة كان هناك مدلول التزامي على أنّه يريد من ذلك جعل الحكم وإنشائه ، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا فرضنا الشخص المخبر عنه لا يتصرّف إلا طبقا للموازين الشرعيّة ، فيكشف تصرّفه وفعله هذا عن وجود أمر شرعي بذلك ، وهو مطلوب.

وليس الشارع هنا في مقام الإخبار وقصد الحكاية عن قضايا تكوينيّة خارجيّة ؛ لأنّ ذلك على خلاف المفروض وعلى خلاف ظاهر حاله عند ما طرح عليه السؤال والقضيّة ، فإنّ طرح السؤال عليه لأجل بيان الحكم وإنشائه.

فكونه في مقام التشريع قرينة على تقييد الشخص بما ذكر.

الثاني : أن يحافظ على المدلول التصوّري وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إنّ المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدوريّة المدلولة تصوّرا ، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى ، فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيد بجملة ( زيد كثير الرماد ) على نحو الكناية.

التفسير الثاني : أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري أي النسبة الصدوريّة بين الفاعل والفعل ، وفي مدلولها التصديقي أي قصد الحكاية والإخبار ، إلا أنّ المدلول التصديقي ليس هو قصد الحكاية والإخبار عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج المطابق للمدلول التصوّري ، بل المراد من المدلول التصديقي أمر آخر مغاير للمدلول التصوّري وهذا الأمر الآخر هو الملزوم لهذه النسبة الصدوريّة.

وذلك بأن يقال : إنّ الشارع قد أخبر عن اللازم وأراد الملزوم جدّا ، فالشارع عند ما قال : ( يعيد صلاته ) أخبرنا عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج ، ولكنّه لم يقصد الحكاية والإخبار عن هذا الأمر جدّا ، وإنّما مقصوده الجدّي هو ملزوم الإعادة أي طلب الإعادة وطلب إيقاع النسبة وإيجادها.

والدليل على ذلك : ظهور حال الشارع في أنّه في مقام البيان والتشريع للأحكام وليس في مقام الإخبار والحكاية عن القضايا التكوينيّة الخارجيّة ، فهو وإن استعمل الجملة الخبريّة في قصد الحكاية إلا أنّ مراده الجدّي لم يكن هو الحكاية والإخبار عن المدلول المطابقي ، أي تحقّق النسبة الصدوريّة كالإعادة ، وإنّما مراده الجدّي الحكاية والإخبار عن ملزوم هذه النسبة الصدوريّة. فإنّ الإعادة وتحقّقها ملزومها هو أنّها

ص: 390

مطلوبة ومرادة للشارع. فالقرينة هنا هي الكناية ، أي أنّه استعمل اللازم وأراد الملزوم.

وهذا نظير الإخبار عن كرم زيد وجوده بجملة ( زيد كثير الرماد ) أو ( زيد هزيل الفصيل ) ، فإنّه وإن استعمل الجملة في مدلولها التصوّري والتصديقي إلا أنّ مراده الجدّي ليس الإخبار والحكاية عن كثرة الرماد أو عن كون الفصيل هزيلا ، بل المراد قصد الحكاية والإخبار عن جوده وكرمه ؛ لأنّ الجود والكرم ملزوم لكثرة الرماد ، فيكون الكلام باللازم والمراد الملزوم.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ هذه الجملة صحيحة سواء كان عند زيد رماد أو لا ، ولذلك لا توصف بالصدق والكذب من خلال وجود الرماد وعدم وجوده ، بل توصف بالصدق والكذب فيما إذا كان كريما أو لا.

وهنا كذلك فإنّ المدلول المطابقي وهو صدور النسبة والإخبار عن تحقّقه لا يوصف بالصدق والكذب ؛ لأنّه ليس مرادا جدّا ، وإنّما المراد الجدّي هو ملزوم ذلك أي طلب إيقاع النسبة وطلب إيجادها ، والذي هو أمر إنشائي لا يوصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاتّجاه يحافظ على المدلولين التصوّري والتصديقي إلا أنّ المراد الجدّي يختلف ؛ لأنّه لا يريد المدلول المطابقي ، بل يريد المدلول الالتزامي عن طريق الكناية.

الثالث : أن يفرض استعمال الجملة الخبريّة في غير مدلولها التصوّري الوضعي مجازا ، وذلك بأن تستعمل كلمة ( أعاد ) أو ( يعيد ) في نفس مدلول ( أعد ) أي النسبة الإرساليّة.

التفسير الثالث : ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه اللّه من أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء يختلف مدلولها التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي والمراد الجدّي فيما لو استعملت في مقام الإخبار والحكاية.

وهذا يعني أنّها مستعملة في غير معناها الذي وضعت له فتكون مجازا ؛ لأنّه بناء على مسلكه في الوضع من أنّه تعهّد يكون المدلول الوضعي مرتبطا بالمدلول التصديقي دائما. فإذا كان قاصدا الحكاية والإخبار من الجملة الخبريّة فهي مستعملة في معناها الحقيقي ، وإذا كان قاصدا منها الانشاء والطلب فهي مستعملة في معنى آخر غير المعنى الذي وضعت له فتكون مجازا.

وهذا يعني أنّ جملة ( يعيد ) و ( أعاد ) المستعملة في الطلب والإنشاء ليست

ص: 391

موضوعة لقصد الحكاية والإخبار ، وإنّما هي موضوعة لنفس المعنى الذي تدلّ عليه كلمة ( أعد ) وهو الطلب والإنشاء بنحو المعنى الحرفي ، أي النسبة الطلبيّة والنسبة الإرساليّة. فالقرينة والعناية هنا هي المجاز.

وهذا يعني عدم الحفاظ على المدلول التصوّري والتصديقي والمراد الجدّي للجملة الخبريّة.

ولا شكّ في أنّ الأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لعدم اشتماله على أيّ عناية سوى التقييد الذي تتكفّل به القرينة المتّصلة الحاليّة.

والأقرب من هذه التفاسير هو التفسير الأوّل ، أي أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري والتصديقي والجدّي. غاية الأمر كون الشخص الذي قصد الحكاية عنه قد قيّد بالشخص الملتزم بالموازين الشرعيّة فلا يخالف ولا يعصي ، بل يطيع ويمتثل دائما.

وهذا يعني أنّه لا يوجد عناية ولا تصرّف في اللفظ ولا في الدلالات الثلاث. وإنّما التصرّف في الشخص وهو خارج عن مدلول اللفظ.

بينما التفسير الثاني يتصرّف في المراد الجدّي وأنّ قصد الحكاية ليس هو المراد ، بل المراد ملزومه وهو الطلب والإنشاء فيتصرّف في الإرادة الجدّيّة ، فهناك عناية في المدلول التصديقي الثاني أي المراد الجدّي.

وكذلك الحال في التفسير الثالث فإنّه يتصرّف في المداليل الثلاثة التصوّري والاستعمالي والمراد الجدّي ، فالأقرب هو الأوّل لأنّه أقلّ عناية.

ولكن إذا كان هناك قرينة تعيّن أحد هذه التفسيرات فيؤخذ بها ومع عدم وجود القرينة على أحدهما يتعيّن الأوّل.

الثانية : في دلالتها على الوجوب.

بعد الفراغ عن كون الجملة الخبريّة المستعملة في الإنشاء تدلّ على الطلب بأحد التفسيرات المتقدّمة ، يبحث في كونها دالّة على الطلب الوجوبي أو على جامع الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب؟ وهذا البحث مرتبط بالتفسيرات المتقدّمة حيث إنّ النتيجة تختلف بلحاظها ، فنقول :

أمّا بناء على الوجه الأوّل في إعمال العناية فدلالتها على الوجوب واضحة ؛

ص: 392

لأنّ افتراض الاستحباب يستوجب تقييدا زائدا في الشخص الذي يكون الإخبار بلحاظه ، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممّن يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، بل لا بدّ من فرض أنّه يطبّقه على أفضل تلك الموازين.

أمّا على الوجه الأوّل في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه توجد عناية في الشخص المخبر عنه بأنّه ممّن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فتكون هذه العناية بنفسها دالّة أيضا على أنّ الطلب هنا هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ فرض هذا الشخص كونه ملتزما لا يعصي ولا يخالف ، بل ينقاد ويمتثل معناه أنّه امتثل وأطاع نتيجة وجود أمر وطلب ناشئ من داع لزومي فيه محركيّة وباعثيّة لكي يتحقّق الانبعاث والتحرّك منه ، والطلب الذي يكون بهذا الداعي إنّما هو الوجوب ، فكانت تلك العناية كافية في الدلالة على الوجوب أيضا ولا تحتاج إلى مئونة زائدة عليها.

وأمّا إرادة الاستحباب من الطلب المفاد تصوّرا من هذه الجملة فهو لا يكفي فيه تلك العناية الدالّة على الطلب ، بل لا بدّ من وجود عناية أخرى زائدة ؛ وذلك لأنّ فرض الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة وحده لا يكفي ، بل لا بدّ من قيد زائد في هذا الشخص ، وهو أنّه يطبّق أعماله على أفضل وأكمل وأحسن الموازين الشرعيّة. فهنا يستفاد الاستحباب ؛ لأنّه الفرد الأكمل والأفضل.

وحينئذ نقول : إنّ إطلاق الجملة الخبريّة يستفاد منه تلك العناية الدالّة على أنّ الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة والتي تدلّ على الوجوب. وأمّا الاستحباب فهو يحتاج إلى عناية إضافية وقيد زائد.

فعند الإطلاق وعدم وجود ما يدلّ على القيد الزائد نتمسّك بقرينة الحكمة لنفي العناية الإضافيّة والقيد الزائد ، حيث يدور الأمر بين مفهومين ، النسبة بينهما الأقلّ والأكثر من جهة العناية ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة العناية الأقلّ الدالّة على الوجوب ؛ لأنّه لو أراد الاستحباب ولم يذكر ما يدلّ على العناية الإضافيّة فيه كان خارقا للفهم العرفي ولأساليب المحاورة والتفاهم عندهم.

وأمّا بناء على الوجه الثاني فتدلّ الجملة على الوجوب أيضا ؛ لأنّ الملازمة بين الطلب والنسبة الصدوريّة المصحّحة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم إنّما هي في

ص: 393

الطلب الوجوبي ، وأمّا الطلب الاستحبابي فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدوريّة أو هناك ملازمة بدرجة أضعف.

وأمّا على الوجه الثاني في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه على نحو الكناية أي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، فالجملة أيضا تدلّ على الوجوب ؛ وذلك لأنّ العناية الكنائيّة بين الأخبار عن النسبة الصدوريّة وبين إرادة طلب إيقاع النسبة إنّما تفيد الملازمة بينهما فيما إذا كانت هذه الملازمة المصحّحة للاستعمال الكنائي متحقّقة وموجودة حتما.

وبتعبير آخر : إنّ الكناية تحتاج إلى عناية ، وهذه العناية هي التي تصحّح الاستعمال الكنائي ، والعناية بين الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم إنّما هي وجود ملازمة بينهما. وهذه الملازمة لا بدّ أن تكون موجودة ومتحقّقة فعلا ؛ لأنّها إذا لم تكن موجودة فهذا معناه أنّه لا ملازمة فلا يصحّ الاستعمال الكنائي لعدم وجود العناية عندئذ.

وفي مقامنا العناية هي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، والملازمة المصحّحة لهذه العناية هي أنّ الإخبار عن النسبة الصدوريّة وإرادة طلب إيجاد النسبة وإيقاعها إنّما تتحقّق فيما إذا كان طلب الإيجاد للنسبة محقّقا لصدور النسبة بالفعل وحتما ، وهذا الطلب الذي يفيد لزوم وحتميّة إيقاع النسبة وإيجادها إنّما هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الوجوب طلب ناشئ من داع لزومي وليس فيه ترخيص في الترك.

بخلاف الطلب الاستحبابي فإنّه لا يستلزم قطعا تحقّق النسبة الصدوريّة ؛ لأنّ الاستحباب طلب مع الترخيص في الترك ، أي أنّه يسمح للمكلّف أن لا يحقّق النسبة ، ولذلك لا يكون هناك ملازمة بين الطلب الاستحبابي وبين موضوع النسبة وتحقّقها ، فلا تتمّ العناية الكنائيّة.

أو على الأقلّ الطلب الاستحبابي يحتمل فيه تحقّق النسبة وصدورها فيما إذا فعل ، ويحتمل عدم تحقّقها فيما إذا لم يفعل. فالنسبة الصدوريّة موجودة ولكن بدرجة أضعف وأقل من وجودها في الطلب الوجوبي ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة الملازمة الأقوى والأشدّ من الملازمة الأضعف ؛ لأنّها تحتاج إلى قيد وعناية زائدة في الاستعمال الكنائي.

وأمّا بناء على الالتزام بالتجوّز في مقام استعمال الجملة الخبريّة - كما هو

ص: 394

مقتضى الوجه الأخير - فيشكل دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي ، كذلك يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع غير لزومي.

وأما على الوجه الثالث في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب وأنّها مستعملة ابتداء وتصوّرا في النسبة الإرساليّة على سبيل المجاز ، فهنا يشكل استفادة الوجوب منها ؛ لأنّ النسبة الإرساليّة قد تكون ناشئة من داع لزومي فتكون الجملة الخبرية مفيدة للوجوب ، وقد تكون ناشئة من داع غير لزومي فتكون الجملة مفيدة للاستحباب.

ومجرّد كون الوجوب هو أقرب المجازات للمعنى الحقيقي الذي هو النسبة الإرساليّة ؛ لأنّ الوجوب يحقّق النسبة دون الاستحباب لا يوجب حمل الجملة الخبريّة عليه ؛ لأنّها مستعملة في المعنى المجازي وأقربيّة هذا دون ذاك لا تمنع من إرادة المعنى المجازي الأبعد أو البعيد.

ص: 395

ص: 396

النهي أو أدوات الزجر

ص: 397

ص: 398

النهي أو أدوات الزجر

وكلّ ما قلناه في جانب مادّة الأمر وهيئته ، والجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب ، يقال عن مادّة النهي وهيئته والنفي الخبري المستعمل في مقام النهي ، غير أنّ مفاد الأمر طلب الفعل ، ومفاد النهي الزجر عنه.

النهي تارة يكون بالمادّة كما إذا قال : ( أنهاك أن تفعل هذا الأمر الفلاني ).

وأخرى يكون بالصيغة والهيئة كما إذا قال : ( لا تسرق ) ( لا تشرب الخمر ).

وثالثة يكون بالجملة الخبرية المنفيّة كما إذا قال : ( المؤمن لا يسرق ولا يزني ).

أمّا مادّة النهي فهي كمادّة الأمر من حيث الدلالة على النهي بالمعنى الاسمي. فكما أنّ مادّة الأمر تدلّ على مفهوم الطلب بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو ، كذلك مادّة النهي تدلّ على مفهوم الزجر بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو.

وأمّا هيئة النهي فهي كهيئة الأمر من حيث الدلالة على الزجر وكونه تحريما. فكما أنّ هيئة الأمر تدلّ على الطلب أو النسبة الإرساليّة وعلى أنّه طلب وجوبي على اختلاف الأقوال في المسألة كما تقدّم ، فكذلك هيئة النهي تدلّ على الزجر أو النسبة الزجريّة وكونه زجرا تحريميّا وضعا أو بحكم العقل أو بالإطلاق.

وأمّا الجملة الخبريّة المستعملة في النهي فهي كالجملة الخبريّة المستعملة في الأمر ، فكما أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء وكونه طلبا وجوبيّا على ساس إحدى العنايات المتقدّمة ، فكذلك الجملة الخبريّة المنفيّة تدلّ على النهي والزجر وكونه زجرا تحريميّا بإحدى تلك العنايات المتقدّمة.

والحاصل : أنّ كلّ ما تقدّم في الأمر مادّة وصيغة وجملة خبريّة فهو يجري في النهي أيضا مادّة وصيغة وجملة خبريّة منفيّة ، غاية الأمر أنّ الأمر يدلّ على الطلب بينما النهي يدلّ على الزجر.

ص: 399

وكما توجد أوامر إرشاديّة ، توجد نواه إرشاديّة أيضا ، والمرشد إليه : تارة يكون حكما شرعيّا كالمانعيّة في « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ».

وأخرى نفي حكم شرعي من قبيل ( لا تعمل بخبر الواحد ) فإنّه إرشاد إلى عدم الحكم بحجّيّته.

وثالثة يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا كما في نواهي الأطبّاء للمريض عن استعمال بعض الأطعمة إرشادا إلى ضررها.

النواهي الإرشاديّة كالأوامر الإرشاديّة ، فالصيغة لا تزال مستعملة في مدلولها التصوّري وهو النسبة الزجريّة ، ولكن المراد الجدّي التصديقي ليس هو الزجر والتحريم النفسي المستتبع للثواب على الإطاعة وللعقاب على المخالفة ، وإنّما المراد الجدّي منها هو الإرشاد إلى بعض الأحكام الوضعيّة كالمانعيّة والشرطيّة والفساد ونحو ذلك.

فالمرشد إليه من النهي الإرشادي على أنحاء منها :

1 - أن يكون المرشد إليه حكما شرعيّا وضعيّا ، كما في قوله : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ، فإنّه إرشاد إلى مانعيّة غير المأكول من صحّة الصلاة ويكون موجبا لفسادها.

2 - أن يكون المرشد إليه نفي حكم شرعي وضعي ، كما في قوله : ( لا تعمل بخبر الواحد ) ، فإنّه إرشاد إلى نفي الحجّيّة التعبّديّة عنه ، أي أنّ خبر الواحد ليس حجّة ولا يجوز التعويل عليه شرعيّا.

3 - أن يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا ، كما في نواهي الأطبّاء كقوله : ( لا تأكل الرمّان ) لمن كان مريضا ، فإنّ هذا النهي إرشاد إلى أنّ الرمّان مضرّ لهذا المريض واقعا وتكوينا.

ص: 400

الفور والتراخي

ص: 401

ص: 402

الفور والتراخي

ثمّ إنّ الأمر لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإسراع بالإتيان بمتعلّقه ، ولا لزوم التباطؤ ؛ لأنّ الأمر لا يقتضي إلا الإتيان بمتعلّقه ، ومتعلّقه هو مدلول المادّة ، ومدلول المادّة طبيعي الفعل الجامع بين الفرد الآني والفرد المتباطأ فيه.

المقصود من الفور : هو لزوم الإسراع في الامتثال والإتيان بالمأمور به الذي هو متعلّق الأمر. والمقصود من التراخي : التأخير والتباطؤ في الامتثال.

وحينئذ نقول :

الأمر بمادّته وهيئته لا يدلّ على الفور ولا يدلّ على التراخي بحسب المدلول التصوّري الوضعي ؛ لأنّه لا يدلّ إلا على الطلب أو النسبة الإرساليّة فقط. وأمّا لزوم الإسراع أو التباطؤ فهو خارج عن مدلول اللفظ.

فمثلا ( أكرم العالم ) تدلّ صيغة الأمر على النسبة الإرساليّة بنحو الطلب الوجوبي لإكرام العالم ، فهناك نسبة بين الفعل أي المادّة والفاعل وهو المأمور أي المكلّف ، وهذه النسبة يراد تحقيقها وإيجادها ، فمتعلّق الأمر هو الإكرام أي المادّة ، والمادّة عبارة عن المفهوم الاسمي أي المطلق وكلّي الإكرام ، وهذا الإكرام المطلق كما يتناسب مع الفور كذلك يتناسب مع التراخي ، ولا معيّن لأحدهما على الآخر ولا ترجيح له ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فيثبت جواز الأمرين وأنّ المكلّف مخيّر بينهما.

ص: 403

ص: 404

المرّة والتكرار

ص: 405

ص: 406

المرّة والتكرار

كما أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإتيان بفرد واحد أو بأفراد كثيرة ، وإنّما تلزم به الطبيعة ، والطبيعة بعد إجراء قرينة الحكمة فيها يثبت إطلاقها البدلي فتصدق على ما يأتي به المكلّف من وجود لها ، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر.

المقصود من المرة هو لزوم الإتيان بالواجب المأمور به مرّة واحدة فقط ، بينما المقصود من التكرار لزوم الإتيان بالفعل أكثر من مرّة ، بل مرّات عديدة.

وهنا نقول : إنّ الأمر لا يدلّ بحسب المدلول الوضعي التصوّري لا على المرّة ولا على التكرار ؛ لأنّه يدلّ على الطلب والإرسال فقط بنحو المعنى الاسمي في المادّة وبنحو المعنى الحرفي في الهيئة.

وهذا يعني أنّ الأمر لا يقتضي إلا تحقّق النسبة بين الفعل والفاعل ، أي يتعلّق بالمادّة التي هي متعلّق الأمر ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) فإنّ الوجوب متعلّق بالإكرام الذي هو المادّة ، وهذه المادّة بعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة ، أي يراد إيجاد وتحقيق طبيعي الإكرام.

ومن المعلوم أنّ الطبيعي يتحقّق ويوجد بفرد واحد من أفراده ، وهذا يعني أنّ الإطلاق هنا بدلي ؛ لأنّه مخيّر في هذا الفرد الواحد من بين الأفراد جميعا ، وهذا الفرد الواحد كما يصدق في ضمن المرّة كذلك يصدق في ضمن المرّات الكثيرة ؛ لأنّ الطبيعة كما تصدق في الفرد الواحد تصدق أيضا في الأكثر ، ولذلك يكون الإتيان بالإكرام مرّة واحدة امتثالا وإطاعة ؛ لأنّه يحقّق المأمور به ، وكذلك لو أتي بالإكرام مرّات عديدة في عرض واحد إلا أنّه لا يتعيّن هذا دون ذلك ؛ إذ لا معيّن لأحدهما دون الآخر.

ص: 407

فلو قال الآمر : ( تصدّق ) تحقّق الامتثال بإعطاء فقير واحد درهما كما يتحقّق بإعطاء فقيرين درهمين في وقت واحد ، وأمّا إذا تصدّق المكلّف بصدقتين مترتّبتين زمانا فالامتثال يتحقّق بالفرد الأوّل خاصّة.

فمثلا لو قال المولى : ( تصدّق على الفقير ) فهنا متعلّق الأمر هو التصدّق ، وبعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت الإطلاق البدلي ، أي يجب التصدّق بفرد واحد من أفراد التصدّق على سبيل البدل والتخيير بين أفراده جميعا.

وعندئذ فإذا تصدّق المكلّف على فقير فأعطاه درهما فهو ممتثل مطيع للأمر ؛ لأنّه حقّق الطبيعة بفرد من أفرادها.

وإذا تصدّق على فقيرين معا في عرض واحد بأن أعطى لكلّ منهما درهما في زمان واحد فهو ممتثل بهما معا ؛ لأنّ الطبيعة تتحقّق بالأكثر ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وأما إذا تصدّق على زيد الفقير فأعطاه درهما ثمّ بعد ذلك وبعد فاصل زماني تصدّق على عمرو فأعطاه درهما ، فهو يكون ممتثلا بالتصدّق الأوّل ؛ لأنّه يحقّق الطبيعة فإذا تحقّق متعلّق الأمر الذي هو التصدّق سقط الأمر عن الفاعليّة ، فلا موجب ولا مبرّر لامتثاله مرّة أخرى بنحو الوجوب ، فيكون التصدّق على الثاني ليس امتثالا للأمر والوجوب ؛ لأنّه سقط بتحقق متعلّقه ، ومع سقوط الأمر به لا يكون مأمورا ولا يكون فعله امتثالا لأمر المولى ؛ إذ لا أمر للمولى ليمتثل فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي أنّ الامتثال موضوعه الأمر وحيث إنّه لا أمر فلا امتثال أيضا.

ص: 408

الإطلاق واسم الجنس

اشارة

ص: 409

ص: 410

الإطلاق واسم الجنس

الإطلاق يقابل التقييد ، فإن تصوّرت معنى وأخذت فيه وصفا زائدا أو حالة خاصّة - كالإنسان والعالم - كان ذلك تقييدا. وإذا تصوّرت مفهوم الإنسان ولم تضف إليه شيئا من ذلك فهذا هو الإطلاق.

الإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان ولذلك توجد بينهما إحدى نسب التقابل كما سيأتي بيانه.

وأمّا تعريفهما : فالتقييد : هو لحاظ الطبيعة مع خصوصيّة زائدة عليها ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن وأخذت فيه وصفا زائدا ، كأن تتصوّر الإنسان وتأخذ معه صفة العلم أي الإنسان العالم ، أو تتصوّر معنى معيّن وتأخذ فيه حالة من حالاته ، كأن تتصوّر الإنسان والقعود مثلا.

وأمّا الإطلاق : فهو لحاظ الطبيعة من دون أن يلحظ معها أي خصوصيّة زائدة لا وصفا ولا حالة ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن ولم تضف إليه شيء آخر زائد عليه ، كأن تتصوّر الإنسان فقط من دون أن تأخذ معه العلم أو الجلوس أو أي شيء آخر.

فالتقييد إذا لحاظ الخصوصيّة بينما الإطلاق عدم لحاظ الخصوصيّة.

وقد وقع الكلام في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيدا في المعنى الموضوع له ، أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الإطلاق تارة والتقييد أخرى؟

اسم الجنس يدلّ على الماهيّة والطبيعة كالإنسان ، فإنّه يدلّ على الماهيّة المؤلّفة من الحيوان الناطق ، إلا أنّ اسم الجنس هل يدلّ على الماهيّة والطبيعة بما هي مجرّدة أو بما هي مطلقة؟

وقع الخلاف بينهم في ذلك : فذهب مشهور القدماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع

ص: 411

للماهيّة الملحوظة بنحو الإطلاق أي الماهيّة المطلقة ، فيكون الإطلاق مستفادا من لفظ اسم الجنس بحيث يكون موضوعا للإطلاق ، فالإطلاق جزء وقيد دخيل في المعنى الذي وضع له اسم الجنس ، بحيث يكون اسم الجنس موضوعا للماهيّة بشرط إطلاقها. وهذا معناه أنّ استعمال اسم الجنس في الإطلاق لا يحتاج إلى دليل أو قرينة ؛ لأنّه استعمال للفظ فيما وضع له ، بينما يكون استعمال اسم الجنس في التقييد مجازا ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له فيحتاج إلى قرينة ودليل زائد عن اللفظ.

وذهب مشهور المتأخّرين عن سلطان العلماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها مجرّدة عن أي قيد آخر ، بمعنى أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة بما هي هي ، فالإطلاق والتقييد خارجان عن مدلول اللفظ ، وهذه الماهيّة بذاتها صالحة للانطباق على الإطلاق وصالحة أيضا للانطباق على التقييد ، فيكون استعمالها في التقييد او الإطلاق استعمالا حقيقيّا ؛ لأنّها تتضمّنهما.

فالإطلاق يحافظ ويتضمّن الماهيّة ، والتقييد كذلك فكان استعمال للّفظ فيما وضع له. ولكن يحتاج كلّ من التقييد والإطلاق إلى دالّ وقرينة زائدة له على اللفظ ؛ لأنّ اللفظ لا يتكفّل الدلالة على أحدهما.

ولتوضيح الحال تقدّم عادة مقدّمة لتوضيح أنحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهيّة في الذهن ، لكي تحدّد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على أساس ذلك.

وقبل البدء ببيان القول الصحيح والاستدلال عليه تذكر عادة في الغالب مقدّمة لأجل بيان الأنحاء والاعتبارات التي تلاحظ في الذهن للماهيّة. فإنّ للماهيّة لحاظات وأنحاء ذهنيّة يمكننا على أساسها أن نحدّد المعنى الموضوع له اسم الجنس فنقول :

اعتبارات الماهيّة :

وحاصلها - مع أخذ ماهيّة الإنسان وصفة العلم كمثال - أنّ ماهيّة الإنسان إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصّتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما : الإنسان الواجد للصفة خارجا والإنسان الفاقد لها خارجا.

حاصل هذه المقدّمة - بعد أن نأخذ الإنسان كماهيّة وصفة العلم كمثال للتطبيق - يتركّب من أمور :

ص: 412

الأمر الأوّل : في أنحاء وجود الماهيّة في الخارج إنّ ماهيّة الإنسان بوجودها الخارجي : إمّا أن تكون واجدة لصفة العلم وإمّا أن تكون فاقدة لها. ففي الخارج إمّا أن يكون الإنسان عالما ، وإمّا أن لا يكون عالما. وهذا يعني أنّ هناك حصّتين من الوجود الخارجي لماهيّة الإنسان تتّصفان بالإمكان الوجودي بحيث يكون اتّصافهما بالوجود في الخارج وهما :

1 - الإنسان الواجد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان العالم.

2 - الإنسان الفاقد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان غير العالم.

ولا يتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّة ثابتة في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين.

ولا يمكن أن يوجد في الخارج حصّة ثالثة للماهيّة ينتفي عنها وجدان وفقدان صفة العلم ، بأن يكون في الخارج إنسان ليس واجدا لصفة العلم وليس فاقدا لصفة العلم. فإنّ مثل هذه الحصّة يستحيل وجودها في الخارج ؛ لأنّ العلم وعدم العلم نقيضان يستحيل ارتفاعهما ويستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من جهة واحدة ، ولذلك يستحيل وجود إنسان في الخارج ينتفي عنه العلم وعدم العلم ؛ لأنّ ذلك معناه ارتفاع النقيضين عن موضوع واحد وهو مستحيل.

ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان أي ماهيّة الإنسان بما هي هي الجامعة بين الإنسان الواجد لصفة العلم والفاقد لصفة العلم يستحيل أن يكون موجودا في الخارج ، كحصّة ثالثة في عرض الحصّتين السابقتين. فلا يوجد في الخارج إلا حصّتان فقط الواجدة والفاقدة.

وأمّا الجامع بين الواجد والفاقد فيستحيل وجوده في الخارج ؛ لأنّ الجامع لا يتحقّق إلا ضمن الفرد في الخارج ويستحيل وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد ؛ إذ لو أمكن وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد وفي عرضه لكان جزئيّا ، وهو خلف المفروض.

مضافا إلى أنّ عالم الخارج عالم الاتّصاف المادي ومن المستحيل وجود المجرّدات في الخارج بما هي كذلك ، بل لا بدّ أن توجد في الخارج بما هي متّصفة بآثار الخارج الماديّة.

ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّليّة

ص: 413

التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو ثلاثة أنحاء من لحاظ الماهيّة ، كلّ واحد يشكّل صورة للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين الأخريين.

الأمر الثاني : في أنحاء وجود الماهيّة في الذهن.

عالم الذهن ينقسم إلى قسمين هما المعقولات الأوّليّة والمعقولات الثانويّة.

أمّا المعقولات الأوّليّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من الخارج ، بمعنى أنّ الانتزاع من الخارج والاتّصاف في الذهن.

وأمّا المعقولات الثانويّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من معقولاته الأوّليّة ، بمعنى أنّ الانتزاع من الذهن والاتّصاف في الذهن.

وكلامنا في هذا الأمر الثاني عن المعقولات الذهنيّة الأوّليّة ، فنقول : إنّنا إذا نظرنا إلى عالم الذهن في معقولاته المنتزعة من الخارج مباشرة نجد أنّ ماهيّة الإنسان ووصف العلم لها ثلاثة أنحاء أو ثلاثة اعتبارات ولحاظات ذهنيّة. بمعنى أنّه يوجد في الذهن حصص ثلاث لماهيّة الإنسان مع صفة العلم.

وكلّ واحد من هذه الحصص أو اللحاظات الثلاثة تختلف عن الحصّتين الأخريين ، فكلّها موجودة في عرض واحد بنحو مستقلّ.

وتوضيح ذلك :

لأنّ لحاظ ماهيّة الإنسان في الذهن :

تارة يقترن مع لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أو لحاظ الماهيّة بشرط بشيء.

وأخرى يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيّد ويسمّى لحاظ الماهيّة بشرط لا.

وثالثة لا يقترن بأيّ واحد من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمّى بالمطلق أو لحاظ الماهيّة لا بشرط.

وهذه حصص ثلاث عرضيّة في اللحاظ في وعاء الذهن.

إنّ الذهن عند ما يلاحظ ماهيّة الإنسان وصفة العلم يجد أنّ هناك ثلاثة أنحاء ولحاظات وحصص وهي :

1 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ صفة العلم ، بأن يلحظ

ص: 414

الإنسان المتّصف بالعلم أي الإنسان العالم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أي لحاظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ صفة العلم ، أو يسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط شيء ؛ لأنّه أضاف إلى لحاظ الماهيّة شرطا ووصفا وهو العلم.

2 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ عدم صفة العلم ، بأن يلحظ الإنسان المتّصف بعدم العلم أي الإنسان غير العالم ، وهذا نحو آخر من أنحاء المقيّد ؛ لأنّه لاحظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ عدم صفة العلم. ويسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّه أضاف إلى الماهيّة شرطا ووصفا وهو عدم العلم.

3 - أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي هي مجرّدة عن اللحاظين السابقين ، أي يلحظ الإنسان غير المتّصف بالعلم وغير المتّصف بعدم العلم ، فلا يقترن الإنسان بأي واحد من هذين الوصفين. وهذا ما يسمّى بلحاظ الماهيّة لا بشرط ، أي أنّه لاحظ الماهيّة بما هي هي من دون أن يضيف إليها شرطا آخر ومن دون أن يقرنها بصفة أخرى لا العلم ولا عدم العلم. وهذا هو المطلق ، أو اللابشرط القسمي الذي هو قسم ثالث في مقابل القسمين الآخرين.

وهذه الحصص الثلاث موجودة في عرض واحد ، وكلّ واحد منها مستقلّ في وجوده عن الآخر ووعاء وجودها هو عالم الذهن بمعقولاته الأوّليّة.

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما ، وهي لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين.

الأمر الثالث : في الفرق بين الوجود الخارجي والوجود الذهني للماهيّة.

إذا نظرنا إلى اللحاظات الذهنيّة الثلاث الموجودة في وعاء المعقولات الأوّليّة وجدنا أنّها تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما وهي :

1 - لحاظ الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط شيء.

2 - لحاظ عدم الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط لا.

3 - عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدمه ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم اللحاظين ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ، وهو ما يسمّى اللابشرط القسمي.

ص: 415

وهذه اللحاظات الذهنيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة هي : لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف ، وعدم اللحاظين المذكورين.

ومن الواضح أنّ اللحاظ من شئون الذهن لا الخارج.

وأما الحصّتان الممكنتان للماهيّة في الخارج فتتميّز كلّ واحدة منهما بخصوصيّة خارجيّة وجودا وعدما ، وهي الوصف خارجا وعدمه كذلك.

الوجود الخارجي للماهيّة له حصّتان ممكنتان في الخارج كما تقدّم ، فإذا دقّقنا النظر في هاتين الحصّتين وجدنا أنّ إحداهما تتميّز بخصوصيّة وجوديّة في الخارج ، والأخرى تتميّز بخصوصيّة عدميّة في الخارج أيضا ، وهما :

1 - الماهيّة الواجدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بوجود صفة العلم في الخارج.

2 - الماهيّة الفاقدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بعدم صفة العلم فيها في الخارج.

فهاتان الحصّتان تتميّزان بخصوصيّتين خارجيّتين.

وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث للحاظ الماهيّة في الذهن بعضها عن بعض بالقيود الثانويّة ، وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان في الخارج إحداهما عن الأخرى بالقيود الأوّليّة.

أي أنّ الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث ( بشرط شيء ، بشرط لا ، لا بشرط ) تسمّى بالقيود الثانويّة ؛ لأنّ اللحاظات موجودة في الذهن لأنّه وعاؤها. وأمّا الخارج فهو المنشأ للانتزاع.

بينما تسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان الممكنتان في الخارج ( الماهيّة الواجدة للصفة والماهيّة الفاقدة لها ) بالقيود الأوّليّة ؛ لأنّ صفة العلم وعدمها منتزعان من الخارج وموجودتان في الخارج أيضا ، فهما من القيود الخارجيّة موطنا ومنشأ وعروضا واتّصافا.

ونلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء - وهو لحاظ صفة العلم - مرآة لقيد أوّلي ، وهو نفس صفة العلم المميّز لإحدى الحصّتين الخارجيّتين.

ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابقا للحصّة الخارجيّة الأولى.

الأمر الرابع : في العلاقة بين القيود الأوّليّة والقيود الثانويّة.

أما القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ، أي لحاظ صفة العلم فهو مرآة

ص: 416

كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي هو نفس وجود صفة العلم في الخارج ، والذي كان مميّزا لإحدى الحصّتين الممكنتين في الخارج ، وهي الماهيّة الواجدة للوصف.

فالعلاقة بين لحاظ الماهيّة بشرط شيء وبين الماهيّة الواجدة للوصف علاقة المرآتية والحكاية والكاشفيّة ؛ وذلك لأنّ لحاظ صفة العلم يكشف عن وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابق للحصّة الخارجيّة الأولى ، فإنّ لحاظ صفة العلم مطابق لوجود صفة العلم في الخارج ، فكان القيد الثانوي مطابقا للقيد الأوّلي ، بمعنى أنّ القيد الثانوي مرآة يري ويحكي عن القيد الأوّلي ، فصفة العلم كانت ملحوظة في الذهن وفي نفس الوقت كانت موجودة في الخارج فحصل التطابق بينهما.

كما نلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا - وهو لحاظ عدم صفة العلم - مرآة لقيد أوّلي ، وهو عدم صفة العلم المميّز للحصّة الخارجيّة الأخرى ، ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابقا للحصّة الخارجيّة الثانية.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا أي لحاظ عدم صفة العلم فهو أيضا مرآة كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي يميّز الحصّة الأخرى الممكنة في الخارج أي عدم صفة العلم في الخارج أو الماهيّة الفاقدة لصفة العلم.

فالعلاقة بين هذا القيد الثانوي وبين القيد الأوّلي الآخر هي علاقة المرآتيّة والكاشفيّة والحكاية ؛ لأنّ لحاظ عدم صفة العلم يكشف عن عدم وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول أيضا بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابق للحصّة الخارجيّة الثانية ، بمعنى أنّ هذا القيد الثانوي يري ويحكي عن القيد الأوّلي. فعدم صفة العلم كان ملحوظا في الذهن وفي نفس الوقت أيضا كان هذا العدم وصفا خارجيّا للماهيّة فحصل التطابق بينهما.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط - وهو عدم كلا اللحاظين - فليس مرآة لقيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآة لشيء ، ومن هنا كان المرئي بلحاظ الماهيّة لا بشرط ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد.

ص: 417

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط أي عدم اللحاظين فهو ليس مرآة ولا حاكيا أو كاشفا عن القيد الأوّلي.

وذلك لسببين :

الأوّل : أنّ عدم اللحاظين عبارة عن أمر عدمي والأمر العدمي لا يحكي ولا يكشف عن شيء ولا يكون ملحوظا به أي شيء في الخارج ؛ لأنّ العدم غير المضاف إلى صفة وجوديّة لا يحكي عن الخارج ولا يلحظ به شيئا خارجيّا ، ولذلك لا يكون حاكيا عن قيد أوّلي ؛ لأنّ القيد الأوّلي ما كان موجودا في الخارج. والعدم المطلق لا يحكي عن الوجود ؛ لأنّهما نقيضان لا يجتمعان مطلقا.

الثاني : أنّ عدم اللحاظين كما قلنا : إنّ معناه عدم لحاظ صفة العلم وعدم لحاظ صفة اللاّعلم ، ومن الواضح كما تقدّم سابقا أنّ الماهيّة في الخارج لها حصّتان فقط هما الماهيّة بقيد العلم أي الواجدة للعلم ، والماهيّة بقيد عدم العلم أي الماهيّة الفاقدة للعلم. وأمّا الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن العلم واللاّعلم فهي غير موجودة في الخارج بنحو مستقلّ ؛ لأنّ العلم واللاّعلم لا يرتفعان عن الماهيّة ؛ لأنّهما نقيضان. وهذا يعني أنّه لا يوجد شيء مقابل لهذا القيد الثانوي لكي يحكي ويكشف عنه ويكون مرآة له.

ومن هنا نعرف أنّ الملحوظ والمرئي والمحكي بلحاظ الماهيّة لا بشرط هو ذات الماهيّة ، أي الماهيّة بما هي مجرّدة عن قيد الاتّصاف بالعلم الذي هو المقيّد ، ومجرّدة عن قيد الاتّصاف بعدم العلم الذي هو المطلق ، وهذه الماهيّة محفوظة ضمنهما ؛ لأنّ الماهيّة تتحقّق ضمن الفرد المقيّد الواجد للعلم وضمن الفرد المطلق الفاقد للعلم. ولا توجد بنحو مستقلّ عنهما.

وعلى هذا الأساس صحّ القول بأنّ المرئي والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطي جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما ، وإن كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينة في اللحاظات الثلاثة.

الأمر الخامس : في بيان حقيقة اللاّبشرط.

تقدّم أنّ اللحاظ الثالث من اللحاظات الذهنيّة للماهيّة هو عدم اللحاظين ، أي الماهيّة لا بشرط. وتقدّم أنّ هذا اللحاظ الذهني موجود بنحو مستقلّ عن اللحاظين

ص: 418

الآخرين فهو قسم ثالث مباين لهما ، ولذلك فإنّه يوجد بين هذه اللحاظات تباين وتناف ؛ لأنّ كلّ قسم يباين ويغاير القسم الآخر وإلا للزم التداخل وهو على خلاف حقيقة القسمة.

إلا أنّ الملحوظ والمرئي بهذا اللحاظ الثالث أي لا بشرط قلنا : إنّه لا يحكي عن قيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ والعدم لا وجود له في الخارج. فالملحوظ والمرئي هو ذات الماهيّة بما هي هي قابلة للانطباق على المطلق وقابلة للانطباق على المقيّد ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي محفوظة في الماهيّة المقيّدة وفي الماهيّة المطلقة ، ولهذا يصحّ لنا القول بأنّ هذا المرئي والملحوظ جامع بين المرئي والملحوظ في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الملحوظ باللّحاظ ( بشرط شيء ) هو الماهيّة المقيّدة والواجدة للوصف ، والملحوظ باللّحاظ ( بشرط لا ) هو الماهيّة الفاقدة للوصف. والجامع بين الماهيّة الواجدة والماهيّة المقيّدة هو ذات الماهيّة الموجودة في الذهن والملحوظة باللّحاظ ( لا بشرط ).

والحاصل : أنّ نفس اللحاظ اللابشرطي قسم مباين للّحاظين الآخرين أي لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأمّا الملحوظ والمرئي باللحاظ اللابشرطي ( أي الماهيّة بما هي هي ) فهو جامع بين الملحوظين باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة للوصف ) ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي موجودة ومحفوظة في هاتين الحصّتين والملحوظتين ، ولذلك نقول :

فاللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الآخرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمّى باللابشرط القسمي ، ولكن إذا التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان جامعا بينهما ، لا قسما في مقابلهما ، بدليل انحفاظه فيهما معا ، والقسم لا يحفظ في القسم المقابل له.

وحاصل الكلام في هذا اللحاظ الثالث هو : أنّ اللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ من اللحاظات الذهنيّة الثلاثة فهو قسم مقابل ومباين ومغاير للّحاظين الآخرين ، أي لحاظ الماهيّة بشرط شيء ولحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّ اللحاظات الذهنيّة متباينة فيما بينها ولأنّها موجودة كلّها في الذهن في عرض واحد. فكان كلّ واحد منهما قسيما مباينا للآخر ، فهو مفهوم مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم متباينة فيما بينها.

ص: 419

وأمّا إذا نظرنا إلى اللحاظ اللابشرطي بما هو ملحوظ ومحكي ، فقد قلنا : إنّ الملحوظ فيه ( هو الماهيّة بما هي هي ) ، فاذا قارنّا بين هذا الملحوظ اللابشرطي وبين الملحوظ باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة ) وجدنا أنّه يكون جامعا بين الملحوظين بشرط شيء وبشرط لا ، وليس قسما مقابلا ومباينا لهما. والدليل على ذلك هو أنّ هذا الملحوظ فيه وهو الماهيّة بما هي هي محفوظة وموجودة ضمن الماهيّة الواجدة وضمن الماهيّة الفاقدة ؛ لأنّهما يتركّبان من الماهيّة وزيادة ( وجود الوصف وعدم وجود الوصف ). ومن المعلوم أنّ ما يكون محفوظا في غيره هو الجامع لا القسم ؛ لأنّ ما يكون قسما لغيره يشترط فيه أن يكون مباينا ومغايرا له ؛ لأنّ الأقسام لا تتداخل فيما بينها. فالتداخل يدلّ على أنّه ليس قسما ، وانحفاظه فيهما يدلّ على أنّه جامع بينهما ؛ لأنّ الجامع ينحفظ ضمن أفراده (1).

ثمّ إذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّليّة للذهن إلى وعاء المعقولات الثانويّة التي ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقّلاته الأوّليّة وجدنا أنّ الذهن ينتزع جامعا بين اللحاظات الثلاثة للماهيّة المتقدّمة ، وهو عنوان لحاظ الماهيّة من دون أن يقيّد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ولا بلحاظ عدمه ولا بعدم اللحاظين.

الأمر السادس : ذكرنا أنّ عالم الذهن ينقسم إلى المعقولات الأوّليّة وإلى المعقولات الثانويّة ، وقد تقدّم الكلام عن المعقولات الأوّليّة وقلنا : إنّها ثلاثة وهي : لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف وعدم اللحاظين.

وأمّا المعقولات الثانويّة ، وهي اللحاظات التي ينتزعها العقل من اللحاظات

ص: 420


1- وهذا يعني أنّ اللابشرط بالحمل الأوّلي أي كمفهوم ذهني فهو مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة. وأمّا اللابشرط بالحمل الشائع أي كمصداق ومحكي ومرئي فإنّ النسبة بينه وبين المصداقين المحكيّين الآخرين هو العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّهما أخصّ منه وهو أعمّ منهما يشملهما فهو جامع لهما. ونظير ذلك الإنسان والعالم فإنّهما كمفهومين متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم فهما متباينان ، لكنّها بالحمل الشائع كمصداق فهما يصدقان معا في بعض الموارد. ومقامنا من هذا القبيل.

الموجودة في المعقولات الأوّليّة ، فتكون هذه المعقولات الثانويّة موطنها الذهن ومنشأ انتزاعها الذهن أيضا ، والاتّصاف والعروض في الذهن.

وحينئذ نقول : إنّ العقل إذا التفت ونظر إلى معقولاته الأوّليّة الثلاثة أي ( لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين ) أمكنه أن ينتزع منها لحاظا جامعا بينها ينطبق عليها جميعا ويكون محفوظا ضمنها. وهذا اللحاظ هو عنوان : ( لحاظ الماهيّة ) من دون أن يؤخذ في هذا اللحاظ أي لحاظ آخر ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ولا لحاظ عدم اللحاظين.

فإنّ لحاظ الماهيّة جامع بين هذه اللحاظات الثلاثة لانحفاظه فيها ، فإنّ لحاظ الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة وزيادة وهي لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي لحاظ عدم الوصف ، ولحاظ عدم اللحاظ يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي عدم اللحاظين. ولذلك لا يكون ( لحاظ الماهيّة ) قسما مباينا لهذه الأقسام الثلاثة ، بل هو جامع بينها لانحفاظه فيها ، والقسم لا ينحفظ في القسم الآخر.

وهذا جامع بين لحاظات الماهيّة الثلاثة في الذهن ، ويسمّى بالماهيّة اللابشرط المقسمي تمييزا له عن لحاظ الماهيّة اللابشرط القسمي ؛ لأنّ ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهيّة في الذهن ، وهذا هو الجامع بين تلك الأقسام الثلاثة.

وهذا المعقول الثانوي وهو ( لحاظ الماهيّة ) جامع بين المعقولات الأوّليّة الثلاثة ؛ لأنّه محفوظ فيها وليس قسما لأنّ القسم لا ينحفظ في القسم الآخر المباين له. ويسمّى هذا الجامع بالماهيّة اللابشرط المقسمي.

ووجه التسمية بذلك لأجل تمييزه عن اللحاظ الثالث أي لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي.

فإنّ اللابشرط موجود فيهما معا إلا أنّ اللحاظ الثالث كان قسما مباينا للحاظين الآخرين ، ولذلك عبّر عنه بالقسمي أي أنّه قسم ثالث. وأمّا هذا اللحاظ الثانوي فهو جامع بين الأقسام الثلاثة ، ولذلك يعبّر عنه بالمقسمي أي أنّه مقسم لجميع هذه الأقسام ، والمقسم هو الجامع المحفوظ ضمن الأقسام.

وبعبارة أخرى نقول : إنّ لحاظ الماهيّة باللابشرط المقسمي من ناحية اللحاظ

ص: 421

والملحوظ يكون جامعا بين اللحاظات الثلاثة وبين الملحوظ فيها.

بينما لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي من ناحية اللحاظ مباين للقسمين واللحاظين الآخرين ، إلا أنّ الملحوظ فيه جامع بين الملحوظ في اللحاظين الآخرين كما تقدّم.

وبهذا ينتهي الكلام عن هذه المقدّمة. ونعود للكلام عن اسم الجنس.

إذا توضّحت هذه المقدّمة فنقول :

لا شكّ في أنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي ؛ لأنّ هذا جامع - كما عرفت - بين الحصص واللحاظات الذهنيّة لا بين الحصص الخارجيّة.

والآن لا بدّ من معرفة المعنى الموضوع له اسم الجنس الذي وقع الخلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين ، فنقول : إنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي والذي هو المعقول الثانوي الجامع بين المعقولات الأوّليّة ؛ وذلك لأنّ الواضع عند ما يضع اللفظ للمعنى يضعه للمعنى الموجود في الخارج ، أو يضعه لمعنى يكون حاكيا وكاشفا عن الخارج ، واللابشرط المقسمي جامع بين اللحاظات الذهنيّة فهو لا يحكي إلا عمّا هو موجود في الذهن ومقيّد باللحاظ الذهني ، وما يكون مقيّدا باللحاظ الذهني لا يكون مطابقا للخارج ولا حاكيا عنه ، ولذلك فهو أمر ذهني محض.

وهذا اللحاظ ليس جامعا بين الحصص الخارجيّة ليصحّ وضع اللفظ له.

فلو فرضنا وضع اسم الجنس لهذا اللحاظ لكان معناه ذهنيّا محضا لا ينطبق ولا يحكي عن الخارج ، وهذا خلف الغرض من الوضع ، كما تقدّم بيانه في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة.

وملخّصه : أنّ الواضع غرضه من إحضار الصورة الذهنيّة أن تكون حاكية وكاشفة عن الخارج ، فكان الوضع بإزاء الصورة الذهنيّة لا بما هي مقيّدة بالذهن ، ولا بما هي لحاظ ذهني محض ، بل بما هي مرآة للخارج. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي موطنه ومنشأ انتزاعه والعروض والاتّصاف فيه إنّما هو في الذهن فقط. فلم تتمّ الحكاية والكاشفيّة فيه عن الخارج.

كما أنّه ليس موضوعا للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ؛ لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل في حاقّ المفهوم.

وكذلك فإنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة بشرط شيء أي للإنسان المقيّد

ص: 422

بالعلم ، ولا للماهيّة بشرط لا أي للإنسان المقيّد بعدم العلم ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الطبيعة والماهيّة التي تكون محفوظة في ضمن الطبيعة الواجدة للقيد ، والفاقدة له.

وأمّا كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدم الوصف فهو على خلاف الوجدان والتبادر ، إذ لا يفهم من اسم الجنس إلا ذات الطبيعة ، وأمّا ما يكون خارجا عن الطبيعة وطارئا عليها فهو ليس مدلولا لاسم الجنس ؛ لأنّ العلم وعدم العلم من الصفات التي تعرض على الماهيّة والطبيعة ليسا دخيلين في حاقّ الطبيعة والماهيّة والمفهوم ؛ إذ العلم وعدم العلم ليسا من الأمور الذاتيّة المقوّمة للماهيّة والطبيعة ، بل لو فرض كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدمه فهذا يجعله غير قابل للإطلاق مع أنّ الوجدان شاهد على خلافه ؛ إذ إنّ اسم الجنس كما أنّ معناه محفوظ في الطبيعة المقيّدة فكذلك محفوظ أيضا في الطبيعة المطلقة. من دون أن يكون هناك مجازيّة.

فيتعيّن كونه موضوعا للماهيّة المعتبرة على نحو اللابشرط القسمي. وهذا المقدار ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وحينئذ يتعيّن كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة على نحو اللابشرط القسمي ؛ إذ بعد انتفاء كونه موضوعا لتلك الأنحاء الثلاثة لم يبق إلا هذا النحو.

وهذا المقدار لا خلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين. فهو القدر المتيقّن من كلماتهم ؛ لأنّ الماهيّة على نحو اللابشرط القسمي تدلّ على ذات الماهيّة ، وذات الماهيّة محفوظة ضمن المطلق وضمن المقيّد كما تقدّم ، وبالتالي تكون الماهيّة بذاتها جامعا بين الحصّتين الخارجيّتين ، فكان هذا المعنى مطابقا للخارج ؛ لأنّها موجودة ومحفوظة ضمن الحصّتين الواجدة للعلم والفاقدة له.

وإنّما الكلام في أنّه هل هو موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة - التي تمثّل الماهيّة اللابشرط القسمي - بحدّها الذي تتميّز به عن الصورتين الأخريين ، أو لذات المفهوم المرئي بتلك الصورة وليست الصورة ، بحدّها إلا مرآة لما هو الموضوع له؟

وقع الخلاف والنزاع بين المتقدّمين والمتأخّرين في شيء آخر وهو : أنّنا ذكرنا أنّ الماهيّة اللابشرط القسمي تارة ينظر إليه بما هو لحاظ ذهني في مقابل اللحاظين

ص: 423

الآخرين ، أي لحاظ عدم اللحاظين والذي يكون قسما ثالثا من المعقولات الأوّليّة الذهنيّة في مقام لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأخرى ينظر إليه بما هو ملحوظ. فإنّ اللابشرط القسمي يحكي عن ذات الماهيّة المحفوظة في الماهيّة المقيّدة والماهيّة المطلقة ، أي الواجدة للوصف والفاقدة له ، والتي تكون جامعا بينهما ومقسما للملحوظ باللحاظين المذكورين لانحفاظها ضمنهما.

فالمتقدّمون ذهبوا إلى أنّها موضوعة للاّبشرط القسمي بما هو لحاظ ، والمتأخّرون ذهبوا إلى أنّها موضوعة له بما هو ملحوظ.

وبتعبير آخر : هل اسم الجنس موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة المقابلة للصورتين الذهنيّتين الأخريين ، فيكون حدّها وهو اللحاظ الثالث أي عدم اللحاظين جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، أو أنّ اسم الجنس موضوع للمفهوم المرئي والمحكي والملحوظ بتلك الصورة الثالثة ، فتكون الماهيّة بذاتها هي الموضوع له اسم الجنس ، وحدّها وهو عدم اللحاظين ليس جزءا دخيلا من المعنى؟ المتقدّمون على الأوّل ، والمتأخّرون على الثاني.

فعلى الأوّل يكون الإطلاق مدلولا وضعيّا للّفظ ، وعلى الثاني لا يكون كذلك ؛ لأنّ ذات المرئي والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل إلا على ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المقيّد أيضا. ولهذا أشرنا سابقا (1) إلى أنّ المرئي باللحاظ الثالث جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.

والفارق بين القولين هو :

أنّنا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو اللحاظ وبحدّه أي عدم اللحاظين ، فهذا يعني أنّ اسم الجنس يدلّ وضعا على الطبيعة المطلقة ، فيكون استعماله في الطبيعة المقيّدة مجازا ؛ لأنّه استعمال في غير ما وضع له.

وأمّا كونه موضوعا للطبيعة المطلقة فلأنّ عدم اللحاظين صار جزءا دخيلا من المعنى ، وعدم اللحاظين معناه عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، وهذا تعبير عن حقيقة الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف.

ص: 424


1- أي في نفس هذه المقدّمة التي وضعت لتوضيح أنحاء لحاظ الماهيّة.

وأمّا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي بما هو ملحوظ ، فهذا معناه أنّ اسم الجنس موضوع للمرئي والمحكي وهو ذات الماهيّة ، وهي محفوظة ضمن الماهيّة المطلقة وضمن الماهيّة المقيّدة فلا مجازيّة في أحدهما ؛ لأنّها محفوظة فيهما معا.

فكان اللفظ دالاّ على معناه الموضوع له. وأمّا الإطلاق والتقييد فهما أمران طارئان على الماهيّة يحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ يدلّ عليه.

وهذا تقدّم سابقا حيث ذكرنا إنّ الملحوظ في الصورة الثالثة أي عدم اللحاظين جامع للملحوظ والمرئي في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الماهيّة بذاتها محفوظة ضمن الماهيّة الواجدة والماهيّة الفاقدة.

ولا شكّ في أنّ الثاني هو المتعيّن وقد استدلّ على ذلك بأمرين :

والصحيح ما عليه المتأخّرون من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو الملحوظ والمرئي فيه. والدليل على ذلك أمران :

أوّلا بالوجدان العرفي واللغوي

الدليل الأوّل : أنّ الوجدان شاهد على أنّ اسم الجنس يدلّ على الطبيعة والماهيّة بما هي هي لا بما هي مقيّدة بالإطلاق ؛ إذ إنّ أهل اللغة وأهل المحاورات العرفيّة يرون أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة من دون أن يكون لوصف الإطلاق أيّة مدخليّة في المعنى الموضوع له ، ولذلك لا يحكمون بالمجاز عند استعمالها في الطبيعة المقيّدة ، فهذا الوجدان اللغوي والوجدان العرفي أي الفهم والبناء العرفي شاهد وحاكم بأنّ الإطلاق والتقييد وصفان عارضان وطارئان على الماهيّة وخارجان عن المعنى الموضوع له.

وثانيا بأنّ الإطلاق حدّ للصورة الذهنيّة الثالثة ، فأخذه قيدا معناه وضع اللفظ للصورة الذهنيّة المحدّدة به ، وهذا يعني أنّ مدلول اللفظ أمر ذهني ولا ينطبق على الخارج.

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ وضع اسم الجنس للماهيّة اللابشرط القسمي بحدّه اللحاظي ، أي عدم اللحاظين يلزم منه كون هذا الحدّ جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهذا اللحاظ أمر ذهني فيلزم أن يكون اللفظ موضوعا للصورة الذهنيّة المحدّدة بهذا الحدّ اللحاظي ، ولازم ذلك عدم انطباق

ص: 425

هذا المعنى على الخارج ؛ لأنّ ما يكون مقيّدا ومحدّدا بما هو أمر ذهني يستحيل أن يوجد إلا في الذهن ؛ لأنّ وجوده في الخارج يعني تجريده عن هذا الحدّ والأمر الذهني وهو خلاف أخذه قيدا فيه.

وهذا اللازم مستحيل فيكون الملزوم باطلا ومستحيلا.

ووجه الاستحالة أنّ المقصود والغرض من إحضار المعنى في الذهن أن يكون حاكيا عن الخارج ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة يتوسّط بها للحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم على الصورة الذهنيّة المقيّدة بالذهن يفرغ الحكم عن الهدف والمقصود منه.

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدلّ بنفسه على الإطلاق كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج إفادة كلّ منهما إلى دالّ ، والدالّ على التقييد خاصّ عادة ، وأمّا الدالّ على الإطلاق فهو قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

والنتيجة : هي أنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الماهيّة بذاتها القابلة للإطلاق والتقييد لانحفاظها فيهما ، وعليه فيحتاج كلّ من الإطلاق والتقييد إلى دليل يدلّ عليه ؛ لأنّه لا يستفاد من اللفظ إلا الماهيّة فقط.

والدالّ على التقييد يكون عادة وغالبا دليلا خاصّا ؛ لأنّ التقييد أمر وجودي والأمر الوجودي يحتاج إلى علّة وجوديّة ، هذا يعني أنّ الدليل عليه أمر خاصّ وهو وجود لفظ أو قرينة تدلّ على التقييد.

وأمّا الدالّ على الإطلاق فهذا قرينة عامّة كلّيّة تسمّى بقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أمر عدمي وهو عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، والعدم يكفي فيه عدم علّة الوجود ، ولذلك يكفي فيه السكوت فلا يحتاج إلى دليل خاصّ ، بل يكفي ألاّ تذكر علّة التقييد.

وسيأتي الكلام مفصّلا حول كيفيّة استفادة الإطلاق بقرينة الحكمة. إن شاء اللّه تعالى.

ص: 426

التقابل بين الإطلاق والتقييد

اشارة

ص: 427

ص: 428

التقابل بين الإطلاق والتقييد

عرفنا أنّ الماهيّة عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره ، تارة تكون مطلقة ، وأخرى مقيّدة ، وهذان الوصفان متقابلان.

الماهيّة إذا لاحظها الحاكم أو الواضع فتارة يلاحظها مطلقة من جهة القيود ، وأخرى يلاحظها مقيّدة بوصف أو حالة ، فماهيّة الإنسان تارة تلاحظ من دون أخذ قيد فيها ، وأخرى تلاحظ مع وجود قيد فيها.

والإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد بأن تكون الماهيّة مطلقة ومقيّدة معا.

غير أنّ الأعلام اختلفوا في تشخيص هويّة هذا التقابل. فهناك القول بأنّه من تقابل التضادّ وهو مختار السيّد الأستاذ (1). وقول آخر بأنّه من تقابل العدم والملكة (2) ، وقول ثالث بأنّه من تقابل التناقض (3).

اختلفوا في تشخيص نوعيّة التقابل بين التقييد والإطلاق حيث إنّ التقابل على أربعة أنواع ؛ فذكروا ثلاثة أقوال :

1 - ما ذهب إليه السيّد الخوئي : من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدّين ، أي أنّهما أمران وجوديّان يتعاقبان على موضوع واحد ، لا يجتمعان على موضوع واحد من جهة واحدة في زمن واحد.

2 - ما ذهب إليه المحقّق النائيني : من أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها ، فهما

ص: 429


1- المحاضرات 2 : 173 و 179.
2- القائل هو المحقّق النائيني في أجود التقريرات 1 : 103 و 520 وحكاه عن سلطان العلماء في فوائد الأصول 1 : 565.
3- وهذا ما تبنّاه المؤلّف نفسه كما سيأتي في المتن.

أمران وجودي وعدمي ، ولكن العدم حيث تصحّ الملكة فيكون الإطلاق هو عدم التقييد حيث يصحّ التقييد لا عدم التقييد مطلقا.

3 - ما اختاره السيّد الشهيد : من أنّ التقابل بينهما تقابل التناقض فهما أمران وجودي وعدمي ، فيكون الإطلاق هو عدم التقييد مطلقا ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، ولا يجتمعان ولا يرتفعان معا عن الموضوع الواحد.

وأمّا مدرك هذه الأقوال فهو :

وذلك لأنّ الإطلاق إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما تمّ القول الثالث.

وإن كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه تمّ القول الثاني ، وإن كان الإطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول الأوّل.

الوجه في اختلاف نوعيّة التقابل بينهما هو الاختلاف في بيان حقيقة الإطلاق على أقوال ثلاثة.

وأمّا التقييد فاتّفقوا على أنّه لحاظ القيد والوصف فلذلك فهو أمر وجودي.

وأمّا الإطلاق فإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما ، فعدم اللحاظ أمر عدمي مقابل ومناقض للّحاظ. فنحن تارة نلاحظ القيد وجودا كأن نلاحظ وجود صفة العلم في الإنسان ، وأخرى نلاحظ عدم وجود صفة العلم في الإنسان ، وكلاهما تقييد ؛ لأنّهما لحاظان واللحاظ أمر وجودي ، وثالثة لا نلحظ شيئا زائدا على الماهيّة ، أي أنّنا لا نلاحظ الوصف والقيد لا وجودا ولا عدما فعدم اللحاظ مناقض للّحاظ. ولذلك يكون القول الثالث تامّا.

وإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما في المورد الذي يمكن فيه لحاظ القيد ومع ذلك لم يلاحظ ، كان الإطلاق عدما لوجود القيد حيث يكون التقييد ، فإذا لم يكن التقييد ممكنا فهذا يعني أنّه يستحيل الإطلاق أيضا ، وأمّا إذا كان التقييد ممكنا ومع ذلك لم يلاحظ بل لوحظت الماهيّة فقط ولم يلاحظ القيد معها كان الإطلاق متحقّقا ، فيكون القول الثاني تامّا نظير العمى والبصر.

وإن كانت حقيقته لحاظ رفض القيد أي لحاظ عدم مدخليّة القيد في الماهيّة فاللحاظ أمر وجودي فيكونان معا أمرين وجوديّين فيتمّ القول الأوّل ؛ لأنّ الإطلاق

ص: 430

عبارة عن لحاظ عدم القيد بينما التقييد عبارة عن لحاظ القيد ، فكلاهما أمر لحاظي واللحاظ أمر وجودي.

والفوارق بين هذه الأقوال تظهر فيما يلي :

1 - لا يمكن تصوّر حالة ثالثة غير الإطلاق والتقييد على القول الثالث ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ويمكن افتراضها على القولين الأوّلين وتسمّى بحالة الإهمال.

والفوارق بين هذه الأقوال الثلاثة تظهر في موردين :

المورد الأوّل : بناء على القول الثالث من أنّها متقابلان تقابل النقيضين ، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت الإطلاق في مورد ارتفع التقييد والعكس ، ولا يمكن أن تفترض حالة لا تكون مطلقة ولا تكون مقيّدة ؛ لأنّ افتراض مثل هذه الحال معناه ارتفاع النقيضين وهو مستحيل. وكذلك لا يمكن افتراض حالة تكون مطلقة ومقيّدة معا ؛ لأنّه يعني اجتماع النقيضين وهو مستحيل أيضا. فدائما إمّا أن يثبت الإطلاق أو يثبت التقييد ولا واسطة.

وأمّا بناء على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهما لا يجتمعان على مورد واحد ؛ لاستحالة اجتماع الوجود والعدم في موضوع واحد. إلا أنّهما يمكن ارتفاعهما وذلك في المورد الذي لا يكون قابلا للتقييد ، فإنّه أيضا لا يكون قابلان للإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق بناء على هذا القول هو عدم التقييد في المورد الذي يمكن ويصحّ فيه التقييد لا عدمه مطلقا ، نظير العمى والبصر اللذين يرتفعان عن الحجر ؛ لأنّه لا يقبل البصر فهو لا يقبل العمى أيضا ، ولكنّهما لا يجتمعان معا بأن يكون المورد مبصرا وأعمى معا. إذا هناك واسطة بينهما تسمّى بحالة الإهمال والإجمال أي لا مقيّد ولا مطلق.

وكذلك الأمر بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فإنّ الضدّين لا يجتمعان فلا يكون شيء ما أبيض وأسود في وقت واحد من جهة واحدة ، ولكن الضدّين يرتفعان وذلك بثبوت الضدّ الثالث فيمكن ألاّ يكون أبيض ولا يكون أسود بأن يكون أصفر مثلا. وهكذا الحال هنا فإنّ الإطلاق والتقييد لا يجتمعان معا ولكنّهما يمكن ارتفاعهما ، فهناك واسطة بينهما تسمّى بالإهمال والإجمال أيضا.

ص: 431

2 - يرتبط إمكان الإطلاق بإمكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الإطلاق في كلّ حالة لا يمكن فيها التقييد.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الإطلاق أيضا على القول المذكور ؛ لأنّ الإطلاق بناء عليه هو عدم التقييد في الموضع القابل ، فحيث لا قابليّة للتقييد لا إطلاق.

المورد الثاني : في العلاقة بين التقييد والإطلاق في الحالات الثلاثة : الاستحالة والوجوب والإمكان.

أمّا على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهناك تلازم بينهما في الإمكان والاستحالة دائما وأحيانا الوجوب.

وتوضيحه : أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكنا في مورد ما إذا كان التقييد في ذلك المورد ممكنا أيضا ومع ذلك لم يقيّد ، فعدم التقييد في المورد الذي يمكن فيه التقييد يستلزم ثبوت الإطلاق فيكون الإطلاق واجبا. وأمّا إذا لم يمكن التقييد في مورد ما وكان مستحيلا فإنّه يستلزم استحالة الإطلاق أيضا.

والحاصل : أنّه في المورد الذي يمكن فيه التقييد يمكن فيه الإطلاق أيضا ، وفي المورد الذي يستحيل فيه التقييد يستحيل فيه الإطلاق أيضا. وفي المورد الذي يمكن فيه التقييد ولا يقيّد يكون الإطلاق واجبا.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الإنسان بالعلم ممكن فيكون الإطلاق ممكنا أيضا. وعليه فإذا لم يقيّد بالعلم مع إمكانه كان ثبوت الإطلاق ضروريّا وواجبا.

وأمّا تقييد الحكم بالعلم به فهو مستحيل ؛ لما تقدّم سابقا ولما سيأتي في محلّه من أنّه يستلزم الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر. فحيث كان التقييد بالعلم به مستحيلا فيكون الإطلاق مستحيلا أيضا ؛ لأنّ الإطلاق يمكن حيث يمكن التقييد ويستحيل حيث يستحيل التقييد ، فهنا إهمال وإجمال ؛ لأنّه ليس قابلا للتقييد ولا للإطلاق.

وهذا خلافا لما إذا قيل بأنّ مردّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى التناقض ، فإنّ استحالة أحدهما حينئذ تستوجب كون الآخر ضروريّا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وأمّا بناء على القول الثالث من أنّ التقابل بينهما تقابل النقيضين ، فيكون هناك

ص: 432

تلازم بينهما وجودا وعدما ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر وإذا استحال أحدهما وجب الآخر. ولا يمكن استحالتهما معا ولا وجودهما معا.

فإذا كان التقييد في مورد مستحيلا كما في المثال السابق وهو ( أخذ العلم بالحكم في الحكم ) كان ذلك معناه أنّ الإطلاق ضروري الوجود فيكون واجبا ؛ لأنّ النقيضين لا يرتفعان فإذا ارتفع التقييد ثبت الإطلاق لا محالة.

وليس أحدهما مرتبطا بإمكان الآخر ، فإنّ نسبة الإمكان لا تتصوّر بينهما ؛ لأنّه إمّا أن يثبت السلب أو يثبت الايجاب.

وأمّا إذا قيل بأنّ مردّه إلى التضادّ فتقابل التضادّ بطبيعته لا يفترض امتناع أحد المتقابلين بامتناع الآخر ولا ضرورته.

وأمّا بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فالتضادّ يعني بذاته أنّهما لا يجتمعان على مورد واحد ، وأمّا ارتفاعهما عنه أو عدم ارتفاعهما فهذا قد يكون وقد لا يكون. وعليه فإذا ارتفع أحدهما فقد يرتفع الآخر وقد لا يرتفع ، فإذا استحال أحدهما وامتنع ثبوته ووجوده فقد يستحيل ويمتنع الآخر ، وقد يكون ضروريّا وواجبا. فهناك حالتان من التضادّ إذا ، هما :

1 - الضدّان اللذان لهما ثالث كالألوان فإنّ السواد والبياض ضدّان ولكن يوجد لهما ثالث وأكثر كالأخضر وغيره. فهنا إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر قطعا ؛ لأنّ الضدّين لا يجتمعان. وأمّا إذا ارتفع أحدهما فليس ضروريّا أن يكون الآخر ثابتا ؛ إذ يمكن ثبوت السواد عند ارتفاع البياض ويمكن ارتفاعه أيضا بأن يثبت الأصفر.

2 - الضدّان اللذان لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فهنا لا يمكن اجتماعهما ، وكذلك إذا ارتفع أحدهما فإنّ الآخر يكون وجوده وثبوته ضروريّا ؛ إذ لا يوجد حالة ثالثة لهما.

ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التضادّ بطبيعته أي بذاته لا يفترض ارتفاع الآخر عند ارتفاع الأوّل ولا يفترض ضرورة ثبوته عند ارتفاع الأوّل ، بل قد يرتفع كما في الصورة الأولى وقد لا يرتفع كما في الصورة الثانية.

والسيّد الخوئي قال بأنّ الإطلاق والتقييد من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فتكون النتيجة هنا كالنتيجة مع القول بأنّهما نقيضان.

ص: 433

والصحيح : هو القول الثالث دون الأوّلين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصيّة التي تقتضي صلاحيّة المفهوم للانطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصيّة يكفي فيها مجرّد عدم لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد.

الصحيح من بين الأقوال الثلاثة هو القول الثالث ، أي أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد بنحو التناقض ، فالتقييد هو لحاظ القيد بينما الإطلاق هو عدم لحاظ القيد في كلّ الحالات.

والدليل على ذلك هو أنّ الإطلاق يراد به شمول المفهوم لكلّ الأفراد التي يصلح الانطباق عليها ، فعند ما يقال : إنّ هذا المفهوم مطلق معناه أنّ هذا المفهوم له صلاحيّة الانطباق والشمول لكلّ الأفراد التي تصلح للدخول تحت المفهوم ، فيكون الإطلاق على هذا يشتمل على خصوصيّة تفيد العموم والشمول لكلّ الأفراد.

وهذه الخصوصيّة المفيدة للإطلاق يكفي في تحقّقها ألاّ يلاحظ شيء أو قيد زائد على المفهوم والماهيّة.

فمثلا الإنسان عند ما يكون مطلقا أي شاملا لكلّ الأفراد التي ينطبق عليها ماهيّة الإنسان يكفي لثبوت الإطلاق ألاّ يلاحظ شيء آخر أو قيد زائد على ماهيّة الإنسان بأن تلاحظ الماهيّة فقط ولا يلحظ القيد ، وهذا معناه أنّه يكفي في الخصوصيّة التي يتميّز بها الإطلاق عدم لحاظ القيد مع الماهيّة ، وعدم لحاظ القيد مفهوم مناقض للتقييد الذي هو لحاظ القيد ، فكانت النسبة بينهما هي التناقض ويدلّ على ذلك أيضا :

لأنّ كلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة للانطباق على كلّ فرد يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابليّة تجعله صالحا لإسراء الحكم الثابت له إلى أفراده شموليّا أو بدليّا.

إنّ كلّ مفهوم له قابلية وصلاحيّة لأن ينطبق ويشمل كلّ الأفراد التي تتضمّن وتحفظ هذا المفهوم ، بمعنى أنّ كلّ فرد ومصداق يكون واجدا ومتضمّنا وحافظا لهذا المفهوم ، فالمفهوم يشمله ويصلح للانطباق عليه ، وهذه القابليّة ذاتيّة للمفهوم لا تنفكّ عنه.

فالإنسان مثلا كمفهوم له صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق الخارجيّة التي تحفظ فيها الحيوانيّة الناطقيّة ، ولذلك فهو يشمل الإنسان العالم والجاهل على حدّ سواء ؛ لأنّ كلاّ منهما يحفظ مفهوم الإنسان ويتضمّن ماهيّته.

ص: 434

وهذا معناه أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ الماهيّة الصالحة للانطباق على كلّ الأفراد هو نفسه معنى الإطلاق. إذا فهذه القابليّة تجعل المفهوم صالحا لإسراء الحكم الثابت له لكلّ الأفراد التي انطبق عليها لاشتمالها على المفهوم أيضا.

فعند ما يقال : ( أكرم الإنسان ) فهذا الحكم الثابت للإنسان يسري إلى كلّ فرد من الأفراد الخارجيّة التي تتضمّن مفهوم الإنسان.

غاية الأمر أنّ هذا الإسراء قد يكون شموليّا كما في ( إكرام الإنسان ) حيث يسري الحكم لكلّ الأفراد. وقد يكون بدليّا كما في ( صلّ ) فإنّه لا يشمل كلّ أفراد الصلاة ، بل يكفي فرد واحد من أفراد الصلاة على نحو البدليّة.

وهذه القابليّة بحكم كونها ذاتيّة لازمة له ، ولا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه.

ثمّ إنّ قابليّة المفهوم لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي يحفظ بها المفهوم كما قلنا ذاتيّة للمفهوم ، فكلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة. وبحكم كونها ذاتيّة فهي لازمة للمفهوم ولا تنفكّ عنه ؛ لأنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات.

وهذا معناه أنّ كلّ مفهوم من ذاتيّاته أن ينطبق على كلّ أفراده ، سواء كانت دائرة المفهوم واسعة كما في ( أكرم الإنسان ) حيث يشمل المفهوم كلّ فرد من الأفراد المتّصفة لماهيّة الإنسان أي ( الحيوان الناطق ) سواء كان عالما أم جاهلا. أو كانت دائرة المفهوم ضيّقة كما في ( أكرم الإنسان العالم ) ، فإنّ المفهوم هنا صالح للانطباق على كلّ الأفراد من الإنسان العالم أيضا.

وهذه القابليّة لا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ؛ لأنّ صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد كما تقدّم يكفي فيها ألاّ يلاحظ القيد مع الماهيّة ، وإنّما تلاحظ الماهيّة بنفسها فقط.

والتقييد لا يفكّك بين هذا اللازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم الأوّل ؛ لأنّ المفاهيم كلّها متباينة في عالم الذهن حتّى ما كان بينهما عموم مطلق في الصدق ، وهذا المفهوم الجديد له قابليّة ذاتيّة أضيق دائرة من المفهوم الأوّل.

دفع إشكال مقدّر ، حاصله : أنّه تقدّم أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ

ص: 435

الإطلاق معناه وجود خصوصيّة تجعل المفهوم قابلا للانطباق على كلّ ما يصلح له المفهوم ، فما دام الإطلاق لازما ذاتيّا لا ينفكّ عن المفهوم فكيف في موارد التقييد انفكّ هذا اللازم عن المفهوم؟ لأنّه من الواضح أنّه في حال التقييد لا يكون المفهوم صالحا للانطباق على الأفراد غير الواجدة للقيد مع كونها واجدة ومتضمّنة للمفهوم أيضا.

فإذا قيل مثلا : ( أكرم الإنسان العالم ) لم يكن مفهوم الإنسان صالحا للانطباق على الجاهل غير العالم ، مع أنّ الجاهل واجد لماهيّة الإنسان. والحال أنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات ، فيلزم ألاّ يكون الإطلاق ذاتيّا للمفهوم وإلا لما انفكّ في موارد التقييد عنه ؛ لأنّ انفكاكه عنه خلف ذاتيّته له.

والجواب : أنّ التقييد لا يفكّك بين اللازم وملزومه ، أي لا يفكّك بين المفهوم والإطلاق بمعنى القابليّة والصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد المتضمّنة للمفهوم ليلزم المحذور المذكور ؛ وذلك لأنّ التقييد يوجد مفهوما جديدا غير المفهوم السابق ، وهذا المفهوم الجديد مباين للمفهوم السابق وأفراده تختلف عن أفراد ذلك المفهوم.

فقولنا : ( أكرم الإنسان ) يختلف مفهوما عن قولنا : ( أكرم الإنسان العالم ) ؛ لأنّ ( الإنسان ) كمفهوم يغاير ويباين ( الإنسان العالم ) ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان ) تغاير وتباين الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان العالم ) ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة بمعانيها ؛ لأنّ حقيقة كلّ مفهوم تختلف تصوّرا عن حقيقة الآخر حتّى وإن كان بين المفاهيم نسبة العموم والخصوص مطلقا في عالم الصدق الخارجي.

( فالإنسان ) و ( الإنسان العالم ) كصورتين ومفهومين بالحمل الأوّلي متباينان ومتغايران ؛ لأنّ الأوّل حقيقته ( الحيوان الناطق ) بينما حقيقة الثاني ( الحيوان الناطق ذو صفة العلم ).

وإن كانا بالحمل الشائع والمصداق الخارجي ينطبق أحدهما على الآخر بحيث تكون أفراد هذا المفهوم داخلة ضمن أفراد المفهوم الآخر ، فإنّ الإنسان العالم بكلّ أفراده داخل تحت أفراد الإنسان أيضا.

والحاصل : أنّ التقييد يوجب حصول مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل بالحمل

ص: 436

الأوّلي. وهذا المفهوم الجديد له قابليّة وصلاحيّة ذاتيّة للانطباق على كلّ أفراده ، كما هو الحال في المفهوم السابق. غاية الأمر أنّ المفهوم السابق كانت أفراده أوسع دائرة بينما المفهوم الجديد دائرة أفراده أضيق.

وفي كلا الحالين هناك صلاحيّة للمفهوم في كلّ منهما لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي ينحفظ فيها المفهوم. فالمفهوم الأوّل ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة ومفهوم الإنسان ، بينما المفهوم الجديد ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة مفهوم الإنسان العالم. فلا اختلاف ولا فرق بينهما من حيث قابليّة كلّ منهما للانطباق على كلّ الأفراد ومن حيث كون هذه القابليّة لازمة لا تنفكّ عنه. غاية الأمر الفرق بينهما في أنّ هذه القابليّة الذاتيّة في الأوّل أوسع دائرة من جهة الأفراد بينما في الثاني أضيق دائرة من هذه الناحية.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق معناه الصلاحيّة والقابليّة للانطباق على كلّ الأفراد التي يحفظ فيها المفهوم. وهذا يكفي فيه مجرّد عدم التقييد ، ولا يحتاج إلى ملاحظة القيود ورفضها.

وبهذا الصدد يجب أن نميّز التقابل بين الإطلاق الثبوتي والتقييد المقابل له - وهذا ما كنّا نتحدّث عنه فعلا - عن التقابل بين الإطلاق الإثباتي - أي عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق بقرينة الحكمة - والتقييد المقابل له.

وحينئذ لا بدّ من التمييز بين نحوين من الإطلاق والتقييد :

الأوّل : الإطلاق والتقييد الثبوتيّان ، والمراد بهما هو أنّ الحاكم أو الواضع إمّا أن يلاحظ في قرارة نفسه الإطلاق أو يلاحظ التقييد ، أي أنّه إمّا أن يجعل الحكم أو اللفظ للصورة الذهنيّة المطلقة أو للصورة الذهنيّة المقيّدة.

وهذا ما كنّا نتحدّث عنه بالفعل وقلنا : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل النقيضين.

الثاني : الإطلاق والتقييد الإثباتيّان ، والمراد بهما مرحلة الدلالة والكاشفيّة عمّا هو موجود في ذهن الحاكم أو الواضع. فإنّ التقييد الإثباتي معناه ذكر القيد الكاشف عن التقييد الثبوتي ، والإطلاق معناه عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق الثبوتي.

ص: 437

فهنا لا بدّ للدلالة على التقييد والكشف عنها من ذكر القيد ، بينما يكفي في الدلالة على الإطلاق والكشف عنه عدم ذكر القيد.

وهنا تختلف نسبة التقابل بين الإطلاق والتقييد الإثباتيّين عن الثبوتيّين ؛ لأنّ الإثباتيّين يرتبطان بعالم الدلالة والكاشفيّة والتي مردّها إلى ظهور حال المتكلّم لمعرفة مراده الجدّي من كلامه ، وأنّه هل يريد جدّا الإطلاق أو أنّه يريد جدّا التقييد؟ ولذلك نقول :

فإنّ مردّ التقابل بين الإطلاق الإثباتي والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد إنّما يكشف عن الإطلاق في حالة يمكن فيها للمتكلّم ذكر القيد. كما مرّ في الحلقة السابقة (1).

إنّ الإطلاق والتقيد الإثباتيّين مردّهما إلى عالم الكشف والدلالة عن المراد الجدّي للمتكلّم. والمراد الجدّي لكلّ متكلّم يرتبط بظهور حاله وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه.

وحينئذ نقول : إنّ المتكلّم إن ذكر القيد في كلامه فيكشف هذا عن كونه مريدا للتقييد ثبوتا ؛ لأنّ عالم الإثبات يكشف ويدلّ على عالم الثبوت.

وأمّا إذا لم يذكر القيد فعدم ذكر القيد يكون كاشفا ودالاّ على أنّه لا يريد التقييد جدّا ، وأنّه ثبوتا لم يلاحظ القيد ، وهذا يعني أنّه أراد الإطلاق.

إلا أنّ هذا متوقّف على أن يكون المتكلّم قادرا على ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره فيدلّ ويكشف عدم ذكره على الإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن قادرا على ذكر القيد لوجود محذور ( كالاستحالة مثلا ) فهنا لا يكشف عدم ذكره للقيد عن كونه لا يريد التقييد جدّا وثبوتا ؛ إذ من المحتمل أنّه يريد التقييد ثبوتا وجدّا ولكنّه لم يذكر القيد لعدم إمكان ذلك.

وبهذا يظهر أنّ الكاشف عن التقييد إنّما يكون بذكر القيد ، وأمّا الكاشف عن الإطلاق فهو عدم ذكر القيد في الحالة التي يمكن فيها ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره. وهذا يعني أنّ الإطلاق هو عدم ذكر القيد في الموضع القابل للتقييد. وهذا يعني أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

ص: 438


1- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

وهذا خلافا للإطلاق والتقييد الثبوتيّين حيث إنّ النسبة بينهما هي تقابل التناقض (1).

ص: 439


1- والنكتة : هي أنّ عالم الثبوت لا يرتبط بالألفاظ وإنّما يرتبط بالصورة الذهنيّة واللحاظ ، والشارع أو الواضع عند ما يلتفت إلى عالم الثبوت والمراد الجدّي الواقعي فهو : إمّا أن يتصوّر الإطلاق ، وإمّا أن يتصوّر التقييد ، ولا ارتباط لهاتين الصورتين ولا تتوقّف إحداهما على الأخرى ؛ لأنّ الصورتين متباينتان في عالم الذهن ، فهو إمّا يريد الإطلاق ، وإمّا يريد التقييد ولا توجد حالة الإهمال ، إذ لا واسطة بينهما. ولذلك تكون النسبة بينهما هي التناقض. وأمّا عالم الإثبات والدلالة فهو يرتبط بالألفاظ ومدى دلالتها على المعنى الذي يريده المتكلّم ، ومن هنا ترتبط الدلالة على الإطلاق بالدلالة على التقييد ، بمعنى أنّ المتكلّم إذا أراد التقييد فإنّه يذكر ما يدلّ عليه ، وأمّا إذا أراد الإطلاق فقد يذكر ما يدلّ عليه وقد يكتفي بالسكوت. وفي هذه الحالة لا يكون السكوت وحده كافيا للدلالة على الإطلاق ، بل يرتبط بإمكان ذكر القيد ، فإنّه قد يريد القيد ومع ذلك سكت عنه ولم يذكره لوجود المانع والمحذور ، فلذلك يكون السكوت دالاّ على الإطلاق بشرط أن يكون المورد في نفسه قابلا وصالحا للتقييد ولا محذور من ذكر القيد. ولذلك تكون النسبة هي الملكة والعدم.

ص: 440

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة

ص: 441

ص: 442

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة

قد يقول المولى : ( أكرم الفقير العادل ) ، وقد يقول : ( أكرم الفقير ) ، ففي الحالة الأولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري للكلام حصّة خاصّة من الفقير ، أي الفقير العادل. وبحكم الدلالة التصديقيّة الأولى نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل الكلام لإخطار صورة حكم متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقيّة الثانية نثبت أنّ المولى جادّ في هذا الكلام ، بمعنى أنّ هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقة وليس هازلا.

تقدّم في الحلقة السابقة أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام :

الأولى : مرحلة الدلالة التصوّريّة ، وهي الصورة الذهنيّة التي تخطر في الذهن عند وجود اللفظ مطلقا.

الثانية : مرحلة الدلالة الاستعماليّة أو التصديقيّة الأولى ، وهي أنّ المتكلّم قد أراد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي في الصورة الذهنيّة التي أخطرها اللفظ في الذهن.

الثالثة : مرحلة الدلالة الجدّيّة أو التصديقيّة الثانية ، وهي أنّ المتكلّم أراد جدّا إخطار هذا المعنى في الذهن ، فهو مراد له جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والأصل هو أن تتطابق هذه الدلالات الثلاث فيما بينها فما يخطره في الذهن فيكون مراده استعمالا وجدّا ، إلا إذا نصب قرينة على خلاف ذلك.

بعد ذلك نقول : إنّ المتكلّم أو الشارع عند ما يتصوّر موضوع حكمه إمّا أن يتصوّره مطلقا ، أو يتصوّره مقيّدا ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الإطلاق والتقييد الثبوتيين متقابلان تقابل النقيضين. ولذلك تارة يقول الشارع : ( أكرم الفقير العادل ) ، وأخرى يقول : ( أكرم الفقير ).

ففي الحالة الأولى : كان موضوع الحكم مركّبا من مفهومين مندمجين معا يؤلّفان

ص: 443

مفهوما واحدا هو الفقير العادل أي الحصّة الخاصّة من الفقير لا الفقير مطلقا الشامل للعادل وغيره. فليس موضوع الحكم هو الفقير بما هو هو ، بل الفقير مع خصوصيّة أخرى زائدة توجب تحصيصه.

وهذه الحصّة الخاصّة من الفقير أي الفقير العادل هي موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم عند سماع هذا اللفظ ( الفقير العادل ) إنّما هي الحصّة الخاصّة لا مطلق الفقير.

وعلى أساس التطابق بين الدلالات الثلاث نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل كلامه لإخطار هذه الصورة الذهنيّة الخاصّة ، فهو قصد هذا الإخطار استعمالا. فالمتكلّم أخطر واستعمل قاصدا أن يرتسم في الذهن صورة الحكم الذي موضوعه هو الحصّة الخاصّة.

وأيضا نثبت أنّ المتكلّم قد أراد جدّا هذه الحصّة الخاصّة التي أخطرها واستعملها ، فهو جادّ في كلامه وليس هازلا أو في التقيّة ، فيكون مراده الجدّي هو الحكم على الحصّة الخاصّة من الفقير لا مطلق الفقير.

وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية يثبت أنّ الحكم الجدّي المدلول للدلالة التصديقيّة الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة ، كما هو كذلك في الدلالة التصديقيّة الأولى.

والمنشأ للتطابق بين الدلالتين التصديقيّتين الأولى والثانية هو ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدّا ما قصد استعماله وإخطاره على أساس حالة التطابق بين الدلالات كما تقدّم.

فكما أنّ الدلالة التصديقيّة الأولى أي الاستعماليّة كان منشأ ثبوتها أصالة التطابق بينها وبين الدلالة التصوّريّة التي هي المدلول الوضعي للكلام ، فكذلك الحال بالنسبة للدلالتين التصديقيّة الأولى والثانية.

وبهذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة في المثال ، أو أيّ قيد من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوّري والتصديقي الأوّلي كونه قيدا في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّا ، وذلك ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود.

وعن طريق أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث نستطيع أن نثبت أنّ ذكر قيد

ص: 444

العدالة في موضوع الحكم ( أكرم الفقير العادل ) أو أي قيد آخر ، أنّ هذا القيد داخل في موضوع الحكم بنحو الجدّية ، وأنّه موجود ثبوتا في نفس الشارع أو المتكلّم ؛ وذلك لأنّ هذا القيد قد أخذ في الصورة الذهنيّة التي تكوّن المدلول التصوّري الوضعي ، وقد استعمل المتكلّم هذا القيد قاصدا إخطاره في الذهن ، وبالتالي فهو يريده جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والحاصل : أنّ ذكر القيد إثباتا يدلّ ويكشف عن وجود القيد ودخالته في الموضوع ثبوتا أيضا على أساس أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت.

وهذا ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود ، التي معناها أنّ كلّ قيد يذكر فهو لأجل الاحتراز والاجتناب عن دخول الأفراد الفاقدة للقيد في موضوع الحكم ، فيتجنّب من شمول الحكم لغير الواجد للقيد ويتحرّز عن ذلك ، فيكون الحكم منتفيا عن الفاقد للقيد.

ومرجع ظهور التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة إلى ظاهر حال المتكلّم أنّ كلّ ما يقوله يريده جدّا ، والدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى بمجموعهما يكوّنان الصغرى لهذا الظهور ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلّم فتنطبق حينئذ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور.

وقاعدة احترازيّة القيود مرجعها إلى أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل من جهة وبين المدلول التصديقي الثاني من جهة ثانية.

وهذا التطابق مرجعه أيضا ظهور حال المتكلّم بأنّ كلّ ما يقوله ويذكره في كلامه ويخطره في ذهن السامع تصوّرا واستعمالا فهو يريده جدّا ؛ لأنّه إذا لم يكن مرادا له جدّا ومع ذلك ذكره تصوّرا واستعمالا فيكون بذلك خارقا ومخالفا لأصالة التطابق بين الدلالات الثلاث من دون أن ينصب قرينة على ذلك ، فيكون قد أخطر واستعمل صورة لا يريدها جدّا ، وهذا قبيح عرفا وعلى خلاف المتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، وخلف كونه في مقام البيان لمراده الجدّي بكلامه.

وهذا الظهور ( كلّ ما يقوله يريده جدّا ) يتألّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ هذا ما قاله ، وأمّا الكبرى فهي كلّ ما يقوله يريده جدّا. فلا بد إذا من إحراز الصغرى لكي تنطبق عليها الكبرى وتتحقّق القاعدة والظهور. وحينئذ

ص: 445

نقول : إنّ الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى يحقّقان بمجموعهما الصغرى ؛ لأنّ ما قاله يثبت من خلال ذكر ما يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بقصد إخطار هذه الصورة في الذهن.

فاللفظ يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بمعناه التصوّري يدلّ على قصد إخطاره في الذهن ، ومجموعهما يكوّن أنّ هذا ما قاله.

وحينئذ تطبّق الكبرى ( ما يقوله يريده ) لإثبات أنّ هذا هو مراده الجدّي على أساس التطابق بين الدلالات الثلاث.

وقاعدة الاحترازيّة التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلا أنّها إنّما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي أي حكم آخر من قبيله ، وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته حيث يقتضي انتفاء طبيعي الحكم وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدّم في الحلقة السابقة (1).

ثمّ إنّ قاعدة احترازيّة القيود - التي أساسها أصالة التطابق الذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم في أنّه كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا - تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد.

فإذا قيل : ( أكرم الفقير العادل ) ووجد في الخارج فقير غير عادل فلا يجب إكرامه ؛ لأنّ ذكر القيد في الكلام إثباتا يدلّ على أنّ له مدخليّة في ثبوت الحكم ، فمع عدمه ينتفي الحكم.

إلا أنّ نفي الحكم عن الفاقد للقيد والوصف لا على أساس أنّ للجملة مفهوما ، فإنّ المشهور هو عدم ثبوت المفهوم للجملة الوصفية كما سيأتي ، وإنّما ينتفي الحكم على أساس ذاك الظهور ، وهو لا يقتضي أكثر من انتفاء الحكم عند فقدان الوصف ، ولكنّه لا يمنع من ثبوت الحكم بوصف آخر لهذا الفرد الفاقد للقيد يكون مشابها لهذا الحكم.

وعليه ، فيكون المنتفي بقاعدة الاحترازيّة هو شخص الحكم الذي كان موضوعا مقيدا بهذا القيد عن الفرد الفاقد للقيد ، وليس المنتفي هو كلّي وطبيعي الحكم عن الفرد الفاقد للقيد في كلّ الأحوال وعلى الإطلاق.

وبهذا اختلفت القاعدة عن موارد المفهوم في حالات ثبوته كما في جمل الغاية

ص: 446


1- في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : تعريف المفهوم.

والحصر. فإذا قيل مثلا : ( لا تكرم إلا العالم ) أو ( إنّما يجب إكرام العالم ) دلّ ذلك على انتفاء طبيعي وكلّي وجوب الإكرام عن غير العالم ، كما سيأتي.

وأمّا هنا فلا ينتفي في قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) إلا شخص وجوب الإكرام عن الفقير غير العادل ، ولكن قد يثبت وجوب الإكرام للفقير بطريق آخر غير العدالة ، كأن يكون عالما مثلا ويأتي دليل يدلّ على وجوب إكرام العالم مطلقا ، سواء الفقير وغيره وسواء العادل وغيره.

وأمّا في الحالة الثانية فقد أنيط الحكم في مرحلة المدلول التصوّري بذات الفقير ، وقد تقدّم أنّ مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الإطلاق ، والدلالة التصديقيّة الأوّليّة إنّما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصوريّة للكلام.

وبهذا ينتج أنّ المتكلّم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يفد دخل قيد العدالة في الحكم ولم يقل ذلك ، لا أنّه أفاد الإطلاق وقال به ؛ لأنّ صدق ذلك يتوقّف على أن يكون الإطلاق دخيلا في مدلول اللفظ وضعا ، وقد عرفت عدمه.

وأمّا في الحالة الثانية : أي إذا قال الشارع : ( أكرم الفقير ) ، فقد تقدّم سابقا أنّ اسم الجنس موضوع للدلالة على الماهيّة بما هي هي من دون مدخليّة للتقييد والإطلاق فيها ، فالتقييد والإطلاق ليسا داخلين في الدلالة الوضعيّة لاسم الجنس. ولذلك فالحكم هنا معلّق ومنصبّ على الفقير ذاته من دون مدخليّة لوصف الإطلاق أو التقييد ، مع كونه صالحا للانطباق عليهما.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول الوضعي لاسم الجنس - والذي هو ذات الفقير - هو المدلول تصوّرا - لأنّ الدلالة التصوّريّة هي الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ واسم الجنس - لا يدلّ على أكثر من الماهيّة ذاتها ، وعلى أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل نثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها وضعا وتصوّرا. فيكون المراد الاستعمالي هو ذات الفقير أيضا مجرّدة عن التقييد والإطلاق.

فينتج من ذلك أنّ الحكم ثابت على الفقير بذاته ؛ لأنّ المتكلّم قد أفاد ذلك من الكلام الذي قاله ، ولم يثبت أنّه أفاد التقييد وأنّ العدالة دخيلة في الحكم ؛ لأنّه لم يقل

ص: 447

ولم يذكر قيد العدالة في اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ العدالة لم يكن دخيلا في الصورة الذهنيّة التي قد أخطرها واستعمل اللفظ بها.

وكذلك لا يثبت أنّه أفاد الإطلاق أيضا ؛ لأنّه لم يذكر ما يدلّ عليه لفظا ، والإطلاق ليس دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس أيضا ؛ ليقال : إنّ ذكر اسم الجنس يتضمّن الدلالة على الإطلاق ؛ لأنّ هذا القول مبنيّ على أن يكون الإطلاق جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهو مقالة المتقدّمين التي تقدّم سابقا بطلانها.

والحاصل : أنّ المفاد هنا هو كون الحكم ثابتا على ذات الفقير ، من دون أن يكون قد أفاد التقييد أو الإطلاق في كلامه. نعم ، اللفظ صالح للانطباق عليهما معا كما تقدّم.

يبقى أن نثبت المراد الجدّي لهذا المتكلّم ؛ لأنّ المراد الجدّي إمّا أن يكون الإطلاق أو يكون التقييد. ولذلك نقول :

فقصارى ما يمكن تقريره أنّه لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقّق صغرى لظهور حالي سياقي ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان موضوع حكمه الجدّي بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه. وبذلك نثبت أنّ قيد العدالة غير مأخوذ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الإطلاق ، وهذا ما يسمّى بقرينة الحكمة أو ( مقدّمات الحكمة ).

وأمّا المراد الجدّي للمتكلّم فيمكن إثباته من خلال ظهور حال سياقي مفاده : ( أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ) بتقريب أنّ المتكلّم غاية ما أفاد من قوله : ( أكرم الفقير ) هو وجوب الإكرام على ذات الفقير من دون أن يذكر قيدا لا تصوّرا ولا استعمالا.

وهذا يحقّق الصغرى لذاك الظهور السياقي ، حيث يقال : إنّ المتكلّم لم يذكر القيد تصوّرا ولا استعمالا ، وكلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا ، وإذا ثبت أنّ المراد الجدّي ليس هو التقييد فيكون الإطلاق هو المراد الجدّي ؛ لأنّهما نقيضان ثبوتا.

فالصغرى وهي ( ما لا يقوله من القيود ) تتحقّق بمجموع الدلالتين التصوّريّة

ص: 448

والتصديقيّة الأولى ، حيث يثبت على أساسهما أنّه لم يفد القيد تصوّرا واستعمالا ، فيتحقّق أنّه لم يقل القيد.

والكبرى وهي ( ما لا يقوله فهو لا يريده ) تنطبق على الصغرى ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا فيثبت الإطلاق.

والمرجع في هذا الظهور هو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام الموضوع المعلّق عليه الحكم جدّا ، فإذا كان موضوع حكمه الجدّي مقيّدا فكان اللازم ذكر القيد ، وإلا لكان مخلاّ بما هو متعارف مع كونه قادرا على ذكره ولم يكن هناك مانع أو محذور منه. فإذا لم يذكر القيد مع توفّر الدواعي لذكره كشف ذلك عن كونه غير دخيل في موضوع حكمه الجدّي ، فيثبت أنّ موضوع الحكم ليس مقيّدا بهذا القيد ولا بذاك فيثبت الإطلاق ؛ لأنّه عدم ذكر القيد.

وهذا الظهور الحالي السياقي يسمّى بقرينة أو مقدّمات الحكمة.

وبالمقارنة نجد أنّ الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود. فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده. والإطلاق يعتمد على ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ويمكن القول بأنّ الظهور الأوّل هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظي للكلام والمدلول التصديقي إيجابيّا ( نريد بالمدلول اللفظي : المدلول المتحصّل من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى ) ، وأنّ الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبيّا.

وأمّا الفارق بين القاعدتين ( أي قاعدة احترازية القيود وقرينة الحكمة ) فهو أنّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود يختلف عن الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة.

فالظهور في قاعدة الاحترازيّة هو ( كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا ) ، بينما الظهور في قرينة الحكمة والإطلاق هو ( كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ).

فكلّ منهما يعتمد على ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، غير أنّه يختلف تقريره بينهما سلبا وإيجابا.

فالظهور الذي تعتمد عليه قاعدة الاحترازيّة مرجعه إلى أصالة التطابق بين

ص: 449

الدلالات الثلاث إيجابيّا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي للكلام ( والذي يتكوّن من مجموع الدلالتين التصوّريّة والتصديقيّة الأولى ) يتطابق مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي ، والذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم. وهذا التطابق إيجابيّ ؛ لأنّه يعتمد على ذكر القيد ووجوده لإثبات كونه مرادا جدّا.

بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة مرجعه إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث سلبا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي المتكوّن من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى يتطابق سلبيّا مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي الثاني ؛ لأنّ المدلول اللفظي يثبت أنّه لم يقل القيد ، فينتج أنّه لا يريده ، فكان هناك تطابق بالسلب بينهما.

والقدر المشترك بين الظهورين هو أنّهما يعتمدان على أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، والاختلاف بينهما في كيفيّة التطابق سلبا وإيجابا.

ويلاحظ أنّ ظهور حال المتكلّم في التطابق الإيجابي - أي في أنّ ما يقوله يريده - أقوى من ظهور حاله في التطابق السلبي ؛ أي في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ومن هنا صحّ القول بأنّه متى ما تعارض المدلول اللفظي لكلام مع إطلاق كلام آخر قدّم المدلول اللفظي على الإطلاق وفقا لقواعد الجمع العرفي.

ويترتّب على الفارق المذكور ثمرة عمليّة وهي : أنّ الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود أقوى من الظهور الذي تعتمد عليه مقدّمات الحكمة ، ولذلك يتقدّم الظهور الأوّل على الظهور الثاني عند تعارضهما.

توضيح ذلك : أنّ ظهور قاعدة احترازيّة القيود كان التطابق الإيجابي بين الدلالات والذي كان مرجعها إلى ذكر ما يدلّ على القيد لفظا ، ومن الواضح أنّ ذكر القيد لفظا نصّ صريح في كونه مرادا للمتكلّم جدّا. بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق ومقدّمات الحكمة كان التطابق السلبي بين الدلالات والذي مرجعه إلى عدم ذكر القيد والذي هو ظاهر في كونه غير مراد جدّا للمتكلّم.

وعليه ، فإذا تعارض النصّ مع الظاهر قدّم الأوّل على الثاني وفقا لقواعد الجمع العرفي عند التعارض غير المستقرّ كما سيأتي.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان ظاهره الإطلاق على أساس ذلك الظهور الحالي

ص: 450

السياقي بأنّ كلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فيستنتج أنّه لا يريد التقييد جدّا ، بل يريد الإطلاق.

إلا أنّ هذا هو ظاهر الكلام وليس الكلام نصّا صريحا في الدلالة على الإطلاق ؛ إذ لا يوجد في الكلام لفظ يدلّ على الإطلاق. فإذا قيل بعد ذلك : ( لا تكرم العالم الفاسق ) كان نصّا في عدم وجوب إكرام العالم الفاسق ، وأنّ العدالة دخيلة في موضوع الحكم ، فعند تعارضهما يقدّم النصّ على الظاهر ؛ لأنّه يصلح للقرينيّة في تفسير المراد الجدّي كما سيأتي تفصيله في بحث التعارض.

من هنا كان التقييد والتخصيص والنصّ والأظهر مقدّما على الإطلاق والعامّ والظاهر أو المجمل ، وهذا فارق عملي مهمّ بينهما.

ويتّضح مما ذكرناه أنّ جوهر الإطلاق يتمثّل في مجموع أمرين :

الأوّل : يشكّل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ تمام ما ذكر وقيل موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظي للكلام هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.

والثاني : يشكّل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ ما لم يقله ولم يذكره إثباتا لا يريده ثبوتا ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّي بالكلام.

وتسمّى هاتان المقدّمتان بمقدّمات الحكمة.

والخلاصة : أنّ قرينة الحكمة تتألّف من مجموع أمرين :

الأوّل : وهو الصغرى ومفاده : أنّ ما ذكره المتكلّم وما قاله في كلامه إنّما هو اسم الجنس الذي يدلّ على ذات الماهيّة مجرّدة عن الإطلاق والتقييد ، فكانت ذات الماهيّة هي تمام الموضوع للحكم. ويدلّ على ذلك المدلول اللفظي الذي يتكوّن من مجموع دلالتين هما : الدلالة التصوّريّة الوضعيّة التي تدلّ على المعنى الموضوع له اللفظ ، والدلالة التصديقيّة الأولى التي تدلّ على أنّه قصد استعمال وإخطار هذه الصورة في الذهن ، فينتج منهما أنّ تمام الموضوع الذي أنيط به الحكم هو ذات الماهيّة فقط.

الثاني : وهو الكبرى ومفاده : أنّ ما لا يقوله وما لا يذكره من القيود في كلامه فهو لا يريده جدّا وليس دخيلا في موضوع حكمه. فكلّ القيود منتفية ؛ لأنّه لم

ص: 451

يذكرها. وهذا يعتمد على ظهور حال المتكلّم في التطابق بين مقام الإثبات أي المدلول اللفظي وبين مقام الثبوت أي المراد الجدّي ، ومرجعه إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في كلامه ، فكلّ ما لا يذكره فهو ليس دخيلا في مراده الجدّي وإلا لكان ذكره ، وبما أنّه لم يذكر القيد إثباتا ولفظا فهو لا يريده ثبوتا وجدّا.

وهاتان المقدّمتان تؤلّفان معا قرينة الحكمة.

فإذا تمّت هاتان المقدّمتان تكوّنت للكلام دلالة على الإطلاق وعدم دخل أيّ قيد لم يذكر في الكلام. ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ؛ لأنّ دخله في موضوع الحكم يكون طبيعيّا حينئذ ما دام القيد داخلا في جملة ما قاله ، وتختلّ بذلك المقدّمة الصغرى.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان فتتكوّن للكلام دلالة على الإطلاق ، وأنّه ليس للقيود مدخليّة في موضوع الحكم ما دامت لم تذكر.

وهذا معناه أنّه إذا ذكر القيد في الكلام سوف تختّل الدلالة على الإطلاق ؛ لانتفاء المقدّمة الأولى وهي ( أنّه تمام موضوع الحكم هو ذات الماهيّة ) ؛ لأنّه أبرز في كلامه أنّ تمام الموضوع ليس ذات الماهيّة ، بل الماهيّة مع القيد ، فيكون للقيد المذكور مدخليّة في موضوع الحكم جدّا على أساس ذكره لفظا ، فتنطبق عليه قاعدة الاحترازيّة في القيود ، وهي أنّ ( كلّ ما يقوله من القيود فهو يريده جدّا ). وهذا ممّا لا إشكال فيه كما اتّضح ممّا تقدّم.

وإنّما وقع الشكّ والبحث في حالتين :

الأولى : إذا ذكر القيد في كلام منفصل آخر فهل يؤدّي ذلك إلى عدم دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق رأسا كما هي الحالة في ذكره متّصلا ، أو أنّ دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق تستقرّ بعدم ذكر القيد متّصلا ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل ، وقد يقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي؟

تقدّم أنّه لا إشكال في اختلال مقدّمات الحكمة ، وعدم تماميّة مقدّماتها فيما إذا ذكر القيد متّصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) ، فإنّ الكلام ينعقد رأسا على

ص: 452

الماهيّة المقيّدة لا المطلقة ؛ تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود في أنّ ( كلّ ما يقوله فهو يريده ) ، ولا تجري مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق ونفي القيود ؛ لأنّ المفروض أنّه ذكر القيود في كلامه.

إلا أنّه وقع الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا ورد المقيّد منفصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) ثمّ ورد ( أكرم العالم العادل ). فهل يكون المقيّد المنفصل كالمقيّد المتّصل رافعا لأصل الدلالة على الإطلاق ، بمعنى أنّه لا ينعقد ظهور في الإطلاق أصلا عند مجيء هذا المقيّد فيكون مجيئه كاشفا عن عدم وجود الإطلاق من أوّل الأمر على نحو الشرط المتأخّر ، بأن يكون الإطلاق وانعقاده مشروطا بأن لا يأتي قيد متّصل أو منفصل فيما بعد ، أو على نحو الشرط المقارن بأن يكون الإطلاق في كلّ زمان زمان مشروطا بأن لا يقترن بالمقيّد المتّصل أو المنفصل ، أو لا يكون المقيّد المنفصل رافعا للدلالة على الإطلاق في الكلام السابق؟

بمعنى أنّ الكلام السابق ينعقد له ظهور في الإطلاق ويستقرّ هذا المدلول والظهور إلى أن يأتي المقيّد المنفصل ، فحينئذ يقع التعارض بين هذا الإطلاق وبين التقييد الذي يدلّ على المقيّد المنفصل ، وحينئذ قد يقدّم هذا المقيّد المنفصل على الإطلاق ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور الذي يعتمد عليه التقييد هو أصالة التطابق بين الدلالات إيجابا ، بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة هو التطابق بين الدلالات سلبا ، والأوّل أقوى من الثاني ؛ لأنّه نصّ صريح فيعتبر قرينة لتفسير المراد من الإطلاق ويتقدّم عليه للقرينة النوعيّة العرفيّة.

ذهب المحقّق النائيني إلى الأوّل مشترطا في تماميّة الإطلاق وانعقاد مقدّمات الحكمة ألاّ يكون هناك قيد سواء متّصلا أو منفصلا. فالمقيّد المتّصل والمنفصل عنده يرفعان أصل الظهور من رأس.

بينما ذهب المشهور إلى الثاني حيث اشترطوا عدم المقيّد المتّصل في تماميّة الإطلاق ، وأمّا المنفصل فهو لا مدخليّة له في مقدّمات الحكمة وانعقاد الإطلاق ، بل يكون معارضا له.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو :

ويتحدّد هذا البحث على ضوء معرفة أنّ ذلك الظهور الحالي الذي يشكّل

ص: 453

الكبرى ، هل يقتضي كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه أو بمجموع كلماته؟

إنّ الظهور الحالي السياقي الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة وهو ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) ، والذي يشكّل الكبرى من مقدّمات الحكمة ، ما ذا يراد به؟

هنا احتمالان :

الأوّل : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان موضوع حكمه كاملا بشخص كلامه. فالمتكلّم يكون ظاهر حاله بيان تمام مراده الجدّي بهذا الكلام الذي يذكره ، فما دام لم يذكر في كلامه القيد فهو لا يريده جدّا. وبالتالي لا يضرّ وجود القيد المنفصل فيما بعد في رفع أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق.

الثاني : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان مراده الجدّي لا بشخص هذا الكلام ، وإنّما بمجموع الكلمات الصادرة منه في هذا الموضوع ، فما دام لم ينته من بيان موضوعه فله الحقّ بأن يأتي بما يدلّ على التقييد لاحقا ، كما هو الحال بالنسبة للمدرّس مثلا. وبالتالي يكون ذكر القيد منفصلا عن الكلام الأوّل رافعا لأصل ظهوره في الإطلاق رأسا كما هو الحال بالنسبة للمقيّد المتّصل.

والفارق بين هذين الاحتمالين هو :

فعلى الأوّل يكون صغراه عدم ذكر القيد متّصلا بالكلام ، ويكون ظهور الكلام في الإطلاق منوطا بعدم ذكر القيد في شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجيء التقييد في كلام منفصل.

وعلى الثاني يكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلام منفصل ، فينهدم أصل الظهور بمجيء القيد في كلام آخر.

فعلى الاحتمال الأوّل من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، تكون مقدّمات الحكمة عبارة عن عدم ذكر القيد في خصوص هذا الكلام ، أي عدم ذكر القيد متّصلا في الكلام.

وعندئذ تكون الصغرى لهذا الظهور الحالي ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) عبارة عن أنّه لم يذكر القيد ولم يقله في هذا الكلام متّصلا ، فتتمّ المقدّمات وينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

ص: 454

وحينئذ فإذا جاء المقيّد المنفصل كان معارضا لهذا الظهور المنعقد فعلا على الإطلاق ويجمع بينهما جمعا عرفيّا بتقديم التقييد على الإطلاق ؛ لأنّه قرينة على تفسير المراد.

ولا يكون المقيّد المنفصل هادما ورافعا للظهور من أساسه ، إذ المفروض أنّ مقدّمات الحكمة كانت تامّة ابتداء ، غاية الأمر وجد الآن ما يعارضها ، فتترتّب عليهما أحكام التعارض غير المستقرّ.

بينما على الاحتمال الثاني من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في مجموع كلماته لا بشخص كلامه ، فتكون مقدّمات الحكمة متوقّفة على ألاّ يأتي المقيّد مطلقا ، سواء المتّصل أو المنفصل ؛ لأنّه إذا جاء بالقيد فيما بعد كان مجيؤه هادما ورافعا للظهور المنعقد ظاهرا في الإطلاق ، وكاشفا عن كون المراد الجدّي هو التقييد أيضا من أوّل الأمر ؛ لأنّنا فرضنا أنّ مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا ، فيكون ذكره منفصلا شرطا في عدم تحقّق الإطلاق من أوّل الأمر.

يبقى تحديد ما هو الصحيح من هذين الاحتمالين فنقول :

والمتعيّن بالوجدان العرفي الأوّل ، بل يلزم على الثاني عدم إمكان

التمسّك بالإطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل ؛ لأنّ ظهور الكلام في الإطلاق إذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا فلا يمكن إحرازه مع احتمال ورود القيد في كلام منفصل.

والصحيح هو الأوّل أي أنّ مقدّمات الحكمة متوقّفة على عدم ذكر القيد في شخص كلامه ، فيكون المقيّد المنفصل معارضا للظهور في الإطلاق لا رافعا له من أوّل الأمر. والدليل على ذلك :

أوّلا : الوجدان العرفي القاضي بأنّ المتكلّم يبيّن تمام مراده الجدّي وتمام موضوع حكمه ، وكلّ ما له مدخليّة فيه في شخص كلامه ، فلو كان يريد التقييد لكان اللازم عليه أن يأتي بالمقيّد متّصلا ، وإلا لكان مخلاّ وخارقا للمتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، بأن يكون مراده التقييد ومع ذلك لا يأتي بما يدلّ عليه ، مع كونه قادرا على ذكره ويكون ذلك مستهجنا عندهم غير مألوف.

ص: 455

ومن المعلوم أنّ الشارع سار على طريقة العقلاء في التفاهم والتخاطب ، سواء الأمور التكوينيّة أو التشريعيّة ، ولا يعلم بوجود طريقة أخرى انفرد بها الشارع عن العقلاء ، وإلا لكان بيّنها وذكر حدودها وشروطها ، ولكنّه لم يفعل فهذا دليل على أنّه قد أمضى سيرة العقلاء في هذا المورد. وهذا دليل حلّي.

وثانيا : بالنقض فيما لو قيل بالاحتمال الثاني ؛ لأنّه إذا كانت مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا لزم من ذلك الإجمال والإهمال في موارد احتمال وجود أو صدور المقيّد المنفصل ، لكنّه لم يصل إلينا بعد لظروف وأسباب.

ففي مثل هذه الحالة لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ولا في التقييد ؛ وذلك لأنّه لا يحرز قطعا بوجود المقيّد ليقال بالتقييد ، ولا يحرز عدم القيد ليقال بالإطلاق ؛ لأن احتمال القيد المنفصل يعني أنّه يحتمل التقييد ويحتمل الإطلاق ولا معيّن لأحدهما على الآخر.

ولا يمكن التمسّك بقرينة الحكمة لإثبات الإطلاق هنا ؛ إذ لا يحرز موضوعها إذ من جملة مقدّماتها ألاّ يوجد القيد المنفصل أيضا وهذا غير محرز ، بل هو مشكوك ، فيشكّ إذا في تحقّق موضوع مقدّمات الحكمة ، ومع الشكّ في تحقّق الموضوع لا يمكن التمسّك بالإطلاق والعام ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ والمطلق في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع.

وحينئذ سوف يبتلي الكلام بالإجمال ، وهذا ما يؤدّي إلى التعطيل في الأحكام ، فلا يكون للحكم في هذه الحالة محركيّة ولا باعثيّة ؛ إذ لا يعلم المكلّف لأي شيء يتحرّك ونحو أي فرد يتّجه. وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا فيكون هذا النقض منبّها ودليلا على عدم صحّة هذا الاحتمال.

الثانية : إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب ، فهل يمنع عن دلالة الكلام على الإطلاق أو لا؟ وتوضيح ذلك أنّ المطلق إذا صدر من المولى :

الحالة الثانية التي وقع فيها الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب بين المتكلّم والسامع ، وكان هذا القدر المتيقّن ممّا يصحّ الاعتماد عليه ، فهل يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الكلام في الإطلاق فيما إذا جاء الكلام خاليا من ذكر هذا القدر المتيقّن ، أو لا يكون مانعا من انعقاده؟

ص: 456

مثال ذلك : أن يسأل السائل عن وجوب إكرام الفقير العادل ، ثمّ يأتي الجواب مطلقا بوجوب إكرام الفقير ، من دون أن يذكر في الكلام قيد العدالة ، فهل يوجب ذلك منع انعقاد الجواب في الإطلاق وانصرافه إلى هذا القدر المتيقّن ، أو لا يوجب ذلك؟

لا إشكال في أنّه إذا كان هناك انصراف للكلام لهذا القدر المتيقّن من باب كثرة الاستعمال أو ندرة الأفراد الأخرى كان الكلام منصرفا إليه ولا ينعقد إطلاقه ؛ لأنّ ذلك يوجب وضعا تعيّنا للفظ في هذا القدر المتيقّن فينصرف الكلام إليه.

إلا أنّ مورد بحثنا ليس هذا النحو من القدر المتيقّن ، ولتوضيح ذلك نذكر الحالات التالية :

فتارة تكون حصصه متكافئة في الاحتمال فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك ، أو بالعكس ، أو شموله لهما معا. وهذا معناه عدم وجود قدر متيقّن ، وفي مثل ذلك تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال.

الحالة الأولى : أن تكون حصص المطلق كلّها متكافئة ومتساوية بالنسبة إليه ، بحيث تكون درجة احتمال انطباق المطلق على هذه الحصّة مساويا لدرجة انطباقه على تلك ، ولا ترجيح لانطباقه على إحداهما دون الأخرى. فيمكن أن ينطبق المطلق على هذه الحصّة دون تلك أو العكس ، ويحتمل أيضا شموله لكلّ الحصص ، إلا أنّ انطباقه على إحدى الحصص فقط من دون وجود دليل خاصّ يكون ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح ، وهو قبيح عقلا.

وحينئذ يقال : إنّ مقدّمات الحكمة تكون تامّة في هذا المورد ؛ لأنّه وإن كان الممكن انطباق المطلق على إحدى الحصص لكنّه يحتاج إلى ذكر ما يدلّ على ذلك ، فما لم يذكر ما يدلّ على ذلك فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه أراد الشمول لكلّ الحصص لا بعضها فقط.

وفي هذه الحالة لا يوجد قدر متيقّن في البين ؛ لأنّ نسبة الحصص إلى المطلق نسبة واحدة. ولا إشكال عندهم هنا في تحقّق الإطلاق وتماميّة مقدّمات الحكمة.

وثانية تكون إحدى الحصّتين أولى بالحكم من الحصّة الأخرى ، غير أنّها أولويّة

ص: 457

علمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن من الخارج ، والمعروف في مثل ذلك تماميّة قرينة الحكمة أيضا.

الحالة الثانية : أن يكون لبعض حصص المطلق أولويّة على غيرها ، بمعنى أنّ المطلق لا إشكال في انطباقه عليها وعلى غيرها ، ولكن انطباقه عليها كان بنحو لا يمكن استثناؤها وإخراجها منه فيما لو أريد التقييد وإخراج بعض الأفراد منه ، فتمتاز هذه الحصّة عن غيرها من الحصص بكون المطلق أشدّ وأقوى في انطباقه عليها مع كونها كغيرها من جهة شموليّة المطلق.

وهذه الأولويّة علمت من خارج الكلام ، بمعنى أنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على هذه الأولويّة ، وإنّما علمت الأولويّة من الخارج بأن كان العرف يرى أقوائيّة هذه الحصّة في تمثيلها للمطلق من غيرها ، أو كان العقل يرى أنّه لو أريد التخصيص لكان في غير هذه الحصّة ؛ لكونها أشدّ وأقوى من غيرها.

مثال ذلك : أن يقال : ( أكرم العالم ) ، وكان للعالم الفقيه أولويّة في انطباق المطلق عليه ، بمعنى أنّ الشارع لو أراد أن يستثني أحدا من المطلق لكان غير هذه الحصّة ؛ وذلك لوجود خصائص ومميّزات أخرى خارجيّة يتّصف بها هذا الفقيه تجعله أولى من غيره في انطباق العالم عليه.

وهنا أيضا تتمّ مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لم يذكر في الكلام ما يدلّ على هذه الحصّة دون غيرها ، وليس هناك انصراف لها دون غيرها. ومجرّد أولويّته وأكمليّتها لا يوجب كون المطلق منصرفا إليها دون غيرها. فهذا النحو وإن كان من القدر المتيقّن لكنّه خارج عن اللفظ ؛ لأنّ أولويّته علمت بقرائن خارجيّة كالعرف أو العقل ولم تعلم من اللفظ.

وثالثة يكون نفس الكلام صريحا في تطبيق الحكم على إحدى الحصّتين ، كما إذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا السؤال ، من قبيل أن يسأل شخص من المولى عن ( إكرام الفقير العادل ) فيقول له : ( أكرم الفقير ) ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب.

الحالة الثالثة : أن يكون للمطلق حصص كثيرة ولكن كان انطباقه وشموله لإحدى الحصص قدرا متيقّنا من نفس الكلام ، بمعنى أنّ الكلام يصرّح بأنّ هذه

ص: 458

الحصّة هي القدر المتيقّن من المطلق بحيث لا يمكن إخراجها منه فيما لو أريد التقييد ، وكان مع ذلك المطلق يحتمل أن يكون شاملا لكلّ الحصص الأخرى ، فهنا لو اعتمد المتكلّم على هذا القدر المتيقّن من الكلام لإرادة التقييد لكان كلامه وافيا بذلك أيضا ؛ لصحّة الاعتماد على ما اكتنف كلامه من قيود.

مثال ذلك : سؤال السائل للإمام عن ماء بئر ( بضاعة ) فأجابه الإمام : « خلق اللّه الماء طهورا » ، ومثاله أيضا أن يسأل شخص عن وجوب إكرام الفقير العادل هل يجب أو لا؟ فيجيبه : أنّه يجب إكرام الفقير.

فهنا يمكن أنّ المتكلّم يريد الإطلاق من كلامه ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. ولكن مع ذلك يمكن أن يكون مريدا للتقييد واعتمد على ما ذكره السائل من قيد واكتفى به. فكلا الأمرين محتمل.

وهذا النحو يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهنا وقع البحث بينهم في أنّ هذا القدر المتيقّن هل يكفي لتعيين التقييد أو لا يكفي لذلك ، بل يبقى الكلام على إطلاقه؟ فهنا قولان :

وقد اختار صاحب ( الكفاية ) رحمه اللّه (1) أنّ هذا يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصّا بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال ؛ لأنّ كلامه واف ببيان القدر المتيقّن ، فلا يلزم حينئذ أن يكون قد أراد ما لم يقله.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق وذلك لاختلال مقدّمات الحكمة أو على الأقلّ لا يحرز تحقّق هذه المقدّمات.

وتوضيح ذلك : أنّ مقدّمات الحكمة إن كانت تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، فهنا يكون هذا القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ مراده الذي يريد إفهامه للسامع مختصّ بالقدر المتيقّن لوضوحه لدى السامع ؛ ولأنّه يصحّ للمتكلّم أن يعتمد على هذا القدر الموجود عند المخاطب ولا يذكره في كلامه ما دام يريد تفهيمه بالخصوص ؛ لأنّ المخاطب قد ارتكز

ص: 459


1- كفاية الأصول : 287.

في ذهنه الفقير العادل فيكون كلام المتكلّم وإن كان مطلقا بظاهره لكنّه يصحّ إرادة التقييد ؛ لأنّ هذا القدر المتيقّن يمكن الاعتماد عليه لأجل إفهام المخاطب ، ولا يكون بذلك مخلاّ بقواعد اللغة والمحاورات العرفيّة ؛ لأنّ هذا القدر بيّن وجلي لدى السامع فيكون المتكلّم مبيّنا لتمام المراد للمخاطب.

وأمّا إن كانت مقدّمات الحكمة تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده في كلامه بقطع النظر عن المخاطب ، بمعنى أنّ المتكلّم أراد أن يبيّن ما هو موضوع الحكم بتمامه بهذا الكلام الذي يذكره ، فهنا لا يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الإطلاق ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة تامّة ؛ وذلك لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. وهذا معناه تحقّق الصغرى لكبرى ؛ لأنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده فينتج أنّه لا يريد التقييد وإلا لكان ذكره ، فعدم ذكره يدلّ على عدم إرادته وأنّ الموضوع ليس مقيّدا.

فإذا استظهر الأوّل كان القدر المتيقّن مانعا من الإطلاق ، وإن لم يستظهر فيكون هناك تردّد وشكّ في أنّ المتكلّم هل هو في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، أو أنّه في مقام بيان تمام مراده في شخص كلامه؟

وحينئذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة أيضا ؛ إذ لا يحرز أنّ المتكلّم كان تمام موضوعه ما ذكره هو ، بل يمكن أن يكون تمام موضوعه ما ذكره هو والسائل أيضا. وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يتعيّن الإطلاق دون التقييد ؛ لأنّه لو أراد التقييد لكان هذا القدر المتيقّن كافيا للاعتماد عليه ، فيتمّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يقوله يريده ؛ لأنّ هذا القيد قد ذكر في الكلام واتّضح لدى المخاطب فالاعتماد عليه صحيح.

وما دام هناك شكّ وتردّد فلا يثبت الإطلاق ، وأمّا التقييد وكون وجوب الإكرام للفقير العادل فهو ممّا لا إشكال فيه ، سواء كان مريدا للتقيد أو للإطلاق فيؤخذ به. وأمّا الفقير غير العادل فهو مشكوك كونه موضوعا للحكم فلا يمكن الأخذ به ، والنتيجة هي نتيجة التقييد أيضا.

والجواب على ذلك : أنّ ظاهر حال المتكلّم كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة أنّه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدّي بالكلام ، فإذا كانت العدالة

ص: 460

جزءا من الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بيّنا ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد العدالة.

والجواب على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : أنّنا نستظهر الاحتمال الثاني ؛ لأنّ الظهور الذي يعتمد عليه في قرينة الحكمة هو أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، ولا علاقة للمخاطب في ذلك. فكلّ ما يكون دخيلا في موضوع الحكم على مستوى الجعل والثبوت والمراد الجدّي لا بدّ أن يأتي المتكلّم بما يدلّ عليه في مرحلة الإثبات والدلالة اللفظيّة.

وحينئذ فإذا لم يكن وصف العدالة دخيلا في مراده الجدّي كان كلامه وافيا بذلك ، وتتمّ مقدّمات الحكمة في أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ، وحيث إنّه لم يقل العدالة في كلامه فهو لا يريدها جدّا.

وأمّا إذا كان يريد العدالة ومع ذلك لم يذكر في كلامه ما يدلّ عليها لكان مخلاّ بما هو المتفاهم عرفا في المحاورات ؛ لأنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على قيد العدالة ومع ذلك كان دخيلا في مراده الجدّي ، فهو مخلّ في بيان تمام موضوع حكمه ، وهذا قبيح بنظر العرف والعقلاء ؛ لأنّ موضوعه ليس بيّنا بتمامه في كلامه.

ومجرّد أنّ الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني أخذ قيد العدالة في الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضي إذن عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه الحالة.

وأمّا ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ القدر المتيقّن لا إشكال في انطباق الموضوع عليه فهو صحيح ، بمعنى أنّ المتكلّم لو أراد أن يخرج بعض الأفراد فلا يخرج هذا القدر المتيقّن. إلا أنّ هذا ليس مرتبطا ببيان موضوع حكمه الجدّي ؛ لأنّ بيان الموضوع جدّا يرتبط بعالم الثبوت والواقع ، وأنّ الموضوع واقعا وثبوتا هل هو المطلق أو المقيّد؟

فإذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المطلق لكان وافيا ببيان تمام موضوع حكمه ؛ إذ لم يذكر القيد في كلامه فتتمّ قرينة الحكمة لنفي هذا القيد وكلّ قيد آخر محتمل ؛ لأنّه لم يقله وكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده.

وأمّا إذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المقيّد لكان مخلاّ بالبيان ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه قيد العدالة ومع ذلك كان هو تمام موضوع حكمه ثبوتا ، وهذا مخالف للظهور

ص: 461

الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يكون دخيلا في موضوع حكمه من القيود فهو يذكره ويقوله ، والحال أنّه لم يذكر ما يدلّ عليه في كلامه (1).

وبذلك يتّضح أنّ قرينة الحكمة - أي ظهور الكلام في الإطلاق - لا تتوقّف على عدم المقيّد المنفصل ، ولا على عدم القدر المتيقّن ، بل على عدم ذكر القيد متّصلا.

وبهذا ظهر أنّ قرينة الحكمة تعتمد فقط على عدم ذكر القيد متّصلا ، خلافا لما ذكره الميرزا من اشتراط عدم ذكر القيد منفصلا أيضا ، وخلافا لما ذكره صاحب ( الكفاية ) من توقّفها على عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ لأنّ الظهور الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة لإفادة الإطلاق هو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّي لموضوع حكمه في شخص كلامه فقط.

هذا هو البحث في أصل الإطلاق وقرينة الحكمة.

ص: 462


1- نعم هذا القدر المتيقّن يعتبر المصداق الأوّل والأهمّ بحيث لا يمكن استثناؤه فيما بعد ، وهذه هي فائدة القدر المتيقّن ؛ بل لو كان القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق لكان القدر المتيقّن من الخارج مانعا عنه أيضا ؛ إذ لا فرق بينهما حينئذ من جهة صحّة اعتماد المتكلّم عليهما لو كان مراده الجدّي بيان موضوع الحكم للمخاطب. وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي.

تنبيهات

ص: 463

ص: 464

تنبيهات

وتكميلا لنظريّة الإطلاق لا بدّ من الإشارة إلى عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ أساس الدلالة على الإطلاق - كما عرفت - هو الظهور الحالي السياقي ، وهذا الظهور دلالته تصديقيّة. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق ناظرة إلى المدلول التصديقي للكلام ابتداء ، ولا تدخل في تكوين المدلول التصوّري.

ولأجل استيعاب البحث حول نظريّة الإطلاق وقرينة الحكمة نذكر عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في أنّ الإطلاق مرتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية أي المراد الجدّي ، ولا يرتبط بالمدلول التصوّري.

وتوضيح ذلك : أنّ الإطلاق مرجعه كما تقدّم إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ ( ما لا يقوله لا يريده ). وهذا الظهور مرتبط بمراد المتكلّم الواقعي في مرحلة الثبوت ، فإنّ مراده لا يخلو إمّا أن يكون منصبّا على الصورة الذهنيّة المطلقة ، أو على الصورة الذهنيّة المقيّدة. ومعرفة هذا المراد الجدّي والاستدلال عليه مرتبط بالمتكلّم وإرادته ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده فإذا لم يذكر القيد ولم يقله فهو لا يريده ، فالإطلاق يعتمد إذا على تحديد المراد الجدّي.

ومن المعلوم كما تقدّم أنّ المراد الجدّي يتمّ تحديده على أساس الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهذه الدلالة خارجة عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ المدلول اللفظي للكلام يتمّ تحديده من خلال الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المدلول التصوّري للعالم هو ذات المفهوم والماهيّة ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ اسم الجنس موضوع لذات الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن التقييد والإطلاق ، ثمّ على أساس التطابق بين الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة

ص: 465

الأولى يثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي ذات الماهيّة ، وأنّه قصد إخطار هذه الصورة في ذهن السامع. وعلى أساس هاتين الدلالتين يتمّ تحديد المدلول اللفظي الوضعي ، فيثبت أنّ هذا اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي الموضوع له وهو ذات الماهيّة بما هي هي.

وأمّا الدلالة التصديقيّة الثانية وتحديد المراد الجدّي للمتكلّم وأنّه قصد وأراد جدّا هذه الصورة التي أفادها في ذهن المتكلّم واستعمل اللفظ فيها ، فهذا يتمّ تحديده خارجا عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ اللفظ بنفسه لا يدلّ على أنّه أراد ذلك جدّا ، إذ قد يكون هازلا أو في حالة التقيّة والخوف مثلا.

وعليه فلا بدّ من إثبات المراد الجديّ من الرجوع إلى ظهور حال المتكلّم ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه ليثبت أنّه يريد جدّا هذه الصورة ، وهذا مرجعه إلى المتكلّم لا إلى الألفاظ.

وبذلك ظهر أنّ الإطلاق دلالته تصديقيّة دائما وليست تصوّريّة ، بمعنى أنّ الإطلاق ليس دخيلا في الصورة الذهنيّة الموضوع لها اللفظ أو المستعمل فيها ؛ لأنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة ذاتها وبحكم التطابق يثبت أنّه مستعمل في هذا المعنى أيضا ، ولا يتدخّل الإطلاق في المدلول اللفظي التصوّري الوضعي للكلام أصلا.

خلافا لما إذا قيل بأنّ الدلالة على الإطلاق وضعيّة ؛ لأخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، فإنّها تدخل حينئذ في تكوين المدلول التصوّري.

وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور من القدماء : من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المطلقة ، فهنا يكون الإطلاق جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اللفظ ، فيدخل في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ اسم الجنس كما يدلّ على الماهيّة وضعا وتصوّرا كذلك يدلّ على الإطلاق ، فيكون الإطلاق دخيلا في المدلول التصوّري الوضعي للّفظ ، ولا يحتاج في إثباته والاستدلال عليه إلى ظهور حالي سياقي ؛ إذ يثبت ابتداء ومن أوّل الأمر أنّ الإطلاق هو المراد الجدّي للمتكلّم ما لم ينصب قرينة على خلافه. فبناء على هذا القول لا نحتاج إلى دليل على الإطلاق ، وإنّما نحتاج إلى دليل على التقييد فقط.

ص: 466

وكذلك يكون الإطلاق مرتبطا بعالم الألفاظ والمدلول التصوّري الوضعي ، وليس مرتبطا بالمدلول التصديقي الثاني والمراد الجدّي فقط. وهذا فارق جوهري وأساسي بين القولين المتقدّمين في حقيقة اسم الجنس والمعنى الموضوع له.

التنبيه الثاني : أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا يستدعي تعدّد الحكم بتعدّد ما لطرفه من أفراد ، وأخرى بدليّا يستدعي وحدة الحكم. فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان وجود الإكرام متعدّدا بتعدّد أفراد العالم ، ولكنّه لا يتعدّد في كلّ عالم بتعدّد أفراد الإكرام.

التنبيه الثاني : في الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي ولا إشكال في أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا وأخرى يكون بدليّا.

والمراد من الشموليّة هنا أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم تعدّد الحكم وتكثّره بلحاظ تعدّد وكثرة ما لطرفه من أفراد ، فيسري الحكم من الماهيّة إلى أفرادها جميعا ، كما في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، فإنّ الحكم المنصبّ على ماهيّة البيع يسري ويتعدّد ويتكثّر بلحاظ تعدّد وتكثّر أفراد البيع في الخارج ، فيكون كلّ بيع حلالا أي كلّ فرد فرد من أفراد البيع متّصفا بالحلّيّة.

ومثاله أيضا ( لا تكذب ) فإنّ الحرمة متعلّقة بالكذب ، لكنّه ينحلّ ويسري إلى الأفراد جميعا فكلّ فرد فرد من أفراد الكذب حرام ، وهكذا.

والمراد من البدليّة أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم وحدة الحكم فلا يتعدّد ولا يتكثّر ، بل يبقى ثابتا للماهيّة فقط ولا يسري منها إلى أفرادها وإن كانت كثيرة جدّا ، بحيث لا يقتضي أكثر من إيجاد هذه الطبيعة فقط ولو في فرد واحد من أفرادها ، ولا يوجب إيجاد كلّ الأفراد ، ومثاله ( أعتق رقبة ) فإنّ وجوب العتق منصبّ على ماهيّة الرقبة ، وهنا لا يجب إلا عتق رقبة واحدة فقط ، أي إيجاد فرد واحد لا كلّ فرد من أفراد الرقبة يتّصف بالوجوب. فالحكم ثابت للماهيّة فقط والتي تتحقّق بفرد واحد ، ولا يسري إلى أفرادها ، وكذلك ( صلّ ) فإنّه وجوب واحد متعلّق بماهيّة الصلاة ولا يسري إلى كلّ أفرادها أيضا ، وهكذا.

وقد يكون في دليل واحد إطلاق شمولي من جهة وإطلاق بدلي من جهة أخرى ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فمن جهة ( أكرم ) يكون الإطلاق بدليّا بمعنى أنّه يجب

ص: 467

إيجاد ماهيّة الإكرام ولو بفرد واحد من أفرادها ولا يجب إيجاد كلّ أفراد الإكرام ، فالحكم ثابت للماهيّة ولا يسري منها إلى أفرادها ، فهو إطلاق بدلي.

وأمّا من جهة ( العالم ) فهو إطلاق شمولي ؛ لأنّ وجوب الإكرام منصبّ على ماهيّة العالم ، وهذا الوجوب يتعدّد ويتكثّر بما للعالم من أفراد ومصاديق في الخارج ، وهذا يعني أنّ الحكم سرى من الماهيّة إلى أفرادها.

فتكون النتيجة أنّه يجب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد العالم ولكن لا يجب إلا إكرام واحد فقط لا أكثر.

ومن هنا قد يثار إشكال مفاده :

وقد يقال : إنّ قرينة الحكمة تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي.

ويعترض على ذلك بأنّ قرينة الحكمة واحدة فكيف تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي؟!

الإشكال الوارد هنا هو : أنّ قرينة الحكمة تارة تنتج الشموليّة وأخرى تنتج البدليّة ، والحال أنّ قرينة الحكمة واحدة ومرجعها واحد وهو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم بمراده الجدّي ، فكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ، وهذا يثبت الإطلاق ، فكيف نتج بعد ذلك الشموليّة والبدليّة من هذا الأمر الواحد؟

وبتعبير آخر : أنّه ما دام الدالّ على الإطلاق شيئا واحدا فكيف كان هنا شموليّا وهناك بدليّا؟ إذ المفروض أنّ تكون النتيجة واحدة ؛ لأنّ السبب والمرجع واحد أيضا.

فكيف صدر عن الشيء الواحد أمران مختلفان؟!

وقد أجيب على هذا الاعتراض بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (1) من أنّ قرينة الحكمة لا تثبت إلا الإطلاق بمعنى عدم القيد ، وأمّا البدليّة والاستغراقيّة فيثبت كلّ منهما بقرينة إضافيّة.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه أهمّها ثلاثة :

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ قرينة الحكمة لا تنتج إلا شيئا واحدا فقط وهو عدم القيد ؛ لأنّ الإطلاق الذي ينتج من قرينة الحكمة هو عدم لحاظ القيد

ص: 468


1- محاضرات في أصول الفقه 4 : 106 - 110.

في الموضوع ، أو رفض القيد كما هي مقالته رحمه اللّه وهذا الأمر كما هو موجود بلحاظ الإطلاق الشمولي موجود بلحاظ الإطلاق البدلي ، فلا يلزم صدور شيئين عن مسبّب واحد.

وأمّا الشموليّة والبدليّة فهما وصفان خارجان عن قرينة الحكمة ، ويحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ غير قرينة الحكمة. فقرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، وأمّا كونه شموليّا أو بدليّا فهو يحتاج إلى قرينة أخرى وعناية إضافيّة غير قرينة الحكمة. وتوضيح ذلك :

فالبدليّة في الإطلاق في متعلّق الأمر مثلا تثبت بقرينة إضافيّة ، وهي : أنّ الشموليّة غير معقولة ؛ لأنّ إيجاد جميع أفراد الطبيعة غير مقدور للمكلّف عادة.

والشموليّة في الإطلاق في متعلّق النهي مثلا تثبت بقرينة إضافيّة وهي : أنّ البدليّة غير معقولة ؛ لأنّ ترك أحد أفراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجة إلى النهي.

أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، بمعنى أنّ الموضوع هو الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود. فالبدليّة تحتاج إلى عناية زائدة وهي : أنّه إذا قيل : ( أكرم العالم ) أو ( صلّ ) فهنا متعلّق الأمر وهو الإكرام أو الصلاة يثبت كون الإطلاق فيهما بدليّا بقرينة عقليّة أو عقلائيّة عرفيّة ، وهي أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان بكلّ أفراد الصلاة أو كلّ أنواع الإكرام ، فإيجاد كلّ أفراد طبيعة الإكرام والصلاة غير مقدور للمكلّف إمّا عقلا أو عادة وعرفا ، فعلى أساس عدم القدرة في إيجاد كلّ أفراد الطبيعة تتعيّن البدليّة ؛ لأنّ الشموليّة فيها محذور عدم القدرة ، والشارع لا يكلّف بغير المقدور عقلا أو عرفا.

وأمّا الشموليّة فتثبت بعناية أخرى وهي : إذا قيل : ( لا تكذب ) فهنا متعلّق النهي وهو طبيعي الكذب الذي له أفراد عديدة في الخارج ، لا يمكن أن يكون المراد منه البدليّة بمعنى عدم الكذب ولو مرّة واحدة ؛ لأنّ عدم الكذب ولو مرّة واحدة حاصل وثابت ؛ إذا لا يمكن لشخص أن يكذّب بكلّ أنواع الكذب وأفراده ؛ لأنّ ذلك غير مقدور له عقلا أو عادة ، فيكون إرادة البدليّة مستحيلا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

والأمر بشيء حاصل ومفروغ عنه لغو ، فعلى أساس محذور اللغويّة يثبت أنّ المتعلّق هنا مطلق بنحو الإطلاق الشمولي ، فيكون مكلّفا بالامتناع عن إيجاد كلّ أفراد الكذب وليس عن بعض الأفراد فقط ؛ لأنّه حاصل ومتحقّق فالتكليف به لغو.

ص: 469

وبهذا ظهر أنّ عناية البدليّة هي عدم القدرة على إيجاد كلّ أفراد الطبيعة ، بينما عناية الشموليّة هي لغويّة ترك بعض أفراد الطبيعة فقط ، وكلا هاتين العنايتين يحكم بهما العقل أو العرف.

وهما خارجان عن مدلول قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الإطلاق فقط بمعنى عدم مدخليّة القيد في الموضوع.

ولا يصلح هذا الجواب لحلّ المشكلة ؛ إذ توجد حالات يمكن فيها الإطلاق الشمولي والبدلي معا ، ومع هذا يعيّن الشمولي بقرينة الحكمة ، كما في كلمة ( عالم ) في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فلا بدّ إذا من أساس لتعيين الشموليّة أو البدليّة غير مجرّد كون بديله مستحيلا.

إلا أنّ هذا الجواب لا يصلح حلاّ للمشكلة ؛ لأنّه وإن كان تامّا في بعض الحالات إلا أنّه ليس تامّا في بعضها الآخر ، فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان الإطلاق شموليّا ، وأمّا إذا قيل : ( أكرم عالما ) كان الإطلاق بدليّا ، فكلمة ( العالم ) يمكن فيها البدليّة والشموليّة معا وتعيين أحدهما يحتاج إلى سبب آخر غير ما ذكره السيّد الخوئي ؛ لأنّه ذكر أنّ محذور اللغويّة يعيّن الشموليّة بينما استحالة التكليف بغير المقدور يعيّن البدليّة.

ففي هذا المورد كلمة ( العالم ) يمكن أن تكون شموليّة ؛ لإمكان إكرام كلّ أفراد العالم ، ويمكن أن تكون بدليّة بإكرام بعض الأفراد ، ولكن مع ذلك تتعيّن الشموليّة دون البدليّة بقرينة الحكمة ، مع أنّه لا محذور في إرادة البدليّة أيضا.

فلو كان الملاك للشموليّة هو محذور اللغويّة في البدليّة لم تتمّ الشموليّة ؛ إذ لا محذور هنا بإكرام بعض الأفراد. ولو كان الملاك للبدليّة استحالة الشموليّة لم تتمّ البدليّة هنا ؛ لأنّ الشموليّة غير مستحيلة ؛ إذ يمكن للمكلّف إكرام كلّ أفراد العالم ، مع أنّ السيّد الخوئي يلتزم بالشموليّة هنا رغم أنّه لا محذور في البدليّة ، وهذا مخالف لما ذكره من الملاك (1).

ص: 470


1- ويلزم ممّا ذكر أيضا : أن تكون الأحكام الشرعيّة كلّها بدليّة ؛ وذلك لأنّ التكليف بغير المقدور إن كان هو ملاك البدليّة فحيث إنّ الأحكام التكليفيّة كلّها مقيّدة بالقدرة ؛ لأنّه لا يمكن للمكلّف أن يأتي بكلّ الأفراد فتكون كلّها بدليّة ... ويلزم أيضا أن يكون مثل ( أكرم العالم ) بدليّا ؛ إذ يستحيل إكرام كلّ أفراد العالم ، كما أنّه يستحيل إيجاد كلّ إفراد الإكرام ، فالاستحالة موجودة فيهما معا ، فلما ذا كان هذا بدليّا وذاك شموليّا مع وحدة الملاك فيهما؟ وبهذا ظهر أنّه لا بدّ من وجود ملاك آخر وأساس ثابت يبتني عليه البدليّة والشموليّة غير ما ذكره السيّد الخوئي.

الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) من أنّ الأصل في قرينة الحكمة انتاج الإطلاق البدلي ، والشموليّة عناية إضافيّة بحاجة إلى قرينة ؛ وذلك لأنّ هذه القرينة تثبت أنّ موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدّد.

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ قرينة الحكمة تنتج الإطلاق البدلي فقط ، وأمّا الإطلاق الشمولي فيحتاج إلى عناية زائدة.

وتوضيح ذلك : أنّ قرينة الحكمة تثبت أنّ موضوع الحكم

هو الطبيعة والماهيّة فقط مجرّدة عن القيود ، وذات الماهيّة كما تنطبق على كلّ الأفراد تنطبق على بعضها ، فهي توجد بفرد من أفرادها وتوجد بأكثر من ذلك. فالثابت دائما هو البعض ؛ لأنّه القدر المتيقّن ، بينما الجميع على نحو الشموليّة ، فهذا يحتاج إلى عناية زائدة إضافيّة غير قرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : أنّ البدليّة بمعنى وحدة الحكم وعدم تعدّده ثابت بمجرّد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه يثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة ، فالحكم واحد والموضوع واحد. وأمّا الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم بتعدّد الأفراد فهذا أمر زائد يحتاج إلى قرينة وعناية تثبت أنّ الحكم موضوعه كلّ الأفراد لا ذات الماهيّة فقط ؛ لأنّ ذات الماهيّة ينطبق على القليل والكثير ، والقليل هو المتيقّن ؛ لأنّ الطبيعة توجد بفرد من أفرادها ، وأمّا الكثير فهو يحتاج إلى دليل آخر.

فلو قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق كفى في الامتثال إكرام الواحد ؛ لانطباق الطبيعة عليه. وهذا معنى كون الإطلاق من حيث الأساس

ص: 471


1- كلماته في هذه المسألة مشوّشة للغاية ، ولعلّ أقرب ما ورد فيها إلى ما نسب إليه في المتن ما جاء في مقالات الأصول 1 : 501 ، ولكنّه لم يتبنّاه بل ردّه ببيان له ، وتمسّك بفكرة أخرى في هذه المسألة ، فراجع.

بدليّا دائما ، وأمّا الشموليّة فتحتاج إلى ملاحظة الطبيعة سارية في جميع أفرادها ، وهي مئونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) جرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق ، بمعنى أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة من دون قيد ، وإذا ثبت كون الطبيعة بذاتها هي موضوع الحكم فهذا معناه أنّه يجب الإكرام لذات العالم ، ومن المعلوم أنّ ذات العالم تتحقّق وتوجد بفرد من أفرادها فيتحقّق الامتثال بإكرام واحد من العالم. وهذا معنى ما يقال : إنّ الأصل في الإطلاق كونه بدليّا ، أي يكفي فرد واحد في تحقيق الامتثال.

وأمّا الشموليّة وكون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد فهذا شيء زائد على وجوب إكرام الماهيّة ؛ لأنّه يعني إسراء الوجوب إلى الأفراد ، فلا بدّ إذا من إثبات أنّ هذا الحكم موضوعه الأفراد أيضا وهذا لا يكفي فيه قرينة الحكمة ؛ لأنّها لا تثبت أنّ الأفراد هي موضوع الحكم فلا بدّ من عناية إضافيّة زائدة لإثبات الشموليّة.

وبتعبير آخر : أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق بمعنى عدم القيود ، أي أنّ الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود هي الموضوع ، والبدليّة هنا تعني أنّه يكفي إيجاد فرد واحد من أفراد الماهيّة ؛ لأنّ الماهيّة يكفي في تحقّقها فرد واحد من أفرادها.

وأمّا الشموليّة فهي تعني أنّ الحكم موضوعه ليس خصوص الماهيّة بذاتها ، بل الماهيّة بكل أفرادها أي الماهيّة مع كلّ القيود المتصوّرة فيها ، وهذا لا يثبت بالإطلاق ؛ لأنّه ينفي القيود لا أنّه يجمع القيود ، فتحتاج إلى عناية زائدة لإثبات أنّ الحكم على كلّ الأفراد (1).

الثالث : أن يقال - خلافا لذلك - : إنّ الماهيّة عند ما تلحظ بدون قيد وينصبّ عليها حكم إنّما ينصبّ عليها ذلك بما هي مرآة للخارج ، فيسري الحكم نتيجة

ص: 472


1- وفيه : أنّه وقع خلط بين الإطلاق والعموم فالإطلاق الشمولي لا ينظر فيه إلى الأفراد بخلاف العموم. فإنّ الأفراد مدلول تصوّري لألفاظ العموم والمقصود من الإطلاق الشمولي : أنّ الحكم منصبّ على الماهيّة وهي متعلّق الحكم ، ولكن هذا الحكم ينحلّ إلى أحكام عديدة تبعا لكثرة أفراد الماهيّة في الخارج ، إلا أنّ هذه الأفراد ليست هي موضوع الحكم وإنّما هي مصداق موضوعه فقط.

لذلك إلى كلّ فرد خارجي تنطبق عليه تلك المرآة الذهنيّة ، وهذا معنى تعدّد الحكم وشموليّته.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تنتج الإطلاق الشمولي ، وأمّا الإطلاق البدلي فيحتاج إلى عناية إضافيّة زائدة.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة ثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الماهيّة وطبيعة العالم بما هي هي ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة والماهيّة إنّما تؤخذ في الذهن وفي موضوع الحكم تصوّرا لا بقيد الوجود الذهني أو اللحاظ الذهني ، وإنّما تؤخذ كذلك بما هي مرآة وحاكية وكاشفة عن الخارج ، وحينئذ فيكون كلّ فرد في الخارج صالحا لأن تنطبق عليه هذه الصورة بحيث تكون المرآتيّة بين الماهيّة والفرد في الخارج ثابتة لكلّ الأفراد ؛ إذ لا أولويّة ولا مرجّح لأحدها على الآخر. وهذا معناه أنّ الحكم يسري من الطبيعة والماهيّة التي انصبّ عليها الحكم من دون قيد إلى الأفراد في الخارج ، وهذا هو معنى الشموليّة ؛ إذ لا يراد من الشموليّة أكثر من كون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد ، وهنا ثبت أنّ كلّ فرد من أفراد الماهيّة صالح للمرآتية ولانطباق الماهيّة عليه فيسري حكمها إليه ، والنتيجة هي سريان الحكم إلى كلّ الأفراد.

وأمّا البدليّة كما في متعلّق الأمر فهي التي تحتاج الى عناية ، وهي تقييد الماهيّة بالوجود الأوّل ، فقول : ( صلّ ) يرجع إلى الأمر بالوجود الأوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني ، وعلى هذا فالأصل في الإطلاق الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة.

وأمّا البدليّة فهي تحتاج إلى عناية إضافيّة غير قرينة الحكمة ، فإذا قيل : ( صلّ ) كان متعلّق الأمر وهو الصلاة مطلقا بدليّا ، بمعنى كفاية فرد واحد من أفراد الصلاة يحتاج إلى عناية وقرينة ؛ لأنّ الأصل هو الشمول لكلّ الأفراد والبدليّة معناها الاكتفاء بفرد واحد وهو الفرد الأوّل ، وهذا تقييد زائد لا بدّ فيه من العناية كأن يقال مثلا : إنّ إيجاد كلّ أفراد الصلاة متعذّر أو متعسّر ، أو يقال : إنّ المطلوب هو إيجاد الطبيعة وهي توجد بفرد من أفرادها.

وعلى كلّ حال فالبدليّة تحتاج إلى العناية ؛ لأنّها تعني الاكتفاء بالفرد الأوّل دون

ص: 473

حاجة إلى غيره. وقد عرفت أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تفيد الإطلاق الشمولي ، أي السريان لكلّ الأفراد لا بعضها.

وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في بحث أعلى إن شاء اللّه تعالى.

وحاصله تارة يبحث بلحاظ الحكم ، وأخرى يبحث بلحاظ الامتثال.

أمّا بلحاظ الحكم فبمعنى هل أنّ الحكم واحد أم هو متعدّد؟ فالبدليّة تعني وحدة الحكم والشموليّة تعني تعدّده.

فهنا يقال : الصحيح هو التفصيل بين موضوع الحكم وبين متعلّقة ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المتعلّق هو الإكرام والموضوع هو العالم.

فمن حيث المتعلّق فالأصل هو البدليّة ما لم تقم قرينة على الشموليّة ؛ لأنّ الحكم منصبّ على الطبيعة بمعنى حكم واحد لإيجاد الطبيعة أو لإعدامها.

ومن حيث الموضوع فالأصل هو الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة ؛ لأنّ كلّ فرد صالح لانطباق الموضوع عليه ، فالأفراد متساوية هنا ، والسرّ في ذلك أنّ الموضوع يستبطن قضيّة شرطيّة بخلاف المتعلّق ، ( فأكرم العالم ) من جهة الموضوع معناها بالتحليل ( إن وجد عالم فأكرمه ) ، وهو قضيّة حقيقيّة موضوعها مقدّر الوجود ، فمتى وجد العالم يثبت له الوجوب وهو معنى الشموليّة.

وأمّا من جهة المتعلّق فهو لا ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة ؛ لأنّ الإكرام لا يفرض مقدّر الوجود بل يطلب وجوده وتحقيقه.

وأمّا بلحاظ الامتثال فالشموليّة والبدليّة بمعنى أنّه هل يكتفى بامتثال واحد أو لا بدّ من تعدّد الامتثال؟

فهنا تكون البدليّة والشموليّة خارجان عن قرينة الحكمة ، وإنّما العقل هو الذي يحكم بتحقّق الامتثال بفرد أو بالأفراد ، ففي موارد الأمر يحكم العقل بامتثال الطبيعة وإيجادها ضمن فرد واحد فيتحقّق الامتثال به ، وأمّا في موارد النهي فيحكم العقل بأنّ الطبيعة لا تنعدم الا بكلّ أفرادها فالامتثال لا يتحقّق إلا بكلّ الأفراد.

التنبيه الثالث : إذا لاحظنا متعلّق النهي في ( لا تكذب ) ومتعلّق الأمر في ( صلّ ) نجد أنّ الحكم في الخطاب الأوّل يشتمل على تحريمات متعدّدة بعدد أفراد

ص: 474

الكذب ، وكلّ كذب حرام بحرمة تخصّه ، ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحقّ عقابين.

التنبيه الثالث : في وحدة العقاب وتعدّده.

وهذا البحث من نتائج الشموليّة والبدليّة في الحكم. حيث قلنا : إنّ البدليّة تقتضي وحدة الحكم ، وهذا يعني أنّه يوجد تكليف واحد له امتثال واحد وعصيان واحد. وأمّا الشموليّة فهي تقتضي تعدّد الحكم وهذا معناه وجود تكاليف عديدة لكلّ منها عصيان وامتثال ، فإذا تركها جميعا تعدّد العقاب.

ففي متعلّق النهي مثلا ( لا تكذب ) قلنا : إنّ الإطلاق هنا شمولي بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ النهي يقتضي إعدام الطبيعة وعدم إيجادها في الخارج ، ومن الواضح أنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها ؛ إذ لو بقي فرد من أفرادها موجودا في الخارج لم تعدم الطبيعة ؛ لأنّها موجودة ضمنه.

وهذا معناه أنّ الحكم بحرمة الكذب ينحلّ إلى تحريمات عديدة بعدد الأفراد ، فلكلّ فرد من أفراد الكذب حرمة خاصّة به ، والمطلوب من المكلّف الامتناع عن كلّ هذه الأفراد ، فإذا عصى كان لكلّ فرد من الكذب عصيان خاصّ به يعاقب عليه مستقلاّ عن الفرد الآخر من الكذب ؛ لأنّه تكليف آخر له امتثال وعصيان مستقلاّن عن الأوّل.

فكلّما تعدّد الكذب من المكلّف كان عاصيا بعددها وكان معاقبا كذلك.

وأمّا الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل إلا على وجوب واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحقّ بسببه عقابا واحدا. وهذا من نتائج الشموليّة في إطلاق متعلّق النهي التي تقتضي تعدّد الحكم ، والبدليّة في إطلاق متعلّق الأمر الذي يقتضي وحدة الحكم.

وأمّا في متعلّق الأمر من قبيل ( صلّ ) فقد تقدّم أنّ الإطلاق هنا بدلي بلحاظ عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ الأمر يقتضي إيجاد الطبيعة في الخارج وهي توجد بالفرد الأوّل من أفرادها ، فيكون ما سواه غير متعلّق للأمر وليس مأمورا به. وهذا معناه أنّ الحكم واحد غير متعدّد ، فإذا امتثله كان مستحقّا للثواب ، وإذا عصى ولم يمتثل للمأمور به كان مخالفا لحكم واحد ، وبالتالي لا يستحقّ إلا عقابا واحدا فقط.

ص: 475

وهذا الفرق بين متعلّق النهي ومتعلّق الأمر في وحدة العقاب وتعدّده فرع الشموليّة والبدليّة في متعلّقيهما ، حيث إنّ الإطلاق في متعلّق النهي شمولي وهو يقتضي تعدد الحكم ، وبالتالي تعدّد العقاب والعصيان. بينما الإطلاق في متعلّق الأمر بدلي وهو يقتضي وحدة الحكم ووحدة العقاب والعصيان.

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالة لا يعبّر إلا عن تحريم واحد ، كما في النهي المتعلّق بماهيّة لا تقبل التكرار ، من قبيل ( لا تحدث ) بناء على أنّ الحدث لا يتعدّد ، ففي هذه الحالة يكون التحريم واحدا كما أنّ الوجوب في ( صلّ ) واحد.

وهنا مورد نخرج فيه عن الأصل ، حيث تقدّم أنّ الأصل في متعلّق النهي هو الشموليّة.

وهذا الاستثناء يكون فيه الإطلاق في متعلّق النهي بدليّا خلافا للأصل ، وذلك فيما إذا كان النهي متعلّقا بماهيّة وطبيعة لا تقبل التكرار والتعدّد ، فحينئذ لا يكون هناك إلا تحريم واحد وله عقاب واحد فقط ، من قبيل ( لا تحدث ) أو ( لا تفطر ) ؛ إذ الحدث والإفطار لا يتعدّد ولا يتكرّر ؛ لأنّ من أحدث بالبول مثلا صار محدثا ، فإذا أحدث بالغائط أيضا أو بالنوم لم يحدث من جديد ، بناء على أنّ المراد من الحدث هو الحدث بعد الطهارة فلا يشمل موارد الحدث بعد الحدث.

وهكذا في قوله ( لا تفطر ) فإنّ من أفطر بالأكل صار مفطرا وتحقّقت طبيعة الإفطار في الخارج ، فإذا شرب بعد ذلك لا يقال : إنّه أفطر مرّة ثانية ؛ لأنّ الإفطار لا يشمل إلا من تناول المفطر بعد أن كان صائما والذي تناول الماء بعد الأكل لم يفطر بعد صيامه ، وإنّما أفطر بعد إفطار.

وهذه المسألة محلّ كلام عندهم ؛ إذ يوجد قولان : أحدهما أنّ الحدث والإفطار لا يتكرّران ، والآخر أنّهما يتكرّران.

فبناء على عدم تكرّرهما سوف يكون النهي المتعلّق بالحدث وبالإفطار نهيا واحدا فقط ؛ لأنّ الحدث أو الإفطار يتحقّق بالفرد الأوّل منهما دون الثاني والثالث ، وهكذا.

فكما أنّ متعلّق الأمر في ( صلّ ) يكون فيه حكم واحد أو عصيان واحد ، كذلك الحال هنا يكون هناك تحريم واحد أو عصيان واحد.

وهذا المورد خرج عن الأصل بقرينة أنّ الماهيّة لا تتعدّد ولا تتكرّر في الخارج.

ص: 476

إلا أنّه مع ذلك يبقى هناك فرق بين متعلّق الأمر وبين هذا النحو من متعلّق النهي وهو :

ولكن مع هذا نلاحظ أنّ هناك فارقا يظلّ ثابتا بين الأمر والنهي ، أو بين الوجوب والتحريم ، وهو أنّ الوجوب الواحد المتعلّق بالطبيعة لا يستدعي إلا الإتيان بفرد من أفرادها ، وأمّا التحريم الواحد المتعلّق بها فهو يستدعي اجتناب كلّ أفرادها ولا يكفي أن يترك بعض الأفراد.

يبقى أنّ هناك فارقا بين الأمر والنهي أو بين الوجوب والتحريم. فصحيح أنّ هذا التحريم واحد كما هو الحال في الوجوب فيكون له عصيان واحد ؛ لأنّه تكليف واحد. إلا أنّه مع ذلك نجد أنّ الوجوب والأمر المتعلّق بالطبيعة ( أكرم ) يستدعي إيجاد الطبيعة في الخارج ، والطبيعة توجد بفرد من أفرادها.

وهذا معناه أنّه يكفي في امتثال متعلّق الأمر إيجاد فرد من الأفراد فقط. وأمّا النهي والتحريم فهو وإن كان واحدا لوجود القرينة على ذلك فإنّه عصيان واحد ؛ لأنّه حكم واحد ، إلا أنّه لا يكفي في امتثال متعلّق النهي أن يعدم فردا من الأفراد ، بل لا بدّ من إعدام كلّ الأفراد ليتحقّق الامتثال ؛ لأنّ الطبيعة لا تنعدم إلا بكلّ أفرادها.

وهذا يعني أنّه يوجد فارق بينهما في عالم الامتثال ، فالأمر يمتثل بفرد من إفراده ، بينما النهي الواحد كالنهي المتعدّد لا يتحقّق امتثاله إلا بترك كلّ الأفراد لا بعضها.

والوجه في هذا هو :

وهذا الفارق ليس مردّه إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الإطلاق ، بل إلى أمر عقلي وهو أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولكنّها لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها. وحيث إنّ النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بدّ من ترك سائر أفرادها ، وحيث إنّ الأمر بها يستدعي إيجادها فيكفي إيجاد فرد من أفرادها.

وهذا الفارق ليس منشؤه الاختلاف في دلالة اللفظ ، فإنّ اللفظ يدلّ على شيء واحد وهو الطبيعة والماهيّة ، حيث تقدّم أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها. فنقول : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يدلّ اسم الجنس فيهما على طبيعي الحدث والصلاة ، فليس هناك اختلاف بينهما في دلالة اللفظ.

وكذلك ليس منشأ الاختلاف هنا الاختلاف في الإطلاق ، فإنّ الإطلاق فيهما

ص: 477

واحد وهو بمعنى كون الطبيعة والماهيّة من دون قيد في موضوع الحكم. فقولنا : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيهما على حدّ سواء ، والنتيجة واحدة وهي أنّ الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد أصلا.

فالصحيح أنّ منشأ الاختلاف هو التحليل العقلي القائل بأنّ الطبيعة والماهيّة توجد بفرد من أفرادها ولا تنعدم إلا بانعدام كلّ أفرادها.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الأمر يستدعي إيجاد الطبيعة ، وهذا يكفي فيه إيجاد فرد من الأفراد فيتحقّق الامتثال ويسقط التكليف. بينما النهي يستدعي إعدام الطبيعة ، وهذا لا يكفي فيه إعدام بعض أفرادها ؛ لأنّها تبقى موجودة ضمن البعض الآخر. ولذلك كان إعدامها يقتضي إعدام كلّ أفرادها ؛ ليتحقّق الامتثال ويسقط التكليف.

التنبيه الرابع : أنّه في الحالات التي يكون الإطلاق فيها شموليّا يسري الحكم إلى كلّ الأفراد ، فيكون كلّ فرد من الطبيعة المطلقة شموليّا موضوعا لفرد من الحكم ، كما في الإطلاق الشمولي للعالم في ( أكرم العالم ).

التنبيه الرابع : في تصوير الشموليّة وتعدّد الحكم.

تقدّم سابقا أنّ الشموليّة تعني تعدد الحكم وتكثّره تبعا لتعدّد الأفراد وكثرتها ، بحيث يكون لكلّ فرد من الأفراد حكم مستقلّ يجب امتثاله ويكون له ثواب وعقاب مستقلاّ عن بقيّة الأفراد ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة يثبت وجوبات عديدة بتعدّد الأفراد لماهيّة العالم ، فلكلّ عالم وجوب وامتثال وعصيان وعقاب وثواب مستقلاّ عن سائر الأفراد. فالشموليّة تعني السريان للحكم من الطبيعة إلى الأفراد بعد جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والسؤال هنا : أنّ هذا التكرار والشموليّة في الحكم هل هي ثابتة في عالم الجعل أو في عالم المجعول؟

والمقصود من عالم الجعل التشريع والواقع الثبوتي ، بينما المقصود من عالم المجعول هو عالم الخارج ، حيث يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة القيود والشروط وتحقّقها في الخارج.

والجواب : أنّ الشموليّة والسريان بلحاظ عالم المجعول والفعليّة. وتوضيح ذلك :

ص: 478

ولكن هذا التكثّر في الحكم والتكثّر في موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الإكرام على طبيعي العالم ، فإنّ المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعي العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة ، فبنظره الجعلي ليس لديه إلا موضوع واحد وحكم واحد ، ولكن التكثّر يكون في مرحلة المجعول.

توضيح الجواب : أنّ الشموليّة والتكثّر في الحكم وفي موضوعه راجعة إلى عالم المجعول والفعليّة ، لا إلى عالم الجعل والإنشاء واللحاظ المولوي عند جعل الحكم.

فكما تقدّم سابقا أنّ المولى عند ما يصبّ حكمه على الموضوع إنّما يصبّه على الموضوع المتصوّر في ذهنه بما هو حاك عن الخارج لا بقيد اللحاظ الذهني ، وهنا المولى عند ما صبّ وجوب الإكرام على العالم إنّما صبّه على الصورة الذهنيّة لطبيعة العالم وهي واحدة ، فكان الحكم واحدا أيضا بلحاظ وحدة الموضوع في عالم الجعل والإنشاء.

وبتعبير آخر : أنّ المولى أحضر في ذهنه صورة العالم وهي موضوع واحد ، وهو الطبيعة الواجدة لصفة العلم وصبّ على هذا الموضوع الواحد الكلّي حكما واحدا كلّيّا أيضا وهو وجوب الإكرام. ولذلك فلا تكثّر ولا تعدّد في عالم الجعل لا للموضوع ولا للحكم ، بل كلاهما واحد كلّي.

وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم في الخارج ، فهذا يرتبط بتحقّق الموضوع خارجا والموضوع في الخارج لا يكون فعليّا ، إلا إذا تحقّقت كلّ قيوده وشروطه ، فإذا وجد في الخارج عالم وجب إكرامه ، وهذا ما تقدّم سابقا من أنّ الأحكام الشرعيّة الحقيقيّة تنحلّ إلى قضيّة شرطيّة موضوعها مقدّر الوجود.

وحينئذ يحصل التكثّر والشمول ؛ لأنّ طبيعة العالم لها في الخارج مصاديق عديدة والحكم منصبّ على الطبيعة ، فكلّما وجد مصداق للعالم كان الموضوع متحقّقا فينصبّ عليه الحكم ، وهكذا يحصل التكثّر بلحاظ الموضوع نظرا لكثرة مصاديقه وبتبع تكثّر الموضوع يتكثّر الحكم أيضا.

والنتيجة : أنّ الحكم واحد في عالم الجعل وكذا الموضوع ، بينما هما متكثّران في عالم المجعول.

ص: 479

وقد ميّزنا سابقا (1) بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعليّة المجعول تابعة لفعليّة موضوعه خارجا ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعا لتكثّر أفراد العالم في الخارج.

وعلى أساس التمييز بين الجعل والمجعول الذي تقدّم سابقا ، حيث إنّ الجعل هو عالم إنشاء الحكم ولحاظه وواقعه ، بينما عالم المجعول هو عالم فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، فإذا وجد الموضوع في الخارج صار الحكم فعليّا فيسمّى بالحكم المجعول. وأمّا إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج فيسمّى بالحكم الجعلي.

ولذلك لا مانع من وحدة الحكم والموضوع في عالم الجعل وتكثّرهما في عالم المجعول ؛ لأنّ الأوّل راجع إلى المولى وكيفيّة حكمه وموضوعه ، بينما الثاني راجع إلى عالم الخارج والمصاديق الخارجيّة للموضوع.

والخطاب الشرعي مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، وليس ناظرا إلى فعليّة المجعول ، وهذا يعني أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق الشمولي إنّما يكون في مرتبة غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.

بعد أن عرفنا أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم إنّما تكون بلحاظ عالم المجعول لا الجعل ، نقول : إنّ الخطابات الشرعيّة من قبيل ( أكرم العلماء ) ( لا تكذب ) ونحوهما مفادها التصديقي ومدلولها الجدّي إنّما هو عالم الجعل ، فقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (2) مفادها الجدّي ومدلولها التصديقي هو إنشاء حكم بوجوب الحجّ على المستطيع في عالم الجعل والتشريع والواقع الثبوتي. وهذا معناه أنّ هناك حكما بنحو القضيّة الحقيقيّة مفاده ( كلّما وجد مستطيع وجب عليه الحجّ ) ؛ لأنّ الخطابات الشرعيّة كلّها تبرز الأحكام بنحو القضيّة الحقيقيّة التي يكون موضوعها مقدّر الوجود. ففي عالم الجعل ليس إلا حكم واحد على موضوع واحد.

وليست الخطابات الشرعيّة ناظرة إلى فعليّة المجعول ؛ لأنّ فعليّة المجعول إنّما تتحقّق إذا تحقّق الموضوع في الخارج فعلا ، فإذا لم يتحقّق الموضوع فلا حكم. والأحكام

ص: 480


1- في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.
2- آل عمران : 97.

الشرعيّة يصدرها الشارع ويجعلها من دون أن ينظر إلى تحقّق الموضوع في الخارج وعدمه ؛ لأنّه يجعلها على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يكون الموضوع فيها مقدّرا ومفترضا ، سواء كان موجودا في الخارج فعلا أم لا ؛ لأنّه يكفي في صدق القضيّة الشرطيّة صدق طرفيها في عالم الذهن.

وعلى هذا فتكون الشموليّة وتكثّر الحكم في الإطلاق الشمولي ثابتة في مرتبة تختلف عن المرتبة التي هي مفاد الدليل الشرعي والخطاب المولوي ، فإنّ الخطاب مفاده ومدلوله إنّما هو عالم الجعل وفي هذا العالم الحكم والموضوع واحد ، بينما الشموليّة والتكثّر إنّما هي في عالم المجعول أي فعليّة الحكم التابعة لفعليّة الموضوع بعد تحقّق كلّ قيوده وشروطه.

ومن هنا صحّ القول بأنّ السريان بمعنى تعدّد الحكم وتكثّره الثابت بقرينة الحكمة ليس من شئون مدلول الكلام ، بل هو من شئون عالم التحليل والمجعول.

وحاصل الكلام : أنّ السريان والشموليّة التي تعني تكثّر الحكم وتعدّده بعد جريان قرينة الحكمة لإثبات أنّ الموضوع هو الطبيعة من دون قيد ، ليس من شئون مدلول الكلام ؛ لأنّ الكلام لا يدلّ على أكثر من ثبوت الحكم للموضوع ، والموضوع هو الطبيعة وهي واحدة ، فالحكم الثابت لها واحد أيضا.

إذا فلا شموليّة ولا تكثّر بلحاظ مدلول الكلام ومفاده ؛ لأنّ المدلول والمفاد ينظران إلى عالم الجعل والإنشاء والتشريع ، بل السريان والشمول والتكثّر في الحكم من شئون عالم المجعول ، أي فعليّة الموضوع وتحقّقه في الخارج المتوقّف على تحقّق الشروط والقيود المأخوذة في الموضوع. فكلّما تحقّق مصداق للموضوع ثبت له الحكم وهذا في عالم المجعول والفعليّة ، فهناك أحكام عديدة بالتحليل العقلي وإن كان مفاد الكلام حكما واحدا.

* * *

ص: 481

ص: 482

أدوات العموم

ص: 483

ص: 484

أدوات العموم

تعريف العموم وأقسامه :

العموم : هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ ، وباشتراط أن يكون مدلولا عليه باللفظ يخرج المطلق الشمولي ، فإنّ الشموليّة فيه ليست مدلولة للكلام ؛ لأنّها من شئون عالم المجعول ، والكلام إنّما ينظر إلى عالم الجعل ، خلافا للعامّ فإنّ تكثّر الأفراد فيه ملحوظ في نفس مدلول الكلام وفي عالم الجعل.

عرّف السيّد الشهيد العموم بقوله : ( هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ ) من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ شمول الحكم لكلّ أفراد العالم وتعدّد الحكم وتكثّره تبعا ما للموضوع من أفراد ومصاديق إنّما هو بدلالة لفظة ( كلّ ) على العموم والشمول والتكثّر.

وهذا معناه أنّ الاستيعاب والشمول هنا مدلول اللفظ والكلام ، فيكون العموم مفادا للدليل ، وحيث إنّ مفاد الدليل هو عالم الجعل واللحاظ فيكون المتكلّم قد لاحظ الشمول والتكثّر والاستيعاب في مرحلة سابقة عن المجعول.

وبهذا يظهر فرق العموم عن الاطلاق الشمولي وإن كانا معا يفيدان الاستيعاب والشمول والتكثّر ، إلا أنّ الإطلاق الشمولي يدلّ على الاستيعاب بتوسّط قرينة الحكمة ، ولذلك لا يكون الاستيعاب المدلول عليه بالإطلاق مدلولا للّفظ ؛ لأنّ اللفظ لا يدلّ إلا على الطبيعة والماهيّة مجرّدة عن القيود ، بل الاستيعاب فيه بلحاظ عالم التحليل العقلي والمجعول ، كما تقدّم في التنبيه الرابع من تنبيهات الإطلاق.

وأمّا العموم فهو مدلول لفظي للكلام حيث يوجد ما يدلّ عليه في الكلام ، ولذلك فهو موجود في عالم التصوّر والوضع ، وعالم الجعل والتشريع.

ص: 485

ولذلك كان قيد ( المدلول عليه باللفظ ) مخرجا للإطلاق الشمولي ؛ لأنّه ليس مدلولا للّفظ بل هو مدلول لقرينة الحكمة وعالم المجعول والفعليّة (1).

ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادة دالّين :

أحدهما : يدلّ على نفس الاستيعاب ، ويسمّى بأداة العموم.

والآخر : يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ، ويسمّى بمدخول الأداة.

ففي قولنا ( أكرم كلّ فقير ) الدالّ على الاستيعاب كلمة ( كلّ ) ، والدالّ على المفهوم المستوعب لأفراده كلمة ( فقير ).

ثمّ إنّ الدلالة على الاستيعاب والعموم تفترض عادة وجود دالّين ، وهذا يتمّ في الأدوات التي تدلّ على الاستيعاب والعموم بنحو المعنى الاسمي ، من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) حيث نحتاج إلى دالّ على الاستيعاب وإلى مدخول لأداة العموم فقط.

وأمّا في الأدوات التي تدلّ على الاستيعاب والعموم بنحو المعنى الحرفي فالدلالة تحتاج إلى ثلاثة دوالّ هي : الأداة والمدخول والنسبة.

ففي الأدوات الدالّة على الاستيعاب بنحو المعنى الاسمي يوجد دالاّن هما :

الأوّل : الدالّ الذي يدلّ على الاستيعاب والعموم ويسمّى بأداة العموم من قبيل كلمة ( كلّ ) في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ الدالّ على الاستيعاب هنا هو كلمة ( كلّ ) ؛ لأنّها موضوعة لغة للعموم والاستيعاب. فإذا لم يكن هذا الدالّ موجودا فلا استيعاب ولا عموم من قبيل المركّبات والأعداد ، كالعشرة فإنّها تشمل أفرادها لا من باب العموم بل من باب دلالة الشيء على نفسه وأجزائه التي يتركّب منها ، فإنّ هذه الأجزاء صفة واقعيّة للعشرة إذا فقد جزء منها تنعدم العشرة.

وثانيا : الدالّ الذي يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ويسمّى بمدخول الأداة من قبيل كلمة ( فقير ) في قولنا : ( أكرم كلّ فقير ) فإنّ الدالّ على المفهوم الذي استوعب أفراده هو كلمة ( فقير ).

ص: 486


1- ويمكن تعريف العامّ بقولنا : ( هو استيعاب مفهوم وضعا لمفهوم آخر ) ، فإنّ كلمة ( كلّ ) تستوعب كلّ أفراد مفهوم ( العالم ) في قولنا : ( أكرم كل عالم ) ، فالعموم سنخ مفهوم يدخل على مفهوم آخر فيستوعب أفراده التي ينطبق عليها.

فالدلالة على العموم تعتمد عادة على هذين الدالّين ، فإذا فقد أحدهما لم يكن هناك عموم واستيعاب.

وأداة العموم الدالّة على الاستيعاب : تارة تكون اسما وتدلّ على الاستيعاب بما هو مفهوم اسمي كما في ( كلّ ) و ( جميع ) وكافّة وعامّة ) ، وأخرى تكون حرفا وتدلّ عليه بما هو نسبة استيعابيّة كما في ( لام الجمع ) في قولنا : ( العلماء ) بناء على أنّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) يدلّ على العموم ، فإنّ أداة العموم فيه هي ( اللام ) ، واللام حرف ، فإذا دلّت على الاستيعاب فهي إنّما تدلّ عليه بما هو نسبة. وسيأتي تصوير ذلك إن شاء اللّه تعالى.

تنقسم الأدوات الدالّة على العموم إلى قسمين :

الأوّل : الأدوات الدالّة على العموم بنحو المعنى الاسمي فتكون دالّة على الاستيعاب والعموم بما هو مفهوم اسمي ، من قبيل دلالة ( كلّ وجميع وكافّة وعامّة ) ، فإنّ هذه الألفاظ موضوعة لغة للدلالة على العموم ، وبما أنّها أسماء فهي تدلّ على العموم بنحو المعنى الاسمي ، أي على مفهوم العموم والاستيعاب بما هو صورة ذهنيّة يمكن أن يتصوّر مستقلاّ عن الطرفين والنسبة.

فكلمة ( كلّ ) مثلا موضوعة لغة لمفهوم العموم والاستيعاب ، سواء كانت ضمن طرفين أو لا ، ولذلك لا تحتاج إلى النسبة والطرفين في الخارج ، بل هي كصورة ومفهوم تدلّ على العموم ، ولذلك يصحّ وضع كلمة ( عموم ) مكانها.

نعم ، يختلف نحو دلالتها على العموم باختلاف مدخولها ، فتارة تدلّ على استيعاب الأجزاء من قبيل ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، وأخرى تدلّ على استيعاب الأفراد من قبيل ( اقرأ كلّ كتاب ). وسيأتي توضيح ذلك.

الثاني : الأدوات الدالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي فتكون دالّة على النسبة الاستيعابيّة ، ولذلك فهي تحتاج دائما إلى الطرفين ؛ لأنّ النسبة يستحيل تعقّلها من دون طرفين كما تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة.

فمثلا ( الألف ) و ( اللام ) في الجمع تدلّ على العموم بنحو المعنى الحرفي في قولنا : ( أكرم العلماء ) ، ودلالتها عليه بنحو النسبة الاستيعابيّة ؛ لأنّ الحروف موضوعة لغة للنسب باختلاف أنحائها ، فتكون ( الألف ) و ( اللام ) الداخلة على الجمع - بناء على

ص: 487

دلالتها على العموم حيث يوجد خلاف فيها كما سيأتي توضيحه - دالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي الذي يستحيل تعقّله من دون طرفين.

أقسام العموم :

ثمّ إنّ العموم ينقسم إلى الاستغراقي والبدلي والمجموعي ؛ لأنّ الاستيعاب لكلّ أفراد المفهوم يعني مجموعة تطبيقاته على أفراده ، وهذه التطبيقات : تارة تلحظ عرضيّة ، وأخرى تبادليّة ، فالثاني هو البدلي ، والأوّل إن لوحظت فيه عناية وحدة تلك التطبيقات فهو المجموعي ، وإلا فهو عموم استغراقي.

ينقسم العموم إلى ثلاثة أقسام هي :

الأوّل : العموم الاستغراقي من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ أداة العموم هنا تدلّ على استيعاب كلّ أفراد مفهوم العالم ، بنحو يكون هناك وجوبات وامتثالات متعدّدة بتعدّد ما للعالم من أفراد ، وهذا هو معنى الشموليّة والاستغراقيّة.

الثاني : العموم البدلي من قبيل ( أكرم أيّ عالم ) ، فإنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد العالم بنحو البدليّة ، بمعنى أنّه يكفي تطبيق الحكم على أي فرد من أفراد العالم ، وهذا معناه أنّ الحكم واحد فقط غاية الأمر أنّه توجد عدّة تطبيقات يمكن تطبيق الحكم على واحد منها. فالحكم ثابت لكلّ الأفراد ولكن على سبيل البدل.

الثالث : العموم المجموعي من قبيل ( أكرم كلّ عشرة من العلماء ) فهنا تدلّ الأداة على استيعاب مجموع أجزاء العشرة بنحو يكون إكرام العشرة بكاملها امتثالا واحدا والتخلّف عن واحد منها بمثابة التخلّف عنها جميعا ، فالحكم واحد بالنسبة للعشرة بنحو يكون مجموع العشرة موضوعا

واحدا للحكم ، كالاعتقاد بالأئمّة الاثني عشر مثلا.

والوجه في هذا التقسيم هو : أنّ العموم أو الاستيعاب معناه تطبيق المفهوم على أفراده ، وحينئذ نقول :

تارة تكون تطبيقات المفهوم على أفراده في عرض واحد بحيث تكون نسبة المفهوم إلى أفراده نسبة التساوي وكلّها تمثّله على حدّ سواء من دون أولويّة لبعضها على البعض الآخر.

ص: 488

وأخرى تكون تطبيقات المفهوم على أفراده طوليّة ، بمعنى أنّ بعضها يكون بديلا عن البعض الآخر في حالة عدم وجوده أو عند عدم تطبيق المفهوم عليه.

فإذا كانت التطبيقات في مرتبة طوليّة تبادليّة كان العموم بدليّا من قبيل ( أكرم أيّ عالم ) أي أنّ كلّ فرد من أفراد العالم يمكن تطبيق المفهوم عليه ويكون صالحا لذلك ، إلا أنّه لا يجب التطبيق عليها جميعا ، بل يكفي تطبيقه على واحد منها فقط على نحو يكون له بدل في حالة عدم تطبيق المفهوم عليه.

وأمّا إذا كانت التطبيقات على الأفراد في مرتبة عرضيّة أي الأفراد كلّها كانت في رتبة واحدة ، فهنا إذا كان هناك عناية توجب كون هذه التطبيقات العرضيّة للأفراد بنحو واحد أي الأفراد مجتمعة معا كان العموم مجموعيّا ، من قبيل ( أكرم مجموع العلماء ) أو ( أكرم كلّ عشرة من العلماء ). وإذا لم يكن هناك عناية زائدة كانت التطبيقات العرضيّة على الأفراد بنحو الاستقلال أي لكلّ فرد منها تطبيق مستقلّ عن الآخر ، فالعموم استغراقي من قبيل ( أكرم كلّ عالم ) أي كلّ فرد فرد مستقلاّ عن الآخر.

وقد يقال (1) : إنّ انقسام العموم إلى هذه الأقسام إنّما هو في مرحلة تعلّق الحكم به ؛ لأنّ الحكم إن كان متكثّرا بتكثّر الأفراد فهو استغراقي ، وإن كان واحدا ويكتفى في امتثاله بأيّ فرد من الأفراد فهو بدلي ، وإن كان يقتضي الجمع بين الأفراد فهو مجموعي.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ هذه الأقسام الثلاثة المذكورة لا ترجع إلى العموم ، فإنّ العموم فيها بمعنى واحد وهو شمول المفهوم لما يصلح أن ينطبق عليه من الأفراد للمدخول ، فإنّ المدخول في الثلاثة يصلح لأن ينطبق على كلّ أفراده. فلا فرق بين قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) و ( أكرم أيّ عالم ) و ( أكرم مجموع العلماء ) من ناحية كون العموم فيها جميعا بالنحو الذي ذكرناه.

نعم ، يأتي هذا التقسيم بلحاظ تعلّق الحكم وكيفيّته في عالم الجعل والتشريع.

وتوضيحه : أنّ الحكم إن كان متعدّدا ومتكثّرا بلحاظ تعدّد وتكثّر الأفراد بحيث يكون لكلّ فرد امتثالا وعصيانا خاصّا به كان الحكم بنحو العموم الاستغراقي.

ص: 489


1- قاله المحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 253.

وإن كان الحكم واحدا وقد تعلّق بالموضوع بنحو يكتفى بفرد من أفراده على نحو البدل ويكون امتثال الفرد الأوّل مجزيا عن غيره فالعموم بدلي.

وإن كان الحكم واحدا ولكنّه يقتضي الجمع بين أفراد الموضوع بحيث يكون الجميع بقوّة امتثال واحد ، فإذا أخلّ ببعضها لم يتحقّق الامتثال أصلا كان العموم مجموعيّا.

والحاصل : أنّ هذه الأقسام الثلاثة راجعة إلى كيفيّة لحاظ المولى لحكمه ، وهل هو حكم واحد على موضوع واحد أو هو حكم واحد على موضوع متعدّد بنحو يكون مجموع الأفراد موضوع الحكم ، أو هو أحكام متعدّدة بتعدّد أفراد الموضوع؟

وأمّا إذا لم يكن هناك حكم فهذه الصور الثلاث تفيد معنى واحدا ، وهو العموم بمعنى شمول المفهوم لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه من الأفراد.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الانقسام يمكن افتراضه بقطع النظر عن ورود الحكم ؛ لوضوح الفرق بين التصوّرات التي تعطيها كلمات من قبيل ( جميع العلماء ) و ( أحد العلماء ) و ( مجموع العلماء ) ، حتّى لو لوحظت بما هي كلمات مفردة وبدون افتراض حكم ، فالاستغراقيّة والبدليّة والمجموعية تعبّر عن ثلاث صور ذهنيّة للعموم ينسجها ذهن المتكلّم وفقا لغرضه ؛ توطئة لجعل الحكم المناسب عليها.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ هذه الأقسام الثلاثة إنّما هي تقسيمات للعموم نفسه ، سواء كان هناك حكم أم لا ، وليس مردّها إلى كيفيّة تعلّق الحكم ولحاظ المولى ، وذلك لوضوح الفرق بين الصور الذهنيّة التي تعطيها هذه الكلمات الثلاث الدالّة على الاستغراقيّة والبدليّة والمجموعيّة ، فإنّ ( جميع العلماء ) يدلّ على صورة ذهنيّة ، وهي كلّ أفراد العلماء تختلف عن الصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( مجموع العلماء ) ، فإنّها تدلّ على صفة معيّنة لهؤلاء الأفراد من العلماء وهي كونهم منضمّين ومجتمعين معا ، وتختلف عن الصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( أيّ عالم ) فإنّها تدلّ على فرد ما من أفراد العلماء غير معيّن ولا محدّد.

إذا هذه الصور الذهنيّة المختلفة موجودة في عالم الذهن قبل أن يطرأ الحكم على الموضوع ؛ لأنّ الحكم ينصبّ على الصورة الذهنيّة فيلزم أن تكون موجودة قبله لا بعده.

ص: 490

وبتعبير آخر : أنّ الحكم ينصبّ على ما هو ثابت وموجود في الذهن ، فإذا لم يكن هناك اختلاف في الذهن بين هذه الصورة الثلاث فكيف حصل الاختلاف بينها بعد تعلّق الحكم بها؟! إذ الحكم في عالم الجعل واحد كما تقدّم.

وهذا يستلزم افتراض أنّ الصور الذهنيّة مختلفة فيما بينها من أوّل الأمر ثمّ يتعلّق بها الحكم بما هي كذلك ، فيستنتج منه تكثّر الحكم لكلّ الأفراد أو لمجموع الأفراد أو لأحد الأفراد.

والحاصل : أنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة والبدليّة تعبّر عن صور ذهنيّة يخترعها الذهن وإن لم يكن هناك حكم أصلا ، وبعد ذلك تقع موضوعا للحكم فيختلف باختلافها ، ولا يمكن أن تختلف الصور باختلاف الحكم ؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم واحد في الجميع وهو ( وجوب الإكرام ).

* * *

ص: 491

ص: 492

نحو دلالة أدوات العموم

اشارة

ص: 493

ص: 494

نحو دلالة أدوات العموم

لا شكّ في وجود أدوات تدلّ على العموم بالوضع ككلمة ( كلّ ) و ( جميع ) ونحوهما من الألفاظ الخاصّة بإفادة الاستيعاب ، غير أنّ النقطة الجديرة بالبحث فيها وفي كلّ ما يثبت أنّه من أدوات العموم هي : أنّ إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة - أي ( عالم ) مثلا في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) - هل يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ، أو أنّ دخول أداة العموم على الكلمة يغنيها عن قرينة الحكمة وتتولّى الأداة نفسها دور تلك القرينة؟

لا إشكال في أنّه توجد أدوات موضوعة لغة لإفادة العموم والاستيعاب من قبيل كلمة ( كلّ وجميع وعامّة وكافّة وقاطبة وعموم وأي ومجموع ) ... إلى آخره ) ، وهذا مما لا شكّ فيه ، وليس هو محلّ الكلام فعلا ، وإنّما الجدير بالبحث هنا هو أنّ العموم معناه استيعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر ، وهذا معناه أنّ الحكم يسري ويشمل كلّ الأفراد ابتداء ومن أوّل الأمر.

فإذا قلنا : ( أكرم كلّ عالم ) كانت الأداة دالّة على إرادة كلّ الأفراد من مدخولها الذي هو العالم. والسؤال هنا هو : هل سريان الحكم إلى الأفراد يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ليثبت أنّ الأداة قد دخلت على الطبيعة والماهيّة من دون قيد فتستوعب كلّ أفرادها ، أو أنّ سريان الحكم للأفراد يكفي فيه دخول أداة العموم على المدخول ولا تحتاج إلى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ، فتكون نفس الأداة تفيد الاستيعاب لكلّ الأفراد بنفسها لغة ووضعا ، فتكون الأداة قد قامت بدور قرينة الحكمة بنفسها واستغنت عنها؟

وجهان بل قولان في المسألة ، ولكلّ وجه منشأ يعتمد عليه ، وهو :

ص: 495

وظاهر كلام صاحب ( الكفاية ) (1) رحمه اللّه أنّ كلا الوجهين ممكن من الناحية النظريّة ؛ لأنّ أداة العموم إذا كانت موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول تعيّن الوجه الأوّل ؛ لأنّ المراد بالمدخول لا يعرف حينئذ من ناحية الأداة ، بل من قرينة الحكمة. وإذا كانت موضوعة لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعيّن الوجه الثاني ؛ لأن مفاد المدخول صالح ذاتا للانطباق على تمام الأفراد ، فيتمّ تطبيقه عليها فعلا بتوسّط الأداة مباشرة ، وقد استظهر - بحقّ - الوجه الثاني.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ كلا الوجهين المذكورين من احتياج أدوات العموم إلى قرينة الحكمة وعدم احتياجها إليها ممكن ثبوتا من الناحية النظريّة والتحليل العقلي ؛ وذلك على أساس وجود احتمالين في تفسير المعنى الموضوع له في أدوات العموم. فهنا وجهان :

الأوّل : أن تكون أدوات العموم موضوعة لغة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، فهنا يتعيّن الوجه الأوّل من كون الأدوات تحتاج إلى الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ المراد مفاد للدلالة التصديقيّة الثانية ، أي الإرادة الجديّة والتي تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام موضوع الحكم واقعا وثبوتا.

فهنا لا بدّ من تحديد المراد من المفهوم أوّلا وأنّه الطبيعة بما هي هي أو الطبيعة المقيّدة ، فبعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة يثبت أنّ المدخول للأداة هو ذات الطبيعة والماهيّة مجرّدة عن أي قيد ، فيثبت أنّ الأداة قد استوعبت كلّ الأفراد لهذه الطبيعة والماهيّة التي لم يؤخذ فيها قيد.

والحاجة إلى قرينة الحكمة على هذا الاحتمال واضحة ؛ إذ قد يكون المدخول مقيّدا وقد يكون مطلقا ؛ لأن وضع الأداة في كلتا الصورتين واحد وهو استيعاب ما يراد من المدخول ، فقد يراد الأفراد لهذا المفهوم المقيّد أو لذاك المفهوم المطلق ، فتحديد المراد لا بدّ أن يتمّ في مرحلة لاحقة عن أداة العموم ؛ ليعرف ما المراد من المدخول الذي أريد استيعاب تمام أفراده.

وهذا الوجه ذهب إليه المحقّق النائيني وجماعة.

الثاني : أن تكون أدوات العموم موضوعة لغة لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول

ص: 496


1- كفاية الأصول : 254.

للانطباق عليه ، فهنا يتعيّن الوجه الثاني من كون أدوات العموم غير محتاجة إلى قرينة الحكمة ، بل تقوم هي نفسها بدور هذه القرينة ؛ وذلك لأنّ المدخول - وهو اسم الجنس - موضوع لغة للماهيّة والطبيعة مجرّدة عن الإطلاق والتقييد.

وقد تقدّم سابقا أنّ الطبيعة والماهيّة من لوازمها الذاتيّة أنّ لها قابليّة للشمول والانطباق على كلّ فرد تنحفظ فيه الماهيّة ، ولذلك قلنا : إنّ الإطلاق لازم ذاتي للماهيّة لا ينفكّ عنها حتّى مع وجود الدليل على التقييد ؛ لأنّ الإطلاق يراد به الصلاحيّة والقابليّة للانطباق على كلّ الأفراد.

ومن هنا كان المدخول بنفسه صالحا للانطباق على كلّ الأفراد التي تتضمّن هذا المفهوم. وعليه ، فتكون أداة العموم بنفسها دالّة على استيعاب كلّ الأفراد التي يصلح المفهوم - الذي دخلت عليه - للانطباق عليها ؛ لأنّ هذه القابليّة ذاتيّة للمفهوم الذي هو مدخول الأداة ، ولذلك لا تحتاج إلى قرينة الحكمة أصلا ، بل هي تدلّ على تمام الأفراد التي يصلح الانطباق عليها ابتداء ومباشرة ، سواء كان مقيّدا بوصف أو بعدمه.

ثمّ إنّ صاحب ( الكفاية ) قد استظهر الوجه الثاني ، وهو الصحيح والمختار عند السيّد الشهيد. إلا أنّ الاستظهار إثباتا لا يكفي دليلا لتعيين أحد الوجهين دون الآخر ، ولذلك لا بدّ من البرهنة على ذلك فنقول :

وقد يبرهن على إبطال الوجه الأوّل ببرهانين :

البرهان الأوّل (1) : لزوم اللغويّة منه ، كما تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (2).

ذكر السيّد الخوئي برهانا يبطل فيه الوجه الأوّل من كون الأداة متوقّفة على قرينة الحكمة في الدلالة على الاستيعاب والعموم ؛ وذلك للزوم اللغويّة. ومحذور اللغويّة ذكره في مقامين :

المقام الأوّل : محذور اللغويّة في وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، وتوضيحه : أنّ أدوات العموم ما دامت محتاجة إلى قرينة الحكمة للدلالة وضعا على الاستيعاب ، بمعنى أنّه لا بدّ من جريان قرينة الحكمة أوّلا في المدخول ثمّ بعد ذلك تدلّ الأداة على الاستيعاب ، لأمكن الاستغناء عنها عند جريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّ قرينة

ص: 497


1- جاء هذا البرهان في المحاضرات 5 : 159.
2- في بحث العموم ، تحت عنوان : أدوات العموم ونحو دلالتها.

الحكمة بعد جريانها تثبت أنّ الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد فهي تشمل كلّ الأفراد الواجدة للقيد والفاقدة له.

وحينئذ لا يكون هناك فائدة من وضع أدوات للعموم ؛ لأنّ العموم والاستيعاب قد تمّ وحصل بواسطة قرينة الحكمة ، فكانت الأدوات موضوعة لما هو حاصل ومتحقّق فعلا فيكون وضعها لغوا.

ولا يمكن أن نتصوّر كونها مؤكّدة للعموم والاستيعاب ؛ لأنّ الرتبة مختلفة بين أداة العموم وقرينة الحكمة مع أنّ الأداة تدلّ على العموم تصوّرا ، بينما قرينة الحكمة تدلّ عليه تصديقا ، ومعه لا يتعقّل التأكيد لاستلزامه وحدة الرتبة بين المؤكّد والمؤكّد وهي هنا مختلفة.

المقام الثاني : لزوم اللغويّة في مقام الاستعمال والتفهيم للمراد الجدّي من قبل المتكلّم ؛ لأنّ العموم لا وجود له قبل قرينة الحكمة على هذا الوجه فيكون استعمال أداة العموم بلا معنى.

والعموم المستفاد من الكلام إنّما هو بقرينة الحكمة وهو غير العموم وضعا وتصوّرا ؛ لأنّها تدلّ على العموم تصديقا وجدّا. فلا فائدة من استعمال أداة العموم ؛ لأنّها من دون قرينة الحكمة لا تفيد الاستيعاب ، ومعها يكون الاستيعاب لقرينة الحكمة لا للأداة. فكان استعمالها لغوا باطلا.

ولكنّ التحقيق عدم تماميّة هذا البرهان ؛ لعدم لزوم لغويّة وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، ولا لغويّة استعمالها في مقام التفهيم من قبل المتكلّم.

والتحقيق : أنّ هذا البرهان غير تامّ ؛ لأنّه لغويّة لا في عالم الوضع من قبل الواضع ، ولا في عالم الاستعمال من قبل المتكلّم ؛ وذلك لوجود فائدة يمكن على أساسها تصحيح الوضع والاستعمال ، وتوضيح ذلك :

وذلك لأنّ العموم والإطلاق ليس مفادهما مفهوما وتصوّرا شيء واحد ، فإنّ أداة العموم مفادها الاستيعاب وإرادة الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، وأمّا قرينة الحكمة فلا تفيد الاستيعاب ولا ترى الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، بل تفيد نفي الخصوصيّات ولحاظ الطبيعة مجرّدة عنها ، فالتكثّر ملحوظ في العموم ، بينما الملحوظ في الإطلاق ذات الطبيعة.

ص: 498

إنّ محذور اللغويّة المذكور لا مورد له هنا ؛ لأنّه يكفي في رفع اللغويّة أن يكون أحد المفهومين مؤكّدا للآخر أو تكون الصورة الذهنيّة في أحدهما مختلفة عن الصورة الذهنيّة في الآخر وإن كان بينهما في عالم الصدق الخارجي تصادق.

فإذا استطعنا أن نثبت أحد هذين الأمرين بين أدوات العموم وبين قرينة الحكمة لم يكن هناك محذور في وجودهما معا بلحاظ الاستعمال ولم يكن هناك محذور في وضع أدوات العموم.

وفي مقامنا يوجد كلا النحوين الرافعين لمحذور اللغويّة في الوضع والاستعمال.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ العموم المدلول عليه بأدوات العموم مفاده التصوّري الاستيعاب والشمول لكلّ الأفراد بنحو يكون المفهوم الموجود في الذهن يري الأفراد ويكشف عنها ، فتكون الأفراد موجودة تصوّرا ومفهوما عند الدلالة على العموم بأدوات العموم ، فإذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) كانت الصورة الذهنيّة لكلمة ( كلّ ) هي الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد فكان لها دلالة تصوّريّة وضعيّة على الأفراد ، وأنّ الأفراد هي الصورة الذهنيّة التي تحكي عنها أداة العموم. فعلى مستوى مفاد الخطاب ومدلوله التصوّري كان هناك استيعاب وشمول لكلّ الأفراد.

وأمّا العموم المدلول عليه بقرينة الحكمة فهو ليس مفادا ومدلولا تصوّريّا للخطاب ؛ لأنّ قرينة الحكمة تفيد الشمول والاستيعاب في مرحلة الدلالة التصديقيّة الثانية عند تحديد المراد الجدّي للمتكلّم.

فإذا قيل مثلا : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة ثبت أنّ المراد الجدّي هو ماهيّة العالم والطبيعة المجرّدة عن القيود والخصوصيّات ، فيستفاد من قرينة الحكمة العموم بمعنى نفي القيود والخصوصيّات ، وبمعنى أنّ المدلول التصوّري للخطاب هو ذات الطبيعة والماهيّة من دون قيد ، ولا ترى قرينة الحكمة الأفراد في مرحلة المدلول التصوّري ، وإنّما الأفراد تتعيّن في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي.

والحاصل : أنّه يوجد فرق بين العموم المستفاد من أدوات العموم وبين العموم المستفاد من قرينة الحكمة ، وهو أنّ العموم في أدوات العموم مدلول تصوّري للخطاب ، والأدوات ترى الأفراد تصوّرا ومفهوما.

بينما العموم في قرينة الحكمة مدلول تصديقي للخطاب ، وهي لا ترى تصوّرا

ص: 499

ومفهوما إلا ذات الطبيعة والماهيّة من دون أخذ القيود والخصوصيّات ، فيكون التكثّر في الأدوات ملحوظا تصوّرا بينما الملحوظ تصوّرا في قرينة الحكمة هو الطبيعة والماهيّة ذاتها.

وعندئذ نقول :

وهذا يكفي لتصحيح الوضع حتّى لو لم ينته إلى نتيجة عمليّة بالنسبة الى الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفائدة المترتّبة من الوضع إنّما هي إفادة المعاني المختلفة. وكذلك يكفي لتصحيح الاستعمال ؛ إذ قد يتعلّق غرض المستعمل بإفادة التكثّر بنفس مدلول الخطاب.

وبهذا يظهر أنّه لا لغويّة لأدوات العموم لا في الوضع ولا في الاستعمال.

أمّا أنّه لا لغويّة في الوضع فلأنّه يكفي في وضع الألفاظ للمعاني أن تكون هذه المعاني مختلفة ومتغايرة تصوّرا ، بحيث تكون الصورة الذهنيّة لهذا المعنى غير تلك الصورة للمعنى الآخر. وإن كان بينهما تصادق واتّحاد تامّ في الخارج فإنّ الصدق الخارجي بين المعاني لا يضرّ في كونها مختلفة ومتغايرة تصوّرا ومفهوما ، من قبيل ( الإنسان والناطق ) فإنّ الصورة الذهنيّة مختلفة بينهما لكنّهما في عالم الصدق الخارجي متساويان.

وفي مقامنا الصورة الذهنيّة لأدوات العموم هي العموم والاستيعاب للأفراد تصوّرا ، بينما الصورة الذهنيّة لقرينة الحكمة هي ذات الماهيّة والطبيعة ، فلم يكن هناك لغويّة في وضع أدوات العموم ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة تختلف عن الصورة الذهنيّة لقرينة الحكمة وإن كان بينهما اتّحاد وتصادق في عالم الصدق الخارجي ؛ إذ لا فرق في الخارج بين العموم المستفاد من الأداة والعموم المستفاد من قرينة الحكمة في كونهما معا يدلاّن على الاستيعاب لكلّ الأفراد.

وأمّا أنّه لا لغويّة في الاستعمال فلأنّه يكفي في تصحيح استعمالهما معا في خطاب واحد أن يكون هناك غرض للمتكلّم من وراء استعمالهما معا. فإنّ قرينة الحكمة تفيد العموم والاستيعاب على أساس دلالة السكوت عن ذكر القيد في الكلام فكانت دلالتها على العموم سلبيّة أو سكوتيّة. بينما أدوات العموم نص صريح في العموم والشمول فكانت دلالتها على العموم إيجابيّة ووجوديّة ؛ لأنّه يوجد في

ص: 500

الخطاب لفظ يدلّ على العموم. وحينئذ قد يكون غرض المتكلّم أن يدلّ على العموم بنحو آكد وأشدّ ، وهو الإتيان بأداة العموم وعدم الاكتفاء بقرينة الحكمة ؛ لأنّ الدلالة الإيجابيّة أقوى وأشدّ وآكد من الدلالة السلبيّة كما تقدّم سابقا.

فهذا البرهان غير تامّ كما ظهر ممّا ذكرنا.

البرهان الثاني : أنّ قرينة الحكمة ناظرة - كما تقدّم في بحث الإطلاق - إلى المدلول التصديقي الجدّي ، فهي تعيّن المراد التصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوّري. وأداة العموم تدخل في تكوين المدلول التصوّري للكلام.

فلو قيل بأنّها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول - الذي تعيّنه قرينة الحكمة وهو المدلول التصديقي - كان معنى ذلك ربط المدلول التصوّري للأداة بالمدلول التصديقي لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان.

ذكر السيّد الشهيد رحمه اللّه برهانا على بطلان كون الأداة موضوعة لغة لاستيعاب ما يراد من المدخول. حاصله : تقدّم أنّ قرينة الحكمة ناظرة إلى تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ولذلك فهي ترتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية ، ولا ربط لها بالمدلول التصوّري أو الدلالة التصديقيّة الاولى أي الإرادة الاستعماليّة. فالمدلول اللفظي للكلام الذي يتكوّن من الدلالتين التصوريّة والاستعماليّة لا يرتبط بقرينة الحكمة أصلا ، وهي أيضا لا تدخل في تكوينه وتحديد الصورة الذهنيّة أو الإرادة الاستعماليّة.

وعرفنا أنّ أداة العموم موضوعة لغة للدلالة على العموم والاستيعاب فهي ترتبط بالمدلول التصوّري ، ولذلك فهي تحدّد الصورة الذهنيّة للّفظ.

فإذا قيل بأنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري للأداة الدالّ على العموم والاستيعاب مرتبط بالمدلول التصديقي للمدخول ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المراد ، وهذا يلزم منه أن يكون المدلول التصوّري للأداة مرتبطا بالمدلول التصديقي للمدخول. وهذا واضح البطلان لأحد أمرين :

لأنّ المدلول التصوّري لكلّ جزء من الكلام إنّما يرتبط بما يساويه من مدلول الأجزاء الأخرى أي بمدلولاتها التصوّريّة.

الأمر الأوّل : أنّ الكلام الواحد كقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) يرتبط المدلول التصوّري لكلّ جزء من أجزائه بالمدلول التصوّري للجزء الآخر ، بمعنى أنّ المدلولات التصوّريّة

ص: 501

لأجزاء الجملة لا بدّ أن تكون مرتبطة فيما بينها. ففي المثال المذكور يكون المدلول التصوّري لوجوب الإكرام مرتبطا بالمدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) الدالّة تصوّرا ووضعا على العموم والاستيعاب ، وهي بدورها مرتبطة بالمدلول التصوّري لكلمة ( عالم ) الدالّة تصوّرا على ذات الماهيّة والطبيعة.

وعندئذ يكون في الذهن مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ، وهي وجوب الإكرام الشامل والمستوعب لكلّ أفراد ذات الماهيّة وطبيعة العالم.

فلو قلنا : إنّ الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) في المثال المذكور مرتبطا بالمدلول التصديقي والمراد الجدّي لكلمة ( عالم ) ، وهذا معناه التفكيك بين المدلولات التصوريّة لأجزاء الكلام الواحد ، ويلزم منه ألاّ يكون في الذهن صورة مترابطة فيما بينها قصد المتكلّم إحضارها وإخطارها في ذهنه وذهن السامع. وهذا واضح البطلان ؛ لأنّه يلغي المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي للكلام.

وبتعبير آخر : أنّ المدلول التصوّري للأداة ليس مرتبطا بالمدلول التصوّري للمدخول بناء على هذا الغرض ؛ لأنّ المدلول التصوّري للمدخول غير معيّن الآن وإنّما يتعيّن في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي ؛ لتوقّفه على قرينة الحكمة ، فيلزم أيضا أن يكون المدلول التصوّري للأداة غير معيّن أيضا ، وهذا معناه أنّه تصوّرا لا يوجد معنى معيّن قصد المتكلّم إحضاره وإخطاره. وهذا بديهي البطلان ؛ لوضوح أنّ المتكلّم يستعمل اللفظ للدلالة على المعنى الموضوع له ويستعمله فيه كذلك ؛ لشهادة الوجدان بذلك.

فكان هذا الاحتمال مخالفا للوجدان العرفي واللغوي من كون الكلام الواحد مترابط الأجزاء تصوّرا واستعمالا ، ويكون كلّ مدلول من أجزائه تصوّرا واستعمالا مرتبطا بالمدلول التصوّري والاستعمالي للجزء الآخر ، وبعد ذلك يتحدّد المراد الجدّي من الكلام.

ولا شكّ في أنّ للأداة مدلولا تصوّريّا محفوظا حتّى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي نهائيّا ، كما في حالات الهزل ، فكيف يناط مدلولها الوضعي بالمدلول التصديقي؟!

ص: 502

الأمر الثاني : أنّه بناء على الفرض المذكور من كون الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول يلزم دائما أن يكون معنى الأداة متوقّفا على المدلول التصديقي والمراد الجدّي للمدخول.

فإذا لم يكن للمدخول مدلول تصديقي كان لازمه أنّه لا يوجد للأداة معنى أصلا.

وهذا واضح البطلان ، بدليل أنّه إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) وكان القائل هازلا أو مكرها أو في حالة تقيّة وأمثال ذلك كان المدلول التصديقي والمراد الجدّي للكلام منتفيا.

فبناء على الوجه المذكور يلزم ألاّ يكون لأداة العموم أي معنى أصلا ، مع أنّنا نحسّ وجدانا أنّ لهذا الكلام مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ومحفوظة حتّى مع عدم وجود الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ السامع لهذه الجملة يتصوّر المعنى الذي تدلّ عليه هذه الجملة تصوّرا ويخطر في ذهنه ( وجوب الإكرام لكلّ أفراد العالم ) ، غاية الأمر أنّه ليس مرادا جدّا للمتكلّم ؛ لعدم جريان قرينة الحكمة في المقام ؛ إذ لا تجري قرينة الحكمة مع العلم بعدم كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده الجدّي كما في الهزل والتقيّة.

فهذا الوجه مخالف للوجدان القاضي بأنّ الصورة الذهنيّة محفوظة للكلام حتّى مع عدم إرادته جدّا ؛ لأنّه بناء على هذا الفرض يلزم عدم انحفاظ الصورة الذهنيّة للأداة ؛ لأنّها مرتبطة بالمراد الجدّي والمدلول التصديقي وهو منتف في الحالات المذكورة فيلزم انتفاؤها أيضا ، وهو بديهي البطلان كما تبيّن.

وبهذا يتّضح أنّ الوجه الثاني الذي استظهره صاحب ( الكفاية ) هو الصحيح ، وهو كون الأداة موضوعة لما يصلح أن ينطبق عليه المدخول.

ص: 503

ص: 504

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد

ص: 505

ص: 506

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد

يلاحظ أنّ كلمة ( كلّ ) مثلا ترد على النكرة فتدلّ على العموم والاستيعاب لأفراد هذه النكرة. وترد على المعرفة فتدلّ على العموم والاستيعاب أيضا ، لكنّه استيعاب لأجزاء مدلول تلك المعرفة لا لأفرادها.

ومن هنا اختلف قولنا : ( اقرأ كل كتاب ) عن قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ).

العموم الأجزائي هو الاستيعاب والشمول لكلّ جزء من المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على المعرفة من قبيل ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ جزء من أجزاء الكتاب.

وأمّا العموم الأفرادي فهو الاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد من أفراد المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على النكرات من قبيل ( اقرأ كلّ كتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ فرد من أفراد الكتاب.

وهذا شيء نحسّ به وجدانا وهو موافق لقول أهل اللغة العربيّة أيضا. ولذلك فلا شكّ في وجود صورتين ذهنيّتين من الاستيعاب تدلّ عليهما كلمة ( كلّ ) ونحوها. وهاتان الصورتان مختلفتان فيما بينهما ، فإنّ الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ الكتاب ) تفيد أنّ هناك حكما واحدا على موضوع واحد ، فيكون له امتثال واحد وعصيان واحد أيضا ، بحيث إنّ الامتثال يتحقّق بقراءة كلّ أجزاء الكتاب بينما يتحقّق العصيان بترك جزء منه ، فالعموم الأجزائي كالعموم المجموعي من هذه الناحية ، بحيث يكون المجموع موضوعا واحدا لحكم واحد ، فلا تكثّر ولا شموليّة في الحكم والموضوع.

بينما الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ كتاب ) تفيد أنّ هناك أحكاما متعدّدة متكثّرة بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولذلك فهناك امتثالات

ص: 507

متعدّدة ، وهناك أيضا مخالفات عديدة بترك كلّ فرد فرد من هذه الأفراد ؛ لأنّ كلّ فرد موضوع مستقلّ لحكم مستقلّ عن الآخر.

وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي : هل أنّ لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب؟ وإلا كيف فهم منها في الحالة الأولى استيعاب الأفراد وفي الحالة الثانية استيعاب الأجزاء؟!

والنقطة الجديرة بالبحث هنا هي : هل أنّ هذا الاختلاف في المعنى والصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( كلّ ) عند دخولها على المعرفة تارة وعلى النكرة أخرى ، مردّه الى وجود وضعين مستقلّين في اللغة العربيّة لكلمة ( كلّ ) ، بحيث إنّ الواضع وضعها تارة لاستيعاب الأجزاء إذا دخلت على المعرفة ، ووضعها أخرى لاستيعاب الأفراد إذا دخلت على النكرة؟ أو مردّ ذلك إلى شيء آخر مع الحفاظ على كونها موضوعة لغة لمعنى واحد ، وهو الاستيعاب والشمول لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، غاية الأمر أنّ المدخول إذا كان معرّفا كان يصلح للانطباق على أجزائه فقط دون أجزاء غيره لنكتة التعيين والتشخّص في المعرفة ، وإذا كان متكثّرا كان صالحا للانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق لنكتة الشيوع والانتشار في النكرة؟

وإلا فكيف حصل هذا الاختلاف في كلمة ( كلّ ) إذا ما دام الوضع فيها واحدا ولا توجد قرينة على ذلك؟!

وقد أجاب المحقّق العراقي رحمه اللّه (1) على هذا السؤال بأنّ ( كلّ ) تدلّ على استيعاب مدخولها للأفراد ، ولكنّ اتجاه الاستيعاب نحو الأجزاء في حالة كون المدخول معرّفا ب- ( اللام ) ، من أجل أنّ الأصل في ب- ( اللام ) أن يكون للعهد ، والعهد يعني تشخيص الكتاب في المثال المتقدّم ، ومع التشخيص لا يمكن الاستيعاب للأفراد ؛ فيكون هذا قرينة عامّة على اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء كلّما كان المدخول معرّفا ب- ( اللام ).

أجاب المحقّق العراقي على السؤال المذكور : بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على استيعاب الأفراد كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) فإنّها تدلّ على استيعاب تمام الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها ؛ لأنّ العموم معناه الشمول والاستيعاب

ص: 508


1- مقالات الأصول 1 : 433.

لكلّ فرد من أفراد المدخول من حيث إنّ العموم يري الأفراد تصوّرا ، فالحكم منصبّ على الأفراد جميعا بنحو يكون كلّ فرد موضوعا مستقلاّ للحكم ، ولهذا كان الأصل في العموم هو الاستغراق الذي معناه التكثّر والتعدّد في الحكم بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بقرينة وعناية إضافيّة.

وعلى هذا الأساس كانت دلالة ( كلّ ) على العموم الأجزائي تحتاج إلى قرينة وعناية زائدة ؛ لأنّ استيعاب الأجزاء معناه العموم المجموعي بحيث تكون كلّ الأجزاء موضوعا واحدا ينصبّ عليها حكم واحد ، فلا تعدّد ولا تكثّر في الحكم ، وهذا على خلاف الأصل الأوّلي من العموم الذي يعني الاستيعاب والشمول وتعدّد الحكم وتكثّره.

ففي قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) كانت العناية الزائدة التي من أجلها اتّجهت كلمة ( كلّ ) نحو العموم الأجزائي على خلاف أصلها ، هي ( الألف ) و ( اللام ) ، حيث إنّ ( الألف ) و ( اللام ) دالّة على العهد ، والعهد معناه التعيين والتشخيص وهو معنى الوحدة والجزئيّة.

فإذا دخلت أداة العموم ( كلّ ) على المعرّف ب- ( اللام ) الدالّة على التعيين والوحدة لم تكن دالّة على استيعاب تمام الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ الوحدة تتنافى مع التعدّد والتكثّر ، ولذلك تكون دالّة على أجزاء هذا الشيء الواحد الذي يتكوّن منها ، فكان العموم هنا أجزائيّا على أساس هذه القرينة العامّة.

ومن هنا أمكننا القول جوابا على السؤال المطروح بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على العموم الأفرادي ، وتخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأجزائي بقرينة عامّة ، هي وجود ( اللام ) الدالّة على العهد ، والذي معناه التعيين والتشخيص والوحدة والذي يتنافى مع التكثّر والتعدّد (1).

ص: 509


1- والصحيح : أنّه يمكن أن يفرض الأصل بالعكس أيضا ، بأن يقال : إنّ الأصل في أداة العموم أن تكون موضوعة لاستيعاب الأجزاء كما في ( اقرأ كلّ الكتاب ). ويخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأفرادي لقرينة زائدة ، وهي التنوين الدالّ على الشيوع والانتشار كما في ( اقرأ كلّ كتاب ) فإنّ التنوين يدل على الواحد الشائع المنتشر وهو يتناسب مع التعدّد والتكثّر. مضافا إلى أنّ أداة العموم تفيد توحيد المتكثّرات في مفهوم وحداني ، ولذلك تفيد الدلالة على كلّ أجزاء هذا الأمر الوحداني المتضمّن لهذه المتكثّرات ... إلا أنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ العموم الأجزائي والعموم الأفرادي كلّ منهما يحتاج إلى قرينة زائدة ؛ لأنّ أداة العموم موضوعة للاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول. وحينئذ إن كان المدخول صالحا للانطباق على الأفراد كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأفراد كما في ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ المدخول له قابليّة وصلاحيّة لأن ينطبق على كلّ فرد من أفراد العالم. وإن كان المدخول صالحا للانطباق على الأجزاء فقط كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأجزاء كما في قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فإنّ الكتاب صالح للانطباق على أجزائه فقط ولا صلاحيّة له للانطباق على الأفراد بسبب وجود ( اللام ) الدالّة على العهد والتعيين المتنافي مع الأفراد ؛ لأنّها تعني الكثرة والتعدّد. ومن هنا صحّ القول جوابا على السؤال المذكور بأنّ أداة العموم ( كلّ ) موضوعه لغة لمعنى واحد وهو الاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، وأمّا العموم الأجزائي والعموم الأفرادي فكلّ منهما كان لأجل قرينة تدلّ عليه ، وليس أحدهما موضوعا للأداة دون الآخر.

ص: 510

دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم

اشارة

ص: 511

ص: 512

دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم

قد عدّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) من أدوات العموم ، ولا بدّ من تحقيق كيفيّة دلالة ذلك على العموم ثبوتا أوّلا ، ثمّ تفصيل الكلام في ذلك إثباتا.

ذكر من أدوات العموم الجمع المعرّف ب- ( اللام ) كما في قولنا : ( أكرم العلماء ) حيث يقال : إنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع من أدوات العموم ، فهي تدلّ على العموم والاستيعاب بنحو المعنى الحرفي أي على النسبة الاستيعابيّة.

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مقامين :

الأوّل : يبحث عن كيفيّة دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم ، وأنّه كيف يتمّ تصوير دلالته على العموم ثبوتا ليتعقّل ذلك؟

الثاني : يبحث إثباتا حول هذه الدلالة بعد فرض وجود تصوير ثبوتي ممكن لها ، فيبحث في أنّ هذه الدلالة الثبوتيّة على العموم ما هو الدليل عليها إثباتا ، وما هو الدالّ عليها من الألفاظ الموجودة في الكلام؟

أمّا الأمر الأوّل فهناك تصويرات لهذه الدلالة :

منها أن يقال : إنّ الجمع المعرّف ب- ( اللام ) يشتمل على ثلاثة دوال :

أمّا الأمر الثبوتي فيمكن تصوير دلالة الجمع المعرّف ب- ( اللام ) على العموم بعدّة تصويرات ، منها ما هو المختار عندنا من أنّ الجمع المعرف ب- ( اللام ) ( العلماء ) يشتمل على ثلاثة دوالّ ، لكلّ منها مدلول خاصّ ، وهذه المداليل الثلاثة معا تشكّل صورة ذهنيّة تدلّ على العموم والاستيعاب وتوضيح ذلك :

أحدها : مادّة الجمع التي تدلّ في كلمة ( العلماء ) على طبيعي العالم.

الدالّ الأوّل : هو مادّة الجمع فإنّ الجمع في قولنا : ( العلماء ) المادّة التي يدلّ عليها هي طبيعي العالم أي ذات ماهيّة العالم ، وهذا المعنى الذي تدلّ عليه المادّة مفهوم اسمي.

ص: 513

والآخر : هيئة الجمع التي تدلّ على مرتبة من العدد لا تقلّ عن ثلاثة من أفراد تلك المادّة.

الدالّ الثاني : هو هيئة الجمع ، فإنّ الهيئة التي صيغت فيها المادّة تسمّى بهيئة الجمع ، وهذه الهيئة تدلّ على مرتبة من الجمع لا تقلّ عن ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة مع إمكان دلالتها على بقيّة المراتب الأخرى أيضا فهي لا بشرط من جهة الزيادة.

وهذا المفهوم الذي تدلّ عليه الهيئة مفهوم اسمي ، وهو التعدّد من أفراد المادّة.

والثالث : ( اللام ) ، وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام أفراد المادّة.

الدالّ الثالث : هو ( اللام ) الداخلة على الجمع ، وهذه ( اللام ) يفرض كونها دالّة على العموم والاستيعاب بأحد النحوين الآتيين في البحث الإثباتي ، وتكون ( اللام ) دالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّها حرف يدلّ على النسبة القائمة بين طرفين فعلا.

ويكون الاستيعاب مدلولا ل- ( اللام ) بما هو معنى حرفي ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعب وهو مدلول هيئة الجمع والمستوعب وهو مدلول مادّة الجمع.

والنتيجة من هذه المداليل الثلاثة أنّ ( اللام ) بما أنّها معنى حرفي فلا بدّ أن تكون متقوّمة فعلا بطرفيها ، ولا بدّ أن يكون الطرفان من المعاني الاسميّة التي يمكن تصوّرها مستقلّة عن الجملة ، وهنا تكون ( اللام ) رابطة بين المدلول في هيئة الجمع وهو التعدّد وبين المدلول في مادّة الجمع وهو الطبيعة والماهيّة.

وحينئذ تكون ( اللام ) دالّة على نسبة قائمة بين المفهومين المذكورين ، وهذه النسبة هي النسبة الاستيعابيّة بين المستوعب وهو مدلول الهيئة وبين المستوعب وهو مدلول المادّة. فتكون لها دلالة على استيعابيّة بنحو المعنى الحرفي لجميع أفراد هذه الطبيعة.

وأمّا الأمر الثاني : فإثبات اقتضاء ( اللام ) الداخلة على الجمع للعموم يتوقّف على إحدى دعويين :

إمّا أن يدّعى وضعها للعموم ابتداء ، وحيث إنّ ( اللام ) الداخلة على المفرد لا تدلّ على العموم ، فلا بدّ أن يكون المدّعى وضع ( اللام ) الداخلة على الجمع بالخصوص لذلك.

وأمّا البحث الإثباتي فلكي تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد العموم لا بدّ من وجود دلالة فيها على العموم ، وهذه الدلالة يمكن إثباتها بإحدى دعويين :

ص: 514

الدعوى الأولى : أن تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع موضوعة لغة لإفادة العموم والاستيعاب ، بخلاف ( اللام ) الداخلة على المفرد فإنّها لا تدلّ على العموم ، وهذا يفترض كون ( اللام ) مشتركا لفظيّا لئلاّ يلزم المجازيّة في البين ، فتكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضعين :

الأوّل : ( اللام ) الداخلة على المفرد المفيدة للعهد والتعيين أو للجنس كقولنا : ( قرأت الكتاب ) و ( أكرم العالم ).

الثاني : ( اللام ) الداخلة على الجمع المفيدة للعموم والاستيعاب كقولنا : ( أكرم العلماء ).

فإذا ثبت ذلك كان العموم المستفاد من ( اللام ) الداخلة على الجمع بالوضع فلا يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة ، بل يتمسّك بأصالة الحقيقة في الوضع لإثبات الوضع.

وإمّا أن يدّعى أنّها تدلّ على معنى واحد في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعيّن في المدخول ، على ما تقدّم في معنى ( اللام ) الداخلة على اسم الجنس في الحلقة السابقة (1).

الدعوى الثانية : أن تكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضع واحد ومعنى فارد سواء كانت داخلة على المفرد أو على الجمع ، وهذا المعنى هو التعيين في المدخول.

وعليه فلا يفترق قولنا : ( أكرم العالم ) عن قولنا : ( أكرم العلماء ) في كون ( اللام ) الداخلة على المفرد والجمع مفيدة للتعيين في المدخول ؛ لأنّ الأصل في ( اللام ) أن تدلّ على العهد وهو معناه التشخّص والتعيّن في المدخول.

فتكون الصورة الذهنيّة المفادة من المدخول معهودة ومشخّصة ومعيّنة ، سواء بالعهد الذكري أو الحضوري أو بالاستئناس الخاصّ أو العامّ في الذهن. غاية الأمر أنّ التعيّن يختلف معناه من جهة المدخول لا من جهة ( اللام ) وتوضيحه :

فإذا كان مدخولها اسم الجنس كفى في التعيّن المدلول عليه ب- ( اللام ) تعيّن الجنس الذي هو نحو تعيّن ذهني للطبيعة ، كما تقدّم (2) في محلّه.

فإذا دخلت ( اللام ) على اسم الجنس كقولنا : ( أكرم العالم ) كانت مفيدة للتعيّن

ص: 515


1- وفي بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.
2- الحلقة الثانية ، في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

والتشخص للطبيعة والجنس والماهيّة ، ومن المعلوم أن الماهيّة والطبيعة متعيّنة ومتشخّصة ومتميّزة عن غيرها من الماهيّات والطبائع والأجناس بما هي صورة ذهنيّة ومفهوم.

فإنّ طبيعة ( العالم ) في المثال مشخّصة ومتعيّنة ذهنا ومفهوما عن غيرها من الصور الذهنيّة ؛ لأنّ مفهوم العالم يختلف عن مفهوم العادل والجاهل والحيوان ونحو ذلك فإذا يكفي في حصول التعيّن للجنس والطبيعة أن تكون متعيّنة ذهنا ومفهوما.

وبعد تعيّنها كذلك يستفاد الشموليّة والاستيعاب بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ، بحيث يثبت أنّ الطبيعة لم يؤخذ معها قيد ، وبالتالي فهي تنطبق على كلّ فرد يتضمّنها ويحفظ المفهوم فيها ، وهو معنى الشمول والعموم لكلّ الأفراد.

فالتعيّن الذهني للطبيعة بما هي كمفهوم لا يستفاد منها العموم والشمول ؛ لأنّ الطبيعة كذلك تصدق على فرد واحد من أفرادها ، فلكي يثبت الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد لا بدّ من توسّط قرينة الحكمة.

وإذا كان مدخولها الجمع فلا بدّ من فرض التعيّن في الجمع ، ولا يكفي التعيّن الذهني للطبيعة المدلولة لمادّة الجمع.

وإذا دخلت ( اللام ) على الجمع كقولنا : ( أكرم العلماء ) كانت مفيدة للتعيّن أيضا ، إلا أنّ هذا التعيّن ليس للماهيّة والطبيعة وإنّما التعيّن في الجمع.

والوجه في ذلك هو : أنّ مدخول ( اللام ) هنا هو الجمع ، والمفروض أنّ ( اللام ) موضوعة لغة لتعيّن المدخول ، فإذا لا بدّ من فرض التعيّن للجمع ؛ لأنّه المدخول.

وأمّا تعيّن الماهيّة والطبيعة المدلول عليها بالمادّة من قبيل ( العالم ) في مثالنا ، فهذا التعيّن في الماهيّة لا يكفي ولا يغني عن التعيّن في الجمع ؛ وذلك للمنافاة بينهما ، فإن التعيّن في الماهيّة تقدّم أنّه يكفي فيه التشخّص والتعيّن الذهني وهو يتحقّق بالفرد الأوّل منه ؛ لأنّ الماهيّة ذاتها توجد بفرد من أفرادها ، بينما التعيّن في الجمع لا يكفي فيه أقلّ من ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ مراتب الجمع هي الثلاثة ، ولذلك لا يكفي في تعيّن المدخول الذي هو الجمع أن يكون هناك تعيّن للماهيّة والطبيعة.

وحينئذ فلا بدّ أن نفرض التعيّن في مرتبة من مراتب الجمع يتحقّق فيها التشخّص والتميّز والتعيّن. وعليه ، فلا بدّ من التفتيش عن تلك المرتبة من الجمع التي يتمّ فيها التعيّن والتميّز عن غيرها ، ولذلك نقول :

ص: 516

وتعيّن الجمع بما هو جمع إنّما يكون بتحدّد الأفراد الداخلة فيه ، وهذا التحدّد لا يحصل إلا مع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع المساوقة للعموم ؛ لأنّ أية مرتبة أخرى لا يتميّز فيها - من ناحية اللفظ - الفرد الداخل عن الخارج.

التعيّن المقصود من الجمع هو تحديد الأفراد الداخلة في الجمع عن الأفراد الخارجة ، فقولنا : ( أكرم العلماء ) تدلّ ( اللام ) على التعيّن في الجمع ، وهذا التعيّن في العلماء لا يتمّ إلا إذا حدّدت الأفراد الداخلة فيه من الأفراد الخارجة عنه.

وليس المقصود من التعيّن في الجمع تحديد مرتبة وعدد معيّن من الجمع كما قال صاحب ( الكفاية ) : ليقال : إنّ كلّ مرتبة من مراتب الجمع متعيّنة بنفسها كصورة ذهنيّة ومفهوم ، حيث إنّ الثلاثة مرتبة من الجمع وهكذا في الأربعة والخمسة إلى آخره. وكلّ واحدة من هذه المراتب لها تعيّن في نفسها ؛ لأنّها صورة ومفهوم يختلف عن الصورة والمفهوم في المرتبة الأخرى ، فيكون التعيّن في الجمع على هذا هو المرتبة الدنيا من الجمع ؛ لأنّها المرتبة التي لا شكّ في انطباق الجمع عليها.

وإنّما المقصود من التعيّن ما ذكرناه من تحديد الأفراد الداخلة وتمييزها عن الأفراد الخارجيّة. وهذا لا يكفي فيه التحدّد في المرتبة ؛ لأنّ كلّ مرتبة وإن كانت متعيّنة ومحدّدة في نفسها إلا أنّه لا يعلم الأفراد الداخلة فيها ؛ لأنّ كلّ مرتبة كالثلاثة والأربعة صالحة للانطباق على هذه الثلاثة وعلى تلك ، وهكذا.

وعليه ، فلا يحصل التعيّن والتحدّد في الجمع في عالم الصدق الخارجي وإن كان متحقّقا في عالم الذهن والمفهوم والصورة ، وحيث إنّ المطلوب من المفهوم أن يكون حاكيا عن الخارج فلا بدّ من فرض التعيّن والتحديد في الخارج لا في الذهن فقط.

والتعيّن للأفراد في الخارج لا يعلم ولا يتحقّق إلا إذا أريد من الجمع المرتبة العليا والأخيرة منه ، وهي المرتبة التي تكون فيها كلّ الأفراد داخلة في المدخول والطبيعة ؛ لأنّه إذا أريد هذه المرتبة من الجمع كان معناه أنّ كلّ فرد فرد من أفراد المدخول داخلا في هذا الجمع ومرادا في الصورة الذهنيّة ، وهذا يساوق العموم ؛ لأنّ العموم معناه الاستيعاب لكلّ الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها.

وأمّا المراتب الأخرى من الجمع كالثلاثة والأربعة وغيرهما فلا تفيد التعيّن

ص: 517

والتحدّد ؛ لأنّه لا يعلم فيها الفرد الداخل من الفرد الخارج. فيبقى التردّد والحيرة في كلّ هذه المراتب وهذا يتنافى مع دلالة اللام على التشخّص والتعيّن.

وبهذا ظهر أنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد التعيّن والتشخص ، وهذا لا يحصل إلا في المرتبة الأخيرة من الجمع ، فيكون المراد من ( أكرم العلماء ) وجوب إكرام كلّ الأفراد التي ينطبق عليها هذا الجمع ، وهذا يعني العموم ؛ لأنّ لازم تعيّن المرتبة العليا هو الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد ، فالاستيعاب هنا لم يكن مدلولا ( اللام ) ، بل كان لازما لمدلولها (1).

ص: 518


1- نعم ، نحتاج هنا الى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ؛ لأنّ كون التعيّن لا يحصل إلا بالمرتبة العليا. غاية ما يفيد كون الأفراد التي ينطبق عليها المدخول داخلة ، وأمّا أنّ هذا المدخول وهذه الأفراد هل هي أفراد الطبيعة المطلقة أو أنّها أفراد الطبيعة المقيّدة؟ فهذا لا يمكن إثباته من الكلام واللفظ أو ( اللام ) أو المرتبة العليا من الجمع ، بل لا بدّ من إثباته بالإطلاق وقرينة الحكمة.

النكرة في سياق النهي أو النفي

ص: 519

ص: 520

النكرة في سياق النهي أو النفي

ذكر بعض (1) : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات العموم.

ذكر البعض : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) ، أو في سياق النفي كقولنا : ( لم أكرم فاسقا ) ، يجعلها دالّة على العموم. فيكون الدالّ على العموم عندهم هو السياق لا النكرة نفسها ؛ لأنّه تقدّم في مباحث اسم الجنس أنّ النكرة تدلّ على الوحدة بسبب التنكير. وعليه ، لا يمكن استفادة العموم والشمول من النكرة ؛ لأنّ العموم يتنافى مع الوحدة المستفادة من تنوين النكرة. ولذلك قال السيّد الشهيد :

وأكبر الظنّ أنّ الباعث على هذه الدعوى أنّ النكرة - كما تقدّم في حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة (2) - يمتنع إثبات الإطلاق الشمولي لها بقرينة الحكمة ؛ لأنّ مفهومها يأبى عن ذلك.

وعليه ، فيمكن أن يكون السبب الداعي للقول بأنّ السياق هو الدالّ على العموم لا النكرة ، هو أنّ النكرة نفسها لا تقبل الإطلاق الشمولي ، كقولنا : ( أكرم عالما ) فإنّ التنوين دالّ على الوحدة والوحدة لا تنسجم ولا تتناسب مع الشمول والاستيعاب لكلّ فرد فرد من الأفراد ؛ لأنّ الوحدة في الطبيعة يدلّ على فرد واحد من الأفراد على نحو البدل.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن حالات اسم الجنس ، وهناك ذكرنا أنّ النكرة المطعمة بحيثيّة التنكير يمتنع الإطلاق الشمولي فيها ، فلا يستفاد منها العموم

ص: 521


1- كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : 254.
2- في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

والاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد ، بل تفيد فردا واحدا شائعا من بين الأفراد ، وهذا يتناسب مع الإطلاق البدلي.

والوجه في إباء النكرة عن الإطلاق الشمولي أنّ التنكير يعني تقييد الماهيّة والطبيعة بالوحدة ، ومع التقييد لا تجري قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الماهيّة مجرّدة عن القيود وهو خلف المفروض ؛ لأنّها مقيّدة بقيد الوحدة المدلول عليه بالتنوين.

بينما نجد أنّنا نستفيد الشموليّة في حالات وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي ، فلا بدّ أن يكون الدالّ على هذه الشموليّة شيئا غير إطلاق النكرة نفسها ، فمن هنا يدّعى أنّ السياق - أي وقوع النكرة متعلّقا للنهي أو النفي - من أدوات العموم ؛ ليكون هو الدالّ على هذه الشموليّة.

وأمّا في حالات وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي نجد أنّنا نستفيد الشموليّة والعموم. فلأجل التوفيق بين ما يحسّ به الوجدان من إفادة الشموليّة والعموم في النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي ، وبين ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّ النكرة لا يستفاد منها الشموليّة لأنّها منوّنة بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة ، يقال - جمعا بين هذين الأمرين - : إنّ السياق نفسه هو الدالّ على هذه الشموليّة والعموم. وبناء عليه يدّعى أنّ السياق من أدوات العموم فيكون دالاّ على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّ السياق هيئة تركيبيّة ، وقد تقدّم أنّ الهيئات كلّها موضوعة للنسب المحتاجة إلى طرفين دائما ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بطرفيها ، ويكون السياق دالاّ على النسبة الاستيعابيّة. ولذلك يفترض هنا وجود ثلاثة دوالّ أحدها دالّ على النسبة ، والآخران دالاّن على المفهومين المستوعب والمستوعب.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذه الشموليّة - سواء كانت على نحو شموليّة العامّ أو على نحو شموليّة المطلق - بحاجة إلى افتراض مفهوم اسمي قابل للاستيعاب والشمول لأفراده بصورة عرضيّة ؛ لكي يدلّ السياق حينئذ على استيعابه لأفراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي كما تقدّم ، فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدلّ السياق على عمومه وشموله؟

والتحقيق : أنّ هذه الدعوى غير صحيحة ؛ وذلك لأنّنا عرفنا أنّ الدلالة على الاستيعاب والعموم تحتاج إلى دالّين على الأقلّ كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ).

ص: 522

فهناك دالاّن كلمة ( كلّ ) الدالّة على الاستيعاب وكلمة ( عالم ) الدالّة على الطبيعة التي استوعبت أفرادها. وهكذا الحال بالنسبة للإطلاق الشمولي فتحتاج إلى دالّين أيضا كقولنا : ( أكرم العالم ) ، فإنّ كلمة ( العالم ) دالة على الطبيعة والماهيّة وقرينة الحكمة تدلّ على الشمول لكلّ أفراد هذه الطبيعة.

وهنا نحتاج إلى دالّين على هذه الشموليّة ولا بدّ أن يكونا معا مفهومين اسميّين ؛ لأنّ الحروف تحتاج إلى طرفين ومفهومين اسميّين تربط بينهما. وهنا السياق المفروض دلالته على العموم من الهيئات التركيبيّة والهيئات كلّها معان حرفيّة موضوعة للنسب على اختلافها ، والنسبة متقوّمة بطرفيها كما تقدّم.

وحينئذ نسأل : ما هو المفهوم الذي استوعبت كلّ أفراده؟

والجواب : أنّه لا يوجد في قولنا : ( لا تكرم فاسقا ) أو ( ما أكرمت فاسقا ) إلا كلمة ( فاسق ).

وعندئذ يشكل عليهم بأنّ كلمة الفاسق الواردة في السياق منوّنة بتنوين التنكير وهو يفيد الإطلاق البدلي ؛ لأنّ النكرة المنوّنة تفيد الوحدة وهي تتناسب مع الإطلاق البدلي فيكون هناك شموليّة بدليّة بين الأفراد. بينما المطلوب هنا أن يكون هناك مفهوم يدلّ على الشموليّة العرضيّة بين الأفراد بحيث تكون الأفراد كلّها في مرتبة واحدة وينطبق عليها المفهوم كلّها معا دون تفاوت بينها. فكيف حصل الاستيعاب والشمول إذا؟!

والحاصل : أنّ المفهوم الاسمي الموجود هو النكرة المنوّنة وهي دالّة على الشيوع والشمول البدلي العرضي ، والمطلوب من المفهوم المستوعب أن يكون شاملا لأفراده عرضيّا لا بدليّا.

وعليه ، فمن أين يأتي هذا المفهوم الاسمي الذي ينطبق ويشمل كلّ أفراده بعرض واحد لكي يكون هناك استيعاب وشمول سواء بنحو العموم أو الإطلاق؟

ومن هنا نحتاج إذا إلى تفسير للشموليّة التي نفهمها من النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليين :

والصحيح أنّ النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي تدلّ على الشمول إلا أنّ هذه الشموليّة ليست بنحو العموم لما تقدّم آنفا. وعليه ، فنحتاج إلى تفسير آخر غير العموم

ص: 523

لتفسير هذه الشموليّة المستفادة من السياق ، وهذا التفسير يمكن أن يكون بأحد وجهين :

الأوّل : أن يدّعى كون السياق قرينة على إخراج الكلمة عن كونها نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح للإطلاق الشمولي. وأمّا الشموليّة فتثبت بإجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون حاجة إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشموليّة والعموم.

الدعوى الأولى : للسيّد الشهيد : وهي أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي يخرجها من كونها منوّنة بتنوين التنكير ، ويفيد أنّها منوّنة بتنوين التمكين. فهناك أربع حالات للنكرة لا تكون فيها منوّنة بتنوين التنكير ، بل منوّنة بتنوين التمكين وهي :

الأولى : النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) فهي بقوّة قولنا : ( لا تكرم الفاسق ).

الثانية : النكرة في سياق النفي كقولنا : ( ما أكرمت فاسقا ) فهو أيضا كقولنا : ( ما أكرمت الفاسق ).

الثالثة : النكرة في سياق الاستفهام كقولنا : ( هل أكرمت فاسقا ) فهي كقولنا : ( هل أكرمت الفاسق ).

الرابعة : النكرة المضافة لنكرة كقولنا : ( أكرم عالم قرية ) فهي كقولنا : ( أكرم عالم القرية ).

ففي هذه الموارد الأربعة تكون النكرة منوّنة بتنوين التمكين ، وهذا يعني أنّها صالحة للانطباق على كلّ فرد من أفرادها ، فيكون السياق هنا قد أكسب النكرة هذه الصلاحيّة لاستيعاب كلّ أفرادها بعد أن أخرجها عن تنوين التنكير المفيد للوحدة والمتنافي مع الاستيعاب والشمول لكلّ الأفراد. فالسياق يثبت أنّ الماهيّة ليست مقيّدة. وعليه ، فتصلح للإطلاق بإجراء قرينة الحكمة فيها.

وحينئذ يبقى علينا إثبات الشموليّة لكلّ الأفراد بعد أن أثبتنا أنّه يوجد في الكلام مفهوم اسمي صالح لأن يستوعب كلّ الأفراد ، وهذا يمكن إثباته بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات أنّها تدلّ على طبيعة ( الفاسق ) في المثال من دون قيد ، فيثبت شمولها وعمومها لكلّ الأفراد.

ص: 524

ولا نحتاج للقول بأنّ السياق نفسه من أدوات العموم ، فإنّ الشموليّة والاستيعاب لكلّ الأفراد لا تتوقّف عليه ، بل يثبتها الإطلاق وقرينة الحكمة. وليس دور السياق إلا إعطاءها الصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد والتي كانت قد فقدتها بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة.

الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (1) رحمه اللّه من أنّ الشموليّة ليست مدلولا لفظيّا ، وإنّما هي بدلالة عقليّة ؛ لأنّ النهي يستدعي إعدام متعلّقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.

الدعوى الثانية : لصاحب ( الكفاية ) حيث قال : إنّ الشموليّة والاستيعاب المستفادين من وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي لا تستفاد من دلالة السياق. وعليه ، فلا يكون هناك دالّ لفظي على الشموليّة والاستيعاب. وإنّما الدالّ على الاستيعاب والشمول في النكرة - بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات كونها دالّة على الطبيعة والماهيّة من دون قيد - يثبت بقرينة عقليّة وهي أنّ إعدام الطبيعة المفاد من النهي وانتفاءها المفاد من النفي لا يمكن تحقّقهما إلا بانعدام تمام الأفراد ؛ لأنّه لو بقي فرد واحد من أفراد الطبيعة لم تكن معدومة ومنتفية. فعلى أساس هذه القرينة العقليّة نستطيع تفسير الشموليّة في هذه النكرة ، ولا نحتاج إلى ادّعاء كون السياق من أدوات العموم ، أو أنّه أخرجها من تنوين التنكير إلى تنوين التمكين.

غير أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن طريقة امتثال النهي وأنّ امتثاله لا يتحقّق إلا بترك جميع أفراد الطبيعة ، ولا تثبت الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم والتحريم بعدد تلك الأفراد ، كما هو واضح.

ويرد عليه : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تثبت لنا كيفيّة امتثال النهي أو كيفيّة تحقّق النفي ، فإنّ العقل يحكم بأنّ النهي المتعلّق بالطبيعة المفيد للزجر عنها لا يتحقّق هذا الزجر والانزجار من المكلّف في عالم الخارج إلا بانعدام كلّ أفراد الطبيعة ؛ لأنّ ارتكاب فرد منها لا يكون زجرا وانزجارا عنها. وكذلك انتفاء الطبيعة لا يكون خارجا إلا بانتفاء كلّ أفرادها ؛ لأنّ وجود وإيجاد فرد من الأفراد يتنافى مع انتفائها لأنّها توجد بفرد واحد من الأفراد.

ص: 525


1- كفاية الأصول : 254.

والحاصل : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن لنا كيفيّة

وطريقة الامتثال للنهي أو للنفي.

وأمّا أنّ الحكم في عالم الجعل هل هو متكثّر ومتعدّد أو هو حكم واحد؟ فهذا لا يمكن إثباته بهذه الدلالة العقليّة. والمطلوب من العموم إثبات أنّ الحكم متعدّد بتعدّد الأفراد في عالم الجعل والتشريع ، بحيث تكون الأفراد موضوعة للأحكام المتعدّدة والمتكثّرة ، على خلاف الإطلاق الشمولي الذي معناه أنّ الحكم واحد وموضوعه واحد أيضا ، ولكنّه بعد الإطلاق وقرينة الحكمة ينحلّ إلى أحكام عديدة في عالم المجعول والامتثال لا في عالم الجعل واللحاظ.

فكان ينبغي لصاحب ( الكفاية ) تعيين الشموليّة بالإطلاق وقرينة الحكمة لا بالدلالة العقليّة.

ص: 526

الفهرس

الإهداء... 5

المقدمة... 7

تمهيد... 11

تعريف علم الأصول... 13

موضوع علم الأصول... 29

الحكم الشرعي وتقسيماته... 43

شمول الحكم للعالم والجاهل... 53

الحكم الواقعي والظاهري... 63

شبهة التضادّ ونقض الغرض... 75

شبهة تنجّز الواقع المشكوك... 93

الأمارات والأصول... 99

التنافي بين الأحكام الظاهريّة... 111

وظيفة الأحكام الظاهريّة... 117

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة... 123

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام... 131

تنسيق البحوث المقبلة... 145

حجّيّة القطع... 149

العلم الإجمالي... 163

حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي... 177

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة... 193

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة... 207

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة... 219

ص: 527

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي... 231

إثبات الأمارة لجواز الإسناد... 249

إبطال طريقيّة الدليل... 257

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة... 265

الدليل الشرعي... 269

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي... 271

الدليل الشرعي اللفظي... 271

المعاني الحرفيّة... 285

هيئات الجمل... 311

الجملة التامّة والجملة الناقصة... 317

الجملة الخبريّة والإنشائيّة... 327

الثمرة... 339

الأمر أو أدوات الطلب... 347

الأوامر الإرشاديّة... 383

النهي أو أدوات الزجر... 397

الفور والتراخي... 401

المرّة والتكرار... 405

الإطلاق واسم الجنس... 409

التقابل بين الإطلاق والتقييد... 427

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة... 441

تنبيهات... 463

أدوات العموم... 483

نحو دلالة أدوات العموم... 493

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد... 505

دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم... 511

النكرة في سياق النهي أو النفي... 519

الفهرس... 527

ص: 528

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.