الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الناشر: المحبين للطباعة والنشر

المطبعة: قلم

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 2007 م

ISBN (ردمك): 964-8991-27-8

المكتبة الإسلامية

الحلقة الثالثة في اسلوبها الثاني

الجزء الثالث

بقلم: باقر الايرواني

ص: 1

اشارة

سرشناسه : ایروانی، باقر، 1328 -

عنوان قراردادی : دروس فی علم الاصول . برگزیده . شرح

عنوان و نام پديدآور : الحلقه الثالثه فی اسلوبهاالثانی/ بقلم باقر الایروانی.

مشخصات نشر : قم: محبین، 14ق. = 20م .= 13 -

مشخصات ظاهری : ج.

شابك : دوره 964-8991-29-4 : ؛ ج.4 964-91029-6-5 :

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری

يادداشت : كتاب حاضر شرح، برگزیده " دروس فی علم الاصول "، محمدباقر صدر می باشد.

يادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 2007م = 1386).

يادداشت : عربی.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : صدر،محمدباقر،1931-1979م . دروس فی علم الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : تعارض ادله

اصول فقه شیعه

ادله و شواهد (فقه)

شناسه افزوده : صدر،محمدباقر،1931-1979م .دروس فی علم الاصول برگزیده

رده بندی كنگره : BP159/8/ص 4د40214 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 1298423

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد :

نقدّم إلى اخواننا الأعزاء طلبة الحوزات العلمية شرح القسم الثاني من الحلقة الثالثة قاصدين به تقديم بعض الخدمة لهم بتذليل جملة من العقبات الثابتة في الكتاب المذكور ، وليبرز بذلك وبشكل متكامل على خط التدريس الحوزوي.

وكلّنا أمل في تحقق الغاية المنشودة. فإن وفقنا لذلك فهو بعنايته عزّ وجلّ وإلاّ ففي بقية الاخوة كامل الأمل في ملئ الفراغ.

باقر الايرواني

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

منهجة أبحاث القسم الثاني من الحلقة الثالثة

تكفّل القسم الثاني من الحلقة الثالثة البحث عن موضوعين هما : -

1 - الاصول العملية المعبّر عنها بالدليل الفقاهتي حيث انّه في القسم الأوّل بحث عن الدليل الاجتهادي بكلا قسميه الشرعي والعقلي. وفي هذا القسم يراد البحث عن الدليل الفقاهتي.

2 - تعارض الأدلة الشرعية. وقد اشير إلى هذا البحث ص 321 تحت عنوان « خاتمة ».

وفي البحث الأوّل - الاصول العملية - نتكلّم في ثلاث نقاط هي : -

1 - البحث عن المقصود من مصطلح الأصل العملي والتفرقة بينه وبين مصطلح الامارة ، والبحث عن تقسيم الأصل العملي إلى الأصل الشرعي والأصل العقلي ، والبحث عن الفرق بين الأصل التنزيلي والأصل المحرز وتمييز هذين عن الأصل الذي لا يكون تنزيليا ولا محرزا ، والبحث عن موارد جريان الاصول.

وهذه الأبحاث الأربعة في هذه النقطة اشير لها في الكتاب تحت عنوان « تمهيد » ، فالبحث في التمهيد اذن يرجع إلى التحدّث عن هذه الأبحاث الأربعة.

ص: 5

2 - البحث عن حالة الشكّ في التكليف مع افتراض عدم وجود حالة سابقة متيقّنة. ويدخل تحت هذه الحالة أصل البراءة وأصل الاحتياط وأصل التخيير ، فإنّه في جميع هذه الاصول الثلاثة يفترض الشكّ في التكليف مع عدم وجود حالة سابقة متيقّنة.

3 - البحث عن حالة الشك في التكليف مع افتراض وجود حالة سابقة التي هي مورد الاستصحاب والبحث عنها بحث عن الاستصحاب.

هذه هي منهجة الأبحاث في الاصول العملية.

ونتكلّم أوّلا عن أبحاث التمهيد الأربعة التي أوّلها بيان الفرق بين مصطلحي الامارة والأصل.

ص: 6

الفارق بين الامارات والاصول

اشارة

ص: 7

ص: 8

خصائص الأصول العملية

اشارة

قوله ص 11 س 1 : عرفنا فيما تقدّم انّ الاصول العملية الخ : تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 32 ان الأحكام الظاهرية على قسمين قسم منها يتمثّل في باب الامارات وقسم آخر يتمثّل في باب الاصول العملية. والحكم الظاهري في باب الاصول العملية مجعول لتنجيز الحكم الواقعي المشكوك أو التعذير منه ، فالأصل العملي لا ينظر إلى الحكم الواقعي ولا يريد تشخيصه وإنّما يشخص الوظيفة العملية اتجاهه ، فأصل البراءة مثلا يقول انّ وجوب صلاة الجمعة ما دام مجهولا فوظيفتك العملية اتجاهه ليست هي الاحتياط بل البراءة ولا يقول انّ صلاة الجمعة حكمها واقعا هو الوجوب أو عدم الوجوب. هذا بالنسبة إلى الحكم الظاهري في باب الاصول العملية.

وأمّا الحكم الظاهري في باب الامارات فليس مجعولا بداعي التنجيز أو التعذير بل هو ناظر إلى الواقع ويريد تشخيص الحكم الواقعي المشكوك غاية الأمر قد يصيبه وقد يخطأه.

وبعد وجود امتياز بين الحكم الظاهري في باب الامارات عنه في باب الاصول العملية نريد التعرّف على الفرق بين حقيقة ذاك الحكم وحقيقة هذا فهل هناك فارق آخر غير المقدار الذي ذكرناه أو لا؟ وفي هذا المجال يمكن تقديم أربعة فروق هي : -

1 - [ الفرق الأول ] ما ذكره الميرزا قدس سره واختاره السيد الخوئي ( دام ظلّه ) (1) من انّ المجعول في

ص: 9


1- تقدّم هذا الفرق في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 33.

باب الامارات هو الطريقية والعلمية وتتميم الكشف (1) ، فحينما يقول الشارع جعلت خبر الثقة حجّة فالمقصود انّي جعلت خبر الثقة طريقا تاما إلى الواقع وجعلته علما بعد ما كان ظنا وجعلت كاشفيّته عن الواقع كاشفية تامة بعد ما كانت ناقصة ، وأمّا في باب الاصول العملية فالمجعول هو الوظيفة العملية أي التنجيز والتعذير.

ثمّ أضاف الميرزا قائلا : انّ جعل الوظيفة العملية في باب الاصول العملية تارة يكون بلسان جعل التنجيز والتعذير واخرى بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع ، كما هو الحال في أصل الحلّ فإنّ قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام » يفهم منه انّ الشيء الذي يشكّ في حلّيته فهو بمنزلة الحلال الواقعي. واصطلح على الأصل في هذه الحالة بالأصل التنزيلي حيث نزّل المشكوك منزلة الواقع.

وهناك حالة ثالثة أشار لها الميرزا وهي أن يكون جعل الوظيفة العملية بلسان تنزيل الاحتمال منزلة اليقين كما هو الحال في الاستصحاب فإنّ المستفاد من دليل « لا تنقض اليقين بالشكّ » في نظره قدس سره تنزيل احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء. ومثل هذا الأصل سماّه بالأصل المحرز حيث انّ احتمال البقاء ما دام قد نزّل منزلة اليقين فالشاكّ في بقاء الحالة السابقة يصير محرزا لبقاء الحالة السابقة.

وعلى هذا فالأصل في نظر الميرزا على ثلاثة أقسام : -

أ - أصل تنزيلي. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه بلسان تنزيل

ص: 10


1- الطريقيّة والعملية وتتميم الكشف ألفاظ مترادفة.

المشكوك منزلة الواقع.

ب - أصل محرز. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه بلسان تنزيل نفس الشكّ منزلة اليقين.

والفرق بين هذا وسابقه انّه في السابق ينزل المشكوك - دون الشكّ - منزلة الواقع دون اليقين بينما في هذا الأصل ينزّل نفس الشكّ - دون المشكوك - منزلة اليقين دون الواقع.

ج - أصل غير تنزيلي ولا محرز. وهو ما يكون جعل الوظيفة العملية فيه لا بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع ولا بلسان تنزيل الشكّ منزلة اليقين بل بلسان جعل التنجيز والتعذير لا أكثر. ومثاله أصل البراءة فإنّ قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » يدلّ على جعل المعذورية ، أي انّ امّتي معذورة من ناحية الحكم الذي لا يعلمونه ، فالمجعول هو الوظيفة العملية بلسان جعل المعذرية.

ثمرة التقسيم

وثمرة هذا التقسيم الثلاثي للأصل العملي تأتي الإشارة لها إنشاء اللّه ص 17 من الحلقة.

التعليق على الفرق الأوّل

ويمكن التعليق على التفرقة الميرزائية بما تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة ص 34 من أنّ ما ذكر ليس هو الفرق الحقيقي بين الأصل والامارة فإنّ كلمة

ص: 11

الأصل والأمارة لم تردا في آية أو رواية لنأخذ بتفسيرهما بأي شكل كان بل هما مصطلح اصولي ، فالأصل مصطلح يراد به كل دليل لا يصلح أن يثبت اللوازم الشرعية (1) ، والامارة مصطلح يراد به كل دليل يصلح لإثبات ذلك ، وما دام الأمر كذلك فلا بدّ من تفسير الأصل والامارة بشكل يوضح لنا نكتة صيرورة الامارة صالحة لاثبات اللوازم غير الشرعية دون الأصل.

والميرزا وإن اعتقد أنّ الفرق الذي تقدّم به يصلح أن يكون وجها لحجّيّة الامارة في إثبات اللوازم غير الشرعية بخلاف الأصل - حيث ذكر في وجه ذلك انّ المجعول في خبر الثقة إذا كان هو العلمية فالثقة متى ما أخبرنا بشيء صرنا وكأنّنا عالمون به ، وإذا صرنا عالمين به ثبتت اللوازم غير الشرعية لأنّ من علم شيئا فقد علم بلوازمه ، فمن علم بحياة ولده فقد علم بنبات لحيته ، وهذا بخلافه في الاصول العملية فإنّه ليس المجعول فيها العلمية حتّى يلزم فيها ثبوت اللوازم - ولكنّه باطل لما مرّ في القسم الأوّل من الحلقة ص 72 من انّ قاعدة من علم بشيء

ص: 12


1- فمثلا إذا كان لك ولد غاب عنك وعمره عشر سنوات ونذرت ان لحيته متى ما نبتت تصدّقت على الفقير بدرهم فإذا مضى على غيبته عشرون سنة ثمّ شككت في بقائه على قيد الحياة وبالتالي شككت في نبات لحيته ففي هذه الحالة لو أخبرك الثقة بعد عشرين سنة ببقائه على قيد الحياة ثبت بإخباره حياة الولد وثبتت بذلك اللوازم غير الشرعية وهي نبات اللحية ومن ثمّ يثبت وجوب التصدّق. هذا كلّه في حالة إخبار الثقة بحياة الولد. وأمّا لو أجريت استصحاب الحياة فلا يثبت بذلك نبات اللحية ومن ثمّ لا يجب التصدّق. اذن الامارة حجّة في إثبات الحياة وفي إثبات نبات اللحية الذي هو لازم غير شرعي _ وإنّما لم يكن نبات اللحية لازما شرعيا لأنّه لا توجد آية ولا رواية تقول إذا بقي الولد حيّا بعد عشرين سنة فلحيته نابتة _ بينما الأصل ليس حجّة في إثبات نبات اللحية.

فقد علم بلوازمه تتمّ في العلم الوجداني دون التعبّدي ، فالعالم حقيقة ووجدانا بحياة الولد يلزم أن يصير عالما باللوازم وأمّا العالم تعبّدا بحياة الولد فلا يلزم أن يصير عالما باللوازم بل التعبّد يقتصر فيه على حدوده ولا يتجاوزها ، فمثلا لو قلت للرجل الشجاع أنت كالأسد فلا يحقّ له افتراسك بحجّة انّك اعتبرته أسدا فإنّ ذلك إنّما يتمّ في الأسد الحقيقي دون من اعتبر أسدا وليس هو بأسد حقيقة ، ونفس هذا يجري في مقامنا أيضا فإنّ العلم بالشيء إنّما يستلزم العلم باللوازم في خصوص العلم الوجداني دون التعبّدي ، ومن الواضح انّ العلم الحاصل في باب الامارة هو علم تعبّدي لا وجداني فإنّ الشارع يعبّدنا ويجعلنا كأنّنا عالمون من دون أن نكون عالمين حقيقة ووجدانا حتّى يلزم من العلم بالشيء العلم باللوازم.

الفرق الثاني

2 - والفرق الثاني بين الأصل والامارة : ان الأصل يفترق عن الامارة في مقام الجعل ففي مقام الجعل والتشريع جعل الأصل حجّة في حالة الشكّ في الحكم الواقعي ، فالشاكّ في الحكم الواقعي هو الذي جعل الأصل في حقّه حجّة بينما حجّية الامارة لم تجعل في حقّ الشاكّ في الحكم الواقعي بل هي منصبّة على ذات المكلّف. وبكلمة اخرى : الشكّ في الحكم الواقعي أخذ موضوعا في حجّية الأصل دون حجية الامارة.

ويمكن مناقشة ذلك بما يلي : -

أ - نفس ما أورد على الفرق الأوّل من أنّ مجرّد أخذ الشكّ في موضوع حجّية الأصل وعدم أخذه في موضوع حجية الامارة لا يوضح لماذا صارت

ص: 13

الامارة حجّة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل حجّة في ذلك.

ب - ان لازم عدم أخذ الشكّ في موضوع حجية الامارة كون الامارة حجّة في حقّ كل مكلّف ولو كان عالما بالحكم الواقعي - إذ المفروض عدم تخصيص حجية الامارة بالشاك - مع انّ من الواضح ان الامارة لا يمكن أن تجعل حجّة في حقّ العالم بالحكم الواقعي إذ بعد انكشاف الواقع لا معنى لجعل خبر الثقة مثلا حجّة كما هو واضح. ومن أجل الفرار من هذا المحذور ذهب البعض إلى أنّ حجية الامارة وإن لم تجعل مقيّدة بالشكّ ولكنّها مجعولة في ظرف الشكّ فالشكّ ظرف لجعل حجّية الامارة وليس قيدا لها ، وهذا كما لو فرض ان زيدا موجود في الدار فان الدار ظرف لوجوده ومكان له وليست قيدا له وإلاّ يلزم صيرورة زيد بعد خروجه من الدار مغايرا له حالة وجوده في الدار لأنّ زيدا المقيد بالدار مغاير لزيد المقيد بعدم الدار ، وهذا بخلاف ما لو كانت الدار ظرفا لوجود زيد فإنّ الشيء لا يتغير بتغير ظرفه.

ويردّه : ان الشكّ لو كان ظرفا لا قيدا فنحن نسأل هل حجّية الامارة ثابتة للمكلّف الشاكّ فقط أو هي ثابتة في حقّ غيره أيضا؟ فإن كانت ثابتة في حقّ الشاكّ فقط فلازمه صيرورة الشكّ قيدا وموضوعا لحجّيّة الامارة وليس ظرفا. وإن كانت الحجّية ثابتة في حقّ غير الشاك أيضا فلازمه صيرورة الامارة حجّة في حقّ العالم بالحكم الواقعي ، أي يلزم الكر على ما فرّ منه فإنّه قد قصد بتحويل الشكّ من كونه موضوعا لحجّية الامارة إلى كونه ظرفا الفرار من محذور شمول حجية الامارة للعالم بالحكم الواقعي وقد لزم العود إليه.

وإن شئت قلت : انّا لا نتعقل أخذ الشكّ في مقام الجعل بشكلين : بشكل

ص: 14

القيدية تارة وبشكل الظرفية اخرى ، فانّ الحجية إن كانت ثابتة في حقّ الشاك فقط فلازمه صيرورة الشكّ قيدا وموضوعا ، وإن لم تكن ثابتة في حقّ الشاك فقط فلازمه ثبوت حجّية الامارة في حق العالم أيضا.

الفرق الثالث

3 - [ الفرق الثالث انّه بحسب عالم الجعل لا فرق بين الأصل والامارة ففي كليهما أخذ الشكّ في الموضوع ] وقبل توضيح الفرق الثالث نذكر مقدّمة حاصلها ان السيد الخوئي ( دام ظلّه ) يرى - كشيخه الميرزا - انّ المجعول في باب الامارة هو الطريقية والعلمية حسبما تقدّم سابقا ، ولكن ما هو المجعول عنده في باب الاستصحاب؟ انّ المجعول في نظره في باب الاستصحاب هو الطريقية والعلمية أيضا (1). وعلى أساس هذا الرأي لا يبقى فرق بين الامارة والاستصحاب في المجعول ، فالمجعول في كليهما شيء واحد وهو الطريقية والعلمية فيصير الاستصحاب واحدا من الامارات كخبر الثقة تماما. أجل يبقى فرق واحد بينهما وهو أنّ دليل حجّية خبر الثقة لم يؤخذ في لسانه وألفاظه الشكّ - فمثلا قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) الذي هو من أحد أدلّة حجّية الخبر لم يذكر فيه لفظ الشكّ وعدم العلم - بخلافه في الاستصحاب فإنّ لسان دليله أخذ فيه الشكّ حيث قيل لا تنقض اليقين بالشكّ ، أي ما دمت شاكا ولا تعلم ببقاء الحالة السابقة فلا تنقض يقينك السابق.

وبعد هذه المقدّمة نقول في بيان الفرق الثالث : انّه بحسب عالم الجعل

ص: 15


1- وستأتي الإشارة إلى ذلك ص 17 من الحلقة.

لا فرق بين الأصل والامارة ففي كليهما أخذ الشكّ في الموضوع ، فالمولى بحسب عالم الجعل صبّ الحجّية في الأصل والامارة على الشاك بيد أنّ الدليل الذي يصل إلينا تارة يكون قد أخذ في لسانه وألفاظه الشكّ فيكون الحكم الظاهري حينذاك أصلا واخرى لم يؤخذ في لسانه وألفاظه الشكّ فيكون الحكم الظاهري امارة.

ويرد عليه : -

أ - نفس ما تقدّم من أنّ مجرّد أخذ الشكّ في لسان الدليل وألفاظه وعدم أخذه لا يوضح لنا لماذا صارت الامارة حجة في لوازمها غير الشرعية ولم يصر الأصل كذلك. وعليه فأخذ الشكّ في لسان الدليل وعدم أخذه لا ثمرة له من هذه الناحية ، ولئن كانت له ثمرة فثمرته تظهر على رأي السيد الخوئي - القائل بأنّ الاستصحاب امارة كخبر الثقة لا فرق بينهما فكلاهما امارة إذ المجعول في كليهما هو الطريقية والعلمية - حيث انّه قد يشكل على رأيه بأنّ الاستصحاب إذا كان امارة كخبر الثقة تماما فلماذا عند التعارض بين خبر الثقة والاستصحاب يقدّم خبر الثقة بالرغم من كون الاستصحاب امارة مثله. هنا أجاب السيد الخوئي ( دام ظلّه ) قائلا ان لسان دليل خبر الثقة حيث لم يؤخذ فيه الشكّ فيكون حجّة في جميع الحالات - ولا ترفع اليد عن حجّيته إلاّ في حالة واحدة يحكم فيها العقل بلزوم ذلك وهي حالة حصول العلم الوجداني بالواقع فإنّه عند حصول العلم الوجداني بالحكم الواقعي يحكم العقل بلزوم رفع اليد عن حجّية خبر الثقة إذ مع اتضاح الواقع لا معنى لجعل الخبر حجّة - وواحدة من تلك الحالات هي حالة اجتماع خبر الثقة مع الاستصحاب ، فإنّه في هذه الحالة يكون خبر الثقة حجّة أيضا ، وإذا كان حجّة فلازم ذلك أنّه لو أخذنا به فسوف يحصل لنا العلم

ص: 16

التعبّدي بالواقع - إذ المفروض أنّ المجعول في خبر الثقة هو العلمية - ويرتفع بذلك الشكّ الذي هو موضوع الاستصحاب ، وهذا بخلافه لو أخذنا بالاستصحاب فإن المجعول في الاستصحاب وإن كان هو العلمية فلو أخذنا به حصل العلم وارتفع الشكّ إلاّ أنّه قد فرضنا أنّ الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية خبر الثقة ليلزم من ذلك عدم حجّية خبر الثقة بل المفروض أنّ خبر الثقة حجّة في جميع الحالات ولم يشذ عن حجّيته سوى حالة واحدة وهي حالة العلم الوجداني بالواقع والمفروض أنّ الاستصحاب لو جرى فأقصى ما يحصّله لنا هو العلم التعبّدي دون العلم الوجداني.

والخلاصة : انّ أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل وعدم أخذه في لسان دليل الامارة لئن كان يثمر فهو يثمر هنا حيث يوضح لماذا نقدّم خبر الثقة على الاستصحاب عند التعارض بينهما بالرغم من أنّ كليهما امارة (1).

ب - انّه لو كان المدار على لسان الدليل وألفاظه فلازم ذلك صيرورة خبر الثقة امارة تارة وأصلا عمليا اخرى فانّه لو جعلنا الدليل على حجّية الخبر آية السؤال من أهل الذكر - أي قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ) - صار الخبر أصلا لأنّ هذه الآية الكريمة أخذ في لسانها الشكّ وعدم العلم حيث قيل اسألوا وخذوا بالخبر إن كنتم شاكّين ولا تعلمون ، بينما لو جعلنا الدليل على حجّية الخبر مفهوم آية النبأ - أي قوله تعالى : وإن لم يجىء فاسق فلا تتبيّنوا - صار الخبر امارة حيث لم يؤخذ في اللسان المذكور الشكّ وعدم العلم ، وهذا باطل إذ

ص: 17


1- اشير إلى إيضاح هذا المطلب ص 362 من الحلقة.

من الواضح انّ خبر الثقة امارة مهما كان لسان دليله.

الفرق الرابع

4 - [ الفرق الرابع ] ما يتبنّاه السيد الشهيد والذي تقدّم توضيحه في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 73 - 74 ، وحاصله انّ المولى بعد أن شرّع الإباحة لشرب الماء والحرمة لشرب الخمر مثلا تقف أمامه مشكلة وهي أنّه أحيانا قد يشتبه حال المائع فلا يدرى أنّه خمر أو ماء ففي مثل هذه الحالة ماذا يقول المولى للمكلّف فهل يقول له احكم بأنّه حلال بالرغم من احتمال كونه خمرا أو يقول له احكم بأنّه حرام بالرغم من احتمال حليته؟ هنا يلاحظ المولى مصلحة شرب الماء ويقيسها إلى مفسدة شرب الخمر فإن وجد أنّ الاولى أهمّ من الثانية حكم بالإباحة على كل سائل مشكوك ويضحّي بالمفسدة في سبيل تحصيل مصلحة شرب الماء التي فرض أنّها أهم ويصدر حينذاك قرارا عاما بمثل لسان « كل شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام ». هذا لو كانت المصلحة أهم ، وأمّا لو فرض العكس بأن كانت المفسدة هي الأهم أصدر قرارا على العكس فيقول مثلا : « أخوك دينك فاحتط لدينك ». اذن أصل الإباحة على هذا الأساس حكم ظاهري نشأ من الحفاظ على الملاك الأهم عند حصول الاختلاط والاشتباه. وهكذا الحال في أصل الاحتياط.

ثم ان ههنا شيئا آخر لا بدّ من الالتفات إليه وهو أنّ أهمية الملاك من أين تنشأ؟ هذا سؤال قد يطرح.

والجواب عنه انّ الأهمية لها شكلان فتارة تنشأ من قوة الاحتمال

ص: 18

والكشف ، ويسمّى الحكم الظاهري في هذه الحالة بالامارة - فالثقة إذا أخبر عن حرمة شيء تثبت الحرمة ، وهكذا كل ما يشهد به يثبت ، وما ذاك إلاّ لأنّ درجة كاشفية خبر الثقة عن القضية التي يخبر بها كاشفية قوية وبدرجة 70% مثلا - واخرى تنشأ الأهمية من قوة المحتمل لا من قوّة الاحتمال ، ويسمّى الحكم الظاهري في هذه الحالة بالأصل العملي ، فأصل الإباحة مثلا يقول انّه كلّما دار الأمر بين محتملين : الإباحة والحرمة فقدّم الاباحة لا لأنّ درجة كاشفية أصل الإباحة عن الإباحة أقوى بل لأنّ الإباحة في نفسها أهم في نظر المولى من الحرمة. وعليه فحجّية الامارة حكم ظاهري نشأ من أهمية وقوّة الاحتمال بينما حجّية الأصل حكم ظاهري نشأ من أهمية وقوة المحتمل في نفسه.

وإذا اتضح ان حجّية الامارة ناشئة من القوة في الاحتمال والكشف يتضح ان الامارة حجّة في إثبات لوازمها غير الشرعية أيضا لأنّ كاشفية خبر الثقة عن حياة الولد إذا كانت بدرجة معينة فكاشفيّته عن نبات اللحية تكون بتلك الدرجة أيضا فإنّ درجة كاشفية الشيء عن مدلوله الالتزامي تتساوى ودرجة كاشفيّته عن مدلوله المطابقي. وإذا كانت كاشفية خبر الثقة عن حياة الولد موجبة لحجّية خبر الثقة في حياة الولد فتلك الكاشفية توجب حجّية خبر الثقة أيضا في نبات اللحية لعدم الفرق بين الكاشفيتين من حيث الدرجة.

قوله ص 11 س 1 : فيما تقدم : أي في القسم الأوّل ص 32.

قوله ص 11 س 2 : الطريقية : أي لم تنشأ عن مصلحة في نفسها بل للتحفظ على الملاكات الواقعية. وفي مقابل الحكم الطريقي الحكم النفسي وهو ما نشأ عن مصلحة في نفسه.

ص: 19

قوله ص 11 س 3 : عن الأحكام الظاهرية في باب الامارات : الحكم الظاهري في باب الامارات هو حجّية الامارة وفي باب الاصول هو حجّية الأصل.

قوله ص 11 س 7 : مثلا : أي ذكر الطريقية من باب المثال وإلاّ فيمكن تبديل الطريقية بالعلمية أو تتميم الكشف فإنّ الجميع يؤدي معنى واحدا.

قوله ص 11 س 7 : الوظيفة العملية : هذا ناظر إلى الأصل الذي لا يكون محرزا ولا تنزيليا. وقوله : « أو التنزيل منزلة اليقين » ناظر إلى الأصل المحرز. وكان من المناسب الإشارة إلى الأصل التنزيلي أيضا بأن يعبّر هكذا : وفي الثاني : الوظيفة العملية أو التنزيل منزلة اليقين أو الواقع.

قوله ص 11 س 8 : بلحاظ الجري العملي : هذا إشارة إلى دفع إشكال حاصله : انّ الأصل المحرز إذا كان ينزل فيه احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء فما الفرق بعد هذا بين الامارة والأصل المحرز إذ كل منهما نزّل منزلة اليقين.

وحاصل الدفع : ان الميرزا ذكر أنّ اليقين له أربع خصوصيات نذكر اثنتين منها : -

أ - الكاشفية والطريقية فكل يقين له كاشفية وطريقية إلى الواقع.

ب - الجري العملي ، فإنّ من علم بوجود الأسد في مكان معين فرّ بسرعة فالفرار جري عملي يقتضيه اليقين بوجود الأسد.

ثمّ أضاف قائلا : ان الامارة منزلة منزلة اليقين من حيث الخصوصية الاولى ، أي من حيث الكاشفية بينما الأصل المحرز منزل منزلة اليقين من حيث الخصوصية الثانية ، أي من حيث الجري العملي لا من حيث الكاشفية فالفرق

ص: 20

واضح.

قوله ص 11 س 9 : وقد تقدّم الكلام الخ : هذا شروع في الردّ على التفرقة الميرزائية. ثمّ انّ هذه المناقشة تقدّمت في القسم الأوّل ص 34 من الحلقة.

قوله ص 11 س 13 : للأحكام الشرعية : كوجوب التصدّق المترتّب على نبات اللحية الذي هو لازم غير شرعي لحياة الولد التي هي - حياة الولد - مؤدّى الامارة.

قوله : ص 11 س 15 : الذي ليس له تلك الآثار : أي لا يكون حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية.

قوله ص 11 س 15 : وقد عرفنا سابقا : أي في القسم الأوّل من الحلقة ص 71. ثمّ انّه بهذه العبارة يراد بيان أنّ جعل الطريقية في الامارة لا يصلح أن يكون نكتة لحجّيتها في إثبات اللوازم.

قوله : ص 12 س 2 : كذلك : أي موضوعا.

قوله ص 12 س 3 : وهذا الفرق الخ : هذا هو الايراد الأوّل على هذا الفرق. وقوله : « غير معقول الخ » إشارة إلى الإيراد الثاني.

قوله ص 12 س 3 : لا يفي بالمقصود : وهو انّه لماذا صارت الامارة حجّة في اللوازم غير الشرعية بخلاف الأصل.

قوله ص 12 س 5 : وجعل الامارة الخ : الواو استينافية. أي ومن الواضح أنّ جعل الامارة الخ.

قوله ص 12 س 7 : موردا لا موضوعا : أي أنّ الشكّ مأخوذ ظرفا لجعل الحجّية لا قيدا.

ص: 21

قوله ص 12 س 13 : على دليل الأصل : أي على دليل الاستصحاب. وإنّما عبّر عنه بالأصل - والحال أنّه امارة على رأي السيد الخوئي - نظرا إلى رأي المشهور.

والمقصود من الحكومة هو أنّ دليل الامارة ينفي تعبدا الشك الذي هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.

ثمّ انّ التعبير بكلمة « قد » إشارة إلى أنّ هذا لا يثمر في تقديم الامارة على مطلق الأصل بل في خصوص الأصل الذي يكون من قبيل الاستصحاب ، أي يكون المجعول فيه الطريقية.

قوله ص 12 س 13 : إلى كونه اتفاقيا : أي أنّ دليل الامارة ليس دائما لم يؤخذ في لسان دليله الشكّ بل ذلك يتّفق غالبا وإلاّ فأحيانا يكون الشكّ مأخوذا في لسان دليله أيضا فيلزم صيرورة الامارة أصلا في هذه الحالة.

قوله ص 12 س 17 : في الجزء السابق : أي ص 73.

قوله ص 13 س 1 : عند التزاحم بين الخ : فإنّ مفسدة شرب الخمر تزاحم مصلحة شرب الماء. والمقصود أنّهما يتزاحمان في مقام الحفظ التشريعي فالمصلحة تطلب تحفظ المولى عليها وذلك بتشريع أصالة الإباحة بينما المفسدة تطلب التحفّظ عليها بتشريع أصالة الاحتياط. ومن خلال هذا يتضّح أنّ قوله : « في مقام الحفظ التشريعي » متعلّق بالتزاحم ، وهكذا قوله : عند الاختلاط.

قوله ص 13 س 2 : عند الاختلاط : أي عند اشتباه المصلحة بالمفسدة.

قوله ص 13 س 3 : في أدلّة الحجّية : أي في أدلة حجّية الامارة.

قوله ص 13 س 4 : محضا : أي فقط ومن دون أن تنشأ من قوّة المحتمل.

ص: 22

الأصول العملية الشرعية والعقلية

قوله : ص 13 س 6 : وتنقسم الاصول العملية الخ : ذكرنا سابقا أنّ التمهيد المذكور في صدر الكتاب يشتمل على أربعة أبحاث. وإلى هنا فرغنا من البحث الأوّل وندخل الآن في البحث الثاني ، وهو أنّ الأصل العملي ينقسم إلى قسمين : شرعي وعقلي.

والمقصود من الأصل الشرعي هو الحكم الظاهري الذي ينشأ من أهمية المحتمل مثل أصالة البرائة المستفادة من قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » فإنّ هذا الأصل حكم ظاهري بالحلية نشأ من أهمية الحلية.

والمقصود من الأصل العقلي هو الحكم العقلي (1) الذي يرتبط بتوسعة أو تضييق حقّ الطاعة فقاعدة « الاشتغال اليقيني (2) يستدعي الفراغ اليقيني » حكم عقلي بسعة حقّ الطاعة للمولى ، فالمولى إذا أوجب علينا صلاة الظهر مثلا فلا بدّ

ص: 23


1- أو بتعبير آخر الوظيفة العقلية التي ترتبط بعمل المكلّف
2- الفرق بين قاعدة الاشتغال اليقيني وقاعدة قبح العقاب أن الأولى ناظرة إلى حالة ثبوت التكليف جزما كوجوب صلاة الظهر فإنّه ثابت جزما وبعد ثبوته الجزمي تأتي القاعدة الاولى لتقول انّه بعد ثبوت التكليف جزما لا بدّ من تفريغ الذمّة منه جزما ولا يكفي الظنّ ، وهذا بخلافه في القاعدة الثانية فانّها تقول أنّ التكليف إذا لم يثبت جزما فلا يجب امتثاله ويقبح العقاب. فالحكم العقلي النظري هو الحكم المتعلّق بشيء ثابت في الواقع ولا يرتبط بجانب العمل وذلك كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، فإنّ الاستحالة المذكورة أمر ثابت في الواقع ولا ربط له بجانب العمل.

وأن نتيقن بأدائها وفراغ ذمّتنا منها فله علينا حقّ الطاعة في تحصيل الامتثال بنحو اليقين دون الاحتمال والظنّ.

ومثال ثاني للأصل العقلي : قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّ مرجعها لدى المشهور إلى أنّ المولى ليس له علينا حقّ الطاعة في التكليف الذي يكون ثبوته على مستوى الاحتمال دون الجزم.

ومثال ثالث للأصل العقلي : حكم العقل بمنجزية احتمال التكليف - كما هو المختار خلافا للمشهور (1) - فإنّ مرجعه إلى أنّ المولى له حقّ الطاعة علينا في التكليف المحتمل ولا يتحدّد بخصوص التكليف المتيقن.

وبالجملة أن الفرق بين الأصل الشرعي والأصل العقلي هو أنّ مضمون الأصل العقلي حكم عقلي يرتبط بتوسعة حقّ الطاعة وتضييقه.

وبعد أن عرفنا الأصل الشرعي والعقلي نأخذ باستعراض جملة من خصائصهما ليتجلّى حالهما أكثر. والخصائص خمس هي : -

1 - ما ذكرناه سابقا وهو أنّ الأصل الشرعي حكم شرعي بينما الأصل العقلي حكم عقلي (2) يرتبط بتوسعة حقّ الطاعة وتضييقه.

ص: 24


1- يقول المشهور ان احتمال التكليف ليس منجّزا والعقل يحكم بقبح العقاب على التكليف ما دام ثبوته غير معلوم خلافا للسيد الشهيد حيث يرى ان احتمال التكليف منجز وإن قاعدة قبح العقاب لا أساس لها. وسيأتي التعرّض إلى هذا المطلب مفصلا ص 29 من الحلقة.
2- تقدّم أواخر القسم الأوّل من الحلقة ص 424 أنّ الحكم العقلي تارة يكون نظريا واخرى عمليا. فالحكم العقلي النظري هو الحكم المتعلّق بشيء ثابت في الواقع ولا يرتبط بجانب العمل وذلك كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، فإنّ الاستحالة المذكورة أمر ثابت في الواقع ولا ربط له بجانب العمل. وأمّا الحكم العقلي العملي فهو الحكم المرتبط بجانب العمل كحكم العقل بأنّه ينبغي فعل الصدق والعدل والأمانة والايثار ولا ينبغي فعل الكذب والظلم و ... ان هذه الأحكام ترتبط بعمل المكلّف حيث يقول العقل ينبغي الفعل أو لا ينبغي الفعل. إذن يتّضح من خلال هذا صحّة قولنا ان مثل قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني حكم عقلي عملي لارتباطها بحيثيّة العمل إذ تفريغ الذمّة أمر عملي. وبهذا يتضح أيضا أنّ لزوم تفريغ الذمّة بنحو اليقين شيء مدرك يدركه العقل العملي وله ارتباط بحقّ الطاعة. ثمّ انّه ينبغي الالتفات إلى أنّ التعبير بالعقل العملي والنظري لا يراد به وجود عقلين للإنسان بل العقل واحد غاية الأمر إذا تعلّق بأمر عملي سمي بالعقل العملي وإذا تعلّق بأمر غير عملي سمّي بالعقل النظري

2 - انّ الأصل الشرعي لا يلزم وجوده في كل مورد من موارد الشكّ إذ لربّ مورد لم يشرّع الشارع فيه أصلا معينا ويترك تحديده إلى ما يحكم به العقل بخلاف ذلك في الأصل العقلي فإنّه لا يمكن أن يخلو مورد منه إذ في الأصل العقلي يكون الحاكم هو العقل ومن الواضح أنّ العقل لا يمكن أن يشكك في حكم نفسه بل هو امّا أن يحكم بأنّ المولى له حقّ الطاعة في مورد الشكّ وبذلك يثبت أصل الاحتياط العقلي أو يحكم بعدم ثبوت حقّ الطاعة للمولى في مورد الشكّ وبذلك يثبت أصل البراءة العقلي ولا يمكن أن نفترض شقا ثالثا يتردّد فيه العقل ولا يحكم بشيء.

3 - انّ الاصول العقلية يمكن حصرها في أصلين لا ثالث لهما وهما أصل البراءة العقلي وأصل الاحتياط العقلي فإنّ العقل إن حكم بشمول حقّ الطاعة لمورد الشكّ ثبت الاحتياط العقلي وأنّ حكم بعدم شموله ثبتت البراءة العقلية ولا

ص: 25

يوجد شق ثالث.

ولربّ قائل يقول انّه يوجد أصل ثالث عقلي وهو أصالة التخيير عند الدوران بين المحذورين ، فإنّ صلاة الجمعة لو دار أمرها بين الوجوب والحرمة فالعقل يحكم بالتخيير بين الفعل والترك.

والجواب : أنّ التخيير بين الفعل والترك ليس أصلا عقليا ثالثا إذ في المقصود منه - التخيير - احتمالان : -

أ - فقد يقصد به وجوب الفعل أو الترك ، وبتعبير آخر : وجوب الجامع بين الفعل والترك المعبّر عنه بعنوان أحدهما فالذمّة تكون مشغولة بأحد الأمرين : الفعل أو الترك.

والاحتمال المذكور باطل لأنّ الجامع بين الفعل والترك حاصل من المكلّف قهرا إذ لا يخلو حاله من فعل صلاة الجمعة أو تركها ومعه يكون الالزام بأحد الأمرين - الفعل والترك - إلزاما بما هو حاصل وأمرا بتحصيل ما هو حاصل.

ب - وقد يقصد منه نفي التكليف بالفعل والترك وعدم اشتغال الذمّة بأحدهما ، وبتعبير آخر نفي وجوب الجامع بين الفعل والترك.

وهذا وإن كان معقولا غير انّ التخيير بناء على هذا الاحتمال يكون راجعا إلى أصل البراءة ، أي براءة ذمّة المكلّف وعدم اشتغالها لا بالفعل ولا بالترك ولا يكون أصلا ثالثا مستقلا في مقابل أصل البراءة وأصل الاحتياط بل هو عين أصل البراءة (1).

ص: 26


1- وبهذا يتّضح انّ عدّ الأحكام خمسة محل تأمّل بل هي أربعة فإنّه يمكن القول بعدم كون الإباحة حكما شرعيا مجعولا ، فإباحة شرب الماء ماذا يقصد منها؟ فهل المقصود الزام المكلّف بأنّه أمّا يشرب أو لا يشرب؟ وهو باطل لأنّه تكليف بما هو حاصل إذ صدور الفعل أو الترك من المكلّف أمر قهري بلا حاجة إلى تكليف بذلك. أو انّ المقصود نفي الالزام بالفعل والترك وإنّ المكلّف لا يجب عليه فعل الشرب ولا تركه ، وهو وإن كان معقولا لكنّه لا يحتاج إلى جعل إذ مجرّد عدم جعل الوجوب للفعل ولا للترك يكفي في تحقّق الإباحة بلا حاجة إلى جعل وتشريع. هذا كلّه لو كانت الإباحة لا اقتضائية. وأمّا الاقتضائية فيمكن عدّها حكما مجعولا بلا ورود ما سبق عليها.

وباختصار : أن الأصل العقلي ينحصر في البراءة والاحتياط بخلافه في الأصل الشرعي فيمكن افتراض أصل ثالث كالاستصحاب مثلا.

4 - ان الاصول الشرعية وإن كان لا تعارض فيما بينها بلحاظ عالم الثبوت إلاّ أنّه يمكن وقوع التعارض فيما بينها بلحاظ عالم الإثبات ، فالشارع المقدس حينما شرّع الاستصحاب وأصل البراءة لا بدّ وأن لا يكون بينهما في مقام الجعل والتشريع - وعبّر في الكتاب عن عالم الجعل بمقام الثبوت - تعارض وتناف فإنّ الشارع لا يعقل أن يشرّع حكمين متعارضين ولكن من المعقول وقوع التعارض بينهما في مقام الإثبات أي بلحاظ لسان الدليل ، كما لو فرض الشكّ في وجوب الجمعة زمن الغيبة فإنّ مقتضى أدلّة البراءة عدم ثبوته لأنّ الوجوب زمن الغيبة ما دام مشكوكا فهو موضوع عن المكلّفين بمقتضى قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » بلا فرق في ذلك بين أن يكون الوجوب متيقنا في الزمان السابق أو لا بينما مقتضى الاستصحاب ثبوته لأنّه - الوجوب - كان ثابتا زمن الحضور وبالاستصحاب يثبت بقاءه زمن الغيبة أيضا.

ص: 27

هذا بالنسبة إلى الاصول الشرعية. وقد اتّضح انّه وإن لم يكن بينها تعارض في مقام الثبوت إلاّ أنّه يمكن وقوعه بينها في مقام الإثبات.

وهذا بخلافه في الاصول العقلية فإنّه لا تعارض بينها لا في مقام الثبوت ولا في مقام الإثبات.

أمّا أنّه لا تعارض بينها في مقام الثبوت فلأنّ العقل لا يمكن أن يحكم بحكمين متنافيين.

وأمّا أنّه لا تعارض بينها في مقام الاثبات فلأنّ مقام الإثبات في الأحكام العقلية هو عين مقام الثبوت ؛ إذ مقام الإثبات فيها ليس هو إلاّ عبارة عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مثلا ومن الواضح أنّ حكم العقل هذا هو نفس مقام الثبوت وليس شيئا آخر يغايره ، وما دام هو نفس مقام الثبوت فلا يمكن أن يقع التعارض لأنّ الأحكام العقلية لا تعارض فيما بينها في مقام الثبوت.

وهذا كلّه بخلافه في الاصول الشرعية فإنّ مقام الثبوت فيها يغاير مقام الإثبات فمقام الثبوت عبارة عن عالم الجعل والتشريع بينما مقام الإثبات هو عبارة عن لسان الروايات ، وبالإمكان وقوع التعارض في لسان الروايات.

5 - لا يمكن وقوع التعارض بين الاصول الشرعية والاصول العقلية ؛ لأنّ مضمون الأصل العقلي إذا كان موافقا لمضمون الأصل الشرعي - كما في أصل البراءة العقلي وأصل البراءة الشرعي (1) فإنّ مضمون كل واحد منهما هو البراءة -

ص: 28


1- إذا كان مستند أصل البراءة قاعدة قبح العقاب سمّي بأصل البراءة العقلي ، وإذا كان مستنده مثل حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » سمّي بأصل البراءة النقلي أو الشرعي.

فعدم التعارض بينهما واضح. وإذا كان مضمونهما مختلفا مثل حكم العقل بمنجزية احتمال التكليف على رأي السيد الشهيد مع حكم الشرع بالبراءة بقوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فلأنّ حكم العقل بمنجزية الاحتمال أمّا أن يفترض كونه معلّقا على عدم حكم الشارع بالبراءة أو يفترض عدم كونه معلّقا على ذلك؟ فإن كان معلّقا - كما هو الواقع - بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّ احتمال ثبوت الحرمة لشرب التتن منجز وموجب للاحتياط فيما إذا لم يحكم الشارع بالبراءة ولم يرخص في التدخين فلازم ذلك أنّه متى ما رخّص الشارع فلا يبقى العقل حاكما بمنجزية الاحتمال حتّى تقع المعارضة بين حكم العقل وحكم الشرع بالبراءة الشرعية.

وإن لم يكن معلّقا بل منجزا - كحكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي بنحو يكون علّة تامّة لوجوب الاحتياط بحيث لا يمكن الترخيص في ترك الاحتياط (1) - فترخيص الشارع على خلافه لا يكون ممكنا أي أنّ الأصل العملي الذي يقول رفع عن امّتي ما لا يعلمون لا يمكن أن يشمل أطراف العلم الإجمالي ويختص بالشبهة البدوية ، ومع عدم ترخيص الشارع على خلاف الحكم العقلي يكون الحكم العقلي ثابتا بلا ترخيص شرعي على خلافه حتّى تقع بينهما معارضة.

قوله ص 13 س 7 : هي ما كنّا نقصده آنفا : أي بقوله : « الأصل العملي

ص: 29


1- كما هو رأي الشيخ العراقي حيث يختار قدس سره انّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية بحيث لا يمكن الترخيص الشرعي بخلافه.

حكم ظاهري لوحظت فيه أهمية المحتمل عند التزاحم بين ... » فإنّ المقصود بذلك هو الأصل الشرعي.

قوله ص 13 س 9 : إثباتا ونفيا : أي توسعة وتضييقا.

قوله ص 13 س 11 : الذي يستقل به العقل : كلمة « الذي » صفة لحقّ الطاعة.

قوله ص 13 س 14 : تحديد : أي تضييق.

قوله ص 13 س 16 : وهكذا : أي في بقية الأحكام العقلية.

قوله ص 14 س 3 : مدركات العقل العملي : فإنّ حكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة على سبيل اليقين هو حكم يدركه العقل ، وباعتبار إدراك العقل له يسمّى بالمدرك.

وإنّما جعلت الاصول العقلية مدركات للعقل العملي دون النظري من جهة أنّ مضامين الاصول العقلية ترتبط بجانب العمل وكل حكم يرتبط بحيثيّة العمل يسمّى العقل الحاكم به بالعقل العملي.

قوله ص 14 س 8 : بوجه : أي لا بدّ من فرضه بوجه من الوجوه ، فأمّا أن يفرض حكمه بالبراءة أو بالاشتغال ولا يمكن خلو مورد الشكّ من أحد هذين الحكمين العقليين.

قوله ص 14 س 10 : قد ترد : التعبير بقد يدلّ على تضعيف هذه الخصوصية الثالثة أو التردد فيها ، ولا نعرف وجه ذلك.

قوله ص 14 س 14 : وقد يعترض : التعبير بقد يدل على التضعيف أو الترديد ، ولا نعرف وجهه.

ص: 30

قوله ص 15 س 11 : بحسب لسان أدلتها : المناسب إضافة كلمة « أي » بأن يقال هكذا : فيعقل التعارض بينها إثباتا ، أي بحسب لسان أدلتها.

قوله ص 15 س 17 : كان هذا واردا : أي كان الأصل الشرعي رافعا لموضوع الأصل العقلي فإنّ الرافع للموضوع رفعا حقيقيا يعبّر عنه بالوارد ، وهنا كذلك فإنّ الأصل العقلي بعد ما أخذ في موضوعه عدم الحكم الشرعي على خلافه فالحكم الشرعي يكون رافعا حقيقة لموضوع الأصل العقلي.

قوله ص 16 س 1 : وإلاّ : أي وإن لم يكن الحكم العقلي معلّقا على عدم الحكم الشرعي بخلافه بل كان منجزا.

ص: 31

ص: 32

الأصول التنزيلية والمحرزة

اشارة

قوله ص 16 س 2 : الاصول العملية الشرعية ... : هذا هو البحث الثالث من الأبحاث الأربعة التي يتكفّلها التمهيد. وحاصله أنّ الأصل الشرعي على ثلاثة أقسام : أصل محرز ، أصل تنزيلي ، أصل بحت.

توضيح ذلك : أنّ الأصل الشرعي تارة يفترض أنّه ينشأ التنجيز والتعذير بدون نظر إلى الأحكام الواقعية أبدا حتّى ينزل المشكوك منزلة الواقع أو ينزل احتمال البقاء منزلة اليقين بالبقاء. ومثال ذلك : أصل البراءة فإنّ مفاد حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » إثبات العذرية من ناحية التكليف الواقعي المشكوك بدون نظر إلى تنزيل شيء منزلة الواقع. ومثل هذا يسمّى بالأصل العملي بدون إضافة قيد آخر له.

وهناك حالة اخرى يفترض فيها عناية التنزيل. وعناية التنزيل لها شكلان : -

الأصل التنزيلي

1 - أن ينزل المشكوك منزلة الواقع. ومثال ذلك : أصالة الحلّ فإنّ مفاد « كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » إنشاء العذرية من ناحية الحرمة الواقعية المحتملة ولكن بلسان تنزيل الشيء الذي يشكّ في حلّيته منزلة الحلال

ص: 33

الواقعي. هكذا فهم الميرزا ، ومن هنا سمّى قدس سره مثل أصل الحل بالأصل التنزيلي ؛ لأنّ مفاده تنزيل المشكوك منزلة الواقع.

وبعض الأعلام - كالآخوند وتلميذه الأصفهاني (1) - أنكر ذلك وقال : انّ مثل أصل الحلّ لا يستفاد منه تنزيل مشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقع بل جعل حلّية ظاهرية مستقلة مغايرة للحلّية الواقعية بدون تنزيل شيء منزلة شيء آخر.

ثمرة الأصل التنزيلي

وقد تسأل عن ثمرة كون الأصل تنزيليا. انّها تظهر في موارد نذكر منها المورد التالي : ورد في الحديث ما مضمونه إنّ كل حيوان يحلّ أكل لحمه شرعا فبوله طاهر (2) فإذا فرض الشكّ في انّ الأرنب مثلا حلال اللحم حتّى يكون بوله طاهرا فقد يتمسّك بأصل الحل لإثبات حلّية لحمه ومن ثم لتثبت طهارة بوله. ان هذه الطريقة صحيحة على رأي الميرزا القائل بأنّ أصل الحلّ أصل تنزيلي فانّه بناء عليه ينزل لحم الأرنب منزلة الحلال الواقعي ومعه فثبت له آثار الحلال الواقعي التي منها طهارة بوله ، وهذا بخلافه على رأي الآخوند فإنّه لا يمكن إثبات طهارة البول لأنّها مترتّبة على كون الحيوان حلال اللحم حلّية واقعية لا حلّية ظاهرية - لأنّ ظاهر حلال اللحم الوارد في الحديث هو الحلال الواقعي ؛ إذ

ص: 34


1- تقدّم هذا الرأي في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 39.
2- كما في حديث ابن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه » - الوسائل : ج 2 الباب 6 من أبواب النجاسات حديث 3.

كل عنوان يؤخذ في موضوع الحكم ظاهر في انّه بوجوده الواقعي مأخوذ في الموضوع - ومن الواضح انّ أصل الحلّ يثبت على رأي الآخوند حلّية ظاهرية بدون تنزيل الحيوان منزلة الحلال الواقعي لتثبت بذلك طهارة بوله.

الأصل المحرز

2 - أن ينزل احتمال البقاء (1) - أو نفس الاستصحاب مثلا - منزلة اليقين بالبقاء ، كما هو الحال في الاستصحاب على رأي الميرزا والسيد الخوئي حيث ذهبا إلى أنّ المجعول فيه هو الطريقية ، أي ان احتمال البقاء نزل منزلة اليقين بالبقاء. وبعد ان اتّفقا على ذلك اختلفا في انّ احتمال البقاء حينما نزل منزلة اليقين هل نزل منزلة اليقين من حيث خصوصية الجري العملي أو من حيث خصوصية الكاشفية (2) ، فالميرزا اختار الأوّل أي أنّ احتمال البقاء نزل منزلة اليقين من حيث الجري العملي فحينما يقال ابن على البقاء فالمقصود ابن على بقاء الحالة السابقة

ص: 35


1- ذكر احتمال البقاء الذي هو مختص بباب الاستصحاب من باب المثال لا لخصوصية له.
2- فإنّ لليقين أربع خصوصيات على ما ذكر الميرزا : أ _ كونه كاشفا عن الواقع. ب _ الجري العملي على طبقه. ج _ كونه منجزا ومعذرا. د _ كونه صفة نفسية تتّسم بالثبات والاستقرار وعدم التزلزل بخلاف صفة الشكّ. والصفة الاولى هي المجعولة في الامارة ، والثانية هي المجعولة في الأصل المحرز ، والثالثة هي المجعولة في الأصل الذي لا يكون تنزيليا ولا محرزا ، وأمّا الرابعة فهي من الصفات التكوينية المختصّة باليقين ولا يمكن إثباتها لغيره.

من حيث الجري العملي ، أي فليكن موقفك العملي كأنّك متيقّن بالبقاء ، ففي حالة اليقين بطهارة ثوبك إذا كنت تصلي فيه فصل فيه عند الشكّ أيضا ، وأمّا السيد الخوئي فقد اختار الثاني ، أي انّ احتمال البقاء نزل منزلة اليقين من حيث الكاشفية. وبناء عليه لا يبقى فرق بين الامارة والاستصحاب ؛ إذ المجعول في كليهما هو الكاشفية ، ومن هنا كان الاستصحاب لدى السيد الخوئي امارة كسائر الامارات.

ثمرة الأصل المحرز

وقد تسأل عن ثمرة كون الأصل محرزا. أنّها تظهر فيما لو تعارض أصل محرز مع أصل غير محرز.

ومثال ذلك : الشكّ في وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ، فإنّ مقتضى أصل البراءة نفي الوجوب بينما مقتضى الاستصحاب ثبوته ، وفي مثل ذلك يقدّم الاستصحاب لأنّه أصل محرز فإذا جرى صرنا وكأنّنا عالمون بثبوت الوجوب لصلاة الجمعة ومع العلم بالوجوب ينتفي الشكّ الذي هو موضوع أصل البراءة ، وهذا بخلافه فيما لو أردنا أن نجري أصل البراءة أوّلا فإنّه بجريانه لا نصير عالمين بالبراءة ؛ إذ هو ليس أصلا محرزا حتّى نصير بسببه عالمين بالبراءة.

الأصل المحرز عند السيد الشهيد

وبعد الفراغ من توضيح المقصود من الأصل المحرز والتنزيلي على رأي الميرزا نأخذ بتوضيح الأصل المحرز على رأي السيد الشهيد.

ص: 36

تقدّم سابقا أنّ الحكم الظاهري إذا كان ناشئا من أهمية الاحتمال والكشف فهو امارة ، وإذا كان ناشئا من أهمية المحتمل فهو أصل عملي. وهنا نقول أنّ الحكم الظاهري إذا كان ناشئا من أهمية الاحتمال والمحتمل معا فهو ما نصطلح عليه بالأصل المحرز ، فالأصل المحرز إذن هو الحكم الظاهري الناشئ من أهمية الاحتمال والمحتمل معا. ومثاله : قاعدة الفراغ ، فإنّ الشارع حكم على المكلّف - فيما إذا شكّ بعد صلاته في تحقّق الوضوء منه - بصحّة الصلاة لأنّ الشكّ ما دام قد حدث بعد الفراغ من الصلاة فلا يعتنى به. وحجّية قاعدة الفراغ نشأت من مجموع أمرين : -

أ - قوة الكشف باعتبار أنّ المكلّف إذا فرغ من العمل فنفس فراغه كاشف عن الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط التي أحدها الوضوء ؛ إذ المكلّف لا يفرغ عادة من العمل إلاّ بعد أن يأتي بجميع أجزاءه وشرائطه.

ب - قوة المنكشف بمعنى أنّ نفس الفراغ من العمل له مدخلية في عدم الاعتناء بالشكّ ، فإذا فرض أنّ المكلّف لم يفرغ من الصلاة وشكّ في الوضوء لم يحكم بتحققه وإن كان احتمال تحققه قويا.

ومن أجل أنّ حجّية قاعدة الفراغ تنشأ من قوّة الكشف وقوة المنكشف معا يتّضح أنّ قوة الكشف وحدها لا تكفي ، ولذا إذا فرغ المكلّف من صلاته وشكّ في أنّه توضأ أو لا لزمه الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الثانية - وإن كان بالنسبة إلى الصلاة الاولى يحكم بحصول الوضوء لها - لأنّ الفراغ بالنسبة إليها غير متحقّق وإنّما هو متحقّق بالنسبة إلى الصلاة الاولى.

إذن قوة الكشف وحدها لا تكفي وهكذا قوة المنكشف وحدها لا تكفي ،

ص: 37

فلو فرض أنّ المكلّف فرغ من عمله ولكن لم تكن هناك قوّة في الكشف بأن فرض انّه حينما دخل في الصلاة كان غافلا بالمرّة وفجأة التفت إلى نفسه وهو يقول السلام عليكم فلا يكون فراغه كاشفا عن إتيانه بالوضوء.

ومن هنا اختار السيد الخوئي والشهيد عدم جريان قاعدة الفراغ في الموارد التي لا يكون فيها قوّة كشف كما لو كان المكلّف قاطعا بغفلته حين العمل وإنّما تجري في الموارد التي فيها قوّة كشف ، بأن يفرض أنّه كان محتملا للالتفات وعدم الغفلة حين الاتيان بالعمل.

وبعد أن اتّضح معنى الأصل المحرز وانّه عبارة عن مثل قاعدة الفراغ قد تسأل : هل الأصل المحرز حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية أو لا؟ كلا انّه ليس حجّة في ذلك لأنّ حجّية الأصل المحرز لم تنشأ من قوّة الكشف فقط حتّى يقال بأنّ قوّة الكشف عن شيء وعن لوازمه بدرجة واحدة بل عن قوة الكشف المنضمّ لها قوّة المنكشف ، ومن الواضح أنّ الدليل إنّما يصير حجّة في إثبات اللوازم غير الشرعية فيما إذا كانت حجّيته ناشئة من قوّة الكشف فقط.

ومن خلال هذا تتّضح النكتة في أنّه لماذا لا يثبت بقاعدة الفراغ عدم الحاجة إلى الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الثانية؟ انّ النكتة هي انّ قاعدة الفراغ لا تثبت بها اللوازم غير الشرعية لأنّ حجّيتها لم تنشأ من قوة الكشف فقط ، ومن الجلي ان الإتيان بالوضوء ليس لازما شرعيا للفراغ من الصلاة ؛ إذ لا توجد آية ولا رواية تقول انّ من فرغ من صلاته فحتما قد أتى بالوضوء. وبكلمة اخرى : الوضوء وإن كان حكما شرعيا إلاّ أنّه حكم شرعي بمعنى أنّه لا يجوز الدخول في الصلاة بلا وضوء وليس حكما شرعيا بمعنى أنّ من فرغ من صلاته حكم عليه

ص: 38

بالإتيان بالوضوء.

وقد تسأل أنّ قوّة الكشف التي اعتبرت من أجلها قاعدة الفراغ إذا لم تنفع في إثبات اللوازم غير الشرعية - حيث انّ حجّية قاعدة الفراغ لم تنشأ من قوّة الكشف فقط - فما الفائدة منها إذن؟ ان فائدة اعتبار قوّة الكشف هي انّه في الموارد التي لا يكون فيها قوّة كشف لا تجري فيها قاعدة الفراغ ، كما لو فرض انّ المكلّف كان قاطعا بغفلته غفلة تامّة حين الإتيان بالصلاة كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

لا أصل تنزيلي عند السيد الشهيد

وقد تقول إنّا عرفنا الأصل المحرز في نظر السيد الشهيد ولكن ما هو الأصل التنزيلي عنده؟ لا يوجد أصل تنزيلي في نظره قدس سره يغاير الأصل المحرز بل الأصل التنزيلي والمحرز واحد عنده وإنّما يتغايران عند الميرزا كما تقدّم ذلك في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ص 35.

قوله ص 16 س 3 : بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو إلزامي : لعلّ التعبير « بلسان إنشاء الوظيفة العملية » أوضح كما عبّر بذلك ص 11 ، والمقصود واحد. ثمّ إنّ المراد من الحكم التكليفي الترخيصي المعذرية ومن الحكم التكليفي الالزامي المنجزية. كما وأنّ المقصود من الوظيفة العملية هو ذلك ، أي المنجزية والمعذرية.

قوله ص 16 س 3 : بوجه : أي أبدا.

ص: 39

قوله : ص 16 س 5 : بحتة : أي خالصة من التنزيل والإحراز.

قوله ص 16 س 7 : بوجهين : ففي الوجه الأوّل يكون الأصل تنزيليا ، وفي الوجه الثاني يكون محرزا.

قوله ص 16 س 8 : الحكم الظاهري : وهو الحلّية الظاهرية مثلا ، كما وأنّ المراد من الحكم الواقعي هو الحلال الواقعي.

قوله ص 17 س 1 : مدفوعة : الصواب : مدفوعه. والمقصود من المدفوع العذرة والبول.

قوله ص 17 س 2 : فكذلك حكمها : أي طهارة المدفوع تكون ثابتة أيضا بالتنزيل.

قوله ص 17 س 3 : ننقح : أي نثبت.

قوله ص 17 س 4 : وهكذا : أي في أمثلة اخرى.

قوله ص 17 س 10 : فلم يبق ... : وقد تقول إذا كان السيد الخوئي يرى أنّ الاستصحاب امارة كبقيّة الامارات فلماذا يقدّم خبر الثقة مثلا على الاستصحاب حين اجتماعهما؟ ان النكتة تقدّمت ص 12 من الحلقة كما وتأتي أيضا ص 362.

قوله : ص 18 س 3 : وإلاّ فلا : أي وإن لم ينضمّ إليه قوّة الاحتمال فلا يكون أصلا محرزا بل أصلا بحتا.

قوله ص 18 س 5 : في مثبتاتها : أي في اللوازم غير الشرعية.

قوله ص 18 س 5 : إلاّ أنّ ... : أي أنّ قوّة الكشف والاحتمال في قاعدة الفراغ إذا لم تنفع في إثبات اللوازم غير الشرعية ففي أي مجال تنفع إذن؟

قوله ص 18 س 8 : العلم بعدم التذكر : أي العلم بالغفلة التامّة حين العمل.

ص: 40

مورد جريان الأصول العملية

اشارة

قوله ص 18 س 11 : لا شكّ في جريان ... : هذا إشارة إلى البحث الرابع من الأبحاث الأربعة التي يتكفّلها التمهيد. وحاصله : انّ الشكّ في الحكم الواقعي له شكلان فتارة يشكّ المكلّف في ثبوت الحرمة لشرب التتن واقعا من دون أن يحتمل وجود حجّة شرعية تدلّ على تحريمه ، واخرى يشكّ في حرمته واقعا ويحتمل وجود حجّة شرعية - كخبر الثقة مثلا - تدل على تحريمه (1).

أمّا في الشكل الأوّل فلا إشكال في أنّه تجري البراءة عن احتمال الحرمة الواقعية ، وإنّما الإشكال في الشكل الثاني حيث قد تسأل : هل نحتاج إلى إجراء البراءة مرّتين : مرّة عن الحرمة الواقعية المحتملة ومرّة اخرى عن الحجّية المشكوكة (2).

وبكلمة اخرى : هل البراءة يختص إجراؤها بالأحكام الواقعية أو تجري

ص: 41


1- الشكّ في وجود الحجّة الشرعية له نحوان ، فتارة يشكّ في أصل وجود خبر يدلّ على حرمة التتن ، واخرى يعلم بوجود الخبر ولكن يشكّ في حجّيته. والنحو الأوّل يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الموضوعية ، والنحو الثاني يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الحكمية.
2- وتسمّى الحجّية بالحكم الظاهري ، فإنّ حجّية الامارة حكم ظاهري ، كما وأنّ حجّية الأصل حكم ظاهري أيضا.

أيضا لنفي الأحكام الظاهرية؟

قد يقال بالحاجة إلى إجراء برائتين لأنّه يوجد عندنا احتمالان يصلح كل منهما أن يكون منجزا وهما : -

أ - احتمال الحرمة الواقعية. ويمكن تسميته بالاحتمال البسيط.

ب - احتمال الحجّية المشكوكة. ويمكن تسميته بالاحتمال المركب. والوجه في كون هذا الاحتمال صالحا للمنجزية هو أنّ الحجّية حكم ظاهري ، والحكم الظاهري ينشأ كما تقدّم من أهمية ، الملاك فكل حكم ظاهري يبرز اهتمام المولى بملاك الحكم الواقعي ، واحتمال الحجّية على هذا هو بعبارة اخرى احتمال لإبراز المولى اهتمامه بملاك الحكم الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال إبراز المولى لاهتمامه بالملاك احتمال صالح للمنجزية فلا بدّ من نفيه ببراءة اخرى.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة بأنّه تقدّم في الجزء القسم من الحلقة الثالثة ص 36 ان الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ، فالمولى لا يمكن أن يشرّع البراءة عن شرب التتن وفي نفس الوقت يشرّع الاحتياط فتشريع ، مثل هذين الحكمين غير ممكن حتّى ولو لم يصلا إلى المكلّف لأنّ تشريع البراءة معناه عدم اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة في شرب التتن بينما تشريع الاحتياط معناه اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة ، ومن الواضح أنّه لا يمكن في وقت واحد ثبوت اهتمام المولى بالمفسدة وعدم اهتمامه بها.

وباتّضاح هذا نقول في مقامنا : انّه لا يمكن إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ من المحتمل أن تكون الحجّية ثابتة واقعا ، وإذا كانت ثابتة واقعا ،

ص: 42

والمفروض إنّنا قد أجرينا البراءة عنها فيلزم اجتماع الحجّية والبراءة معا وهو غير ممكن لأنّ الحجّية تكشف عن اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة في شرب التتن بينما البراءة تكشف عن عدم الاهتمام بتلك المفسدة فيلزم اجتماع الاهتمام وعدمه في وقت واحد وهو مستحيل.

وقد تقول : انّ ثبوت الحجّية ليس أمرا جزميا حتّى يلزم اجتماع البراءة والحجّية في وقت واحد ، بل هو محتمل ، ومعه فلا يقطع بثبوت البراءة والحجّية معا في وقت واحد حتّى يلزم المحذور المذكور.

والجواب : انّ ثبوت الحجّية ما دام محتملا فلازمه احتمال اجتماع المتنافيين ، ومن الواضح انّه كما لا يمكن القطع باجتماع المتنافيين كذلك لا يمكن احتمال اجتماعهما.

والخلاصة : انّ إجراء البراءة الثانية عن الحجّية قد يعترض عليه بأنّ لازمه احتمال اجتماع المتنافيين فلا يجوز.

ويمكن الجواب بأنّ البراءة الثانية - التي نجريها لنفي الحجّية المشكوكة - ليست في عرض الحجّية المشكوكة بل هي في طولها ؛ إذ لا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحجّية أوّلا ثمّ بعد ذلك نجري البراءة الثانية عنها ، وما دامت البراءة الثانية في طول الحجّية المشكوكة فالنسبة بينهما إذن هي نفس النسبة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، فكما انّه في الموارد الاخرى التي يوجد فيها حكم ظاهري وحكم واقعي يكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي - إذ لا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم الواقعي أوّلا ثمّ بعد ذلك يأتي دور الحكم الظاهري - كذلك في مقامنا الذي يوجد فيه حكمان ظاهريان يكون أحد الحكمين الظاهريين

ص: 43

في طول الحكم الظاهري الآخر ، فالبراءة الثانية التي هي حكم ظاهري في طول الحجّية المشكوكة التي هي حكم ظاهري ، وكما أنّ تلك الطولية بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي كافية في رفع مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم والواقعي (1) للبيانات المتقدّمة هناك كذلك الطولية بين البراءة الثانية والحجّية المشكوكة ترفع المشكلة هنا أيضا (2).

ثمّ أضاف السيّد الشهيد قائلا : انّه وإن تقدّم في القسم الأوّل ص 36 انّ الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ولكن مقصودنا من ذلك هو خصوص الأحكام الظاهرية التي تكون في عرض واحد - أي التي يكون موضوعها واحدا كالشكّ في حرمة التتن فانّه شكّ واحد لا يمكن ثبوت البراءة

ص: 44


1- لعلّ أوّل من أثار مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم الواقعي هو ابن قبه. وحاصلها أنّه لا يمكن أن يجعل الشارع المقدس الأصل أو الامارة حجّة لأنّه إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا فإن كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا أيضا يلزم من ذلك اجتماع المثلين وهو مستحيل ، وإن كانت غير واجبة واقعا بأن كانت محرمة مثلا يلزم من ذلك اجتماع المتنافيين ، وهو مستحيل أيضا. وقد تقدّمت الإشارة لذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٢٣.
2- فعلى طريقة السيد الشهيد في الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية التي حصيلتها أنّ الحكم الظاهري حكم ناشئ من تقديم الملاك الأهم يمكن أن يقال انّه عند قيام خبر الثقة على حرمة شرب التتن مثلا يحكم الشارع بحرمته من ناحية قوّة كشف الخبر ، وعند الشكّ في حجّية خبر الثقة يحكم الشارع على شرب التتن بالحلّية من ناحية قوّة المحتمل ؛ إذ المفروض وجود شكّين : شكّ في التكليف الواقعي - الذي هو موضوع حجّية الامارة - وشكّ في حجّية الامارة - الذي هو موضوع البراءة الثانية - فمن الممكن أن يحكم الشارع عند الشكّ الأوّل بالحرمة على شرب التتن لقوّة الكشف ويحكم عند الشكّ الثاني بالحلّية لقوة المحتمل.

عنه والاحتياط في وقت واحد لأنّ ثبوت البراءة يكشف عن عدم اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة بينما ثبوت الاحتياط يكشف عن اهتمامه بالمفسدة المحتملة فيلزم اجتماع المتنافيين - ولا يعمّ الأحكام الظاهرية الطولية ، أي التي يكون الموضوع فيها مختلفا ، وهذا كما هو الحال في مقامنا فإن البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في الحرمة الواقعية.

وبكلمة اخرى : يوجد في مقامنا شكّان ، وهما الشكّ في الحجّية والشكّ في الحرمة الواقعية ، والشكّ الأوّل ثبت له حكم ظاهري وهو البراءة الثانية والشكّ الثاني ثبت له حكم ظاهري آخر وهو الحجّية المشكوكة ، وليس هناك شكّ واحد ثبت له حكمان ظاهريان ليلزم المحذور.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ عند إجرائها نسأل عن البراءة الاولى هل تجرى أيضا أو لا؟ فإنّ اجريت البراءة الاولى - أي البراءة عن الحكم الواقعي - كان اجراؤها كافيا ومغنيا عن إجراء البراءة الثانية ؛ إذ بإجراء البراءة الاولى نصبح في أمان من احتمال العقاب فإنّ احتمال العقاب يتولّد من احتمال التكليف الواقعي ، فإذا نفيناه - احتمال التكليف الواقعي - بالبراءة ينتفي احتمال العقاب بالتبع ويصير إجراء البراءة الثانية لغوا. هذا لو اجريت البراءة الاولى قبل إجراء البراءة الثانية.

وأمّا إذا لم تجر الاولى قبل الثانية فلا يكون إجراء الثانية نافعا ؛ إذ بإجراء الثانية لا ينتفي احتمال التكليف الواقعي بل يبقى ثابتا ومع بقاءه نصير بحاجة إلى إجراء الاولى لنفيه ومع إجراء الاولى نكون في غنى من إجراء الثانية على ما تقدّم.

ص: 45

والجواب عن هذا الاعتراض : انّ احتمال العقوبة لا ينشأ فقط من احتمال التكليف الواقعي بل ينشأ أيضا من احتمال الحجّية المشكوكة فإنّ احتمال الحجّية المشكوكة يرجع إلى احتمال إبراز المولى اهتمامه بالتكليف الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال اهتمام المولى بالتكليف اهتماما مبرزا احتمال صالح للتنجيز واستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فليس الاحتمال الموجب لاحتمال العقوبة هو خصوص الاحتمال الأوّل بل الاحتمال الثاني صالح لذلك أيضا ، ومن هنا نجد بالوجدان أنّه يصحّ للمولى التصريح بمنجزية الاحتمال الأوّل دون الاحتمال الثاني بأن يقول هكذا : إذا احتملت التكليف الواقعى من دون احتمال قيام الحجّة عليه فلا يلزمك الاحتياط من أجله وإذا احتملت قيام الحجّة عليه فيلزمك الاحتياط ، إنّ هذا أمر معقول ، ومعقوليّته تدلّ على أنّ الاحتمال الثاني صالح للمنجزية أيضا وبالتالي لا بدّ من إجراء براءة ثانية لنفيه من دون لزوم محذور اللغوية.

هذا ولكن الصحيح بالرغم من كل ما ذكرناه الاكتفاء بإجراء البراءة الاولى بلا حاجة إلى إجراء الثانية.

ولتوضيح ذلك نذكر البيان التالي المركب من خمس نقاط : -

1 - انّ البراءة الاولى حكم ظاهري ، وهكذا الحجّية المشكوكة (1) ، حكم ظاهري. وهذان الحكمان الظاهريان عرضيان - أي أنّ موضوعهما واحد فموضع البراءة الاولى هو الشكّ في الحكم الواقعي وموضوع الحجّية المشكوكة هو الشكّ في الحكم الواقعي أيضا فإنّه عند الشكّ في الحكم الواقعي يجعل الشارع خبر الثقة

ص: 46


1- عبّرنا بالحجّية المشكوكة ولم نعبّر بالبراءة عن الحجّية المشكوكة فلا بدّ وأن لا يغفل عن ذلك.

مثلا حجّة - وليسا طوليين إذ الطولية ثابتة بين البراءة الثانية وبين الحجّية المشكوكة (1) وأمّا البراءة الاولى مع الحجّية المشكوكة فهما في عرض واحد.

2 - انّ كل حكمين ظاهريين إذا كانا عرضيين فهما متنافيان بوجودهما الواقعي سواء وصلا إلى المكلّف أم لا كما تقدّم ذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 36.

3 - انّ الحكمين الظاهريين العرضيين ما داما متنافيين فلازم ذلك حصول التنافي بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة لأنّهما حكمان ظاهريان عرضيان.

4 - انّ لازم المنافاة بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة هو أنّ البراءة الاولى إذا كانت ثابتة فالحجّية المشكوكة تكون منتفية.

5 - انّ البراءة الاولى إذا كانت منافية للحجّية المشكوكة فلازم ذلك أنّ مثل حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » الدال على البراءة الاولى دال على نفي الحجّية المشكوكة.

ومن خلال هذا يتّضح إنّا في غنى من إجراء البراءة الثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ حديث رفع عن امّتي يدل بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة ومع انتفائها بحديث الرفع فلا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية - لنفيها - وإن كان إجراؤها أمرا ممكنا أيضا إلاّ أنّه لا حاجة إليه.

ص: 47


1- إذ البراءة الثانية مع الحجّية المشكوكة لهما موضوعان مختلفان ، فموضع البراءة الثانية هو الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في التكليف الواقعي.

الاستصحاب في الأحكام الظاهرية

والنتيجة النهائية من كل ما سبق انّ البراءة لا تجري في الأحكام الظاهرية - أي الحجّية المشكوكة - بل تختص بنفي احتمال الأحكام الواقعية.

وقد تسأل هل يمكن أن يجري الاستصحاب في الأحكام الظاهرية أو لا يجري فيها كما لم تجر البراءة فيها؟

والجواب : نعم الاستصحاب يجري في الأحكام الظاهرية ، فلو كانت ظواهر القرآن الكريم مثلا متيقّنة الحجّية زمن الأئمّة علیهم السلام وشكّ في بقائها على الحجّية زماننا هذا من جهة احتمال نسخها - حجّية الظواهر - جرى استصحاب بقائها. وعليه فالاستصحاب يجري في الحجّية وإن كانت البراءة لا تجري لنفيها.

وقد تقول : لماذا لا يجري استصحاب في الحكم الواقعي المدلول لظواهر الكتاب الكريم وبذلك نكون في غنى عن إجراء الاستصحاب في حجّية الظواهر ، فمثلا لو فرض أنّ ظاهر القرآن الكريم يدلّ على وجوب صلاة الجمعة فبإمكاننا الاستغناء عن استصحاب بقاء حجّية الظواهر بإجراء الاستصحاب في نفس وجوب الجمعة.

والجواب : انّ هذا كلام متين ولكن قد يفرض أحيانا أنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الحكم الواقعي من جهة اختلال بعض أركانه - كما لو قيل بأنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام التكليفية كالوجوب مثلا ويختص جريانه بالأحكام الوضعية التي منها الحجّية - فيتعين إجراؤه في نفس الحجّية.

ص: 48

الاصول العملية الأربعة

اشارة

ص: 49

ص: 50

الوظيفة العملية حالة الشكّ

وبهذا ننهي الحديث عن التمهيد المتكفل للأبحاث الأربعة السابقة ونأخذ بالتحدّث عن الاصول العملية.

انّ مورد جريان الاصول العملية هو الشكّ في التكليف. والشكّ في التكليف تارة لا يكون مسبوقا بحالة سابقة متيقنة واخرى يكون مسبوقا بذلك. فإن كان مسبوقا بذلك فهو مورد الاستصحاب ويأتي البحث عنه مفصّلا ص 205 من الحلقة ، وإن لم يكن مسبوقا بذلك فهو مورد الاصول العملية الثلاثة ، أي التخيير والاحتياط والبراءة. ونتحدّث أوّلا عن الحالة الثانية ، أي التي لم يسبق فيها الشكّ باليقين. وهي تتضمّن الصور التالية : -

1 - حالة الشكّ البدوي ، أي حالة الشكّ في التكليف التي لا تكون مقرونة بالعلم الإجمالي كالشكّ في حرمة شرب التتن. وهذه مورد أصالة البراءة.

2 - حالة الشكّ المقرونة بالعلم الإجمالي بأنّ يعلم بثبوت التكليف ولكن يشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك ، كما لو فرض العلم بثبوت الوجوب يوم الجمعة وشكّ في تعلّقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة ، وكما لو علم بوجوب صلاة الصبح مثلا وشكّ في أنّ أجزائها عشرة - بحيث تكون جلسة الاستراحة جزء أيضا - أو تسعة ليس معها جلسة الاستراحة فأصل الوجوب معلوم ولكن لا يعلم تعلّقه بعشرة أو بتسعة. وهذه الحالة - أي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي - هي

ص: 51

مورد أصالة الاحتياط فإنّ مورد الاحتياط هو العلم بالتكليف والشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك.

ثمّ إنّ حالة العلم الإجمالي بالتكليف لها شقّان ؛ إذ تارة يكون متعلّق التكليف مردّدا بين المتباينين كمثال صلاة الظهر والجمعة فإنّ صلاة الظهر تباين صلاة الجمعة ، واخرى يكون مردّدا بين الأقل والأكثر كمثال الشكّ في أنّ أجزاء الصلاة تسعة أو عشرة.

والشقّ الأوّل ذكر في الكتاب تحت رقم (2) بينما الشقّ الثاني ذكر تحت رقم (4).

3 - حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة. وهذا مورد أصالة التخيير.

4 - وفي الصورة الرابعة يبحث عن حالة العلم الإجمالي المتعلّق بالأقل والأكثر كما أشرنا إلى ذلك.

ص: 52

الوظيفة حالة الشكّ البدوي

اشارة

وفي الحالة الاولى وهي حالة الشكّ البدوي - أي غير المقرونة بالعلم الإجمالي - يبحث عن أصالة البراءة لأنّ ذلك هو موردها.

والبحث عن ذلك يقع في مرحلتين : -

أ - في تشخيص ما يحكم به العقل بقطع النظر عن الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الأولية.

ب - في تشخيص ما تقتضيه الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الثانوية.

الوظيفة الأولية حالة الشكّ

اشارة

قوله ص 29 س 1 : كلّما شكّ المكلّف ... : إذا شكّ المكلّف في حرمة شرب التتن مثلا ولم يتمكّن من إثبات حلّيته أو حرمته بواسطة النصوص الشرعية فلا بدّ من تحديد الأصل العملي أو بعبارة اخرى الوظيفة العملية اتّجاه الحرمة المشكوكة فهل يلزم الاحتياط لأجلها أو تجري البراءة؟ وفي هذا المجال نطرح السؤالين التاليين : -

1 - لو قطعنا النظر عن النصوص الشرعية والتفتنا إلى العقل فقط فهل يحكم - العقل - بلزوم الاحتياط أو البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي يحكم

ص: 53

بها العقل بالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ.

2 - لو التفتنا إلى النصوص الشرعية فماذا نستفيد منها؟ فهل نستفيد أنّ الوظيفة هي الاحتياط أو هي البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي تحدّدها النصوص الشرعية بالوظيفة الثانوية حالة الشك.

وعليه فالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ تعني تحديد ما يحكم به العقل بقطع النظر عن النصوص الشرعية بينما الوظيفة الثانوية تعني تحديد ما تحكم به النصوص الشرعية.

وفي تحديد الوظيفة الأوليّة ، وبكلمة اخرى في تحديد ما يحكم به العقل عند الشكّ في حكم من الأحكام يوجد مسلكان : - مسلك قبح العقاب بلا بيان

أ - والمسلك الأوّل - وهو المشهور بين الاصوليّين (1) - يقول انّ العقل يحكم بقبح العقاب على حرمة شرب التتن مثلا ما دامت الحرمة لا يعلم بها المكلّف.

ص: 54


1- ولكن ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في الرسائل ص 214 من الطبعة القديمة المحشاة بحواشي رحمة اللّه انّ جماعة من قدماء الاصوليين كالشيخ الطوسي والمفيد والسيد المرتضى وابن زهرة أنكروا حكم العقل بهذه القاعدة وقالوا أنّ العقل يحكم بالاحتياط. واستدلّ الشيخ الطوسي على ذلك بأنّ الإقدام على شيء تحتمل حرمته هو إقدام على ما يحتمل فيه المفسدة ، والإقدام على ما يحتمل فيه المفسدة كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة. وقد نقل الآخوند ذلك في الكفاية أيضا فراجع الجزء الثاني ص ١٨٠ من الطبعة المحشاة بحواشي المشكيني.

وعبروا عن هذا الحكم العقلي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (1). وتكاد أن تكون القاعدة المذكورة عندهم من الامور الواضحة التي لا ينبغي التشكيك فيها. وحاول البعض الاستدلال عليها. وننقل في هذا المجال استدلالين للميرزا وآخرين للشيخ الأصفهاني.

الدليل الأوّل

ما ذكره الميرزا من أنّ المقتضي للتحرك هو العلم فالإنسان إذا كان يعلم بوجود الأسد إلى جانبه يتحرّك فارا ، أمّا إذا لم يعلم به فلا يفرّ ، فالمحرّك إذن هو العلم. وعليه فإذا كان المكلّف عالما بحرمة شرب التتن فالمقتضي لتحرّكه نحو الامتثال موجود أمّا إذا لم يعلم بالحرمة فلا مقتضي لتحرّكه نحو الامتثال ، ومع عدم المقتضي للتحرّك نحو الامتثال يكون عقابه على مخالفة الحرمة التي لا يعلم بها عقابا على ما لا مقتضي للتحرك عنه وهو قبيح.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص 315 الجواب عن البيان المذكور وأن كون المقتضي للتحرّك خصوص العلم أول الكلام وعين المتنازع فيه إذ كون المقتضي للتحرّك هو خصوص العلم فرع أن نقول أنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة في خصوص التكاليف التي نقطع بثبوتها وليس له حقّ الطاعة في التكاليف التي نحتمل ثبوتها ؛ إذ لو كان له حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة فمعنى ذلك انّ احتمال ثبوت التكليف مقتض للتحرك أيضا وليس المقتضي للتحرّك خصوص

ص: 55


1- المقصود من البيان خصوص العلم.

التكليف المعلوم. إذن بحثنا لا بدّ وأن ينتهي وينصبّ على تحديد دائرة حقّ الطاعة ، أي تحديد أنّ اللّه سبحانه هل له حقّ الطاعة علينا في خصوص التكاليف المعلومة أو في التكاليف المحتملة أيضا ، وعقلنا يحكم بأنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة ولا يختص بخصوص التكاليف المعلومة (1) ، وإذا لم يكن حق الطاعة مختصا بالتكاليف المعلومة بل شاملا للتكاليف المحتملة أيضا فالمقتضي للتحرك نحو الامتثال عند احتمال ثبوت التكليف واقعا يكون ثابتا وبالتالي لا يكون العقاب قبيحا.

الدليل الثاني

ما ذكره الميرزا أيضا من أنّ الأعراف العقلائية متبانية على قبح عقاب من خالف قانونا من القوانين وهو لا يعلم به ، فالغريب عن بلد إذا دخل بعض شوارعه التي منعت الحكومة من الدخول فيه وهو لا يعلم بالمنع يقبح عقابه.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص 316 الجواب عن البيان المذكور بما حاصله أنّ المولوية الثابتة للمولى على قسمين (2) : -

أ - فتارة تكون مجعولة من قبل الغير كالمولوية الثابتة لرئيس العشيرة فإنّ مولويته وحقّ إطاعته ثابت له بسبب جعل أفراد عشيرته ذلك الحقّ له عليهم وكمولوية الأب بالنسبة إلى ولده أو الزوج بالنسبة إلى زوجته فإنّها ثابتة بسبب

ص: 56


1- والوجه في حكم العقل هذا وتوضيحه يأتي فيما بعد إنشاء اللّه تعالى.
2- وتعني المولوية حقّ الطاعة فالمولوية - حقّ الطاعة.

جعل الشرع المقدّس لذلك.

ب - واخرى تكون ذاتية وحقيقية بمعنى أنّها لم تجعل من قبل الغير كمولوية اللّه سبحانه بالنسبة إلى جميع أفراد البشر فإنّها ثابتة بسبب كونه تعالى منعما وخالقا ومدبّرا لأمر العباد.

وإذا عرفنا أنّ المولوية تنقسم إلى القسمين المذكورين فنقول انّ المولوية إذا كانت مجعولة وثابتة بسبب جعل الغير لها فمقدار سعة دائرتها وضيقها يتحدّد بحدود سعة الجعل وضيقه ، فأفراد العشيرة إذا جعلوا للرئيس حقّ طاعته في مطلق القضايا كانت مولويته عامة لجميع ذلك وإذا جعلوها خاصّة ببعضها كانت خاصّة ، وأمّا إذا كانت المولوية ذاتية فلا بدّ من الرجوع إلى العقل الذي حكم بثبوت المولوية الذاتية له سبحانه وهو يحكم بسعة حقّ طاعته وشموله للتكاليف المحتملة (1).

الدليل الثالث
اشارة

ما ذكره الشيخ الأصفهاني. وهو يتوقّف على بيان مقدّمة حاصلها : انّه تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 424 أنّ حكم العقل ينقسم إلى قسمين عملي ونظري. والمقصود من الحكم العملي الحكم الذي يرتبط بجانب العمل كالحكم بأنّ الصدق يحسن فعله ، والكذب لا يحسن فعله ، والأمانة يحسن فعلها ،

ص: 57


1- ويمكن أيضا مناقشة دليل الميرزا هذا بأنّا لا نعرف وجود مثل هذه الأعراف العقلائية التي استشهد بها ، فإنّ الأعراف العقلائية تقضي بقبح عقاب من دخل شارعا وهو يعتقد عدم المنع من دخوله أو كان غافلا عنه ، أمّا إذا كان محتملا أو ظانا بالمنع فقبح ذمّه وعقابه أوّل الكلام.

والخيانة لا يحسن فعلها وأمثال ذلك. والمقصود من الحكم النظري الحكم الذي لا يرتبط بجانب العمل كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين أو الدور أو التسلسل أو إمكان اجتماع المتخالفين وأمثال ذلك.

وبعد اتّضاح هذا نسأل : ما هي عدد أفراد الحكم النظري؟ أنّها كثيرة جدّا منها الأمثلة المتقدّمة. أمّا أفراد الحكم العملي فقد ذكر جماعة منهم الشيخ الأصفهاني أنّها منحصرة في قضيّتين هما : العدل حسن والظلم قبيح.

وقد تستغرب كيف نحصر الحكم العملي في هاتين القضيّتين والحال أنّ هناك قضايا كثيرة يمكن عدّها من الأحكام العقلية العملية كالحكم بأنّ الصدق حسن والأمانة حسنة والايثار حسن و ... والكذب قبيح والخيانة قبيحة ... وقد دفع الشيخ الأصفهاني ذلك بأنّ القضايا المذكورة مصاديق لتينك القضيتين ، فالعقل يحكم بأنّ الصدق حسن بما أنّه مصداق لقضية العدل حسن فإنّ العدل عبارة عن وضع الشيء في موضعه المناسب ، ومن الواضح الصدق هو شيء موضوع في موضعه المناسب والعقل حينما يحكم بحسنه لا يحكم بذلك بعنوان انّه صدق بل بما أنّه عدل ووضع للشيء في موضعه المناسب. وهكذا يقال في باقي القضايا المذكورة (1).

وباتّضاح هذه المقدّمة يقول الأصفهاني في دليله على قاعدة قبح العقاب : بأنّ القبيح بنظر العقل العملي شيء واحد وهو الظلم ، فلا بدّ وأن نحقّق هذه النقطة

ص: 58


1- بل هناك دعوى تقرب من هذه الدعوى تقول أنّ حال الأحكام النظرية ذلك أيضا فهناك حكم نظري واحد ، وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين وجميع القضايا الاخرى ترجع إلى هذه القضية ، فالدور أو التسلسل مثلا مستحيل لأنّه يلزم منه اجتماع أو ارتفاع النقيضين.

وهي : متى تكون مخالفة تكاليف المولى ظلما له - المولى - حتّى تكون قبيحة فهل مخالفة التكليف المعلوم ثبوته هي القبيحة فقط أو مخالفة التكليف الذي يحتمل ثبوته قبيحة أيضا؟ والجواب : أنّ التكليف إذا كان معلوما فمخالفته خروج عمّا تقتضيه عبودية العبد وتجاوز على مولوية المولى فتكون ظلما وبالتالي يستحقّ العبد الذمّ والعقاب من قبل مولاه على مخالفة التكليف المعلوم ، وأمّا إذا لم يكن التكليف معلوم التحقّق بل كان محتملا فمخالفته ليست تجاوزا وتعدّيا على مولوية المولى حتّى تكون ظلما له ، ومعه فلا يجوز الذمّ والعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل ، وهو المطلوب.

الجواب عن دليل الأصفهاني

ويمكن الجواب بأنّا لا نسلّم انحصار حكم العقل العملي في قضية « الظلم قبيح » بل هناك قضية اخرى يحكم بها قبل القضية المذكورة.

توضيح ذلك : إنّا نسأل عن معنى الظلم وماذا يراد منه حينما يقال : « الظلم قبيح »؟ انّه يعني سلب حقّ الغير ، ولازم هذا أنّ العقل العملي قبل حكمه بقبح الظلم يحكم بأنّ اللّه سبحانه له علينا حقّ الطاعة ؛ إذ لو لم يحكم بذلك فلا يتحقّق من العبد ظلم له سبحانه.

إذن هناك قضية يحكم بها العقل العملي قبل قضية « الظلم قبيح » وهي قضية أنّ اللّه سبحانه له حقّ الطاعة علينا ، ومعه فلا بدّ وأن نوجّه البحث إلى القضية المذكورة لنرى انّه سبحانه هل له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكليف المحتمل او في خصوص التكليف المعلوم ، في هذه النقطة بالذات لا بدّ وأن يتمركز

ص: 59

البحث. ولا نحتمل في هذه النقطة حكم عاقل بضيق حقّه سبحانه واختصاصه بخصوص التكاليف المقطوعة بل هو شامل جزما للتكاليف المحتملة ، ومع سعة الحقّ المذكور يلزم تبعا لذلك حكم العقل بلزوم الاحتياط كلّما احتمل ثبوت تكليف في الواقع ، فعند الشكّ في حرمة التدخين مثلا يلزم الاحتياط بتركه ؛ إذ بفعله يكون المكلّف ظالما للمولى حيث إنّ له حقّ الطاعة حسب الفرض في التكليف المحتمل أيضا.

الدليل الرابع
اشارة

ما ذكره الشيخ الأصفهاني أيضا. وحاصله : إنّ التكليف على قسمين : إنشائي وحقيقي.

والمقصود من الإنشائي إنشاء التكليف وجعله وتشريعه ، فنفس تشريع الحكم وإنشائه عبارة اخرى عن التكليف الإنشائي.

والمقصود من التكليف الحقيقي إنشاء التكليف بداعي تحريك المكلّف نحو الفعل ، فالفرق إذن بين التكليف الإنشائي والحقيقي هو أنّ الحقيقي يشتمل على داعي التحريك بخلاف الإنشائي فإنّه مجرّد عن ذلك.

ويترتّب على ذلك : انّ التكليف الإنشائي ليس له أهمية لأنّه لا تجب إطاعته ولا تترتّب على مخالفته عقوبة وإنّما المهم هو التكليف الحقيقي حيث إنّه ما دام يشتمل على داعي التحريك فتكون إطاعته لازمة. وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا بدّ وأن تكون ناظرة إلى التكليف الحقيقي فهي تريد أن تقول انّ التكليف الحقيقي ما دام لا بيان عليه فالعقوبة عليه قبيحة ، وأمّا التكليف الإنشائي فهو

ص: 60

ليس بمهم ولا تنظر له القاعدة فإنّ التكليف الإنشائي حتّى إذا كان معلوما لا تترتّب على مخالفته العقوبة ولا يختص قبح العقوبة عليه بحالة الجهل به بل يعمّ حالة العلم أيضا ، وهذا بخلافه في التكليف الحقيقي فإنّه الذي يمكن أن يقال إنّ العقوبة عليه قبيحة عند الجهل به دون العلم.

وإذا كانت قاعدة قبح العقاب ناظرة إلى التكليف الحقيقي فلنا أن نقول في البرهنة على القاعدة إنّ التكليف الحقيقي كما أنّه يختص بالقادر على الامتثال ولا يعمّ العاجز - إذ العاجز لا يمكنه التحرّك حتّى ينشأ المولى في حقّه تكليفا بداعي التحريك - كذلك هو يختص بالعالم دون الجاهل فإنّ العالم بالتكليف هو الذي يمكنه التحرك نحو امتثال التكليف دون الجاهل ؛ إذ التحرك نحو امتثال التكليف فرع العلم بالتكليف.

وباتّضاح اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم يتّضح أنّه من دون البيان - أي من دون العلم - لا ثبوت للتكليف الحقيقي كي يعاقب عليه المكلّف ، فقبح العقاب قبل البيان ليس إلاّ من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، أي من جهة أنّه لا تكليف ليعاقب عليه لا أنّه ثابت والعقل يحكم بقبح العقوبة عليه.

وبهذا نعرف أنّ الشيخ الأصفهاني أعطى معنى جديدا لقاعدة قبح العقاب أعمق من المعنى الذي كنّا نفهمه سابقا ، فقد كنّا سابقا نفهم من القاعدة المذكورة أنّ التكليف قبل علم المكلّف به ثابت في حقّه ولكنّه يقبح العقاب عليه من جهة عدم العلم به بينما المعنى الجديد الذي يتقدّم به الأصفهاني هو أنّ المكلّف ما دام لا يعلم بالتكليف فلا ثبوت للتكليف الحقيقي في حقّه حتّى يعاقب عليه.

ص: 61

مناقشة الدليل الرابع

ويمكن مناقشة الدليل المذكور بما يلي : -

أ - نسأل الأصفهاني عن حقّ الطاعة الثابت له سبحانه هل يرى شموله للتكاليف المحتملة أو يختص بالتكاليف المقطوعة؟ فإنّ كان يختار الأوّل فلازم ذلك أن يكون احتمال التكليف صالحا لتحريك المكلّف نحو الامتثال ولا يختص لزوم التحرّك بحالة العلم بالتكليف وبالتالي فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم لا يكون له وجه.

وإن كان يختار الثاني فقاعدة قبح العقاب تكون تامّة ولكن لا يحتاج البرهنة عليها إلى هذا التطويل ؛ إذ يكفي أن يقال إنّه قبل البيان لا يصحّ العقاب على التكليف لعدم الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة بلا حاجة إلى تقسيم التكليف إلى إنشائي وحقيقي وأنّ الحقيقي يختصّ بالعالم ...

وبهذا يتّضح أنّ جهودنا لا بدّ من توجيهها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة والبحث عن ذلك ، فإن قلنا باختصاصها بالتكاليف المقطوعة ثبتت بذلك قاعدة قبح العقاب من جهة عدم ثبوت الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة ، وإن قلنا بعموميتها للتكاليف المحتملة كانت قاعدة قبح العقاب باطلة لأنّه سبحانه له حقّ الطاعة في التكاليف المحتملة أيضا.

ب - ما هو المقصود من التكليف الحقيقي فهل يراد به التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة أو التكليف الناشئ بداعي التحريك؟ وعلى الأوّل فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم باطل ، فإنّ التكليف الناشئ عن إرادة

ص: 62

ومصلحة لا يتوقّف على العلم بل يمكن ثبوته في حقّ الجاهل أيضا ، أجل مع احتمال المكلّف له - أي للتكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة - وعدم علمه به لا يكون منجزا فالتكليف ثابت بيد أنّه ليس بمنجز لعدم العلم به (1).

وعلى الثاني فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بخصوص العالم وعدم ثبوته في حقّ الجاهل قد يكون صحيحا ولكن أقصى ما يثبت بذلك أنّ اسم التكليف الحقيقي ولفظه لا يكون صادقا ، وهو غير مهم ، فإنّ صدق لفظ التكليف الحقيقي وعدمه ليس له كثير أهمية ؛ إذ حتّى لو سلّمنا عدم صدقه فيبقى من حقّنا أن نسأل هل يبقى المكلّف محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، أي ما نشأ عن مصلحة وإرادة؟ ولا بدّ وأن يكون الجواب بالإيجاب ؛ إذ التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة يمكن ثبوته في حقّ الجاهل ، ومع احتماله فلا بدّ من البحث عن كونه منجزا أو لا ، فإن كان منجزا وجب الاحتياط ولا يكون العقاب على مخالفته قبيحا حتّى وإن لم يصدق عليه عنوان التكليف الحقيقي فإنّ صدقه ليس بمهم ، والأصفهاني لم يثبت عدم كونه منجزا.

وباختصار : أنّ التكليف الحقيقي له معنيان ، والمعنى الأوّل لا يختص بالعالم ، والمعنى الثاني وإن فرض اختصاصه به إلاّ أنّ المكلّف يبقى محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، ولم يثبت الأصفهاني عدم كونه منجزا فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ التكليف الحقيقي بالمعنى الثاني ليس بصادق ولم يثبت أنّ احتمال التكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ليس منجزا.

ص: 63


1- وطبيعي لا بدّ للأصفهاني - بعد اتّضاح بطلان البرهان الذي استدل به - من إقامة البرهان على عدم كون احتمال التكليف منجزا.
بطلان قاعدة قبح العقاب

ومن خلال هذا كلّه اتّضح أنّ قاعدة قبح العقاب ليس تامّة لبطلان أدلّتها الأربعة. كما واتّضح صحّة المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة.

مسلك حق الطاعة

ب - ومسلك حقّ الطاعة يقول انّ احتمال التكليف منجز أيضا ولا يختص التنجيز بحالة العلم بالتكليف لأنّ اللّه سبحانه له حقّ الطاعة علينا حتّى في التكليف المحتمل ولا يختص بالمعلوم.

والدليل على سعة الحقّ المذكور أنّه سبحانه منعم علينا بنعم لا تعدّ ولا تحصى ، والعقل كما يدرك أصل وجوب شكره سبحانه باعتبار المنعمية كذلك يدرك أنّ مقتضى الشكر وجوب إطاعته لا في خصوص التكاليف المقطوعة بل المحتملة أيضا. وكما أنّ أصل وجوب شكره سبحانه وإطاعته هو من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى إقامة برهان عليها كذلك سعة الحقّ المذكور هي من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى برهنة عليها (1).

ص: 64


1- وممّا يؤكّد سعة الحقّ المذكور : أنّ كل شيء موجود على الأرض هو ملك له سبحانه ملكية حقيقية - لا كملكيتنا للأشياء التي هي ملكية اعتبارية يعتبرها العقلاء - نشأت من كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء ، فإنّ الخالق لشيء مالك له ، وما دام سبحانه مالكا للسيكارة والشفّة والصدر واليد فكيف يتصرّف المكلّف في السيكارة وفي اليد والشفّة بقبضها؟ انّ ذلك تصرّف في ملك الغير وهو لا يجوز إلاّ عند القطع بإذنه. انّ العقل الحاكم بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بدون قطع بإذنه يحكم بقبح التصرّف المذكور في المقام أيضا ، بل هو أولى بذلك حيث أنّ الملكية فيه حقيقية بخلافه هناك فهي اعتبارية. هكذا ذكر قدس سره في مجلس بحثه الشريف على ما أتذكر ، ولكنّه أعرض عنه بعد ذلك.
حكم العقل تعليقي

وقد يتصوّر أنّ النتيجة على مسلك حقّ الطاعة تختلف عنها على رأي المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب ، فعلى مسلك حقّ الطاعة يكون شرب التتن مثلا محرّما لأنّه محتمل الحرمة واحتمال الحرمة منجز بينما على رأي المشهور يكون جائزا لأنّ حرمته ما دامت غير معلومة فيقبح العقاب عليها.

والتصور المذكور خاطئ فإن العقل وإن حكم على مسلك حقّ الطاعة بمنجزية الاحتمال إلاّ أنّ حكمه هذا معلّق ، أي هو يقول إنّ احتمال حرمة شرب التتن منجز وموجب للاحتياط فيما إذا لم يأذن الشارع في ترك الاحتياط فإنّ العقل لا يحكم بشيء في مقابل الشارع.

وإن شئت قلت : انّ حكم العقل بلزوم الاحتياط ليس إلاّ للتحفظ على أحكام الشارع ومراعاة حقّه فإذا فرض تنازله عن حقّه فلا يبقى حاكما بلزوم الاحتياط ، فشرب التتن وإن حكم العقل بلزوم تركه من جهة انّه محتمل الحرمة والاحتمال منجز إلاّ أنّ الشرع ما دام قد حكم بالبراءة بمثل قوله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهو يرفع يده عن حكمه بالمنجزية.

ومن هنا فالنتيجة العملية لا تختلف على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان عنها على مسلك حقّ الطاعة وإنّما الاختلاف بينهما اختلاف نظري لا عملي.

ص: 65

قوله ص 30 س 12 : وفي نفس الأمر : عطف تفسير للواقع.

قوله ص 30 س 17 : تطبيقات له : أي مصاديق لحكم العقل بقبح الظلم.

قوله ص 31 س 12 : تعميقا لقاعدة : أي أعطاها معنى أعمق حيث إنّا نفهم منها أنّ التكليف عند عدم العلم به ثابت ولكن لا عقاب عليه بينما الأصفهاني فسّرها بأنّه عند عدم العلم بالتكليف لا يكون أصل التكليف الحقيقي ثابتا كي يعاقب عليه.

قوله ص 31 س 15 : على الوصول : أي العلم.

قوله ص 32 س 1 : وكما يختص : هذه الجملة أشبه بعطف التفسير على سابقتها.

قوله ص 32 س 3 : والتنجيز : عطف تفسير للعقاب.

قوله ص 32 س 12 : ليس مولى : أي ليس ممّن تجب طاعته ، فإنّ لفظ المولى يرادف لفظ من تجب طاعته.

قوله ص 32 س 14 : وهكذا نجد مرّة اخرى : أي كما وجدنا ذلك سابقا ص 31 س 7.

قوله ص 33 س 1 : وإن المكلّف الشاكّ : عطف تفسير لقوله غير منجز.

قوله ص 33 س 4 : فلنفترض ... : إنّما عبّر بقوله « فلنفترض » ولم يجزم باختصاص داعي التحريك بصورة الوصول لأنّه تقدّم منه قدس سره في الإيراد الأوّل أنّ داعي التحريك يمكن ثبوته في صورة الشكّ ؛ إذ حقّ الطاعة شامل لصورة احتمال التكليف ولا يختص بحالة العلم.

قوله ص 33 س 5 : في وجود جعل بمبادئه : أي في التكليف الحقيقي بالمعنى

ص: 66

الأوّل.

قوله ص 33 س 8 : ذلك : أي الجعل الناشئ من الإرادة والمصلحة الملزمتين.

قوله ص 33 س 9 : واقع الحال : كلمة « واقع » مضاف لكلمة « الحال ».

قوله ص 33 س 15 : وهذا من مدركات العقل العملي : العقل العملي هو العقل الذي يحكم بما يرتبط بحيثيّة العمل ، ومن الواضح أنّ حقّ الطاعة يرتبط بحيثيّة العمل لأنّ معناه وجوب فعل كل ما هو واجب وترك كل ما هو حرام.

قوله ص 33 س 16 : وهي غير مبرهنة : أي لا برهان عليها بل هي بديهية أودعها اللّه سبحانه في عقل الإنسان.

قوله ص 34 س 3 : على ما تقدّم : في القسم الأوّل ص 49.

الوظيفة الثانوية حالة الشكّ

قوله ص 35 س 1 : والقاعدة العملية ... : تقدّم في البحث السابق أنّ العقل يحكم بأنّ احتمال التكليف منجز - بناء على مسلك حقّ الطاعة - بيد أنّ هذا الحكم معلّق على عدم حكم الشارع بالبراءة. ومن هنا ينفتح مجال لبحث جديد وهو أنّ الشارع هل حكم بالبراءة حتّى لا يكون احتمال التكليف منجزا عقلا - وبالتالي حتّى تكون الوظيفة الثانوية حالة الشكّ هي البراءة وإن كانت الوظيفة الأوّلية تقتضي منجزية الاحتمال - أو لم يحكم حتّى يكون احتمال التكليف منجزا عقلا. ولهذا سوف نأخذ بالبحث في البراءة الشرعية. والكلام فيها يقع في مبحثين : -

ص: 67

أ - في الأدلّة الدالّة على البراءة الشرعية.

ب - في الوجوه المعارضة للبراءة الشرعية الدالة على أنّ الشارع حكم بالاحتياط دون البراءة.

المبحث الأوّل
اشارة

والأدلة على البراءة الشرعية تتمثّل في آيات من القرآن الكريم وروايات من السنّة الشريفة (1).

أمّا الكتاب الكريم فيمكن الاستدلال منه بعدّة آيات : -

الآية الاولى
اشارة

استدلّ على البراءة الشرعية بقوله تعالى في سورة الطلاق : 7 ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) . وقد وردت الآية الكريمة ضمن آيات اخرى ناظرة إلى مسألة إنفاق الزوج على زوجته عند طلاقه لها فالزوج إذا طلّق زوجته وكانت حاملا لزمه الانفاق عليها إلى أن تلد ، وإذا ولدت وقامت بإرضاع طفله لزمه دفع الاجرة على الأرضاع. ولكن ما هو مقدار الاجرة؟ انّه يختلف باختلاف غنى الزوج وفقره فمن كان غنيا ينفق بما يتناسب وغناه ومن كان فقيرا ينفق ما يتمكّن عليه فإنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ

ص: 68


1- وأمّا الإجماع فلم يستدل به لعدم تحقّقه بعد مخالفة الأخباريين ، مضافا إلى كونه على تقدير تحقّقه محتمل أو قطعي المدرك. وأمّا العقل فلم يستدل به هنا لتقدّم ذكره تحت عنوان الوظيفة الأولية حالة الشك.

قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وتقريب الاستدلال - حسبما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل - انّ كلمة « ما » في جملة « إلاّ ما آتاها » اسم موصول ، أي لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ الذي آتاها. وما هو المقصود من اسم الموصول المذكور؟ إنّ في المقصود منه ثلاثة احتمالات : -

أ - المال. أي لا يكلّف اللّه نفسا بدفع مال إلاّ بالمقدار الذي آتاها ومكّنها منه. والقرينة على هذا الاحتمال هو المورد ؛ إذ مورد الآية وسياقها ناظر إلى المال وانّ انفاق المال لا يجب إلاّ بالمقدار الميسور.

ب - الفعل. أي لا يكلّف اللّه نفسا بفعل من الأفعال إلاّ مع القدرة على ذلك الفعل. والقرينة على هذا الاحتمال هو كلمة « يكلّف » فإنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بالأفعال.

وعلى هذين الاحتمالين لا ينتفع بالآية الكريمة في الاستدلال بها على البراءة لأنّها ناظرة إلى المال والفعل وأجنبية عن التكليف.

ج - التكليف. أي لا يكلّف اللّه نفسا بتكليف إلاّ إذا آتاها التكليف ، وواضح انّ إتياء كل شيء بحسبه ، وإيتاء التكليف عبارة عن إيصاله وأعلام المكلّف به. وبناء على هذا الاحتمال يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة ؛ إذ يصير المعنى : انّ اللّه لا يكلّف نفسا بتكليف إلاّ إذا أعلمها بذلك التكليف فقبل الإعلام لا تكليف ، وهذا هو المطلوب.

ولكن كيف نثبت هذا الاحتمال الثالث في حين انّ بالإمكان إرادة أحد الاحتمالين الأولين الذين لا يتمّ الاستدلال بناء عليهما؟ ذكر الشيخ الأعظم انّه قد يتمسّك بالإطلاق بأن يقال إنّ مقتضى إطلاق اسم الموصول هو الشمول لجميع

ص: 69

الاحتمالات الثلاثة التي أحدها التكليف وببركته يثبت انّ الآية ناظرة إلى التكليف أيضا ، أي أنّها تنفي ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وهو المطلوب.

لا يقال : ان مورد الآية حيث انّه هو المال فتكون الآية الكريمة ناظرة إلى خصوص المال ولا تكون شاملة للتكليف.

فإنّه يقال : انّ المورد لا يخصص الوارد.

اعتراض الشيخ الأعظم

وقد اعترض الشيخ الأعظم على الاستدلال المذكور بما حاصله : انّه على الاحتمالين الأوّلين تكون نسبة الفعل - أي يكلّف - إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول به ، فإنّ المال والفعل هما المتعلّق للتكليف ، وواضح انّ المتعلق للفعل هو عبارة اخرى عن المفعول به ، بينما على الاحتمال الثالث تكون نسبة الفعل إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول المطلق (1) ؛ إذ يصير المعنى هكذا : لا يكلّف اللّه إلاّ تكليفا آتاه. وحيث انّ نسبة الفعل إلى المفعول به تغاير نسبة الفعل إلى المفعول المطلق - فإنّ النسبة إلى المفعول المطلق هي نسبة الحدث إلى ما هو طور من أطواره وشأن من شؤونه بينما النسبة إلى المفعول به هي نسبة المغاير إلى المغاير - فلا يمكن أن تكون هيئة الجملة (2) مستعملة فيهما معا لأنّ لازمه الاستعمال في معنيين وهو مستحيل. ومعه فلا بدّ وأن يكون المقصود أمّا أحد الاحتمالين الأوّلين

ص: 70


1- ليس المقصود من كون اسم الموصول مفعولا به أو مفعولا مطلقا انّه يعرب كذلك بل المقصود انّه بحسب المعنى يكون كذلك.
2- أي الحاصلة بين الفعل - يكلّف - واسم الموصول.

أو الاحتمال الثالث ، وحيث لا نجزم بإرادة الاحتمال الثالث فلا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة.

وباختصار : انّ النسبة على الاحتمالين الأوّلين حيث انّها تغايرها على الاحتمال الثالث فلا بدّ وأن تكون الهيئة مستعملة في إحداهما لا في كليهما ، وحيث انّه لا معيّن لإرادة النسبة إلى المفعول المطلق فلا يمكن الاستدلال بالآية.

جوابان عن اعتراض الشيخ الأعظم

وقد سجل في الكتاب جوابان على الاعتراض المذكور : -

1 - ما ذكره الشيخ العراقي من أنّ هيئة الجملة ليست مستعملة في النسبتين حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد بل في الجامع بين النسبتين ، وحيث انّ الجامع معنى واحد فيلزم الاستعمال في معنى واحد لا في معنيين. وهذا نظير كلمة البيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) فإنّها تشمل جميع أقسام البيوع - كبيع النقد وبيع النسيئة والبيع العقدي والبيع المعاطاتي و ... من دون أن يلزم الاستعمالها في أكثر من معنى واحد ، وما ذاك إلاّ من جهة استعمالها في الجامع الذي هو حقيقة البيع المجرّدة عن الخصوصيات.

وفيه : أنّه ما المقصود من الجامع بين النسبتين فهل يراد به الجامع الحقيقي بين النسبتين أو يراد به نسبة ثالثة تلائم كلتا النسبتين وإن لم تكن جامعا حقيقيا - لهما؟

والأوّل يرده ما تقدّم في القسم الأوّل ص 99 من أنّ الجامع الحقيقي بين النسب غير معقول ؛ إذ الجامع الحقيقي بين الشيئين لا يمكن الحصول عليه إلاّ بعد

ص: 71

طرح ما به الافتراق ، فزيد وعمرو إذا طرحنا الفوارق بينهما فالمتبقى بعد ذلك - وهو الحيوان الناطق - يكون الجامع الذاتي ، وهذا في مقامنا متعذّر فإنّ افتراق كل نسبة عن النسبة الاخرى ليس إلاّ بطرفيها ، ففي قولنا : « سرت من البصرة » وقولنا : « سرت من الكوفة » تمتاز النسبة الاولى عن النسبة الثانية بالطرفين أي : السير والبصرة ، والسير والكوفة ، ومن الواضح أنّه بعد إلغاء طرفي النسبة لا يبقى شيء كي يكون هو الجامع الذاتي (1).

والثاني باطل أيضا باعتبار : -

أ - انّ النسبة الثالثة الملائمة لكلتا النسبتين من دون أن تكون جامعة لهما كيف يمكن إثبات انّها مقصودة فإنّ ظاهر هيئة الجملة يساعد على إرادة نسبة الفعل إلى المفعول به فقط أو إرادة نسبة الفعل إلى المفعول المطلق فقط ولا يساعد على إرادة النسبة الثالثة الملائمة للنسبتين المذكورتين.

ب - انّ أصل وجود مثل هذه النسبة الثالثة غير معلوم فلا يوجد في اللغة العربية نسبة تلائم نسبتين.

والصحيح في الجواب أن يقال : انّه حتّى لو فسّرنا اسم الموصول بالتكليف فالنسبة بين « يكلّف » واسم الموصول هي نسبة الفعل إلى المفعول به لا إلى المفعول المطلق ، ومعه فتكون النسبة نسبة واحدة على جميع الاحتمالات الثلاثة ولا تكون هناك نسبتان متغايرتان حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ص: 72


1- هذا ولكن الشيخ العراقي على ما في بدائع الأفكار ص 57 ونهاية الأفكار ج 1 ص 53 يرى أنّ الجامع الذاتي بين النسب ثابت خلافا للشيخ الأصفهاني والسيد الخوئي والشهيد فانّهم يرون عدم إمكان تحقّق الجامع الذاتي.

ولكن كيف يكون اسم الموصول بناء على تفسيره بالتكليف مفعولا به لا مفعولا مطلقا؟ الجواب : انّ التكليف يستعمل بمعنيين فتارة يستعمل بمعنى المصدر ، أي كمصدر ليكلّف ، وبناء على هذا يصير التكليف مفعولا مطلقا حيث يصير المعنى : لا يكلّف اللّه تكليفا ، واخرى يستعمل بمعنى الحكم الشرعي أي الوجوب والحرمة ويصير المعنى : لا يكلّف اللّه (1) نفسا ولا يحمّلها حكما شرعيا إلاّ إذا آتاها ، وبناء عليه يصير اسم الموصول الذي هو بمعنى الحكم الشرعي مفعولا به لأنّه المتعلّق للتحميل. وكثيرا ما يستعمل العرف كلمة « الحكم الشرعي » مفعولا به حيث يقال هل كلّفت بحكم شرعي (2) فيجعل الحكم الشرعي متعلّقا للتكليف والتحميل.

والشبهة نشأت من تفسير اسم الموصول بالتكليف وتفسير التكليف بنفس معنى يكلّف ، فإنّ معنى يكلّف هو التحميل فإذا فسّرنا التكليف بمعنى التحميل أيضا صار اسم الموصول مفعولا مطلقا ؛ إذ يصير المعنى : لا يحمّل اللّه نفسا إلاّ تحميلا آتاها ، ولكن هذا لا داعي له فإنّا نقول انّ المراد من يكلّف هو التحميل والإدانة ومن اسم الموصول هو الحكم الشرعي فيصير المعنى : لا يحمل اللّه نفسا إلاّ حكما شرعيا آتاها ، وبناء عليه لا يصير اسم الموصول مفعولا مطلقا لأنّ معناه يغاير معنى الفعل فمعنى الفعل هو التحميل بينما معنى اسم الموصول هو الحكم الشرعي ، وفي باب المفعول المطلق يشترط الاتحاد بين الفعل والمفعول من

ص: 73


1- وكلمة « يكلّف » مشتقّة من الكلفة بمعنى التحميل والمسؤولية والإدانة.
2- المراد من وقوع الحكم الشرعي مفعولا به هو وقوعه كذلك بحسب المعنى وإن كان بحسب الإعراب النحوي قد لا يعرب مفعولا به.

حيث المعنى بخلافه في باب المفعول به فانّه تشترط المغايرة.

هل دليل الإخباري مقدّم على الآية؟

ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل انّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط - من قبيل أخوك دينك فاحتط لدينك أو قف عند الشبهة - لو عمّ فهو مقدّم على الآية الكريمة لأنّها تقول انّ التكليف ما دام غير معلوم فلا عقاب عليه ، وهذا المضمون لا يقف أمام دليل الإخباري لأنّه - دليل الإخباري - يقول أنا اعلمك بوجوب الاحتياط ، وبعد معلوميّته فالآية الكريمة لا تقف أمامه ولا تقول انّ الاحتياط لا عقاب على تركه وليس بواجب لأنّها تقول انّ الحكم غير المعلوم لا عقاب على ترك امتثاله والمفروض إنّ وجوب الاحتياط معلوم بواسطة دليل الإخباري.

وإن شئت قلت : انّ مفاد الآية الكريمة شبيه تماما بمفاد أصل الطهارة فانّه يقول كل شيء إذا لم تعلم بكونه نجسا فهو طاهر ، فإذا فرضنا انّ الثقة أخبرنا بنجاسة شيء فهل تحتمل أنّ أصل الطهارة يقف أمام خبر الثقة ويقول لخبر الثقة انّ الشيء الذي أخبرت بنجاسته أحكم أنا بطهارته ، كلا ، بل بمجرد مجئ خبر الثقة وشهادته بأنّ الشيء نجس يرضخ أصل الطهارة لذلك ؛ إذ هو يحكم بالطهارة في صورة عدم العلم بالنجاسة وبعد مجئ خبر الثقة يصير الشيء معلوم النجاسة ، ومع معلومية نجاسته لا يبقى أصل الطهارة مصرا على الحكم بالطهارة. هذا في أصل الطهارة ، ونفس الشيء يأتي في الآية الكريمة فإنّها تحكم بنفي العقاب عند عدم العلم بثبوت التكليف ودليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بثبوت

ص: 74

وجوب الاحتياط. هذا ما افيد في الرسائل.

وتعليقا عليه نقول : لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مقصود الآية الكريمة هل هو نفي السببيّة أو نفي المورديّة.

فإن كان مقصودها نفي السببية - بأن يكون المقصود : لا يعاقب اللّه سبحانه بسبب حرمة شرب التتن ما دامت غير معلومه - فما ذكره الشيخ الأعظم تامّ ؛ إذ الآية تنفي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة وهذا لا يتنافى مع دليل الإخباري فإنّه - دليل الإخباري - يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو وجوب معلوم ، فالعقوبة التي تنفيها الآية هي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة بينما دليل الإخباري يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو معلوم ، ونفي العقوبة من ناحية أحد سببين لا يتنافى وإثباتها من ناحية سبب ثاني.

وأمّا لو كان المقصود نفي المورديّة - أي كان المقصود : لا يعاقب اللّه سبحانه في مورد حرمة شرب التتن ما دامت مجهولة بل المكلّف مطلق العنان وله الحرية الكاملة في المورد المذكور - فما ذكره الشيخ الأعظم لا يكون تامّا لأنّ الآية تحكم على المكلّف بأنّه مطلق العنان في مورد شرب التتن ما دامت حرمته مجهولة وواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يحكم على المكلّف بالاحتياط ولزوم ترك التتن وعدم كونه مطلق العنان ، والتعارض حينئذ بين الآية ودليل الإخباري واضح.

وبعد أن عرفنا أنّ في المقصود من الآية الكريمة احتمالين يبقى علينا أن نعرف أنّ أي واحد من الاحتمالين أرجح؟ انّ الأرجح هو احتمال الموردية لأنّ ذلك هو المناسب لمورد الآية وسياقها فإنّ موردها هو المال على ما تقدّم (1) والمناسب

ص: 75


1- بل والموردية هي المناسبة للفعل - الذي هو أحد المصاديق الثلاثة التي يشملها الإطلاق أيضا ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف اللّه بسبب الفعل إلاّ إذا كان مقدورا بل : لا يكلّف اللّه في مورد الفعل إلاّ إذا كان مقدورا.

للحال هو الموردية دون السببية ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف اللّه بسبب المال ، فإنّ المال لا يكون سببا للتكليف والعقوبة وإنّما المناسب أن يكون المقصود لا يكلّف اللّه في مورد القضايا المالية إلاّ بالمقدار الميسور. شمول الآية للشبهات الوجوبية والتحريمية

وهل الآية الكريمة تختص بالشبهات التحريمية - كالشكّ في حرمة شرب التتن - أو تعمّ الشبهات الوجوبية كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال؟ والجواب : انّ بعض الآيات الآتية تختص بالشبهة التحريمية كقوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) فإنّه ناظر إلى حالة الشكّ في حرمة الشيء دون الشكّ في الوجوب ، وأمّا الآية التي بين أيدينا فهي شاملة للشبهة الوجوبية والتحريمية معا لأنّه لم يذكر فيها لفظ التحريم بالخصوص ولا لفظ الوجوب.

شمول الآية للشبهات الموضوعية

وهل الآية الكريمة ناظرة إلى الشبهة الموضوعية أيضا أو تختص بالشبهة الحكمية (1)؟ قد يتوهم الاختصاص بالشبهة الحكمية بقرينة التعبير بقوله :

ص: 76


1- الشبهة الحكمية هي الشبهة الناشئة بسبب أمر يرجع إلى الشارع كالشكّ في حرمة شرب التتن فإنّ منشأه احتمال أنّ الشارع حرّمه ولكن لم يصل التحريم بسبب فقد النص أو إجماله أو تعارضه. وأمّا الشبهة الموضوعية فهي شبهة ناشئة بسبب أمر يرجع إلى المكلّف لا إلى الشارع كالشكّ في حرمة سائل معيّن من جهة الترديد في كونه خمرا أو ماء فإنّ منشأ الشكّ في التحريم لا يرجع إلى الشارع بل إلى المكلّف نفسه حيث لم يميز بين الخمر والماء.

« آتاها » أي إلاّ ما آتاها اللّه سبحانه ، ومن الواضح انّ إيتاء الشارع يختص بالأحكام فإنّه سبحانه يؤتي الأحكام ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة فهو لا يؤتي شيئا فيها ، فإنّ كون هذا السائل المعيّن المشكوك خمرا حتّى يكون حراما أو ماء حتّى يكون حلالا ليس ممّا يؤتيه اللّه سبحانه ؛ إذ وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلية (1) كبيان أنّ الخمر الكلي حرام والماء الكلي حلال ولا يبين الأحكام الجزئية ككون هذا السائل بالخصوص حراما أو حلالا.

ويمكن دفع هذا التوهم بأنّ المقصود من الإيتاء ليس هو الإيتاء التشريعي بل الإيتاء التكويني - ولا أقلّ من كون المقصود هو الإيتاء الأعمّ من التشريعي والتكويني - وواضح انّ الإيتاء الذي يختص بالشبهة الحكمية هو الإيتاء التشريعي وأمّا الإيتاء التكويني فهو يعمّ الشبهة الموضوعية أيضا ؛ إذ تمييز السائل المشكوك وأنّه خمر لا ماء يحصل بإتيائه سبحانه بمعنى خلقه القدرة فينا على تمييز ذلك.

وممّا يدلّ على عموميّة الآية للايتاء التكويني ان اسم الموصول يشمل

ص: 77


1- التي هي مورد الشبهة الحكمية فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلّي بخلافه في الشبهة الموضوعية فإنّ المشكوك فيها هو الحكم الجزئي. وبهذا يتّضح أنّ الشبهة الحكمية لها ضابطان أحدهما كون المشكوك حكما كليا ، وثانيهما : كون منشأ الشك في الحكم فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه.

بإطلاقه المال والفعل - كما تقدّم بل المال هو مورد الآية - وواضح أنّ المال والفعل لا يؤتيهما اللّه سبحانه إيتاء تشريعيا بل إيتاء تكوينيا فهو لا يرزق المال ولا يعطي القدرة على الفعل بما هو شارع بل بما هو مكوّن وخالق.

وهل تشمل الآية حالة ما قبل الفحص؟

وهل الآية الكريمة تثبت البراءة في خصوص حالة ما إذا فحص المكلّف عن الحكم ولم يعثر عليه أو تثبتها حتّى في حالة ما قبل الفحص؟ قد يتوهم انّ مقتضى إطلاق الآية الكريمة ثبوتها حتّى في حالة ما قبل الفحص ؛ إذ هي لم تقل إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم فحينئذ لا يكلّف اللّه بذلك الحكم بل هي من هذه الناحية مطلقة.

هذا ولكن الصحيح اختصاصها بحالة ما بعد الفحص لأنّ الحكم إذا كان موجودا في كتب الروايات بحيث يعثر عليه المكلّف لو فحص عنه فيصدق انّ اللّه قد آتى ذلك الحكم فإنّ إيتاء الحكم ليس هو بمعنى إيصاله بيد المكلّف مباشرة بل بمعنى جعله في مظان العثور عليه لو فحص عنه.

الآية الثانية
اشارة

واستدل من القرآن الكريم أيضا بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1)

بتقريب أنّ المقصود من الرسول ليس هو خصوص النبي

ص: 78


1- الإسراء : 15

حتّى يصير المعنى انّه قبل بعثة الأنبياء لا نعذب على مخالفة الأحكام - ولو كان هذا هو المقصود فهو غير نافع في المقام ؛ إذ تدلّ الآية بإطلاقها حينئذ على انّ اللّه بعد بعثة النبي يعذّب على مخالفة الحكم وإن لم يصل إلى المكلّف وهو خلاف المطلوب - بل المقصود منه هو البيان ، أي لا نعذّب على مخالفة الحكم حتّى نبيّنه ، فقبل بيانه لا نعذّب عليه. وإنّما خصّص الرسول بالذكر من جهة أنّه أحد المصاديق والأسباب البارزة التي يحصل بها البيان.

والشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل ذكر إشكالين على الاستدلال المذكور هما : -

1 - ان الآية الكريمة تنفي فعلية العذاب ولا تنفي استحقاقه ، أي هي لا تدل على أنّ المكلّف لا يستحقّ العذاب قبل بيان الحكم بل أقصى ما تدل عليه هو انّ اللّه سبحانه لا يعذّب قبل البيان ولعلّ عدم تعذيبه ليس من جهة أن المكلّف لا يستحق العذاب بل من جهة عفوه سبحانه عن المستحق ، والنافع في مقام الاستدلال هو عدم الاستحقاق لأنّ المكلّف إذا لم يستحق العذاب قبل العلم بالحكم كان ذلك دالاّ على عدم ثبوت الحكم وأمّا نفي العذاب الفعلي فهو لا يدلّ على عدم ثبوت الحكم ؛ إذ لعلّ الحكم ثابت والمكلّف يستحق العقاب عليه ولكن اللّه سبحانه لا يعاقب عليه بالفعل لكرمه وعفوه (1).

2 - انّ الآية الكريمة ناظرة إلى العذاب الدنيوي الذي نزل بالامم السالفة كامّة نوح أو هود أو صالح وغيرهم من الأنبياء صلواته عليهم أجمعين ، فهي كأنّها

ص: 79


1- ويمكن أن يقال انّ المهم لمن يدّعي البراءة هو إثبات أنّ لا عذاب بالفعل سواء كان هناك استحقاق أم لا ، وسواء كان الحكم ثابتا واقعا أم لا.

تريد أن تقول : إنّا لم نعذّب قوم هود وصالح إلاّ بعد أن أرسلنا لهم أنبياء ، وواضح أنّ هذا أجنبي عن محل كلامنا فإنّ كلامنا هو في أنّ المكلّف لو لم يجد دليلا على حرمة شرب التتن فهل يعاقب يوم القيامة لو دخن أو لا ، فالنظر إنّما هو إلى العقاب في عالم الآخرة لا إلى عالم الدنيا.

ويمكن دفع الإشكال الأوّل - وهو أنّ الآية ناظرة إلى نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق - بأن التعبير بجملة « ما كنّا » ظاهر في نفي الشأنية والمناسبة ، أي أنّ المقصود : ليس من شأننا ولا يناسبنا أن نعذّب قبل البيان ، وهذا كما يقال عرفا ما كنت لأهين الضيف ، فإنّ المقصود أنّه لا يناسبني وليس من شأني إهانة الضيف ، وواضح ان نفي الشأنية يتناسب ونفي الاستحقاق فإنّ العبد إذا كان لا يستحق العقوبة صحّ أن يقال : لا يناسب المولى إنزال العقوبة بالعبد بخلاف ما إذا كان يستحق العقوبة فإنّه يصحّ أن يقال إنّ إنزال العقوبة ممّا يتناسب والمولى.

وأمّا الإشكال الثاني - وهو أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي في الامم الماضية لا إلى العذاب الاخروي - فيمكن ردّه بثلاثة أجوبة : -

أ - إذا ثبت أنّ مقصود الآية نفي المناسبة وأنّه لا يناسبنا إنزال العقوبة قبل البيان فلا تكون خاصّة بنفي العذاب الدنيوي بل تعمّ نفي العذاب الاخروي أيضا فإنّ نكتة عدم المناسبة ليست هي إلاّ أنّ العذاب قبل البيان أمر قبيح ، وهذه النكتة لا تختص بالعذاب الدنيوي بل هي مشتركة وثابتة في العذاب الاخروي أيضا ، فكما انّ إنزال العقوبة الدنيوية قبل البيان قبيح كذا الحال في العقوبة الاخروية. وهذا نظير ما إذا قال شخص أنّه لا يناسبني إهانة الضيف فإنّه لا يحتمل أن يكون المقصود انّه لا يناسبني إهانة الضيف في الصيف دون الشتاء أو في

ص: 80

هذا البلد دون ذاك البلد.

ب - انّ دعوى كون الآية الكريمة ناظرة إلى العذاب الدنيوي دعوى بلا شاهد بل لعلّ الشاهد على خلافها ؛ إذ لو نظرنا إلى سياق الآية وجدنا أنّها واردة في سياق آيات ناظرة إلى العذاب الاخروي حيث قال سبحانه : ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ قانون « وَلا تَزِرُ ... » ناظر إلى العذاب الاخروي ، أي أنّ كل نفس مرتكبة للوزر لا تتحمل يوم القيامة إلاّ عذاب وزرها خاصّة ولا تتحمّل عذاب وزر غيرها ، وإذا كان هذا القانون ناظرا إلى العذاب الاخروي فبقرينة وحدة السياق يثبت أنّ قانون « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... » ناظر إلى العذاب الاخروي أيضا.

ج - لا منشأ لتوهّم اختصاص الآية الكريمة بالعذاب الدنيوي سوى التعبير بكلمة « كان » في قوله تعالى : ( وَما كُنَّا ... ) الدالة على الزمان الماضي ولكن يرده أنّ كلمة « كان » لا تدلّ في مثل هذا الاستعمال على الزمان الماضي بل المقصود منها الشأنية والمناسبة ، وواضح أنّه لا معنى لأن يكون المقصود ليس من شأننا في الزمان الماضي ؛ إذ الشيء إذا لم يكن من شأن اللّه سبحانه فهو ليس من شأنه في جميع الأزمنة لا في خصوص الزمان الماضي.

مناقشة الاستدلال

والصحيح في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة - بعد اتّضاح بطلان الاعتراضين السابقين المذكورين في رسائل الشيخ الأعظم - أن يقال : انّه توجد

ص: 81

عندنا حالتان فتارة نفترض أن بيان حرمة شرب التتن لم تصدر من الشارع جزما واخرى نفترض احتمال صدور ذلك ولكنّه لم يصلنا لعوامل الخفاء والضياع الخاصّة (1) ، وأقصى ما تدلّ عليه الآية الكريمة هو أنّه في الحالة الاولى - أي حالة الجزم بعدم صدور البيان من الشارع - تجري البراءة ولا يستفاد منها أنّه في الحالة الثانية - أي حالة احتمال صدور البيان واختفائه - تجري البراءة أيضا ، ومن الواضح أنّا نعيش عادة الحالة الثانية ، أي نحتمل عادة صدور البيان من الشارع وعدم وصوله لنا لسبب وآخر ، ومعه فلا يمكن التمسّك بالآية الكريمة إذ لا نجزم بنظرها إلى الحالة الثانية والمتيقّن هو نظرها إلى الحالة الاولى فإنّ التعبير بكلمة « رسولا » ظاهر في الحالة الاولى ، أي لا نعذّب إلاّ بعد إصدار البيان - فإنّ الرسول ذكر كمثال لصدور البيان - وليس ظاهرا في الحالة الثانية وأنّه لا نعذّب إلاّ بعد صدور البيان ووصوله إلى المكلّف.

وهل دليل الإخباري مقدّم؟

وفي هذه الآية الكريمة - على تقدير تمامية دلالتها على البراءة - نطرح نفس السؤال السابق الذي ذكرناه في الآية السابقة وهو أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهل يكون مقدّما على الآية الكريمة التي نحن بصدد

ص: 82


1- فإنّ من المحتمل أنّ قسما من أحاديث أهل البيت علیهم السلام ضاع وتلف ، ففي بغداد كانت مكتبة عظيمة تضمّ قسما كبيرا من ذلك التراث ألقاها المغول عند هجومهم على بغداد في نهر دجلة. وابن أبي عمير كانت له كتب كثيرة سجّل فيها الأحاديث التي سمعها من الأئمّة علیهم السلام وعند ما ألقى الرشيد القبض عليه أحرقت اخته تلك الكتب حفاظا عليه.

البحث عن دلالتها على البراءة أو يكون معارضا بها؟ والجواب : انّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهو مقدّم على الآية الكريمة لأنّها تقول إنّ حرمة شرب التتن ما دام لم يبلّغها الرسول فلا نعذّب عليها ، ومع تمامية دليل الإخباري على وجوب الاحتياط يصدق أنّ الرسول بلّغنا وجوب الاحتياط بترك التتن ، وإذا دخّن المكلّف فإنزال العقوبة عليه يكون بعد إرسال الرسول (1).

الآية الثالثة

واستدل أيضا بقوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ... ) (2) بتقريب أنّ بعض أهل الكتاب حرّم على نفسه قسما من الحيوانات فنزلت الآية الكريمة لتعلم النبي صلی اللّه علیه و آله كيفية الردّ عليهم وأنّه قل لهم انّي لا أجد في قائمة المحرّمات تلك الحيوانات التي حرّمتموها ، وهذا يدلّ على أنّ كل شيء لم يدلّ دليل على تحريمه فهو مباح وهو المطلوب.

ويمكن المناقشة بما يلي : -

1 - انّ النبي صلی اللّه علیه و آله إذا لم يجد اسم الحيوان في قائمة المحرّمات الموجودة عنده كشف ذلك عن إباحة الشيء واقعا لأنّه صلی اللّه علیه و آله عنده القائمة التامّة لجميع المحرّمات

ص: 83


1- وإنّما لم يفصل هنا بين الموردية والسببية كما فصّل في الآية السابقة لأنّه حتّى لو فسّرت الآية بالموردية فدليل الإخباري لو تمّ فهو المقدّم ، إذ المعنى بناء على الموردية هكذا : لا نعذّب في مورد عدم إرسال الرسول ، وواضح أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط بترك التتن لو تمّ فهو رسول ، فالتعذيب يكون تعذيبا بعد إرسال الرسول.
2- الأنعام : 145.

فإذا لم يجد فيها اسم الحيوان كان ذلك كاشفا قطعيا عن عدم حرمته ؛ إذ لا يحتمل أن يكون الشيء محرّما واقعا ومع ذلك لا يذكر اسمه في القائمة الموجودة عنده ويبقى مستورا عليه. هذا بالنسبة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وقياسنا نحن عليه قياس مع الفارق ؛ إذ نحن لا نقطع بأنّ قائمة المحرّمات الموجودة عندنا هي قائمة تامّة لم يتلف منها شيء بل نحتمل أنّ بعضها ضاع علينا بسبب وآخر ، ومع الاحتمال المذكور لا يمكن القطع بأنّ الشيء إذا لم يوجد اسمه في قائمة المحرّمات الموجودة بأيدينا فهو مباح واقعا.

2 - انّ النبي صلی اللّه علیه و آله إذا لم يجد اسم الحيوان في قائمة المحرّمات الموجودة عنده فذلك ان لم يكن كاشفا قطعيا عن عدم حرمته واقعا فلا أقل هو كاشف عن عدم صدور بيان يدلّ على تحريمه وإلاّ لوصل النبي صلی اللّه علیه و آله إذ لا يحتمل تحريم شيء وإخفائه عليه. هذا بالنسبة إلى صلی اللّه علیه و آله . ومن الواضح أنّ قياس أنفسنا عليه صلی اللّه علیه و آله قياس مع الفارق فإنّ عدم وجداننا اسم الشيء في قائمة المحرّمات لا يدلّ على عدم صدور بيان تحريمه من اللّه سبحانه ؛ إذ لعلّه صدر ولم يصلنا سبب ضياع جملة من الأحاديث.

3 - ومع التنازل عن المناقشتين السابقتين نقول : انّ الآية الكريمة حكمت بأنّ الشيء إذا لم يوجد اسمه في قائمة المحرّمات فهو مباح ، ومن الواضح أنّ هذا لا يدلّ على حجّية أصل الإباحة ؛ إذ من المحتمل أن يكون حكم الآية على الشيء بالإباحة عند عدم وجود اسمه في القائمة لا لأصالة الإباحة بل من جهة الاعتماد على بعض العمومات الاجتهادية كقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ

ص: 84

جَمِيعاً ) (1) حيث يدلّ على إباحة كل شيء مخلوق له سبحانه ، فإثبات الحلّية هو من باب التمسّك بعموم العام عند عدم وجود مخصّص له (2) وليس من باب أصل الإباحة في كل شيء.

الآية الرابعة

واستدلّ أيضا بقوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (3) بتقريب أنّ المراد من الإضلال في قوله : ( لِيُضِلَ ) أمّا تسجيل القوم ظالين ومنحرفين فيثبت لهم عقاب الضالين أو بمعنى الخذلان ، أي إيكالهم إلى أنفسهم وسلب أسباب التوفيق والهداية عنهم. والمراد من الهداية في قوله : « هَداهُمْ » هي الهداية إلى نور الإسلام ، والمراد من بيان ما يتّقون بيان ما يكون محرّما.

ومعنى الآية الكريمة بعد هذا : انّ اللّه سبحانه بعد أن هدى المسلمين إلى نور الإسلام لا يسجلهم ضالين عند ارتكابهم لبعض المحرّمات إلاّ بعد أن يبيّن لهم تلك المحرّمات التي يجب أن يتّقوها ويتحرّزوا عنها ، وهذا هو المطلوب حيث يثبت أنّه قبل بيان حرمة الشيء لا يعاقب سبحانه على ارتكاب الشيء المحرّم. وعلى هذا فدلالة الآية على البراءة تامّة.

ص: 85


1- البقرة : 29
2- والمخصّص في المقام هو ذكر اسم الشيء في قائمة المحرّمات ، وعند عدم ذكر اسمه لا يكون المخصّص ثابتا فيتمسّك بعموم قل لا أجد ... إلخ.
3- التوبة : 115.

ولكن يبقى علينا أن نعرف أنّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط لو تمّ فهل هو مقدّم على الآية الكريمة أو لا؟ ان التعرّف على ذلك يتوقّف على التعرّف على مطلب وهو أنّه ماذا يراد من قوله تعالى : ( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) فهل يراد حتّى يبيّن لهم حرمة الشيء بعنوانه الأولي أو المراد حتّى يبيّن لهم حرمة الشيء ولو بعنوانه الثانوي. وبكلمة اخرى هل المراد حتّى يبيّن لهم حرمة شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن (1) أو حتّى يبيّن لهم حرمة شرب التتن ولو بعنوان أنّه مجهول ومشتبه الحكم؟ فإن كان المراد هو الأوّل - أي أنّ اللّه لا يضلّ قوما لأجل حرمة شرب التتن مثلا حتّى يبيّن لهم بواسطة النصوص أن شرب التتن محرّم (2) - فلا يكون دليل الإخباري مقدّما على الآية الكريمة بل تكون معارضة له. وأمّا لو كان المراد هو الثاني فدليل الإخباري هو المقدّم لأنّ مثل « قف عند الشبهة » يدلّ على أنّ شرب التتن يحرم ارتكابه لكونه مشتبها ومع بيان حرمته بعنوان أنّه مشتبه لا تجري البراءة فيه.

وبهذا ينتهي حديثنا عن الآيات الكريمة ونتكلّم بعد هذا عن الروايات المستدل بها على البراءة.

قوله ص 35 س 3 : في الاعتراضات العامّة : أي التي لا تختص بدليل دون

ص: 86


1- العنوان الأولي لشرب التتن هو شرب التتن ، والعنوان الأولي لشرب الماء هو شرب الماء و ... أمّا عنوان مشكوك الحكم أو مشتبه الحكم ونحوهما فهو ثانوي.
2- ويسمّى الحكم الناهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن بالحكم الواقعي وتكون مخالفته مخالفة واقعية بينما يسمّى الحكم الناهي عن عنوان المشتبه بالحكم الظاهري وتكون مخالفته مخالفة ظاهرية.

آخر.

قوله ص 36 س 6 : الهيئة القائمة بالفعل والمفعول : المراد من الفعل هو « يكلّف » ومن المفعول هو اسم الموصول. والمعنى : أنّ الشيخ الأعظم ذكر أنّه يلزم استعمال الهيئة الحاصلة من نسبه يكلّف إلى اسم الموصول في معنيين ...

قوله ص 37 س 5 : شموله لذلك : أي وليس المقصود من كون اسم الموصول مطلقا وشاملا أنّه شامل للتكليف بمعنى الكلفة والإدانة والتحميل حتّى يصير المعنى : لا يحمّل اللّه إلاّ تحميلا آتاها. وبكلمة اخرى : المراد من قوله « لذلك » هو التكليف بمعنى الكلفة والتحميل.

قوله ص 37 س 9 : فلا تنفع : أي الآية الكريمة أو البراءة المستفادة منها.

قوله ص 39 س 6 : خاصّة : أي بل لعلّه بلحاظ إفادة الشأنية والمناسبة.

قوله ص 40 س 1 : في إطلاق العنان : أي الإباحة.

قوله ص 40 س 14 : بعنوانه : أي الأوّلي.

قوله ص 40 س 14 : انحصر بالمخالفة الواقعية : أي انحصر بما لو ورد دليل يحرم شرب التتن بعنوان شرب التتن بأن يقول هكذا : لا تشرب التتن ، فإن مخالفة مثل هذا النهي تسمّى بالمخالفة الواقعية.

قوله ص 41 س 2 : كعنوان المخالفة الاحتمالية : أي كعنوان المشتبه أو مجهول الحكم أو ما يحتمل فيه المخالفة.

قوله ص 41 س 3 : بهذا المعنى : أي ولو بعنوان ثانوي ظاهري.

ص: 87

ص: 88

أدلة البراءة من السنّة

اشارة

قوله ص 41 س 5 : واستدل من السنّة بروايات ... الخ : واستدل على البراءة من السنّة الشريفة بعدّة روايات نذكر منها : -

الحديث الأوّل

اشارة

قوله علیه السلام : كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1). والاستدلال به يتوقّف على مطلبين هما : -

1 - أن يكون المقصود من الورود - المستفاد من كلمة يرد - هو الوصول دون الصدور وإلاّ صار المعنى : شرب التتن مثلا مباح ومطلق إذا لم يصدر نهي عنه ، وبناء على هذا لا يتمّ الاستدلال إذ نحتمل صدور النهي عن شرب التتن واختفاءه علينا لبعض الأسباب ، وهذا بخلافه بناء على إرادة الوصول فإنّ الاستدلال تامّ ؛ إذ المعنى : شرب التتن مثلا مباح إذا لم يصل نهي عنه ، ومن الواضح ما دام لا توجد رواية في الوسائل تدلّ على حرمة التتن يصدق أنّه لم يصلنا نهي عن التتن وإن كنّا نحتمل صدوره واقعا واختفاءه علينا فإنّه حتّى مع هذا الاحتمال يصدق لم يصلنا نهي عن التتن.

ص: 89


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 60.

2 - أن يكون المقصود من ورود النهي ورود النهي عن الشيء بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ؛ إذ لو كان المقصود وروده ولو بالعنوان الثانوي ، أي بعنوان مشتبه الحكم مثلا لكان دليل الإخباري مقدّما على الحديث لأنّه - دليل الإخباري - يفيد النهي عن كل مشتبه الحكم ، وحيث أنّ شرب التتن مشتبه الحكم فيصدق عليه أنّه ممّا ورد النهي عنه فلا يكون مطلقا ومباحا لأنّ المباح هو الشيء الذي لم يرد نهي عنه ولو بالعنوان الثانوي ، والمفروض أنّ دليل الإخباري يفيد النهي بالعنوان الثانوي ، وأمّا لو كان المقصود ورود النهي بالعنوان الأوّلي ، أي بأن يرد نهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن فلا يكون دليل الإخباري مقدّما على الحديث لأنّه لو تمّ فهو لا يثبت النهي عن شرب التتن بعنوان شرب التتن بل بعنوانه الثانوي ، أي بعنوان المشتبه ومشكوك الحكم.

وبعد اتّضاح توقّف الاستدلال على المطلبين المذكورين نأخذ بتحقيق حالهما.

أمّا المطلب الأوّل فقد يقال بأنّ الورود حيث إنّه مردّد بين الصدور والوصول ولا مثبت لكونه بمعنى الوصول فلا يتمّ الاستدلال بالحديث.

ولكن في مقابل هذا قد يقال بإمكان إثبات كون الورود هو بمعنى الوصول وذلك بأحد البيانين التاليين : -

البيان الأوّل
اشارة

ما ذكره السيد الخوئي ( دام ظلّه ) من أنّ الإباحة التي حكم بها الحديث هي الإباحة الظاهرية دون الواقعية - لما سيأتي بعد قليل - وما دامت ظاهرية فلا بدّ

ص: 90

وأن يكون موضوعها هو عدم الوصول لا عدم الصدور لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ وعدم العلم ، فلو كان معنى الورود هو الوصول تصير الإباحة إباحة ظاهرية ؛ إذ يصير معنى الحديث : شرب التتن مثلا مباح إذا لم يصل - أي لم يعلم - نهي عنه ، والإباحة على هذا ظاهرية لأنّ موضوعها هو عدم الوصول أي عدم العلم بالنهي ، ومن الواضح متى ما كان موضوع الإباحة عدم العلم تصير ظاهرية. وأمّا لو كان معنى الورود هو الصدور تصير الإباحة إباحة واقعية ؛ إذ يصير معنى الحديث : انّ التتن مباح ما دام لم يصدر نهي عنه ، وواضح أنّه إذا أردنا أن نجزم بإباحة التتن فلا بدّ من الجزم بعدم صدور النهي عنه ، ونحن نعلم أنّه لو جزمنا بعدم صدور النهي فلا يبقى لدينا شكّ حتّى تكون الإباحة الثابتة إباحة ظاهرية ، فإنّ كون الحكم ظاهريا يتوقّف على وجود الشكّ ومع الجزم بعدم صدور النهي لا يبقى شكّ لتكون الإباحة ظاهرية (1).

ولربّ قائل يقول : لماذا قلتم إنّ الإباحة المنظورة للحديث هي الإباحة الظاهرية حتّى يترتّب على ذلك تفسير الورود بالوصول ولم تقولوا هي الإباحة الواقعيّة حتّى يترتّب على ذلك تفسير الورود بالصدور.

والجواب : إنّ الإباحة الناظر لها الحديث لو كانت هي الواقعية فنسأل هل

ص: 91


1- لا يقال : لو فسّرنا الورود بمعنى الوصول يلزم نفس ما ذكر أيضا. فإنّه يقال : كلا ، لا يلزم ذلك فإنّه وإن كان من اللازم _ بناء على تفسير الورود بالوصول _ إحراز عدم الوصول ولكن حيث أنّ الوصول معناه العلم فإحراز عدم الوصول يصير معناه إحراز عدم العلم ، وإحراز عدم العلم معناه إحراز الشكّ الذي هو موضوع الحكم الظاهري ، وهو محرز بالوجدان.

المقصود للحديث إفادة التعليق الواقعي - بحيث يصير المعنى : أنّ الإباحة الواقعية متوقّفة واقعا على عدم صدور النهي فيكون عدم صدور النهي علّة واقعا لثبوت الإباحة الواقعية - أو أنّ المقصود ليس هو إفادة التعليق الواقعي بل إفادة أنّ النهي إذا لم يكن صادرا واقعا فالإباحة واقعا هي الثابتة؟

فإنّ كان المقصود هو الأوّل فهو باطل فإنّ إباحة شرب التتن واقعا والنهي عن شرب التتن متضادان ؛ إذ امّا أن يكون التتن مباحا واقعا أو منهيا عنه ، ومع التضادّ فلا يمكن أن يكون عدم صدور النهي علّة لثبوت الإباحة فإنّ عدم ثبوت أحد الضدّين لا يكون علّة لثبوت الضدّ الآخر ، ولذا لا يصحّ أن يقال أنّ عدم الإزالة هو العلّة لوجود الصلاة بل العلّة لوجود الصلاة هي إرادة المكلّف فهو لما أراد الصلاة أوجدها ولم يوجد الإزالة ، فوجود الصلاة وعدم الإزالة معلولان لعلّة واحدة وهي إرادة المكلّف لا أن الإزالة لما انعدمت وجدت الصلاة.

وإن كان المقصود هو الثاني فهو باطل أيضا لأنّه بيان لمطلب واضح لا يستحقّ التعرّض له بمثل الحديث الشريف لأنّ معنى الحديث يصير : إذا لم يكن النهي صادرا واقعا فالإباحة هي الثابتة ، ان هذا لغو وبيان لما هو واضح إذ هو نظير أن يقال إذا لم يكن أحد الضدّين ثابتا فالضدّ الآخر هو الثابت فالبياض إذا لم يكن ثابتا فالسواد هو الثابت (1).

وباختصار : أنّ الإباحة الناظر لها الحديث لا يمكن أن تكون إباحة واقعية لأنّ إرادة التعليق الواقعي غير ممكنة ، وإرادة غير التعليق الواقعي لغوية فيلزم أن

ص: 92


1- فيما لو فرض عدم وجود ضدّ ثالث.

تكون ظاهرية ، وحيث أنّ الإباحة الظاهرية لا يمكن أن يكون موضوعها عدم الصدور فيتعيّن أن يكون موضوعها عدم الوصول أي عدم العلم ، وهو المطلوب.

مناقشة البيان الأوّل

ويمكن مناقشة البيان المذكور بأنّا نختار أن الإباحة الناظر لها الحديث هي الإباحة الواقعية ، كما ونختار أنّ المقصود من التعليق هو التعليق الواقعي ولا يرد ما ذكر من لزوم تعليق ثبوت أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر لأنّ الإباحة الواقعية لشرب التتن مع النهي عن شرب التتن ليسا متضادين فإنّ الضدّ للإباحة الواقعية هو حرمة شرب التتن لا النهي عن شرب التتن فإنّ النهي ليس هو نفس الحرمة بل كاشف عنها ، وعلى هذا فأقصى ما يلزم تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم الخطاب المبرز للضدّ - وهو الحرمة - لا على نفس عدم الضدّ ، وشتّان ما بين المطلبين.

إن قلت : إنّا نسلّم أنّ التضاد ليس هو بين الإباحة الواقعية والنهي بل بين الإباحة الواقعية والحرمة إلاّ أنّ التضادّ بين الإباحة الواقعية والحرمة كما يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم ثبوت الحرمة الواقعية كذلك يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم الخطاب الكاشف عن الحرمة الواقعية.

قلت : إنّ التضادّ بين الإباحة الواقعية والحرمة وإن اقتضى امتناع تعليق ثبوت الإباحة على عدم الحرمة ولكنّه لا يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة على عدم المبرز والكاشف عن الحرمة غايته انّه لا يقتضي ثبوت تعليق الإباحة

ص: 93

على عدم المبرز للحرمة لا أنّه يقتضي امتناع تعليق ثبوت الإباحة الواقعية على عدم المبرز للحرمة.

وما دام لا يمتنع تعليق ثبوت الإباحة على عدم المبرز للحرمة فمن الممكن أحيانا وجود نكتة تقتضي ان يعلّق المولى ثبوت الإباحة على عدم المبرز والكاشف عن الحرمة بأن يقول : ان شرب التتن مباح واقعا إن لم يصدر خطاب يدلّ على الحرمة ، ومفهوم هذا ولازمه أنّه إن صدر خطاب يدلّ على إنشاء الحرمة فالإباحة لشرب التتن غير ثابتة واقعا بل الثابت هو الحرمة الفعلية.

ومعنى ذلك بعبارة اخرى أنّ الحرمة الفعلية لشرب التتن واقعا مقيّدة بصدور خطاب يدل على إنشاء الحرمة ، وهذا معنى معقول ، فإنّ تقييد المجعول - أي الحرمة الفعلية - بصدور خطاب يدلّ على الجعل - أي الحكم الإنشائي بالحرمة - أمر معقول فإنّ غير المعقول هو تعليق ثبوت الحرمة الفعلية على صدور خطاب يدلّ على الحرمة الفعلية وأمّا تعليق ثبوت الحرمة الفعلية على صدور خطاب يدلّ على الحكم الإنشائي بالحرمة فهو معقول.

ولعلّ هذا يشبه ما تقدّم في القسم الأوّل ص 430 من أنّ تقييد الحكم الفعلي بالقطع بالحكم الإنشائي من طريق خاص أمر معقول ، فكما أنّ تقييد الحكم الفعلي بالعلم بالحكم الإنشائي من طريق خاص أمر معقول كذلك يعقل في مقامنا تقييد الحكم الفعلي التحريمي بصدور خطاب دال على الحكم الإنشائي بالحرمة.

البيان الثاني

والبيان الثاني لإثبات أنّ الورود بمعنى الوصول دون الصدور هو أنّ

ص: 94

الورود يحتاج إلى مورود عليه ، فورود شيء بلا مورود عليه أمر غير ممكن ، وإذا كان الورود يحتاج إلى مورود عليه فهذا يدلّل على أنّه بمعنى الوصول لا بمعنى الصدور ؛ إذ وصول النهي يحتاج إلى وجود شخص يتحقّق له الوصول - وهو المورود عليه - وهذا بخلافه في الصدور فإنّه لا يتوقّف على افتراض شخص يتحقّق الصدور بالنسبة إليه.

وفيه : إنّا نسلّم احتياج الورود إلى مورود عليه ولكن لا نسلّم أنّ المورود عليه الذي يتطلّبه لا بدّ وأن يكون شخصا بل لعلّه عبارة عن متعلّق النهي كشرب التتن مثلا ، ولذا نقول إنّ شرب التتن ورد عليه النهي. وما دام الورود لا يتطلّب أكثر من مورود عليه بمعنى متعلّق النهي فذلك لا يكشف عن كونه - الورود - بمعنى الوصول إذ الوصول يحتاج إلى افتراض شخص يصل إليه النهي بينما الورود لا يتطلّب افتراض شخص يرد إليه النهي بل يكتفي بافتراض مورود عليه بمعنى متعلّق النهي ومعه لا يتعيّن إرادة الوصول من الورود.

والخلاصة : لا يمكن بواسطة البيانين المذكورين إثبات أنّ الورود هو بمعنى الوصول ، ومعه فلا حاجة إلى البحث عن المطلب الثاني وهو أنّ المقصود من النهي هو النهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي.

قوله ص 41 س 7 : لا بدّ من بحثهما : لتوقّف تمامية الاستدلال بالحديث الشريف عليهما.

قوله ص 41 س 10 : بالمعنى المقصود : وهو البراءة عند عدم وصول النهي.

قوله ص 41 س 12 : النهي الظاهري : أي النهي الذي تمسّك به الإخباري في أدلته فإنّ النهي عن ارتكاب الشبهة نهي ظاهري لأنّه نهي عن الشيء بعنوانه

ص: 95

الثانوي - أي بعنوان مجهول الحكم - وليس نهيا عنه بعنوانه الأوّلي.

قوله ص 41 س 13 : يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليه : لأنّها براءة مقيّدة بعدم النهي عن الشيء ولو نهيا ظاهريا متعلّقا بالشيء بما أنّه مجهول الحكم وواضح أنّ دليل الإخباري يفيد النهي عن ارتكاب شرب التتن بما هو مجهول الحكم لا بما هو شرب التتن.

قوله ص 42 س 4 : من أنّ المغيى : وهو قوله « كلّ شيء مطلق » ، فالإطلاق الذي هو بمعنى الإباحة هو المغيى.

قوله ص 42 س 7 : ولا يمكن إحرازها : أي ولا يمكن إحراز الإباحة والعلم بها إلاّ بإحراز الخ.

قوله : ص 42 س 9 : كان الجواب منه : أي من السيد الخوئي.

قوله ص 42 س 11 : الأولى : أي الإباحة الواقعية. والمراد من الثاني النهي الواقعي.

قوله ص 42 س 12 : مقدّمية : أي : علّية.

قوله ص 42 س 17 : لا يقتضي : المناسب : وإن كان لا يقتضي.

قوله ص 43 س 2 : إناطة حكم : وهو الإباحة الواقعية. والمراد من الحكم المضاد هو الحرمة.

قوله ص 43 س 3 : ومرجع ذلك : أي مرجع تعليق الإباحة الواقعية بعدم النهي الكاشف عن الحرمة.

قوله ص 43 س 3 : إلى أن تكون فعلية الحرمة بمبادئها : أي يكون الحكم الفعلي بالحرمة - المعبّر عنه بالمجعول - منوطا بصدور الخطاب الشرعي الخ.

ص: 96

قوله ص 43 س 4 : الدالّ عليها : ظاهر العبارة أنّ الضمير يرجع إلى الحرمة الفعلية بمبادئها ولكنّه غير مراد جزما فإنّ الخطاب لا يدلّ على الحكم الفعلي بل على الحكم الإنشائي فالضمير يرجع إلى الحرمة الإنشائية.

قوله ص 43 س 5 : في موضوعه : أي في موضوع الحكم.

ص: 97

الحديث الثاني

اشارة

واستدلّ على البراءة بحديث الرفع المروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون ... » (1).

وتقريب الاستدلال : أنّ إحدى الفقرات التسع المذكورة في الرواية فقرة « ما لا يعلمون » ، وحرمة شرب التتن مثلا حيث إنّها غير معلومة فهي مرفوعة ، وهو المطلوب (2).

ويمكن منهجة الأبحاث في الحديث المذكور في ثلاث مراحل (3) : -

المرحلة الاولى

وفي هذه المرحلة نتكلّم عن فقه الرواية ، أي عن معناها والمقصود منها.

وقبل ذلك نقدّم مقدّمة صغيرة في توضيح مصطلح الحكومة.

انّ الحكومة تعني نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر لشرحه وتوضيحه كدليل لا ضرر فإنّه ناظر إلى مثل دليل وجوب الوضوء وغيره من أدلة الأحكام الأوّلية ويريد أن يقول إنّ الوجوب لا يثبت للوضوء إذا كان مستلزما للضرر. ويسمّى الدليل الناظر بالحاكم بينما الدليل المنظور له يعبّر عنه بالمحكوم عليه.

ص: 98


1- الوسائل : كتاب الجهاد باب 56 من أبواب جهاد النفس حديث 1. ثمّ إنّه يأتي فيما بعد شرح بعض فقرات الحديث.
2- يأتي توضيح الاستدلال بشكل أعمق في المرحلة الثانية.
3- كلام الاصوليين في حديث الرفع دقيق ومطوّل.

ثمّ إنّ الدليل الحاكم له شكلان فتارة يكون ناظرا إلى الموضوع في الدليل المحكوم - مثل دليل لا ربا بين الوالد وولده فإنّه ناظر إلى دليل الربا حرام ويريد أن يقول إنّ الموضوع في هذا الدليل وهو الربا لا يتحقّق ما دام أخذ الزيادة متحقّقا بين الوالد والولد - واخرى يكون ناظرا إلى المحمول في الدليل المحكوم (1) مثل دليل لا ضرر فإنّ هذا الدليل ينفي كل حكم ينشأ منه الضرر ، فوجوب الوضوء إذا كان مستلزما للضرر فهو منفي بمقتضى هذا الحديث ، وواضح إنّ الوجوب حكم ومحمول على الوضوء وليس موضوعا ، فدليل لا ضرر ناظر إلى المحمول في دليل الوضوء واجب ، أي هو ناظر إلى الوجوب لينفيه حالة الضرر.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة نعود إلى المرحلة الاولى لنمنهجها ضمن نقاط ستّ :

1 - كيف قال الحديث رفع الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه و ... الحال إنّا نجد وقوع الخطأ والنسيان ونحوهما كثيرا ، ومع هذه الكثرة في الوقوع خارجا كيف يصحّ للحديث نفي ذلك؟ وفي الجواب نذكر ثلاثة احتمالات :

أ - ان نقدّر لفظا كلفظ المؤاخذة ونقول المقصود : رفعت المؤاخذة حالة الخطأ ورفعت المؤاخذة حالة النسيان وهكذا في البقية.

ب - أن نقول إنّ المقصود رفع هذه الامور التسعة ولكن لا وجودها الخارجي ليقال أنّ تحقّقها في الخارج كثير فكيف يرفع بل المقصود رفع وجودها في عالم التشريع ، فكأنّ الحديث يريد أن يقول انّ الخطأ مرفوع في عالم التشريع بمعنى أنّ الخطأ لم يقع في عالم التشريع موضوعا أو متعلّقا (2) لحكم ، فمن شرب

ص: 99


1- ويعبّر عن المحمول بالحكم أيضا ، فالحكم والمحمول لفظان يقصد بهما شيء واحد.
2- الموضوع والمتعلّق مصطلحان اصوليان ، فيراد بالمتعلّق ما تعلّق به الحكم بحيث يلزم إيجاده أو تركه. ويراد بالموضوع ما ثبت الحكم له على تقدير افتراض وجوده صدفة ، فشرب الخمر متعلّق لأنّه يلزم تركه وفعل الصلاة متعلّق لأنّه يلزم إيجاده بينما البلوغ والاستطاعة والبيع و ... موضوع لأنّه لا يلزم إيجادها أو تركها بل على تقدير تحقّق البلوغ أو الاستطاعة يجب الحجّ مثلا ، وعلى تقدير البيع تثبت الحلّية والإمضاء.

الخمر خطأ فشربه الخطأي لم يقع موضوعا للحرمة.

ويمكن أن نقول إنّ مرجع هذا الاحتمال بالعبارة الصريحة إلى رفع الحكم فالحديث كأنّه يريد أن يقول إن شرب الخمر ما دام قد صدر خطأ فهو ليس بحرام ، ولكن لم تنف الحرمة صريحا ومباشرة بل بشكل غير مباشر ، فإنّ أحد الأساليب المتداولة عند العرب لنفي الحكم هو نفي موضوعه نظير الحديث الذي يقول : « لا رهبانية في الإسلام » أي أنّ الرهبانية لم تقع موضوعا للاستحباب الشرعي في الإسلام. هذا هو المقصود للحديث بالنظرة الاولى ولكن المقصود بالنظرة الثانية نفي الاستحباب وأنّه لا استحباب للرهبنة في الإسلام بيد أن هذا لم يذكر بهذا اللسان الصريح بل نفي وقوع الرهبنة موضوعا للحكم الاستحبابي في عالم التشريع ولازم ذلك نفي الاستحباب.

وباختصار : انّه بناء على هذا الاحتمال يريد الحديث نفي الحكم ولكن عن طريق نفي وقوع هذه الامور التسعة موضوعا في عالم التشريع ، وبناء عليه يكون الحديث شبيها تماما بحديث لا رهبانية في الإسلام.

ج - أن يكون المقصود نفي هذه الامور التسعة لا بلحاظ عالم التشريع - كما كنّا نذكر ذلك في الاحتمال الثاني - بل نفيها بلحاظ وجودها الخارجي ، وللفرار من لزوم محذور الكذب يقال المقصود نفي وجودها الخارجي نفيا تنزيليا ، فكأنّ

ص: 100

الحديث يريد أن يقول إن شرب الخمر مثلا إذا تحقّق خطأ فوجوده الخارجي هو بمنزلة العدم وكأنّه لم يوجد ويترتّب على ذلك نفي الحرمة ونفي الحد. وبناء على هذا الاحتمال يصير حديث الرفع أشبه بحديث « لا ربا بين الوالد وولده » فكما أنّ حديث لا ربا ينزل وجود الربا بين الوالد وولده بمنزلة العدم كذلك حديث الرفع ينزل الفعل الصادر خطأ أو نسيانا منزلة العدم.

هذه هي الاحتمالات الثلاثة في المقصود من رفع الخطأ وأخواته.

2 - وحديث الرفع سواء فسّرناه على ضوء الاحتمال الأوّل أم الاحتمال الثاني أو الثالث هو حاكم على أدلة الأحكام الأوّلية لأنّه على جميع هذه الاحتمالات الثلاثة ناظر إلى أدلة الأحكام الأوّلية ويشرحها فهو ناظر إلى مثل دليل شرب الخمر حرام ليقول على الاحتمال الأوّل : إنّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فلا عقوبة عليه بناء على تقدير العقوبة ، وليقول على الاحتمال الثاني : انّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فليس موضوعا للحرمة ، وليقول على الاحتمال الثالث : إنّ شرب الخمر إذا صدر خطأ أو نسيانا فهو بمنزلة العدم.

وقد تسأل إنّ حديث الرفع إذا كان حاكما على أدلّة الأحكام الأوّلية فهل هو ناظر إلى الموضوع في أدلّة الأحكام الأوليّة أو إلى المحمول فيها؟

والجواب : انّه على الاحتمالين الأوّلين يكون ناظرا إلى الحكم والمحمول (1) بينما على الاحتمال الثالث يكون ناظرا إلى الموضوع.

أمّا أنّه على الاحتمال الثالث يكون ناظرا إلى الموضوع فلأنّه على الاحتمال

ص: 101


1- الحكم والمحمول شيء واحد فإن كل حكم هو محمول على موضوع القضية.

المذكور يقول الحديث : ان شرب الخمر ما دام قد صدر خطأ فهو بمنزلة العدم ، ومن الواضح إن شرب الخمر هو موضوع في دليل شرب الخمر حرام.

وبناء على الاحتمال المذكور يصير حديث الرفع أشبه بحديث لا ربا بين الوالد وولده ، فكما أنّ حديث لا ربا ناظر إلى الموضوع في دليل الربا حرام كذلك حديث الرفع ناظر على الاحتمال الثالث إلى الموضوع في دليل شرب الخمر حرام.

وأمّا أنّه على الاحتمال الأوّل يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم فلأنّه على الاحتمال الأوّل لا بدّ من تقدير لفظ ، وذلك اللفظ إذا كان هو الحكم - لا المؤاخذة كما كنّا نفترض ذلك سابقا - يصير المعنى : لا حكم في صورة الخطأ والنسيان ، ومن الواضح انّه بناء على هذا يصير حديث الرفع ناظرا إلى الأحكام المذكورة في أدلة الأحكام الأولية ويريد نفيها في صورة الخطأ والنسيان.

وبناء على هذا الاحتمال يصير حديث الرفع أشبه بحديث لا ضرر ، فكما انّ حديث لا ضرر ينفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر كذلك حديث الرفع بناء على هذا ينفي الحكم في صورة الخطأ والنسيان.

وأمّا أنّه على الاحتمال الثاني يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم أيضا فلأنّه على الاحتمال الثاني يريد حديث الرفع نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع.

إذن على كلا الاحتمالين الثاني والأوّل يكون حديث الرفع ناظرا إلى الحكم ويريد نفيه في صورة الخطأ والنسيان ، غاية الأمر بناء على الاحتمال الأوّل يكون الحديث نافيا للحكم بصورة مباشرة بينما على الاحتمال الثاني لا يكون الحديث

ص: 102

نافيا للحكم بصورة مباشرة بل بشكل غير مباشر ؛ إذ هو ينفي الحكم ولكن لا بلسان نفي الحكم بل بلسان نفي الموضوع فهو ينفي الموضوع ويريد بذلك نفي الحكم حيث إنّ ثبوت الموضوع في عالم التشريع هو عبارة اخرى عن ثبوت الحكم ونفي ثبوت الموضوع في عالم التشريع هو عبارة اخرى عن نفي الحكم.

وحديث الرفع بناء على هذا الاحتمال الثاني هو أشبه بحديث لا رهبانية في الإسلام ، فكما أنّ حديث لا رهبانيّة ينفي وقوع الرهبنة موضوعا في عالم التشريع ومقصوده الحقيقي نفي استحبابها كذلك حديث الرفع ينفي وقوع شرب الخمر الصادر خطأ موضوعا في عالم التشريع ومقصوده الحقيقي نفي الحرمة.

3 - وبعد أن عرفنا أنّ الاحتمالات في حديث الرفع ثلاثة علينا الآن أن نعرف أنّ أي واحد من هذه الاحتمالات هو الأرجح؟

أمّا الاحتمال الأوّل - وهو تقدير كلمة مؤاخذة أو حكم - فهو بعيد لأنّه بحاجة إلى تقدير والأصل عدم التقدير ، ومعه فيكون الراجح هو أحد الاحتمالين الآخرين.

وقد تقول إنّه لا رجحان للاحتمالين الآخرين على الاحتمال الأوّل إذ كما أنّ الاحتمال الأوّل يحتاج إلى عناية - وهي عناية التقدير - كذلك الاحتمالان الأخيران هما بحاجة إلى عناية ولكنّها غير عناية التقدير ، وتلك العناية وهي كون الحديث ناظرا إلى عالم التشريع فإنّ توجيه نظر الحديث إلى عالم التشريع عناية أيضا ؛ إذ ظاهر الحديث كونه ناظرا إلى عالم الخارج ، وحمله على خلاف ذلك - بمعنى حمله على النظر لعالم التشريع - حمل له على خلاف ظاهره فيكون عناية أيضا.

ص: 103

وهكذا الاحتمال الثالث يحتاج إلى عناية أيضا فإنّ الاحتمال الثالث وإن كان يحافظ على ظهور الحديث في النظر إلى عالم الخارج ولكن حمل النفي الخارجي على النفي التنزيلي حمل على خلاف الظاهر فيكون عناية.

والجواب : انّ حمل نظر الحديث إلى عالم التشريع أو إلى الرفع التنزيلي وإن كان حملا على خلاف الظاهر فيكون عناية إلاّ أنّ هذه العناية توجد قرينة تساعد عليها ، بخلاف الاحتمال الأوّل فإنّ العناية التي يستدعيها لا توجد قرينة تساعد عليها.

وتلك القرينة هي أنّه لو لم يحمل نظر الحديث إلى عالم التشريع بل أبقي ناظرا إلى عالم الخارج فلازمه أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يحكي لنا ما هو ثابت خارجا وكأنّه يقول إنّه خارجا لا يوجد خطأ ولا نسيان ولا ... وواضح أنّ هذا باطل لأنّ ظاهر الحديث حينما يقول رفع عن امّتي ... أنّه صلی اللّه علیه و آله يريد التكلّم بما هو نبي ومشرّع ولا يريد التكلّم بما هو إنسان عادي يخبر عمّا هو واقع خارجا ، فظهور الحديث في التكلّم بما هو شارع يريد إنشاء الأحكام دون الأخبار عمّا وقع خارجا قرينة تساعد على الاحتمال الثاني.

ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى الاحتمال الثالث فإنّه وإن كان مستلزما للعناية إلاّ أنّها عناية تساعد عليها القرينة فإنّ الحديث إذا كان ناظرا إلى رفع الخطأ والنسيان رفعا خارجيا بلا تنزيل ما هو موجود خارجا منزلة العدم فلازمه أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله يخبر عمّا هو في الخارج ، وواضح أنّ ظاهر الحديث أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله حينما تكلّم فقد تكلّم بما هو مشرّع ومنشأ للأحكام لا بما هو مخبر وقصّاص لما هو حادث في الخارج.

ص: 104

وباختصار : انّ الاحتمالين الأخيرين وإن كانا يستلزمان عناية إلاّ أنّها عناية تساعد عليها القرينة بخلافه على الاحتمال الأوّل فإنّ العناية التي يستدعيها لا تساعد عليها قرينة فإنّ تقدير كلمة محذوفة عناية مخالفة للظاهر حتّى في كلام النبي صلی اللّه علیه و آله الصادر منه بما هو مشرّع ومنشأ.

وبعد أن عرفنا أنّ الاحتمال الأوّل احتمال بعيد وأنّ الاحتمال الراجح هو أحد الأخيرين نأتي الآن لإجراء موازنة بين نفس الاحتمالين الأخيرين لنرى أن أيّهما هو الأرجح؟

والظاهر أنّ الأرجح هو الاحتمال الثاني ؛ إذ الاحتمال الثالث لا يمكن أن يتمّ في جميع الموارد المذكورة في الحديث ، فمثلا لو فرض أنّ المكلّف لم يطق الصوم فتركه بسبب عدم الإطاقة ، في مثل هذه الحالة لا يمكن تطبيق حديث الرفع بناء على الاحتمال الثالث ، فإنّ الاحتمال الثالث ينزّل ما هو موجود خارجا منزلة العدم - فشرب الخمر الصادر خطأ شيء موجود خارجا والحديث ينزّله منزلة العدم بناء على الاحتمال الثالث - وواضح في حالة ترك المكلّف للصوم بسبب عدم إطاقته له لا يوجد شيء خارجا لينزل منزلة العدم.

وهذا بخلافه على الاحتمال الأوّل والثاني فإنّ حديث الرفع يمكن تطبيقه في هذا المثال ، فعلى الاحتمال الأوّل ترفع المؤاخذة على ترك الصوم ، وعلى الاحتمال الثاني ينفى وقوع ترك الصوم موضوعا للحرمة في عالم التشريع.

4 - وبعد أن عرفنا الاحتمالات الثلاثة في حديث الرفع وعرفنا الراجح منها نأتي الآن للاطلاع على الثمرة المترتبة على الاحتمالات المذكورة. وفي هذا المجال نذكر ثمرتين هما : -

ص: 105

أ - انّه على الاحتمال الأوّل لا بدّ من تقدير شيء محذوف ، وحيث إنّ ذلك المقدّر مردّد بين خصوص المؤاخذة وبين كونه جميع الآثار فيقتصر على تقدير ما هو خصوص المؤاخذة دون بقية الآثار فيكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة دون بقية الآثار.

هذا على الاحتمال الأوّل.

وأمّا على الاحتمال الثاني فالمرفوع هو جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة فإنّه على الاحتمال الثاني ينفي الحديث وقوع شرب الخمر الخطأي موضوعا في عالم التشريع ، وجلي أنّ مقتضى الإطلاق عدم وقوع الشرب الخطأي موضوعا لأي حكم من الأحكام لا خصوص المؤاخذة. وهكذا على الاحتمال الثالث ، فإنّ الحديث ينزّل شرب الخمر الخطأي منزلة العدم ، ومقتضى الإطلاق أنّ الشرب الخطأي هو بمنزلة العدم بلحاظ جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة.

ب - انّه لو اضطر المكلّف إلى ترك الصوم فبناء على الاحتمال الثالث لا يمكن تطبيق حديث الرفع بينما على الاحتمالين الأوّلين يمكن تطبيقه.

أمّا أنّه على الاحتمال الثالث لا يمكن تطبيقه فلأنّه على الاحتمال الثالث ينزل ما هو موجود خارجا منزلة العدم وواضح أنّه في حالة اضطرار المكلّف إلى ترك الصوم لا يوجد شيء خارجا لينزل منزلة العدم بل المتحقّق هو ترك الصوم فأي شيء إذن ينزل منزلة العدم؟

وقد تقول : لماذا لا ينزل نفس عدم الصوم منزلة العدم؟

والجواب : انّ عدم الصوم لو نزّل منزلة العدم فهذا معناه أنّ الصوم موجود ، أي معناه أنّ حديث الرفع يريد أن يقول إنّ المكلّف إذا اضطر إلى ترك

ص: 106

الصوم فهو وإن ترك الصوم ولكن حيث إنّ تركه للصوم منزّل منزلة العدم فالصوم منه متحقّق وثابت ، وواضح أنّ هذا لا يمكن أن يفي به حديث الرفع لأنّه حديث يتكفّل الرفع حيث يقول رفع ولا يتكفّل الإثبات فهو لا يقول انّ الصوم ثابت ومتحقّق من التارك له حالة الاضطرار.

هذا كلّه على الاحتمال الثالث. وقد اتّضح أنّه لا يمكن تطبيق حديث الرفع بناء عليه حالة الاضطرار إلى ترك الصوم ، وهذا بخلافه على الاحتمالين الأوّلين فإنّه لا يلزم من تطبيق الحديث إثبات الصوم ليقال إنّ الحديث لا يتكفّل الإثبات بل الرفع وإنّما بناء عليهما يلزم رفع المؤاخذة على ترك الصوم أو رفع موضوعية ترك الصوم للحرمة وهذا لا يستلزم الإثبات أبدا.

5 - اتّضح من خلال ما سبق تعيّن الاحتمال الثاني من بين الاحتمالات الثلاثة السابقة ، أي أنّ المقصود هو رفع وقوع الامور التسعة موضوعا في عالم التشريع الذي معناه بالعبارة الصريحة رفع الأحكام في حالة صدور شيء خطأ أو نسيانا أو ... وعليه فإذا اضطر المكلّف إلى شرب الخمر أو اكره عليه فلا حرمة في حقّه ولا حدّ لأنّ المرفوع بناء على هذا الاحتمال هو جميع الآثار - تمسّكا بالإطلاق - لا أثر دون آخر ، وهكذا لو أكره المكلّف على معاملة البيع مثلا لم يترتّب عليها مضمونها وهو النقل والانتقال.

6 - انّه بناء على الاحتمالين الأخيرين وإن كان حديث الرفع يرفع جميع الآثار ولكن لا بدّ من الالتفات إلى عدم إمكان تطبيقه إلاّ في مورد يكون تطبيقه فيه موجبا للامتنان لأنّه مسوق مساق الامتنان ، امّا إذا كان موجبا لعكس الامتنان فلا يمكن تطبيقه ، فمثلا إذا اكره إنسان آخر على بيع داره فيمكن تطبيق

ص: 107

فقرة « رفع عن امّتي ما استكرهوا عليه » لأنّ لازم تطبيقها صيرورة البيع باطلا لا يترتّب عليه أي أثر ، وهذا شيء موافق للامتنان وليس مخالفا له فإنّ عدم حصول غرض المكره أمر يتوافق والامتنان ، أمّا لو فرض أنّ إنسانا ابتلى بمرض واضطر إلى بيع بعض ممتلكاته ليستعين بثمنها على العلاج فلا يمكن تطبيق فقرة « رفع عن امّتي ما اضطروا إليه » إذ لازم تطبيقها صيرورة البيع باطلا ، ومع بطلانه لا يكون المريض مالكا لما يستعين به على العلاج وهذا عكس الامتنان كما هو واضح.

ومن هنا ينبغي عدم التسرّع في تطبيق الحديث بل لا بدّ وأن يلاحظ هل تكون النتيجة الحاصلة بعد تطبيق الحديث موافقة للامتنان أو لا ، فإن كانت موافقة له صحّ تطبيقه وإلاّ فلا.

وقد تسأل عن القرينة الدالة على ورود الحديث مورد الامتنان.

إنّها التعبير بكلمة « رفع » فانّها لا تستعمل إلاّ في مورد رفع الشيء الثقيل الذي يكون في رفعه امتنان خصوصا والرفع اضيف إلى الامّه وقيل رفع عن امّتي فإنّ التعبير المذكور لا يستعمل عادة إلاّ في مورد الامتنان.

قوله ص 43 س 15 : والطيرة : بفتح الياء أو بسكونها. والمقصود منها التشاؤم ، وحيث أنّ غالب تشاؤم العرب كان بالطير خصوصا الغراب عبّر عن التشاؤم بالطيرة.

قوله ص 43 س 15 : والتفكّر في الوسوسة في الخلق : ورد في بعض الروايات الاخرى بدل « التفكّر في الوسوسة في الخلق » : الوسوسة في التفكّر في الخلق. وقد ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله أنّ التعبير الثاني هو الأنسب وأنّ

ص: 108

التعبير الأوّل يحتمل كونه اشتباها من الراوي.

والمقصود من الوسوسة في التفكّر في الخلق هو انّ الإنسان قد يفكّر أحيانا في كيفية خلق الناس والعالم ، وأثناء تفكّره هذا يأتي الشيطان ويبث سمومه قائلا انّ العالم خلقه اللّه ولكن من خلق اللّه سبحانه؟ انّ مثل هذه الوساوس الشيطانية التي تأتي حين التفكّر في خلق العالم لا عقاب عليها بمقتضى الحديث المذكور شريطة أن لا ينطق الإنسان بشفتيه بتلك الوساوس بل تبقى كامنة في قلبه ، فالوساوس الباقية في القلب بلا إبراز معفو عنها وإذا برزت باللسان والشفة فلا عفو.

هذا على التعبير الثاني. وأمّا على التعبير الأوّل فتبقى الجملة بلا معنى.

قوله ص 43 س 15 : ما لم ينطق بشفة : احتمل الشيخ الأعظم في رسائله رجوع هذا القيد إلى خصوص الفقرة الأخيرة - أي الوسوسة في التفكّر في الخلق - كما واحتمل رجوعه إلى الفقرات الثلاث الأخيرة ، فالحسد الكامن في النفس بلا إبراز باللسان معفو عنه ، والتطيّر الكامن معفو عنه أيضا والتفكّر في الوسوسة كذلك.

قوله ص 44 س 2 : والنقطة المهمة في هذه المرحلة : أي أنّ البحث في فقه الحديث ومعناه فيه جهات متعدّدة ، منها : تصوير كيفية الرفع ، ومنها : توضيح أنّه هل يمكن أن يستفاد من الحديث أنّ الملاك ثابت في موارد الخطأ والنسيان وغيرهما - أي انّ المرفوع خصوص الحكم دون الملاك - ليصحّ الفعل بواسطة الملاك ، ومنها : البحث عن كون الحديث مسوقا مساق الامتنان وما يترتّب على ذلك ، ومنها غير ذلك. وقد بحث قدس سره في التقرير عن سبع جهات في هذه المرحلة

ص: 109

الاولى ولكن المهم من هذه الجهات هي الجهة الاولى وهي تصوير كيفية الرفع.

قوله ص 44 س 8 : بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ... : فما كان من المناسب وقوعه موضوعا للحكم ترتفع موضوعيّته للحكم ، وما كان من المناسب وقوعه متعلّقا للحكم ترتفع متعلقيّته.

وقد تقدّم سابقا الفرق بين المتعلّق والموضوع.

قوله ص 44 س 11 : وروح ذلك رفع الحكم : أي انّ مرجع رفع موضوعية شرب الخمر الخطأي لحكم من الأحكام في عالم التشريع ليس إلاّ إلى رفع الحكم.

قوله ص 45 س 1 : فيكون على وزان : أي انّ حديث الرفع بناء على الاحتمال الثالث يكون أشبه بحديث « لا ربا بين الوالد وولده ». وهكذا اسم « يكون » في بقية الأسطر هو حديث الرفع.

قوله ص 45 س 11 : كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي : هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني. وإنّما ذكر هذا الاحتمال - ولم يذكر الاحتمال الثالث - لا لخصوصية فيه بل من باب المثالية ولذا أضاف قدس سره كلمة « مثلا ».

قوله ص 45 س 13 : صادر بما هو شارع : هذا البيان لم يذكر لإثبات خصوص العناية التي يقتضيها الاحتمال الثاني بل لإثبات العناية التي يقتضيها الاحتمال الثالث أيضا.

قوله ص 45 س 13 : وبما هو إنشاء : هذا أشبه بعطف التفسير لقوله : « بما هو شارع ».

قوله ص 46 س 10 : بالاحتمال الثاني : ذكر الاحتمال الثاني من باب المثال

ص: 110

وإلاّ فالأمر كذلك على الاحتمال الأوّل أيضا.

قوله ص 46 س 16 : وعلى أي حال : أي سواء تمّت الثمرة الثانية أم لا فحديث الرفع يدلّ على رفع جميع الآثار حيث قوّينا الاحتمال الثاني الذي يكون المرفوع بناء عليه جميع الآثار بمقتضى الإطلاق.

المرحلة الثانية
اشارة

وبعد الفراغ من المرحلة الاولى بنقاطها الست نتكلّم عن المرحلة الثانية التي هي توضيح لكيفية الاستدلال بحديث الرفع على المطلوب.

ونحن فيما مضى ذكرنا تقريب الاستدلال بشكل مجمل وقلنا انّ حرمة شرب التتن إذا لم تكن معلومة فهي مشمولة لفقرة : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فتكون مرفوعة.

وللتوضيح أكثر نقول : ما هو المقصود من الرفع فهل المقصود منه الرفع الواقعي أو الرفع الظاهري (1)؟ قد يقال : انّ المطلوب من الاستدلال بالحديث يتمّ سواء فسّرنا الرفع بهذا أو بذاك فإنّ المطلوب إثبات أمرين هما : -

أ - كون المكلّف مطلق العنان ، بمعنى أنّه إذا شكّ في وجوب الصلاة عليه فلا

ص: 111


1- المراد من الرفع الحقيقي رفع الحكم في حقّ الجاهل واقعا فالمكلّف ما دام لا يعلم مثلا بوجوب الصلاة عليه فالوجوب مرفوع عنه واقعا ولا يكون ثابتا في حقّه بل يكون مختصا بالعالم. وأمّا الرفع الظاهري فيقصد به رفع وجوب الاحتياط فإنّ المكلّف إذا شكّ في وجوب الصلاة عليه فإذا قلنا بعدم وجوب الاحتياط عليه ازاء الوجوب المشكوك فهذا معناه الرفع الظاهري.

يجب عليه الاحتياط بفعلها وهكذا لو شكّ في حرمة شرب التتن فلا يجب عليه الاحتياط بتركه.

ب - معارضة مقالة الاخباري ، فإنّ الإخباري يقول بوجوب الاحتياط عند الشكّ في حرمة شرب التتن مثلا ونحن نريد أن نحصّل دليلا يعارض هذه المقالة ويقول انّ الاحتياط ليس بواجب عند الشكّ في حرمة شرب التتن.

وهذا المطلوب بكلا أمريه يتمّ سواء فسّرنا الرفع بالرفع الواقعي أم بالرفع الظاهري ولا يتوقّف على تفسيره بخصوص الرفع الظاهري فهو يتمّ حتّى لو فسّرناه بالرفع الواقعي بل قد يتخيّل انّه لو فسّرناه بالرفع الواقعي فحصول المطلوب يكون أتم وآكد حيث ان لازمه ارتفاع حرمة شرب التتن في حقّ الجاهل من جذورها واسسها وذلك ممّا يثبت إطلاق العنان بشكل آكد وأقوى ممّا إذا كان الرفع ظاهريا.

هذا ولكن يمكن أن نقول في مقابل ذلك : انّ حصول المطلوب من الحديث - المطلوب هو إثبات إطلاق العنان كما تقدّم - يتوقّف في كثير من الحالات على إرادة الرفع الظاهري ولا يحصل لو كان المقصود هو الرفع الواقعي.

والوجه في ذلك : انّا نجزم في كثير من الأحكام باشتراكها بين العالم والجاهل على تقدير ثبوتها ولا تختص بالعالم ، فوجوب الصلاة مثلا يجزم بعدم اختصاصه واقعا بالعالم وهكذا وجوب الحجّ والخمس والزكاة وغير ذلك - فإنّ الأحكام المختصة بالعالم واقعا نادرة جدا والطابع العام فيها هو الاشتراك عدا الجهر والاخفات والقصر والتمام - وإذا كان الحكم ممّا نقطع باشتراكه واقعا بين العالم والجاهل ولا يختص بالعالم فمثل هذا الحكم لو فرض أنّ المكلّف لم يعلم به

ص: 112

وكان شاكا فيه فلا يمكن التمسّك بحديث الرفع في حقّه لإثبات المطلوب أي لإثبات كونه مطلق العنان وأنّه لا يجب عليه الاحتياط إذ حديث الرفع يثبت رفع الحكم واقعا في حقّ الجاهل ، والمفروض إنّا نعلم باشتراك الحكم واقعا وعدم اختصاصه بالعالم.

وبكلمة اخرى : بعد علمنا باشتراك الحكم واقعا يلزم تخصيص حديث الرفع وصيرورة مضمونه كذا : رفع عن امّتي الحكم الذي لا يعلمونه إلاّ إذا كان الحكم هو وجوب الصلاة مثلا فانّه ثابت في حقّ الجاهل أيضا. ومع عدم شمول حديث الرفع للحكم الذي يشكّ فيه المكلّف - وهو وجوب الصلاة مثلا حيث انّ المفروض القطع باشتراكه وعدم اختصاصه بالعالم - فلا يمكن إثبات المطلوب وهو كون المكلّف مطلق العنان ولا يجب عليه الاحتياط ؛ إذ إطلاق العنان لا يثبت إلاّ بعد ثبوت الرفع الواقعي ، والمفروض عدم إمكان ثبوت الرفع الواقعي لأنّا فرضنا أنّ الحكم المشكوك - كوجوب الصلاة مثلا الذي يشكّ فيه المكلّف - على تقدير ثبوته واقعا ثابت في حقّ الجاهل واقعا ولا يختص بالعالم ، ومع عدم ثبوت الرفع الواقعي فلا يثبت إطلاق العنان. وهذا بخلافه على تقدير تفسير الرفع بالرفع الظاهري فانّه يمكن إثبات إطلاق العنان في حقّ الجاهل حتّى في مثل وجوب الصلاة الذي هو مشترك بين الجاهل والعالم على تقدير ثبوته واقعا فانّه - وجوب الصلاة مثلا - وإن كان مشتركا بين العالم والجاهل واقعا ولا يمكن رفعه واقعا في حقّ الجاهل إلاّ أنّه يمكن رفعه ظاهرا في حقّ الجاهل بمعنى أنّه لا يجب عليه الاحتياط من ناحيته ، وإذا حصل رفع الوجوب ظاهرا ثبت بذلك كون المكلّف مطلق العنان من ناحية الحكم المشكوك ، وهو المطلوب

ص: 113

والخلاصة : انّ الأحكام التي يجزم باشتراكها بين العالم والجاهل على تقدير ثبوتها واقعا لا يمكن للمكلّف عند جهله بها إثبات كونه مطلق العنان من ناحيتها تمسّكا بحديث الرفع فيما إذا كان المراد الرفع الواقعي وإنّما يمكنه على تقدير إرادة الرفع الظاهري.

وقد تسأل : انّه على تقدير الرفع الواقعي لا يجوز التمسّك بحديث الرفع في موارد الجزم بالاشتراك وعلى تقدير الرفع الظاهري يجوز ذلك ، وهذا كلّه واضح. ولكن كيف الموقف لو شكّ في كون المراد هو الرفع الواقعي أو الظاهري فهل يجوز التمسّك بالحديث لإثبات إطلاق العنان فيما إذا كان الحكم المشكوك ممّا نجزم باشتراكه بين العالم والجاهل على تقدير ثبوته ، فوجوب الصلاة مثلا على تقدير ثبوته واقعا هو مشترك بين العالم والجاهل جزما فإذا شكّ المكلّف ولم يعلم بأصل ثبوته فهل يمكن التمسّك بحديث الرفع لإثبات كونه مطلق العنان فيما إذا لم يحرز كون المراد من الرفع هو الرفع الواقعي أو الظاهري؟

نعم يجوز ذلك لأنّ الحكم ما دام قد فرض مشتركا واقعا بين العالم والجاهل فنفس اشتراكه واقعا يكون قرينة على كون المراد من الرفع هو الرفع الظاهري لا الواقعي.

وإن شئت قلت : انّ الحكم ما دام قد فرض مشتركا فحديث الرفع لو كان المراد منه الرفع الواقعي فيلزم تخصيصه وعدم شموله لمثل هذا الحكم المشكوك المفروض اشتراكه ، ولو كان المراد منه الرفع الظاهري فلا يلزم تخصيصه بل يكون شاملا للحكم المشكوك. إذن الشكّ في كون المراد هو الرفع الواقعي أو الظاهري يرجع بالتالي إلى الشكّ في تخصيص حديث الرفع وعدمه ، وواضح

ص: 114

عند الشكّ في تخصيص عمومه يتمسّك بأصالة عمومه وعدم تخصيصه الذي نتيجته كون المراد من الرفع هو الرفع الظاهري.

هل الرفع ظاهري أو واقعي؟

ذكرنا انّه عند الشكّ في إرادة الرفع الظاهري أو الواقعي يصحّ التمسّك بالحديث للنكتة المتقدّمة. ولكن هل يمكن دعوى انّ ظاهر الحديث إرادة الرفع الواقعي دون الظاهري أو انّه مجمل من هذه الناحية؟

قد يقال نعم يمكن دعوى الظهور في الرفع الواقعي لأنّ إرادة الرفع الظاهري تستلزم التقدير بأن تكون فقرة : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » هكذا : رفع عن امّتي وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الحكم الذي لا يعلم فيلزم تقدير كلمة « وجوب الاحتياط » ، وواضح أنّ الأصل يقتضي عدم التقدير.

ولئن لم يقبل أعمال العناية بهذا الشكل فلا بدّ من قبولها بشكل آخر ، وذلك بأنّ لا نقدر كلمة « وجوب الاحتياط » وإنّما نعطي لكلمة « رفع » معنى وفردا جديدا ، فهي أوّلا كانت ذات فرد واحد وهو الرفع الحقيقي الواقعي والآن وبعد تضمين المعنى الجديد يصير لها فرد آخر وهو الرفع الظاهري بأن نقول : انّ رفع شرب التتن له شكلان فتارة ترفع نفس الحرمة وذاتها واخرى يرفع وجوب الاحتياط من ناحيتها فإنّ رفع وجوب الاحتياط هو رفع بعبارة اخرى للحرمة كما وأنّ ثبوت وجوب الاحتياط هو إثبات بعبارة اخرى للحرمة.

والفرق بين إعمال العناية بهذا الشكل وإعمالها بالشكل السابق انّه في السابق كانت العناية ملحوظة في المرفوع - لا في الرفع - فبدلا من كون المرفوع هو حرمة

ص: 115

شرب التتن المجهولة يجعل - أي المرفوع - وجوب الاحتياط ، بينما في هذا الشكل تعمل العناية في الرفع فتضمن كلمة الرفع معنى جديدا وهو تفسيرها برفع وجوب الاحتياط فإنّ رفع وجوب الاحتياط رفع للحرمة ولكنّه رفع ظاهري.

وباختصار : حمل الرفع على الظاهري يحتاج إلى إعمال العناية بأحد شكلين كلاهما خلاف الظاهر فلا بدّ من الحمل على الرفع الواقعي حتّى لا يلزم ذلك.

هذا ولكن يمكن ردّ ذلك بأحد جوابين : -

1 - ما ذكره الشيخ العراقي من انّه توجد في حديث الرفع قرينة تدل على أنّ المراد هو الرفع الظاهري - أي رفع وجوب الاحتياط - دون الواقعي ، وهي أنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، والامتنان يتحقّق برفع وجوب الاحتياط سواء كان الحكم ثابتا واقعا أم لا ، فإنّ الاحتياط بالنسبة إلى حرمة شرب التتن المشكوكة إذا لم يجب تحقّق بذلك الامتنان سواء كانت حرمة التتن ثابتة واقعا أم لا ، وبرفع الحرمة واقعا لا تزداد درجة الامتنان ، فإنّ ثبوت الحكم واقعا لا يؤثّر على المكلّف ولا يضرّه حتّى يكون رفعه موجبا للامتنان عليه أو زيادته وإنّما المهم هو رفع وجوب الاحتياط إذ به يحصل الامتنان.

وعليه فكون الحديث مسوقا مساق الامتنان قرينة واضحة على كون المقصود من الرفع هو الرفع الظاهري أي رفع وجوب الاحتياط.

وفيه : انّا نسلّم بحصول الامتنان برفع وجوب الاحتياط لا برفع الحكم واقعا ولكن نقول انّ الشارع لو رفع الحكم واقعا فالامتنان يمكن أن يتحقّق أيضا غير انّه بصورة غير مباشرة ؛ إذ برفع الحكم واقعا يرتفع بالتبع وجوب الاحتياط ، وما دام وجوب الاحتياط يرتفع بارتفاع الحكم واقعا فيصحّ أن يقال

ص: 116

انّ رفع الحكم واقعا منشأ للامتنان بالواسطة وإن لم يكن بالمباشرة ، وواضح انّ حديث الرفع لا يظهر منه إلاّ أنّه يريد رفع شيء يستلزم رفعه الامتنان ، انّ هذا المقدار هو الذي يظهر منه ولا يظهر منه انّ ما يرفعه لا بدّ وأن يكون موجبا للامتنان بنفسه ومن دون واسطة.

2 - انّه لا يمكن أن يكون المقصود من حديث الرفع الرفع الحقيقي ؛ إذ لازم ذلك ارتفاع الأحكام واقعا عن الجاهل واختصاصها بالعالم.

وبتعبير آخر يلزم من إرادة الرفع الحقيقي تقييد الأحكام الواقعية بالعلم بها ، وواضح أنّ هذا شيء مستحيل ؛ إذ لا يمكن أن يقال : ثبوت الوجوب الفعلي للصلاة مثلا موقوف على العلم بالوجوب الفعلي للصلاة لأنّ لازمه الدور كما مرّ في القسم الأوّل.

وعليه فمن اللازم حمل الرفع على الظاهري حتّى لا يلزم محذور اختصاص الأحكام الواقعية بحالة العلم وبالتالي حتّى لا يلزم محذور الدور.

وقد تقول : انّه تقدّم سابقا وجود طريقة يمكن بواسطتها تخصيص الأحكام بالعالمين بأن يقال : تجب الصلاة بالوجوب الفعلي إن علمت بتشريع وجوب الصلاة ، إنّ هذه طريقة ممكنة ، أي يجعل ثبوت الحكم الفعلي - المعبّر عنه بالمجعول - موقوفا على العلم بالتشريع المعبّر عنه بالجعل ، فإنّ المستحيل هو تعليق ثبوت المجعول على العلم بنفس المجعول ، أمّا تعليق ثبوت المجعول على العلم بالجعل فهو ليس بمستحيل. وإذا كانت هذه الطريقة ممكنة فلا بأس بحمل الرفع على الرفع الواقعي لأنّه وإن لزم منه اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها إلاّ أنّه لا محذور فيه بعد إمكانه بهذه الطريقة.

ص: 117

والجواب : انّ هذه الطريقة وإن كانت ممكنة إلاّ أنّه لا يمكن حمل الحديث عليها لأنّ ظاهر الحديث انّ الشيء الذي لا يعلم هو المرفوع لا غيره حيث قيل رفع ما لا يعلمون ، فنفس الذي لا يعلم هو المرفوع لا انّ الذي لا يعلم شيء والمرفوع شيء آخر ، وواضح انّه على هذه الطريقة يكون المرفوع غير الذي لا يعلم ، فالمرفوع هو الحكم المجعول بينما الذي لا يعلم هو الجعل والتشريع.

إذن لازم إرادة الرفع الحقيقي اختصاص الأحكام الواقعية بحالة العلم ، والاختصاص بالطريقة الاولى مستحيل وبالطريقة الثانية وإن كان ممكنا إلاّ أنّه خلاف ظاهر الحديث (1).

قوله ص 47 س 13 : لو تمّ : أي لو تمّت دلالة دليل وجوب الاحتياط على وجوب الاحتياط.

قوله ص 47 س 15 : إذ كثيرا ما يتّفق ... : التعبير الوارد في التقرير أوضح وهو : انّه لو اريد الرفع الواقعي فلا يمكن إثبات ما هو المطلوب ، إذ في موارد الشبهات نعلم عادة بأنّه لو ثبت الحكم الواقعي في حقّ العالم فهو ثابت في حقّ الجاهل أيضا جزما للقطع بعدم إناطته بالعلم به.

ص: 118


1- ويوجد جواب ثالث أوضح وأخصر من الجوابين السابقين وهو أن يقال إنّ لازم إرادة الرفع الواقعي اختصاص الأحكام بحالة العلم ، والاختصاص باطل لأنّه مخالف لضرورة الاشتراك ، فنفس ما دلّ على اشتراك الأحكام واقعا بين العالم والجاهل يثبت أنّ المراد من الرفع هو الرفع الظاهري دون الواقعي وإلاّ يلزم بقاء الحديث بلا مورد ، أو بتعبير آخر يلزم انحصار مورده بالجهر والاخفات والقصر والتمام ، وهو كما ترى. ولا حاجة إلى تطويل المناقشة بالشكل الذي ذكره قدس سره .

قوله ص 48 س 1 : مع الحمل على الواقعية : أي فيما إذا حمل الرفع على الرفع الواقعي.

قوله ص 48 س 2 : نعم يكفي للمطلوب : وهو إطلاق العنان. ثمّ ان عبارة التقرير أوضح وهي : لو بقي الحديث مجملا مردّدا بين الرفع الواقعي والظاهري فالنتيجة بصالح الاستدلال وذلك تمسّكا بإطلاقه لموارد الشكّ في التكليف الذي يعلم بعدم اختصاصه بالعالم لأنّه من الشكّ في التخصيص بالنسبة إليه ، وبذلك يثبت انّ الرفع ظاهري لا محالة.

قوله ص 48 س 3 : إذ حتّى مع الإجمال : أي وتردّد المراد من الرفع بين الواقعي والظاهري.

قوله ص 48 س 4 : في الفرض المذكور : أي فرض القطع بأنّ الحكم على تقدير ثبوته مشترك بين العالم والجاهل ولا يختص بالعالم.

قوله ص 48 س 4 : لعدم إحراز ... : فإنّه لو كنّا نجزم بأنّ المراد من الرفع هو الواقعي فلازم ذلك تخصيص حديث الرفع وعدم شموله للأحكام التي افترضنا انّها مشتركة بين العالم والجاهل ، ومع القطع بالتخصيص فلا يمكن التمسّك بحديث الرفع وبالتالي لا يمكن إثبات إطلاق العنان.

قوله ص 48 س 5 : أو المخصّص : المناسب إبدال « أو » بالواو حتّى يكون العطف تفسيريا. ولعلّ التعبير بالمعارض أو المخصّص باعتبار الالتفات إلى موارد التمسّك بحديث الرفع بشكل عام ، فإنّه بشكل عام يوجد في بعض الموارد معارض لحديث الرفع وفي بعض الموارد الاخرى يوجد مخصّص ، وهو قدس سره يريد أن يقول انّه لا مانع في موردنا من التمسّك بحديث الرفع لأنّه في موردنا لا يوجد

ص: 119

معارض جزما وأمّا المخصّص - وهو دليل الحكم الواقعي الذي فرضنا القطع باشتراكه - فهو غير مقطوع فينفى بأصالة عدم التخصيص.

قوله ص 48 س 6 : وعلى أي حال : أي سواء كان إجمال المراد من الرفع كافيا في إثبات المطلوب أم لا.

قوله ص 48 س 8 : لا نفسه : عطف على وجوب الاحتياط أي لا نفس ما لا يعلم الذي هو عبارة اخرى عن الحكم المجهول.

قوله ص 48 س 8 : وهو خلاف الظاهر : لأنّ ظاهر الحديث انّ الرفع متعلّق ومتوجّه إلى نفس الحكم الذي لا يعلم لا إلى وجوب الاحتياط.

قوله ص 49 س 1 : من ناحيته : أي من ناحية التكليف الواقعي المشكوك.

قوله ص 49 س 1 : المراتب الاخرى : أي سواء رفع الحكم بوجوده الواقعي أم لا.

قوله ص 49 س 6 : بنفسه : المناسب حذف كلمة « بنفسه ».

قوله ص 49 س 12 : فيه : أي في نفس التكليف.

قوله ص 49 س 15 : خلاف ظاهر الدليل : أي خلاف ظاهر حديث الرفع. وقوله : « جدا » بمعنى قويّا.

قوله ص 49 س 16 : غير المعلوم : المناسب : غير المجهول أو غير ما لا يعلم. وفي التقرير لم تقع هذه المسامحة.

قوله ص 49 س 16 : لأنّ الأوّل : وهو المرفوع. والمراد من الثاني : المعلوم.

قوله ص 49 س 17 : يتبادلان : أي أنّ نفس ما هو مجهول هو الذي يطرء عليه الرفع.

ص: 120

المرحلة الثالثة
اشارة

ذكرنا أنّ الكلام في حديث الرفع يقع في ثلاث مراحل. وهذه هي المرحلة الثالثة. وحاصلها انّ حديث الرفع هل يختص بالشبهات الموضوعية أو يعمّ الحكمية أيضا (1).

وقد مرّ في الحلقة الثانية احتمال الاختصاص بالشبهات الموضوعية تمسّكا بوحدة السياق حيث انّ الشبهة في الخطأ والنسيان والاكراه و ... لا تكون إلاّ موضوعية فإنّ الإنسان لا يخطأ إلاّ في الشيء المعيّن ولا يتصوّر أبدا الخطأ أو النسيان أو الاكراه في الشيء الكلّي.

وإذا كان هذا هو المقصود في هذه الفقرات فيثبت كونه المقصود أيضا في فقرة : « ما لا يعلمون » فيكون المراد في الجميع هو الشبهة الموضوعية.

والجواب عن ذلك : انّ إرادة خصوص الشبهة الموضوعية في غالب الفقرات وإرادة الأعمّ من الشبهة الحكمية والموضوعية في فقرة « ما لا يعلمون » لا يتنافى ووحدة السياق ؛ إذ كلمة « ما » الواردة في الفقرات اسم موصول بمعنى الشيء ، والمعنى المستعمل فيه في جميع الفقرات شيء واحد وهو مفهوم الشيء

ص: 121


1- الشبهة الموضوعية هي الشبهة التي يكون الحكم الكلي فيها واضحا وإنّما التردّد في الموضوع الخارجي المعيّن ، كما إذا كان لدينا سائل مردّد بين كونه خمرا أو خلا ، فإنّ حديث الرفع لو كان يشمله فلازمه جواز تناوله لاقتضاءه ارتفاع المؤاخذة أو حرمة الشرب. والشبهة الحكمية هي الشبهة التي يكون الموضوع فيها واضحا والتردد في الحكم الكلّي كما هو الحال في حرمة شرب التتن لو شكّ فيها.

غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فتارة هو خصوص الشبهة الموضوعية واخرى هو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية ، وذلك لا يخلّ بوحدة السياق.

هذه شبهة تقدّمت مع جوابها في الحلقة الثانية. وتقدّم أيضا أنّ الحديث لو كان شاملا للشبهة الموضوعية والحكمية معا فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد فإنّ المشكوك في الشبهة الموضوعية هو الموضوع الخارجي بينما هو في الشبهة الحكمية الحكم الكلي ، وواضح أنّ الموضوع الخارجي مغاير للحكم الكلّي فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم محذور الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ويمكن أن نقول : إنّا بحاجة إلى إثبات أمرين حتّى يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين : -

أ - وجود جامع بين الموضوع والحكم لئلا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ب - عدم وجود قرينة على اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية أو بالشبهة الحكمية وإلاّ فلا يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين.

تصوير الجامع

امّا بالنسبة إلى الجامع فقد ذكر له تصويران : -

1 - انّ الجامع عبارة عن مفهوم الشيء ، بمعنى أنّ اسم الموصول - وهو كلمة « ما » في قوله : « ما لا يعلمون » - يراد به الشيء أي رفع الشيء الذي لا يعلم ، وواضح انّ الشيء يصدق على الموضوع والحكم إذ كلاهما شيء.

ص: 122

واعترض الآخوند (1) على ذلك بأنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم نسبة حقيقية - لأنّ الحكم قابل للرفع حقيقة إذ اختياره بيد الشارع فيمكنه رفعه ، فحرمة شرب التتن ما دامت مجهولة فيمكن رفعها - وهذا بخلاف نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الموضوع فإنّها نسبة مجازية ؛ إذ الموضوع لا يمكن للشارع رفعه حقيقة فالخمر الذي لا يعلم بخمريته لا يمكن رفعه وإنّما الذي يمكن رفعه هو حكم الخمر أي الحرمة الثابتة له ، فنسبة الرفع إلى الخمر إذن نسبة مجازية ؛ إذ المرفوع حقيقة هو حكم الخمر لا نفسه. وما دامت نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم حقيقية بينما نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع مجازية فلا يمكن الجمع بينهما فإنّ نسبة الرفع إلى الشيء لا بدّ وأن تكون امّا حقيقية أو مجازية ولا يمكن أن تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية معا.

وأجاب الشيخ الأصفهاني بأنّه لا بأس وأن تكون نسبة الرفع حقيقية ومجازية في وقت واحد ولكن باعتبارين مختلفين فباعتبار كون الرفع منسوبا إلى الشيء بمعنى الحكم تكون النسبة حقيقية وباعتبار نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع تكون مجازية ، انّ هذا ممكن ما دام الاعتبار متعدّدا نظير أن يكون الشخص الواحد عالما وجاهلا باعتبارين مختلفين فهو عالم بلحاظ الفقه وجاهل بلحاظ الطب وإنّما المستحيل كون النسبة حقيقية ومجازية باعتبار واحد.

ويمكن أن نقول في ردّ الأصفهاني أنّ المحذور لا يكمن في أنّ النسبة كيف تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية حتّى يقال لا بأس بذلك ما دام الاعتبار

ص: 123


1- في تعليقته على الرسائل على ما نقل الشيخ الأصفهاني في حاشيته ج 2 ص 181.

مختلفا بل المحذور يكمن في أنّ النسبتين ما دامتا متغايرتين - ودليل التغاير كون إحداهما حقيقية والاخرى مجازية - فلا يمكن أن تكون الهيئة الحاصلة من إضافة الرفع إلى ما لا يعلمون مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد.

وإن شئت قلت : كلّما كانت النسبتان متغايرتين فلا يمكن أن تكون الهيئة الواحدة مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد ، وحيث إنّ النسبتين في مقامنا متغايرتان لأنّ إحداهما حقيقية والاخرى مجازية فلا يمكن استعمال الهيئة فيهما بعد وضوح عدم وجود جامع بين النسبتين لتكون الهيئة مستعملة فيه ، فهي إذن امّا مستعملة في النسبة الحقيقية فقط ولازمه اختصاص الحديث بالشبهة الحكمية أو في النسبة المجازية فقط ولازمه الاختصاص بالشبهة الموضوعية. والمحذور إذا بيّن بهذا الشكل فلا يمكن دفعه بما أفاده الأصفهاني كما هو واضح.

والصحيح في دفع اعتراض الآخوند أن يقال إنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم لا تغاير نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع ؛ إذ النسبة على كلا التقديرين مجازية ، فكما انّ نسبة الرفع إلى الموضوع نسبة مجازية كذلك نسبته إلى الحكم مجازية أيضا لأنّ المقصود من الرفع في حديث الرفع هو الرفع الظاهري أي أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط لا نفس الحكم المجهول وإلاّ يلزم اختصاص الأحكام واقعا بالعالم ، وما دام المرفوع هو وجوب الاحتياط فنسبة الرفع إلى الحكم الذي لا يعلم نسبة غير حقيقية لأنّ المرفوع حقيقة ليس هو الحكم غير المعلوم بل هو وجوب الاحتياط ، وعليه فلا يلزم استعمال الهيئة في نسبتين بل في نسبة واحدة مجازية وطرفها واحد وهو الشيء ، غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فهو الحكم مرة والموضوع اخرى ، وواضح انّ النسبة إنّما

ص: 124

تتعدّد بتعدّد طرفها ، أمّا إذا كان طرفها واحدا - وهو الشيء - وكان مصداقه مختلفا فذلك لا يوجب تعدّدها بل تبقى واحدة ومجازية سواء كان مصداق الشيء هو الحكم أم الموضوع.

2 - والتصوير الثاني للجامع ما ذكره الشيخ العراقي وهو أنّ الجامع عبارة عن الحكم ، فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلي والمشكوك في الشبهة الموضوعية هو الحكم أيضا ولكنّه الحكم الجزئي ، فالمشكوك في كليهما هو الحكم غير أنّه في إحداهما هو الحكم الكلي - المعبّر عنه بالجعل أو الحكم الإنشائي أو الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلّي الذي افترضه المولى في ذهنه ، فإنّ حرمة شرب التتن التي نشكّ فيها بنحو الشبهة الحكمية حكم كلي ثابت للتتن الكلّي فالمولى افترض في ذهنه وقدّر شرب التتن وبعد ذلك حكم عليه بحكم كلي وهو الحرمة - وفي الاخرى هو الحكم الجزئي المعبّر عنه بالمجعول أو بالحكم الفعلي الذي هو حكم ثابت للشيء الفعلي وجودا فالسائل الموجود خارجا بالفعل المردّد بين الخل والخمر شيء فعلي يشك في حكمه الجزئي الفعلي وأنّه حرام أو حلال.

وباختصار : الجامع بين الشبهتين هو الحكم غاية الأمر المشكوك في إحداهما هو الحكم الكلي وفي الاخرى الحكم الجزئي.

لا قرينة

ذكرنا سابقا انّ شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية معا يتوقّف على أمرين : وجود الجامع وعدم القرينة. وإلى الآن كنّا نتحدّث عن الجامع واتّضح انّه عنوان الحكم.

ص: 125

وامّا بالنسبة إلى الأمر الثاني فقد سبق مفصّلا في الحلقة الثانية ص 327 انّه قد يدّعى وجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية وهي قرينة وحدة السياق - بأن يقال ان الفقرات السابقة ناظرة إلى الموضوع الجزئي فإنّ الخطأ والنسيان وغير ذلك لا تتصوّر إلاّ في الامور الجزئية فالإنسان قد يخطأ أو يكره على الخمر الخارجي فيشربه ولا يتصوّر ذلك في الأشياء الكلّية.

وقد تقدّم الجواب عن هذه القرينة في الحلقة الثانية أيضا (1).

وتقدّم في الحلقة الثانية أيضا انّه قد يقال بوجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهات الحكمية (2)

ص: 126


1- وحاصله أنّ كلمة « ما » اسم موصول ومستعملة في معنى واحد وهو مفهوم الشيء ، غاية الأمر انّ مصداق الشيء قد يكون تارة أمرا جزئيا كما هو الحال بالنسبة إلى غالب الفقرات واخرى كليا كما هو في فقرة لا يعلمون ، وواضح انّ اختلاف المصداق لا يعني اختلاف المعنى المستعمل فيه. وقد تقدّم منّا الإشارة إلى ذلك في بداية حديثنا عن المرحلة الثالثة
2- وتلك القرينة هي أنّ ظاهر الحديث انّ « ما » هو الذي لا يعلم وليس غيره حيث قيل « ما لا يعلمون » ، ومعه فلا بدّ من تفسير « ما » بمعنى يكون ذلك المعنى غير معلوم حقيقة ، وواضح انّه لو فسّرنا « ما » بالتكليف صدق عليه انّه غير معلوم بينما لو فسّرناه بالموضوع الخارجي أي بالسائل الخارجي المردّد بين كونه خمرا أو ماء فلا يكون نفس « ما » شيئا غير معلوم إذ السائل الخارجي يعلم انّه سائل خارجي وإنّما الذي لا يعلم هو شيء آخر وهو كونه خمرا. وإن شئت قلت : انّ غير المعلوم هو الخمرية بينما المقصود من « ما » هو السائل الخارجي فيحصل تغاير بين المقصود من « ما » وبين غير المعلوم بينما لو فسّر « ما » بالتكليف لما حصل هذا التغاير إذ غير المعلوم هو التكليف والتكليف غير معلوم ، وظاهر الحديث انّ المقصود من « ما » هو بنفسه غير معلوم.

وتقدّم الجواب عنها أيضا (1).

إذن كلتا القرينتين على الاختصاص غير تامة فإطلاق الحديث للشبهات الحكمية والموضوعية تامّ ولا محذور في التمسّك به.

روايات اخرى

وإلى هنا ينتهي بنا الكلام عن حديث الرفع. وهناك أحاديث اخرى قد يتمسّك بها لإثبات البراءة (2) تقدّم الحديث عنها في الحلقة السابقة. وتقدّم أيضا أنّها قاصرة الدلالة أو لا أقل تختص بالشبهات الموضوعية ولا تعمّ الشبهات الحكمية. والمهم هو إثبات البراءة في الشبهات الحكمية ، فإنّ المهم هو إثبات مثل حلّية شرب التتن أو أكل لحم الأرنب ونحو ذلك ممّا يكون المشكوك فيه حكما كليا ، وأمّا الشبهات الموضوعية - مثل انّ هذا السائل المردّد بين الخمر والخل حلال - فغير مهم ، فإنّ الجميع بما في ذلك الاخباريّون متفقون على إجراء البراءة والحلّية فيها.

التعويض بالاستصحاب

كنّا فيما سبق نستدل على البراءة بالنصوص من القرآن الكريم والسنّة

ص: 127


1- وحاصله : انّ هذا يتمّ بناء على تفسير الموضوع الخارجي بالسائل الخارجي ولكن لم لا نفسّره بالخمر ، ومعه يصير المعنى رفعت الخمرية غير المعلومة.
2- كحديث : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » أو : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ».

الشريفة. وهنا نلفت النظر إلى إمكان التعويض عن هذه النصوص والاستغناء عنها بالاستصحاب بلا حاجة إلى التمسّك بالنصوص.

والاستصحاب له أشكال ثلاثة هي : -

1 - استصحاب عدم التكليف الثابت قبل التشريع الإسلامي بأن نقول هكذا : انّ حرمة شرب التتن مثلا لم تكن ثابتة قبل التشريع الإسلامي فإذا شككنا في ثبوتها بعده استصحبنا عدمها الثابت قبلا ، وبذلك يثبت عدم حرمة شرب التتن بعد الإسلام وهو المطلوب.

2 - استصحاب عدم الحرمة الثابت بعد الإسلام وقبل البلوغ بأن نقول : بعد بزوغ نور الإسلام لم تكن الحرمة لشرب التتن ثابتة قبل البلوغ جزما - إذ التكاليف معدومة قبل البلوغ - فإذا شككنا في ثبوتها بعد البلوغ استصحبنا عدمها الثابت قبل البلوغ.

3 - انّ التكليف لو كان مشروطا بشرط على تقدير ثبوته فيمكن استصحاب عدمه الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق ذلك الشرط ، فمثلا إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ففي يوم الأربعاء إذا تحقق البلوغ أمكننا أن نستصحب عدم الوجوب الثابت يوم الخميس فإنّه قبل يوم الجمعة لا وجوب لصلاة الجمعة جزما ؛ إذ الوجوب لو كان ثابتا فهو مشروط جزما بمجئ يوم الجمعة فقبل الجمعة - أي يوم الخميس الذي هو ما بعد البلوغ - لا وجوب فيستصحب إلى يوم الجمعة عدم الوجوب الثابت بعد يوم البلوغ وقبل تحقق الشرط ويثبت بذلك انتفاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة وهو المطلوب (1).

ص: 128


1- قد يقال : إذا جاء يوم الجمعة فالوجوب جزمي فكيف يستصحب عدم الوجوب إلى يوم الجمعة؟ والجواب : نحن فرضنا أنّ ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة زمن الغيبة مشكوك ، أي فرضنا أن أصل جعل الوجوب زمن الغيبة مشكوك.

والفرق بين هذه الاستصحابات الثلاثة أنّ الأوّل منها - وهو استصحاب عدم الحكم الثابت قبل الإسلام - استصحاب لعدم التشريع ؛ إذ قبل الإسلام لا تشريع لحرمة شرب التتن جزما فإذا شكّ في تشريع حكم بعد الإسلام استصحب عدم التشريع - أي عدم الجعل فإنّ التشريع عبارة اخرى عن الجعل - بينما الثاني منها استصحاب لعدم الحكم الفعلي ، أي استصحاب لعدم المجعول حيث نقول هكذا : انّ الإسلام حتّى لو فرض انّه شرّع حرمة شرب التتن فهي غير فعلية قبل البلوغ ، فإنّ الأحكام تصير فعلية بالبلوغ ، ولا يمكن أن نستصحب عدم التشريع إذ لا نجزم بعدم ثبوت تشريع الحرمة قبل البلوغ بل هي محتملة وإنّما المجزوم به هو عدم فعلية الحرمة.

وهكذا الأمر في الاستصحاب الثالث ، أي انّ المستصحب هو عدم الحكم الفعلي فإنّ الذي نجزم به قبل يوم الجمعة هو عدم الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة لا عدم تشريع الوجوب فإنّ من المحتمل ثبوت تشريع وجوب الجمعة قبل يوم الجمعة.

والخلاصة من كل هذا : انّ الاستصحاب في الشكل الأوّل استصحاب لعدم الجعل الثابت قبل الإسلام ، وفي الشكل الثاني استصحاب لعدم المجعول الثابت قبل البلوغ ، وفي الشكل الثالث استصحاب لعدم المجعول الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق الشرط.

ص: 129

ثمّ ان الاستصحاب بأشكاله الثلاثة وقع موردا للاعتراض من قبل الميرزا على ما تقدّم في الحلقة الثانية فراجع.

قوله ص 51 س 8 : انّ نسبة الشيء إلى ما هو له : أي انّ نسبة الرفع إلى الحكم حيث انّها نسبة إلى ما يستحق أن ينسب إليه بخلاف نسبة الرفع إلى الموضوع فإنّها نسبة إلى ما لا يستحقّ أن ينسب إليه.

قوله ص 51 س 15 : التصوير الثاني ... : البيان في هذا التصوير لا يخلو من التطويل والغموض. والتعبير في التقرير ج 5 ص 44 أوضح وأخصر حيث ورد : « الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي من إرادة التكليف الأعمّ من الحكم الكلّي والجزئي ويكون الاسناد إليه حقيقيا لا محالة ».

قوله ص 51 س 16 : بوصفه ... : فإنّ الجعل عبارة اخرى عن الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلي الذي يفترض المولى وجوده في ذهنه بينما المجعول هو عبارة اخرى عن الحكم الجزئي الثابت للموضوع الفعلي وجودا.

قوله ص 52 س 3 : بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول ... : إنّما عبّر بهذا لأنّ هذا التصوير هو للشيخ العراقي وهو ينكر انقسام الحكم إلى جعل ومجعول (1) ، وبعد إنكاره هذا فلا وجه لهذا التصوير الثاني منه قدس سره لأنّه يتمّ بناء على التسليم بفكره الجعل والمجعول والمفروض انّه ينكر ذلك.

قوله ص 52 س 13 : كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب : المناسب : كما يمكن التعويض عن نصوص البراءة بالاستصحاب.

قوله ص 52 س 16 : بداية الشريعة : المناسب : قبل الشريعة أو يقال

ص: 130


1- بدايع الأفكار : ص 325.

هكذا : بداية الشريعة وقبل التشريع.

قوله ص 53 س 1 : بل قد يكون : أي انّ ذكر زمان ما قبل البلوغ هو من باب المثال وإلاّ فيمكن استصحاب عدم التكليف الثابت قبل العقل.

قوله ص 53 س 1 : بل قد يكون : أي زمان الحالة السابقة.

قوله ص 53 س 2 : وتحقق الشرط بعد البلوغ : أي تحقق الشرط بعد البلوغ بفترة فإنّ الشرط - وهو يوم الجمعة - تحقق بعد البلوغ بفترة حيث انّ يوم الخميس فترة متخلّلة بين يوم الأربعاء - الذي هو يوم البلوغ - ويوم الجمعة الذي هو يوم تحقق الشرط.

ثمّ انّه في الطبع الجديد صحفت العبارة بشكل يخلّ بما يريد قدس سره بيانه. فلاحظ ذلك.

قوله ص 53 س 3 : استصحاب عدمه : أي استصحاب عدم التكليف المشروط الثابت ذلك العدم قبل تحقّق الشرط أي قبل يوم الجمعة.

ص: 131

ص: 132

الاعتراضات العامة

اشارة

قوله ص 54 س 1 : ويعترض على أدلة البراءة ... : تقدّم سابقا انّ الكلام عن البراءة يقع في مبحثين أحدهما في أدلة البراءة وثانيهما في الاعتراضات العامة.

وانتهينا من المبحث الأوّل ، ونتحدّث الآن عن الاعتراضات العامة على أدلة البراءة.

وإنّما سمّيت بالاعتراضات العامة لأنّها لا تختص ببعض أدلة البراءة دون بعض. وتقدّمت هذه الاعتراضات في الحلقة الثانية. والمهم منها اثنان : -

1 - استدل الإخباري على وجوب الاحتياط بعدّة روايات - تقدّمت في الحلقة الثانية - لو تمّت دلالتها فهي مقدّمة على أدلّة البراءة لأنّ أدلة البراءة تدلّ على أن التكليف الذي لا يعلم مرفوع حيث قال صلی اللّه علیه و آله : رفع عن امّتي ما لا يعلمون ، ومن الواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بوجوب الاحتياط ، ومع العلم بوجوب الاحتياط فلا يمكن لدليل البراءة أن ينفيه - وجوب الاحتياط - لأنّه ينفي الوجوب غير المعلوم ، ووجوب الاحتياط معلوم.

2 - انّ أدلة البراءة تثبت البراءة في حالة كون الشبهة بدوية ، أي غير مقرونة بالعلم الإجمالي ، وواضح انّه يمكن أن يقال لو نظرنا إلى مجموع الشبهات نجد انّا نعلم في مجموع الشبهات بوجود بعض التحريمات أو الوجوبات ، فنحن

ص: 133

نشكّ في حرمة شرب التتن وفي حرمة الأرنب وفي حرمة القهوة وفي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و ... ولا نحتمل أن جميع هذه الشبهات لا يوجد فيها تحريم ولا وجوب بل نقطع بثبوت التحريم أو الوجوب في بعضها - فإنّ الشريعة لا يحتمل أن تحكم على جميع الوقائع بالإباحة وإلاّ لم تكن شريعة فإنّ الشريعة هي المنهج الذي يحكم بحرمة بعض الأشياء أو وجوبها - ومع وجود هذا القطع فلا يمكن إجراء البراءة ؛ إذ إجراؤها في جميع الشبهات مخالف للعلم الإجمالي وإجراؤها في بعضها ترجيح بلا مرجّح ، نظير ما لو كان لدينا ألف إناء نعلم بحرمة بعضها فإنّ الحكم بحلّية جميعها يتنافى مع العلم الإجمالي والحكم بحلّية بعضها ترجيح بلا مرجّح.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

ويمكن الجواب عن الاعتراض الأوّل بما يلي : -

أ - تقدّم في الحلقة الثانية استعراض الروايات التي تمسّك بها الإخباري على وجوب الاحتياط ، وقد اتّضح عدم تماميتها. أجل أقصى ما تدلّ عليه رجحان الاحتياط والحثّ والترغيب فيه ولا تدلّ على وجوبه ، والمهمّ هو إثبات وجوب الاحتياط وإلاّ فرجحانه ممّا لا كلام فيه.

ب - لو سلّمنا تمامية دلالة الروايات التي استدلّ بها الإخباري على وجوب الاحتياط فلا نسلّم ما قيل من انّ أدلة الاحتياط حاكمة على أدلة البراءة بل نقول انّ بعض أدلة البراءة يعارض أدلة الاحتياط ، فمثلا حديث الرفع يعارض أدلة الاحتياط لأنّ حديث الرفع يرفع الحكم رفعا ظاهريا ، أي يرفع وجوب الاحتياط - ولا يرفع الحكم واقعا لما تقدّم من الوجهين السابقين - فهو

ص: 134

يقول رفع وجوب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم (1) بينما دليل وجوب الاحتياط يقول يجب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم ، والمعارضة بين اللسانين واضحة. وقد تقدّم هذا في الحلقة الثانية ص 338.

ثمّ انّه بعد المعارضة بين مثل حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط فأيّهما المقدّم؟ انّ هذا ما نبحثه في النقطة التالية.

ج - بعد أن عرفنا انّ بعض أدلة البراءة معارض لأدلة الاحتياط فعلينا الآن أن نعرف أيّهما المقدّم.

قد يقول الإخباري بتقديم أدلة الاحتياط وتوجيه ذلك بأنّ أدلة البراءة على قسمين بعضها نصوص قرآنية وبعضها نصوص روائية.

أمّا النصوص القرآنية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو الآية الاولى ، أي قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) .

وأمّا النصوص الروائية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » بخلاف بقية النصوص فإنّها لم تسلم من المناقشة.

وبعد أن عرفنا انّ المعارضة تقع بين الآية الاولى وأدلة وجوب الاحتياط ، وهكذا تقع بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط نأتي الآن لنعرف ما هو المقدم في المعارضة الاولى ثمّ لنعرف ما هو المقدّم في المعارضة الثانية؟

وفي المعارضة الاولى لا بدّ وأن يقول الإخباري انّ المقدّم هو أدلة وجوب

ص: 135


1- طبيعي هو يدل على عدم وجوب الاحتياط ما لم يرد نهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي ، أي ما لم يرد نهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن. وبكلمة اخرى ما لم يرد نهي واقعي عن شرب التتن فإنّ النهي الواقعي عبارة اخرى عن النهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي.

الاحتياط بتقريب انّ الآية الكريمة عامّة بينما أدلّة وجوب الاحتياط خاصّة ، وعند المعارضة يقدم الخاص على العام.

والوجه في كون الآية عامة هو أنّها تشمل - على ما تقدّم - ثلاثة أفراد : المال ، والفعل ، والتكليف ، والمهم في محل بحثنا من هذه الثلاثة هو التكليف ، والآية شاملة له بمقتضى عمومها فهي تشمل التكليف بمقتضى العموم المذكور ، وهذا بخلاف أدلة وجوب الاحتياط فإنّها مختصة بفرد واحد وهو التكليف فهي تدل على أنّ الاحتياط واجب في خصوص باب التكاليف.

وبعد إن كانت أدلة وجوب الاحتياط خاصة بمورد التكاليف بينما أدلة البراءة عامة للتكاليف ولغيرها يلزم تخصيص أدلة البراءة بواسطة أدلة وجوب الاحتياط فتصير النتيجة : لا يكلّف اللّه نفسا بشيء لم يؤت إلاّ في خصوص التكاليف فإنّها وإن لم تؤت - أي لم تعلم - يجب فيها الاحتياط ولا تكون مرفوعة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المعارضة الاولى.

وأمّا المعارضة الثانية - أي المعارضة الواقعة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط - فأيضا قد يقول الإخباري بتقديم أدلة وجوب الاحتياط لنفس النكتة السابقة ، أي لكون حديث الرفع عاما بينما أدلة وجوب الاحتياط خاصة والخاص مقدّم على العام بالتخصيص.

والوجه في كون حديث الرفع عاما هو انّه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية - حيث مرّ بنا سابقا انّ حديث الرفع لا يختص بالشبهات الحكمية بل يعم الشبهات الموضوعية - بينما أدلة وجوب الاحتياط ناظرة إلى خصوص الشبهات الحكمية ؛ إذ الشبهات الموضوعية لا خلاف بين الاصولي والإخباري في عدم وجوب الاحتياط فيها.

ص: 136

وإذا كان حديث الرفع شاملا للشبهات الحكمية والموضوعية بينما أدلة وجوب الاحتياط مختصة بالشبهات الحكمية خصّصت أدلة وجوب الاحتياط حديث الرفع وصارت نتيجة حديث الرفع بعد التخصيص : رفع عن امّتي كل ما لا يعلمونه إلاّ في الشبهات الحكمية فإنّه لا يرتفع فيها وجوب الاحتياط وإنّما هو مرفوع عن خصوص الشبهات الموضوعية ، وواضح انّ هذه النتيجة تتلائم ومرام الإخباري.

الصحيح انّ المعارضة بنحو العموم من وجه

هذا والصحيح أنّ المعارضة بين أدلة البراءة وأدلة وجوب الاحتياط ليست هي بنحو العموم والخصوص المطلق ليقال بتقديم أدلة الاحتياط من جهة انّها مخصّصة لأدلة البراءة ، بل هي العموم والخصوص من وجه.

امّا بالنسبة إلى الآية القرآنية وأدلة الاحتياط فوجه ذلك انّ الآية الكريمة وإن كانت عامة من جهة - أي من جهة شمولها للمال والفعل والتكليف ولا تختص بالتكليف - إلاّ أنّها خاصّة من جهة اخرى حيث انّها تختص بموارد ما بعد الفحص ولا تعمّ ما قبل الفحص (1).

هذا بالنسبة إلى الآية الكريمة. ولو لاحظنا أدلة وجوب الاحتياط لوجدنا أنّها وإن كانت خاصة بالتكليف ولا تعمّ المال والفعل إلاّ أنّها عامّة لشمولها موارد ما قبل الفحص وما بعده (2) فإنّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط حتّى

ص: 137


1- حيث تقدّم انّ المراد من الإيتاء ليس هو الإيتاء باليد بل بمعنى جعل الحكم في مظان الوصول ، وواضح انّ ثبوت الحكم في كتب الحديث بحيث يعثر عليه بعد الفحص يصدق عليه أنّه قد اوتي.
2- ينبغي الالتفات إلى أنّه لو أردنا تحصيل جهة العموم في دليل فلا بدّ وأن نلاحظ جهة الخصوص في الدليل الآخر وعلى ضوئها نستخرج جهة العموم ، فالعمومية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة الخصوصية في الدليل الآخر ، والخصوصية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة العمومية في الدليل الآخر.

فيما بعد الفحص ولا تختص بموارد ما قبل الفحص ، فدليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » يقول احتط حتّى فيما بعد الفحص.

وإذا كان كل واحد من الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط عاما من جهة وخاصا من جهة اخرى صارت النسبة هي العموم من وجه. ومادة الاجتماع هي التكليف ما بعد الفحص (1) فالآية الكريمة تنفي وجوب الاحتياط فيه بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط فيه.

وبعد هذه المعارضة فأيّهما المقدّم؟ انّ المقدّم هو الآية الكريمة التي تنفي وجوب الاحتياط لأنّها نصّ قرآني ، والنص القرآني عند معارضته للرواية يكون هو المقدّم لأنّه قطعي.

وهذه النتيجة نتيجة في صالح الاصولي لأنّها تثبت تقدّم البراءة في باب التكاليف بعد الفحص وهو مطلوبه.

هذا كلّه في توضيح كون المعارضة بين الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم من وجه.

وأمّا كون المعارضة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه فذلك باعتبار انّ حديث الرفع وإن كان عاما من جهة

ص: 138


1- طبيعي مادة الاجتماع التي تحصل فيها المعارضة بين الدليلين هي دائما المورد الذي يكون محلاّ للنزاع بين المتخاصمين ، فمثلا في مقامنا مورد النزاع بين الاصولي والإخباري هو التكليف ما بعد الفحص ، وهذا بنفسه مادة الاجتماع.

الشمول للشبهات الحكمية والموضوعية إلاّ أنّه خاص من جهة اختصاصه بموارد الشبهة البدوية ولا يعمّ موارد العلم الإجمالي ؛ إذ في موارد العلم الإجمالي يكون التكليف معلوما ، والحديث ناظر إلى موارد عدم العلم أي موارد الشكّ حيث يقول : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فما لا يعلم - وهو التكليف المشكوك - هو المرفوع.

هذا بالنسبة إلى حديث الرفع.

وأمّا بالنسبة إلى أدلة وجوب الاحتياط فالأمر فيها كذلك أيضا فهي وإن كانت خاصّة بالشبهات الحكمية إلاّ أنّها عامة للشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ولا تختص بموارد الشبهة البدوية.

ومادة الاجتماع هي الشبهة البدوية الحكمية (1) ، وفي مثلها يحصل التعارض بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط ، فحديث الرفع ينفي وجوب الاحتياط بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط والمقدّم هو حديث الرفع لأنّ مضمونه موافق للقرآن الكريم - أي لقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) فإنّ مقتضى إطلاقه للتكليف هو انّ التكليف إذا لم يؤت فهو غير ثابت - والموافق لكتاب اللّه سبحانه مقدّم على المخالف عند المعارضة.

وهذه النتيجة هي في صالح الاصولي أيضا حيث انّه يريد إثبات البراءة في الشبهة الحكمية البدوية.

ص: 139


1- وهي المادة الواقعة محلا للنزاع بين الاصولي والإخباري فإنّ نزاعهما في الشبهة الحكمية البدوية ؛ إذ الشبهة الموضوعية لا إشكال في جريان البراءة فيها ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيها.

إذن النتيجة في كلتا المعارضتين بعد هذا البيان هي في صالح الاصولي.

ثمّ انّه بعد أن عرفنا انّ النسبة في مقام المعارضة هي العموم من وجه والمقدم هو دليل البراءة امّا لأنّه قرآني أو لموافقته لمضمون القرآن الكريم نقول : لو قطعنا النظر عن هذا الوجه للتقديم فمع ذلك تكون النتيجة في صالح الاصولي وليست في صالح الإخباري ؛ إذ دليل البراءة ودليل وجوب الاحتياط بعد تعارضهما يتساقطان ، وبعد التساقط نرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وبذلك تثبت البراءة أيضا - إن كنّا من القائلين بالقاعدة المذكورة ، وإن كنّا من المنكرين لها فنرجع لإثبات البراءة إلى استصحاب البراءة الثابتة قبل التشريع أو قبل البلوغ فإنّ دليل الاستصحاب عامّ يدل على جريان الاستصحاب في كل حالة متيقّنة سابقة ، وأدلة وجوب الاحتياط جاءت وخصّصت عموم دليل الاستصحاب وأثبتت أنّ الاستصحاب لا يجري لإثبات البراءة - فإنّ الحكم عند الشكّ في ثبوت التكليف هو الاحتياط دون البراءة - ولكن حيث انّ هذا المخصص الدال على وجوب الاحتياط معارض بأدلة البراءة فلا يمكن الأخذ به فيبقى الدليل العام وهو دليل حجّية الاستصحاب سالما من المخصّص ويجري لإثبات البراءة بلا مزاحم.

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني

ذكرنا سابقا انّ أدلة البراءة اعترض عليها باعتراضين أساسيين. وكان حديثنا إلى الآن يدور حول الاعتراض الأوّل.

وأمّا الاعتراض الثاني - الذي يقول انّ أدلة البراءة ناظرة إلى إثبات البراءة في الشبهات البدوية بينما الشبهات التي بأيدينا والتي نريد إجراء البراءة

ص: 140

فيها هي مقرونة بالعلم الإجمالي - فقد ذكر له جوابان أحدهما ما هو المذكور في الكفاية وغيرها من انّا وإن كنّا نعلم بثبوت الحرمة في بعض الشبهات بيد أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه يختص بدائرة أخبار الثقات ، ومعه فيكون العلم المنجز هو هذا العلم الصغير.

توضيح ذلك : انّا لو فرضنا انّ الوقائع التي نشك في حكمها - 1000 واقعة مثلا وفرضنا أيضا انّ الوقائع التي نعلم بثبوت الحرمة فيها - 10 وقائع مثلا ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي الثابت في الوقائع الألف منجزا ويجب الاحتياط في جميع أطرافه ، ولكن هذا لو لم نلتفت إلى حقيقة اخرى وهي أنّه لو نظرنا إلى وسائل الشيعة لوجدنا فيه أخبارا كثيرة جدّا ، وهذه الأخبار لا يحتمل كذبها جميعا بل نجزم بأنّ 10 أخبار على الأقل - الدالّة على 10 تحريمات - صادقة وصادرة عن الأئمّة علیهم السلام ، وبعد الالتفات إلى هذه الحقيقة يحصل لنا علم إجمالي ثاني أصغر من السابق ، وهو العلم إجمالا بوجود 10 أخبار أو بالأحرى 10 تكاليف تحريمية في مجموع دائرة الأخبار ، ونحن ندّعي أنّ العلم الكبير الأوّل منحلّ بهذا العلم الصغير لأنّه كلّما كان عندنا علمان أحدهما كبير والآخر صغير وكانت أطراف الصغير بعض أطراف الكبير وكان مقدار المعلوم بالإجمال في الصغير لا يقلّ عن مقدار المعلوم بالإجمال في الكبير فالكبير ينحلّ بالصغير ويكون العلم المنجز هو العلم الصغير.

فمثلا لو كان عندنا عشرة أواني وكنّا نعلم بنجاسة منها ثمّ علمنا بعد ذلك بأنّ اثنين من الأواني الخمسة الواقعة في جانب اليمين من تلك الأواني العشرة نجس ، في مثل ذلك لا يكون العلم الأوّل الكبير منجزا بل يكون المنجز هو العلم الثاني الثابت في الأواني الخمسة فإنّ أطراف العلم الصغير الثاني بعض أطراف

ص: 141

العلم الكبير الأوّل كما انّ المعلوم نجاسته بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم في العلم الكبير فيكون العلم المنجز هو الثاني ، أي يجب الاجتناب عن الأواني الخمسة فقط ولا يجب الاجتناب عن مجموع الأواني العشرة لأنّ العلم الكبير ينحلّ بسبب العلم الصغير ويبقى الصغير هو المنجز.

ونفس الشيء نقوله في مقامنا فإنّ العلم الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الأخبار لأنّ الشبهات التي وردت فيها أخبار هي بعض من تلك الشبهات في العلم الكبير ، كما وانّ المفروض انّ المعلوم بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال بالكبير فينحل الكبير ويكون الصغير هو المنجز ، أي انّه يجب الاحتياط في دائرة الأخبار فقط لا في جميع الشبهات.

وبكلمة أوضح : كل شبهة دلّت رواية على حرمتها يجب فيها الاحتياط ، وأمّا الشبهات التي لا يوجد فيها خبر فلا يجب الاحتياط فيها ، وهذا هو المطلوب ؛ إذ المطلوب للاصولي هو إثبات إنّ كل شبهة يشكّ في حكمها ولم يدل خبر على حرمتها فلا يجب فيها الاحتياط بل تجري البراءة.

هذا حصيلة ما ذكره الآخوند وغيره.

ويمكن مناقشته بأنّ العلم الصغير ليس واحدا بل اثنان إذ كما نعلم بأنّ عشرة من أخبار الثقات صادق جزما كذلك نعلم بأنّ عشرا من الامارات غير المعتبرة كالشهرات وأخبار من لم يثبت توثيقهم صادق (1) فإنّا لا نحتمل كذب

ص: 142


1- إذ العلماء مع شدّة دقّتهم وذكائهم وقوّة تقواهم فمن البعيد جدّا أن يكون الحكم المشتهر بينهم باطلا ومخالفا للواقع ، وهكذا لا نحتمل أنّ أخبار الرواة الذين لم يثبت توثيقهم باطلة ولا شيء منها مطابقا للواقع بالرغم من كونها تشكّل نصف مجموع الأخبار أو أكثر

جميع ذلك بل بمقتضى حساب الاحتمال نجزم بصدق عشر منها على الأقل (1).

وبهذا تحصل لنا ثلاثة علوم إجمالية : علم إجمالي كبير ثابت في مجموع الشبهات يثبت حرمة عشر وقائع ، وعلمين إجماليين صغيرين أحدهما في دائرة أخبار الثقات وثانيهما في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات ، وفي كل من هذين العلمين الصغيرين نعلم بحرمة عشر شبهات.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الشبهات في دائرة أخبار الثقات لا ندّعي أنّها مغايرة للشبهات في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات بل في الغالب هما متّحدان ، بمعنى أنّ أغلب الشبهات يوجد فيها أخبار ثقات ويوجد فيها شهرات أو أخبار غير ثقات ونادرا ما يكون خبر الثقة ثابتا في شبهة من دون شهرة أو خبر غير ثقة وهكذا بالعكس.

وبعد الالتفات إلى هذا كاملا نأخذ بطرح السؤال التالي وهو أنّ التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة أخبار الثقات هل هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات أو أنّ ذلك غير محتمل وإنّما هما متطابقان في البعض لا في الجميع ، فكلتا العشرتين تتطابقان مثلا في ثمانية تحريمات وهناك تحريمان ثابتان في دائرة أخبار الثقات بلا أن يكون فيهما شهرة أو خبر غير ثقة ، كما وأنّه هناك تحريمان آخران توجد فيهما شهرة وخبر غير ثقة ولا يوجد فيهما أخبار ثقات (2)؟

فإن اخترت الأوّل وقلت إنّا نحتمل أنّ تلك التحريمات العشر في أخبار الثقات هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في الشهرات وأخبار غير

ص: 143


1- المراد عشر ممّا يدل على تكليف تحريمي.
2- قدمت عبارة الكتاب الاحتمال الثاني على الأوّل عكس ما فعلنا.

كالثقات - أي أنّ المعلومين بالإجمال في كلا العلمين نحتمل واقعا تطابقهما تطابقا تامّا - فيشكل حينئذ بأنّه لماذا ينحلّ العلم الكبير الثابت في مجموع الشبهات بالعلم الصغير الثابت في دائرة أخبار الثقات ولا ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير الثابت في الشهرات وأخبار غير الثقات؟ إنّ هذا ترجيح من غير مرجّح (1).

وإن اخترت الاحتمال الثاني - وهو انّ التحريمات العشر هنا وهناك ليست متطابقة تطابقا تامّا بل هي متطابقة في ثمانية فقط وهناك تحريمان فيهما أخبار ثقات بلا شهرات وأخبار غير ثقات كما وهناك تحريمان فيهما شهرات وأخبار غير ثقات بلا أخبار ثقات - فيرد عليه انّ لازم هذا أن تكون التحريمات التي نعلم بها في العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات ليست هي عشر تحريمات بل 12 تحريما (2).

ص: 144


1- قد يقال : لماذا لا نقول انّ العلم الكبير ينحلّ بكلا العلمين الصغيرين معا في آن واحد؟ والجواب انّ لازم هذا حجّية الشهرات وأخبار غير الثقات الدالة على الحرمة وعدم جريان البراءة معهما بالرغم من كونهما من الامارات غير المعتبرة. إن قلت : انّه بعد تطابق الشهرات مع أخبار الثقات في التحريمات العشر فلماذا لا نقول انّ كل شبهة دل خبر الثقة والشهرة معا على ثبوت الحرمة فيها يجب الاحتياط فيها وإلاّ فلا. قلت : انّ تلك التحريمات العشر لا نشخّصها ولا نميّزها خارجا فإنّ الشبهات التي يوجد فيها أخبار ثقات وشهرات كثيرة جدّا وليست هي عشرا فقط. هذا مضافا إلى أنّ لازم هذا حجّية الخبر في خصوص ما إذا كانت الشهرة موافقة له ، وأمّا إذا لم تكن معه شهرة فلا يكون حجّة ، وهذا لا يلتزم به ، فإنّ القائل بحجّية الخبر يقول بحجّيته حتّى إذا لم تكن معه شهرة.
2- لأنّ الشبهات في كل من العلمين الصغيرين هي قسم من الشبهات الثابتة في العلم الكبير فإذا كان مجموع التحريمات في شبهات كل من العلمين الصغيرين - 12 - حيث انّ التحريمات المعلومة التي تدلّ عليها أخبار الثقات والشهرات - 8 والتحريمات التي فيها أخبار ثقات فقط - 2 والتحريمات التي فيها شهرات - 2 - فهذا لازمه انّ التحريمات الثابتة في شبهات العلم الكبير هي 12 أيضا.

وإذا كان المعلوم بالإجمال في الكبير 12 تحريما فلازم ذلك عدم انحلاله بالعلم الصغير في دائرة الأخبار لأنّ المعلوم في دائرة الأخبار هو 10 بينما المعلوم في الكبير هو 12 ، وقد قلنا سابقا إنّ شرط انحلال العلم الكبير بالصغير هو ان لا يقل المعلوم في الصغير عن المعلوم في الكبير ، والمفروض هنا انّ المعلوم في الصغير أقلّ من المعلوم في الكبير فلا يحصل الانحلال.

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني

والجواب الثاني عن الاعتراض الثاني أن يقال : نسلّم انّه لو نظرنا إلى مجموع الشبهات التي نشكّ في حكمها فلنا علم إجمالي بثبوت الحرمة في بعضها ولكن هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لما تقدّم في الحلقة الثانية ص 366 من أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجزا إلاّ إذا تمّت أركان أربعة ، والركن الثالث منها عبارة عن تعارض الاصول في الأطراف فالعلم الإجمالي متى ما تعارضت الاصول في أطرافه كان منجزا ومتى لم تتعارض لم يكن منجزا. فمثلا إذا كان عندنا اناءان وكنّا نعلم بنجاسة أحدهما فهذا العلم الإجمالي منجز لأنّ أصل الطهارة في ذاك الإناء معارض بأصل الطهارة في هذا الإناء وبذلك لا يجوز ارتكاب أي واحد منهما لأنّ جواز ارتكاب الشيء يحتاج إلى مؤمّن ، والمؤمّن ليس هو إلاّ أصل الطهارة ، والمفروض انّه معارض.

ص: 145

وأمّا إذا فرض انّ الاصول لم تتعارض فالعلم الإجمالي لا يكون منجزا ، كما لو فرض انّا نملك انائين أحدهما خمر والآخر ماء وعلمنا إجمالا بوقوع نجاسة في أحدهما فيجوز إجراء أصل الطهارة في إناء الماء وبالتالي يجوز شربه ولا يعارضه أصل الطهارة في الإناء الآخر لأنّه خمر ، والخمر نجس جزما لا معنى لإجراء أصل الطهارة فيه.

وباتّضاح هذا نقول : انّ مجموع الشبهات التي بأيدينا وإن كنّا نعلم إجمالا بحرمة بعضها إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لأنّ كثيرا من الشبهات وردت فيها آيات وروايات تبيّن الحكم الثابت فيها ، فالخمر مثلا وردت فيه آية تدلّ على حرمته والكلب وردت فيه آية كذلك و ... وبعضها اتّضح الحكم فيه بالاستصحاب كالشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة فإنّه ببركة استصحاب الوجوب إلى زمن الغيبة يثبت الوجوب.

إذن هناك شبهات كثيرة ثبت حكمها بالآيات أو الروايات أو الاستصحاب. ومثل هذه الشبهات لا يجري فيها أصل البراءة للعلم بحكمها من الطرق المذكورة ، ومع عدم جريان البراءة فيها فالقسم الباقي من الشبهات الذي لم ترد فيه آية ولا رواية ولا استصحاب لا محذور من إجراء البراءة فيه لأنّه لا يوجد علم إجمالي بثبوت الحرمة فيه.

وبذلك يثبت إنّ كل شبهة ليس فيها آية ولا رواية ولا استصحاب فلا مانع من جريان البراءة فيها ، وهو المطلوب ، إذ مطلوبنا إثبات انّ أصل البراءة يجري في الشبهة التي لا يوجد دليل على تحريمها ، وذلك ثابت بعد انحلال العلم الإجمالي.

ويسمّى مثل هذا الانحلال بالانحلال الحكمي لأنّ العلم الإجمالي لم يرتفع حقيقة من النفس وإنّما ارتفعت منجزيته فقط بسبب عدم تعارض الاصول فإنّ

ص: 146

عدم تعارض الاصول لا يرفع العلم الإجمالي حقيقة وإنّما يرفع منجزيته.

توجيه آخر للانحلال

والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) أوضح فكره الانحلال الحكمي في المقام وحاول ربطها بمسلك جعل الطريقية الذي يتبناه.

وحاصل ما ذكره : انّ فكرة الانحلال الحكمي تامّة وواضحة بناء على مسلك جعل الطريقية. والوجه في ذلك انّ العلم الإجمالي متقوّم بأمرين : العلم بالجامع ، والشكّ في كل طرف طرف.

فإذا فرضنا انّ الآية أو الرواية أو الاستصحاب (1) دلّ على ثبوت الحرمة أو الوجوب في قسم من الشبهات فسوف يزول عنه الشكّ إذ حجّية الامارة تعني جعل العلمية والطريقية ، فالمكلّف متى ما قامت لديه امارة على الحرمة في شبهة فالشكّ يزول عنها ويتبدّل إلى العلم بالحرمة - ولكن ارتفاع الشكّ تعبّدي وليس ارتفاعا حقيقيا لأنّ الامارة لا تولّد العلم حقيقة وإنّما تولّده تعبّدا. ومن أجل هذا كان انحلال العلم الإجمالي انحلالا تعبّديا وليس حقيقيا - ومع زوال الشكّ وتبدّله إلى العلم يزول العلم الإجمالي أيضا لتقوّمه بالشكّ في كل طرف.

ويمكن مناقشة ذلك بأنّ منجزية العلم الإجمالي تتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف فمتى لم تتعارض - كما هو الحال في مقامنا حيث انّ القسم الذي فيه الامارات لا تجري فيه البراءة وإنّما تجري في القسم الباقي فقط - لم يكن منجزا ، وهذا بلا فرق بين أن نبني على مسلك جعل العلمية أو لا.

ص: 147


1- المجعول في باب الاستصحاب عند السيد الخوئي هو الطريقية أيضا على ما تقدّم

فتمام النكتة للانحلال تكمن في عدم تعارض الاصول ولا تأثير لمسلك جعلية العلمية في ذلك أبدا. أجل لئن كان لمسلك جعل العلمية دور في المقام فدوره يبرز في توجيه نكتة عدم جريان الأصل في الطرف الذي قامت فيه الامارة ، فما قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل باعتبار انّ الامارة بناء على مسلك جعل العلمية تورث العلم وتلغي الشكّ الذي هو موضوع الأصل - ومن الطبيعي تلغيه تعبّدا لا حقيقة ومن هنا كانت حاكمة لا واردة - وبالتالي ينحصر جريان الأصل بالطرف الآخر ويرتفع التعارض.

وإن شئت قلت : إنّ نكتة وجوب الموافقة القطعية ليست كامنة في عنوان العلم الإجمالي ليقوم السيد الخوئي ببذل الجهود في إثبات زوال العنوان المذكور زوالا تعبّديا ببركة مسلك جعل العلمية وإنّما هي كامنة في عدم تعارض الاصول في الأطراف. ولكن لماذا لا تتعارض الاصول عند قيام الامارة في أحد الطرفين؟ انّ مسلك جعل العلمية يصلح جوابا عن هذا السؤال فيقال انّ الطرف الذي قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل لحكومتها عليه حيث إنّها تلغي الشكّ تعبّدا ، وأمّا إذا لم نبن على مسلك جعل العلمية فيمكن ان نستعين بنكتة ثانية لتقدّم الامارة وعدم جريان الأصل من قبيل نكتة الأخصيّة والنصيّة أو غيرها ممّا يأتي التعرّض له في هذا القسم من الحلقة ص 360 - 363 وبالتالي يتمّ عدم التعارض بين الاصول ومن ثمّ عدم وجوب الموافقة القطعية من دون الاستعانة بمسلك جعل العلمية أبدا.

قوله ص 54 س 2 : بأدلة تدل على وجوب الاحتياط : تقدّمت في الحلقة الثانية ص 338.

قوله ص 54 س 3 : بل هذه الأدلة : أي أدلة وجوب الاحتياط. وقوله :

ص: 148

« حاكمة عليها » أي على أدلة البراءة. وقوله : « لأنّها » : أي لأنّ أدلة وجوب الاحتياط. وقوله : « وتلك » : أي أدلة البراءة.

قوله ص 54 س 7 : غير معيّنة : أي هي ثابتة في مجموع الشبهات وإن لم تكن تلك التكاليف مشخّصة ومميّزة لنا.

قوله ص 55 س 4 : منوطة بعدم وصول الواقع : أي بعدم النهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن ، فإنّ من جملة أدلة البراءة حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وواضح أنّ هذا الحديث يرفع وجوب الاحتياط عن شرب التتن ما دام لم يصل نهي عنه بعنوان شرب التتن.

قوله ص 55 س 9 : على أساس : هذا توضيح لكيفية دلالة الآية الاولى على البراءة عن التكليف.

قوله ص 56 س 5 : والتعارض : هذا أشبه بعطف التفسير على الاجتماع.

قوله ص 56 س 10 : في الحلقة السابقة : ص 345.

قوله ص 56 س 16 : شرطي القاعدة : أي قاعدة انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير.

قوله ص 57 س 1 : تكون الشبهة خارج نطاق ... : أي تكون الشبهة التي ليس فيها خبر ثقة بدوية.

قوله ص 57 س 10 : والنطاقان : أي نطاق الامارات المعتبرة ونطاق الامارات غير المعتبرة.

قوله 57 س 10 : وإن كانا متداخلين جزئيّا : بمعنى انّ بعض الشبهات توجد فيه الامارات المعتبرة والامارات غير المعتبرة. بل هذا هو الغالب فإنّ الغالب في الشبهة التي فيها خبر ثقة فيها شهرة أيضا ، والشبهة التي فيها شهرة

ص: 149

فيها خبر ثقة أيضا.

قوله ص 57 س 11 : ولكن مع هذا : أي بالرغم من وجود التداخل الجزئي فمع ذلك لا يحصل الانحلال.

قوله ص 57 س 12 : تطابقهما المطلق : أي تطابقهما في جميع التكاليف العشرة المعلومة بالإجمال.

قوله ص 58 س 4 : الذي تضمّ أطرافه : أي العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات.

قوله ص 58 س 9 : واستصحاب مثبت للتكليف : ليس المقصود من الاستصحاب المثبت الاستصحاب الذي يراد به إثبات لازمه العقلي الذي يعبّر عنه بالأصل المثبت بل الاستصحاب الذي نتيجته ثبوت التكليف.

قوله ص 59 س 4 : وإنّما يكون تأثيره : أي تأثير إلغاء عنوان العلم الإجمالي.

قوله ص 59 س 5 : عن طريق رفع التعارض : أي انّ إلغاء عنوان العلم الإجمالي إن كان له أثر فأثره يظهر في رفع التعارض بين الاصول حيث انّ إلغاء العلم الإجمالي يتحقّق بسبب رفع الامارة - في الطرف الذي تقوم فيه - للشكّ رفعا تعبّديا ، ومع ارتفاع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل لارتفاع موضوعه وبالتالي لا يحصل تعارض.

ص: 150

تحديد مفاد البراءة

اشارة

قوله ص 59 س 11 : وبعد أن اتّضح انّ البراءة : قبل توضيح المبحث المذكور نطرح السؤال التالي : بماذا يسقط التكليف؟

والجواب : انّه يسقط بكل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، فالمرض مثلا مسقط لوجوب الصوم لأنّه قيّد بعدم المرض فمع طروّ المرض يسقط وجوب الصوم. وهذا واضح.

وهل امتثال التكليف أو عصيانه مسقط له أيضا؟ ذهب المشهور إلى كونه مسقطا. والصحيح عدمه لأنّ المسقط للتكليف هو كل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، وواضح أنّ الامتثال والعصيان لم يؤخذ عدمهما قيدا في التكليف ؛ إذ لو كان الامتثال قد أخذ عدمه قيدا في التكليف صار وجوب الصلاة هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تقيموا الصلاة. ولو كان عدم العصيان قيدا صار الوجوب هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تعصوا الأمر المذكور ، وهو واضح البطلان.

وعليه فالصحيح انّ امتثال التكليف وعصيانه ليسا مسقطين بل التكليف يبقى بعد الامتثال أيضا غاية الأمر يسقط عن المحركية والفاعلية فمن صلّى وفرغ من صلاته لا يسقط وجوب الصلاة في حقّه بل هو باق كما كان موجودا قبل الإتيان بها ، غاية الأمر قبل الإتيان بالصلاة كان - وجوب الصلاة - محرّكا للمكلّف ودافعا له إلى الصلاة ، وأمّا بعد الإتيان بها فلا يكون محركا نحوها.

ويمكن توضيح المدّعى المذكور بأنّ التكليف يرجع في روحه إلى الحبّ

ص: 151

والإرادة ، وواضح انّ الحبّ لا يزول بتحقّق المحبوب ، والإرادة لا تزول بتحقق المراد ، فنحن نحبّ الطعام وحبّنا له لا يزول بتناوله بل هو باق لكنّه لا يحرك نحو الأكل من جديد.

وممّا يدل على عدم زوال فعلية الحب بتحقّق الأكل إنّنا قد نقوم بعد تناول الوجبة الاولى بالإعداد للوجبة الثانية ، فلو لم يكن الحب فعليا بعد تناول الوجبة الاولى فلماذا التحرّك لإعداد الوجبة الثانية.

وبعد اتّضاح هذا نعود إلى الكتاب لنوضّح أين يجري أصل البراءة وأين يجري أصل الاشتغال.

إنّ مورد البراءة هو ما إذا كان الشكّ في أصل ثبوت التكليف ومورد أصالة الاشتغال هو ما إذا كان الشكّ في تحقيق امتثال التكليف بعد اليقين بثبوته ، فمن شكّ في ثبوت وجوب الدعاء عند رؤية الهلال جرت البراءة لنفيه ، امّا إذا تيقّن بوجوب ذلك وشكّ هل دعا عند رؤية الهلال أو لا كان الاشتغال ولزوم الاتيان هو المحكم في حقّه.

وهذا شيء واضح. ولكن هناك شبهة لعلّ أوّل من أثارها هو الشيخ العراقي قدس سره تقول : لماذا لا تجري البراءة في الحالة الثانية أيضا - أي حالة العلم بثبوت التكليف والشكّ في حصول الامتثال - بتقريب انّ المكلّف متى ما احتمل صدور الدعاء منه فقد احتمل عدم ثبوت التكليف ، ومن الواضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف مجرى للبراءة.

وقد يتخلّص من ذلك بأنّ أدلّة البراءة التي تدل على ثبوت البراءة عند الشكّ في التكليف منصرفة عن حالة الشكّ في ثبوت التكليف الناشئ من احتمال الامتثال ومختصّة بحالة الشكّ في ثبوت التكليف الذي لم ينشأ من احتمال

ص: 152

الامتثال ، فحديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » مثلا يريد أن يقول : متى ما لم يعلم بثبوت التكليف فهو مرفوع ولا يريد أن يقول انّه مرفوع حتّى عند الشكّ في سقوطه بعد العلم بتحقّقه.

كما وقد يتخلص بأنّ استصحاب عدم الإتيان بالواجب يثبت عدم تحقّق الواجب خارجا وبالتالي يثبت وجوب الإتيان به من جديد واشتغال الذمّة به.

بأحد هذين الجوابين قد يتخلص من الشبهة المذكورة. بيد انّه إنّما يحتاج إليهما فيما لو لم نبن على المسلك المتقدّم ، وأمّا بناء على ما تقدّم من انّ الامتثال ليس مسقطا للتكليف وإنّما هو مسقط لفاعليته فالشبهة المذكورة تندفع من جذورها لأنّ المكلّف وإن احتمل إتيانه بالدعاء إلاّ أنّه يبقى متيقنا بثبوت التكليف ولكنّه يشك في سقوط فاعليته ومحرّكيته ، ومن الواضح انّه مع العلم بثبوت التكليف والشكّ في سقوط محركيته لا تجري البراءة ، فإنّ البراءة تجري حالة الشك في ثبوت التكليف ولا تجري حالة العلم بثبوته والشكّ في انتهاء فاعليته (1).

ما هو الميزان؟

بعد أن عرفنا ان البراءة تجري في مورد الشكّ في ثبوت التكليف والاشتغال يجري في مورد الشكّ في الامتثال يقع التساؤل عن ميزان كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف كي تجري البراءة أو شكّا في الامتثال كي يجرى الاشتغال.

ص: 153


1- قد يقال : لماذا لا يكون المناط هو الشكّ في الفاعلية لا الشكّ في الفعلية؟ والجواب : انّ ظاهر أدلة البراءة انّ البراءة تجري فيما إذا كان الشكّ في ثبوت التكليف الفعلي دونما إذا كان الشكّ في الفاعلية بعد العلم بتحقّق التكليف الفعلي.

انّ هذا التساؤل وإن كان قد يبدو واهيا حيث ان تشخيص كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال شيء واضح.

بيد أنّه يمكن أن يقال : انّ الشكّ في الشبهات الحكمية - كالشكّ في حرمة التتن - وإن كان عادة شكّا في ثبوت التكليف ولم نعهد شبهة حكمية لا يكون الشكّ فيها شكّا في ثبوت التكليف ؛ إذ لو لم يكن الحكم مشكوكا فلا تكون الشبهة شبهة حكمية إلاّ أنّه في الشبهات الموضوعية قد يحصل الخفاء في كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال ، فلو قيل اكرم كل عالم وشك في شخص انّه عالم أو لا فهل الشكّ المذكور شكّ في ثبوت التكليف كي تجري البراءة ولا يجب إكرامه أو هو شكّ في الامتثال كي يجري الاشتغال؟ وهكذا لو قيل يحرم الكذب وشكّ في كلام انّه كذب أو لا فهل الشكّ في ذلك شكّ في ثبوت التكليف أو في الامتثال؟

إذن الشبهة الموضوعية بحاجة ملحّة إلى تقديم ضابط يوضح لنا متى يكون الشكّ شكا في ثبوت التكليف ومتى يكون شكا في الامتثال.

ولتوضيح الضابط نقول : لو قال المولى يحرم شرب الخمر إن كنت بالغا كان الحكم هو الحرمة. وهذا الحكم يرتبط بثلاثة أطراف وهي : -

أ - الشرب ، فإنّ الحرمة متعلّقة به. ويسمّى الشرب بمتعلّق الحكم.

ب - الخمر ، فإنّ الشرب - الذي هو متعلّق الحرمة - متعلّق بالخمر. ويسمّى الخمر بمتعلّق المتعلّق ، كما ويسمّى بالموضوع أيضا.

ج - البلوغ الذي هو قيد للحرمة ، فإنّ الحرمة مقيّدة بالبلوغ.

وبعد معرفة هذه الأطراف الثلاثة نقول انّ الشبهة لا تكون موضوعية إلاّ مع الشكّ في أحد الأطراف المذكورة ، فالشبهة تكون موضوعية لو شكّ في تحقّق

ص: 154

البلوغ أو في تحقّق الخمر أو في صدق الشرب ، إذ مع عدم الشكّ من إحدى الجهات المذكورة يتعيّن أن يكون الشكّ من ناحية الحكم وبذلك تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.

وباتضاح هذا نقول : ميزان كون الشكّ في التكليف أو في الامتثال كما يلي : -

1 - إذا كان الشكّ في تحقق القيد - بأن شك في تحقق البلوغ - فالشكّ شكّ في أصل التكليف لأنّ التكليف مقيّد بالبلوغ فعند الشكّ في تحقّقه لا بدّ وأن يشكّ في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة (1)

2 - إذا كان الشكّ في تحقّق المتعلّق فالشكّ شكّ في الامتثال ويثبت الاشتغال ، كما لو فتح لشخص بواسطة عملية جراحية ثقب في جنبه وصبّ الخمر بواسطة انبوب في تلك الفتحة فهل يتحقّق بذلك عنوان شرب الخمر كي يحرم أو لا؟

في مثل ذلك يكون الشكّ شكّا في الامتثال لأنّ المكلّف لا يشك في حرمة شرب الخمر بل يجزم بفعليتها في حقّه وإنّما يشكّ في صدق الشرب على الإراقة في الثقب ، فإن كان صادقا فهو عاص بالإراقة في الثقب وإلاّ فلا. فالشك إذن شكّ في عصيان الحرمة المتوجهة إليه لا في أصل توجهها إليه ، فإنّ توجه الحرمة وفعليتها في حقّ المكلّف ليس مقيدا بوجود المتعلق في الخارج ، فعدم تحقق عنوان شرب الخمر في الخارج لا يعني عدم فعلية حرمة شرب الخمر في حقّ المكلّف ومع الجزم بتوجه الحرمة يلزم ترك الإراقة في الثقب كي يجزم بحصول فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به يقينا (2).

ص: 155


1- لم تشر عبارة الكتاب إلى هذه الحالة ، وكان من المناسب الإشارة لها.
2- هذا ولكن سيأتي منه قدس سره التراجع عن ذلك وإمكان توجيه جريان البراءة.

3 - إذا كان الشكّ في تحقّق الموضوع - كما لو شكّ في سائل انّه خمر أو لا - فلا بدّ من التفصيل بين كون الموضوع مأخوذا بنحو الشمولية - كما لو قيل اكرم كل فقير ، فإنّ الفقير لوحظ بنحو الشمولية ، أي انّ جميع الفقراء يلزم إكرامهم ، وهكذا لو قيل لا تشرب الخمر ، فإنّ المقصود إنّ جميع أفراد الخمر يلزم تركها - وبين كونه مأخوذا بنحو البدلية ، كما لو قيل اكرم فقيرا ما (1).

فعلى تقدير الشمولية يكون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف لأنّ وجوب الإكرام ينحلّ بعدد الأفراد ، فلو كانت أفراد العالم مائة انحلّ إلى مائة وجوب ، ولكل فرد من العالم فرد خاص من الوجوب (2) ، ومعه فالشكّ في كون شخص معين عالما يستلزم الشكّ في ثبوت وجوب آخر زائد على المائة فتجري البراءة عنه.

وإن كان مأخوذا بنحو البدلية - كما لو قيل اكرم فقيرا ما - فالشكّ شكّ في الامتثال ويجب الاحتياط لأنّ المفروض أنّ وجوب الاكرام الثابت في حقّ المكلّف وجوب واحد ويشكّ في أنّ هذا الوجوب الواحد هل يحصل امتثاله باكرام من يشكّ في فقره أو لا ، وفي مثله يحكم بالاشتغال ولزوم الجزم بتحقّق الامتثال.

ص: 156


1- قد يعبّر عن البدلية بصرف الوجود - فيقال انّ وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو صرف الوجود - وعن الشمولية بمطلق الوجود فيقال وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو مطلق الوجود.
2- والدليل على الانحلال المذكور انّ من أكرم بعض العلماء ولم يكرم بعضهم الآخر كان مطيعا بمقدار ما أكرم وعاصيا بمقدار ما لم يكرم ، فلو كان الوجوب واحدا وليس بانحلالي فكيف يتحقق العصيان والإطاعة معا؟ كلا لا يمكن بل يلزم تحقق الإطاعة فقط أو العصيان فقط.

ميزانان للشكّ في ثبوت التكليف والامتثال

ومن خلال ما تقدّم اتضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف له ميزانان : -

1 - أن يكون الشك في تحقق القيد كالبلوغ مثلا.

2 - أن يكون الشكّ في تحقق الموضوع فيما إذا كان إطلاقه شموليا.

كما واتّضح أيضا أنّ الميزان لكون الشكّ شكا في الامتثال هو أحد أمرين أيضا : -

1 - أن يكون الشكّ في المتعلّق.

2 - أن يكون الشكّ في الموضوع فيما إذا كان إطلاقه بدليا.

كلام للميرزا

وللميرزا قدس سره كلام ذكر فيه (1) انّ الميزان الثاني يمكن إرجاعه إلى الميزان الأوّل. وبذلك يكون الميزان للشك في التكليف واحدا وهو الشكّ في قيد التكليف.

ووجه ذلك : انّ وجود الموضوع قيد للحكم ، وما دام قيدا للحكم فالشكّ في تحقق الموضوع شك في تحقق قيد الحكم. فمثلا وجود الخمر موضوع للحكم بالحرمة والحرمة مقيدة بوجود الخمر ، فالخمر يحرم إن وجد في الخارج ، ومعه فيكفي الميزان الأوّل.

وفيه : انّه لا يلزم دائما أن يكون وجود الموضوع قيدا بل ذلك مسلم أحيانا ، فوجود الموضوع إذا لم يكن تحت اختيار المكلّف يلزم أخذه قيدا في

ص: 157


1- راجع مبحث اللباس المشكوك من تقرير الكاظمي للصلاة ج 1 ص 272.

الحكم ، كما لو قيل تجب الصلاة عند الزوال ، فإنّ الزوال موضوع ، وحيث انّه غير اختياري فيلزم أخذه قيدا ويكون المقصود : انّ تحقّق الزوال وجب الصلاة. وكما لو قيل : تجب الصلاة إلى الجهة التي فيها القبلة ، فإنّ كون القبلة في هذه الجهة أو تلك أمر غير اختياري فيجب أخذه قيدا ويكون المقصود : تجب الصلاة إلى هذه الجهة إن كانت القبلة فيها.

وأمّا إذا كان تحت الاختيار - كوجود الخمر مثلا - فلا يلزم أخذه قيدا في الحكم حتّى يكتفى بالميزان الأوّل بل تبقى الحاجة إلى الميزان الثاني.

تصحيح مدّعى الميرزا بطريقة اخرى

هذا ولكن ما ذكره الميرزا - وهو انّه لا حاجة إلى ميزانين بل يكفي الميزان الأوّل - يمكن توجيهه ببيان آخر غير ما ذكره قدس سره فإنّ الميرزا ذكر أنّ وجود الموضوع حيث انّه قيّد للحكم فلا حاجة إلى ذكر الميزان الثاني بينما البيان الجديد يقول انّ وجود الخمر خارجا وإن لم يكن قيدا للحرمة بل هي ثابتة قبل وجوده أيضا إلاّ أنّ هذا لا يعني كون الحرمة مطلقة بل هي مقيّدة بصدق الخمر على السائل ، فكل سائل يحرم أن اتّصف بكونه خمرا على تقدير وجوده ، فالسائل قبل وجوده إذا فرض صدق الخمر عليه على تقدير وجوده فهو حرام ، والحرمة ثابتة قبل وجود السائل ولكن مشروطة بصدق الخمر عليه على تقدير وجوده.

والبراءة تجري لا من باب عدم إحراز تحقق الخمر خارجا - فإنّ تحقق الخمر خارجا ليس قيدا للحرمة - بل من باب عدم إحراز اتصاف السائل

ص: 158

الموجود بالخمرية على تقدير وجوده (1).

صياغة الميزان الأوّل من جديد

وعلى ضوء هذا يتضح انّ الميزان في كون الشكّ شكا في التكليف هو الشك

ص: 159


1- والنكتة لكون الحرمة مقيّدة بالاتصاف بالخمرية لا بوجود الخمر خارجا أنّ الحرمة ليست إلاّ عبارة عن البغض والكراهة ، وواضح أن بغض الخمر لا يتوقف على وجود الخمر خارجا بل هو مبغوض حتى قبل وجوده ما دام يتّصف بالخمرية على تقدير وجوده. وقد تقول : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده لغوا ؛ إذ ما الفائدة في ثبوت الحرمة ما دام الخمر بعد لم يوجد؟ والجواب : انّ الفائدة تظهر فيما لو فرض أنّ المكلّف علم أن العنب لو اشتراه وصيّره خمرا لشربه حتما ، ففي مثل ذلك لا يجوز لمثل هذا الشخص شراء العنب وتصييره خمرا بخلافه على رأي الميرزا فإنّه لا محذور فيه. إن قلت : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده يتنافى مع ما تقدّم من أنّ فعلية التكليف تدور مدار فعلية موضوعه؟ قلت : ان مصطلح الموضوع يطلق على : _ أ _ شرائط التكليف كالاستطاعة والبلوغ و ... فإنّ الاستطاعة مثلا قيد لوجوب الحجّ ، وهي موضوع له لأنّه لا يجب تحصيلها بل متى ما حصلت صدفة ثبت وجوب الحجّ. ب _ متعلّق المتعلّق كالخمر مثلا فإنّه موضوع لحرمة شرب الخمر. بعد هذا نقول : انّ المقصود من قاعدة « انّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه » هو أنّ الحكم لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية شرائط الحكم ، فوجوب الحج لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية الاستطاعة والبلوغ و ... ولا تشمل القاعدة المذكورة متعلّق المتعلّق. هكذا يجاب أو يجاب بأنّ القاعدة تشمل متعلّق المتعلّق أيضا بيد انّ الموضوع في حرمة الخمر ليس هو وجود الخمر حتّى يلزم فعلية وجوده وإنّما هو الاتصاف فيلزم فعلية الاتصاف ، أي فعلية القضية الشرطية ولا يلزم فعلية وجود الخمر في الخارج لأنّه ليس هو الموضوع.

في القيد بيد انّ الشك في القيد له شكلان فتارة : -

أ - يشكّ في أصل وجود القيد ، كما لو شكّ في أنّ البلوغ متحقّق أو لا. ويسمّى هذا بالشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان التامّة (1).

ب - واخرى يشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان الناقصة ، أي يشك في اتصاف السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده (2). أخذ المتعلّق قيدا في الحكم

اتضح من خلال ما سبق انّ الموضوع هو قيد في الحكم ولكن لا بوجوده بل اتصاف الشيء بالخمرية على تقدير وجوده - وبتعبير أشمل اتصاف الشيء بوصف الموضوع - هو القيد للحكم.

وهذه الفكرة يمكن تطبيقها على المتعلّق أيضا كالكذب في دليل « يحرم الكذب » فإنّ الكذب متعلّق للتحريم وليس موضوعا ويمكن تطبيق الفكرة السابقة عليه فيقال انّ اتصاف الكلام بالكذب هو قيد في الحرمة ، والتقدير : يحرم كل كلام إذا كان على تقدير وجوده متصفا بالكذب (3).

ص: 160


1- « كان التامّة » هي الدالة على أصل الوجود ، ومن هنا صح التعبير عن أصل وجود الشيء بمفاد كان التامّة.
2- « كان الناقصة » هي الدالة على ثبوت شيء لشيء ، فقولنا : « كان زيد قائما » يدلّ على ثبوت القيام لزيد واتصافه به ، ومن هنا صح التعبير عن اتّصاف السائل بالخمرية بمفاد كان الناقصة.
3- وهذا تراجع عمّا سبق فإنّه تقدّم أنّ الشكّ في المتعلّق مجرى للاشتغال للبيان المتقدّم بينما على ضوء البيان الفعلي يكون الشكّ في المتعلّق مجرى للبراءة. وبهذا يتّضح انّ الكلام متى ما شكّ في كونه كذبا فيوجد بيانان أحدهما يقتضي الاشتغال والآخر يقتضي البراءة. أمّا بيان الاشتغال فهو انّ المكلّف حيث يقطع باشتغال ذمّته بحرمة الكذب فلأجل تحصيل اليقين بفراغها يلزمه ترك ما يشكّ في كونه كذبا. وبيان البراءة أنّ الحرمة حيث انّها ثابتة لما يتّصف بكونه كذبا على تقدير وجوده فالكلام المشكوك تجري البراءة عن حرمته لعدم إحراز اتصافه بوصف الكذب على تقدير وجوده. والبيان الثاني هو الوجيه. أجل البيان الأوّل يتمّ في باب الواجبات فإذا وجبت الصلاة على المكلّف وشكّ في صدورها منه جرى الاشتغال. وعليه فالمناسب هو التفصيل بين باب المحرّمات فتجري البراءة عند الشكّ في المتعلّق للبيان الثاني وبين باب الواجبات فيجري الاشتغال للبيان الأوّل.

وهذا شيء وجداني فإنّ الحرمة لا تثبت للكذب بعد وجوده فليس من الصواب أن نقول انّه لا بدّ من وجود الكذب أوّلا ثمّ توجد الحرمة بل الحرمة ثابتة قبل وجود الكذب ، فكل كلام يصدق عليه الكذب على تقدير وجوده فهو حرام قبل وجوده أيضا.

الصياغة النهائية لميزان الشكّ في التكليف

وعلى ضوء هذا يتّضح انّ الصياغة النهاية لميزان الشكّ في التكليف هو أن يكون الشكّ في قيد التكليف ، والشكّ في قيد التكليف له أشكال ثلاثة : -

أ - أن يشكّ في أصل تحقّق القيد. ويسمّى بالشكّ في تحقق القيد بنحو مفاد كان التامة ، كالشك في تحقق البلوغ أو الشكّ في تحقّق الزلزلة التي هي قيد في وجوب صلاة الزلزلة.

ب - انّ يشكّ في الموضوع بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف

ص: 161

السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده.

ج - أن يشكّ في المتعلّق بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف الكلام بكونه كذبا على تقدير وجوده.

قوله ص 59 س 11 : لوجود الدليل عليها ... : أمّا الدليل على البراءة فهو الآية الاولى وحديث الرفع فإنّ دلالة هذين تامّة على ما اتّضح سابقا.

وأمّا انّ المانع عن تطبيق البراءة مفقود فلأنّ المانع من البراءة هو الاعتراضان الأساسيان السابقان ، وقد تقدّم دفعهما.

قوله ص 59 س 16 : وهذا واضح : أي جريان الاشتغال وعدم جريان البراءة. وقوله : « على مسلكنا المتقدّم » إشارة إلى ما مرّ في الحلقة الثانية ص 296 وفي القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 308.

قوله ص 60 س 3 : في فعلية التكليف : أي في ثبوت التكليف الفعلي.

قوله ص 60 س 8 : بأصل موضوعي حاكم : تسمية استصحاب عدم الامتثال بالأصل الموضوعي واضح لأنّه ناظر إلى الموضوع وهو الامتثال فإنّ الامتثال موضوع لعدم وجوب الامتثال من جديد. وأمّا تسميته بالحاكم فلأنّه يثبت تعبّدا - لا حقيقة - موضوع وجوب الامتثال من جديد.

قوله ص 60 س 11 : أي المكلّف به : فإنّ الشكّ في الامتثال عبارة اخرى عن الشكّ في تحقق المكلّف به.

قوله ص 62 س 7 : ميزانان : الصواب : ميزانين.

قوله ص 62 س 10 : أن يكون إطلاق التكليف : المناسب : أن يكون الشكّ في الموضوع ويكون إطلاق التكليف ...

ص: 162

قوله ص 64 س 4 : في الأوّل : أي فيما إذا كان القيد مأخوذا بنحو مفاد كان التامة. والمراد من الثاني أخذه بنحو مفاد كان الناقصة.

ص: 163

ص: 164

استحباب الاحتياط

اشارة

قوله ص 65 س 1 : عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط ... : عرفنا فيما سبق انّ الاحتياط لا يجب في موارد الشك في التكليف كالشك في حرمة التتن. ولكن هل هو راجح ومستحب أو لا؟ أجل هو مستحب ، فإنّ مثل حديث « أخوك دينك فاحتط لدينك » لئن أنكرنا دلالته على وجوب الاحتياط فليس بإمكاننا إنكار دلالته على استحباب الاحتياط ورجحانه.

وهذا شيء واضح. غير انّه توجد نقطتان وقعتا محلا للبحث بين الاصوليين : -

النقطة الاولى

انّ استحباب الاحتياط هل هو مستحب مولوي كسائر المستحبات المولوية - كاستحباب صلاة الليل مثلا - أو هو إرشادي؟

والثمرة بين هذين الاحتمالين تظهر في ثبوت الثواب ، فإنّه بناء على الاستحباب المولوي يكون المكلّف مستحقا للثواب لو احتاط كما يستحق الثواب لو فعل بقية المستحبات المولوية بينما على الاستحباب الإرشادي لا يكون مستحقا للثواب على الاحتياط بما هو احتياط وإن كان يستحقه عليه بما هو انقياد.

ص: 165

وتظهر الثمرة أيضا في إمكان قصده في مقام الامتثال فإنّ الاستحباب المولوي يمكن قصده في مقام الامتثال ويصير الفعل بذلك عباديا ، وهذا بخلافه في الاستحباب الإرشادي فإنّ قصده في مقام الامتثال لا يصيّر الفعل عباديا.

وعلى أي حال وقع الكلام في أنّ استحباب الاحتياط هل هو مولوي أو إرشادي؟

ذهبت مدرسة الشيخ النائيني قدس سره إلى عدم إمكان كون استحباب الاحتياط مولويا وقالت انّ الروايات الدالة على حسن الاحتياط واستحبابه - مثل أخوك دينك فاحتط لدينك - لا بدّ من حملها على الإرشاد ، أي الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن الاحتياط ولا تريد أنّ تؤسس استحبابا مولويا زيادة على الحسن العقلي الذي يحكم به العقل. واستدلت على ذلك بوجهين : -

1 - إنّ الغرض من الاستحباب المولوي للاحتياط امّا هو إيجاد محرّك لزومي نحو الاحتياط ، أو إيجاد محرك غير لزومي.

والأوّل باطل جزما ، إذ لازمه صيرورة الاحتياط واجبا مع أنّ المفروض كونه مستحبا وليس واجبا.

والثاني لغو وتحصيل للحاصل ، فإنّ المكلّف ما دام يحتمل انّ شرب التتن محرّم واقعا فهذا الاحتمال سوف يحركه نحو الاحتياط حتّى لو فرض أنّ الشارع لم يجعل الاستحباب للاحتياط لأنّ العقل يحرّك المكلّف ويدفعه نحو إيجاد الاحتياط ، وما دام احتمال ثبوت الحرمة كافيا في تحريك المكلّف نحو الاحتياط يكون جعل الشارع الاستحباب للاحتياط بداعي التحريك نحو الاحتياط لغوا وأشبه بتحصيل الحاصل.

ص: 166

2 - وبيان هذا الوجه موقوف على مقدّمة تقدّمت في الحلقة الثانية ص 302 حاصلها : انّ العقل إذا حكم بحسن شيء فهل يلزم حكم الشارع على طبقه أو لا؟ وبتعبير آخر : هل هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؟

وفي الجواب عن هذا السؤال فصّل الميرزا بين الحسن الثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم والحسن الثابت في مرحلة أسبق على الحكم ، فالحسن الثابت في مرحلة أسبق يستلزم حكم الشارع على طبقه بخلاف الحسن المتأخر.

فمثلا حسن الإطاعة حسن ثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم إذ لا بدّ من افتراض سبق حكم بوجوب الصلاة مثلا حتّى يمكن تحقق إطاعته وبالتالي حتّى يثبت حسن هذه الإطاعة فإذا لم نفترض وجود حكم شرعي بوجوب الصلاة فلا يمكن تحقق إطاعته حتّى تكون حسنة ، فحسن الإطاعة إذن موقوف على وجود حكم شرعي.

ومثل هذا الحسن لا يستلزم حكم الشارع على طبقه إذ لو حكم الشارع على طبقه يلزم تولّد حكم ثاني جديد غير الحكم السابق - والحكم السابق هو وجوب الصلاة مثلا - وهذا الحكم الثاني حيث انّ إطاعته حسنة أيضا فيلزم تولّد حكم شرعي ثالث ، وإطاعة هذا الحكم الثالث حيث انّها حسنة أيضا فيلزم تولد حكم رابع جديد ، وهكذا يلزم التسلسل.

هذا كلّه في الحسن الثابت في مرحلة متأخرة عن الحكم. ويعبّر عنه بالحسن الواقع في طول الحكم الشرعي.

وأمّا إذا كان الحسن واقعا في مرتبة أسبق على الحكم - ويعبّر عنه بوقوع الحكم الشرعي في طول الحسن ، كحسن الصدق مثلا ، فإنّ الصدق حسن في

ص: 167

نفسه وقبل أن يحكم الشارع بوجوبه ، ولأجل حسنه المذكور حكم الشارع بوجوبه - فهو يستلزم حكم الشارع على طبقه وسلّم فيه الميرزا الملازمة بين حكم العقل بالحسن وحكم الشارع بالوجوب.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول في توضيح الوجه الثاني : انّ الاحتياط ما دام حسنا عقلا فلا يمكن أن يكون مستحبا مولويا شرعا لأنّ هذا الحسن العقلي للاحتياط هو حسن متأخر عن الحكم الشرعي إذ لا بدّ من فرض وجود حرمة شرب التتن أوّلا حتّى يمكن الاحتياط لأجلها وبالتالي حتّى يكون الاحتياط لأجل تلك الحرمة المحتملة حسنا.

وما دام حسن الاحتياط متأخّرا عن الحكم الشرعي فلا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي لأنّه إذا كان الاحتياط مستحبا شرعا فإطاعة هذا الاستحباب حسنة أيضا فيلزم تولد استحباب جديد بإطاعة الاستحباب السابق ، وحيث إن إطاعة هذا الاستحباب الجديد حسنة أيضا فيلزم تولّد استحباب آخر ، وهكذا يلزم التسلسل.

مناقشة الوجه الأوّل

ويمكن مناقشة الوجه الأوّل - وهو أنّ جعل الاستحباب للاحتياط لغرض إيجاد محرّك لزومي غير معقول ولايجاد محرّك غير لزومي لغو - بأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط فيه احتمالان : -

أ - أن يكون الاستحباب نفسيا لا طريقيا ، بمعنى أنّه جعل الاستحباب للاحتياط لا لأجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرمات الواقعية المحتملة بل

ص: 168

لأجل ملاك آخر كما قد يستفاد ذلك من حديث « من ترك الشبهات فهو لما استبان له أترك » حيث يدلّ على أنّ رجحان الاحتياط وترك الشبهة لم ينشأ من أجل التحفّظ على الواقع بل لأنّ ترك الشبهة يولّد للمؤمن مناعة ونفسا قادرة على ترك المحرّمات المعلومة ، فمن اعتاد على ترك الشبهات هان عليه ترك المحرّمات.

وبناء على هذا الاحتمال لا يلزم محذور اللغوية لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرك المكلّف نحو الاحتياط حتّى لو لم يجعل الشارع الاستحباب للاحتياط إلاّ أنّ هذه المحركية الناشئة من احتمال حرمة شرب التتن هي محركية مغايرة للمحركية الناشئة من جعل الاستحباب المولوي للاحتياط ، فإنّ المحركية الاولى محركية ناشئة من أجل التحفّظ على الواقع المشكوك بينما المحركية الثانية ناشئة من أجل إيجاد المناعة. وبعد تغاير المحركيتين فلا لغوية. أجل عند اجتماع المحركتين تتحوّلان إلى محركية واحدة أكيدة كالسوادين المتغايرين حينما يجتمعان في محل واحد حيث يتحوّلان إلى سواد واحد أكيد.

ب - ان يكون الاستحباب المولوي للاحتياط استحبابا طريقيا بمعنى أنّه ناشىء من أجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرّمات المحتملة.

وبناء عليه لا يلزم محذور اللغوية أيضا لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرّك المكلّف نحو الاحتياط وترك التتن إلاّ أنّ هذه المحركية تقوى بجعل استحباب الاحتياط إذ به تتّضح شدّة اهتمام المولى بالاحتياط ، وواضح كلّما تكشّف اهتمام المولى وشدّته كلّما قويت المحركية.

ص: 169

مناقشة الوجه الثاني

وأمّا الوجه الثاني - وهو أنّ حسن الاحتياط لا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي حذرا من التسلسل - فيردّه : -

أ - لا نسلّم محذور التسلسل ، فإنّ التسلسل المستحيل هو التسلسل في الامور التكوينية ، وأمّا في الامور الاعتبارية فليس مستحيلا ، ومن الواضح أنّ التسلسل اللازم في المقام هو تسلسل في الامور الاعتبارية لأنّ الأحكام التي يلزم تسلسلها وعدم تناهيها هي امور اعتبارية ، والتسلسل في الامور الاعتبارية ليس مستحيلا أو بالأحرى غير لازم لأنّ المعتبر متى ما قطع اعتباره ورفع يده عنه انقطع التسلسل.

ب - لو سلّمنا باستحالة التسلسل حتّى في الامور الاعتبارية فيمكن أن نقول انّ هذه الاستحالة لا تؤثّر علينا شيئا إذ لا نريد إثبات الاستحباب الشرعي بواسطة الملازمة بين حسن الاحتياط واستحبابه الشرعي حتّى يقال انّ ذلك غير ممكن للزوم محذور التسلسل بل استحباب الاحتياط ثابت بأدلة استحباب الاحتياط الخاصة من قبيل « أخوك دينك فاحتط لدينك » غاية الأمر نريد أن نعرف هل يوجد مانع ثبوتا وواقعا من ثبوت الاستحباب للاحتياط أو لا.

وبكلمة اخرى : المقصود ليس إلاّ نفي المانع من ثبوت الاستحباب للاحتياط وليس المقصود إثبات الاستحباب للاحتياط.

وممّا يؤكّد عدم كون المقصود إثبات الاستحباب بقاعدة الملازمة بل نفي المانع لا أكثر أنّه لو كان المقصود التمسّك بقاعدة الملازمة فمن اللازم أن يكون

ص: 170

الاستحباب الشرعي للاحتياط على منوال الحسن العقلي للاحتياط لفرض استكشاف ذاك من هذا مع وضوح انّ الاستحباب الشرعي للاحتياط ليس على منوال الحسن العقلي فإنّ العقل لا يحكم بأنّ كل احتياط حسن وإنّما يحكم بحسن الاحتياط فيما إذا اتي به بداع قربي ، فترك التتن مثلا يكون حسنا عقلا فيما إذا تركه المكلّف بداعي تحصيل رضا اللّه سبحانه بترك ارتكاب ما حرّمه دون ما إذا تركه لا لهذا الداعي فإنّه لا يكون حسنا وهذا بخلافه في الاستحباب الشرعي للاحتياط فإنّه غير ثابت لخصوص الاحتياط المأتي به بداع قربي ؛ إذ المستفاد من دليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » وأمثاله انّ التتن ما دام من المحتمل حرمته فتركه مطلوب وراجح حتّى لو صدر لا بداع قربي بأن صدر بداعي التحفظ على صحّة البدن فالترك المذكور مطلوب أيضا ويشمله دليل أخوك دينك.

النقطة الثانية

ذكرنا فيما سبق انّ الكلام في الاستحباب المولوي للاحتياط يقع في نقطتين. ونأخذ الآن بالتحدّث عن النقطة الثانية - بعد الفراغ عن النقطة الاولى - وحاصلها : انّه بعد معرفة حسن الاحتياط ورجحانه نسأل هل يمكن تحقق الاحتياط في جميع الموارد أو إنّ هناك بعض الموارد لا يمكن تحققه فيها؟

ربّما يقال بعدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد.

توضيح ذلك : لو كان عندنا فعل عبادي (1) نشكّ انّه مستحب أو لا فلذلك صورتان : -

ص: 171


1- المقصود انّه لو كان مطلوبا فهو مطلوب بنحو العبادية.

1 - ان نجزم بكونه مطلوبا ولكن نشكّ انّه مطلوب على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ، كالدعاء عند رؤية الهلال فإنّا نجزم بمطلوبيّته ورجحانه بيد انّا نشكّ هل هو واجب أو مستحب.

وفي مثل ذلك يمكن أن نأتي بالفعل بقصد القربة ويتحقّق بذلك الاحتياط ويكون حسنا وراجحا. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

2 - انّ نشكّ في أصل المطلوبية ، كما لو دلت رواية ضعيفة على استحباب صلاة ركعتين في وقت معين ، فإنّه بعد فرض ضعف سند الرواية سنحتمل عدم استحباب الركعتين وبالتالي يكون الأمر دائرا بين احتمالين : ثبوت الاستحباب - وذلك على تقدير صدق الرواية - وعدم ثبوته ، وذلك على تقدير كذبها.

وفي هذه الحالة وقع الكلام بين الأعلام هل يمكن الإتيان بالركعتين من باب الاحتياط أو لا؟

وقد نقل الشيخ الأعظم في الرسائل عن بعض القول بعدم إمكانه لأنّ المكلّف إذا أراد الاحتياط فهل يأتي بالركعتين من دون قصد القربة أو معه؟ فإن أتى بهما من دون قصد القربة فلا يصدق عليهما عنوان العبادة ولا عنوان الاحتياط ، فإنّ الصلاة بلا قصد القربة أشبه بالصلاة بلا ركوع ولا سجود.

وإن أتى بهما بقصد القربة فعنوان العبادة والاحتياط وإن كان صادقا ولكن لا يمكن ذلك ، أي لا يمكن قصد القربة بالركعتين إذ قصد القربة يتوقّف على وجود أمر جزمي بالعمل ليقصد امتثاله ، والمفروض عدم جود أمر جزمي بالركعتين.

وبهذا ثبت ما ذكرناه من أنّ الاحتياط لا يمكن تحقّقه في بعض الموارد ، أي

ص: 172

فيما إذا لم يجزم بمطلوبية العمل العبادي (1).

مناقشة الشبهة

وقد يجاب عن الشبهة المذكورة بأنّ قصد القربة عند الإتيان بالركعتين وإن كان يتوقّف على وجود أمر جزمي غير انّا ندّعي وجوده وتحققه ، وذلك الأمر الجزمي هو الأمر الاستحبابي بالاحتياط فإنّ مثل « أخوك دينك فاحتط لدينك » الذي تمسّك به الإخباري لإثبات وجوب الاحتياط يدل في نظرنا على استحباب الاحتياط ، وبعد ثبوت هذا الأمر الاستحبابي يمكن الإتيان بالركعتين بقصد امتثال هذا الأمر الجزمي.

وقد يشكل بأنّ هذا الأمر الاستحبابي المتعلّق بالاحتياط توصلي (2) ، وما دام توصليا فكيف يجب قصد امتثاله؟

وفيه : ان لزوم قصد امتثاله لم ينشأ من كونه أمرا عباديا ليقال انّه توصّلي وليس بعبادي وإنّما نشأ من جهة انّ صلاة الركعتين على تقدير كونها مطلوبة واقعا فهي عبادة ، فلأجل أن تتحقق العبادة التي نحتمل أنّها مطلوبة واقعا يلزم قصد الأمر الاستحبابي بالاحتياط ، فلزوم قصده ليس إلاّ من هذه الجهة وليس

ص: 173


1- ينبغي أن يكون واضحا انّ هذا الإشكال يختص بما إذا كان العمل عباديا ، وأمّا إذا كان توصليا فالإتيان به على وجه الاحتياط ممكن دون أي محذور إذ لا يلزم في العمل التوصّلي قصد القربة ليقال انّ الإتيان به بقصد القربة غير ممكن.
2- بدليل انّ استحباب الاحتياط يسقط بمجرّد تحقّق الاحتياط وإن لم يكن بقصد القربة ، فمن ترك التدخين تحقّق منه الاحتياط وسقط عنه الأمر بالاحتياط وإن لم يكن تركه للتدخين بقصد امتثال الأمر المذكور.

لكونه أمرا عباديا.

الأولى في الجواب

عرفنا انّ الشبهة السابقة اجيب عنها بأنّ الأمر الجزمي ثابت وهو الأمر الاستحبابي بالاحتياط. هذا ولكن يوجد جواب آخر أولى من هذا الجواب وهو أن يقال : انّ الإتيان الركعتين بنحو قربي لا يتوقّف على وجود أمر جزمي بل يكفي الإتيان بهما بنيّة رجاء المطلوبية ، فكما انّ قصد امتثال الأمر الجزمي يحقق التقرب كذلك قصد امتثال الأمر المحتمل.

قوله ص 65 س 2 : واستحبابه : عطف تفسير على مطلوبيته.

قوله ص 65 س 5 : ثبوتا : أي واقعا.

قوله ص 65 س 9 : إذ يكفي فيه نفس التكليف : المناسب إضافة كلمة « احتمال » أي يكفي فيه احتمال التكليف ...

قوله ص 65 س 13 : وقد تقدّم : أي في الحلقة الثانية ص 302.

قوله ص 65 س 14 : في هذه المرحلة : أي في مرحلة متأخرة عن الحكم الشرعي.

قوله ص 65 س 14 : لا يستتبعان : فرارا من محذور التسلسل.

قوله ص 66 س 4 : لملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « نفسيا ». وقوله : « وراء » بمعنى غير.

قوله ص 66 س 5 : بملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « طريقيا ».

قوله ص 66 س 12 : فيه : أي المشار إليه في الوجه الثاني.

قوله ص 66 س 14 : واستتباع : عطف تفسير لقوله : « الملازمة ».

ص: 174

قوله ص 66 س 16 : ولهذا : أي ولأجل انّا لا نريد إثبات استحباب الاحتياط بقانون الملازمة.

قوله ص 66 س 17 : والعقل : أي بينما العقل الخ.

قوله ص 67 س 1 : والقربى خاصة : عطف تفسير للانقيادي.

قوله ص 67 س 6 : وإن لم يعلم كونه : أي كون الأمر المعلوم تعلّقه به.

قوله ص 67 س 7 : وقريبا : عطف تفسير ل- « عباديا ».

قوله ص 67 س 11 : والبناء على وجوده : عطف تفسير لقوله : « افتراض الأمر ».

قوله ص 67 س 16 : وكون الأمر الخ : هذا مبتدأ ، خبره قوله : « لا ينافي الخ ». وقوله : « لا تتوقف موافقته على قصد امتثاله » جملة تفسيرية أو وصفية لقوله : « توصليا ».

قوله ص 67 س 17 : لا ينافي ذلك : أي لا ينافي عبادية الركعتين ولزوم قصد القربة بهما.

قوله ص 68 س 2 : ما يحتاط فيه : وهو نفس الركعتين.

ص: 175

ص: 176

مباحث العلم الإجمالي

اشارة

ص: 177

ص: 178

ثلاثة أبحاث في العلم الإجمالي

اشارة

قوله ص 74 س 1 : والكلام في هذه القاعدة الخ : تقدّم في ص 25 من الحلقة أنّ الشكّ في الحكم له صورتان ، فتارة يشكّ في ثبوت الحكم من دون أن يقترن بالعلم الإجمالي. وتسمّى حالة الشكّ هذه بالشبهة البدوية. ومثالها الشكّ في حرمة شرب التتن.

واخرى يشكّ في ثبوت الحكم مع اقتران ذلك بالعلم الإجمالي. وتسمّى هذه الحالة بالشبهة المحصورة (1). ومثال ذلك الشكّ في وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة فإنّ هذا الشكّ مقرون بالعلم الإجمالي بثبوت وجوب حتما متعلّق امّا بالظهر أو بالجمعة.

وما سبق كان حديثا عن الشبهة البدوية. ومن الآن نأخذ بالتحدّث عن الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويمكن منهجة البحث عن العلم الإجمالي في ثلاثة فصول : -

1 - هل العلم الإجمالي منجز أو لا؟

2 - ما هي أركان منجزية العلم الإجمالي؟

3 - بعض التطبيقات.

والكلام يقع أوّلا عن الفصل الأوّل ، أي في منجزية العلم الإجمالي.

ص: 179


1- طبيعي فيما إذا كانت الأطراف محصورة وإلاّ سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

منجزية العلم الإجمالي

وفي البحث عن منجزية العلم الإجمالي نتكلّم عن ثلاثة امور : -

1 - إذا علم المكلّف إجمالا يوم الجمعة أمّا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا فنسأل : ماذا يحكم العقل - وبقطع النظر عن أي دليل شرعي على البراءة - بالنسبة للعلم الإجمالي فهل يحكم بأنّه منجز أو لا؟ وإذا حكم بكونه منجزا فهل يحكم بكونه منجزا لكلا الطرفين بحيث يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا - وهذا ما يعبّر عنه بوجوب الموافقة القطعية - أو يحكم بكفاية الإتيان بأحدهما ، وهذا ما يعبّر عنه بحرمة المخالفة القطعية.

2 - لو فرض أن العقل حكم بكون العلم الإجمالي منجزا بمعنى لزوم الإتيان بالظهر والجمعة أو لا أقل لزوم الإتيان بأحدهما فنسأل : لو رجعنا إلى أدلة البراءة الشرعية من قبيل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهل يمكن أن نستفيد منها موقفا آخر غير ما انتهى إليه العقل كأن يستفاد منها جواز ترك كلتا الصلاتين باعتبار أن كل واحدة منهما لما لم تكن معلومة الوجوب بالخصوص فيكون وجوبها مرفوعا ولازم ذلك جواز المخالفة القطعية (1).

ص: 180


1- قد يقال بعدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين لأنّ لازمه الترخيص في المعصية القطعية وهو قبيح. وقد يقال انّ المحذور المذكور لا يلزم ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين باعتبار قصوره عن الشمول للطرفين لقرينة خاصة يدعى اتصالها به. والمحذور بشكله الأوّل يسمّى بالمحذور الثبوتي ، وبشكله الثاني بالمحذور الإثباتي ، وقد تقدّم ذلك في القسم الأوّل ص ٥٨.

3 - لو سلّم عدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين امّا للمانع الثبوتي أو للمانع الإثباتي فهل يمكن تطبيقه على أحد الطرفين لتكون النتيجة عدم وجوب الموافقة القطعية؟

هذه أبحاث ثلاثة ترتبط بمنجزية العلم الإجمالي. والأوّل منها عقلي بينما الأخيران شرعيان.

وينبغي الالتفات إلى أنّ البحث عن الأمرين الأخيرين بحث عن مدى مانعية العلم الإجمالي ، وهل هو مانع - للمحذور الثبوتي أو الإثباتي - من تطبيق دليل البراءة حتّى على الطرف الواحد أو هو لا يمنع من ذاك وإنّما يمنع من تطبيقه على كلا الطرفين أو هو لا يمنع من هذا ولا ذاك.

بحث الأمر الأول

وفي هذا البحث كما قلنا سابقا نترك المجال للعقل وحده لنرى ماذا يحكم؟ فهل يحكم بلزوم الإتيان بكلتا الصلاتين أو بإحداهما على الأقل أو لا بهذا ولا ذاك؟

وقبل أن نأخذ بالجواب لا بدّ من التوجه إلى أنّ هذا البحث ينبغي أن يتصدّى له المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان دون مثل السيد الشهيد الذي يرى منجزية الاحتمال ، فإنّ احتمال الوجوب في كل طرف إذا كان منجزا ولو لم يكن هناك علم إجمالي فمع افتراض وجود العلم الإجمالي يكون التنجز أوضح ، فاحتمال وجوب الجمعة إذا كان منجزا للزوم الإتيان بها فكلتا الصلاتين يكون الإتيان بهما لازما من ناحية منجزية الاحتمال ولا مدخلية لافتراض وجود العلم الإجمالي ، فسواء كان العلم الإجمالي ثابتا أم لا يكون الإتيان بكلتا الصلاتين

ص: 181

لازما من ناحية منجزية الاحتمال.

فهذا البحث إذن يختص بأصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليلاحظ من خلاله انّ القاعدة المذكورة تقتضي التنجيز بأي مقدار ، فالعلم الإجمالي إذا لم يكن ثابتا فلا إشكال في اقتضاء قاعدة قبح العقاب جواز ترك كلتا الصلاتين لعدم تحقق البيان لا في هذه الصلاة ولا في تلك فإذا فرض تحقّقه - العلم الإجمالي - فيبحث انّه بأي مقدار يكون منجزا.

وبتعبير آخر : انّ قاعدة قبح العقاب هل تسقط بلحاظ كلا الطرفين - ولازم ذلك لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين - أو تسقط بلحاظ أحدهما ، ولازم ذلك جواز ترك إحدى الصلاتين.

وعليه فإذا أردنا بحث الأمر الأوّل فنحن نبحث عن منجزية العلم الإجمالي على فرض تسليمنا بقاعدة قبح العقاب والتنازل عن مسلك منجزية الاحتمال.

وعلى ضوء هذا التنازل نطرح السؤالين التاليين : -

1 - هل العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين - ويعبّر عن ذلك بالجامع (1) - أو لا؟ وبتعبير ثاني : هل ينجز العلم الإجمالي وجوب الجامع أو لا؟ فإذا قلنا انّه ينجز الجامع فمعناه وجوب الإتيان بإحدى الصلاتين وعدم جواز تركهما معا بينما لو قلنا بعدم التنجيز حتّى على مستوى الجامع فلازمه جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين.

ص: 182


1- فالجامع يراد به إذن وجوب إحدى الصلاتين ، ووجوب إحدى الصلاتين عبارة اخرى عن الجامع. ولعلّ التعبير عن الجامع بأحد الوجوبين أدق وأولى.

2 - إذا قلنا بتنجز الجامع - بمعنى عدم جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين - فهل العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط أو ينجز أكثر من ذلك ، أي وجوب كلتا الصلاتين معا الذي لازمه وجوب الموافقة القطعية.

ويمكن أن نصوغ هذين السؤالين بشكل آخر : هل العلم الإجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية أو لا؟ وعلى تقدير تنجيزه لها فهل ينجز مضافا لذلك وجوب الموافقة القطعية أيضا أو لا؟

جواب السؤال الأوّل

أمّا بالنسبة إلى السؤال الأوّل فالجواب بالإيجاب ، أي انّ العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين لأنّ المكلّف بعد حصول العلم الإجمالي له يصير عالما بالجامع أي بوجوب إحدى الصلاتين ، ومع علمه بوجوب إحدى الصلاتين فلا يجوز له تركهما معا لأنّ تركهما معا ترك للجامع ، والمفروض انّ الجامع معلوم ومنجز.

ولربّ قائل يقول انّ العلم الإجمالي يكون علما بالجامع - أي علما بأحد الوجوبين - فيما لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي ترجع حقيقته إلى العلم بالجامع دون ما إذا قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع (1) ، فإنّه بناء على تعلّقه بالجامع يكون تنجز

ص: 183


1- يأتي بعد قليل إن شاء اللّه تعالى أنّ في حقيقة العلم الإجمالي عدّة أقوال ، فالميرزا ذهب إلى أن العلم الإجمالي بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا يرجع إلى العلم بالجامع والشكّ بعدد الأطراف ، بينما الشيخ العراقي ذهب إلى أنّه يرجع إلى العلم بالواقع ، بمعنى انّه إذا فرض انّ الوجوب الثابت واقعا وفي علم اللّه سبحانه هو الظهر فالعلم الإجمالي يكون متعلّقا بوجوب الظهر الذي هو الثابت واقعا وليس متعلّقا بالجامع الذي هو أحد الوجوبين.

الجامع وجيها ، وأمّا بناء على تعلّقه بالواقع فلماذا تنجز الجامع؟

والجواب : انّ العلم الإجمالي حتّى لو قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع فالجامع منجز أيضا إذ الواقع يصدق عليه عنوان « أحدهما » أيضا ، فإنّ الواقع أحد أيضا.

جواب السؤال الثاني

وبعد أن عرفنا انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع ، وبتعبير آخر ينجز حرمة المخالفة القطعية نأتي الآن لنعرف هل العلم الإجمالي ينجز أكثر من الجامع ، أي هل ينجز كلا الطرفين فينجز وجوب الظهر ووجوب الجمعة معا - الذي هو عبارة اخرى عن وجوب الموافقة القطعية - أو لا؟ انّ هذا التساؤل توجد له ثلاثة أجوبة : -

1 - ما اختاره الشيخ العراقي من تنجيزه لكلا الطرفين فيجب الإتيان بالظهر والجمعة ولا يكتفى بأحدهما.

2 - ما اختاره الميرزا وتلميذه السيد الخوئي من عدم تنجيزه لكلا الطرفين وإنّما ينجز الجامع فقط ، غايته انّ أصل البراءة لا يمكن أن يجري بلحاظ كلتا الصلاتين لأنّه خلف العلم بالجامع وتنجزه ، ولا يجري في أحدهما بالخصوص لأنّه بلا مرجّح ، وبالتالي فلا يجري لا بلحاظ هذه ولا بلحاظ تلك لأنّ جريانه بلحاظ كل واحدة معارض بجريانه بلحاظ الاخرى ، ومعه فيجب الإتيان بكلتيهما من باب عدم وجود المؤمّن الذي يؤمن من العقوبة عند ترك أي واحد منهما. وهذا معناه انّ العلم الإجمالي لا يقتضي بذاته لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين وإنّما يجب ذلك - الإتيان بكلتا الصلاتين - لأجل تعارض الاصول.

ص: 184

3 - ما يظهر من بعض المحقّقين حيث ربط مسألتنا في المقام بمسألة حقيقة العلم الإجمالي وانّه إن كان علما بالجامع فيكفي الإتيان بإحدى الصلاتين وإن كان علما بالواقع فيجب الإتيان بكلتا الصلاتين ، حيث انّ العلم الإجمالي بعد تعلّقه بالواقع يتنجز الواقع ، ومقتضى قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لزوم إحراز الواقع ، وإحرازه لا يحصل إلاّ بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّ ترك أي واحدة منهما يؤدي إلى احتمال ترك الواقع المفروض تنجزه.

ولتحقيق الحال في هذا الجواب الثالث نأخذ بعرض الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي لنعرف انّ ربط مسألتنا بالاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي صحيح أو لا.

الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي

اشارة

والاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي ثلاثة : -

الأوّل

ما اختاره الميرزا والأصفهاني قدس سره من انّ العلم الإجمالي مركب من أمرين : -

أ - علم تفصيلي بالجامع.

ب - وشكوك تفصيلية بعدد الأطراف.

فالعالم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة هو عالم تفصيلا بأحد الوجوبين - أي بالجامع - وليس له شكّ في ذلك وإنّما له شكّ بلحاظ الأطراف فهو يشكّ في أنّ الظهر هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ ويشك في أنّ الجمعة هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ فالعلم على هذا الأساس يتعلّق بالجامع وأمّا

ص: 185

الأطراف فليس هناك علم بلحاظها بل شكوك.

ويمكن أن يقال : انّ هذا الرأي منحل إلى دعويين إحداهما إيجابية ، وهي تعلّق العلم بالجامع ، وثانيتهما سلبية ، وهي أنّ الأطراف لا يتعلّق بها العلم بل هناك شكوك بلحاظها.

أمّا الدعوى الإيجابية فهي واضحة. وأمّا الدعوى السلبية فهي وإن كانت واضحة أيضا إلاّ أنّه يمكن البرهنة عليها بهذا الشكل : لو كان هناك علم ثاني متعلّق بغير الجامع فنسأل عن متعلّقه فهل هو لا متعلق له أو أنّ متعلّقه الظهر بخصوصها مثلا أو انّ متعلّقه الفرد المردّد بين الظهر والجمعة ، فالاحتمالات في متعلّق هذا العلم الثاني إذن ثلاثة كلّها باطلة.

أمّا بطلان الأوّل فباعتبار انّ العلم لا يمكن أن يوجد بلا متعلّق يتعلّق به لأنّه من الصفات الإضافية ، أي من الصفات التي تحتاج إلى طرف تضاف إليه فنحن دائما نعلم بشيء ولا يمكن أن نعلم بلا وجود شيء يتعلّق به العلم.

وأمّا بطلان الثاني فلأنّه مخالف للوجدان إذ لازمه صيرورة الظهر معلومة الوجوب علما تفصيليا لا إجماليا.

وأمّا بطلان الثالث فلأنّ المقصود من الفرد المردّد امّا مفهوم الفرد المردّد أو واقع الفرد المردّد ، فإن كان المقصود مفهوم المردّد فواضح انّ مفهوم الفرد المردّد ليس إلاّ عبارة عن مفهوم أحدهما ، وحيث انّ مفهوم أحدهما ليس هو إلاّ الجامع فيلزم تعلّق العلم بالجامع لا بشيء زائد عليه.

وإن كان المقصود واقع الفرد المردّد فواضح انّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له خارجا ليتعلّق به العلم إذ كل ما هو ثابت خارجا معيّن ولا يمكن أن يكون مردّدا فكل شيء في الخارج هو هو وليس اما هو أو غيره.

ص: 186

الثاني
اشارة

ما ذكره الآخوند من تعلّقه بالفرد المردّد فانّه قدس سره في بحث الواجب التخييري من الكفاية ذكر عدّة احتمالات في حقيقة الوجوب التخييري ، فوجوب العتق أو الصيام أو الإطعام فيه عدّة احتمالات منها تعلّق الوجوب بكل واحد من الأفراد مشروطا بترك الفردين الآخرين ومنها تعلّقه بالفرد الذي يختاره المكلّف في علم اللّه ومنها ... ومنها ما اختاره هو قدس سره من تعلّقه بأحدهما المردّد.

وأشكل هو قدس سره في الهامش الذي سجّله على كفايته بأنّ الفرد المردّد كيف يمكن تعلّق الوجوب به.

وأجاب عن ذلك بأنّ الوجوب أمر اعتباري ، والفرد المردّد يقبل ما هو أكثر من ذلك ، إنّه يقبل تعلّق الصفة الحقيقية به كالعلم الإجمالي فكيف لا تتعلّق الصفة الاعتبارية به كالوجوب.

إنّ هذا الجواب يظهر منه ان الآخوند يبني على تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد حيث ذكر انّ العلم الإجمالي الذي هو صفة حقيقية نفسانية يقبل التعلّق بالمردّد فكيف بالصفة الاعتبارية التي هي الوجوب.

المناقشة على ضوء مقدّمات ست

وقبل أن نأخذ بمناقشة الرأي المذكور نذكر مقدّمات ست : -

1 - إنّ كل ممكن يتركّب من وجود وماهية ، فالإنسان يتركب من وجود وماهية ، والفرس يتركب من ذلك أيضا.

ص: 187

وإذا تأمّلنا قليلا وجدنا أنّ الوجود قاسم مشترك بين وجود الإنسان ووجود الفرس ، فكلاهما وجود إلاّ أنّ هذا الوجود يمتاز عن ذاك بأنّ هذا وجود للإنسان وذاك وجود للفرس.

إذن الفرسية والإنسانية هما الحدّ الذي يتميز به هذا الوجود عن ذاك. ومثل هذا الحد المائز يسمّى بالماهية ، فالماهية إذن هي حدّ الوجود.

2 - إنّ كل وجود لا بدّ وأن يكون متميزا ومشخّصا وليس فيه تردد ، فالكلي حيث لا تشخص له ليس موجودا في الخارج وإنّما الموجود أفراده. ومن هنا قيل الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد.

3 - انّ الشيء متى ما وجد فلا بدّ وأن يكون متشخّصا ، ولازم تشخّصه وتعيّنه تشخّص ماهيّته وتعيّنها إذ ماهيّته حدّ لوجوده ، وكيف يعقل أنّ يكون المحدود وهو الوجود معيّنا ومشخّصا وحدّه مردّدا وغير مشخّص!! انّه غير ممكن إذ لازم تردّد الحدّ وعدم تعيّنه تردّد نفس الوجود المحدود ، وحيث انّ الوجود قد فرضناه محدّدا ومعيّنا فيلزم تعيّن ماهيّته.

4 - انّ العلم بنزول المطر مثلا بم يتعلّق؟ فهل يتعلّق بالوجود الخارجي أو بالصورة الذهنية لنزول المطر؟ الصحيح هو الثاني ، وذلك لعدّة منبّهات نذكر منها (1) : -

أ - انّ العلم أمر ذهني قائم بالذهن ، ومعه فكيف يتعلّق بالأمر الخارجي!! إنّ لازمه تحقّق ما في الذهن في الخارج أو تحقّق ما في الخارج في الذهن. إذن لا بدّ من تعلّق العلم بالصورة الذهنية كي لا يلزم ما ذكر.

ص: 188


1- تقدّمت الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح ص 105.

ب - إنّنا قد نعلم بنزول المطر بينما هو في الواقع لم ينزل ، وفي مثل هذه الحالة بم يتعلّق العلم ، فهل يتعلّق بالخارج بالرغم من عدم تحقّق نزول المطر في الخارج؟ انّه غير معقول فلا بدّ من تعلّقه بالصورة الذهنية.

وبهذا يثبت انّ المتعلّق الحقيقي للعلم هو الصورة الذهنية. وتسمّى بالمعلوم بالذات بينما الوجود الخارجي الذي تحكي عنه الصورة يسمّى بالمعلوم بالعرض.

5 - ان الصورة الذهنية التي يتعلّق بها العلم ترجع في حقيقتها إلى الوجود الذهني ، فحينما يقال تصوّر هذا الشيء فالمقصود أوجده في ذهنك واحضره فيه.

6 - انّ الصورة الذهنية للظهر تشترك مع الصورة الذهنية للجمعة في كون كل واحدة منهما صورة ذهنية ، وتمتاز الاولى بخصوصية الظهر والثانية بخصوصية الجمعة. ومن هنا يصحّ ان نعبّر عن خصوصية الظهر والجمعة بأنّهما حدّان يميزان إحدى الصورتين عن الاخرى ، وبالتالي يصحّ التعبير عنهما بالماهية ، فالماهية للصورة الاولى خصوصية الظهر وللصورة الثانية خصوصية الجمعة.

وبعد اتضّاح هذه المقدّمات الست نعود إلى رأي الآخوند القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد لنقول في مناقشته : انّ المشكلة لا تكمن في أنّ الفرد المردّد كيف يتعلّق به الوجوب التخييري ليقال انّ ذلك لا محذور فيه باعتبار انّ الصفة الحقيقية - العلم الإجمالي - إذا كانت قابلة للتعلّق بالمردّد فكيف بالوجوب التخييري الذي هو صفة اعتبارية ، إنّنا لا ننكر إمكان تعلّق الصفة الاعتبارية بل والحقيقية بالمردّد لو فرض إمكان تحقّقه ، بيد إنّا ندّعي عدم إمكان تحقّق الفرد المردّد في نفسه.

والوجه في ذلك : انّ العلم الإجمالي يتعلّق كما قلنا بالصورة الذهنية ، فإذا

ص: 189

كانت تلك الصورة صورة للجامع فهذا معناه تعلّق العلم الإجمالي بالجامع دون الفرد المردّد ، وإذا كانت تلك الصورة مشتملة على الحدين - أي خصوصية الظهر وخصوصية الجمعة - فتارة يفرض انّ كلتا الخصوصيتين دخيلة فيها ، واخرى يفرض انّ خصوصيّة الظهر مثلا هي الدخيلة فقط ، وثالثة يفرض انّ أحد الخصوصيتين على سبيل الترديد هي الدخلية. والكل باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ لازمه انّ العالم بالإجمال يعلم بوجوب الظهر والجمعة معا ، وهو خلف المفروض.

وأمّا الثاني فلأنّه يلزم منه انقلاب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الظهر.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة الذهنية وجود ذهني ، والوجود بما في ذلك الذهني لا بدّ وأن يكون متشخّصا ومعيّنا ، ومع تشخّصه فلا بدّ من تشخّص ماهيّته وحدّه ، أي خصوصية الظهر والجمعة ، فإنّ حدّ الصورة الذهنية للظهر هو الظهر وحدّ الصورة الذهنية للجمعة هو الجمعة ، ومع تعيّن الصورة الذهنية لا بدّ من تعيّن حدّها ، فهي أمّا صورة للظهر أو صورة للجمعة ولا يمكن أن تكون الصورة التي هي وجود ذهني معيّنة وحدّها وهو خصوصية الظهر والجمعة ليس معيّنا لأنّ لازم ذلك عدم تعيّن نفس الصورة.

الثالث

والرأي الثالث في حقيقة العلم الإجمالي هو للشيخ العراقي قدس سره . وحاصله : انّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالجامع ولا بالفرد المردّد بل بالواقع ، ففي مثال العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة يكون العلم متعلّقا بالواقع ، فلو كان الوجوب

ص: 190

الثابت واقعا وفي علم اللّه سبحانه هو وجوب الظهر مثلا فالعلم يكون متعلّقا بوجوب الظهر.

وإذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع فما الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي بعد وضوح تعلّق العلم التفصيلي بالواقع أيضا؟

إنّ الفرق هو أنّ العلم الإجمالي يرى فيه الشخص العالم الواقع لكن رؤية مشوبة بالخفاء وعدم الوضوح بخلافه في العلم التفصيلي فإنّ الشخص العالم ينكشف له الواقع دون خفاء ، فمثلا إذا رأيت من بعد شبحا ولم تشخّص انّه زيد أو بكر وكان في الواقع زيدا فرؤيتك متعلّقة بالواقع الذي هو زيد غاية الأمر الرؤية ليست واضحة خلافا لما إذا كنت قد رأيت زيدا من قرب فإنّ رؤيتك واضحة ، فالرؤية في كلتا الحالتين متعلّقة بزيد إلاّ أنّها في الاولى مشوبة بالخفاء وفي الثانية ليست مشوبة بذلك. وهكذا في المقام فإنّ الرؤية في كل من العلم الإجمالي والتفصيلي متعلّقة بالواقع إلاّ أنّها في الإجمالي مشوبة بالخفاء وفي التفصيلي ليست مشوبة بذلك.

ومن خلال هذا يتجلّى الفرق بين الرأي الأوّل وهذا الرأي ، فعلى الأوّل لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث نفس العلم بل الفرق هو من حيث المتعلّق ، فالعلم التفصيلي متعلّق بالواقع بينما العلم الإجمالي متعلّق بالجامع. وامّا على الرأي الثالث فالمتعلّق في كلا العلمين واحد وهو الواقع والفارق ليس إلاّ من حيث العلم ، ففي التفصيلي العلم متعلّق بالواقع بلا شوب خفاء بينما في الإجمالي متعلّق بالواقع مشوبا بالخفاء (1).

ص: 191


1- وذكر الشيخ العراقي في بعض عبائره : انّه بلغني عن بعض أهل الفضل من المعاصرين ويقصد بذلك الميرزا النائيني - تعلّق العلم الإجمالي بالجامع وانّه لا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي من حيث العلم وإنّما الفرق بينهما من حيث المعلوم. ثمّ أخذ في ردّ ذلك.

ثمّ إنّ الشيخ العراقي وإن لم يذكر برهانا على رأيه هذا إلاّ أنّه يمكن الاستدلال له بأنّ الإنسان العاقل بعد توجّهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج بما هو جامع وكلي فلا يحتمل تعلّق علمه بالجامع ؛ إذ مع علمه وتوجهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج فكيف يتعلّق علمه به بل لا بدّ من فرض انضمام خصوصية إلى الجامع ، وتلك الخصوصية هل هي كلية أو شخصية؟ فإن كانت كلية عاد المحذور السابق وهو تعلّق العلم بالأمر الكلي الجامع ، وإن كانت خصوصية شخصية فحيث لا يمكن أن تكون مردّدة لا ستحالة المردّد على ما سبق فيلزم أن تكون معيّنة ، وليست تلك الخصوصية المعيّنة إلاّ خصوصية الواقع ، وبذلك يثبت المطلوب ، وهو تعلّق العلم الإجمالي بالواقع.

تخريجات وجوب الموافقة القطعية

وبعد اتّضاح الاتجاهات الثلاثة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نعود إلى الجواب الثالث الذي ربط حالة وجوب الموافقة القطعية بالآراء المذكورة.

انّ الجواب الثالث كان يقول بناء على تعلّق العلم الإجمالي بالجامع فالذي يتنجز هو الجامع فقط ، وإذا اشتغلت الذمّة يقينا بالجامع فاللازم تفريغها اليقيني منه ، وذلك يحصل بالإتيان بطرف واحد لأنّ الجامع يتحقّق بوجود طرف واحد. وأمّا على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع فالذي يتنجّز كلا الطرفين لأنّه بعد

ص: 192

العلم بالواقع واشتغال الذمّة به يقينا فيجب تفريغها اليقيني منه ، وذلك لا يحصل بالإتيان بطرف واحد لاحتمال انّ الواقع ثابت في الطرف الثاني فتجب الموافقة القطعية بالإتيان بهما معا.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بأنّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط حتّى بناء على تعلّق العلم بالواقع ، فإنّ المكلّف إذا حصل له العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة فعلمه هذا وإن كان متعلّقا بالواقع إلاّ أنّ هذا العلم المتعلّق بالواقع ليس كلّه وضوحا بل هو خليط من الوضوح والخفاء باعتراف الشيخ العراقي ، وحيثية الوضوح تتمثّل في الجامع وحيثية الخفاء تتمثّل فيما زاد على الجامع ، وما دام الوضوح ثابتا بالنسبة إلى الجامع فقط فالذي يتنجز هو الجامع فقط دون الواقع لأنّ التنجز يحصل بسبب الوضوح دون الخفاء ، فمقدار ما يتّضح يتنجز دون ما يخفى ، إذ البيان لا يصدق إلاّ بمقدار الوضوح ، والواقع بمقدار الجامع لمّا كان واضحا فيصدق عليه البيان ويتنجز ، وأمّا بالمقدار الزائد على الجامع فحيث انّه ليس بواضح فلا يصدق عليه البيان وبالتالي لا يتنجز.

والنتيجة من كل ما تقدّم : انّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ حرمة المخالفة القطعية - مقدار الجامع - على جميع الآراء في حقيقة العلم الإجمالي (1).

عودة لصلب الموضوع

كان كلامنا سابقا في مقدار منجزية العلم الإجمالي في نظر العقل ، واتّضح

ص: 193


1- وأمّا الرأي الثاني - القائل بتعلّق العلم بالمردّد - فهو امّا يرجع إلى التعلّق بالجامع أو إلى التعلّق بالواقع ، وعلى كلا التقديرين فالنتيجة واحدة.

انّه منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ففيه آراء ثلاثة. والآن نشير إلى تقريبين لإثبات وجوب الموافقة القطعية ثانيهما ناظر إلى مسلك تعارض الاصول.

التقريب الأوّل

وهذا التقريب للشيخ الأصفهاني قدس سره . وحاصله انّه بعد العلم بالجامع وتنجزه يلزم الإتيان بكلتا الصلاتين : الظهر والجمعة ؛ إذ كما يحتمل تمثّل الجامع ضمن الظهر يحتمل تمثّله ضمن الجمعة ، ففي ترك الظهر حتمال المخالفة للجامع وفي ترك الجمعة احتمال مخالفته أيضا فيلزم الإتيان بكلتا الصلاتين ليجزم بتحقّق الجامع.

وإن شئت قلت : يمكن صياغة التقريب المذكور ضمن المقدّمتين التاليتين : -

أ - انّ ترك أي واحد من الطرفين يستلزم احتمال مخالفة الجامع المنجز.

ب - لا تجوز المخالفة الاحتمالية للجامع بعد تنجزه لاستلزامه احتمال المعصية.

وفيه : انّ المقدّمة الاولى - وهي إنّ الإتيان بطرف دون طرف مستلزم لاحتمال مخالفة الجامع - باطلة إذ الجامع يتحقّق جزما بالإتيان بطرف واحد لأنّه عبارة عن الأحد ، وهو يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين.

وبكلمة اخرى : انّ الأصفهاني ما دام قد سلّم انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع لا أكثر فمن اللازم الاكتفاء بالإتيان بطرف واحد فقط لأنّ الجامع يتحقّق بذلك (1).

ص: 194


1- وهذا مطلب واضح ونستبعد غفلة الشيخ الأصفهاني عنه. ويحتمل انّ مقصوده شيء آخر ، ومن هنا عبّر السيد الشهيد بكلمة « قد ».
التقريب الثاني

وهو للميرزا والسيد الخوئي. وحاصله : انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط - أي أحد الطرفين - ولا ينجز كلا الطرفين حيث انّ المعلوم هو الجامع لا أكثر فيكون الجامع هو المنجز. أجل يجب الإتيان بالطرفين من ناحية اخرى غير العلم الإجمالي ، وهي انّ ترك كل طرف يحتاج إلى مؤمن ومسوغ ، والمؤمن - وهو أصل البراءة - حيث انّه معارض فيجب الإتيان بالطرفين ولكن لا من ناحية العلم الإجمالي نفسه بل من ناحية تساقط الاصول بالمعارضة.

ويمكن بيان هذا التقريب ضمن فقرات أربع بالشكل التالي : -

1 - انّ العلم الإجمالي حيث انّه يستدعي العلم بالجامع فمن اللازم الإتيان بأحد الطرفين لأنّ تركهما معا مخالفة قطعية للجامع الذي فرض تنجزه بسبب العلم الإجمالي.

2 - انّ جريان أصل البراءة في كلا الطرفين غير ممكن لأدائه إلى ترك كلا الطرفين ، والمفروض عدم جوازه.

3 - انّ الأصل كما لا يمكن جريانه في كلا الطرفين كذلك لا يمكن جريانه في أحد الطرفين لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

4 - إذا لم يكن بالإمكان جريان الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما فاللازم الإتيان بكلا الطرفين وتنجزهما لأنّ احتمال ثبوت التكليف في كل طرف يبقى بلا مؤمن ، إذ المؤمن وهو أصل البراءة قد فرضنا عدم جريانه ، وواضح انّ احتمال التكليف إذا لم يكن هناك ما ينفيه ويؤمن منه يكون منجزا.

ومن هنا يتّضح انّ الموافقة القطعية - أي الإتيان بالطرفين - واجبة ولكن

ص: 195

لا من باب انّ العلم الإجمالي يقتضي بنفسه ذلك بل من باب أنّ ترك كل واحد من الطرفين يحتاج إلى مؤمن ، وهو مفقود. أجل حيث انّ تعارض الأصلين حصل بسبب العلم الإجمالي صحّ أن نقول انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولكن بصورة غير مباشرة.

وأوضح من هذا انّ نقول : انّ المنجز على هذا التقريب هو احتمال التكليف الثابت في كل طرف بلا مؤمن وليس هو العلم الإجمالي نعم العلم الإجمالي سبب لفقدان المؤمن وتساقطه. وعلى هذا تكون نسبة التنجيز إلى العلم الإجمالي نسبة بنحو المجاز.

مناقشة التقريب الثاني

ويمكن مناقشة التقريب المذكور بأنّا لا نسلّم قولكم انّ احتمال ثبوت التكليف يبقى في كل طرف بلا مؤمن بعد تساقط الأصلين إذ أصل البراءة الشرعي المتمثّل في حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وإن كان جريانه في هذا الطرف معارضا بجريانه في الطرف الثاني وبالتالي يتساقطا ولكن هذا لا يعني فقدان المؤمن في كل طرف إذ أين قاعدة قبح العقاب بلا بيان المعتبرة عندهم والتي تعدّ مؤمنا عقليا ، إنّ فقدان المؤمن الشرعي بسبب التعارض لا يعني فقدان المؤمن العقلي.

وقد يقال : انّ التعارض الذي ثبت في المؤمن الشرعي يجري نفسه في المؤمن العقلي فيقال انّ قاعدة قبح العقاب في هذا الطرف تعارض بالقاعدة نفسها في الطرف الثاني.

والجواب : انّ التعارض يتمّ في خصوص الاصول الشرعية ولا يجري في

ص: 196

قاعدة قبح العقاب.

والوجه في ذلك : انّ قاعدة قبح العقاب تجري في كل تكليف لا يكون معلوما ولا تجري في التكليف المعلوم. وإذا فرضنا انّ تكليفا كان معلوما من جهة وغير معلوم من جهة اخرى فمن الجهة المعلومة لا تجري القاعدة ومن الجهة غير المعلومة تجري.

وفي مقامنا نقول : انّه لو علمنا إجمالا بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا فالجامع - وهو أحد الوجوبين - حيث انّه معلوم فلا تجري قاعدة قبح العقاب فيه ، أمّا كل واحد من الطرفين بخصوصه فحيث انّه غير معلوم فتجري فيه القاعدة.

وبعبارة اخرى : إنّا ندّعي انّ قاعدة قبح العقاب يمكن جريانها في كل واحد من الطرفين ولكن بلحاظ الخصوصية لا بلحاظ الجامع ، فالظهر حيث انّه لا يعلم وجوبها بعنوان الظهر تجري قاعدة قبح العقاب لنفي وجوبها ولكن نفس الظهر حيث انّها بلحاظ الجامع - أي بعنوان أحد الطرفين - معلومة الوجوب فلا تجري القاعدة لنفي وجوبها بهذا اللحاظ ، وهكذا الكلام نفسه يجري في الجمعة فإنّه تجري فيها قاعدة قبح العقاب لنفي الوجوب بمقدار الخصوصية دون مقدار الجامع.

ونتيجة ذلك : انّ إحدى الصلاتين - الذي هو الجامع - يلزم الإتيان بها من دون أن يلزم كون تلك الصلاة الواحدة المأتي بها هي خصوص الظهر بل يجوز ترك الظهر والإتيان بالجمعة ، وهكذا لا يلزم أن تكون خصوص الجمعة بل يجوز تركها والإتيان بالظهر.

وقد تقول : انّ التفكيك في إجراء قاعدة قبح العقاب إذا قبل بهذا الشكل - أي تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع - فليقبل في أصل البراءة

ص: 197

الشرعي أيضا بأن يقال انّ أصل البراءة الشرعي يجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع من دون أن يحصل تعارض وتساقط ، فالتعارض والتساقط كما رفض في قاعدة قبح العقاب فليرفض في أصل البراءة الشرعي أيضا.

والجواب : ان مستند أصل البراءة الشرعي دليل لفظي وهو مثل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » ، والمتبع في فهم الدليل اللفظي هو العرف ، والعرف لا يقبل تطبيق الدليل اللفظي مفكّكا بهذا الشكل بل هو يرى أنّ الدليل أمّا أن يطبّق رأسا أو لا يطبّق رأسا ولا يقبل تطبيقه بلحاظ الخصوصية دون الجامع ، وهذا بخلافه في قاعدة العقاب فإنّها حكم عقلي ، والعقل يقبل هذا التفكيك ويقبل مثل هذه الدقة ويقول انّ كل تكليف هو مرفوع بمقداره المجهول وغير مرفوع بمقداره المعلوم.

هذه حصيلة مناقشة تقريب الميرزا والسيد الخوئي.

ويمكن صياغة المناقشة بمنهجة اخرى بأن يقال : ما هو المقصود من تعارض الاصول في الأطراف؟ فهل المقصود انّ الاصول الشرعية متعارضة وساقطة وهكذا الاصول العقلية أو المقصود انّ الاصول الشرعية هي المتعارضة والساقطة فقط دون الاصول العقلية؟

فإن كان المقصود الأوّل فجوابه انّ الاصول الشرعية وإن كانت متعارضة وساقطة ولكن لا وجه لتعارض الاصول العقلية ، إذ قاعدة قبح العقاب تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع. بل يمكننا أن نقول أكثر من هذا : انّ دعوى تعارض قاعدة قبح العقاب في الطرفين هي من الأساس دعوى غريبة فإنّ المقتضي لحكم العقل في كل طرف امّا أن يكون موجودا أو لا ، فإن كان

ص: 198

موجودا - والواقع كذلك حيث انّ خصوصية الظهر والجمعة بما أنّها غير معلومة فيشملها حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - حكم العقل بالبراءة في كل طرف بلا معارضة ، إذ المعارضة في الأحكام العقلية غير ممكنة ، فإنّ العقل لا يمكن أن يحكم بحكمين متعارضين. وإن لم يكن موجودا فلا يحكم العقل أصلا حتّى يلزم التعارض.

وإن كان المقصود الثاني فهو صحيح ولكن بعد تساقط الاصول الشرعية يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية لنفي احتمال التكليف في كل طرف.

نقض على قاعدة قبح العقاب

وبهذا اتضّح انّ أنصار قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزمهم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي فلا يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا بل يكفي الإتيان بواحدة ، إذ بعد تعارض الأصل الشرعي في كل طرف بالأصل الشرعي في الطرف الثاني يرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، انّه يلزم هذا والحال انّ الحسّ العقلائي والمتشرعي يقضي بوجوب الإتيان بكلا الطرفين ويرفض رفضا باتّا الاكتفاء بأحدهما. وهذا بنفسه منبه واضح على بطلان قاعدة قبح العقاب ، فكل من قال بالقاعدة المذكورة يلزمه القول بعدم وجوب الموافقة القطعية المرفوض لدى الحسّ العقلائي والمتشرعي (1).

ص: 199


1- لم نعثر على قائل بعدم وجوب الموافقة القطعية إلاّ صاحب المدارك فإنّ الشيخ الأعظم في رسائله ص 248 من الطبع القديم المحشى بحواشي رحمة اللّه نسب إليه عدم وجوب الموافقة القطعية.
الثمرة بين المسلكين

نحن نعرف انّ السيد الشهيد ينكر قاعدة قبح العقاب ويقول بمنجزية الاحتمال غير انّنا عرفنا أيضا انّه قدس سره يقول بمنجزية الاحتمال فيما إذا لم يدل دليل شرعي على البراءة. وبعد أن كان الدليل على أصل البراءة الشرعي تامّا عنده فالاحتمال لا يكون منجزا في نظره بحسب النتيجة.

ويبقى بعد هذا السؤال عن الثمرة بين مسلك منجزية الاحتمال ومسلك المشهور بعد ما كان الجميع يرجع إلى أصل البراءة الشرعي.

انّ الثمرة تظهر في مقامنا فإنّه بعد تعارض الاصول الشرعية في الطرفين يلزم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب - بناء على تسليمها - وتكون النتيجة جواز الاكتفاء بطرف واحد وعدم وجوب الموافقة القطعية بينما بناء على إنكار قاعدة قبح العقاب يلزم الإتيان بكلا الطرفين - بعد تساقط الاصول الشرعية - لمنجزية الاحتمال.

إذن الثمرة بين المسلكين تظهر في هذا المجال وأمثاله.

التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية

اتّضح انّه بناء على تسليم قاعدة قبح العقاب يلزم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للبيان المتقدّم. ونستدرك الآن ونقول انّ عدم تنجز الطرفين بالعلم الإجمالي ولزوم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلحاظ خصوصية كل واحد من الطرفين يتم في حالات الشبهة الحكمية ولا يتمّ في حالات الشبهة

ص: 200

الموضوعية. ففي مثال التردّد بين صلاة الجمعة والظهر الذي تكون الشبهة حكمية فيه - حيث انّ أصل الحكم مشكوك ولا يعلم انّ الثابت هو وجوب الجمعة أو وجوب الظهر - لا تجب الموافقة القطعية حيث انّ المعلوم هو أحد الوجوبين ، والأحد يتحقق بالإتيان بإحدى الصلاتين.

أمّا إذا تعلّق الوجوب بشيء مقيّدا بقيد معيّن بحيث كان القيد داخلا تحت العهدة وتردّد أمره - القيد - بين فردين بنحو الشبهة الموضوعية فتجب الموافقة القطعية بالإتيان بكلا الفردين ، كما لو أمر المولى عبده بإكرام العالم وتردّد العالم بين فردين فإنّ الوجوب حيث لم يتعلّق بأصل الإكرام بل الإكرام المقيّد بكون المكرم عالما فيجب إكرامهما معا ولا يكفي إكرام أحدهما.

والنكتة الفارقة : انّه في الحالة الثانية اشتغلت الذمة بإكرام العالم ، ولإحراز الفراغ اليقيني يلزم إكرام كلا الفردين ، وهذا بخلافه في الحالة الاولى فإنّ الذمة اشتغلت يقينا بإحدى الصلاتين ، والفراغ اليقيني من ذلك يحصل بالإتيان بإحدى الصلاتين ولا حاجة إلى أكثر من ذلك.

ومن خلال هذا اتّضح انّ القائل بمسلك حقّ الطاعة ومنجزية الاحتمال يلزمه القول بوجوب الموافقة القطعية ، وأمّا القائل بقاعدة قبح العقاب فينبغي له التفصيل بين ما إذا كانت الشبهة حكمية فلا تجب فيها الموافقة القطعية وبين ما إذا كانت الشبهة موضوعية فتجب فيها الموافقة القطعية.

وهنا نريد الاستدراك لنقول : لا تجب الموافقة القطعية في كل شبهة موضوعية بل فيما إذا كان الواجب قد قيّد بقيد تردد بين شيئين ، امّا إذا كانت الشبهة موضوعية من دون أن يؤخذ في الواجب قيد تردّد بين شيئين فلا يتنجز

ص: 201

الطرفان ، كما لو نذر المكلّف متى رزق ولدا ذكرا تصدّق بدينار ومتى ما رزق انثى صلّى ركعتين فإذا فرض انّه رزق طفلا ولسبب وآخر لم يعلم كونه ذكرا أو انثى حصل له علم إجمالي بوجوب التصدّق أو الصلاة ركعتين. والشبهة شبهة موضوعية - حيث انّ الحكم واضح والتردّد في الموضوع - ولكن مع ذلك لا يتنجز الطرفان إذ لم يعلم المكلّف باشتغال ذمّته بقيد مردّد بين فردين وإنّما يعلم باشتغالها بالجامع أي بأحد الوجوبين.

إذن تنجز الطرفين لا يثبت إلاّ إذا اشتغلت الذمّة بقيد أخذ في الواجب وتردّد بين شيئين فإنّ الذمة ما دامت قد اشتغلت بالقيد فلأجل البراءة اليقينية لا بدّ من الإتيان بكلا الطرفين.

هذا هو الميزان العام في تنجز الطرفين وليس الميزان يدور مدار عنوان الشبهة الموضوعية. ومن هنا نجد عبارة الكتاب قيّدت الشبهة الموضوعية بذلك فقالت : من شبهة موضوعية تردّد فيها مصداق قيد ...

قوله ص 74 س 5 : ثبوتا أو إثباتا : هذان قيدان للعدم فقط ، أي وعدم جريان جميع الاصول امّا لمحذور ثبوتي أو لمحذور إثباتي. ويأتي بيان المحذور الثبوتي والإثباتي ص 86 من الحلقة.

قوله ص 74 س 8 : بذاته أو تنجيزه : قوله : « بذاته » إشارة إلى رأي الشيخ العراقي فإنّه قائل بأنّ العلم الإجمالي منجز بذاته أي بقطع النظر عن تعارض الاصول في أطرافه. وقوله : « تنجيزه » إشارة إلى رأي الميرزا القائل بأنّ العلم الإجمالي لا ينجز بذاته بل بسبب تعارض الاصول في أطرافه.

قوله ص 75 س 7 : ومدى إخراجه : عطف تفسير لقوله : « حدود منجزية

ص: 202

العلم الإجمالي ». والمقصود : انّه لا بدّ من البحث عن كون الخارج من قاعدة قبح العقاب بسبب العلم الإجمالي هل هو الجامع فقط حتّى يكون المنجز هو الجامع فقط أو انّ الخارج كلا الطرفين لا خصوص الجامع حتّى يكون كلا الطرفين منجزا.

قوله ص 75 س 9 : بقطع النظر : هذا تفسير لقوله : « في نفسها ».

قوله ص 75 س 12 : وعليه فلا شكّ : أي على افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

قوله ص 76 س 6 : وتنجّز كل أطرافه : عطف تفسير لقوله : وجوب الموافقة القطعية.

قوله ص 76 س 9 : من بعض هؤلاء المحقّقين : أي القائلين بكون العلم الإجمالي ينجز وجوب الموافقة القطعية بالمباشرة.

قوله ص 77 س 9 : بين الحدّين أو الحدود : قوله : « بين الحدّين » ناظر إلى صورة كون العلم الإجمالي ذا طرفين. وقوله : « أو الحدود » ناظر إلى صورة كونه ذا أطراف أكثر.

قوله ص 77 س 10 : انكشاف بلا منكشف : أي علم بلا معلوم.

قوله ص 78 س 10 : ذو الاضافة : فإنّ العلم لا يوجد وحده بل لا بدّ من إضافته إلى متعلّق يتعلّق به.

قوله ص 78 س 13 : كيف يكون لوصف من الخ : أي ليست المشكلة هي أنّ الوصف الاعتباري كيف يتعلّق بالفرد المردّد وتكون له نسبة وإضافة إليه.

قوله ص 78 س 16 : في افق الانكشاف : أي في افق العلم وهو الذهن.

ص: 203

قوله ص 79 س 1 : حتّى في موارد الخطأ : فإنّ العلم لا بدّ له من متعلّق يتعلّق به حتّى في موارد الخطأ ، وليس ذلك المتعلّق إلاّ الصورة الذهنية فالعلم لا ينفك عن الصورة الذهنية حتّى في موارد الخطأ وإنّما ينفك عن المتعلّق الخارجي ، فإنّه في موارد الخطأ لا يكون المتعلّق بالعرض ثابتا في الخارج بينما في مورد الإصابة يكون ثابتا.

قوله ص 79 س 11 : لا تحكي عن مقدار الجامع ... : لعلّ الأنسب أن يقال : لا تحكي من الخارج عن مقدار الجامع فقط.

قوله ص 79 س 12 : فالصورة شخصية : فكما انّ رؤية الشبح شخصية والمرئي شخصي كذلك الصورة الذهنية شخصية ومطابقها شخصي أيضا.

قوله ص 81 س 6 : على هذا المبنى : أي المبنى الثالث الذي هو مبنى الشيخ العراقي.

قوله ص 84 س 3 : فيما زاد على الجامع : الزائد على الجامع هو خصوصية الطرفين.

قوله ص 85 س 6 : تبرير : أي توجيه.

بحث الأمر الثاني

قوله ص 86 س 2 : وامّا الأمر الثاني ... : تقدّم انّ البحث عن قاعدة منجزية العلم الإجمالي يقع في ثلاثة امور. وإلى هنا تمّ الفراغ من الأمر الأوّل - وهو أنّ العلم الإجمالي هل هو منجز وبأي مقدار - وكانت النتيجة هي أنّه لو بني على قاعدة قبح العقاب فالمقدار المنجز هو الجامع ، أي حرمة المخالفة القطعية

ص: 204

دون كلا الطرفين وإنّما يتنجز الطرفان فيما إذا قيّد الواجب بقيد دار أمره بين فردين.

وبعد هذا يقع الكلام في الأمر الثاني ، وهو انّ الاصول العملية هل يمكن أن تشمل كلا الطرفين - ولازمه جواز المخالفة القطعية - أو لا؟

وقد أجاب المشهور (1) حسبما تقدّم في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص 56 بالنفي ، أي لا يمكن جريان الاصول في كلا الطرفين إذ لو جرى أصل البراءة عن وجوب الظهر وعن وجوب الجمعة لجاز تركهما ، وحيث انّ ذلك مخالفة قطعية ، والمخالفة القطعية قبيحة فلا يجوز أن تشمل الاصول كلا الطرفين لأنّ لازمه الترخيص في المعصية القبيحة. ومثل هذا المحذور يمكن أن يصطلح عليه بالمحذور الثبوتي.

وتقدّم الجواب عن ذلك وأنّه لا محذور ثبوتي في جريان الأصل في كلا الطرفين لأنّ العقل وإن كان يحكم بقبح المعصية وقبح المخالفة القطعية إلاّ أنّ حكمه هذا معلّق على ما إذا لم يرخّص الشارع نفسه بالمخالفة ولم يجوّز إجراء الأصل في كلا الطرفين وإلاّ فلا يصدق عنوان المخالفة والمعصية بترك الظهر والجمعة معا ، فإنّ صدق عنوان المعصية فرع أن يكون للمولى حقّ الإطاعة فإذا رخّص هو في ترك الطرفين لم يكن له حقّ الإطاعة حتّى يصدق على ترك الصلاتين عنوان المعصية.

إذن شمول الأصل لكلا الطرفين لا محذور فيه عقلا ولا يلزم منه محذور

ص: 205


1- وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري في الرسائل ص 241 السطر الأخير من الطبعة القديمة المحشّاة بحواشي رحمة اللّه.

الترخيص في المعصية القبيحة. ولكن مع ذلك لا يمكن شمول الأصل لكلا الطرفين لمانع عقلائي ، وهو لزوم كون الغرض الترخيصي أهم من الغرض الالزامي.

توضيح ذلك : انّه في مثال الظهر والجمعة يوجد طرفان أحدهما مباح واقعا والآخر واجب واقعا. والغرض الثابت في المباح يفرض على المولى - لأجل الحفاظ على تحقّقه الجزمي - جعل الإباحة وتشريع أصل البراءة في كلا الطرفين بينما الغرض الثابت في الواجب يفرض على المولى للحفاظ على نفسه جعل الوجوب على كلا الطرفين وعدم تشريع أصل البراءة لا في هذا الطرف ولا في ذاك.

وفي مثل هذه الحالة لو فرض انّ دليل أصل البراءة - مثل حديث رفع عن امّتي ما لا يعلمون - كان شاملا للطرفين فلازم ذلك تقدّم غرض المباح الذي هو غرض ترخيصي على غرض الواجب الذي هو غرض إلزامي.

وإذا رجعنا إلى الحياة العقلائية لم نجد فيها عادة غرضا غير إلزامي يكون أهمّ من الإلزامي فيما إذا اجتمعا وعلم بثبوتهما معا - كما هو الحال في موارد العلم الإجمالي التي يوجد فيها كلا الغرضين : الإلزامي والترخيصي - بل كلّما اجتمع الغرضان كان الإلزامي منهما متقدّما على الترخيصي. وإذا سلّمنا بهذا العرف العقلائي كان ذلك نفسه بمثابة قرينة متّصلة بحديث الرفع مثلا موجبة لصرفه إلى خصوص موارد الشبهة البدوية وعدم الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

إذن الاصول العملية لا تشمل جميع الأطراف لمانع عقلائي لا عقلي - ويمكن تسمية هذا بالمانع الإثباتي - فالعقل لا يرى محذورا في الترخيص في كلا

ص: 206

الطرفين لأهمية الغرض الترخيصي واقوائيّته بالنسبة إلى الغرض الإلزامي ، انّ ذلك محتمل عقلا وممكن إلاّ أنّ العقلاء بما أنّهم أصحاب عادات وأعراف خاصّة يرفضون وجود غرض ترخيصي أهم من الإلزامي عند اجتماعهما معا.

الأصول المؤمنة والمنجزة

انّ الأصلين الجاريين في الطرفين تارة يكونان مؤمّنين واخرى منجزين.

مثال المؤمّنين : ما إذا كان لدينا إناءان وكانت حالتهما السابقة الطهارة ثمّ علمنا بطرو النجاسة على أحدهما. انّ الأصل الجاري في مثل هذه الحالة في كل إناء - لو كان جاريا - هو استصحاب الطهارة لأنّ الطهارة ثابتة سابقا جزما في كل إناء فإذا شكّ في بقائها جرى استصحابها في كلا الإنائين. ويسمّى استصحاب الطهارة بالأصل المؤمن لأنّه يرخّص في الارتكاب ويأمن من الحرمة والعقوبة.

ومثال الأصل المنجز : ما إذا كانت الحالة السابقة للإنائين هي النجاسة ثمّ علم بطرو الطهارة على أحدهما (1). انّ الأصل الجاري في هذه الحالة - لو كان جاريا - هو استصحاب النجاسة. ويسمّى بالأصل المنجز لأنّه ينجز على المكلّف ويحتمّ عليه الاجتناب.

ص: 207


1- طرو الطهارة على أحدهما له شكلان فتارة تطرء الطهارة على أحدهما ويبقى الآخر على النجاسة جزما ، واخرى تطرأ الطهارة على أحدهما جزما ونحتمل طروّها على الآخر أيضا ، ففي الشكل الأوّل نعلم ببقاء النجاسة في أحدهما بينما في الشكل الثاني لا نعلم بذلك بل نحتمل ارتفاع النجاسة في كليهما.

وبعد اتّضاح هذا نقول : حينما ذكرنا انّ الأصل لا يمكن أن يشمل جميع الأطراف للمحذور العقلي أو العقلائي فالمقصود حالة ما إذا كان الأصل الجاري في الأطراف أصلا مؤمّنا كاستصحاب الطهارة فإنّه يلزم من تطبيقه في كلا الإنائين اللذين يعلم بطرو النجاسة على أحدهما الترخيص في المعصية القبيحة ، امّا إذا كان الأصل الجاري في الطرفين أصلا تنجيزيا فلا يلزم المحذور العقلي ولا العقلائي.

امّا انّه لا يلزم المحذور العقلي فلأنّه لا يلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كلا الإنائين الترخيص في ارتكاب النجس بل يلزم الاجتناب عن الطاهر ، وواضح انّ هذا ليس فيه أي محذور إذ الطاهر لا يلزم ارتكابه.

وأمّا انّه لا يلزم محذور عقلائي فلأنّ العقلاء يرفضون تقدّم الغرض الترخيصي على الغرض الإلزامي ، وامّا العكس - أي تقدّم الغرض الإلزامي على الترخيصي الذي هو اللازم من إجراء استصحاب النجاسة في الإنائين - فهو مألوف بينهم ومناسب للقاعدة.

إذن جريان الاصول المنجزة في جميع الأطراف لا يلزم منه المحذوران السابقان العقلي والعقلائي ، ولكن بالرغم من ذلك قد يدّعى امتناع جريان استصحاب النجاسة في الإنائين لمحذورين آخرين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي وهما : -

المحذور الثبوتي

وحاصل المحذور الثبوتي : انّ لازم جريان استصحاب النجاسة في كلا

ص: 208

الإنائين مع فرض العلم بطرو الطهارة على أحدهما اجتماع النجاسة والطهارة في أحد الإنائين وهو غير ممكن.

ولماذا لا يمكن اجتماع النجاسة والطهارة في الإناء الواحد؟ يمكن أن يقرّب ذلك بأحد بيانين ، فأمّا ان يقرب ببيان انّ النجاسة والطهارة حكمان متضادّان ، فالنجاسة عبارة عن وجوب الاجتناب والطهارة عبارة عن عدم وجوب الاجتناب وهما حكمان متضادّان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد في عالم التشريع.

أو يقرب ببيان انّ الطهارة تستدعي أن يكون المكلّف مطلق العنان من حيث الارتكاب وعدمه بينما النجاسة تستدعي تضييق العنان وعدم الارتكاب ، وواضح انّ إطلاق العنان وتضييقه لا يمكن اجتماعهما فتلزم المنافاة في مقام العمل والامتثال.

والفرق بين البيانين انّ البيان الأوّل ناظر إلى لزوم المحذور بلحاظ عالم التشريع بينما البيان الثاني ناظر إلى لزومه بلحاظ عالم الامتثال.

وكلا هذين البيانين قابل للمناقشة.

امّا البيان الأوّل فلأنّ النجاسة والطهارة وإن كانا حكمين متضادّين إلاّ أنّ أحدهما واقعي - وهو الطهارة - والآخر ظاهري وهو النجاسة ، وقد تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة التوفيق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري واتّضح انّ بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي كمال الملائمة وإن المنافاة ثابتة بين خصوص الحكمين الواقعيين - كالطهارة الواقعية والنجاسة الواقعية - دون الظاهري والواقعي.

ص: 209

وبتعبير آخر : انّ ما يدفع به التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي في سائر الموارد يدفع به التنافي في المقام إذ النجاسة ظاهرية والطهارة واقعية.

وأمّا البيان الثاني فلأنّ الطهارة لا تقتضي إطلاق العنان ما دام موضوعها مردّدا بين الإنائين ، فإنّ الطهارة لا يعلم ثبوتها في هذا الإناء أو في ذاك الإناء ، وما دام لا يعلم ثبوتها في إناء معيّن فلا تقتضي إطلاق العنان ؛ إذ لو كانت تقتضي ذلك فهي امّا أن تقتضي جواز ارتكاب كلا الإنائين ، وهو باطل جزما لأنّ أحدهما نجس لا يجوز ارتكابه ، أو تقتضي جواز ارتكاب أحدهما فقط ، وهو باطل أيضا لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

هذا كلّه في المحذور الثبوتي ، وقد اتّضح بطلانه.

المحذور الإثباتي

وأمّا المحذور الإثباتي فقد ذكر الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل انّ دليل الاستصحاب قاصر الدلالة عن الشمول لجميع أطراف العلم الإجمالي للزوم التهافت بين صدره وذيله ، فإنّ بعض روايات الاستصحاب ورد فيها ذيل وهو « ولكن انقض اليقين باليقين » فالرواية هكذا : « لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقض اليقين باليقين » ، انّ هذه الرواية لها صدر ، وهو الفقرة الاولى أي « لا تنقض اليقين بالشكّ » ولها ذيل وهو الفقرة الثانية أي « ولكن انقض اليقين باليقين ».

ولو نظرنا إلى الإناء الأوّل بخصوصه رأينا فيه يقينا سابقا بالنجاسة وشكّا لا حقا بالطهارة ، وهكذا لو نظرنا إلى الإناء الثاني رأينا فيه ذلك ، ولازم ذلك

ص: 210

بمقتضى الصدر جريان استصحاب النجاسة في كلا الإنائين. بينما لو نظرنا إلى الذيل فاللازم عدم جريان الاستصحاب في كليهما وإنّما يجري في أحدهما فقط لأنّ الذيل يقول « انقض اليقين باليقين » ، وواضح انّ كل واحد من الإنائين وإن كان فيه يقين بالنجاسة إلاّ أنّ أحد الإنائين كما فيه يقين بالنجاسة فيه أيضا يقين بالطهارة فيلزم عدم جريان استصحاب النجاسة فيه. وعلى هذا يحصل الإجمال في الرواية لحصول التهافت بين الصدر والذيل حيث انّ الصدر يقول اجر الاستصحاب في كلا الطرفين بينما الذيل يقول لا تجره في كليهما بل في أحدهما.

ومن أجل إشكال التهافت هذا اختار الشيخ الأعظم قدس سره عدم جريان الاستصحاب لا في بعض الأطراف للزوم محذور الترجيح بلا مرجّح ولا في جميع الأطراف للزوم محذور التهافت.

وهذا من دون فرق بين أن يكون الاستصحابان استصحابين مؤمّنين أو منجزين. وإنّما خصص قدس سره الإشكال بالاستصحابين المنجزين من جهة انّ الاستصحابين المؤمّنين يوجد مانع آخر من جريانهما وهو المحذور العقلي المتقدّم ، أي لزوم الترخيص في المعصية القبيحة.

مناقشة محذور التهافت

واجيب عن محذور التهافت هذا بجوابين : -

1 - انّ الذيل المذكور - وهو فقرة ولكن انقض اليقين باليقين - لا يوجد في جميع روايات الاستصحاب بل في رواية واحدة ، ومعه فالإجمال يلزم في هذه الرواية الواحدة المشتملة على الذيل ، وأمّا بقية الروايات - التي ذكرت الفقرة

ص: 211

الاولى فقط أي فقرة لا تنقض اليقين بالشكّ - فلا إجمال فيها ويتمسّك بإطلاقها.

وبكلمة اخرى : متى ما كان لدينا روايتان أحدهما مجملة والاخرى غير مجملة لم يكن إجمال المجملة مانعا من التمسّك بالرواية غير المجملة (1).

2 - انّ إشكال التهافت باطل من أساسه لأنّ ظاهر الذيل « ولكن انقض اليقين باليقين » انّ اليقين الناقض لا بدّ وأن يكون على منوال اليقين المنقوض فإذا كان لنا يقين بطهارة هذا الثوب الخاص المعيّن فاليقين الناقض لا بدّ وأن يكون هو اليقين بنجاسة هذا الثوب الخاص أيضا ، ونحن لو نظرنا إلى مقامنا لوجدنا انّ لنا يقينا بنجاسة الإناء الأوّل بخصوصه كما ولنا يقين ثان بنجاسة الإناء الثاني بخصوصه بينما اليقين الطارئ بعد ذلك هو اليقين بطهارة أحدهما على سبيل الإجمال ، فاليقين الناقض يقين إجمالي بينما اليقين المنقوض يقين تفصيلي ، وأحد اليقينين حيث انّه ليس على منوال الآخر فلا يكون أحدهما ناقضا للثاني فالذيل

ص: 212


1- قد يقال : لماذا لا نطبّق قانون الإطلاق والتقييد في المقام بأن نقول انّ الرواية المشتملة على الذيل تصير مقيّدة للروايات التي لا تشتمل على الذيل؟ والجواب : انّ مجال قانون الإطلاق والتقييد هو ما إذا ورد لفظ واحد _ كلفظ رقبة _ في رواية مطلقا وورد في رواية ثانية مقيدا ، وامّا إذا وردت روايتان إحداهما ذكرت جملتين والاخرى ذكرت جملة واحدة فلا معنى لكون الاولى مقيّدة للثانية ، نظير ما إذا وردت رواية تقول : « صل صلاة الليل واغتسل للجمعة » ووردت رواية اخرى تقول : صل صلاة الليل » من دون أن تذكر جملة « واغتسل الجمعة » فإنّه لا معنى لكون الاولى مقيّدة للثانية. والمقام من هذا القبيل فإنّ الرواية المشتملة على الذيل ليست من قبيل المقيّد إذ جملة « ولكن انقض اليقين باليقين » لا تعدّ تقييدا لحكم « لا تنقض اليقين بالشكّ » المذكور في الصدر وإنّما هو بيان لمطلب ثان إضافي.

المذكور يختص بالموارد التي يكون فيها اليقين الناقض واليقين المنقوض على منوال واحد بأن يكونا معا يقينين تفصيليين.

تعبير اصولي

ومن خلال هذا كلّه اتّضح ان الاستصحابين إذا كانا مؤمّنين فلا يجريان للمحذور العقلي أو العقلائي ، وأمّا إذا كانا منجزين فلا مانع من جريانهما ؛ إذ أقصى ما يلزم إشكال التهافت الذي ذكره الشيخ الأعظم ، وهو مدفوع بالوجهين السابقين.

ومن هنا نعرف معنى العبارة الاصولية المشهورة التي تقول : لا مانع من جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية قطعية ، فإنّهم بهذه العبارة يريدون القول بأنّ الاستصحابين إذا كانا منجزين فلا مانع من جريانهما لأنّه لا يلزم من جريانهما معا إلاّ التجنّب عن الإنائين الذين نعلم بطهارة أحدهما ، وهذا ليس فيه مخالفة عملية ، وإنّما المخالفة العملية تختص بصورة ما إذا كان الاستصحابان مؤمّنين إذ لازم جريان استصحاب الطهارة في كلا الإنائين ارتكاب كلا الإنائين الذين نعلم بنجاسة أحدهما ، وهو مخالفة عملية.

قوله ص 86 س 3 : بلحاظ مقام الثبوت : أي بلحاظ انّه هل يوجد محذور عقلي في الترخيص في كلا الطرفين - كمحذور الترخيص في المعصية القبيحة - أو لا.

قوله ص 86 س 3 ومقام الإثبات : أي بلحاظ انّه هل يوجد محذور عقلائي من شمول أدلّة الاصول لجميع الأطراف.

ص: 213

قوله ص 86 س 6 : لأدائه الخ : أي للمحذور الثبوتي.

قوله ص 86 س 8 : غير أنّ ذلك ليس عقلائيا : أي للمحذور الإثباتي.

قوله ص 86 س 11 : انّ ذلك : أي استحالة جريان الاصول في جميع الأطراف للمحذور الثبوتي أو الإثباتي.

قوله ص 86 س 12 : الاصول الشرعية المنجزة للتكليف : كاستصحاب النجاسة فإنّه منجز لوجوب الاجتناب.

قوله ص 86 س 13 : فلا محذور ثبوتا ولا إثباتا : أي لا يرد فيها المحذور العقلي - وهو الترخيص في المعصية القبيحة - ولا المحذور العقلائي وهو لزوم كون الغرض الترخيصي أهم من الغرض الإلزامي.

قوله ص 86 س 14 : إذا كان كل طرف موردا لها في نفسه : بأن كان فيه يقين سابق بالنجاسة وشكّ لا حق في ارتفاعها.

وقوله : « في نفسه » أي بقطع النظر عن العلم الإجمالي بطرو الطهارة على أحدهما.

قوله ص 86 س 15 : أكثر من تكليف واحد : أي أكثر من نجاسة واحدة في المثال المتقدّم ، فإنّ كل نجاسة لها تكليف وهو بوجوب الاجتناب.

قوله ص 86 س 17 : ومنه يعلم : أي يعلم من استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين وعدم مانعية العلم بارتفاع إحدى النجاستين وبقاء الاخرى ، يعلم من هذا انّ استصحاب النجاسة يجري في كل واحد من الإنائين حتّى في حالة العلم بارتفاع إحدى النجاستين حتما واحتمال ارتفاع الاخرى أيضا ، أي بأن كنّا نعلم إجمالا بطرو الطهارة على واحد منهما جزما وكنّا نحتمل طرو الطهارة على

ص: 214

الثاني منهما أيضا فلم نعلم ببقاء النجاسة لا في كليهما ولا في أحدهما.

قوله ص 87 س 2 : ولا ينافي ذلك ... الخ : هذا راجع إلى كلتا الحالتين ، أي حالة العلم بارتفاع النجاسة عن واحد وبقائها في الثاني وحالة العلم بارتفاعها عن واحد قطعا مع احتمال ارتفاعها عن الثاني أيضا.

وقوله : « لا ينافي ذلك » أي لا ينافي جريان استصحاب النجاسة في كلا الإنائين.

قوله ص 87 س 3 : بطهارة بعض الأواني : فإنّه في كلتا الحالتين يعلم بطهارة أحد الإنائين جزما ولكن في الحالة الاولى يعلم ببقاء النجاسة في الثاني بينما في الحالة الثانية لا يعلم ببقائها في الثاني بل يحتمل ارتفاعها.

قوله ص 87 س 4 : عنها : الضمير يرجع إلى بعض الأواني. والتأنيث باعتبار الإضافة إلى المؤنّث وهو الأواني.

قوله ص 87 س 5 : والحكم الترخيصي : أي الطهارة المعلومة في أحدهما. وقوله : « الاصول المنجزة » إشارة إلى استصحاب النجاسة في كلّ من الإنائين.

قوله ص 87 س 6 : أو بلحاظ محذور إثباتي : وهو محذور التهافت الذي أشار له الشيخ الأعظم قدس سره .

قوله ص 87 س 8 : امّا الأوّل : أي المحذور الثبوتي.

قوله ص 87 س 8 : الالزامات الظاهرية : أي النجاسة في كل واحد من الإنائين بمقتضى الاستصحاب.

قوله ص 87 س 11 : بينها : أي الالزامات الظاهرية.

قوله ص 87 س 17 : وأمّا الثاني : أي المحذور الإثباتي.

ص: 215

قوله ص 88 س 1 : كما ينهى عن نقض الخ : أي بمقتضى الفقرة الاولى. وقوله : « كذلك يأمر ... » أي بمقتضى الفقرة الثانية.

قوله ص 88 س 7 : على الأمر والنهي معا : أي على الفقرة الاولى المشتملة على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والفقرة الثانية المشتملة على الأمر بنقض اليقين باليقين.

وقوله : « لا فيما اختصّ مفاده بالنهي فقط » أي لا ما اشتمل على الفقرة الاولى فقط.

قوله ص 88 س 10 : بعين ما تعلّق الخ : فإذا كان اليقين الأوّل متعلّقا بنجاسة إناء معيّن تفصيلا لزم كون اليقين الثاني الناقض متعلّقا بنفس ذلك الإناء المعيّن لا بطهارة إناء غير معيّن.

قوله ص 88 س 12 : ومصبه ليس متّحدا : فإنّ مصبّ الحكم الترخيصي - أي الطهارة - المعلوم بالإجمال هو طهارة أحد الأواني بينما مصبّ الحكم الإلزامي هو نجاسة كل إناء بخصوصه.

بحث الأمر الثالث

كان الكلام فيما سبق عن إمكان جريان الاصول في جميع الأطراف وعدمه. وقد اتّضح انّ الاصول المؤمّنة لا يمكن أن تجري لمحذور عقلائي لا عقلي بينما الاصول المنجزة يمكن أن تجري بلا محذور عقلي ولا عقلائي.

والآن نريد التكلّم عن الأمر الثالث ، أي عن إمكان جريان الاصول في بعض الأطراف لا في جميعها. والكلام في ذلك يقع تارة بلحاظ عالم الثبوت - أي

ص: 216

بلحاظ لزوم محذور عقلي من ترخيص ارتكاب بعض الأطراف وعدمه - واخرى بلحاظ عالم الإثبات ، أي بلحاظ عالم الأدلة.

عالم الثبوت

وقع البحث عن إمكان الترخيص ثبوتا - أي واقعا - في أحد الطرفين وهل هو ممكن لا يلزم منه محذور أو لا (1).

وينبغي أن يكون واضحا انّ هذا البحث لا معنى له على رأي من يقول

ص: 217


1- قد يقال : ان طرح هذا البحث لغو إذ جريان الأصل في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح فلا يكون ممكنا. والجواب : انّ لزوم الترجيح بلا مرجّح مانع إثباتي لأنّ معناه انّ دلالة دليل الأصل لا يمكن أن تشمل بعض الأطراف دون بعض لعدم المرجّح ، وكلامنا ليس في عالم الدلالة والإثبات بل في عالم الثبوت بقطع النظر عن دلالة الدليل ، فنحن نبحث هل يمكن واقعا ثبوت الترخيص في بعض الأطراف بقطع النظر عن دلالة الدليل أو لا يمكن ذلك في نفسه وبقطع النظر عن دلالة الدليل. هذا مضافا إلى أنّه سنذكر فيما بعد بعض الحالات التي يكون جريان الأصل فيها مختصا ببعض الأطراف بدون معارضة ، كما لو فرضنا وجود إنائين رقم (١) ورقم (٢) نعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، ثمّ نفرض ان إناء رقم (٣) لاقى إناء رقم (٢) ، فبعد الملاقاة سوف يحصل علم إجمالي جديد بنجاسة امّا إناء رقم (١) أو مجموع رقم (٢) و (٣). وفي مثل هذه الحالة يتعارض أصل الطهارة في إناء رقم (١) مع أصل الطهارة في إناء رقم (٢) ، وبعد تعارضهما وتساقطهما نرجع إلى أصل الطهارة في إناء رقم (٣). وقد توجّه بعض الاعتراضات إلى المثال المذكور نتعرّض لها فيما بعد إنشاء اللّه تعالى ص ٢٥٩.

بإمكان الترخيص في كلا الطرفين - كما هو مختار السيد الشهيد على ما تقدّم - فإنّ إمكان الترخيص في كلا الطرفين يستلزم إمكان الترخيص في الطرف الواحد بطريق أولى.

وهكذا لا معنى لهذا البحث على رأي الميرزا في أجود التقريرات القائل بأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعية - أي لزوم الإتيان بالظهر والجمعة معا - وإنّما المقتضي لذلك تعارض الاصول.

ووجه ذلك : انّ الاصول إنّما تتعارض في الأطراف وتتساقط ليس إلاّ لأجل انّ جريانها جميعا يستوجب المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، ومن الواضح انّ هذا المحذور يختص بحالة جريان الاصول في جميع الأطراف ، امّا جريانها في طرف واحد فلا يلزم منه ذلك حتّى يمتنع.

وبعد هذا لا يبقى لهذا البحث وجاهة إلاّ على الرأي القائل باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بذاته ، فإنّ هذا القائل قد يمنع عن الترخيص حتّى في الطرف الواحد باعتبار انّ ذلك يتنافى ووجوب الموافقة القطعية التي يقتضيها العلم الإجمالي بذاته.

ولكن كيف يطرح هذا البحث على أصحاب هذا القول وبأي صيغة ينبغي أن يكون؟

ينبغي أن يكون البحث حول العلية والاقتضاء فيقال هل العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بنحو لا يمكن للشارع الترخيص حتى في الطرف الواحد - وهذا ما يصطلح عليه بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية - أو يقتضي ذلك فيما إذا لم يرخّص الشارع في الطرف الواحد فإذا رخّص فلا

ص: 218

يكون مقتضيا لذلك ، كالنار حيث انّها تقتضي احتراق الورقة فيما إذا لم تمنع الرطوبة من ذلك. ويسمّى هذا بأنّ العلم الإجمالي مقتضي لوجوب الموافقة القطعية لا علّة.

فالبحث إذن لا بدّ وأن يحوم حول العلية والاقتضاء. ومن هنا وجد مسلكان أحدهما : يقول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بذاته بنحو الاقتضاء. وهذا هو مختار الميرزا في فوائد الاصول.

وثانيهما : يقول بأنّه يقتضي وجوب الموافقة بذاته بنحو العلّة التامّة. وهو مختار الشيخ العراقي.

ومن هنا نعرف أنّ في مسألة تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ثلاثة آراء : -

1 - انّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة بنفسه وإنّما يقتضيها بسبب تعارض الاصول. وهو مختار الميرزا في أجود التقريرات. واختاره السيد الخوئي أيضا.

2 - انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة بنفسه ولكن بنحو الاقتضاء دون العلّة التامّة. وهو مختار الميرزا في فوائد الاصول (1).

3 - انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية بنفسه وبنحو العلّة التامّة. وهو مختار الشيخ العراقي.

ص: 219


1- لبحث الميرزا النائيني قدس سره تقريران أحدهما للشيخ محمّد علي الكاظمي باسم فوائد الاصول وثانيهما للسيد الخوئي باسم أجود التقريرات. والثاني تقرير لآخر دورة اصولية لبحث الميرزا في الاصول بخلاف الأوّل فإنّه تقرير لدورة أسبق.
الفارق الواضح

وقد تسأل عن الفارق الواضح بين الرأي الأوّل والرأي الثاني.

انّ الفارق هو انّه على الرأي الأوّل لا يكون العلم الإجمالي هو المقتضي للزوم الإتيان بالظهر والجمعة معا وإنّما المقتضي له هو احتمال التكليف في كل طرف بعد فرض تساقط الاصول المؤمنة ، فاحتمال التكليف بلا مؤمن هو المقتضي لذلك وليس العلم الإجمالي ، أجل العلم الإجمالي سبب لتعارض الاصول لا أكثر.

وأمّا على الرأي الثاني فالمقتضي لوجوب الموافقة هو العلم الإجمالي لا تعارض الاصول ، غاية الأمر يكون الاقتضاء معلّقا على عدم الترخيص في بعض الأطراف ، نظير النار فإنّها بنفسها تقتضي الإحراق ولكن معلّقا على عدم المانع.

الاستدلال على مسلك العلّية

وبعد ان عرفنا وجود مسلكين في كيفية استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية نأخذ بعرض برهان الشيخ العراقي على مسلك العلّية. وهو مركب من مقدّمتين : -

أ - انّ كل علم هو علّة تامّة لتنجز معلومه ، فإذا علمت تفصيلا بأنّ هذا الإناء خمر كان العلم المذكور علّة تامّة لوجوب الاجتناب عنه ، بمعنى انّه لا يمكن الترخيص في مخالفته فلا يمكن أن يقول المولى يجوز لك أن تشربه. وهذا واضح.

ب - انّ المعلوم في العلم الإجمالي إذا كان هو الجامع فالذي يتنجز هو الجامع ، ولازم تنجزه وجوب تحصيله ، وحيث ان تحصيله يتحقّق بالإتيان بأحد

ص: 220

الطرفين فيكفي الإتيان بالطرف الواحد ولا يلزم الإتيان بالطرفين ، ولكن حيث انّ المفروض على رأي الشيخ العراقي انّ المعلوم بالعلم الإجمالي ليس هو الجامع بل الواقع فالذي يتنجز هو الواقع ، وبما انّ الواقع لا يحرز تحقّقه بالإتيان بطرف واحد بل بالإتيان بالطرفين فالعلم الإجمالي يكون علّة لوجوب الإتيان بالطرفين.

اعتراض الميرزا على مسلك العلّية

واعترض الميرزا على مسلك العلية بأنّ العلم الإجمالي إذا كان علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية فلازم ذلك أنّ العلم الإجمالي متى ما كان ثابتا فوجوب الموافقة القطعية لا بدّ وأن يكون ثابتا أيضا بحيث لا يمكن أن ينفك عنه مع انّنا نرى في باب العلم التفصيلي - الذي هو أقوى من العلم الإجمالي - انّ العلم التفصيلي بالتكليف قد يكون ثابتا ومع ذلك لا تجب موافقته القطعية ، فإذا دخل وقت صلاة الظهر مثلا فالمكلّف يحصل له علم تفصيلي بثبوت الوجوب في حقّه فإذا صلّى وبعد الفراغ شكّ هل أتى بالركوع أو لا فاللازم لو كان العلم التفصيلي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية أن يصلّي من جديد صلاة مشتملة على الركوع ليحرز على على سبيل القطع موافقته للتكليف ، والحال انّ الشارع حكم بالاكتفاء بالصلاة السابقة التي لا يقطع بحصول الموافقة معها. انّ حكم الشارع بعدم وجوب الإعادة من جديد وتطبيق قاعدة الفراغ دليل واضح على انّ العلم التفصيلي بوجوب صلاة الظهر ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية. وإذا كان العلم التفصيلي هكذا فالعلم الإجمالي أولى بذلك.

ص: 221

جواب الشيخ العراقي

وأجاب الشيخ العراقي عن هذا الاعتراض بأنّ العلم التفصيلي متى ما كان ثابتا فهو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ولا يمكن أن ينفك عن ذلك. وما ذكر من مثال صلاة الظهر لا نسلّم الانفكاك فيه فإنّ المكلّف إذا طبّق قاعدة الفراغ فالموافقة القطعية حاصلة منه إذ هي تقول للمكلّف انّي أحكم بحصول الركوع منك في صلاتك وبالتالي احكم بأنّك قد وافقت الوجوب وامتثلته قطعا غاية الأمر الموافقة التي حصلت منك وإن لم تكن مقطوعة بالقطع الوجداني إلاّ أنّها ثابتة تنزيلا وتعبّدا ، وواضح أنّ هذا المقدار يكفي لإشباع متطلّبات مسلك العلّية فإنّ المسلك المذكور لا يقول انّ العلم التفصيلي أو الإجمالي علّة لخصوص وجوب الموافقة القطعية بالقطع الوجداني بل علّة لوجوب الموافقة أعمّ من أن تكون مقطوعة بالقطع الوجداني أو بالقطع التعبّدي.

ثمّ أضاف العراقي قائلا لو اريد النقض على مسلك العلّية فلا بدّ من النقض بموارد يكون العلم التفصيلي أو الإجمالي ثابتا فيها ويكتفي الشارع بموافقته الاحتمالية دون أن ينزلها منزلة الموافقة القطعية ، انّه بمثل هذه الموارد يصح النقض ، كما لو فرض انّ الشارع أجرى أصل البراءة في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي ، فإنّ لسان رفع التكليف وليس لسان حصول الموافقة القطعية ، تعبّدا وتنزيلا ، حيث يقول رفع عن امّتي ما لا يعلمون ولا يقول انّي أحكم بحصول الموافقة ، وهذا بخلاف قاعدة الفراغ فإن لسانها يدلّ على الحكم بتحقّق الموافقة تعبّدا حيث يقول قد صحّت صلاته ، ومعنى صحّت صلاته انّي أحكم بتحقّق

ص: 222

الركوع من المصلّي الشاك بعد الصلاة.

مناقشة كلام العراقي

ويمكن التعليق على كلام الشيخ العراقي هذا بأنّ قاعدة الفراغ إذا ارتضي جريانها في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي فيلزم قبول جريان أصل البراءة أيضا ، فإنّ قاعدة الفراغ وأصل البراءة كلاهما من واد واحد ، إذ كلاهما حكم ظاهري ، وقد تقدّم انّ حقيقة الحكم الظاهري حقيقة واحدة - وهي عبارة عن الحكم الناشىء من تقديم الغرض الأهمّ الذي هو الغرض غير اللزومي في مثل قاعدة الفراغ وأصل البراءة - ولا يؤثّر في تلك الوحدة اختلاف لفظ الدليل ولسانه فإنّ اللسان قد يكون لسان رفع الحكم - كما في البراءة - وقد يكون لسان التعبّد بحصول الموافقة كما هو لسان قاعدة الفراغ.

وما دامت روح الحكم الظاهري واحدة فاللازم من قبول تطبيق قاعدة الفراغ في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي قبول تطبيق أصالة البراءة أيضا فإنّ اختلاف لسان الدليل غير مهم.

ترجيح مسلك الاقتضاء

وبعد هذا العرض لمسلك العلّية والاقتضاء والاستدلال عليهما يحق أن نسأل عن الأرجح والأجدر منهما؟ انّ الأجدر هو مسلك الاقتضاء ، فالعلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة بل مقتضى لذلك بدليل انّه يمكن للمولى جعل الترخيص في أحد الطرفين ، وإمكان ذلك دليل على أنّ وجوب الموافقة

ص: 223

القطعية يمكن انفكاكه عن العلم الإجمالي وبالتالي يثبت انّه ليس علّة تامّة وإلاّ لما حصل الانفكاك.

امّا كيف نثبت إمكان جعل الترخيص في أحد الطرفين؟ الجواب : انّ نفس النكتة التي صحّحت جعل الترخيص الظاهري في مورد الشبهة البدوية هي بنفسها يمكن أن تصحّح جعل الترخيص الظاهري في بعض أطراف العلم الإجمالي. وتلك النكتة هي انّ المكلّف حينما يشكّ في الحكم الواقعي وانّه الإباحة أو الوجوب مثلا فبإمكان الشارع الحكم بالإباحة ظاهرا فيما إذا كان ملاكها هو الأهمّ في نظره.

انّ هذه النكتة ثابتة أيضا في اطراف العلم الإجمالي ، فلو علم المكلّف إجمالا بوجوب امّا الظهر أو الجمعة عليه فوجوب خصوص الظهر مثلا مشكوك والأمر دائر بين وجوب الظهر وإباحتها فإذا كان ملاك الإباحة أهم في نظر الشارع أمكن جعل الترخيص في تركها.

وعليه فالنتيجة النهائية هي أنّ جعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي أمر ممكن. ومعنى ذلك بعبارة اخرى انّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة.

هذا كلّه في البحث عن إمكان جعل الترخيص في بعض الأطراف بلحاظ عالم الثبوت. وامّا بلحاظ عالم الاثبات فهو ما سنتكلّم عنه.

عالم الإثبات

وبعد أن ثبت إمكان جعل الترخيص ثبوتا - واقعا - في بعض الأطراف

ص: 224

نتكلّم الآن بلحاظ عالم الإثبات لنرى هل بالإمكان استفادة الترخيص في بعض الأطراف - بعد أن ثبت إمكانه واقعا - من أدلة البراءة ، فإنّ أقصى ما أثبتناه في البحث الثبوتي إمكان الترخيص في بعض الأطراف ولم نثبت وقوعه.

وفي هذا المجال قال المشهور لا يمكن أن يستفاد من أدلة البراءة وقوع الترخيص في بعض الأطراف لأنّ تطبيق أدلة البراءة على أطراف العلم الإجمالي فيه احتمالات ثلاثة : -

أ - فامّا أن نطبّقها على كلا الطرفين ، وهو باطل لأنّ لازمه جواز المخالفة القطعية.

ب - أو نطبّقها على هذا الطرف المعيّن دون ذاك ، وهو باطل أيضا لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

ج - أو نطبّقها على الفرد المردّد ، وهو باطل أيضا لعدم تحقّق الفرد المردّد خارجا.

العراقي وشبهة الترخيص المشروط

والشيخ العراقي قدس سره ذكر في هذا المجال انّ بالإمكان تطبيق أصل البراءة في كل واحد من الطرفين دون أن يلزم محذور المخالفة القطعية ، فإذا كان لدينا إناءان نعلم بخمرية أحدهما فنطبق أصل البراءة على كل طرف ولكن تطبيقا مشروطا بترك الطرف الآخر فيقال أنت مرخّص في ارتكاب الإناء الأوّل بشرط ترك الثاني ومرخّص في الثاني بشرط ترك الأوّل.

انّ تطبيق أصل البراءة بهذه الشكل لا ينجم عنه أي محذور ، فلا يلزم منه

ص: 225

محذور الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح ، ولا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية ، إذ ذلك - أي محذور المخالفة القطعية - يلزم لو طبّق أصل البراءة على كل طرف تطبيقا مطلقا بأن قيل : أنت مرخص في الأوّل سواء ارتكبت الثاني أم لا ، وهكذا أنت مرخّص في الثاني سواء ارتكبت الأوّل أم لا ، امّا في فرض الترخيص المشروط فلا يلزم ذلك.

وقد يقال : كيف نستفيد البراءة المشروطة بهذا الشكل مع انّ مفاد حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » مثلا هو البراءة المطلقة دون المشروطة ؛ إذ هو يقول رفع وجوب الاجتناب عن الإناء الأوّل من دون تقييد بترك الثاني؟

والجواب : انّ في كيفية تطبيق أصل البراءة ثلاثة احتمالات : -

أ - فامّا ان لا نطبّقه لا على هذا الإناء ولا على ذاك.

ب - أو نطبّقه على أحدهما دون الآخر.

ج - أو نطبّقه على كل واحد منهما بالنحو المشروط الذي اقترحه الشيخ العراقي.

ولا إشكال في تعيّن الاحتمال الثالث ، فإنّ عدم طرح الدليل من أساسه في الطرفين معا أو في أحدهما وتطبيقه على كل منهما مع إلغاء إطلاقه أولى من الطرح ؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها ، وهي تقتضي عدم تطبيقه في كل منهما تطبيقا مطلقا ولا تقتضي إلغاءه رأسا ومن الأساس في كليهما أو في أحدهما.

هذه حصيلة اعتراض الشيخ العراقي. وهو كما ترى اعتراض لطيف وقوي

ص: 226

جدّا. وقد استحكم في أذهان أهل العلم تلك الفترة حتّى انّ الشيخ الكاظمي المقرر لدرس الميرزا أطال الكلام كثيرا في دفعه ، وقال انّا لم نطل الكلام إلاّ لدفع ما شاع وترسخ في أذهان أهل العلم من إمكان إجراء البراءة في كلا الطرفين إجراء مشروطا.

تنبيه

انّ لازم هذا الاعتراض أن لا يحكم الميرزا والسيد الخوئي - وكل من التزم بعدم عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية سواء التزم انّ منجزيته بسبب تعارض الاصول أم بسبب استلزام ذات العلم الإجمالي لذلك بنحو الاقتضاء - بوجوب الموافقة القطعية في باب العلم الإجمالي ؛ إذ تنجيز العلم الإجمالي لكلا الطرفين فرع عدم إمكان إجراء البراءة في الأطراف فإذا جرت بالشكل المذكور كانت النتيجة جواز ارتكاب أحد الطرفين وترك الثاني والحال أنّ الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعية أمر صعب جدّا لمخالفته الحسّ الشرعي والعقلائي. ومن هنا صار هذا الاعتراض مهما.

وكأنّ الشيخ العراقي يريد أن يقول : ان لازم عدم البناء على مسلك العلّية ان يكون تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية موقوفا على تعارض الاصول فإذا رفعنا التعارض عن طريق الترخيص المشروط لم تكن الموافقة القطعية واجبة. وهذا منبّه على أنّ مسلك فوائد الاصول الذي هو مسلك الاقتضاء باطل فضلا عن مسلك أجود التقريرات الذي يقول بعدم اقتضاء العلم الإجمالي بنفسه لوجوب الموافقة القطعية.

ص: 227

ونتيجة بطلان كلا هذين المسلكين تعيّن المسلك الثالث القائل باستلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بذاته بنحو العلّة التامة.

مناقشة شبهة الترخيص المشروط
اشارة

وقد نوقشت شبهة الترخيص المشروط بعدّة وجوه نذكر منها : -

الوجه الأوّل

ما أفاده السيد الخوئي ( دام ظلّه ) (1) من انّه لو كان لدينا إناءان نعلم بأنّ أحدهما خمر فلا يمكن الترخيص في ارتكاب الأوّل بشرط ترك الثاني ، ولا الترخيص في ارتكاب الثاني بشرط ترك الأوّل.

والوجه في ذلك : انّ المكلّف لو فرض تركه لكلا الإنائين وعدم اقترابه من هذا ولا من ذاك فاللازم أن يكون مرخّصا في ارتكاب كلا الإنائين ترخيصا فعليا فهو بالفعل مرخص في ارتكاب الأوّل - لأنّه قد ترك الثاني - ومرخص في ارتكاب الثاني لأنّه قد ترك الأوّل ، فإن كان كل حكم إذا كان مشروطا بشرط معيّن وفرض الأنسب عدم الفصل بين الضاد وما قبلها تحقّق شرطه بالفعل انقلب وصار فعليا. وحيث انّ الترخيص في كل إناء كان مشروطا بترك الآخر وفرض تحقّق الشرط فاللازم أن يصير الترخيصان فعليين ، أي انّ المكلّف مرخّص بالفعل في ارتكاب هذا الإناء وذاك الإناء معا ، وهو مستحيل لانّه

ص: 228


1- الدراسات ص 338

يعلم بخمرية أحدهما ، والترخيص في ارتكابهما ترخيص في ارتكاب المحرم الواقعي.

وقد تقول : انّ ثبوت الترخيص المشروط في كل واحد من الإنائين وإن كان لازمه ثبوت الترخيص الفعلي في ارتكاب كلا الإنائين الذين يعلم بخمرية أحدهما إلاّ أنّ هذا الترخيص الفعلي حيث لا يؤدّي إلى تحقّق المخالفة العملية القطعية خارجا فلا محذور فيه.

والوجه في عدم كونه مؤدّيا إلى حصول المخالفة العملية القطعية : انّ المكلّف إذا أراد أن يخالف ويمدّ يده إلى أحد الإنائين لتناوله فبمجرّد أن يشربه يصير الثاني محرما ولا يسوغ له ارتكابه لأنّ المفروض أنّ الترخيص في كل منهما مشروط بترك الآخر ، وحيث فرض تناول الأوّل فلا يكون الترخيص ثابتا في الثاني بل يكون محرما.

إذن المخالفة القطعية يستحيل تحقّقها خارجا ، وما دام تحقّقها مستحيلا فثبوت الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين لا يشكّل محذورا.

وأجاب السيد الخوئي عن هذا الكلام بأنّ نفس الترخيص الفعلي في ارتكاب المحرم الواقعي قبيح وإن لم يكن مؤدّيا إلى تحقّق المخالفة القطعية العملية خارجا ، فإنّ العقل يأبى ولا يقبل من المولى أن يقول لعبده أنت مرخّص في ارتكاب الإنائين الذين تعلم بأنّ أحدهما خمر وإن فرض عدم إمكان تحقّق المخالفة خارجا ، ولذا لو فرض انّ المكلّف علم بحرمة المكث عليه امّا في هذا البلد أو ذاك البلد وفرض أنّه لا يمكنه في وقت واحد المكث في كلا البلدين فإنّ الترخيص بالمكث في كلا البلدين قبيح وإن كان لا يمكنه المكث فيهما معا ولا

ص: 229

يتحقّق منه المخالفة القطعية خارجا.

دفع الوجه الأوّل

ويمكن دفع الجواب المذكور ببيانين : -

أحدهما

إنّ كل ترخيص من الترخيصين المشروطين حكم ظاهري بينما حرمة الإناء الخمري الموجود بين الإنائين حكم واقعي ، ونحن لا نرى تنافيا بين ذاك الحكم الظاهري وهذا الحكم الواقعي ، إذ التنافي بينهما يتصوّر بأحد أشكال ثلاثة : -

أ - أن يكون التنافي بينهما بلحاظ نفس الحكم والجعل فإنّ ذاك ترخيص وهذا تحريم ، والترخيص والتحريم أمران متضادّان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، فالإناء الخمري الثابت بين الإنائين لا يمكن أن يكون محرما ومرخصا فيه للتنافي الواضح بين الحرمة والترخيص.

وفيه : انّه لا مانع من ذلك لأنّ كلا من الترخيص والتحريم اعتبار ، والاعتبار سهل المؤونة فكما يمكن اعتبار الوجود والعدم في وقت واحد كذا يمكن اعتبار الرخصة والحرمة في شيء واحد.

ب - انّ يكون التنافي بينهما بلحاظ المبادئ ، فإنّ الإناء الخمري الثابت بين الإنائين إذا كان محرّما ومرخّصا فيه لزم اجتماع المفسدة والمصلحة فيه - لنشوء الحرمة عن مفسدة والترخيص عن مصلحة - وهو مستحيل.

ص: 230

وفيه : انّ السيد الخوئي ( دام ظلّه ) يختار - كما قرأنا في القسم الأوّل ص 26 من الحلقة الثالثة - قيام مبادئ الحكم الواقعي بالمتعلّق وقيام مبادئ الحكم الظاهري بنفس الجعل ، فمفسدة الحرمة الواقعية ثابتة في شرب الخمر بينما مصلحة الترخيص الظاهري ثابتة في نفس جعل الترخيص والحكم به لا بشرب الخمر فلا يلزم بناء على هذا اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

ج - أن يكون التنافي بينهما بلحاظ عالم الامتثال. وتصوير التنافي بينهما بلحاظ الامتثال بأحد النحوين التاليين : -

النحو الأوّل : انّ حرمة الإناء الخمري تقتضي في مقام الامتثال حرمة المخالفة القطعية ، وواضح انّ حرمة المخالفة القطعية تتنافى والترخيص الفعلي في ارتكاب كلا الإنائين.

وفيه : انّه اتّضح سابقا انّ اجتماع الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين لا يؤدّي إلى حصول المخالفة القطعية خارجا بل ذلك مستحيل (1).

النحو الثاني : انّ حرمة الإناء الخمري تقتضي في مقام الامتثال وجوب الموافقة القطعية بترك كلا الإنائين ، وواضح انّ اجتماع الترخيصين الفعليين في كلا الإنائين وإن لم يلزم منه تحقّق المخالفة القطعية خارجا إلاّ أنّه يلزم منه تجويز ارتكاب أحد الإنائين الذي تفوت معه الموافقة القطعية.

وفيه : انّ العلم الإجمالي بحرمة أحد الإنائين وإن كان مستدعيا لوجوب الموافقة القطعية إلاّ ان استدعائه لذلك بنحو المقتضي لا بنحو العلّة التامّة ، فإنّ

ص: 231


1- هذا النحو الأوّل للتنافي لم يشر له في عبارة الكتاب واشير له في التقرير ج 5 ص 190.

ذلك هو المفروض في بحثنا هذا - فإنّ بحثنا هذا بحث عن إمكان استفادة الترخيص في أحد الطرفين من طريق الأصل العملي بعد الفراغ عن إمكان الترخيص في أحد الطرفين واقعا ، فبعد الفراغ عن إمكان الترخيص ثبوتا نبحث عن مدى إمكان استفادته إثباتا وبلحاظ الأدلة ، وإذا كان جعل الترخيص في أحد الطرفين ممكنا واقعا فلازمه انّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة وليس علّة تامّة ؛ إذ لازم العلّية التامة عدم إمكان الترخيص واقعا في أحد الطرفين - وما دام استدعائه لذلك بنحو المقتضى فالموافقة القطعية تكون واجبة فيما لو لم يرخّص الشارع في عدمها فإذا فرضنا إمكان استفادة الترخيص في عدمها ببركة أدلّة الاصول العملية فلا تكون واجبة.

والخلاصة : انّه لا تنافي بين الترخيصين الظاهريين المشروطين وبين التحريم الواقعي ؛ إذ التنافي امّا بلحاظ نفس الجعل أو بلحاظ المبادئ أو بلحاظ الامتثال ، وقد اتّضح انّه لا تنافي في جميع هذه المراحل. ولم يبق للسيّد الخوئي إلاّ أن يقول انّي ادّعي التنافي بشكل رابع (1) ، وهو انّ نفس اجتماع الترخيصين الفعليين في ارتكاب المحرم الواقعي قبيح وإن لم تلزم مخالفة عملية قطعية خارجا.

وجوابه : ان هذه دعوى عهدتها على مدعيها ، فانّا لا نرى محذورا في الترخيص الفعلي في ارتكاب المحرم الواقعي ما دام لا يؤدي إلى المخالفة القطعية خارجا.

ص: 232


1- التنافي بهذا الشكل الرابع لم يذكره السيد الشهيد في عبارة الكتاب مع انّ تمام نظر السيد الخوئي إليه فكان من المناسب الإشارة له.

والاستشهاد بمثال المكث في أحد المكانين قياس مع الفارق ، فان الترخيصين الفعليين في مقامنا يستحيل ان يؤديا إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا ؛ إذ بمجرد ارتكاب أحد الإنائين يزول الترخيص من الثاني ، وهذا بخلافه في مثال المكث ، فان الترخيص بالمكث في كلا المكانين يمكن ان يؤدي إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا.

بل يمكن ان نقول أكثر من هذا : ان الترخيصين الظاهريين في كلا الإنائين وان كانا بحسب اللفظ والصياغة ترخيصين إلاّ انهما بحسب الواقع والروح ترخيص واحد في ارتكاب أحد الإنائين ، ولا مانع عقلا من جعل ترخيصين في كلا الإنائين ما داما يرجعان روحا إلى جعل ترخيص واحد.

ثانيهما

ان اجتماع الترخيصات المشروطة لا يؤدي دائما إلى صيرورة الترخيصات المشروطة فعلية ، بل ذلك يلزم لو كان عدد الأواني اثنين ، وأمّا إذا فرضنا عددها ثلاثة وفرض ان الترخيص المشروط لم يجعل بالصياغة السابقة بل جعل بهذه الصياغة : ارخصك في ارتكاب الإناء الأوّل شريطة ترك أحد الإنائين الآخرين وارتكاب الثالث الآخر.

وبتعبير آخر : أنت مرخص في ارتكاب كل إناء بشرطين : عدم ارتكاب الثاني ، وعدم هجر الجميع. أنّه في هذه الحالة لا يلزم إجتماع الترخيصات الفعلية عند ترك الأواني الثلاثة إذ المفروض اشتراط كل ترخيص بإرتكاب أحد

ص: 233

الأواني وعدم هجر الجميع فاذا هجر الجميع لم يتحقق الترخيص الفعلي (1). الوجه الثاني

والجواب الثاني عن شبهه التخيير المشروط ما أشار له السيد الخوئي أيضا (2) من ان الترخيص المشروط كما يمكن حصوله بالشكل الذي اقترحه الشيخ العراقي - وهو جعل الترخيص في كل طرف مشروطا بترك الآخر - كذلك

ص: 234


1- ههنا نكتتان ترتبطان بالمقام نشير لهما : - ١ _ قد يقال ان لازم هذه الصياغة الجديدة ان المكلّف إذا ترك جميع الأواني الثلاثة فلا يكون مرخصا في ارتكاب أي واحد من الأواني ، فاذا اراد ان يمدّ يده لتناول أحد الأواني فلا يكون مرخصا في ذلك وإنما يكون مرخصا بعد الإرتكاب ، وهو باطل جزما فإنه لا يمكن ثبوت الإباحة لشرب الماء مثلا بعد الشرب لا قبله. ويمكن دفع ذلك بان الترخيص في كل طرف يؤخذ مشروطا بنحو الشرط المتأخر بترك أحد الإنائين الآخرين وفعل الآخر ، فاذا علم المكلّف بأنّه في عمود الزمان سوف يترك الثاني ويفعل الثالث جاز له ارتكاب الأوّل. وهذا وان كان ينفع في حالة علم المكلّف بانه سوف يترك الثاني ويفعل الثالث ولا ينفع في حالة عدم علمه بحالته المستقبلية إلاّ انه لا يشكّل محذورا لا يمكن الالتزام به. ٢ _ ما هي النكتة في إعتبار كون الأواني ثلاثة بدلا من كونها اثنين؟ ذلك لأجل انها لو كانت اثنين فاشتراط الترخيص في الأوّل بعدم هجر الاثنين وترك الثاني يرجع إلى كون الترخيص في الأوّل مشروطا بفعل نفس الأوّل ، فان عدم هجر الجميع المنضم الى ترك الثاني ينحصر مصداقه بفعل الأوّل. ومن الواضح ان جعل الترخيص في شيء مشروطا بفعل نفس ذلك الشيء أمر غير معقول.
2- هذا الجواب غير مذكور لا في الدراسات ولا في مصباح الاصول ، ويتعين حصول السيد الشهيد عليه من السيد الخوئي مشافهة.

يمكن حصوله بشكل ثاني بان يقيد جريان البراءة في كل إناء بكونه قبل ارتكاب الإناء الآخر ، فالإناء الأوّل تجري البراءة فيه شريطة ان يكون ارتكابه قبل ارتكاب الإناء الثاني ، وهكذا الإناء الثاني تجري البراءة فيه شريطة كون إرتكابه قبل ارتكاب الإناء الأوّل ، فالبراءة تجري في كل طرف بشرط ان يكون إرتكابه هو الأوّل والأسبق.

كما ويمكن الحصول على التقييد المشروط بشكل ثالث غير الشكلين السابقين بأن يكون جريان البراءة في كل طرف مشروطا بكون إرتكابه بعد ارتكاب الطرف الآخر ، فالإناء الأوّل تجري البراءة فيه شريطة كون ارتكابه بعد ارتكاب الإناء الثاني ، وهكذا الإناء الثاني تجري فيه البراءة مشروطة بكون ارتكابه بعد ارتكاب الإناء الأوّل ، فالبراءة في كل طرف تجري شريطة كون ارتكابه ثانيا.

وعلى ضوء هذا يكون ارتكاب الإناء الأوّل محرما وارتكاب الإناء الثاني هو السائغ فالمولى لا يرخص لا في ارتكاب الإناء الأوّل ولا في ارتكاب الإناء الثاني ولكنه يقول لو عصيت وارتكبت أحد الإنائين فالإناء الآخر منهما ارخصك في إرتكابه.

وإذا كان الترخيص المشروط يمكن حصوله بأحد هذه الإشكال الثلاثة فلا وجه لتقدم الشكل الأوّل الذي اقترحه الشيخ العراقي على الشكلين الآخرين بل تحصل المعارضة بين إشكال التقييد المذكورة ويتساقط الجميع.

مناقشة الوجه الثاني

ويمكن مناقشة الجواب المذكور بان اطلاق الدليل لا يصح تقييده بحالة

ص: 235

معينة إلاّ إذا فرض ان تلك الحالة ليس لها معارض ، اما إذا فرض ان لها معارضا - يمكن لو لا محذور المعارضة ان يشمله اطلاق الدليل - فلا يصح التقييد بها.

وفي مقامنا نقول ان تقييد دليل البراءة في كل طرف بحالة عدم ارتكاب الثاني تقييد ليس له معارض إذ المعارض ليس إلاّ جريان البراءة في كل طرف حتى في حالة ارتكاب الثاني ، وهذه الحالة لا يمكن ان يشملها اطلاق الدليل حتى لو قطع النظر عن المعارضة ، إذ البراءة في كل طرف حالة ارتكاب الطرف الآخر يعني الترخيص في المخالفة القطعية فان ارتكاب الأوّل بعد فرض ارتكاب الثاني موجب للقطع بإرتكاب المحرم ، وهذا بخلاف السبق واللحوق فان اطلاق دليل البراءة كما هو صالح لشمول السابق كذلك هو صالح لشمول اللاحق فهو صالح لشمول كل منهما في نفسه ، ومعه فيكون التقييد بأحدهما بالخصوص بلا وجه بعد ان كان اطلاق الدليل صالحا لشمول كل منهما فان التقييد كما قلنا لا يصح إلاّ بالحالة التي ليس لها معارض يمكن ان يشمله اطلاق الدليل.

وان شئت قلت : ان السيد الخوئي ذكر ان التقييد له أنحاء ثلاثة ولا مرجح لبعضها على الآخر فتتساقط جميعا ، ونحن نقول ان التقييد المقترح من الشيخ العراقي له مرجح حيث انه تقييد لدليل البراءة بحالة ليس لها معارض يمكن ان يشمله اطلاقه - دليل البراءة - بخلاف التقييد بشكليه الآخرين فانه تقييد بحالة لها معارض (1).

ص: 236


1- لا يخفى ان المعارضة يمكن بيانها بشكلين : - أ _ ان تقييد الإباحة في الأوّل الإناء مثلا بما إذا كان أسبق معارض بالاباحة الجارية في الإناء الأوّل نفسه فيما إذا كان متأخرا حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه يشمله أيضا حالة تأخره. وهكذا يقال بالنسبة إلى الإناء الثاني. ب _ ان تقييد الإباحة في الإناء الأوّل بما إذا كان اسبق معارض بالاباحة الجارية في الإناء الثاني بعد ارتكاب الإناء الأوّل حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه كذلك يشمل الإناء الثاني ويدل على اباحته بعد ارتكاب الأوّل. وعبارة الكتاب ظاهرة في إرادة البيان الثاني. ولعل الأوّل هو الأوجه.

الوجه الثالث والجواب الثالث عن شبهة الترخيص المشروط ما أفاده السيد الخوئي أيضا (1). وحاصله : ان دليل الأصل له اطلاقان : اطلاق افرادي واطلاق احوالي ، فحديث « كل شيء لك حلال » يشمل باطلاقه الافرادي الإناء الأوّل والإناء الثاني معا ، وباطلاقه الاحوالي يدل على ان الاناء الأوّل حلال سواء ترك المكلّف الإناء الثاني أم ارتكبه ، وهكذا الإناء الثاني حلال سواء ترك المكلّف الإناء الأوّل أم ارتكبه.

والشيخ العراقي حافظ على الاطلاق الافرادي - ومن هنا جعل دليل الأصل شاملا لكل واحد من الأطراف - وقيّد الاطلاق الاحوالي ، حيث جعل الأصل شاملا لكل طرف ودالا على الترخيص فيه مشروطا بترك الطرف الآخر.

والحفاظ على الاطلاق الافرادي في كل طرف وتقييد الاطلاق الاحوالي ليس باولى من إخراج أحد الطرفين من الإطلاق الإفرادي والاحوالي معا مع بقاء الطرف الآخر مشمولا لهما ، ولازم ذلك ثبوت الترخيص في أحد الإنائين

ص: 237


1- - في الإناء الأوّل نفسه فيما إذا كان متأخرا حيث ان اطلاق « كل شيء لك حلال » كما يشمل الإناء الأوّل حالة سبقه يشمله أيضا حالة تأخره. وهكذا يقال بالنسبة إلى الإناء الثاني.

سواء ارتكب الطرف الآخر أم لا ، بخلاف الطرف الآخر فلا يكون الترخيص ثابتا فيه حتى عند عدم ارتكاب صاحبه.

مناقشة الجواب الثالث

وفيه ما تقدم في مناقشة الجواب الثاني فنفس ما أوردناه هناك نورده هنا ونقول ان صيغة التقييد التي اقترحها الشيخ العراقي أولى إذ لا يلزم بناء عليها حصول معارضه ، حيث ان الاطلاق الافرادي يكون شاملا للطرفين والاطلاق الاحوالي ساقط عنهما جزما ، وهذا بخلافه على هذه الصيغة الجديدة فان إخراج هذا الطرف من الاطلاق الافرادي والاحوالي معا ليس باولى من إخراج ذلك الطرف الآخر منهما.

الوجه الرابع

والجواب الرابع عن شبهة الترخيص المشروط ما أفاده السيد الخوئي أيضا (1). وحاصله : ان كل واحد من الترخيصين المشروطين حكم ظاهري ، والحكم الظاهري لا يمكن جعله وتشريعه إلاّ إذا كان من المحتمل مطابقته للحكم الواقعي. ونحن لو لاحظنا الترخيص المشروط لوجدنا ان مطابقته للواقع غير محتملة إذ لو كان المحرم هو الإناء الأوّل فحرمته حرمة مطلقة - أي سواء ارتكب الإناء الثاني أم لا - ولو كان مباحا فاباحته إباحة مطلقة أيضا. وهكذا الحال في

ص: 238


1- كما في مصباح الاصول ج 2 ص 355 ولم يذكر فيه غير هذا الجواب.

الإناء الثاني.

فالترخيص المشروط إذن لا يحتمل مطابقته للواقع لا في هذا الإناء ولا في ذاك فلا يكون تشريعه معقولا.

مناقشة الجواب الرابع

وفيه : ان اللازم في الحكم الظاهري تواجد ركنين : -

أحدهما : الشكّ في الحكم الواقعي وعدم معلوميته ، إذ الغرض من جعل الحكم الظاهري هو التحفظ على الحكم الواقعي فاذا كان الحكم الواقعي معلوما فلا معنى للتحفظ عليه.

وتوفر هذا الركن واضح.

ثانيهما : كونه صالحا لتنجيز الحكم الواقعي أو التعذير عنه ولو ببعض المراتب. وهذا الركن متوفر أيضا ، فان الملاك اللزومي التحريمي لو كان ثابتا في الطرف المتروك كان الاجتناب عنه منجزا ، ولو كان ثابتا في الطرف المرتكب كان المكلّف معذورا.

هذا ما يعتبر توفره في الحكم الظاهري. وأكثر من ذلك - بان يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي - فغير لازم لعدم الدليل عليه (1).

ص: 239


1- لا يقال : ان جعل الحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للواقع لغو وغير معقول. فانه يقال : ان اللغوية مسلمة لو لم يكن الحكم الظاهري قابلا لتنجيز الحكم الواقعي والتعذير عنه ولو ببعض المراتب وإلاّ كان معقولا.
الوجه الخامس

وتبنى السيد الشهيد قدس سره وجها آخر يرتكز على مبناه في تفسير حقيقة الحكم الظاهري ، فإنه يفسر الحكم الظاهري بالحكم الناشيء من تقديم الملاك الأهم.

وتوضيح الجواب المذكور الذي يرتكز على المبنى السابق يتم ضمن النقاط التالية : -

أ - ان الترخيص المشروط في كل طرف حكم ظاهري ، وما دام حكما ظاهريا فهو وليد عدم اهتمام المولى بالملاك اللزومي.

ب - ان الملاك الأهم لا يخلو واقعا من أحد اشكال ثلاثة. فاما ان يكون الأهم هو ملاك الحرام ، ولازم ذلك جعل الاحتياط وعدم الترخيص لا في هذا الإناء ولا في ذاك.

أو يكون الأهم هو ملاك المباح فيلزم جعل الترخيص في كلا الإنائين.

أو تكون الأهمية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية ، ولازم ذلك الترخيص في أحد الإنائين دون الآخر. ولا يوجد شكل رابع.

وبهذا نعرف ان الاحتمالات المتصورة في أهمية الملاك واقعا لا يتناسب شيء منها والترخيص المشروط ويرفض كل واحد منها الترخيص المشروط ، فان لازم الترخيص المشروط ان يكون عدم الاهتمام في كل طرف منوطا بترك الطرف الآخر وبالتالي يلزم عند ترك كلا الطرفين ان لا اهتمام راسا ، وذلك مما لا يتلائم مع الإشكال المحتملة في أهمية الملاك.

ص: 240

ج - ان مفاد حديث « كل شيء لك حلال » حلية كل واحد من الطرفين حلية مطلقة ثابتة حتى على تقدير ارتكاب الطرف الآخر. ومع التنزل وثلم الاطلاق تحصل حلية مشروطة ، والحلية المشروطة - على ما عرفنا - لا تتلائم مع أهمية الملاك بجميع اشكالها المحتملة واقعا إلاّ على تقدير ارجاع الحليتين المشروطتين الى الترخيص في الجامع ، ولكن ذلك لا يستفاد من دليل البراءة فان المستفاد منه الحلية المطلقة أو الحلية المشروطة دون حلية الجامع - إذ هو لا يقول أحد الإنائين حلال بل يقول كل شيء حلال ، أي كل إناء حلال بحلية مطلقة ، ومع التقييد يدل على حلية كل إناء حلية مشروطة - فما يمكن ان يستفاد منه لا يتلائم مع أهمية الملاك ، وما يتلائم وأهمية الملاك لا يستفاد منه (1).

قوله ص 89 س 3 : الاصول الشرعية المؤمنة : كأصالة البراءة وأصالة الطهارة. وإنما سميت بالمؤمنة لأنها تنفي وجوب الإجتناب وتؤمن منه.

والتقييد بالمؤمنة من جهة ان الاصول المنجزة - كاستصحاب النجاسة - قد تقدم إمكان جريانها في جميع الأطراف - خلافا للشيخ الأعظم - فضلا عن بعضها.

قوله ص 89 س 4 : في بعض الأطراف : بعد الفراغ عن عدم إمكان

ص: 241


1- لا يقال : انكم إذا قبلتم امكان استفادة الترخيص المشروط من الدليل الدال على الترخيص المطلق فاقبلوا إمكان استفادة الترخيص في الجامع أيضا لعدم الفرق. فإنه يقال : ان هذا قياس مع الفارق فان الترخيص المشروط يمكن استفادته من الدليل المطلق باعتبار انه يدور الأمر بين رفع اليد عن دليل البراءة راسا وبين رفع اليد عن إطلاقه مع الحفاظ على أصله ، ولا إشكال في ان الثاني هو الأرجح لقاعدة الضرورة تقدر بقدرها ، وهذا بخلاف الترخيص في الجامع فانه لا يمكن تطبيق البيان المذكور فيه. ثمّ ان عبارة الكتاب في هذا الموضع وما قبله لا تخلو من غموض وإبهام بيّن.

جريانها في جميع الأطراف للمحذور العقلي أو العقلائي.

قوله ص 89 س 7 : ثبوتا : أي واقعا بقطع النظر عن منأدلة الاصول وإلاّ فبلحاظها فالبحث اثباتي. وسيأتي ان الاصول متعارضة في الأطراف أحيانا وغير متعارضة أحيانا اخرى.

قوله ص 90 س 3 : في ذلك : أي في إمكان جريان الأصل المؤمن فى بعض الأطراف وعدمه.

قوله ص 90 س 7 : فان فعليته : أي فعلية استدعاء المقتضي لما يقتضيه.

قوله ص 92 س 10 : في مقام الحفظ : متعلق بقوله « لتقديم » ، فان ملاك الإباحة يريد التحفظ على نفسه وذلك بجعل الإباحة في كلا الطرفين وملاك الحرمة يريد التحفظ على نفسه أيضا وذلك بجعل الاحتياط في كلا الطرفين.

قوله ص 92 س 12 : فلا معنى للقول بان أحد اللسانين ممتنع دون الآخر : أي فلا معنى للتسليم بإمكان لسان قاعدة الفراغ وعدصم إمكان لسان أصالة البراءة بل إذا امكن الأوّل أمكن الثاني أيضا.

قوله ص 93 س 6 : على نحو واحد : أي ليس شموله لبعض الأطراف أولى من شموله للبعض الآخر.

قوله ص 94 س 6 : عل : الصواب : على.

قوله ص 94 س 8 : وان كان لا يؤدي إلى الترخيص : لا يخفى ما في العبارة من الاغلاق والغموض. والمناسب : وان كان لا يؤدي إلى تحقق المخالفة القطعية خارجا ولكنه يؤدي إلى الترخيص فيها.

قوله ص 95 س 10 : فقد يجري الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر :

ص: 242

هذا إشارة إلى صيغة الشيخ العراقي.

قوله ص 95 س 11 : قبل الآخر : أي قبل ارتكاب الآخر.

قوله ص 95 س 13 : ان التقييد إنّما يراد لإلغاء : لعل العبارة الاوضح : ان التقييد لا يصح بلحاظ الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإنّما يصح بلحاظ الحالة التي لا معارض الخ.

قوله ص 95 س 15 : كذلك : أي من حالات الطرف الآخر.

قوله ص 96 س 8 : الدفع الأوّل : وهو رفع اليد عن الاطلاقين الاحواليين. والمراد من « الدفع الثاني » : رفع اليد عن الاطلاق الإفرادي والاحوالي في أحد الطرفين خاصة.

قوله ص 97 س 2 : ومدلوله التصديقي : عطف تفسير.

قوله ص 97 س 4 : كذلك : أي بعدم ارتكاب الآخر.

قوله ص 97 س 7 : مرتبة ناقصة : أي متوسطة فإنها ناقصة عن المرتبة العالية.

قوله ص 97 س 8 : تقتضي التحفظ الإحتمالي : والتحفظ الإحتمالي يحصل بالترخيص في الجامع فانّ من ترك طرفا وأتى بطرف يحتمل تحقق الملاك اللزومي ضمن الطرف الذي أتى به.

قوله ص 97 س 9 : واستفادة ذلك : أي المرتبة الناقصة من الإهتمام التي تقتضي التحفظ الإحتمالي.

قوله ص 97 س 10 : بإطلاق دليل الأصل : بعد تعذر العمل بالاطلاقين وإفتراض ان الضرورة تقدر بقدرها.

ص: 243

ص: 244

الثمرة بين مسلك العلية والاقتضاء

قوله ص 97 س 13 : وفي ضوء ما تقدم إلخ : إتضح من خلال ما سبق انّ شبهه الترخيص المشروط التي اقترحها الشيخ العراقي باطلة للوجه الخامس من الوجوه الخمسة المتقدمة.

وقد يقول قائل : لو قبلنا شبهة الترخيص المشروط أمكن تحقق الثمرة العملية بين مسلك العلية ومسلك الاقتضاء ، إذ على مسلك الاقتضاء الذي يتبناه الميرزا في فوائد الاصول يكون إجراء الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي بشكل مشروط أمرا ممكنا ، ونتيجته عدم وجوب الموافقة القطعية بينما على مسلك العلية لا يمكن اجراء الاصول ولو بشكل مشروط ونتيجته وجوب الموافقة القطعية بترك كلا الطرفين ، وكفى بهذا المقدار ثمرة بين المسلكين.

وأمّا إذا لم نقبل فكرة الترخيص المشروط - كما هو المفروض - فلا تبقى ثمرة عملية بين المسلكين.

والميرزا حيث لم يقبل الفكرة المذكورة انكر تحقق الثمرة العملية بين المسلكين وذكر انه على كلا المسلكين تجب الموافقة القطعية ولا يوجد فارق عملي يترتب عليهما.

هذا ولكن الشيخ العراقي ذكر ان هناك حالة يمكن جريان الأصل فيها في أحد الطرفين بلا معارض وتتحقق الثمرة العملية فيها بين المسلكين. وتلك هي

ص: 245

الحالة الاولى من الحالات الثلاث التي سنذكرها بعد قليل. والسيد الشهيد يضيف حالتين أخريين ويقول بان الثمرة بين المسلكين يمكن تحققها في بعض الحالات الثلاث التالية (1) التي يجمعها جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، فإنه في هذه الحالات الثلاث إذا أخذنا مسلك العلية بعين الإعتبار فلا يمكن جريان الأصل في أحد الطرفين حتى وان لم يكن له معارض ، ونتيجة ذلك وجوب الموافقة القطعية بينما إذا اخذنا مسلك الاقتضاء بعين الاعتبار فلا تجب الموافقة القطعية بل يجوز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل بلا معارض.

ص: 246


1- عبّرنا ببعض الحالات الثلاث دون جميعها لما ستأتي من عدم تمامية الحالة الاولى التي ذكرها الشيخ العراقي.

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض

اشارة

والحالات الثلاث هي كما يلي : -

الحالة الاولى

وهي الحالة التي ذكرها الشيخ العراقي. وحاصلها : إنّه لو فرضنا وجود إنائين : رقم (1) ورقم (2) ، وعلمنا بوقوع نجاسة في أحدهما وفرضنا ان اناء رقم (2) كنا نعلم بطهارته سابقا بينما إناء رقم (1) كنا نجهل حالته السابقة.

في مثل هذه الحالة تحصل لدينا ثلاثة اصول : أصل الطهارة في إناء رقم (1) وأصل الطهارة في إناء رقم (2) واستصحاب الطهارة في إناء رقم (2) ، وتثبت المعارضة بين أصلين من هذه الاصول ، وهما أصل الطهارة في رقم (1) واستصحاب الطهارة في رقم (2) ، فان أصل الطهارة في رقم (1) يقول ان إناء رقم (1) طاهر واستصحاب الطهارة في رقم (2) يقول ان إناء رقم (2) طاهر ، وحيث إنّه لا يمكن جريانهما معا للعلم بطرو النجاسة على أحد الإنائين فيحصل التعارض بينهما ويتساقطان. وبعد تساقطهما يبقى أصل الطهارة في إناء رقم (2) بلا معارض فنرجع إليه ونثبت ببركته طهارة إناء رقم (2).

وهنا تظهر الثمرة بين المسلكين إذ بناء على مسلك الاقتضاء يجري أصل الطهارة المذكور ويثبت بذلك طهارة إناء رقم (2) ، فان منجزية العلم الإجمالي

ص: 247

بناء على المسلك المذكور تتوقف على عدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف فاذا فرضنا ان الأصل يجري في بعض الأطراف بلا معارض لم يكن العلم الإجمالي منجزا بينما على مسلك العلية حيث يستحيل الترخيص في بعض الأطراف فأصل الطهارة المذكور لا يجري وان لم يكن له معارض ، وإذا لم يمكن جريانه فلا يمكن الحكم بطهارة إناء رقم (2).

وقد تسأل : لماذا افترض حصول المعارضة بين أصل الطهارة في رقم (1) واستصحاب الطهارة في رقم (2) ولم نفترض دخول أصل الطهارة رقم (2) في مجال المعارضة ليسقط بالمعارضة كما سقط صاحباه؟

والجواب : ان إناء رقم (2) يوجد فيه أصلان : استصحاب الطهارة وأصل الطهارة ، وواضح ان استصحاب الطهارة أصل حاكم على أصل الطهارة بمعنى أنه لو جرى استصحاب الطهارة تثبت طهارة إناء رقم (2) ويزول الشكّ في طهارته وبالتالي فلا يمكن جريان أصل الطهارة فيه لأنّ موضوع أصل الطهارة الشكّ (1) فاذا زال الشكّ لم يجر ، ومن هنا قيل ان أصل الطهارة هو في طول عدم جريان استصحاب الطهارة (2) بمعنى ان جريان أصل الطهارة يتوقف على عدم جريان استصحاب الطهارة ، إذ بجريانه يزول الشكّ الذي هو موضوع أصل الطهارة.

ص: 248


1- وزوال الشكّ حيث أنه ليس حقيقيا بل تعبديا سمي استصحاب الطهارة بالاصل الحاكم ، أي الرافع لموضوع الأصل الآخر رفعا تعبديا في مقابل الأصل الوارد الذي يرفع موضوع الأصل الآخر رفعا حقيقيا.
2- وقد يعبر عنهما بالاصلين الطوليين ، أي ان أحدهما وهو أصل الطهارة في طول عدم استصحاب الطهارة.

وبإتضاح هذه الطولية يتضح ان أصل الطهارة رقم (2) لا يمكن ان يدخل في مجال المعارضة مع صاحبيه فلا يمكن ان يقف إلى جانب صاحبه - وهو استصحاب الطهارة - في مقابل أصل الطهارة رقم (1) ، إذ استصحاب الطهارة ما دام حيا ولم يمت بالمعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) فلا وجود لأصل الطهارة رقم (2) ليقف إلى جانب استصحاب الطهارة ويموت بالمعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) بل لا بدّ وان يموت استصحاب الطهارة أوّلا بسبب المعارضة مع أصل الطهارة رقم (1) وبعد ذلك تتولد الحياة في أصل الطهارة رقم (2).

وقد سجل الشيخ العراقي هذه الحالة نقضا على مسلك الاقتضاء الذي اختاره الميرزا وقال إنّه بناء على المسلك المذكور يلزم الحكم بطهارة إناء رقم (2) في الحالة المذكورة لجريان أصل الطهارة فيه بلا معارض والحال ان الحس المتشرعي يأبى عن الحكم بجواز ارتكاب أحد طرفي العلم الإجمالي ، فالصناعة الاصولية وان لم تأب عن جواز ارتكاب إناء رقم (2) والحكم بطهارته طبقا لأصالة الطهارة الجارية فيه بلا معارض ولكن الحس المذكور يأبى عن ذلك.

وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدل على بطلان مسلك الاقتضاء الذي لازمه إمكان الترخيص في بعض الأطراف (1) وبالتالي عدم وجوب الموافقة القطعية.

ص: 249


1- وهناك محاولات للتخلص من النقض المذكور لم يشر في الكتاب إلى شيء منها. وفي تعبير السيد الشهيد بكلمة « قد » حيث قال فقد يقال ... إشارة إلى تضعيف نقض الشيخ العراقي. والظاهر ان تمامية هذه الحالة لا تتوقف على افتراض الحكومة إذ استصحاب الطهارة ان لم يكن حاكما على أصالة الطهاره وقعت المعارضة بين أصلي الطهارة وابتلى بالإجمال في داخله ولم يدخل الاستصحاب في مجال المعارضة لأنّ أصلي الطهارة ما داما من سنخ واحد فدليل قاعدة الطهارة يكون قاصرا عن إثبات قاعدة الطهارة ويجري الاستصحاب بلا معارض. أجل بناء على الحكومة يكون الأصل الجاري بلا معارض هو قاعدة الطهارة في الإناء الثاني بينما بناء على عدم الحكومة يكون ذلك الأصل هو استصحاب الطهارة.

هذا على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فلا يجري الأصل المذكور وان لم يكن له معارض وبالتالي تجب الموافقة القطعية. وبهذا تظهر الثمرة بين المسلكين.

الحالة الثانية

وقبل توضيح الحالة الثانية نشير إلى مقدمة وهي ان الشكّ في نجاسة الشيء له شكلان ، فتارة يشك في نجاسته الذاتية واخرى يشك في نجاسته العرضية ، فنجاسة الماء الذي يشك في تنجسه بالبول نجاسة عرضية ، إذ الماء في نفسه طاهر وإنّما يشك في عروض النجاسة عليه بسبب البول ، وهذا بخلاف الشكّ في نجاسة الخمر فإنه ليس شكا في عروض نجاسة من الخارج عليه وإنّما يحتمل نجاسته في نفسه.

وبعض الفقهاء يرى انّ قاعدة الطهارة يختص جريانها بالموارد التي يشكّ في نجاستها العرضية ولا تشمل حالة الشك في النجاسة الذاتية ، فهي تجري لإثبات طهارة الماء الذي يشك في تنجسه بالبول مثلا ولا تجري لإثبات طهارة مثل الخمر (1).

ص: 250


1- بتقريب ان مدرك أصالة الطهارة اما موثقة عمار الساباطي التي تقول : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » أو هو الروايات الخاصة الواردة في المجالات الخاصة من قبيل قول أمير المؤمنين عليه السلام : « لا أبالي أبول اصابني أو ماء ». وكلاهما لا يمكن التمسك به لاثبات الطهارة عند الشكّ في النجاسة الذاتية. أما الأوّل فلإحتمال ان « قذر » فعل ماض أي قذر أو بتعبير آخر حتى تعلم أنه تقذر ، وبناء عليه تكون الرواية خاصة بموارد الشك في التقذر الطارئ. وأمّا الثاني فلأن الروايات الخاصة واردة في موارد النجاسة الطارئة فان الشكّ في أصابة البول أو الماء للبدن شكّ في تنجس طارئ.

وباتضاح هذه المقدمة نقول في توضيح الحالة المذكورة : لو فرض لدينا سائلان نعلم اجمالا أما الأوّل منهما خل تحول إلى الخمر والثاني منهما ماء طاهر أو ان الثاني منهما ماء تنجس بالبول والأوّل منهما خل لم يتحول إلى خمر فأحدهما نجس حتما والآخر طاهر حتما ولكن النجس منهما ان كان هو الأوّل واقعا فنجاسته ذاتية (1) ، وان كان هو الثاني فنجاسته عرضية.

وفي مثل ذلك يجري في الإناء الأوّل استصحاب الطهارة - حيث إنّه كان خلا سابقا ويشك في تبدله إلى الخمرية - دون أصالة الطهارة لأنّ الشكّ ليس في طرو نجاسة عليه من الخارج بينما في الإناء الثاني يجري استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة.

وإذا تجلت فرضيات المثال المذكور نقول : ان الاستصحاب لا يمكن جريانه في كلا الإنائين - للزوم الترخيص في المخالفة القطعية - ولا في أحدهما لكونه ترجيحا بلا مرجح. ومع عدم جريان الاستصحاب يجري أصل الطهارة في الإناء الثاني بلا معارض ، إذ المعارض أمّا استصحاب الطهارة في الإناء الأوّل ، والمفروض سقوطه بالمعارضة ، أو أصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، والمفروض

ص: 251


1- لأن الخمر نجس في ذاته وليس بسبب طارئ.

قصوره في نفسه عن الجريان.

وينبغي ان يكون واضحا ان هذه الثمرة تتم حتى لو لم نقل بحكومة استصحاب الطهارة على أصل الطهارة - بخلافه في الثمرة الاولى فإنها لا تتم إلاّ بناء على الحكومة - والوجه في ذلك : ان الأصلين - وهما الاستصحابان - في هذه الحالة هما من سنخ واحد فيكون دليل الاستصحاب مبتلى بالإجمال في حدّ نفسه فيجري أصل الطهارة بلا حاجة إلى فرض الحكومة بخلافه في الحالة الاولى فإن أصل الطهارة والاستصحاب ليسا من سنخ واحد (1).

الحالة الثالثة

وفي هذه الحالة نفترض وجود انائين رقم (1) ورقم (2) نعلم إجمالا بطرو النجاسة على أحدهما ، ونفترض أيضا ان الحالة السابقة لكل منهما معلومة وهي

ص: 252


1- قد يقال : ذكر في هذه الحالة عدم الحاجة إلى افتراض الحكومة إذ الاستصحاب في هذا الإناء مع الاستصحاب في ذاك الإناء حيث انهما من سنخ واحد فدليل الاستصحاب يصبح مجملا لا يمكنه ان يشملها معا ، ومع إجماله يجري أصل الطهارة في الطرف الثاني دون معارض ، من دون فرق بين البناء على الحكومة وعدمه. هكذا ذكر. وقد يقال : ان نفس هذا يمكن تسريته إلى الحالة الاولى أيضا فيقال إنّه لا حاجة الى افتراض الحكومة فيها ، إذ أصل الطهارة في ذاك الإناء مع أصل الطهارة في هذا الإناء هما من سنخ واحد ، وبسبب وحدة السنخ يصبح دليل أصل الطهارة مجملا فيتمسك بالاستصحاب الجاري في أحد الطرفين دون مانع بلا حاجة إلى افتراض الحكومة. والجواب : ان هذا كلام وجيه ، ولكن حيث ان الحالة الاولى ذكرها الشيخ العراقي وقد بناها هو قدس سره على الحكومة لذا بناها السيد الشهيد أيضا على الحكومة ، وإذا لم يبنها على الحكومة صارت عين الحالة الثانية.

الطهارة ، أي انّ كلا منهما يجري فيه استصحاب الطهارة ، ونفترض فرضية ثالثة وهي ان إناء رقم (2) كان سابقا طاهرا ونجسا بحيث طرأت عليه حالتان : الطهارة والنجاسة ولا نعلم الحالة المتقدمة منهما على الاخرى.

في مثل ذلك يجري استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) بلا ان يعارضه استصحاب آخر في إناء رقم (2) إذ استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) مبتلى في نفسه بالمعارض وهو استصحاب النجاسة حيث ان المفروض ثبوت الطهارة والنجاسة في الإناء المذكور ، فكما يجري استصحاب الطهارة فيه يجري استصحاب النجاسة أيضا فيتعارضان ويسقطان (1) ويبقى استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) جاريا بلا معارض.

وفي مثل هذه الحالة تظهر الثمرة بين مسلك العلية ومسلك الاقتضاء ، فعلى مسلك العلية لا يجري الاستصحاب المذكور وان لم يكن له معارض بينما على مسلك الاقتضاء يجري.

هذا بناء على ان استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) لا يجري لمعارضة استصحاب النجاسة له فيجري استصحاب الطهارة في إناء رقم (1) بلا معارض. ولكن هناك رأي يقول ان استصحاب الطهارة في إناء رقم (2) ليس معارضا لاستصحاب النجاسة فقط بل يقف معارضا لاستصحاب الطهارة في إناء رقم (1)

ص: 253


1- التعبير بجريان استصحاب النجاسة والطهارة وتساقطهما فيه شيء من المسامحة إذ لا معنى لأن يعبدنا الشارع بجريان الاستصحابين المتعارضين ثم الحكم بتساقطهما. والتعبير الصحيح بلا مسامحة : ان دليل الاستصحاب قاصر عن شمول الاستصحابين لتعارضهما فلا يجر لان أصلا.

أيضا ، ومعه فيسقط الجميع بالمعارضة ولا يبقى لدينا أصل يجري بلا معارض. وبناء على هذا لا تظهر ثمرة عملية بين المسلكين وإنّما تظهر على الرأي الأوّل فقط.

وتحقيق ما هو الصحيح من هذين الرأيين يترك لبحث الخارج.

خلاصة ما تقدّم

والخلاصة من كل ما تقدم ان العلم الإجمالي : -

1 - يستدعي حرمة المخالفة القطعية - بمعنى حرمة ارتكاب كلا الإنائين معا - من دون فرق بين رأي المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ورأي السيد الشهيد القائل بمنجزية الإحتمال.

2 - ويستدعي أيضا وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى أنه يجب ترك كلا الإنائين ولا يجوز ارتكاب حتى الواحد منهما ، وذلك من جهة ان إحتمال الحرمة الثابت في كل إناء ينجز وجوب تركه فان إحتمال التكليف منجز على مسلك حق الطاعة.

أجل الإحتمال منجز في نظر العقل بشرط عدم ترخيص الشارع في ارتكاب كلا الإنائين وإلاّ لم يكن منجزا ، فان حكم العقل بمنجزية الإحتمال معلق على عدم ترخيص الشارع في مخالفة الإحتمال ، ومن هنا لم يكن الإحتمال منجزا إلاّ إذا تعارضت الاصول في الطرفين فإنّه بعد المعارضة والتساقط لا يبقى ترخيص في أحد الطرفين فيكون الإحتمال منجزا.

وبهذا نعرف ان توقف المنجزية على تعارض الاصول في الأطراف لا يختص

ص: 254

برأي الميرزا بل على رأي السيد الشهيد أيضا كي يصير الإحتمال منجزا.

أجل بناء على رأي الشيخ العراقي القائل بمسلك العلية لا يحتاج إلى افتراض تعارض الاصول.

لا يقال : بعد افتراض تعارض الاصول لماذا تنسب المنجزية إلى العلم الإجمالي بل المناسب على رأي السيد الشهيد نسبتها إلى الإحتمال بان يقال الإحتمال منجز ولا يقال العلم الإجمالي منجز؟

والجواب : ان العلم الإجمالي حيث انّه السبب لتعارض الاصول في الأطراف وتساقطها - إذ لولاه لم تتعارض الاصول وتتساقط - الموجب ذلك لصيرورة الإحتمال منجزا صح نسبة المنجزية إلى العلم الإجمالي.

العلم الإجمالي بأحد نوعي التكليف منجز

العلم الإجمالي تارة يتعلق بنوع واحد للتكليف واخرى يتعلق بثبوت أحد نوعين للتكليف.

مثال الأوّل : العلم الإجمالي بالحرمة الثابتة أمّا في هذا الإناء أو في ذاك ، فان الحرمة نوع واحد للتكليف.

ومثال الثاني : إذا علم المكلّف بأنّه نذر امّا ترك التدخين أو فعل قراءة القرآن ، فان التردد في النذر المذكور يوجب العلم اجمالا أما بحرمة التدخين أو وجوب القراءة.

والعلم الإجمالي منجز حتى في الحالة الثانية لأنّ أصالة البراءة عن حرمة التدخين ما دامت معارضة لأصالة البراءة عن وجوب القراءة يصير الإحتمال في

ص: 255

كلا الطرفين منجزا.

العلم الإجمالي بموضوع التكليف

العلم الإجمالي تارة يتعلق بالتكليف كالعلم بثبوت الوجوب اما للظهر أو للجمعة. ومثل هذا العلم لا إشكال في كونه منجزا.

واخرى يتعلق بموضوع التكليف كالعلم الإجمالي بنجاسة اما هذا الماء أو ذاك الماء - فان النجاسة ليست حكما تكليفيا وإنّما هي موضوع لحرمة الشرب التي هي حكم تكليفي - ومثل هذا العلم الإجمالي منجز أيضا ، إذ العلم بثبوت النجاسة في أحد الإنائين يستلزم العلم بثبوت حرمة الشرب لأحد الإنائين.

ومن هنا فلا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين كونه متعلقا بنفس التكليف أو بالموضوع.

يلزم العلم بكامل الموضوع

والموضوع الذي يتعلق به العلم تارة يكون موضوعا كاملا للتكليف كالعلم بثبوت النجاسة لأحد المائين ، فان نجاسة الماء موضوع كامل لحرمة الشرب.

واخرى يكون جزء موضوع التكليف كالعلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذه الحديدة أو تلك الحديدة ، فان نجاسة الحديدة ليست موضوعا كاملا لتكليف ، فلا يحرم حمل الحديدة النجسة ولا يحرم حفظها ولا ... أجل لو لاقت الحديدة الماء ثبتت حرمة شربه ، ولكن هذه الحرمة ليس موضوعها نجاسة الحديدة فقط

ص: 256

بل نجاسة الحديدة مع ملاقاتها للماء ، فنجاسة الحديدة جزء موضوع الحكم بحرمة الشرب وليست تمام الموضوع له.

وبإتضاح هذا نقول إنّ العلم الإجمالي بالموضوع إنّما يكون منجزا فيمّا لو كان الموضوع موضوعا كاملا دون ما إذا كان جزء الموضوع ، إذ العلم بتحقق الموضوع الكامل يستلزم العلم بثبوت التكليف دون العلم بجزء الموضوع فإنّه لا يستلزم ذلك (1).

كما وينبغي الالتفات إلى ان الموضوع الكامل يلزم ان يكون موضوعا كاملا على كلا التقديرين لا على أحد تقديرين دون آخر.

مثال الموضوع على كلا التقديرين : العلم بنجاسة أمّا هذا الماء أو ذاك الماء ، فإنّ النجاسة على تقدير ثبوتها لهذا الماء فهي موضوع كامل لحرمة شربه وعلى تقدير ثبوتها لذاك الماء فهي موضوع كامل لحرمة شربه أيضا.

ومثال الموضوع على أحد تقديرين : العلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذا الماء أو تلك الحديدة ، فإنّ النجاسة على تقدير ثبوتها للماء هي موضوع كامل لحرمة شربه وعلى تقدير ثبوتها للحديدة هي جزء الموضوع.

والعلم الإجمالي بالموضوع إذا لم يكن علما إجماليا بالموضوع على كلا التقديرين فهو ليس بمنجز لأنّه لا يكون علما بثبوت التكليف الفعلي حتى يكون منجزا بل هو شكّ في ثبوته ، إذ على تقدير ثبوت النجاسة للماء تكون الحرمة ثابتة وأمّا على تقدير ثبوتها للحديدة فهي ليست بثابتة. والعلم الإجمالي إنّما

ص: 257


1- طبيعي فيما إذا لم يكن الجزء الثاني - وهو الملاقاة - معلوم التحقق.

يكون منجزا لو كان علما بثبوت التكليف الفعلي دون ما إذا كان مستلزما للشكّ في ثبوت التكليف لا العلم به.

الضابط العام

والضابط العام لمنجزية العلم الإجمالي هو أن يكون موجبا للعلم بتحقق التكليف الفعلي ، فمتى لم يكن موجبا لذلك - كالعلم بثبوت جزء الموضوع أمّا على كلا التقديرين أو على تقدير دون تقدير - فلا يكون منجزا ، ومع عدم منجزيته فلا مانع من جريان الاصول في أطرافه ، ولكن بقدر الحاجة لا أكثر. فمثلا العلم الإجمالي بنجاسة أمّا هذه الحديدة أو ذاك الماء ليس منجزا لأنّه ليس علما بالموضوع الكامل على كلا التقديرين بل على تقدير دون آخر ، ومعه فلا مانع من جريان أصل الطهارة بالنسبة إلى الماء ، ويترتّب على ذلك أثر عملي وهو جواز شربه ولا يجري بالنسبة إلى الحديدة لعدم ترتّب أثر عملي على نجاستها.

قوله ص 98 س 16 : انّ المقتضي لها إثباتا : وهو الشكّ في الطهارة فإنّه المقتضي لأصالة الطهارة إثباتا ، أي بحسب لسان الأدلة.

قوله ص 99 س 5 : الأصل الطولي : وهو أصالة الطهارة في الطرف الثاني ، وهي أصل طولي ، أي في طول عدم جريان استصحاب الطهارة.

قوله ص 100 س 2 : أن يكون الأصل المؤمن : أي يكون استصحاب الطهارة في إناء رقم 2 مبتلى باستصحاب النجاسة الذي هو أصل منجز لوجوب الاجتناب.

قوله ص 100 س 11 : المبتلى : أي الجاري في اناء رقم 2 الذي هو مبتلى

ص: 258

باستصحاب النجاسة.

قوله ص 100 س 17 : وانه كلما الخ : هذا اشارة إلى استدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

قوله ص 101 س 13 : على كل تقدير أو على بعض التقادير : سيأتي منه قدس سره في الصفحة التالية ذكر الامثلة لذلك.

قوله ص 101 س 17 : اما الأوّل : أي عدم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة احدى الحديدتين.

قوله ص 102 س 3 : واما الثاني : أي منجزية العلم الإجمالي بنجاسة احد المائين أو بنجاسة احد الثوبين.

قوله ص 102 س 4 : ومثل الأوّل : هذا اشارة الى صورة كون العلم الاجمالي علما بالموضوع الكامل على احد تقديرين.

والمقصود : ان العلم الإجمالي بما يكون جزء الموضوع على كلا التقديرين هو مثل العلم الإجمالي بما يكون جزء الموضوع على احد تقديرين فكلاهما ليس منجزا.

ص: 259

ص: 260

أركان المنجزية

اشارة

قوله ص 103 س 1 : نستطيع ان نستخلص الخ : منجزية العلم الاجمالي لها اربعة اركان على ما قرأنا في الحلقة الثانية ، وكما اتضح من خلال الابحاث السابقة (1). وتلك الأركان هي : -

الركن الأوّل

اشارة

لا بدّ من تعلق العلم بالجامع ، فالمكلف لا بدّ وان يعلم مثلا بثبوت أحد وجوبين اما وجوب الظهر أو وجوب الجمعة ، إذ لو لم يعلم بذلك فأمّا ان يكون عالما بخصوص وجوب الظهر مثلا - وهذا معناه ان علمه تفصيلي وليس إجماليا ، وهو خلف الفرض - أو يكون شاكا في أصل ثبوت احد وجوبين ، وهذا معناه ان الشبهة بدوية - تجري فيها البراءة - وليست مقرونة بالعلم الاجمالي.

وهذا واضح. والذي نريد التحدث عنه هو ان العلم الإجمالي المنجز هل هو خصوص العلم الإجمالي الوجداني أو الأعم منه ومن العلم الإجمالي التعبدي ، فان العلم الإجمالي له شكلان ، فتارة يكون علما وجدانيا كما إذا حصل القطع بنجاسة احد انائين واخرى يكون علما تعبديّا ، كما لو لم يقطع المكلّف بنجاسة

ص: 261


1- كقوله قدس سره قوله ص 100 السطر الأخير : « وانه كلما تعارضت الاصول ... ». وقوله ص 102 س 6 : « والضابط العام للتنجير. .. »

احد الانائين وانما قامت البينة على ذلك ، فانّه بقيام البينة لا يحصل العلم الوجداني بنجاسة احد الانائين وانما الشارع عبّدنا بالتعامل مع البينة معاملة العلم الوجداني.

اما العلم الاجمالي الوجداني فلا إشكال في كونه منجزا ، وإنما الإشكال في العلم الإجمالي التعبديّ الحاصل بالبينة فهل هو منجز كالعلم الاجمالي الوجداني أو لا؟

وفي هذا المجال يوجد رأيان : -

أحدهما يقول : نعم البينة تنجز كالعلم الوجداني لأن الشارع بعد ان جعلها حجّة - والمفروض ان معنى جعل الحجّية هو جعل العلمية كما هو رأي الشيخ الأعظم والميرزا - تصير كالعلم الوجداني ، فكما ان من اثار العلم الوجداني المنجزية كذلك يصير من آثار البينة المنجزية. وإذا صارت البينة منجزة فلازم ذلك عدم جريان أصل الطهارة لا في هذا الأناء ولا في ذاك كما هو الحال في العلم الإجمالي الوجداني تماما.

وثانيهما يقول : انه لا محذور في اجراء أصل الطهارة في هذا الإناء وفي ذاك إذ المحذور في إجراء الأصليين ليس هو إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهذا المحذور ليس ثابتا عند قيام البينة ، إذ من المحتمل خطؤها ، بان لا يكون هذا الإناء ولا ذاك نجسا ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يحصل القطع بالمخالفة باجراء الاصلين وارتكاب الانائين.

هذا ولكن كلا الرأيين ليس بصحيح من الوجهة الفنية كما سيتضح.

والمناسب ان يقال : ان البينة تارة تشهد بالجامع ، كما لو قالت ان احد

ص: 262

الانائين نجس ، واخرى تشهد بنجاسة اناء معين فتقول مثلا الإناء الموجود على اليمين نجس ثم يفرض اشتباهه واختلاطه بالشمالي بشكل لا يمكن التمييز.

الحالة الاولى

اما في الحالة الأولى - وهي ما إذا شهدت البينة بنجاسة أحد الانائين - فيوجد دليلان كل منهما يقتضي شيئا يتنافى وما يقتضيه الآخر.

والدليلان هما : دليل حجّية البينة ودليل أصل الطهارة ، فانّ دليل أصل الطهارة يقول ان كل واحد من الانائين حيث انّك تشك في طهارته فيمكنك اجراء أصل الطهارة فيه وارتكابه ، بينما دليل حجّية البينة يقول كلا لا يجوز اجراء الأصليين إذ البينة حجّة والمفروض شهادتها بنجاسة أحد الانائين.

وأصحاب الرأي الأوّل قدّموا الدليل الأوّل - أي دليل حجّية البينة - ولم يعيروا أهمية لدليل أصل الطهارة فطرحوه جانبا ، وعلى اساس ذلك قالوا بلزوم ترك كلا الانائين.

بينما أصحاب الرأي الثاني قدّموا الدليل الثاني - أي دليل أصل الطهارة - واجروا أصل الطهارة في كلا الانائين ولم يعيروا اهمية لدليل حجّية البينة.

وبهذا إتضح الوجه فيما قلناه سابقا ، حيث ذكرنا ان كلا هذين الوجهين ليس على صواب من الوجهة الفنية ، فإنّه بعد وجود دليلين معتبرين بايدينا لا وجه للأخذ بأحدهما وطرح الآخر بعد حجّيتهما معا ، فإنّ الدليل الحجّة لا وجه لطرحه دون مبرر.

والصحيح ان نجمع بين الدليلين ونوفق بينهما ونعمل بعد ذلك بالنتيجة التي

ص: 263

يقتضيها الجمع.

والصحيح في الجمع بين دليل حجّية البينة ودليل الأصل - كما سوف يأتي في بحث تعارض الأدلة ص 363 في هذا القسم من الحلقة - ان يقال : ان العرف يقدم البينة على الأصل من جهة الاخصية أو النصيّة حيث انه في الغالب لا يخلو مورد البينة من أصل من الاصول العملية ، فلو كانت حجّية البينة مختصة بغير مورد الأصل كان ذلك بمثابة الغاء البينة. وهذا معنى كون دليل البينة اخص. بل يمكن القول بان دليل حجّية البينة وأمثالها من الامارات الاخرى نص في الشمول لموارد جريان الأصل وواردة في مورد اجتماع البينة والأصل لتقول خذ بالبينة واطرح الأصل.

وإذا تم الجمع بتقديم دليل البينة للاخصيّة أو النصيّة فاللازم عدم جريان أصل الطهارة في الانائين ، لأن جريانه في كلا الانائين خلف تقدم دليل البينة للاخصيّة أو النصيّة ، وجريانه في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

والنتيجة على ضوء هذا : لزوم التحرز عن كلا الانائين لعدم جريان أصل الطهارة في شيء منهما.

وهذه النتيجة وان وافقت الرأي الأوّل القائل بتقديم دليل البينة ولكنه تقديم بعد الجمع بين الدليلين أو بتعبير آخر : تقديم لدليل البينة لنكتة فنية وليس بلا مبرر.

لا يقال : لماذا لا نقول بتقدم دليل البينة على أصل الطهارة من جهة الحكومة - كما كان يقول أصحاب الرأي الأوّل حيث قالوا بان معنى حجّية الأمارة جعلها علما ، وما دامت علما فهي ترفع موضوع اصل الطهارة « وهو

ص: 264

الشكّ » بالتعبد - ولا داعي إلى الجمع بالاخصيّة أو النصيّة أو غير ذلك.

فانّه يقال : ان البينة حيث دلت على الجامع فالجامع يصير معلوما ، أي ان احدى النجاستين تصير معلومة لا نجاسة هذا الإناء بالخصوص أو نجاسة ذاك بالخصوص ، ومع عدم العلم بنجاسة هذا بالخصوص أو ذاك فلا مانع من جريان أصل الطهارة في الطرفين فان موضوعة - وهو الشكّ - محفوظ في خصوص هذا الاناء وخصوص ذاك ولم يرتفع بالتعبد وإنّما الذي ارتفع بالتعبد هو الشكّ في الجامع.

وعليه فالحكومة لا معنى لها بالنسبة الى الطرفين.

أجل لو فرض ان البينة دلّت على نجاسة هذا الإناء بالخصوص فالحكومة وجيهة ، لأن لازم حجّية البينة في هذا الإناء صيرورة نجاسته معلومة بالتعبد وارتفاع الشكّ الذي هو موضوع أصل الطهارة ، لكن المفروض في مقامنا دلالة البينة على الجامع ، فالجامع يصير معلوما لا نجاسة كل إناء بخصوصه ، فالحكومة تتم في جانب الجامع لا في كل واحد من الطرفين ، وبالتالي يلزم ان الجامع لا يجري فيه أصل الطهارة لا كل اناء بخصوصه.

الحالة الثانية

وأمّا في الحالة الثانية - وهي ما إذا شهدت البينة بنجاسة اناء معين ثم اشتبه - فالاناء الذي شهدت البينة بنجاسته لا يجري فيه أصل الطهارة من جهة الحكومة ، فان الحكومة هنا وجيهة باعتبار ان البينة لما شهدت بنجاسة الاناء المعين تصير نجاسته معلومة تعبدا ويرتفع الشكّ في طهارته تعبدا.

ص: 265

وبعد عدم جريان أصل الطهارة في الإناء المعين فاللازم عند اشتباهه بالاناء الآخر ان لا يجري أصل الطهارة لا في كلا الانائين - لأنّ المفروض عدم جريانه في أحدهما الذي شهدت البينة بنجاسته - ولا في أحدهما لأنّه بلا مرجح.

وبذلك يتنجز الطرفان ويلزم تركهما ، ويصير المورد نظير ما لو علم علما وجدانيا بنجاسة اناء زيد ثم فرض اشتباهه بإناء عمرو فكما يجب تركهما معا كذلك في المقام.

خلاصة ما تقدّم

وخلاصة ما تقدم هو لزوم الاجتناب عن كلا الانائين في كلتا الحالتين لعدم جريان أصل الطهارة لا في الانائين معا ولا في أحدهما.

اما إنّه في الحالة الأولى يلزم الاجتناب عنهما فلانّه بعد الجمع بين دليل البينة ودليل أصل الطهارة بتقديم دليل البينة يلزم عدم جريان الأصل لا في كلا الانائين لأنّه خلف تقدم البينة ولا في احدهما لأنه بلا مرجح.

وأمّا أنّه في الحالة الثانية يلزم الاجتناب عنهما فلانه بعد عدم جريان الأصل في الاناء الذي شهدت البينة بنجاسته من جهة الحكومة لا يمكن جريان الأصل لا في كلا الانائين ولا في أحدهما.

الركن الثاني

اشارة

والركن الثاني لمنجزية العلم الإجمالي ان يكون العلم واقفا على الجامع وغير سار الى الفرد ، إذ لو سرى إلى الفرد انقلب إلى علم تفصيلي بالفرد ، فاذا

ص: 266

علمنا بنجاسة أحد انائين كان ذلك علما إجماليا ، فاذا سرى العلم إلى الفرد بان علمنا ان تلك النجاسة ثابتة في الإناء الأوّل دون الثاني انحل ذلك العلم وتحول إلى علم تفصيلي بنجاسة الإناء الأوّل - فيجب الاجتناب عنه بالخصوص - وشك بدوي في نجاسة الاناء الثاني فتجري البراءة عنه.

وحالة السراية هذه تسمى بانحلال العلم الاجمالي بالعلم بالفرد.

وهذا شيء واضح. والذي نريد التحدث عنه هو ان العلم بالفرد له أربعة أنحاء : -

الأوّل

ان يعلم إجمالا مثلا بوجود انسان في المسجد مرددا بين كونه زيدا أو عمروا ثم يعلم بعد ذلك بانّه زيد.

وفي هذا النحو لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود زيد وشك بدوي في وجود غيره.

الثاني

ان يعلم إجمالا مثلا بوجود انسان ما في المسجد ثم بعد ذلك يحصل العلم بوجود زيد في المسجد.

وفي هذا النحو لا إشكال ايضا في انحلال العلم الأوّل بالعلم الثاني ، إذ بعد العلم بوجود زيد في المسجد لا يبقى علم بوجود انسان غير زيد في المسجد.

والفرق بين هذا النحو وسابقه أنّه في السابق تعلق العلم الثاني بنفس ما

ص: 267

كان معلوما بالإجمال ، فبالعلم الثاني علم ان الانسان المعلوم وجوده في المسجد إجمالا هو زيد لا عمرو بخلافه في هذا النحو فانه لم يجزم ان زيدا هو نفس الانسان المعلوم بالإجمال بل هو احتمال لا أكثر.

الثالث

ان يعلم بان في المسجد انسانا له علامة خاصة ككونه طويلا مثلا ثم بعد ذلك علم بوجود زيد في المسجد ولكن لا يعلم ان زيدا طويل حتى يكون المعلوم بالإجمال منطبقا عليه أو ليس بطويل حتى لا يكون منطبقا عليه.

والفرق بين هذا النحو وسابقيه انه في السابق لم يفرض وجود علامة خاصة للمعلوم بالإجمال بينما في هذا النحو فرض ذلك.

والمثال الشرعي لذلك : ما لو علم المكلّف بأنّه محدث بحدث أكبر اما يوم السبت أو الاحد ثم علم بعد ذلك انه قد حصل منه الحدث يوم السبت ولكنه لا يدري هل هو حدث أكبر أو أصغر.

وهل يحصل الانحلال في هذا النحو؟ الصحيح عدمه ، فان الحدث الحاصل يوم السبت لو كان يجزم بكونه اكبر ويجزم بانطباق المعلوم بالاجمال عليه لحصل الانحلال كما حصل في النحو الثاني ولكنه لمّا لم يجزم بذلك فلا يحصل الانحلال.

اما لماذا لا يحصل الانحلال عند عدم الجزم؟ ذلك لأن العلم الاجمالي إنّما ينحل لو حصل علم تفصيلي بانطباق المعلوم بالإجمال على أحد الفردين مع الشكّ البدوي في انطباقه على الثاني ، ففي النحو السابق كان يجزم بكون زيد

ص: 268

مصداقا للانسان المعلوم حصوله في المسجد ، إذ المعلوم وجوده في المسجد اجمالا هو الإنسان ليس اكثر ، وزيد يصدق عليه انسان جزما وبالتالي يحصل لدى المكلّف علم تفصيلي بتحقق الانسان في المسجد ضمن زيد وشك بدوي في تحققه ضمن غيره ، فلو راجع نفسه لم ير فيها إلاّ علما تفصيليا بوجود انسان هو زيد وشكا بدويا في وجود فرد آخر غيره ، وهذا بخلافه في النحو الثالث فإنّه لا يوجد لدى المكلّف علم تفصيلي وشك بدوي بل لديه علم إجمالي أول بتحقّق حدث أكبر في أحد يومين وعلم إجمالي ثاني بتحقق حدث يوم السبت مردد بين الأصغر والأكبر ، فالذي حصل له بعد العلم الإجمالي الأوّل ليس إلاّ علما إجماليا آخر وليس علما تفصيليا ، ومن المعلوم ان العلم الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي لا بعلم إجمالي مثله.

الرابع

وقبل بيان هذا النحو نذكر مقدمتين.

الاولى : ان اثبات الحجّية للامارة الظنيّة تارة يكون من خلال عملية التنزيل ، بان يقول الشارع مثلا : جعلت الأمارة بمنزلة العلم ، واخرى من خلال عملية الاعتبار بان يقول : اعتبرت الامارة علما.

والفرق بين التنزيل والاعتبار هو انه في عملية التنزيل تبقى الامارة ظنا ولا تصير فردا من العلم غايته هي ظن تترتب عليه آثار العلم ، وهذا بخلافه في باب الاعتبار فانها تصير فردا من العلم ، وبعد صيرورتها علما يلحقها آثار العلم قهرا.

ص: 269

وبكلمة اخرى : في باب الاعتبار لا يرتب الشارع آثار العلم على الأمارة وإنّما يعتبرها فردا من العلم وبعد ذلك تلحقها آثار العلم قهرا بخلافه في باب التنزيل فإنّه ابتداء ترتب آثار العلم على الامارة من دون ان تعتبر فردا منه.

الثانية : ان المجازية تارة تكون في الكلمة واخرى في أمر عقلي ، فكلمة الأسد إذا استعملت في الشجاع كان ذلك مجازا في كلمة الأسد ، حيث استعملت في غير معناها الموضوع له ، اما إذا اعتبر الشجاع فردا من أفراد الحيوان المفترس بحيث عمم الحيوان المفترس للشجاع وجعل فردا من افراده كان استعمال كلمة الأسد في الشجاع استعمالا حقيقيا لاستعمالها في معناها الموضوع له وهو الحيوان المفترس غايته تلزم المجازية والعناية في الاعتبار ، أي في اعتبار الشجاع فردا من المفترس.

وعملية الاعتبار حيث انها أمر عقلي فالمجازية اللازمة مجازية في أمر عقلي.

وهناك رأي للسكاكي يدعي فيه ان جميع الاستعمالات المجازية ترجع الى استعمالات حقيقية ولا يوجد مجاز أصلا لأن كل مستعمل يعتبر أولا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي وبعد ذلك يستعمل اللفظ في المعنى.

وتسمى هذه الطريقة بالحقيقية الأدعائية أو المجاز العقلي. وقد مرت الاشارة الى هذا في الحلقة الثانية ص 88 تحت عنوان تحويل المجاز إلى حقيقة.

وبعد هاتين المقدمتين نأخذ ببيان النحو الرابع وهو ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد انائين ثم شهد الثقة بنجاسة الاناء الأوّل.

وفي هذه الحالة لا إشكال بين الجميع في سقوط العلم الإجمالي عن

ص: 270

المنجزية ولا يجب ترك الاناء الثاني.

وبعد هذا الاتفاق وقع الكلام في التخريج الفني لزوال المنجزية.

وقد يقال ان ذلك للانحلال التعبدي ، بمعنى ان دليل حجّية خبر الثقة يعبدنا بإنحلال العلم الإجمالي بتقريب ان دليل الحجّية - بناء على مسلك جعل العلمية - يجعل خبر الثقة علما ويرتب عليه جميع آثار العلم التي احدها الانحلال.

هذا ولكن الصحيح عدم امكان استفادة ذلك لان استفادة الانحلال التعبدي يمكن ان تبين باحد بيانات ثلاثة : -

أ - ان دليل حجّية الخبر ينزّل الخبر منزلة العلم. ولازم التنزيل سراية حكم المنزل عليه وهو العلم إلى المنزل وهو الخبر - كما تسري أحكام الصلاة إلى الطواف حينما نزّل منزلتها في دليل الطواف بالبيت صلاة - وبما ان أحد احكام العلم وآثاره حصول انحلال العلم الإجمالي به فيلزم ثبوت هذا الأثر للخبر أيضا.

وفيه : ان دليل التنزيل لا يسرّي اللوازم القهرية التكوينية الثابتة للمنزل عليه بل يسرّي خصوص الآثار الشرعية - فبتنزيل الرجل الشجاع منزلة الأسد لا يمكن ان يسري بخر الفم إلى الرجل الشجاع ، فان بخر الفم لازم تكويني للاسد لا يمكن تسريته بالتنزيل إلى غيره - كالطهارة التي هي أثر شرعي للصلاة فإنها تسري الى الطواف ، وواضح ان حصول الانحلال الحقيقي بالعلم هو من اللوازم التكوينية القهرية الثابتة للعلم ، فان من علم بوقوع قطرة دم في أحد انائين ثم رآها وعلم بها في الإناء الأوّل انحل علمه السابق بقطع النظر عن الشريعة والتعبد لكونه مما فطر عليه الانسان. وما دام الانحلال هو من اللوازم التكوينية للعلم فلا يمكن تسريته إلى الخبر بالتنزيل.

ص: 271

وبكلمة اخرى : ان الشارع في عملية التنزيل لا يسرّي إلاّ الآثار الشرعية دون الآثار التكوينية ، إذ التكوينية ليست واقعة تحت حوزته كي يمكنه تسريتها وإنّما الواقع تحت حوزته هي الآثار الشرعية فتكون هي القابلة للتسرية.

ب - ان دليل حجّية الخبر يعتبر الخبر علما وفردا من أفراده كما قاله السكاكي في باب الحقيقة الادعائية ، فالخبر بعد اعتباره علما تسري إليه جميع آثار العلم التي احدها الانحلال.

والفرق بين هذه الطريقة وسابقتها : ان الشارع في عملية التنزيل يلاحظ ابتداء الآثار - التي احدها الانحلال - ويسرّيها إلى الخبر ، وهذا بخلافه في عملية الاعتبار فان الشارع لا يسرّي الآثار بل يعتبر الخبر علما ، وبعد ذلك تسري الآثار إلى الخبر سراية قهرية. وما دامت السراية قهرية فلا يرد ما اوردناه على عملية التنزيل من ان الشارع لا يمكنه تسرية إلاّ ما كان تحت حوزته.

وفيه : ان الامارة وان صارت بالاعتبار علما وفردا منه إلاّ أنها علم تعبدا وليست علما حقيقة وتكوينا ، فان الاعتبار لا يولّد إلاّ امرا اعتباريا لا أمرا حقيقيا ، ومعه فغاية ما يلزم هو ترتب آثار العلم الاعتباري التعبدي لا آثار العلم الحقيقي. والانحلال بما انه من خواص العلم الحقيقي فلا يترتب على الامارة عند اعتبارها علما.

ج - ان يقال انا لا نريد ان نثبت بصورة مباشرة التعبد بالانحلال الحقيقي بحيث يكون دليل حجّية الخبر مفيدا بالدلالة المطابقية التعبد بالانحلال الحقيقي ليقال بعدم إمكان تسرية اللوازم التكوينية عن طريق التعبد وإنّما نريد اثبات

ص: 272

التعبد بالانحلال الحقيقي بصورة غير مباشرة (1) بان يفرض ان دليل حجّية الخبر يدل - بناء على مسلك جعل العلمية - ابتداء على الغاء الشك وجعل الامارة علما فلو دلّت الامارة على نجاسة الاناء الأوّل يصير المكلّف عالما بنجاسته تعبدا ، وإذا صار عالما تفصيلا بنجاسته بالتعبد فلازم ذلك زوال العلم الإجمالي وانحلاله إذ بحصول العلم التفصيلي بأحد الطرفين يزول العلم الإجمالي وينحل.

وبتعبير آخر : ان الدليل ابتداء يعبدنا بعلة انحلال العلم الإجمالي - وهي العلم التفصيلي بأحد الطرفين - وبالملازمة يعبدنا بالمعلول ، أي بزوال العلم الاجمالي.

وهذه طريقة وجيهة ، إذ التعبد بحصول العلم التفصيلي أمر معقول ، وإذا ثبت التعبد بذلك ثبت الانحلال.

وفيه : -

أوّلا : ان التعبد بحصول العلم التفصيلي تعبد بعلة الانحلال ، والتعبد بالعلة لا يلزم منه التعبد بالمعلول فيما إذا لم يكن المعلول اثرا شرعيا للعلة بل كان اثرا عقليا كما في المقام إذ لا يوجد دليل شرعي يقول إذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأوّل ترتب على ذلك شرعا زوال العلم الإجمالي وانحلاله وإنما ذلك لازم عقلي ، وواضح ان التعبد بالشيء لا يلزم منه التعبد بلوازمه العقلية -

ص: 273


1- قد يقال : لا حاجة إلى هذا التطويل إذ نقول ان دليل الحجّية يعبدنا بالانحلال التعبدي لا بالانحلال الحقيقي ليقال انه غير ممكن. فإنه يقال : ان التعبد بالانحلال التعبدي لا معنى له إذ مرجع ذلك إلى انه يعبدنا الشارع بالتعبد ، وهذا باطل ، فان المعقول اثبات الأمر الحقيقي بالتعبد لا إثبات الأمر التعبدي بالتعبد.

فالتعبد ببقاء حياة الولد لا يلزم منه التعبد بنبات لحيته - وإنّما يلزم منه التعبد بآثاره الشرعية كحصول طهارة الثوب فإنّه معلول لغسله بالماء الطاهر ومن آثاره الشرعية المترتّبة عليه ، فاذا عبدّنا الشارع بطهارة الماء الذي غسل فيه الثوب المتنجس لزم منه التعبد بحصول الطهارة للثوب وإلاّ كان التعبد بذاك دون هذا لغوا.

وثانيا : لو سلمنا التعبد بالعلة يلزم منه التعبد بالمعلول حتى ولو لم يكن المعلول من الآثار الشرعية للعلة فنقول ان التعبد بحصول الانحلال الحقيقي في مقامنا باطل في نفسه وغير ممكن ، إذ ما الفائدة من التعبد بالانحلال الحقيقي؟

ان الغاية لا تخلو اما ان تكون هي التأمين من ارتكاب الطرف الثاني بحيث يكون من السائغ للمكلّف ارتكاب الإناء الثاني وشرب مائه دون ان يجري أصل الطهارة فيه ، وهو باطل لأن الشبهة أيّا ما كانت لا يجوز للمكلّف ارتكابها حتى ولو كانت بدوية إلاّ بمؤمن كاصل الطهارة مثلا.

او تكون الغاية من التعبد بالانحلال هي ان يصير المكلّف متمكنا من اجراء أصل الطهارة في الطرف الثاني وشرب الماء بعد ذلك لا ان يرتكبه بلا اجراء اصل الطهارة فيه. وهذا باطل أيضا ، فان الشارع حتى ولو لم يعبّد المكلّف بانحلال علمه الإجمالي - كما لو فرض انّا لم نأخذ بمسلك جعل العلمية بعين الاعتبار بل بمسلك جعل المنجزية - فمع ذلك يمكن للمكلف اجراء أصل الطهارة في الإناء الثاني دون معارض لان الخبر ما دام قد دلّ على نجاسة الاناء الأوّل كان ذلك مانعا من اجراء أصل الطهارة فيه - إذ الامارة مانعة من جريان الأصل سواء بني على مسلك جعل العلمية أو مسلك جعل المنجزية أو أي مسلك آخر ، فان

ص: 274

عدم جريان الأصل عند وجود الامارة أمر مسلم لدى الجميع - ومع عدم جريان أصل الطهارة فيه يجري الأصل في الاناء الثاني بلا معارض وان لم نستفد من دليل حجّية الخبر التعبد بالانحلال.

وبهذا اتضح ان الوجه الفني لتخريج سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية عند قيام الأمارة في بعض اطرافه هو الانحلال الحكمي دون الانحلال التعبدي ، بمعنى ان دليل حجّية الامارة لا يمكن ان نستفيد منه جعل الشارع الامارة موجبة لحلّ العلم الإجمالي تعبدا وإنّما الإمارة حينما تقوم في طرف فالاصل حيث لا يجري فيه فيجري في الطرف الثاني بلا معارض.

وإنّما سمّي هذا بالانحلال الحكمي باعتبار ان العلم الإجمالي موجود حقيقة غايته ليس بمنجز باعتبار وجود مؤمن في بعض اطرافه.

الركن الثالث

اشارة

والركن الثالث لمنجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في الأطراف ، كما لو كان عندنا اناءان نعلم اجمالا بنجاسة احدهما فان أصل الطهارة في الإناء الأوّل يتعارض وأصل الطهارة في الثاني ويتساقطان ، وبعد ذلك يبقى كل اناء لا مسوغ لارتكابه فتجب الموافقة القطعية بترك كلا الانائين.

واما إذا لم تتعارض الاصول في الأطراف ، كما لو كان الاناء الأوّل مثلا معلوم الخمرية تفصيلا (1) أو كان يعلم بنجاسته سابقا ويشك في بقاءها فان أصل

ص: 275


1- أي يوجد اناءان احدهما خمر جزما والآخر ماء جزما وعلمنا بوقوع قطرة بول في أحدهما.

الطهارة لا يجري فيه لوجود حاكم عليه وهو استصحاب النجاسة ويجري في الطرف الآخر بلا معارض.

ومع عدم المعارضة بين الاصلين يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية ويجوز ارتكاب الاناء الثاني لوجود المؤمن فيه بلا معارض (1) ، فان العلم الاجمالي انما يقتضي عقلا وجوب الاجتناب عن اطرافه فيما إذا لم يرخص الشارع نفسه بارتكاب بعض اطرافه.

ثمّ ان عدم منجزية العلم الإجمالي في صورة جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض قضية مسلمة بين جميع الاصوليين ولا تخص بعضا دون آخر.

ولكن صياغة الركن المذكور بالشكل المتقدم - أي تعارض الاصول في الأطراف - تتم على مبنى الميرزا القائل بان العلم الإجمالي مقتض وليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، فانه بناء على ذلك إذا ثبت الترخيص في ارتكاب أحد الطرفين بواسطة الأصل المؤمن فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فكما ان النار مقتض للاحراق وتاثيرها موقوف على عدم المانع كذلك العلم الإجمالي ما دام هو مقتض لوجوب الموافقة القطعية فتأثيره موقوف على عدم ثبوت الترخيص في أحد الطرفين ، فاذا ثبت الترخيص في أحد الطرفين من دون معارضة لم يكن العلم الإجمالي مستدعيا لوجوب الموافقة القطعية.

ص: 276


1- واما الاناء الأوّل فلا يجوز ارتكابه من جهة العلم التفصيلي بحرمته أو لاستصحاب النجاسة. ثمّ انّا عبرنا عن هذا الركن بتعارض الاصول في الأطراف ، وهو اوضح من تعبير الكتاب بشمول دليل الأصل لكل واحد من الطرفين لولا التعارض ، والمقصود واحد.

وهكذا الصياغة المذكورة لهذا الركن تتم على مسلك حق الطاعة القائل بان احتمال الحرمة في كل طرف هو منجز بقطع النظر عن العلم الإجمالي. انه بناء على هذا الرأي يلزم - لأجل أن يكون الاحتمال منجزا - تعارض الاصول في الأطراف ، إذ احتمال التكليف إنّما يكون منجزا عقلا فيما إذا لم يثبت الترخيص الشرعي في مخالفة الاحتمال ، فاذا ثبت الترخيص الشرعي بواسطة الأصل المؤمن الجاري بلا معارضة فلا يكون الاحتمال في كل طرف منجزا ولا تجب الموافقة القطعية بل يجوز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل غير المعارض.

واما بناء على رأي الشيخ العراقي القائل بان العلم الإجمالي علة تامة فهي غير تامة لأنه بناء على المسلك المذكور يستحيل - كما تقدم - الترخيص حتى في الطرف الواحد ولا يجري الأصل - لأنّ المفروض أنّه علة بذاته لوجوب الموافقة القطعية - وهذه المنجزية السابقة تمنع من جريان الأصل حتى في الطرف الواحد وليس ثبوتها يتوقف على عدم جريان الأصل كما هو الحال على مسلك الاقتضاء.

وبكلمة اخرى : بناء على مسلك الميرزا نحتاج إلى اعدام المؤمن في الأطراف ، وهو لا يتم الاّ بالتعارض ، وهذا بخلافه على مسلك العراقي فانا وان كنّا بحاجة الى اعدام المؤمن - لاتفاق الكل على عدم كون العلم الإجمالي منجزا مع وجود المؤمن في بعض اطرافه - ولكن إعدامه لا يتوقف على تعارض الاصول بل نفس العلم الإجمالي بذاته يستلزم وبنحو العلية عدم جريان الأصل حتى في الطرف الواحد ولو لم يكن له معارض.

ومن هنا كان الشيخ العراقي بحاجة إلى طرح صياغة جديدة لهذا الركن يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجزية في المرتبة السابقة ليتاح للاصل الجريان

ص: 277

في الطرف الثاني بلا مانع.

والصياغة الجديدة هي : يشترط في منجزية العلم الإجمالي ان لا يكون أحد طرفيه قد تنجز بمنجز سابق بل تكون المنجزية في كل واحد من الطرفين حاصلة بسبب نفس العلم الإجمالي ، فمثلا إذا كان عندنا اناءان نعلم بنجاسة احدهما فالمنجز هو العلم الإجمالي على كلا التقديرين ، فان النجاسة على تقدير وجودها في الإناء الأوّل يتنجز وجوب الاجتناب عنها بسبب العلم الإجمالي لا بسبب آخر ، وعلى تقدير وجودها في الإناء الثاني يتنجز وجوب الاجتناب عنها بسبب العلم الإجمالي أيضا لا بسبب آخر ، فالنجاسة إذن على كلا التقديرين - أي على تقدير وجودها في هذا الإناء وعلى تقدير وجودها في ذاك الإناء - تكون منجزة بنفس العلم الإجمالي.

في مثل هذه الحالة قال الشيخ العراقي ان العلم الإجمالي يكون منجزا ويجب الاجتناب عن كلا الانائين.

وأمّا إذا فرض ان أحد الانائين كان منجزا بمنجز آخر فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فمثلا إذا كان عندنا اناءان الأوّل منهما خمر جزما وعلمنا اجمالا بوقوع قطرة بول في أحدهما فهذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا لان أحد طرفيه - وهو الإناء الخمري - قد تنجز بمنجز اسبق وهو العلم التفصيلي بخمريته ، وما دام قد تنجز بمنجز اسبق فلا يكون العلم الإجمالي منجزا لوجوب الإجتناب عن النجاسة لو كانت قد وقعت فيه واقعا ، إذ ما تنجز لا يمكن ان يتنجز ثانية ، فكما ان الأبيض لا يمكن ان يصير ابيض ثانية ، والموجود لا يمكن ان يوجد ثانية كذلك المنجز لا يمكن ان يتنجز ثانية.

ص: 278

ومن هنا فالعلم الإجمالي بوقوع قطرة بول في أحد انائين يعلم بخمرية الأوّل منهما - أو كان يجري فيه استصحاب النجاسة - لا يكون منجزا على رأي الشيخ العراقي لان العلم الإجمالي لا يكون منجزا لوجوب الاجتناب عن النجاسة على كلا التقديرين إذ على تقدير وقوعها في الإناء الأوّل يكون وجوب الاجتناب ثابتا بسبب العلم التفصيلي بخمريته أو استصحاب نجاسته وليس بسبب نفس العلم الإجمالي.

وبكلمة اخرى : ان العلم الإجمالي انّما يكونن منجزا لو كان محدثا للتكليف على سبيل الجزم. وفي الامثلة المذكورة لا يكون كذلك إذ على تقدير وقوع النجاسة في الإناء الأوّل فالمحدث للتكليف بوجوب الاجتناب هو الاستصحاب أو العلم التفصيلي لا العلم الإجمالي. أجل غاية ما يولّده العلم الإجمالي بوقوع القطرة هو الشكّ في حدوث وجوب الإجتناب دون العلم ، وواضح انّ الشكّ في حدوث التكليف ليس بمنجز وإنّما المنجز هو العلم بحدوث التكليف.

وباتضاح هذه الصياغة الجديدة تتضح النكتة في وجه جريان الأصل في أحد الطرفين على مسلك الشيخ العراقي ، ان النكتة هي ان العلم الإجمالي لمّا لم يكن منجزا في نفسه في المقام حيث لا يولّد علما بحدوث التكليف بوجوب الإجتناب فلا يكون مانعا من جريان الأصل في الطرف الثاني ، إذ المانع هو العلم الإجمالي بحدوث التكليف ، والمفروض عدمه في المقام.

الفارق العملي بين الصياغتين

وقد تسأل هل يوجد فارق عملي بين الصياغتين بحيث يفرض مورد

ص: 279

تجري فيه الصياغة الثانية فيكون العلم الإجمالي منجزا عند الشيخ العراقي ولا تجري فيه الصياغة الاولى فلا يكون منجزا عند الميرزا؟

نعم الفارق العملي يظهر فيما لو فرضنا شيئين علمنا إجمالا بطروّ النجاسة على أحدهما ولا يوجد منجز غير العلم الإجمالي لا في الشيء الأوّل ولا في الشيء الثاني بيد أنّه كان أحد الشيئين يجري فيه الأصل المؤمن دون الثاني.

في مثل هذه الحالة تظهر الثمرة العملية بين الصياغتين ، كما لو كان لدينا سائلان نعلم اما الأوّل منهما خمر أو الثاني منهما ماء وقعت فيه نجاسة. فهناك نجاسة معلومة بالاجمال مردده بين كونها نجاسة ذاتية في الأوّل أو نجاسة عرضيّة في الثاني.

وفي هذا المثال لا يوجد أصل منجز لا في السائل الأوّل ولا في الثاني ويوجد أصل مؤمن - وهو أصل الطهارة - يجري في الثاني دون الأوّل ، إذ النجاسة المحتملة في الأوّل نجاسة ذاتية ، وأصل الطهارة - بناء على رأي فقهي تقدمت الإشارة له ص 261 - لا يجري في موارد الشكّ في النجاسة الذاتية بخلاف ذلك في الثاني فان النجاسة المحتملة فيه عرضيّة يجري أصل الطهارة لنفيها.

ان العلم الإجمالي في المثال المذكور ليس منجزا على رأي الميرزا لعدم تعارض الاصول في الأطراف بل يجري أصل الطهارة في إناء الماء بلا معارضة ، وهذا بخلافه على رأي الشيخ العراقي فان العلم الإجمالي منجز لتماميّة الصياغة الثانية ، إذ المفروض عدم وجود منجز آخر في أحد الطرفين غير العلم الإجمالي (1).

ص: 280


1- لعل في عبارة الكتاب شيئا من الابهام إذ القارئ يفهم ان الأصل المنجز على منوال الأصل المؤمن ، فكما ان الأصل المؤمن يجري في أحد الطرفين دون الآخر كذلك الأصل المنجز يجري في أحدهما دون الآخر. وهذا غير مقصود جزما ، وإنّما المقصود ان الأصل المؤمن يجري في أحد الطرفين دون الآخر بخلاف الأصل المنجز فانه لا يجري لا في هذا ولا في ذاك.
مناقشة صياغة الشيخ العراقي

وصياغة الشيخ العراقي قابلة للمناقشة إذ هي تبتني على قاعدة ان المنجز لا يتنجز ثانية.

ووجه القاعدة المذكورة : ان لازم التنجز ثانية اجتماع علتين على معلول واحد ، فالتنجز معلول واحد اجتمعت عليه علتان احداهما العلم الإجمالي والاخرى هي العلم التفصيلي ونحوه ، واجتماع علّتين على معلول واحد أمر مستحيل.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بان الابيض وان كان لا يمكن ان يصير ابيض ثانية والموجود لا يمكن ان يطرأ عليه الوجود ثانية إلاّ ان هذا صحيح في القضايا التكوينية كالبياض والوجود وليس بصحيح في القضايا الاعتبارية ، ومعلوم ان التنجز أمر اعتباري إذ هو عبارة اخرى عن ثبوت حق الطاعة للمولى ، ومن البيّن ان بالامكان ثبوت حق الطاعة للمولى في شيء واحد من ناحيتين ويصير بذلك اكيدا وإلاّ فماذا يقول الشيخ العراقي فيما لو كان عندنا اناء خمري وقعت فيه قطرات بول فهل يقول قدس سره ان التنجز الثابت في هذا تنجز من ناحية الخمر فقط دون البول؟ كلا ، انّه باطل جزما ، فان من شرب الخمر المذكور خالف حرمتين واستحق عقابين جزما.

ص: 281

وماذا يقول قدس سره أيضا فيمن نذر الاتيان بصلاة الظهر فهل يلتزم بعدم حصول وجوب ثاني من ناحية النذر؟ كلا ، ان هذا باطل جزما ، فان صلاة الظهر يحصل لها وجوب ثاني وتنجز ثاني بسبب النذر دون أي محذور ، وإذا تركها المكلّف استحق العقاب من ناحيتين.

الركن الرابع

اشارة

والركن الرابع من أركان منجزية العلم الإجمالي هو ان يكون جريان الأصل في جميع الأطراف موجبا لترخيص المكلّف في ارتكاب المخالفة القطعية مع تمكن المكلّف بالفعل من ذلك - المخالفة القطعية - فاذا لم يكن موجبا لذلك فلا يكون العلم الإجمالي منجزا.

فمثلا إذا كنّا نعلم بنجاسة أحد انائين فالعلم المذكور منجز لأنّه لو أجرينا أصل الطهارة في كلا الانائين لزم الترخيص في ارتكاب كلا الانائين وبالتالي الترخيص في المخالفة القطعية ، وهي - المخالفة القطعية - ممكنة للمكلف ، وذلك بتناول كلا الانائين.

اما إذا كنا نعلم بنجاسة واحد من أواني كثيرة غير محصورة فلا يكون العلم الإجمالي المذكور منجزا لأن جريان الأصل في جميع الأطراف لا يلزم منه تحقق المخالفة القطعية العملية (1) ، إذ الأطراف ما دامت غير محصورة فلا يمكن ارتكابها جميعا ، وإذا أمكن جريان الأصل في جميع الأطراف بلا محذور تحقق المخالفة

ص: 282


1- أجل اقصى ما يلزم هو المخالفة الالتزامية - لالتزام المكلّف بطهارة جميع الأواني التي يعلم بنجاسة بعضها - وهي مما لا ضير فيه.

القطعية العملية لم يكن العلم الإجمالي منجزا وجاز ارتكاب المكلّف لاي طرف اختاره.

وركنية هذا الركن تتم على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلية ، إذ على مسلك الاقتضاء يكون استلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية متوقفا على عدم ثبوت الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف - فانّ تاثير المقتضي موقوف على عدم المانع - فاذا لزم محذور المخالفة القطعية من جريان الأصل في جميع الأطراف لم يجر. وإذا لم يجر ولم يثبت الترخيص فلا يجوز ارتكاب شيء من الأطراف لعدم وجود المؤمن فان ارتكاب أي طرف من الأطراف يحتاج الى مؤمن.

هذا بناء على مسلك الاقتضاء ، واما بناء على مسلك العلية فالاصول لا تجري في الأطراف حتى وان لم يلزم منها محذور المخالفة القطعية ، فجريان الاصول في أطراف الشبهة غير المحصورة باطل وان لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية ، إذ بجريان الاصول في الأطراف سوف يرتكب المكلّف بعض الأطراف - وان لم يرتكبها جميعا لفرض عدم الانحصار - ويكون مرخصا في ذلك ، وواضح انه بناء على مسلك العلية لا يمكن الترخيص في الارتكاب حتى لبعض الأطراف إذ الترخيص في ذلك يتنافى وكون العلم الاجمالي علة لوجوب الموافقة القطعية.

وعليه فالشيخ العراقي رفض الحاجة إلى هذا الركن واختار ان العلم الإجمالي منجز وان لم يتواجد فيه هذا الركن.

صياغة جديدة

ثم ان السيد الخوئي ( دام ظله ) قبل هذا الركن - ولم يرفضه من أصله كما

ص: 283

فعل الشيخ العراقي - إلاّ أنّه صاغه بصياغة جديدة فقال اني اسلم ان منجزية العلم الإجمالي موقوفة على تعارض الاصول في الأطراف وعدم امكان جريانها في جميع الأطراف إلاّ ان السبب لتعارض الاصول في جميع أطراف ما هو؟

ان الصياغة السابقة كانت تقول ان السبب هو لزوم محذور المخالفة القطعية العملية خارجا ، وهو دام ظله قال ان جريان الاصول في جميع الأطراف غير ممكن لا لأجل ذلك حتى يقال بان جريان الاصول في جميع الأطراف الشبهة غير المحصورة لما لم يلزم منه المحذور المذكور فلا يكون العلم الإجمالي فيها منجزا بل ان ذلك غير ممكن من ناحية ان لازم جريانها في الجميع ثبوت ترخيصات فعلية متعددة بعدد الأطراف. وثبوت الترخيص في جميع الأطراف مع العلم بحرمة واحد منها قبيح في نفسه وان لم يلزم محذور تحقق المخالفة القطعية العملية خارجا ، فالاناء الخمري الموجود في المريخ يقبح الترخيص في ارتكابه وان لم يلزم من ثبوت الترخيص فيه تحقق المخالفة خارجا لعدم امكان الوصول الى المريخ.

وفي مقامنا لو جرى أصل الطهارة في جميع أطراف الشبهة غير المحصورة يلزم ثبوت ترخيصات فعلية بعدد الأطراف بما في ذلك الطرف المحرم ، وهذا بنفسه قبيح وان لم يمكن تحقق المخالفة العملية القطعية خارجا.

ومن هنا ذهب ( دام ظله ) إلى ان العلم الاجمالي منجز في كلتا الشبهتين : المحصورة وغير المحصورة ، إذ كما ان الاصول في أطراف الشبهة المحصورة لا يمكن ان تجري كذلك لا يمكن ان تجري في أطراف الشبهة غير المحصورة ، غاية الأمر إذا فرض ان الأطراف في الشبهة غير المحصورة بلغت من الكثرة حدا خرج بعضها

ص: 284

عن محل الابتلاء كان العلم الاجمالي غير منجز ولكن من هذه الناحية لا من تلك الناحية ، أي من ناحية خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وليس من ناحية جريان الاصول في جميع الأطراف.

ومن هنا حدّد ( دام ظله ) الشبهة غير المحصورة بانها الشبهة التي بلغت اطرافها من الكثرة حدا خرج بعضها عن محل الابتلاء (1).

وباختصار : انه بناء على الصياغة السابقة تكون منجزية العلم الإجمالي متوقفة على تعارض الاصول في الأطراف ، وتعارضها يحصل بما إذا لزم من جريانها الترخيص في جميع الأطراف مع افتراض امكان تحقق المخالفة القطعية.

وأما على الصياغة الثانية فالمنجزية موقوفة على تعارض الاصول في الأطراف ، وتعارضها يحصل بنفس ثبوت الترخيص في جميع الأطراف وان لم يمكن تحقق المخالفة خارجا (2).

ونلفت النظر إلى انّ الصياغة السابقة للركن الرابع سيأتي تعديل لها في مبحث الشبهة غير المحصورة إنشاء اللّه تعالى فانتظر ذلك ص 368.

قوله ص 103 س 11 : العلم الطريقي : التقييد بالطريقي لأن المنجزيّة هي من اثار خصوص العلم الطريقي دون الموضوعي. ولعل حذف كلمة « الطريقي » اولى لأنها مشوشّة.

قوله ص 104 س 11 : والوجه الأوّل : أي القائل بتطبيق قاعدة منجزيّة

ص: 285


1- راجع منهاج الصالحين ، كتاب الطهارة ، الفصل الرابع من المبحث الأوّل.
2- تقدمت الأشارة إلى هذه الصياغة الثانية فيما سبق ص 94 من الحلقة وتقدمت المناقشة فيها.

العلم الاجمالي عند قيام البيّنة. والمقصود من الدليل الأوّل دليل حجّية الأمارة.

قوله ص 104 س 12 : والوجه الثاني : أي القائل بعدم تطبيق قاعدة منجزيّة العلم الاجمالي.

قوله ص 104 س 13 : لا محذور في جريانها : أي الاصول.

قوله ص 105 س 1 : الشك فيه : أي في كل من الطرفين.

قوله ص 105 س 5 : للتنافي بينهما : أي بين الامارة والاصل بسبب اتحاد موردهما.

قوله ص 105 س 12 : ولما : بالتخفيف وفتح اللام والميم.

قوله ص 106 س 3 : وفي حصول الانحلال : عطف على قوله : « في سراية العلم من ... ».

قوله ص 107 س 3 : لو كانت الخ : أي لو كانت الامارة مفيدة للعلم الوجداني ...

قوله ص 107 س 12 : اثار العلم الحقيقي .. : في التعبير مسامحة واضحة. والمناسب : الآثار الحقيقية للعلم. وهكذا قوله « أثار العلم الأعتباري » فيه مسامحة واضحة. والمناسب : الآثار الاعتباريّة للعلم. ولعل تبديل كلمة « الأعتباريّة » بكلمة « الشرعيّة » أولى.

قوله ص 107 س 16 : بل نريد استفادة التعبد بالانحلال الخ : لا يخفى ما في العبارة من الغموض والاجمال. والمناسب اضافة كلمة « بالملازمة » (1) فإنّها توضح المطلب.

ص: 286


1- كما اضيفت في التقرير ج 5 ص 252 س 1.

قوله ص 108 س 9 : وملاكه : أي ملاك التمكين من اجراء الأصل.

قوله ص 108 س 12 : ان يكون كل من الطرفين مشمولا الخ : التعبير الذي ذكرناه سابقا - أن تتعارض الاصول في الأطراف - أوضح.

قوله ص 108 س 15 : لسبب آخر : أي غير العلم الأجمالي وهو كالعلم التفصيلي بالنجاسة أو الامارة عليها أو استصحابها.

قوله ص 109 س 11 : على جميع تقادير : أي جميع تقادير معلومه. والمعلوم هو النجاسة مثلا. ولعل التعبير الايسر عن صياغة الشيخ العراقي هو : ان يكون العلم الاجمالي محدثا للعلم بالتكليف على كلا التقديرين ، أي على تقدير وجود النجاسة في الإناء الأوّل وعلى تقدير وجودها في الإناء الثاني.

قوله ص 110 س 7 : على كل حال : أي على كل تقدير من تقادير معلومه.

قوله ص 110 س 8 : في حالة عدم تواجد : ذكرنا سابقا ان في العبارة شيئا من الإبهام.

قوله ص 110 س 14 : وامكان وقوعها خارجا : هذا اشارة إلى قيد ثاني خلافا للسيد الخوئي حيث لم يعتبره كما تقدم ايضاح ذلك.

قوله ص 110 س 15 : على وجه مأذون فيه : أي إمكان تحقّق المخالفة القطعيّة خارجا على تقدير الاذن فيها.

قوله ص 110 س 15 : ممتنعة : كما في الشبهة غير المحصورة.

قوله ص 111 س 6 : وهناك صياغة اخرى : وسيأتي في الشبهة غير المحصورة ص 135 من الحلقة الفارق العملي بين الصياغتين.

ص: 287

ص: 288

تطبيقات منجزية العلم الإجمالي

اشارة

ص: 289

ص: 290

تطبيقات منجزية العلم الاجمالي

قوله ص 112 س 1 : عرفنا في ضوء ما تقدّم ... : إتّضح مما سبق أنّ أركان منجزية العلم الإجمالي أربعة. وهذه الأركان الأربعة متى ما توفرت كان العلم الإجمالي منجّزا ، ومتى ما اختل واحد منها لم يكن منجّزا.

وكلما واجهنا علما إجماليّا لم يكن منجّزا فلا بدّ وان يكون عدم تنجّزه ناشئا من اختلال احد الأركان الأربعة المذكورة فيه.

والآن نطرح عشر حالات لا يكون العلم الإجمالي فيها منجّزا لنرى أنّ أي ركن فيها مختل. وتلك الحالات هي : -

1 - زوال العلم بالجامع.

2 - الإضطرار إلى بعض الأطراف.

3 - إنحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

4 - الإنحلال الحكمي بالامارات والاصول.

5 - إشتراك علمين إجماليين في طرف.

6 - حكم ملاقي أحد الأطراف.

7 - الشبهة غير المحصورة.

8 - عدم القدرة على ارتكاب بعض الأطراف.

9 - العلم الإجمالي في التدريجيات.

10 - الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي.

ص: 291

ص: 292

الحالة الأولى أو زوال العلم بالجامع

اشارة

وفي الحالة الاولى نفترض زوال العلم بالجامع. ولكن كيف يتحقّق ذلك؟

يتحقّق في صور ثلاث هي : -

أ - ان يفرض علم المكلّف بنجاسة احد انائين ثمّ بعد مدة يتّضح كونه مخطئا في علمه وأنّ الإنائين معا طاهران وليس أحدهما نجسا.

وفى هذه الصورة تزول المنجزيّة بسبب اختلال الركن الأوّل من الأركان الأربعة المتقدّمة ، وهو العلم بالجامع.

ب - أن يفرض علم المكلّف بنجاسة احد إنائين ثمّ بعد فترة يحصل له الشك في ذلك ، أي الشك في أصل نجاسة أحد الإنائين ويحصل له إحتمال عدم ثبوت النجاسة لا لهذا ولا لذاك.

وفي هذه الصورة تزول المنجزيّة عن العلم الإجمالي لنفس النكتة في الصورة السابقة ، حيث انّه بطروّ الشك لا يبقى علم بالجامع لتبقى المنجزية للعلم الإجمالي.

وهم ودفع

اشارة

ولربّما يقال انّ المنجزيّة تبقى بعد طروّ الشك ، إذ قبل طروّ الشك كان العلم الإجمالي ثابتا وكان ثبوته سببا لتعارض الاصول وتساقطها. وإذا سقطت الاصول في الإنائين فلا تعود بعد ذلك لأنّ الساقط لا يعود والميت لا يرجع إلى

ص: 293

الحياة. وإذا لم يجر أصل الطهارة في الإنائين لم يسغ ارتكابهما لأنّ المسوّغ هو أصل الطهارة ، والمفروض سقوطه.

والجواب : انّ الموضوع الذي اوجب تعارض الاصول وتساقطها زال وحدث بدله موضوع جديد ، فإنّ الموضوع الذي أوجب تعارض الاصول وتساقطها هو الشك في طهارة كل واحد من الإنائين المقترن بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فإنّ الشك في إنطباق النجاسة المعلومة إجمالا على هذا الطرف أو ذاك هو الموضوع ، وهذا الموضوع زال وحدث بدله الشك في طهارة كل واحد من الإنائين شكّا بدويّا - أي بدون أن يقترن بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما - وهذا الموضوع لا يوجب تعارض الاصول وتساقطها بل تجري فيه بلا تعارض.

ج - وفي هذه الصورة يفرض زوال العلم الإجمالي في مرحلة البقاء دون مرحلة الحدوث على خلاف الصورتين السابقتين حيث زال العلم الإجمالي فيها حدوثا وبقاء. ويمكن أن نصوّر ذلك في أنحاء أربعة : -

الأوّل

ان يفرض كون العلم الإجمالي محددا من الأوّل بفترة معينة فإذا انتهت الفترة زال - العلم الإجمالي - بقاء ، كما لو علم المكلّف اجمالا بأنه قد نذر نذرا واحدا ولكنه لا يدري هل نذر ترك شرب ماء البرتقال إلى الظهر أو نذر ترك شرب ماء الرمان إلى الظهر فهو قد نذر ترك أحدهما جزما ويجزم ان نذره كان متعلّقا بالترك الى الظهر لا أكثر.

في مثل هذا النحو يعلم المكلّف إجمالا ما دام لم يحل وقت الظهر بثبوت أحد

ص: 294

الوجوبين فاذا حلّ الظهر زال علمه الإجمالي لفرض تحدده بالظهر من الأوّل.

وبزوال العلم الإجمالي تزول المنجزية كما هو واضح.

الثاني

ان يفرض نذر المكلّف اما ترك ماء البرتقال أو ترك ماء الرمان كما في النحو الأوّل ، ولكن في النحو السابق كنا نفترض تقيد الترك المنذور بالظهر بينما في هذا النحو نفترض الشكّ في التقيد المذكور ، فالمكلف يعلم أنه قد نذر ولكنه لا يدري هل نذر ترك ماء البرتقال إلى الظهر أو مستمرا إلى المغرب ، وهكذا لا يدري هل نذر ترك ماء الرمان إلى الظهر أو مستمرا إلى المغرب.

وفي هذا النحو إذا حلّ الظهر يزول العلم الإجمالي كما هو واضح ، ولكنه مع ذلك يمكن اثبات بقاء الحرمة المعلومة اجمالا من ناحية اخرى غير العلم الإجمالي وهي الاستصحاب ، فباستصحاب الحرمة الثابتة قبل الظهر يثبت بقاءها الى ما بعد الظهر.

الثالث

ان يفرض علم المكلّف بتحقق أحد النذرين السابقين منه ، ويعلم أيضا بأنه لو كان قد نذر ترك ماء البرتقال فهو قد نذره إلى الظهر بينما لو كان قد نذر ترك ماء الرمان فهو قد نذره إلى المغرب ، فهو يعلم ان المتحقق منه لو كان هو النذر الأوّل فهو مقيد بالظهر ولو كان هو النذر الثاني فهو ممتد إلى المغرب ولكنه حيث لا يدري ان أيّ النذرين هو المتحقق منه فسوف يشك في بقاء الحرمة عليه

ص: 295

بعد حلول وقت الظهر.

وهنا نسأل هل العلم الإجمالي يبقى ثابتا بعد الظهر كما كان ثابتا قبل الظهر؟

وفي البداية قد يجاب بالنفي وأنه لا يبقى بعد الظهر. والصحيح بقاؤه إذ الفترة الى الظهر لو فرضناها بمقدار ساعة والى المغرب بمقدار خمس ساعات فالمكلف قبل الظهر يعلم اما بحرمة البرتقال عليه لفترة ساعة أو بحرمة الرمان عليه لفترة خمس ساعات.

وهذا ما يصطلح عليه بالعلم الإجمالي المردد بين الفرد القصير والفرد الطويل ، وواضح ان الفرد القصير إذا تحقق فهذا لا يعني زوال العلم الإجمالي بل هو باق غاية الأمر أحد فرديه - وهو القصير - قد انتهى أمده.

ولأجل ان تتضح الفكرة اكثر نذكر مثالا آخر : لو فرض ان شخصا نذر اما زيارة الامام الحسين علیه السلام ثم في كل يوم لمدة شهر أو زيارة الجامعة لمدة سنة فما هو حكمه؟

ان الحكم هو لزوم زيارة الامام الحسين علیه السلام لمدة شهر وزيارة الجامعة لمدة سنة لأنه يعلم اجمالا بوجوب احدهما عليه. وإذا فرض انتهاء فترة الشهر التي هي فترة زيارة الامام الحسين علیه السلام فذلك لا يعني انتهاء العلم الإجمالي بل يعني تحقق احد طرفيه ، وواضح ان تحقق أحد طرفي العلم الإجمالي لا يقتضي زوال العلم الإجمالي وإلاّ لزم سقوط كل علم إجمالي عن المنجزية بتحقق أحد طرفيه ، فمثلا يلزم إذا علم المكلّف اجمالا بوجوب اما الظهر أو الجمعة عليه زوال المنجزية عند الإتيان بالظهر حيث إنه بعد تحققها لا يقطع بتوجه وجوب إليه. وإذا قيل بكفاية العلم الإجمالي الثابت قبل الاتيان بالظهر في ثبوت المنجزية قلنا بذلك في

ص: 296

مقامنا أيضا (1).

الرابع :

ان يفرض علم المكلّف بتحقق أحد النذرين السابقين منه ويفرض أيضا

ص: 297


1- أجل أقصى ما نسلّمه في مثال النذر انّ الظهر متى ما حلّ فالمكلّف لا علم له بوجوب ترك اما البرتقال بعد الظهر أو ترك الرمان بعد الظهر ولكن هذا شيء والعلم الإجمالي بوجوب ترك اما البرتقال إلى الظهر أو ترك الرمان إلى المغرب شيء آخر. ولربّما يقع الخلط بين هذين العلمين الإجماليين ، والصواب التفرقة بينهما ، فالعلم الزائل بعد الظهر هو العلم بوجوب أحد التركين المقيدين بما بعد الظهر بينما المدعى بقاءه هو العلم بوجوب اما ترك البرتقال إلى الظهر أو ترك الرمان إلى المغرب فان هذا العلم لا يزول بتحقق الظهر. وما دام باقيا فهو ينجز كلا طرفيه. ومجرد تحقق أحد طرفيه لا يعني زوال العلم الإجمالي. لا يقال : ان الاصول في المقام ليست متعارضة بل تجري البراءة عن حرمة الرمان بلا معارضة بالبراءة عن البرتقال لانقضاء فترة حرمته المحتملة. فإنه يقال : انا لا ندعي المعارضة بين الاصلين الجاريين بعد الظهر ليقال ان أحدهما لا يجري بل ندعيها بين البراءة عن حرمة الرمان بعد الظهر والبراءة عن حرمة البرتقال قبل الظهر. وهذه المعارضة ثابتة ولا تزول بتحقق الظهر إذ حتى لو تحقق الظهر يبقى المكلّف عالما بان إحدى الحرمتين _ أي حرمة الرمان بعد الظهر وحرمة البرتقال إلى الظهر _ ثابتة ، ومع العلم بثبوت احداهما فلا يمكن ان يجري الأصل لنفيهما معا. وبهذا كله يتضح التأمل فيما اختاره المحقق الايرواني في حاشيته على الكفاية المسماة بنهاية النهاية ج ٢ ص ١٢٦ حيث اختار ان الفرد الطويل لا يتنجز على امتداده وإنّما التنجيز يبقى ما دامت فترة القصير لم تنته. ووجه التأمّل : انّ انتهاء أمد الفرد القصير لو كان يستلزم زوال العلم الإجمالي أو سقوطه عن المنجزية للزم مثل ذلك في صلاة الجمعة والظهر فيما لو أدّى المكلّف إحدى الصلاتين ، فإنّه بعد أداءه لإحداهما يحتمل أن انّ ما أدّاه هو الواجب واقعا وبالتالي يلزم عدم بقاء العلم الإجمالي.

علمه بانه لو كان قد نذر ترك شرب البرتقال فهو قد نذره إلى الظهر جزما لو كان قد نذر ترك الرمان فتقييده بالظهر مشكوك وليس مجزوم العدم كما كنا نفترض ذلك في النحو الثالث.

وفي هذا النحو لا إشكال في وجوب ترك كلا المائعين قبل حلول الظهر وإنّما الإشكال في وجوب ترك ماء الرمان ما بعد الظهر.

قد يقال بعدم وجوب ذلك باعتبار ان المكلّف من الابتداء - أي قبل الظهر - لا يعلم باكثر من وجوب الترك إلى حدّ الظهر ، فقبل الظهر يعلم بوجوب ترك احد المائعين عليه إلى حدّ الظهر ، واما الزائد على ذلك فهو غير معلوم.

وقد يجاب بإمكان اثبات وجوب الترك ما بعد الظهر بطريق آخر غير العلم الإجمالي وهو الاستصحاب ، حيث انه قبل الظهر كان يجب الترك فاذا شكّ في بقاء الوجوب إلى ما بعد الظهر استصحب.

وفيه : ان كان المقصود استصحاب وجوب ترك البرتقال فهو باطل لأن المفروض ان لنا قطعا بارتفاع ذلك ما بعد الظهر ، وان كان المقصود استصحاب وجوب ترك الرمان فهو باطل أيضا لأن ثبوت وجوب ترك الرمان ما بعد الظهر وان كان محتملا إلاّ أنّه لا يقين قبل الظهر بالوجوب المذكور ليستصحب بقاءه ، إذ من المحتمل ان النذر الذي حصل واقعا هو نذر ترك البرتقال لا نذر ترك الرمان (1)

والخلاصة : ان اثبات وجوب الترك ما بعد الظهر غير ممكن لا بالعلم الإجمالي ولا بالاستصحاب.

ص: 298


1- يمكن ان يقال باجراء استصحاب الجامع على حدّ استصحاب الكلي من القسم الثاني. وقد قبل قدس سره ذلك في النحو الثاني ومن المناسب قبوله هنا أيضا.

هكذا قد يقال.

ولكن في مقابل ذلك يمكن ان يقال بإمكان اجراء استصحاب وجوب ترك الرمان إلى ما بعد الظهر على تقدير ثبوته ما قبل الظهر فيقال ان ترك الرمان لو كان وجوبه ثابتا قبل الظهر فهو باق إلى ما بعد الظهر ، نظير ما يقال من ان زيدا لو كان عادلا قبل شهر مثلا فعدالته باقية إلى الآن فلو قبلنا جريان هذا الاستصحاب جرى ذاك الاستصحاب أيضا لعدم الفرق.

أجل ان جريان الاستصحاب بالشكل المذكور مبني على ان جريان الاستصحاب لا يتوقف على وجود يقين سابق بل على ثبوت الحالة سابقا وان لم تكن متيقنة. وستأتي الاشارة إلى تحقيق ذلك في باب الاستصحاب ، فبناء على ذلك يمكن جريان استصحاب بقاء وجوب ترك الرمان إلى ما بعد الظهر على تقدير ثبوته ما قبل الظهر.

وقد تقول : ان جريان الاستصحاب بهذا الشكل لغو وبلا فائدة ، إذ أي فائدة في استصحاب بقاء العدالة لزيد على تقدير ثبوتها له سابقا ، فان الاستصحاب المذكور لا يثبت بقاءها بالفعل لترتيب آثارها عليها - كجواز الإقتداء مثلا - وإنّما يثبت بقاءها على تقدير حدوثها.

ويمكن دفع محذور اللغوية المذكور بافتراض ضمّ ضميمة وهي أن نقول هكذا : بناء على جريان الإستصحاب بالشكل المذكور يحصل لنا علم إجمالي بأنّه يجب علينا امّا ترك ماء البرتقال إلى الظهر أو ترك ماء الرمّان إلى ما بعد الظهر بالإستصحاب. وهذا العلم الإجمالي منجّز لطرفيه أي لوجوب ترك البرتقال الى الظهر وترك الرمّان إلى المغرب.

ص: 299

قوله ص 112 س 5 : من خلال ذلك : أي من خلال انهدام أحد الأركان فيها.

قوله ص 112 س 8 : رأسا : أي حدوثا وبقاء. والاولى حذف الكلمة المذكورة لأنّ زوال العلم بالجامع رأسا يختص بالصورتين الاوليتين ولا يعم الثالثة ، إذ فيها يزول العلم بالجامع بقاء لا حدوثا.

قوله ص 113 س 2 : والأمر فيه كذلك أيضا : أي تسقط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي لانعدام الركن الأوّل.

قوله ص 113 س 5 : تعارضت فيها : أي في الأطراف.

قوله ص 113 س 8 : وقد يجاب الخ : التعبير بقد - الدال على تضعيف ذلك - لعله من جهة أتحاد ذات الشكّين وعدم تعدّد الموضوع.

قوله ص 113 س 8 : أصله : أي أصله العملي.

قوله ص 113 س 9 : هو الشك في انطباق المعلوم بالإجمالي : أي هناك علم إجمالي وشك في انطباق معلومه على كل طرف ، وهذا قد زال جزما ، والذي حدث هو شك بدوي بلا علم إجمالي.

قوله ص 114 س 1 : بحيث يرتفع متى ما استوفاه : أي بحيث يرتفع الجامع متى ما استوفى الجامع أمده.

قوله ص 115 س 3 : وحكمه أنّه ينجّز الطويل على امتداده : تخصيص الطويل بالذكر لأنّ تنجيزه للقصير بمقدار أمده مسلّم. هذا ولكن نقلنا عن المحقّق الإيرواني فيما سبق المناقشة في ذلك فراجع.

قوله ص 115 س 5 : مشكوك البقاء : أي بينما الآخر - وهو وجوب ترك

ص: 300

البرتقال - متيقّن الإرتفاع.

قوله ص 115 س 11 : أمّا بثبوت الإستصحاب الخ : أي أمّا بثبوت إستصحاب حرمة الرمّان إلى ما بعد الظهر أو ثبوت حرمة البرتقال إلى الظهر.

ص: 301

ص: 302

الحالة الثانية او الاضطرار الى بعض الاطراف

اشارة

والحالة الثانية التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجّزا هي حالة الإضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، كما لو كان لدى المكلّف ماء برتقال وماء رمّان يعلم بنجاسة أحدهما واضطر إلى شرب ماء البرتقال بسبب وصفه الطبيب فلا إشكال في جواز شرب ماء البرتقال لقوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن امّتي ما اضطروا إليه » وإنّما الإشكال في الإناء الثاني الذي لم يتعلّق به الإضطرار فهل يجوز شربه أيضا؟

فمحل الكلام على هذا هو الإناء الثاني ، وأمّا الإناء الأوّل المضطر إليه فلا إشكال في جواز ارتكابه.

والجواب : إنّ الإضطرار له صورتان فتارة يكون إضطرارا إلى طرف معيّن ، واخرى يكون إلى أحد الطرفين من دون تعيين.

مثال الأوّل : ما أشرنا له سابقا ، فإنّ المكلّف في المثال السابق بسبب وصفة الطبيب صار مضطرّا إلى تناول إناء معيّن من الإنائين وهو إناء البرتقال.

مثال الثاني : ما إذا كان لدى المكلّف إناءان كلاهما ماء برتقال يعلم بنجاسة أحدهما ، وقد اضطرّ بسبب وصفة الطبيب إلى تناول أحدهما فإنّ الإضطرار هنا إلى طرف غير معيّن لأنّ المفروض أنّ كليهما ماء برتقال.

الصورة الاولى

اشارة

وفي الصورة الاولى - وهي الإضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن - لا إشكال

ص: 303

في جواز ارتكاب إناء البرتقال لقاعدة « رفع عن امّتي ما اضطرّوا اليه » ، وإنّما الإشكال في جواز ارتكاب الإناء الثاني.

والصحيح : جواز إرتكابه لأنّ كلّ حكم من الأحكام في التشريع الإسلامي مقيّد بعدم الإضطرار ، فالصوم واجب ، وهو مقيّد بعدم الإضطرار إلى تركه ، والسرقة محرّمة وهي مقيّدة بعدم الاضطرار إلى ارتكابها ، وهكذا بقيّة الأحكام.

ومن جملة الأحكام : حرمة تناول النجس في مقامنا ، فإنّها مقيّدة بعدم الاضطرار ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى شرب ماء البرتقال في المثال السابق زال العلم الإجمالي بالحرمة إذ من المحتمل ثبوت النجاسة في إناء ماء البرتقال ، وعلى تقدير ثبوتها فيه تزول الحرمة بسبب الإضرار إلى تناوله ، ومعه يكون الشك في حرمة الإناء الثاني شكّا بدويّا فتجري البراءة فيه بلا معارض ، إذ إناء البرتقال لا يوجد بلحاظه شكّ حتّى يحتاج إلى إجراء البراءة فيه بل تجري في الإناء الثاني بلا معارض.

وبهذا نعرف أنّ الركن الذي انعدم في هذه الحالة هو الركن الأوّل من الأركان الأربعة المتقدّمة وهو العلم بجامع التكليف ، فإنّا عرفنا أنّ العلم بالجامع منعدم في هذه الحالة وإنّما هناك شكّ بدوي في ثبوت الحرمة بالنسبة إلى الإناء الثاني.

هذا ولكنّا نستدرك ونقول أنّ العلم الإجمالي إنّما يسقط عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني فيما لو فرض أنّ الاضطرار كان ثابتا قبل العلم الإجمالي ، وأمّا إذا كان ثبوته بعد العلم الاجمالي فيبقى العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة

ص: 304

إلى الإناء الثاني.

ولتوضيح ذلك أكثر نقول : إنّ الاضطرار تارة يكون حادثا قبل العلم الاجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف ذهب إلى الطبيب ووصف له أن يتناول ماء البرتقال ولمّا همّ أن يتناول وقعت قطرة بول في أحد الإنائين - أي إناء البرتقال وإناء الرمّان - فالاضطرار على هذا يكون ثابتا قبل حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين.

وفي مثل هذا يتمّ ما ذكرناه سابقا من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لأنّه في الآن الذي رأى فيه المكلّف وقوع القطرة في أحد الإنائين لا يحدث له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين إذ يحتمل وقوعها في ماء البرتقال الذي إفترضنا حلّيّة شربه بسبب الإضطرار إلى ارتكابه قبل حدوث العلم الإجمالي.

هذا كله فيما إذا كان الاضطرار حادثا قبل العالم الإجمالي.

واخرى يكون الإضطرار حادثا بعد العلم الإجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف قبل ذهابه إلى الطبيب علم بنجاسة أحد الإنائين ثمّ ذهب إلى الطبيب ووصف له ماء البرتقال واضطر بسبب ذلك إلى شربه اضطرارا حاصلا بعد تحقّق العلم الإجمالي.

وفي هذا الافتراض اختار الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله بقاء العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني وخالفه الآخوند في الكفاية ، فذهب إلى زوال منجّزيّته ولم يفرّق بين هذا الإفتراض وسابقه ، ففي كليهما حكم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لنفس النكتة المذكورة

ص: 305

في الإفتراض الاوّل دون أي فرق ، وقال : إنّ المكلّف لا يبقى له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين بعد اضطراره ، إذ لعلّ الإناء الذي وقع عليه اختياره هو النجس وبذلك يصير حلالا ولا يبقى لديه علم بحرمة أحد الإنائين.

هذا ولكن لنفس الآخوند حاشية على كفايته اختار فيها بقاء العلم الإجمالي على المنجزية بالنسبة إلى الإناء الثاني. وقربّ ذلك بما ذكره السيد الشهيد في عبارة الكتاب ، وهو أنّ المكلّف لمّا حصل له قبل الذهاب إلى الطبيب علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين فهذا العلم الإجمالي علم إجمالي بالفرد المردد بين القصير والطويل إذ المكلّف يمكنه ان يقول في نفسه قبل الذهاب إلى الطبيب : ان كانت النجاسة قد وقعت في إناء البرتقال فحرمة الشرب الحاصلة بسبب وقوع النجاسة فيه حرمة قصيرة تمتد إلى وقت الاضطرار وتزول بعده ، بينما إذا كانت قد وقعت في إناء الرمان فحرمة الشرب الحادثة حرمة طويلة تمتد إلى الأبد - لو فرض عدم اضطراره إلى شربه إلى الأبد - فالمكلف على هذا قبل ان يعرض له الاضطرار يحدث له علم إجمالي اما بحرمة قصيرة لأناء البرتقال أو بحرمة طويلة لإناء ماء الرمان.

وقد تقدم سابقا ان العلم الإجمالي بالفرد القصير والطويل ينجّز الطويل على امتداده حتى بعد انتهاء فترة الفرد القصير. فالعلم الإجمالي الحادث قبل طرو الاضطرار يحرك المكلّف نحو ترك الطرفين معا فيحرك إلى ترك البرتقال فترة طرو الاضطرار ويحرك نحو ترك الرمان إلى الأبد.

وهذه المحركية تبقى حتى بعد إنتهاء فترة الفرد القصير ، غاية الأمر بعد انتهاء فترة القصير تنتهي محركية القصير لا لقصور في محركية العلم الإجمالي بل

ص: 306

لقصور في نفس الطرف لأنه قصير في نفسه.

والخلاصة : انه يوجد لدينا افتراضان لا يكون العلم الإجمالي في الافتراض الأوّل منهما منجزا للطرف الثاني بينما في الإفتراض الثاني يكون منجزا.

ولدينا افتراض ثالث وهو ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي بيد ان المعلوم بالإجمال يكون متقدما على الاضطرار ، كما لو فرض ان المكلّف حدث له الاضطرار إلى شرب ماء البرتقال ظهرا ، وبعد حلول الظهر علم إجمالا بوقوع نجاسة صباحا اما في ماء البرتقال أو في ماء الرمان ، فالنجاسة حاصلة صباحا إلاّ ان العلم بها حصل بعد الظهر ، أي ما بعد فترة طرو الاضطرار.

وفي هذا الافتراض لا يكون العلم الإجمالي منجزا للإناء الثاني ويكون حال ذلك حال الافتراض الأوّل.

والنكتة في ذلك هي اختلال الركن الثالث - تعارض الاصول - لأن ماء البرتقال بعد فرض الاضطرار إليه يكون المكلّف قاطعا بحليته ولا يكون بحاجة الى اجراء الأصل فيه وبالتالي يجري الأصل في إناء الرمان بلا معارض.

وهل الركن الأوّل - ثبوت العلم بالتكليف - مختل أيضا كما كان مختلا في الافتراض الأوّل؟ كلا أنّه ليس بمختل ، فالمكلف في الافتراض الأوّل وان لم يكن له علم بالتكليف إلاّ أنّه في هذا الافتراض له علم بذلك.

والنكتة الفارقة هي ان المكلّف في هذا الافتراض وان حصل له العلم الإجمالي بالنجاسة بعد طرو الاضطرار إلاّ ان متعلق العلم هو النجاسة الثابتة قبل الاضطرار ، فالمكلف بعد الظهر يحصل له العلم بتحقق وجوب الاجتناب في حقه

ص: 307

صباحا عن أحد الإنائين ، ولكن هذا العلم لا أثر له لأنّه حصل في وقت لا تتعارض الاصول في اطرافه.

تلخيص وأسئلة

اتضح من خلال ما تقدم ان صورة الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين تشتمل على ثلاثة افتراضات هي : -

أ - ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي. وفي مثله لا يحصل علم بالتكليف لأن العلم بالنجاسة يحدث للمكلف في وقت هو مضطر فيه إلى ارتكاب أحد الطرفين.

وقد تسأل : لماذا لا تفترض هنا مسألة الفرد الطويل والقصير؟

والجواب : إنّ الحرمة القصيرة لا يمكن تصورها في هذا الفرض لأن قطرة النجاسة وقعت حسب الفرض بعد طرو الاضطرار ، فقبل الاضطرار لم تقع القطرة حتى تحصل الحرمة بل الإناء طاهر ، وبعد طرو الاضطرار لا تحدث حرمة في إناء البرتقال حتى لو فرض القطع بوقوع القطرة فيه لفرض الاضطرار لارتكابه.

وعليه فلم تمر على إناء البرتقال فترة تكون الحرمة ثابتة فيها حتى تكون قصيرة.

ب - ان يكون الاضطرار حاصلا بعد العلم الإجمالي. وفي مثله يتصور العلم بالفرد الطويل والقصير إذ الحرمة ثابتة قبل طرو الاضطرار جزما ولكن لا يعلم هي طويلة أو قصيرة ، فعلى تقدير ثبوت النجاسة في إناء البرتقال هي

ص: 308

قصيرة وإلاّ فهي طويلة.

وقد تقول : ان الاصول في هذا الفرض ليست متعارضة إذ اناء ماء البرتقال بعد فرض طرو الاضطرار عليه يجزم بحليته ولا حاجة إلى اجراء الأصل فيه بل يجري في الإناء الآخر بلا معارض.

والجواب : ان هذا يتم لو كان العلم الإجمالي بالدوران بين الفرد القصير والطويل حادثا بعد الاضطرار ، اما إذا كان حادثا قبل الاضطرار - كما أوضحنا ذلك سابقا - فالأصول تبقى متعارضة لأن سبب تعارضها وهو العلم الإجمالي ثابت حتى بعد طرو الاضطرار ، فان تقضّي امد الفرد القصير لا يعني زوال العلم الإجمالي. وما دام ثابتا قبل الاضطرار وبعده فيكون سببا لتعارض الاصول قبل الاضطرار وبعده.

ج - ان يكون الاضطرار حاصلا قبل العلم الإجمالي ولكن المعلوم بالاجمال متقدم. وفي مثله لا تتعارض الاصول في الأطراف لأن سبب تعارضها هو العلم الإجمالي ، والمفروض حصوله بعد الاضطرار ، أي في فترة لا يجري فيها الأصل في إناء البرتقال للقطع بحليته.

وقد تقول : لماذا لا تجري مسألة الفرد القصير والطويل هنا؟

والجواب : ان العلم بالحرمة المرددة بين القصيرة والطويلة وان كان حاصلا إذ المكلّف بعد ان علم بثبوت نجاسة صباحا سابقة على الاضطرار سوف يعلم بتوجه وجوب الاجتناب إليه في الصباح ويتردد ذلك الوجوب الموجه بين ان يكون قصيرا ينتهي أمده بالاضطرار - على تقدير طرو النجاسة في إناء البرتقال - أو طويلا ، ولكن حيث انّ هذا العلم حدث بعد الاضطرار وذلك فلا

ص: 309

يكون منجزا إذ شرط المنجزية تعارض الاصول في الأطراف ، والعلم الإجمالي متى ما حصل بعد الاضطرار فلا تتعارض الاصول في اطرافه بل تجري البراءة في ماء الرمان بلا معارض ، فان التعارض يحصل عند تحقق العلم الإجمالي لا قبله ، وحيث ان تحقق العلم الإجمالي في المقام هو بعد الاضطرار فلا يكون سببا لتعارض الاصول.

طرو المسقطات الاخرى

هذا كله في الافتراضات الثلاثة لطرو الاضطرار.

وقد تسأل عن طرو المسقطات الاخرى ، كما اذا تلف أحد الإنائين أو طهر أو غير ذلك فما هو الحكم؟

ان الحكم هنا هو نفس الحكم في صورة طرو الاضطرار ، فكما ان الاضطرار لو طرأ بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر كذلك لو تلف أحد الإنائين بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر. وكما لو طرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه يسقط عن المنجزية كذلك هنا ، والنكتة هي نفس النكتة السابقة ، فان تلف أحد الطرفين لو كان حاصلا بعد العلم الإجمالي تشكّل لدى المكلّف علم إجمالي يتردد طرفاه بين القصير والطويل بخلاف ما اذا كان حاصلا قبله.

الصورة الثانية

والصورة الثانية من صورتي الاضطرار هي ان يكون الاضطرار إلى طرف غير معين.

ص: 310

وفي هذه الصورة لا إشكال أيضا في جواز ارتكاب أحد الطرفين لقاعدة « رفع عن امتي ما اضطروا إليه » وإنّما الاشكال بالنسبة إلى الطرف الثاني فهل يجوز ارتكابه؟

وبكلمة اخرى : لا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية ، وإنّما الاشكال في جواز المخالفة القطعية وعدمه.

والشيخ الأعظم قدس سره في رسائله حكم بوجوب الاجتناب عن الطرف الثاني في هذه الصورة للعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب على كل تقدير ، فان النجاسة لو كانت في الطرف الأوّل وجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الآخر لفرض ان الاضطرار لم يتعلق بطرف معين بخصوصه. وهكذا لو كانت النجاسة ثابتة في الطرف الثاني فيجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الأوّل.

اذن المكلّف في هذه الصورة يعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب عليه على كل تقدير فيجب عليه الاجتناب عن أحد الطرفين وان جاز له ارتكاب أحدهما للاضطرار.

وهذا بخلافه في الصورة الأولى فان المكلّف لا علم له بوجوب الاجتناب على كل تقدير إذ على تقدير وقوع النجاسة في إناء الرمان فالاجتناب عنه وان كان واجبا إلاّ أنّه على تقدير وقوعها في إناء البرتقال لا يجب الاجتناب عنه لفرض الاضطرار إلى خصوص البرتقال.

هذا هو الفارق بين الصورتين في نظر الشيخ الأعظم (1).

ص: 311


1- ولا حاجة إلى تشقيق المسألة وفرض الاضطرار إلى غير المعين تارة قبل العلم واخرى بعده ووجه ذلك : ان الاضطرار إلى غير المعين سواء كان حادثا بعد العلم الإجمالي أو قبله فالمكلّف يعلم إجمالا بالتكليف الثابت على كل تقدير فيكون منجزا عليه سواء كان اضطراره قبلا أم بعدا.

والآخوند اختار في هذه الصورة عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر أيضا كما اختار ذلك في الصورة السابقة. وذكر في الردّ على الشيخ الأعظم ان النجاسة لو كانت قد أصابت الإناء الأوّل فالاضطرار وان كان يندفع بإرتكاب الإناء الثاني ولكن المكلّف له حق اختيار الإناء الأوّل. وما دام له اختياره فاذا مدّ يده لتناوله ارتفع الحكم بوجوب الاجتناب عنه ولا يبقى لديه علم إجمالي بوجوب الاجتناب ، ومعه فيجوز له اجراء البراءة في الإناء الثاني بلا معارض.

والسيد الشهيد أوضح رأي الآخوند ضمن منهجة تتركب من مقدمات ثلاث (1) :

أ - ان العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، بمعنى انه متى ما ثبت العلم الإجمالي ثبت وجوب موافقته القطعية ولا يمكن التفكيك بينهما.

ب - ان المعلول ساقط ، بمعنى ان وجوب الموافقة القطعية غير ثابت اذ المفروض جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار.

ج - ان المعلول اذا سقط كشف ذلك عن سقوط علته التامة - إذ لا يمكن سقوط المعلول مع ثبوت علته التامة - وهي العلم الإجمالي بثبوت التكليف الفعلي ، فالموافقة القطعية اذا لم تجب كشف ذلك عن عدم بقاء العلم الإجمالي

ص: 312


1- هذا الدليل بالمنهجة المذكورة وان لم يذكر في الكفاية ولكنه من حيث الروح هو نفس ما نقلناه عنها.

بالتكليف الفعلي.

ولكن كيف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي؟ ان زواله لا يكون الاّ بافتراض عدم وجوب الاجتناب عن النجاسة على تقدير اصابتها للإناء الذي يختاره المكلّف فانه على هذا التقدير يجري أصل البراءة في الطرف الآخر بلا معارضة إذ الإناء الذي يختاره يجزم بعدم وجوب الاجتناب عنه بسبب اختياره له فيبقى الطرف الآخر يشك في اصابة النجاسة له ووجوب الاجتناب عنه فيجري أصل البراءة فيه بلا معارض.

هذا ويمكن المناقشة من وجوه ثلاثة : -

1 - ان المقدمة الأولى غير مسلمة ، فلا نسلم ان العلم الإجمالي علة لوجوب الموافقة بل هو مقتض لذلك كما تقدم ص 92 من الحلقة ، فالعلم الإجمالي اذا كان علة لوجوب الموافقة القطعية فسقوط وجوب الموافقة كاشف عن سقوط العلة التامة إذ لا يمكن بقاء العلة التامة عند سقوط المعلول.

واما اذا بني على ان العلم الإجمالي مقتض فسقوط وجوب الموافقة لا يدل على زوال العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، إذ المقتضي يجوز ثبوته عند سقوط المعلول فالنار يمكن ثبوتها حالة عدم ثبوت الاحتراق.

2 - انه ذكر في المقدمة الثانية ان المعلول ساقط ، أي ان الموافقة القطعية لا تجب باعتبار انه يجوز ارتكاب أحد الطرفين لأجل الاضطرار. ويمكن ان نقول ان جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار لا يتنافى ووجوب الموافقة القطعية إذ المقصود من عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ان العلم الإجمالي يمنع من جعل الترخيص في بعض الأطراف بواسطة الأصل العملي

ص: 313

المؤمن - إذ موضوع الأصل هو عدم البيان ، ومع العلم الإجمالي يكون البيان تاما فيمتنع جعل الترخيص بواسطة الأصل المؤمن - وليس المقصود انه يمنع من الترخيص ولو من جهة اخرى كالاضطرار ونحوه والاّ فاي عاقل يحتمل ان المقصود من عليّة العلم الإجمالي انه مع العلم بنجاسة أحد انائين لا يجوز للشارع الترخيص في ارتكاب أحدهما حتى مع الاضطرار والحاجة الملحة إلى التناول.

3 - لو سلمنا جميع المقدمات الثلاث فليست النتيجة تتفق وما رامه الآخوند من جواز المخالفة القطعية وارتفاع التكليف راسا بل مقتضى الجمع بين الحقين - حق عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وحق الاضطرار المقتضي لجواز ارتكاب أحد الطرفين (1) - هو تغير التكليف بالاجتناب عن النجس وهبوطه من الدرجة العالية وصيرورته تكليفا متوسطا ، فان التكليف بالاجتناب عن النجس يتصور بثلاثة أشكال : -

أ - اذا كان الاناء النجس هو الإناء الأوّل واقعا حرم ارتكابه سواء كان - ارتكابه - منفردا أم منضما إلى ارتكاب الاناء الثاني. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة عالية.

ب - اذا كان الإناء النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه سواء كان منفردا أم منضما. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة واطئة وبالاحرى لا تكليف.

ج - اذا كان النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه ان كان منفردا ويحرم ان كان منضما إلى الإناء الآخر. والتكليف في هذا الشكل تكليف متوسط بين

ص: 314


1- لعل من المناسب اضافة افتراض ثالث وهو العلم بثبوت أصل التكليف.

الشكلين السابقين.

وباتضاح هذه الاشكال الثلاثة نقول : ان هذا البرهان لاثبات جواز المخالفة القطعية يبتني على ان يكون التكليف بالاجتناب عن النجس تكليفا بالشكل الاول ، ولكن الجمع بين الحقين يقتضي هبوط التكليف بالاجتناب عن النجس من درجته العالية إلى درجته المتوسطة أي يصير الإناء النجس محرم الإرتكاب في صورة ارتكاب كلا الإنائين وغير محرم الارتكاب على تقدير ارتكاب أحد الإنائين.

وبناء على هذا : اذا ارتكب المكلّف أحد الإنائين تكون الموافقة القطعية منه حاصله - لان المحرم عليه هو ارتكاب كلا الإنائين والمفروض لم يرتكبهما معا وإنّما ارتكب أحدهما - واذا ارتكبهما معا يكون قد خالف قطعا.

قوله ص 117 س 1 : قبل العم : الصواب : قبل العلم.

قوله ص 117 س 11 : بعده : متعلق بطرو. والضمير يرجع إلى العلم الإجمالي.

قوله ص 117 س 14 وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعية : هذا أمر مشترك بين الصورتين فكان من المناسب إضافة كلمة « أيضا » بعد كلمة « فلا شك ».

قوله ص 118 س 4 : بسقوط : الانسب التعبير بزوال.

قوله ص 118 س 5 : وذلك بارتفاع التكليف : أي وسقوط العلم الإجمالي يحصل بارتفاع التكليف فانه اذا ارتفع التكليف الفعلي على تقدير ثبوته في الإناء الذي يختاره المكلّف فسوف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي قهرا.

قوله ص 118 س 5 : فلا تكليف مع الاضطرار المفروض : في العبارة ايهام. والمقصود : لا تكليف على تقدير ثبوته في الطرف الذي اختاره.

قوله ص 119 س 7 : على الاطلاق : أي ابدا.

ص: 315

ص: 316

الحالة الثالثة أو انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي

اشارة

هناك حالات ينحل فيها العلم الإجمالي ويسقط عن المنجزية. وسبب ذلك اما الانحلال الحقيقي - الحاصل بسبب العلم التفصيلي - أو الانحلال الحكمي.

وهذه الحالة ناظرة إلى الانحلال الحقيقي واستعراض صوره بينما الحالة الرابعة من الحالات العشر ناظرة إلى الانحلال الحكمي.

ولتوضيح الحال في الانحلال الحقيقي نقول : ان لكل علم إجمالي سببا ولا يمكن ان يحصل علم إجمالي بلا سبب ، فمثلا من يرى قطرة دم تقع في واحد من أواني عشرة يحصل له علم إجمالي بنجاسة احدها. والسبب لهذا العلم الإجمالي هو وقوع القطرة فلولا وقوعها في أحد الأواني لم يحصل له هذا العلم الإجمالي.

وهذا شيء واضح بيد ان سبب العلم الإجمالي له حالتان ، إذ تارة يكون - سبب العلم الإجمالي - مختصا واقعا بطرف معين من الأطراف ، واخرى تكون نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة دون اختصاص له ببعض الأطراف.

مثال الحالة الأولى : ما ذكرناه من العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأواني الناشئ من وقوع قطرة دم في بعضها ، فان سبب هذا العلم الإجمالي - وهو وقوع القطرة - يختص بإناء واحد معين واقعا إلاّ أنّه حيث لم يتعين لدينا ذلك الإناء حصل العلم الإجمالي.

ولأجل اختصاص هذا السبب ببعض الأواني يمكن أخذ هذا السبب في

ص: 317

المعلوم بالاجمال فيصح ان نقول ان معلومنا الإجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة.

ومثال الحالة الثانية : ما اذا كان لدينا أواني عشرة وكان إلى جنبها كلب عطشان فإنه بعد مضي فترة يحصل لنا علم إجمالي بنجاسة واحد من الأواني على الأقل إذ من البعيد جدا ان الكلب مع عطشه لم يشرب من أحدها.

وسبب العلم الإجمالي المذكور الاستبعاد. وهذا السبب لا يختص بطرف دون آخر إذ الاستبعاد لا يختص واقعا بأحد الأطراف بل نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة (1). ولأجل عدم اختصاصه واقعا بطرف معين فلا يصح اخذه قيدا في المعلوم بالاجمال فلا يمكن ان نقول ان المعلوم الاجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من الاستبعاد ، فان الاستبعاد لا يختص بأحد الأواني حتى يؤخذ قيدا فيه.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين ناخذ الحالة الاولى أولا ونطرح فيها السؤال التالي : متى ينحل العلم الاجمالي بنجاسة أحد الأواني - نجاسة ناشئة من وقوع القطرة - بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا؟

والجواب : انّه توجد في هذه الحالة شقوق ثلاثة هي : -

أ - ان يعلم إجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع قطرة الدم ثم يحصل العلم التفصيلي بذلك الاناء الذي اصابته القطرة ، أي يتعلق العلم

ص: 318


1- أجل النجاسة الثابتة بسبب الاستبعاد وان كانت مختصة ببعض الأطراف إلاّ ان الاستبعاد الذي هو سبب العلم بالنجاسة لا يختص ببعض الأطراف. هذا ولكن سيأتي منّا فيما بعد التعليق على ذلك.

التفصيلي بنفس ما كان العلم الإجمالي متعلقا به.

وفي مثله لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا لأن المفروض ان المعلوم بالتفصيل هو نفس المعلوم بالاجمال جزما.

وبعد حصول الانحلال تزول المنجزية عن العلم الاجمالي لاختلال الركن الثاني من الاركان الأربعة للمنجزية - وهو عدم سراية العلم من الجامع إلى الفرد - إذ المفروض سراية العلم من الجامع إلى الفرد.

وهذه السراية سراية بالنحو الأوّل من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني ، فان النحو الأوّل هو ان يكون العلم التفصيلي متعلقا بنفس المعلوم الإجمالي والمفروض ان الأمر في هذا الشق الأوّل كذلك ، أي ان العلم التفصيلي متعلق بنفس ما تعلق به العلم الإجمالي.

ب - ان يعلم إجمالا بنجاسة واحد من الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة ناشئة من قطرة اخرى غير القطرة الاولى.

وفي هذا الشق لا إشكال في عدم حصول الانحلال لأن المفروض ان المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الاجمالي بل هو مغاير له فلماذا الانحلال؟

ج - ان يعلم اجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة نحتمل انها نفس النجاسة السابقة كما ونحتمل انها غيرها.

وفي هذا الشق لا يحصل الانحلال لأنه يدخل تحت النحو الثالث من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني - فإنه تقدم في النحو الثالث أنّا اذا علمنا

ص: 319

بوجود انسان طويل في المسجد ثم علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ولكن لم نعلم انّه طويل حتّى يكون مصداقا للمعلوم بالإجمال أو قصير فلا ينحل العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي إنّما ينحل بالعلم التفصيلي لا بعلم إجمالي آخر - إذ المفروض في هذا الشق أن المعلوم الاجمالي معلّم بعلامة خاصة ، وهي كون النجاسة ناشئة من وقوع القطرة ، والمفروض أيضا أنّ المعلوم التفصيلي لا يحرز تواجد العلامة المذكورة فيه.

هذا كله في الحالة الأولى.

وأمّا الحالة الثانية - وهي كون سبب العلم الاجمالي غير مختص بطرف دون آخر - فنطرح فيها السؤال السابق أيضا ، وهو أنه متى ينحل العلم الاجمالي بالنجاسة بالعلم التفصيلي؟

والجواب : ان الانحلال هنا لا يختص بشقّ دون شق ، بل هو حاصل مطلقا ، فمثلا اذا كان لدينا عشرة أواني ، وبسبب الاستبعاد علمنا اجمالا بأنّ الكلب قد شرب من بعضها ، فاذا فرضنا أنّا بعد ذلك علمنا تفصيلا بأنّ الاناء الثاني مثلا قد شرب منه الكلب (1) ، فلا اشكال في حصول الانحلال لأنّ المعلوم بالتفصيل مصداق جزما للمعلوم بالاجمال ، إذ المفروض أن المعلوم بالاجمال لم يؤخذ معلّما بعلامة حتّى يدخل في النحو الثالث - من الانحاء المذكورة في الركن الثاني - الذي لا يحصل فيه الانحلال بل هو داخل في النحو الثاني من تلك الانحاء

ص: 320


1- طبيعي هذا الاناء الثاني يحتمل أنه عين الاناء الذي ثبتت نجاسته بالاستبعاد ويحتمل كونه غيره.

الذي تقدّم حصول الانحلال فيه (1).

التعاصر بين العلمين أو المعلومين

وبعد ان عرفنا حصول الانحلال الحقيقي في موردين : الحالة الثانية والشقّ الاوّل من الحالة الاولى ، نطرح السؤال التالي : هل يلزم لحصول الانحلال الحقيقي التعاصر بين زمان حصول العلمين : الاجمالي والتفصيلي أو يلزم التعاصر بين زمان المعلومين أو لا يشترط هذا ولا ذاك؟

وتوضيح ذلك : انّا لو كنا نعلم اجمالا في الساعة الثانية بتنجس احد الانائين في الساعة الأولى ثم حصل لنا العلم تفصيلا في الساعة الثالثة بأنّ الاناء الذي تنجّس في الساعة الاولى هو الاناء الأوّل فسوف نجد بعد الالتفات إلى هذه الفرضيات أنّ زمان حصول العلم التفصيلي ليس معاصرا لزمان حصول العلم الاجمالي ، بل هو متاخر عنه ، فزمان حصول العلم الإجمالي هو الساعة الثانية وزمان حصول العلم التفصيلي هو الساعة الثالثة ، ولكنّا اذا نظرنا إلى المعلوم بالاجمال والمعلوم بالتفصيل - المعلوم بالاجمال هو نجاسة أحد الانائين ، والمعلوم بالتفصيل هو نجاسة الاناء الأوّل - وجدنا أنّ زمانهما واحد وهو الساعة الاولى ، فالنجاسة المعلومة بالاجمال ثابتة في الساعة الاولى ، والنجاسة المعلومة

ص: 321


1- ولا يدخل في النحو الأوّل ، إذ في النحو الأوّل يكون العلم التفصيلي متعلقا بنفس ما تعلق به العلم الإجمالي ، والمفروض في مقامنا انّ العلم التفصيلي لم يتعلق بنفس ذلك الاناء الذي ثبتت نجاسته بالاستبعاد ، بل تعلق بنجاسة إناء يحتمل كونه عين ما ثبتت نجاسته بالاستبعاد ويحتمل كونه غيره

بالتفصيل ثابتة في الساعة الاولى أيضا.

وباتضاح هذا يتجلّى أنّ اللازم لتحقّق الانحلال الحقيقي هو التعاصر بين زمان المعلوم بالاجمال وزمان المعلوم بالتفصيل ، فإذا كان زمان المعلومين واحدا - وهو الساعة الاولى - حصل الانحلال حتّى وإن كان زمان حصول العلمين مختلفا. وأمّا اذا لم يكن زمان المعلومين واحدا بل مختلفا - كما اذا علمنا بتنجس احد الانائين في الساعة الاولى ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ الاناء الأوّل تنجس في ساعة اخرى بنجاسة اخرى جديدة - فلا يحصل الانحلال لأن المعلوم الاجمالي مغاير للمعلوم التفصيلي ، فالمعلوم الاجمالي هو تنجس احد الانائين بنجاسة في الساعة الاولى بينما المعلوم التفصيلي هو تنجس الاناء الأوّل بنجاسة اخرى في الساعة الثانية.

قوله ص 120 س 3 : بنفس سبب العلم الاجمالي : أي كان متعلّقا بنفس سبب العلم الاجمالي.

قوله ص 120 س 15 : فيه : الضمير يرجع إلى العلم الاجمالي. ولعل حذف كلمة « فيه » اولى لعدم الحاجة اليها بل وجودها مشوش.

قوله ص 120 س 17 : الاناءات : المناسب : الاواني ، فان المفرد : اناء ، والجمع : آنية ، وجمع الجمع : أوان.

قوله ص 121 س 1 : فإنّ هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو واحد : يمكن أن يقال انّ ما هو على وزان الاستبعاد هو رؤية وقوع القطرة لا نفس وقوع القطرة إذ ما يكون على وزان وقوع القطرة هو ملاقاة الكلب لا الاستبعاد نفسه.

ص: 322

ومعه فكما لا يمكن أخذ الاستبعاد قيدا في المعلوم بالاجمال لعدم اختصاصه بطرف معين كذلك لا يمكن أخذ رؤية وقوع القطرة فيه لعدم اختصاص الرؤية بطرف معيّن. وكما يمكن أخذ وقوع القطرة قيدا فيه كذلك يمكن أخذ ملاقاة الكلب قيدا فيه.

وبالجملة لا نعرف وجها للفرق.

قوله ص 121 س 3 : لا يصلح : أي السبب.

قوله ص 121 س 7 : بقيد زائد : وهو الاستبعاد مثلا.

قوله ص 121 س 12 : حقيقة : أي لا ينحل انحلالا حقيقيا. والتقييد بذلك لا للاحتراز عن الانحلال الحكمي ، بل لأنّ محل الكلام انما هو في الانحلال الحقيقي إذ الكلام في الانحلال الحكمي يأتي في الحالة الرابعة.

قوله ص 121 س 14 : وانهدام الركن الثاني : وهذا اشبه بعطف التفسير على الانحلال الحقيقي. المقصود من انهدام الركن الثاني سراية العلم من الجامع إلى الفرد.

قوله ص 121 س 16 : اذا احرز الخ : أي ما دام المعلوم التفصيلي متّحدا ومصداقا للمعلوم الاجمالي.

ص: 323

ص: 324

الحالة الرابعة أو الانحلال الحكمي

اشارة

والحالة الرابعة من الحالات العشر التي لا يكون العلم الاجمالي فيها منجّزا هي حالة الانحلال الحكمي على خلاف الحالة السابقة حيث كان الحديث فيها عن الانحلال الحقيقي.

وقبل الدخول في البحث ، نستذكر مقدمتين :

1 - إنّ انحلال العلم الاجمالي له اقسام ثلاثة :

أ - الانحلال الحقيقي. ويقصد به زوال العلم الاجمالي من النفس زوالا حقيقيا ، كما اذا علم المكلّف بنجاسة احد انائين بسبب قطرة دم ثم نظر فيهما فرأى انّ القطرة قد اصابت الاناء الأوّل.

في هذه الحالة يزول العلم الاجمالي من النفس حقيقة ويتحول إلى علم تفصيلي بنجاسة خصوص الاناء الأوّل وشك بدوي في نجاسة الثاني.

ب - الانحلال الحكمي. ويقصد به بقاء العلم الاجمالي في النفس حقيقة إلاّ أنّ حكمه - وهو التنجيز - لا يكون ثابتا ، كما لو كان لدينا إناءان علمنا بوقوع قطرة دم في احدهما ونفرض انّ الإناء الأوّل كانت حالته السابقة هي النجاسة.

في مثل ذلك يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي - مع كونه ثابتا في النفس حقيقة - لا يكون منجزا لأنّ الإناء الأوّل حيث انّ حالته السابقة هي النجاسة فيجري فيه استصحاب النجاسة ، وبجريان

ص: 325

الاستصحاب المذكور لا يجري أصل الطهارة في الإناء الأوّل - لأنّ الاستصحاب حاكم على أصل الطهارة - بل يجري في الإناء الثاني بلا معارض.

وإذا لم تتعارض الاصول في الأطراف وجرت في طرف دون آخر لم يكن العلم الإجمالي منجزا لأنّه تقدّم أنّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في الأطراف.

وعلى ضوء هذا نعرف أنّه كلّما كان في أحد الإنائين امارة تدل على النجاسة (1) أو استصحاب لم تتعارض الاصول في الأطراف ويرتفع تنجيز العلم الإجمالي.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي والحقيقي يتّضح انّ الانحلال الحقيقي لا يتحقّق إلاّ في موارد حصول العلم التفصيلي بعد الإجمالي ولا يكفي حصول الامارة أو الأصل لتحققه ، بينما الانحلال الحكمي يتحقّق في موارد قيام الامارة أو الأصل.

ج - الانحلال التعبّدي. ويقصد به انّه لو كنّا نعلم إجمالا بنجاسة أحد إنائين ثمّ شهد الثقة بنجاسة الإناء الأوّل فإذا قلنا انّ دليل حجّية خبر الثقة يستفاد منه التعبّد بانحلال العلم الإجمالي ثبت الانحلال ، وسمّي ذلك بالانحلال التعبّدي لأنّه تعبّد بالانحلال استفيد من دليل حجّية خبر الثقة.

وهذه الاستفادة من دليل حجّية خبر الثقة إن تمّت ثبت الانحلال حتّى لو

ص: 326


1- طبيعي لا بدّ من فرض انّ الامارة التي شهدت بنجاسة الإناء لا تفيد العلم إذ لو أفادت العلم - كما قد يحصل ذلك أحيانا - فالانحلال حقيقي لا حكمي.

قطعنا النظر عن مسألة عدم تعارض الاصول في الأطراف.

وبكلمة ثانية : بناء على فكرة الانحلال التعبّدي يكون دليل حجّية الامارة قد عبّدنا وبلسان التعبّد بأنّ وجود العلم الإجمالي في حكم العدم ، فحينما يقول دليل حجّية الامارة خذ بالامارة واحكم بنجاسة هذا الطرف فمعناه انّي أحكم عليك بعدم السير على طبق علمك الإجمالي ولا يلزمك الاجتناب عن كلا الطرفين بل يكفيك الاجتناب عن هذا الطرف الذي دلت الامارة على نجاسته.

وهذا بخلافه في الانحلال الحكمي فإنّ الأصل حينما يجري في أحد الطرفين بلا معارضة يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بدون افتراض استفادة التعبّد بالانحلال من لسان دليل.

ثمّ انّه قد تقدّم ص 107 من الحلقة رفض فكرة الانحلال التعبدي وانّ دليل حجّية الامارة لا يستفاد منه ذلك ، ومعه يبقى الانحلال التعبّدي مصطلح بلا مصداق وفكرة بلا واقع.

2 - لمنجزية العلم الإجمالي أربعة أركان ، الثالث منها تعارض الاصول في الأطراف ، فلو لم تتعارض - كما إذا كان في أحد الطرفين امارة تدل على نجاسته أو استصحاب - لم يكن العلم الإجمالي منجزا.

وتقدّم انّ الركن المذكور بهذه الصياغة يتمّ على مسلك الاقتضاء ؛ إذ على المسلك المذكور يكون تأثير العلم الإجمالي في المنجزية مشروطا بعدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف - فكما انّ معنى كون النار مقتضية للاحراق ان تأثيرها مشروط بعدم وجود المانع كذلك معنى كون العلم الإجمالي مقتضيا للمنجزية ان تأثيره في المنجزية مشروط بعدم المانع أي بعدم الترخيص في بعض

ص: 327

الأطراف - ولأجل أن يزول احتمال ثبوت الترخيص في بعض الأطراف لا بدّ وأن نفترض تعارض الاصول في الأطراف.

وامّا على مسلك العلية فلا تكون المنجزية منوطة بعدم ثبوت الترخيص في بعض الأطراف ولا حاجة إلى افتراض تعارض الاصول.

ومن هنا صاغ الشيخ العراقي الركن المذكور بصياغة اخرى فقال : انّه يشترط في منجزية العلم الإجمالي أن لا يكون بعض الأطراف قد تنجز بمنجّز آخر غير العلم الإجمالي فلو كان قد تنجز بعض الأطراف بامارة أو استصحاب لم يكن العلم الإجمالي منجزا للطرف الآخر.

وقد تقدّم البرهان على هذه الصياغة العراقية. كما وتقدّم الفارق العملي بينها وبين الصيغة الميرزائية.

وبالجملة : ان للركن الثالث صياغتين : صياغة ميرزائية وصياغة عراقية.

وبعد اتضاح هاتين المقدّمتين نعود إلى الحالة الرابعة من الحالات التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجزا وهي حالة الانحلال الحكمي. ومثالها : ما لو كان لدينا إناءان نعلم إجمالا بنجاسة أحدهما وكان قبل العلم الإجمالي امارة أو استصحاب يدلاّن على نجاسة الإناء الأوّل مثلا ، انّ العلم الإجمالي في مثل ذلك ينحلّ انحلالا حكميا ، بمعنى انّ العلم الإجمالي وإن كان باقيا في النفس حقيقة إلاّ أنّ منجزيّته تزول بسبب زوال الركن الثالث من أركان المنجزية بكلتا صيغتيه.

أمّا زواله بالصيغة الميرزائية فلأنّه بعد وجود الامارة أو الاستصحاب في الإناء الأوّل لا يتعارض أصل الطهارة في الإنائين بل يجري في الإناء الثاني بلا معارض.

ص: 328

وأمّا زواله بالصيغة العراقية فلأنّه مع وجود الامارة أو الاستصحاب في الإناء الأوّل لا يكون العلم الإجمالي هو المنجز الوحيد لكلا الطرفين بل يكون الاناء الاول قد تنجز بمنجز آخر غير العلم الإجمالي.

وهذا واضح. والشيء الجديد الذي نريد أن نقوله هو ان قيام الامارة أو الاستصحاب وإن كان يوجب زوال المنجزية وانحلال العلم الإجمالي انحلالا حكميا إلاّ أنّ شرط زوال المنجزية والانحلال الحكمي امور ثلاثة لو تمّت حصل الانحلال الحكمي وإلاّ فلا ، وهي :

1 - أن يكون عدد الأطراف التي قامت الامارة على نجاستها يساوي عدد الأطراف المعلوم نجاستها إجمالا ولا يقلّ عنها ، فلو كان لدينا عشرة أواني نعلم إجمالا بنجاسة اثنين منها فمتى ما قامت الامارة على نجاسة اثنين منها انحل العلم الإجمالي لأنّه بعد قيام الامارة على النجاسة في الإنائين لا يجري أصل الطهارة فيهما ويجري في الأواني الثمانية الباقية بلا معارض. وأمّا إذا فرض انّ الامارة دلّت على نجاسة إناء واحد فلا تزول المنجزية عن العلم الإجمالي لأنّ الاصول تبقى متعارضة في الأواني التسعة الباقية.

2 - أن لا يكون التكليف الثابت بسبب الامارة مغايرا للتكليف الثابت بسبب العلم الإجمالي فلو كان مغايرا - كما لو كنّا نعلم بنجاسة أحد إنائين وقد دلت الامارة على غصبية الإناء الأوّل - بقي العلم الإجمالي على المنجزية لأنّ ما تنظر له الامارة وتنجزه يغاير ما ينظر له العلم الإجمالي وينجزه ، فالامارة تنجز وجوب الاجتناب عن المغصوب بينما العلم الإجمالي ينجز وجوب الاجتناب عن

ص: 329

النجس فلا ربط لأحدهما بالآخر حتّى يحصل الانحلال (1).

3 - أن يكون قيام الامارة أو الأصل ثابتا قبل حصول العلم الإجمالي ، وأمّا لو كان بعده فالعلم الإجمالي يبقى على المنجزية ، فلو فرض انّا علمنا إجمالا في الساعة الثانية بنجاسة أحد إنائين ثمّ قامت امارة في الساعة الثالثة على نجاسة الإناء الأوّل بقي العلم الإجمالي على المنجزية لأنّه بعد قيام الامارة وإن لم يجر أصل الطهارة في الإناء الأوّل ولكن المعارضة تبقى على حالها إذ أصل الطهارة في الإناء الأوّل في الساعه الاولى - أي قبل قيام الامارة - كان جاريا ، وما دام جاريا يصير معارضا لأصل الطهارة في الإناء الثاني في تمام الساعات.

وبتعبير ثاني : انّه بعد قيام الامارة في الساعة الثالثة يمكننا تشكيل علم إجمالي جديد بان نقول انا نعلم إجمالا بنجاسة اما الإناء الأوّل في الساعة الأولى او بنجاسة الإناء الثاني في تمام الساعات ، ومع ثبوت هذا العلم الإجمالي يتعارض أصل الطهارة فى طرفيه ، فاصل الطهارة في الإناء الأوّل في الساعة الاولى يتعارض مع أصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني في تمام الساعات ، وبتعارض الأصل في الطرفين يكون العلم الإجمالي منجزا ويجب الاجتناب عن كلا طرفيه فيجب الاجتناب في الساعة الاولى عن الاناء الأوّل (2) ، كما ويجب

ص: 330


1- قد يقال في تقريب الانحلال الحكمي بأنّ أصل الطهارة يجري في الإناء الثاني دون أن يعارض بأصل الطهارة في الإناء الأوّل ، إذ بعد غصبيته لا معنى لجريان أصل الطهارة فيه لأنّه لغو وبلا فائدة لعدم إمكان شربه من جهة الغصبية. والجواب : انّه لا لغوية في جريان أصل الطهارة في الإناء الغصبي إذ بجريانه يثبت انّ المكلّف لو شربه عصيانا أو نسيانا أو مسّ ثوبه فلا يجب عليه التطهير.
2- واما ما بعد الساعة الاولى فإلاجتناب وان كان واجبا إلاّ انه بسبب الامارة لا بالعلم الاجمالي.

الاجتناب عن الإناء الثاني في تمام الساعات (1).

وهذا كله بخلاف ما لو كانت الأمارة قد قامت على نجاسة الاناء الأوّل قبل العلم الإجمالي فان العلم الإجمالي يسقط عن المنجزية ، فلو دلت الامارة في الساعة الاولى على نجاسة الاناء الأوّل ثم حصل العلم الإجمالي في الساعة الثانية بوقوع قطرة دم اما في الإناء الأوّل أو في الإناء الثاني فالعلم الإجمالي المذكور لا يكون منجزا لعدم تعارض الأصل في اطرافه إذ الاناء الأوّل لا يجري فيه أصل الطهارة ابدا لسقوطه قبل العلم الإجمالي (2).

ص: 331


1- ونفس هذا البيان يأتي فيما لو طهّر الاناء الأوّل أو خرج عن محل الابتلاء ونحو ذلك من الأسباب الموجبة لعدم جريان أصل الطهارة فان العلم الإجمالي يبقى على المنجزية لان أصل الطهارة في الإناء الأوّل وان لم يجر بعد خروجه عن محل الابتلاء إلاّ انه حيث كان جاريا قبل الخروج عن الابتلاء فيحصل تعارض بين هذا الأصل الجاري قبل الخروج عن الابتلاء وبين الأصل الجاري في الإناء الثاني في تمام الوقت. ومن الغريب ما اختاره المحقق الايرواني في كتابه نهاية النهاية ج ٢ ص ١٢٧ من عدم المنجزية في الحالات المذكورة.
2- وقد تقول ان هذا واضح على مسلك الاقتضاء ، ولكن كيف الحال على مسلك العلية؟ والجواب : ان النتيجة على مسلك العلية هي نفسها على مسلك الاقتضاء فان العلم الإجمالي بشكله الجديد الذي صورناه سابقا ثابت من دون فرق بين المسلكين ، فعلى كلا المسلكين يمكننا ان نقول انا نعلم اجمالا اما بنجاسة الإناء الأوّل في الساعة الاولى أو بنجاسة الإناء الثاني في تمام الوقت. وهذا العلم الاجمالي وجداني ولا يمكن لأحد انكاره ، ومع ثبوته ينجز كلا طرفيه _ وهما وجوب الاجتناب عن الإناء الأوّل في الساعة الاولى ووجوب الاجتناب عن الإناء الثاني في تمام الوقت _ فان أصل طهارة الإناء الأوّل في الساعة الاولى يتعارض مع أصل طهارة الإناء الثاني في تمام الوقت. هذا على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فيكون العلم الإجمالي المذكور منجزا أيضا لأن الإناء الأوّل في الساعة الاولى لا يوجد له منجز آخر غير العلم الإجمالي وإنما له منجز آخر فيما بعد الساعة الاولى ، وهكذا الإناء الثاني لا يوجد له منجز غير العلم الإجمالي ، ومعه فيجب هجر كلا الطرفين فيجب هجر الإناء الأوّل في الساعة الاولى كما ويجب هجر الإناء الثاني في تمام الوقت. وأما هجر الإناء الأوّل فيما بعد الساعة الاولى فهو واجب أيضا ولكن لا من جهة العلم الإجمالي بل من جهة الأمارة. هذا لو كانت الأمارة قد حصلت بعد العلم الإجمالي. وأمّا لو كانت حاصلة قبل العلم الإجمالي فلا يكون منجزا لأنه حينما يحصل _ العلم الإجمالي _ يحصل وأحد طرفيه قد تنجز بمنجز آخر. هذا مضافا إلى ان العلم الإجمالي بشكله الجديد الذي صورناه سابقا لا يمكن تشكيله هنا.

تقدم الامارة دون مؤداها

والخلاصة التي انتهينا إليها هي : ان حدوث الأمارة وحصولها لا بدّ وان يكون متقدما على العلم الإجمالي ، فمتى ما اخبرنا الثقة اولا بنجاسة الإناء الأوّل ثم حصل العلم الإجمالي بوقوع قطرة دم اما في الإناء الأوّل أو في الإناء الثاني لم يكن العلم الإجمالي منجزا لأنّ العلم الإجمالي يحدث في وقت لا تكون الأصول متعارضة في اطرافه.

وأمّا اذا انعكس الأمر بان كنّا نعلم إجمالا في الزمان السابق بنجاسة أحد الإنائين ثم اخبرنا الثقة بنجاسة الإناء الأوّل بعد مضي ساعة من حدوث العلم الإجمالي كان العلم الإجمالي باقيا على المنجزية حتى وان كانت النجاسة المخبر

ص: 332

عنها متقدمة - بان كان الثقة يشهد بحدوث النجاسة في الإناء الأوّل قبل زمان حصول العلم الإجمالي - فان تقدم مؤدى الخبر على العلم الإجمالي لا يكون سببا لارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي ، وانما المهم تقدم نفس الخبر.

ولكن لماذا ارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي موقوف على تقدم نفس الخبر ولا يكفي تقدم المؤدى؟

وبتعبير ثاني : لماذا جريان الأصل في الإناء الثاني بلا معارضة بالأصل في الإناء الأوّل موقوف على تقدم نفس الخبر؟

وبتعبير ثالث : لماذا يتوقف حصول الانحلال الحكمي على تقدم نفس الخبر؟

والجواب : ان ارتفاع المنجزية عن العلم الإجمالي وبالتالي جريان الأصل في الإناء الثاني بدون معارضة موقوف على ثبوت المنجز في الإناء الأوّل (1) ، وواضح ان المنجز لا يكون ثابتا إلاّ عند قيام الخبر ، فمتى ما قام الخبر وشهد بالنجاسة حدث المنجز وسقط أصل الطهارة من ذاك الحين ، فاذا شهد الثقة بنجاسة الإناء الأوّل بعد مضي ساعة من العلم الإجمالي سقط أصل الطهارة من

ص: 333


1- فانه متى ما ثبت المنجز في الإناء الأوّل لم يكن العلم الإجمالي منجزا اذ بعد حصول المنجز في الإناء الأوّل لا يجري الأصل فيه ويجري في الإناء الثاني بلا معارض. هذا بناء على مسلك الاقتضاء. وأما على مسلك العلية فلأنه بعد حصول المنجز في الإناء الأوّل يصير أحد طرفي العلم الإجمالي قد تنجز بمنجز آخر غير العلم الإجمالي ، والشيخ العراقي يقول في صياغته للركن الثالث : يشترط في منجزية العلم الإجمالي عدم وجود منجز آخر في أحد طرفي العلم الإجمالي.

حين شهادته ولم يسقط في الساعة السابقة حتى وان كانت النجاسة المشهود بها متقدمة. واذا لم يسقط في الساعة السابقة كان الأصل الجاري في تلك الساعة السابقة معارضا لأصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني في تمام الوقت. وما دامت الاصول متعارضة يكون العلم الإجمالي منجزا.

مقارنة بين الانحلالين

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي والانحلال الحقيقي يمكن ان نخرج بهذه النتيجة : يلزم في الانحلال الحكمي تقدم وجود المنجز - كخبر الثقة مثلا - على العلم الإجمالي أو مقارنته معه. والتعبير الجامع ان لا يتاخر وجود المنجز عن العلم الإجمالي.

واما في الانحلال الحقيقي فاللازم المقارنة بين المعلومين ، فالنجاسة المعلومة بالاجمال يلزم ان تكون مقارنة للنجاسة المعلومة بالتفصيل من حيث الزمان ولا يلزم تقدم حدوث العلم التفصيلي على زمان حدوث العلم الإجمالي.

والنكتة في ذلك تكمن في ان معنى الانحلال الحقيقي عبارة اخرى عن سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، والسراية تحتاج إلى اتحاد المعلومين ليصير المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي فلو لا الاتحاد بين المعلومين من حيث الزمان لم ينطبق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل ولم يصر المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال وبالتالي لم يسر العلم من الجامع إلى الفرد حتى يتحقق الانحلال الحقيقي.

فالمهم اذن اتحاد المعلومين من حيث الزمان حتى تتحقق السراية ، واما

ص: 334

تقدم حدوث العلم التفصيلي على حدوث العلم الإجمالي فهو غير مهم لأنّه لا يؤثر على قضية السراية اللازمة في تحقق الانحلال الحقيقي.

قوله ص 122 س 6 : فلا انحلال حقيقي ولا تعبدي : اما إنه لا انحلال حقيقي فلأن شرطه حصول العلم التفصيلي في بعض الأطراف ، والمفروض عدم وجوده وانما الموجود هو الأمارة أو الأصل.

واما أنّه لا انحلال تعبدي فلما تقدم ص 107 من الحلقة من عدم استفادة التعبد بالانحلال من دليل حجّية خبر الثقة وان الانحلال التعبدي مصطلح بلا مصداق.

قوله ص 123 س 3 : على كل تقدير : حيث ينجز وجوب الاجتناب عن الإناء الثاني على تقدير وجود النجاسة فيه ولا ينجز وجوب الاجتناب عن الاناء الأوّل على تقدير وجود النجاسة فيه وانما يتنجز بالامارة.

قوله ص 123 س 8 : بلحاظه : أي بلحاظ العدد الزائد وهو التسعة.

قوله ص 123 س 9 : في مورد الامارة : وهو الإناء الأوّل. وما ينجزه العلم الإجمالي في الإناء الأوّل هو وجوب الاجتناب عن النجس ، وما تنجزه الأمارة هو وجوب الاجتناب عن المغصوب.

قوله ص 123 س 12 : في غير مورد الامارة الخ : أي غير الاناء الأوّل. والتقدير : إنّ أصل الطهارة الجاري في الإناء الثاني - الذي هو ليس موردا للامارة ولا موردا لاستصحاب النجاسة الذي هو أصل منجز - معارض باصل الطهارة الجاري في الساعة الأولى في الإناء الأوّل.

قوله ص 123 س 14 : من مورد المنجز الشرعي : المنجز الشرعي هو مثل

ص: 335

الامارة. ومورده هو الإناء الأوّل. والتقدير : انه لو اخذنا من الإناء الأوّل الساعة الاولى ومن الإناء الثاني تمام الوقت حصلنا على علم إجمالي بشكل جديد حيث نعلم إجمالا بالنجاسة اما في الإناء الأوّل في الساعة الاولى أو في الإناء الثاني في تمام الوقت.

قوله ص 123 س 17 : ان انهدام الركن الثالث : أي ان حصول الانحلال الحكمي وبتعبير ثاني جريان الأصل في الإناء الثاني بلا معارضة.

قوله ص 124 س 1 : مثلا : أي ان ذكر الامارة من باب المثال والاّ فالكلام يجري نفسه لو كان المنجز شيئا آخر غير الامارة.

قوله ص 124 س 3 : في حالات قيام المنجز الشرعي : أي في حالة قيام الامارة في الإناء الأوّل.

قوله ص 124 س 4 : باحدى الصيغتين السابقتين : أي صيغة الميرزا المبنية على مسلك الاقتضاء وصيغة الشيخ العراقي المبنية على مسلك العلية.

قوله ص 124 س 12 : وهي لازم قهري : أي والسراية لازم قهري الخ.

ص: 336

الحالة الخامسة أو اشتراك العلمين في طرف

نمثل للحالة الخامسة من الحالات التي يكون العلم الاجمالي فيها ساقطا عن المنجزية بما اذا كان لدينا ثلاثة أواني احدها مرقم برقم (1) والثاني برقم (2) والثالث برقم (3). ثم راينا قطرة بول قد وقعت اما في إناء رقم (1) أو في إناء رقم (2) ، وراينا قطرة ثانية قد وقعت اما في إناء رقم (2) أو في إناء رقم (3).

في هذا المثال سوف يتشكل علمان اجماليان اولهما : العلم اجمالا بوقوع القطرة الاولى اما في إناء رقم (1) أو في إناء رقم (2). وثانيهما : العلم اجمالا بوقوع القطرة الثانية اما في إناء رقم (2) أو في إناء رقم (3).

واذا توجهنا قليلا إلى هذين العلمين وجدنا ان الاناء رقم (2) طرف مشترك في العلمين.

ونحن في هذه الحالة نريد ان نبحث عن حكم هذين العلمين الاجماليين فهل المنجز خصوص الأوّل منهما أو كلاهما.

وتوضيح الحال في ذلك : ان العلمين الإجماليين المذكورين تارة يحصلان دفعة واحدة وفي وقت واحد - كما لو رؤي وقوع القطرة الاولى في إناء رقم (1) وإناء رقم (2) في نفس زمان وقوع القطرة الثانية في إناء (2) وإناء (3).

واخرى يحصل العلم الثاني متأخرا عن العلم الأوّل.

فان حصلا في وقت واحد كانا منجزين معا ووجب ترك جميع الأواني

ص: 337

الثلاثة ، فان العلمين المذكورين يرجعان روحا إلى علم إجمالي واحد ذي اطراف ثلاثة فيعلم بوجوب الاجتناب اما عن الإناء الأوّل أو عن الإناء الثاني أو عن الإناء الثالث (1) فيجب ترك جميع الأواني الثلاثة.

اجل إناء (2) له ميزة يمتاز بها عن إناء (1) وإناء (3) وهي ان إناء (2) يثبت له التنجز من ناحية كلا العلمين إذ المفروض حصولهما معا في وقت واحد فتنجزه باحدهما دون الآخر بلا مرجح.

هذا لو حصل العلمان دفعة واحدة.

واما اذا حصل العلم الثاني متاخرا عن العلم الأوّل فذهب جماعة منهم الميرزا والسيد الخوئي (2) إلى تنجز خصوص العلم الأوّل دون الثاني فاناء (1) وإناء (2) يجب تركهما دون إناء (3).

والوجه في ذلك هو اختلال الركن الثالث - من الأركان الأربعة المتقدمة

ص: 338


1- العبارة التي ذكرناها اوضح من عبارة الكتاب التي نصها : « لأن مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين ». ومضمون العبارتين واحد. وأولى من ذلك ان يجعل العلم الاجمالي الواحد ذا اطراف أربعة بان يقال هكذا : ان العلمين السابقين يرجعان إلى علم إجمالي بوجوب الاجتناب اما عن (٢) فقط أو عن مجموع ( ١ ، ٣ ) أو عن مجموع ( ١ ، ٢ ) أو عن مجموع ( ٢ ، ٣ ). انه على هذا نكون قد استقصينا جميع الاحتمالات الثابتة واقعا. والسبب في اقتصار عبارة الكتاب على الاحتمالين الأولين وعدم ذكر الأخيرين هو ان ضمهما ليس له زيادة تاثير بحسب النتيجة إذ بالاحتمالين الأولين يثبت وجوب الاجتناب عن جميع الأواني الثلاثة سواء ضممنا الاحتمالين الأخيرين أم لا.
2- اجل الميرزا يشترط تأخر المعلوم بالعلم الثاني ولا يكتفي بتأخر نفس العلم بينما السيد الخوئي يكتفي بتأخر نفس العلم.

لمنجزية العلم الإجمالي - في العلم الثاني بكلتا صيغتيه (1).

اما اختلاله على صيغة الميرزا فلأن العلم الثاني لا يتعارض أصلا الطهارة في طرفيه بل يجري أصل الطهارة في إناء (3) دون معارضة بجريانه في إناء رقم (2) ، إذ أصل الطهارة في إناء (2) قد سقط في الزمان السابق بسبب معارضته مع أصل الطهارة في إناء (1) ، وما دام قد سقط سابقا ، والمفروض ان الساقط لا يعود فلا يمكن ان يقع من جديد طرفا للمعارضة مع أصل الطهارة في إناء (3).

وأمّا اختلاله على صيغة الشيخ العراقي فلأن العلم الثاني - حينما يحدث - يحدث وأحد طرفيه قد تنجز بمنجز سابق إذ طرفه الأوّل وهو إناء (2) قد تنجز تركه بسبب العلم الإجمالي الأوّل.

هذه حصيلة توجيه عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني.

والصحيح منجزية كلا العلمين لبطلان كلا التوجيهين.

اما توجيه الشيخ العراقي فلأن العلم الإجمالي الأوّل حينما حدث في الساعة الاولى مثلا لم يكن منجزا لطرفيه إلى الأبد بل هو في كل آن ينجز في خصوص ذاك الآن ، ففي الدقيقة الاولى من الساعة الاولى حيث كان ثابتا فهو ينجز في خصوص الدقيقة المذكورة ولا ينجز في الدقيقة الثانية وما بعدها. واذا حلت الدقيقة الثانية وكان موجودا فيها نجّز طرفيه في خصوص الدقيقة المذكورة ولم ينجز في الدقيقة الثالثة وما بعدها ، وهكذا حتى الدقيقة الاولى من الساعة الثانية

ص: 339


1- أي صيغة الميرزا التي تقول ان شرط منجزية العلم الإجمالي تعارض الأصول في الأطراف ، وصيغة الشيخ العراقي التي تقول ان شرط منجزية العلم الإجمالي عدم تنجز أحد طرفيه بمنجز آخر.

التي نفترض حصول العلم الإجمالي فيها - الساعة الثانية - ، وفي الدقيقة الاولى المذكورة حيث كان العلم الإجمالي الأوّل ثابتا فيها فيكون منجزا لإناء (2) ، وحيث كان العلم الإجمالي الثاني ثابتا فيها أيضا فيكون منجزا أيضا لإناء (2) إذ العلمان حيث انهما ثابتان معا في الدقيقة المذكورة فمنجزية الإناء المذكور تكون ثابتة بهما معا ولا معنى لنسبة المنجزية إلى العلم الأوّل فقط إذ العلم الثاني حينما حدث لم يحدث في حالة تنجز أحد طرفيه - أي إناء (2) - بالعلم الأوّل فان العلم الأوّل في الدقيقة الأخيرة من الساعة الاولى لم يكن منجزا إلاّ في خصوص الدقيقة المذكورة دون الدقيقة الاولى من الساعة الثانية. هذا على صيغة الشيخ العراقي.

وأمّا على صيغة الميرزا فلأن الأصل في كل دقيقة يجري في خصوص تلك الدقيقة ، ففي الدقيقة الاولى من الساعة الاولى يجري أصل الطهارة في إناء (2) ولكن حيث أنّ له معارضا - وهو أصل الطهارة في إناء (1) - فلا يترتب عليه أثر ، وفي الدقيقة الثانية يجري أيضا ولكن حيث ان له معارضا أيضا فلا يترتب عليه اثر ، وهكذا حتى نصل إلى الدقيقة الاولى من الساعة الثانية.

وفي هذه الدقيقة يجري أصل الطهارة في إناء (2) أيضا بيد انه يواجه معارضين : أصل الطهارة في إناء (1) وأصل الطهارة في إناء (3) ، وبالتعارض يسقط الكل ويجب الاجتناب عن جميع الأواني الثلاثة.

وان شئت قلت : ان تساقط الأصلين في كل دقيقة ينشأ من وجود العلم الإجمالي المنجز في تلك الدقيقة ، وحيث ذكرنا فيما سبق ان العلم الإجمالي الموجود في كل دقيقة ينجز في تلك الدقيقة دون غيرها فالأصول تسقط في تلك الدقيقة دون ما بعدها ، ففي الدقيقة الأخيرة من الساعة الاولى يسقط الأصلان في هذه

ص: 340

الدقيقة دون ما بعدها.

وكأن القائل بعدم منجزية العلم الثاني يتخيل ان سقوط الأصلين في العلم الأوّل سقوط حقيقي لا يمكن معه العود ولكنه تخيل باطل كما أوضحنا.

قوله ص 125 س 11 ادن : الصواب اذن.

قوله ص 125 س 12 : على كل تقدير : فعلى تقدير كون النجاسة ثابتة في إناء (3) يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا لوجوب تركها وأما على تقدير ثبوتها في إناء (2) فلا يكون منجزا لوجوب تركها لأن وجوب تركها قد تنجز بالعلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص 125 س 15 : وتعارض الأصول في الأطراف كذلك : هذا عطف على قوله « التنجيز ».

ثم ان قوله « لا يوجب التنجيز في كل زمان » ناظر إلى صيغة الشيخ العراقي. وقوله « وتعارض الاصول ... » ناظر إلى صيغة الميرزا. وقوله « كذلك » أي في كل زمان.

ص: 341

ص: 342

الحالة السادسة أو حكم الملاقي

اشارة

وفي الحالة السادسة يراد البحث عن حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي.

وتوضيح ذلك : انه إذا كان لدينا إناءان أحدهما رقم (1) وثانيهما رقم (2) ، وكنّا نعلم اجمالا بنجاسة أحدهما. ونفترض ان ثوبا مثلا لاقى إناء (1) ، فالثوب يسمى بالملاقي لأحد طرفي العلم الإجمالي.

والسؤال المطروح هو : ان الثوب هل يجب الاجتناب عنه أيضا كما يجب الاجتناب عن الإنائين أو أنه لا يجب الاجتناب عنه وإنّما يجب الاجتناب عن خصوص الانائين؟

والقائل بوجوب الاجتناب عنه يستند في ذلك إلى ان ملاقاة الثوب للإناء الأوّل تولّد علما إجماليا جديدا غير العلم الإجمالي السابق. والطرفان في هذا العلم الجديد هما : الثوب والإناء الثاني ، فبعد الملاقاة يحصل علم إجمالي بنجاسة اما الثوب - وذلك على تقدير كون النجس واقعا هو الإناء الأوّل - أو الإناء الثاني (1). وهذا العلم الإجمالي ينجز وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب ،

ص: 343


1- ويمكن صياغة العلم الجديد بشكل آخر فيقال : نعلم إجمالا بنجاسة اما مجموع الثوب والإناء الأوّل أو خصوص الإناء الثاني. وإنّما لم تذكر هذه الصياغة باعتبار ان المقصود الآن اثبات وجوب الاجتناب عن الثوب لا وجوب الاجتناب عن مجموع الثوب والإناء الأوّل.

وهو المطلوب.

وكلام الأصوليين في هذا المبحث يدور حول هذا العلم الإجمالي الجديد هل هو منجز أو لا؟

وهناك تقريبان لإثبات عدم منجزية العلم المذكور

هما : -

الأوّل :

ان نطبق القاعدة المتقدمة في الحالة الخامسة ، وهي أنه كلما كان لدينا علمان اجماليان يشتركان في طرف واحد فالعلم الإجمالي الثاني منهما لا يكون منجزا فيما اذا لم يكونا متعاصرين بان كان حصول العلم الثاني متأخرا عن العلم الأوّل (1).

وبتطبيق ذلك على المقام نقول : ان العلم الإجمالي الثاني في مقامنا - الذي هو علم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني - يشترك مع العلم الأوّل في أحد الطرفين ، أي في الإناء الثاني فلا يكون - العلم الإجمالي الثاني - منجزا ، واذا لم يكن منجزا فلا يجب هجر الثوب ، وهو المطلوب.

اجل الإناء الثاني يجب هجره من جهة العلم الإجمالي الأوّل.

ويمكن الايراد على هذا التقريب بوجهين : -

أ - ان القاعدة التي يستند اليها هذا التقريب مرفوضة كما تقدم سابقا.

ب - ان التقريب المذكور لو تم فهو اخص من المدعى لأنّه يتم في حالة

ص: 344


1- وأما اذا كانا متعاصرين فالطرف المشترك يتلقى التنجز من كلا العلمين معا لا من أحدهما لأنّه بلا مرجح كما تقدم.

كون ملاقاة الثوب قد حصلت في زمان متأخر عن العلم الإجمالي الأوّل. ولا أقل يمكننا ان نقول انّه يتم في خصوص حالة ما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل متأخرا عن العلم الأوّل - وان كانت نفس الملاقاة قد حصلت مقارنة للعلم الأوّل - وأما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل مقارنا للعلم الأوّل فلا يتم التقريب المذكور ولا يثبت عدم منجزية العلم الثاني لأن قاعدة عدم منجزية العلم الثاني من العلمين المشتركين في طرف واحد لو تمت فهي تتم - كما تقدم - في خصوص حالة ما اذا كان العلم الثاني متأخرا زمانا عن العلم الأوّل إذ لو كانا متعاصرين كان كلاهما منجزا للطرف المشترك لأن حصول التنجيز بالعلم الأوّل دون الثاني بلا مرجح بعد فرض حصولها في زمان واحد.

الثاني

انّه بعد ملاقاة الثوب للإناء الأوّل وحصول العلم الإجمالي الجديد بين الثوب والإناء الثاني يمكن الحكم بطهارة الثوب ببركة أصالة الطهارة الجارية فيه ، ولا يعارض ذلك بأصالة الطهارة في الإناء الثاني إذ الأصل المذكور معارض بأصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة بين الأصلين المذكورين - أصالة الطهارة في الإناء الأوّل مع أصالة الطهارة في الإناء الثاني - يتساقطان ونرجع إلى أصالة الطهارة في الثوب دون أي معارض ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ اردنا إثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الجديد وقد ثبت.

وقد يقال : لماذا التعارض يحصل بين خصوص أصل الطهارة في الإناء الأوّل وأصل الطهارة في الإناء الثاني ولا يدخل أصل طهارة الثوب في هذه

ص: 345

المعارضة لتسقط جميع الأصول الثلاثة لا خصوص الأصلين الجاريين في الانائين؟

والجواب : ان أصل طهارة الثوب أصل مسببي بينما أصل الطهارة في الإناء الأوّل أصل سببي (1) ، والأصل المسببي لا يجري ما دام الأصل السببي موجودا بل لا بدّ وان يسقط الأصل السببي اوّلا بالمعارضة ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب ، فانّ الأصل المسببي لا حياة له مع الأصل السببي ليقف إلى جانبه في مجال المعارضة.

اذن المعارضة تقع بين الأصلين العرضيين الجاريين في الإنائين ، وبعد تعارضهما وسقوطهما يرجع إلى الأصل الطولي ، وهو أصالة الطهارة في الثوب ويحكم بطهارته.

وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المطلب ص 98 من الحلقة عند البحث عن الحالات التي يجري فيها الأصل في أحد الطرفين ، فإنّه تقدم ان الحالة الاولى من تلك الحالات الثلاث هي ان يكون في الإناء الأوّل أصلان احدهما في طول الآخر - كاستصحاب الطهارة وأصالة الطهارة - وفي الإناء الثاني أصل واحد وهو أصل الطهارة ، فاصل الطهارة في الإناء الثاني يتعارض مع استصحاب الطهارة في

ص: 346


1- إذ الشك في طهارة الثوب مسبب عن الشكّ في طهارة الإناء الأوّل ، فالشكّ في طهارة الثوب شكّ مسببي بينما الشكّ في طهارة الإناء الأوّل شكّ سببي ، والأصل الجاري في الشكّ السببي أصل حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسببي لأن الأصل الحاكم اذا جرى واثبت طهارة الإناء الأوّل ارتفع الشكّ في طهارة الثوب وحصل اليقين التعبدي بطهارته ، ومع حصول اليقين لا يجري الأصل لأن موضوعه الشكّ.

الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة والتساقط يرجع إلى أصل الطهارة في الإناء الأوّل لأنّه أصل محكوم والأصل المحكوم لا يقف إلى جنب حاكمه ليعارض الأصل في الإناء الثاني بل تتولد الحياة فيه بعد سقوط حاكمه بالمعارضة.

هذا هو التقريب الثاني.

ولو تم هذا التقريب فهو يتم حتى في صورة كون ملاقاة الثوب والعلم بها قد حصل مقارنا للعلم الأوّل ولا يتوقف على حصول الملاقاة أو العلم بها متأخرا عن العلم الأوّل - كما هو الحال في التقريب الأوّل - إذ العلم الثاني سواء حصل متأخرا عن العلم الأوّل أم مقارنا له فالمعارضة على كلا التقديرين تحصل بين خصوص أصلي الطهارة في الإنائين ولا يدخل أصل طهارة الثوب في مجال المعارضة لأنّه محكوم ، وبعد تساقطهما تصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب دون معارض.

حالات يجب فيها الاجتناب عن الملاقي

وبعد اتضاح التقريبين السابقين لأثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني نضيف : ان التقريبين المذكورين قد يقال بعدم تماميتهما في بعض الحالات - أي يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا ويجب الإجتناب عن الملاقي - كما لو فرض ان الثوب لاقى واقعا الإناء الأوّل في الساعة الاولى من دون علم المكلّف بذلك ، وأيضا مع افتراض عدم ثبوت العلم الإجمالي في هذه الساعة بنجاسة اما الإناء الأوّل أو الثاني ، ثم نفترض ان الإناء المذكور تلف في الساعة الثانية ، وبعد ان حلت الساعة الثالثة حصل للمكلف علم إجمالي بتنجس أما الإناء الأوّل التالف

ص: 347

أو الاناء الثاني ، وحينما جاءت الساعة الرابعة حصل علم بملاقاة الثوب للاناء الأوّل في الساعة الاولى.

في مثل هذه الفرضية قد يقال بعدم تمامية كلا التقريبين السابقين ، أي يقال بمنجزية العلم الإجمالي الثاني ووجوب الاجتناب عن الملاقي.

اما التقريب الأوّل - الذي كان حاصله ان العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزا بعد اشتراكه مع العلم الإجمالي الأوّل في الإناء الثاني - فلأن العلم الإجمالي الأوّل حينما حصل في الساعة الثالثة لم يكن منجزا لأن أحد طرفيه وهو الإناء الأوّل كان تالفا حين حصوله ، وواضح ان شرط منجزية كل علم إجمالي ان يكون كلا طرفيه موجودين حين حصوله ولا يكون أحدهما تالفا قبل حصول العلم الإجمالي (1) ، ومع عدم منجزيته فلا مانع من ثبوت المنجزية للعلم الإجمالي الثاني فان المانع منحصر بمنجزية العلم الأوّل (2) ، فاذا لم يكن منجزا نّجز العلم الثاني وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب.

وأمّا التقريب الثاني - وهو انّه يرجع بعد تعارض اصلي الطهارة في الانائين إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع - فلأن الأصل في الانائين ليسا متعارضين ليرجع بعد تعارضهما وتساقطهما إلى أصل طهارة الثوب بل ان أصل الطهارة في الإناء

ص: 348


1- إذ لو كان تالفا فلا تتعارض الأصول فى اطرافه. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي لا يكون منجزا للمعلوم بالاجمال على كلا التقديرين.
2- إذ العلم الإجمالي الأوّل حينما كان منجزا تتعارض الاصول في اطرافه فتصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب بلا معارض. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي يكون أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني - وهو الإناء الثاني - قد تنجز بمنجز آخر وهو العلم الاجمالي الأوّل.

الأوّل لا يجري في نفسه لفرض تلف موضوعه - وهو الإناء الأوّل - قبل العلم الإجمالي فيكون جريانه لغوا وبلا فائدة ، ومع عدم جريان الأصل المذكور لا يكون الأصل في الإناء الثاني ساقطا لتصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب بل تحصل المعارضة بين الأصلين المذكورين ، أي بين أصل الطهارة في الإناء الثاني مع أصل الطهارة في الثوب ويجب بذلك هجر الثوب.

وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي الأوّل في الساعة الثالثة ما دام لم تتعارض الاصول في أطرافه فعند ما يحصل العلم الإجمالي الثاني في الساعة الرابعة (1) يكون بمثابة الحاصل ابتداء من دون أن يسبقه علم إجمالي ، وإذا كان بهذه المثابة فتتعارض الاصول في أطرافه ويتنجز وجوب الاجتناب عن طرفيه الذين احدهما الثوب.

تمامية التقريب الثاني

هذا وبالامكان الحكم بتمامية التقريب الثاني لعدم منجزية العلم الإجمالي الثاني وبالتالي يمكن الحكم بعدم وجوب هجر الثوب في الفرضية المذكورة ، أي نختار عدم كون العلم الإجمالي الثاني منجزا.

والوجه في ذلك : ان أصل الطهارة في الإناء الأوّل يمكن جريانه حتى مع افتراض تلفه من دون لزوم محذور اللغوية ، فان جريان أصل الطهارة بعد زمان

ص: 349


1- فان الساعة الرابعة التي حصل فيها العلم بالملاقاة يحصل فيها بسبب العلم بالملاقاة العلم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني

التلف يثبت ان الإناء الأوّل كان طاهرا قبل تلفه فيترتب على ذلك طهارة ملاقيه وهو الثوب. واذا كان أصل الطهارة في الإناء الأوّل قابلا للجريان كان معارضا لأصل الطهارة في الإناء الثاني (1) ، وبعد تعارضهما يرجع إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع.

قوله ص 126 س 16 : أحدهما المعين : إنما افترض تعين الإناء الذي لاقاه الثوب لأنه بدونه لا يحصل العلم الإجمالي الثاني الجديد.

قوله ص 127 س 2 : وان وجب الاجتناب عن المائعين : لإجل العلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص 127 س 9 : كما تقدم : أي ص 125 من الحلقة.

قوله ص 127 س 10 : ان الركن الثالث : وهو تعارض الاصول في الأطراف. والمقصود انهدامه في العلم الإجمالي الثاني حيث يجري أصل الطهارة في الثوب بلا معارضة أصل الطهارة في الإناء الثاني.

قوله ص 128 س 6 : لاقن : الصواب : لاقى.

ص: 350


1- أجل اذا فرض ان الأصل الجاري بعد التلف لا اثر له - كما اذا كان الأصل أصل البراءة - لم يكن جاريا لمحذور اللغوية.

الحالة السابعة أو الشبهة غير المحصورة

اشارة

اذا كانت اطراف العلم الاجمالي قليلة سمّيت الشبهة بالشبهة المحصورة. والمعروف فيها كون العلم الاجمالي منجّزا. والحديث كله سابقا كان يدور حولها.

وأما اذا كانت الأطراف كثيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

وفي هذه الحالة يراد التكلّم عن هذه الشبهة ، أي الشبهة غير المحصورة.

وفي البداية نطرح السؤالين التاليين :

أ - هل تجب الموافقة القطعية أو لا؟ وبكلمة أخرى هل يجب ترك جميع الأطراف أو لا؟

والجواب : ذهب المشهور من الاصوليين إلى عدم وجوب ذلك فيجوز للمكلّف ارتكاب بعض الأطراف ولا يلزم هجر جميعها.

ب - واذا جاز ارتكاب بعض الأطراف ولم يلزم هجر جميعها فهل يجوز ارتكاب جميع الأطراف أو لا؟ وبكلمة أخرى : هل تجوز المخالفة القطعيّة أو لا؟

والجواب : ذهب البعض إلى جواز المخالفة القطعيّة.

تحديد الشبهة غير المحصورة

ذكر السيّد الخوئي ( دام ظله ) (1) : ان الضابط في الشبهة غير المحصورة كثرة

ص: 351


1- منهاج الصالحين : كتاب الطهارة ، المبحث الأوّل ، الفصل الرابع.

الأطراف إلى حدّ يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، فالمعتبر في الشبهة غير المحصورة قيدان : كثرة الأطراف وخروج بعضها عن محل الابتلاء ، فاذا كانت الأطراف كثيرة وكان جميعها داخلا تحت محل الابتلاء - ككيس ارز كبير يعلم بحرمة حبة واحدة منه - فالشبهة محصورة.

ويمكن التعليق على ذلك : بأنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وإن كان يسقط العلم الاجمالي عن المنجزيّة الاّ أنّه لا اختصاص لذلك بالشبهة غير المحصورة بل العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لا يكون منجّزا أيضا اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فاللازم إذن النظر إلى العامل الكمّي فقط ، أي عامل كثرة الأطراف إذ هذا العامل هو العامل الذي يختص بالشبهة غير المحصورة ، وأمّا العوامل الاخرى فهي لا تختص بالشبهة غير المحصورة.

تقريبات لعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة

اشارة

ويوجد تقريبان يمكن التمسّك بهما لاثبات عدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة لوجوب الموافقة القطعية ، وبكلمة اخرى تقريبان لجواز ارتكاب بعض الأطراف. وهما :

التقريب الأوّل
اشارة

انّ كثرة الأطراف تصير سببا لضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف إلى درجة يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق وبالتالي لا يهجر العقلاء الطرف لأنّ احتمال الانطباق عليه وان كان ثابتا الاّ انه لضعفه الشديد لا يعتنون

ص: 352

به. وحيث انّ مثل هذا البناء العقلائي لم يرد ردع عنه من الشارع فيكون ممضيا.

ولأجل استيضاح المطلب أكثر نقول : لو كان لدينا إناءان نعلم بنجاسة أحدهما فما هي قيمة احتمال انطباق النجاسة المعلومة بالاجمال على الاناء الأوّل؟

والجواب : حيث يوجد لدينا يقين بالنجاسة ، ورقم اليقين يتمثل في رقم (1) فاذا اردنا ان نعرف قيمة احتمال ثبوت النجاسة في كل طرف قسّمنا الواحد على عدد الأطراف. وعلى هذا الاساس فالقيمة الإحتماليّة لانطباق المعلوم بالاجمال على الاناء الأوّل - 2 / 1. واذا كان عدد الأطراف ثلاثة فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 3 / 1. واذا كان عدد الأطراف 10 فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 10 / 1. واذا كان عدد الأطراف 1000 فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف - 1000 / 1 ، أي أنّ قيمة إحتمال كون الاناء الأوّل هو النجس يساوي إحتمالا واحدا من بين ألف إحتمال. وحيث انّ هذا الإحتمال ضئيل لا يعتني له العقلاء جاز ارتكاب كل واحد من الأطراف بعد افتراض عدم الردع عن مثل هذا البناء (1).

ص: 353


1- قد يخطر للذهن الاشكال التالي : إنّ هذا التقريب يجدي فيما لو اراد المكلّف ارتكاب إناء واحد من الاواني الالف إذ القيمة الإحتماليّة في الإناء الواحد ضئيلة ، وأمّا اذا اراد ارتكاب نصف المجموع فالقيمة الاحتماليّة لا تبقى ضئيلة بل تأخذ بالارتفاع إلى النصف أي 1000 / 500 ، واللازم على هذا عدم جواز ارتكاب النصف لأنّ قيمته الإحتماليّة كبيرة ، والحال أنّ المشهور القائل بعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة يقول بجواز ارتكاب النصف بل يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام أي يجوّز ارتكاب 999 إناء. والجواب : إنّ القيمة الإحتماليّة لا تأخذ بالارتفاع عند ارتكاب اطراف كثيرة ، فالقيمة الإحتماليّة لكون الاناء الأوّل هو النجس _ ١٠٠٠ / ١ ، واحتمال كون الاناء الثانى هو النجس ١٠٠٠ / ١ أيضا ، وهكذا حتّى نصل إلى الاناء الالف فإنّ قيمة احتمال كونه النجس _ ١٠٠٠ / ١ أيضا. أجل بعد ارتكاب كل إناء ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب المكلّف للنجس خلال الاواني السابقة ، فبعد ارتكاب الاناء الثاني ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب النجس فيما سبق إلى ١٠٠٠ / ٢ ، وبعد ارتكاب الاناء الثالث ترتفع إلى ١٠٠٠ / ٣ ، واذا ارتكب الاناء الالف ارتفعت إلى ١٠٠٠ / ١٠٠٠ ، ولكن من الواضح أنّ تحصيل الظن أو الاطمئنان بل القطع بارتكاب المحرّم فيما سبق ليس بمحرّم ، فإنّ المحرّم هو ارتكاب الحرام بالفعل لا تحصيل العلم بارتكاب الحرام فيما سبق ، ولذا إنّ الانسان اذا فكّر في أعماله السابقة وحصل له العلم بارتكابه محرّما من المحرّمات لم يكن تفكيره محرّما.

هذا هو التقريب الأوّل. ولعل أول من ذكره وتمسّك به هو الشيخ الأعظم في رسائله ، حيث تمسّك بعدّة وجوه لإثبات جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة ، وكان الوجه الخامس منها هو هذا الوجه ، فقال : إنّه مع كثرة الأطراف يضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف ، فمن شتم احد شخصين وقال لهما : احدكما انسان فاسق منحرف تألّم كل واحد منهما بينما لو قال : أحد اهالي النجف الاشرف منحرف لم يتألّم احد منهم ، وما ذاك الاّ لقوّة الإحتمال في الحالة الاولى وضعفه في الحالة الثانية.

اشكالات على التقريب الأوّل
اشارة

وقد اشكل الشيخ العراقي وغيره على هذا التقريب بإشكالين : أوّلهما صغروي وثانيهما كبروي.

الاشكال الأوّل
اشارة

وهو اشكال صغروي ادّعي فيه عدم حصول الاطمئنان الفعلي في كل

ص: 354

طرف وبرهن على ذلك بأنّ الاناء الأوّل لو حصل الاطمئنان بعدم كونه هو النجس المعلوم بالاجمال ، وهكذا الاناء الثاني حصل فيه الاطمئنان المذكور ، وهكذا إلى أن نصل إلى الاناء الالف فلازم ذلك حصول الاطمئنان بالسالبة الكلّية ، أي حصول الاطمئنان بأنّ لا شيء من الاواني بنجس ، وواضح انّ هذا الاطمئنان بالسالبة الكلّية يتنافى مع اليقين بالموجبة الجزئيّة ، أي اليقين بنجاسة واحد من الاواني ، فإنّ السالبة الكليّة نقيض للموجبة الجزئيّة ، ولا يمكن مع اليقين بالموجبة الجزئيّة وأنّ أحد الاواني نجس الاطمئنان بالسالبة الكليّة وان لا شيء من الاواني بنجس.

وفيه : انّ الاطمئنان في الأطراف لو اورثت بعد جمعها وضم بعضها إلى بعض الاطمئنان بالسالبة الكلّية فإشكال الشيخ العراقي تام ومتين ، فالاطمئنان بعدم كون الاناء الأوّل هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثاني هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثالث هو النجس ، وهكذا لو كان يورث الاطمئنان بعدم كون شيء من الاواني نجسا فالحق مع الشيخ العراقي ، ولكنّا لا نسلّم إن ضم الاطمئنانات الثابتة في الأطراف ينتج الاطمئنان بالسالبة الكلّية.

وقد تقول : كيف لا تكون الاطمئنانات الثابتة في الأطراف منتجة للاطمئنان بالسالبة الكلّية والحال نحن ندرك بالوجدان أنّه لو حصل لنا الاطمئنان بورود زيد إلى المسجد وحصل الاطمئنان أيضا بورود عمرو إلى المسجد كانت النتيجة هي الاطمئنان بالمجموع ، أي الاطمئنان بورود زيد وعمرو إلى المسجد ، فضم الاطمئنان الثابت في هذا الطرف إلى الاطمئنان الثابت في ذاك الطرف يورث الاطمئنان بحصول المجموع ، فمن اطمأن بحصول أو اطمأن بحصول

ص: 355

ب يلزم ان يحصل له الاطمئنان بحصول مجموع أ و ب. ان هذا مطلب وجداني لا يقبل الانكار.

وعلى ضوء هذه الامثلة يمكننا ان نخرج بهذه القاعدة ، وهي ان درجة احراز تحقق المجموع تتعادل دائما مع درجات الاحراز الثابتة في الأطراف.

والجواب عن ذلك بالنقض تارة وبالحل اخرى.

النقض

وفي النقض نقول للشيخ العراقي انك حينما انكرت تحقق الاطمئنان في كل طرف وقلت لا يمكن تحقق الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل ، وهكذا لا يمكن تحققه في الإناء الثاني وبقية الأواني فمن حقنا ان نقول لك ان الاطمئنان في كل طرف اذا لم يكن متحققا فلا أقل من احتمال عدم الانطباق فيحتمل ان الأوّل ليس هو النجس ويحتمل في الثاني ذلك أيضا وهكذا ، فيلزم بجمع الاحتمالات حصول احتمال ان لا شيء منها بنجس ، ومن الواضح ان احتمال عدم نجاسة شيء منها يتنافى والقطع بنجاسة واحد منها. وما يجيب به الشيخ العراقي هنا يكون بنفسه جوابا في الاطمئنان المدعى.

الحل

وفي حلّ الإشكال نقول : ان الاطمئنان على قسمين : إطمئنان مطلق واطمئنان مشروط (1). والقاعدة المتقدمة - وهي ان درجة الاحراز في المجموع

ص: 356


1- لم تذكر عبارة الكتاب مصطلح الاطمئنان المطلق والاطمئنان المشروط ، وكان من المناسب الاستعانة بذلك.

تتعادل دائما مع درجة الإحراز الثابتة في الأطراف - تتم في الاطمئنان المطلق دون الاطمئنان المشروط ، فمن اطمأن بدخول زيد إلى المسجد سواء دخل عمرو أم لا ، واطمأن أيضا بدخول عمرو إلى المسجد سواء دخل زيد أم لا حصل له الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد ودخول عمرو إلى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان نصطلح عليه بالاطمئنان المطلق لأنه اطمئنان ثابت على كلا تقديري دخول الفرد الثاني وعدمه (1).

وأمّا اذا حصل الاطمئنان بدخول زيد إلى المسجد ان لم يكن قد دخل عمرو إليه ، وحصل الاطمئنان بدخول عمرو ان لم يكن قد دخل زيد فلا ينتج ضم أحد هذين الاطمئنانين إلى الآخر الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد وعمرو إلى المسجد وإنما ينتج الاطمئنان بدخول احدهما الى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان يصح ان نصطلح عليه بالاطمئنان المشروط لأن حصول الاطمئنان بدخول أحد الفردين مشروط بعدم دخول الفرد الآخر.

وبعد اتضاح هذا نقول : ان الاطمئنان في مقامنا الثابت في كل طرف هو اطمئنان مشروط وليس اطمئنانا مطلقا ، وما دام هو اطمئنانا مشروطا فلا يمكن تطبيق القاعدة المتقدمة عليه ، أي لا يمكن ان يقال ان ضم الاطمئنان في هذا الطرف إلى الاطمئنان في الطرف الثاني يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وأنه لا شيء من الأطراف بنجس.

ولكن لماذا الاطمئنان في المقام اطمئنان مشروط وليس مطلقا؟

ان النكتة في ذلك تكمن في ان الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء

ص: 357


1- وعبر عنه قدس سره بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية باعتبار ان الاطمئنان بدخول زيد في المسجد ثابت اذا دخل عمرو وثابت أيضا اذا لم يدخل.

الأوّل مثلا تولد بسبب احتمال كون النجاسة المعلومة بالاجمال ثابتة في بقية الأواني ، فلإجل انا نحتمل ثبوت النجاسة في الإناء الثاني ونحتمل ثبوتها في الإناء الثالث ونحتمل ثبوتها في الإناء الرابع وهكذا لأجل هذه الاحتمالات حصل لنا الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل.

اذن الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل مشروط بثبوت النجاسة وانطباقها على بقية الأواني وليس اطمئنانا مطلقا ثابتا حتى في حالة عدم ثبوت النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الاطمئنان في الإناء الثاني فهو اطمئنان مشروط ، أي مشروط بوجود النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الاطمئنان في الإناء الثالث هو اطمئنان مشروط بثبوت النجاسة في الأواني الاخرى وهكذا.

وما دامت هذه الاطمئنانات اطمئنانات مشروطة فضم بعضها إلى بعض لا يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وانه لا شيء من الأطراف بنجس.

الاشكال الثاني

واما الإشكال الثاني - وهو الكبروي - فمحصله : انه لو سلمنا حصول الاطمئنان في كل طرف بعدم كونه النجس المعلوم بالاجمال فيمكن ان يقال بعدم حجيته لانا نعلم اجمالا بكذب واحد من الاطمئنانات لفرض العلم بثبوت النجاسة في أحد الأواني ، ومع العلم بكذب واحد من الاطمئنانات يحصل التعارض بينها ومن ثم التساقط لأن شمول دليل الحجّية لجميعها غير ممكن بعد فرض العلم بكذب واحد منها ، وشموله لبعض دون بعض ترجيح بلا مرجح.

ص: 358

وفيه : ان التعارض بين الاطمئنانات - بل بين مطلق الامارات وان لم تكن اطمئنانا - ينشأ من أحد سببين كلاهما مفقود في المقام : -

1 - ان يكون كل اطمئنان مكذبا للاطمئنان الآخر بالدلالة الإلتزامية ، فالاطمئنان في الإناء الأوّل مثلا بعدم كونه النجس يستلزم ثبوت النجاسة في بقية الأواني وبالتالي يستلزم كذب بقية الاطمئنانات.

وما دام كل اطمئنان مكذبا بالالتزام للاطمئنان الآخر فلا يمكن ان يشملهما معا دليل الحجّية فان دليل الحجّية لا يمكن ان يعبّدنا بحجّية المتكاذبين.

2 - ان لازم شمول دليل الحجّية لجميع الاطمئنانات حجّية جميعها ، ولازم حجّية جميع الاطمئنانات جواز ارتكاب جميع الأواني ، ولازم جواز ارتكاب جميع الأواني جواز المخالفة القطعية.

اذن دليل الحجّية لا يمكن ان يشمل جميع الاطمئنانات لمحذور لزوم الترخيص في المخالفة القطعية. وكلا هذين السببين مفقود في المقام.

اما السبب الأوّل فلأن في المقصود من تكذيب كل واحد من الاطمئنانات لبقية الاطمئنانات بالدلالة الالتزامية احتمالين : -

أ - ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذّبا لخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا بتقريب ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالمطابقة على عدم نجاسة الإناء الأوّل وبالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني وبالتالي يدل على كذب الاطمئنان في الإناء الثاني.

وهذا البيان مردود باعتبار ان الاطمئنان في الإناء الأوّل والاطمئنان في الإناء الثاني يمكن ان يكونا صادقين معا لإمكان عدم ثبوت النجاسة في الإناء

ص: 359

الأوّل ولا في الإناء الثاني بان تكون ثابتة في الإناء الثالث أو في الإناء الرابع أو في بقية الأواني الاخرى.

ودعوى ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني مدفوعة بان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل على ثبوت النجاسة في الأواني الاخرى ولا يدل على ثبوتها في الإناء الثاني بالخصوص.

ب - ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذبا لمجموع الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني ، فاذا كان مقدار الأواني الفا فالاطمئنان في الإناء الأوّل يكذب مجموع 999 اطمئنانا من الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني.

وطرفا المعارضة هما : الاطمئنان في الإناء الأوّل ، ومجموع 999 اطمئنانا. وهذا بخلافه فيما سبق فان المعارضة فرضت بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا.

ولكن كيف نقرّب المعارضة بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وبين مجموع الاطمئنانات في 999 إناء؟

ان تقريب المعارضة يمكن ان يوضح بهذا الشكل : ان الاطمئنانات في الأواني 999 لو ضممنا بعضها إلى بعض انتجت الاطمئنان بعدم انطباق النجس على شيء منها ، ولازم ذلك انطباقه على الإناء الأوّل ، وبذلك يكون مجموع الاطمئنانات 999 مكذبا للاطمئنان الثابت في الإناء الأوّل.

ويردّ هذا التقريب : ان ضم الاطمئنانات 999 بعضها إلى بعض لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، أي بعدم ثبوت النجاسة في الأواني 999 فان الاطمئنانات

ص: 360

في المقام اطمئنانات مشروطة وليست مطلقة (1) ليكون ضم بعضها إلى بعض منتجا للاطمئنان بالمجموع ، أي بعدم ثبوت النجاسة في الأواني 999 وبالتالي ليكون مستلزما لثبوت النجاسة في الإناء الأوّل.

هذا كله بالنسبة إلى مناقشة السبب الأوّل.

وأمّا السبب الثاني - وهو ان حجّية مجموع الاطمئنانات يؤدي إلى جواز المخالفة القطعية - فيمكن مناقشته بان دليل حجّية الاطمئنان لو كان يثبت الحجّية لكل اطمئنان اطمئنان فما افيد من لزوم محذور جواز المخالفة القطعية يكون تاما ، ولكن بالامكان ان يدعى ان دليل حجّية الاطمئنان ليس هو الاّ السيرة العقلائية ، والعقلاء لا يثبتون الحجّية لكل اطمئنان اطمئنان بل يثبتونها لبعض الاطمئنانات على سبيل التخيير ، فبعض الاطمئنانات - وهو الاطمئنان الأوّل والثاني والثالث مثلا - حجّة دون البقية ، وبناء على هذا لا يلزم محذور جواز المخالفة القطعية (2).

ص: 361


1- ويصطلح قدس سره على الاطمئنانات المطلقة بالاطمئنانات على نهج القضية الشرطية. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك فيما سبق.
2- وقد تسأل عن نكتة حكم العقلاء بحجّية بعض الاطمئنانات دون جميعها. والجواب : ان الاطمئنان في الإناء الأوّل مثلا انما يأخذ العقلاء به من جهة ان الاحتمال المقابل الذي هو احتمال النجاسة احتمال ضعيف جدا فلإجل ضعف احتمال النجاسة وكون قيمته ١٠٠٠ / ١ مثلا يرتكب العقلاء الإناء الأوّل ، فاذا اراد المكلّف ارتكاب الإناء الثاني صار احتمال تحقق ارتكاب النجس ضمن أحد الإنائين السابقين ١٠٠٠ / ٢ ، واذا اريد ارتكاب الإناء الثالث ارتقى الإحتمال إلى ١٠٠٠ / ٣ ، واذا اريد ارتكاب عشرة أواني ارتقى إلى ١٠٠٠ / ١٠ ، وحيث ان هذا الإحتمال احتمال يعتد به العقلاء كان اللازم عندهم حجّية تسعة اطمئنانات مثلا على سبيل التخيير لا أكثر. ثم ان ذكر التسعة إنّما هو من باب المثال والاّ فقد تكون الحجية التخييرية ثابتة لاقل من التسعة او لأكثر منها ، بل قد يقال ان العقلاء يرون حجّية جميع الاطمئنانات ما عدا الأخير الذي منها يلزم من السير على طبقه القطع بارتكاب الحرام. وعلى أي حال لا يحكم العقلاء بحجّية جميع الاطمئنانات.
التقريب الثاني
اشارة

تقدم سابقا ان عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة يمكن ان يقرب بأحد تقريبين. ولحدّ الآن كان الكلام يدور حول التقريب الأوّل.

وأمّا التقريب الثاني فاستيضاحه يتوقف على استذكار مقدمة سبق مضمونها ، وهي ان منجزية العلم الإجمالي تتوقف على أربعة أركان ، رابعها ان يكون جريان الأصول في الأطراف موجبا لجواز المخالفة القطعية العملية ، فاذا لم يكن جريان الاصول موجبا لذلك لم يكن العلم الإجمالي منجزا.

مثال ذلك : دوران الأمر بين المحذورين ، فاذا علم المكلّف اجمالا بأنه نذر اما شرب ماء البرتقال أو ترك شربه فالعلم الإجمالي المذكور لا يكون منجزا لأن جريان أصل البراءة عن الوجوب وعن الحرمة لا يستلزم جواز المخالفة القطعية اذ المكلّف اما ان يشرب ، وفي ذلك احتمال الموافقة ، أو يترك ، وفي ذلك احتمال الموافقة أيضا.

هذه هي الصياغة المشهورة للركن الرابع.

ص: 362

وهناك صياغة ثانية تبنّاها السيد الخوئي ( دام ظله ) ، وهي ان يكون جريان الاصول في الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة وان لم تتحقق المخالفة القطعية خارجا ، فان نفس الترخيص في إرتكاب الحرام قبيح وان لم يمكن تحقق الحرام خارجا ، فاذا كان لدى المكلّف إناء خمري لا يمكنه تناوله - كما اذا كان في صندوق مقفل لا يمكن فتحه - فالترخيص في إرتكابه قبيح بالرغم من عدم امكان تناوله.

وبعد هذه المقدمة نعود إلى التقريب الثاني لعدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

وحاصله : ان الأطراف اذا كانت كثيرة لم يكن العلم الإجمالي منجزا فيها لاختلال الركن الرابع من أركان المنجزية حيث ان جريان الاصول في جميعها لا يستلزم جواز المخالفة القطعية باعتبار ان الأطراف اذا كانت كثيرة فلا يمكن عادة ارتكابها جميعا حتى يكون جريان الاصول فيها مستلزما لتحقق المخالفة القطعية خارجا.

وهذا التقريب كما هو واضح يتم على الصياغة المشهورة للركن الرابع.

وأمّا على الصياغة الثانية التي تبناها السيد الخوئي فهو ليس بتام لأن جريان الاصول في جميع الأطراف وان لم يلزم منه تحقق المخالفة القطعية إلاّ انه يلزم منه اجتماع الترخيصات التي يعلم بان واحدا منها ترخيص في ارتكاب الحرام.

الفارق العملي

ثم ان الفارق العملي بين الصياغتين - الصياغة المشهورة وصياغة السيد

ص: 363

الخوئي - تظهر في هذا التقريب ، فانه على الصياغة المشهورة يتم التقريب المذكور وبالتالي لا يجب ترك اطراف الشبهة غير المحصورة بينما على صياغة السيد الخوئي لا يكون تاما وبالتالي يجب ترك اطراف الشبهة غير المحصورة - لعدم جريان الأصل المؤمن في اطرافها - إلاّ اذا فرض خروج بعض اطرافها عن محل الابتلاء.

نقض السيد الخوئي

ثم ان السيد الخوئي نقض على الصياغة المشهورة بان لازمها ان الشبهة حتى لو كانت محصورة وذات طرفين مثلا ولكن ما دام لا يمكن ارتكابهما معا لسبب وآخر فلا يكون العلم الإجمالي منجزا ، فلو فرض ان المكلّف علم بانه يحرم عليه المكث في وقت واحد في أحد بلدين متباعدين فالمخالفة القطعية حيث لا يمكن تحققها - لأن الإنسان لا يمكنه في آن واحد الكون في مكانين - فاللازم ان لا يكون العلم الإجمالي منجزا لان جريان البراءة عن حرمة الكون في هذا المكان وعن حرمة الكون في ذلك المكان لا يلزم منه تحقق المخالفة القطعية مع أنه لا إشكال بين الجميع في تنجيز مثل العلم الإجمالي المذكور ولا يجوز للمكلف الذهاب إلى أحد البلدين والكون فيه.

تعديل الصياغة المشهورة

ودفعا للنقض المذكور نقول : ان الصياغة المشهورة للركن الرابع يمكن ايضاحها بأحد بيانين على احدهما يتم النقض المذكور وعلى الآخر لا يتم. والبيانان هما : -

ص: 364

1 - وهو نفس ما نقلناه عن المشهور فيما تقدم من ان شرط منجزية العلم الإجمالي ان يكون جريان الاصول في جميع الأطراف موجبا لجواز المخالفة القطعية خارجا فلو لم يمكن تحقق المخالفة القطعية خارجا ولم يقدر عليها المكلّف - مهما كان سبب عدم القدرة - فلا يكون العلم الإجمالي منجزا.

وبناء على هذا البيان يتم النقض السابق ، ففي المثال السابق للمكث حيث لا يمكن تحقق المخالفة القطعية فيلزم ان لا يكون العلم الإجمالي منجزا.

ولكن يمكن ان يقال ان أصل البيان المذكور مرفوض حيث ان لازم جريان الاصول في جميع الأطراف في صورة عدم امكان تحقق المخالفة القطعية خارجا ثبوت الترخيص الشرعي في جميع الأطراف مع فرض ان الغرض اللزومي قد وصل بيانه إلى المكلّف بسبب علمه الإجمالي بحرمة أحد الطرفين ، وواضح ان رجحان الغرض غير اللزومي على اللزومي أمر بعيد في الحياة العقلائية ، فان العقلاء متى ما علموا بتحقق غرض لزومي وغرض غير لزومي (1) واشتبه أحدهما بالآخر ولم يمكن تمييزهما رجحوا الغرض اللزومي على غير اللزومي دون العكس ، فلو فرض ان العاقل واجه طعامين يعلم ان احدهما مضر بصحته بينما الآخر حيادي - فلا هو مضر ولا نافع - فلا يرتكب أحدهما بل يتركهما ترجيحا للغرض اللزومي الموجود في الطعام المضر على الغرض غير اللزومي الموجود في الطعام الآخر.

ص: 365


1- واما اذا لم يعملوا بتحقق الغرض اللزومي كما لو فرض ان الشبهة كانت بدوية يحتمل ان يكون الغرض المتحقق فيها تحريميا لزوميا كما ويحتمل كونه ترخيصيا غير لزومي فليس من اللازم عندهم ترجيح الغرض اللزومي والحكم بالحرمة.

هذا ما جرت عليه سيرة العقلاء. ونفس هذه السيرة تصير سببا لانصراف أدلة الاصول العملية عن الشمول لاطراف العلم الإجمالي واختصاصها بموارد الشبهة البدوية.

ولرب قائل يقول : ان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ما دامت غير ممكنة فاي محذور في جريان الاصول في جميع الأطراف؟

والجواب : ذكرنا ان لازم جريان الاصول في جميع الأطراف وثبوت الترخيص فيها تقدم الغرض غير اللزومي على الغرض اللزومي ، وواضح ان هذا المحذور لازم حتى لو فرض ان المخالفة القطعية لا يمكن تحققها في الخارج.

والبيان الجديد للركن الرابع ان يقال (1) : ان شرط منجزية العلم الإجمالي عدم كثرة اطرافه إلى حدّ لا يمكن للمكلف عادة ارتكابها جميعا وبالتالي لا يمكن تحقق المخالفة القطعية منه عادة فان الأطراف متى ما بلغت من الكثرة إلى هذا الحدّ جرت الاصول فيها جميعا حيث ان جريانها لا يستوجب تحقق المخالفة القطعية خارجا إذ كثرة الأطراف تمنع من تحقق ذلك.

لا يقال : ان نفس ما أورد على البيان الأوّل يرد على هذا أيضا ، حيث يقال ان الأطراف وإن فرض كثرتها ولكن متى ما جرت الاصول فيها جميعا فلازمه ثبوت الترخيص في جميعها ، ولازم ثبوت الترخيص في جميعها تقدم الغرض غير اللزومي على اللزومي.

والجواب : انّه وان لزم تقدم الغرض غير اللزومي على اللزومي إلاّ أنه

ص: 366


1- وهو البيان الذي تقدم الوعد به سابقا وانه سيأتي تعديل لصيغة الركن الرابع في مبحث الشبهة غير المحصورة.

ما دامت الأطراف كثيرة جدا فالعقلاء لا يأبون من تقدم الغرض غير اللزومي اذ الأطراف لو كانت الفا مثلا وكان واحد منهما محرما ذا غرض لزومي والبقية المتبقاة ذات غرض ترخيصي فتقديم الغرض الترخيصي عقلائي أيضا لأن ترجيح الغرض اللزومي يستلزم تفويت 999 غرضا غير لزومي ، فللحفاظ على هذه المجموعة الكبيرة من الاغراض غير اللزومية لا بأس عقلائيا بتقديم الغرض غير اللزومي.

ومع عدم وجود البناء العقلائي في هذه الحالة على تقدم الغرض اللزومي فلا موجب لانصراف أدلة الاصول عن الشمول لاطراف الشبهة فيما اذا كانت غير محصورة.

فارق بين البيانين

والفارق بين البيانين هو أن البيان الثاني يقول ان عدم القدرة على المخالفة القطعية اذا نشأ من خصوص كثرة الأطراف - لا من أي منشأ كان - فلا مانع من جريان الاصول في جميع الأطراف ، وبذلك يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية ، بينما البيان الأوّل يقول ان عدم القدرة على المخالفة القطعية اذا نشأ من أي منشأ كان - وان لم يكن كثرة الأطراف - فلا مانع من جريان الاصول في جميع الأطراف ويسقط بذلك العلم الإجمالي عن المنجزية.

لا يرد نقض السيد الخوئي

ثم ان نقض السيد الخوئي السالف الذكر لا يرد على البيان الثاني حيث انّه

ص: 367

يختص بما اذا كانت الأطراف كثيرة ويقول انه متى ما كثرت الأطراف جرى الأصل في جميعها وسقط العلم الإجمالي عن المنجزية ولا يعم ما اذا كانت الشبهة محصورة وذات اطراف قليلة ، كما اذا علم بحرمة المكث في آن واحد في أحد مكانين.

خلاصة ما تقدم

ثم ان الخلاصة من كل ما تقدم ان عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة له تقريبان : -

1 - ان كثرة الأطراف توجب الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف.

2 - انّه مع كثرة الأطراف لا مانع من جريان الاصول في جميعها.

والفارق بين التقريبين : هو ان الأوّل يتم حتى في حالات عدم جريان الأصل في الأطراف - كما اذا كان دليل الأصل قاصرا في نفسه عن الشمول لاطراف العلم الإجمالي ولو كانت كثيرة - إذ مستند عدم التنجز هو الاطمئنان دون الأصل ، بينما التقريب الثاني لا يتم عند عدم جريان الأصل في الأطراف (1).

ص: 368


1- ثم انه بقي مطلبان كان من الجدير الإشارة لهما. وهما : - ١ _ ما هو الضابط لكون الشبهة شبهة غير محصورة؟ قد يقال : ان المناط في ذلك هو العرف ، فما عدّه العرف مصداقا للشبهة غير المحصورة فهو مصداق لها والاّ فلا. وفيه : ان عنوان الشبهة غير المحصورة لم يرد في آية أو رواية ليرجع في تحديده إلى العرف. وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى نفس التقريبين المتقدمين وعلى ضوئهما تحدد الشبهة غير المحصورة. اما على التقريب الأوّل فالضابط للشبهة غير المحصورة هو ان تكثر الأطراف إلى حدّ يتولد الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف. واما على التقريب الثاني فالضابط ان تكثر الأطراف إلى حدّ لا يرى العقلاء مانعا من شمول أدلة الاصول لجميع الأطراف. ٢ _ ما هو مقدار الأطراف الذي يجوز ارتكابه فهل يجوز ارتكاب جميع الأطراف أو ما عدا مقدار الحرام أو غير ذلك؟ والجواب : ان ذلك يختلف باختلاف التقريبين السابقين ، فعلى التقريب الأوّل يجوز ارتكاب بعض قليل من الأطراف _ كطرفين أو ثلاثة مثلا _ الذي لا يكون احتمال تحقق الحرام ضمنه احتمالا معتدا به عند العقلاء إذ انهم يبنون على حجّية الاطمئنان في هذه الحدود. بينما على التقريب الثاني يحق للمكلف ارتكاب أي مقدار اراده من الأطراف.

قوله ص 129 س 8 : ينجم : أي يحصل.

قوله ص 129 س 12 : وعلى هذا الاساس : أي افتراض عامل الكثرة فقط.

قوله ص 130 س 6 : بهذا النحو : أي بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف المقتحم.

قوله ص 130 س 9 : مثلا : أي ان فرض كون المعلوم بالإجمال هو النجس إنّما هو من باب المثال والاّ فيمكن افتراض كون المعلوم بالإجمال شيئا آخر.

قوله ص 130 س 17 : ان كل مجموعة من الاحرازات : المراد من الإحراز مطلق الإحراز الشامل لليقين والاطمئنان والظن والإحتمال.

والمعنى ان كل مجموعة من الاحرازات الثابتة في الأطراف تنتج بعد ضم

ص: 369

بعضها إلى بعض إحراز حصول مجموع المتعلقات - متعلق الإحراز الأوّل أ ، ومتعلق الإحراز الثاني ب - بنفس تلك الدرجة من الإحراز ، فاذا كانت درجة الإحراز في الأطراف هي الظن كانت درجة الإحراز في المجموع هي الظن أيضا ، واذا كانت هي الاطمئنان كانت الاطمئنان أيضا وهكذا.

قوله ص 131 س 1 : ووجودها : عطف تفسير.

قوله ص 131 س 11 : القاعدة المذكورة : أي المشار لها بقوله سابقا « وكقاعدة عامة ان كل مجموعة ... ».

قوله ص 131 س 13 : إحراز وجوده : أي وجود متعلقه.

قوله ص 131 س 13 : على تقدير : المناسب اضافة كلمة « حتى » ، أي حتى على تقدير وجود الخ.

قوله ص 131 س 14 : على نهج القضية الشرطية : متعلق بقوله « إحراز وجوده ». وصورة القضية الشرطية بهذا الشكل : إن كان ب موجودا ف أ يطمأن بوجوده أيضا ، وان كان أ موجودا ف ب يطمأن بوجوده أيضا.

وقد تقدم ان الأنسب التعبير بالاطمئنان المطلق بدل التعبير بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية.

قوله ص 132 س 4 : واجماع .. : عطف تفسير لقوله « حساب الإحتمالات ».

قوله ص 132 س 5 : على نفي الانطباق : متعلق بقوله « إجماع ».

قوله ص 132 س 13 : معارضه : المناسب : متعارضة.

قوله ص 132 س 14 : والمعذرية : عطف تفسير للحجّية. وإنّما خصص المعذرية بالذكر دون المنجزية لأن المفروض كون الاطمئنان اطمئنانا بعدم

ص: 370

انطباق النجاسة على كل طرف وليس اطمئنانا بالانطباق.

قوله ص 133 س 5 : والحالة هذه : أي ان لنا علما إجماليا بكذب بعض الامارات.

قوله ص 133 س 10 : واذا اخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى : أي مع الاطمئنان الاوّل ونسبناها له.

قوله ص 133 س 12 : بمجموع متعلقاتها : أي الاطمئنان بعدم انطباق النجس على 999 إناء.

قوله ص 133 س 13 : على سائر : أي جميع. والمقصود جميع 999 إناء.

قوله ص 133 س 13 : المساوق : أي الملازم. وهو صفة للاطمئنان بعدم الانطباق.

قوله ص 133 س 14 : على غيرها : وهو الإناء الأوّل. والمراد من الانطباق انطباق المعلوم بالإجمال ، أي النجس.

قوله ص 134 س 8 : عمليا : الأنسب : عملا.

قوله ص 134 س 13 : فيما تقدم : أي ص 110.

قوله ص 134 س 14 : السالفة الذكر : أي ص 111.

قوله ص 135 س 10 : وجود : الصحيح : وجوب.

قوله ص 135 س 15 : والحالة هذه : أي فرض عدم القدرة على المخالفة القطعية.

قوله ص 136 س 1 : على كل حالات العجز : أي وان لم يكن سبب العجز كثرة الأطراف.

ص: 371

قوله ص 136 س 5 : الواصلة بالعلم الإجمالي : واما اذا لم تكن واصلة ، كما اذا كانت الشبهة بدوية فلا بأس بتقديم الغرض غير اللزومي على اللزومي.

قوله ص 136 س 5 : كما تقدم توضيحه سابقا : أي في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 58.

قوله ص 136 س 6 : يعني ذلك : أي تقديم الأغراض الترخيصية على الاغراض اللزومية.

قوله ص 136 س 7 : مفاد الدليل : أي دليل الأصل العملي.

قوله ص 136 س 8 : كذلك : أي لجميع الأطراف.

قوله ص 136 س 11 : بوصول .. : هذا تفسير لكلمة « كذلك ».

قوله ص 136 س 13 : وعليه : أي على الغرض اللزومي.

ص: 372

الحالة الثامنة أو عدم القدرة على بعض الأطراف

اشارة

ويتوقف بيان الحالة الثامنة من الحالات العشر على استذكار مقدّمة حاصلها. انّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي له صياغتان : صياغة مشهورة وصياغة للشيخ العراقي. فالصياغة المشهورة تقول انّ شرط منجزية العلم الإجمالي تعارض الاصول في أطرافه فلو لم تتعارض - بأن جرت في بعضها دون بعض - لم يكن منجزا. وأمّا الصياغة الثانية فتقول انّ شرط منجزية العلم الإجمالي أن يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز جميع أطرافه مع عدم وجود منجز آخر له غيره.

وبعد هذا نأخذ في بيان الحالة الثامنة. وحاصلها : لو كنّا نعلم إجمالا مثلا بوقوع نجاسة في أحد انائي حليب وأحدهما كان لا يمكن ارتكابه فلا يكون العلم المذكور منجزا ، فالإناء الآخر الذي يمكن ارتكابه يجوز تناوله بلا مانع.

هذا على سبيل الإجمال.

والتفصيل ان يقال : ان عدم إمكان ارتكاب أحد الإنائين له حالتان : -

1 - ان يكون ارتكابه غير ممكن عقلا ، كما لو فرض ان المكلّف علم إجمالا بنجاسة أحد كأسي الحليب وكان أحدهما في المريخ مثلا فان الإناء المذكور لا يمكن ارتكابه عقلا (1).

ص: 373


1- ليس المقصود من عدم إمكان الإرتكاب عقلا عدم الإمكان بالمعنى الحقيقي الدقيق - إذ الوصول إلى المريخ وتناول الإناء الموجود فيه ممكن عقلا - وإنّما المقصود عدم الإمكان بمقتضى العادة

2 - ان يكون ارتكابه ممكنا عقلا بيد انّه لا يرتكب عادة كالإناء الموجود في بيت السلطان أو في بلد بعيد لا يذهب إليه المكلّف عادة. ويصطلح على الحالة المذكورة بالخروج عن محل الإبتلاء.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين نأخذ أوّلا بالتكلم عن الحالة الاولى.

الحالة الاولى

اشارة

وهي ما إذا كان أحد الإنائين لا يمكن ارتكابه عقلا. ولا إشكال في عدم منجزية العلم الإجمالي في الحالة المذكورة. ولكن ما هي النكتة في ذلك؟

ان المشهور عللوا عدم المنجزية باختلال الركن الأوّل - وهو تعلق العلم بالجامع - فقالوا انّ المكلّف في الحالة المذكورة لا علم له بحرمة ارتكاب أحد الإنائين إذ من المحتمل وقوع النجاسة في الإناء الخارج عن القدرة ، وعلى التقدير المذكور لا تثبت حرمة الارتكاب لأن شرط ثبوت التكليف القدرة على متعلقه.

وان شئت قلت : انّه تقدم في الحالة الثانية من الحالات العشر انّ المكلّف لو كان لديه إناء ماء برتقال وإناء ماء رمان ويعلم بنجاسة أحدهما وكان مضطرا لسبب وآخر لتناول ماء البرتقال فالعلم الإجمالي لا يكون منجزا لعدم تحقق العلم بالجامع - أي ثبوت حرمة احدهما - لإحتمال وقوع النجاسة في إناء البرتقال الذي لا يحرم ارتكابه - لو كان نجسا - بسبب الاضطرار فان الاضطرار يرفع الحكم الشرعي.

هذا ما تقدم في الحالة الثانية ، والمشهور كأنهم أرادوا قياس مقامنا على

ص: 374

الحالة المذكورة ، فكما ان المكلّف لو اضطر إلى فعل المحرم - كشرب ماء البرتقال - ترتفع حرمته كذلك لو اضطر إلى ترك ارتكاب المحرم ترتفع حرمته فالاضطرار إلى الترك قيس على الاضطرار إلى الفعل وحكم في كليهما بارتفاع الحرمة.

وفي مقام الجواب نقول : ان هذا القياس مع الفارق فلا وجه لقياس الاضطرار إلى الترك على الاضطرار إلى الفعل ، فان من اضطر إلى شرب ماء البرتقال يمكن ان يقال بسقوط علمه الإجمالي - بنجاسة إمّا ماء البرتقال أو ماء الرمان - عن المنجزية إذ مع الاضطرار لا يمكن توجيه الخطاب بالحرمة إليه فإن التكليف بغير المقدور لغو وقبيح ، وما دام لا يمكن التكليف بغير المقدور فلا يتشكل علم إجمالي بالتكليف فلا يمكن للمكلف ان يقول انّي اعلم بحرمة ثابتة اما في ماء البرتقال أو في ماء الرمان.

وهكذا لا يتشكل علم اجمالي من حيث الملاك - أي المبغوضية والمفسدة - فلا يمكن ان يقول المكلّف إنّي علم بثبوت المبغوضية إمّا في تناول ماء البرتقال أو في تناول ماء الرمان ، إذ كما ان الاضطرار يرتفع بسببه الخطاب بالحرمة كذلك من المعقول ان ترتفع بسببه المغوضية.

واذا لم نجزم بان الاضطرار إلى شرب النجس يزيل بغض المولى عن تناوله فلا أقل من احتمال ذلك (1) ، فان شرب النجس بسبب طرو عنوان الاضطرار عليه يحصل له فردان : شرب النجس غير المضطر إليه وشرب النجس المضطر إليه ، ومن المعقول ان تكون المبغوضية ثابتة في أحد الفردين - وهو شرب

ص: 375


1- واكتفي في عبارة الكتاب بابراز الإحتمال حيث قيل : « فيمكن ان يفترض إلخ » ولم يجزم بانتفاء الملاك باعتبار ان مجرد احتمال انتفاء الملاك يكفي لعدم تشكل العلم الإجمالي بلحاظ الملاك.

النجس غير المضطر إليه - دون الفرد الثاني ، وما دمنا نحتمل زوال المبغوضية بسبب الاضطرار فلا يمكن حصول علم إجمالي بوجود المبغوضية.

وبالجملة إذا اضطر المكلّف إلى ارتكاب أحد الطرفين - كشرب ماء البرتقال - فلا يمكنه تشكيل علم إجمالي لا بلحاظ التكليف ولا بلحاظ الملاك.

هذا كله إذا اضطر المكلّف إلى الفعل.

وأمّا إذا اضطر إلى ترك ارتكاب أحد الطرفين - كالاضطرار إلى ترك الإناء الموجود في مكان غير مقدور - فالعلم الإجمالي من حيث التكليف وان كان لا يمكن تشكيله - إذ توجيه الخطاب بالحرمة نحو الإناء الذي لا يمكن ارتكابه قبيح ولغو ، وحيث ان المكلّف يحتمل وقوع النجاسة في الإناء الذي لا يمكنه ارتكابه فلا يجزم بتوجه الخطاب بالحرمة إليه - الاّ انّ العلم الإجمالي من حيث الملاك يمكن تشكيله فان مبغوضية شرب النجس ثابتة حتى في حالة عدم إمكان ارتكابه فمجرد ابتعاد الإناء النجس ووجوده في مكان بعيد لا يمكن ان تصل له يد المكلّف لا يزيل مبغوضية ارتكابه ، ولذا لو فرض ولو من باب المحال تحقق ارتكابه بالفعل كان مبغوضا.

اذن هناك فرق واضح بين الاضطرار إلى شرب النجس فتزول المبغوضية عنه وبين الاضطرار إلى ترك شربه فلا تزول المبغوضية عنه (1).

وما دامت المبغوضية لا تزول بالاضطرار إلى الترك فيمكن للمكلف

ص: 376


1- ومثال ثاني لذلك أكل لحم الخنزير ، فان الإنسان إذا اضطر إلى أكله زالت عنه المبغوضية والحرمة معا. وأمّا إذا كان موجودا في مكان بعيد ولم يمكن تناوله فلا تزول المبغوضية عنه فان بعد مكان الخنزير لا يزيل المبغوضية عن أكله.

تشكيل علم إجمالي بلحاظ الملاك - المبغوضية - بان يقول اني أعلم بثبوت المبغوضية امّا في تناول هذا الإناء الموجود أمامي أو في الإناء الموجود في المريخ.

واذا أمكن تشكيل مثل هذا العلم الإجمالي وجب الإجتناب عن كلا الإنائين فان العلم المنجز ليس هو خصوص العلم الإجمالي بالتكليف بل العلم الإجمالي بروح التكليف وملاكه منجز أيضا.

وأكثر من هذا نقول : انّ التكليف لو لاحظناه بقطع النظر عن ملاكه لم يكن ذا أهمية ولا يثبت التنجز له وإنّما المهم هو الملاك ، فبه تتحقق روح التكليف وحقيقته.

التعليل المناسب

وبهذا كله إتضح انّه ليس من الصحيح تعليل عدم منجزية العلم الإجمالي في حالة عدم التمكن من ارتكاب أحد الطرفين بفقدان الركن الأوّل ، وإنّما الصحيح التعليل بفقدان الركن الثالث بكلتا صيغتيه.

أمّا فقدانه بالصيغة الاولى المشهورة - وهي انّه لا بدّ من تعارض الاصول في الأطراف - فلأن أصل الإباحة في الإناء الخارج عن القدرة لا يجري في نفسه اذ المقصود من التعبد بالإباحة هو جعل المكلّف مطلق العنان ومرخصا في ارتكاب الشيء ، ومن الواضح ان المكلّف إذا لم يمكنه ارتكاب الإناء الموجود في المريخ وكان مقيدا تقيدا تكوينيا وقهريا فلا معنى لإثبات إطلاق العنان له تشريعا ، فانّ تشريع إطلاق العنان إنّما يعقل فيما إذا كان المكلّف مطلق العنان تكوينا دون ما إذا كان مقيدا.

ص: 377

وأمّا فقدانه بالصيغة الثانية التي تبناها الشيخ العراقي - وهي انه يشترط في منجزية العلم الإجمالي ان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه بلا وجود منجز آخر - فلأن النجاسة لو كانت ثابتة في الإناء الموجود في المريخ فلا يكون العلم الإجمالي منجزا لتركها إذ المقصود من تنجز تركها هو اشتغال الذمة والعهدة بالترك ، وواضح ان تناول الإناء إذا لم يكن مقدورا فلا يعقل اشتغال العهدة بتركه.

الحالة الثانية

اشارة

ذكرنا فيما سبق ان عدم إمكان ارتكاب أحد الطرفين له حالتان فتارة لا يمكن ارتكابه لخروجه عن القدرة واخرى لخروجه عن محل الابتلاء.

وفيما سبق كان حديثنا ناظرا إلى الحالة الاولى ، ومن الآن نأخذ بالتحدث عن الحالة الثابتة وهي ما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء ، كما إذا كان أحد الإنائين إناء بيت السلطان.

وفي هذه الحالة ذهب المشهور إلى عدم حجّية العلم الإجمالي أيضا لنفس النكتة المتقدمة فيما سبق ، فكما ان التكليف مشروط بالقدرة على متعلقه كذلك هو مشروط بكونه داخلا في محل الإبتلاء ، فاذا لم يكن أحد الإنائين داخلا في محل الإبتلاء فلا يحصل علم بوجوب الإجتناب عن أحد الإنائين ، إذ لعل النجس هو إناء بيت السلطان الذي لا يجب الإجتناب عنه - على تقدير كونه هو النجس - لخروجه عن محل الإبتلاء.

أمّا لماذا كان التكليف مشروطا بدخول متعلقه في محل الإبتلاء؟

ان الشيخ الأعظم قدس سره علّل ذلك : بان توجيه التكليف مع عدم الإبتلاء

ص: 378

بمتعلقه قبيح ، ولذا تجد ان العرف يستهجن ان يقول المولى لعبده تجنب عن إناء بيت السلطان ، وما ذاك الاّ لخروجه عن محل الإبتلاء.

وفي الجواب نقول : لو سلمنا اشتراط التكليف بدخول متعلقه في محل الإبتلاء فمع ذلك يمكن تشكيل علم إجمالي جديد بلحاظ الملاك بالنحو الذي تقدم تشكيله في الحالة السابقة ، فان خروج الشيء عن القدرة إذا لم يعدم عنه المبغوضية فبالاولى الخروج عن محل الابتلاء لا يعدم المبغوضية ، ومع بقاء المبغوضية في الشيء الخارج عن محل الإبتلاء فبالإمكان تشكيل علم إجمالي بلحاظ ذلك فيقول المكلّف إنّي أعلم بوجود مبغوضية إمّا في الإناء الداخل في محل ابتلائي أو في الإناء الخارج.

بل هنا يمكن تشكيل العلم الإجمالي بلحاظ التكليف أيضا فانا لا نسلم ان الإبتلاء شرط في صحّة التكليف بل يصح حتى مع خروج الشيء عن محل الإبتلاء (1) فإنّ الشيء إذا كان داخلا تحت القدرة فبالامكان تعلق التكليف به والزجر عنه وإن كان خارجا عن محل الابتلاء.

فان قيل : ان النهي عن الإناء الخارج عن محل الابتلاء - كاناء السلطان - لغو ، إذ الغرض من النهي هو الترك ، ومعلوم ان ترك إناء السلطان حاصل بنفس عدم الابتلاء به حتى لو لم ينه عنه ، ومعه فيكون الرجز عن ارتكابه طلبا لما هو حاصل ومن دون فائدة.

قلت : انّه مع النهي عن إناء بيت السلطان يمكن للمكلف التقرب إلى اللّه

ص: 379


1- وفاقا للسيد الخوئي ( دام ظلّه ) في مصباح الاصول ج 2 ص 395 فانّه اختار عدم اشتراط صحة التكليف بالابتلاء.

سبحانه بتركه بينما لو لم ينه عنه لما أمكن للمكلف التقرب بتركه فالنهي عن تركه حينئذ يكون ذا فائدة وهي التقرب بتركه ولا يكون لغوا ومن قبيل تحصيل ما هو حاصل (1).

ص: 380


1- البيان المذكور ناقص وبحاجة إلى توضيح. ويمكن في توضيحه ان يقال : ان محذور اللغوية يلزم في النواهي العرفية دون النواهي الشرعيّة ، فانّه في النواهي العرفية - كنهي الأب ولده عن التدخين - يكون المطلوب هو الترك ، فالترك هو النتيجة المطلوبة من وراء النهي ، فاذا كان الترك حاصلا من أي سبب كان فردع الولد عن التدخين يكون لغوا. وهذا بخلافه في النواهي الشرعية فان المطلوب من النهي عن السرقة مثلا ليس مجرد ترك السرقة حتى يقال انّه مع انصراف العبد عنه يكون النهي عن فعلها لغوا ، وإنّما المطلوب إيصال العبد إلى مدارج الكمال ، فإحكام الشريعة جميعا بما فى ذلك الأحكام التوصلية شرعت لتكميل العباد ، ومن الواضح ان الوصول إلى الكمال لا يحصل بمجرد الترك وإنّما يحصل فيما إذا كان الترك بداعي القربة والإمتثال ، قال اللّه عز وجل : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ، وبتجلي هذا يتجلي ان النهي عن الإناء الخارج عن محل الإبتلاء ليس لغوا إذ من دون النهي وإن كان الترك حاصلا إلاّ انه لا يمكن ان يحصل بداعي القربة بل حصول الترك بداعي القربة يتوقف على وجود النهي. ان قلت : ان الإناء إذا كان خارجا عن محل الإبتلاء فتركه لا يمكن ان يكون بقصد القربة حتى مع وجود النهي إذ المكلف يترك الإناء من جهة خروجه عن محل الإبتلاء وليس من جهة وجود النهي. قلت : ان هذا البيان يثبت وجود داعي آخر للترك _ وهو الخروج عن الإبتلاء _ غير داعي التقرب ولا ينفي وجود داعي التقرب ، فالمكلف يوجد له داعيان إلى الترك ، فهو يترك إناء السلطان لأجل عدم الإبتلاء حتى وإن لم يكن هناك نهي ، ويتركه لأجل النهي حتى وان لم يكن خارجا عن محل الإبتلاء. وبعبارة اخرى كل من الخروج عن محل الإبتلاء والنهي داع مستقل للترك ، وقد تقرر في الفقه لدى بعض الفقهاء ان النهي إذا كان داعيا مستقلا تحقق التقرب وإن كان إلى جنبه داع مستقل آخر ، نظير من كان له داعيان مستقلان إلى الوضوء : امتثال الأمر والتبريد ، فان التقرب يحصل ما دام امتثال الأمر داعيا مستقلا وان كان إلى جنبه داعي التبريد الذي هو داع مستقل أيضا. ثم ان للسيد الشهيد في بحوثه الفقهية تعبيرا أوضح من الموجود هنا ، ففي الجزء الرابع من تقريره الفقهي ص ١٠١ ما نصّه : « يكفي فائدة للتكليف انّه يحقق صارفا ثانيا للمكلف في عرض الصارف الطبيعي يمكن المكلّف التعبد والتقرب على أساسه ». وأوضح من ذلك تعبير السيد الخوئي في مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٩٥.
الأفضل في التعليل

ومن المفضل تعليل عدم منجزية العلم الإجمالي في حالة خروج بعض - الأطراف عن محل الإبتلاء باختلال الركن الثالث - وهو تعارض الاصول في الأطراف - باعتبار ان الأصل يجري في الإناء المبتلى به من دون معارضة بالأصل في الإناء الخارج عن محل الابتلاء.

وقد تسأل عن نكتة عدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء مع أنّ المفروض ان السيد الشهيد يرى إمكان ثبوت التكليف في حالة عدم الابتلاء ، فانّه بناء على هذا الرأي يكون ثبوت التكليف في الإناء الخارج عن محل الابتلاء محتملا ، ومع واحتمال ثبوت التكليف يكون جريان الأصل لنفيه وجيها.

والجواب : ان الأصل العملي ليس قاعدة مقرره لنفي التكليف عند احتماله حتى يقال بان التكليف في الإناء الخارج عن محل الإبتلاء حيث انه محتمل

ص: 381

فجريان الأصل لنفيه وجيه وإنّما يجريه العقلاء عند تزاحم الغرضين في مقام الحفظ ، بمعنى انه عند احتمال وجود الغرض اللزومي والغرض الترخيصي في الشيء المشكوك فالغرض اللزومي يطلب حفاظا على نفسه تحريم الشيء المشكوك بينما الغرض الترخيصي يطلب حفاظا على نفسه عكس ذلك أي يطلب الترخيص في الشيء المشكوك ، والأصل العملي تعبير عن تقديم أقوى الملاكين عند التزاحم بين الحفظين.

اذن الأصل العملي قاعدة تفترض عند التشاجر والتزاحم بين الحفظين فاذا لم يكن تشاجر وتزاحم بين الحفظين لم يكن معنى للاصل العملي.

وعلى هذا فالاناء الخارج عن محل الابتلاء لا معنى لجريان الأصل فيه إذ ثبوت كل من الغرض اللزومي والترخيصي وان كان محتملا إلاّ انّه لا تشاجر بينهما في مقام الحفظ ، فإنّ الغرض اللزومي الثابت في الحرمة محفوظ بنفس عدم الابتلاء ، فان نفس عدم الابتلاء بإناء السلطان يفترض عدم ارتكابه ، وبالتالي يحصل التحفظ على الغرض اللزومي ، وبتحقق التحفظ عليه لا يقع تزاحم بين حفظه وحفظ الغرض الترخيصي ليجري العقلاء الأصل العملي.

قوله ص 137 س 15 : كاستعمال كأس من الحليب الخ : أي كما إذا دار أمر النجس بين أن يكون هو كأس الحليب الموضوع على مائدته أو الكأس في بلد لا يصل اليه كما عبّر بذلك في الحلقة الثانية.

قوله ص 138 س 12 : على كل تقدير : أي على تقدير نجاسة الاناء المقدور وعلى تقدير نجاسة الاناء غير المقدور بل يكون ثابتا على تقدير نجاسة الاناء المقدور ولا يكون ثابتا على تقدير نجاسة الاناء غير المقدور.

ص: 382

قوله ص 138 س 17 : من المفسدة والمبغوضية : تفسير لمبادئ النهي.

قوله ص 139 س 7 : إنّ الفعل المقدور : الصواب : انّ الفعل غير المقدور.

قوله ص 139 س 9 : إنّ فرض وجوده مساوق الخ : أي لو فرض وجوده كان وجوده ذا مفسدة.

قوله ص 140 س 3 : كما في الحالة الثانية المتقدمة : أي ص 115 من الحلقة.

قوله ص 140 س 7 : على كل حال : أي على كل تقدير من تقديري نجاسة الاناء المقدور ونجاسة الاناء غير المقدور.

قوله ص 141 س 12 : لبعده وصعوبته : أي لبعد الصدور وصعوبته.

قوله ص 141 س 14 : من التعبد بتركه : أي قصد التقرب بتركه ، فالتعبد هو بمعنى التقرب.

قوله ص 142 س 1 : من هذا القبيل : أي التزاحم بين الحفظين.

قوله ص 142 س 3 : بدون تفريط بالغرض الترخيصي : فانّه في سائر الموارد لا بدّ من التضحية بالغرض الترخيصي للحفاظ على الغرض اللزومي. وأمّا في المقام فالغرض اللزومي محفوظ بنفس عدم الابتلاء بلا حاجة إلى التضحية بالغرض الترخيصي.

ص: 383

ص: 384

الحالة التاسعة أو العلم الاجمالي في التدريجيات

اشارة

طرفا العلم الاجمالي تارة يكونان حكمين فعليين ، واخرى يكون أحدهما فعليّا والآخر غير فعلي.

مثال الأوّل : العلم الاجمالي بنجاسة أحد إنائين موجودين بالفعل فإنّ النجاسة إذا كانت ثابتة في الاناء الأوّل فوجوب الاجتناب عنه فعلي ، وإذا كانت في الاناء الثاني فوجوب الاجتناب عنه فعلي أيضا. ومثل هذا العلم الاجمالي يسمّى بالعلم الاجمالي في الأطراف الدفعيّة.

ومثال الثاني : ما إذا فرض انّ امرأة كان يسيل منها الدم طيلة شهر لعارض من العوارض ، وكانت ذات عادة عدديّة لا وقتيّة (1) ، بأن كانت تعلم إنّ مدّة حيضها ثلاثة أيام ، ولكنها لم تعلم انّها الثلاثة الاولى أو الثانية أو الثالثة ، وهكذا. في مثل هذه الحالة يحصل لها علم اجمالي بأنّ واحدة من الثلاثة أيام حيض ، فإن كانت الثلاثة الاولى هي الحيض فيجب عليها التجنّب عن دخول المساجد وجوبا فعليا ، وإن كانت هي الثلاثة الثانية فوجوب التجنّب ليس فعليا بل هو استقبالي منوط بمجيء الثلاثة الثانية.

ومثل هذا العلم يسمّى بالعلم الاجمالي في الأطراف التدريجية لأنّ الثلاثة الثانية لا تتولّد إلاّ بعد انعدام الثلاثة الاولى ، والثلاثة الثالثة لا تتولّد إلاّ بعد

ص: 385


1- أو كانت ذات عادة وقتيّة وعدديّة ولكنها نست الوقت وبقيت متذكرة للعدد فقط.

انعدام الثانية ، وهكذا.

وفي هذا المقام نريد البحث عن حجّية مثل العلم الاجمالي المذكور ، فهل هو منجّز كالعلم الاجمالي في الأطراف الدفعيّة أو لا؟

وقد استشكل في حجّية العلم المذكور بوجهين : -

1 - إنّ الركن الأوّل من أركان منجّزية العلم الاجمالي - وهو العلم بالجامع - مفقود لأنّ الحيض إن كان ثابتا في الثلاثة الاولى فوجوب التجنّب عن دخول المسجد فعلي ، وأما إذا كان في الثلاثة الثانية فهو ليس بفعلي ، وعليه فالمرأة لا تعلم بتوجّه تكليف فعلي إليها ، بل تشك في توجهه إليها.

2 - إنّ الركن الثالث مختل بكلتا صيغتيه : صيغة المشهور وصيغة الشيخ العراقي.

أمّا صيغة المشهور - وهي تعارض الاصول في الأطراف - فتقريب اختلالها أنّ وجوب الاجتناب في الثلاثة الاولى حيث انّه محتمل فيمكن اجراء أصل البراءة لنفيه ، وأمّا وجوب الاجتناب في الثلاثة الثانية فحيث انّه لا يحتمل ثبوته قبلها - أي قبل مجيء الثلاثة الثانية - بل لا يثبت الاّ بعد حلولها فلا يمكن إجراءه لنفيه في الثلاثة الاولى ، ومعه فيجري الأصل الأوّل دون معارض.

وأمّا اختلال صيغة الشيخ العراقي - وهي أن يكون العلم الاجمالي صالحا لتنجيز طرفيه بلا منجّز آخر - فباعتبار أنّ وجوب الاجتناب في الثلاثة الثانية حيث انّه لا يحتمل ثبوته في الثلاثة الاولى فلا يمكن أن يكون العلم الاجمالي منجّزا له - فإن تنجّز التكليف فرع ثبوته - وإنّما يصلح فقط لتنجيز وجوب الاجتناب الثابت في الثلاثة الاولى.

ص: 386

وبكلمة اخرى : إنّ وجوب الاجتناب إن كان ثابتا في الثلاثة الاولى امكن تنجّزه بالعلم الاجمالي ، وامّا إذا كان ثابتا في الثلاثة الثانية فلا يمكن تنجّزه به. وعليه فالعلم الاجمالي يكون صالحا للتنجيز على أحد تقديرين لا على كليهما.

مناقشة الوجهين

هذا ويمكن المناقشة في كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل - وهو عدم وجود العلم بالتكليف الفعلي - فباعتبار انّه ليس المقصود من التكليف الفعلي التكليف الثابت الآن - أي عند بداية الثلاثة الاولى - بل المقصود منه أن يكون جميع أجزاء الموضوع متوفرة في مقابل ما إذا كان بعضها مفقودا فانّه لا يكون التكليف فعليّا ، فمثلا موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة والبلوغ والعقل والقدرة ، وهذه الأجزاء الاربعة متى توفرت فالوجوب يكون فعليّا ، ومتى ما اختل واحد منها زالت الفعليّة ، وفي مقامنا بما أنّ أجزاء الموضوع (1) تامّة فى كلا التكليفين فهما فعليّان ، غاية الأمر أحدهما تكليف فعلي في الثلاثة الاولى وثانيهما تكليف فعلي في الثلاثة الثانية ، وهذا المقدار يكفي لتنجيز العلم الاجمالي ، فإنّ كلا الطرفين إذا كانا فعليين بهذا المعنى للفعليّة كان العلم الاجمالي منجّزا حتّى وإن كان ثبوت أحدهما في الثلاثة الاولى وثبوت ثانيهما في الثلاثة الثانية فانّه لا يشترط في منجّزية العلم الاجمالي ثبوت كلا التكليفين الفعليين في الثلاثة الاولى إذ مولوية اللّه سبحانه - المقصود من المولوية

ص: 387


1- وهي مثل البلوغ والعقل وعدم الإضطرار وكون الدم حيضا

حق الطاعة - لا تختص بخصوص الثلاثة الاولى بل له حق الإطاعة بالنسبة إلى وجوب التجنّب الثابت في الثلاثة الثانية حتى قبل مجيئها - الثلاثة الثانية - ولا يتوقف ثبوته - حق الاطاعة - على مجيء الثلاثة الثانية ، ومعه فالمكلف يمكنه تشكيل علم اجمالي فيقول إنّي أعلم بثبوت حق الاطاعة الآن أمّا بالتجنب في الثلاثة الاولى أو في الثلاثة الثانية.

هذا كله في مناقشة الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني - وهو عدم توفر الركن الثالث بكلتا صيغتيه - فباعتبار أنّ الصيغة المشهورة للركن الثالث متوفرة ، فالاصل يمكن إجراؤه لنفي التكليف في الثلاثة الاولى ، ومتى ما حلّت الثلاثة الثانية وصار ثبوت التكليف الفعلي فيها محتملا أمكن اجراؤه لنفيه في فيها ، وبهذا يحصل التعارض بين الاصلين ، فإنّ التعارض بين الاصلين لا يتوقف على جريانهما في وقت واحد بل يكفي لتحقّق التعارض جريان أحد الاصلين في الثلاثة الاولى وجريان الاصل الثاني في الثلاثة الثانية ، إذ التعارض بين الاصلين ليس هو كالتعارض بين السواد والبياض الذي يتوقف على ملاحظة زمان واحد ، بل هو بمعنى عدم إمكان شمول دليل الحجّية لكلا الاصلين ، ومن الواضح انّ دليل الاصل لا يمكن أن يشمل الاصل الجاري في الثلاثة الاولى والاصل الجاري في الثلاثة الثانية ، إنّ هذا هو المقصود من التعارض في مقامنا وهو متوفر في المقام.

وأمّا صيغة الشيخ العراقي فهي متوفرة أيضا ، فإنّ العلم الاجمالي ينجّز كلا من الطرفين في ظرفه المناسب له ، فالتكليف في الثلاثة الاولى ينجّزه في الثلاثة الاولى ، والتكليف في الثلاثة الثانية ينجّزه في الثلاثة الثانية فهو صالح لتنجيز كل

ص: 388

من طرفيه في الوقت المناسب للطرفين.

وبعبارة أخرى : لا يشترط تنجيز العلم الاجمالي لكل من طرفيه في الثلاثة الاولى بل يكفي أن يكون صالحا لتنجيزهما ولو بلحاظ عمود الزمان وعلى طوله.

ص: 389

ص: 390

وهكذا يتضح :

وبهذا كله اتضح ان العلم الإجمالي في الأطراف التدريجية منجز لأن كلا الوجهين المستدل بهما على عدم المنجزية باطلان.

هذا ولكن البعض حيث يرتئي صحة الوجهين أو أحدهما ذهب إلى عدم المنجزية وقال ان المرأة في الثلاثة الاولى يجوز لها الدخول في المسجد لعدم منجزية العلم الإجمالي باعتبار تأخر أحد طرفيه ، واذا حلت الثلاثة الثانية جاز لها الدخول في المسجد أيضا وهكذا في كل ثلاثة متأخرة.

وذهب الشيخ العراقي قدس سره إلى منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات كما اخترناه ولكن عن طريق ابراز علم إجمالي جديد يكون كلا طرفيه حكما فعليا - لا كالعلم السابق الذي كان أحد طرفيه فعليا والآخر غير فعلي - وذلك بان يقال انه إمّا ان تكون الثلاثة الاولى حيضا فيجب الاجتناب فيها عن دخول المساجد وجوبا فعليا أو تكون الثلاثة الثانية حيضا فالاجتناب وان لم يجب وجوبا فعليا ولكنه يجب حفظ القدرة من الآن على امتثال التكليف المتأخر ، فالمرأة تعلم إجمالا بوجوب فعلي مردد بين وجوب التجنب في الثلاثة الاولى وبين وجوب حفظ القدرة من الآن على امتثال التكليف في الثلاثة الثانية (1).

ص: 391


1- فلو فرض ان الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى سبب لاضطرار المرأة إلى الدخول فيه في الثلاثة الثانية بحيث كان عدم الدخول فيه في الثلاثة الثانية موقوفا على عدم الوقوف إلى جنب بابه في الثلاثة الاولى ، ففي مثل هذه الحالة يتشكل لها علم إجمالي إمّا بحرمة الدخول إلى المسجد في الثلاثة الاولى وإمّا بحرمة الوقوف إلى جنب بابه في الثلاثة الاولى ، وكلا هذين التكليفين - كما ترى - فعلي ثابت في الثلاثة الاولى.

وباختصار يمكننا ان نقول ان الشيخ العراقي حوّل كل علم إجمالي في الأطراف التدريجية إلى علم إجمالي في اطراف فعلية.

ويمكن التعليق على هذه المحاولة بثلاثة وجوه : -

1 - لا حاجة إلى اتعاب الشيخ العراقي نفسه الزكية بتحويل العلم الإجمالي من كونه علما في أطراف تدريجية إلى كونه علما في أطراف دفعية إذ تقدم في جواب الوجه الأوّل من الوجهين المتقدمين ان العلم الإجمالي منجز حتى فيما إذا كان أحد طرفيه تكليفا ثابتا الآن والآخر تكليفا ثابتا في الاستقبال ، فان مولوية اللّه سبحانه لا تختص بالتكاليف الثابتة الآن بل تعم التكاليف الثابتة في المستقبل أيضا ، فاللّه سبحانه له علينا الحق في اطاعته في التكاليف المستقبلية كما له الحق في اطاعته في التكاليف الثابتة الآن.

2 - ذكر قدس سره ان الثلاثة الثانية إذا كانت هي الحيض فيجب في الثلاثة الاولى حفظ القدرة على امتثال التكليف الثابت في الثلاثة الثانية ، وهذا المطلب إنّما يتم فيما لو فرض ان التكليف في الثلاثة الثانية على تقدير ثبوته فيها منجز ، فمتى ما كان منجزا في ظرفه وجب في نظر العقل في الثلاثة الاولى حفظ القدرة على امتثاله - وهذا نظير وجوب الغسل قبل الفجر في شهر رمضان فانّه إنّما يثبت فيما لو فرض ان وجوب الصوم ثابت ومنجز بعد الفجر ، فالمريض وغيره ممن لا يتنجز وجوب الصوم في حقه بعد الفجر لا يجب عليه عقلا حفظ القدرة على

ص: 392

الاغتسال قبل الفجر - ، ومعه فنحن نسأل عن ذلك المنجز لوجوب التجنب في الثلاثة الثانية ، وهو ليس الاّ العلم الإجمالي السابق ، أي العلم الإجمالي في باب التدريجيات - وبتعبير آخر علم المرأة إجمالا بانّه يجب عليه إمّا التجنب في الثلاثة الاولى أو التجنب في الثلاثة الثانية - الذي اخترنا كونه منجزا.

فإن قبله الشيخ العراقي كان هو المنجز بلا حاجة إلى التشبث بالعلم الإجمالي الجديد الذي اقترحه ، وان لم يقبله لم يكن المنجز للتكليف في الثلاثة الثانية ثابتا ليجب حفظ القدرة على امتثاله.

3 - ان العلم الإجمالي الذي اقترحه قدس سره لا ينجز الاّ طرفيه - وهو وجوب التجنب في الثلاثة الاولى ووجوب حفظ القدرة في الثلاثة الاولى - ولا ينجز ما هو أكثر منهما ، فالتجنب في الثلاثة الثانية لا يثبت تنجزه إذ العلم الإجمالي المقترح كان يقول هكذا : ان المرأة تعلم إجمالا إمّا بحرمة دخولها المسجد في الثلاثة الاولى أو بحرمة الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى (1) ، فالذي يتنجز به هو حرمة الدخول في الثلاثة الاولى وحرمة الوقوف عند باب المسجد في الثلاثة الاولى ، وامّا حرمة الدخول في المسجد في الثلاثة الثانية فليست طرفا له لتتنجز به وانما تتنجز الحرمة المذكورة بالعلم الاجمالي السابق ، فان قبله الشيخ العراقي كان هو المنجز بلا حاجة الى العلم الاجمالي الجديد الذي اقترحه وإن لم يقبله فلا يثبت تنجز الحرمة المذكورة.

ص: 393


1- فان حفظ القدرة على عدم الدخول في الثلاثة الثانية يتحقق بعدم الوقوف عند باب المسجد فى الثلاثة الاولى لأن من وقف عند باب المسجد فقد يدخل فيه. وإنّما ذكرنا هذا تسهيلا لهضم المادة والاّ فقد لا يخلو ذلك من تأمّل.

قوله ص 142 س 16 : على كل تقدير : بل على تقدير كون الثلاثة الاولى حيضا يجب عليها بالفعل التجنب عن دخول المسجد وامّا على تقدير كون الثلاثة الثانية حيضا فليس عليها وجوب فعلي بالتجنب.

قوله ص 143 س 13 : وفعليته : عطف تفسير لثبوته.

قوله ص 143 س 14 : على كل تقدير : بل يكون منجزا على تقدير ثبوته في بداية الشهر ولا يكون منجزا على تقدير ثبوته في منتصفه.

قوله ص 144 س 3 : ولو في زمان : الصواب : ولو في عمود الزمان.

قوله ص 144 س 8 : عن الطرف الفعلي بالاصل الخ : الصواب : عن الطرف الفعلي بالاصل الخ.

قوله ص 144 س 12 : بالنحو المناسب الخ : فزمان الاصل الاول هو الثلاثة الاولى وزمان الاصل الثاني هو الثلاثة الثانية ، ودليل الاصل لا يمكن ان يشمل كلا من الاصل الاول في وقته المناسب - وهو الثلاثة الاولى - والاصل الثاني في وقته المناسب له وهو الثلاثة الثانية.

قوله ص 145 س 10 : لما يعرف من مسألة إلخ : تقدم البحث عن وجوب المقدمة المفوتة في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص 347 وهي كل مقدمة يفوت إمكان امتثال الواجب في ظرفه لو لم يؤت بها قبله كالغسل قبل الفجر في شهر رمضان حيث انّه لو لم يؤت به قبل الفجر يفوت إمكان الإتيان بالصوم بعد الفجر.

قوله ص 146 س 3 : كذلك : أي في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة.

ص: 394

قوله ص 146 س 7 : ما يكلف به في ظرفه المتأخر : وهو التجنب عن دخول المسجد في الثلاثة الثانية.

قوله ص 146 س 10 : ثبت تنجيزه لكلا طرفيه : أي من دون حاجة إلى إبراز العلم الجديد.

ص: 395

ص: 396

الحالة العاشرة أو الطولية بين طرفي العلم

اشارة

والحالة العاشرة والأخيرة من الحالات العشر هي : ان يتعلق العلم الإجمالي بطرفين ويفرض ان بينهما طولية بمعنى ان أحدهما يترتب على عدم الآخر ، كما لو فرض ان شخصا حصل على ألف دينار وكانت الألف بمقدار يفي بالاستطاعة إلى الحج ، وفرض أيضا انه كان يشك في وجود دين عليه لزيد (1) فانّه في مثل هذه الحالة سوف يتولد له علم إجمالي إمّا بوجوب الحج عليه - على تقدير عدم ثبوت الدين - أو بوجوب قضاء الدين.

والطرفان هما : وجوب الحج ، ووجوب قضاء الدين. ووجوب الحج في طول وجوب قضاء الدين بمعنى انّه مترتب على عدم وجوب قضاء الدين ، فمن لم يجب عليه قضاء الدين يجب عليه الحج دون من وجب عليه.

والسؤال المطروح في هذه الحالة هو : انّ العلم الإجمالي المذكور هل هو منجز؟ والجواب : انّه توجد في الحالة المذكورة صورتان : -

1 - ان يكون وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب قضاء الدين ولو كان - عدم وجوب قضاء الدين - ثابتا ثبوتا ظاهريا ، أي بأصل عملي.

2 - ان يكون مترتبا على عدم وجوب قضاء الدين فيما إذا كان عدم وجوب

ص: 397


1- ولا بدّ من افتراض ان الدين على تقدير ثبوته ممّا يطالب صاحبه بوفائه ، إذ لو لم يطالب به لم يمنع من وجوب الحج.

قضاء الدين ثابتا واقعا ولا يكفي ثبوته الظاهري.

الاولى

أمّا الصورة الاولى فالعلم الإجمالي فيها ليس منجزا لاختلال الركن الأوّل من أركان المنجزية - وهو تعارض الاصول في الأطراف - فيه ، إذ الأصل يجري لنفي وجوب قضاء الدين من دون معارضة بالأصل لنفي وجوب الحج ، اذ بجريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين يثبت العلم بوجوب الحج ، ومع حصول العلم بوجوب الحج لا يجري الأصل لنفيه - فإنّ الأصل لا يجري حالة العلم وإنّما يجري حالة الشكّ - ، وهذا بخلاف إجراء الأصل لنفي وجوب الحج فانّه لا يحصل به العلم بوجوب قضاء الدين فان وجوب قضاء الدين ليس اثرا شرعيا لعدم وجوب الحج.

ان قلت : ان جريان الأصل في أحد الطرفين - أي لنفي وجوب قضاء الدين - بلا معارضة يتم بناء على مسلك الاقتضاء القائل بأنّ منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الاصول ، فاذا لم تتعارض - بان جرى الأصل في أحد الطرفين بلا ان يعارض بجريانه في الآخر - فلا منجزية ، وإمّا بناء على مسلك العلية فلا يمكن ان يجري الأصل لنفي وجوب قضاء الدين ، إذ بناء على المسلك المذكور يكون العلم الإجمالي منجزا في ذاته ، وبسبب هذا التنجيز الذاتي يمتنع جريان الأصل في أحد الطرفين ولو لم يكن له معارض.

قلت : ان مسلك العلية إنّما يمنع من جريان الأصل في الطرف الواحد فيمّا لو فرض ان العلم الإجمالي كان ثابتا ، فانّه بعد ثبوته يكون مانعا من جريان الأصل

ص: 398

حتى في الطرف الواحد ، وفي مقامنا بعد جريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين يزول العلم الإجمالي ويتبدل إلى علم تفصيلي بوجوب الحج لأن وجوب الحج موقوف على عدم وجوب قضاء الدين عدما ظاهريا.

وبتعبير أوضح : ان تحقق العلم الاجمالي موقوف على عدم جريان الأصل لنفي وجوب قضاء الدين فاذا جرى الأصل لنفيه تحقق موضوع وجوب الحج تحققا وجدانيا لا تعبديا لأن جريان الأصل الذي يتوقف عليه وجوب الحج ثابت وجدانا.

وإن شئت قلت : ان حصول العلم الإجمالي موقوف على عدم جريان الأصل لنفي وجوب الوفاء - إذ بجريانه يثبت موضوع وجوب الحج ثبوتا وجدانيا ويحصل العلم التفصيلي بوجوبه - وما دام موقوفا على عدم جريانه فلا يكون مانعا منه ، فإنّ ما يتوقف ثبوته على عدم شيء لا يكون مانعا من تحقق ذلك الشيء.

الثانية

وأمّا الصورة الثانية - وهي ما إذا كان وجوب الحج موقوفا على عدم وجوب الوفاء عدما واقعيا - فالعلم الإجمالي فيها ليس منجزا أيضا لنفس النكتة المتقدمة في الصورة الاولى أي لاختلال الركن الثالث من أركان المنجزية ، فالأصل الثاني لوجوب الوفاء يجري دون معارضة.

ولعلك تستغرب وتسأل ان وجوب الحج إذا كان مترتبا على العدم الواقعي لوجوب الوفاء فكيف يجري الأصل لنفي وجوب الوفاء بعد وضوح ان

ص: 399

الأصل ناظر إلى مرحلة الظاهر لا الواقع؟

والجواب : إنّ الأصل إذا جرى فهو يحرز الواقع إحرازا ظاهريا ، فاستصحاب الطهارة السابقة مثلا يحرز الطهارة الواقعية السابقة إحرازا ظاهريا ، ومعه فاذا جرى الأصل لنفي وجوب الوفاء ثبت به ظاهرا وبالتعبد ان لا وجوب واقعي للوفاء ، وبجريان هذا الأصل لا يجري الأصل لنفي وجوب الحج ، فإنّ الشك في وجوب الحج مسبب عن الشك في وجوب الوفاء ، والشك في وجوب الوفاء سبب للشكّ في وجوب الحج ، والأصل الجاري لنفي وجوب الوفاء أصل سببي بينما الأصل الجاري لنفي وجوب الحج أصل مسببي ، والأصل السببي متى ما جرى كان حاكما ومقدما على الأصل المسببي.

فرقان بين الصورتين

وقد اتضح من خلال هذا ان الصورتين تتفقان من حيث النتيجة العملية ، فالحكم العملي في كليهما واحد وهو عدم منجزية العلم الإجمالي لأن الأصل لنفي وجوب الوفاء يجري دون معارض ، ولكن بالرغم من ذلك يوجد فارقان بين الصورتين هما : -

1 - انّه في الصورة الأولى ينحل العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا بجريان الأصل ، إذ به - أي الأصل لنفي وجوب الوفاء - يحصل العلم الوجداني بتحقق موضوع وجوب الحج ، وبالتالي يحصل العلم الوجداني بوجوب الحج ، وبحصول العلم الوجداني بأحد الطرفين يزول العلم الإجمالي زوالا حقيقيا. ومن هنا ذكرنا ان ثبوت العلم الإجمالي موقوف على عدم جريان الأصل ، وما دام

ص: 400

موقوفا على عدم جريانه فلا يمكن ان يكون مانعا من جريانه.

وهذا كله بخلافه في الصورة الثانية فإنّ جريان الأصل لا يحقق موضوع وجوب الحج ولا يحرزه وجدانا وإنّما يحرزه تعبدا إذ المفروض توقف وجوب الحج على العدم الواقعي لوجوب الوفاء لا على العدم الظاهري ، وواضح إن الأصل لا يحرز العدم الواقعي إحرازا وجدانيا وإنّما يحرزه ظاهرا وتعبدا. ومن هنا يتضح ان تحقق العلم الإجمالي وثبوته حقيقة في هذه الصورة لا يتوقف على عدم جريان الأصل لأنّ جريانه لا يزيله حقيقة حتى يكون ثبوته الحقيقي موقوفا على عدم جريانه.

وفي هذه الصورة الثانية يمكن ان تتم الشبهة المتقدمة - التي كانت تقول انّه بناء على مسلك العلية لا يمكن جريان الأصل حتى في الطرف الواحد - لأن العلم الإجمالي ما دام باقيا حقيقة حتى بعد جريان الأصل فيمكن ان يكون مانعا من جريانه.

2 - انّه في الصورة الاولى إذا جرى الأصل ثبت العدم الظاهري لوجوب الوفاء ويزول به العلم الإجمالي زوالا حقيقيا من دون فرق بين ان يكون الأصل تنزيليا أو لا (1) ، إذ على كلا التقديرين يتحقق العدم الظاهري لوجوب الوفاء ،

ص: 401


1- المقصود من الأصل التنزيلي ما يعم الأصل المحرز ، أي الذي به يحرز به الواقع تعبدا كالاستصحاب مثلا فانه ناظر إلى الواقع ويحرزه تعبدا وليس المقصود منه خصوص المعنى المصطلح للأصل التنزيلي وهو ما ينزل الظاهر منزلة الواقع ، كأصالة الحلية ، حيث إنّ مفادها في رأي بعض تنزيل الحلية الظاهرية منزلة الحلية الواقعية. ومما يؤكد ما نقول تفسيره قدس سره للأصل التنزيلي بما كان « مفاده التعبد بعدم التكليف المشكوك واقعا » وواضح ان هذا تفسير للاصل المحرز لا للتنزيلي بالمعنى المصطلح. ولمزيد الاطلاع على مصطلح الأصل التنزيلي والمحرز يمكن مراجعة القسم الثاني من الحلقة الثالثة ص ١٦.

وهذا بخلافه في الصورة الثانية فإنّ الأصل الجاري لنفي وجوب الوفاء لا بدّ ان يكون تنزيليا حتى يحرز به العدم الواقعي لوجوب الوفاء ، وأمّا إذا لم يكن تنزيليا فلا يكون جريانه نافعا لزوال العلم الإجمالي زوالا حكميا لأنّ وجوب الحج في الصورة الثانية مترتب على العدم الواقعي لوجوب الوفاء فلا بدّ وإن يكون الأصل ناظرا إلى الواقع ومحرزا له حتى يكون حاكما على الأصل المسببي الجاري في وجوب الحج.

قوله ص 146 س 15 : بأحد الأمرين : أي إمّا وجوب الحج أو وجوب الوفاء بالدين.

قوله ص 147 س 10 : واستناد عدم جريان الأصل إلخ : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص 148 س 6 : ينقح بالتعبد : أي يثبت بسبب التعبد.

قوله ص 148 س 8 : والأصل السببي مقدّم إلخ : علل المشهور تقدم الأصل السببي على المسببي بإنّ الأصل السببي إذا جرى زال الشكّ المسببي ، واذا زال لم يجر الأصل فيه لأنّ جريان الأصل موقوف على الشكّ فاذا زال لم يجر ، فالأصل إذا جرى لنفي وجوب الوفاء زال الشكّ في وجوب الحج وتبدل إلى العلم تعبدا بوجوبه.

قوله ص 149 س 2 : ومن أجل ذلك : أي من أجل انّ جريان الأصل لا

ص: 402

يوجب انحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا.

قوله ص 149 س 7 : عن وجوب الحج : الصواب : عن وجوب الوفاء.

قوله ص 149 س 15 : بل معارضا : فإنّ الأصلين في الطرفين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر فهو معارض له.

ص: 403

ص: 404

الدوران بين الوجوب والحرمة

اشارة

ص: 405

ص: 406

الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا

قوله ص 155 س 1 : حتى الآن كنا نتكلم :

الشك في التكليف له حالات أربع : -

1 - الشكّ في أصل ثبوت التكليف وعدمه كالشكّ في حرمة التدخين وعدمها مثلا. وهذا ما يصطلح عليه بالشك البدوي في ثبوت التكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 29 من الحلقة ، واتضح ان حكمها بحسب الوظيفة العقلية يختلف فيه السيد الشهيد مع المشهور ، فالمشهور يرى البراءة تمسكا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بينما هو قدس سره يرى الاشتغال لمنجزية الإحتمال. وأما بحسب الوظيفة الشرعية فالكل متفق على البراءة.

ثم ان حالة الشكّ البدوي في ثبوت التكليف هي عبارة اخرى عن مبحث أصل البراءة.

2 - ان يعلم بثبوت التكليف ويشكّ في متعلقه ، كما إذا علم يوم الجمعة بثبوت وجوب الصلاة وشكّ في تعلقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة. وهذا ما يصطلح عليه بالعلم الإجمالي بالتكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص 73 من الحلقة.

وهذه الحالة هي عبارة اخرى عن مبحث أصالة الاشتغال.

3 - ان يعلم بثبوت التكليف ولكنه لا يعلم هل هو الوجوب أو الحرمة ،

ص: 407

فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة ، بينما في الحالة الاولى كان الأمر يدور بين الوجوب والإباحة مثلا ، فثبوت التكليف ليس جزميا لإحتمال ثبوت الإباحة بخلافه في هذه الحالة فإنّ ثبوت التكليف معلوم ولكنّه يشكّ في كونه وجوبا أو حرمة. وهذه الحالة هي محل بحثنا الآن (1).

ثم انّ هذه الحالة لها شكلان ، إذ تارة يفرض وجود احتمال ثالث - مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة - وهو احتمال الرخصة ، بأن يعلم ان الشيء إمّا واجب أو حرام أو مباح ، واخرى يفرض عدم وجود الإحتمال الثالث المذكور بان ينحصر أمر الشيء بين الحرمة والوجوب فقط.

والشكل الأوّل - ومثاله أن يحتمل المكلّف نذره لشرب الماء ويحتمل نذره لترك شربه ويحتمل عدم تعلق النذر به مطلقا - يمكن ان يصطلح عليه بالشكّ في ثبوت الحرمة والوجوب بنحو الشكّ البدوي.

والشكل الثاني - ومثاله ان يعلم المكلّف بصدور النذر منه جزما ولكنه لا يعلم هل هو نذر الشرب أو نذر تركه - يصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين.

وعلى هذا فبحثنا يدور حول هذين الشكلين ، فتارة نتكلم عن حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بنحو الشكّ البدوي واخرى نتكلم عن حالة الدوران بين المحذورين.

ص: 408


1- وأمّا الحالة الرابعة فتأتي الإشارة لها ص 163 من الحلقة.

الشك البدوي في الوجوب والحرمة

والشك البدوي في الوجوب والحرمة يعني وجود احتمال الترخيص مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة.

والبحث عن حكم هذا الشكّ تارة يقع بلحاظ تشخيص الوظيفة العقلية ، واخرى بلحاظ تشخيص الوظيفة الشرعية.

أمّا الوظيفة العقلية فالعقل يحكم بالبراءة حتى على مسلك حق الطاعة ، أي منجزية الإحتمال فضلا عن مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك المشهور فحكم العقل بالبراءة واضح لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فالعقل يحكم بقبح العقاب عليه بلا بيان ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فالعقل يحكم بقبح العقاب عليها بلا بيان.

وأمّا على مسلك حق الطاعة فلأنّ العقل إنّما يحكم بمنجزية الإحتمال فيما إذا لم يكن معارضا ، أما مع المعارضة - كما في مقامنا حيث إنّ احتمال الوجوب معارض باحتمال الحرمة - فلا منجزية ، لأنّ منجزيتهما معا غير ممكنة ، ومنجزية أحدهما دون الآخر باطلة لأنها بلا مرجح. هذا كله في الوظيفة العقلية.

وأمّا الوظيفة الشرعية فمقتضى مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » البراءة من الوجوب والحرمة معا لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فهو مرفوع ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فهي مرفوعة.

ص: 409

وبهذا اتضح الفرق بين هذه الحالة والحالة الاولى (1) فانّه في هذه الحالة تجري البراءة العقلية على كلا المسلكين : مسلك المشهور ومسلك السيد الشهيد ، بينما في الحالة الاولى لا تجري البراءة العقلية على رأي السيد الشهيد وإنّما تجري على رأي المشهور.

ص: 410


1- المقصود من الحالة الاولى : ما اذا احتمل الوجوب مع الترخيص من دون احتمال الحرمة ، وهكذا اذا احتملت الحرمة مع الترخيص من دون احتمال الوجوب. والمقصود من هذه الحالة : ما اذا احتمل الوجوب والحرمة والترخيص جميعا.

دوران الأمر بين المحذورين

اشارة

وأمّا الشكل الثاني - أي حالة احتمال الحرمة والوجوب بدون انضمام احتمال الترخيص - المصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين فلا إشكال بين الاصوليين في عدم كون العلم الإجمالي منجّزا لأنّ كلاّ من مخالفته القطعية وموافقته القطعية غير ممكنة ، فإنّ الانسان امّا أن يشرب الماء ، وفي ذلك احتمال الموافقة كما فيه احتمال المخالفة ، وامّا أن يترك الشرب ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة أيضا ، ولا يمكن فعل الشرب وتركه معا لتحصل المخالفة القطعية أو الموافقة القطعية.

إذن تنجيز العلم الاجمالي لكلا الإحتمالين غير ممكن ، كما وإن تنجيزه لأحدهما دون الآخر بلا وجه لأنّه ترجيح بلا مرجح.

وهذا كله مما لا إشكال فيه ، وإنما الإشكال بين الاصوليين وقع في أنّ العلم الاجمالي بعد الفراغ عن عدم منجّزيته هل يمنع من جريان أصل البراءة العقلي والنقلي لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة أو لا يمنع؟ فهناك من قال بانّه لا يمنع ، إذ بعد عدم كونه منجّزا لا يبقى مانع يمنع من جريان الأصل لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، كما وهناك : من قال بانّه يمنع حتى وإن لم يكن منجّزا.

ثمّ إنّ القائل بعدم المانع من جريان الاصل وجّهت له عدة اعتراضات.

والاعتراضات الموجهة على ثلاثة أشكال ، فبعضها اعتراض على البراءة

ص: 411

العقلية ، وبعضها اعتراض على البراءة الشرعية ، وبعضها اعتراض على بعض ادلّة البراءة الشرعية دون بعضها الآخر. وفيما يلي نوضح هذه الاعتراضات.

الاعتراض الأوّل

وهذا الاعتراض للشيخ العراقي ويختص بالبراءة العقلية. وحاصله : إنّا نسلّم أنّ العلم الاجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجّزا لعدم إمكان موافقته القطعية ولا مخالفته القطعية ، وعدم كونه منجّزا ليس الا عبارة اخرى عن كون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك.

وقد تقول إذا سلّمتم بكون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك فهذا معناه الاعتراف بجريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ البراءة العقلية ليست هي الا عبارة عن الترخيص في الفعل والترك ، وبهذا يثبت أنّ الشيخ العراقي من المسلّمين لإمكان جريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين وليس من المعترضين والمنكرين.

هكذا قد تقول ، ولكنه توهّم باطل ، فانّه ليس مطلق الترخيص في الفعل والترك براءة عقلية ، وإنّما البراءة العقلية هي حصّة خاصة من الترخيص وهي الترخيص في الفعل الناشئ من عدم البيان على التكليف ، ومن الواضح أنّ الترخيص في مقامنا لم ينشأ من عدم البيان وإنّما نشأ من عدم تمكن المكلّف من الامتثال عند دوران الأمر بين المحذورين ، أي نشأ من عدم إمكان إدانة العاجز.

وما دام الترخيص المذكور ليس براءة عقلية فلو أردنا إجراء البراءة العقلية فلا بدّ من إجرائها بعد هذا الترخيص الثابت بملاك قبح إدانة العاجز ، وهو غير ممكن

ص: 412

لعدم وجود الفائدة في إجرائها حينذاك.

وقد تقول إنّ الفائدة هي إسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ، ففائدة البراءة العقلية هي أنّ العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة يسقط عن المنجّزية ، أي يسقط عن كونه بيانا ، فانّه إذا سقط عن كونه منجّزا فلازمه انّه ليس بيانا والاّ كان منجّزا.

ولكن هذا توهّم باطل فإنّ البراءة العقلية أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقول متى ما كان المورد لا بيان فيه فالعقاب فيه قبيح ولا تقول إنّ العلم الاجمالي بيان أو لا ، فإنّ القاعدة لا تثبت موضوع نفسها والحكم لا يثبت موضوع نفسه (1).

وعليه فقاعدة قبح العقاب لا يمكن التمسّك بها إلاّ في موارد الشك الوجداني حيث انّ عدم البيان يكون ثابتا بالوجدان ، وأمّا في موارد العلم الاجمالي بثبوت أحد الحكمين فلا يمكن التمسّك بها ، فإنّ القاعدة المذكورة كسائر القواعد الاخرى لا تثبت موضوع نفسها.

وبهذا يتّضح انّه لا بد من إسقاط العلم الاجمالي عن البيانية في مرحلة سابقة على إجراء البراءة العقلية ، وإذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز سقط العلم الاجمالي عن البيانية ، وحينئذ يصير موضوع قاعدة قبح العقاب متحقّقا ، فإذا تحقّق فقد يتوهّم حينذاك إمكان التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولكنّه توهّم فاسد أيضا ، فحتى في هذه الحالة لا يمكن التمسّك بقاعدة قبح العقاب ، فانّه

ص: 413


1- فلو قيل أكرم العالم فهو لا يثبت أنّ هذا الشخص عالم أو لا ، وإنّما يقول لو كان هذا أو ذاك عالما فأكرمه.

إذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز في مرحلة سابقة وثبت الترخيص في الفعل والترك صار التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لإثبات الترخيص لغوا إذ إثبات الترخيص من جديد بعد ثبوته سابقا يكون إثباتا لما هو ثابت.

والخلاصة : إنّ التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فرع إحراز عدم البيان ، ولكن كيف يحرز عدم البيان مع فرض وجود العلم الاجمالي!! إنّ من اللازم اسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ليتحقّق بذلك عدم البيان ، واسقاطه عن المنجّزية إن كان بنفس قاعدة قبح العقاب فهو غير ممكن لما تقدّم ، وإن كان بقاعدة قبح إدانة العاجز يلزم اللغوية (1).

ويمكن ردّ الاعتراض المذكور بأنّا نختار اجراء البراءة العقلية بعد سقوط العلم الاجمالي عن البيانية بقاعدة قبح إدانة العاجز ، ولا يلزم ما ذكر من محذور اللغوية لأنّ ما يمكن أن يكون منجّزا في مقامنا أمران : العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة ، واحتمال الوجوب والحرمة ، فانّه بقطع النظر عن العلم

ص: 414


1- اعتقد انّ عبارة الشيخ العراقي في نهاية الافكار ج 3 ص 239 أخصر وأوضح ، حيث قال : « لا مجال لجريان ادلّة البراءة ... من جهة اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل أو الترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ... وإن شئت قلت إنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، والمسقط له حينما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة ». ثمّ أنّ ما نسبه السيد الشهيد إلى الشيخ العراقي من اختصاص اعتراضه بالبراءة العقلية لم نعرف وجهه بعد تصريح الشيخ العراقي في العبارة المذكورة بقوله فلا مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية.

الاجمالي يوجد لدينا احتمال الوجوب واحتمال الحرمة.

وقاعدة قبح إدانة العاجز تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية والبيانية ، وبعد سقوطه عن المنجّزية يبقى احتمال الوجوب والحرمة ، أي نصير وكانّه لا علم إجمالي لنا أبدا ، بل لنا احتمال الوجوب والحرمة فقط ، فنحتاج إلى ما يسقط هذا الاحتمال عن المنجّزية وهو ليس الا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبكلمة اخرى إنّ الدور الذي تقوم به قاعدة قبح إدانة العاجز يغاير الدور الذي تقوم به قاعدة قبح العقاب ، فتلك تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية وهذه تسقط الاحتمال عن المنجّزية ، وليس كل واحدة تقوم بنفس ما تقوم به الاخرى من دور حتى يلزم محذور اللغوية.

الاعتراض الثاني

والاعتراض الثاني - الذي هو للميرزا - خاص بالبراءة الشرعية ببعض السنتها وليس اعتراضا على جميع ألسنة البراءة الشرعية.

وحاصله : انّا لو نظرنا إلى مثل لسان « كل شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام » فلا يمكن التمسّك به في المقام لأنّ الحديث المذكور يثبت الحليّة ظاهرا في المورد الذي يكون ثبوت الحليّة واقعا فيه أمرا محتملا ، ومن الواضح انّ الحليّة واقعا في مقامنا ليست محتملة ، إذ المحتمل امّا الوجوب أو الحرمة دون الحليّة.

ولو نظرنا إلى مثل لسان « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فلا يمكن التمسك به في المقام أيضا لأنّ الحديث المذكور يرفع الحكم رفعا ظاهريا - والمقصود من الرفع الظاهري هو رفع وجوب الاحتياط - وواضح انّ الرفع الظاهري إنّما يعقل

ص: 415

في المورد الذي يعقل فيه الوضع الظاهري ، فمتى ما كان الوضع الظاهري - أي ثبوت وجوب الاحتياط - أمرا ممكنا كان الرفع الظاهري - أي رفع وجوب الاحتياط - ثابتا بمقتضى الحديث. وفي مقامنا بما انّه لا يمكن الوضع الظاهري - حيث لا يمكن إثبات وجوب الاحتياط لأجل الوجوب المشكوك أو لأجل الحرمة المشكوكة لفرض دوران الأمر بين محذورين - فلا يمكن التمسك بالحديث لإثبات الرفع الظاهري. هذا حاصل ما افاده الميرزا.

ويرده : -

أ - ان بامكاننا التمسك باللسان الأوّل للبراءة الشرعية ، أي لسان « كل شيء لك حلال ». ودعوى ان الحديث لا يمكن التمسك به الاّ في المورد الذي تكون الحلية فيه واقعا مشكوكة ومحتملة مرفوضة ، فإنّ الحديث لم يقيد إثبات الحلية ظاهرا بما إذا كانت الحلية واقعا محتملة ، فلم يقل كل شيء لك حلال فيما اذا كانت حليته واقعا محتملة بل أطلق وقال كل شيء لك حلال.

وقد تقول : انّه توجد لدينا قرينة على التقييد المذكور وهي إنّ الحلية الظاهرية حيث انّها حكم ظاهري ، والحكم الظاهري متقوم بالشكّ فلا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحلية الواقعية ليمكن إثبات الحكم الظاهري بالحلية ، إذ الحلية الواقعية إذا لم تكن مشكوكة فلا يمكن إثبات الحلية الظاهرية لأنّ الحكم الظاهري متقوم بالشكّ.

والجواب : ان الحكم الظاهري بالحلية وإن كان متقوما بالشكّ ولكنه ليس متقوما بخصوص الشكّ في الحلية الواقعية بل هو متقوم بأصل الشكّ. وبكلمة اخرى : ليس هو متقوما بتعلق الشكّ بالحلية التي هي مماثلة للحلية

ص: 416

الظاهرية بل يكفي أصل وجود الشكّ ، وهو متوفر في مقامنا حيث إنه يشكّ في ثبوت الوجوب ويشك في ثبوت الحرمة.

ب - ان بالإمكان الأخذ باللسان الثاني ، أي لسان « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». ودعوى ان الرفع الظاهري لا يعقل الاّ إذا أمكن الوضع الظاهري دعوى صحيحة ، ولكننا نقول إنّ الوضع الظاهري في مقامنا معقول فانا ننظر إلى احتمال الوجوب وحده ونقول ان وضع الوجوب حيث انّه معقول فرفعه يكون معقولا أيضا. وهكذا ننظر إلى احتمال الحرمة وحده ونقول حيث ان وضع الحرمة معقول فرفعها معقول أيضا. أجل وضع الحرمة والوجوب معا غير معقول ولكن ذلك ليس مهما فإنّ رفع الوجوب يقابل وضع الوجوب فقط ولا يقابل مجموع كلا الوضعين ، وهكذا رفع الحرمة يقابل وضع الحرمة فقط ولا يقابل مجموع الوضعين.

الاعتراض الثالث

ما أفاده السيد الشهيد قدس سره وهو خاص بإجراء البراءة الشرعية ولكن بكافة ألسنتها.

وحاصله : انّ ظاهر أدلة البراءة الشرعية إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين احتمال ثبوت التكليف واحتمال ثبوت الرخصة - كما اذا دار الأمر بين الحرمة والإباحة أو دار بين الوجوب والإباحة - وليس ظاهرها إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين ثبوت تكليف وتكليف آخر ، كما إذا دار بين ثبوت الوجوب أو الحرمة.

ص: 417

وبكلمة اخرى : ان ظاهر أدلة البراءة إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين أحدهما لزومي والاخر ترخيصي وليس ظاهرها إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين إلزاميين (1).

توهم ودفع

قد يقال انّ البراءة الشرعية إذا لم تجر لنفي منجزية احتمال الوجوب واحتمال الحرمة والمفروض ان السيد الشهيد ينكر البراءة العقلية فيلزم ثبوت احتمال الوجوب والحرمة بدون وجود ما ينفي منجزيتهما.

وفيه : ان السيد الشهيد وان كان ينكر البراءة العقلية ويرى منجزية الإحتمال ولكن ذلك في خصوص ما إذا لم يكن الاحتمال معارضا ، أمّا عند المعارضة كما في المقام فلا يراه منجزا كما أشار إلى ذلك قدس سره في ص 156 من الحلقة.

تعدد الواقعة ووحدتها

وقد اتضح لحدّ الآن انّ العلم الإجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجزا لعدم إمكان موافقته ولا مخالفته القطعية. بيد ان هذا

ص: 418


1- ما أفاده قدس سره يتم في مثل حديث « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » حيث ان ظاهره إثبات الحلية عند دوران الأمر بين الحلية والحرمة ، ولا يتم في مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » أو « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » فانهما يدلان على ان كل ما لا يعلم فهو مرفوع حتى وإن كان المشكوك هو الحرمة والوجوب من دون احتمال الإباحة

واضح في صورة وحدة الواقعة ، وأمّا عند تعددها فهل يبقى العلم الإجمالي على عدم المنجزية أو ينقلب منجزا.

مثال وحدة الواقعة : ما إذا علم المكلّف مثلا بحرمة شرب ماء البرتقال أو وجوبه عليه يوم الجمعة ، فإنّ من الواضح كون يوم الجمعة يوما واحدا وواقعة واحدة فامّا أن يحصل الشرب فيه أو يحصل تركه فيه ، ولا يمكن فعلهما معا ولا تركهما معا ، فالموافقة القطعية والمخالفة القطعية كلتاهما غير ممكنة. وهذا هو ما كان كلامنا فيه لحدّ الآن.

ومثال تعدد الواقعة : ما إذا علم المكلّف بانّه امّا يحرم عليه شرب ماء البرتقال لمدة شهر أو يجب عليه ذلك لمدة شهر. والشهر بما انّه مركب من ثلاثين يوما ، وكل يوم يمكن ان يقع فيه الشرب أو تركه فمجموع الوقائع على هذا ثلاثون بعدد أيام الشهر.

وفي هذه الحالة - أي حالة تعدد الواقعة - يمكن للمكلف المخالفة القطعية (1) وذلك بأن يشرب ماء البرتقال في يوم ويتركه في يوم ثان ، فانه بذلك يقطع بحصول المخالفة منه اذ لو كان الشرب حراما فالمفروض قد صدر في يوم ، وإن كان واجبا فالمفروض قد ترك في يوم.

وبعد اتضاح هذا نطرح هذا السؤال التالي : ذكرنا في صورة وحدة الواقعة ان العلم الإجمالي بالوجوب والحرمة ليس منجزا لعدم إمكان مخالفته ولا موافقته القطعية ، ولكن في صورة تعدد الواقعة هل يبقى العلم الإجمالي على عدم

ص: 419


1- وإن بقيت الموافقة القطعية غير ممكنة له.

المنجزية مع ان المفروض إمكان مخالفته القطعية أو ينقلب منجزا لإمكان مخالفته القطعية؟ ان هذا سؤال يترك جوابه إلى بحث الخارج.

قوله ص 155 س 2 : سواء كان شكا بدويا : وهو إشارة إلى الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع التي مرّ البحث عنها ص 29 من الحلقة. وقوله « أو مقرونا بالعلم الإجمالي » إشارة إلى الحالة الثانية من حالات الشكّ التي مرّ البحث عنها ص 73 من الحلقة.

قوله ص 155 س 4 : وهما احتمال إلخ : أي إنّ أحد الاحتمالين احتمال التكليف والاحتمال الآخر احتمال الترخيص من دون أن يكون كلا الإحتمالين احتمال التكليف.

قوله س 155 س 8 : بالعلم الإجمالي بالجامع إلخ : المراد من الجامع عنوان أحدهما. وتقدير العبارة : واخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بأحد التكليفين : الوجوب أو الحرمة.

قوله ص 156 س 3 : منجزا في نفسه : أي بقطع النظر عن معارضته بالاحتمال الآخر.

قوله ص 156 س 8 : بإطلاقها : حيث لم تقيد بما إذا دار الأمر بين احتمالين لا أكثر : احتمال التكليف واحتمال الترخيص ، بل هي تشمل بإطلاقها المورد ، أي حالة دوران الأمر بين احتمالات ثلاثة.

قوله ص 156 س 9 : وما سبق من شكّ : أي الشكّ في التكليف المتقدم في الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع.

قوله س 156 س 13 : بجنس الإلزام : أي الشامل للالزام الوجوبي

ص: 420

والالزام التحريمي.

قوله ص 157 س 9 : ويختص بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقلية : كالاعتراض الأوّل. ولكن تقدم في عبارة الشيخ العراقي انه عام للبراءة الشرعية أيضا.

قوله ص 157 س 9 : وبعضها بالبراءة الشرعية : كالاعتراض الثالث.

قوله ص 157 س 9 : وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعية : كالاعتراض الثاني.

قوله ص 157 س 11 : الاعتراض على البراءة العقلية : بل تقدم عن الشيخ العراقي انه عام للبراءة الشرعية أيضا.

قوله ص 158 س 7 : وهذا ما يتحقق : أي ثبوت عدم البيان في الرتبة السابقة.

قوله : ص 158 س 7 : وتكوينا : عطف تفسير على وجدانا

قوله ص 158 س 10 : لا بد من تطبيق قاعدة عقلية : وهي قاعدة قبح إدانة العاجز على ما سيأتي.

قوله ص 158 س 16 : بالقاعدة المشار إليها : أي قاعدة قبح إدانة العاجز.

قوله ص 159 س 6 : في نفسه : أي بقطع النظر عن العلم الإجمالي.

قوله س 160 س 4 : باحتمال مماثله الخ : لعل الأوضح ان يقال : باحتمال حكم واقعي مماثل له الخ.

قوله س 160 س 13 : عن المورد : أي عن موردنا ، وهو دوران الأمر بين محذورين.

ص: 421

قوله س 161 س 2 : بإن يعلم الخ : هذا بيان لصورة كثرة الواقعة.

قوله ص 161 س 3 : فيها جميعا : أي في أيام الشهر جميعا.

قوله ص 161 س 7 : على الموقف : وهو عدم منجزية العلم الإجمالي الذي قلنا به في صورة وحدة الواقعة.

ص: 422

الدوران بين الأقل والأكثر

اشارة

ص: 423

ص: 424

الدوران بين الأقل والأكثر

اشارة

قوله ص 163 : الوظيفة عند الشكّ في الأقل والأكثر : تقدم ان حالات الشكّ في التكليف أربع هي : -

1 - الشكّ في أصل التكليف بنحو الشكّ البدوي. وقد تقدمت ص 29 من الحلقة.

2 - العلم بثبوت الوجوب مع الشكّ في تعلقه بالظهر أو الجمعة مثلا. وقد تقدمت ص 73 من الحلقة.

3 - دوران الأمر بين المحذورين. وقد تقدمت ص 155 من الحلقة.

وهذه الحالات الثلاث انتهى الحديث عنها ، وبقي علينا التحدث عن الحالة الرابعة وهي.

4 - العلم بثبوت التكليف مع الشكّ في تعلقه بالأقل أو بالاكثر ، كما لو علم بثبوت وجوب صلاة الظهر وشك في تعلقه بتسعة أجزاء - فيما إذا لم تكن جلسة الاستراحة جزء - أو بعشرة فيما إذا كانت جزء.

وفرق هذه الحالة عن الحالة الثانية ان متعلق الوجوب في الحالة الثانية مردد بين شيئين متباينين ، فإنّ صلاة الظهر مباينة لصلاة الجمعة وليست أقل بالنسبة إليها ولا أكثر بينما متعلق الوجوب في هذه الحالة مردد بين الأقل والأكثر ، فإنّ نسبة التسعة إلى العشرة نسبة الأقل إلى الأكثر وليست نسبة المبائن إلى

ص: 425

المبائن.

وهذه الحالة الرابعة هي التي يراد التحدث عنها في هذا المبحث. ويمكن منهجة البحث فيها إلى نقاط ست أولها في تقسيم الأقل والأكثر إلى قسمين : ارتباطيين واستقلاليين.

الارتباطيان والاستقلاليان

إنّ الأقل والأكثر تارة يكونان استقلاليين واخرى ارتباطيين.

مثال الأوّل : ما إذا علم المكلّف بانّه مدين لغيره امّا بتسعة دراهم أو بعشرة. في هذا المثال لو فرض ان المكلّف دفع تسعة دراهم وكان في الواقع مدينا بعشرة فبمقدار تسعة دراهم يحصل الامتثال وبمقدار الدرهم العاشر يحصل عصيان ، وما هذا الاّ لأجل تعدد الأوامر بعدد الدراهم فلكل درهم أمر مستقل بتسديده ، وحيث تم تسديد تسعة دراهم فقط حصل امتثال تسعة أوامر وعصيان لأمر الدرهم العاشر.

وبهذا اتضحت نكتة تسمية الأقل والأكثر في هذه الحالة بالأقل والأكثر الاستقلاليين ، ان النكتة هي تعدد الأوامر واستقلال بعضها عن البعض الآخر في الامتثال والعصيان.

ثم انّه لا إشكال بين الإعلام في إنحلال العلم الإجمالي في هذا القسم ، فاشتغال الذمة بمقدار تسعة دراهم معلوم ، وبمقدار الدرهم العاشر مشكوك فتجري البراءة الشرعية والعقلية عن الدرهم العاشر - على مسلك المشهور - أو البراءة الشرعية فقط على مسلك حق الطاعة.

ص: 426

ومثال الثاني : الشكّ في عدد اجزاء الصلاة وانها تسعة أو عشرة ، فإنّ الواجب واقعا لو كان هو عشرة وأتى المكلّف بتسعة أجزاء لم يحصل امتثال بمقدار تسعة أجزاء بل ليس هناك الاّ العصيان ، وما ذاك الاّ لأجل ان الأمر المتعلق بالصلاة واحد فامّا أن يحصل امتثاله أو يحصل عصيانه ولا يمكن إجتماع عصيانه وامتثاله في آن واحد. ومن هنا سمّي الأقل والأكثر في هذه الحالة بالارتباطيين لأجل وحدة الأمر وارتباط امتثال أمر بعض الاجزاء بامتثال أمر الاجزاء الاخرى.

والاختلاف بين الاعلام ينحصر بالارتباطيين والاّ فالاستقلاليان لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي فيهما.

الارتباطيان على أقسام

ثمّ إنّ الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين له مصاديق متعددة.

1 - الشكّ في الجزئية ، كالشكّ في أنّ جلسة الاستراحة جزء من الصلاة أو لا.

2 - الشكّ في الشرطية ، كالشكّ في أنّ الطمأنينة شرط في الصلاة أو لا ، فلو كانت شرطا صارت الصلاة مركبة من عشرة مثلا بينما لو لم تكن شرطا صارت مركبة من تسعة.

3 - دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، كما يأتي إيضاح ذلك.

وبهذا يتضح أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين هو تعبير آخر عن الشكّ في الجزئية أو في الشرطية أو في الدوران بين التعيين والتخيير.

ص: 427

ونتكلم أوّلا عن المصداق الأوّل وهو الشكّ في الجزئية ، ثم عن الثاني ، وهو الشكّ في الشرطية ثم عن دوران الأمر بين التعيين والتخيير. ومن هنا يقع الكلام ضمن مسائل ، الاولى الشكّ في الجزئية.

ص: 428

الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء

اشارة

والمصداق الأوّل من مصاديق الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو الشكّ في الجزئية ، كما لو دار أمر أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة.

وقد وقع الكلام بين الاصوليين في أنّ الشك المذكور هل يرجع إلى دوران الأمر بين المتباينين - بتقريب يأتي فيما بعد انشاء اللّه - الذي كان الحالة الثانية من حالات الشكّ الأربع المتقدمة ، ولازمه وجوب الإحتياط بالإتيان بالأكثر أو يرجع إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، ولازمه عدم وجوب الاحتياط.

والاقوال في المسألة ثلاثة : -

1 - جريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر. وهو مختار الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل.

2 - عدم جريان البراءة بكلا قسميها الشرعية والعقلية ولزوم الاحتياط.

وهو مختار الآخوند الخراساني في حاشيته على الرسائل.

3 - جريان البراءة الشرعية دون العقلية ، وهو مختار الآخوند في كفايته.

وقد يقال - وهو ما يسبق إلى الذهن بادئ الأمر - ان الحكم في هذا القسم هو الحكم في القسم السابق الذي كان الأمر فيه يدور بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، فيحكم ان التسعة حيث إنها معلومة الوجوب فيلزم الإتيان بها

ص: 429

بينما الجزء العاشر حيث انه مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه.

وفي مقابل هذا قد تطرح عدة براهين لإثبات أنّ الصحيح لزوم الإحتياط ولا تجري البراءة. وفيما يلي نذكر تلك البراهين تباعا.

البرهان الأوّل

اشارة

ان لنا علما إجماليا بثبوت وجوب متعلق امّا بالتسعة أو بالعشرة ، وحيث انه منجز فيلزم الإحتياط بإتيان العشرة. هكذا يقال في تصوير العلم الإجمالي ، ولا يقال في تصويره إن لنا علما إجماليا بوجوب امّا التسعة أو الجزء العاشر ، إنّ هذا التصوير باطل فإنّ الأمر النفسي الصادر من المولى متعلق امّا بالتسعة أو بالعشرة ، ولا معنى للقول بتعلقه امّا بالتسعة أو بالجزء العاشر ، إذ البديل للتسعة الذي يحتمل تعلق الأمر به هو مجموع العشرة لا الجزء العاشر بالخصوص ، ومعه فلا معنى لجعل الجزء العاشر طرفا للعلم الإجمالي بل الطرف هو العشرة.

اذن التصوير الصحيح هو الأوّل دون الثاني ، وما دام التصوير الصحيح هو الأوّل فلا يرد ان التسعة معلومة الوجوب بينما الجزء العاشر مشكوك الوجوب فتجري البراءة عنه ، ان هذا لا معنى له لأن طرق العلم الاجمالي في التصوير الاول ليس هو الجزء العاشر لتجري البراءة عن وجوبه وإنّما هو العشرة ، والجزء العاشر جزء من العشرة أي جزء من طرف العلم الإجمالي وليس بنفسه طرفا له ، وتعلق الوجوب النفسي بمجموع العشرة وإن كان مشكوكا الاّ ان تعلقه بالتسعة مشكوك أيضا ، وجريان البراءة عن تعلقه باحدهما معارض بالبراءة عن تعلقه بالآخر.

ص: 430

مناقشة البرهان الأوّل
اشارة

وقد نوقش البرهان المذكور بعدة مناقشات.

الاولى

وهي للشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل. وحاصلها : إنّ العلم الإجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فإنا نعلم تفصيلا بان التسعة واجبة امّا بالوجوب النفسي أو بالوجوب الغيري ، فإنّ وجوب الصلاة ان كان منصبا على التسعة صارت واجبة بالوجوب النفسي وإن كان منصبا على العشرة فحيث ان التسعة مقدمة لحصول العشرة فهي واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واذا صار الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل والأكثر مشكوك الوجوب انحل العلم الإجمالي.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن في مقصود الشيخ الأعظم قدس سره احتمالين : -

أ - ان يكون مقصوده ان الأقل لما كان معلوم الوجوب بالتفصيل يحصل انحلال العلم الإجمالي من جهة ان شرط منجّزية العلم الإجمالي عدم سراية العلم من الجامع إلى الفرد - على ما تقدم في الركن الثاني من أركان منجّزية العلم الاجمالي الاربعة ص 105 من الحلقة - فإذا سرى انحلّ ، نظير ما إذا كنا نعلم اجمالا بوقوع نجاسة في احد انائين ثم فحصنا فإذا هي في الاناء الموجود على اليمين ، فإنّ العلم الاجمالي ينحل حيث لا يبقى العلم ثابتا على الجامع بل يسري إلى الفرد.

وفيه : انّ شرط الانحلال سراية العلم من الجامع إلى الفرد بحيث يكون المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال كما هو الحال في نجاسة الاناء

ص: 431

الموجود على اليمين ، فانّها معلومة بالتفصيل ومصداق للنجاسة المعلومة بالاجمال - أمّا إذا لم يكن مصداقا فلا يحصل الانحلال ، ومقامنا من قبيل النحو الثاني ، أي أنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقا للمعلوم بالاجمال ، فإنّ الذي نعلم به على سبيل الاجمال هو ثبوت الوجوب النفسي امّا للأقل أو للأكثر ، بينما المعلوم بالتفصيل ليس هو الوجوب النفسي بل الوجوب المردّد بين النفسي والغيري.

ب - أن يكون مقصوده إنّ الأقل لمّا كان معلوم الوجوب بالتفصيل يحصل الانحلال من جهة انّه يصير منجّزا على سبيل القطع ، فلا تجري البراءة عنه وتجري عن وجوب الأكثر حيث انّه مشكوك ، فيسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية لأنّ الركن الثالث من أركان المنجّزية على ما تقدّم ص 108 من الحلقة تعارض الاصول في الأطراف فإذا لم تتعارض وجرى أصل البراءة في طرف بلا معارضة بجريانه في الطرف الثاني سقط العلم الاجمالي عن المنجّزية.

وفيه : انّ الأقل لا يقطع بتنجّزه على كل تقدير ، فإنّ وجوبه إذا كان نفسيّا فهو منجّز ، وأمّا إذا كان غير نفسيّ فهو غير منجّز ، لأنّ الوجوب القابل للتنجّز هو الوجوب النفسي دون الوجوب الغيري ، ولذا لا يعاقب التارك للحج بما له من مقدمات كثيرة الا عقابا واحدا على ترك الحج الذي هو واجب نفسي ولا يعاقب على ترك المقدمات ، وما ذاك إلاّ لأنّ وجوبها غيري لا يقبل التنجّز.

وعليه فلا يمكن أن يقال انّ الأقل يعلم بتنجّزه جزما فلا تجري البراءة عنه ، ووجه ذلك : أنّ المعلوم ثبوته للأقل هو الوجوب الجامع بين ما يقبل التنجّز وما لا يقبله ومثل الجامع المذكور لا يقبل التنجّز.

ص: 432

الثانية

وهي ما قد تستفاد من كلمات الشيخ الأعظم قدس سره في الرسائل أيضا ، وحاصلها : انّ الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل ولكن لا من جهة تردّده بين الوجوب النفسي والغيري ليقال إنّ ذلك لا ينفع في الانحلال كما تقدّم في ردّ المناقشة الاولى ، بل لتردّده بين الوجوب النفسي الإستقلالي والوجوب النفسي الضمني ، فإنّ وجوب الصلاة إن كان منصبّا على التسعة فوجوبها - التسعة - نفسي إستقلالي ، وإن كان منصبّا على العشرة فوجوب التسعة نفسي أيضا ، غاية الأمر هو نفسي ضمني ، فإنّ الوجوب النفسي المنصب على العشرة ينحلّ إلى وجوبات نفسيّة ضمنيّة بعدد الاجزاء ، وكلّ جزء يصيبه وجوب نفسي ضمني.

وإذا كان الأقل يعلم وجوبه بالوجوب النفسي المردّد بين الإستقلالي والضمني حصل بذلك الانحلال لأنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب النفسي أيضا ، فالمعلوم بالتفصيل مصداق للمعلوم بالاجمال.

وقد ردّت هذه المناقشة بعدّة أجوبة نذكر منها جوابين : -

1 - إنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقا للمعلوم بالاجمال ، فإنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي الإستقلالي لا مطلق الوجوب النفسي ، بل الوجوب النفسي المقيّد بقيد الإستقلاليّة ، بينما المعلوم بالتفصيل ليس هو الوجوب النفسي الإستقلالي ، بل الوجوب النفسي المردّد بين الإستقلالي والضمني.

ص: 433

وبكلمة اخرى إنّا لو قطعنا النظر عن وصفي الإستقلاليّة والضمنيّة كان المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالاجمال ، أمّا إذا لاحظناهما فليس ذاك مصداقا لهذا.

ويمكن ردّ هذا الجواب الأوّل بأنّا لو لاحظنا وصفي الإستقلاليّة والضمنيّة فلا انحلال كما ذكر ، ولكن النظر إلى الوصفين المذكورين غير صحيح.

والوجه فى ذلك : انّ الذمّة لا تشتغل بذات الواجب النفسي وبقيد الإستقلاليّة ، فإنّ قيد الإستقلاليّة ليس من الأوصاف القابلة لاشتغال الذمّة به ، إذ هو يعني عدم شمول الوجوب للغير ، فحينما يقال إنّ الوجوب المتعلّق بالتسعة إستقلالي فالمقصود عدم شمول الوجوب للجزء العاشر ووقوفه على الأجزاء التسعة ، وواضح ان وصف عدم شمول الوجوب للغير ليس معنى قابلا لاشتغال الذمّة به.

وبكلمة اخرى إنّ الإستقلاليّة حدّ للوجوب - حيث يراد بها انّ وجوب التسعة نحو وجوب لا يشمل الجزء العاشر - وواضح أنّ الحد هو من الأوصاف التي لا يمكن اشتغال الذمّة بها ، وإنّما هي تشتغل بالمحدود وهو ذات الواجب النفسي.

2 - ما ذكره الميرزا (1) من أنّ انحلال العلم التفصيلي بوجوب الأقل وجوبا نفسيّا أمّا إستقلاليا أو ضمنيّا ليس وجيها ، فإنّ العلم التفصيلي المذكور - أي العلم بوجوب الأقل إستقلاليّا أو ضمنيّا - ليس علما تفصيليا بحسب الروح والحقيقة ،

ص: 434


1- أجود التقريرات ج 2 ص 288. ونقل في مصباح الاصول ج 2 ص 432.

وإنّما هو عين علمنا الاجمالي وليس شيئا مغايرا له ليحصل به الانحلال.

والوجه في ذلك : إنّ وجوب الأقل وجوبا ضمنيا يعني وجوب التسعة وجوبا مقيّدا بضم الجزء العاشر ، أي هو وجوب بشرط شيء ، بينما وجوب الأقل وجوبا إستقلاليّا يعني وجوب التسعة بلا حاجة إلى ضم الجزء العاشر ، أي هو وجوب مطلق ولا بشرط من حيث ضم الجزء العاشر (1).

وعليه فعلمنا التفصيلي بوجوب الأقل إستقلالا أو ضمنا هو في الحقيقة علم اجمالي بوجوب امّا التسعة بشرط شيء أو التسعة لا بشرط ، ومعه فلا معنى للانحلال ما دام لا يوجد علم تفصيلي في مقابل العلم الاجمالي.

إن قلت : إنّ العلم الاجمالي المبرز في البرهان الأوّل لم يكن هو العلم بوجوب امّا التسعة بشرط شيء أو التسعة لا بشرط حتى يقال بانّه عين العلم التفصيلي ولا معنى لحصول الانحلال به وإنّما هو العلم بوجوب امّا الأكثر أو الأقل ، وهذا العلم الاجمالي بما انّه مغاير للعلم التفصيلي بوجوب التسعة استقلالا أو ضمنا فلا بأس بحصول الانحلال به.

قلت : إنّ العلم الاجمالي المبرز وإن كان هو العلم بوجوب امّا الأقل أو الأكثر ولكنه ليس شيئا يتغاير والعلم الاجمالي بوجوب امّا التسعة بشرط انضمام الجزء العاشر أو التسعة المطلقة بل هو هو وإن اختلفت الألفاظ فإنّ وجوب الأقل عبارة اخرى عن وجوب التسعة المطلقة ووجوب الأكثر عبارة اخرى

ص: 435


1- وإنّما نقل بشرط لا لأنّه لا يحتمل حرمة إضافة جلسة الاستراحة على تقدير عدم جزئيتها ، فإنّ المفروض دوران أمر المشكوك بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبّا ، ولا يحتمل حرمته.

عن وجوب التسعة المقيدة.

والخلاصة : انّه ادعي وجود علمين احدهما علم إجمالي بوجوب اما الأقل أو الأكثر ، وثانيهما تفصيلي ، وهو العلم بوجوب الأقل امّا استقلالا أو ضمنا. والشيخ الاعظم كان يقول ان الثاني يحلّ الأوّل. والميرزا يقول لا يمكن الانحلال ، لأن العلم الثاني هو إجمالي أيضا وليس تفصيليا بل هو عين العلم الإجمالي الأوّل (1).

ويمكن ردّ كلام الميرزا هذا بان حصيلته ترجع إلى انا لا نملك الاّ علما إجماليا واحدا غير قابل للانحلال غايته يمكن التعبير عنه بعبارتين ، فيمكن ان نعبر عنه بالعلم الإجمالي بوجوب اما الأقل أو الأكثر كما ويمكن التعبير عنه بوجوب اما التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، ونحن نجيب عن ذلك بنفس ما ناقشنا به الجواب السابق بأن نقول ان هذا العلم الإجمالي انّما تحقق بسبب ادخال وصف اطلاق التسعة وتقييدها في الحساب فقيل نحن نعلم بوجوب اما التسعة المطلقة أو المقيدة ، ولكن إدخال وصف الاطلاق في الحساب لا معنى له فانّه وصف لا يقبل التنجز بالعلم الإجمالي كما سنبين ، وإنما الذي يدخل في العهدة ويمكن اشتغال الذمة به هو ذات المحكي بوصف الاطلاق - وذات المحكي هو وجوب التسعة - وذات المحكي يعلم بوجوبه تفصيلا لا إجمالا.

واذا رجعنا إلى وجداننا وجدنا صدق ما نقول فانه قاض بانا نعلم

ص: 436


1- لا يخفى ان عبارة الحلقة في المقام غامضة. وأشد منها غموضا عبارة التقرير ج 5 ص 330. أجل عبارة الحلقة الثانية ص 376 جيدة. وعبارة أجود التقريرات ومصباح الاصول أجود.

بوجوب التسعة من دون إجمال بل بنحو التفصيل ، ومهما اراد الميرزا إدخال التشكيك علينا نبقى نشعر بالوجدان المذكور. اجل حينما ادخل الميرزا في الحساب وصف الاطلاق والتقييد تشكّل لنا علم إجمالي يدور طرفاه بين المتباينين ولم نبق نملك علما تفصيليا ، ولكن إدخال ذلك في الحساب أمر مرفوض.

أمّا لماذا لا يجوز إدخال وصف الاطلاق في الحساب؟ ذلك باعتبار انّه يعني عدم لحاظ التقييد بالجزء العاشر ، وواضح ان عدم لحاظ التقييد ليس أمرا وجوديا قابلا لاشتغال الذمة به ، فإنّ الذمة تشتغل بالشيء لا باللا شيء (1).

أجل وصف التقييد يختلف عن وصف الاطلاق فهو - التقييد - قابل لاشتغال الذمة به لأنّه يعني ملاحظة الجزء العاشر ، ومع ملاحظة التقييد بالجزء العاشر تكون الذمة مشغولة بالإتيان به.

إذن مع إدخال وصف الاطلاق والتقييد في الحساب يتشكل علم إجمالي ولا يكون منحلا ، ولكن ذلك غير صحيح بإعتبار ان وصف الاطلاق غير قابل بالاشتغال الذمة به. ومع عدم إدخال وصف الإطلاق يكون العلم الإجمالي منحلا أو بالاحرى يكون لدينا علم تفصيلي بوجوب الأقل لا انّه يتشكل علم إجمالي أولا بوجوب امّا الأقل أو الأكثر ثم ينحل. وسنوضح ذلك في الوجه الثالث.

الثالثة

وحاصل المناقشة الثالثة للبرهان الأوّل : انّا لو أردنا أن ندخل في الحساب

ص: 437


1- هذا بناء على أنّ الاطلاق أمر عدمي كما هو مختار السيد الشهيد. وهكذا لو فسرناه بالأمر الوجودي ، أي بلحاظ عدم التقييد ، فان لحاظ عدم إعتبار الجزء العاشر ليس أمرا قابلا لاشتغال الذمة به.

وصف الإطلاق والتقييد أو وصف الاستقلالية والضمنية فالعلم الإجمالي حاصل ويدور أمر متعلقه بين المتباينين ، ولكن ذكرنا فيما سبق عدم صحة أخذ الأوصاف المذكورة بعين الإعتبار لعدم قابلية إشتغال الذمة بها ، واذا لم ندخلها في الحساب فلا يتشكل لدينا علم إجمالي أصلا - لا انّه يتشكل وينحل بالعلم التفصيلي - فإنّ الحاصل لنا علم تفصيلي وشكّ بدوي فلنا علم تفصيلي بوجوب الأقل وشكّ بدوي في وجوب الزائد ، وواضح ان انضمام الشكّ البدوي إلى العلم التفصيلي لا يتشكل منه علم إجمالي ، فإنّ العلم الإجمالي يعني تردد الجامع بين الطرفين ولا يعني تحقق الجامع في طرف جزما والشكّ في تحققه في الطرف الثاني.

وقد تقول : انّه بناء على هذا فكيف يتحقق العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر.

فانه يقال : إنّ العلم الإجمالي لا يمكن تحققه بين الأقل والأكثر - لأنّ الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل والأكثر مشكوك الوجوب - وينحصر تحققه بالمتباينين. ولذا حاول البعض - كالميرزا كما تقدم - ارجاع العلم الاجمالي بالاقل والاكثر الى العلم الاجمالي بالمتباينين فقال ان العلم الاجمالي بوجوب اما التسعة او العشرة يرجع الى العلم الاجمالي بوجوب اما التسعة المطلقة او التسعة المقيدة.

وقد اشير إلى كل هذه النكات في الحلقة الثانية ص 377.

الرابعة

إنّ العلم الإجمالي بوجوب امّا الأقل أو الأكثر المذكور في البرهان الأوّل

ص: 438

ليس منجزا من ناحية عدم تعارض الأصول في أطرافه ، وشرط المنجزية - كما تقدم في الركن الثالث من أركان المنجزية الأربعة - تعارض الأصول في الأطراف.

والوجه في عدم تعارض الاصول : ان أصل البراءة يجري بالنسبة إلى وجوب الأكثر ولكنه لا يجري بالنسبة إلى وجوب الأقل إذ الغرض من اجراء البراءة عن وجوب الأقل فيه احتمالان كلاهما باطل.

فإن كان الغرض هو الترخيص في ترك الأقل شريطة الأتيان بالأكثر فهذا واضح الاستحالة ، إذ كيف يمكن للأنسان ان يأتي بالعشرة بلا إتيان بالتسعة.

وإن كان الغرض هو الترخيص في ترك الأقل وترك الأكثر معا فهذا واضح البطلان أيضا فإنّ ذلك مخالفة قطعية ولا معنى لإجراء الأصل لترخيصها.

هذا حاصل المناقشة الرابعة. وهي وإن كانت جيدة بيد انّها تتضمن الإعتراف بأصل وجود العلم الإجمالي وتدعي انحلاله بسبب عدم تعارض الاصول في أطرافه بينما اتضح مما سبق انّ العلم الإجمالي غير ثابت أصلا وإنّما الثابت هو العلم التفصيلي المنضم إلى الشكّ البدوي.

قوله ص 169 س 10 : لينفي : الصواب : لينفى.

قوله ص 171 س 10 : وعدم شموله إلخ : عطف تفسير لحدّ الوجوب.

قوله ص 171 س 13 : ولكن معلوم هذا العلم : وهو الوجوب النفسي المقيد بوصف الاستقلالية.

قوله ص 172 س 5 : والمقيد يباين المطلق : لا يكون المورد من موارد العلم الإجمالي الاّ إذا كان طرفاه مرددين بين فردين متباينين وليسا مرددين بين الأقل

ص: 439

والأكثر إذ المردد بين الأقل والأكثر يرجع إلى علم تفصيلي بالأقل وشكّ بدوي في الأكثر ، وحيث ان الميرزا يدعي انّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل أمّا استقلالا أو ضمنا يرجع في حقيقته إلى علم إجمالي بوجوب التسعة المطلقة أو المقيدة فلا بدّ وان يدعي ان التسعة المطلقة والتسعة المقيدة هما من قبيل المتباينين كي يتحقق بأيدينا علم إجمالي وبالتالي كي يصدق ان ذلك العلم التفصيلي يرجع في حقيقته إلى علم اجمالي ، أمّا إذا كانا من قبيل الأقل والأكثر فلا يتحقق علم إجمالي ويبقى العلم التفصيلي بوجوب الأقل علما تفصيلا بلا أن يرجع إلى علم إجمالي.

قوله ص 172 س 6 : على الإجمال : أي امّا استقلالا أو ضمنا.

قوله ص 172 س 6 : ليس الاّ نفس ذلك العلم الإجمالي : أي العلم الإجمالي بوجوب امّا الأقل أو الأكثر.

قوله ص 172 س 6 : بعبارة موجزة : فعبارة العلم الإجمالي السابق كانت عبارة موجزة حيث كان يقال « يعلم إجمالا بوجوب امّا الأقل أو الأكثر » ، وهذا بخلاف عبارة العلم التفصيلي المدعى فانّها مطولة معنى بالنسبة لتلك حيث تقول « يعلم تفصيلا بوجوب التسعة اما المطلقة أو المقيدة ».

قوله ص 172 س 8 : ويلاحظ هنا ... : هذا ردّ على الجواب الثاني ، وهو نفس مضمون الرد المتقدم على الجواب الأوّل.

قوله ص 172 س 10 : لأنّه يقوّم الصورة إلخ : فإنّ الصورة الذهنية لوجوب التسعة تارة تتقوم وتتميز بعدم لحاظ الجزء العاشر واخرى تتقوم بلحاظه معها ، فاللحاظ وعدم اللحاظ إذن حدّان تتحدد بهما الصورة الذهنية لوجوب التسعة. وما دام الاطلاق حدا للصورة الذهنية لوجوب التسعة ، وهذا

ص: 440

الحدّ ليس له محكي وما بازاء في الخارج - فإن المحكي في الوجوب المطلق ذات الطبيعة لا أكثر - فلا يتنجز ولا تشتغل به الذمة.

قوله ص 172 س 11 : بخلاف التقييد : حيث ان له محكيا يراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة فيمكن دخوله في العهدة.

قوله ص 172 س 11 : فإن اريد ... : أي وباتضاح هذا نقول ...

قوله ص 172 س 12 : لأنّ الاطلاق لا يقبل التنجيز : أي والتقييد وإن قبل التنجيز الاّ ان الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله لا يقبل التنجز.

قوله ص 172 س 15 : ولكن سيظهر ... : أي في الجواب الثالث الآتي بقوله « ومنها : إنّه لو لوحظ ... ».

قوله ص 173 س 13 : بتركه رأسا : أي بترك الأكثر رأسا ، فان ترك الاكثر تارة يحصل مع فرض الاتيان بالاقل واخرى يتحقق بترك الاقل ايضا بأن لا يؤتى بشيء من الاجزاء رأسا. والمقصود الاشارة الى هذه الحالة الثانية ، وامّا الحالة الاولى - وهي ترك الاكثر مع افتراض الاتيان بالاقل - فهي لا تتلائم مع اجراء اصل البراءة.

قوله ص 173 س 17 : وهذا بيان صحيح : أي كالبيان السابق.

قوله ص 174 س 1 : الاول والثاني : الركن الاول هو اعتبار وجود علم متعلق بالجامع ، والركن الثاني هو عدم سراية العلم من الجامع الى الفرد ، والركن الثالث هو تعارض في الاطراف.

البرهان الثاني

تقدم ان المكلّف لو شك في جزئية بعض الأشياء - كما إذا شكّ في جزئية

ص: 441

جلسة الاستراحة للصلاة - دار الأمر عنده بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر. وفي مثل ذلك قد يقال بوجوب الاحتياط ولزوم الإتيان بالجزء المشكوك ويستدل على ذلك بعدة براهين.

وقد فرغنا من البرهان الأوّل مع مناقشاته الأربع. والآن يقع الكلام في البرهان الثاني على ذلك. وهو مركب من نقاط أربع هي (1) : -

1 - ان وجوب أي واجب من الواجبات ينشأ من وجود غرض معين يدعو الى وجوبه ، فإنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في رأي العدلية خلافا للاشاعرة حيث قالوا بعدم لزوم نشوء الأحكام من المصالح والمفاسد.

2 - ان العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض بعد العلم بثبوته واقعا وعدم تردده وإن كنّا لا نشخصه ، فكما ان تحصيل متعلق الوجوب لازم كذلك تحصيل الغرض لازم بنظر العقل لأنّه روح الحكم وحقيقته.

3 - انّ الواجب وان أمكن ان يدور أمره بين الأقل والأكثر إلاّ ان الغرض لا يدور أمره بين الأقل والأكثر بل هو دائما أمر وحداني غاية الأمر يشكّ في حصوله بالأقل أو بالأكثر (2).

4 - انه إذا شكّ في حصول الغرض بالأقل أو بالأكثر كان المورد من موارد الشكّ في المحصل للغرض. وفي موارد الشكّ في المحصل يحكم العقل بلزوم

ص: 442


1- جعل السيد الشهيد النقاط ثلاثا ، ونحن جعلناها أربعا حيث نرى المناسب جعل النقطة الثانية نقطتين. ثمّ انّ هذا البرهان مذكور في كلمات جماعة منهم الآخوند في كفايته.
2- سيتضح من خلال مناقشة هذا البرهان وجه الحاجة الى هذه النقطة.

الاحتياط والإتيان بالأكثر ليحصل اليقين بتحقق الغرض. وهذا هو المطلوب.

ويمكن مناقشة هذا البرهان تارة بلحاظ النقطة الثالثة واخرى بلحاظ النقطة الثانية.

أمّا بلحاظ النقطة الثالثة فباعتبار انّا لا نسلم ان الغرض أمر وحداني دائما بل من الممكن دورانه بين الأقل والأكثر ، فأكل الطعام مثلا له غرض وهو سدّ الرمق والتلذذ ، وسدّ الرمق يحصل بتناول الطعام بجميع أنواعه بينما التلذذ لا يحصل إلاّ ببعض الأطعمة. إذن المرتبة الأقل من الغرض تحصل بالطعام بأي أنواعه بينما المرتبة العالية منه لا تحصل إلاّ ببعض معين من الطعام.

واذا أمكن دوران أمر الغرض بين الأقل والأكثر. فنحتمل في غرض الصلاة وكل واجب من الواجبات الاخرى ان يكون كذلك فالمرتبة الأقل منه تحصل بالاجزاء التسعة بينما المرتبة العالية منه تحصل بالأجزاء العشرة. ومع وجود هذا الإحتمال صح ان نقول نحتمل ان الغرض من الصلاة ذو مراتب ، وبمرتبته الأقل نجزم بوجوده فيلزم تحصيله بالإتيان بالأجزاء التسعة وبمرتبته العالية نشكّ في أصل وجوده ، والأصل عدم وجوده فلا يلزم تحصيله بالإتيان بالأكثر.

وأمّا بلحاظ النقطة الثانية فباعتبار انّه وإن اشتهر على الألسن ان الغرض يجب تحصيله وعند دوران أمر محصّله بين الأقل والأكثر يلزم الاحتياط إلاّ ان هذا بلا مستند ، فإنّ العقل لا يلزم بتحصيل غرض المولى مطلقا وإنّما يحكم بلزوم تحصيله بعد علم المكلّف به ووصوله إليه بالمقدار الذي تصدى المولى لحفظه ، أي بمقدار ما جعل على طبقه حكما ، فلو علمنا بوجود غرض للمولى وفرض انه لم يجعل على طبقه حكما فلا يلزم تحصيله.

ص: 443

وباتضاح هذا نقول إنا وان كنا نجزم بوجود غرض في الحكم بوجوب الصلاة ونفرض ان ذلك الغرض أمر وحداني ولكن نقول إنّه بمقدار الأجزاء التسعة يلزم تحصيله حيث تصدى المولى لحفظه بهذا المقدار باعتبار الجزم بجعل الوجوب للأقل ، وأمّا بمقدار الجزء العاشر فلم يثبت تصدي المولى لحفظه وجعل حكم على طبقه فلا يحكم العقل بلزوم تحصيله.

البرهان الثالث

إنّا نسلم عدم العلم إلاّ بوجوب الاجزاء التسعة ولكن مع ذلك يجب الإتيان بالجزء العاشر حيث نحتمل انّ وجوب الاجزاء التسعة وجوب ضمني - فإنّ الوجوب إذا كان ثابتا للأكثر فوجوب الأقل يصير وجوبا ضمنيا - ونحن نعرف ان امتثال الواجبات الضمنية ترابطي بمعنى أنّه لا يحصل امتثال وجوب أحد الأجزاء إلاّ بامتثال وجوب بقية الاجزاء. فلاجل ان يقطع المكلّف بسقوط وجوب الأقل عنه وفراغ ذمته منه يلزمه الإتيان بالجزء العاشر لا لأجل الشكّ في وجوبه - الجزء العاشر - ليقال ان ذلك شكّ في أصل التكليف وهو مجرى للبراءة بل لعدم الجزم بسقوط الوجوب اليقيني للأقل بدون ذلك ، ومن الواضح ان العقل يحكم في موارد الشكّ في سقوط الوجوب المعلوم بلزوم تحصيل اليقين بسقوطه فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

وفيه : ان الشكّ في سقوط الوجوب اليقيني ليس مجرى للاحتياط مطلقا بل ينبغي التفصيل بين حالتين ، فمتى ما كان الشكّ في سقوط الوجوب ناشئا من الشكّ في الإتيان بمتعلقه لزم الإحتياط - كمن شكّ في الإتيان بصلاة الظهر

ص: 444

وعدمه ، فإنّ الشكّ المذكور يستتبع الشكّ في سقوط وجوب صلاة الظهر فيلزم العقل بالاحتياط - وأمّا إذا جزم المكلّف بالإتيان بمتعلق الوجوب ومع ذلك شكّ في سقوط الوجوب فلا يحكم العقل بلزوم الإحتياط ، وهذا كما هو الحال في مقامنا فإنّ وجوب الأقل متعلق بالأقل جزما. والمفروض أنّ المكلّف اتى به ولكن مع ذلك يشكّ في سقوط الوجوب - أي وجوب الأقل - عنه من حيث انّه يحتمل كون وجوبه وجوبا ضمنيا يرتبط امتثاله بالإتيان بالجزء العاشر ، وفي مثل ذلك إذا جرى أصل البراءة عن وجوب الجزء العاشر صار المكلّف في أمان من احتمال العقوبة على عدم سقوط الأمر بالأقل الناشىء من إحتمال كون وجوبه وجوبا ضمنيا مرتبطا بالإتيان بالجزء العاشر ، وبعد الحصول على ورقة الأمان هذه من الشارع بوساطة أصل البراءة لم يعد العقل حاكما بلزوم الإحتياط والإتيان بالجزء العاشر ويكتفي بالإتيان بالأقل.

وان شئت قلت : إنّ مخالفة الوجوب المتعلق بالأقل تحصل جزما بترك الأقل ولكنا نشكّ في حصولها بترك الجزء العاشر أيضا فإحدى المخالفتين معلومة والمخالفة الثانية مشكوكة فنجري أصالة البراءة عن أصل ثبوت المخالفة الثانية لأنّ ثبوتها يلزم منه الضيق على المكلّف فاذا شكّ في ثبوت الضيق المذكور أمكن نفيه بالبراءة.

البرهان الرابع

وهذا البرهان للشيخ العراقي ذكره لا في مطلق الموارد التي يشكّ فيها في وجوب الزائد بل في خصوص الواجبات التي يحرم قطعها مثل الصلاة بناء على

ص: 445

حرمة قطعها.

وحاصل البرهان : ان المكلّف لو شرع في الصلاة بتكبيرة ملحونة وشكّ في إجزائها عن التكبيرة الصحيحة حصل له علم إجمالي امّا بوجوب الإتيان بالزائد ، أي تكبيرة جديدة صحيحة (1) أو بوجوب الإستمرار في الصلاة وحرمة قطعها بالتكبيرة الجديدة. وحيث إنّ أصل البراءة عن وجوب الإتيان بالتكبيرة الجديدة معارض بأصل البراءة في الطرف الثاني فيكون العلم الإجمالي المذكور منجزا ويثبت بذلك وجوب الإحتياط والإتيان بالتكبيرة الجديدة ولا يمكن اجراء البراءة عن وجوبه لفرض المعارضة.

وقد تسأل : كيف يتحقق الإحتياط في المقام ، فإنّ الإتيان بالتكبير الجديد وبالتالي قطع الصلاة كما يحتمل وجوبه كذلك يحتمل حرمته؟ أجاب الشيخ العراقي عن هذا السؤال في نهاية الأفكار (2) ج 3 ص 418 بإنّ الاحتياط يتحقق باتمام الصلاة والشروع بصلاة جديدة.

والنتيجة من خلال هذا البيان كله : انا كنا بصدد إثبات وجوب الإتيان بالزائد عند الشكّ في جزئيته (3) ، وقد ثبت ذلك بهذا البرهان.

وفيه : انّه لم يتم دليل على حرمة قطع الصلاة مطلقا وإنّما ثبت بالدليل

ص: 446


1- وهذا معناه بعبارة اخرى وجوب قطع الصلاة.
2- وهو كتاب يتضمن تقرير درسه الشريف.
3- وبهذا اتضح كيفية كون المقام من موارد التردد بين الأقل والأكثر ، فإنّ وجوب الإتيان بالتكبير الجديد معناه وجوب الأكثر بينما عدم وجوب الإتيان بها - أي وجوب الإستمرار في الصلاة وحرمة قطعها - عبارة اخرى عن وجوب الأقل.

حرمة القطع في حالة واحدة ، وهي ما إذا كانت الصلاة محكومة ظاهرا وفي نظر الشارع بالصحة وعدم لزوم إعادتها من جديد.

وبناء على هذا لا تكون الاصول متعارضة في الطرفين بل يجري الأصل لنفي وجوب الزائد - أي التكبير الجديد - دون أن يعارض بالأصل في الطرف الثاني.

والوجه في ذلك : ان موضوع حرمة القطع ما دام هو الصلاة المحكومة بالصحة ظاهرا فلا بدّ في المرحلة الاولى من إجراء أصل البراءة عن وجوب الإتيان بالتكبير الجديد ، فاذا جرى الأصل المذكور ثبتت صحة الصلاة في الظاهر ووجوب الاستمرار فيها ، وبعد ثبوت صحة الصلاة ظاهرا بالأصل يثبت حرمة قطعها. إذن حرمة القطع على ضوء هذا البيان موقوفة وفي طول جريان البراءة عن وجوب الزائد ، وما دامت موقوفة على جريان البراءة عن وجوب الزائد فلا معنى لأن يعارض أصل البراءة عن حرمة القطع أصل البراءة عن وجوب الزائد إذ بجريان البراءة عن وجوب التكبير الجديد يثبت وجوب الصلاة وحرمة قطعها فكيف تجري البراءة بعد ذلك عن حرمة القطع ، إنّ لازم ذلك ثبوت حرمة القطع وانتفاؤها معا فهي ثابتة لفرض جريان البراءة عن وجوب التكبير الجديد ، وهي منتفية لفرض جريان البراءة عن الحرمة (1).

ص: 447


1- ويمكنك ذكر بيان آخر بان تقول ان جريان أصل البراءة عن حرمة القطع يلزم من وجوده عدمه ، فإنّه بجريانه يثبت جواز قطع الصلاة وعدم صحتها وبثبوت ذلك لا يبقى إحتمال لحرمة القطع - بل يكون القطع جائزا جزما - حتى تجري البراءة لنفيه.

البرهان الخامس

وقبل عرض هذا البرهان نذكر مقدمة حاصلها : إنّ المكلّف لو أتى بالأكثر وكان الواجب واقعا الأقل فهل يقع عمله صحيحا أو لا؟ والجواب : إنّ في ذلك ثلاث حالات : -

أ - الإتيان بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي الموجه إليه. وفي هذه الحالة لا إشكال في الاجزاء.

ب - الإتيان بالأكثر بقصد إمتثال الأمر بالأكثر بتخيل أنه هو الأمر الواقعي اشتباها. وفي هذه الحالة لا إشكال في الإجزاء أيضا.

ج - الإتيان بالأكثر بقصد امتثال أمر الأكثر على وجه التقييد ، بمعنى تقييد قصد امتثاله بما إذا كان الأمر أمرا بالأكثر بحيث لو كان الامر أمرا بالأقل فلا يكون قاصدا لأمتثاله. وفي هذه الحالة ذهب مشهور الفقهاء الى عدم صحة العمل لعدم قصد امتثال الأمر بالاقل. بيد أنّه يمكن الحكم بصحة العمل أيضا ببيان يأتي فيمّا بعد انشاء ..

وباتضاح هذه المقدمة نعود الى البرهان الخامس. إنّ هذا البرهان مركب من مقدمتين : -

1 - ان تردد الواجب له ثلاث حالات : -

أ - ان يكون مترددا بين المتباينين ، كتردد الواجب يوم الجمعة بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر. وفي هذه الحالة لا إشكال في وجوب الاحتياط بالأتيان بكلتا الصلاتين.

ص: 448

ب - ان يكون مترددا بين الأقل والأكثر كتردد اجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة. وهذه الحالة هي محل النزاع والكلام في أنّه هل يجب فيها الإحتياط بإتيان الأكثر أو لا.

ج - ان يكون مترددا بين عامين من وجه ، كما إذا أمر المولى بالإكرام وتردد بين كونه إكرام العادل أو إكرام الهاشمي ، فإنّ بين إكرام العادل وإكرام الهاشمي عموما من وجه ، إذ قد يجتمعان معا كاكرام شخص واحد يجمع العدالة والهاشمية ، وقد يتحقق أحدهما دون الثاني.

وفي هذه الحالة لا إشكال أيضا في وجوب الإحتياط بالإتيان بكلا الإكرامين ، وذلك بإكرام شخص واحد يجمع العنوانين أو اكرام شخصين أحدهما عادل والآخر هاشمي.

ولكن لماذا يجب الاحتياط؟ النكتة واضحة حيث يوجد علم إجمالي بوجوب أحد الإكرامين فامّا أنّه يجب إكرام العادل أو إكرام الهاشمي فيجب الاحتياط لمنجزية العلم الإجمالي ، وذلك شبيه بالعلم بثبوت الوجوب يوم الجمعة أمّا للظهر أو للجمعة.

وبهذا تنتهي النقطة الاولى. والمقصود منها بيان الحالة الثالثة أي حالة تردد الواجب بين العامين من وجه وبيان أن الإحتياط فيها واجب.

2 - وفي هذه النقطة يراد إثبات ان التردد بين الأقل والأكثر يرجع الى التردد بين العامين من وجه ، ويلزم من ذلك وجوب الاحتياط حيث ذكر في النقطة الاولى ان الإحتياط عند التردد بين العامين من وجه لازم.

ولإثبات ذلك نقول : حيث إنّ امتثال الأمر بالأقل وامتثال الأمر بالأكثر

ص: 449

قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما بالتحقق دون الآخر فالنسبة بينهما على هذا هي العموم من وجه.

أمّا انهما يجتمعان احيانا فكما لو أتى المكلّف بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي. وأمّا تحقق امتثال الأمر بالأقل فقط فكما لو أتى بالأقل بقصد أمره.

وأمّا تحقق امتثال الأمر بالأكثر فقط ففي ذلك شيء من الخفاء باعتبار ان الآتي بالأكثرات بالأقل جزما فكيف يتحقق امتثال الأكثر بدون امتثال الأقل؟

هذا ولكن يمكن تصوير ذلك بناء على المبنى الفقهي لمشهور الفقهاء المشار له في المقدمة ، وهو أن يأتي المكلّف بالأكثر بقصد إمتثال أمره على وجه التقييد بحيث لو كان الواجب هو الأقل فلا يكون قاصدا لامتثاله ، إنّه بناء على هذا يتحقق امتثال الأمر بالأكثر بدون امتثال الأمر بالأقل.

وبعد الفراغ من المقدمة الثانية نقول : إذا ثبت أنّ النسبة بين امتثال الأمر بالأكثر وامتثال الأمر بالأقل هي نسبة العامين من وجه بمقتضى المقدمة الثانية يثبت وجوب الاحتياط بالإتيان بالأكثر بمقتضى المقدمة الاولى.

ويمكن مناقشة البرهان المذكور من حيث المبنى الفقهي بان يقال لا نسلم عدم تحقق الأمتثال في صورة التقييد ، فإنّ اللازم في صحة العبادة اقترانها بالمقربية ، وواضح انّه مع انبعاث المكلّف عن الأمر بالأكثر تكون المقربية منه حاصله بشكل من الإشكال ، وهذا المقدار من المقربية يكفي في وقوع العمل صحيحا ويتحقق امتثال الأمر بالأقل وإن لم ينبعث المكلّف منه بل من الأمر بالأكثر.

وبإنكار المبنى الفقهي المتقدم لا تتم المقدمة الثانية التي اريد فيها ارجاع

ص: 450

التردد بين الأقل والأكثر الى التردد بين العامين من وجه ، وبالتالي يسقط البرهان عن صلاحية اثبات وجوب الاحتياط.

البرهان السادس

وهذا البرهان يتم في الواجبات التي تكون الزيادة فيها مبطلة للعمل.

وحاصله : لو فرض أنّ المجتهد شكّ في وجوب السورة في الصلاة ، تشكّل لديه علم اجمالي امّا بوجوب الاتيان بها أو بحرمة الاتيان بها بقصد الجزئيّة (1) ، لأنّه على تقدير جزئيتها يجب الاتيان بها ، وعلى تقدير عدم جزئيتها يحرم الاتيان بها بقصد الجزئية لأنّه حينئذ يكون الاتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة. وحيث انّ الاصول متعارضة في العلم الاجمالي المذكور يكون منجّزا ويجب الاحتياط.

وكيفية الاحتياط تتحقّق بالاتيان بالصلاة مشتملة على السورة بدون قصد الجزئية بل امّا برجاء كونها واجبة أو لمطلوبيّتها الجزميّة الأعم من الوجوبيّة والاستحبابيّة فانّ السورة مع عدم قصد الجزئية بها إن لم تكن واجبة كانت مستحبّة.

ويمكن المناقشة بعدم تعارض الاصول بل يجري أصل البراءة عن وجوب الاتيان بالسورة بلا معارضة بالبراءة عن حرمة الاتيان بها بقصد الجزئية ، فإنّ الاتيان بها بقصد الجزئية حرام بلا شك وزيادة مبطلة بلا ريب ، ومع العلم

ص: 451


1- التقييد بقصد الجزئيّة باعتبار أنّ الزيادة لا تتحقّق الاّ على تقدير الاتيان بالشيء بقصد كونه جزء

بحرمته لا معنى لجريان أصل البراءة لنفي الحرمة إذ الاصل يجري حالة الشك دون حالة العلم.

أمّا لماذا كان الاتيان بالسورة بقصد الجزئية محرّما حتما؟ إنّ ذلك باعتبار صدق التشريع إذ مع عدم العلم بجزئية السورة يكون الاتيان بها بقصد الجزئية تشريعا محرّما حتى على تقدير ثبوت الجزئية واقعا

النتيجة النهائيّة

ومن خلال استعراض البراهين الستّة على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الجزئية ومناقشتها اتّضح أنّه لا يجب الاحتياط عند الشكّ في الجزئية وأنّ الصحيح هو البراءة.

قوله ص 174 س 12 : يتبيّن مما تقدّم : أي من خلال النقطة الاولى والثانية.

قوله ص 174 س 13 : كما تقدّم : في موارد منها القسم الأوّل من هذه الحلقة في مبحث امكان تعلّق الأمر بقصد القربة ص 365 من الحلقة.

قوله ص 175 س 4 : فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب : أي فكما قيل في الواجب انّه بمقدار الأقل معلوم وبمقدار الأكثر مشكوك تجري البراءة عنه كذلك يقال في الغرض انّه بمقدار الأقل معلوم وبمقدار الزائد حيث انّه مشكوك فيجري الأصل لنفيه.

قوله ص 175 س 6 : بالوصول إذا وصل الخ : أي شرط تنجّز الغرض

ص: 452

أمران : علم المكلّف به ، وتصدّي المولى لحفظه بجعل حكم على طبقه.

قوله ص 175 س 8 : أو نحو ذلك : كطلب تحصيله.

قوله ص 175 س 16 : ثبوتا وسقوطا : فلا يثبت بعضها الاّ عند ثبوت البعض الآخر ولا يسقط بعضها بالامتثال الاّ عند سقوط بعضها الآخر بالامتثال.

قوله ص 176 س 16 : لا بمعنى أنّ ذلك الأصل الخ : حتى يقال بأنّ ذلك أصل مثبت - وهو ليس حجّة - باعتبار أنّ لازم البراءة عن وجوب الزائد سقوط وجوب الأقل ، والملازمة المذكورة عقليّة وليست شرعيّة ، فإنّه لا توجد آية ولا رواية تقول إذا لم يكن وجوب للزائد المشكوك فوجوب الأقل ساقط بالاتيان بالأقل وإنما هي عقليّة ، ومتى ما اجري الأصل لاثبات لازم عقلي فهو أصل مثبت.

هذا مضافا الى أنّا لسنا بحاجة الى اثبات سقوط وجوب الأقل فإنّ اللازم على المكلّف الاتيان بالأقل - على تقدير وجوبه - لا تحقيق عنوان سقوط الأمر بالأقل.

قوله ص 178 س 1 : أن يستتبع : أي احتمال حرمة القطع.

قوله ص 178 : س 2 : له : أي لجريان البراءة عن الزائد.

قوله ص 178 س 11 : وتنجّزه : عطف على « تنجيز »

قوله ص 179 س 11 : على كل حال : أي حتى للأمر بالأقل. وعلى هذا فجملة « حتى للأمر ... » تفسير لقوله « على كل حال ».

قوله ص 179 س 11 : ما دام الانبعاث عن الأمر : أي عن الأمر بالأكثر حاصلا بالفعل.

ص: 453

قوله ص 179 س 15 : ومبطلة : عطف تفسير لقوله مانعة.

قوله ص 179 ص 17 : مع عدم وقوعه : المناسب : مع كونه الخ.

قوله ص 180 س 3 : حقّا : أي واقعا.

قوله ص 180 س 10 : فيكون محرّما : أي الاتيان بالسورة بقصد الجزئية.

قوله ص 180 س 10 : ولا يشمله الخ : فإنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة ينحل الى أوامر ضمنيّة نفسيّة بعدد الأجزاء ، فكل جزء يلحقه وجوب نفسي ضمني. والمقصود أنّ الاتيان بالسورة بقصد الجزئية لا يتعلّق به جزما أحد تلك الوجوبات الضمنيّة لأنّ الاتيان بالسورة بقصد الجزئية تشريع محرّم فكيف يحتمل تعلّق الوجوب به.

قوله ص 180 س 11 : وهذا يعني كونه زيادة : أي هو زيادة مبطلة جزما على تقدير الاتيان بقصد الجزئية.

ص: 454

الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط

اشارة

قوله ص 181 س 1 : والتحقيق فيها الخ : ذكرنا فيما سبق أنّ الدوران بين الأقل والأكثر له عدّة مصاديق : -

1 - الشك في الجزئية.

2 - الشك في الشرطية.

3 - الشك في التعيين والتخيير.

ولحدّ الآن كنا نتكلّم في الشك في الجزئية وقد فرغنا منه.

والآن نريد التحدّث عن الشك في الشرطية ، كما لو فرض الشك في شرطية الطمأنينة للصلاة.

ويمكن منهجة المباحث المتعرّض لها في المقام ضمن مطالب خمسة : -

1 - اخترنا في مسألة الشك في الجزئية البراءة باعتبار انحلال العلم الاجمالي ، فالاجزاء التسعة نعلم بوجوبها بينما الجزء العاشر نشك في وجوبه فتجري البراءة عنه.

ونفس هذا نختاره هنا أيضا ، أي في مسألة الشك في الشرطية ، فحينما نشك في شرطية الطمأنينة ففي الحقيقة نحن نشك في تعلّق وجوب زائد بتقيد الصلاة بالطمأنينة (1) ، فإذا كانت شرطا كان هناك وجوب آخر - غير وجوب بقية

ص: 455


1- إنّما قلنا بتعلّق الوجوب الزائد بالتقيد بالطمأنينة لا بنفس الطمأنينة باعتبار أنّه لو تعلّق بنفس الطمأنينة كانت جزء لا شرطا ، فإنّ الفارق بين الجزء والشرط انّ الأمر بالصلاة مثلا يكون متعلّقا بنفس الجزء ولا يكون متعلّقا بنفس الشرط بل يكون متعلّقا بالتقييد بالشرط ، كما تقدّمت الاشارة الى ذلك في الحلقة الثانية في مبحث قاعدة تنوّع القيود ص 245.

الأجزاء والشرائط - متعلّق بالتقيد ، وإذا لم تكن شرطا لم يكن هذا الوجوب ، ومعه نكون على علم تفصيلي - بوجوب الأجزاء والشرائط التسعة - وشك بدوي في وجوب التقيد بالطمأنينة فتجري البراءة عنه.

2 - قد يقال انّ الشك في الشرطية داخل في تردّد الواجب بين المتباينين وليس داخلا في التردّد بين الأقل والأكثر باعتبار أنّ فاقد الشرط وواجده يعدّان أمرين متباينين ولا يعدّ أحدهما أقل والآخر أكثر ، فمثلا الصلاة الواجدة للطهارة تعدّ مباينة للصلاة الفاقدة لها لا انها أكثر وهذه أقل ، وهكذا الرقبة الكافرة تعدّ مباينة للرقبة المؤمنة لا انها اقل وهذه أكثر.

والجواب : ان هذا صحيح لو لاحظنا حدّ الواجب أو الوجوب ، فإنّ التقييد بالطهارة وعدمه حدان للواجب ، فالواجب - كالصلاة مثلا - قد يتحدد مرة بالتقييد بالطهارة وقد يتحدد اخرى بعدم ذلك ، أمّا إذا قطعنا النظر عن هذين الحدين ونظرنا الى عالم العهدة وجدنا التردد ترددا بين الأقل والأكثر حيث نعلم باشتغال الذمة بأصل الصلاة ونشكّ في اشتغالها بالتقييد بالطهارة. إذن عدّ مسألة الشكّ في الشرطية من دوران الأمر بين الأقل والأكثر مبني على النظر الى عالم العهدة دون حدّ الوجوب أو الواجب.

3 - ان الشروط على قسمين فبعضها يرجع الى متعلق الحكم وبعضها الآخر يرجع الى متعلق المتعلق المعبر عنه بالموضوع (1).

ص: 456


1- فاذا قيل يجب عتق الرقبة كان الوجوب هو الحكم ، والعتق هو المتعلق ، والرقبة هي المتعلق للمتعلق حيث انّ العتق الذي هو المتعلق تعلق بالرقبة فهي متعلق للمتعلق. ويختلف المتعلق عن الموضوع من حيث الحكم ، فإنّ المتعلق يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو باعدامه ، بينما الموضوع لا يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو اعدامه وإنّما يثبت الحكم على تقدير وجوده ، ففي المثال السابق يكون المكلّف ملزما بإيجاد العتق بينما لا يكون ملزما بإيجاد الرقبة وإنّما يكون ملزما بعتقها على تقدير وجودها. ومثال آخر لذلك : يحرم شرب الخمر ، فالشرب متعلق والمكلّف ملزم باعدامه بينما الخمر موضوع ولا يكون المكلّف ملزما بإيجاده أو اعدامه وإنّما يكون ملزما بترك شربه على تقدير وجوده.

مثال الشرط الراجع الى المتعلق : تجب الصلاة مع الطهارة ، فإنّ الوجوب حكم ، والصلاة متعلقه ، والطهارة شرط راجع الى الصلاة التي هي المتعلق.

ومثال ثان لذلك : يجب العتق بالصيغة العربية ، فإنّ الوجوب حكم والعتق متعلق له ، والصيغة العربية شرط راجع الى العتق الذي هو المتعلق.

ومثال الشرط الراجع الى متعلق المتعلق : يجب عتق الرقبة المؤمنة ، فإنّ الوجوب حكم والعتق متعلقه ، والرقبة متعلق المتعلق ، والإيمان شرط راجع الى الرقبة التي هي متعلق المتعلق.

ومثال ثان لذلك : يجب إطعام الفقير الهاشمي ، فإنّ الوجوب حكم ، والاطعام متعلق ، والفقير متعلق المتعلق ، والهاشمية شرط للفقير الذي هو متعلق المتعلق.

وباتضاح هذا نقول إنّ الشرط المشكوك تارة يشك في شرطيته للمتعلق ، واخرى يشكّ في شرطيته لمتعلق المتعلق. وقد قرأنا في الحلقة الثانية ص 381 احتمال التفصيل بينهما فيقال إنّه إذا كان يشكّ في ثبوت شرط للمتعلق جرت

ص: 457

البراءة لنفيه وإذا كان يشكّ في ثبوت شرط لمتعلق المتعلق لم يمكن جريان البراءة لنفيه (1). هذا تفصيل قرأناه ولكن الصحيح جريان البراءة على كلا التقديرين.

4 - وللشيخ العراقي قدس سره تفصيل في باب الشكّ في الشرطية ، فالشكّ في بعض الشرائط تجري البراءة لنفيه بينما الشكّ في بعض الشرائط الاخرى لا تجري البراءة لنفيه.

وتوضيح ذلك : إنّ الشرائط على قسمين ، ففي بعض الشرائط لو فرض أنّ المكلّف أتى بفاقد الشرط أو أراد أن يأتي به لم يقع منه لغوا رأسا بل لزمه تكميله بضم الشرط إليه ، وبعضها الآخر لو أتى المكلّف بفاقد الشرط وقع منه لغوا رأسا.

مثال الأوّل : الإيمان بالنسبة الى الرقبة فإنّه لو كان شرطا وفرض أنّ

ص: 458


1- وتوجيه التفصيل المذكور : انّ المولى لو قال تجب الصلاة وشككنا في شرطية الطمانينة للصلاة كانت البراءة جارية لنفيها ، فإنّ الطهارة على تقدير كونها شرطا تكون شرطا للصلاة التي هي المتعلق للحكم ، وحيث ان المتعلق يكون المكلّف ملزما بإيجاده فاذا شكّ في وجود شرط له كان ذلك مستلزما للشكّ في الالزام بإيجاد ذلك الشرط ، وهذا الشكّ بما أنّه شكّ في أصل التكليف فالبراءة تجري لنفيه. أمّا إذا قيل يجب عتق رقبة وشك في شرطية الإيمان للرقبة لم تجر البراءة لنفي شرطية الشرط المذكور ، فان الرقبة حيث انّه لا يكون المكلّف ملزما بإيجادها باعتبار أنّها متعلق المتعلق ، وقد تقدم أنّ متعلق المتعلق لا يكون المكلّف ملزما بإيجاده _ فالشرط الراجع إليها لا يكون ملزما بإيجاده أيضا ، ومعه فالشكّ في ثبوت شرط للموضوع لا يكون شكا في ثبوت التكليف كي تجري البراءة لنفيه. والجواب عن ذلك : انّه في الحالة الثانية يكون الشكّ شكا في ثبوت التكليف أيضا ، فإنّ الإيمان لو كان شرطا للرقبة كان الواجب على المكلّف إيجاد العتق المتقيد بإيمان الرقبة المعتوقة ، والشكّ في كونه شرطا شكّ في ثبوت تحصيل العتق المقيّد بذلك فتجري البراءة عنه.

المكلّف أراد عتق الرقبة الكافرة لم يقع عتقه لغوا بل يقال له حاول جعلها مؤمنة ثم اعتقها.

ومثال الثاني : لو قيل أطعم فقيرا هاشميا فلو فرض أنّ المكلّف أطعم أو أراد أن يطعم فقيرا غير هاشمي فلا يقال له يلزمك تكميل ما أتيت به بجعل الفقير غير الهاشمي هاشميا ، إنّ هذا أمر غير ممكن بل ما أتى به أو أراد الإتيان به يقع لغوا رأسا.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين ذكر الشيخ العراقي إنّ الشرط المشكوك لو كان من قبيل الحالة الاولى جرت البراءة لنفيه ، وأمّا لو كان من قبيل الحالة الثانية لم تجر البراءة لنفيه.

والوجه في ذلك انّه في الحالة الاولى يمكن للمكلّف أن يشير الى الرقبة الكافرة ويقول انّ عتقها مطلوب جزما وأشك في وجوب تكميلها بارشادها الى الإيمان فتجري البراءة لنفي وجوب التكميل ، بينما في الحالة الثانية لا يمكن للمكلّف أن يشير الى إكرام الفقير غير الهاشمي ويقول بإنّه مطلوب جزما وأشكّ في وجوب تكميله بالهاشمية ، إنّ هذا غير ممكن لأنّ التكميل بالهاشمية حيث انّه غير ممكن فلا يحتمل وجوبه حتى تجري البراءة لنفيه.

هذه حصيلة التفصيل المذكور ، ولكنّه قابل للتأمل باعتبار انّ الشيخ العراقي - لاحظ عالم الخارج والتطبيق فأشار الى الرقبة الكافرة خارجا وقال إنّ هذه واجدة لطبيعي العتق المطلوب ويشك في وجوب تكميلها بالإيمان. وفي المثال الآخر كان يشير الى الفقير غير الهاشمي ويقول ان إطعام هذا واجد لطبيعي الإطعام المطلوب والتكميل بالهاشمية لا يحتمل وجوبه حتى ينفى بالبراءة.

ص: 459

هذا ولكن الصحيح ملاحظة عالم جعل الوجوب والعهدة ، وبملاحظة هذا العالم يكون الشكّ في كلتا الحالتين شكا في أصل التكليف فينفى بالبراءة فإنّ الوجوب يجزم بجعله على طبيعي العتق وطبيعي إطعام الفقير ، والتقييد بالإيمان والهاشمية يشكّ في جعل الوجوب عليه فينفى بالبراءة.

الشكّ في المانعية

5 - والمطلب الخامس الذي تكفله هذا المبحث حالة الشكّ في المانعية ، كما إذا شكّ في مانعية البكاء من صحة الصلاة فهل الأصل يقتضي البراءة من ثبوت المانعية المشكوكة كما كان يقتضي البراءة من ثبوت شرطية الشرط المشكوك أو لا يقتضي ذلك؟

والجواب : نعم إنّ الأصل يقتضي البراءة عن المانعية المشكوكة ، فإنّ الشكّ في المانعية شكّ في الشرطية - إذ الأمر الوجودي تارة يكون ثبوته شرطا واخرى يكون عدمه شرطا فالطهارة أمر وجودي وثبوتها معتبر في الصلاة فتسمى بالشرط وأمّا الحدث فهو أمر وجودي أيضا إلاّ ان عدمه شرط في الصلاة ويسمى بالمانع ، فالشكّ في المانعية إذن شكّ في الشرطية أيضا غاية الأمر شكّ في شرطية العدم - وقد عرفنا إنّ حكم الشكّ في الشرطية هو البراءة.

قوله ص 181 س 3 : كما تقدم في موضعه : وذلك في موارد منها ، الحلقة الثانية ص 245.

قوله ص 182 س 2 : في بعض الحالات : أي حالات الشكّ في الشرطية.

قوله ص 182 س 2 ومرد دعواه إلخ : الشيخ العراقي وان فصّل بين الشرط

ص: 460

الراجع للمتعلق والشرط الراجع الى متعلق المتعلق ولكنه بعد التأمل يظهر رجوعه الى التفصيل الموضح سابقا. ومن هنا ذكر في عبارة الكتاب : ومرد دعواه إلخ.

قوله ص 182 س 5 : في الحالة المذكورة : أي حالة إرادته الإتيان بالأقل.

قوله ص 182 س 16 : الى ما أتى به إلخ : كان من المناسب إضافة : « أو ما يريد أن يأتي به » كما في التقرير ج 5 ص 252.

قوله س 183 س 3 : محفوظ : أي متحقق وثابت في المأتي به. وقوله : « على كل حال » أي سواء كان الزائد مطلوبا أم لا.

قوله ص 183 س 15 : ولا يختلف إلخ : هذا تعرض لحالة الشكّ في المانعية. وكان من المناسب كتابة « الشكّ في المانعية » كعنوان صغير ليكون الطالب على بصيرة.

ص: 461

ص: 462

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

قوله ص 185 س 1 : وذلك بإنّ يعلم الخ : ذكرنا سابقا إنّ الدوران بين الأقل والأكثر له عدة مصاديق تقدم مصداقان منها وهما : الشكّ في الجزئية والشكّ. في الشرطية. وبقي علينا التحدث عن مصداقين آخرين وهما دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي ، ودوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي.

وقبل التحدث عن مطالب الكتاب لا بدّ من التعرف المسبق على مطلبين : -

1 - ما هو الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي؟ والجواب : إنّ الحاكم بالتخيير إن كان هو العقل فالتخيير عقلي وإن كان هو الشارع فالتخيير شرعي.

فاذا قال المولى أعتق رقبة وكان للرقبة مصاديق متعددة ولم يحدد مصداقا معينا منها فالتخيير عقلي إذ العقل يحكم بالتخيير بين تلك المصاديق ويقول ما دام المولى لم يحدد مصداقا معينا منها فأنت بالخيار في اختيار أي فرد شئت.

وأمّا إذا قال الشارع : اعتق أو أطعم أو صم فالتخيير بين هذه الشقوق الثلاثة شرعي لأنّ الشارع هو الذي تصدى لإثبات التخيير.

2 - كيف صار باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير من مصاديق التردد بين الأقل والأكثر؟ الوجه في ذلك انّ الثابت على العبد لو كان هو تحصيل عنوان

ص: 463

عتق الرقبة بلا زيادة شيء على ذلك - ومقتضاه حكم العقل بالتخيير بين الأفراد - فهذا معناه وجوب الأقل ، وأمّا إذا كان الثابت تحصيل عنوان عتق الرقبة وضم عنوان آخر معه كعنوان الإيمان أو أي عنوان آخر - الذي مقتضاه تعيين فرد خاص - فهذا معناه وجوب الأكثر.

وبعد هذا نعود للكتاب للتحدّث عن حالة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.

وقد تعرّض الى مطلبين : -

1 - متى يتحقّق دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير العقلي؟ للتعرف على ذلك نأخذ المثال التالي : لو علمنا أنّ المولى قال أطعم ولم ندر أنّه قال أطعم حيوانا - حتى يثبت التخيير عقلا بين إطعام أي فرد من أفراد الحيوان - أو قال أطعم إنسانا ليتعين إطعام خصوص الإنسان من بين أفراد الحيوان. ففي مثل ذاك تكون الحالة من الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.

إذن الضابط لتحقّق الدوران بين التعيين والتخيير العقلي هو العلم بتحقّق وجوب - كوجوب الإطعام - مردّد بين عنوان خاص كعنوان الإنسان وعنوان عام كعنوان الحيوان مع افتراض تغاير بين العنوانين في عالم المفهوميّة بينما في عالم الصدق الخارجي بينهما أعميّة وأخصيّة ، فعنوان الحيوان والإنسان لو نظرنا لهما في عالم المفهوميّة بما هما مفهومان وجدنا أنّ أحدهما مفهوم مغاير لمفهوم الآخر ولكنّهما في عالم الخارج والإنطباق أحدهما أعم صدقا والآخر أضيق صدقا.

2 - وبعد التعرّف على الحالة التي يتحقّق فيها الدوران بين التعيين والتخيير العقلي نأتي الآن للتعرّف على حكم الدوران المذكور فهل يجب فيه الإحتياط أو

ص: 464

البراءة؟

إنّ بالإمكان إبداء تفصيل حاصله : إنّا عرفنا أنّ الدوران بين التعيين والتخيير يحتاج إلى وجود مفهومين بينهما تغاير في عالم المفهوميّة. وتغاير المفهومين له حالتان : -

أ - أن يكون التغاير بينهما ثابتا بسبب اختلاف كيفية اللحاظ. مثال ذلك : مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان ، فإنّ مفهوم الحيوان على الرغم من كونه جزء من مفهوم الإنسان ، نشعر بوجود تغاير بينهما ، فمن أين نشأ هذا التغاير؟ إنّه نشأ من كيفية اللحاظ فإنّا لا نلحظ مفهوم الإنسان بما هو مركّب من مفهومين : الحيوان وزيادة ، كلاّ ، وإنّما نلحظه بما هو شيء واحد ، إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان.

وإن شئت استيضاحها أكثر فخذ بالمقارنة بين أربعة مفاهيم ، فقارن بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، هذا من ناحية ، وبين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان من ناحية اخرى. هل تجد بعد التأمل في المقارنتين وجود فارق بينهما؟

أجل في المقارنة الاولى لا نجد تغايرا بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، فإنّ المفهوم الثاني نفس المفهوم الأوّل مع زيادة إلاّ ان إنضمام الزيادة لا يستوجب تغايرا ، نظير ما إذا كان أمامنا كتاب المكاسب وحده ثم وضعنا الى جنبه كتاب الكفاية فهل بوضع كتاب الكفاية الى جانب المكاسب يتغير كتاب المكاسب؟ كلا لا يحصل تغير فيه ، كذلك الحال في مفهوم الحيوان الناطق فإنّه نفس مفهم الحيوان مع زيادة وليس بينهما تغاير.

ص: 465

وهذا بخلافه في المقارنة الثانية حيث يقضي وجداننا بوجود تغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان. ولكن من أين نشأ هذا التغاير والحال أنّ مفهوم الإنسان هو مفهوم الحيوان الناطق؟ ولماذا لم تتحقق المغايرة في المقارنة الاولى وتحققت في خصوص المقارنة الثانية؟ إنّ ذاك يعود الى أنّ مفهوم الأنسان وإن كان مركبا من مفهومين : مفهوم الحيوان ومفهوم الناطق إلاّ أنهما لم يلحظا بما هما مفهومان بل بما هما مفهوم واحد البس لباس الوحدة ، لوحظا بما هما مندمجان ، فالإنسان مفهوم واحد لوحظ فيه مفهوم الحيوان والناطق بنحو الوحدة واللف والإندماج والإجمال. إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين المفهومين.

ب - أن يكون الإختلاف بين المفهومين ثابتا بلحاظ ذاتهما لا بسبب اختلاف كيفية الملاحظة.

ومثال ذلك : ما لو علمنا أنّ المولى أصدر في حق زيد حكما معينا ولكن لا ندري هل هو أكرم زيدا أو أطعم زيدا ، فإن كان هو الأكرام فنحن بالخيار بين الإطعام وغيره من أفراد الإكرام ، وإن كان هو الإطعام فلا خيار في الأفراد الاخرى للإكرام.

واذا لا حظنا مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام لم نجد مفهوم الإكرام جزء من مفهوم الإطعام بحيث يكون مفهوم الإطعام مركبا من جزئين - أحدهما مفهوم الإكرام لوحظا بنحو الوحدة والإندماج حتى يكون التغاير بينهما ناشئا من اختلاف كيفية الملاحظة وإنّما هما مختلفان بلحاظ ذاتهما ، فمفهوم الإكرام في ذاته مغاير لمفهوم الإطعام وإن لم يكونا في عالم الخارج والإنطباق كذلك بل أحدهما

ص: 466

أعم والآخر أخص.

وبعد اتضاح شكلي التغاير هذين نقول : الدوران في الشكل الأوّل هو من الدوران بين الأقل والأكثر لانا لو لاحظنا عالم الذمة حصل لنا يقين باشتغال ذمتنا بإطعام الحيوان وشكّ في لزوم خصوصية الناطقية فتنفى بالبراءة حيث إنّ الإنسان مركب من جزئين : الحيوان والناطق ، وتوجه الوجوب الى الجزء الأول قطعي بينما توجهه الى الثاني مشكوك.

وقد تقول : المفروض في الشكل الأوّل ملاحظة الإنسان بما هو مفهوم واحد اندمجت فيه الحيوانية والناطقية ولا نلحظ الحيوانية متميزة عن الناطقية لنقول إنّ اشتغال الذمة بالحيوانية قطعي وبالناطقية مشكوك.

والجواب : إنّ خصوصية الإندماج والتفصيل من الخصوصيات الثابتة في عالم اللحاظ وليست من خصوصيات عالم الذمة ، فإنا لو لا حظنا الذمة لم نجدها مشغولة بنحو اليقين إلاّ بأحد الجزئين ، وهو الحيوانية ، فإنّ وجوب إطعامها ثابت يقينا سواء كان الثابت واقعا وجوب إطعام الإنسان أم وجوب إطعام الحيوان ، وهذا بخلاف الجزء الثاني ، فإنّه لم يعلم تعلق التكليف به فتجري البراءة عنه. هذا كله في الشكل الأوّل.

وأمّا الشكل الثاني فالدوران فيه دوران بين المتباينين والعلم الإجمالي فيه علم إجمالي بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر ، فإنّ التباين بين مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام ليس بخصوصيات ثابتة في عالم اللحاظ حتى يقال بعدم اشتغال الذمة بها بل تباينهما بلحاظ ذاتهما ، فامّا ذات مفهوم الإطعام داخلة في الذمة أو ذات مفهوم الإكرام ، وحيث انّ المفهومين المذكورين بينهما تباين في عالم

ص: 467

المفهومية - وإن لم يكن بينهما تباين بلحاظ عالم الخارج بل بينهما أعمية وأخصية - فالعلم الإجمالي المتردد بينهما علم إجمالي بين المتباينين (1).

هذا ولكن العلم الإجمالي المذكور وإن كان ثابتا إلاّ أنّه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه ، فانّ أصل البراءة عن وجوب خصوص الإطعام يجري بلا أن يعارض بأصل البراءة عن وجوب الإكرام ، إذ الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الإكرام إن كان إثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض الإتيان بالإطعام فهذا مستحيل إذ مع ترك الإكرام لا بدّ من ترك الإطعام لعدم إمكان الإتيان بالأخص عند ترك الأعم ، وإن كان لاثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض ترك الإطعام أيضا فهذا ترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يمكن أن يعبدنا الشارع به لإثبات الترخيص في المخالفة القطعية.

قوله ص 185 س 11 : فان مفهوم الإكرام ليس إلخ : فليس بينهما في عالم المفهومية عمومية وخصوصية وإنّما ذلك بلحاظ عالم الخارج.

قوله ص 186 س 12 : وفقا للجواب الأخير إلخ : المتقدم ص 173 من الحلقة.

ص: 468


1- ما ذكر قد يتأمل فيه باعتبار انه يمكن إذا نظرنا الى عالم الذمة دعوى أنّ الذمة مشغولة يقينا بما ينطبق عليه عنوان الإكرام - وهو الاطعام - والزيادة على ذلك مشكوكة فتجري البراءة عنها. وعليه يكون حال الشكل الثاني حال الشكل الأوّل تماما دون أي فرق.

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

اشارة

قوله ص 188 س 1 : ونتكلم في حكم هذا الدوران إلخ : ذكرنا سابقا انّ مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر أربعة وهذا رابعها ، وهو الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي (1) ، كما لو شكّ أن الشارع قال في حق المفطر متعمدا : أعتق أو قال : أعتق أو أطعم ، فانّه إن قال أعتق فمعناه أنّ الكفارة متعينة في العتق (2) وإن قال أعتق أو أطعم فمعناه أنّ الكفارة مخيرة بتخيير شرعي بين العتق والإطعام (3).

وقبل إيضاح حكم هذه الحالة وأنّه البراءة أو الإحتياط نذكر مقدمة حاصلها : تقدم في القسم الأوّل من هذه الحلقة انّ في حقيقة الوجوب التخييري الشرعي عدة آراء (4) نذكر منها : -

ص: 469


1- تقدم الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، ففي الأوّل يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد الشارع ، بان يتصدى الشارع نفسه لبيان أفراد التخيير فيقول مثلا : اعتق أو أطعم ، بينما في الثاني يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد هو العقل
2- ونتيجة هذا أن الواجب هو الأكثر حيث انّ خصوصية العتق التي هي خصوصية زائدة تكون واجبة
3- ونتيجة هذا ان الواجب هو الأقل حيث إنّ خصوصية العتق لا تكون واجبة. وبهذا يتضح الوجه في كون دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر
4- وأمّا حقيقة الوجوب التخييري العقلي فلم يقع فيها اختلاف وانّها عبارة عن وجوب الجامع الانتزاعي وهو عنوان الأحد فحينما يقول المولى آتني بكتاب ويفرض أنّ له عدة أفراد فالعقل يحكم بوجوب الإتيان باحدها.

1 - إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات مشروطة بعدد الأفراد ويكون وجوب كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ، فحينما يقال : أعتق أو أطعم فالمقصود العتق واجب ان لم تطعم ، والإطعام واجب إن لم تعتق.

وتوجيه هذا الاحتمال : انّه ما دام يوجد للمولى غرض واحد يتحقق بكل واحد من الأفراد فاللازم صيرورة كل واحد من الأفراد واجبا عند ترك بقية الأفراد تحصيلا لذلك الغرض الواحد.

2 - إنّ التخيير الشرعي لا يختلف عن التخيير العقلي بل هو هو ، فكما أنّ الوجوب في التخيير العقلي يكون متعلقا بعنوان أحد الأفراد كذلك في التخيير الشرعي يكون الوجوب متعلقا بعنوان أحد الأفراد ، فحينما يقال أعتق أو أطعم فالمقصود يجب أحدهما (1).

3 - إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات بعدد الأفراد ويكون كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ولكن لا لأجل وجود غرض واحد يحصل بكل واحد من الفردين كما كان يفترض ذلك في الرأي الأوّل بل لوجود اغراض متعددة بعدد الأفراد ، فالعتق له غرضه الخاص المستقل به والإطعام له غرضه الخاص أيضا إلاّ ان الغرضين متضادان بحيث لا يمكن عند حصول أحدهما تحصيل الآخر (2) ، ولأجل فرض هذا التضاد لم يأمر المولى بكل واحد

ص: 470


1- ممن بنى على هذا الرأي السيد الخوئي ( دام ظله ).
2- وهذا نظير شرب الشاي وأكل الرقي البارد فإنّ الإنسان لا يتناولهما عادة في وقت واحد ، وما ذاك إلاّ لأجل أن الغرض المقصود من شرب الشاي لا يجتمع مع الغرض من أكل الرقي البارد ، فلكل منهما غرض خاص به.

من الفردين أمرا تعيينيا بل أمر به مشروطا بترك الفرد الآخر (1).

وبعد عرض هذه المقدمة نأخذ ببيان حكم دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي وانّ الأصل هل يقتضي البراءة أو الإحتياط؟

إنّ التعرف على ذلك يرتبط بالمباني الثلاثة المتقدمة في حقيقة التخيير الشرعي : -

الحكم على المبنى الأوّل

1 - فإن أخذنا بالمبنى الأوّل القائل بانّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك بقية الأفراد فالأصل يقتضي البراءة من وجوب العتق تعيينا لأنّ المكلّف عند تركه للإطعام وإن جزم بوجوب العتق إلاّ أنّه عند إتيانه بالإطعام يحصل له الشكّ في وجوب العتق - لاحتمال أنّ وجوبه تخييري ، وقد فرضنا على هذا المبنى أنّ الوجوب التخييري يرجع الى وجوب العتق مشروطا بترك الإطعام فعند الإتيان بالإطعام يزول وجوب العتق - فينفى وجوبه بأصل البراءة ، وهذا معناه بحسب النتيجة العملية التخيير بين العتق والإطعام لأنّ المكلّف إذا أعتق كان ممتثلا جزما - سواء كان وجوب العتق تعيينيا أم تخييريا - وإن أطعم كفاه أيضا لأنّ الشكّ في لزوم الإتيان بالعتق بعد تحقق الاطعام شكّ في أصل التكليف فينفى بالبراءة كما قلنا.

ص: 471


1- هذا الرأي لم تتقدم الإشارة له في القسم الأوّل.

شبهة الشيخ العراقي وجوابها

والشيخ العراقي قدس سره اختار لزوم الإحتياط (1) عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بدعوى أنّه كما توجد في الوجوب التعييني حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها كذلك توجد في الوجوب التخييري حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها.

أمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني فواضحة فإنّ العتق لو كان واجبا على سبيل التعيين فلازم ذلك عدم الإكتفاء بالإطعام وتحتم تحصيل العتق حتى في حالة إيجاد الإطعام. وهذه الحيثية حيثية إلزامية يشكّ في ثبوتها فتنفى بأصل البراءة فتجري البراءة لنفي تعين العتق في حق من أطعم.

وأمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري فهي انّ التارك للعتق يحرم عليه ترك الإطعام لأنّه بترك الإطعام يتحقق ترك كلا فردي الواجب التخييري.

وهذه الحيثية ثابتة في الوجوب التخييري بالخصوص ، إذ على تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون ترك العتق بنفسه محرما سواء انضم إليه ترك الإطعام أم لا ، إذ ترك الإطعام يكون مباحا ، وضمه الى ترك العتق يكون من باب ضم المباح الى الحرام.

وهذه الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التخييري حيث يشكّ

ص: 472


1- ليس المقصود من لزوم الإحتياط وجوب الإتيان بكلا الفردين : العتق والإطعام ، بل المقصود أحد أمرين : إمّا الإتيان بالعتق فقط أو الإتيان بالعتق بعد الإطعام لو فرض سبق الإطعام ، هذا هو المقصود من الإحتياط لأنّه بذلك يحصل اليقين ببراءة الذمة.

في ثبوتها فأصل البراءة يقتضي نفيها كما اقتضى نفي الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التعييني. وبتعارض أصلي البراءة في نفي الحيثيتين يكون العلم الإجمالي منجزا ويلزم الإحتياط ، وذلك امّا بان يأتي المكلّف بالعتق فقط أو بالعتق بعد الإطعام.

والخلاصة : انّه اتضح انّ الحكم على المبنى الأوّل من المباني الثلاثة في حقيقة التخيير الشرعي هو تخير المكلّف في مقام العمل بين العتق والإطعام واستندنا في ذلك الى أنّ المكلّف لو أطعم فسوف يشك في وجوب العتق ، وأصل البراءة يقتضي نفي وجوب العتق المشكوك. إننا بأصل البراءة هذا نفينا الحيثية الإلزامية للوجوب التعييني ، والشيخ العراقي حاول ابراز الحيثية الإلزامية للوجوب التخييري ونفيها بأصل البراءة ليكون ذلك معارضا لأصل البراءة الأوّل (1).

هذا حصيلة ما أفاده العلم المذكور وهو وإن كان مطلبا لطيفا إلاّ أنّه قابل للمناقشة ، فإنّ الأصل الذي أبرزه لا يمكن أن يجري حتى يكون معارضا للأصل الأوّل ، فإنّ الأصل الذي ابرزه لو جرى لكان لازمه الترخيص في ترك الإطعام في حق من ترك العتق ، وهذا ترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية - فان ترك الإطعام في حق التارك للعتق مخالفة قطعية - وواضح أنّ الأصل لا يجري للترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية.

وهذا بخلاف الأصل الأوّل الذي تمسكنا به وهو البراءة عن وجوب العتق في حق من أطعم فإنّ أقصى ما يلزم من جريانه المخالفة الإحتمالية لا المخالفة

ص: 473


1- والإلتفات الى هذا المطلب بحق التفات جميل وموضع للتقدير.

القطعية.

وعليه فالعلم الإجمالي بثبوت إحدى الحيثيتين الإلزاميتين وإن كان ثابتا إلاّ أنّه منحل حكما ، بمعنى عدم كونه منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثاني

2 - وإن أخذنا بالمبنى الثاني - القائل بأنّ التخيير الشرعي والتخيير العقلي ذو حقيقة واحدة حيث انّ الوجوب فيهما معا يكون متعلقا بالجامع الانتزاعي ، أي عنوان أحد الطرفين أو الأطراف - فالأمر يكون دائرا بين تعلق الوجوب امّا بمفهوم أحد الطرفين أو بخصوص العتق ، إذ على تقدير الوجوب التخييري يكون التكليف متعلقا بمفهوم أحد الطرفين وعلى تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون التكليف متعلقا بخصوص العتق. وهذا معناه حصول علم إجمالي بين المتباينين ، فإنّ العتق مباين لمفهوم أحد الطرفين وليس أحدهما أقل والآخر أكثر.

ولكن هذا العلم الإجمالي رغم أنّه مردد بين المتباينين لا يكون منجزا لعدم تعارض الاصول في طرفيه ، فإنّ أصالة البراءة عن وجوب العتق تجري ولا تعارض بأصالة البراءة من وجوب مفهوم أحدهما ، إذ الغرض من إثبات البراءة عن أحدهما إن كان هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من أتى بالعتق فهذا مطلب غير معقول ، فإنّ الآتي بالعتق ات بمفهوم أحدهما ولا يمكن أن يكون تاركا له.

وإن كان الغرض هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من لم يأت بالعتق فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري لإثبات

ص: 474

الترخيص في المخالفة القطعية.

اذن العلم الإجمالي بين المتباينين ثابت ولكنه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه. وهذا نظير ما تقدم في المبحث السابق - دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي - عند الشكّ في ثبوت الوجوب لإكرام زيد أو لخصوص إطعامه ، حيث إتضح هناك تشكل علم إجمالي بين المتباينين لكنه ليس بمنجز لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثالث

3 - وإن أخذنا بالمبنى الثالث - القائل برجوع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك الآخر لأجل وجود غرضين لا يمكن مع حصول أحدهما تحصيل الآخر - فالمكلّف قبل إتيانه بالإطعام يعلم بقدرته على تحصيل الغرض من العتق وتعلق وجوب العتق به ولكن بعد إتيانه بالإطعام يشكّ في بقاء قدرته على تحصيل الغرض من العتق وإمكان امتثاله للتكليف ، ومعه يكون المورد من موارد الشكّ في طرو العجز وانتفاء القدرة ، وفي مثله يحكم العقل بالاشتغال ، فإنّ القدرة على إمتثال الحكم والإتيان بالملاك متى ما كانت متحققة في زمان وشكّ في انتفائها بعد ذلك فلا محيص عن الاحتياط عقلا.

قوله ص 188 س 9 : بعض إفادات إلخ : أي تقريرات درسه الشريف.

قوله ص 189 س 11 : فالبراءة عن وجوب العتق ممن أطعم : وهي البراءة التي تمسك بها السيد الشهيد على المبنى الأوّل المشار لها ص 188 س 7 من الحلقة.

قوله ص 190 س 4 : مطلقا : أي بالإطعام أو بغيره.

ص: 475

قوله ص 190 س 5 : وثالثا : نأخذ المبنى إلخ : هذا المبنى لم يشر له في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ، إلاّ أنّه مشار له في كلمات الآخوند في مبحث الوجوب التخييري.

ثم انّه أشرنا فيما سبق الى الفرق بين هذا المبنى والمبنى الأوّل ، وهو أنّه على الأوّل يوجد غرض واحد بينما على الثالث يوجد غرضان.

وهناك فرق آخر وهو انّه على الأوّل يكون عدم الإتيان بأحد الطرفين شرطا في إتصاف الطرف الآخر بالملاك فعلا ، بينما على الثالث يكون الملاك ثابتا بالفعل في كلا الطرفين حتى مع الإتيان بالطرفين معا غاية الأمر يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل أحد الملاكين مع الإتيان بالطرف الآخر.

قوله ص 190 س 11 : هل يعجز : بتشديد الجيم.

ص: 476

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

اشارة

قوله ص 191 س 1 : فرغنا من المسائل الأساسية إلخ : بعد فراغه قدس سره من المباحث الأساسية (1) في حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر أخذ في بيان بعض المطالب الجانبية التي ترتبط بذلك تحت عنوان ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر (2).

الملاحظة الأولى أو دور الاستصحاب في هذا الدوران

اشارة

والملاحظة الاولى من هذه الملاحظات هي أنّ بعض الاعلام تمسك بالاستصحاب عند الدوران بين الأقل والأكثر.

والتمسك بالاستصحاب له شكلان فمرة يتمسك به لإثبات الاحتياط ولزوم الاتيان بالأكثر واخرى يتمسك به لإثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل.

وقبل استعراض هذين الشكلين للاستصحاب نذكر مقدمتين : -

1 - إنّ الاستصحاب ذو شكلين فتارة يكون استصحابا لأمر جزئي واخرى لأمر كلي.

ص: 477


1- كبيان أنّ حالة التردد بين الأقل والأكثر ذات مصاديق أربعة وبيان حكم كل مصداق.
2- والكتب القديمة تطلق على مثل هذه الملاحظات اسم التنبيهات.

أمّا استصحاب الجزئي فمثاله اليقين بحياة زيد سابقا والشكّ في بقائه على قيد الحياة بعد ذلك فيجري استصحاب بقائه. وهو استصحاب لأمر جزئي فإنّ حياة زيد أمر جزئي.

وأمّا استصحاب الكلي فهو على أقسام ثلاثة : -

أ - أن يتيقن من وجود كلي الإنسان في المسجد بسبب وجود زيد فيه ثم يشكّ في بقاء الكلي فيه بسبب الشكّ في بقاء زيد.

وفي هذه الحالة اتفق الاصوليون على صحة جريان استصحاب بقاء الكلي كما ويصح استصحاب بقاء الجزئي ، فإذا كان يترتب على بقاء كل منهما أثر صح استصحابها معا ، وإذا كان الأثر مترتبا على أحدهما فقط صح استصحاب ما يترتب عليه الأثر خاصة.

ومثاله الشرعي : ما إذا صار الإنسان محدّثا بسبب البول فإنّه يصح له استصحاب كلي الحدث وترتيب أثره إن كان له أثر خاص به كما ويصح استصحاب الحدث الجزئي الحاصل بسبب البول.

ب - ان يتيقن من وجود الكلي سابقا ضمن أحد فردين أحدهما طويل العمر والآخر قصير العمر ، كما إذا علم بوجود حيوان ذي خرطوم في الغرفة وشكّ أنّه البق أو الفيل - حيث إنّ كلا منهما له خرطوم - وبعد مضي يوم أو يومين شكّ في بقاء كلي الحيوان بسبب التردد في المصداق ، فإنّه إذا كان ذو الخرطوم هو الفيل فهو باق جزما وإن كان هو البق فهو ميت جزما فلتردد مصداق الكلي بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الإرتفاع يحصل الشك في بقاء الكلي.

ومثاله الشرعي : ما إذا أحدث الإنسان بحدث مردد بين الأصغر والأكبر

ص: 478

ثم توضأ فسوف يشكّ في بقاء كلي الحدث ، فإنّه إن كان حدثه أكبر فهو باق جزما وإن كان أصغر فهو مرتفع جزما.

والمشهور في هذا القسم جريان استصحاب الكلي. أجل لا يصح استصحاب الجزئي لأنّه إن كان المقصود استصحاب الحدث الأصغر فهو متيقن الإرتفاع بسبب الوضوء وإن كان المقصود استصحاب الحدث الأكبر فهو مشكوك الحدوث منذ البداية فلا معنى لاستصحابه.

ج - ان يتيقن من وجود الكلي ضمن فرد ثم يتيقن من ارتفاع الفرد ولكن يحتمل حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الأوّل ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ضمن زيد ثم علم بخروج زيد ولكن احتمل دخول عمرو حين خروج زيد.

ومثاله الشرعي ما إذا علم المكلّف بصدور كلي الحدث منه بسبب صدور الحدث الأصغر ثم توضأ وحصل له العلم بارتفاع الحدث الأصغر ولكنه شكّ في بقائه على كلي الحدث بسبب احتمال صدور الحدث الأكبر منه مقارنا لارتفاع الحدث الأصغر أو حينما كان الحدث الأصغر ثابتا.

والمشهور في هذا القسم عدم جريان استصحاب الكلي كما أنّ الجزئي لا يجري استصحابه ، فإنّ زيدا يعلم بخروجه فلا معنى لاستصحاب بقائه ، وعمروا لا يقين بحدوثه كي يستصحب. هذا حاصل المقدمة الاولى (1).

2 - إنّ المعروف بين الاصوليين عدم حجّية الأصل المثبت.

ص: 479


1- ويأتي مضمون هذه المقدمة في مبحث الاستصحاب إنشاء اللّه تعالى.

والمقصود منه إجراء الأصل في شيء لا لغرض اثبات ذلك الشيء ولا لاثبات لازمه الشرعي بل لإثبات لازمه غير الشرعي. فالأصل المثبت على هذا يعني إجراء الأصل في شيء لإثبات لازمه غير الشرعي ، كمن يستصحب بقاء ولده على قيد الحياة لا لغرض إثبات نفس الحياة ولا إثبات اللازم الشرعي للحياة - كارثه لو مات أحد أقربائه - بل لأثبات نبات لحيته الذي هو لازم غير شرعي ، إذ لا توجد آية أو رواية تقول من كان باقيا على قيد الحياة فلحيته نابتة. هذا حاصل المقدمة الثانية. وبعد ذلك نرجع الى ما كنا بصدده.

ذكرنا أنّ الاستصحاب اجري بشكلين فتارة اجري لاثبات وجوب الاحتياط واخرى لإثبات البراءة.

الاستصحاب لاثبات الاحتياط

أمّا الاستصحاب لإثبات الإحتياط فيمكن أن يقال في تقريبه انّ المكلّف قبل أن يشرع في الصلاة يعلم بثبوت وجوب عليه مردد بين وجوب تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فاذا أتى بتسعة أجزاء ولم يأت بالجزء العاشر فسوف يشكّ في بقاء وجوب الصلاة عليه لاحتمال أنّ الوجوب كان متعلقا بعشرة أجزاء والمفروض عدم امتثاله.

وفي هذه الحالة يمكن استصحاب الوجوب ولكن لا وجوب التسعة ليقال انّه ساقط جزما بسبب الاتيان بالأجزاء التسعة ولا وجوب العشرة ليقال بأنّ وجوبها ليس متيقنا سابقا كيما يستصحب ، بل يستصحب كلي الوجوب المردد بين وجوب التسعة ووجوب العشرة الذي هو من قبيل استصحاب الكلي من

ص: 480

القسم الثاني ، حيث إنّ الوجوب مردد بين ما هو باق قطعا وبين ما هو مرتفع قطعا فإنّ الوجوب الثابت إن كان وجوب التسعة فهو مرتفع جزما وإن كان وجوب العشرة فهو باق جزما.

وحيث انّ المفروض في استصحاب الكلي من القسم الثاني جريانه فيجري استصحاب كلي الوجوب ويثبت بذلك لزوم الاحتياط.

وقد نوقش هذا الاستصحاب بعدة مناقشات. ونحن نذكر هذه المناقشة : ما الغرض من استصحاب بقاء كلي الوجوب؟ فهل الغرض إثبات وجوب الجزء العاشر - أو بكلمة اخرى إثبات تعلق الوجوب بالأكثر - بتقريب أنّ وجوب الصلاة إذا كان باقيا ولم يسقط بالإتيان بالاجزاء التسعة فهذا معناه تعلق الوجوب بالأكثر ، أو أنّ الغرض مجرد إثبات بقاء الوجوب الكلي بلا إثبات تعلقه بالأكثر.

فإن كان الغرض هو الأوّل كان الاستصحاب أصلا مثبتا - وهو ليس بحجّة - اذ لا توجد آية أو رواية تقول اذا كان الوجوب الكلي باقيا بعد الاتيان بالاقل فلازم ذلك شرعا تعلق الوجوب بالأكثر وإنّما هي ملازمة عقلية.

وإن كان الغرض هو الثاني - أي مجرد إثبات بقاء كلي الوجوب - فالاستصحاب لا يكون مثبتا ولكنه ليس بنافع لأنّ الوجوب الكلي كان ثابتا على سبيل الجزم واليقين قبل الأشتغال بالصلاة ولم يكن مجديا في إثبات وجوب الاحتياط بل كانت البراءة تجري عن وجوب الأكثر - ولذا احتيج الى التمسك بالاستصحاب لأثبات وجوب الاحتياط - فكيف بثبوته الاستصحابي فإنّه أولى بعدم اقتضائه لوجوب الاحتياط.

ص: 481

الاستصحاب لإثبات البراءة

ويمكن أن يقال في تقريب الاستصحاب لإثبات البراءة انّه لو نظرنا الى زمان ما قبل دخول الوقت أو ما قبل التشريع الاسلامي أو الى صدر التشريع لجزمنا بعدم ثبوت الوجوب لا للتسعة أجزاء ولا للعشرة ، فإذا دخل الوقت جزمنا بانتقاض عدم ثبوت الوجوب للتسعة الى اليقين بثبوت الوجوب لها ، وأمّا عدم ثبوت الوجوب للعشرة - أو بالأحرى عدم ثبوت الوجوب للجزء للعاشر - فلا نجزم بانتقاضه بل نحتمل بقائه على العدم فيجري استصحاب بقائه. وبذلك تثبت نتيجة البراءة ، أي انتفاء وجوب العشرة أو بعبارة اخرى انتفاء وجوب الجزء العاشر ، وهو المطلوب.

وقد يقال انّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر وهو استصحاب عدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإنّه قبل دخول الوقت كنا نجزم بعدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإذا دخل الوقت حصل الشكّ في تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة - فإنّ التسعة بعد دخول الوقت وإن كنا نجزم بوجوبها ولكن بوجوب أعم من الاستقلالي والضمني ، وأمّا خصوص الوجوب الاستقلالي فلا نجزم بثبوته لها - فيجري استصحاب بقائه على العدم.

والجواب عن هذه المعارضة : إن استصحاب عدم تعلّق الوجوب الاستقلالي بالتسعة لا يجري ، إذ الغرض منه إن كان هو إثبات تعلّق الوجوب الاستقلالي بالعشرة أو بالأحرى ثبوت الوجوب للجزء العاشر ، فهذا أصل مثبت إذ لم تدلّ آية ولا رواية على أنّ الوجوب الاستقلالي إذا لم يثبت للتسعة

ص: 482

فالجزء العاشر واجب.

وإن كان الغرض إثبات الترخيص في ترك التسعة فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعيّة ، فإنّ ترك التسعة معناه ترك الأقل وترك الأكثر ، وهو مخالفة قطعيّة للوجوب ، والأصل لا يجري للتأمين عن المخالفة القطعية.

ومن خلال بطلان هذا الأصل المعارض يتّضح صحّة جريان استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر الثابت قبل دخول الوقت لإثبات البراءة.

قوله ص 191 س 5 : لإثبات نتيجة البراءة : أي انتفاء الوجوب عن الجزء العاشر أو انتفاء تعلّق الوجوب بالأكثر.

قوله ص 192 س 2 : لأنّ ذلك هو لازم بقائه : أي لأنّ ثبوت الوجوب للعشرة هو لازم بقاء كلّي الوجوب.

قوله ص 192 س 3 : لأنّه لازم عقلي أي ثبوت الوجوب للعشرة لازم عقلي لبقاء كلّي الوجوب.

قوله ص 192 س 9 : الثابت : صفة لعدم وجوب لا لوجوب.

قوله ص 192 س 9 : أو في صدر عصر التشريع : أو قبل البلوغ أو قبل عصر التشريع أو عند الجنون - إن كانت هناك حالة جنون سابقة - فإنّه في كلّ هذه الحالات لم يكن وجوب للجزء العاشر فيجري استصحاب بقائه.

ص: 483

ص: 484

الملاحظة الثانية أو الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

قوله ص 192 س 16 : إذا تردّد أمر شيء إلخ : والملاحظة الثانية من الملاحظات المرتبطة ببحث الأقل والأكثر هي أنّه إذا دار أمر الشيء بين أن يكون جزء أو مانعا فما هو الموقف؟

مثال ذلك : ما إذا شكّ المصلّي في قراءة السورة بعد دخوله في القنوت الذي هو جزء مستحب ، فإنّ الشكّ المذكور إن كان يصدق عليه عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل - بناء على أنّ التجاوز عن المحل يتحقّق بالدخول في الجزء المستحب أيضا - فلا يجب الاتيان بالسورة بل يكون الاتيان بها مانعا من صحّة الصلاة ، لأنّه زيادة مبطلة ، وإن لم يصدق عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل فالاتيان بها واجب ويكون جزء من الصلاة. اذن الاتيان بالسورة في هذه الحالة يدور أمره بين الجزئيّة والمانعيّة ، فما هو الموقف؟

والجواب : انّه في الحالة المذكورة يحصل علم اجمالي امّا بوجوب الاتيان بالسورة أو بوجوب عدمه. وأصل البراءة عن الطرف الأوّل حيث انّه معارض بأصل البراءة عن الطرف الثاني فيكون العلم الاجمالي منجّزا ويجب الاحتياط بمعنى وجوب إكمال الصلاة بلا تكرار السورة ثمّ إعادتها مع السورة من جديد.

هذا إن كان في الوقت سعة ، وإلاّ اكتفي بإكمال الصلاة لمنجزيّة العلم الاجمالي.

ص: 485

وفي مقابل هذا قد يقال بأنّ العلم الاجمالي السابق ليس منجّزا لأنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الاجمالي - على ما مر ص 110 من الحلقة - يقول إنّ العلم الاجمالي لا يكون منجّزا إلاّ إذا كان جريان الاصول في الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة (1) ، وواضح أنّ الركن المذكور غير متوفر لأنّ جريان الاصول لا يثبت جواز المخالفة القطعيّة ، إذ المكلّف امّا أن يأتي بالسورة ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة - ولا يحصل القطع بالمخالفة ، أو يتركها ، وفي ذلك أيضا احتمال الموافقة والمخالفة ولا يقطع بالمخالفة.

فإن قيل : إن جريان الاصول في الأطراف يلزم منه المخالفة القطعيّة ، فإنّ المكلّف إذا ترك الصلاة ولم يأت بها أصلا تحقّقت بذلك المخالفة القطعيّة.

قلنا : صحيح انّه بترك الصلاة رأسا تتحقّق المخالفة القطعيّة ، ولكن مثل هذه المخالفة القطعيّة لم تنشأ من جريان الاصول في الأطراف - فإنّ أقصى ما ينشأ من جريان الاصول في الأطراف الترخيص في فعل السورة وفي تركها ، ولا ينشأ منه جواز ترك الصلاة رأسا - بل ذاك ناشىء من ترك الاجزاء معلومة الوجوب.

أجل يمكن أن يكون جريان الاصول في الأطراف في مقامنا موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة فيما إذا كان الجزء المشكوك ممّا يعتبر فيه قصد القربة على تقدير جزئيته كما هو الحال في السورة ، فإنّه على تقدير وجوب الاتيان بها

ص: 486


1- هذا بناء على صيغة الميرزا للركن الرابع. وأمّا على صيغة السيّد الخوئي القائلة بأنّ شرط منجّزيّة العلم الاجمالي أن يكون جريان الاصول موجبا لترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل ، فالركن الرابع متوفر لأنّه بجريان أصل البراءة في الطرفين يقطع بترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل.

يلزم الاتيان بها بقصد القربة ، فإذا جرى الاصل عن وجوب الاتيان بالسورة وعن وجوب عدمه جاز للمكلّف الاتيان بها ولو من دون قصد القربة ، وبذلك تتحقّق المخالفة القطعيّة ، فإنّه على تقدير جزئيّة السورة فالمفروض أنّه لم يأت بها بقصد القربة ، وعلى تقدير المانعيّة فالمفروض أنّه لم يتركها (1).

ص: 487


1- هذا ويمكن ان يقال انّ جريان الأصلين لا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة ، أذ جريانهما يقتضي جواز الاتيان بالسورة بقصد القربة وجواز ترك السورة ولا يقتضي جواز الاتيان بها بدون قصد القربة حتى تتحقّق المخالفة القطعيّة.

ص: 488

الملاحظة الثالثة أو الأقل والأكثر في المحرّمات

التردّد بين الأقل والأكثر تارة يكون في باب الواجبات ، واخرى في باب المحرّمات.

مثال التردّد في الواجبات : تردّد أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة.

ومثال التردّد في المحرّمات : ما إذا فرض حرمة تصوير الإنسان وحصل التردّد في أنّ المحرّم هل تصوير الإنسان بكامل أجزائه أو المحرّم تصوير رأسه بالخصوص وإن لم يضم له تصوير باقي الأجزاء.

وحرمة تصوير الإنسان الكامل معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأكثر ، بينما حرمة تصوير الرأس بالخصوص معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأقل فيكون الحرام مردّدا بين الأقل والأكثر.

وكلامنا إلى الآن كان في تردّد الواجب بين الأقل والأكثر. وأمّا تردّد الحرام بين الأقل والأكثر فهل فيه موضع اختلاف مع تردّد الواجب أو أنّ التردّد في كلا البابين من واد واحد ولا يوجد أي اختلاف بينهما؟

والميرزا نفى وجود امتياز بين البابين. هذا ولكن بالإمكان إبراز فرقين : -

1 - لو نظرنا إلى تردّد الواجب وجدنا أنّ تعلّق الوجوب بالأكثر فيه تضييق ومؤونة على المكلّف أكبر ممّا لو كان الوجوب متعلّقا بالأقل ، فإنّ تعلّق الوجوب بالأكثر يعني لزوم الاتيان بعشرة أجزاء بينما تعلّقه بالأقل يعني لزوم

ص: 489

الاتيان بتسعة ، ومن الواضح انّ الاتيان بالعشرة يشتمل على مشقّة أكبر لاشتمال العشرة على زيادة مفقودة في التسعة.

بينما لو نظرنا إلى تردّد الحرام وجدنا القضيّة بالعكس ، فحرمة الأقل فيها تضييق على المكلّف أكبر ممّا لو كانت الحرمة متعلّقة بالأكثر إذ حرمة الأقل تعني حرمة رسم الرأس حتى مع عدم ضم بقية الأجزاء ، بينما حرمة الأكثر تعني عدم حرمة رسم الرأس وحده وإنّما يحرم لو انضمّ رسمه إلى رسم بقيّة الأجزاء.

2 - إنّ التردد بين الأقل والأكثر في باب الواجبات كانت له مصاديق متعددة ، فمنها الشكّ في الجزئية ، ومنها الشكّ في الشرطية ، ومنها التردد بين التعيين والتخيير.

وأمّا التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات فليست له جميع هذه المصاديق بل ينحصر في مصداق واحد ، وهو التردد بين التعيين والتخيير ، فحينما تتردد حرمة التصوير بين الرأس وكامل الجسم فهذا معناه تردد الحرام بين التعيين والتخيير ، فإنّ حرمة تصوير كامل الجسم تعني أنّ المكلّف يجب عليه ترك تصوير بعض الإجزاء فهو امّا ان يترك تصوير الرأس أو يترك تصوير اليد ، وهكذا ، إنّه يجب عليه على سبيل التخيير ترك رسم أحد الأجزاء ، بينما حرمة تصوير الرأس تعني وجوب ترك تصوير خصوص الرأس وتعين ذلك بالخصوص عليه.

إذن تردد حرمة التصوير بين كامل الجسم وخصوص الرأس تعني بعبارة اخرى التردد بين التخيير والتعيين.

وما دام التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات يعني التردد بين التعيين

ص: 490

والتخيير فما ذكرنا من الحكم حالة التردد بين التعيين والتخيير يجري نفسه حالة تردد المحرم بين الأقل والأكثر.

وقد ذكرنا حالة تردد الواجب بين تعين العتق والتخيير بين العتق والإطعام انّ الأصل يجري لنفي تعين العتق ، إذ في تعينه كلفة وضيق زائد على المكلّف فينفى بالأصل ، وهذا بخلاف التخيير بين العتق والإطعام فإنّ الأصل لا يجري لنفيه إذ الحيثية الإلزامية الثابتة للوجوب التخييري هي حرمة ضم ترك الإطعام الى ترك العتق ، وواضح أنّ مثل هذه الحرمة لا تجري البراءة لنفيها لأن لازمها الترخيص في المخالفة القطعية.

إنّ هذا نفسه يجري حالة تردّد الحرام بين الأقل والأكثر ، فحرمة الأقل حيث تشتمل على ضيق زائد على المكلّف فالأصل يجري لنفيها ، وأمّا حرمة الأكثر فلا تجري البراءة عنها إذ حرمة تصوير الجسم بكامله قضية جزمية فجريان البراءة عنها يعني الترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري إذا لزم منه ذلك.

ص: 491

ص: 492

الملاحظة الرابعة أو الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر

اشارة

إنّ التردد بين الأقل والأكثر له حالتان فتارة يكون في شبهة حكمية واخرى في شبهة موضوعية ، فالمكلّف إذا شكّ في شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه شرعا ولم يحصل له اليقين بجعل الشرطية المذكورة حصل له التردد بين الأقل والأكثر ، فإن كانت الشرطية ثابتة فمعناه وجوب الأكثر وإن لم تكن ثابتة فمعناه تعلق الوجوب بالأقل.

وهذا التردد كما نراه نشأ من الشكّ في أصل الجعل فلم يعلم أنّ الشارع جعل الشرطية المذكورة أو لا.

إنّ مثل هذه الشبهة شبهة حكمية حيث انّ الشكّ فيها شكّ في أصل الجعل والحكم الكلي ، ومتى ما كان الشكّ في أصل الجعل والحكم الكلي كانت الشبهة حكمية.

أمّا إذا فرض انّا على يقين من جعل شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه ولم نكن على شكّ من ذلك حتى تكون الشبهة حكمية وإنّما كان الشكّ في المصداق الخارجي ، كما لو أهدي لنا ثوب ولم نعلم انّه مصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه حتى تكون صحة الصلاة مشروطة بعدم لبسه أو هو غير مصنوع من ذلك حتى لا تكون صحة الصلاة مشروطة بذلك ، ففي هذا المثال يحصل الشكّ في شرطية عدم لبس الثوب المذكور ، وهذا شكّ في الشرطية في

ص: 493

شبهة موضوعية حيث يشكّ في شرطية عدم لبس هذا الثوب بالخصوص ولا يشكّ في أصل جعل الشرطية.

ونحن قد عرفنا سابقا أنّ الشكّ في الشرطية في الشبهة الحكمية مجرى للبراءة ، فالأقل معلوم الوجوب والشرطية المشكوكة تجري البراءة لنفيها.

وعلينا الآن أن نعرف حكم الشكّ في الشرطية في باب الشبهة الموضوعية ، فاذا شك في شرطية عدم لبس هذا الثوب المهدى فهل تجري البراءة أيضا أو لا (1)؟ نعم تجري البراءة حيث انّ الأجزاء والشرائط الأقل يعلم بوجوبها فإذا شكّ في الشرطية الزائدة جرت البراءة لنفيها ، فيقال إنّ لبس هذا الثوب المهدى يشكّ في مانعيته أو بعبارة اخرى يشكّ في شرطية عدمه أو بعبارة ثالثة يشكّ في تقيد الصلاة بعدمه ، والأصل يقتضي البراءة من ذلك.

سؤال وتوضيح

إنّ الشرط الواجب في الصلاة أو الجزء الواجب فيها له حالتان ، فتارة يكون له موضوع في الخارج يتعلق به ، واخرى لا يكون له ذلك.

مثال الأوّل : لبس الثوب المصنوع ممّا يحل أكل لحمه ، فإنّ اللبس شرط في

ص: 494


1- وهذه هي المسألة المعروفة بمسألة اللباس المشكوك ، فإنّ من إحدى المسائل التي بحثها الفقهاء ووقعت معتركا لآرائهم هي المسألة المذكورة. وحاصلها : إنّ من كان يلبس لباسا يشكّ في كونه من حيوان يحل أكل لحمه أو لا ، أو فرض ان على بدنه شعرة يشكّ هي من حيوان يحل أكل لحمه أو لا فما هو الموقف؟ والفقهاء حينما عالجوا المسألة المذكورة من زاوية الاصول العملية قالوا إنّ الأصل يقتضي عدم مانعية لبس الثوب المذكور أو بتعبير آخر عدم شرطية عدم لبسه.

صحّة الصلاة وهو واجب ضمني فيها - فإنّ كل شرط واجب ضمني - واذا لاحظناه وجدناه متعلقا بموضوع خارجي فلا بدّ من وجود ثوب في الخارج ليكون لبسه شرطا في صحّة الصلاة ، فالواجب الضمني المذكور - وهو اللبس - له تعلق بموضوع خارجي.

ومثال الثاني : السورة في الصلاة ، فإنّها جزء وواجب ضمني في الصلاة - فإنّ كل جزء واجب ضمني - إلاّ أنّه ليس لها تعلق بموضوع خارجي فلا يوجد موضوع في الخارج تكون السورة متعلقة به.

وباتضاح هذا نقول : إنّ تحقق التردد بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية واضح في الحالة الاولى ، أي حالة تعلق الواجب الضمني بموضوع خارجي فيمكننا بوضوح تصور الأقل والأكثر ، حيث يشار الى الثوب الخارجي المهدى ويقال إنّ شرطية عدم لبسه مشكوكة ، فإن كان عدم لبسه شرطا فمعناه وجوب الأكثر وإن لم يكن شرطا فمعناه وجوب الأقل. إنّ هذا تردد بين الأقل والأكثر في شبهة موضوعية ، وهو واضح.

والسؤال الذي نريد طرحه هو : انّ الحالة الثانية - التي لا يوجد فيها موضوع خارجي يتعلق به الواجب الضمني - هل يمكن فيها أيضا تصور التردد بين الأقل والأكثر أو لا؟ أجاب الميرزا عن هذا السؤال بالنفي وقال إنّه لا يمكن التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية.

والنكتة في ذلك تكاد أن تكون واضحة إذ لا يوجد موضوع في الخارج ليشار له ويقال إنّا نشكّ في شرطيته أو جزئيته حتى يحصل بذلك التردد بين الأقل والأكثر ، وهذا بخلافه في الحالة الاولى إذ يوجد ثوب خارجي يمكن أن

ص: 495

يشار له ويقال إنّا نشكّ في أنّ عدم لبسه شرط أو لا فيحصل التردد بين الأقل والأكثر.

هذا ما أفاده الميرزا.

هذا والصحيح إمكان تصور التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية أيضا ، كما لو فرضنا أنّ الشارع جعل السورة جزءا في حق غير المريض وشكّ المكلّف أنّه مريض أو لا ، إنّ شكه في حالته وانّه مريض أو لا يستلزم الشكّ في ثبوت جزئية السورة في حقه ، فإن كان مريضا فالسورة لا تكون جزءا في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأقل ، وإن لم يكن مريضا فالسورة جزء في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأكثر.

قوله ص 196 س 1 : للواجب الضمني : أي الجزء أو الشرط ، فإنّ كلا منهما واجب بوجوب ضمني.

قوله ص 196 س 3 : كما في هذا المثال : أي مثال الشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا.

ص: 496

الملاحظة الخامسة أو الشكّ في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط

اشارة

قوله ص 196 س 9 : كنا نتكلم عمّا إذا شكّ إلخ : الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته له حالتان ، فتارة يشكّ في أصل ثبوت الجزئية والشرطية فلا يعلم أن الشارع هل جعل السورة جزءا أو لا ، واخرى يفرض العلم بجعل السورة جزءا ولكن يشك في ضيق الجعل وسعته ، فلا يعلم هل جعلت السورة جزءا حتى في حالة السفر والمرض مثلا أو أن يد الجعل لم تمتد الى هذه الحالات.

وحديثنا السابق كان كله ناظرا الى الحالة الاولى ، أي حالة الشكّ في أصل جعل الجزئية أو الشرطية ، وكنا نقول انّ الأقل حيث انّه متيقن الوجوب فتجري البراءة عن وجوب الجزء الزائد المشكوك.

وأمّا الحالة الثانية - أي الشك في شمول الجزئية لحالة المرض مثلا - فهي محط بحثنا الآن.

والحكم فيها هو الحكم في الحالة الاولى ، إذ في هذه الحالة يشك أيضا في جعل الجزئية للسورة ، فالأقل معلوم الوجوب ، والجزء الزائد وهو السورة يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

أجل الفرق بين الحالتين انّه في الحالة الاولى يشكّ في جعل الجزئية للسورة لا في حالة معينة بل في جميع الحالات ، وأمّا في الحالة الثانية فيشكّ في جعل الجزئية في حالة معينة ، وهي حالة المرض فيحصل التردد بين الأقل

ص: 497

والأكثر بلحاظ حالة المرض ، ففي حالة المرض تتردد الأجزاء بين العشرة والتسعة ويشكّ في أن السورة جزء أو لا ، فتجري البراءة عن وجوب السورة بعد أن كان وجوب بقية الأجزاء معلوما.

هذا إذا لم يكن لدليل جزئية السورة إطلاق يثبت بواسطته عموم جعل الجزئية لحالة المرض ، وأمّا مع وجود الإطلاق فيؤخذ بالإطلاق وتثبت به جزئية السورة في حالة المرض أيضا (1).

وهذا كله على العموم مما لا اشكال فيه. وإنّما وقع الإشكال في حالتين : حالة نسيان بعض الأجزاء ، حيث يوجد للشيخ الأعظم اشكال فيها وحالة تعذر بعض الأجزاء. وسوف نأخذ بالتكلم عن هاتين الحالتين.

الحالة الاولى
اشارة

اذا علم المكلّف بأنّ السورة جزء ولم يكن له شكّ في ذلك ولكنه لم يأت بها نسيانا ثم التفت الى نفسه بعد الصلاة وتذكر عدم الإتيان بها فما هو الموقف في هذه الحالة؟

ومن الطبيعي حينما نطرح هذا السؤال نقطع النظر عن الروايات الخاصة

ص: 498


1- أجل لئن كان هناك فارق بين الحالتين فالفارق هو أنّه في الحالة الثانية لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السورة ليرى هل فيه إطلاق يدل على جعل الجزئية حتى في حالة المرض أو لا ، فان كان له إطلاق فلا تصل النوبة الى إجراء البراءة وإلاّ تمسك بالبراءة. وهذا بخلافه في الحالة الاولى فإنّه يتمسك بالبراءة ابتداء ومباشرة ، إذ الشكّ ليس في سعة الجزئية وضيقها ليتمسك بالإطلاق لإثبات سعتها بل في أصل ثبوتها.

التي قد يستفاد منها صحّة الصلاة وعدم وجوب الإعادة مثل حديث لا تعاد (1) وغيره. إنّا نريد التعرف على الموقف بمقتضى القاعدة الأولية وبقطع النظر عن الروايات الخاصة.

وقد قال المشهور في تحديد الموقف حالة النسيان : إنّه لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السوره مثلا فإن كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية وشمولها لحالة النسيان فاللازم الحكم ببطلان الصلاة ، فإنّ السورة إذا كانت جزء ولم يات بها المكلّف فلازمه اختلال المركب - فإنّ المركب عدم عند عدم بعض اجزائه - واختلاله عبارة اخرى عن بطلانه.

والحكم بالبطلان لا يفرق فيه بين أن يكون التذكر وارتفاع النسيان أثناء الوقت أو بعد انتهاءه (2). هذا إذا كان لدليل الجزئية إطلاق.

وإن لم يكن له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية للسورة حالة النسيان

ص: 499


1- وهو ما رواه الشيخ الصدوق بسنده الصحيح الى زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال علیه السلام : « القراءة سنّة والتشهد سنّة والتكبير سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة » الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث 14.
2- والحكم ببطلان الصلاة عند ترك السورة نسيانا عبارة اخرى عن ركنية السورة ، فإنّ أجزاء الصلاة على قسمين فبعضها أركان وبعضها الآخر ليس بأركان. والمراد من الركن ذلك الجزء الذي لو ترك نسيانا بطلت الصلاة في مقابل غير الركن الذي لا تبطل الصلاة بتركه نسيانا. ودليل الجزئية إذا كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية حالة النسيان فلازمه كون الجزء ركنا ، أي أنّه جزء حالة النسيان وتبطل الصلاة بتركه نسيانا ، فالإطلاق اللفظي لو كان ثابتا فهو يقتضي الركنية.

فالموقف ينتهي الى الأصل العملي وهو يقتضي البراءة حيث يشكّ في جزئية السورة حالة النسيان ويتردد الأمر بين الأقل والأكثر ، فالأجزاء الأقل معلومة الوجوب والجزء الزائد - وهو السورة - يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

هذه مقالة المشهور في تحديد الموقف عند ترك الجزء نسيانا.

التعليق على مقالة المشهور

ويمكن التعليق على مقالة المشهور هذه بأنّ النسيان تارة يكون مستوعبا لتمام الوقت واخرى يرتفع أثناءه.

فاذا كان مستوعبا لجميع الوقت فالمكلّف يعلم بأنّه لم يكلف بعشرة أجزاء بما في ذلك السورة بل هو مكلّف بالأقل أي بما عدا السورة. وكيف يكلف بالعشرة مع عدم تمكنه من الإتيان بها - العشرة - لفرض النسيان ، بل تكليفه متعلق جزما بالتسعة ، والمفروض قد امتثله وسقط ولكنه يشكّ في حدوث تكليف جديد له بالقضاء بعد ارتفاع نسيانه خارج الوقت ، وهذا شكّ في حدوث تكليف جديد فتجري البراءة منه.

هكذا ينبغي أن يقال في صورة استيعاب النسيان لجميع الوقت. ولا وجه لما قاله المشهور من أنّه مع افتراض وجود إطلاق لدليل جزئية السورة يأخذ به ويحكم ببطلان الصلاة ، انّ هذا لا معنى له ، إذ بعد استيعاب النسيان لجميع الوقت لا يمكن التكليف بالعشرة حتى يقال بأنّ الإتيان بالتسعة باطل بل التكليف - ان كان - فهو متعلق بالتسعة جزما ، غاية الأمر يشكّ في وجوب القضاء بعد الوقت

ص: 500

فتجري البراءة منه حتى ولو لم نقبل جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية (1) ، إنّ البراءة تجري حتى على التقدير المذكور إذ الفرض إجراء البراءة عن وجوب القضاء المشكوك لا عن جزئية بعض الأجزاء.

هذا كله حالة استيعاب النسيان لتمام الوقت.

وأمّا حالة إرتفاع النسيان داخل الوقت فالمكلّف يحصل له علم إجمالي بانّه امّا مكلف بإحدى الصلاتين - الناقصة أو التامّة - أو أنّه مكلّف بخصوص الصلاة التامة ، وهذا من الدوران بين الأقل والأكثر ، فوجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - معناه وجوب الأقل إذ لا يكون المكلّف ملزما بخصوص الصلاة التامّة بينما الطرف الثاني وهو وجوب خصوص الصلاة التامة يمثل وجوب الأكثر. وحيث انّ وجوب الأقل معلوم فلا تجري البراءة لنفيه وتجري لنفي وجوب الأكثر بلا معارضة.

ثم لا يخفى أنّ لازم وجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - عدم ثبوت جزئية السورة في حق الناسي إذ لو كانت ثابتة لكان لازم ذلك عدم الإكتفاء بإحدى الصلاتين بل تعين الصلاة التامة ، بينما لازم وجوب خصوص الصلاة التامّة ثبوت جزئية السورة في حق الناسي أيضا.

إشكال الشيخ الأعظم في الناسي

ذكرنا أخيرا ان لازم وجوب الجامع - أي إحدى الصلاتين - اختصاص

ص: 501


1- وإن شئت قلت : يتشكل لدى المكلّف علم إجمالي إمّا بصحّة التسعة التي أتى بها أو بوجوب القضاء عليه ، وحيث انّ صحّة التسعة لا معنى لإجراء البراءة عنها لعدم كونها تكليفا فتجري عن وجوب القضاء بلا معارض.

جزئية السورة بالمتذكر وعدم عموميتها للناسي.

والشيخ الأعظم قدس سره ذكر أنّ اختصاص الجزئية بالمتذكر وعدم عموميتها للناسي أمر مستحيل ، إذ لا يمكن أن يقال للناسي انّ الواجب في حقك الأقل ولست ملزما بالسورة لأنّ الناسي لا يلتفت الى كونه ناسيا حتى يتقبل مثل الخطاب المذكور بل يرى نفسه متذكرا وليس ناسيا ، وبمجرد أن يتوجه الى كونه ناسيا يصير متذكرا ويكون الثابت في حقه الأكثر لا الأقل.

واذا قال قائل إنّ المحذور يتم لو فرض توجيه الخطاب الى عنوان الناسي لكن لم لا يوجه الى عنوان المكلّف من دون أخذ عنوان الناسي.

فجوابه ان لازم هذا ثبوت الأقل في حق المتذكر أيضا ، فالمتذكر لا يكون مطالبا إلاّ بالأقل ، وهو باطل لأنّه مطالب بالأكثر.

والخلاصة : إنّ تكليف الناسي بالأقل غير ممكن لعدم إمكان إيصال الخطاب له ، إذ الخطاب المشتمل على عنوان الناسي لا يراه متوجها إليه ، والخطاب المشتمل على عنوان المكلّف لازمه ثبوت الأقل في حق المتذكر أيضا.

والشيخ الأعظم بعد عرضه لهذا الإشكال خرج بهذه النتيجة : انّه متى ما كانت السورة - أو غيرها من الاجزاء - جزء فمن اللازم أن تكون جزء في حق جميع المكلفين المتذكر منهم والناسي ، غاية الأمر من المحتمل إجزاء الأقل الذي أتى به الناسي عن الأكثر الثابت في حقه ، فهو مكلف بالعشرة ولكنه يحتمل سقوط ذلك بالإتيان بالتسعة ، وهذا حيث إنّه شكّ في سقوط التكليف فيكون موردا للاشتغال ، إذ بعد ثبوت التكليف بالعشرة في حق الناسي فمن اللازم تحصيل اليقين بسقوط التكليف المذكور عن ذمته ولا يكتفى باحتمال سقوطه

ص: 502

بالاتيان بالتسعة ، فإنّ الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعلى هذا فالنتيجة التي انتهى إليها الشيخ الأعظم تغاير النتيجة التي انتهى إليها غيره من الاعلام فهو قد انتهى الى أنّ الناسي تلزمه الصلاة مع السورة بعد ارتفاع نسيانه بينما غيره انتهى الى البراءة.

هذا ويمكن ردّ الشيخ الأعظم بأنّ بالإمكان تكليف الناسي بنحو لا يرد عليه أي محذور وذلك بالشكل التالي : يا أيها المكلّف تجب عليك إمّا التسعة المقرونة بالنسيان أو العشرة (1). إنّ خصوصيات هذا الخطاب متعددة : -

أ - فهو موجه الى عنوان المكلّف دون عنوان الناسي.

ب - ووجوب التسعة ليس مطلقا بل مقيد بالنسيان.

ج - والتكليف فيه لم يتعلق بخصوص العشرة بل بالجامع بينهما ، فالوجوب متعلق باحدهما والمكلّف مخير بين الإتيان بالتسعة شريطة أن يكون ناسيا وبين الإتيان بالعشرة.

وبناء على تصوير التكليف بهذا الشكل لا يرد إشكال لزوم اكتفاء المتذكر بالتسعة لأنّ المفروض أنّ التكليف لم يتعلق بالتسعة مطلقا بل شريطة النسيان ، فالمتذكر لا يكتفى منه بالتسعة على هذا.

كما ولا يرد إشكال أنّ الناسي كيف يوجه له الخطاب مع عدم التفاته الى نسيانه لأنّ المفروض تعلق التكليف بعنوان المكلّف دون الناسي.

أجل غاية ما يمكن أن يقال انّ الناسي حينما يأتي بالتسعة يتخيل أنّه لم ينس

ص: 503


1- والجامع بهذا الشكل مرت الإشارة له في الحلقة ص 198 س 10.

شيئا وأتى بالمركب بكامل أجزائه. وبكلمة اخرى يتخيل أنّه قد أتى بأفضل الحصتين والحال أنّه قد أتى بأقلهما فضلا ، إذ قد أتى بالتسعة ولم يأت بالعشرة.

وهذا وإن كان صحيحا إلاّ أنّه لا يشكّل محذورا وإشكالا.

جواب الآخوند الخراساني

والجواب المتقدم أولى من جواب جملة من المحققين كالشيخ الخراساني والنائيني فإنهم ذكروا في ردّ الشيخ الأعظم انّ بالإمكان تكليف الناسي بالأقل بوسيلة أمرين ، فيصدر المولى أوّلا أمرا بالاجزاء التسعة موجها الى طبيعي المكلّف الأعم من المتذكّر والناسي ثم يصدر أمرا ثانيا بالجزء العاشر في حق المتذكر خاصة ، فيقول أوّلا : يا أيها المكلّف يجب عليك تسعة أجزاء ويقول ثانيا : يا أيها المتذكر يجب عليك الجزء العاشر.

وهذا الجواب قابل للتأمل ، إذ ما المقصود من تعلق الوجوب بالأقل في الخطاب الأوّل : -

1 - فهل المقصود تعلق الوجوب بالتسعة مقيدة بالجزء العاشر.

وهذا باطل إذ لازمه أنّ الناسي لم يكلف بالتسعة بل بالعشرة فيلزم خلف الفرض.

2 - أو انّ المقصود تعلق الوجوب بالتسعة بدون تقييد بالجزء العاشر.

وهذا باطل أيضا ، لأن لازمه أن المتذكر إذا أتى بالتسعة سقط عنه الخطاب الأوّل ولم يجب عليه سوى الإتيان بالجزء العاشر ، وهذا لا يحتمله أحد. وكيف يحتمل أنّ المكلّف المتذكر إذا أتى بتسعة أجزاء حصل منه الإمتثال بمقدار تسعة

ص: 504

أجزاء ، بحيث إذا سلّم وأنهى صلاته لم يجب عليه إلاّ قراءة السورة المنسية امتثالا للأمر الثاني!!!

3 - أو أنّ المقصود تعلق التكليف بالتسعة مقيدة بالجزء العاشر في حق المتذكر ومن غير تقييد بالجزء العاشر في حق الناسي.

وهذا احتمال وجيه ، ولكنه ليس احتمالا مقابلا لمّا اقترحناه سابقا - حيث اقترحنا أن يكون التكليف متعلقا بالجامع بين الصلاة الناقصة المقيّدة بالنسيان وبين الصلاة التامّة - بل هو هو وان اختلف عنه في بعض الألفاظ ، ومعه فلا حاجة الى الخطاب الثاني المتكفل لإثبات وجوب الجزء الزائد في حق المتذكر ، فإنّ الخطاب الأوّل يتكفل إثبات ذلك بلا حاجة الى الخطاب الثاني.

4 - أو أنّ المقصود تعلق التكليف بالتسعة من دون أن تكون مقيدة بالجزء العاشر ولا مطلقة بل مهملة من هذه الناحية.

وهذا الإحتمال باطل إذ لا معنى للإهمال في عالم الجعل ، فان المولى إمّا أن يجعل وجوب التسعة مقيدة بالجزء العاشر أو أن يجعل الوجوب لها مطلقة من حيث الجزء العاشر ولا يمكن جعله مهملا ، فإنّ الإهمال لا يعقل إلاّ في الدليل المبرز والكاشف عن الجعل ولا يعقل في نفس الجعل ، وهذا معناه أنّ التقابل بين التقييد والإطلاق في عالم الجعل تقابل التناقض فلا يمكن ارتفاعهما وصيرورة الجعل مهملا.

أولوية المقام بالبراءة

وبعد أن اتضح إمكان تكليف الناسي بالأقل بالطريقة الآنفة الذكر يتضح

ص: 505

أن تكليف الناسي مردد بين الأقل والأكثر ، وبما أنّه مكلّف جزما بالتسعة التي أتى بها ويشك في تكليفه بالجزء العاشر فتجري البراءة لنفيه.

بل إنّ جريان البراءة في المقام أولى من جريانها في الحالات الاخرى كحالة التردد في أصل جعل الجزئية والشرطية ، فإنّ المتردد في أصل جعل جزئية السورة في التشريع الإسلامي يتشكل لديه علم إجمالي امّا بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة ، ولربما يقال بمنجزية العلم الإجمالي المذكور. ولكن لئن سلمنا بمنجزية العلم الإجمالي المذكور فلا يمكن التسليم بمنجزيته حالة النسيان ، فإنّ الناسي يتشكل لديه العلم الإجمالي بعد الإتيان بأحد الطرفين - أي بعد الإتيان بالأقل - ، فبعد ارتفاع النسيان عنه يحصل له علم إجمالي امّا بوجوب التسعة التي أتى بها أو بوجوب العشرة ، ومثل العلم الإجمالي المذكور لا يمكن أن يكون منجزا لعدم تعارض الاصول في اطرافه ، فإنّه بعد الإتيان بالتسعة لا معنى لإجراء البراءة عن وجوبها بل تجري عن وجوب العشرة فقط بلا معارض.

وباختصار : إنّ العلم الإجمالي حالة النسيان بما أنّه يتولد بعد الإتيان بأحد طرفيه فلا يكون منجزا ، بخلافه في صورة الشكّ ، فإنّ العلم الإجمالي يتولد قبل الإتيان بأحد طرفيه فيمكن أن يقال بمنجزيته وإن كنا لا نقبل ذلك باعتبار أنّ وجوب الأقل متيقن ووجوب الزائد منفي بالبراءة.

الحالة الثانية
اشارة

اذا فرض العلم بجزئيّة جزء معين أو شرطيّته وتعذّر على المكلّف الإتيان به - كما لو تعذر تحصيل الطهارة للصلاة بكلا فرديها المائيّة والترابيّة - فهل يسقط

ص: 506

عنه الواجب أو يلزمه الإتيان بالميسور؟ إنّ هذا يرتبط بشمول الجزئيّة والشرطية لحالة التعذر وعدمه ، فإن فرض أنّ الطهارة مثلا باقية على الشرطية حتى في حالة تعذرها فلازم ذلك سقوط وجوب الصلاة ، إذ شرطية الطهارة ما دامت ثابتة - والمفروض تعذر تحصيلها - فلازم ذلك سقوط وجوب الصلاة إذ المشروط عدم عند عدم شرطه (1).

وأمّا إذا فرض سقوط شرطية الطهارة حالة التعذر فلازم ذلك وجوب الإتيان بالصلاة بدون الطهارة لأنّ الشرطية ما دامت ساقطة حالة التعذر فالمكلّف يكون متمكنا من الإتيان بجميع الأجزاء والشرائط الثابتة في حقّه ، فيستقر الوجوب عليه.

ونحن إذا كنّا نعرف حال الجزئيّة والشرطيّة فلا يبقى لدينا تحيّر في الموقف ، فإذا كنّا نعرف أنّ جزئيّة الجزء أو شرطيّة الشرط ثابتة حتى حالة التعذّر كان علينا الجزم بسقوط وجوب الصلاة ، وإذا كنّا نعرف أنّها غير ثابتة حالة التعذّر كان علينا الجزم بعدم سقوطه.

أمّا إذا لم نعرف هذا ولا ذاك فما هو الموقف؟ هنا يمكن تقديم التفصيل التالي :

إنّ التعذّر تارة لا يكون مستوعبا لتمام الوقت ، واخرى يكون مستوعبا.

فإن لم يكن مستوعبا تشكّل لدى المكلّف علم اجمالي امّا بوجوب إحدى الصلاتين عليه - أي الناقصة حالة العذر أو التامّة بعد ارتفاعه - على تقدير

ص: 507


1- وفي الجزء المتعذر يقال : انّ المركب عدم عند عدم جزئه.

سقوط الجزئيّة ، أو وجوب خصوص الصلاة التامّة بعد ارتفاع العذر على تقدير عدم سقوط الجزئيّة. وحيث انّ هذا من موارد الدوران بين الأقل والأكثر - فإنّ وجوب احدى الصلاتين يمثّل الأقل ووجوب خصوص الصلاة التامّة يمثّل الأكثر - فتجري البراءة عن الأكثر.

ثمّ انّ هنا نكتة وهي أنّ العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر يحصل في هذه الحالة - أي حالة تعذّر بعض الأجزاء - قبل الإتيان بأحد الطرفين بخلافه في حالة النسيان ، فإنّه يحصل بعد ذلك. ويترتّب على ذلك أن العلم الاجمالي في مقامنا يمكن أن يكون منجّزا بخلافه في حالة النسيان.

وإن كان العذر مستوعبا لتمام الوقت تشكّل لدى المكلّف علم اجمالي امّا بوجوب الصلاة الناقصة داخل الوقت على تقدير سقوط الجزئيّة ، أو بوجوب الصلاة التامّة خارجه على تقدير عدم سقوط الجزئيّة ، وحيث يتعارض أصل البراءة في الطرفين يكون منجّزا ويجب على المكلّف الإتيان بالصلاة الناقصة داخل الوقت وبالصلاة التامّة خارجه.

قطع النظر عن الروايات الخاصّة

إنّ حديثنا السابق كان كلّه ناظرا إلى مقتضى القاعدة وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة ، وكانت القاعدة تقتضي البراءة عن الأكثر المشكوك ، أمّا بمقتضى الروايات فالموقف يتحدّد على طبق ما تدلّ عليه.

وفيما يلي نوضّح الموقف طبق الروايات : -

1 - أن يستفاد من دليل خاص شمول الجزئيّة لجميع الحالات أو

ص: 508

اختصاصها بحالة عدم النسيان والتعذّر ، من قبيل حديث : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (1) ، حيث يدلّ على ثبوت الجزئيّة للخمسة المذكورة في جميع الحالات فلا مجال للبراءة فيها بخلاف غيرها ، فإنّ جزئيتها ليست شاملة لجميع الحالات.

2 - أن يستفاد من اطلاق دليل جزئية الجزء شمول الجزئيّة لجميع الحالات. ولا مجال لإعمال البراءة حينئذ لانتفاء الشكّ في ثبوت الجزئيّة بعد وجود الإطلاق.

وفرق هذا عن سابقه أنّه في هذه الحالة يلاحظ دليل الجزء نفسه ويتمسّك بإطلاقه بخلافه في الحالة السابقة ، فإنّه يتمسّك بدليل آخر - غير دليل الجزء - كحديث لا تعاد.

3 - أن يفرض عدم ثبوت إطلاق في دليل جزئيّة السورة مثلا ، بأن كان مجملا ولكن يفرض أنّ دليل أقيموا الصلاة فيه إطلاق يدلّ على وجوب الصلاة من دون اشتراط بالسورة فيؤخذ بإطلاقه ويحكم بوجوب الصلاة حتى مع عدم قراءة السورة لنسيان أو عذر آخر.

لا تقل : إذا كان دليل أقيموا الصلاة مطلقا وغير مقيّد بالسورة فلماذا لا يؤخذ بإطلاقه ويحكم بعدم إشتراط السورة في جميع الحالات بما في ذلك حالات الإختيار وعدم العذر؟

فإنّه يقال : إنّ الإطلاق المذكور وإن كان ثابتا لكنّه مقيّد بدليل جزئيّة

ص: 509


1- الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث 14.

السورة ، فإنّه بعد إجماله - دليل جزئيّة السورة - يؤخذ بالمقدار المتيقّن منه وهو ثبوت الجزئيّة في حالات عدم العذر ، ويكون مقيّدا لإطلاق أقيموا الصلاة بالمقدار المذكور ويحكم بجزئيّة السورة في خصوص حالة عدم العذر ، وأمّا في حالة العذر فحيث لا دليل على ثبوت الجزئيّة - لإجمال الدليل على الفرض - فيؤخذ باطلاق أقيموا الصلاة لنفي الجزئيّة وثبوت الوجوب للصلاة مع عدم الاتيان بالسورة.

قوله ص 196 س 9 : كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ إلخ : هذا إشارة إلى الحالة الاولى. وقوله « وقد يتّفق إلخ » إشارة إلى الحالة الثانية.

قوله ص 196 س 11 : بوجه من الوجوه : متعلّق بقوله « دخالته » ، فإنّ دخالة الشيء في الواجب تكون تارة بنحو الجزئيّة ، واخرى بنحو الشرطيّة ، وثالثة بنحو المانعيّة.

قوله ص 197 س 2 : حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة نسيان الجزء. وهي الحالة التي أشكل فيها الشيخ الأعظم وذكر أنّه لا يمكن التمسّك بالبراءة فيها لعدم إمكان اختصاص الجزئيّة بحالة التذكّر.

قوله ص 197 س 11 : إنّ الأصل اللفظي : أي الإطلاق.

قوله ص 198 س 4 : على أي حال : أي أبدا. أو أي جزء كان.

قوله ص 198 س 11 : والأوّل : أي تعلّق التكليف بالجامع. وقوله « والثاني » : أي تعلّق التكليف بالصلاة التامّة فقط.

قوله ص 198 س 14 : هو من أنحاء الدوران إلخ : إذ تقدّم أنّ للأقل والأكثر مصاديق أربعة أحدها الدوران بين التعيين والتخيير.

ص: 510

قوله ص 198 س 17 : افادات الشيخ الانصاري : وهي فرائد الاصول المسماّة بالرسائل.

قوله ص 199 س 8 : في الأصل : أي منذ البداية.

قوله ص 199 س 11 : ان التكليف بالجامع : أي المشار له ص 198 س 10.

قوله ص 200 س 6 : أو مقيد بلحاظ المتذكّر : أي مقيد بالجزء الزائد ولكن بلحاظ المتذكّر الخ.

قوله ص 200 س 8 : والثاني كذلك : أي خلف.

قوله ص 200 س 13 : فلا يمكن انتفاؤهما معا : الذي هو معنى اهمال الجعل.

قوله ص 200 س 14 : وعلى هذا الأساس : أي على أساس إمكان تكليف الناسي بالأقل.

قوله ص 200 س 17 : المذكور : أي بين الأقل والأكثر كما في حالات التردّد والشكّ في أصل جعل الجزئية.

قوله ص 203 س 3 : الأدلة المحرزة : أي الأدلة الاجتهادية - كحديث لا تعاد وغيره - في مقابل الاصول العملية التي هي أدلة فقاهتية.

ص: 511

ص: 512

محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

المقدمة... 3

منهجة أبحاث القسم الثاني من الحلقة الثالثة... 5

الفارق بين الامارات والاصول... 7

خصائص الأصول العملية... 9

ثمرة التقسيم... 11

التعليق على الفرق الأوّل... 11

الفرق الثاني... 13

الفرق الثالث... 15

الفرق الرابع... 18

الأصول العملية الشرعية... 23

الأصول التنزيلية والمحرزة... 33

ثمرة الأصل التنزيلي... 33

ثمرة الأصل التنزيلي... 34

الأصل المحرز... 35

ص: 513

ثمرة الأصل المحرز... 36

الأصل المحرز عند السيد الشهيد... 36

لا أصل تنزيلي عند السيد الشهيد... 39

مورد جريان الأصول العملية... 41

الاستصحاب في الأحكام الظاهرية... 48

الاصول العملية الأربعة... 49

الوظيفة العملية حالة الشكّ... 51

الوظيفة حالة الشكّ البدوي... 53

مسلك قبح العقاب بلا بيان... 54

الدليل الأوّل... 55

الدليل الثاني... 56

الدليل الثالث... 57

الجواب عن دليل الأصفهاني... 59

الدليل الرابع... 60

مناقشة الدليل الرابع... 62

بطلان قاعدة قبح العقاب... 64

مسلك حق الطاعة... 64

حكم العقل تعليقي... 65

الوظيفة الثانوية حالة الشكّ... 67

ص: 514

المبحث الأوّل... 68

الآية الاولى... 68

اعتراض الشيخ الأعظم... 70

جوابان عن اعتراض الشيخ الأعظم... 71

هل دليل الإخباري مقدّم على الآية؟... 74

شمول الآية للشبهات الوجوبية والتحريمية... 76

وهل تشمل الآية حالة ما قبل الفحص؟... 78

الآية الثانية... 78

مناقشة الاستدلال... 81

وهل دليل الإخباري مقدّم؟... 82

الآية الثالثة... 83

الآية الرابعة... 85

أدلة البراءة من السنّة... 89

البيان الأوّل... 90

مناقشة البيان الأوّل... 93

البيان الثاني... 94

الحديث الثاني... 98

المرحلة الاولى... 98

المرحلة الثانية... 111

ص: 515

هل الرفع ظاهري أو واقعي؟... 115

المرحلة الثالثة... 121

تصوير الجامع... 122

لا قرينة... 125

روايات اخرى... 127

التعويض بالاستصحاب... 127

الاعتراضات العامة... 133

الجواب عن الاعتراض الأوّل... 134

الصحيح انّ المعارضة بنحو العموم من وجه... 137

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني... 140

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني... 145

توجيه آخر للانحلال... 147

تحديد مفاد البراءة... 151

ما هو الميزان؟... 153

ميزانان للشكّ في ثبوت التكليف والامتثال... 157

كلام للميرزا... 157

تصحيح مدّعى الميرزا بطريقة اخرى... 158

صياغة الميزان الأوّل من جديد... 159

أخذ المتعلّق قيدا في الحكم... 160

ص: 516

الصياغة النهائية لميزان الشكّ في التكليف... 161

استحباب الاحتياط... 165

مناقشة الوجه الأوّل... 168

مناقشة الوجه الثاني... 170

النقطة الثانية... 171

مناقشة الشبهة... 173

الأولى في الجواب... 174

مباحث العلم الإجمالي... 177

ثلاثة أبحاث في العلم الإجمالي... 179

منجزية العلم الإجمالي... 180

بحث الأمر الأول... 181

جواب السؤال الأوّل... 183

جواب السؤال الثاني... 184

الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي... 185

الأوّل... 185

الثاني... 187

المناقشة على ضوء مقدّمات ست... 187

الثالث... 190

تخريجات وجوب الموافقة القطعية... 192

ص: 517

عودة لصلب الموضوع... 193

التقريب الأوّل... 194

التقريب الثاني... 195

مناقشة التقريب الثاني... 196

نقض على قاعدة قبح العقاب... 199

الثمرة بين المسلكين... 200

التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية... 200

بحث الأمر الثاني... 204

الأصول المؤمنة والمنجزة... 207

المحذور الثبوتي... 208

المحذور الإثباتي... 210

مناقشة محذور التهافت... 211

تعبير اصولي... 213

بحث الأمر الثالث... 216

عالم الثبوت... 217

الفارق الواضح... 220

الاستدلال على مسلك العلّية... 220

اعتراض الميرزا على مسلك العلّية... 221

جواب الشيخ العراقي... 222

ص: 518

مناقشة كلام العراقي... 223

ترجيح مسلك الاقتضاء... 223

عالم الإثبات... 224

العراقي وشبهة الترخيص المشروط... 225

تنبيه... 227

مناقشة شبهة الترخيص المشروط... 228

الوجه الأوّل... 228

دفع الوجه الأوّل... 230

أحدهما... 230

ثانيهما... 233

الوجه الثاني... 234

مناقشة الوجه الثاني... 235

الوجه الثالث... 237

مناقشة الجواب الثالث... 238

الوجه الرابع... 238

مناقشة الجواب الرابع... 239

الوجه الخامس... 240

الثمرة بين مسلك العلية والاقتضاء... 245

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض... 247

ص: 519

الحالة الاولى... 247

الحالة الثانية... 250

الحالة الثالثة... 252

خلاصة ما تقدّم... 254

العلم الإجمالي بأحد نوعي التكليف منجز... 255

العلم الإجمالي بموضوع التكليف... 256

يلزم العلم بكامل الموضوع... 256

الضابط العام... 258

أركان المنجزية... 261

الحالة الاولى... 263

الحالة الثانية... 265

خلاصة ما تقدّم... 266

الأوّل... 267

الثاني... 267

الثالث... 268

الرابع... 269

الركن الثالث... 275

الفارق العملي بين الصياغتين... 279

ص: 520

مناقشة صياغة الشيخ العراقي... 281

الركن الرابع... 282

صياغة جديدة... 283

تطبيقات منجزية العلم الإجمالي... 289

تطبيقات منجزية العلم الاجمالي... 291

الحالة الأولى أو زوال العلم بالجامع... 293

وهم ودفع... 293

الأوّل... 294

الثاني... 295

الثالث... 295

الرابع :... 297

الحالة الثانية او الاضطرار الى بعض الاطراف... 303

تلخيص وأسئلة... 308

طرو المسقطات الاخرى... 310

الصورة الثانية... 310

الحالة الثالثة أو انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي... 317

التعاصر بين العلمين أو المعلومين... 321

الحالة الرابعة أو الانحلال الحكمي... 325

تقدم الامارة دون مؤداها... 332

ص: 521

مقارنة بين الانحلالين... 334

الحالة الخامسة أو اشتراك العلمين في طرف... 337

الحالة السادسة أو حكم الملاقي... 343

الأوّل :... 344

الثاني... 345

حالات يجب فيها الاجتناب عن الملاقي... 347

تمامية التقريب الثاني... 349

الحالة السابعة أو الشبهة غير المحصورة... 351

تحديد الشبهة غير المحصورة... 351

تقريبات لعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة... 352

التقريب الأوّل... 352

اشكالات على التقريب الأوّل... 354

الاشكال الأوّل... 354

النقض... 356

الحل... 356

الاشكال الثاني... 358

التقريب الثاني... 362

الفارق العملي... 363

نقض السيد الخوئي... 364

ص: 522

تعديل الصياغة المشهورة... 364

فارق بين البيانين... 367

لا يرد نقض السيد الخوئي... 367

خلاصة ما تقدم... 368

الحالة الثامنة أو عدم القدرة على بعض الأطراف... 373

الحالة الاولى... 374

التعليل المناسب... 377

الحالة الثانية... 378

الأفضل في التعليل... 381

الحالة التاسعة أو العلم الاجمالي في التدريجيات... 385

مناقشة الوجهين... 387

وهكذا يتضح :... 391

الحالة العاشرة أو الطولية بين طرفي العلم... 397

الاولى... 398

الثانية... 399

فرقان بين الصورتين... 400

الدوران بين الوجوب والحرمة... 405

الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا... 407

الشك البدوي في الوجوب والحرمة... 409

ص: 523

دوران الأمر بين المحذورين... 411

الاعتراض الأوّل وهذا الاعتراض للشيخ العراقي... 412

الاعتراض الثاني... 415

الاعتراض الثالث... 417

توهم ودفع... 418

تعدد الواقعة ووحدتها... 418

الدوران بين الأقل والأكثر... 423

الدوران بين الأقل والأكثر... 425

الارتباطيان والاستقلاليان... 426

الارتباطيان على أقسام... 427

الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء... 429

البرهان الأوّل... 430

مناقشة البرهان الأوّل... 431

الاولى... 431

الثانية... 433

الثالثة... 437

الرابعة... 438

البرهان الثاني... 441

البرهان الثالث... 444

ص: 524

البرهان الرابع... 445

البرهان الخامس... 448

البرهان السادس... 451

النتيجة النهائيّة... 452

الدوران بين الأقل والأكثر في الشرائط... 455

الشكّ في المانعية... 460

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي... 463

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي... 469

الحكم على المبنى الأوّل... 471

شبهة الشيخ العراقي وجوابها... 472

الحكم على المبنى الثاني... 474

الحكم على المبنى الثالث... 475

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر... 477

الملاحظة الأولى أو دور الاستصحاب في هذا الدوران... 477

الاستصحاب لاثبات الاحتياط... 480

الاستصحاب لإثبات البراءة... 482

الملاحظة الثانية أو الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة... 485

الملاحظة الثالثة أو الأقل والأكثر في المحرّمات... 489

الملاحظة الرابعة أو الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر... 493

ص: 525

سؤال وتوضيح... 494

الملاحظة الخامسة أو الشكّ في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط... 497

الحالة الاولى... 498

التعليق على مقالة المشهور... 500

إشكال الشيخ الأعظم في الناسي... 501

جواب الآخوند الخراساني... 504

أولوية المقام بالبراءة... 505

الحالة الثانية... 506

قطع النظر عن الروايات الخاصّة... 508

محتويات الكتاب... 513

ص: 526

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.