دروس منهجیة في شرح عقائد الإمامية المجلد 3

هوية الکتاب

العتبة العباسيّة المقدسة

قسم الشئون الفکریة و الثقافیة

معهد تراث الانبیاء (علیهم السلام) للدراسات الحوزویة الاکترونیّه

المناهج الدراسیّة

دروس منهجیّة

في شرح عقائد الامامیّة

للشیخ محمد رضا المظفّر (رحمه الله)

1322- 1383 ه

1904 -1964 م

الجزء الثّالث

الشیخ حسین عبدالرضا الاسدي

الکتاب: دروس منهجیّة في شرح عقائد الامامیّة

تألیف :الشیخ حسین عبدالرضا الاسدي

ص: 1

اشارة

الناشر :قسم الشئون الفکریة و الثقافیة في العتبة العباسية المقدسة ،معهد تراث الانبیاء للدراسات الحوزویة الاکترونیّه

الاخراج الطباعي: علاء سعید الاسدي ، محمد قاسم النصراوي .

المطبعة : دار الکفیل للطباعة و النشر .

عدد النسخ : 500

ربیع الآخر 1442 ه - تشرین الثانی 2020 م

ص: 2

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »

ص: 3

ص: 4

عقيدتنا في التقية

النقطة الأولى: معنى التقية.

قال الشيخ المظفر(رحمه الله):

«عقيدتنا في التقية:

روي عن صادق آل البيت (علیهم السّلام) في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي» و«من لا تقية له لا دين له».

وكذلك هي، لقد كانت شعاراً لآل البيت (علیهم السّلام)، دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم.

وما زالتْ سمةٌ تُعرفُ بها الإماميةُ دون غيرها من الطوائف والأمم، وكُلُّ إنسانٍ إذا أحسَّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر مُعتقده أو التظاهر به لا بُدّ أنْ يتكتم ويتقي في مواضع الخطر.

وهذا أمرٌ تقضيه فطرةُ العقول، ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفةٍ أو أمةٍ أخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية بمكاتمة المُخالفين لهم وترك مُظاهرتهم وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المُختصّة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا؛ ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكامٌ من حيثُ وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورةٌ في أبوابها في كتب العلماء الفقهية.

ص: 5

وليست هي بواجبةٍ على كُلِّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال كما إذا كان في إظهارِ الحقِّ، والتظاهر به نصرةً للدينِ وخدمةً للإسلام، وجهاد في سبيله، فإنّه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس.

وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.

وعلى كُلِّ حالٍ ليس معنى التقية عند الإمامية أنّها تجعل منهم جمعيةً سريةً لغاية الهدم والتخريب، كما يُريد أنْ يصوّرها بعض أعدائهم غير المُتورعين في إدراك الأمور على وجهها، ولا يكلفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا.

كما أنّه ليس معناها أنّها تجعل الدين وأحكامه سراً من الأسرار لا يجوز أنْ يُذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخصُّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي يُنتظرُ من أيةِ أمّةٍ تدينُ بدينها.

بلى! إنّ عقيدتنا في التقية قد استغلها من أراد التشنيع على الإمامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم إلا أنْ تُقدَّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أنْ يُقال هذا رجلٌ شيعيٌ ليُلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الأمويين والعباسيين، بله العثمانيين.

وإذا كان طعن من أراد أنْ يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحيةٍ دينيةٍ، فإنا نقول له:

أولاً: أننا متبعون لأئمتنا (علیهم السّلام) ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين وقد سمعت قول الصادق (علیه السّلام): «من لا تقية له لا دين له».

ص: 6

وثانياً: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله (عزّ و جلّ): ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الإسلام، وقوله (عزّ و جلّ) : ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، وقوله (عزّ و جلّ): ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾». انتهى.

ولتوضيح هذه العقيدة نتناولها من جوانب عدة في النقاط الآتية:

النقطة الأولى: معنى التقية.

التقية لغةً: هي مصدر بمعنى التحفظ والتوقي والتحرز، ويقال فيها: تقية وتقوى من الفعل (اتقى)، فهي مطلق التحفظ والتحرز عن الضرر.

وخلاصة معناها هو:

أنَّها إما تكون من الخالق فتسمى حينئذٍ (تقوى)، بمعنى (التقية من الضرر المتوجه من عدم امتثال أوامر الخالق(سبحانه و تعالی)، وقد تعارف إطلاق (تقوى) عليها إذا كانت تقيةً من الخالق وإلا فهي أيضًا تقية.

وقد تكون من المخلوق (التقية)، ولها قسمان:

1/ تقيةٌ من الأمور التكوينية: كالحر والبرد والمرض والشمس والمطر، فيتقي الإنسان هذه الأمور، وعادة يطلق عليها (توقّياً) أو (وقاية).

2/ تقيةٌ من غير الأمور التكوينية: ولها قسمان:

أ. إما من الحيوان وتسمى أيضًا (توقياً)، فيتوقّى من حيوان مفترس أو جراثيم وفايروسات وما إلى ذلك.

ب. أو قد تكون من الإنسان الظالم، وهذه ما تسمى بالتقية الاصطلاحية.

فمعنى التقية اصطلاحًا: التحفظ عن الظالم خوفًا منه على النفس أو المال أو ما

ص: 7

يتعلق به من النفوس والأمور المحترمة، كالخوف على الابن أو الزوج أو الأخ أو على إنسانٍ مؤمنٍ من الظالم سواء أكان الظالم كافرًا أم لا.

والتقية: إما أنْ تكون فعلًا، كأن تدفع الضرر عن نفسك بواسطة فعلٍ من الأفعال، كما لو توضأت، وخوفًا من الظالم تمسح على الخف أو تغسل قدميك بدل مسحهما، أو تفطر عند سقوط القرص أو الوقوف في عرفات، فهي أفعالٌ لتحفظ بها نفسك.

وإما أن تكون قولاً، كأن تقول بلسانك ما لا تعتقد به بداخلك، كما فعل عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) إذ أظهر الكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.

النقطة الثانية: التقية الاصطلاحية:

الخطوة الأولى: أدلة التقية.

الدليل الأول: الكتاب.

وهنا خطوتان:

يمكن الاستدلال على شرعية التقية وجواز استعمالها بالأدلة الأربعة: (الكتاب والسنة والإجماع والعقل):

ونذكر عدة آيات:

1- قوله (عزّ و جلّ): ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ﴾(1)

فالآية ظاهرة في أنه لا يجوز لك أنْ تتخذ من الكافرين ولاة لك إلا في حالة التقية، فيجوز أنْ تتخذهم ولاةً لك حينئذٍ في الظاهر.

ص: 8


1- آل عمران 28.

2- قوله (عزّ و جلّ): ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾(1)

وقد بيّنت الروايات أنّها نزلت في عمار بن ياسر (رضوان الله عليه وعلى أبويه) عندما أُكرِه على أنْ يُكذِّب النبي (صلّی الله علیه و آله) ويُكفِّر رسالته بلسانه.(2)

فالقرآن الكريم لم يجلد عماراً بهذا الفعل، وإنّما برّر له ذلك؛ لأن قلبه كان مطمئنًا بالإيمان فأظهر خلاف ما يبطنه خوفًا على نفسه من القتل، فدفع ضرر الظالم عن نفسه، والقرآن دلَّ على أنَّ هذا الأمر جائز في هذا المورد.

3- قوله(عزّ و جلّ) حكاية عن ذي القرنين: ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً... فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً﴾(3)

وقد روي عن المفضل قال: سألت الصادق (علیه السّلام) عن قوله ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً..). قال: «التقية». ﴿فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ قال: «ما

ص: 9


1- النحل 106.
2- فعَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: قِيلَ لأَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام): إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ عَلِيّاً (علیه السّلام) قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ تُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَلَا تَبَرَّءُوا مِنِّي. فَقَالَ (علیه السّلام): «مَا أَكْثَرَ مَا يَكْذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ (علیه السّلام)». ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): «إِنَّمَا قَالَ: إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي، ثُمَّ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي، وإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ (صلّی الله علیه و آله)، ولَمْ يَقُلْ: لَا تَبَرَّءُوا مِنِّي». فَقَالَ لَه السَّائِلُ: أرَأَيْتَ إِنِ اخْتَارَ الْقَتْلَ دُونَ الْبَرَاءَةِ؟ فَقَالَ (علیه السّلام): «والله مَا ذَلِكَ عَلَيْه، ومَا لَه إِلَّا مَا مَضَى عَلَيْه عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، حَيْثُ أَكْرَهَه أَهْلُ مَكَّةَ وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَأَنْزَلَ الله(عزّ و جلّ) فِيه: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِه وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ﴾ فَقَالَ لَه النَّبِيُّ (صلّی الله علیه و آله): عِنْدَهَا يَا عَمَّارُ إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَقَدْ أَنْزَلَ الله(عزّ و جلّ) عُذْرَكَ وأَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا». [الكافي للكيني ج2 ص219 باب التقية ح11.]
3- الكهف 95 و97.

استطاعوا له نقباً: إذا عمل بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقباً...»(1)

الدليل الثاني: الروايات الشريفة:

وهي قد وصلت إلى حدِّ الاستفاضة بل التواتر، نذكر بعضًا منها:

1- في صحيحة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السّلام) قال: «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُضْطَرُّ إِلَيْه ابْنُ آدَمَ فَقَدْ أَحَلَّه الله لَه»(2)

وهي تدلّ بوضوح على أنَّ وظيفة الإنسان عند الاضطرار هي التقية.

2- عن حريز عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «التَّقِيَّةُ تُرْسُ(3) الله بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه».(4)

3- عن أبي جعفر الباقر (علیه السّلام): «التَّقِيَّةُ فِي كُلِّ ضَرُورَةٍ وصَاحِبُهَا أَعْلَمُ بِهَا حِينَ تَنْزِلُ بِه».(5)

4- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «اتَّقُوا عَلَى دِينِكُمْ فَاحْجُبُوه بِالتَّقِيَّةِ، فَإِنَّه لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَه، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالنَّحْلِ فِي الطَّيْرِ، لَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَعْلَمُ مَا فِي أَجْوَافِ النَّحْلِ مَا بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا أَكَلَتْه، ولَوْ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مَا فِي أَجْوَافِكُمْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَّا أَهْلَ الْبَيْتِ لأَكَلُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ ولَنَحَلُوكُمْ(6)فِي السِّرِّ والْعَلَانِيَةِ، رَحِمَ الله عَبْداً مِنْكُمْ كَانَ عَلَى

ص: 10


1- تفسير العياشي ج2 ص351 ح 86.
2- الكافي للكيني ج2 ص220 باب التقية ح 18.
3- (ترس الله) أي يمنع الخلق من عذاب الله أو من البلايا النازلة. [هامش المصدر].
4- الكافي للكيني ج2 ص220 باب التقية ح 19.
5- الكافي للكيني ج2 ص219 باب التقية ح 13.
6- نحله القول كمنعه: نسبه إليه. ونحل فلانا: سابه. وفى بعض النسخ [نجلوكم] بالجيم وفى القاموس نجل فلانا ضربه بمقدم رجله وتناجلوا: تنازعوا. [هامش المصدر].

وَلَايَتِنَا».(1)

وظاهر هذه الرواية هو الأمر بالتقية، لا مجرد الإخبار بأن التقية أمر نافع.

الدليل الثالث: الإجماع

فمما أجمع عليه الفقهاء وتسالم بينهم أنَّ التقية واجبة لو اضطر الإنسان لحفظ نفسه من الظالم فيجب عليه أن يتقي، إلا أنَّ وجوبها في الجملة، والوجوب في الجملة يُشير إلى أنَّ هناك مُستثنيات، إذ قد تكون مكروهة أحيانًا –كما سيتبين إن شاء الله تعالى-، والإجماع على وجوبها يدلُّ على جوازها من بابٍ أولى.

الدليل الرابع: العقل.

فسيرة العقلاء قائمةٌ على وجوب حفظ النفس فيما إذا دار الأمر بينه وبين إظهار شيءٍ ما قولًا أو فعلًا، وهو معنى التقية، خصوصًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار إنَّ أحكام الدين إنّما شُرِّعت لسعادة الإنسان في حياته، فإذا كانت هذه السعادة متوقفة على التقية من الأعداء لفترةٍ من الزمن، فالعقل حينئذ يستقلُّ بالحكم بحُسنِ التقية.

ومعنى قولنا (يستقل بالحكم)، أي يمكن للإنسان التوصل إلى هذا الحكم وإن لم يكن عارفًا بأي شريعةٍ؛ وذلك لأن العقل يحكم بوجوب تقديم الأهم على المهم، وبذا يكون حكمه تأسيسيًا.

فالتقية إذاً هي عبارة عن دوران الأمر بين الأهم والمهم، وتقديم الأهم. [مع ملاحظة المستثنيات التي ستأتي إن شاء الله تعالى].

الخطوة الثانية: نماذج للتقية من التاريخ:

1/ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إن قابيل أتى هبة الله (علیه السّلام)، فقال: ان أبي قد أعطاك

ص: 11


1- الكافي للكيني ج2 ص218 باب التقية ح 5.

العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك وأحق به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ فآثرك بذلك العلم عليّ، وإنك والله إن ذكرت شيئاً مما عندك من العلم الذي ورثك أبوك؛ لتتكبر به عليّ ولتفتخر عليّ لأقتلنك كما قتلت أخاك.

فاستخفى هبة الله بما عنده من العلم لينقضي دولة قابيل؛ ولذلك يسعنا في قومنا التقية، لأن لنا في ابن آدم أسوة، قال: فحدث هبة الله ولده بالميثاق سراً، فجرت والله السنة بالوصية من هبة الله في ولده، ومن يتخذه يتوارثونها عالم بعد عالم، وكانوا يفتحون الوصية كل سنه يوماً، فيحدثون أن أباهم قد بشرهم بنوح (علیه السّلام)...»(1)

2/ عن محمد بن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (علیهما السّلام): أخبرني عن قول الله (عزّ و جلّ) لموسى وهارون: ﴿اذْهَبا إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ﴾(2)؟

فقال (علیه السّلام): «أما قوله: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ أي كنيّاه، وقولا له: يا أبا مصعب، وكان أسم فرعون: أبا مصعب الوليد بن مصعب».(3)

4- قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(4)

تصف الآية المباركة الرجل بأنَّه كان يكتم إيمانه، وهذا يدلُّ أيضاً على شرعية التقية.

النقطة الثالثة: هل التقية نفاق ودجل؟

أراد البعض أن يصور التقية على أنَّها نفاقٌ ودجل، وأنَّ الشيعة منافقون ودجالون؛

ص: 12


1- قصص الأنبياء للراوندي ص 69 و 70 الباب الأول ح46.
2- طه 43 – 44.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 67ب57 ح1.
4- غافر 28.

لأنهم في بعض الأحيان يُظهرون ما لا يعتقدون به.

والصحيح أنَّ التقية ليست كذلك؛ لأن القرآن الكريم حكم بشرعيتها ولم ينهَ عنها، وكذا السنة المطهرة، فضلًا عن سيرة العقلاء وحكم العقل المستقل، فإنَّ الإنسان إذا تُرك وفطرته وعقله ولو من دون أي معرفةٍ بدينٍ أو شريعة فإنّه يُقدِّم الأهم فيما إذا دار أمره بين الأهم والمهم، ومعلومٌ أن حفظ النفس هو الأهم بشكلٍ عام طالما لم يكن هناك أهم منها.

الفرق بين التقية والنفاق:

إنَّ المنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فعقيدته وما بنى عليه أمره هو الكفر، وإنّما يُظهر الإيمان ليخدع المؤمنين ولمآرب أخرى، مثل التجسس عليهم، فيأخذ منهم غرتهم ويسلب أموالهم، لذا كان القصد من إظهار الإيمان هو الإضرار بالمسلمين.

على حين أنّ المؤمن عندما يمارس التقية فإنه يبقى في داخله محتفظًا بالإيمان، والإيمان هو ما انعقد عليه القلب لا مجرد ما أظهره اللسان، ولكنه يُظهر بلسانه أو بفعله ما يخالف الحق؛ بقصد دفع الضرر عن نفسه، لا بقصد إضرار الآخر كما يفعل المنافق.

النقطة الرابعة: مستثنيات التقية:

المورد الأول: لا تقية في الدم.

هناك موارد حكم الفقهاء فيها بعدم تشريع التقية رغم أنَّ عدم ممارسة التقية يؤدي إلى الضرر بالنفس؛ لأن للتقية حدوداً، كما أنّها كما تقدّم (دوران الأمر بين الأهم والمهم)، فإن تردد الأمر بين النفس وأمر هو أهم منها أو ما يساويها، فلا يُعمل بالتقية حينها، وسنذكر موردين:

المورد الأول: لا تقية في الدم.

كما لو أمرك الظالم بقتل نفسٍ وإلا قتلك، فهُنا لا يُعمل بالتقية بل تحرم؛ فلا يشرع

ص: 13

لك قتل الآخر الذي دمه حرام، لأنّ نفسك ليست أهم من نفس الآخر.

المورد الثاني: لا تقية فيما يوجب فساد الدين.

هناك أفرادٌ يترتب على تقيتهم فساد الدين، كالعالم مثلًا، فلو مارس التقية لأمكن أن يؤدي ذلك إلى فساد الدين ولو عند العامة؛ كمن يتقي فيقول: إنَّ الإمام علي (علیه السّلام) هو الخليفة الرابع، وهذا ما يوجب انحراف الأمة، لذا لا توجد تقية في أصول الدين مطلقًا.

النقطة الخامسة: التقوى.

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات.

تقدَّم أنَّ التقية إنّما تكون دفعًا للضرر عن النفس، أما إذا كانت حذرًا من مخالفة الله (سبحانه و تعالی) سميت ب(التقوى). والتقوى في حقيقتها مفهومٌ مركبٌ من جزأين، الأول: الاجتهاد، وهو فعل الواجبات، والثاني: الورع، وهو ترك المحرمات. وكلا الجزأين (الاجتهاد والورع) يقيان الإنسان من الغضب الإلهي المتولد من مخالفة القانون التشريعي الذي شرعه الله(عزّ و جلّ).

وما ذكرناه من معنى للتقوى إنما يمثل المرتبة الأولى لها، تلك المرتبة التي لا يعذر فيها مسلم، أما إذا تجاوزنا هذه المرتبة فهناك مرتبتان أخريان، وهذا يعني أنَّ للتقوى مراتب ثلاث:

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات.

وهذه لا يُعذر المسلم في مخالفتها، وإنّ المخالف لها ب(ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ) إذا كانت مخالفته مع الاعتراف بوجوب الواجب وحرمة المحرم كان فاسقًا، كتارك الصلاة مع اعترافه بوجوبها، وسامع الأغاني مع الاعتراف بحرمتها، أما إذا كانت مخالفته مع إنكار وجوب الواجب وحرمة المحرم، فقد استلزمت تكذيب النبي (صلّی الله علیه و آله)، ومن ثم كان کافراً.

ص: 14

الثانية: فعل المستحبات وترك المكروهات.

وميزتها عدم الإلزام فيها، إذ يستطيع الفرد ترك المستحب وفعل المكروه، ولا يستلزم ذلك خروجه عن الإيمان، بل كلُّ ما في الأمر أنه يكون قد فوَّت على نفسه ثوابًا عظيمًا.

الثالثة: تقوى الفكر.

بمعنى: عدم التفكير بمخالفة الحكم الشرعي سواء كان بفعل الواجب أو المستحب وبترك المحرم أو المكروه.

وغاية هذه المرتبة أنَّ الإنسان همته وغايته كلُّ ما يُرضي الله(عزّ و جلّ)، وروي عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ (علیه السّلام)، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم:... إنَّ موسىٰ نبيَّ الله (علیه السّلام) أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(1).

فإنّ في النفس شهوات كامنة واتجاهاً سلبياً كامناً، وعلى الإنسان الفطن أنْ يحرص على عدم إثارتها أو تحريكها؛ لذا ينبغي عليه أنْ يبعد نفسه عن التفكير في مخالفة الأمر الإلهي؛ للمحافظة على صفاء النفس وعدم تكديرها.

قال تعالىٰ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾(2)

فإنَّ بداية حفظ الفرج عن الحرام هو غض البصر عنه؛ لذلك يحكم بعض الفقهاء

ص: 15


1- الكافي للكليني 5: 542/ باب الزاني/ ح 7.
2- النور: 30 و31.

بحرمة تكلم المرأة مع رجلٍ ليس من محارمها في حالةِ الخوف من الوقوع في الحرام؛ لأنه يجر إلى الحرام بأنْ يتجسد في سلوك خارجي.

كما أنّ لنيةِ ارتكاب الحرام أثراً كبيراً على الإنسان يوم الحساب، فعن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾(1)، قال: «علىٰ نيَّته»(2).

إشارتان:

الإشارة الأولى: آثار الذنوب.

1/فساد القلب

إنّ ابتعاد الإنسان عن المحرمات هو أمرٌ مرغوب ومطلوب، ولكي يتولد الدافع لدى الإنسان في هذا الابتعاد ذكرت الروايات الشريفة الآثار المترتبة على الذنوب. وقد تنوّعت تلك الآثار بين الآثار المعنوية والآثار المادية، من الممكن أنْ نجد لكلٍ من تلك الآثار عدة عناوين، أهمها:

فساد القلب :

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «كَانَ أَبِي (علیه السّلام) يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْسَدَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَطِيئَةٍ، إِنَّ الْقَلْبَ لَيُوَاقِعُ الْخَطِيئَةَ، فَمَا تَزَالُ بِه حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْه، فَيُصَيِّرَ أَعْلَاه أَسْفَلَه».(3)

أي إنه يصير القلب منكوسًا، فإذا نزلت الرحمة الإلهية فلن يكون قابلًا لها.

ص: 16


1- الإسراء: 84.
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ح 94).
3- الكافي للكليني ج2 ص268 بَابُ الذُّنُوبِ ح1.

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلب علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(1).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا [ت]غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله(عزّ و جلّ): ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾(2)»(3).

2/زوال النعمة

تؤكد الروايات الشريفة أنَّ الله(عزّ و جلّ) حيث إنّه كريم منّان على عباده وغير محتاج إليهم، وأنه لا بخل في ساحته ولا عوز، فإنّه تعالى إذا أنعم على عبدٍ نعمةً، فلا يسلبها منه إلا إذا أحدث العبد ما يوجب سلب تلك النعمة منه.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الله(عزّ و جلّ) يريد أنْ يعطي فهو كريمٌ جواد (فالمقتضي تام) وعند إعطائه المفروض أن يستمر لدى ذلك العبد، ولكنه متى ما أذنب أحدث مانعًا من استمرار تلك النعمة عنده فتسلب منه.

لذا على العبد إنْ يلتفت إلى نفسه فيما إذا سُلِبت منه نعمة، يقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ما أنعم الله علىٰ عبد نعمة فسلبها إيّاه حتَّىٰ يذنب ذنباً يستحقُّ بذلك السلب»(4).

وفي رواية أخرى عنه (علیه السّلام): «إنَّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنَّ العمل

ص: 17


1- الكافي 2: 271/ باب الذنوب/ ح 13.
2- المطفّفين: 14.
3- الكافي 2: 273/ باب الذنوب/ ح 20.
4- الكافي 2: 274/ باب الذنوب/ ح 24.

السيِّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1).

3/حلول النقمة.

وهذا أيضًا ما تؤكده الروايات الشريفة، كما تؤكد على أنَّ حلول النقمة في عين كونه عقوبةً على الإنسان بسبب ما ارتكبه من ذنوب، فهو سببٌ لتكفير الذنوب عنه، وبذلك نتلمس عظيم كرمه وسعة رحمته (عزّ و جلّ)؛ إذ حتى في حلول النقمة كرمٌ منه(عزّ و جلّ) ورحمة لما فيه من تكفيرٍ لذنوبه.

ولكن هذا الأمر ليس بشكلٍ دائم، فإنّ الله(عزّ و جلّ) في الوقت الذي هو كريمٌ رحيمٌ، فإنّه شديد العقاب، فلا يصلنّ بالعبد الاغترار برحمة الله(عزّ و جلّ) إلى أن يتجاوز بارتكاب الذنوب.

ولنتذكر قوله تعالى ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾(2)

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ ولَا نَكْبَةٍ ولَا صُدَاعٍ ولَا مَرَضٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وذَلِكَ قَوْلُ الله(عزّ و جلّ) فِي كِتَابِه: ﴿وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): ومَا يَعْفُو الله أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِه».(3)

إن قلت: بماذا نفسر مرض المعصوم؟ هل من ذنب أم ماذا؟

قلت: ليس المرض هو العلة الوحيدة للأمراض، بل إنها قد تكون من باب الابتلاء لرفع الدرجة، كما صرحت بعض الروايات بذلك، فقد جاء في الروايات الشريفة أنَّ الله(عزّ و جلّ) يبتلي الإنسان ببدنه وبماله وأهله، لأنه يريد (سبحانه و تعالی )أنْ يزيد هذا العبد من درجته الكمالية فيبتليه فيحمد العبد ربه فترتفع درجته الكمالية.

ص: 18


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 115).
2- الشورى 30.
3- الكافي 2: 269/ باب الذنوب/ ح 3.

ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال لِزِنديق وقَد سَأَلَهُ: فَبِمَا استَحَقَّ الطِّفلُ الصَّغيرُ ما يُصيبُهُ مِنَ الأَوجاعِ وَالأَمراضِ بِلا ذَنب عَمِلَهُ ولا جُرم سَلَفَ مِنهُ؟

فَقالَ (علیه السّلام): «إنَّ المَرَضَ عَلى وُجوه شَتّى: مَرَضُ بَلوى، وَمرَضُ عُقوبَة، ومَرَضٌ جُعِلَ عِلَّةً لِلفَناءِ، وأنتَ تَزعُمُ أنَّ ذلِكَ مِن أغذِيَة رَدِيَّة، وأشرِبَة وَبِيَّة أو عِلَّة كانَت بِأُمِّهِ، وتَزعُمُ أنَّ مَن أحسَنَ السِّياسَةَ لِبَدَنِهِ وأجمَلَ النَّظَرَ في أحوالِ نَفسِهِ وعَرَفَ الضّارَّ مِمّا يَأكُلُ مِنَ النّافِعِ لَم يَمرَض، وتَميلُ في قَولِكَ إلى مَن يَزعُمُ أنَّهُ لا يَكونُ المَرَضُ وَالمَوتُ إلاّ مِنَ المَطعَمِ وَالمَشرَبِ! قَد ماتَ (أرَسطا طاليسُ) مُعَلِّمُ الأَطِبّاءِ، و (أفلاطونُ) رَئيسُ الحُكَماءِ، و (جالينوسُ) شاخَ ودَقَّ بَصَرُهُ، وما دَفَعَ الموتَ حينَ نَزَلَ بِساحَتِهِ، ولَم يَألوا حِفظَ أنفُسِهِم، وَالنَّظَرَ لِما يُوافِقُها، كَم مِن مَريض قَد زادَهُ المُعالِجُ سُقماً؟ وكَم مِن طَبيب عالِم وبَصير بِالأَدواءِ وَالأَدوِيَةِ ماهِر ماتَ، وعاشَ الجاهِلُ بِالطِّبِّ بَعدَهُ زَماناً؟! فَلا ذاكَ نَفَعَهُ عِلمُهُ بِطِبِّهِ عِندَ انقِطاعِ مُدَّتِهِ وحُضورِ أجَلِهِ، ولا هذا ضَرَّهُ الجَهلُ بِالطِّبِّ مَعَ بَقاءِ المُدَّةِ وتَأَخُّرِ الأَجَلِ!»(1)

4/آثار تكوينية.

إنّ الروايات الشريفة تذكر أنّ للذنوب مدى تأثيرٍ يتجاوز الفاعل (المذنب نفسه)، مثل الإشعاعات الجرثومية التي هي ليست محددةً بمنطقةٍ معينة، وإنّما قد تنتشر إلى مدن أخرى، فالإنسان عندما يُذنب لا يؤثر على نفسه فقط، بل قد يؤثر على ذريته وعلى ما يمتلكه من أموال، بل حتى قد يؤثر على نزول المطر، والقرآن يقول: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(2)

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: سمعته يقول: «إنَّه ما من سنة أقلّ مطراً من

ص: 19


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص84 و 85.
2- الروم: 41.

سنة، ولكنَّ الله يضعه حيث يشاء، إنَّ الله(عزّ و جلّ) إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدَّر لهم من المطر في تلك السنة إلىٰ غيرهم وإلىٰ الفيافي والبحار والجبال. وإنَّ الله ليُعذِّب الجعل في جُحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلِّها بخطايا من بحضرتها. وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوىٰ محلَّة أهل المعاصي»، قال: ثمّ قال أبو جعفر (علیه السّلام): «فاعتبروا يا أُولي الأبصار»(1).

ويشمل أيضاً الآثار علىٰ الأفراد الآخرين: وهي ما روي عن النبيِّ الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «الذنب شؤم علىٰ غير فاعله، إن عيَّره ابتلي به، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه»(2).

آثار خاصة لبعض الذنوب:

عن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «الذنوب التي تُغيِّر النعم البغي، والذنوب التي تورث الندم القتل، والتي تُنزِل النِّقَم الظلم، والتي تهتك الستر شرب الخمر، والتي تحبس الرزق الزنا، والتي تُعجِّل الفناء قطيعة الرحم، والتي تردُّ الدعاء وتُظلِم الهواء عقوق الوالدين».(3)

وعن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «كان أبي (علیه السّلام) يقول: نعوذ بالله من الذنوب التي تُعجِّل الفناء، وتُقرِّب الآجال، وتُخلي الديار، وهي قطيعة الرحم، والعقوق، وترك البرِّ». (4)

وقال أبو عبد الله (علیه السّلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمَّة أُديل لأهل الشرك من أهل

ص: 20


1- الكافي للكليني 2: 272/ باب الذنوب/ ح 15.
2- الجامع الصغير للسيوطي 1: 668/ ح 4353.
3- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 1.
4- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 2.

الإسلام، إذا منعت الزكاة ظهرت الحاجة».(1)

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان»(2).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «أربعة أسرع شيء عقوبةً: رجل أحسنت إليه ويكافيك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته علىٰ أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك، ورجل يصل قرابته ويقطعونه»(3).

وعنه (علیه السّلام): «في كتاب عليٍّ (علیه السّلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهنَّ أبداً حتَّىٰ يرىٰ وبالهنَّ: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة»(4).

وقال الإمام عليّ (علیه السّلام) - لمَّا سُئِلَ: أيُّ ذنب أعجل عقوبةً لصاحبه؟ -: «من ظلم من لا ناصر له إلَّا الله، وجاور النعمة بالتقصير، واستطال بالبغي علىٰ الفقير»(5).

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى.

1/الوقاية خير من العلاج،

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى.(6)

1/الوقاية خير من العلاج، فالابتعاد عن الذنب أفضل من التوبة منه بعد اقترافه، فمن أذنب وتاب يكون حاله كالإناء المكسور الذي تم تصليحه، فإنه وإن كنا نراه تاماً، لكنَّه حتمًا لم يعد كالأول.

2/التعجيل بالتوبة.

ص: 21


1- الكافي 2: 447 و448/ باب في تفسير الذنوب/ ح 3.
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 237/ ح 1).
3- الخصال: 230/ ح 71.
4- الكافي 2: 347/ باب قطيعة الرحم/ ح 4.
5- الاختصاص: 234.
6- للتفاصيل انظر: ملاك التفاضل في الإسلام- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص59 وما بعدها.

فإنْ لم يتمكن الإنسان من وقاية نفسه من المعاصي، فعليه المبادرة إلى إعلان التوبة بعد ارتكابها مباشرةً، يقول أمير المؤمنين (علیه السّلام) في وصيَّته لولده الإمام الحسن (علیه السّلام): «... وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...»(1).

3/لا تضع نفسك في مأزق.

فعن داود الرقّي، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه»، قيل له: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: «يتعرَّض لما لا يطيق»(2)،

في رواية أُخرىٰ: «يدخل فيما يُتعذَّر منه»(3).

وللهروب من المأزق مصاديق، منها:

أ/ اهرب من الفتوى:

يقول الإمام الصادق (علیه السّلام) في نصيحته لعنوان البصري: «... واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً»(4).

ب/ابتعد عن الشبهات:

يقول رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أُمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقىٰ الشبهات استبرأ لعِرضه ودِينه، ومن وقع في الشبهات

ص: 22


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 48 و49).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 4).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63 و64/ باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق/ح 5).
4- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

وقع في الحرام، كراعٍ يرعىٰ حول الحمىٰ يُوشِك أن يواقعه»(1).

ج/لا تُثر في نفسك الشهوات المحرمة، ويدخل ضمن هذا المعنى:

-لا تمش خلف امرأة وتنظر لمحاسنها:

روي عن الإمام الكاظم (علیه السّلام) في قوله تعالىٰ: ﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾(2)،

«قال لها شعيب (علیه السّلام): يا بنيَّة، هذا قويٌّ قد عرفتيه برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبتِ إنّي مشيت قدّامه، فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلىٰ الطريق فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء»(3).

-لا تنفرد بامرأة:

روي عن محمّد الطيّار، قال: دخلت المدينة وطلبت بيتاً أتكاراه، فدخلت داراً فيها بيتان بينهما باب وفيه امرأة، فقالت: تكاري هذا البيت؟ قلت: بينهما باب وأنا شابٌّ، قالت: أنا أُغلق الباب بيني وبينك، فحوَّلتُ متاعي فيه، وقلت لها: أغلقي الباب، فقالت: تدخل عليَّ منه الرَّوح، دعه، فقلت: لا، أنا شابٌّ وأنت شابَّة أغلقيه، قالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك ولا أقربك، وأَبَتْ تغلقه، فأتيت أبا عبد الله (علیه السّلام) فسألته عن ذلك، فقال: «تحوَّل منه، فإنَّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان»(4).

-لا تنظر إلى امرأة نظرة محرَّمة:

قال أبو عبد الله (علیه السّلام): «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله(عزّ و جلّ) لا لغيره

ص: 23


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 428 و429/ح 7291).
2- القَصص: 26.
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 19/ ح 4974).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 252/ ح 3913).

أعقبه الله إيماناً يجد طعمه»(1).

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «... ومن ملأ عينيه من امرأة حراماً، حشاهما الله تعالىٰ يوم القيامة بمسامير من النار، وحشاهما ناراً، حتَّىٰ يقضي بين الناس، ثمّ يُؤمَر به إلىٰ النار»(2).

وهكذا بالنسبة للمرأة أيضًا، فعليها أنْ لا تظهر مفاتنها، وأن لا تنظر إلى الرجلِ بريبة، وأنْ لا تختلي برجل غير محرم.

4/لا تهتك ستر مؤمن:

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «من اطَّلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقًّا علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين، الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله، ويُبدي للناس عورته في الآخرة»(3).

5/ لا تتعرب بعد الهجرة.

أي (أنْ ينتقل المكلَّف من بلد يتمكَّن فيه من تعلُّم ما يلزمه من المعارف الدِّينية والأحكام الشرعية، ويستطيع فيه أداء ما وجب عليه في الشريعة المقدَّسة، وترك ما حرم عليه فيها، إلىٰ بلد لا يستطيع فيه علىٰ ذلك كلّاً أو بعضاً)(4).

ص: 24


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 4/ ص 18/ ح 4969).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 286).
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 282).
4- فقه الحضارة للسيِّد السيستاني (ص 135).
6/ لا تَعِد بما لا تستطيع فعله.

فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «المنع الجميل أحسن من الوعد الطويل»(1).

وعنه (علیه السّلام): «لا تَعد ما تعجز عن الوفاء به»(2).

7/ لا تطمع بما عند الناس.

فإنَّه يوجب الوقوع في الذلِّ، فإنَّ الطمع مركب أعمىٰ، لا يرىٰ إلَّا الوصول إلىٰ إشباع حاجته، ولو علىٰ حساب ذلِّ النفس، فمن كان طمّاعاً كان إلىٰ الذلِّ أقرب منه إلىٰ العزِّ. وقد روي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنَّه قال: «لا ذلَّ كذلِّ الطمع»(3).

8/ لا تكذب.

فقد روي أنه قال رجل له (صلّی الله علیه و آله): المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: المؤمن يسرق؟ قال (صلّی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك»، قال: يا رسول الله، المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾(4)»(5).

وعن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ الله (عزّ و جلّ) جعل للشرِّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب»(6).

9/لا تغضب.

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ هذا الغضب جمرة من الشيطان،

ص: 25


1- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 67.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي: 517.
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 286).
4- النحل: 105
5- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 118/ ح 275).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 338/ باب الكذب/ ح 3).

تُوقَد في قلب ابن آدم، وإنَّ أحدكم إذا غضب احمرَّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإنَّ رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك»(1).

والظاهر أنَّ المقصود من (دخل الشيطان فيه) ليس المعنىٰ الحقيقي، وإنَّما الكناية عن تملُّك الشيطان زمام الأمر عند الغضب، ممَّا يعني الوقوع في مصائد الندم والحسرة وعضِّ الأنامل!

10/تواضع.

فقد ذكرت الروايات الشريفة أنَّ الأمر الذي كان وراء انتجاب النبي موسى الكليم (علیه السّلام) هو التواضع، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «أوحىٰ الله إلىٰ موسىٰ بن عمران (علیه السّلام): أتدري يا موسىٰ لم انتجبتك من خلقي واصطفيتك لكلامي؟

فقال: لا يا ربِّ.

فأوحىٰ الله إليه: إنّي اطَّلعت إلىٰ الأرض فلم أجد عليها أشدّ تواضعاً لي منك.

فخرَّ موسىٰ ساجداً وعفَّر خدَّيه في التراب تذلُّلاً منه لربِّه (عزّ و جلّ).

فأوحىٰ الله إليه: ارفع رأسك يا موسىٰ، وأمر يدك في موضع سجودك، وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك، فإنَّه أمان من كلِّ سقم وداء وآفة وعاهة»(2).

نلفت النظر إلى أن هناك علاقات بين الأمور التشريعية والتكوينية لنسمِّها بالعلاقات العكسية، فمن أراد أن يكون عظيمًا عند الناس فعليه أن يتواضع لهم، ولذا النبي (صلّی الله علیه و آله) كان يسلم حتى على الصبيان. فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهنَّ

ص: 26


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 304 و305/ باب الغضب/ح 12).
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 78/ ح 188).

حتَّىٰ الممات:الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي».(1)

11/أخلِص العمل.

فمن دون الإخلاص في النية يكون المؤمن غافلًا، يقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ولا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، إذ لو لم يكن بهذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله بقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 44)»(2).

12/احبس جوارحك.

أنْ يحبس الإنسان جوارحه عن الحرام، وفي هذا المجال يصف أمير المؤمنين (علیه السّلام) المتَّقين فيما يصفهم: «... فالمتَّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، غضُّوا أبصارهم عمَّا حرَّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم علىٰ العلم النافع لهم...»(3).

13/لا تستمع الغناء.

فإنَّ الغناء يفتكُ بالتقوى، فعن مسعدة بن زياد، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السّلام)، فقال له رجل: بأبي أنت وأُمّي إنَّني أدخل كنيفاً لي ولي جيران عندهم جوار يتغنَّين ويضربن بالعود، فربَّما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهنَّ؟ فقال: «لا تفعل»، فقال الرجل: والله ما آتيهنَّ إنَّما هو سماع أسمعه بأُذُني! فقال: «لله أنت، أمَا سمعت الله(عزّ و جلّ)

ص: 27


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 271.
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 99/ح 86/3)، عن مصباح الشريعة.
3- نهج البلاغة (ج 2/ ص 160 و161).

يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾(1)؟!»،

فقال: بلىٰ والله لكأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من أعجمي ولا عربي، لا جرم إنَّني لا أعود إن شاء الله، وإنّي أستغفر الله.

فقال له: «قم فاغتسل(2)

وسَلْ ما بدا لك، فإنَّك كنت مقيماً علىٰ أمر عظيم، ما كان أسوء حالك لو متَّ علىٰ ذلك! احمد الله وسَلْه التوبة من كلِّ ما يكره فإنَّه لا يكره إلَّا كلَّ قبيح، والقبيح دعه لأهله فإنَّ لكلٍّ أهلاً»(3).

14/ اصبر.

فعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(4).

15/اقرأ عن المتقين.

فإنَّ القدوة الحسنة لها تأثيرٌ على سلوك الإنسان، وعلى رأس المتقين أئمتنا (علیهم السّلام).

النقطة السادسة: كيف حمى أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم وأتباعهم؟

1/التقية.

الجواب: لبيان الإجراءات العملية التي قام بها أهل البيت (علیهم السّلام) لحماية شيعتهم، نذكر عدة طرق:

1/التقية.

وهو طريق عقلائي، وقد عُرِفت الشيعة بها لما مرت عليهم من ظروف صعبة

ص: 28


1- الإسراء: 36
2- الظاهر أنَّ المراد هنا هو غُسل التوبة.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 432/ باب الغناء/ ح 10).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 87/ باب الصبر/ ح 2).

ألزمتهم أنْ يتخذوا هذا الإجراء الوقائي دفعًا لضرر أعدائهم.

وفي هذا المجال روي أن علي بن يقطين كتب إلى [الإمام] موسى بن جعفر (علیه السّلام): اختلف في (المسح على الرجلين)، فان رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت.

فكتب أبو الحسن (علیه السّلام): «الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره. فامتثل أمره، وعمل عليه».

فقال الرشيد [يوماً]: أحب أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنهم يقولون: إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء [فطلبه] فناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة، فوقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين، ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء، فتوضأ كما أمره موسى (علیه السّلام)، (فقام الرشيد وقال): كذب من زعم أنك رافضي.

فورد على علي بن يقطين [بعد ذلك] كتاب موسى بن جعفر (علیه السّلام): من الآن توضأ كما أمر الله تعالى: اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغاً، واغسل [يديك] من المرفقين كذلك، وامسح مقدم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك.(1)

2/العمل داخل البلاط الحاكم.

فقد أمروا (علیهم السّلام) بعض الشيعة أن يدخلوا في البلاط الحاكم، مع عدم إظهارهم التشيع، رغم وجود العديد من الروايات التي تحرم على الشيعة أنْ يكونوا في بلاط

ص: 29


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص335 ب8 ح 26.

الظالم؛ وذلك لرواياتٍ جاء فيها أمرٌ لخُلِّصِ الشيعة أنْ يبقوا داخل البلاط، وأشهر ما يذكر لهذه المسألة هو علي بن يقطين من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السّلام)، فهذا المكان لا يتمكن أي واحدٍ أن يكون ثابتًا ومحافظًا على دينه فيه، لكن الأئمة (علیهم السّلام) كانوا يعرفون شيعتهم وأيهم يستطيع البقاء والثبات، لذا أذن الإمام الكاظم (علیه السّلام) لابن يقطين بالبقاء في بلاط الحكام، بشرط الثبات والحفاظ على الدين، فإن في بقائه فائدة للشيعة، فقد يستطيع من خلال سلطته أنْ يُخفف الظلم عنهم، كما سيكون عينًا لهم فيوصل أخبار السلطة الظالمة السرية إليهم عمومًا وإلى الإمام خصوصًا ليتم توخّي الحذر منهم، ولربما يستطيع بطريقةٍ أو أخرى أنْ يؤثر ولو جزئيًا على الحاكم باعتباره من الحاشية.

فقد روي أنه لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر(علیهما السّلام) العراق، قال علي بن يقطين: أما ترى

حالي وما أنا فيه؟! فقال (علیه السّلام): «يا علي، إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة، ليدفع بهم عن أوليائه، وأنت منهم يا علي».(1)

وفي رواية أخرى أنه قال أبو الحسن (علیه السّلام) لعلي بن يقطين: «اضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثاً». فقال علي: جعلت فداك وما الخصلة التي أضمنها لك، وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟

فقال أبو الحسن (علیه السّلام): «الثلاث اللواتي أضمنهن لك: أن لا يصيبك حر الحديد أبداً بقتل، ولا فاقة، ولا سجن حبس»، قال، فقال علي: وما الخصلة التي أضمنها لك؟ قال، فقال: «تضمن أن لا يأتيك وليٌّ أبدا الا أكرمته»، قال: فضمن عليٌّ الخصلة، وضمن له أبو الحسن الثلاث.(2)

ص: 30


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 731 رقم (817).
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 731 و732 رقم (818).

3/ذمُّ بعض شيعتهم.

وهو من أغرب الطرق، فكان الأئمة (علیهم السّلام) في بعض الأحيان يذمون بل يلعنون بعض أصحابهم لإبعاد عيون الأعداء عنهم، وأوضح مثال على ذلك ما ورد في لعن الإمام الصادق (علیه السّلام) لزرارة. وزرارة ذلك الذي قال فيه الإمام الصادق (علیه السّلام): «بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير بن ليث البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».(1)

وعن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «أوتاد الأرض، وأعلام الدين أربعة: محمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وليث بن البختري المرادي، وزرارة بن أعين».(2)

ورغم كلِّ ذلك المقام الرفيع لزرارة، إلا أنَّ هناك رواية بين الإمام الصادق (علیه السّلام) وزياد بن أبي الحلال حيث سأل الإمام الصادق (علیه السّلام) عن مسألةٍ فقهية نقلها زرارة عن الإمام، فيقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت، كذب عليّ والله، كذب عليّ والله، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة».(3)

ولكي لا نكون في حيرةٍ من أمرنا من تضارب هاتين الروايتين، نذكر الرواية التي كانت للإمام الصادق (علیه السّلام) مع ابن زرارة عبد الله، والتي تبين حقيقة الحال من رواية اللعن.

عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): «اقرأ مني على والدك السلام،

ص: 31


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 398 رقم (286).
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 507 رقم (432).
3- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 359 -361 رقم (234).

وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقربه، يرمونه لمحبتنا له وقربة ودنوّه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن وأن نحمد أمره.

فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا ولمَيلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر لمودتك لنا ولمَيلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منا دفع شرهم عنك يقول الله جل وعز ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾(1)، هذا التنزيل من عند الله صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ والحمد الله.

فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحب الناس إلي، وأحب أصحاب أبي (علیه السّلام) حياً وميتاً، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، أن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثم يغصبها وأهلها، فرحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا، ولقد أدى إليّ ابناك الحسن والحسين رسالتك، أحاطهما الله وكلأهما ورعاهما وحفظهما بصلاح أبيهما كما حفظ الغلامين، فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي (علیه السّلام) وأمرتك به، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق، ولو أذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم به، فردوا إلينا الأمر وسلّموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها، والذي فرّق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه، وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها، فان شاء فرق بينها لتسلم، ثم يجمع بينها لتأمن من فسادها وخوف عدوها في آثار ما يأذن الله

ص: 32


1- الكهف 79.

تعالى، ويأتيها بالأمن من مأمنه والفرج من عنده، عليكم بالتسليم والرد إلينا وانتظار أمرنا وأمركم وفرجنا وفرجكم...»(1)

وكقاعدةٍ كلية لهذا الطريق، روي عَنْ نَصْرٍ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: «مَنْ عَرَفَ أَنَّا لَا نَقُولُ إِلَّا حَقّاً، فَلْيَكْتَفِ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا، فَإِنْ سَمِعَ مِنَّا خِلَافَ مَا يَعْلَم، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ مِنَّا عَنْه».(2)

4/عدم إدخال الشيعة في حربٍ خاسرة.

لأنَّ ذلك يعني التصفية الشاملة من دون مبرر ومن دون فائدة، وهذا الأمر يرجع بالخسارة على الشيعة بالخصوص، ويتجلى هذا الطريق فيما ورد عنهم (علیهم السّلام) من عدم قيامهم لعدم توفر الأنصار بالعدد الكافي.

عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ لَه: والله مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ!

فَقَالَ (علیه السّلام): «ولِمَ يَا سَدِيرُ؟»

قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وشِيعَتِكَ وأَنْصَارِكَ، والله لَوْ كَانَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ والأَنْصَارِ والْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيه تَيْمٌ ولَا عَدِيٌّ.

فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، وكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا؟»، قُلْتُ: مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ (علیه السّلام): «مِائَةَ أَلْفٍ؟!» قُلْتُ: نَعَمْ، ومِائَتَيْ أَلْفٍ. قَالَ (علیه السّلام): «مِائَتَيْ أَلْفٍ؟!» قُلْتُ: نَعَمْ، ونِصْفَ الدُّنْيَا!

قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا، فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ، فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، أتَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي

ص: 33


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 349 و 350 رقم (221)
2- الكافي للكليني ج1 ص65 و66 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح6.

بِالْحِمَارِ؟!» قُلْتُ: الْبَغْلُ أَزْيَنُ وأَنْبَلُ. قَالَ (علیه السّلام): «الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي». فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ، ورَكِبْتُ الْبَغْلَ، فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ (علیه السّلام): «يَا سَدِيرُ، انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ». ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام): «هَذِه أَرْضٌ سَبِخَةٌ، لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا»، فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ، ونَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً، فَقَالَ (علیه السّلام): «والله يَا سَدِيرُ، لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِه الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ».

ونَزَلْنَا وصَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ!(1)

فالمشكلة ليست في أهل البيت (علیهم السّلام)، بل في المجتمع؛ إذ لم يُنتج عددًا كافيًا من الأصحاب الخُلّص الذين هم على مستوى من الثقة والإيمان والثبات للقيام بمثل هذا الأمر.

وهذا ما صرح به الإمام الحسن (علیه السّلام)، حيث روي أنّه دخل أحدهم على الإمام (علیه السّلام) بعد الصلح مع معاوية فسلّم عليه وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فيجيبه الإمام (علیه السّلام): «ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الامر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم...»(2)

لذا كان أهل البيت (علیهم السّلام) عندما يرون أنَّ هناك حرباً خاسرة، فإنهم يأمرون شيعتهم بالقعود عنها؛ لأنها سوف لا تكون إلا عبارة عن تصفية جسدية ومعنوية لهم.

5/أمرهم (علیهم السّلام) شيعتهم بالعمل المخفي.

رغم أنَّه كان لبعض الشيعة مهام عظيمة أُلقيت عليهم، لكن بترتيبٍ من أهل

ص: 34


1- الكافي للكليني ج2 ص242 و243 بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ ح4.
2- تحف العقول للحراني ص 308.

البيت (علیهم السّلام) أمروهم بعملٍ معين تغطيةً على أمرهم، وأوضح شاهد على ذلك هو السفير الأول عثمان بن سعيد الملقب بالعمري والأسدي والعسكري والسمان، حيث كان يتجر بالسمن تغطيةً على أمره؛ كونه سفيرًا للإمام (علیه السّلام) حيث كان موضع ثقةٍ للإمام الهادي والعسكري والمهدي (علیهم السّلام)، فكان يضع الأموال والرسائل في جراب السمن خوفًا من أن يُكشف أمره، وبهذه الطريقة كان أمثال عثمان بن سعيد (رضوان الله تعالى عليه) يتجاوزون الخطر.

الخلاصة: كان أهل البيت (علیهم السّلام) يعملون قدر الإمكان على الحفاظ على شيعتهم حبًا بهم ومن أجل أن لا تنقطع جذورهم ويحفظ التشيع.

التقية المداراتية:

بالإضافة إلى النوعين المتقدمين من التقية، هناك نوع آخر يُسمى بالتقية المداراتية قد أشار إليها الشيخ(رحمه الله)بقوله «واستصلاحًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم ولمًا لشعثهم»، والغاية منها ليس هو دفع الضرر خوفًا من المقابل، وإنّما من أجل جذبه إلى الحق، بمعنى أنْ لا يُظهر الشيعي معتقده للمخالف في بادئ الأمر ويتحفظ عليه حتى ينجذب له ويطمئن، حينئذٍ يُظهر له الأمر.

وهناك مطلبٌ فقهيٌ بخصوص التقية، أشار إليه الشيخ رحمه الله(عزّ و جلّ) بقوله: (وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية). إشارة منه إلى أن التقية تدخل في أبواب الأحكام التكليفية الخمسة حسب اختلاف المورد، وفي ذلك تتم مراجعة الكتب الفقهية.

ص: 35

ص: 36

الفصل الرابع: ما أدّب به أهل البيت عليهم السلام شيعتهم

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟

قال(قدّس سرّه):

«تمهيد:

إنَّ الأئمة من آل البيت (علیهم السّلام) علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.

فكان من الطبيعي - من جهة - أنْ يتخذوا التكتم «التقية» ديناً وديدناً لهم ولأتباعهم، ما دامت التقية تُحقَنُ من دمائهم ولا تُسيئ إلى الآخرين ولا إلى الدين، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم - من جهةٍ أخرى - أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية، وإلى توجيههم توجيها دينياً صالحاً، وإلي أنْ يسلكوا بهم مسلكاً اجتماعياً مفيداً، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

وطريقة آل البيت في التعليم لا تُحيط بها هذه الرسالة، وكتب الحديث الضخمة متكلفةٌ بما نشروه من تلك المعارف الدينية، غير أنّه لا بأس أنّ نُشير هنا إلى بعض ما يشبه أنْ يدخل في باب العقائد فيما يتعلق بتأديبهم لشيعتهم، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد، وتُقربهم زلفى إلى الله(عزّ و جلّ)، وتطهر صدورهم من درن الآثام والرذائل،

ص: 37

وتجعل منهم عدولاً صادقين. وقد تقدّم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعياً لهم، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعنُّ لنا من هذه الآداب». انتهى.

ذكر المصنف (قدّس سرّه) مطلباً نبينه في نقطتين:

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟

ذكر الشيخ (قدّس سرّه) في هذا الفصل العديد من الآداب الإسلامية التي توارثها الشيعة من أهل البيت (علیهم السّلام).

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ وهو: إنّ كتاب عقائد الإمامية قد عُدّ لبيان عقائد الشيعة وأصول دينهم، فما هو ارتباط هذه الآداب بأصول الدين؟

ويمكن الجواب عن هذا السؤال بعدةِ وجوه، هي:

الوجه الأول:

إنَّ تلك الآداب التي ذكرها الشيخ(رحمه الله)إنّما هي آدابٌ من مختصات الشيعة الإمامية ولو في بعض مراتبها، كزيارة القبور مثلًا، وبالتالي قد يُستشكل على الشيعة، أو يتم اتهامهم بأنّهم قد أسسوا لأمورٍ لا تمت إلى الإسلام بصلة، ومن ثم تكون بدعةً (أي إدخال شيءٍ ليس من الدين بالدين)، ونحن كشيعة نحتاج حينئذٍ إلى بيان حقيقة الأمر فيها.

وحيث أُخِذت تلك الآداب عن أهل البيت (علیهم السّلام) الذين ثبتت حجيتهم في المباحث السابقة، كان المقامُ مناسبًا لطرحها لصلتها الوثيقة بما تمّ بحثه، إذ ما داموا هم حجة علينا، فيجوز الأخذ بقولهم تعبدًا، وقد حثّوا على زيارة القبور والدعاء وغيرها من الآداب التي يذكرها الشيخ(رحمه الله)، وبذا نُثبت شديد الصلة بين تلك الآداب والإسلام.

وينتج: أن هذه الآداب ليست بدعة؛ لأنها مأخوذة من أهل البيت (علیهم السّلام)، وقد

ص: 38

عرفنا أنّ أهل البيت (علیهم السّلام) قد صرّحوا في مناسباتٍ كثيرة أنّهم يستمدون ما عندهم من رسول الله (صلّی الله علیه و آله).

فعَنْ قُتَيْبَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَجَابَه فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وكَذَا مَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا؟ فَقَالَ (علیه السّلام) لَه: «مَه، مَا أَجَبْتُكَ فِيه مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَنْ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، لَسْنَا مِنْ: (أرَأَيْتَ) فِي شَيْءٍ».(1)

الوجه الثاني:

إنَّ تلك الآداب -وعلى الأقل في بعض مراتبها- كانت مثارًا لطرح الشبهات على الشيعة، مثلًا في الدعاء، فإن غيرنا وإن كان يدعو أيضًا لكنه جعل الدعاء الجماعي من البدعة، والقول بأنَّ أمرًا ما عند الشيعة بدعةٌ يعني أنَّ هناك خللًا في عقيدتهم، لذا نحتاج إلى أن نقدم جوابًا عن ذلك، وكذا في زيارة القبور، فقد عدّها البعضُ شركًا وبالتالي فلها ارتباطٌ وثيقٌ بالتوحيد وبقية أصول الدين.

وعلى أساس هذين الوجهين –وربما غيرهما- وضع الشيخ (رحمه الله) هذه الآداب في كتاب العقائد.

النقطة الثانية: لماذا فتح أهل البيت (علیهم السّلام) باب هذه الآداب لشيعتهم؟

عقيدتنا في الدعاء

الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي.

لعدةِ أسباب أهمها:

أولًا: إنَّ تلك الآداب -كالدعاء وعدم التعامل مع الظالمين وما شابه- هي على كلِّ حالٍ مما يقرب العبد لله(عزّ و جلّ)، واللطف يقتضي بيانها بشكلٍ تفصيلي حتى يستطيع العبد التقرب الى الله(عزّ و جلّ).

ثانيًا: وهو ما أشار إليه الشيخ(رحمه الله)في عبارته:

ص: 39


1- الكافي للكيني ج1 ص58 بَابُ الْبِدَعِ والرَّأْيِ والْمَقَايِيسِ ح21.

إنَّ تلك الآداب كانت وسيلةً مهمةً لإيصال:

1- الأحكام الشرعية.

2- العقائد الصحيحة.

3- أنظمة الحياة السلوكية.

ومثالُ ذلك (الأدعية)، فإنَّ لكلِّ أئمتنا (علیهم السّلام) أدعية تضمنت في داخلها (أحكاماً شرعية، عقائد وسلوكاً).

وكان بثُّ هذه الأحكام من خلال الأدعية لأجل إيصالها لشيعتهم من دون إلفات نظر السلطات إليهم؛ لأن السلطات في ذلك الوقت كان لها شعار (خذوهم على التهمة)(1)

فكان القاصي والداني يعلم أنَّ شيعة أهل البيت (علیهم السّلام) قد ذاقوا الأمرين من هذه السلطات.

لقد وصل الأمر بالناس في ذلك الوقت أن يتعاملوا مع أهل البيت (علیهم السّلام) تعاملاً غير لائق، فقد روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «كُنْتُ أَطُوفُ وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرِيبٌ مِنِّي، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) يَصْنَعُ بِالْحَجَرِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْه؟ فَقُلْتُ [أي الإمام الصادق (علیه السّلام)]: كَانَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) يَسْتَلِمُه فِي كُلِّ طَوَافِ فَرِيضَةٍ ونَافِلَةٍ.

قَالَ: فَتَخَلَّفَ عَنِّي قَلِيلاً، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْحَجَرِ جُزْتُ ومَشَيْتُ فَلَمْ أَسْتَلِمْه، فَلَحِقَنِي فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الله، ألَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّ رَسُولَ الله (صلّی الله علیه و آله) كَانَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي كُلِّ طَوَافِ

ص: 40


1- من كتاب يزيد (لعنه الله) إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة: أما بعد:... وإنه قد بلغني أن حسينا قد توجه إلى العراق فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنة واقتل على التهمة، واكتب إلي فيما يحدث من خبر إن شاء الله. [الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص65 و 66]

فَرِيضَةٍ ونَافِلَةٍ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ مَرَرْتَ بِه فَلَمْ تَسْتَلِمْ! فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَرَوْنَ لِرَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) مَا لَا يَرَوْنَ لِي، وكَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ أَفْرَجُوا لَه حَتَّى يَسْتَلِمَه، وإِنِّي أَكْرَه الزِّحَامَ».(1)

وهذه الرواية إنْ دلت على شيءٍ فإنّما تدلُّ على قلة احترام الناس للأئمة (علیهم السّلام)، كما تدلُّ على أنَّ الإمام يعمل على إيصال الأحكام الشرعية للشيعة وإنْ لم يُتح له امتثالها.

ص: 41


1- الكافي للكليني ج4 ص404 و 405 بَابُ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ ح2.

ص: 42

عقيدتنا في الدعاء:

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الدعاء:

قال النبي (صلّی الله علیه و آله): «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض»، وكذلك هو، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة. وقد أودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبي وآل بيته (علیهم السّلام) من الحث على الدعاء والترغيب فيه. حتى جاء عنهم: «أفضل العبادة الدعاء» و «أحبُّ الأعمال إلى الله(عزّ و جلّ) في الأرض الدعاء» بل ورد عنهم: «إنّ الدعاء يرد القضاء والبلاء»، و «أنّه شفاءٌ من كُلِّ داءٍ».

وقد ورد أنّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان رجلاً (دعّاءً)، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أنْ يكون وهو سيد الموحدين وإمام الآلهيين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آيةٍ من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور، وقد تضمّنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينية ما يُصلِحُ أنْ تكون منهجاً رفيعاً للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة إنّ الأدعية الواردة عن النبي وآل بيته (علیهم السّلام) خيرُ منهجٍ للمسلم - إذا تدبرها - تبعث في نفسه قوة الإيمان، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرفه، سر العبادة، ولذة مناجاة الله(عزّ و جلّ) والانقطاع إليه، وتلقنه ما يجب على الانسان أنْ يعلمه لدينه وما يقربه إلى الله(عزّ و جلّ) زلفى. ويُبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد أودعت فيها خُلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقية

ص: 43

والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الإسلامية، بل هي من أهمِّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلمية في الإلهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس - وما كلهم بمستطيعين - أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تُثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية، لما كنت تجد من هذه المفاسد المُثقلة بها الأرض أثراً، ولحلّقت هذه النفوس المُكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرةً طليقةً، ولكن أنّى للبشر أنْ يصغي إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحق، وقد كشف عنهم قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

نعم، إنّ ركيزة السوء في الانسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يُحسِن صنعاً فيما اتخذ من عملٍ: فيظلم ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويُطاوع شهواته ما شاء له هواه، ومع ذلك يُخادع نفسه أنّه لم يفعل إلا ما ينبغي أن يفعل، أو يغضَّ بصره متعمداً عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمدُّ من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختلاء بنفسه والتجرد إلى الله(عزّ و جلّ)؛ لتُلقِّنه الاعتراف بالخطأ وأنّه المُذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) لطلب التوبة والمغفرة، ولتُلمِسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه، ومثل أنْ يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد:

«إلهي ومولاي! أجريت عليَّ حكماً اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوي، فغرّني بما أهوى، وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزتُ بما جرى عليَّ من ذلك بعض حدودك، وخالفتُ بعض أوامرك».

ولا شكَّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الانسان من الاعتراف علانيةً مع الناس، وإن كان من أشق أحوال النفس أيضاً.

وإنْ كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تمَّ ذلك للإنسان فله شأنٌ كبيرٌ في تخفيف

ص: 44

غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يُريد تهذيب نفسه لا بُدّ أنْ يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحُريةٍ لمُحاسبتها، وخيرُ طريقٍ لهذه الخلوة والمحاسبة أنْ يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس، مثل أنْ يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي (رضي الله عنه):

«أي رب! جللني بسترك، واعفُ عن توبيخي بكرم وجهك!» فتأمّل كلمة (جلِّلني.). فإنّ فيها ما يُثيرُ في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ، ليتنبه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أنْ يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك:

«فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبتُه».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله(عزّ و جلّ) لئلا يُفتضَح عند الناس لو أراد الله أنْ يُعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله، فيلتذّ الإنسانُ ساعتئذٍ بمُناجاة السر، وينقطع إلى الله(عزّ و جلّ) ويحمده أنّه حلمَ عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه، إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم:

«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك»، ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عما فرّط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه(عزّ و جلّ)، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربه، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول: «ويحملني ويجرئني على معصيتك حلمك عني، ويدعوني إلى قلة الحياء سترك عليَّ. ويسرعني إلى التوثب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السر لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع، وما أكثرها.

ص: 45

ويعجبني أنْ أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة بأسلوبِ الاحتجاج مع الله(عزّ و جلّ) لطلب العفو والمغفرة، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد: «وليت شعري يا سيدي ومولاي! أتسلط النار على وجوهٍ خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسنٍ نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة، وعلى قلوبٍ اعترفت بإلهيتك مُحققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك».

كرِّر قراءة هذه الفقرات، وتأمّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها، يُلقّنها عدم اليأس من رحمة الله(عزّ و جلّ) وكرمه، ثم يكلم النفس بابن عم الكلام ومن طرفٍ خفي لتلقينها واجباتها العليا، إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة، ثم يُعلِّمها أنَّ الإنسانِ بعمل هذه الواجبات يستحقُّ التفضُّلَ من الله بالمغفرة، وهذا ما يُشوِّق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.

ثم تقرأ أسلوباً آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء، «فهبني يا إلهي وسيّدي وربي صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني يا إلهي صبرتُ على حرِّ نارك فكيف أصبرُ عن النظر إلى كرامتك؟!».

وهذا تلقينٌ للنفس بضرورةِ الالتذاذ بقرب الله(عزّ و جلّ) ومشاهدة كرامته وقدرته، حباً له وشوقاً إلى ما عنده، وبأنَّ هذا الالتذاذ ينبغي أنْ يبلغ من الدرجة على وجهٍ يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحر النار، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّنَ من أنْ يصبر على حرِّ النار فإنّه لا يتمكنُ من الصبر على هذا الترك، كما تفهمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيعٍ للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملُّق إلى الكريم الحليم قابل

ص: 46

التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أنْ نختم بحثنا هذا بإيراد دعاءٍ مُختصرٍ جامعٍ لمكارم الخلاق ولما ينبغي لكُلِّ عضوٍ من الإنسان وكُلِّ صنفٍ منه أنْ يكون عليه من الصفات المحمودة:

«اللهمَّ ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدِّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهِّر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدُد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتانا بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الغُزاة بالنصر والغلبة، وعلى الأُسَرَاء بالخلاص والراحة، وعلى الأمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة، وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة، واقضِ ما أوجبت عليهم من الحج والعمرة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».

وإنّي لموصٍ إخواني القراء ألا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية، بشرط التدبُّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والاقبال والتوجه إلى الله بخشوعٍ وخضوعٍ، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت، فإنّ قراءتها بلا توجُهٍ من القلب صرف لقلقة في اللسان، لا تزيد الانسان معرفة. ولا تُقرِّبه زلفى، ولا تكشف له مكروباً، ولا يُستجاب معه له دعاء.

«إنّ الله(عزّ و جلّ) لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة»». انتهى.

ص: 47

نحاول أن نوضح هذه العقيدة عبر خطوات:

الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي.

من الواضح جدًا أنَّ الله(عزّ و جلّ) خلق العالم وجعله يسير وفق نظام العلة والمعلول، فلكي تصل إلى شيءٍ ما لابدّ أنْ تسلك السبل والأسباب المؤدية له. وهذا النظام لم يُستثنَ منه شيءٌ في هذا الوجود الإمكاني (العالم)، فكلُّ شيءٍ إما علة أو معلولًا إلى أن نصل إلى علة العلل التي ليس فوقها علة وهو الله(عزّ و جلّ).

وإنّ العلل منها ما لها أسبابٌ منظورة معروفة، فالماءُ علة الإرواء، والنارُ علة الإحراق، والشمسُ علةُ وجود الضوء، ومدُّ الماء وجزره يرتبط بالقمر. ومنها ما له أسباب غير معروفة وغير مرئية، وإنّما نحسُّ بآثارها، كما يقال في مسألة التوفيق الإلهي؛ فإنَّ التوفيق والتسديد الإلهي لاشكَّ أنّه علة لحفظ الإنسان وحصوله على بعض العلوم وتحقيقه لبعض الأهداف، لكنه لا يُرى بالعين وإنّما هو أمرٌ معنوي.

والدعاءُ يدخل في سلسلةِ العلل المعنوية، فالدعاءُ سببٌ للوصول إلى الأهداف، وهذا الأمر أكدت عليه الروايات كثيرًا، فقد ورد في أثر الدعاء عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «عليكم بالدعاء فإنه شفاء من كل داء، وإذا دعوت فظُنّ أن حاجتك بالباب».(1)

وفي روايةٍ عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء، قبل ورود البلاء».(2)

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: «مَنْ تَخَوَّفَ مِنْ بَلَاءٍ يُصِيبُه فَتَقَدَّمَ فِيه بِالدُّعَاءِ لَمْ يُرِه الله(عزّ و جلّ) ذَلِكَ الْبَلَاءَ أَبَداً».(3)

ص: 48


1- الدعوات للراوندي ص18.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص621 حديث أربعمائة.
3- الكافي للكليني ج2 ص472 بَابُ التَّقَدُّمِ فِي الدُّعَاءِ ح2.
الخطوة الثانية: الدعاء مفتاح الإجابة.

حيثُ إنَّ الدعاء يمثل سببًا لتحقيق هدفٍ هو الإجابة من الله(عزّ و جلّ)، لذلك عبّرت عنه الروايات الشريفة بأنّه (مفتاحٌ للإجابة)، فعن الإمام الحسن (علیه السّلام) قال: «ما فتح الله(عزّ و جلّ) على أحدٍ بابَ مسألةٍ فخزن عنه باب الإجابة»، وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «من فتح له من الدعاء منكم فتحت له أبواب الإجابة».

ومن المعلوم أنَّ لكلِّ بابٍ مفتاحاً خاصاً، وهذا المفتاح له نتوءات خاصة به، تكون متوافقة تمامًا مع تجويف القفل؛ لكي يفتحه بصورة صحيحة، وأنَّ أيّ خللٍ في تلك النتوءات يؤدي إلى أن لا يفتح القفل ومن ثم لا يفتح ذلك الباب، هذا في عالم الماديات.

وحيث إنَّ الدعاء مفتاحُ الإجابة، مما يعني أنَّ هناك كنوزًا جُعِل عليها بابٌ، وأقفل هذا الباب وجُعِل لقفله مفتاحٌ، وهذا المفتاح هو الدعاء، فلا بُدَّ أنْ يكون الدعاء متناسبًا مع قفل الباب الذي تريد فتحه، لذا يجب أنْ يأتي بالدعاء الخاص بقفل ذلك الباب، ولذلك فعلى من يريد أن يصل إلى الإجابة، أنْ يراعي كلَّ قواعد إجابة الدعاء.

عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (علیه السّلام): «ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يُرىٰ، ولا إمام هدىٰ، ولا ينجو منها إلَّا من دعا بدعاء الغريق»، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: «يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي علىٰ دينك»، فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبت قلبي علىٰ دينك»، قال: «إنَّ الله(عزّ و جلّ) مقلِّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي علىٰ دينك»(1).

وفي هذه الرواية نكتة لطيفة، وهي: أنَّ الدعاء مفتاح الإجابة، وأهل البيت (علیهم السّلام) يعطون المفتاح الملائم تماماً لفتح باب الإجابة، فلا ينبغي الزيادة أو النقيصة في دعاء

ص: 49


1- كمال الدين: 351 و352/ باب 33/ ح 49.

وارد عنهم (علیهم السّلام)، إذ لعلَّ تلك الزيادة أو النقيصة تعرقل فتح الباب، تماماً كما أنَّ أيّ مفتاح لو حصل له ذلك لما فتح بابه، ومن هنا ينبغي التأكّد من كون لفظ الدعاء موافقاً حتَّىٰ للقواعد النحوية، إذ لهذا الأمر - وغيره ممَّا يدخل في سرعة استجابة الدعاء - أثر مهمّ في الإجابة.

وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي اخْتَرَعْتُ دُعَاءً.

قَالَ (علیه السّلام): «دَعْنِي مِنِ اخْتِرَاعِكَ، إِذَا نَزَلَ بِكَ أَمْرٌ فَافْزَعْ إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، وصَلِّ رَكْعَتَيْنِ تُهْدِيهِمَا إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)».

قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟

قَال (علیه السّلام): «تَغْتَسِلُ وتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَسْتَفْتِحُ بِهِمَا افْتِتَاحَ الْفَرِيضَةِ، وتَشَهَّدُ تَشَهُّدَ الْفَرِيضَةِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ وسَلَّمْتَ قُلْتَ:

اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ومِنْكَ السَّلَامُ وإِلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وبَلِّغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ مِنِّي السَّلَامَ، وأَرْوَاحَ الأَئِمَّةِ الصَّادِقِينَ سَلَامِي، وارْدُدْ عَلَيَّ مِنْهُمُ السَّلَامَ، والسَّلَامُ عَلَيْهِمْ ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه، اللهُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ هَدِيَّةٌ مِنِّي إِلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، فَأَثِبْنِي عَلَيْهِمَا مَا أَمَّلْتُ ورَجَوْتُ فِيكَ وفِي رَسُولِكَ، يَا وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ تَخِرُّ سَاجِداً وتَقُولُ: ﴿يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ لَا يَمُوتُ، يَا حَيُّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ، يَا ذَا الْجَلَالِ والإِكْرَامِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ﴾ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ ضَعْ خَدَّكَ الأَيْمَنَ فَتَقُولُهَا أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ ضَعْ خَدَّكَ الأَيْسَرَ فَتَقُولُهَا أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ وتَمُدُّ يَدَكَ وتَقُولُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ص: 50

ثُمَّ تَرُدُّ يَدَكَ إِلَى رَقَبَتِكَ وتَلُوذُ بِسَبَّابَتِكَ وتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ مَرَّةً.

ثُمَّ خُذْ لِحْيَتَكَ بِيَدِكَ الْيُسْرَى وابْكِ أَوْ تَبَاكِ وقُلْ: يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ الله، أَشْكُو إِلَى الله وإِلَيْكَ حَاجَتِي وإِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ الرَّاشِدِينَ حَاجَتِي، وبِكُمْ أَتَوَجَّه إِلَى الله فِي حَاجَتِي.

ثُمَّ تَسْجُدُ وتَقُولُ: يَا الله يَا الله -حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُكَ- صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وافْعَلْ بِي كَذَا وكَذَا».

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السّلام): «فَأَنَا الضَّامِنُ عَلَى الله(عزّ و جلّ) أَنْ لَا يَبْرَحَ حَتَّى تُقْضى حَاجَتُه».(1)

لذا فمن الأفضل أن ندعو بالآيات الكريمة التي جاءت بصيغة الدعاء، والأدعية الواردة عن أهل البيت (علیهم السّلام)؛ لأنهم يعلمون مفاتيح الإجابة.

الخطوة الثالثة: آداب الدعاء.

يشير الشيخ (رحمه الله) في هذه العقيدة إلى أنَّ أهل البيت (علیهم السّلام) عندما أتحفونا بالكثيرِ من الأدعية فذلك لأنَّ الأدعية تتضمن:

1- الآداب الإسلامية.

2- المعارف التوحيدية والفقهية والسلوكية.

من جهة أخرى، ذكرت الروايات الشريفة بعض الآداب التي ينبغي للمؤمن التأدب بها عند قراءة الدعاء حتى يُعطي الدعاء أثره ويكون ذا شأنيةٍ ليُستجاب. وهي من الأمور الكمالية التي توصل الدعاء إلى مرحلة الإجابة، ومنها:

1/ البسملة، ففي الرواية عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم».(2)

ص: 51


1- الكافي للكليني ج3 ص476 بَابُ صَلَاةِ الْحَوَائِجِ ح1.
2- الدعوات للراوندي ص52 ح 131.

2/ التمجيد، أي تمجيد الله(عزّ و جلّ) وتقديسه وذكر صفاته الرحمانية وما شابه، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام): «كُلُّ دُعَاءٍ لَا يَكُونُ قَبْلَه تَحْمِيدٌ فَهُوَ أَبْتَرُ، إِنَّمَا التَّحْمِيدُ ثُمَّ الثَّنَاءُ».

قُلْتُ [بعض أصحابه]: مَا أَدْرِي مَا يُجْزِي مِنَ التَّحْمِيدِ والتَّمْجِيدِ؟

قَالَ (علیه السّلام): «يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(1)

3/الصلاة على النبي محمد وآله (علیهم السّلام)، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنَّه قال: «كلُّ دعاء محجوب حتَّىٰ يُصلّي علىٰ النبيِّ (صلّی الله علیه و آله)»(2).

4/ الاستشفاع بالصالحين، فعَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ [الكاظم] (علیه السّلام): «إِذَا كَانَ لَكَ يَا سَمَاعَةُ إِلَى الله(عزّ و جلّ) حَاجَةٌ، فَقُلِ: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَلِيٍّ،فَإِنَّ لَهُمَا عِنْدَكَ شَأْناً مِنَ الشَّأْنِ، وقَدْراً مِنَ الْقَدْرِ، فَبِحَقِّ ذَلِكَ الشَّأْنِ وبِحَقِّ ذَلِكَ الْقَدْرِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وأَنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا وكَذَا).

فَإِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ولَا مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ إِلَّا وهُوَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ».(3)

5/ الإقرار بالذنب، فإنَّ الإنسان إذا أقرَّ بذنبه أمام الله(عزّ و جلّ) فُتِح له باب الإجابة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إِنَّمَا هِيَ الْمِدْحَةُ ثُمَّ الثَّنَاءُ ثُمَّ الإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ إِنَّه والله مَا خَرَجَ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا بِالإِقْرَارِ».(4)

ص: 52


1- الكافي للكليني ج2 ص503 و 504 بَابُ التَّحْمِيدِ والتَّمْجِيدِ ح6.
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 490 و491/ ح 2153).
3- الكافي للكليني ج2 ص562 بَابُ الدُّعَاءِ لِلْكَرْبِ والْهَمِّ والْحُزْنِ والْخَوْفِ ح21.
4- الكافي للكليني ج2 ص484 بَابُ الثَّنَاءِ قَبْلَ الدُّعَاءِ ح3.

6/ التضرع والابتهال، فقد روي أنه كان النبي (صلّی الله علیه و آله) يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين، وكان (صلّی الله علیه و آله) يتضرع عند الدعاء يكاد يسقط رداؤه.(1)

7/ أنْ يصلي ركعتين، فإنَّ من مظان إجابة الدعاء التي لم يخِبْ من طلبَ الخير فيها هو أنْ يصلي الداعي ركعتين يُتِم ركوعهما وسجودهما، ثم يدعو.

فقد روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهُمَا وسُجُودَهُمَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأَثْنَى عَلَى الله(عزّ و جلّ) وصَلَّى عَلَى رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله)، ثُمَّ سَأَلَ الله حَاجَتَه، فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّه، ومَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّه لَمْ يَخِبْ».(2)

8/ ألّا يستصغر الداعي شيئًا من الدعاء، فإنَّ الروايات الشريفة تؤكد على أهمية طلب أيّ شيءٍ من الله(عزّ و جلّ) مهما قلّ شأنه ويسُرَ نواله حتى ملح الطعام؛ لأنَّ ما لا يتيسر من الله(عزّ و جلّ) فلن يتيسر أبدًا.

ولا ينحصر الدعاء في الحصول على شيءٍ ما نحتاجه، بل يشمل طلب العون منه(سبحانه و تعالی)، وفي هذا أيضًا لا ينبغي أن يستصغر الداعي فعلًا ما لإحرازه قدرته عليه، بل حثت الروايات على الدعاء طلبًا للعون منه (تبارك وتعالى) حتى في مثل إصلاح شسع النعل إذ انقطع!

فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا

ص: 53


1- الدعوات للراوندي ص22 ح24.
2- الكافي للكليني ج3 ص478 بَابُ صَلَاةِ الْحَوَائِجِ ح5.

تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم».(1)

9/ ما دام الله(عزّ و جلّ) كريمًا، وكرمه لا يمكن قياسه بقياسٍ ماديٍ أو مفهوم عندنا، وبالتالي فمن آداب الدعاء المهمة أنْ لا يستكثر الداعي مطلوبًا من الله(عزّ و جلّ)، بل من العيب أنْ نستكثر شيئًا على الله(عزّ و جلّ)؛ لأنه هو الكريم الغني المطلق؛ لذا روي عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «ذر الناس يعملون، فان الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس».(2)

عن محمد بن عجلان، قال: أصابتني فاقة شديدة ولا صديق لمضيق، ولزمني دين ثقيل وغريم يلج باقتضائه، فتوجهت نحو دار الحسن بن زيد، وهو يومئذ أمير المدينة لمعرفة كانت بيني وبينه، وشعر بذلك من حالي محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين، وكان بيني وبينه قديم معرفة، فلقيني في الطريق فأخذ بيدي وقال لي: قد بلغني ما أنت بسبيله، فمن تؤمل لكشف ما نزل بك؟ قلت: الحسن بن زيد. فقال: إذن لا تقضى حاجتك ولا تسعف بطلبتك، فعليك بمن يقدر على ذلك، وهو أجود الأجودين، فالتمس ما تؤمله من قبله، فإني سمعت ابن عمي جعفر بن محمد يحدث عن أبيه عن جده، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (علیهم السّلام)، عن النبي (صلّی الله علیه و آله) قال: «أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه. وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيؤمل عبدي في الشدائد غيري، أو يرجو سواي! وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي

ص: 54


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص455 ح 39238.

مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ألم يعلم أنه ما أوهنته نائبة لم يملك كشفها عنه غيري، فما لي أراه بأمله معرضا عني، قد أعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني، فأعرض عني ولم يسألني وسأل في نائبته غيري! وأنا الله ابتدئ بالعطية قبل المسألة، أفأسأل فلا أجيب؟ كلا أوليس الجود والكرم لي، أوليس الدنيا والآخرة بيدي، فلو أن أهل سبع سماوات وأرضين

سألوني جميعا فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي مثل جناح بعوضة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤس لمن عصاني ولم يراقبني».

فقلت: يا بن رسول الله، أعد علي هذا الحديث، فأعاده ثلاثا فقلت: لا والله لا سألت أحدا بعد هذا حاجة، فما لبثت أن جاءني برزق وفضل من عنده. (1)

وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً، فيرى أحدهما صاحبه فوقه فيقول: يا رب بمَ أعطيته وكان عملنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني».

ثم قال (صلّی الله علیه و آله): «اسألوا الله واجزلوا(2)،

فإنه لا يتعاظمه شيء».(3)

10/أن يطلب عظيمًا من الله(عزّ و جلّ)، فلو دخل إنسانٌ على ملكٍ وأراد ذلك الملك أنْ يكرمه فأخبره بأنْ يطلب ما يشاء، فإنْ طلب منه شيئًا حقيرًا فهو بهذا يتجرأ على الملك وربما فيه إهانة له، فكيف بمن هو عظيم العظماء؟!

على المؤمن أن يعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) قادرٌ على كلِّ شيءٍ وليطلب منه العظيم مما يشاء.

روي عن ربيعة بن كعب قال: قال لي ذات يوم رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يا ربيعة، خدمتني سبع سنين، أفلا تسألني حاجة؟» فقلت: يا رسول الله أمهلني حتى أفكر، فلما أصبحت

ص: 55


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 584 ح 1208 / 13.
2- أجزلت لهم في العطاء: أكثرت [هامش المصدر].
3- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص36.

ودخلت عليه. قال لي: «يا ربيعة هات حاجتك»، فقلت: تسأل الله(عزّ و جلّ) أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: «من علمك هذا؟!» فقلت: يا رسول الله ما علمني أحد، لكن فكرت في نفسي وقلت: إن سألته مالاً كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت.

قال ربيعة: فنكس (صلّی الله علیه و آله) رأسه ساعة ثم قال: «أفعل ذلك، فأعني بكثرة السجود».(1)

11/تعميم الدعاء، فقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «إذا دعا أحدكم فليعم، فإنه أوجب للدعاء، ومن قدم أربعين رجلا من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه، استُجيب له فيهم وفي نفسه».(2)

12/اختيار الأوقات المناسبة، كعقب الفريضة، وعند نزول المطر، وعند ظهور آيةٍ معجزة لله(عزّ و جلّ) في أرضه، وفي الأسحار قبيل الفجر، وعند زيارة المريض وفي المساجد، وفي يوم عرفة، وفي شهر رمضان، وتحت قبة الإمام الحسين (علیه السّلام)، فلهذه الأوقات والأماكن لها مدخلية في إجابة الدعاء.

13/الإلحاح على الله(عزّ و جلّ)، فلا تيأس من الله(عزّ و جلّ)، إذ لا خلل في ساحة الله(عزّ و جلّ) ففي الحديث عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «إنَّ الله يحب السائل اللحوح».(3)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله): «رَحِمَ الله عَبْداً طَلَبَ مِنَ الله(عزّ و جلّ) حَاجَةً، فَأَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ لَه أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه. وتَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿وأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾»(4).(5)

ص: 56


1- الدعوات للراوندي ص 39 ح 95.
2- الدعوات للراوندي ص26 ح 40.
3- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص143.
4- مريم 48.
5- الكافي للكليني ج2 ص475 بَابُ الإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ والتَّلَبُّثِ ح6.

وهذه الرواية تبين أنَّ الإلحاح مطلوبٌ ليس لطلب الإجابة فقط، وإنّما هو بنفسه مطلوب لذاته.

هل الدعاء الجماعي بدعة؟
الرد الأول: مناقشة استنادهم إلى عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله)

من الإشكالات التي أوردها بعض العامة على المدرسة الإمامية: أنَّ الدعاء الجماعي بدعةٌ، وواضحٌ أنَّ الدعاء الجماعي يكون إمّا بدعاء شخصٍ يؤمّن عليه جماعةٌ من المؤمنين، أو أنْ يشترك جماعةٌ بالدعاء.

ومستندهم على أنَّ الدعاء الجماعي بدعةٌ أنَّ النبي (صلّی الله علیه و آله) لم يفعله، وكذلك الصحابة.

وحيث إنَّ الدعاء الجماعي ظاهرةٌ بارزةٌ عند الشيعة، لذا كان من الضروري التصدي لرد هذه الشبهة عبر التالي:

تقدّم أنّ استدلالهم على أنَّ الدعاء الجماعي بدعة هو عدم فعله من قبل النبي (صلّی الله علیه و آله) والصحابة، وهو مستندهم في إثارة الكثير من الشبهات والإشكالات حول الفكر الإمامي. ويمكن ردّه: بأنَّ فعل المعصوم مطلقًا يدلُّ على الإباحة بالمعنى الأعم، بمعنى عدم حرمته، فربما يكون واجبًا أو مستحبًا أو مباحًا، وكذلك ترك المعصوم لفعلٍ ما يدلُّ على عدم وجوبه، فقد يكون تركه لأنه حرامٌ أو مكروهٌ أو مباحٌ.

إذن عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله) لا يدلُّ على الحرمة فقط، فقد يكون مكروهًا أو مباحًا، بل وفقًا لرأي الجانب الآخر قد يكون مستحبًا؛ لقولهم بإمكان ترك المعصوم للمستحب. وعلى أيٍ من الأحوال المتقدمة، فإنَّ استدلالهم هذا غير صحيح.

الرد الثاني: مناقشة استنادهم إلى حجية عدم فعل الصحابة.

ومما استندوا عليه على كون الدعاء الجماعي بدعةً هو عدم فعله من قبل الصحابة،

ص: 57

والصحيح أنْ لا حجية لذلك؛ لأن الحجية تقتصر على المعصوم بفعله وقوله وتقريره، وحيث لا صحابي معصومٌ (غير أهل البيت (علیهم السّلام)، إذن لا حجية لعدم فعلهم مطلقًا.

ولو تنزلنا، فيأتي فيهم ما أوردناه في الرد الأول.

الرد الثالث: الأصل في الأعمال الإباحة.

كلُّ عملٍ لم يرد نصٌ في تحريمه، ولم يكن مصداقًا من مصاديق فعل المحرم، أي لم يدخل تحت عنوان محرم هو فعلٌ مباح؛ لأنَّ الأصل في الأفعال الإباحة، كما أنّ الأصل في الأشياء الإباحة. وحيثُ لم يرد نصٌ بتحريم الدعاء الجماعي، ولم يكن مصداقًا من مصاديق عملٍ محرم، فهو مباح.

الرد الرابع: أعمال جماعية مشروعة.

هناك الكثير من الأعمال العبادية المتفق عليها هي في الحقيقة نوعٌ من أنواع الدعاء الجماعي، نحو صلاة الجماعة وصلاة الاستسقاء، فهذه الصلوات تتضمن دعاء، بل إنَّهم يؤدون دعاءً جماعيًا طويلًا بعد إكمالهم الركعة المائة من صلاة التراويح، وطالما جازت تلك العبادات فالدعاء الجماعي أيضًا يجوز وإلا كان تحريمهم للدعاء الجماعي من قبيل الكيل بمكيالين.

كل ما تقدّم من ردودٍ إنّما هي ردودٌ جدلية، وأما الرد الأمثل أو الجواب الحلي فهو ما سيأتي.

الرد الخامس: الدعاء الجماعي ثابتٌ بالسنة المطهرة.

اتفقت كلمة المسلمين على أنَّ السنة النبوية المطهرة هي ثاني مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، وهناك أحاديث كثيرة وردت عن أئمتنا (علیهم السّلام) تدلُّ على استحباب الدعاء الجماعي، وحيثُ إنّه ثبت أنهم (علیهم السّلام) يُفتون عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، فالدعاء الجماعي

ص: 58

إذن ثابتٌ بالسنة النبوية المطهرة.

وهذا الدليل يكفينا في شرعية الدعاء الجماعي، فإن قنع الآخر فبها، وإلا فنحن لسنا ملزمين باتباعه ولا بإقناعه إن كان معانداً.

في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «مَا مِنْ رَهْطٍ أَرْبَعِينَ رَجُلاً اجْتَمَعُوا فَدَعَوُا الله(عزّ و جلّ) فِي أَمْرٍ، إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ فَأَرْبَعَةٌ يَدْعُونَ الله(عزّ و جلّ) عَشْرَ مَرَّاتٍ إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً فَوَاحِدٌ يَدْعُو الله أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَيَسْتَجِيبُ الله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ لَه».(1)

وفي روايةٍ أخرى عنه (علیه السّلام) قَالَ: «كَانَ أَبِي (علیه السّلام) إِذَا حَزَنَه أَمْرٌ، جَمَعَ النِّسَاءَ والصِّبْيَانَ ثُمَّ دَعَا وأَمَّنُوا».(2)

وفي حديثٍ آخر عنه (علیه السّلام): «الدَّاعِي والْمُؤَمِّنُ فِي الأَجْرِ شَرِيكَانِ».(3)

والخلاصة: أنَّ ادعاءهم مجرد شبهةٍ واهية ولا دليل علمي لها.

ص: 59


1- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح1.
2- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح3
3- الكافي ج2ص487/ بَابُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّعَاءِح4.

ص: 60

أدعية الصحيفة السجادية

النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

قال الشيخ(رحمه الله):

«أدعيةُ الصحيفة السجادية:

بعد واقعة الطفِّ المُحزنة، وتملُّك بني أمية ناصية أمر الأمة الإسلامية، فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في تعاليم الدين بقي الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (علیه السّلام) جليس داره محزوناً ثاكلاً، وجليس بيته لا يقربه أحدٌ ولا يستطيع أنْ يُفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.

فاضطرّ أن يتخذ من أسلوب الدعاء -الذي قُلنا إنّه أحدُ الطرق التعليمية لتهذيب النفوس- ذريعةً لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقةٌ مُبتكرةٌ له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المُطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجة لهم، فلذلك أكثرَ من هذه الأدعية البليغة، وقد جمعت بعضها (الصحيفة السجادية) التي سُميَت ب-(زبور آل محمد). وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقِّ أسرار التوحيد والنبوّة، وأصح طريقة لتعليم الأخلاق المحمدية والآداب الإسلامية. وكانت في مُختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليمٌ للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء، أو دعاءٌ في أسلوب تعليمٍ للدين والأخلاق. وهي بحق بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفية في الإلهيات والأخلاقيات:

ص: 61

فمنها: ما يُعلِّمُك كيف تُمجِّدُ اللهَ وتُقدِّسه وتحمده وتشكره وتنوبُ إليه.

ومنها: ما يُعلِّمك كيف تُناجيه وتخلو به بسرِّك وتنقطع إليه.

ومنها: ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها.

ومنها: ما يُفهِمك ما ينبغي أنْ تبرَّ به والديك.

ومنها: ما يشرحُ لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الأرحام أو حقوق المسلمين عامة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس.

ومنها: ينبهك على ما يجب إزاء الديون للناس عليك وما ينبغي أنْ تعمله في الشؤون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أنْ تُعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ومن تستعملهم في مصالحك.

ومنها: ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلُحُ أنْ يكون منهاجاً كاملاً لعلمِ الأخلاق.

ومنها: ما يُعلِّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث، وكيف تُلاقي حالاتِ المرض والصحة. ومنها: ما يشرحُ لك واجباتِ الجيوش الإسلامية وواجبات الناس معهم.. إلى غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المُحمّدية والشريعة الإلهية، وكُلُّ ذلك بأسلوب الدعاء وحده.

والظاهرةُ التي تطغو على أدعية الإمام عدة أمور:

الأول: التعريف بالله(عزّ و جلّ)، وعظمته وقدرته، وبيان توحيده، وتنزيهه بأدقِّ التعبيرات العلمية وذلك يتكرّرُ في كُلِّ دعاءٍ بمختلف الأساليب، مثل ما تقرأ في الدعاء الأول: «الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصُرت عن

ص: 62

رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً واخترعهم على مشيته اختراعاً» فتقرأ دقيق معنى الأول والآخر وتنزه الله(عزّ و جلّ) عن أنْ يُحيطُ به بصرٌ أو وهمٌ، ودقيق معنى الخلق والتكوين.

ثم تقرأ أسلوباً آخر في بيان قدرته(عزّ و جلّ) وتدبيره في الدعاء 6: «الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته، وميّز بينهما بقدرته وجعل لكُلِّ منهما حدّاً محدوداً، يولجُ كُلُّ واحدٍ منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه، بتقديرٍ منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب، وجعله لباساً ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماماً وقوةً لينالوا به لذةً وشهوةً» إلى آخر ما يُذكر من فوائد خلق النهار الليل وما ينبغي أن يشكره الانسان من هذا النعم.

وتقرأ أسلوباً آخر في بيان أنّ جميع الأمور بيده(عزّ و جلّ) في الدعاء 7: «يا من تُحلُّ به عُقَدُ المكاره ويا من يُفثأ به حدُّ الشدائد، ويا من يُلتَمَس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلّت لقُدرتك الصعاب، وتسبّبت بلُطفك الأسباب وجرى بقُدرتك القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

الثاني: بيان فضل الله(عزّ و جلّ) على العبد وعجز العبد عن أداء حقّه، مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه(عزّ و جلّ) كما تقرأ في الدعاء 37: «اللهم إنَّ أحداً لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً، ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد إلا كان مقصراً دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجزٌ عن شكرك، وأعبدهم مُقصرٌ عن طاعتك».

وبسبب عظم نعم الله(عزّ و جلّ) على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره، فكيف إذا كان يعصيه مجترئاً، فمهما صنع بعدئذٍ لا يستطيع أنْ يُكفِّر عن معصيةٍ واحدة. وهذا ما تصوره الفقرات الآتية من الدعاء 16: «يا إلهي لو بكيتُ إليك حتى تسقط أشفار

ص: 63

عيني، وانتحبتُ حتى ينقطع صوتي، وقمتُ لك حتى تتنشر قدماي، وركعتُ لك حتى ينخلع صلبي، وسجدتُ لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلتُ تراب الأرض طول عمري، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكلَّ لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءً منك ما استوجبت بذلك محو سيئةٍ واحدةٍ من سيئاتي».

الثالث: التعريف بالثواب والعقاب والجنة والنار، وأنَّ ثواب الله(عزّ و جلّ) كُلُّه تفضل، وأنّ العبد يستحقُّ العقاب منه بأدنى معصيةٍ يجتري بها، والحجة عليه فيها لله(عزّ و جلّ). وجميع الأدعية السجادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى

والرجاء في ثوابه. وكلها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.

مثل ما تقرأ في الدعاء 46: «حُجتك قائمةٌ، وسلطانك ثابتٌ لا يزول، فالويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرفه في عذابك، وما أطول تردّده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلاً من قضائك لا تجور فيه، وإنصافاً من حكمك لا تحيف عليه، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار».». انتهى.

أشار الشيخ(رحمه الله)إلى عدة أمور نذكرها -أو نبينها بطريقة أخرى- في نقطتتين إن شاء الله تعالى:

النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

قد يرد إلى الذهن سؤالٌ مفاده: لماذا تميَّز مذهب أهل البيت (علیهم السّلام) بعنصر الدعاء، هذا التميز الذي تُرجِم إلى واقعٍ عملي في صورة دعاءٍ جماعي أو توسل بأهل البيت (علیهم السّلام)، أو بكثرة كتب الأدعية وكثرة الروايات الواردة في باب الدعاء، فما هو السبب في ذلك؟

ص: 64

الجواب:

تقدَّم في مباحث التوحيد والعدل الإلهي -وتحديدًا في مبحث (لا جبر ولا تفويض وإنّما أمرٌ بين أمرين)- أنّ في القضاء والقدر ثلاثة آراء:

1/الجبر:

وقال به الأشاعرة المجبرة، الذين نفوا أنْ يكون للإنسان أيَّ دورٍ في ما يجري في الكون عمومًا وفي فعله خصوصًا، وحصروا العلة للفعل في الله(عزّ و جلّ)، وأما الإنسان فهو مُجبرٌ و مجرد آلة.

وعلى هذا القول فما الغاية من الدعاء؟ فإنْك إنْ دعوت أو لم تدعُ فالأمرُ سيّان، إذ القدر الإلهي جارٍ على أيِّ حال، لذا لا نجد مظهرًا واضحًا للدعاء في عقيدة المجبرة.

2/التفويض:

وقال به المعتزلة، حيث ذهبوا إلى تجريد الله(عزّ و جلّ) من سلطانه في هذا الكون، فكانوا على طرفِ النقيض مع المجبرة، إذ قالوا: إنَّ كلَّ ما في هذا الكون من فعلٍ بصورةٍ عامة وفعل الإنسان بصورةٍ خاصة هو موكلٌ إلى الإنسان، أي إنَّ العلة التامة هي بيد الإنسان.

وبعبارةٍ فلسفية: إنَّ الله(عزّ و جلّ) علةٌ في حدوث العالم لا في استمراره، وهو هو ما قالت به اليهود كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾(1)

وعلى هذا الرأي فلا وجود للدعاء أو لا فائدة فيه أصلاً، إذ هم يقولون: إنَّ المؤثر في هذا العالم هو الأسباب المادية فقط، وحيث إنَّ الدعاء سببه غيبي، وبه يُطلب التدخل

ص: 65


1- المائدة 64.

الإلهي لتغيير مجريات الكون، أو لدفع بلاء معين، أو لرزق معين، وما شابه، فلا تأثير له في العالم، إذ لا دور لله تعالى في هذا العالم حسب معتقدهم البائس.

3/ الأمر بين أمرين:

وهو المذهب الحق لأهل البيت (علیهم السّلام)، ومؤداه: أنَّ الفاعل المستقل في هذا الوجود هو فقط الله(عزّ و جلّ)، ولكنه أذن للإنسان أنْ يكون فاعلًا أيضًا، فالإنسان فاعلٌ بالإذن الإلهي. بمعنى أنَّ الإنسان يفعل الأفعال حقيقةً، لكن ضمن دائرة قدرة الله(عزّ و جلّ) وسلطانه وإرادته؛ فإرادته(عزّ و جلّ) لم تُسلب، بل هي متسلطة على هذا الكون، وفي الوقت عينه لم تسلبنا اختيارنا وتجبرنا على الاختيار، بل شاء الله تعالى أن يجعلنا مختارين في هذا العالم.

وقد تقدَّم تفصيل هذا البحث في العدل الإلهي، وعليه، فإن الله(عزّ و جلّ) ترك لنا الخيار، لكن قدرته ما زالت جاريةً على حياة الإنسان وأفعاله ومؤثرة فيها، بل في الكون كله، ولذا كان للدعاء أهميته البالغة، فالإنسان يتوسل بالأسباب المادية، ويبذل جهده فيها، لكن في نفس الوقت يرفع يديه للسماء ويدعو الله(عزّ و جلّ) طالبًا منه المدد الغيبي والتوفيق الإلهي.

والدعاء من أفعال الإنسان، وبما أنَّ سلطة الله(عزّ و جلّ) ما زالت موجودة، فهو قادرٌ على أنْ يعطيه أو يغير من مجريات الحياة.

وعليه، فإنَّ فلسفة الدعاء الحقيقية وثمراته المرجوة منحصرةٌ بعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)، وغيرهم وإنْ شاركهم فيه، إلا أن اعتقادهم بالدعاء أقرب إلى لقلقة اللسان منه إلى حقيقته.

ولاستجابة الدعاء أسبابٌ أحدها: التوسل بأهل البيت (علیهم السّلام)، وقد أشكل البعض على توسل الشيعة بأهل البيت (علیهم السّلام) مُدعيًا أنَّ الشيعة قد شابهوا المشركين عندما توسلوا

ص: 66

بالوثن، فكلاهما يعتقدُ بأنَّ ما يتوسل به يُقربه إلى الله(عزّ و جلّ)!

على حين أنَّ الفرق واضحٌ بين الاثنين، فالمشركون يتوسلون بالوثن مع اعتقادهم الجازم أنّه مستقلٌ في فعله عن الله(عزّ و جلّ)، وأما الشيعة فلا تعتقد بذلك، بل يعتقدون أنَّ كلَّ ما يفعله أهل البيت (علیهم السّلام) إنما هو بإذن الله(عزّ و جلّ) وبعونه لا على نحوٍ مستقل، تمامًا كما كان نبي الله عيسى (علیه السّلام) يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله(عزّ و جلّ).

كما أنَّ الله (سبحانه و تعالی)هو من جعل أهل البيت (علیهم السّلام) الطريق والوسيلة إليه والسبب المتصل بين السماء والأرض، وذلك على نقيض ما فعله مع الأوثان، إذ نهى عن التوسل بهم، وجعل ذلك جرمًا عظيمًا لا يغفر لمرتكبه حتى يتوب.

أضف إلى ذلك: فإنّ الشيعة لم يتوسلوا بأهل البيت (علیهم السّلام) إلى الله(عزّ و جلّ) عن طريق عبادتهم، بخلاف المشركين الذين كانوا يعبدون الأوثان بكلِّ ما لكلمة العبادة من معنى.

والخلاصة: أنَّ قضية الدعاء لا تتبلور فلسفيًا أو عمليًا إلا في عقيدة أهل البيت (علیهم السّلام).

النقطة الثانية: الأدوار البارزة في حياة الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه.
الأولى: ظاهرة البكاء.

بمراجعةٍ عامةٍ لحياة الإمام السجاد (علیه السّلام) تبرز ظواهرُ أربع نذكرها إجمالاً بعد الأخذ بنظر الاعتبار أمرين مهمين:

الأمر الأول: كان الإمام (علیه السّلام) يمثل الامتداد الشرعي لصاحب أعظم ثورةٍ انطلقت ضد طغيان بني أمية، ومن ثم فمن الطبيعي جدًا أنْ تتوجه أنظار السلطة الظالمة لتراقب كلَّ حركاته وسكناته (علیه السّلام).

الأمر الثاني: يذكر التاريخ أنَّ الفتوحات العسكرية قد اتسع مداها في زمن الإمام السجاد (علیه السّلام) الأمر الذي أدى إلى تضخمٍ عظيم في الثروة عند شريحةٍ واسعة من الناس،

ص: 67

بسبب كثرة الغنائم، ويمكن القول: إنه كُلما زادتِ الرفاهية المادية كُلما نَقُص الجانب الروحي، وإنْ لم يكن دائمًا ولكن على الأغلب.

هنا برزت في حياة الإمام السجاد (علیه السّلام) ظواهر أربعة:

الأولى: ظاهرة البكاء.

عُدَّ الإمام السجاد (علیه السّلام) من البكاءين الخمسة.(1)

وقد نقل في أحواله (علیه السّلام) أنَّه ما قُدِّم إليه طعامٌ ولا شرابٌ إلا وبكى وتذكر عطش أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام).

الثانية: الإعتاق.

حيث ورد في سيرته (علیه السّلام) أنّه كان يشتري الكثير من العبيد ويُبقيهم عنده سنةً كاملةً يعلّمهم فيها القرآن الكريم وأحكام الدين فإنْ كان عيد الفطر أعتقهم.

ومن الروايات التي دلت على كثرة إعتاقه ما روي عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السّلام) يقول: «كان علي بن الحسين (علیهما السّلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب

ص: 68


1- عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين (علیهم السّلام). فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: (تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين) وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلّی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي ابن الحسين فبكى على الحسين (علیه السّلام) عشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون) إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة». [الخصال للشيخ الصدوق ص272 و 273 ح15]

عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده: أذنب فلان، أذنبت فلانة، يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم ويقررهم جميعاً.

ثم يقول وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت، كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كل ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، واصفح كما ترجو من المليك العفو وكما تحب أن يعفو المليك عنك، فاعف عنا تجده عفوّاً، وبك رحيماً، ولك غفوراً ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحق، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها إلا أحصاها.

فاذكر يا علي بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفو عنك المليك ويصفح، فإنه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾(1)

قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربِّ إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نرد سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيبنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمي، إذ كنت من سؤالك، وجدت بالمعروف فاخلطني

ص: 69


1- النور 22.

بأهل نوالك يا كريم.

ثم يقبل عليهم ويقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني إليكم من سوء ملكة، فإني مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل.

فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأت.

فيقول لهم قولوا: اللهم أعف عن علي بن الحسين كما عفى عنا، وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق، فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين يا رب العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.

فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر.

وكان يقول: إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار، كلاً قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإني لأحب أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار.

وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثم أعتق كذلك كان يفعل حتى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة يأتي بهم إلى عرفات، فيسد بهم تلك الفُرَج والخلال، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال».(1)

الثالثة: الإنفاق.

كان الإمام (علیه السّلام) كثيرَ الإنفاق سرًا، حتى إنَّ بعض الفقراء لم يعلموا به إلا بعد وفاته.

ص: 70


1- إقبال الأعمال للسيد بن طاووس ج1 ص 443 – 445.

فقد جاء في سيرة الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنَّه كان (علیه السّلام) ليخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصُّرَر من الدنانير والدراهم، وربَّما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتَّىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه، وكان يُغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلَّا يعرفه، فلمَّا تُوفّي (علیه السّلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان عليَّ بن الحسين3، ولمَّا وُضِعَ (علیه السّلام) علىٰ المغتسل نظروا إلىٰ ظهره وعليه مثل رُكَب الإبل ممَّا كان يحمل علىٰ ظهره إلىٰ منازل الفقراء والمساكين...(1).

وعن محمّد بن إسحاق: أنَّه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون [من] أين معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل(2).

الرابعة: الدعاء.

فقد ورثنا منه (علیه السّلام) تراثًا ضخمًا جدًا من الأدعية كالصحيفة السجادية ودعاء أبي حمزة الثمالي وغيرها من الأدعية.

ولكلِّ ظاهرةٍ من الظواهر المتقدمة فلسفةٌ خاصةٌ بها، نتعرف عليها تباعًا:

أولًا: فلسفة الإعتاق:

ورد في أحواله (علیه السّلام) كما تقدّم، أنّه كان يشتري عبيدًا يبقيهم عنده فترة من الزمن وبعدها يعتقهم بصورةٍ لطيفة جدًا، ويعطيهم أموالًا ليقيموا بها أمورهم.

ونحن لا نعلم السبب الواقعي وراء ذلك، ولعله لأجل أن عملية شراء مجموعة عبيد يبقيهم عنده فترة، ثم يعتقهم، هي عملية ذكيةٌ جدًا من الإمام السجاد (علیه السّلام) فمن خلالها يربّي (علیه السّلام) ثُلةً من الشيعةِ المتقين المخلصين، عارفين بأمور دينهم، قادرين على نشر

ص: 71


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 517/ ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها عليُّ بن الحسين زين العابدين3/ ح 4).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 292).

الدين، ما إنْ يعودوا إلى بلادهم حتى يعملوا على نشر التشيع. ومما كان يزيد في أهمية هذا الأمر هو اختلاف بلدانهم التي قدموا منها، بل إنَّ مجرد نقلهم في تلك البلدان لسمات الإمام (علیه السّلام) وعظيم أخلاقه وكيفية تعامله معهم له عظيم الأثر في انجذاب أهل تلك البلدان إلى أهل البيت (علیهم السّلام) وحبهم لهم، لا سيما أنَّ بعض العبيد كانوا تحت أيدي بني أمية الذين يعاملونهم بقسوة وشدة، ولا يحترمونهم ولا يزوجونهم ولا يبايعونهم، بل كانوا يعتبرونهم طبقةً خادمة، أقل من سائر البشر، فإنْ بقي العبيد عندهم فقط فإنّهم سيكرهون الإسلام حتمًا وينقلون صورةً مشوهةً عن الإسلام.

أما الإمام السجاد (علیه السّلام) فقد كان يقدم الإسلام بأبهى صوره لهم ولبلدانهم بعد رجوعهم إليها؛ وذلك عبر معاملته الحسنة، حتى أنّه زوّج أمّه (إحدى زوجات الإمام الحسين (علیه السّلام)) لعبدٍ من عبيده.

روي أنه كَانَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَيْنٌ بِالْمَدِينَةِ يَكْتُبُ إِلَيْه بِأَخْبَارِ مَا يَحْدُثُ فِيهَا، وإِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَكَتَبَ الْعَيْنُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي تَزْوِيجُكَ مَوْلَاتَكَ، وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّه كَانَ فِي أَكْفَائِكَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ تَمَجَّدُ بِه فِي الصِّهْرِ وتَسْتَنْجِبُه فِي الْوَلَدِ، فَلَا لِنَفْسِكَ نَظَرْتَ،ولَا عَلَى وُلْدِكَ أَبْقَيْتَ، والسَّلَامُ.

فَكَتَبَ إِلَيْه عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تُعَنِّفُنِي بِتَزْوِيجِي مَوْلَاتِي، وتَزْعُمُ أَنَّه كَانَ فِي نِسَاءِ قُرَيْشٍ مَنْ أَتَمَجَّدُ بِه فِي الصِّهْرِ وأَسْتَنْجِبُه فِي الْوَلَدِ، وأَنَّه لَيْسَ فَوْقَ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) مُرْتَقاً فِي مَجْدٍ ولَا مُسْتَزَادٌ فِي كَرَمٍ، وإِنَّمَا كَانَتْ مِلْكَ يَمِينِي خَرَجَتْ مَتَى أَرَادَ الله(عزّ و جلّ) مِنِّي بِأَمْرٍ أَلْتَمِسُ بِه ثَوَابَه، ثُمَّ ارْتَجَعْتُهَا عَلَى سُنَّةٍ، ومَنْ كَانَ زَكِيّاً فِي دِينِ الله فَلَيْسَ يُخِلُّ بِه شَيْءٌ مِنْ أَمْرِه، وقَدْ رَفَعَ الله بِالإِسْلَامِ الْخَسِيسَةَ، وتَمَّمَ بِه النَّقِيصَةَ، وأَذْهَبَ اللُّؤْمَ، فَلَا لُؤْمَ عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنَّمَا اللُّؤْمُ لُؤْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، والسَّلَامُ».

ص: 72

فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ رَمَى بِه إِلَى ابْنِه سُلَيْمَانَ فَقَرَأَه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ... لَشَدَّ مَا فَخَرَ عَلَيْكَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام)! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّه أَلْسَنُ بَنِي هَاشِمٍ الَّتِي تَفْلِقُ الصَّخْرَ وتَغْرِفُ مِنْ بَحْرٍ، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) يَا بُنَيَّ يَرْتَفِعُ مِنْ حَيْثُ يَتَّضِعُ النَّاسُ.(1)

وينقل في أحواله (علیه السّلام) إن مولى له (علیه السّلام) كان يتولى له عمارة ضيعة، فجاء ليطلعها، فأصاب منها فساداً وتضييعاً كثيراً أغاضه من ذلك ما رآه، فغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده وكان ذلك ما لم يكن منه إلى أحد قبله مثله، وندم على ما كان منه ندامة شديدة، فلما انصرف إلى منزله أرسل يطلب المولى، فأتاه فوجده مقارباً والسوط بين يديه، فظن يريد عقوبته، فاشتد خوفه. فأخذ علي بن الحسين (علیه السّلام) السوط، ومد يده إليه، وقال: «يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم لي مثله، وكانت هفوة وزلة. فدونك السوط اقتص مني».

فقال المولى: يا مولاي والله إن ظننت إلا أنك تريد عقوبتي، وأنا مستحق العقوبة فكيف أقتص منك؟! قال (علیه السّلام): «ويحك اقتص». قال: معاذ الله أنت في حل وسعة. فكرّر عليه مراراً والمولى في ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص قال له (علیه السّلام): «أما إذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك، فأعطاه إياه».(2)

بهذه الصورة المنقطعة النظير يعودون إلى بلدانهم حاملين معهم تعاليم الدين الإسلامي الصحيح فينشرونها هناك، من دون أن يُثير حفيظةَ أو أنظار السلطة إليه؛ فكما قلنا: إنَّ مسألة شراء العبيد مسألة هينة في ذلك الوقت، وأما إعتاقهم فهو أمرٌ مستحب في الإسلام، وبذا انتشر التشيع في بلدان العالم.

ص: 73


1- الكافي للكليني ج5 ص 344 ح4.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج3 ص262 ح
ثانيًا: فلسفة الإنفاق:

الإنفاق واضحٌ استحبابه في الإسلام، فينبغي على المؤمن أنْ يكون منفقًا، وهو نوع ٌمن أنواع التعبد، ولا حاجةَ إلى الغور به كثيرًا.

ثالثًا: فلسفة البكاء:

يُنقل في أحوال الإمام (علیه السّلام) أنّه كان يستثمر كلَّ فرصةٍ لتذكير الناس بقضيةِ أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام). ولعله -والله العالم- من أجل إحياء فاجعة الإمام الحسين (علیه السّلام) بصورةٍ مستمرة، حتى أصبحت ثورته (علیه السّلام) فيما بعد مفتاحًا لثوراتٍ عديدة ضد السلطة الظالمة، بعد أنْ كان المسلمون لا يخرجون على السلطان وإنْ كان ظالمًا أو فاسقًا ويخافون منه، ولكن الإمام الحسين (علیه السّلام) أسقط نظرية التصنيم لمن يُسمّي نفسه بخليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وبالتالي فتح الباب للوقوف بوجه الطاغية.

وتحتاج هذه الشعلة إلى وقودٍ مستمر، والإمام السجاد (علیه السّلام) كان دومًا يُثير قضية الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى تبقى هذه الشعلة متوهجةً في نفوسهم، وخصوصًا أنَّ التوجه الروحي عند الناس يقلُّ إذا زادت الرفاهية في الجملة، فكان البكاء على الإمام الحسين (علیه السّلام) وكذا الإنفاق والإعتاق تُرجع الإنسان إلى الجنبة الروحية، فكان الإمام (علیه السّلام) يستهدف -والله العالم- أنْ يُرجعَ الناس إلى تلك العلاقة الروحية ويحاول أنْ يخفف علاقتهم بالمادة.

رابعًا: فلسفة الدعاء:

وهو من أبرز الظواهر الواضحة في حياة الإمام السجاد (علیه السّلام)، فلِمَ ركّز الإمام كثيرًا على مسألة الدعاء؟

ربما لأنَّ الدعاء يمثل حركةً محورية في التوحيد مع الله (عزّ و جلّ)، قال(عزّ و جلّ): ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا

ص: 74

بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً﴾(1)

بالإضافة إلى هذا فإنَّ الدعاء من الممكن أنْ يضمَّ بين جنبتيه الكثير من المعارف، تبثّ إلى المسلمين من دون أنْ تكون ملفتةً للأنظار، فهي رسالةٌ مشفّرة يفهمها الذي له علاقة مع الإمام السجاد (علیه السّلام)، فقد يرسل رسالةً تشير إلى مطلبٍ عقائدي أو مطلب فقهي أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي من خلال الدعاء.

وبذلك يعمل الإمام السجاد سلام الله عليه على بثِّ المعارف إلى المؤمنين وسط جوٍ مشحون بالجواسيس والعيون التي تتقصى الإمام (علیه السّلام).

ومن أبرز تلك الأدعية أدعية الصحيفة السجادية، ولأهميتها وعمقها المعرفي، أولاها العلماء أهميةً عظمى تجلّت بكثرة الشروح لها –كما تقدمت الإشارة إليه-، حتى بلغت في بعض الإحصائيات أكثر من سبعين شرحًا تحت عناوين مختلفة(2).

وهي تحتوي على أربعةٍ وخمسين دعاءً مختلفًا مشتملًا على أكثر المجالات التي يحتاجها المؤمن بدعائه.

هذا وقد رويت هذه الصحيفة بأسانيدَ عديدة ومنها: سندها الذي ينتهي إلى يحيى بن زيد الشهيد بن علي السجاد (علیه السّلام)، حيث نقل يحيى عن أبيه زيد بن علي أنّه أخذ هذه الأدعية إملاءً من الإمام الباقر (علیه السّلام)، وأنَّ الإمام الصادق (علیه السّلام) أخبره أنّها أدعيةُ أبيه الإمام السجاد (علیه السّلام).(3)

وعلى كل حال، فقد كانت ولا زالت الصحيفة السجادية موضوع الكثير من

ص: 75


1- الفرقان 77.
2- الذريعة- آقا بزرك الطهراني- ج13 ص 345 وما بعدها، حيث ذكر عناوين تلك الشروح، ولا شك أنه بعد إحصائية الطهراني(رحمه الله)كتبت شروح أخرى للصحيفة.
3- انظر: مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني ج6 ص 138 وما بعدها، والرواية طويلة.

البحوث والكتب، بل تم تبويبها من قبل بعض العلماء تبويباً موضوعيًا على غرار التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، فتشكلت بعض المطالب الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والحربية وغيرها.

وما يعنينا هو الجانب العقائدي فيها، لذا نذكر مثالًا عنه.

قال مولانا الإمام السجّاد (علیه السّلام) في دعائه عند ختم القرآن: «اللهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ، وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِه، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ»(1).

كلُّ سفر من أسفار بني آدم، لا بدَّ فيه من ثلاثة أُمور ضرورية، لأجل الوصول بسلامة إلىٰ الغاية والهدف، فحتَّىٰ تكون الرحلة ناجحة، مربحة، مريحة، فلا بدَّ من توفير الوسائل المهمَّة لهذه الأُمور.

وخلاصتها ثلاثة أُمور:

1 - الدليل، وكان الدليلُ سابقاً شخصاً له معرفة بطرق الصحراء ومداخلها ومخارجها، يستعمل النجوم والعلامات الطبيعية من تضاريس أرضية وغيرها للتوصُّل إلىٰ الغاية، وكان نادراً ما يخطأ.

وأمَّا في العصر الحديث، فتحوَّل الدليل إلىٰ علامات تُنصَب علىٰ الطرق، وإلىٰ خرائط ترسم الطرق ومخارجها، وإلىٰ اتِّصالات عبر الأقمار الصناعية، وغيرها من الأُمور. وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا بدَّ من دليل يدلُّك علىٰ هدفك الذي تريد أن تصل إليه.

2 - السبيل، بمعنىٰ طريق تمشي عليه، ومن المعلوم أنَّه كلَّما كان الطريق جيِّداً من

ص: 76


1- الصحيفة السجّادية: 178/ الدعاء رقم 42. وراجع: قطاف شهر رمضان/ القسم الثالث: قبسات من الصحيفة السجادية- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- المقال رقم (15)/ ص 179 – 181.

حيث المسالك ووضوح الخطَّة، وكلَّما كان أكثر اختصاراً بالنسبة إلىٰ الهدف، كلَّما كان النجاح بسلوكه أوفق، والنجاة في سبيله أوثق.

3 - الوسيلة، وقد اختلفت وسيلة التنقُّل عبر العصور، فلقد كانت هي ما ذكرته الآية الكريمة: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، ثمّ تطوَّرت إلىٰ ما وصلت إليه اليوم من سيّارات وطائرات وغير ذلك.

إذن، هذا ما يحتاجه الإنسان في سفره الدنيوي.

أمَّا عن السفر الأُخروي، فيُحدِّد الإمام السجّاد (علیه السّلام) هذه الأُمور الثلاثة فيه بالتالي:

1 - الدليل والعلم:

وذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّه هو رسول الله الأعظم محمّد (صلّی الله علیه و آله)، حيث قال: «اللهُمَّ وَكَمَا نَصَبْتَ بِه مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ».

فهو (صلّی الله علیه و آله) النور الذي أخرج الناس من ظلمات الجاهلية، إلىٰ نور التوحيد، وأخرج الناس من ظلام الظلم والجهل وقتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات وضياع القيم وغياب الفضيلة...، فهو معلِّم الناس الأوَّل، وقد روي أنَّه (صلّی الله علیه و آله) مرَّ بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما علىٰ خير، وأحدهما أفضل من صاحبه. أمَّا هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأمَّا هؤلاء فيتعلَّمون الفقه والعلم ويُعلِّمون الجاهل، فهم أفضل. وإنَّما بُعِثْتُ معلِّما»، قال: ثمّ جلس فيهم(1).

2 - سبيل الآخرة وطريقها:

وقد ذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّ طريق الآخرة المستقيم هم أهل البيت (علیهم السّلام): «وَأَنْهَجْتَ بِآلِه سُبُلَ الرِّضَا إِلَيْكَ»، فهم الصراط المستقيم الذي ندعو الله تعالىٰ أن يهدينا

ص: 77


1- سنن الدارمي 1: 99 و100.

إليه كلَّ يوم في صلواتنا: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(1)

عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السّلام) يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، فإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطأ منهم والصواب من قِبَل عليٍّ (علیه السّلام)»(2).

3 - الوسيلة:

ويذكر الإمام السجّاد (علیه السّلام) أنَّ أفضل وسيلة لطريق الآخرة هو القرآن الكريم، حيث يقول (علیه السّلام): «وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إِلَىٰ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَسُلَّماً نَعْرُجُ فِيه إِلَىٰ مَحَلِّ السَّلَامَةِ».

وهذا ما ذكره صريحاً رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) في ما روي عن أبي عبد الله، عن آبائه (علیهم السّلام)، قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «أيُّها الناس، إنَّكم في دار هدنة، وأنتم علىٰ ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلَّ جديد ويُقرِّبان كلَّ بعيد ويأتيان بكلِّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأُمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلىٰ الجنَّة، ومن جعله خلفه ساقه إلىٰ النار»(3).

وهنا ملاحظتان:

الأولى: في قوله (علیه السّلام) «وكما نصبت به»، إشارة إلى أنَّ قضية النبوة قضيةُ تنصيبٍ إلهي وكذلك قضيةُ خلافةِ الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله). وقد أشار إلى هذا المطلب العقائدي الضخم

ص: 78


1- الفاتحة: 6.
2- بصائر الدرجات للصفّار: 539/ الجزء 10/ باب 19/ ح 4.
3- الكافي للكليني 2: 598 و599/ باب في تمثُّل القرآن وشفاعته لأهله/ ح 2.

بكلمةٍ واحدة.

الثانية: إنَّ النبي (صلّی الله علیه و آله) قد دمج بين السبيل والوسيلة وجعلهما شيئًا واحدًا، بحيث إنَّ الإنسان إذا أراد أنْ يصل إلى الهدف -وهو رضا الله(عزّ و جلّ)- فإنه لا يستغني عن أحدهما. وعليه، فمقولة «حسبنا كتاب الله» مقولةٌ باطلة تخالف ما نصّ عليه الرسول (صلّی الله علیه و آله) بقوله: إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...(1)

فالتمسك بواحدٍ فقط فمؤداه إلى الضلالة لا محالة.

إشارة: تراث الإمام السجاد (علیه السّلام).

خلّف الإمام السجاد (علیه السّلام) تراثًا عظيمًا تمثل ب:

1/الصحيفة السجادية.

2/رسالة الحقوق.

3/دعاء أبي حمزة الثمالي.

4/روايات كثيرة في مختلف الأبواب الفقهية والعقائدية والوصايا وغيرها.

ص: 79


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.

ص: 80

عقيدتنا في زيارة القبور

النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في زيارة القبور:

وممّا امتازت به الإمامية العناية بزيارة القبور (قبور النبيّ والائمة (عليهم الصلاة والسلام)) وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولأجلها يضحّون بكُلّ غالٍ ورخيص عن إيمانٍ وطيب نفس.

ومردّ كُلُّ ذلك إلى وصايا الأئمة، وحثّهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله(عزّ و جلّ)، باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ).

وجعلوها أيضاً من تمام الوفاء بعهود الأئمة، «إذ أنّ لكلّ إمامٍ عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وأنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة».

وفي زيارة القبور من الفوائد الدينيّة والاجتماعيّة ما تستحق العناية من أئمتنا، فإنّها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبّة بين الأئمة وأوليائهم، وتجدّد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحقّ تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرّقين على صعيدٍ واحدٍ؛ ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله(عزّ و جلّ) والانقطاع إليه وطاعة أوامره، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام والرسالة المحمّديّة، وما يجب على

ص: 81

المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبّر الكائنات وشكر آلائه ونعمه، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدّم الكلام عليها، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة (أمين الله) وهي الزيارة المرويّة عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) حينما زار قبر جده أمير المؤمنين (علیه السّلام).

كما تفهّم هذه الزيارات المأثورة مواقف الأئمة (علیهم السّلام) وتضحياتهم في سبيل نصرة الحقّ وإعلاء كلمة الدين وتجرّدهم لطاعة الله(عزّ و جلّ)، وقد وردت بأسلوبٍ عربيّ جزل، وفصاحةٍ عالية، وعباراتٍ سهلةٍ يفهمها الخاصّة والعامّة، وهي مُحتويةٌ على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه(عزّ و جلّ). فهي بحقّ من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم؛ إذ أودعت فيها خلاصة معارف الأئمة (علیهم السّلام) فيما يتعلق بهذه الشؤون الدينيّة والتهذيبيّة.

ثم إنّ في آداب أداء الزيارة أيضاً من التعليم والإرشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينيّة السامية: من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية روح العطف على الفقير، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس. فإنّ من آدابها: ما ينبغي أنْ يصنع قبل البدء بالدخول في المرقد المطهّر وزيارته.

ومنها: ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة. ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها:

1. من آدابها أنْ يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهّر، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحةٌ، وهي أن ينظف الإنسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء، ولئلا يتأفّف من روائحه الناس، وأنْ يُطهّر نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أنْ يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيهه على تلكم الأهداف العالية فيقول: «اللهم اجعل لي نوراً وطهوراً وحرزاً كافياً من كُلّ داءٍ وسقمٍ ومن كُلّ آفةٍ وعاهةٍ، وطهّر به

ص: 82

قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري، ومخّي وعظمي وما أقلّت الأرض منّي، واجعل لي شاهداً يوم حاجتي وفقري وفاقتي».

2. أنْ يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب، فإنّ في الأناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يُحبّب الناس بعضهم إلى بعضٍ، ويُقرّب بينهم ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.

ومما ينبغي أنْ نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنّه لم يفرض فيه أنْ يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم، بل يلبس أحسن ما يتمكن عليه؛ إذ ليس كلّ أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الأناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.

3. أنْ يتطيّب ما وسعه الطيب، وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.

4. أنْ يتصدق على الفقراء بما يعنّ له أن يتصدّق به. ومن المعلوم فائدة التصدّق في مثل هذه المواسم، فإنّ فيه معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم.

5. أنْ يمشي على سكينةٍ ووقارٍ غاضّاً من بصره. وواضحٌ ما في هذا من توقيرٍ للحرم والزيارة، وتعظيمٍ للمزور، وتوجهٍ إلى الله(عزّ و جلّ) وانقطاعٍ إليه، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض.

6. أنْ يُكبّر بقول: «الله أكبر»، ويكرّر ذلك ما شاء. وقد تحدّد في بعض الزيارات إلى أنْ تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنّه لا شيء أكبر منه. وأنّ الزيارة ليست إلّا لعباده الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.

7. وبعد الفراغ من الزيارة للنبيّ أو الإمام يصلي ركعتين على الأقل تطوّعاً وعبادةً لله(عزّ و جلّ)؛ ليشكره على توفيقه إياه، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي

ص: 83

يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده وأنّه لا يعبد سواه، وليست الزيارة إلّا نوع التقرب إليه(عزّ و جلّ) زلفى؛ إذ يقول: «اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك؛ لأنّه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلّا لك، لأنّك أنت اللهُ لا إله إلّا أنت. اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتقبّل منّي زيارتي وأعطِني سُؤلي بمحمّدٍ وآله الطاهرين».

وفي هذا النوع من الأدب ما يوضّح لمن يريد أنْ يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعاً لهم في زيارة القبور، وما يُلقِمُ المتجاهلين حجراً حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرّب إليها والشرك بالله. وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينيّة في مواسم الزيارات؛ إذ أصبحت شوكةً في أعين أعداء آل بيت محمّد، وإلّا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم وتجرّدوا له في عباداتهم، وبذلوا مهجهم في نُصرة دينه أنْ يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.

8. ومن آداب الزيارة أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه وقلّة الكلام إلّا بخير، وكثرة ذكر الله، والخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمّدٍ وآل محمّد، وأنْ يغضّ من بصره، وأنْ يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعاً، والمواساة لهم، والورع عمّا نهى عنه وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان.

ثم إنّه ليست حقيقة الزيارة إلّا السلام على النبيّ أو الإمام باعتبار أنّهم «أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»؛ فهم يسمعون الكلام ويردّون الجواب، ويكفي أنْ يقول فيها مثلاً: «السلام عليك يا رسول الله» غير أنّ الأولى أنْ يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت؛ لما فيها -كما ذكرنا- من المقاصد العالية والفوائد الدينيّة، مع بلاغتها وفصاحتها، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتّجه بها الإنسان إلى الله تعالى وحده». انتهى

ص: 84

هناك عدةُ عناوين تُبحث في هذا المجال، خلاصتها التالي:

الأول: الاستشفاع بالأئمة والتوسل بهم لقضاء الحوائج، وفيه أخذٌ ورد وله أدلته.

الثاني: الصلاة عند القبور.

الثالث: بناء القبور.

الرابع: القسم بالأولياء والصالحين.

الخامس: القسم على الله بالأولياء والصالحين، (اللهم إنّي أقسِمُ عليك بنبيك (صلّی الله علیه و آله)).

السادس: الإسراج على القبور.

السابع: التبرك بالقبور، من تقبيل الأضرحة وأخذ شيءٍ منها للبركة مثلًا.

الثامن: زيارة القبور.

التاسع: زيارة النساء للقبور.

وقد اقتصر المصنف(رحمه الله)على زيارة القبور، وجريًا على ما ذكر نقتصر على ما ذكره فقط.

وفي زيارة القبور عدة نقاط:

النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور.

لم يُنقل عن أحدٍ من المسلمين الخلاف في استحباب زيارة قبور الصالحين، وهذا أمرٌ اتفق عليه جميع المسلمين، قال صاحب كتاب الفقه في المذاهب الأربعة (زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة، ويوما قبلها، ويوما بعدها، عند الحنفية، والمالكية، وخالف الحنابلة، والشافعية، فانظر مذهبيهما تحت الخط وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى وقراءة القرآن للميت، فإن ذلك

ص: 85

ينفع الميت على الأصح، ومما ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبور: «اللهم رب الأرواح الباقية والأجسام البالية، والشعور المتمزقة، والجلود المتقطعة، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أنزل عليها روحا منك، وسلاما مني» ومما ورد أيضا أن يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، وخالف الحنابلة، فانظر مذهبهم تحت الخط، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصا مقابر الصالحين: أما زيارة قبر النبي (صلّی الله علیه و آله)، فهي من أعظم القرب، وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضا للنساء العجائز اللاتي لا يخشى منهم الفتنة إن لم تؤد زيارتهن إلى الندب أو النياحة، وإلَّا كانت محرمة..».(1)

فزيارة القبور مسألةٌ متفقٌ عليها بين المسلمين، إلا أنّه وكعادته خالف ابن تيمية ونقل عنه أن شدَّ الرحال إلى المشاهد من الشرك الذي تهدر معه الدماء والأموال.

والخلاصة إنَّ عامة المسلمين قالوا باستحباب زيارة القبور إلا ابن تيمية فقد خالفهم والوهابية تبعًا له.

النقطة الثانية: مشروعية زيارة القبور.

من الواضح إنَّ الكلام مع المسلمين، والمسلم عمومًا يعتمد على دليلين أساسيين: القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، والعامة يُضيفون فعل الصحابة، فإذا وجدوا صحابيًا يفعل أمرًا ما، فإنهم يقولون بمشروعيته، كقولهم بمشروعية عبارة (الصلاةُ خيرٌ من النوم) في أذان الفجر؛ استنادًا على قول صحابي.

وعليه، فإذا أردنا أنْ نتكلم عن مشروعية زيارة القبور، فليس علينا إلا أنْ نرجع إلى الروايات الشريفة لنجد أفعال النبي (صلّی الله علیه و آله) وأفعال الصحابة، هل كانوا يزورون القبور

ص: 86


1- الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (علیهم السّلام)- الجزيري، الغروي، مازح- ج1 ص 694 – 698.

أو لا؟

وقد يقول قائل: لا إشكال في الاستدلال بفعل الرسول (صلّی الله علیه و آله)؛ لأنه هو المشرع، وفعله يدل -على أقل التقادير- على الإباحة، وأما الاستدلال بفعل صحابي من الصحابة، فهو أمر غير صحيح.

والجواب:

إنَّ السائل لا يخلو: إما أنْ يقبل بفعل الصحابي -كعبد الله بن عمر أو الزهراء(علیها السّلام)(1)- حجةً ودليلًا، ويقبل بفعل التابعين وتابعيهم كالشافعي أو أحمد بن حنبل، كذلك، أو لا.

فإن قبل، قلنا هذا ما نقبله من فعل المعصومين (علیهم السّلام)، ونحن يكفينا أنَّ الزهراء(علیها السّلام) كانت تزور قبر عم أبيها الحمزة (علیه السّلام)، فحتى لو لم تكن هناك روايةٌ عن الرسول (صلّی الله علیه و آله) يكفينا فعلها على الأقل من جهة كونها صحابية (علیها السّلام).

وإلّا، أي لم يقبل بفعل الصحابي حجةً بذاته، فنقول حينها: إنّ زيارة القبور في ذلك الزمن كانت سيرةً (بمعنى أنَّ المتدينين في ذلك الوقت كانوا يزورون القبور)، فإن كان فعلهم هذا محرمًا لزم على خليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنْ ينبه الناس ويبين لهم الحلال والحرام، فكيف كان يفعل هذا الفعل أمثال عبد الله بن عمر، وخليفة المسلمين في ذلك الوقت لم يردعه عن هذا الفعل؟ إذن يكشف ذلك عن رضا الخليفة بهذا الفعل، ومن ثم فإنَّ هذا يُدلل على مشروعيته.

وخلاصة القول: أنَّ زائر هذه القبور إما أن نعتقد بحجية فعله كالرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، أو لا، فإن كان فعله بنفسه حجة كفي به دليلًا، وإلا، فقد كان فعله على

ص: 87


1- نحن نعتقد أن الزهراء(علیها السّلام) حجة الله تعالى، وقولها حجة بلا أدنى تردد، وإنما ذكرناها هنا كصحابية من باب الإلزام.

مرأى ومسمع من الحاكم خليفة رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وحيث إنَّ الخليفة لم ينبه أو يردع أو ينهى عنه، إذن هو فعلٌ مشروع ولا إشكال فيه.

شواهد على مشروعية زيارة القبور:

إن الشواهد على مشروعية زيارة القبور عند المسلمين في الصدر الأول للإسلام كثيرة، ونحن نذكر هنا بعضاً منها مما ورد في كتب القوم:

عن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه بريدة بن الحصيب عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «إني كنت قد نهيتكم عن ثلاث: عن زيارة القبور، فزوروها فان زيارتها عظة وعبرة...»(1)

وعن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال: «ائتوا موتاكم فسلموا عليهم وصلوا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة قال ابن أبي مليكة: ورأيت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ومات بالحبشي(2)،

وقبره بمكة».(3)

وعن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ألا فزوروا القبور، فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة»(4)

وعن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي (صلّی الله علیه و آله) فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.(5)

ص: 88


1- المعجم الأوسط للطبراني ج5 ص 147.
2- جبل بأسفل مكة على ستة أميال [هامش المصدر]
3- المصنف- عبد الرزاق الصنعاني ج3 ص570 ح 6710.
4- المستدرك للحاكم النيسابوري ج1 ص 375.
5- سنن الدرامي بعد الله بن الرحمن الدرامي ج1 ص43 و44.

وهذا يعني أنّهم زاروا القبر الشريف واستشفعوا به [سنن الدارمي].

وعن عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: ركبت عائشة فخرج إلينا غلامها فقلت: أين ذهبت أم المؤمنين؟ قال: ذهبت إلى قبر أخيها عبد الرحمن تسلم عليه.(1)

وفي نقل البيهقي: عن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر. فقلت لها: أليس كان رسول الله (صلّی الله علیه و آله) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها.(2)

ونُقِل أنّ الإمام الشافعي عندما كان ببغداد كان يتوسل بضريح الإمام أبي حنيفة ويجيء إلى ضريحه ويزوره ويسلم عليه ويتوسل إلى الله(عزّ و جلّ) به في قضاء حوائجه.

فقد نقل الخطيب البغدادي: عن علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجئ إلى قبره في كل يوم - يعني زائراً - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى.(3)

وكذلك ورد أنَّ أحمد شيخ الحنابلة كان يتوسل بقبر الإمام الشافعي في طلب العافية وقضاء الحوائج، «وقد كان الإمام أحمد يزور قبر الشافعي ويتوسل به إلى الله تعالى، بل رووا أنه غسل قميص الشافعي وشرب ماءه..».(4)

ص: 89


1- التمهيد لابن عبد البر ج3 ص235.
2- السنن الكبرى للبيهقي ج4 ص78.
3- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج1 ص135.
4- الانتصار للعاملي ج1 ص218.

وقال العيني: «وكان الشارع [يقصد النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله)] يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول فيقول: «السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار»، وكان أبو بكر وعمر وعثمان... يفعلون ذلك، وزار الشارع قبر أمه، يوم الفتح في ألف مقنع ذكره ابن أبي الدنيا، وذكر ابن أبي شيبة عن علي وابن مسعود وأنس، رضي الله تعالى عنهم، إجازة الزيارة، وكانت فاطمة (علیها السّلام) تزور قبر حمزة(رضي الله عنه) عنه، كل جمعة. وكان عمر... يزور قبر أبيه فيقف عليه ويدعو له، وكانت عائشة... تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة، ذكره أجمع عبد الرزاق. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، وسئل مالك عن زيارة القبور؟ فقال: قد كان نهى عنه ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بأسا. وفي (التوضيح) أيضاً: والأمة مجمعة على زيارة قبر نبينا (صلّی الله علیه و آله) وأبي بكر وعمر... وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتي قبره المكرم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه»(1)

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «أن فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت تزور قبر حمزة (رضی الله عنه) ترمه وتصلحه، وقد تعلمته بحجر»(2)

وفي روايةٍ أخرى: أنَّ فاطمة ابنة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة، إذ روي: «وكانت فاطمة بنت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) تأتيهم بين اليومين والثلاثة. فتبكي عندهم وتدعو».(3)

ص: 90


1- عمدة القاري للعيني ج8 ص70.
2- تاريخ المدينة لابن شبة النميري ج1 ص132.
3- المغازي للواقدي ج1 ص313.
النقطة الثالثة: الأهداف من زيارة القبور، وما يترتب على زيارة قبور الصالحين والأئمة (علیهم السّلام) من منافع.

إنَّ البحث عن أهداف هذه الشعيرة الإلهية لا يعني البحث عن العلة التامة لتشريع استحبابها، وإنّما هي محاولةٌ للبحث عن الحِكم والمنافع والفوائد في الروايات الشريفة وفي الواقع المعاش للزائرين لقبور الأئمة (علیهم السّلام)، وقد تقدّم الحديث عن الفرق بين العلة والحكمة.

وقد أشار الشيخ المظفر(رحمه الله)إلى أهدافٍ معينة من زيارة القبور، وهي كالتالي:

1/إنَّ زيارة القبور تمثل امتثالًا لحثِّ أهل البيت (علیهم السّلام) على الزيارة، فهناك رواياتٌ كثيرة تحثُّ على ذلك.

فعَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام): مَا لِمَنْ زَارَ أَحَداً مِنْكُمْ؟ قَالَ (علیه السّلام): «كَمَنْ زَارَ رَسُولَ الله (صلّی الله علیه و آله)».(1)

وروي أنه قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): «يَا عَلِيُّ، مَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ زَارَكَ فِي حَيَاتِكَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ، أَوْ زَارَ ابْنَيْكَ فِي حَيَاتِهِمَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، ضَمِنْتُ لَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أُخَلِّصَه مِنْ أَهْوَالِهَا وشَدَائِدِهَا حَتَّى أُصَيِّرَه مَعِي فِي دَرَجَتِي».(2)

وعَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَيْتُكَ ولَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام). قَال (علیه السّلام):َ «بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ! ألَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُه اللهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ويَزُورُه الأَنْبِيَاءُ ويَزُورُه الْمُؤْمِنُونَ!»

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ. قَالَ (علیه السّلام): «اعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام) أَفْضَلُ

ص: 91


1- الكافي للكليني ج4 ص 579 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح1.
2- الكافي للكليني ج4 ص 579 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح2.

عِنْدَ الله مِنَ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، ولَه ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ وعَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فُضِّلُوا».(1)

2/ إنَّ الإنسان بطبعه يحب أنْ يُستجاب دعاؤه، وإجابة الدعاء لها شروط، ومن تلك الشروط هو أنْ يتحرى الداعي الأوقات والأماكن التي هي مظنة إجابة الدعاء، كمن يدعو في ليلة القدر ووقت السحر، هناك أماكن فيها مظنة استجابة الدعاء ومن تلك الأماكن هو قبور الأئمة (علیهم السّلام).

عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد3 يقولان: «إن الله(عزّ و جلّ) عوض الحسين (علیه السّلام) من قتله: أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره».

قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): هذا الجلال ينال بالحسين (علیه السّلام) فماله في نفسه؟ قال: إن الله(عزّ و جلّ) ألحقه بالنبي (صلّی الله علیه و آله) فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ﴾(2).(3)

3/ورد في الروايات الشريفة أنّ من تمام الوفاء بالعهد للأئمة (علیهم السّلام) عدة أمور، منها أنَّ من يذهب للحج فإن من تمام حجه أنْ يزور الأئمة (علیهم السّلام)، والروايات في هذا المجال عديدة، فعَنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: نَظَرَ إِلَى النَّاسِ يَطُوفُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ (علیه السّلام): «هَكَذَا كَانُوا يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَنْفِرُوا إِلَيْنَا فَيُعْلِمُونَا وَلَايَتَهُمْ ومَوَدَّتَهُمْ، ويَعْرِضُوا عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِه الآيَةَ: ﴿فَاجْعَلْ

ص: 92


1- الكافي للكليني ج4 ص 579 و580 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح3.
2- الطور 21
3- الأمالي للشيخ الطوسي ص317 ح644 / 91.

أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾(1).(2)

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا حَجَّ أحَدُكُم فَليَختِم حَجَّهُ بِزِيارَتِنا؛ لنَّ ذلِكَ مِن تَمامِ الحَجِّ».(3)

4/ إنَّ زيارة قبور الأئمة (علیهم السّلام) من شأنها أن تقوّي الرابطة المعنوية بين المؤمن وبين إمامه، وهذه المسألة وجدانية وواضحة جدًا، فعند زيارة المؤمن الإمام البعيد رغم التكاليف المادية التي من الصعب توفيرها على البعض، لكنه بالوجدان انًا يشعر بأنَّ علاقته تقوى بالإمام (علیه السّلام) وأنَّ هناك جانبًا ماديًا أضيف إلى إيمانه المعنوي، وأنَّ هناك انجذابًا بين روحه وبين تلك الأعتاب الطاهرة، وهذا ما يستشعره كلُّ غريب عن أئمته.

5/ إنَّ المؤمن عندما يذهب إلى زيارة قبور أئمته (علیهم السّلام) فإنّه يتذكر مآثرهم وأخلاقهم وتعبهم وجهادهم الذي بذلوه من أجل تثبيت أركان الدين، ويتذكر ورعهم وزهدهم في الدنيا وكيف أنَّهم كانوا قد زهدوا بالدنيا بتمام معنى الكلمة، الأمر الذي يستلزم أنْ يتمثل المؤمن بتلك الأخلاق، وأنْ يحولها إلى سلوكٍ عملي في حياته.

ينقل عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنَّ بيته كان من البساطة بمكان حتى كان إذا رفع يده (علیه السّلام) فإنّها تضرب بالسقف، واليوم ينظر المؤمن إلى قبر أمير المؤمنين (علیه السّلام) كيف يحيط به الذهب من كلِّ مكان، والمؤمن سيعرف حينها أنه (علیه السّلام) عندما ترك الدنيا، فقد جاءته مرغمة لتسجد عند أعتابه.

6/إنَّ مواسم الزيارة تعمل كما يعمل الحج في جمع أشتات المسلمين من جميع أنحاء

ص: 93


1- إبراهيم 37
2- الكافي للكليني ج1 ص392 بَابُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ مَا يَقْضُونَ مَنَاسِكَهُمْ أَنْ يَأْتُوا الإِمَامَ فَيَسْأَلُونَه عَنْ مَعَالِمِ دِينِهِمْ ويُعْلِمُونَهُمْ وَلَايَتَهُمْ ومَوَدَّتَهُمْ لَه- ح1.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج2 ص459 باب 221 ح1.

العالم ليؤدوا شعيرة إلهية.

7/ إنَّ زيارة قبور الأئمة (علیهم السّلام) بما فيها من بذل جهد ومال ومفارقة أهل وأولاد تعمل على ترويض النفس الإنسانية المؤمنة بالانقياد إلى الأئمة (علیهم السّلام) وبالانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) وتنفيذ أوامره.

8/ إنَّ الزيارات الواردة عن الأئمة (علیهم السّلام) تحوي مضامين عالية وإشارات بليغة في التوحيد والنبوة ومقامات النبي (صلّی الله علیه و آله)، وتكشف عن مقامات أهل البيت (علیهم السّلام) والصالحين من أتباعهم.

مثال ذلك: ما ورد في زيارة أبي الفضل (علیه السّلام) أنّ الإمام الصادق (علیه السّلام) يخاطبه بأنَّ قتله استُحلت فيه حرمة الإسلام «ولعن الله أمة استحلت منك المحارم، وانتهكت حرمة الاسلام»(1)،

وهذا يكشف عن مقام عظيم لأبي الفضل (علیه السّلام)، فهو لم يكن مجرد قائد عسكري في جيش الإمام الحسين(علیه السّلام) وإّنما كان من العلماء في ركب الحسين (علیه السّلام)؛ لأننا نعلم أنَّ حرمة الإسلام حسب ما ورد في الروايات الأخرى تنتهك بقتل العالم.

ومما يشير إلى ذلك ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ الْفَقِيه ثُلِمَ فِي الإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ».(2)

9/إنّ تلك الزيارات تحكي عن مواقف الأئمة (علیهم السّلام) وتضحياتهم في سبيل الدين ونشر الإسلام والدعوة إلى طاعة الله(عزّ و جلّ).

ص: 94


1- المزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص391.
2- الكافي للكليني ج1 ص38 بَابُ فَقْدِ الْعُلَمَاءِ- ح2.

عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت عليهم السلام

النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في معنى التشيّع عند آل البيت:

إنّ الأئمة من آل البيت (علیهم السّلام) لم تكن لهم همّة بعد أنِ انصرفوا عن أنْ يرجع أمر الامّة إليهم إلّا تهذيب المسلمين وتربيتهم تربيةً صالحةً كما يريدها الله(عزّ و جلّ) منهم، فكانوا مع كُلّ من يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعية وتلقينه المعارف المحمّديّة، ويعرّفونه ما له وما عليه.

ولا يعتبرون الرجل تابعاً وشيعةً لهم إلّا إذا كان مطيعاً لأمر الله، مجانباً لهواه، آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم. ولا يعتبرون حبّهم وحده كافياً للنجاة كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات ويلتمس عذراً في التمرّد على طاعة الله (سبحانه و تعالی). إنّهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاةً إلّا إذا اقترن بالأعمال الصالحة وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى.

«يا خيثمة! أبلغ موالينا أنّه لا نغني عنهم من الله شيئاً إلّا بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره».

بل هم يريدون من أتباعهم أنْ يكونوا دعاةً للحقّ وأدلّاء على الخير والرشاد، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان: «كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع».

ص: 95

ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض أتباعهم، لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس:

1. محاورة أبي جعفر الباقر (علیه السّلام) مع جابر الجعفي: «يا جابر! أيكتفى من ينتحل التشيع أن يقول بحبّنا أهل البيت! فو الله ما شيعتنا إلّا من أتقى الله وأطاعه.

وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع، والتخشع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

فاتقوا الله واعملوا لما عند الله! ليس بين الله وبين أحدٍ قرابةٌ، أحبّ العباد إلى الله(عزّ و جلّ) أتقاهم وأعملهم بطاعته.

يا جابر والله ما نتقرب إلى الله (سبحانه و تعالی)إلّا بالطاعة، وما معنا براءةٌ من النار، ولا على الله لأحدٍ من حُجّة. من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ. وما تُنالُ ولايتنا إلّا بالعمل والورع».

2. محاورة أبي جعفر أيضاً مع سعيد بن الحسن:

أبو جعفر: «أيجيء أحدكم إلى أخيه فيُدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟»

سعيد: ما أعرف ذلك فينا.

أبو جعفر: «فلا شيء إذن».

سعيد: فالهلاك إذن.

أبو جعفر: «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد».

ص: 96

3. محاورة أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام) مع أبي الصباح الكناني:

الكناني لأبي عبد الله: ما نلقى من الناس فيك؟!

أبو عبد الله: «وما الذي تلقى من الناس؟»

الكناني: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفريّ خبيث.

أبو عبد الله: «يعيّركم الناس بي؟!»

الكناني: نعم!

أبو عبد الله: «ما أقلّ والله من يتّبع جعفراً منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!»

4 ولأبي عبد الله (علیه السّلام) كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي:

أ. «ليس منّا -ولا كرامة- من كان في مِصرٍ فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحدٌ أورع منه».

ب. «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمناً حتّى يكون لجميع أمرنا متّبعاً ومريداً، ألا وإن من اتّباع أمرنا وإرادته الورع، فتزيّنوا به يرحمكم الله».

ج-. «ليس من شيعتنا من لا تتحدث المُخدّرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قريةٍ فيها عشرة آلاف رجلٍ فيهم خلقٌ لله أورع منه».

د. «إنّما شيعة (جعفر) من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه. فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»). انتهى.

رغم أنَّ لهذه العقيدة العديد من المداخل التي يمكن للباحث أنْ يدخل من خلالها، إلا أنَّ الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة متن كتابه اكتفى بالإشارة إلى الجانب التربوي للتشيّع، وحتى تتم الفائدة نخرج قليلًا عن عبارة الكتاب، ونُدرج النقاط الآتية:

ص: 97

النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا.

قال علماء اللغة: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، وقالوا: شايعه إذا تابعه ووالاه على الأمر، فالشيعةُ في اللغة تعني الأتباع والأنصار.(1)

وقد استعمل القرآن الكريم لفظ التشيع في عدة آياتٍ، منها ما جاء في وصف إبراهيم (علیه السّلام) بأنّه كان من أتباع لوط (علیه السّلام) أيّ على ديانته قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ﴾(2)ومنها ما ورد في قصة نبي الله موسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام) ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾(3)

فمن شيعته يعني ممن شايعه وتابعه على دينه من بني إسرائيل، وأصل الشيعة هي الفرقة من الناس.

أما المعنى الاصطلاحي فهو اسمٌ يُطلق على كلِّ من يتولى أمير المؤمنين (علیه السّلام)، حتى صار اسم (الشيعة) خاصًا بأتباعه (علیه السّلام).

النقطة الثانية: الآراء في نشأة الشيعة:

هل التشيع ووجودُ جماعةٍ باسم الشيعة يوالون عليًا وأولاده أجمعين (علیهم السّلام) كان من زمن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، أو هو أمرٌ وظاهرةٌ طارئة جاءت بعد زمن النبي (صلّی الله علیه و آله)، أفرزتها بعض الضغوط والعوامل على مجموعة من الناس، أو ماذا؟

وبعبارةٍ أخرى: هل التشيع فعلٌ أو ردةُ فعلٍ؟

ص: 98


1- الصحاح للجوهري ج3 ص1240.
2- الصافات 83.
3- القصص 15.

هل إنَّ التشيع ظاهرة متأصلة في الإسلام أو طارئة عليه؟

هناك عدة أقوال في هذه المسألة، نستعرضها لنعرف الحق منها:

الأول: إنَّ التشيع ولد في الفترة التي أعقبت وفاة الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، حيث تخلَّف مجموعةٌ من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر، أي كان التشيع ردة فعلٍ. وممن يذهب إلى هذا الرأي اليعقوبي، حيث قال: «وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب...»(1)

وأحمد أمين المصري إذ يقول: «وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي (صلّی الله علیه و آله) أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه».(2)

الثاني: إنَّ التشيّع بدأ أيام خلافة أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فبعد أنْ رجعت الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) سنحت لمحبيه وأتباعه فرصةً ليُبرزوا حبهم وولاءهم له، خصوصًا عندما انشق طلحة والزبير عليه (علیه السّلام)، ومنذ حرب الجمل أطلِق على من قاتلوا مع أمير المؤمنين (علیه السّلام) اسم (الشيعة).

ويذهب إلى هذا الرأي بن إسحاق حيث قال ابن النديم: «قال محمد بن إسحاق. لما خالف طلحة والزبير على علي (علیه السّلام). وأبيا الا الطلب بدم عثمان بن عفان، وقصدهما علي (علیه السّلام) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه، تسمى من اتبعه على ذلك، الشيعة. فكان يقول شيعتي، وسماهم (علیه السّلام)».(3)

ص: 99


1- تاريخ اليعقوبي ج2 ص124.
2- أحمد أمين فجر الإسلام ص 266 ط بيروت.
3- فهرست ابن النديم- ابن النديم البغدادي ص223.

وذهب البعض إلى نشأة التشيع بعد حرب صفين لا الجمل، ومنهم عبد العزيز الدهلوي حيث قال: «ظهر لقب الشيعة في سنة 37 هجرية وفي هذه السنة حصلت واقعة صفين».(1)

وعلى كلا القولين فإنّ التشيع إنما نشأ كردة فعل.

الثالث: إنَّ التشيُّع ظهر نتيجة لما أفرزته واقعة كربلاء من تطورات على الساحة السياسية في الإسلام، وذهب إلى هذا الرأي الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه التصوف والتشيع، حيث قال: «على أننا نرى أن التشيع السياسي، وإن كان ظهر في الفترة التي افترضها الباحثون السابقون، إلا أن دلالة الاصطلاح (شيعة) على الكتلة التي ندرسها من المسلمين وانصرافه إليهم دون غيرهم، قد بدأ بحركة التوابين التي ظهرت سنة 61 ه-، وانتهت بالفشل سنة 64 ه-، وكان قائد الحركة يلقب بشيخ الشيعة».(2)

وكذلك برو كلمان في تاريخ الشعوب الإسلامية، حيث يعتبر أن نشأة التشيع كردة فعلٍ بعد واقعة عاشوراء، فقال: «والحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين والتي لم يكن لها أي أثر سياسي، قد عجلت في التطور الديني للشيعة حزب علي، الذي أصبح في ما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب»(3)

ص: 100


1- الترمانيني: أحداث التأريخ الإسلامي ج1 ص360/ ط. دمشق- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص20 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.
2- الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع ج1 ص22/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص21 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.
3- بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ص128/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص21 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

الرابع: إنَّ التشيع أنّما ولد في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام)، حيث ظهرت مقولة النص على خلافة النبي (صلّی الله علیه و آله) التي كان يروّج لها هشام بن الحكم. وممن يقول بهذا الرأي الدكتور محمد عمارة حيث يقول: «تأريخ نشأة الشيعة مقترن بالفترة الزمنية التي نشأت فيها عقيدة النص ودعوى الوصية من الرسول (صلّی الله علیه و آله) إلى علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، ومن هنا كان صواب ما ذهب إليه المعتزلة عندما قالوا: إن فترة إمامة جعفر الصادق (علیه السّلام) وهي التي نهض فيها هشام بن الحكم بدور واضع قواعد التشيع ومهندس بنائه الفكري، هي الفترة التي يؤرخ بها لهذه النشأة...»(1).

من الملاحظ أنَّ كلَّ هذه الآراء تجتمع في نقطةٍ هي: أنَّ التشيع حالةٌ طارئة على الإسلام، أيّ لم تكُ معروفةً في زمن الرسول (صلّی الله علیه و آله) وإنّما نشأ بعد وفاته سواء مباشرةً أو بعد ثلاثين سنة في حكم أمير المؤمنين أو بعد واقعة عاشوراء أو في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام).

والصحيح أنَّ التشيع ليس معنى آخر غير الإسلام، فالإسلام هو التشيع والتشيع هو الإسلام، فليس هناك اثنينية، ومن يرى الاثنينية هو من يعتقد أنَّ التشيع طارئٌ على الإسلام. أما نحن ففي اعتقادنا أنَّ التشيع ولد منذ اللحظة الأولى التي ولد فيها الإسلام، فهو نفس الإسلام، ويدلُّ على هذه الحقيقة عدة أمور، وسنكتفي بذكر اثنين منها:

الأول: آية التبليغ:

قال(عزّ و جلّ): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ

ص: 101


1- محمد عمارة: الإسلام وفلسفة الحكم ص158/ط. بيروت- نقله عنه: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي- التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته ص22 / ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(1)

ومعلومٌ سبب نزول هذه الآية، حيثُ توقف الرسول (صلّی الله علیه و آله) في غدير خم آمرًا جميع الحجيج بالاجتماع هناك، بعودة من تقدم منهم ولحوق من تأخر منهم، وما إن اجتمعوا جميعًا حتى عُمِل له منبر فرقاه خاطبًا فيهم خطبة التبليغ التي تضمنت تبليغ المسلمين بمن يخلفه بعده قائلًا: «من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه»، فنزلت الآية الكريمة في قوله(عزّ و جلّ): ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾(2).

فالإسلام الذي ارتُضيَ هو الإسلام المكتمل ببيعة أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فيكون اتباعه (علیه السّلام) هو اتباعٌ للإسلام، مما يعني أنَّ التشيع ولد مع الإسلام، فلا إسلام بلا تشيع ولا تشيع بلا إسلام. وأما الإسلام الذي يخلو من ولايته (علیه السّلام) فهو إسلامٌ ناقص، ليس بمرضي من قبله(سبحانه و تعالی).

الثاني: الأحاديث الكثيرة:

صرّح النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) بأنّ هناك شيعةً للإمام علي (علیه السّلام) في العديد من أحاديثه المباركة، وتناول ذكرهم فيها بالمديح والثناء، مما يدلُّ على وجود شيعة الإمام علي (علیه السّلام) في زمن النبي (صلّی الله علیه و آله)، كما يدلُّ على أنّهم مرضيون أيضًا.

روي عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلّی الله علیه و آله) فأقبل علي بن أبي طالب (علیه السّلام) فقال النبي (صلّی الله علیه و آله): «قد أتاكم أخي، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ثم قال: إنه أولكم إيمانا معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله

ص: 102


1- (67) من سورة المائدة.
2- المائدة: 3

مزية، قال: فنزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾(1)»قال:

وكان أصحاب محمد رسول الله (صلّی الله علیه و آله) إذا أقبل علي (علیه السّلام) قالوا: قد جاء خير البرية.(2)

فالنبي (صلّی الله علیه و آله) عبّر «إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» مادحًا إيّاهم، مما يعني وجودهم في زمنه (صلّی الله علیه و آله).

وفي حديثٍ آخر ينقله ابن حجر عن ابن عباس أيضًا في نزول هذه الآية: أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس(رضي الله عنه) أن هذه الآية لما نزلت قال النبي لعلي: «هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضابا مقمحين». قال: «ومن عدوي؟» قال: «من تبرأ منك ولعنك».(3)

النقطة الثالثة: المراحل التي مر بها التشيع، أو السير التاريخي للتشيع.
المرحلة الأولى: في زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله).

وسنختصر خطوطًا عامة لسير التشيع من زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) إلى الغيبة الكبرى.

إنَّ البذرة الأولى للتشيع ولدت مع الإسلام، ولكن رغم هذا نجد أنَّ التشيع مرَّ بمراحل عديدة نذكرها على نحو الإجمال:

حيث أسس النبي (صلّی الله علیه و آله) للمذهب الحق عبر التصريح في عدةِ مناسباتٍ وبعدةِ أساليب، ومنها بالإخبار بوقوع الاختلاف بعده (صلّی الله علیه و آله) وأنَّ المنجى من هذا الاختلاف يكمن في مذهبٍ واحدٍ لا غير، وأنَّ ذلك المذهب هو مذهب العترة الطاهرة كما تُصرِّح به الكثير من الأحاديث مثل حديث السفينة والثقلين والنجوم وغيرها.

ص: 103


1- البينة 7.
2- أمالي الشيخ الطوسي ص 251 و 252 ح 448 / 40.
3- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص161.

وقد تقدم الكلام تفصيلًا حول دلالات هذه الأحاديث، وفي هذه المرحلة أيضًا بدأ المذهب يبرز في بعض الصحابة كما في أبي ذر وسلمان وعمار والمقداد وغيرهم.

المرحلة الثانية: في زمن الخلفاء.

وفي هذه المرحلة التزم الشيعة بأوامر أمير المؤمنين (علیه السّلام) في خدمة الدين وبيان الحقِّ بالإضافة إلى قيام بعض الشيعة بالدفاع عن ولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) وعن الحق عمومًا كمواقف أبي ذر وسلمان وعمار.

والشيعة في هذه المرحلة كانوا يعملون وفق ما أسسه أمير المؤمنين (علیه السّلام) من تقديم مصلحةِ الإسلام العامة على المصلحة الخاصة، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) من خطبة له (علیه السّلام) لما عزموا على بيعة عثمان: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَ الله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه».(1)

وبهذا المعنى يمكن أنْ نجد التبرير المناسب لما كان يفعله أمير المؤمنين (علیه السّلام) من تقديم النصيحة للخلفاء أو إجابته عن أسئلتهم أو حل المعضلات التي كانت تواجههم، فقد كان كل ذلك نابعًا من حرصه على مصلحة الإسلام العامة، فهي مرحلة تمشية الأمور العامة للمسلمين وإنْ كان فيها جورٌ خاصٌ على الشيعة فضلًا عن إمامهم (علیه السّلام).

المرحلة الثالثة: زمن الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام).

وفي هذه المرحلة من الواضح جدًا أنَّ المؤمنين قد جهروا بحبهم لأمير المؤمنين (علیه السّلام) وجاهدوا وقاتلوا بين يديه في صفين والجمل ونهروان، وهذه المرحلة كانت قصيرة نسبيًا؛ إذ لم تتجاوز الأربع سنوات.

ص: 104


1- نهج البلاغة ج1 ص124.
المرحلة الرابعة: في زمن الإمام الحسن (علیه السّلام).

حيث الظروف الموضوعية القاسية التي أحاطت بالإمام الحسن (علیه السّلام)، من خذلان الجيش له، وكثرة الخيانات، وتكتل الجبهة الأموية بقيادة معاوية ضده، وفقدان الأنصار وندرتهم إلا الثلة القليلة؛ لذلك آثر الإمام الحسن (علیه السّلام) أنْ يحافظ على تلك الثلة القليلة للمؤمنين ولا يعرضهم للقتل، الأمر الذي عبّر عنه الإمام الباقر (علیه السّلام): بأنَّ الذي فعله الإمام الحسن (علیه السّلام) لهذه الأمة أفضل لها مما طلعت عليه شمس.

حيث روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) أنه قَالَ: «والله، لَلَّذِي صَنَعَه الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ3 كَانَ خَيْراً لِهَذِه الأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْه الشَّمْسُ، والله لَقَدْ نَزَلَتْ هَذِه الآيَةُ: ﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾(1)إِنَّمَا هِيَ طَاعَةُ الإِمَامِ، وطَلَبُوا الْقِتَالَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ مَعَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام): ﴿قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾(2) أَرَادُوا تَأْخِيرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَائِمِ (علیه السّلام)».(3)

المرحلة الخامسة: في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام).

حيث أفرزت كربلاء ثلةً من الأصحاب لم ولن يأتي شبيهٌ لهم؛ لقول الإمام الحسين (علیه السّلام) في حقهم: «فإني لا أعلم أصحابا ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أصحابي وأهل بيتي»(4)

فقد قاموا تلبيةً لأمر الإمام الحسين (علیه السّلام) وناهضوا بني أمية عقائديًا وعسكريًا؛

ص: 105


1- النساء 77.
2- مأخوذ من الآية السبعة والسبعين في سورة النساء والآية الأربعة والأربعين في سورة إبراهيم.
3- الكافي للكليني ج8 ص330 ح506.
4- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص183.

ليُثبتوا الكثير من الركائز التي أسست لجماعة الشيعة فيما بعد.

المرحلة السادسة: في إمامة الإمام السجاد (علیه السّلام).

وفي هذه المرحلة انقسم الشيعة إلى قسمين:

الأول: من كان يعمل سرًا حسب مقتضيات المرحلة من قضاء الحوائج للمؤمنين وتسهيل أمورهم وغيرها، وكان الإمام زين العابدين (علیه السّلام) قد عمل على فتح الأبواب لذلك عبر الظواهر الأربعة المشهورة في حياته كما تقدم وهي (البكاء والدعاء والإنفاق والإعتاق). فمن خلال هذه الطرق الأربعة كان الإمام (علیه السّلام) يوصل الرسائل العقائدية والفكرية وغيرها إلى من يريد أنْ يوصل كلامه إليه.

الثاني: من كان يعمل جهارًا مثل عبد الله بن حنظلة، الذي سُميّ أبوه حنظلة ب(غسيل الملائكة)؛ لحادثةٍ معروفة في زمن الرسول الأكرم (صلّی الله علیه و آله).(1)

وكان عبد الله بن

ص: 106


1- روي أنه كان حنظلة بن أبي عامر رجل من الخزرج، قد تزوج في تلك الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، بنت عبد الله بن أبي سلول ودخل بها في تلك الليلة، واستأذن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) ان يقيم عندها فأنزل الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلىٰ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور 62] فأذن له رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، فهذه الآية في سورة النور واخبار أحد في سورة آل عمران فهذا دليل على أن التأليف على خلاف ما أنزله الله، فدخل حنظلة باهله وواقع عليها فأصبح وخرج وهو جنب، فحضر القتال فبعث امرأته إلى أربعة نفر من الأنصار لما أراد حنظلة ان يخرج من عندها وأشهدت عليه انه قد واقعها فقيل لها لم فعلت ذلك؟ قالت رأيت في هذه الليلة في نومي كأن السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انظمت، فعلمت انها الشهادة فكرهت ان لا اشهد عليه، فحملت منه. فلما حضر القتال نظر حنظلة إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكرين فحمل عليه فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرص وسقط أبو سفيان إلى الأرض وصاح يا معشر قريش أنا أبو سفيان وهذا حنظلة يريد قتلي وعدا أبو سفيان ومر حنظلة في طلبه فعرض له رجل من المشركين فطعنه فمشى إلى المشرك في طعنه فضربه فقتله، وسقط حنظلة إلى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله) رأيت الملائكة يغسلون حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحائف من ذهب، فكان يسمى غسيل الملائكة. [تفسير القمي ج1 ص118]

حنظلة بعد واقعة عاشوراء قد ذهب إلى يزيد في قصره، فرآه كيف يلاعب القردة ويشرب الخمر فأنكر ذلك وأعلن التمرد على ملك يزيد، حيث روي: لما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه أجمعوا على عبد الله بن حنظلة فأسندوا أمرهم إليه فبايعهم على الموت وقال يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي، وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا المسجد.(1)

فوقعت على إثر ذلك وقعة الحرة التي قُتِل فيها خيرةُ الشيعة ومنهم ابن حنظلة وثمانية من أولاده، كما قُتِل من وجوه قريش حوالي 700 رجلًا! وكانت وقعةً عجيبةً غريبةً ومن أسوأ ما مرَّ على المسلمين في ذلك الوقت.

وكذلك ثورة يزيد بن علي الذي قام بالثورة ضد الغاصبين لحقِّ أهل البيت (علیهم السّلام).

المرحلة السابعة: في إمامة الإمامين الباقرين(علیهما السّلام).

وفي هذه المرحلة عمل الإمامان الباقران(علیهما السّلام) على طرح أفكارٍ ومفاهيمَ وتصوراتٍ لبناء الجماعة الصالحة، وبناء التشيع بناءً فكريًا وعقائديًا وسلوكيًا رصينًا؛ لذلك نجد أنَّ المذهب اليوم يُسمى ب(المذهب الجعفري)، ليس لأنه تأسس في زمن الإمام الصادق (علیه السّلام)، وإنّما لأنّ الإمام الصادق والباقر(علیهما السّلام) قد بيّنا الركائز الأساسية للتشيع، وكأنما صرحوا بتلك الركائز التي كانت مغمورة قبلهم من جهةٍ، ولتأكيدهما3 على

ص: 107


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص66.

ضرورة التواصل والانفتاح والحضور الدائم في داخل الأمة من جهةٍ أخرى. حتى أنهما كانا يأمران شيعتهما بالصلاة على جنائز سائر المسلمين، والحضور في جماعتهم، بل وتولّي الأذان في مساجدهم؛ ليروا من الشيعة الورع والعمل.

حيث روىٰ زيد الشحّام عن الإمام جعفر بن محمّد (علیهما السّلام) أنَّه قال: «يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلُّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمَّة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنَّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يُؤدِّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوء ما يُؤدِّب أصحابه»(1).

ففي الوقت الذي بيّن الإمامان الباقران (علیهما السّلام) ركائز التشيع وأدلته، أمروا شيعتهم بعدم الانعزال عن المجتمع بالتقوقع حول الذات، بل بالدخول في أحشاء المجتمع، وأنْ يمارسوا حياتهم الاجتماعية بصورةٍ لا تنقطع عن التواصل مع الآخر حتى لو كان الآخر على ضلال.

لذلك روي عن ابن مسكان، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): «إنّي لأحسبك إذا شُتِمَ عليٌّ بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت»، فقلت: إي والله جُعلت فداك، إنّي لهكذا وأهل بيتي، فقال لي: «فلا تفعل، فوَالله لربَّما سمعتُ من يشتم عليّاً وما بيني وبينه إلَّا أُسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت من صلاتي فأمر به فأُسلِّم عليه وأُصافحه»(2).

وقد كان هذا في وقتٍ كانت فيه التقية مكثفةً والضغط السياسي مشددًا على الإمام (علیه السّلام)، ولكن في نفس الوقت فإنَّ الإمام (علیه السّلام) يريد من الشيعة أن يتواصلوا مع الآخر...

ص: 108


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 383/ ح 1128).
2- المحاسن 1: 259 و260/ ح 313.

وقد خلّف انفتاح الشيعة على سائر المسلمين فوائد كثيرة، منها: انغلاق باب التهمة الذي كان سيبقى مفتوحًا لو التزم الشيعة بالتقوقع، ومن تلك التهم: اتهام الشيعة بقول: (خان الأمين) بعد صلاتهم، ومنها اتهامهم بوجود الاختلاط المحرم في زياراتهم للمراقد المقدسة، وغيرها من التهم التي مكَّن الانفتاح على سائر المسلمين اطلاعهم على كذب وزور تلك التهم والدعاوى الباطلة التي ما فتئ أعداء الشيعة يلصقونها بهم، لما رأوا عن كثب أنَّ أعمال الشيعة لا تخرج عن المبادئ الأساسية للإسلام.

أضف إلى ذلك فإنّ تغلغل الشيعة مع الآخر ربما يكون سببًا في اهتداء واستبصار الآخر، وهي فائدة مرجوة ويقصدها أهل البيت (علیهم السّلام).

المرحلة الثامنة: في حياة الإمام الكاظم (علیه السّلام).

حيث قضى الكثير من سنوات إمامته في السجن، ولكي يضمن تواصله مع شيعته ولئلا تتوقف الأمور الإدارية والاقتصادية والحسبية عمومًا وما تتوقف عليه حياة الناس والمجتمع، قام الإمام الكاظم (علیه السّلام) بتفعيل مبدأ الوكالة بصورةٍ واسعة جدًا، فأقام (علیه السّلام) وكلاء عنه يقومون باستلام الحقوق الشرعية وإيصالها إلى مستحقيها، بالإضافة إلى قيامهم بحلِّ النزاعات والإجابة عن الأسئلة وما شابه ذلك من أمور.

والظاهر أنَّ مبدأ الوكالة كان موجودًا منذ زمن الإمامين الباقرين (علیهما السّلام)، فقد كانوا يُشيرون إلى بعض أصحابهم عندما يُسألون من أين نأخذ ديننا؟ وقد تقدم الكلام في ذلك. بل وحتى في زمن أمير المؤمنين (علیه السّلام) بل وزمن الرسول (صلّی الله علیه و آله) إذ كان يرسل الولاة إلى المدن، بيدَ أنَّ هذا المبدأ في زمن الإمام الكاظم (علیه السّلام) تفعّل بشكلٍ أكثر؛ بسبب الظرف الموضوعي الذي عاشه الإمام (علیه السّلام).

وقد كان للإمام الكاظم (علیه السّلام) العديد من الوكلاء، ولكن –وللأسف- انقلب

ص: 109

البعض منهم على أعقابه بعد استشهاد الإمام الكاظم (علیه السّلام)؛ طمعًا فيما وقع تحت أيديهم من أموالٍ وحقوقٍ شرعية، وابتلاءً من الله(عزّ و جلّ) لتمحيص الشيعة وامتحانهم. فقد ادعوا أنَّ الإمام الكاظم (علیه السّلام) لم يمت بل غاب، وأنّه هو الإمام المهدي! وبذا أنكروا إمامة الإمام الرضا (علیه السّلام)، فأطلِق عليهم اسم (الواقفية)؛ لوقفوهم على إمامة الإمام الكاظم (علیه السّلام).

ومن أشهر الواقفية: علي بن حمزة البطائني، الذي كان محل ثقة الإمام (علیه السّلام) ووكيلًا له، لكنه خان الأمانة بعد وفاة الإمام الكاظم (علیه السّلام)، وقد وقع بسبب خيانته للإمام خلافٌ في رواياته بين علماء الرجال، فمنهم من يرفض رواياته تمامًا، ومنهم من يقبلها تمامًا، ومنهم من يفصل، فيأخذ بما روي عنه قبل انحرافه، أي قبل وفاة الإمام الكاظم (علیه السّلام)، ويرد ما سواها من روايات.

وهكذا استمر التشيع من مرحلةٍ إلى أخرى يتعايش مع الظرف الموضوعي الذي يفرض نفسه بقوة السلطة وبالقبضة الحديدية عليه، وبالتالي استمر التشيع من زمن النبي (صلّی الله علیه و آله) وأخذ أدوارًا ومراحل عديدة،ولم ينقطع هذا المدد من إمامٍ إلى إمامٍ حسب الظرف الموضوعي المُعاش حتى وصل إلى زمن الإمامين العسكريين (علیهما السّلام)، حيث أخذ الإمامان (علیهما السّلام) على عاتقهما التمهيد لغيبة الإمام الحجة (عجّل الله تعالی فرجه )؛ وذلك بتعويد الناس على عدم اللقاء المباشر بهما، وأخذا بالابتعاد شيئًا فشيئًا عن اللقاء المباشر بهم بغيباتٍ متقطعة وبفترات قصيرة.

أضف إلى ذلك أنّهم كانوا يدفعون بالناس إلى مراجعة من ينصبونه لهم وكيلًا عنهما، فعن أحمد بن إسحاق، قال: سألت أبا الحسن (علیه السّلام) وقلت: من أعامل، أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»(1).

ص: 110


1- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (علیه السّلام)/ ح 1.

وهكذا عوّد الإمام الهادي (علیه السّلام) الذهنية الشيعية على أخذ الحكم الشرعي لا من الإمام مباشرة بل بواسطةٍ منه، أي ممن ينصبه الإمام (علیه السّلام) رغم أنَّ الإمام موجودٌ وظاهرٌ.

وقد سار الإمام العسكري (علیه السّلام) على نهج أبيه (علیه السّلام)، فعن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد (علیه السّلام) عن مثل ذلك(1)،

فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان...»(2).

وهما السفيران الأول والثاني للإمام المهدي (علیه السّلام)، فجعل قولهما حجة، وبذلك بدأت الذهنية الشيعية تدريجيًا تألف أخذ الحكم الشرعي ممن يُنصبه الإمام (علیه السّلام) أكثر من ذي قبل، أي إنه رغم تعود الشيعة الأخذ عن ثقات المعصومين (علیهم السّلام)، إلا أن الفكرة ترسخت أكثر في زمن الإمامين الهاديين(علیهما السّلام).

وعندما وصلت الإمامة إلى الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) كانت الذهنية الشيعية قد تعوّدت غياب الإمام وأخذ الأحكام الشرعية عن طريق الوكلاء، فغاب الإمام (علیه السّلام)، ونقل مُهمة بيان الأحكام الشرعية إلى السفراء أو النواب الخاصين بتأسيسٍ منه ومن قبله الإمامان العسكريان (علیهما السّلام).

إلا أنَّه بعد انتهاء الغيبة الصغرى بوفاة السفير الرابع انتهت فترة السفارة الخاصة للإمام (عجّل الله تعالی فرجه )، ووقعت الغيبة الكبرى، والتي كان من أبرز سماتها أنَّ الوكلاء هذه المرة لا يُعيَّنون بشخصهم من قبل الإمام، وإنما يُعينون بصفاتهم التي وردت في بعض الروايات، من قبيل ما روي عن الإمام الحسن العسكري (علیه السّلام): «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه...»(3)

ص: 111


1- أي ما ورد في الرواية السابقة.
2- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (علیه السّلام)/ ح 1.
3- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص263.

وما ورد عن الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم».(1)

وهكذا أخذ التشيع منحىً جديدًا، يغيب فيه الإمام المعصوم (علیه السّلام) عن شيعته، ولكن تبقى تربطهم به واسطةٌ، تارةً بشكلٍ مباشر كما في السفراء الأربعة، وتارةً أخرى بشكلٍ غير مباشر، عن طريق ما يعبر عنه اليوم بالمجتهد الجامع لشرائط التقليد، فإنْ كان بهذا المستوى من العلم فيمكن لغير المجتهد أنْ يأخذ الأحكام الشرعية منه.

ولا يخفى على الشيعي والمطلع على أحوال الشيعة، الدور البارز في المرحلة الأخيرة للعلماء والمجتهدين.

النقطة الرابعة: منزلة ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) في الإسلام.

إذا رجعنا إلى الأدلة الإسلامية من آياتٍ ورواياتٍ، نجد أنْ لا شيء في الإسلام أهم من ولايةِ أهل البيت (علیهم السّلام)، فمتى ما آمنت بالله(عزّ و جلّ) وآمنت برسوله الأكرم (صلّی الله علیه و آله) فلا أهم حينئذٍ من ولاية أهل البيت (علیهم السّلام)، وهذا له عدة مؤشرات:

الأول: إن الولاية وحسب الروايات الشريفة هي الأمانة التي عرضها الله(عزّ و جلّ) على الموجودات وتحمّلها الإنسان في قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(2).

تكشف هذه الآية أنَّ هذه الأمانة من العظمة بمكان بحيث لم يتحملها إلا الموجود العاقل وهو الإنسان، وأما الجبال والسماوات والأرض -على كبر حجم جثتها إنْ صحَّ التعبير- فإنها لم تتحمل حمل هذه الأمانة.

ص: 112


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ج2، ص440، ب45، ح4.
2- الأحزاب: 72

وقد فسرت الروايات الشريفة هذه الأمانة بأنها إمامة وولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

فعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنَّه قال في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً 72﴾: «هي ولاية عليِّ بن أبي طالب (علیه السّلام)»(1).

وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن عليَّ بن موسىٰ الرضا (علیه السّلام) عن قول الله(عزّ و جلّ): ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها﴾، فقال: «الأمانة: الولاية، من ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر»(2).

وهذا يكشف عن عظيم منزلة الولاية في الإسلام بل عند الله(عزّ و جلّ)؛ فهي أمانةٌ من الله(عزّ و جلّ) عند الإنسان، فإذا لم يؤدِ حقها كان ظلومًا جهولًا.

الثاني: بولاية اهل البيت (علیهم السّلام) تمَّ الإسلام وارتضاه الله(عزّ و جلّ) لنا دينًا، وهو ما صرحت به آية إكمال الدين وإتمام النعمة التي نزلت في واقعة الغدير، حيث كان جهاد وعناء ونصب النبي (صلّی الله علیه و آله) طيلة ثلاث وعشرين سنة، منها ثلاث عشرة سنة في مكة وفيها قال (صلّی الله علیه و آله): «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت»(3)،

وعشر سنين في المدينة وما تضمنتها من حروبٍ وقتالٍ وأكثر من 80 غزوة ومعركة قادها الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله)، وفي حجة الوداع وقبل التحاق الرسول (صلّی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى بأيامٍ قلائل لا تتجاوز ثمانين يومًا ينزل عليه الوحي: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾(4).

ص: 113


1- بصائر الدرجات للصفّار (ص 96).
2- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 273 و274).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 42.
4- المائدة: 67.

وكأن كلَّ ذلك الجهاد والعناء الذي تقدّم لا يكتمل إلا بتبليغ هذا الأمر، وإلا كان هباءً منثورًا، فيمتثل النبي (صلّی الله علیه و آله) الأمر الإلهي، «حيث أوقف النبيُّ (صلّی الله علیه و آله) مائة ألف من المسلمين أو أكثر حجّوا معه حجَّة الوداع وعادوا معه، فلمَّا بلغوا غدير خُمٍّ حيث مفترق طرقهم إلىٰ مواطنهم، نادىٰ مناديه أن يرد المتقدِّم، وينتظر المتأخّر حتَّىٰ يلحق، ثمّ قام فيهم خطيباً وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقال: «ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟»، قالوا: بلىٰ، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»(1)».

ويأمر المسلمين بمبايعته (عليه أزكى الصلاة والسلام) فيبايعونه، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بالمقام عمر بن الخطّاب، فأظهر له المسرَّة به وقال فيما قال: «بخ بخ يا علي، أصبحت مولاي ومولىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة»(2).

وبعد أن بلَّغ النبيُّ الأكرم (صلّی الله علیه و آله) رسالة ربِّه هذه، نزل عليه الخطاب الإلهي صادحاً: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾(3).

فبولاية أمير المؤمنين (علیه السّلام) تمَّ الإسلام ورضيَه الله(عزّ و جلّ) لنا دينًا.

الثالث: إنَّ الولاية هي حصن الله الآمن، وهي شرط التوحيد الذي ينجي من أهوال يوم القيامة، في حديث السلسلة الذهبية للإمام الرضا (علیه السّلام)، حيث روي عن إسحاق بن راهويه، قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) نيسابور، وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك، وقد كان قعد في العمارية فأطلع رأسه، وقال: «سمعت

ص: 114


1- دلائل الإمامة: 18/ تقديم الناشر؛ وراجع: كمال الدين: 238/ باب 22/ ح 55.
2- الإرشاد 1: 176 و177.
3- المائدة: 3.

أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) يقول: سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: سمعت جبرئيل (علیه السّلام) يقول: سمعت الله(عزّ و جلّ) يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي. فلما مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها».(1)

وللمزيد من الإيضاح نذكر التالي:

1. إنَّ الروايات تُصرح بأنَّ التوحيد يقودُ إلى الجنة لا محالة، فقد روي عن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيرا، لا يعذب الله بالنار موحدا أبدا، وإن أهل التوحيد ليشفعون فيشفعون...»(2)

2. هذا التوحيد الذي يقود إلى الجنة مشروطٌ بأمرٍ خاص، وهو الإخلاص، فعنه (صلّی الله علیه و آله): «إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله(عزّ و جلّ)، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار».(3)

3. حقيقة الإخلاص الذي هو شرط التوحيد ويؤدي إلى الجنة هو تولي أهل البيت (علیهم السّلام)، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلّی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: «نعم». قال: ما ثمنها؟ قال: «(لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها». قال: وما إخلاصها؟ قال: «العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي». قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: «أجل، إن

ص: 115


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 305 و306 ح 349 / 8.
2- أمالي الشيخ الصدوق ص372 ح 469 / 10.
3- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.

حبهم لأعظم حقها».(1)

وفي صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها».(2)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ (لَا إِلَه إِلَّا الله) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ».(3)

النقطة الخامسة: مقتضيات الولاية
الأول: حبهم (علیهم السّلام).

ما هي الأمور التي يلزم على من يدعي التشيع أنْ يلتزم بها؟

إنّ لكلِّ عقيدةٍ نظرياتٍ تبتني عليها تمثل المنهجية العامة لها، وهذه النظريات ليست مقصودةً بالذات، وإنّما المقصود منها هو تطبيقها على أرض الواقع.

والتشيع كمذهبٍ له أصوله وله أساسياته وله تاريخه العريق وله أئمته ومتخصصوه ورواده...

هذا المذهب له نظرياته، والمطلوب في هذه النظريات هو تحويلها إلى سلوكٍ خارجي وتطبيقٍ عملي، وقد أخذ أهلُ البيت (علیهم السّلام) على عاتقهم بيان كلِّ تلك النظريات التي تحدد المذهب وتميّز أتباعه، وبعد هذا البيان يبقى على الأتباع والشيعة أنْ يُترجموا ما سمعوه من أئمتهم (علیهم السّلام) إلى واقعٍ وأفعالٍ خارجية، وهذا ما أكد عليه أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) في

ص: 116


1- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.
3- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.

العشرات من الأحاديث الواردة عنهم (علیهم السّلام).

وبعبارةٍ أخرى:

إنّ كلَّ مؤسسةٍ تضع شروطًا للانتساب إليها، وتُلزم بها من يريد ذلك، أي إنَّ هناك شروطًا يجب على من يريد الانتساب إليها الالتزام بها، ولا يكفي مجرد الرغبة من دون الالتزام بتلك الشروط والمقتضيات.

ومن هنا ورد أمر أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم ومحبيهم بالالتزام بشروط الانتماء للمذهب، وبيّنوا (علیهم السّلام) أنّ من أراد أنْ يحسب نفسه من أتباعهم (علیهم السّلام) فإن عليه أن يلتزم بالتعليمات والأدبيات التي ذكروها (علیهم السّلام)، ولا يكفي مجرد الرغبة والحب النظري لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وقد أشار الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة الكتاب إلى تلك المقتضيات، نذكر عناوينها باختصار:

الاول:

إنَّ حب أهل البيت (علیهم السّلام) يمثل الخطوة الأولى للنجاح وللنجاة، وتبقى بعد هذه الخطوة خطواتٌ عديدة لا بُدّ أنْ يخطوها المؤمن.

الثاني: الورع.

دائمًا ما كان يحثُّ أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم على أن يكونوا ورعين.

والورع هو الابتعاد عن المحرمات، في قبال الاجتهاد الذي يعني هنا فعل الواجبات).

وهو ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»(1)،

يعني بترك المحرمات وفعل الواجبات.

ص: 117


1- نهج البلاغة: 417/ ح 45.

ومن هنا، روى البزنطي، عن صفوان الجمال قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): قد عرفتني بعملي(1)،

تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم، قال (علیه السّلام): «إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة»(2)،

ثم تلا هذه الآية: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾(3).(4)

وكأنّه (علیه السّلام) يقول له: إنّ هذه المرأة جاءت إليك ووثقت بك، فعليك أنْ تتمثل الورع وتبتعد عن كلِّ حالة تشوش الحالة الإيمانية.

وعن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، قال: كنت أُقرئ امرأة كنت أُعلِّمها القرآن، فمازحتها بشيء، فقدمت علىٰ أبي جعفر (علیه السّلام)، فقال لي: «أيّ شيء قلت للمرأة؟»، فغطَّيت وجهي، فقال: «لا تعودنَّ إليها»(5).

فالإمام (علیه السّلام) لم يرتضِ بهذا الشيء، وعاتبه مباشرةً، لكي لا يعود لمثلها.

وقد ذكر الشيخ(رحمه الله)في الكتاب رواية أبي جعفر (علیه السّلام) حيث قال لخيثمة: «يا خيثمة، أبلغ موالينا أنّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلَّا بعمل، وأنَّهم لن ينالوا ولايتنا إلَّا بالورع،

ص: 118


1- أي كنت عرفت أنى جمال. [هامش المصدر].
2- أي يجوز لك كرايتها والتولي لأمورها. وقال في المدارك: الظاهر أن المراد من قوله (علیه السّلام): «المؤمن محرم المؤمنة» أن المؤمن كالمحرم في جواز مرافقته للمرأة، ومقتضى هذه الروايات الاكتفاء في المرأة بوجود الرفقة المأمونة وهي التي يغلب ظنها بالسلامة معها فلو انتفى الظن المذكور بان خافت على النفس أو البضع أو العرض فلم يندفع ذلك الا بالمحرم اعتبر وجوده قطعا لما في التكليف بالحج مع الخوف من فوات شيء من ذلك من الحرج والضرر.
3- التوبة 71.
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص439 ح 2912.
5- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 1/ ص 404/ ح 295)؛ ووسائل الشيعة للحرِّ العاملي (ج 20/ ص 198).

وأنَّ أشدَّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلىٰ غيره»(1).

فإلى هذا المستوى يريد الأئمة (علیهم السّلام) من شيعتهم أنْ يتمثلوا بالورع.

الثالث: الدعوة إلى الحق.

وبعبارةٍ حديثة (ممارسة التغيير).

كثيرًا ما كان أهل البيت (علیهم السّلام) يدعون شيعتهم إلى أنْ يكونوا دعاةً للحق ولا يكونوا دعاةً للباطل، وقد أمروا شيعتهم أنْ تكون دعواهم بالأفعال وليس فقط بالأقوال، كما روي عن أبي عبد الله (علیه السّلام): «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنَّ ذلك داعية»(2).

أي: دعوا فعلكم يحكي عن الحق، ويمكن أن يعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرابع: التزام مكارم الأخلاق.

ويكفي وضوح العنوان عن التفصيل فيه، وأما الروايات التي ذُكرت في هذا المجال فكثيرة، وقد وضحت المفردات التي يجب على الشيعي أنْ يلتزم بها.

الخامس: التكافل الاجتماعي.
الأولى: التكافل الاجتماعي على نحو الوجوب.

لكي يكون المسلم مؤمنًا شيعيًا تابعًا لأهل البيت (علیهم السّلام) عليه أن يُمارس التكافل الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي له مفردتان:

وهذا يتمثل بالخمس والزكاة وزكاة الفطرة، والنفقات الواجبة، كوجوب إنفاق

ص: 119


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 175 و176/ باب زيارة الإخوان/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 78/ باب الورع/ ح 14).

الولد على أبويه إذا كان غنيًا وهما فقيران، وكوجوب إنفاق الأب على أولاده بنفس الشرط، وكوجوب إنفاق الزوج على زوجته مطلقًا، إلا إذا أسقطت هي حقها.

وعن عليِّ بن مهزيار أنَّ الإمام الجواد (علیه السّلام) عندما جاء إلىٰ بغداد في عام (220ه) فرض خمساً آخر غير الخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرَّة واحدة فقط(1)، ولعلَّ ذلك (أنَّه لمَّا جاء الإمام الجواد (علیه السّلام) إلىٰ بغداد، كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، ولذا فرض الإمام (علیه السّلام) الخمس تلك السنة لحلِّ هذه المشكلة الخاصَّة)(2).

وهذا حكمٌ خاصٌ، ميّز الإمام (علیه السّلام) من خلاله أنَّ للضرورة مدخلية في اقتضاء الحكم.

الثانية: التكافل الاجتماعي المستحب.

ويتمثل بالصدقات والعطاء وإطعام الطعام وكسوة المؤمن وتزويج المحتاج ومنها إعارة الأشياء، وهو أيضًا مما دعا إليه أهل البيت (علیهم السّلام).

فقد ورد عن أبي بصير، قال: كنّا عند أبي عبد الله (علیه السّلام)ومعنا بعض أصحاب الأموال، فذكروا الزكاة فقال أبو عبد الله (علیه السّلام):

«إنَّ الزكاة ليس يُحمَد بها صاحبها، وإنَّما هو شيء ظاهر، إنَّما حَقَنَ بها دَمَه، وسُمّي بها مسلماً، ولو لم يُؤدِّها لم تُقبَل له صلاة، وإنَّ عليكم في أموالكم غير الزكاة».

فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟

فقال: «سبحان الله، أمَا تسمع الله(عزّ و جلّ) يقول في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(3)؟».

ص: 120


1- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 141/ ح (398/20).
2- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 10: 83.
3- المعارج: 24 و25

قال: قلت: ماذا الحقُّ المعلوم الذي علينا؟

قال: «هو الشيء يعمله الرجل في ماله يُعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلَّ أو كثر، غير أنَّه يدوم عليه. وقوله(عزّ و جلّ): ﴿وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ﴾(1)»، قال: «هو القرض يُقرضه، والمعروف يصطنعه، ومتاع البيت يُعيره، ومنه الزكاة».

فقلت له: إنَّ لنا جيراناً إذا أعرناهم متاعاً كسروه وأفسدوه، فعلينا جناح أن نمنعهم؟

فقال: «لا، ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك».

ص: 121


1- الماعون: 7

ص: 122

عقيدتنا في الجور والظلم

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الجور والظلم:

من أكبر ما كان يعظّمه الأئمة (علیهم السّلام) على الإنسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس، وذلك اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره، مثل قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ﴾.

وقد جاء في كلام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه، كقوله وهو الصادق المصدّق من كلامه في نهج البلاغة برقم 219: «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلت». وهذا غاية ما يمكن أنْ يتصوّره الإنسان في التعفّف عن الظلم والحذر من الجور واستنكار عمله، أنّه لا يظلم (نملة) في قشرة شعيرةٍ وإن أُعطي الأقاليم السبعة. فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟ وكيف تكون منزلته من فقهه (علیه السّلام)؟ إنّ هذا هو الأدب الإلهي الرفيع الذي يتطلّبه الدين من البشر.

نعم، إنّ الظلم من أعظم ما حرّم الله(عزّ و جلّ)، فلذا أخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.

وهذه سياستهم (علیهم السّلام) وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم ويجترئ

ص: 123

على مقامهم. وقصة الإمام الحسن (علیه السّلام) معروفةٌ في حلمه عن الشاميّ الذي اجترأ عليه وشتمه، فلاطفه الإمام وعطف عليه، حتّى أشعره بسوء فعلته. وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السموّ النفسيّ والإنسانيّة الكاملة، وإنْ كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزاً في الشريعة وكذا الدعاء عليه جائزٌ مُباحٌ، ولكنّ الجواز شيءٌ والعفو الذي هو من مكارم الأخلاق شيءٍ آخر، بل عند الأئمة أنّ المُبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلماً، قال الصادق (علیه السّلام): «إنّ العبد ليكون مظلوماً فما يزال يدعو حتّى يكون ظالماً». أي حتّى يكون ظالماً في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره. يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحدّ ظلماً؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور، ويعتدي على الناس، أو ينهش أعراضهم، أو ينهب أموالهم أو يمشي عليهم عند الظالمين، أو يخدعهم فيورّطهم في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيت (علیهم السّلام)؟ إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله(عزّ و جلّ)، وأشدّهم إثماً وعقاباً، وأقبحهم أعمالاً وأخلاقاً». انتهى.

يريد الشيخ (رحمه الله وطيب ثراه) أن يُبيّن في هذه العقيدة أنَّ مسألة الظلم -بالإضافة إلى تأكيد القرآن الكريم على أنّها من الذنوب العظيمة وأنَّ على الإنسان أنْ يجتنبها- تمثل عقيدةً سلوكيةً من عقائد أهل البيت (علیهم السّلام)؛ لذلك جاءت في روايات أهل البيت (علیهم السّلام) تعليماتٌ وتوصياتٌ تحذر الإنسان من الاقتراب من الظلم وإنْ كان صغيرًا جدًا.

وقد يُتساءل:

نحن نعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) عادلٌ في مملكته، فهو ليس محايدًا، وإنّما هو ينصر المظلوم ضد الظالم، وهذا من مقتضيات العدل، ولكننا نرى الكثير من الظلمة لا ينالون جزاء

ص: 124

ظلمهم في الدنيا، بل ويعيش بعضهم عيشًا مرفهًا، فكيف يتناسب هذا مع عدل الله(عزّ و جلّ)؟

فيُجاب:

إنَّ الله(عزّ و جلّ) يمهل ولا يهمل، فإنّه قد يُمهل الظالم فيؤخر عقوبته، وربما يؤخرها إلى يوم القيامة، ولكنّه لا يهمل عقابه قط، فيعاقبه لاحقًا في الدنيا وإلا ففي يوم القيامة، حيثُ العذاب الأليم وربما المقيم، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(1)

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(2).

كما ورد في الروايات أنَّ على الصراط عقبةً تسمى المرصاد لا يجوزها عبدٌ بمظلمةٍ، فقد روي عنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾(3)قَالَ:

«قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ».(4)

وأما لماذا لا يعاجل الله(عزّ و جلّ) الظالمين بالعقوبة في الدنيا؛ فذلك لجملةٍ من الأسباب، نذكر منها التالي:

هناك عدَّة أسباب تُبرِّر هذا الإمهال، وهي(5):

1 - لأنَّه تعالىٰ لا يخاف الفوت، وإنَّما يعجل من يخاف الفوت، فإنَّ الذي يستعجل

ص: 125


1- الإسراء 13و14.
2- الكهف 49.
3- الفجر 14.
4- الكافي للكليني ج2 ص331 باب الظلم ح2.
5- انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- س 108 – 111.

بالعقوبة أو بالأخذ هو من يخاف أن تفوته الفرصة لو لم يستعجل، أمَّا الله(عزّ و جلّ) فإنَّه محيط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء، ولا يهرب منه شيء، فحتَّىٰ لو لم يعاجل المذنب بالعقوبة فإنَّه لن يهرب منه. وهل يستطيع أحد أن يهرب من الموت!؟ والموت خلقٌ من خلق الله تعالىٰ، قال(عزّ و جلّ): ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(1)

وقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): «وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ وَطَرِيقٍ إِلَىٰ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه...»(2).

2 - لأنَّ رحمته تعالىٰ سبقت غضبه، وهذا الأمر شمل حتَّىٰ المجرمين!

قيل للإمام السجّاد (علیه السّلام) يوماً: قال الحسن البصري: ليس العجب ممَّن هلك كيف هلك، وإنَّما العجب ممَّن نجا كيف نجا، فقال (علیه السّلام): «أنا أقول: ليس العجب ممَّن نجا كيف نجا، إنَّما العجب ممَّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله»(3).

وروي أنَّه قَدِمَ علىٰ النبيِّ 0 سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيّاً من السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبيُّ (صلّی الله علیه و آله): «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قلنا: لا وهي تقدر علىٰ أن لا تطرحه، فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(4).

كلُّ ذلك لأنَّ رحمة الله تعالىٰ سبقت غضبه(5)،

قال تعالىٰ: ﴿قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ

ص: 126


1- الملك: 2.
2- نهج البلاغة: 400/ ح 31.
3- أمالي المرتضىٰ 1: 113.
4- صحيح البخاري 7: 75.
5- قال العلَّامة المجلسي ; في بحار الأنوار (ج 70/ ص 340) في معنىٰ: «إنَّ رحمتي سبقت غضبي»: «هذا يحتمل وجوها: الأوَّل: أن يكون المراد بالسبق الغلبة، أي رحمتي غالبة علىٰ غضبي وزائدة عليه، فإنَّه إذا اشتدَّ سبب الغضب وكان هناك سبب ضعيف للرحمة يتعلَّق الرحمة بفضله تعالىٰ. الثاني: أن يكون المراد به السبق المعنوي أيضاً علىٰ وجه آخر، فإنَّ أسباب الرحمة من إقامة دلائل الربوبية في الآفاق والأنفس وبعثة الأنبياء والأوصياء وإنزال الكتب وخلق الملائكة وبعثهم لهداية الخلق وإرشادهم ودفع وساوس الشياطين وغير ذلك من أسباب التوفيق أكثر من أسباب الضلالة من القوىٰ الشهوانية والغضبية وخلق الشياطين وعدم دفع أئمَّة الضلالة وأشباه ذلك من أسباب الخذلان. الثالث: أن يُراد به السبق الزماني، فإنَّ تقدير وجود الإنسان وإيجاده وإعطاء الجوارح والسمع والبصر وسائر القوىٰ ونصب الدلائل والحجج وغير ذلك، كلُّها قبل التكليف، والتكليف مقدّم علىٰ الغضب والعقاب. ويمكن إرادة الجميع، بل هو الأظهر».

أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾(1).

3 - ويمكن أن يكون إمهال الله تعالىٰ لبعض المجرمين لعلمه بأنَّهم سيتوبون ويُصلِحون ما أفسدوا، كما حصل للفضيل بن عياض، قاطع الطريق المعروف، حيث تاب وأصلح وصار من عبّاد وزهّاد أهل زمانه.

حيث روي أنَّ سبب توبته أنَّه عشق جارية، فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾(2)،

فرجع القهقرىٰ وهو يقول: بلىٰ والله قد آن. فآواه الليل إلىٰ خربة، وفيها جماعة من السابلة(3)،

وبعضهم يقول لبعض: إنَّ فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعىٰ في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللّهمّ إنّي قد تبت إليك، وجعلت

ص: 127


1- الأعراف: 156.
2- الحديد: 16.
3- المارون على الطريق المسلوك.

توبتي إليك جوار بيتك الحرام»(1).

4 - لأنَّه تعالىٰ يُمهِل المجرمين في بعض الأحيان لا لكرامة لهم عليه، بل من أجل استدراجهم بالنعم، فلعلَّ المجرم عنده بعض الحسنات فيريد تعالىٰ أن يجازيه بها في الدنيا، فيستدرجه إلىٰ أن تصل لحظة القصم، قال تعالىٰ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾(2).

5 - وقد يكون إمهالهم لا لكرامتهم هم، بل لأنَّ الله تعالىٰ يعلم أنَّه سيخرج من ذرّيتهم مؤمنون مخلصون، لذلك يُمهِلهم حتَّىٰ تتاح الفرصة للمؤمنين بالوصول إلىٰ عالم الدنيا.

ومن هنا ورد أنَّ من بعض علل غيبة الإمام المهدي (علیه السّلام) هو أن لا تضيع ودائع الله(عزّ و جلّ)، أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله (علیه السّلام) في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له - يعني أبا عبد الله (علیه السّلام) -: ما بال أمير المؤمنين (علیه السّلام) لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالىٰ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾(3)»،

قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، وكذلك القائم (علیه السّلام) لم يظهر أبداً حتَّىٰ تخرج ودائع الله(عزّ و جلّ)، فإذا خرجت ظهر علىٰ من ظهر من أعداء الله(عزّ و جلّ) فقتلهم»(4).

قال الشيخ(قدّس سرّه):

«بل عند الأئمة أن المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعد ظلما، قال الصادق (علیه السّلام): «ِإنَّ

ص: 128


1- تفسير القرطبي 17: 251.
2- آل عمران: 178
3- الفتح: 25
4- كمال الدين للصدوق: 641.

الْعَبْدَ لَيَكُونُ مَظْلُوماً فَمَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَكُونَ ظَالِماً»(1)

أي حتى يكون ظالما في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره».

وللعلماء عدة توجيهات لهذه الرواية، ومنها:

التوجيه الأول:

ذُكِر في مستثنيات الغيبة أنّه يجوز للمظلوم أنْ يذكر الظالم في مقام الشكوى، ففي ذلك المورد فقط يجوز للمظلوم أن يتكلم عنه ويدعو عليه، ولكن لا يجوز أن يتعدى عن الجانب الذي ظلمه فيه.

فلو أنَّ الظالم سرق أموال المظلوم، فللمظلوم أنْ يذكر ذلك، ولا يجوز له أن يذكر شرب الظالم للخمر مثلًا، بل إنَّ هذا في نظر المتشرعة سنخٌ من التعدي الذي قد يسلكه المظلوم في مقام الانتقام.

وعليه، فالحديث يحمل دلالة على شدة اهتمام الشارع في عدم التعدي على الحق فيتحول المرء من مظلومٍ إلى ظالم.

التوجيه الثاني(2):

أنه يفرط في الدعاء على الظالم حتى يصير ظالما بسبب هذا الدعاء كأن ظلمه بظلم يسير كشتم أو أخذ دراهم يسيرة، فيدعو عليه بالموت والقتل والفناء أو العمى أو الزمن، وأمثال ذلك، أو يتجاوز في الدعاء إلى من لم يظلمه كانقطاع نسله أو موت أولاده وأحبائه أو استيصال عشيرته، وأمثال ذلك، فيصير في هذا الدعاء ظالماً.

ص: 129


1- الكافي للكليني ج2 ص333- 334 باب الظلم ح17.
2- هذا التوجيه وما بعده ذكرها صاحب البحار(قدّس سرّه) في بحاره ج72 ص 333 334.

التوجيه الثالث:

أن يكون المعنى: أنه يدعو كثيراً على العدو المؤمن ولا يكتفي بالدعاء لدفع ضرره، بل يدعو بابتلائه، وهذا مما لا يرضى الله به، فيكون في ذلك ظالما على نفسه، بل على أخيه أيضاً، إذ مقتضى الاخوة الايمانية أن يدعو له بصلاحه، وكف ضرره عنه، كما ذكره سيد الساجدين (علیه السّلام) في دعاء دفع العدو، وما ورد ومن الدعاء بالقتل والموت والاستيصال فالظاهر أنه كان للدعاء على المخالفين وأعداء الدين، بقرينة أن أعداءهم كانوا كفارا لا محالة كما يومئ إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾(1) وسيأتي عن علي بن الحسين3 أن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه وعورته وأربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أن الله(عزّ و جلّ) أعلم بعبده منك.

التوجيه الرابع:

ما قيل: إنه يدعو كثيراً ولا يعلم الله صلاحه في إجابته، فيؤخرها فييئس من روح الله، فيصير ظالماً على نفسه، وهو بعيد.

التوجيه الخامس:

أن يكون المعنى: أنه يلح في الدعاء حتى يستجاب له فيسلط على خصمه فيظلمه فينعكس الأمر، وكانت حالته الأولى أحسن له من تلك الحالة.

ص: 130


1- يونس 11.

التوجيه السادس:

أن يكون المراد به: لا تدعوا كثيراً على الظلمة، فإنه ربما صرتم ظلمة فيستجيب فيكم ما دعوتم على غيركم.

التوجيه السابع:

ما قيل: كأن المراد من يدعو للظالم يكون ظالما لأنه رضي بظلمه كما روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه».

وأقول: هذا أبعد الوجوه. (انتهى ما عن البحار)

ص: 131

ص: 132

عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

النقطة الأولى: ضرورة الحاكم.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في التعاون مع الظالمين:

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أنْ نهى الله(عزّ و جلّ) عن معاونة الظالمين والركون إليهم، ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾.

هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت (علیهم السّلام)، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين، والاتصال بهم ومشاركتهم في أيّ عملٍ كان، ومعاونتهم ولو بشقّ تمرة.

ولا شكّ أنْ أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور، والتغاضي عن مساوئهم، والتعامل معهم، فضلاً عن ممالاتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم، وما جرّ الويلات على الجامعة الإسلامية إلّا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحقّ، حتّى ضعف الدين بمرور الأيام، فتلاشت قوّته، ووصل إلى ما عليه اليوم، فعاد غريباً، وأصبح المسلمون أو ما يسمّون أنفسهم بالمسلمين، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتّى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم، كاليهود الأذلّاء فضلاً عن الصليبيّين الأقوياء.

لقد جاهد الأئمة (علیهم السّلام) في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالاتهم، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا

ص: 133

الباب، ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) إلى محمّد بن مسلم الزهري بعد أنْ حذّره عن إعانة الظلمة على ظلمهم: «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشكّ على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلّا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا عليك. فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجلٍ مسؤول...».

ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجلٍ مسؤولٍ» فإنّ الإنسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه، بمعنى أنّه لا يجده مسؤولا عن أعماله، ويستحقر ما يأتي به من أفعال، ويتخيّل أنّه ليس بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه، أنّ هذا من أسرار النفس الإنسانيّة الأمّارة، فأراد الإمام أنْ يُنبّه الزهري على هذا السرّ النفساني في دخيلته الكامنة؛ لئلا يغلب عليه الوهم فيفرّط في مسؤوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمّال مع الإمام موسى الكاظم (علیه السّلام) وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثقين قال حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان-: دخلت عليه فقال لي: «يا صفوان كلّ شيء منك حسنٌ جميلٌ، خلا شيئاً واحداً».

قلتُ: جُعِلتُ فداك! أيّ شيء؟

قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل (يعني هارون)».

قلت: والله، ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا

ص: 134

الطريق «يعني طريق مكة» ولا أتولّاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني.

قال: «يا صفوان أيقع كراك عليهم؟»

قلت: نعم جُعِلتُ فداك.

قال: «أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراك؟»

قلت: نعم.

قال: «فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.

فاذا كان نفس حُبّ حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور؟ وكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم؟» انتهى.

قد يبدو لأول وهلة أن هذه المسألة فقهية لا عقائدية، فكيف ذكرها الشيخ كعقيدة؟

يظهر أن تأكيده على ذلك من أجل أن يؤكد على اختلاف عقيدتنا عمّا يعتقده العامة، حيث ينظرون إلى الحاكم نظرةً مُقدسةً وإنْ كان ظالمًا وإنْ كان فاسقًا! إذ طالما أظهر الإسلام بلسانه فهو مقدسٌ لديهم ولا يمكن الخروج عليه أو الاعتراض عليه، وبالتالي يلزم الاعتقاد به كإمام مفترض الطاعة، وهذا الاعتقاد بهذه الصيغة يُنتج:

1- أنْ يعيشوا حالةً من الركون والانقياد الأعمى للحاكم وإنْ كان ظالمًا.

2- أنْ يلتزموا بعدم التحرك ضده في أية محاولةٍ لتغييره وإنْ كان ظالمًا.

وهذا ما لا نجده في عقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)، ولذلك كان مناسباً للمصنف(قدّس سرّه) بيان حدود علاقة المسلمين مع السلطان، ولتتضح تلك الحدود أكثر نذكر نقطتين بشكلٍ إجمالي، وإلا ففي المسألة مفردات خلافية كلٌّ يراجع فيها مقلَّده:

ص: 135

النقطة الأولى: ضرورة الحاكم.

هناك ضرورة واقعية إلى سلطانٍ يحكم البلاد تفرضها طبيعة نظام الحياة، فإنّ من الواضح أن المفسدين يعيثون في الأرض فسادًا لولا وجود الدولة والنظام والحاكم، وهذا هو معنى ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «وإِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، ويُبَلِّغُ الله فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ»(1)

النقطة الثانية: حدود التعامل مع الحاكم الظالم.
1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله.

صحيح أنَّ وجود الحاكم ضرورةٌ، ولكن هذا لا يعني ضرورة الرضوخ له إذا كان ظالمًا، إذ إنَّ وجود الحاكم كضرورةٍ سياسية لا يستلزم الرضا بأفعاله والركون إليه.

وعليه؛ فإذا كان الحاكم عادلًا منصّبًا من الله(عزّ و جلّ) -كالمعصوم أو من نصّبه المعصوم علينا تنصيبًا عينيًا كالسفير، أو عبر صفاتٍ حددها كالمجتهد الجامع للشرائط- حينئذٍ فقط تجب طاعته علينا. أما إذا كان الحاكم ظالمًا، فعندئذٍ تتأطر العلاقة مع هذا الحاكم بأطرٍ جديدة، فهناك حدودٌ تُرسم إذا كان الحاكم ظالمًا، وتلك الحدود هي التالي:

1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله.

وهذا أمرٌ لا نجده عند غير المدرسة الإمامية، فغيرنا ذهبوا إلى عدم جواز الخروج على السلطان وإن كان ظالمًا، وهذا يستند إلى عقيدة الإرجاء التي نادى بها المرجئة بقولهم: (الإيمان قولٌ بلا عمل). ولكي يشرعنوا دعواهم هذه فقد رووا روايات بهذا المجال، ومنها ما رووه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «اسمعوا وأطيعوا

ص: 136


1- نهج البلاغة ج1 ص91.

وإن استُعمل حبشي كأن رأسه زبيبة».(1)

ورووا عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من خالف الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية».(2)

وفي رواية أخرى: «أيما رجل كره من أميره أمراً فليصبر، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبراً فمات الا مات ميتة جاهلية».(3)

وهي –بلا شك- روايات موضوعة على الرسول (صلّی الله علیه و آله)، وبصمة الكذب فيها واضحة جدًا.

2.عدم التحاكم إليه مع وجود الحاكم العادل.

فلا يجوز الرجوع إلى الحاكم الظالم في فضِّ المنازعات والفصل في الخصومات مع وجود الحاكم العادل. وعدم جواز التحاكم إلى الظالم وإنْ كان قاعدةً عامة، بيدَ أنَّ الفقهاء يذكرون جملة من الاستثناءات التي ترد عليها، كانحصار استنقاذ الحق بالترافع إلى الحاكم الظالم، مطلقًا كما يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، أو مع تقييدها ببعض القيود كما يذهب إليه آخرون.

والمسألة يُرجع فيها إلى الفقه.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مفاده ما حكم التحاكم إلى رئيس العشيرة عند حصول بعض النزاعات؟

وجوابًا على ذلك نقول: عادة لا يكون هذا الأمر حكماً أو تحاكماً، وإنّما هو من باب المصالحة، فإنّ بعض الوجهاء وكبار العشيرة يحاولون حلّ النزاعات عبر التوصل إلى

ص: 137


1- صحيح البخاري ج1 ص170.
2- مسند أحمد، ج1، ص275.
3- مسند أحمد، ج1، ص 310.

مصالحةٍ بين الأطراف.

مع الالتفات إلى ضرورة عدم مساس تلك المصالحات بحقوق القاصرين مثلًا، كما في حالة الدية الشرعية، حيث يحاول رئيس عشيرة القاتل أو من يمثله غالبًا تخفيف الدية، فهنا يجوز لعشيرة القتيل التصالح على ذلك التخفيف برضا البالغين من أهل القتيل، وأما لو كان هناك قاصرون، فليس له ذلك؛ فيجب الحفاظ على حصتهم كاملةً عند الولي أو الوصي الشرعي عليهم.

3. عدم محبة دوام الظالم ولو على حساب المصلحة الشخصية.

ربما يميل قلب الإنسان إلى حب بقاء الظالم في بعض الأحيان حفاظًا على مصالحه، وهو حبٌ أو ميلٌ ليس في محله؛ لأنَّ المرء يُحشر مع من أحب. كما منعت الروايات من ذلك، كما في روايةٍ لطيفةٍ عن صفوان الجمال وهو من خُلَّص أصحاب الإمام الكاظم (علیه السّلام)، فعن صفوان بن مهران الجمّال، قال: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السّلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «اكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكنّي أُكريه لهذا الطريق - يعني طريق مكَّة -، ولا أتولّاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي:

«يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ أنّي لأعلم من أشار عليك بهذا موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن

ص: 138

صحبتك لقتلتك(1).

وهذه حركةٌ إيمانيةٌ لا يقوى على فعلها أيُّ شخصٍ مالم يكن إيمانه حقيقيًا.

4. عدم تشويه صورة المذهب أو التنازل عن الثوابت من قبل الأشخاص الذين يؤثر كلامهم في الناس.

بمعنى أنَّ الشيعي الذي يكون مسموعَ الكلمة ليس من الصحيح أنْ يذلَّ نفسه أمام الظالم بحيث تضعف معه هيبة المذهب عند الناس.

ينقل أنَّ ابن سكيت كان عالمًا ومربيًا لأبناء المتوكل، وقد نقل في سبب قتله أنه دخل يوماً عليه وكان عنده ولداه المعتز والمؤيد فقال: يا ابن السكيت، أهذان عندك أفضل أم الحسن والحسين(علیهما السّلام)، فشرع ابن السكيت في نقل فضائل الحسنين (علیهما السّلام) وقال: والله، إن قنبر غلام علي (علیه السّلام) عندي خير منك ومن ولديك، فغضب المتوكل لعنه الله وأمر غلمانه من الترك أن يطأوه تحت أرجلهم، وداسوا بطنه بعد أن سلوا لسانه من قفاه، فاستشهد رحمه الله في الخامس من شهر رجب سنة 244.(2)

إن ابن السكيت كان ذا مكانةٍ علميةٍ مرموقة وشأن منيف، لذا فقد عرف أن اللازم أن يكون موقفه قويًا؛ فلا يناسبه أن يذل نفسه ولا أن يتقي، بل ولا يناسب المذهب ذلك؛ لما له من كلمة مؤثرة فيه، فتتأثر به هيبة المذهب ككل سلبًا أو إيجابًا. وفعلًا فقد اتخذ الموقف القوي الذي يرفع به شأن المذهب بأسره ويُعلي مكانته بين المذاهب ويُدخل الرفعة والعزة على نفوس أصحابه؛ لذا بقي موقفه محفوظًا إلى يومنا هذا.

وكذلك عندما بعث الحجاج إلى قنبر وأمره أنْ يتبرأ من أمير المؤمنين علي (علیه السّلام)، إذ روي أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب

ص: 139


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 740/ ترجمة رقم 828).
2- هامش بحار الأنوار ج104 ص1.

أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأتي به فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي، قال: أبرأ من دينه. قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه؟ فقال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: قد صيرت ذلك إليك، قال: ولم؟ قال: لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، ولقد خبرني أمير المؤمنين (علیه السّلام) أن منيتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حق، قال: فأمر به فذبح.(1)

وهكذا ميثم التمار وكميل بن زياد، فهؤلاء الطبقة المعروفة مسموعة الكلمة لا يتنازلون عن مبدئهم؛ لأنَّ كلمتهم تؤثر في هيبة المذهب، وبناءً على موقفهم قد تضعف عقيدة أو تقوى عقيدة مقابلة.

5. القيام بوجه الظالم متى ما سنحت الفرصة.

وهذا الأمر يحتاج إلى دقةٍ في تشخيص الظروف الموضوعية، والبحث في مدى صحة القيام من عدمه، وفي مدى تحقق النتائج المرجوة من عدمه، إذ ربما يؤدي القيام إلى إبادة الشيعة فيكون الموقف المناسب حينئذٍ هو المهادنة والابتعاد عن المواقف المسلحة، كما فعل الإمام الحسن (علیه السّلام)، فقد أشارت بعض كلماته إلى أنّه لو قاتل معاوية لوقعت إبادة جماعية لكلِّ الشيعة المخلصين؛ لذلك آثر الإمام الحسن (علیه السّلام) الحفاظ على هذه الثلة الطيبة.

فقد روي عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت: للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله، لِمَ داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ؟ فقال: «يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد

ص: 140


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص328.

أبي (علیه السّلام)؟» قلت: بلى. قال: «ألستُ الذي قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟» قلت: بلى. قال: «فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضر (علیه السّلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (علیه السّلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه،حتى أخبره فرضى، هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل».(1)

أما إذا كان الدفاع عن الدين أهم من النفوس، فيكون الأمر خلاف ذلك، وهو ما قام به الإمام الحسين (علیه السّلام) حيث قال (علیه السّلام): «أما بعد، فقد علمتم أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قد قال في حياته: «من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يُغيّر بقولٍ ولا فعلٍ، كان حقيقًا على الله أنْ يُدخله مدخله». وقد علمتم أنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرموا حلاله، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (صلّی الله علیه و آله)».(2)

وقد كان الحفاظ على الدين الإسلامي من أهم أهداف الإمام الحسين (علیه السّلام).

إذاً، إذا كانت الفرصة مناسبةً للقيام ضد الظالم فلا يسوغ الجلوس حينئذ وعدم القتال، كما حصل في فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها سماحة المرجع السيد

ص: 141


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 211 باب 159 ح2.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 382.

السيستاني، وقام الحشد الشعبي بدحض الدواعش، إذ كانت مقدسات الشيعة وبيضة الإسلام في خطر.

6. عدم إعانته في ظلمه ولو ببيع إبرةٍ له!

وهو ما سنتناوله في العقيدة القادمة..

ص: 142

عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة.

قال(قدّس سرّه):

«عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة:

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشقّ تمرةٍ بل حُبّ بقائهم من أشدّ ما حذّر عنه الأئمة (علیهم السّلام)، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم؟! بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم، أو من كان من أركان سلطانهم والمُنغمسين في تشييد حكمهم؟!؛ «وذلك أنّ ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد» كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق (علیه السّلام).

غير أنّه ورد عنهم (علیهم السّلام) جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله، والإحسان إلى المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوّر الله به البرهان ومكّن له في البلاد، فيدفع بهم عن أوليائه ويُصلح بهم أمور المسلمين.... أُولئك هم المؤمنون حقّاً. أُولئك منار الله في أرضه، أُولئك نور الله في رعيته...» كما جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام).

وفي هذا الباب أحاديثُ كثيرةٌ توضّح النهج الذي ينبغي أنْ يجري عليه الولاة والموظفين، مثل ما في رسالة الصادق (علیه السّلام) إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز (راجع الوسائل: كتاب البيع، الباب 78)». انتهى.

تقدّم أنّ للتعامل مع الحاكم الظالم حدوداً في العقيدة الإمامية على خلاف سائر

ص: 143

المذاهب الأخرى، يمكن جمعها في ستةِ حدودٍ لابُدّ للمؤمنين التقيُّد بها في تعاملهم مع الحاكم الظالم، تناولنا خمسة منها بشيءٍ من التوضيح، فيما أرجأنا الحديث عن السادسة؛ لمناسبةِ تناولها في هذه العقيدة..

6. عدم أعانته في ظلمة ولو ببيع إبرة.

فقد روي عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ لَه: أَصْلَحَكَ الله، إِنَّه رُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مِنَّا الضَّيْقُ أَوِ الشِّدَّةُ فَيُدْعَى إِلَى الْبِنَاءِ يَبْنِيه أَوِ النَّهَرِ يَكْرِيه أَوِ الْمُسَنَّاةِ يُصْلِحُهَا، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ

الله (علیه السّلام): «مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً وإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا، ولَا مَدَّةً بِقَلَمٍ، إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ الْعِبَادِ»(1).

هذا إذا كانت الإعانة للظالم في ظلمه، أما إذا كانت الإعانة من أجل حفظ المؤمنين، أي من أجل مصالح المسلمين، فلا بأس بها، ومع ذلك يقيدها بعض الفقهاء بالاضطرار.

فقد روي عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (علیه السّلام) فَقَالَ لِي: «يَا زِيَادُ، إِنَّكَ لَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّلْطَانِ؟»

قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ لِي: «ولِمَ؟» قُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ لِي مُرُوءَةٌ(2) وعَلَيَّ عِيَالٌ، ولَيْسَ وَرَاءَ ظَهْرِي شَيْءٌ.

فَقَالَ لِي: «يَا زِيَادُ، لأَنْ أَسْقُطَ مِنْ حَالِقٍ(3)

فَأَتَقَطَّعَ قِطْعَةً قِطْعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَلَّى لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَمَلاً، أَوْ أَطَأَ بِسَاطَ أَحَدِهِمْ، إِلَّا لِمَاذَا؟»

قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ.

ص: 144


1- الكافي للكليني ج5 ص107 بَابُ عَمَلِ السُّلْطَانِ وجَوَائِزِهِمْ ح7.
2- أي اني رجل ذو احسان ومودة وفضل عودت الناس ولا يمكنني تركه. [هامش المصدر].
3- الحالق: الجبل المرتفع. [هامش المصدر].

فَقَالَ (علیه السّلام): «إِلَّا لِتَفْرِيجِ كُرْبَةٍ عَنْ مُؤْمِنٍ، أَوْ فَكِّ أَسْرِه أَوْ قَضَاءِ دَيْنِه، يَا زِيَادُ إِنَّ أَهْوَنَ مَا يَصْنَعُ الله بِمَنْ تَوَلَّى لَهُمْ عَمَلاً: أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْه سُرَادِقٌ مِنْ نَارٍ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ الله مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ.

يَا زِيَادُ، فَإِنْ وُلِّيتَ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَأَحْسِنْ إِلَى إِخْوَانِكَ، فَوَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ، والله مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.

يَا زِيَادُ أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْكُمْ تَوَلَّى لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَمَلاً، ثُمَّ سَاوَى بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، فَقُولُوا لَه: أَنْتَ مُنْتَحِلٌ كَذَّابٌ.

يَا زِيَادُ إِذَا ذَكَرْتَ مَقْدُرَتَكَ عَلَى النَّاسِ، فَاذْكُرْ مَقْدُرَةَ الله عَلَيْكَ غَداً، ونَفَادَ مَا أَتَيْتَ إِلَيْهِمْ عَنْهُمْ وبَقَاءَ مَا أَتَيْتَ إِلَيْهِمْ عَلَيْكَ.. »

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (علیه السّلام): مَا تَقُولُ فِي أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ (علیه السّلام): «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلاً فَاتَّقِ أَمْوَالَ الشِّيعَةِ».

قَالَ: «فَأَخْبَرَنِي عَلِيٌّ أَنَّه كَانَ يَجْبِيهَا مِنَ الشِّيعَةِ عَلَانِيَةً، ويَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ فِي السِّرِّ».

ص: 145

ص: 146

عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات.

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية:

عُرِف آل البيت (علیهم السّلام) بحرصهم على بقاء مظاهر الإسلام، والدعوة إلى عزّته، ووحدة كلمة أهله، وحفظ التآخي بينهم، ورفع السخيمة من القلوب، والأحقاد من النفوس. ولا يُنسى موقف أمير المؤمنين (علیه السّلام) مع الخلفاء الذين سبقوه، مع توجّده عليهم واعتقاده بغصبهم لحقّه، فجاراهم وسالمهم بل حبس رأيه في أنّه المنصوص عليه بالخلافة، حتّى أنّه لم يجهر في حشدٍ عامٍ بالنصّ إلّا بعد أنْ آل الأمر إليه فاستشهد بمن بقي من الصحابة عن نصّ (الغدير) في يوم (الرحبة) المعروف. وكان لا يتأخر عن الإشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للإسلام بالنفع والمصلحة وكم كان يقول عن ذلك العهد: «فخشيت إنْ لم أنصرِ الإسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً».

كما لم يصدر منه ما يؤثر على شوكة ملكهم أو يُضعّف من سلطانهم أو يقلّل من هيبتهم، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت، بالرغم مما كان يشهده منهم. كلّ ذلك رعايةً لمصلحة الإسلام العامّة، ورعاية أن لا يرى في الإسلام ثلماً أو هدماً، حتّى عُرِف ذلك منه، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول: «لا كنت لمُعضلةٍ ليس لها أبو الحسن» أو «لو لا عليّ لهلك عمر».

ولا يُنسى موقف الحسن بن علي (علیه السّلام) من الصلح مع معاوية بعد أن رأى أنّ الإصرار على الحرب سيُديل من ثقل الله الأكبر ومن دولة العدل بل اسم الإسلام إلى آخر الدهر،

ص: 147

فتُمحى الشريعة الإلهية ويُقضى على البقية الباقية من آل البيت، ففضّل المحافظة على ظواهر الإسلام واسم الدين، وإنْ سالم معاوية العدوّ الألد للدين وأهله والخصم الحقود له ولشيعته، مع ما يُتوقع من الظلم والذلّ له ولأتباعه وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذةً تأبى أنْ تُغمد، دون أنْ تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح، ولكن مصلحة الإسلام العُليا كانت عنده فوقع جميع هذه الاعتبارات.

وأمّا الحسين الشهيد (علیه السّلام) فلئن نهض فلأنّه رأى من بني أُمية إنْ دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم، سيُمحون ذكر الإسلام ويُطيحون بمجده، فأراد أنْ يُثبت للتأريخ جورهم وعدوانهم ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول، وكان ما أراد. ولو لا نهضته المُباركة لذهب الإسلام في خبر كان يتلهى بذكره التأريخ كأنه دينٌ باطلٌ، وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتى أساليبهم إنّما هو لإتمام رسالة نهضته في مكافحة الظلم والجور ولإحياء أمره امتثالاً لأوامر الأئمة من بعده.

وينجلي لنا حرص آل البيت (علیهم السّلام) على بقاء عزّ الإسلام وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم، في موقف الإمام زين العابدين (علیه السّلام) من ملوك بني أُمية، وهو الموتور لهم، والمُنتهكة في عهدهم حرمتهم وحرمه، والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء، فإنّه مع كلّ ذلك كان يدعو في سرّه لجيوش المسلمين بالنصر وللإسلام بالعزّ وللمسلمين بالدعوة والسلامة، وقد تقدّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء، فعلّم شيعته كيف يدعون للجيوش الإسلامية والمسلمين، كدعائه المعروف ب-(دعاء أهل الثغور) الذي يقول فيه: «اللهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّد، وكثّر عددهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم، وواتر بين ميرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر» إلى أن يقول بعد أن يدعو على الكافرين: «اللهم وقوِّ بذلك محالّ أهل

ص: 148

الإسلام، وحصّن به ديارهم، وثمّر به أموالهم، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك، حتّى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تعفر لأحد منهم جبهة دونك»

وهكذا يمضي في دعائه البليغ -وهو من أطول أدعيته- في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الأخلاق وأخذ العدّة للأعداء، وهو يجمع إلى التعاليم الحربيّة للجهاد الإسلامي بيان الغاية منه وفائدته، كما يُنبّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم وما يجب أنْ يتّخذوه في معاملتهم ومكافحتهم، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله(عزّ و جلّ) والانتهاء عن محارمه، والإخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.

وكذلك باقي الأئمة (علیهم السّلام) في مواقفهم مع ملوك عصرهم، وإنْ لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكُلّ قساوةٍ وشدّةٍ، فإنّهم لمّا علموا أنّ دولة الحقّ لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم وتوجيه أتباعهم التوجيه الدينيّ العالي.

وكُلُّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويّين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم، بل كانت كُلُّها مُخالفةً صريحةً لأوامرهم وتشديداتهم، فإنّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الإسلامية من كُلِّ أحدٍ حتّى من خلفاء بني العباس أنفسهم.

وكفى أنْ نقرأ وصية الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) لشيعته: «لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإنْ كان عادلاً فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وأنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم»

وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعيّة على سلامة السلطان، أنْ يُحبّوا له ما يُحبّون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لها.

ص: 149

وبعد هذا، فما أعظم تجنّي بعض كتاب العصر إذ يصف الشيعة بأنّهم جمعية سريّة هدّامة، أو طائفة ثوروية ناقمة! صحيحٌ أنّ من خلق الرجل المسلم المُتّبع لتعاليم آل البيت (علیهم السّلام) بغض الظلم والظالمين والانكماش عن أهل الجور والفسوق، والنظرة إلى أعوانهم وأنصارهم نظرة الاشمئزاز والاستنكار، والاستيحاش والاستحقار، وما زال هذا الخلق مُتغلغلاً في نفوسهم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الإسلام، لا سرّاً ولا علناً، ولا يُبيحون لأنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلمٍ مهما كان مذهبه وطريقته، أخذاً بتعاليم أئمتهم (علیهم السّلام) بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال محقون الدم، مُحرّم العرض، «لا يحلّ مال امرئٍ مُسلمٍ إلّا بطيب نفسه»، بل المُسلم أخو المُسلم عليه من حقوق الأخوّة لأخيه ما يكشف عنه البحث الآتي». انتهى.

يتعرض الشيخ(رحمه الله)في هذه العقيدة إلى مفهوم الوحدة الإسلامية ويذكر عدة أمور فيه، وربما نلحظ من بعضها تسامحًا في التعبير، كذكره أنَّ أمير المؤمنين (علیه السّلام) لم يُبين رأيه في الغاصبين لحقِّه، ولعله كان يقصد بذلك(رحمه الله)عدم مطالبته بحقه في الأوقات الحرجة. وعلى كلِّ حالٍ فهنا عدة نقاط تنفع في المقام:

النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات.

يؤكد القرآن الكريم على الوحدة العامة للديانات السماوية؛ لاشتراكها في الأصول العامة، قال(عزّ و جلّ): ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾.(1)

ص: 150


1- سورة الشورى: آية 13.

فتشير الآية المباركة إلى أنَّ الدين الذي شُرع للمسلمين هو ما وصى الله(عزّ و جلّ) به نوحًا، ووصى به إبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السّلام)، أنْ أقيموا الدين، أي أنّ هناك أصولاً عامة تشترك بها الأديان السماوية.

النقطة الثانية: الاشتراك بين الأديان لا يعني عدم التمايز بينها.

إنّ اشتراك الأديان السماوية في الأصول العامة لا يعني عدم وجود تمايزٍ بينها، فالاختلاف والتمايز واقعٌ معاش لا ينكر. والمسائل الخلافية بين الأديان، بل بين مذاهب الدين الواحد أكثر من أنْ تُحصى في عجالة.

النقطة الثالثة: التمايز والاختلاف هو ما يحفظ كيان المذهب.

فإذا نظرنا إلى المذاهب الإسلامية مثلًا نجد أنّ بينها مشتركات، إذ إنّ كلَّ المسلمين يؤمنون بالله(عزّ و جلّ) وبنبوة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، وأنَّ القرآن هو معجزة النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، وكلهم يصلون إلى قبلة واحدة، وكلهم يدفنون موتاهم بكيفيةٍ واحدة، وغيرها من المشتركات.

بيد أنَّ هذه المشتركات لا تميز أو تشخص مذهبًا دون آخر، وإنّما الذي يميز متبعي أهل البيت (علیهم السّلام) مثلًا عن غيرهم هو المسائل المختلفة، سواء كانت عقدية أو فقهية، كالاعتقاد بعينية الصفات، وبعصمة النبي (صلّی الله علیه و آله) المطلقة، وبالعدل الإلهي، وأنَّ الإمامة بالنص، وأنَّ أصحاب الأعراف هم أهل البيت (علیهم السّلام)، وكمسح الرأس وظاهر القدمين لا غسلهما، وبطلان الصلاة بقول (آمين) عمدًا بعد قراءة سورة الفاتحة، والخمس، وغير ذلك من المسائل كثير.

فاختلاف الإمامية الاثني عشرية عمّا سواهم في هذه المسائل وغيرها هو الذي ميّز مذهبهم عن سائر المذاهب الأخرى، فالمذهب يحتفظ بوجوده بمميزاته عن غيره من المذاهب، والتمايز هو ما يحفظ كيان المذهب، ويترتب على هذا أنَّ على اتباع المذهب

ص: 151

أن يصبوا كل اهتمامهم على:

1/بيان مميزاتهم.

2/دفع الشبهات والإشكالات عن تلك المميزات.

3/بيان خطأ مميزات المذاهب الأخرى.

وذلك لأن طبيعة الإنسان أنه يدافع عن مميزاته، وهذا أمرٌ طبيعي، ولكنه لا يعني أنّ كلِّ المذاهب على حقٍ؛ فكما روي عن الإمام علي (علیه السّلام): «مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةً».(1)

النقطة الرابعة: ضرورة عدم التنازل عن الثوابت من أجل الوحدة الإسلامية.

على الرغم من أهمية الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، والسعي إلى تحقيقها، إلا أنَّه يلزم أن لا يصطدم بثوابت وضروريات المذهب، وإلا عُدّ تنازلًا عن كيان المذهب نفسه، وقد تقدم أن وجود ما يميز الإمامية عن سواهم هو الذي يحفظ كيان هذا المذهب، وعليه؛ فليس من الصحيح التنازل عن وجوب الخمس والقول ببطلانه، أو التنازل عن الاعتقاد بالرجعة والقول باستحالتها، أو التنازل عن صحة الزواج المنقطع والقول بنسخه، من أجل الوحدة الإسلامية؛ لأن الأمر حينذاك لم يعد وحدةً إسلاميةً، إنّما يصير تنازلًا عن ثوابت المذهب، وتمييعه وتذويبه في المذاهب الأخرى، فلا يبقى له الكيان الخاص به.

فالوحدة الإسلامية لا تعني التنازل عن ثوابت وضروريات المذهب.

النقطة الخامسة: رعاية الأولويات.

كما أنّ من أهم المباني الإسلامية هو مبنى تقديم المصلحة العامة على المصلحة

ص: 152


1- نهج البلاغة ج4 ص43 الحكمة رقم 183.

الشخصية، فإنَّ من أهم المباني الإسلامية أيضًا رعاية الأولويات في الأهمية، وهذا أمرٌ دعا إليه أهل البيت (علیهم السّلام)؛ ولذلك قام أهل البيت (علیهم السّلام) بأعمالٍ وافقت هذا المبدأ، مثل السكوت عن المطالبة بالحق في وقت ما، كما هو موقف أمير المؤمنين (علیه السّلام)، إذ قدّم المصلحة الأكثر أهميةً على ما تليها في الأهمية، فقدّم مسألة الحفاظ على الدين الإسلامي على مسألة خلافته الظاهرية، وقد تبعه في ذلك أهل البيت (علیهم السّلام)، فقد أجلوا وأخروا المطالبة بحقوقهم في أغلب المواقف إلى فرصٍ أخرى وما شابه.

إن علامات الاستفهام كثرت على موقف الإمام علي (علیه السّلام) -في عدم مطالبته بالخلافة الظاهرية- أكثر من غيره من الأئمة (علیهم السّلام)، إمّا استفهامًا، أو احتجاجًا به على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة وتأخره عنهم.

ومهما يكن الدافع وراء هذا السؤال، فيمكن الإجابة عنه بما يأتي:

بعد استشهاد رسول الله (صلّی الله علیه و آله) كانت هناك عدة أخطار تحيط بالدولة الإسلامية الفتية:

1. الخطر الخارجي المتمثل بالأكاسرة والقياصرة الذين كانوا قد أعدّوا العدة للهجوم على الإسلام.

2. اليهود الذين كانوا قريبين من الدولة الإسلامية.

3. عدم تعمق الإيمان في قلوب المسلمين، فالكثير منهم كان يتصور أن خلافة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) هي عبارةٌ عن ملكٍ، فمن يسبق إليه فهو الأحقُّ فيه، لذلك رُفِعت بعض الشعارات: «منكم أمير ومنا أمير»، و«إنّ ملك قريش لا يذهب لغيرهم».(1)

ص: 153


1- نقل الطبري في تاريخه ج2 ص457 ما نصه: قام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفى ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم أنتم أهل العز والثروة وأولوا العدد والمنعة والتجربة ذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم وينتقض عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط في هلكة... انتهى فلاحظ أن عمر بن الخطاب اعتبر ما عليه النبي (صلّی الله علیه و آله) سلطان لعشيرته وأتباعه، وهو امارة لا نبوة، ولله في خلقه شؤون.

وقد فرضت هذه الأخطار ظرفًا موضوعيًا استدعى من أهل البيت (علیهم السّلام) تأجيل الإجهار بالمطالبة بحقوقهم، ولكن في نفس الوقت هذا لا يعني أنّ أهل البيت (علیهم السّلام) تنازلوا عن حقهم أو أنّهم حوّلوا الإمامة إلى غيرهم كما يريد البعض أنْ يُصوّر هذه المسألة. وإنّما كانوا يُسايرون القوم من أجل الحفاظ على الكيان الإسلامي.

فهم من جانبٍ لم يتنازلوا عن مميزاتهم، ومن جانبٍ آخر عملوا قدر الإمكان من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلامية، وهذا ما صرّح به أهل البيت (علیهم السّلام) في كثيرٍ من المناسبات، نذكر منها التالي:

ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) من خطبة له (علیه السّلام) لما عزموا على بيعة عثمان:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَ الله لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه».(1)

ومن كتاب له (علیه السّلام) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله سُبْحَانَه بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّی الله علیه و آله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى (علیه السّلام) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه، فَوَالله مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، ولَا يَخْطُرُ بِبَالِي

ص: 154


1- نهج البلاغة ج1 ص124.

أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ، مِنْ بَعْدِه (صلّی الله علیه و آله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِه، ولَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوه عَنِّي مِنْ بَعْدِه، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَه، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (صلّی الله علیه و آله)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلَامَ وأَهْلَه أَنْ أَرَى فِيه ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِه عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَه».(1)

وبهذا المعنى يُبرَّر نصح أمير المؤمنين (علیه السّلام) عمر بن الخطاب بأنْ لا يخرج بنفسه إلى قتال الجيوش؛ لأنَّ أمير المسلمين أمام القياصرة هو عمر بن الخطاب، وإذا قُتِلَ فإنّ الأعداء سيتصورون أنّ الإسلام انتهى أمره وضعف لأن قائدهم قتل، لذا فإنّ نصيحة أمير المؤمنين (علیه السّلام) إيّاه إنّما كانت خوفًا منه على الإسلام لا على نفس عمر.

يشهد بذلك صريح عبارته (علیه السّلام) لمّا شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم، حيث قال له:

«وقَدْ تَوَكَّلَ الله لأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وسَتْرِ الْعَوْرَةِ، والَّذِي نَصَرَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ، ومَنَعَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ، لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ، لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْه، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً، واحْفِزْ مَعَه أَهْلَ الْبَلَاءِ والنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ الله فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ ومَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ».(2)

وكذلك ما ورد في سيرة الإمام الباقر (علیه السّلام) من أنَّ ملك الروم هدّد عبد الملك بن مروان أنْ يضرب الدولة الإسلامية بحصار اقتصادي، بعد أنْ طلب عبد الملك بن

ص: 155


1- نهج البلاغة ج3 ص118و119.
2- نهج البلاغة ج2 ص18.

مروان من الروم أن يغيروا شعار العملة -وكان آنذاك شعارًا مسيحيًا- فلم يقبل منه وهدده بقطع الدينار عن الدولة الإسلامية. فخاف عبد الملك واستشار حواشيه فأشار أحدهم بقوله: أنت تعلم أنّ الحل عند محمد بن علي الباقر (علیه السّلام)، فبعث إليه، فعلّمهم الإمام (علیه السّلام) كيفية سكِّ عملةٍ خاصةٍ بهم وطُبِعت شعارات إسلاميةٌ عليها، كما علمهم كيفية تمييز الدينار المغشوش من غيره، وبذا أنقذ الإمام الباقر (علیه السّلام) الدولة الإسلامية من الحصار الاقتصادي.(1)

ص: 156


1- انظر: حياة الحيوان لكمال الدين الدميري ج1 ص 95- 97. حيث قال الإمام الباقر (علیه السّلام) لعبد الملك: «لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله(عزّ و جلّ)، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، والأخرى وجود الحيلة فيه». قال: وما هي؟ قال: «تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير». وقد تقدمت هذه الرواية وترجيح أن هذه الواقعة حدثت مع الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في الجزء2 ص90، هامش رقم (1).

عقيدتنا في حقِّ المسلمِ على المسلم

قال الشيخ(رحمه الله):

«عقيدتنا في حقّ المسلم على المسلم:

إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. كما أنّ من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالأخذ بمُقتضيات هذه الإخوّة الإسلاميّة؛ لأنّ من أيسر مقتضياتها -كما سيجيئ في كلمة الإمام الصادق (علیه السّلام)- «أنْ يُحِبّ لأخيه المسلم ما يُحِبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه».

أنعم النظر وفكّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيت (علیهم السّلام) فستجد أنّها من أشقّ ما يُفرض طلبه من المسلمين اليوم، وهم على مثل هذه الأخلاق الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الإسلام، فكّر في هذه الخصلة لو قُدّر للمسلمين أنْ يُنصفوا أنفسهم ويعرفوا دينهم حقّاً ويأخذوا بها فقط -أنْ يُحِبّ أحدهم لأخيه ما يُحِبّ لنفسه- لما شاهدت من أحدٍ ظلماً ولا اعتداءً، ولا سرقةً ولا كذباً، ولا غيبةً ولا نميمةً، ولا تُهمةً بسوءٍ ولا قدحاً بباطلٍ، ولا إهانةً ولا تجبُراً.

بلى، إنّ المُسلمين لو وقفوا لإدراك أيسر خصالِ الإخوّة فيما بينهم وعملوا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض، ولرأيت البشر إخواناً على سُرُرٍ مُتقابلين قد كمُلَت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعيّة، ولتحقّق حُلُم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحُبّ والمودة إلى الحكومات والمحاكم، ولا إلى الشرطة

ص: 157

والسجون، ولا إلى قانونٍ للعقوبات وأحكامٍ للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمُستعمرٍ ولا خنعوا لجبّارٍ، ولا استبدّ بهم الطغاة، ولتبدّلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنّة النعيم ودار السعادة.

أزيدك، أنّ قانون المحبّة لو ساد بين البشر -كما يُريده الدين بتعاليم الإخوّة- لانمحت من قاموس لُغاتنا كلمة (العدل)، بمعنى أنّا لم نعُد نحتاجُ إلى العدل وقوانينه حتّى نحتاج إلى استعمال كلمته، بل كفانا قانون الحبّ لنشر الخير والسلام، والسعادة والهناء؛ لأنّ الإنسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلّا إذا فقد الحبّ فيمن يجب أنْ يعدل معه، أمّا فيمن يُبادله الحُبّ كالولد والأخ إنّما يُحسن إليه ويتنازل له عن جُملةٍ من رغباته فبدافعٍ من الحُبّ والرغبة عن طيب خاطر، لا بدافع العدل والمصلحة.

وسرّ ذلك أنّ الإنسان لا يُحِبّ إلّا نفسه وما يُلائم نفسه، ويستحيل أنْ يُحِبّ شيئاً أو شخصاً خارجاً عن ذاته إلّا إذا ارتبط به وانطبعت في نفسه منه صورةٌ ملائمةٌ مرغوبةٌ لديه. كما يستحيل أنْ يُضحّي بمحضِ اختياره له، في رغباته ومحبوباته لأجلِ شخصٍ آخر لا يًحِبّه ولا يرغب فيه، إلّا إذا تكوّنت عنده عقيدةٌ أقوى من رغباته مثل عقيدة حُسن العدل والإحسان، وحينئذٍ إذ يُضحّي بإحدى رغباته إنّما يضحّي لأجل رغبةٍ أخرى أقوى كعقيدته بالعدل إذا حصلت التي تكون جزءٌ من رغباته بل جزءٌ من نفسه.

وهذه العقيدة المثالية لأجل أنْ تتكون في نفس الإنسان تتطلّب منه أنْ يسمو بروحه على الاعتبارات الماديّة، ليُدرك المثال الأعلى في العدل والإحسان إلى الغير، وذلك بعد أنْ يعجز أنْ يتكون في نفسه شعور الإخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.

فأوّل درجات المسلم التي يجب أنْ يتّصف بها أنْ يحصل عنده الشعور بالإخوّة مع الآخرين فإذا عجز عنها -وهو عاجزٌ على الأكثر لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيّته- فعليه أنْ يكوِّن في نفسه عقيدةً في العدل والإحسان اتباعاً للإرشادات الإسلامية، فإذا عجز عن

ص: 158

ذلك فلا يستحقّ أنْ يكون مسلماً إلّا بالاسم وخرج عن ولاية الله ولم يكن لله فيه نصيبٌ على حدِّ التعبير الآتي للإمام. والإنسان على الأكثر تطغى عليه شهواته العارمة فيكون من أشقّ ما يُعانيه أنْ يهيأ نفسه لقبول عقيدة العدل، فضلاً عن أنْ يحصل عليها عقيدةً كاملةً تفوق بقوّتها على شهواته.

فذلك كان القيام بحقوق الإخوّة من أشقّ تعاليم الدين إذا لم يكن عند الإنسان ذلك الشعور الصادق بالإخوّة. ومن أجل هذا أشفق الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السّلام) أن يوضح لسائله وهو أحد أصحابه «المُعلّى بن خنيس» عن حقوق الإخوان أكثر مما ينبغي أن يوضح له خشية أنْ يتعلم ما لا يستطيع أنْ يعمل به. قال المعلى:

قلتُ له: ما حقّ المسلم على المسلم؟

قال أبو عبد الله: «له سبعة حقوق واجبات، ما منهن حقّ إلّا وهو عليه واجبٌ، إنْ ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».

قلتُ له: جُعِلتُ فداك! وما هي؟

قال: «يا مُعلّى، إنّي عليك شفيقٌ، أخاف أنْ تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل».

قلتُ: لا قوّة إلّا بالله.

وحينئذٍ ذكر الإمام الحقوق السبعة بعد أنْ قال عن الأوّل منها: «أيسر حقٍّ منها أنْ تُحِبَّ له ما تُحِبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك».

يا سبحان الله! هذا هو الحقّ اليسير! فكيف نجد -نحن المسلمين اليوم- يُسر هذا الحقّ علينا؟ شاهت وجوهٌ تدّعي الإسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق. والأعجب؟ أنْ يلصق بالإسلام هذا التأخر الذي أصاب المسلمين! وما الذنب إلّا ذنب من يُسمّون أنفسهم بالمسلمين، ولا يعلمون بأيسر ما يجب أنْ يعملوه من دينهم.

ص: 159

ولأجل التأريخ فقط، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الإمام (علیه السّلام).

1. أنْ تُحِبّ لأخيك المسلم ما تُحِبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

2. أنْ تجتنب سخطه، وتتبع مرضاته، وتُطيع أمره.

3. أنْ تُعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.

4. أنْ تكون عينه، ودليله، ومرآته.

5. أنْ لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

6. أنْ يكون لك خادمٌ وليس لأخيك خادم، فواجبٌ أنْ تبعث خادمك، فتغسل ثيابه، وتصنع طعامه، وتمهّد فراشه.

7. أنْ تبرّ قسمه، وتُجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته.

وإذا علمت له حاجةً تُبادره إلى قضائها، ولا تُلجئه إلى أن يسألكها، ولكن تُبادره مُبادرة».

ثم ختم كلامه (علیه السّلام) بقوله:

«فإذا فعلت ذلك وصلت ولا يتك بولايته وولايته بولايتك».

وبمضمون هذا الحديث رواياتٌ مُستفيضةٌ عن أئمتنا جمع قسماً كبيراً منها كتاب الوسائل في أبوابٍ مُتفرقة.

وقد يتوّهم المُتوهم أنّ المقصود بالإخوّة في أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصة»، ولكنّ الرجوع إلى رواياتهم كُلّها يطرد هذا الوهم، وإنْ كانوا من جهةٍ أخرى يُشدّدون النكير على من يُخالف طريقتهم ولا يأخذ بهُداهم ويكفي أنْ تقرأ حديث معاوية بن وهب قال:

ص: 160

قلت له -أي الصادق (علیه السّلام)-: كيف ينبغي لنا أنْ نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خُلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا، فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فو الله، إنّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويُقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم».

أمّا الإخوة التي يُريدها الأئمة (علیهم السّلام) من أتباعهم فهي أرفع من هذه الإخوّة الإسلامية، وقد سمعت بعض الأحاديث في فصل تعريف الشيعة. ويكفي أنْ تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادق (علیه السّلام) من حديث أبان نفسه. قال أبان: كنتُ أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجلٌ من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته، فأشار إليّ، فرآنا أبو عبد الله.

قال: «يا أبان إياك يريد هذا؟»

قلتُ: نعم

قال: «هو على مثل ما أنت عليه؟»

قلتُ: نعم.

قال: «فاذهب إليه واقطع الطواف».

قلتُ: وإنْ كان طواف الفريضة؟

قال: «نعم».

قال أبان: فذهبت، ثم دخلت عليه بعد، فسألته عن حقّ المؤمن

فقال: «دعه لا تردّه!»

فلم أزل أرد عليه حتّى قال: «يا أبان تُقاسمه شطر مالك، ثم نظر إليّ فرأى ما داخلني، فقال: يا أبان، أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟»

ص: 161

قلتُ: بلى

قال: «إذا أنت قاسمته فلم تؤثره، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر!»

أقول: إنّ واقعنا المُخجل لا يُطمعنا أنْ نسمّي أنفسنا بالمؤمنين حقّاً. فنحن بوادٍ وتعاليم أئمتنا (علیهم السّلام) في وادٍ آخر. وما داخل نفس أبان يُداخل نفس كُلِّ قارئٍ لهذا الحديث، فيصرف بوجهه مُتناسياً له كأنّ المُخاطب غيره، ولا يُحاسب نفسه حساب رجلٍ مسؤول». انتهى.

لكي يتبين المقصود من هذه العقيدة نذكر الخطوات التالية:

1. يمثل الدين منهاجًا متكاملًا لحياةٍ أفضل، فليس هو مجرد طقوسٍ تُتلى في بيوتِ العبادة، وإنّما بالإضافة إلى تلك الطقوس المقدسة هو منهجٌ عمليٌ يتدخل في جميع مفاصل الحياة.

2. إنّ العلاقات التي يعيشها الفرد متنوعةٌ، فهناك العلاقة العمودية المتمثلة بالعلاقة بالله(عزّ و جلّ) وما يترتب عليها من الاعتقاد بالرسول (صلّی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السّلام) وبالكتاب وبالإسلام عمومًا، وهناك علاقةٌ أفقيةٌ هي علاقة الإنسان بالطبيعة عمومًا وبأخيه الإنسان خصوصًا، كعلاقتك برحمك وزميلك بالعمل وجارك وهكذا.

3. جاء الدين لينظم جميع هذه العلاقات عبر الشريعة المقدسة، فهناك أصول الدين التي تنظم العلاقة مع الخالق، وهناك فروع الدين التي تنظم طريقة التقرب إلى الخالق وطريقة إرضائه، وكذلك هناك آداب التعامل وآداب العشرة التي تُعنى بتنظيم العلاقات الأفقية.

إذن فالدين ينظم كلَّ العلاقات الأفقية والعمودية من خلال الشريعة.

4. هناك أحكامٌ شرعية عالجت آداب العشرة، مثل آداب النفقة على الزوجة وعلى

ص: 162

الأبوين وعلى الأبناء بشروطٍ ذُكِرت في كتب الفقه في كتاب النكاح وباب النفقات على الزوجة والأولاد، وكعلاقة الرحم، وآداب السفر والزيارة وغيرها.

وقد أضفت الشريعة المقدسة على بعض تلك الأحكام صفة الإلزام الشرعي، حيث يؤثم المكلف عند مخالفتها، كالنفقة على الزوجة، فهي واجبةٌ حتى وإنْ كان الزوج فقيرًا وكانت الزوجة غنية، فعلى الزوج أنْ ينفق على زوجته مطلقًا، وأما الأبوان والأبناء فيجب على المؤمن الإنفاق عليهم فيما إذا كانوا فقراء وكان هو غنياً.

وإلى جانب الأحكام الإلزامية فقد جاءت الشريعة المقدسة بأحكام شرعية أخرى إلا أنّها مستحبة مؤكدًا، يترتب على فعلها ثواب عظيم.

5. تلك الآداب المستحبة وإنْ كانت غير إلزامية لكنَّ الأدبيات الروائية أطلقت عليها عنوان: الحق، وإنْ كانت ليست حقًا في واقعها، مثل إعارة الشيء، فهو ليس بحق، ويفتقر إلى سمة الإلزام، لكن الروايات أطلقت عليه كلمة (حق)؛ لأنّ الدين يعد العلاقة العقائدية من أقوى العلاقات التي تربط بين أفراد المجتمع، تلك العلاقة التي لا تبتني على مصلحةٍ أو أمرٍ دنيوي، إنّما تكون لوجه الله(عزّ و جلّ)، والدين يعدها من أقوى العلاقات؛ لذلك فابن النبي نوح (علیه السّلام) وإنْ كان ابنه نسبًا، غير أنَّ القرآن الكريم لم يعتبره كذلك، قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، فقطع العلاقة بينهما؛ لاختلافهما في العقيدة. على حين «سلمان منا أهل البيت»، إذ روي أنه احتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا. فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «سلمان منا أهل البيت».(1)

فالارتباط العقائدي يجعل هذه العلاقات حقًا لازماً على الآخر، وقد تنوعت تلك الحقوق إلى مفرداتٍ عديدة ذكرها الشيخ(رحمه الله)من خلال عدة روايات، نكتفي هنا بذكر

ص: 163


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج21 ص 408.

واحدة مهمة منها:

عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؟

قَالَ (علیه السّلام): «لَه سَبْعُ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، مَا مِنْهُنَّ حَقٌّ إِلَّا وهُوَ عَلَيْه وَاجِبٌ، إِنْ ضَيَّعَ مِنْهَا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ وِلَايَةِ الله وطَاعَتِه ولَمْ يَكُنْ لله فِيه مِنْ نَصِيبٍ».

قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ومَا هِيَ؟

قَالَ (علیه السّلام): «يَا مُعَلَّى، إِنِّي عَلَيْكَ شَفِيقٌ، أَخَافُ أَنْ تُضَيِّعَ ولَا تَحْفَظَ، وتَعْلَمَ ولَا تَعْمَلَ».

قَالَ: قُلْتُ لَه: لَا قُوَّةَ إِلَّا بالله.

قَالَ (علیه السّلام): «أَيْسَرُ حَقٍّ مِنْهَا أَنْ تُحِبَّ لَه مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وتَكْرَه لَه مَا تَكْرَه لِنَفْسِكَ.

والْحَقُّ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَنِبَ سَخَطَه وتَتَّبِعَ مَرْضَاتَه وتُطِيعَ أَمْرَه.

والْحَقُّ الثَّالِثُ: أَنْ تُعِينَه بِنَفْسِكَ ومَالِكَ ولِسَانِكَ ويَدِكَ ورِجْلِكَ.

والْحَقُّ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنَه ودَلِيلَه ومِرْآتَه.

والْحَقُّ الْخَامِسُ: أَنْ لَا تَشْبَعَ ويَجُوع، ولَا تَرْوَى ويَظْمَأ، ولَا تَلْبَسَ ويَعْرَى.

والْحَقُّ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ لَكَ خَادِمٌ ولَيْسَ لأَخِيكَ خَادِمٌ، فَوَاجِبٌ أَنْ تَبْعَثَ خَادِمَكَ فَيَغْسِلَ ثِيَابَه ويَصْنَعَ طَعَامَه ويُمَهِّدَ فِرَاشَه.

والْحَقُّ السَّابِعُ: أَنْ تُبِرَّ قَسَمَه(1)، وتُجِيبَ دَعْوَتَه، وتَعُودَ مَرِيضَه، وتَشْهَدَ جَنَازَتَه، وإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ لَه حَاجَةً تُبَادِرُه إِلَى قَضَائِهَا، ولَا تُلْجِئُه أَنْ يَسْأَلَكَهَا، ولَكِنْ تُبَادِرُه مُبَادَرَةً.

فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ وَصَلْتَ وَلَايَتَكَ بِوَلَايَتِه ووَلَايَتَه بِوَلَايَتِكَ».(2)

ص: 164


1- الظاهر أن قسمه بفتحتين وهو اسم من الأقسام وأن المراد ببر قسمه قبوله: واصل البر الاحسان ثم استعمل في القبول، يقال بر الله عمله إذا قبله كأنه أحسن إلى عمله بان قبله ولم يرده كذا في الفائق وقبول قسمه وإن لم يكن واجبا شرعا لكنه مؤكد لئلا يكسر قلبه ولا يضيع حقه. [هامش المصدر].
2- الكافي للكليني ج2 ص 169 بَابُ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيه وأَدَاءِ حَقِّه ح2.

الفصل الخامس عقيدتنا في البعث والمعاد

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح).

المدرسة الأولى: المدرسة المادية:

قال الشيخ (رحمه الله):

«عقيدتنا في البعث والمعاد:

نعتقدُ أنّ الله(عزّ و جلّ) يبعثُ الناس بعد الموت في خلقٍ جديدٍ في اليوم الموعود به عباده، فيُثيب المُطيعين ويُعذِّب العاصين، وهذا أمرٌ على جُملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتفقت عليه الشرائعُ السماويةُ والفلاسفةُ، ولا محيص للمُسلم من الاعتراف به عقيدةً قرآنيةً جاء بها نبينا الأكرم (صلّی الله علیه و آله)، فإنَّ من يعتقدُ بالله اعتقادًا قاطعًا ويعتقد كذلك بمُحمّدٍ رسولًا منه أرسله بالهُدى ودين الحق لا بُدّ أنْ يؤمنَ بما أخبرَ به القرآن الكريم من البعثِ والثواب والعقاب والجنة والنعيم والنار والجحيم، وقد صرَّحَ القرآن بذلك ولمحَ إليه بما يقربُ من ألفِ آيةٍ كريمة.

وإذا تطرّقَ الشكُّ في ذلك إلى شخصٍ فليسَ إلا لشكٍ يُخالجه في صاحبِ الرسالة أو وجود خالق الكائنات أو قدرته، بل ليس إلا لشكٍ يعتريه في أصلِ الأديان كُلِّها وفي صحةِ الشرائعِ جميعها». انتهى.

يتناول الشيخ(رحمه الله)في هذه العقيدة الأصل الأخير من الأصول الخمسة للمذهب والدين، وهو أصل المعاد، ويبتدئ الفصل بهذا العنوان (عقيدتنا في البعث والمعاد)، ولكي تتضح هذه العقيدة بصورةٍ جلية لابُدّ من التطرق إلى مطالبَ عدة نتناولها تباعًا ولكن بعد أن نتعرض إلى معنى المعاد:

ص: 165

المعاد: في اللغة: هو الرجوع والعودة.

في الاصطلاح: هو إعادة الروح إلى البدن في يوم القيامة، أو عودة الروح بعد الموت إلى البدن للحساب وللخلود.

وهنا عدة مطالب:

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح).

تقدّم أنَّ المعاد هو إعادة الروح إلى البدن، ومعنى البدن واضحٌ جدًا. فهو موجودٌ مادي، يتسم بجميع ما يميز هذا الوجود من مميزات، وهي:

1. الجسمية، يعني له طول وعرض وعمق أو ارتفاع.

2. الكون في جهةٍ من الجهات، بحيث تمكن الإشارة المادية إليه في جهةٍ دون جهة.

3. لا يشغل مكانين في آنٍ واحد، فالموجود المادي إذا كان موجودًا في جهةٍ فهو حتمًا ليس بموجودٍ في جهةٍ أخرى.

4. إنَّ له زمنًا، يعني له بداية من حيث الزمن وله نهاية، فهو ليس أزلياً ولا أبدياً، أي ليس قديمًا ولا خالدًا.

5. إمكانْ إدراكه بالحواس الظاهرة، بحيث تمكن رؤيته بالعين، وسماعه بالأذن وهكذا. نعم، قد يكون بعيدًا جدًا فنحتاج إلى تلسكوب كما في الأنجم البعيدة في أغوار السماء، وقد يكون صغيرًا جدًا فنحتاج إلى مجهر.

6. موجودٌ مركب، أي إنّه مكوّنٌ من أجزاءٍ مجتمعة، كما يمكن تقسيمه إلى تلك الأجزاء.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يقتصر الوجود على الموجود المادي فقط؟ وإنْ لم يكن الأمر كذلك، وكان هناك موجود مجرد، وهي الروح في محل كلامنا، فلِمَ لا

ص: 166

يُمكننا إدراكها؟ بل ما هو معناها؟

فهل هي موجودة؟ ما الدليل على ذلك؟

هناك مدرستان لكلٍّ منهما جوابٌ مختلفٌ عن الآخر. وهما:

المدرسة الأولى: المدرسة المادية:

وهي التي تفترض أنّ كلَّ ما في الوجود موجودٌ ماديٌ، وأيُّ شيءٍ لا يُدرَك بالحواس فهو غير موجود.

وقد وجدت هذه النظرية حتى في بعض المدارس الإسلامية، كما في مدرسة الأشاعرة، إذ لم يرتضوا (عدم إمكان رؤية الله(عزّ و جلّ) بالعين الباصرة)، وهو أمر يستلزم كونه مادياً –وحاشاه-، ومن المضحك المبكي ما يُنقل من أنَّ أستاذ أحد المدارس الوهابية سأل طلابه: كيف تعرفون الله(عزّ و جلّ) يوم القيامة؟ فأجابه أحدهم: ذكر الله(عزّ و جلّ) في القرآن الكريم: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾! وهناك رواية –عندهم- تقول: إنّ الله(عزّ و جلّ) يسأل النار يوم القيامة: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد على الرغم من كثرة الناس والحجارة فيها، وهناك روايةٌ أخرى تقول: إنه تعالى يضع رجله فيها، فتقول له: قط قط قط(1)... شبعت. فقال: عندما يكشف عن رجله نرى أنّ ساقه محروقةٌ فنعرف حينئذٍ أنّه هو الله(عزّ و جلّ) وليس جبرائيل!

ولا غرو فيما فهموه من الكتاب العزيز، إذ إنَّ هذا ما يتوصل اليه التفكير المادي،

ص: 167


1- في مسند أحمد ج2 ص276: عن أبي هريرة ان النبي (صلّی الله علیه و آله) قال: «احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب مالي لا يدخلني إلا فقراء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني الا الجبارون والمتكبرون. فقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء. وقال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله يشئ لها ما يشاء، وأما النار فيلقون فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط».

وما الروايات التي استدل بها هذا الطالب الوهابي إلا روايات ساذجة بل وباطلة؛ لتعارضها الصريح مع المحكم من آيات التنزيل الحكيم.

بل إنّ التفكير المادي يلغي كلَّ ما هو بديهي من التصورات وما نراه من أمورٍ خارجية وصورٍ تُطبع في الذهن، فهم يقولون: ليس لدينا في الخارج سوى الوجود المادي وليس هناك وجود للجزء المجرد، فالإنسان وكلّ ما في الوجود هو فقط مادة. ومن يعتقد بهذا أنّى له أنْ يعتقد بعودة الروح إلى البدن؟! إذن فهو لا يعتقد بهذا المعاد.

المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية:

الأول: الموجود المادي

تفترض هذه المدرسة أنَّ هناك ثلاثة أنواع من الموجودات:

الأول: الموجود المادي

وقد تقدّم بيانه مع بيان موجز لخصائصه.

الثاني: الموجود المثالي

ويشتمل هذا الموجود على طولٍ وعرضٍ وارتفاعٍ، إلا أنَّه مُفرغٌ من المادة، أي إنَّ نفس المادة غير موجودةٍ فيه. ومثاله الصورة في المرآة، فإنها تشتمل على الطول والعرض والارتفاع للشخص المرئي، ولكنها لا تحوي على مادة ذلك الشخص، والبعض أضاف لها الصورة الذهنية للشيء الذي نتصوره من الخارج،، فعند تصوّر صورة زيدٍ في الذهن مثلًا، حيثُ طوله (170سم)، وعرضه (50سم)، وعمقه (30سم)، فهذه الأبعاد وإنْ كانت موجودةً في الذهن، لكن المادة نفسها لم تنتقل إلى الذهن قطعًا. وكذا بالنسبة إلى تصور صورة أي موجودٍ مادي في الذهن مهما صغر حجمه أو كبر، كالفيل، الجبل، الحجر.

وعليه فالموجود المثالي وإنْ كان يتسم ببعض سمات الموجود المادي كالطول والعرض والارتفاع في الذهن، إلا أنّه ليس بمادي لافتقاده إلى المادة ذاتها.

ص: 168

الثالث: الموجود المجرد:
الدليل الأول: الأنا.

وهذا ما لا مادة في وجوده ولا حتى بعض سمات الموجود المادي، وينقسم إلى قسمين:

1/واجب الوجود:

وهو منحصرٌ بالله(عزّ و جلّ) بالوحدة الحقيقية، فلا يُتصور له فردٌ ثانٍ، قال(سبحانه و تعالی): ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(1)

وقد تقدم الحديث عنه في مباحث التوحيد.

2/ممكن الوجود:

كما في الملائكة والروح، وهي ممكنةٌ لسبقها بالعدم، ولافتقارها في وجودها وبقائها إلى واجب الوجود.

إذا تبين هذا يُسأل: ما الدليل على الوجود المجرد (الروح)؟

الجواب: توجد عدة أدلة على ذلك، أهمها:

الدليل الأول: الأنا.

أثبت العلم الحديث أنَّ ذرات وخلايا هذا الجسم المادي من الإنسان تتعرض لعملية الهدم والبناء، فتموت خلايا وتولد بدلها خلايا أخرى جديدة وهكذا، بحيث إنّ جميعها تتغير في كلِّ ثمانِ سنواتٍ. أي إنَّ الجزء المادي من يد أي إنسانٍ لم يكن موجودًا نفسه قبل ثمان سنوات.

وأما خلايا المخ فقد ذهب البعض إلى أنّها لا تتحول ولا تتغير، بيدَ أنَّ تطور العلوم أثبت أنّ التغير يطال حتى خلايا المخ، لكن بفترةٍ أطول من الفترة التي تستغرقها عملية

ص: 169


1- الأنبياء 22.

تغيير سائر خلايا الجسم الأخرى.

إذن ننتهي الى أنَّ العلم أثبت أنّ جميع خلايا الجسم تتغير، وعليه فإنَّ جسم الإنسان بعد خمسين سنة مثلاً يكون قد تبدّل وتغير ماديًا بالكامل على أقل تقدير خمس مرات. فيمكن القول -بحسب العلم-: إنَّ يد الإنسان اليوم هي ليست نفس اليد قبل خمسين سنة، ولكن رغم هذا التغيّر يشعر الإنسان أنَّ هناك جزءًا في شخصيته لم يتبدل ولم يتغير رغم تغيّر جسمه باستمرار، فما هو هذا الجزء؟

حسب العلم الحديث، قال العلماء إنَّ عملية التجديد تطال جميع خلايا البدن، فإذن هناك شيءٌ آخر لا يتغير، وذلك الجزء هو الذي ما يسميه الإنسان بقوله (أنا)، فمنذُ أنْ كنتُ في الثالثة من عمري مثلًا، وحتى الآن في السابعة والثلاثين سنة يوجد هناك جزءٌ

ثابت أطلق عليه كلمة (أنا) رغم تغيّر جسمي وتبدله. فهذا الجزء الثابت الذي أعبر عنه ب-(الأنا) هو ليس جزءًا ماديًا؛ إذ لو كان ماديًا لتغير.

إذن هناك جزءٌ آخر في جسم الإنسان غير الجزء المادي وهو الجزء المجرد (الروح) الذي إلى الآن لم تُكتشف حقيقتها، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1)

الدليل الثاني: التقاط الصور:

إننا ومن خلال العين نلتقط صورًا عن الموجودات المادية الخارجية، ومن خلال هذه الصور نتعامل مع الخارج، فعندما تتعامل مع صديقك مثلًا، فإنَّ عينك تنظر إليه وتلتقط صورة له، فتنتقل هذه الصورة من الوجود الخارجي إلى عينك، ومن ثم إلى ذهنك، ومن خلال هذه الصورة تتعامل معه، فعندما تراه مرةً ثانيةً فإنّك تتعرف إليه من

ص: 170


1- الإسراء 85.

خلال مراجعة صورته الموجودة في ذهنك، فتُجري عملية مطابقة بين الصورة الخارجية والصورة المخزونة في ذهنك فتحكم حينئذٍ بأنَّه فلان، وهكذا في كلِّ الأشياء الأخرى.

وحديثنا هنا حول هذه الصورة الذهنية تحديدًا، والتي عندما تغمض عينك تراها موجودةً، وترى صاحبها من خلالها، رغم أنّك لا تراه حقيقةً، بل ربما كان مسافرًا أو ميتًا حتى.

هذه الصورة هل هي مادية أو لا؟

بمعنى: هل لهذه الصورة طولٌ وعرضٌ وعمقٌ وثقلٌ أو لا؟

لو كانت الصورة ماديةً فهذا يعني أنّ لها ثقلًا وجرمًا ومكانًا، ويُشار إليها بالإصبع، وتُرى بالعين المجردة. أيّ إنَّ هناك شيئاً مادياً انتقل من الخارج وصار في الذهن، ويتناسب مع الذي رأيته في الخارج من حيث سماته المادية، فإذا نظرت إلى نملة يأتي إلى ذهنك شيءٌ له ثقلٌ وأبعاد وشكل النملة، وكذا إذا نظرت إلى دبابة، فيأتي إلى ذهنك ثقلٌ وزنها مثلًا 30 طنًا، وكذا إذا نظرت إلى جبلٍ يأتي إلى ذهنك شيءٌ ثقله مئات وآلاف الأطنان وهكذا.

وهذا من الواضح جدًا أنه غير معقول وغير متحقق في الواقع؛ إذ لا قابلية للذهن على استيعاب كل ما يراه بحجمه وثقله الحقيقيين، والحال أنَّ «كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيه - إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّه يَتَّسِعُ بِه»(1) كما يقول امير المؤمنين (علیه السّلام).

وعليه، فإنَّ كلَّ تلك الصور الموجودة في الذهن هي ليست من الوجود المادي، وإنّما هي موجودٌ غير مادي، وهو المجرد، وهو المطلوب.

وبذا ثبت أيضًا بطلان ما ذهبت إليه المدرسة المادية من أنَّ جميع ما في الوجود من

ص: 171


1- نهج البلاغة ج4 ص47 الحكمة رقم 205.

موجوداتٍ هي مادية فقط.

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور:

إنَّ لدى الإنسان قدرةً على تذكر صورٍ كثيرةٍ لأشياء مادية كان قد رآها فيما مضى، فلو رأيت مثلًا حديقة غناء قبل عدة سنوات والآن تريد أنْ تحكي عنها فتقول: دخلتُ الحديقة وكان فيها أنواعٌ من الورود وتنظيمها كذا.. في حين أنّك الآن لستَ في تلك الحديقة، لكنك تتكلم عن صورة الحديقة الموجودة في ذهنك.

وكذلك بالنسبة إلى تخيّل الصور، فبمقدورك تخيل ما تشاء منها وإنْ كان غير موجودٍ في الخارج مطلقًا، كما لو كنت تتخيل طائرًا برأسين، أو تتخيل أنّك تطير على بساطٍ سحري.

وهذه القدرة على تذكر الصور وعلى تخيلها موجودةٌ عند الإنسان، ومن الواضح جدًا أنَّ كلًا من تلك الصور التي تتذكرها أو تتخيلها إنما هي صورٌ مجردة عن المادة، فهي وجودٌ إما مثالي أو مجرد، وبالنتيجة فإنّ وجودها وجودٌ غير مادي. والروح هي من الموجود غير المادي.

سؤال: تقدّم أنَّ الوسائل والأدوات التي يُستفاد منها في معرفة الموجودات المادية هي الحواس، فهل يمكن الاستفادة من نفس تلك الوسائل (الحواس) في معرفة الموجود المجرد؟

والجواب: إنَّ الموجود المجرد لا يمكن التعرف عليه من خلال الحواس؛ إذ لا مجال للحواس في ساحة المجردات. والوسيلة الوحيدة لمعرفته هو العقل.

فإذا ثبت هذا نقول:

هل من المنطقي أنْ يطالبنا أحدٌ بإثبات الوجود المجرد بالوسائل المادية؟

ص: 172

إنَّ هذا السؤال غير صحيح؛ لأنَّ الوسائل المادية كالعين مثلًا ليست وسيلةً لأدراك المجرد، فهي وسيلةٌ ماديةٌ لا يدرك بها إلا ما كان ماديًا مثلها، فالسؤال المتقدم غير منطقي، وهذا ما بيّنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟ فقال (علیه السّلام): «أفأعبد ما لا أرىٰ؟»، فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تُدركه القلوب بحقائق الإيمان...»(1).

المطلب الثاني: إمكان المعاد في حد نفسه.

الأول: سبْقُ عالمنا بالعدم.

أي هل إنَّ رجوع الروح للبدن ووجود يوم القيامة هو أمر بالإمكان وقوعه، أو أنَّه ممتنعٌ كاجتماع النقيضين؟

الدليل قائم على الإمكان، وبيانه بالتالي:

تقدّم في الأبحاث السابقة أننا لا نحكم على عقيدةٍ ما بالبطلان وبعدم الصدق إلا إذا استلزمت أحد أمرين:

1/أنْ تخالف حكمًا عقليًا ثابتًا كاجتماع النقيضين.

2/إذا كانت مخالفةً لضرورةٍ من ضروريات الدين.

وليس في المعاد (رجوع الروح للبدن) أي تناقض عقلي، بمعنى أنّه أمرٌ ممكن، فقد يقع أو لا يقع؛ لأنّه لا يخالف حكمًا عقليًا. ومما يشير الى إمكانه عدة أمور:

الأول: سبْقُ عالمنا بالعدم.

فهذا العالم الذي نعيش فيه هو عالمٌ مسبوقٌ بالعدم، إذ لم يكن موجودًا سابقًا، كما تقدم الكلام في هذا سابقًا. وعليه، فإذا أمكن أنْ يقع عالَمٌ لم يكن موجودًا من قبلُ ثم وجد، فإنَّ وجود عالمٍ آخر ليس من العدم، وإنّما هو موجودٌ (فالروحُ موجودةٌ والبدنُ

ص: 173


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 99).

كذلك وإنْ تحلّل إلى ذراتٍ في التراب) ممكنٌ أيضًا، بل هو أسهل؛ لأنَّ إيجاد شيءٍ من العدم حتمًا أصعب من إيجاد شيءٍ مما هو موجودٌ فعلًا.

وكمثال على ذلك –مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المثال يقرب من جهة ويبعد من جهات-، لو أنَّ هناك شخصًا لا يملك نقودًا وأراد أنْ يشتري بيتًا، فإنَّ حاله بالتأكيد أصعب ممن يمتلك نقودًا ولكنه يحتاج إلى تجميعها من هنا وهناك. وكذلك فإنَّ إعادة عالمٍ موجودٍ أسهل بكثير من إحداث عالمٍ من العدم.

وإذا أمكن الأصعب -وهو إيجاد عالم من العدم- أمكن الأسهل -وهو إعادة المخلوق بدنًا بعد أنْ تتفرق أجزاؤه المادية في التراب وإعادة الروح الموجودة إلى ذلك البدن-.

وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ﴾.(1)

لذلك فمن العجيب أنْ يؤمن المرء بأنَّ الله(عزّ و جلّ) أحدثنا أي أوجدنا من العدم ثم ينكر المعاد، وهذا ما يعبر عنه ما روي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) يَقُولُ: «عَجَبٌ كُلُّ الْعَجَبِ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمَوْتَ وهُوَ يَرَى مَنْ يَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، والْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِمَنْ أَنْكَرَ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الأُولَى».(2)

الثاني: قاعدة (إن أدل دليل على الإمكان هو الوقوع)

لو أردنا أنْ نعرف شيئًا ما هل هو ممكنٌ أو ممتنعٌ، وصرنا نبحث عن أدلةٍ لنثبت القضية، وأثناء البحث وقع وحدَثَ أمامنا فعلًا، فحينئذٍ لا حاجة بعد ذلك إلى البحث عن دليل للإمكان، لأن الشي إذا وقع فمعناه أنه ممكن، وإلا فلو كان ممتنع الوجود لما وقع، كما لوكنا نبحث عن أدلةٍ عن إمكان ولادة توأمين بنفس الصفات من كلِّ الجهات،

ص: 174


1- الأعراف 29.
2- الكافي للكليني ج3 ص 258 باب النوادر ح 28.

وأثناء البحث العلمي والتحليل ولد توأمان متماثلان بجميع الصفات. فعندئذٍ ليس هناك من داعٍ إلى إكمال البحث؛ لأن وقوع ما كنا نبحث عن أدلةٍ لإثبات إمكان وقوعه أدلُّ دليلٍ على إمكان وقوعه.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعاد الذي هو عبارة عن (رجوع الروح إلى البدن) فإنْ وقع هذا الأمر، فهو أمرٌ ممكن بالتأكيد وإلا فكيف وقع؟!

والمُدعى هو أنَّ عودة الروح إلى البدن -وهو عبارةٍ أخرى عن (إحياء الموتى)- قد وقع في الدنيا فعلًا، فهو أمر ممكن إذن، ونذكر لذلك أمثلة:

1/من الطبيعة، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.(1)

الآيةُ واضحةٌ أنَّ الله (سبحانه و تعالی)الذي بإمكانه أنْ يُحيي الأرض الميتة فإنَّ بإمكانه أنْ يُحيي الميت الإنساني أيضًا.

2/ما حكاه القرآن الكريم من طلب النبي إبراهيم (علیه السّلام): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(2)

واضحٌ من الآية أنَّ النبي إبراهيم (علیه السّلام) أخذ أربعةً من الطير وقطّعهن، فماتت وخلط لحمها ووزعها على قمم عشرة جبالٍ، ثم بعد أنْ دعاهن رجعن إليه كحالتهن الأولى، فالقرآن الكريم يذكر أنَّ إعادة أبدان تلك الطيور ورجوع أرواحها إليها قد وقعت في الحياة الدنيا، فإذن المعاد ممكن.

ص: 175


1- الروم 50.
2- البقرة 260.

3/إحياء النبي عيسى (علیه السّلام) الموتى، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(1) الآيةُ واضحةٌ جدًا بأنَّ إحياء الموتى ليس فقط ممكن، وإنّما وقع في الدنيا أيضًا.

المطلب الثالث: هل إنَّ المعاد ضروريٌ؟

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من خلق الإنسان، وإلا كان عبثًا.

بعد أنْ ثبت أنَّ المعاد أمرٌ ممكن وليس بمستحيل، قد يتبادر إلى الذهن سؤال: إمكان وقوع الشيء لا يلازم كونه ضروريًا، فهل المعاد كذلك، أي أنّه ممكن ولكن قد يبقى في حيز الإمكان وليس هناك ضرورة لوقوعه، أم أنَّه ضروريٌ؟

الجواب: من المعلوم أنَّ هناك وعداً ووعيداً، والأول ما يترتب عليه جزاء الأفراد أو الأمم بالخير والأجر والثواب، وأما الثاني فهو ما يترتب عليه جزاء الأفراد والأمم بالعذاب. وقد فرّقت الشريعة المقدسة بينهما من حيث لزوم الوقوع، فالأول واقعٌ لا محالة؛

لأنَّ الله (سبحانه و تعالی)لا يخلف الوعد؛ لأنّ ذلك خلف الكمال، والله(عزّ و جلّ) كله كمالٌ مطلق. وأما الثاني فأمرُ وقوعه بيده (سبحانه و تعالی)قد يأمر بوقوعه، وقد لا؛ وذلك حسبما تقتضيه حكمته ورحمته، وهو لا يخالف الكمال.

وكمثالٍ على ذلك، فقد ذكرت الروايات أنَّ ظهور الإمام المهدي (علیه السّلام) من الوعد، أي إنه واقعٌ بلا أدنى شك، وأما السفياني فإنه وإنْ كان من العلامات الحتمية، إلا أنّه ليس وعدًا من الله(عزّ و جلّ)، فهو أقصى ما يكون كالوعيد منه(سبحانه و تعالی)، والوعيد يمكن مخالفته؛ لأنَّ في ذلك لطفًا إلهيًا.

ص: 176


1- آل عمران 49.

فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا3، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1).

وعليه، فإنَّ وقوع المعاد أمرٌ ضروري، ومما يشير إلى ضرورته: العدل الإلهي أو الحكمة الإلهية، ويمكن توضيح ذلك بالنقاط الآتية:

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من خلق الإنسان، وإلا كان عبثًا.

أو عدم عبثية خلق الله(عزّ و جلّ) للإنسان.

ففي مباحث التوحيد ثبت أنَّ الله(عزّ و جلّ) لا يمكن أنْ يصدر منه فعلٌ من دون حكمة، فكلُّ أفعاله حكيمةٌ معللةٌ بالغايات، ولا تصدر عبثاً، وخلقُ الإنسان فعلُ الله(عزّ و جلّ)، وخلقه بالتأكيد لحكمةٍ وهدفٍ، والحكمةُ في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(2)

فالهدف من وجود الإنسان هو محاولة الوصول به إلى أعلى درجات الكمال الممكنة له؛ وذلك لأنَّ الإنسان له القدرة لأن يكون مخدومًا من قبل الملائكة، فيصل إلى قاب قوسين أو أدنى، وبالمقابل له إمكانية أنْ ينزل إلى أسفل سافلين.

إنَّ الهدف النهائي للإنسان هو العبادة، كما في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(3)،

وإذا نظرنا إلى حياة الإنسان هل نجد أنَّ الدنيا هي المكان المناسب للحصول على الهدف النهائي لوجود الإنسان ليصل إلى كمالاته الممكنة؟!

كثيرٌ من المؤمنين من يموت وهو شاب أو لم يصل إلى كماله الذي كان يهدف له،

ص: 177


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).
2- الحجر 99.
3- الذاريات: 56.

وحيث إنَّ الحكمة من وجود الإنسان هو بلوغ الكمال المطلق، فإذا لم يكن هناك عالمٌ آخر يمكن أن يصل فيه المؤمن إلى كماله الممكن، فحينها يكون خلق الإنسان في هذه الدنيا عبثًا؛ لأنّه خُلِق لهدفٍ لم يصل إليه، وهذا يعني أنَّ الحكمة الإلهية تقتضي وجود عالمٍ آخر تتجلى فيه الحكمة الإلهية لإيصال هذا الإنسان إلى كماله الممكن.

الثانية: ضرورة إثابة المطيعين وتعذيب العاصين.

إنَّ المؤمن يُتعِبُ نفسه كثيرًا بالالتزام بالتكاليف الشرعية، وفي عبادة الله(عزّ و جلّ)، فهو ربما لا ينام إلا قليلًا، من دون أنْ يحصل على أجر أعماله في الدنيا. وبالمقابل نجد الظلمة يعبثون في الحياة الدنيا ويعيثون في الأرض فسادًا، دون أنْ يحاسبهم أحدٌ على ظلمهم، فلو لم ينل الأول ثواب عبادته، ولم ينل الثاني عقاب جرمه وفساده، فهذا خلاف الحكمة والعدل.

مما يعني أنَّ عالمنا الذي نعيشه الآن ليس الخطوة الأخيرة في حياة البشرية، وإنَّما هناك خطواتٌ أخرى، يُجزى فيها كلُّ امرئٍ بما يستحق من الجزاء، فيُثاب المطيعون، ويُعذَّب العاصون. وهذا ما يُشير إليه القرآن الكريم في بعض آياته: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لله كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(1)فمن

الحكمة والعدل والرحمة الإلهية أنْ يكون هنالك عالمٌ آخر غير هذا العالم الذي يموت فيه المطيع والعاصي من دون أنْ ينالا ما يستحقان من أجرٍ أو عقوبةٍ، وإذا لم يكن هناك عالمٌ آخر لكان هذا ظلمًا وخلاف العدل الإلهي.

ص: 178


1- الأنعام 12.

الثالثة: ضرورة إنصاف المظلومين من الظالمين.

على الرغم من أنَّ الله(عزّ و جلّ) لم يستثنِ أحدًا من مواهبه وعطاياه ومننه من جهة، وأرسل الأنبياء والمرسلين وأردفهم بأوصياء (سلام الله عليهم أجمعين) لبيان شريعته ودينه الذي ارتضاه لبني البشر، فحرّم الإجرام والاعتداء على الآخرين في عرضهم أو أرضهم أو سمعتهم أو دمائهم أو أموالهم وغير ذلك من التشريعات التنظيمية لعلاقة الإنسان مع أبناء نوعه من جهةٍ أخرى، إلا أنَّ بعض البشر لم يقنعوا بما منَّ الله(عزّ و جلّ) عليهم من منن، وامتدت أعينهم إلى من سواهم، لتتبعها أيديهم بالاعتداء والظلم والإجرام، وبالنتيجة كان هناك ظالمون وآخرون مظلومون.

وفي الأعم الأغلب لم ينل الظالمون جزاءهم من العقاب، بل وإن نالوا جزاءهم فربما لا يكون جزاءً عادلًا، كما لو قتل شخصٌ المئات أو الآلاف من البشر، فهل يملك هذا الطاغي إلا نفسًا واحدةً، ومن ثم فإن حُكِم عليه بالقتل فهو وإنْ كان حكمًا شرعيًا يتوافق وهذه النشأة وقوانينها، إلا أنّه ربما لا يكون عادلاً بصورةٍ مطلقة، ومن ثم لا بُدّ من وجود حياةٍ أخرى يُنتصف فيها من الظالمين للمظلومين، ليس هذا فحسب، بل وتتسم بقوانين أخرى بحيث يمكن تنفيذ الحكم العادل بحق كلِّ ظالم، كلٌّ حسب جرمه وجرائمه.

ومن تلك القوانين أنه لا موت فيها، قال(عزّ و جلّ): ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.(1)

ص: 179


1- النساء 56

المطلب الرابع: هل المعاد جسماني أو روحاني فقط؟

1/تبدل الجلود:

قال(قدّس سرّه):

«عقيدتنا في المعاد الجسماني:

وبعد هذا، فالمعاد الجسماني بالخصوص ضرورةٌ من ضروريات الدين الاسلامي، دلَّ صريح القرآن الكريم عليها: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾، ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾،

﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾

وما المعاد الجسماني على إجماله إلا إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أنْ يصبح رميماً. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئات؟

وأنّ الأرواح هل تُعدَم كالأجساد أو تبقى مُستمرةً حتى تتصل بالأبدان عند المعاد؟ وأنّ المعاد هل يختص بالإنسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان؟

وأنّ عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي؟

وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنّهما في السماء أو الأرض أو يختلفان.

وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية أولها كفتان ولا تلزم

ص: 180

معرفة أنّ الصراط جسمٌ دقيقٌ أو هو الاستقامة المعنوية.

والغرض أنّه لا يُشترَط في تحقيق الإسلام معرفة أنّها من الأجسام.».

نعم، إنّ تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الاسلامي، فإذا أراد الإنسان أنْ يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر مما جاء في القرآن، ليقنع نفسه دفعاً للشُبه التي يُثيرها الباحثون والمُشككون بالتماس البرهان العقلي أو التجربة الحسية - فإنّه إنّما يجني على نفسه ويقع في مُشكلاتٍ ومُنازعاتٍ لا نهاية لها.

وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المُتكلّمين والمُتفلسفين، ولا ضرورة دينية ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المُشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثاً والتي استنفدت كثيراً من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشُبَه والشكوك التي تُثار حول تلك التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراك هذه الأمور الغائبة عنّا والخارجة عن أفقنا ومُحيط وجودنا والمُرتفعة فوق مستوانا الأرضي، مع علمنا بأنّ الله(عزّ و جلّ) العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.

وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل أنْ تتناول شيئاً لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختباره إلا بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحس والتجربة والبحث، فكيف يُنتظر منه أنْ يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته، فضلاً عن أنْ

يتناول تفاصيله وخصوصياته، إلا إذا اعتمد على التكهُّن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب، كما هو من طبيعة خيال الانسان أنْ يستغرب كُلّ ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسه، كالقائل المُندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾.

ص: 181

ولا سند لهذا الاستغراب إلا أنّه لم يرَ ميتاً رميماً قد أُعيدت له الحياة من جديد، ولكنّه ينسى هذا المُستغرب كيف خُلِقت ذاتُه لأول مرة، ولقد كان عدماً، وأجزاء بدنه رميماً تألفت من الأرض وما حملت ومن الفضاء وما حوى، من هُنا وهُنا، حتى صار بشراً سوياً ذا عقلٍ وبيان، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾.

يُقال لمثل هذا القائل الذي نسيَ خلق نفسه: "يُحييها الذي أنشأها أولَ مرةٍ وهو بكُلِّ خلقٍ عليم"، يُقال له: إنّك بعد أنْ تعترف بخالق الكائنات وقدرته وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرِّ - خلق ذاتك وسرِّ تكوينك، وكيف كان كان نموك وانتقالك من نطفةٍ لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل مُتصاعدة مؤتلفاً من ذرات مُتباعدة، لبلغ بشراً سوياً عاقلاً مُدبراً ذا شعورٍ وإحساس. يُقال له: بعد هذا كيف تستغرب أنْ تعود لك الحياة من جديد بعد أنْ تُصبِح رميماً، وأنت بذلك تحاول أنْ تتطاول إلى معرفة ما لا قبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟

يقال له: لا سبيل حينئذٍ إلا أنْ تُذعِن صاغراً للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مُدبر الكائنات العالم القدير وخالقك من العدم والرميم. وكُلُّ محاولةٍ لكشف ما لا يمكن كشفه ولا يتناوله علمك فهي محاولةٌ باطلة، وضربٌ في التيه، وفتحٌ للعيون في الظلام الحالك.

إنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفةٍ في هذه السنين الأخيرة، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرة، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدث عنها في السنين الخوالي لعدّها من أولِ المُستحيلات ومن مواضع التندر والسخرية أنّه مع كُلِّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سر الذرة، بل حتى حقيقة إحدى خواصهما وأحد أوصافهما، فكيف يطمع أنْ يعرف سر الخلقة والتكوين، ثم يترقى فيُريد أنْ يعرف سر المعاد والبعث.

ص: 182

نعم، ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام أنْ يتجنب عن مُتابعة الهوى وأنْ يشغل فيما يُصلِحُ أمر آخرته ودنياه، وفيما يرفع قدره عند الله وأنْ يتفكر فيما يستعين به على نفسه، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلّام وأنْ يتقي يوماً لا تُجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يُقبَل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم يُنصرون». انتهى.

ذهب البعض أنَّ المعاد هو للروح فقط، وأنَّ البدن لا يُعاد، فيما يرى آخرون أنَّ المعاد جسماني، أي إنَّ الإنسان يُعاد بجسده وروحه.

والصحيح كما هو واضحٌ أنَّ المعاد جسماني وليس روحانياً فقط، تدلُّ على ذلك آيات كثيرة منها:

1/تبدل الجلود:

قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1)

مما لا شكَّ فيه أنَّ الجلود هي جزءٌ من الجسد، وذكْرُ القرآن الكريم لتبدلها دليلٌ قاطعٌ على أنَّ المعاد جسماني.

2/شهادة الجوارح:

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا الله الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2)،

ومعلومٌ أنَّ الجوارح إنما هي أجزاءٌ من جسم الإنسان، فشهادتها يوم القيامة دليلٌ على أنَّ المعاد جسماني.

ص: 183


1- النساء 56.
2- فصلت 21.

3/اللذائذ المادية:

تناولت الكثير من الآيات المباركة ما في الجنة من لذائذ مادية أُعدّت للمؤمنين من طعام وشراب وزواج وحور عين. وهذه اللذائذ إنما هي لذائذُ للبدن لا للروح، وحيث ذكرها الله(عزّ و جلّ) دلَّ ذلك على أنّ المعاد ليس بالروح فقط، بل هو بالروح والجسم معًا.

إشكالان حول المعاد جسماني.

الإشكال الأول: إعادة المعدوم.

أثيرت العديد من الإشكالات حول المعاد الجسماني، نشير إلى إشكالين منها مع جوابهما سريعًا:

الإشكال الأول: إعادة المعدوم.

حاصله: أنَّ البدن يُتلف وينعدم بعد الموت، فكيف يرجع المعدوم؟ حيث إنَّ مفاد المعاد الجسماني هو أنّ في يوم القيامة ترجع هذه الروح إلى الجسم المتحلل في التراب بعد الموت، فهذا البدن صار عدمًا في التراب فكيف يعود؟!

الجواب:

أنَّ الإنسان فيه جزأين: جزء مادي وهو البدن، وجزء مجرد وهو الروح. وحيث إنَّ الروح موجودٌ مجردٌ فلا يصيبها أيُّ فسادٍ بالموت ولا تنعدم، فالإشكالُ منصبٌ على البدن فقط.

وقد أثبت العلم أنَّ المادة لا تفنى، وإنّما تتحول من حالةٍ إلى حالة، فالبدنُ يتفسخ ويتحول إلى ذراتٍ وأقصاه يتحول إلى طاقة، لكنها بالنتيجة لا تفنى وإنّما تضيع أو تُستهلك في التراب وتصبح سمادًا يتغذى عليها النبات، أو قد يموت الإنسان في البحر فيتحلل جسمه في البحر وتأكله الأسماك، وعلى كلِّ الأحوال فالخلايا موجودة. وفي يوم القيامة حيث إنّ الله(عزّ و جلّ) عالمٌ بالعلم غير المحدود، وقادر بقدرة غير محدودة، فيمكنه جمع

ص: 184

تلك الخلايا المتفرقة وإرجاع البدن، وإذا أردنا أن نقرب المسألة فإنَّ لكلِّ خليةٍ شفرةً خاصةً، وهناك جهازٌ يلتقط حسب الذبذبات شفرات هذه الخلايا، فأينما كانت وكيفما صارت هذه الخلايا فإنّه يجدها ويرتبها حسب الترتيب الخاص بها، وعليه فإنَّ البدن لم يفنَ، ويمكن إعادته.

والنتيجة أنَّ الأساس الوحيد الذي ابتنت عليه هذه الشبهة من أنَّ البدن يكون عدمًا غير صحيح. نعم، ربما يعدّه العرف كذلك، لكنه في الحقيقة هو موجودٌ تحلّل إلى ذراتٍ متفرقة هنا وهناك لا أكثر.

الإشكال الثاني: شبهة الآكل والمأكول:
الجواب الأول:

تسلم هذه الشبهة بأنَّ المعاد جسماني، وأنَّ هذا البدن الذي يتحلل بعد دفنه في التراب أو يُحرق كما في عقيدة البوذيين، ستتفرق أجزاؤه وتُصبح إما ترابًا لمقلع طينٍ لتكوين طابوق البناء، أو أملاحًا تتغذى عليها النباتات، فتصبح جزءًا من تفاحةٍ أو عشبٍ مثلًا، فيتغذى على تلك التفاحة شخصٌ آخر فيأكلها فتصير جزءًا من جسم ذلك الميت، أو يتغذى على ذلك العشب حيوانٌ كالخروف مثلًا، فتصبح جزءًا من جسمه وما إن يُذبح ويُطهى حتى يتفرّق في أجسام آكليه وهكذا.

وعليه سيكون هناك آكلٌ ومأكولٌ، ومما يزيد الأمر تعقيدًا أنه ربما أجزاء جسم إنسانٍ مؤمن تُصبحَ أجزاءً من جسم إنسانٍ كافر أو العكس، فكيف يدخل جسم الكافر إلى الجنة وينعم فيها، أو بالعكس يدخل جزءٌ من جسم المؤمن إلى النار ويُعذَّب فيها نتيجة وجوده في جسمِ الكافر، فهذه مشكلةٌ تحتاج إلى حلٍ لها.

وقد قُدِّمت عدة أجوبة عن هذه الشبهة، منها التالي:

ص: 185

الجواب الأول:

إنَّ جسم الإنسان يتكون من أجزاء أصلية وأجزاء غير أصلية، وفي الموت عندما يتحلل جسمه تتحلل الأجزاء غير الأصلية وأما الأجزاء الأصلية فلا تتحلل. وفي المعاد يأخذ الله(عزّ و جلّ) ذلك الجزء الأصلي ومنه يكوِّن بقية أجزاء الجسم الأخرى، كما في البلورة التي يصنعون منها البلاستك حيث تدخل في عمليةٍ حرارية.

يقول البعض: إنّ هذا الجزء موجودٌ بأسفل العمود الفقري وهو لا يتحلل، ويستدلون على ذلك ببعض الروايات كما ورد عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْمَيِّتِ يَبْلَى جَسَدُه؟ قَالَ (علیه السّلام): «نَعَمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَه لَحْمٌ ولَا عَظْمٌ، إِلَّا طِينَتُه الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْلَى تَبْقَى فِي الْقَبْرِ مُسْتَدِيرَةً، حَتَّى يُخْلَقَ مِنْهَا كَمَا خُلِقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ».(1)

وبغض النظر عن سنده –الذي حكم عليه البعض بالضعف-، فإنَّ العلوم الحديثة لم تصل إلى أنَّ هذا الجزء من البدن لا يفنى، وإنّما انتهوا إلى أنَّ الجسم كله يفنى (بمعنى أنه يتحلل)، فعندما تنظر إلى جسمٍ أُحرِق تمامًا فلا يبقى منه هذا الجزء المشار إليه. وعلى كل حال هو خلاف ظاهر القرآن الكريم، وبالنتيجة هو جوابٌ، فإنْ صحَّ فتنتفي به هذه الشبهة.

الجواب الثاني:

أنَّ هذه المواد لا تفنى، وأنَّ كلَّ الخلايا ترجع، وأنَّ هذه الخلية حسب الشبهة التي صارت جزءًا من الجسم الآخر إنما هي مجرد خليةٍ صغيرةٍ منه، وكلُّ جسمٍ سيعيد ما أخذه من خلايا من غيره من الأجسام، وقد يتسبب هذا الأمر بأن يصغر البدن، فمثلًا لو كان طوله (180سم) مثلًا فإنّه سيكون (120سم)، وبذلك فإن كل جسمٍ سيرجع

ص: 186


1- الكافي ، ج3،ص251،ح7.

إلى أصله.

ويستدل على هذا الرأي ببعض الروايات، فقد ورد عن هشام بن الحكم في محاججة الزنديق للإمام الصادق (علیه السّلام)، فقال [الزنديق]: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى، والأعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة يأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط؟

قال (علیه السّلام): «إن الذي أنشأه من غير شيء، وصوره على غير مثال كان سبق إليه، قادر أن يعيده كما بدأه».

قال: أوضح لي ذلك.

قال: «إن الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسيء في ضيق وظلمة، والبدن يصير تراباً كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها، مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب. محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، ويعلم عدد الأشياء ووزنها، وأن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربو الأرض ثم تمخضوا مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا».(1)

والروايةُ واضحةٌ وبها تنحل الشبهة.

ص: 187


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص 97 و 98.
الجواب الثالث:

تقدّم أنّ الإنسان مكونٌ من بدنٍ وروحٍ، وحقيقة الإنسان إنما هي بروحه، وأما البدن فمتغير، إذ تقدّم أنّه يتغير كلَّ ثمانِ سنواتٍ، وخلال أربعين سنة مثلاً يكون البدن قد تغيّر خمس مرات تقريبًا، ومع ذلك تبقى (الأنا) هي نفسها التي كانت قبل أربعين سنة محتفظًا بها. وهذا يدلُّ على أنّ هناك شيئًا ثابتًا في شخصية الإنسان، وهو الذي يستحق الثواب أو العذاب.

وكمثال على ذلك، لو أجرم إنسانٌ قبل خمسين سنة، وأرادوا أن يعاقبوه بعد مرور كل تلك المدة، فهل يُقبل منه أن يقول: إنّما قتلته باليد التي كانت قبل خمسين سنة، وتلك اليد قد تحولت وتغيرت مرارًا، وما ستعاقبونه الآن ليست تلك اليد التي ارتكبت الجريمة وإنما يدٌ أخرى؟! حتمًا سيُقال له: إنما نعاقبك أنت لذاتك ولروحك.

وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ إنما يدلُّ على أنّ حقيقة الإنسان بروحه، وأما البدن فهو مجرد آلة للروح ووظيفته تنفيذ أوامر الروح، وهو الذي من خلاله تتأثر الروح، فتُسر وتتنعم أو تحزن وتتألم، فإذا أردت الذهاب إلى المسجد فإنَّ بدنك هو الذي سيأخذك، وهو في خدمتك ويتحرك بأمرك، وإن احتاجت روحك إلى الارتواء فإنَّ جسمك هو الذي سيتحرك ويشرب الماء، فترتوي روحك.

فالجسم مجرد آلةٍ لتأثير وتأثّر الروح؛ لأن هذه الروح ليس لها اتصال بعالم المادة، فهي مجردة وتحتاج إلى آلةٍ تكون حلقة الوصل بينها وبين الماديات، وما تلك الآلة إلا البدن.

فإنْ كان الأمر كذلك فإنَّ الروح بإمكانها أن تُعذّب أو تُنعّم، سواء تلبست بالبدن الأصلي لها أو بسواه؛ لأنَّ العذاب والنعيم إنما تشعر به الروح فقط، وأما الجسم فهو واسطة في إيصال ذلك النعيم أو العذاب ليس إلا.

ص: 188

وعليه، فلو سلّمنا بهذه الشبهة وكان جسم المؤمن أكثره من جسم كافر ودخل الجنة، أو كان جسم الكافر أكثره جسم المؤمن ودخل النار، فلا يقال: إنَّ هذا الكافر هو الذي دخل الجنة ولا إنّ هذا المؤمن دخل النار، كما أنّه لا الكافر سيشعر بالنعيم، ولا المؤمن سيحترق بالجحيم؛ لأنّ كلّاً من العذاب والألم إنما يطالان الروح فقط وفقط، لا الجسم، وأما هو فلا يعدو أنْ يكون واسطةً لإيصال الشعور بألم الجحيم أو لذة النعيم.

ولتقريب الفكرة أكثر، فإنَّ الروح مثل شريحة التلفون فالاتصال لا يرد إلا عليها، مهما تغيّر الجهاز، وما الجهاز إلا آلة لتفعيل الشريحة.

ويشير إلى هذه الفكرة قوله(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1)

فلو كان البدن هو الذي يُعذب فإنَّ البدن تعذب وانتهى في العذاب الأول وإنما سيأتي الله(عزّ و جلّ) للكافر ببدنٍ آخر.

والخلاصة: نحن نؤمن بأنَّ قدرة الله(عزّ و جلّ) أعظم من هذه الشبهات، وهذا كافٍ للرد على هذه الشبهة.

المطلب الخامس: المعاد وتربية الإنسان

المعاد: هو عود الروح إلى البدن.

الميعاد: هو يوم القيامة.

من الواضح جدًا أنَّ الإيمان بالمعاد والميعاد يتدخل مباشرةً بسلوك الإنسان؛ وذلك لأنّ الإيمان بهما يعني أنّ فعل الإنسان وكلَّ قولٍ يصدر منه لا يذهب سُدى، وإنّما يُحفظُ عند حفيظٍ عليمٍ، لا يعزب عنه أي شيءٍ، إنْ خيرًا فخير وإن شرًا فشر. قال(عزّ و جلّ): ﴿وَكُلَّ

ص: 189


1- سورة النساء: آية 56.

إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(1)

وهذا يعني: أنَّ كلَّ أعمال الإنسان محفوظة، من طاعةٍ أو معصية، من إحسانٍ أو إساءة، وهناك جزاء من الله(عزّ و جلّ)، حيث يثيب المطيعين ويعاقب العاصين، فهو واسع الرحمة وفي نفس الوقت هو شديد العذاب.

وهذا هو الإيمان بأنَّ هناك يوماً سيُحشر فيه الناس وسيحاسبون على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ كما قال(عزّ و جلّ): ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(2)،

وقوله(عزّ و جلّ): ﴿هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(3)

فالإنسان إذا عاش هذا الإحساس في جميع حركاته وسكناته، فإنّه من باب الدافع الفطري في دفع الضرر عن نفسه من جهة، وفي جلب المنفعة لها من جهةٍ أخرى، سيعمل على الالتزام بالحق والابتعاد عن الباطل بشكلٍ تلقائي.

لو التزم كلَّ الناس بهذه الثمرة المترتبة على الإيمان بالمعاد، فستتحول الأرض إلى جنةٍ أرضية، كلٌّ منهم لا يأخذ إلا حقه، ولا يتجاوز حدوده، ولن يحدث حينئذٍ أيُّ تزاحمٍ أو أيُّ أكلٍ بالباطل، وعندئذٍ سيرتدعُ المجرم عن ارتكاب أي جريمةٍ؛ لأنه يعلم بأنّه إن ارتكبها فستبقى محفوظةً وسيحاسب عليها لا محالة، فلأجل أنْ يدفع الضرر عن نفسه فإنه يجتنب ارتكابها، وكذا فيما لو واجه المؤمن مرارةً في الحياة، فإنّه يفضّل أن

ص: 190


1- الإسراء 13و 14.
2- الكهف: 49.
3- الجاثية 29.

يصبر عليها ويتجرّعها على أنْ يحيد عن الطريق الذي أراده الله(عزّ و جلّ)؛ ولذا تعبر الروايات: «الدنيا سجن المؤمن».

فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام)، فَشَكَا إِلَيْه رَجُلٌ الْحَاجَةَ، فَقَالَ (علیه السّلام) لَه: «اصْبِرْ، فَإِنَّ الله تعالى سَيَجْعَلُ لَكَ فَرَجاً».

قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ (علیه السّلام): «أَخْبِرْنِي عَنْ سِجْنِ الْكُوفَةِ، كَيْفَ هُوَ؟!» فَقَالَ: أَصْلَحَكَ الله، ضَيِّقٌ مُنْتِنٌ، وأَهْلُه بِأَسْوَأِ حَالٍ. قَالَ (علیه السّلام): «فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي السِّجْنِ، فَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِيه فِي سَعَةٍ، أمَا عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ».(1)

والدنيا وإن كانت سجنًا للمؤمن، إلا أنها تعقبه فسحةً لا حدَّ لها، جنةً عرضها السماوات والأرض، من هنا سيتولد أملٌ في نفوس المؤمنين بأنَّ أعمالهم وصبرهم وتجرّعهم للآلام لا يمكن أنْ تذهب سدىً، مهما كانت صغيرةً وإن كانت صدقةً بسيطةً لحيوان بعيدًا عن أعين الناس قربةً إلى الله(عزّ و جلّ).

فهذا الإحساس والإيمان بالمعاد يدفع بالإنسان إلى التزام جادة الصواب والتزام الطاعات واجتناب المعاصي، حتى وإنْ لم يكن بدافع جلب النفع ودفع الضرر، فإنه سيؤدي مفعوله، وعلى أي الحالين فالنتيجة واحدة وهي الاستقامة.

المطلب السادس: ما هو المقدار الواجب من الإيمان بالمعاد؟

يُعدُّ ما يحدث يوم القيامة أمرًا مستقبليًا، ومن ثم لا بد من الرجوع فيه إلى الآيات الكريمة والروايات الشريفة، أي لا بد من الرجوع إلى من له الاطلاع على ذلك العالم المستقبلي.

ص: 191


1- الكافي للكليني ج2 ص 250 بَابُ مَا أَخَذَه الله عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْحَقُه فِيمَا ابْتُلِيَ بِه ح6.

ويمكن تقسيم ما يحدث يوم القيامة إلى قسمين: ما له أثرٌ عمليٌ في السلوك الإنساني، وما لا أثر عملياً له في السلوك الإنساني، ومن ثم فإنَّ المقدار الواجب الإيمان به من قبل الإنسان هو الأول؛ لما له من مدخلية في عمله -صالحًا كان أو طالحًا-، وأما الثاني، فطالما لم يكن فيه أثر على سلوك الإنسان، فلا يتوجب عليه أنْ يُتعِب نفسه فيها.

وهذا نظير ما قد ذُكِر في قضية الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) حيث قلنا إنه ليس من الواجب على المؤمن أنْ يُتعب نفسه ويهدر وقته في معرفة علامات الظهور، وإنّما يكفي منه فقط معرفة العلامات الحتمية المؤشرة للظهور.

وكذلك في قضية المعاد فهناك الكثير من التفاصيل التي ليس من الضروري التعرض لها ومعرفتها نحو معرفة كيفية الصراط، أو معنى الميزان، فهذه مسائل لا بأس في معرفتها من باب الفضول العلمي لكن ليس من الواجب إتعاب النفس فيها؛ لأنه يكفينا فقط معرفة ما يعود علينا بالفائدة التربوية، نحو معرفة أنَّ هناك يومًا نُبعث فيه وأنّ الله(عزّ و جلّ) سيُحاسبنا فيه على أعمالنا إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًا فشر، وكلٌّ سينال ما يستحق إما يدخل الجنة أو النار والعياذ بالله(عزّ و جلّ)، وأن نؤمن بذلك، وهذا ما اشار له الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة كتابه وصرح بها تصريحًا.

حيث قال(قدّس سرّه): وما المعاد الجسماني على إجماله إلا إعادة الانسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميما. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلا صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأن الأبدان هل تعود بذواتها أو إنما يعود ما يماثلها بهيئات، وأن الأرواح هل تعدم

ص: 192

كالأجساد أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد، وأن المعاد هل يختص بالإنسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان، وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي.

وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنهما في السماء أو الأرض أو يختلفان. وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنها ميزان معنوية أولها كفتان ولا تلزم معرفة أن الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنوية والغرض أنه لا يشترط في تحقيق الإسلام معرف أنها من الأجسام..»..(1)

ص: 193


1- مقتبس من كتاب كشف الغطاء ص 5 للشيخ الكبير كاشف الغطاء.

ص: 194

مُلحق: عوالم الإنسان.

العالم الأول: عالم الذر

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:

من باب الاستطراد نتعرض لذكر العوالم الماضية والحاضرة والمستقبلية التي مرّ وسيمرُّ بها الإنسان ابتداءً من عالم الذر إلى القيامة على نحو الإيجاز، وهي ستة عوالم:

عوالم الإنسان:

العالم الأول: عالم الذر

هو من المفاهيم التي اُختُلِف فيها وفي الإيمان به، وإنْ لم يترتب على معرفته والإيمان به أيُّ أثرٍ عملي في سلوك الإنسان. وقد استدل بعض العلماء بآيةٍ قرآنيةٍ على وجود هذا العالم، كما يمكن أن تفسَّر بعض المواقف الحياتية به، كما لو رأيت شخصًا لأول مرةٍ وأنت على ظنٍ كبير ربما متاخمٌ لليقين أنّك رأيته من قبل، فقد يُفسّر ذلك على أنّك ربما رأيته في عالم الذر.

والآية الكريمة التي يُستدلُّ بها على عالم الذر هي قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾(1).

وهي من الآيات التي كثُر الكلامُ والاختلاف فيها بين المفسرين، ونذكر هنا بعض النقاط:

ص: 195


1- سورة الأعراف: آية [172و 173]

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:

تشير الآية الكريمة إلى أنَّ الله(عزّ و جلّ) جمع الخلق كلَّهم من أول المخلوقين إلى آخرهم، وسألهم: أولستُ بربكم؟ أي أوليس الله(عزّ و جلّ) ربكم ومدبر أموركم، وقد أقرَّ الجميع بربوبيته(سبحانه و تعالی)، إذ أجابوا: بلى.

الهدف من هذا التقرير:

1/عدم السماح للمتمردين على هذا الإقرار بادعاء الغفلة والجهل يوم القيامة؛ لأنهم أقرّوا.

2/منعهم من اتخاذ التقليد للآباء ذريعةً لارتكاب المعاصي.

النقطة الثانية: المعاني التربوية للآية.

تهدف الآية المباركة إلى تذكير الإنسان بأنّه قد أقرَّ في عالم الذر بالربوبية لله(عزّ و جلّ) ومن ثم فليس له أنْ يُقلد الآباء بالباطل، وأن على المرء أنْ يكون حذرًا من مخالفة الأحكام الإلهية؛ لأنَّ الله(عزّ و جلّ) قد أتمَّ الحجة على العباد، ولله(عزّ و جلّ) الحجة البالغة، فأعطاهم عقلًا وأرسل لهم رسلًا، وأقرّهم وقرّرهم على أنفسهم بربوبيته(عزّ و جلّ). فبعد كلِّ ذلك لا عذر لمذنبٍ ولا ذريعةَ لعاصٍ.

روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «قَدْ بُصّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَقَدْ هُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وأُسْمِعْتُمْ إِنِ اسْتَمَعْتُمْ»(1).

فكُلِّ شيءٍ قد تمَّ تجهيز جميع البشر به، وما بقي عليهم إلا أنْ يُفعِّلوا ما زُوِّدوا به من أجهزة، فمن لم يهتدِ فبسوء اختياره، ولا عذر لمن ضلَّ يوم القيامة إلا الغفلة أو تقليد الآباء وكلاهما قد نبهت الآية على رفض كونهما عذراً بعدما حصل الإقرار من الجميع بربوبية الله تعالى في عالم الذر.

ص: 196


1- نهج البلاغة، الحكمة 154

النقطة الثالثة: معنى عالم الذر:

الرأي الأول:

اختلفت كلماتُ المفسرين بشأنِ تفسير هذه الآية المتقدمة في المراد تحديدًا من عالم الذر؟ وقد نقل الشيخ مكارم الشيرازي ستة آراءٍ حول هذا الأمر(1)،سنذكر منها رأيين مع ضمِّ رأيٍ آخر حديثٍ إليهما طرحه أحد الأساتذة:

الرأي الأول:

طريق المحدّثين وأهل الظاهر حيث يقولون: إنّ المراد هو ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ ذريّة آدم بأجمعهم قد خرجوا من ظهره على شكل ذرّات دقيقة وملأوا الفضاء وكانت تتمتّع بالعقل والإحساس والقدرة على النطق، فخاطبهم الله(عزّ و جلّ) وسألهم: «ألست بربّكم؟» فقالوا جميعاً: «بَلى»; وبذلك أخذ العهد الأوّل على التوحيد. وكان بنو الإنسان بأنفسهم شاهدين على ذلك.

وعلى الرغم من شهرة هذا التفسير على الألسن، بيد أنَّه ضُعِّفَ من قبل بعض العلماء مثل الشيخ جعفر سبحاني(2).

ص: 197


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي- ج3 ص 82 – 89.
2- مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 1، ص82و85، حيث قال ما نصه: انتقادات على هذه النظرية: 1. انّ أوضح دليل على قصور هذه النظرية هو عدم موافقتها للمدلول الظاهري للآية، لأنّ ظاهر الآية كما قلنا في النقطة الخامسة يفيد أنّ الله تعالى أخذ من ظهور كل أبناء آدم ذرّيتهم، لا من آدم وحده؛ ولأجل هذا قال سبحانه: ﴿مِن بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم. كما أنّ الضمائر جاءت في صيغة الجمع: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾، ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لا المفرد. وعلى هذا الأساس لا تطابق هذه النظرية مفاد الآية في هذه الناحية. 2. إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل وعيهم، فلماذا لا يتذكره أحد منّا؟ وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ ما هو منسي ومغفول عنه هو «وقت هذا الميثاق والإقرار» وليس نفس الميثاق والإقرار والاعتراف، بدليل ما يجده كل إنسان في ذاته من ميل فطري إلى الإذعان بوجود الله وربوبيته، ولا شك أنّ هذا هو امتداد طبيعي لذلك الإقرار المأخوذ في عالم «الذر». لكن هذا الجواب ليس بوجيه جداً كما تصوّر أصحابه، لأنّه ليس من المعلوم أنّ ما نجده من «الميل الفطري» إلى الله في ذواتنا يرتبط حتماً بمثل ذلك الميثاق.. بل ربما يكون نتيجة «فطرية وجود الله وربوبيته» وبداهتهما. وما يقال من أنّ الفاصل الزمني الطويل هو الذي كان سبباً لنسيان الميثاق المذكور ليس بصحيح كما يظهر. لأنّ طول هذا الفاصل لا شك أقل بكثير من طول الفاصل الزمني بين الإنسان في الدنيا ويوم القيامة على حين نجد أنّ الإنسان لا ينسى ما شاهده من حوادث في الدنيا فها هم أهل الجنة مثلاً يقولون لأهل النار: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ﴾. ونظير ذلك قول بعض أهل الجنة: ﴿إنّي كَانَ لِي قَرينٌ [أي في الدنيا] يقول ءَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ﴾. ومثله قول بعض أهل النار: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ [أي في الدنيا] مِنَ الأشْرَارِ﴾. وغير ذلك من الآيات الدالة على تذكر أهل القيامة لما جرى لهم في العالم الدنيوي ممّا يدلّ على عدم نسيان الحوادث رغم طول الفاصلة الزمنية. 3. انّ الهدف من أخذ الميثاق أساساً هو أن يعمل الأشخاص بموجب ذلك الميثاق، والعمل فرع للتذكّر، فإذا لم يتذكّر الشخص أي شيء من هذا الميثاق، فكيف ترى يصح الاحتجاج به عليه، وكيف يمكن دفعه إلى العمل وفقه؟ على أنّنا بعد أن كتبنا هذا، وقفنا على كلام للعلاّمة الشريف المرتضى في (أماليه) وهو ينص على ما ذكرنا حيث أبطل هذا الرأي إذ قال: «وقد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أنّ تأويل هذه الآية: أنّ الله استخرج من ظهر آدم (علیه السّلام) جميع ذريته وهم في خلق الذر، فقررهم بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل مع أنّ العقل يبطله ويحيله مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأنّ الله تعالى قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ ولم يقل من آدم وقال: ﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يقل: من ظهره، وقال: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ولم يقل: ذريته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة أنّهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشأوا على دينهم وسنتهم ». ثم يقول الشريف المرتضى: «فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من ظهور آدم (علیه السّلام) فخوطبت وقررت من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون، فإن كانت بالصفة الأُولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به واستشهدوا عليه، لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وأن بعد العهد وطال الزمان وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير. على أنّ تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، وذلك لأنّ الله تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلاّ يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثاً قبيحاً يتعالى الله عنه». 4. انّ هذه النظرية تؤول إلى نوع من القول بالتناسخ الذي بطلانه من ضروريات الدين، لأنّه يعني على أساس هذه النظرية أنّ الإنسان أتى إلى هذه الدنيا قبل ذلك، ثم بعد العيش القصير ارتحل ثم عاد بصورة تدريجية إلى هذه الدنيا مرة ثانية.. وهو التناسخ الذي أبطله المحقّقون والعلماء المسلمون.

ص: 198

وكذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(1).

ص: 199


1- نفحات القرآن ج3 ص87 – 88، حيث قال ما نصُّه: القول الأوّل هو أضعف الأقوال لدى الكثير من المحقّقين، ووجّهوا إليه أغلب الإشكالات، حيث أشكل عليه الطبرسي في (مجمع البيان) والسيّد المرتضى كما نقله العلاّمة المجلسي في مرآة العقول كما انّ الفخر الرازي أورد (12) إشكالا على هذا القول! غير أنّ بعضها ليس جديراً بالإهتمام وبعضها مكرّر أو قابل للإندماج مع غيره، وبصورة عامّة تتوجّه خمسة إشكالات إلى هذا القول: أ إنَّ هذا التفسير لا ينسجم مع كلمة (بني آدم) أبداً، وكذلك مع ضمائر الجمع في الآية، وكلّها تتحدّث عن بني آدم لا آدم نفسه. كما لا يتطابق مع لفظه «ظهور» جمع «ظهر»، والخلاصة هي أنّ الآية تقول: انّ «الذرّية» ظهرت من ظهور «بني آدم» لا من ظهر «آدم»، في حين أنّ الروايات تدور حول نفس آدم. ب لو صحّ أخذ مثل هذا العهد الصريح في عالم سابق لهذا العالم فكيف يعقل نسيان ذلك من قبل البشر بأجمعهم؟! وهذا النسيان العام دليل على إستبعاد هذا التفسير، لأنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ البشر لا ينسون حوادث الدنيا حين تقوم الساعة ولهم حوار بشأنها غالباً، فهل الفاصل الزمني بين عالم الذرّ والدنيا هو أكثر من الفترة بين الدنيا والآخرة؟ ج لو سلّمنا فرضاً بأنّ هذا النسيان العام يمكن تبريره بالنسبة لعالم الذرّ،ولكن النتيجة هي علّية هذا العهد، لأنّه يكون مؤثّراً حينما يتذكّره الناس، أمّا ما ينساه كافّة البشر فانّه يفقد تأثيره التربوي ولا ينفع في إلقاء الحجّة وسدّ باب الأعذار. د يستفاد من الآية 11 من سورة المؤمن ﴿رَبّنا أَمَتَّنا اثنَتَينِ وأَحْييتَنا اثْنَتَيْن﴾ أنّ للبشر موتتين وحياتين «حيث كانوا موجودات ميتة فأحييت ثمّ يموتون ثمّ يحيون يوم القيامة» في حين يكون لهم وفق هذا التفسير أكثر من موتتين وحياتين: «موت وحياة في عالم الذرّ وموتان وحياتان آخران». ه- يستلزم هذا التفسير (التناسخ)، لأنّا نعلم بأنّ التناسخ ليس إلاّ حلول روح واحدة في جسمين أو أكثر، وطبقاً لهذا التفسير فانّ الروح الاُولى تعلّقت أوّلا بالذرّات الدقيقة جدّاً والتي خرجت من ظهر آدم ثمّ خرجت لتتعلّق بالأجسام الحاضرة، وهذا هو عين التناسخ. وبطلان التناسخ هو من المسلّمات في الدين، ولذا فانّ الشيخ المفيد في كتابه (جواب المسائل السروية) عندما يذكر التفسير أعلاه مقروناً ببعض الروايات يضيف: هذه أخبار القائلين بالتناسخ وفيه جمعوا بين الحقّ والباطل. (مرآة العقول: الجزء 7، ص41). وقد ورد هذا الكلام بنفسه في كلام شيخ المفسّرين الطبرسي(رحمه الله). (مجمع البيان: ج4، ص497).

والفخر الرازي أورد اثني عشر إشكالًا عليه(1).

ص: 200


1- تفسير الرازي لفخر الدين الرازي ج15 ص 46 – 49. حيث قال ما نصُّه: واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه. الحجة الأولى: لهم قالوا: قوله: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ لا شك أن قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ يدل من قوله: ﴿بَنِي آدَمَْ﴾ فيكون المعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً. الحجة الثانية: أنه لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ بل كان يجب أن يقول: من ظهره، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لو كان آدم لقال ذريته. الحجة الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ وهذا الكلام يليق بأولاد آدم، لأنه (علیه السّلام) ما كان مشركاً. الحجة الرابعة: أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم ؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير، وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ. فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلاً. فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة، وجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال. وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ. الحجة الخامسة: أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع. الحجة السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة. وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات. وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً ؛ إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم (علیه السّلام)؟ الحجة السابعة: قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا. والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان؟ الحجة الثامنة: قال الكعبي: إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات؟ وأجاب الزجاج عنه فقال: لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ﴾ (النمل: 18) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ (الأنبياء: 79) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا. الحجة التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدرة أو ما كانوا كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال. وأما الثاني: وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم. الحجة العاشرة: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ (الطارق: 5، 6) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن. فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة. قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة. وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل. الحجة الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع، بقي القول الأول. فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل. والثاني: يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة. وأنه حصل له الموت ثلاث مرات. موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر: 11). الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنين: 12) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطل. لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة، والعلقة، والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ وقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ (عبس: 17، 18) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.

وعلى كل حال، فنذكر منها إشكالًا واحدًا:

ص: 201

وهو أنه خلاف ظاهر الآية، إذ ذكرت الآية المباركة في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾(1)، في حين أنَّ التفسير يذكر أنَّ الناس خرجوا كالذر من ظهر آدم فقط.

الرأي الثاني:

إنَّ المراد من عالم الذر هو الذرات الأولى لوجود الإنسان، أي تلك النطفة التي

ص: 202


1- سورة الأعراف: آية [172]

انتقلت من ظهور الآباء إلى أرحام الأمهات إلى أنْ صارت إنسانًا كاملًا، وفي ذلك الحال -حال الانتقال- أعطاها الله(عزّ و جلّ) قوى وقابليات مختلفة، يستفيد منها عندما يُفعِّلها فيما بعد ليُدرك حقيقة التوحيد.

ومعنى هذا: أنَّ الله (سبحانه و تعالی)أعطى في عالم الذر لكلِّ واحدٍ من البشر القابلية على إدراك حقيقة التوحيد، فإذا تأمل خلق الله(عزّ و جلّ) يهتدي إلى التوحيد. وهذه القابليات هي السمع والأبصار والأفئدة أي العقول، كما في قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)،

فهذه القابليات والقدرات هو العهد الذي أخذه الله(عزّ و جلّ) على العباد.

مما يعني أنَّ المحاورة بين الله(عزّ و جلّ) والمخلوقات إنما كانت محاورةً كنائيةً، أيّ بلسان الحال، وكأنّ الله(عزّ و جلّ) أعطاهم العقل والحواس وغيرها فقالوا بلسان الحال: بلى إذا ما فعّلنا العقل وتلك الحواس سنُقِرُ بالتوحيد، فتخرج من المحاورة من الحقيقة إلى المجاز.

وبما أنَّ الفطرة موجودةٌ عند كافةِ البشر، يؤيد ذلك الرواية عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»(2).

والنتيجة: أنّ هذه الفطرة موجودةٌ عند جميع البشر وليس فيها نسيان؛ فلا عذر لأحدٍ في مخالفة التشريع الإلهي.

وهو تفسيرٌ خلاف الآية ظاهرًا؛ لأنَّ الآية تقول: إنَّ الخطاب قد وقع حقيقةً، في حين يرى هذا التفسير أنّه مجازٌ.(3)

ص: 203


1- سورة النحل: آية [78]
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 2: 49/ ح 1668.
3- قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في نفحات القرآن ج3 ص 87 و 88: وأمّا القول الثاني الذي يتحدّث عن خلق فطرة التوحيد والقابلية الخاصّة لمعرفة الله في عالم الرحم فأنّه أقلّ الأقوال إشكالا، والإشكال الوحيد الذي أورده عليه هو أنّ ظاهر الآية المبحوث عنها هو أنّ السؤال والجواب جاء بلسان القال لا الحال، وهو ضرب من التشبيه والمجاز، مضافاً إلى انّ جملة (أخذ) دليل على أنّ هذا الأمر قد أخذ في الماضي، في حين أنّ فطرة التوحيد للأجنّة هي أمر مستمرّ ويتحقّق في كلّ زمان، والإشكالان يمكن الإجابة عليهما وذلك لعدم مانعية حمل هذا الكلام على لسان الحال مع القرينة، وقد كثر ذلك في اللغة العربية نثراً وشعراً و...، والإشكالات المهمّة التي ترد على التفسير الأوّل قرينة واضحة على هذا التفسير، والفعل الماضي قد يستعمل في الاستمرار أيضاً، وهذا طبعاً يحتاج إلى قرينة أيضاً، وهذه القرينة موجودة في موضوع البحث.
الرأي الثالث:

للشيخ غلام رضا فياضي، تبعًا لجمعٍ من قدماء المفسرين والمحدثين، حيث اختصر ما بينه بقوله: «أنّ الأرواح الّتي وجدت وستوجد في عالمنا وبشكل بطيء وتدريجي استغرق لحدّ الآن الآلاف من السنين قد وجدت من قبل وتحديداً بعد خلق آدم بشكل سريع وأخذ منها الإقرار بالربوبيّة. ولكن هذه الأرواح لم توجد آنذاك وحدها، كما لم توجد في عالمنا، وإنّما وجدت مع أبدان، غايته أنّها بقيت محفوظة بأشخاصها وهي الّتي تعلّقت بأبدان هذا العالم، وأمّا الأبدان فقد تغيّرت واستبدلت بأبدان أُخرى»(1).

بيانه:

من المعلوم أنَّ الأرواح في عالم الدنيا توجد بشكلٍ تدريجي بهذه الأبدان المادية منذ بداية الخليقة وإلى يومنا هذا، بل وإلى ما شاء الله(عزّ و جلّ)، حيث يولد في كلِّ يومٍ مجموعة من البشر ربما يصل عددهم إلى المليون مثلًا، وهؤلاءِ أيضًا يولدون بشكلٍ تدريجي، فبعضهم في الساعة الأولى من اليوم والبعض يلونهم في الساعة الثانية وهكذا.

أما في عالم الذر، فقد خلق الله(عزّ و جلّ) جميع البشر بعد خلقه لآدم (علیه السّلام) وبشكلٍ هائل السرعة، خلقهم بأبدانٍ تختلف عن هذه الأبدان المادية في عالم الدنيا، وقد جرت بين الله (سبحانه و تعالی)وبينهم تلك المحاورة، وأقرّهم الله(عزّ و جلّ) على ربوبيته، وبقيت تلك الأرواح

ص: 204


1- علم النفس الفلسفي، الطبعة الأولى سنة 2013 ميلادية، ص 245، درس 38.

موجودة في ذلك العالم، وهي التي تنزل بالتدريج لتتلبس بأبدانها المادية في الحياة الدنيا.

ولتقريب الفكرة أكثر نقول:

إنَّ الفيلم السينمائي الذي طوله ثلاث ساعات مثلًا، بإمكانك أن تشاهده بسرعته الاعتيادية فتستغرق حينئذٍ ثلاث ساعاتٍ، كما بإمكانك أن تختزل مشاهدته في ربع ساعة عن طريق تسريع عرضه، وربما عندما تسرعه أكثر يصل بك الأمر أن تشاهده خلال دقيقةٍ واحدةٍ فقط.

فعالم الذر وما جرى فيه أشبه بالعرض السريع للفيلم، على حين أنَّ عالم الدنيا أشبه بعرض الفيلم بسرعته الاعتيادية.

وفي عبارة أخرى له قال ما نصه: إنّ عالم الذرّ حقيقة تمّ فيه وبشكل سريع إيجاد بني آدم وبنفس الكيفيّة الّتي يوجد عليها في عالمنا بشكل بطيء، من أجل أخذ الإقرار منهم بربوبيّة الله تعالى، ثمّ أُعيدوا إلى ما كانوا عليه وأخذوا يتواجدون في عالمنا وبشكل تدريجي هادئ مع المعرفة الّتي زُوّدوا بها.(1).

والمخلوقات أجمعها وإنْ نسيت الموقف إلا أنها لم تنسَ المعرفة، كما لو رأيت شخصًا فعرفته ولكنك نسيت الموقف الذي رأيته فيه فيما مضى، وقد صرّحت بعض الروايات بهذا الجواب، إذ روي عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (علیه السّلام) عن قول الله(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىٰ﴾ قال: «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدرِ أحدٌ مَن خالقُه ولا مَن رازقُه»(2).

ويجيب الشيخ أيضًا على تساؤل النسيان فيقول: وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في

ص: 205


1- علم النفس الفلسفي، الطبعة الأولى سنة 2013 ميلادية، درس 42، ص196.
2- () مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص215.

الميزان عن هذا الإشكال بحقّ : إن كان المراد من النسيان المتحقّق نسيان الموقف فلا مشكلة فيه؛ لأنّ اللازم حفظ أصل الميثاق وإن نسي الموقف، وكلّ منّا عند مراجعة داخله يجد أنّ المعرفة موجودة. وقد جاء في الرّواية«ثَبَتَتِ المَعْرِفَةُ وَ نَسُوا الْمَوْقِف».

وإن كان المراد منه نسيان أصل المعرفة فهو ممنوع التحقّق. نعم، يمكن أن ينسوا بأفعالهم الاختيارية وهو لا ينافي تمام الحجّة.

والخلاصة:

أيًا ما كان تفسير عالم الذر، فإنَّه قد ذُكر في الروايات، وتُشير عدة أمور إلى وجوده. ويسمى هذا العالم في بعض الكلمات ب-(عالم الأرواح) حيث كانت الأرواح دون هذه الأبدان، كما يسمى ب-(عالم الأظلة) اي الأرواح، ويسمى أيضًا ب-(عالم الأشباح)؛ لأنَّ الروح ليست مادية فهي أشبه ما تكون بالشبح.

روي أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أُحِبُك، فقال له (علیه السّلام): «لم أرَك تُحبني في الميثاق الأول». ويُفسر قول أمير المؤمنين (علیه السّلام) على معنى أنَّ الأرواح في ذلك العالم تلاقت وتعارفت فما كان منها مؤتلفًا ائتلف وما كان متخالفًا اختلف.

إذ ورد أنَّه جاء رجل إلىٰ عليٍّ وكلَّمه فقال في عرض الحديث: إنّي أُحبّك، فقال له عليٌّ: «كذبت»، قال: لِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: «لأنّي لا أرىٰ قلبي يحبّك، قال النبيُّ (صلّی الله علیه و آله): إنَّ الأرواح كانت تَلاقىٰ في الهواء فتشام، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، فلمَّا كان من أمر عليّ ما كان، كان ممَّن خرج عليه(1).

وكذلك ما ورد من أنَّ الله (سبحانه و تعالی)عندما قتل الإمام الحسين (علیه السّلام) وضجت الملائكة إلى

ص: 206


1- بحار الأنوار 25: 14/ ح 27، عن بصائر الدرجات: 108/ ج 2/ باب 15/ ح 7.

الله(عزّ و جلّ) أنْ كيف يُقتل الإمام الحسين وأنت تسكت يا ربّنا؟ فأجابهم أنْ: «قرّوا يا ملائكتي سوف انتقم من قتلته ولو بعد حين». وتذكر الرواية أنّه (سبحانه و تعالی)كشف لهم عن ظلِ القائم (عجّل الله تعالی فرجه )، إذ روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السّلام): «لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُسَيْنِ (علیه السّلام) مَا كَانَ، ضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الله بِالْبُكَاءِ، وقَالَتْ: يُفْعَلُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ صَفِيِّكَ وابْنِ نَبِيِّكَ؟ قَالَ (علیه السّلام): فَأَقَامَ الله لَهُمْ ظِلَّ الْقَائِمِ (علیه السّلام) وقَالَ: بِهَذَا أَنْتَقِمُ لِهَذَا».(1)

وفي روايةٍ أخرى: كشف لهم عن القائم، إذ عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي، قال: سألت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیه السّلام)...، فقلت: يا بن رسول الله، فلستم كلّكم قائمين بالحقِّ؟ قال: «بلىٰ»، قلت: فلِمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: «لمَّا قُتِلَ جدّي الحسين (علیه السّلام) ضجَّت عليه الملائكة إلىٰ الله تعالىٰ بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيِّدنا، أتغفل عمَّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحىٰ الله(عزّ و جلّ) إليهم: قرّوا ملائكتي، فوَعزَّتي وجلالي لانتقمنَّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف الله(عزّ و جلّ) عن الأئمَّة من ولد الحسين (علیه السّلام) للملائكة، فسرَّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يُصلّي، فقال الله(عزّ و جلّ): «بذلك القائم انتقم منهم»(2).

وقد حاول البعض أنْ يُفرِّق بين المعنيين (ظلِّ القائم والقائم)، والبعض الآخر حاول أنْ يستفيد منها بأنَّ ظلَّ القائم هو اليماني وهو وزيره، وهو كلامٌ لا يستند إلى دليل؛ فالرواية في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولم يكُ الإمام المهدي (عجّل الله تعالی فرجه ) مولودًا بعد، ومن ثم فإنَّ الذي كان في عالم الأظلة هو نفس القائم، وإنّما عُبِّر عنه ب-(ظلِّ القائم)؛ لأنه ما زال في ذلك العالم (عالم الأرواح) ولم ينزل إلى العالم المادي بعدُ..(3)

ص: 207


1- الكافي للكليني ج1 ص 465 بَابُ مَوْلِدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ3- ح6.
2- علل الشرائع للصدوق 1: 160/ باب 129/ ح 1.
3- قال العلامة المجلسي(قدّس سرّه): أي جسده المثالي، أو صورة خلقت شبيهة به، حاكية لأحواله أو روحه المقدسة، قال في القاموس: الظل الخيال من الجن وغيره يرى، ومن كل شيء شخصه. [مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول للعلامة المجلسي ج5 شرح ص 367.].

ص: 208

العالم الثاني: عالم الأصلاب

فائدة تربوية:

عالمٌ مجهولُ الحقيقة، ليس لدينا عنه من معلوماتٍ إلا القليل، فقد شاءت حكمة الله (سبحانه و تعالی)أنْ يجعل بداية أعظمِ مخلوقٍ من ماءٍ مهين، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾(1). يدعونا الله(عزّ و جلّ) في هذه الآية المباركة لننظر نظرة تدبر وتفكّر في بداية خلقتنا والمادة التي تكوّنت منها أجسامنا، وهو الماء المهين القذر.

وفي الحقيقة هو ماءان: أحدهما يخرج من صلب الرجل أي (فقرات ظهره)، والآخر من بين (ترائب المرأة) أي عظام صدرها العلوية، وقيل: إنَّ الصلب إشارة إلى الرجال والترائب إشارة إلى النساء، وهو صحيحٌ أيضًا، وقد عبر عن الرجل ب(الصلب)؛ لأنه مظهر الصلابة وعبّر عن المرأة ب(الترائب)؛ لأنها مظهر الرقة واللطافة. وعلى كلِّ حالٍ فالآيةُ بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان.

وإنَّ القرآن عبَّر عنهما ب(ماء)؛ لأنهما سيختلطان ليكوِّنا ماءً واحدًا؛ نتيجةَ تلقيح الحيمن للبويضة، وهو الأمشاج في قوله(عزّ و جلّ): (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)(2).

فائدة تربوية:

تشتمل هذه الآية على فائدةٍ تربويةٍ وهي: أنَّ الإنسان إذا التفت إلى حقيقته بأنَّ

ص: 209


1- الطارق: 5 – 7.
2- الإنسان: 2.

بدايته من ماءٍ قذر يستقذره الإنسان، وهو علاوةً على ذلك متناهي في الصغر لا يُرى بالعين المجردة، قال إلكسيس كارل: «حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج فإنه يكون حليبي اللون - وبحجم 3 سم3، يوجد في كل سنتيمتر مكعب منه من 100 إلى 200 مليون حيمن».(1)

أي إنه ومن أصل ثلاث مئة إلى ستة مئة مليون حيمن فإن حيمنًا واحدًا يُلقح البويضة، فهو في بدايته حقير جدًا قذر جدًا، فيتكون ذلك الإنسان المتكبر، الذي ربما يتعالى ويتكبر حتى على الله(عزّ و جلّ)!

ولو أدرك الإنسان حقيقة أصله وبداية منشئه لتأدب وتواضع ولما فكّر بأن يتكبر يومًا، روي عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنّه يقول في أحد أدعيته: «اللهم وإنّك من الضعف خلقتنا وعلى الوهن بنيتنا ومن مهينٍ ابتدأتنا، فلا حول لنا إلا بقوتك ولا قوة لنا إلا بقوتك ولا قوة لنا إلا بعونك»(2).

وقد ورد أيضًا في روايةٍ عن الإمام الصادق(صلوات الله وسلامه عليه) أنّه وقع بين سلمان المحمدي رحمة الله عليه وبين رجلٍ خصومة، فقال الرجل لسلمان: من أنت وما أنت؟ فقال سلمان: «أما أولي وأولك فنطفةٌ قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفةٌ منتنةٌ، فإذا كان يوم القيامة ونُصِبتِ الموازين فمن ثَقُلت موازينه فهو الكريم ومن خفّت موازينه فهو اللئيم»(3).

وفي الحديث المشهور لأمير المؤمنين (علیه السّلام): «عجبتُ لابن آدم أوله نطفة وآخره جيفة وهو قائمٌ بينهما وعاء للغائط ثم يتكبر».(4)

ص: 210


1- الإنسان ذلك المجهول، نقله شيخ محمد تقي فلسفي في كتابه (الطفل بين الوراثة والتربية) ج1 ص 84.
2- الصحيفة السجادية، الدعاء التاسع.
3- كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، الجزء4، ص404.
4- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 275 و 276 ب184 ح2.

فإذا وضع الإنسان كل ذلك نصب عينيه، تواضع لله(عزّ و جلّ) وما عُرف في خصاله تعالٍ ولا تكبر، وإذا ما أضاف إلى معرفته السابقة أنّ الله(عزّ و جلّ) قد كرّمه ورفعه من ذلك المستوى من الضعف والقذارة إلى أن يكون سيدًا لكلِّ المخلوقات«خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»(1)،

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، حمد الله (سبحانه و تعالی)وشكره بالطاعة والعبادة والسلوك.

الصفات الوراثية في النطفة:

من الأمور التي أدركها الإنسان ومنذ القدم أنَّ النطفة -على حجمها المتناهي في الصغر- لها القابلية على نقلِ الكثير من الخصائص والصفات من الوالدين إلى الجنين، حالها حال البذور من النباتات، إذ كلّ بذرةٍ تحمل في جوفها الصفات الوراثية للشجرة التي أخذت منها.

وهذه الحقيقة أيضًا موجودةٌ لدى الإنسان، فعند تطور العلوم وباكتشاف المجاهر الدقيقة توصلوا أخيرًا إلى أن منشأ الموجود الحي هي وحدة صغيرة جدًا تسمى (الخلية). وأن الانسان وبشكل معدل متكون من «عشرة ملايين مليار» وحدة حية صغيرة تسمى «الخلية».

كان أول من اكتشف الخلية ووضع لها تسمية، عالمٌ باسم «هوك» في القرن السابع عشر الميلادي. وطبعاً فإنه لم يكن يعلم يومذاك ما في بناء هذه الوحدة الصغيرة من تعقيد يبعث على الحيرة. ولكن العلماء الذين جاؤوا بعده واصلوا مساعيه وتوصلوا إلى أسرار نسرد فيما يلي جانباً من شهاداتهم:

1 يمكن تشبيه خلية مجهرية واحدة بمدينة فيها آلاف التأسيسات مجهزة بمنشآت

ص: 211


1- الجواهر السنية للحر العاملي ص 361.

ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، بحيث لا يمكن أن نقيس أعظم وأحدث الظواهر الصناعية للبشر بها.

2 تتكون هذه المدينة الصغيرة والصاخبة من ثلاثة أقسام:

أ جدار الخلية وهو بمثابة سور المدينة.

ب القسم الأوسط للخلية (السيتوبلازم).

ج النواة أو مركز القيادة.

إن السور المصنوع حول الخلية من اللطافة والظرافة بحيث لو وضعنا500 ألف من هذه الجدران إلى جانب بعضها فمن الصعب ان تساوي سمك ورقة اعتيادية! ومع هذا فهو حساس ومحكم قبال هجوم العوامل الخارجية إلى درجة أن سور الصين المعروف ليس شيئاً يذكر بالقياس إليه! وهذا السد الرقيق مصنوع بدوره من ثلاثة جدران أو من ثلاث طبقات اصطلاحاً، يتشكل طرفاه من الأنسجة البروتينية وأسفله مليءٌ بالدهنيات وهذه الدهنيات لا تسمح لشيء أبداً بالدخول داخل المدينة إلاّ بمفتاح رمزي،

وهذا المفتاح الرمزي هو: أن المواد التي تريد الدخول إلى المدينة يجب أن تتمكن من إذابة دهون الجدار فيها والنفوذ إلى الداخل، وهذا دليل يثبت أنها صديقة وليست من الأعداء، وبهذا فإن هذه المدينة محروسة بشدة من كل جانب بدون حاجة إلى حارس.

3- يوجد في داخل هذه المدينة (الخلية) قنوات كثيرة تمتد من الجدران إلى أطراف «النواة»، أي حصن قيادة الخلية، تأخذ المواد الغذائية وتحيلها إلى بروتينات.

واللطيف أنّ 23 نوعاً خاصاً من الأحماض تدخل هذه الخلية، والبروتين يتكون من تركيب عدة أنواع منها.

4- النواة الأصلية بمفردِها تمثل ناطحة سحاب مكوّنة من آلاف الطبقات بحيث

ص: 212

تكون ناطحات السحاب المعروفة في نيويورك منزلًا متواضعاً إلى جانبها.

للنواة الأصلية في الخلية وهي مقر القيادة تشكيلات معقدة: غشاء النواة، العصارة الداخلية، والحزمات الرفيعة حولها التي تتولى كل منها مهمّة خاصة.

5- العجيب أنّ في نواة الخلية وحدات صغيرة جدّاً وظريفة تسمى «الجينات» يصل عددها طبقاً لدراسات العلماء إلى حدود 25 ألف جين.

ليست «الجينات» هي الكل في الكل في أعمال الخلايا وحسب، بل إنّها تمسك بكل نشاطات الجسم، ومن أهمها التحكم بالأُمور الوراثية ونقل الصفات والخصائص إلى الخلايا اللاحقة، أي أنّ انتقال كل الصفات الوراثية عند البشر وسائر الحيوانات يتمّ عن طريق الجينات.

ولأنّ العمل الأساسي للجين يقع على عاتق الحامض الخاص في النواة، لذا يمكن تسميته بالعقل الإلكتروني أو كومبيوتر الجين.

والأعجب من هذا، أنّ نفس هذه الجينات متكونة من أجزاء أخرى تصل طبقاتها من 30 إلى 50 ألف حسب ما يعتقد العلماء.

ومختصر الكلام: أنّ هذه المدينة العظيمة بذلك السور العجيب وآلاف المنافذ والبوابات، وآلاف المعامل والمخازن وشبكة الأنابيب ومركز القيادة بتأسيساته الكثيرة وارتباطاته المتعددة والنشاطات الحياتية المتنوعة في تلك الحدود الصغيرة، من أعقد وأدهش مدن العالم، إذ إنّنا لو أردنا أن نصنع مؤسسات تقوم بنفس الأعمال (ولا نستطيع ذلك أبداً)، وجب علينا اقتطاع عشرات الآلاف من الهكتارات من الأرض لوضعها تحت اختيار هذه المؤسسات والأبنية المختلفة والأجهزة المعقدة لتكون جاهزة لمثل هذا البرنامج، لكن المدهش أنّ نظام الخلق قد ضغط كل هذا في مساحة تعادل 15

ص: 213

مليون مليمتر!

أجل، في خلقة الإنسان آلاف آلاف من الآيات والعلامات الإلهيّة: «الْعَظَمَةُ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ».(1)

وقد سبق الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) العلم والعلماء بالإشارة إلى قانون الوراثة، حيث ذكر هذه الجينات في أحاديثه (صلّی الله علیه و آله) معبرًا عنها ب-(العرق): تزوجوا في الحجز(2)

الصالح، فإن العرق دساس.(3)

وهذا العرق هو الذي يأتي من المرأة فينقل الصفات الوراثية إلى أولادكم.

هذا هو مجمل عالم الأصلاب العالم الذي مرَّ به الإنسان من صلب أبيه بعمليةٍ ميكانيكية مُعقدة تنتقل إلى جسم المرأة، فتتكون الخلية الأولى لوجود الإنسان، فهو بداية لنقلةٍ ما قبل الأخيرة لوجود الإنسان في عالم الدنيا وفيها التأثير على الصفات التي سيكون عليها الولد في المستقبل؛ لذلك فقد أكدت التعليمات التربوية على أنْ يختار كلٌّ من الزوجين الطرف الآخر المناسب لولده، فيختار الرجل المرأة المناسبة لتكون أمًا صالحةً لولده، وكذلك المرأة تختار الرجل المناسب ليكون أبًا صالحًا لولدها. فالاختيار للطرفين، وإلا فقد يُؤدي إلى خللٍ في تكوين الأسرة، قد لا يُعاني من آثاره الطرف المخطئ في الاختيار فقط بل يشمل الأبناء أيضًا.

ص: 214


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج2 ص51 – 53.
2- الحجز بالكسر والضم -: العشيرة. العفيف. الطاهر. [هامش مكارم الأخلاق]
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج16 ص 2696 ح 44559 ونقله مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي ص 197عن الإمام الصادق (علیه السّلام).

العالم الثالث: عالم الأرحام

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِين* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾.(1)

الكلامُ في هذا العالم طويل، وفيه كثيرٌ من الحقوق للجنين والأم، وأمورٌ تربوية أيضًا، ولكن سنكتفي بالتعرض إلى ما أشارت إليه الآية المتقدمة الذكر، لذا سنتعرض على المعنى العام لهذه الآيات لنتعرف ما يجري على الإنسان في ذلك العالم.

تتحدث هذه الآيات عن خلق الإنسان، إذ خُلِقَ من طين ﴿مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾، وهذا الأمر واضحٌ دينياً، فقد روي عن النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال لأمير المؤمنين (علیه السّلام): «يا علي: إن الله تبارك وتعالى قد اذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم».(2)

وفي هذا إشارة إلى تساوي جميع الناس من حيث الجنس البشري، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى.

هذا من حيث الأصل الذي لا يختلف عليه اثنان من بني البشر.

ثم تبدأ رحلة الإنسان من هذا الأصل، حيث يكون نطفةً في عالمِ الأصلاب،

ص: 215


1- المؤمنون 12- 14
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 363 من حديث 5762.

فتنتقل تلك النطفة لتستقر في رحمِ الأمِّ، ذلك القرار الآمن الذي عبّر عنه القرآن الكريم ب(القرار المكين). وبعد أنْ تنتقل النطفة إلى رحم المرأة تمرُّ بمراحلَ خمسةٍ متتالية أشارت إليها الآيات موضوع البحث. ولهذه المراحل مدخليةٌ في تغيُّر الأحكامٌ الجزائية المترتبة على الاعتداء على الجنين فيها، فحكم الاعتداء على الجنين سواء كان عمدًا أو خطأً يختلف باختلاف المرحلة التي هو فيها.

فمنذ اللحظة الأولى التي تنعقد فيها النطفة مع بويضة المرأة، يصير لتلك البويضة المخصبة حقٌ في الإسلام، وحقها الأول هي الحياة، فلا يُسمح لأيِّ أحدٍ أنْ يعتدي عليها وإن كان الأب أو الأم؛ ولذا فإنَّ الفقهاء يذكرون أنَّ بعض الوسائل التي تستعملها المرأة لمنع الحمل إذا كان يمنع التخصيب فلا بأس بها، وأما إذا كان يقتل البويضة بعد تخصيبها فيحرم استعمالها حينئذٍ.

وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:

حيث تتبدل النطفة إلى دمٍ مُتخثرٍ في داخله كثيرٌ من العروق.

المرحلة الثانية: المضغة:

حيثُ يصبح هذا الدم المتخثر على شكلِ قطعةِ لحم.

المرحلة الثالثة: مرحلة العظام:

حيثُ تتبدل كلَّ الخلايا اللحمية إلى خلايا عظمية.

المرحلة الرابعة: مرحلة تغطية العظام باللحم:

حيثُ تُغطي العضلاتُ العظام ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً﴾.

ص: 216

المرحلة الخامسة: مرحلة بث الروح:

وهنا يتغير سياق الآية من (الفاء) الدالة على الترتيب مع التعقيب، إلى (ثم) الدالة على الترتيب مع التراخي، قال(عزّ و جلّ): ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ﴾، وذلك لدخول الجنين في مرحلةٍ جديدةٍ من تكوينه، فإلى ما قبل هذه المرحلة (أي المراحل الأربعة الأولى) كان تكوينه من الناحية المادية، أما بعد ذلك فيدخل في خلقٍ جديدٍ أي غير ذلك الخلق المادي، وهو بثُّ الروح، وعند دخول الروح إلى هذا الجسم يدخل الجنين إلى الحياة الإنسانية ويبدأ بالحسِّ والحركةِ ويضعُ قدمه الأولى في عالمِ الحيوانات عمومًا والبشر خصوصًا. وقد روي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) في تفسير هذه الآية: ﴿فَهُوَ نَفخُ الرّوحِ فيهِ﴾.(1)

ففي هذه المرحلة يتحول الجنين من شبه الحياة النباتية المتمثلة بالنمو فقط من دون إحساس، إلى عالم وحياة الحيوان من حيثُ الإحساس والحركة؛ لذلك ففي هذه المرحلة يُعدُّ الجنين إنسانًا كاملًا من حيث الأحكام الجزائية في الإسلام، فاذا اُعتُديَ عليه فله ديةُ إنسانٍ كاملٍ، شأنه شأن رجلٍ عمره خمسون سنة.

وبعد هذه المراحل يأتي وصف جميل جدًا ﴿فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ﴾، فهذا التكون للإنسان من الجانب المادي الذي أساسه الطين حيثُ ينمو نموًا نباتيًا، ثم تُبثُّ فيه الروح، فهذه المراحل لا يمكن لأحد أنْ يقوم بها سوى الله(عزّ و جلّ)؛ لأن لا يمكن لسواه (سبحانه و تعالی)أنْ يخلق من العدم شيئًا موجودًا، ومن الشيء القذر ذلك الإنسان العظيم.

وأما غيره(عزّ و جلّ) فليس خالقًا، إنما لا يقوى إلا على صنع ما توفرت مواده الأولية، ويغير من أشياءٍ موجودةٍ بالفعل.

ص: 217


1- تفسير القمي ج2 ص 91.

ص: 218

العالم الرابع: عالمُ الدنيا

نبحث في هذا العالم من خلال قوله(عزّ و جلّ): ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.(1)

وفيه يتحدد مصير الإنسان الدائمي؛ لأنه العالم الوحيد الذي يُفعِّل الإنسانُ اختياره بتمام إرادته، ففي عالمي الأصلاب والأرحام ليس للإنسان أنْ يختار والديه، على حين يمكنه في عالم الدنيا أنْ يصنع مصيره بيده؛ ولذا كان تكليفُ الإنسان بالأحكام الأصولية والفقهية والسلوكية في هذا العالم دون سواه من العوالم، فيحاسب الإنسان على ما اكتسبه في هذا العالم، ومصيره يحدده عمله الاختياري في هذه الدنيا؛ لذا روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا تسبوا الدنيا، فنعمت مطية المؤمن، فعليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إنه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه».(2)

فأخذ الشريف الرضي بهذا المعنى فنظمه بيتاً:

يقولون الزمان به فساد *** فهم فسدوا وما فسد الزمان.(3)

وفي حديثٍ آخر لأمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد سمع رجلًا يذمُّ الدنيا من غير معرفة فقال (علیه السّلام): «أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، الْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا، أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ، مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ،

ص: 219


1- سورة النحل: آية [78]
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج4 ص 178.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج4 ص 178.

أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى، كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ، تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ وتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الأَطِبَّاءَ، غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ ولَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ ولَمْ تُسْعَفْ فِيه بِطَلِبَتِكَ، ولَمْ تَدْفَعْ عَنْه بِقُوَّتِكَ، وقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِه الدُّنْيَا نَفْسَكَ وبِمَصْرَعِه مَصْرَعَكَ، إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، ودَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، ودَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، ودَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ الله ومُصَلَّى مَلَائِكَةِ الله، ومَهْبِطُ وَحْيِ الله ومَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ الله، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ ورَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا ونَادَتْ بِفِرَاقِهَا، ونَعَتْ نَفْسَهَا وأَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ، وشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ، تَرْغِيباً وتَرْهِيباً وتَخْوِيفاً وتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا وحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، ووَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا».(1)

وهناك العديد من اللفتات في الآية الكريمة نذكرها من خلال التالي:

أولاً: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.

وفيها عدة إشارات:

1/عليك أنْ تعلم أنّ الذي أخرجك إلى الدنيا لم يستأذنك في ذلك، فأنت بغير إرادةٍ منك دخلت إليها، وكما دخلت إليها بغير إرادتك، فهكذا ستخرج منها بغير إرادتك ﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(2)،

فالإرادةُ منحصرةٌ بين الدخول والخروج فقط، وعلى الإنسان أنْ يتفطن ويستثمر هذه الفرصة أفضل استثمار.

2/إنَّ ساعة ولحظة الخروج إلى الدنيا هي بيدِ الله(عزّ و جلّ)، وحتى الأجهزة الحديثة كُلُّ ما تعطيه لا يعدو أن يكون مجرد تخميناتٍ وتقريباتٍ، فعلينا أنْ نلتفت إلى هذه القضية

ص: 220


1- نهج البلاغة ج4 ص 31و 32.
2- الزمر 42.

ونلجأ له في هذا المجال.

3/أكّد الله (سبحانه و تعالی)على أهمية لحظة الولادة ﴿مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ والخروج إلى الدنيا؛ إذ لولا تسهيله(عزّ و جلّ) فإنّه أمرٌ عسير، وهذا الأمر لا تدركه إلا المرأة، لذلك هذه اللحظات التي تلد فيها المرأة ولدها يترتب على أثرها حق في عنق الولد لا يوفيه لأمه مهما صنع.

ثانياً: ﴿مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾:

على الرغم من أنَّ الخروج من بطن الأمهات أمرٌ بديهي، إلا أنَّ القرآن الكريم يذكره، ومن المعلوم أنَّه لا يذكر إلا ما فيه حكمة، ولعل ذكره لذلك لأجل بيان أهمية دورِ الأمِّ والتأكيد على عظمةِ حرمتها بالنسبة للولد؛ لعظم مقدار تضحيتها قياسًا بتضحية الأب، وإنْ كان الأب سببَ وجوده أيضًا.

فالولد لا يأخذ من والده في تكوينه إلا النطفة، وحجمها بالنسبة الى البويضة صغيرٌ جدًا، ومن ثم تبدأ تلك البويضة المخصبة رحلتها على مدى تسعة أشهر تقريبًا، يتغذى الجنين خلالها من الأم، حيثُ تزوِّد الجنين بكلِّ ما يبني جسمه، وإنْ لم يكن لديها خزين، فإنّها تضحي ببعض ما يبني عظامها وجسمها ليكتمل نموه، بالإضافة إلى ما تقدّمه الأم للجنين فإنّها تتحمل أيضًا ما يطرحه في داخلها من سموم تكوينه وفضلاته.

ولأن البويضة لم تكن لتُخصّب لولا ذلك الجسم الغريب (النطفة)، وحيث إنّ جسم الأم -كأيِّ إنسان- مجهزٌ بجهازٍ مناعي يرفض أيَّ جسمٍ غريب؛ فإنّ الأم منذُ بدايةِ الحمل وحتى الوضع تعاني من أعراضٍ جانبية وتتوعك، ولكن الله(عزّ و جلّ) يُحافظ على هذا الجسم الغريب فيجعله في ﴿قَرَارٍ مَكِيْنٍ﴾ فتتحمل الأم كل تلك الصعاب وهي مستبشرة وفرحة.

فإذا ما اكتملت رحلة تكوينه وآن له أنْ ينتقل إلى عالم الدنيا، فإنّه يُعرِّض الأم إلى

ص: 221

ثاني أقوى ألم بعد الحرق حيًا، وهو ألم الولادة والمخاض.

وما إنْ تلتقط أنفاسها بعد ذلك الألم حتى تلج في سلسلةٍ من العناء والإجهاد، من حيث الإرضاع والسهر، ورعاية الأطفال، وتربيتهم.

ومن الجدير بالذكر: أنَّ هذه الظروف التي تمرُّ بها المرأة لم تكن لتنجح فيها لولا وجود دافعٍ قوي يحملُها على تحمل الروائح الكريهة، ومغادرة الفراش الدافئ وهي بأمس الحاجة إلى النوم لترضع وليدها بل وتناغيه وتلاعبه، وما شاكل ذلك، وما ذلك الدافع إلا غريزة الأمومة، وغزارة عاطفتها، وطغيان حنانها.

ولذا شاءت حكمة الله(عزّ و جلّ) أن تكون المرأة أكثر عاطفةً وأوفر حنانًا من الرجل، لتؤدي هذا الدور العظيم، الذي ما ذكره القرآن إلا للتأكيد على أهميته وعظمته، وللتذكير بقيمة الأم وجسامة تضحياتها، ولفت نظر الولد ليبرها حق برها، وزوجها ليراعيها كما تستحق.

ثالثاً: ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾:

هذه الكلمة فيها عدة إشارات:

1/يولد الإنسان وليس عنده أيّ علمٍ سوى بعض العلوم الفطرية التي تولد معه، مما غرزه الله (سبحانه و تعالی)فيه لتستمر حياته، مثل: حبه لأبويه وهدايته للطريقة السليمة للرضاعة وبكائه عند الجوع وما شابه هذا العلوم، وهي ما تُسمى ب-(الهداية الفطرية) التي يشترك بها مع سائر الحيوانات الأخرى، إلا أنّه سرعان ما يغادر هذه المرحلة ليلتحق بمرحلةٍ أعلى حيث يكون مستعداً لاكتساب مختلف العلوم والمهارات عن طريق أدوات المعرفة التي جُهِّزَ بها، والتي سيأتي الحديث عنها لاحقًا.

2/قد يسأل سائل: لماذا لم يخرجنا الله(عزّ و جلّ) من بطون أمهاتنا علماءَ، فإنه(عزّ و جلّ) على

ص: 222

كلِّ شيءٍ قدير؟

الجواب:

إنَّ في ذلك حكمة، وقد أشارت إلى هذه الحكمة بعض الروايات، فلو كان الطفل من البداية صاحب علمٍ وإدراكٍ، عندئذٍ سيتألم كثيرًا وسيشعر بالذلة والمهانة؛ لأنّه لا يستطيع أنْ يأكل لقمةً إلا إذا أطعمه غيره، ولا يستطيع أنْ يُنظف نفسه، بل حتى لا يستطيع أنْ يتحرك إلا بواسطةِ أحدٍ، فهو عاجزٌ تمامًا، كله كَلٌّ على غيره.

وإذا أردنا أنْ نقرب الصورة أكثر، فلنتصور أنّ انسانًا كبيرًا جدًا بالعمر بحيث يكون طريح الفراش وله إدراكٌ وعقلٌ كاملٌ، ويرى من حوله من يُطعمه ويُنظفه، فهذا الإنسان سيشعرُ بالألم، وقد يدعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يعجِّل بوفاته؛ لأنّه يشعر بالذل والحاجة. وكذا لو كان ذلك العاجز في زهرة شبابه وقد أصابه مرضٌ ما أقعده، ولا يقوى على القيام بأموره لوحده فيخدمه غيره، فإذا أحسَّ بأنّ المقابل يخدمه مجبرًا على ذلك فإنّه قد يتمنى الموت.

وأما الطفل، فحيثُ إنّه ليس لديه هذا الإحساس، فهو يبتسم ويضحك، ولا يشعر بشيء من الألم أو الحزن، وهذه إحدى الحكم ولعلها ليست العلة الحقيقية، ولكن هذا ما استفدناه من بعض الروايات، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال للمفضل بن عمر:« فَإِنَّهُ لَو كانَ يولَدُ تامَّ العَقلِ مُستَقِلاّ بِنَفسِهِ لَذَهَبَ مَوضِعُ حَلاوَةِ تَربِيَةِ الأَولادِ، وما قَدَرَ أن يَكونَ لِلوالِدَينِ فِي الاِشتِغالِ بِالوَلَدِ مِنَ المَصلَحَةِ وما يوجِبُ التَّربِيَةَ لِلآباءِ عَلَى الأَبناءِ مِنَ المُكَلَّفاتِ بِالبِرِّ وَالعَطفِ عَلَيهِم عِندَ حاجَتِهِم إِلى ذلِكَ مِنهُم، ثُمَّ كانَ الأَولادُ لا يَألَفونَ آباءَهُم، ولا يَألَفُ الآباءُ أَبناءَهُم ؛ لاَِنَّ الأَولادَ كانوا يَستَغنونَ عَن تَربِيَةِ الآباءِ وحِياطَتِهِم فَيَتَفَرَّقونَ عَنهُم حينَ يولدونَ، فَلا يَعرِفُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّهُ ولا يَمتَنِعُ مِن نِكاحِ أُمِّهِ وأُختِهِ وذَواتِ المَحارِمِ مِنهُ إِذا كانَ لا يَعرِفُهُنَّ، وأَقَلُّ ما في ذلِكَ مِنَ

ص: 223

القَباحَةِ، بَل هُوَ أَشنَعُ وأَعظَمُ وأَفظَعُ وأَقبَحُ وأَبشَعُ لَو خَرَجَ المَولودُ مِن بَطنِ أُمِّهِ وهُوَ يَعقِلُ أن يَرى مِنها ما لا يَحِلُّ لَهُ ولا يَحسُنُ بِهِ أن يَراهُ. أفَلا تَرى كَيفَ أُقيمَ كُلُّ شَيء مِنَ الخِلقَةِ عَلى غايَةِ الصَّوابِ وخَلا مِنَ الخَطَاَ دَقيقُهُ وجَليلُهُ﴾.(1)

وبالنتيجة، هناك حكمٌ كثيرةٌ في خلق الإنسان من دون علوم.

3/كون الإنسان مولودًا بلا علم فعلي يعني أنَّ هناك مسؤوليةً عظيمةً على الأبوين في أنْ يُعلِّماه ما ينفعه، فمُهمةُ التربية تلقى أولًا على الأبوين، لذلك فقد روي عن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ما من مولود يُولَد إلَّا علىٰ الفطرة، فأبواه اللذان يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه...»(2).

رابعاً: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ﴾.

وهذه تمثل الآلات العلمية التي زود الله(عزّ و جلّ) بها الإنسان، وهي على نوعين:

الأول: آلات العلوم الظاهرية والتجريبية:

وهي السمع والبصر، فبهما يكتسبُ الإنسان العلوم الظاهرية والتجريبية. ولقد وضعت الشريعة المقدسة حقوقًا للسمع والبصر على الإنسان أن يؤديها إليهما، وليس هذا محل ذكرها.

الثاني: آلة العلم الباطني:

وهي القلب أو العقل أو الإدراك أو الفؤاد.

وهي تلك القوة التي بها تميّز الإنسان عن الحيوان، ففي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السّلام): قَالَ «لَمَّا خَلَقَ الله الْعَقْلَ قَالَ لَه: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَه: أَدْبِرْ. فَأَدْبَرَ. فَقَالَ:

ص: 224


1- التوحيد للمفضل بن عمر الجعفي ص 15.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق 2: 49/ ح 1668.

وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ، إِيَّاكَ آمُرُ وإِيَّاكَ أَنْهَى، وإِيَّاكَ أُثِيبُ وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ».(1)

وللعقل في حياة الإنسان دورٌ كبيرٌ جدًا:

أ/بالعقل صارت عنده قدرة التفكر التي يصل من خلالها إلى العلم بالمجهولات.

ب/قدرة الابتكار التي يحلُّ بها المشاكل غير المتوقعة أو حتى المتوقعة كالزلازل، فلقد تمكن من صنع مصداتٍ لها، وللجفاف صنع السدود والبحيرات لحل هذه المشاكل وهكذا.

ج/الذاكرةُ لدى الإنسان والتي لولاها لما استطاع أنْ يعيش في هذه الحياة.

د/ قدرة التحليل والاستنتاج، فهو يحلل القضايا ويستنتج من التجارب.

ه-/قدرة التخيُّل، حيثُ يتخيّل صورًا جديدةً ويوجدها في الخارج كما هو عمل المهندس، وعمل أكثر المخترعين الذين ما كانوا ليخترعوا طائرةً ولا هاتفًا ولا مركبةً فضائية ولا... لولا قدرة عقولهم على التخيُّل.

و/الإرادة والتصميم التي لدى الإنسان والتي أساسها والدافع إليها العقل.

خامساً: ﴿لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾:

كثيرًا ما يُذكِّر القرآن الكريم الإنسان بالشكر بعد ذكره لنعم الله(عزّ و جلّ) الجزيلة ومننه التي لا تُحصى؛ ليؤدي حقها من الشكر.

وهل هناك نعمٌ أجلى مما ذكرتها الآية المباركة بعد نعمة الإيمان؟!

فلا بُدَّ للإنسان أن يسعى إلى شكره (سبحانه و تعالی)قلبًا وقولًا وفعلًا؛ ليزيده الله(عزّ و جلّ) نعمًا،

ص: 225


1- الكافي للكليني ج1 ص 26 كتاب العقل والجهل ح 26.

قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(1)

ومن الواضح جدًا أنَّ المؤمن لا يستطيع أنْ يؤدي ما عليه من حقوق لله(عزّ و جلّ)؛ لأنها تفوق حدّ الإحصاء قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾.(2)

وخير من بيّن هذا المعنى هو الإمام زين العابدين (علیه السّلام) إذ يقول: «أَفَبِلِسانِي هذا الكالِّ أَشْكُرُكَ أَمْ بِغايَةِ جُهْدِي فِي عَمَلِي أُرْضِيكَ وَما قَدْرُ لِسانِي يا رَبِّ فِي جَنْبِ شُكْرِكَ وَما قَدْرُ عَمَلِي فِي جَنْبِ نِعَمِكَ وَإِحْسانِكَ».(3)

وفي مناجاةٍ له (علیه السّلام) يقول هذه الجملة العجيبة: «فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ وَشُكْرِي إِيَّاكَ يَفْتَقِرُ إِلىٰ شُكْرٍ؟! فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الحَمْدُ...»(4).

ما أروعه من تعبيرٍ وما أصدقه!

إنَّ نعمة الحمد تحتاجُ إلى حمدٍ وهكذا تتولد من هذا الحمد نعمةٌ أخرى تحتاج إلى حمد، وهكذا دواليك...

والخلاصة:

أنّ عالم الدنيا هي مرحلةٌ انتقالية من عالمِ الأرحام إلى عالم البرزخ والموت، وفيه تتوفر الفرصة الوحيدة للإنسان في أنْ يحدد مصيره بإرادته واختياره.

ص: 226


1- سورة إبراهيم: آية [7].
2- إبراهيم 34.
3- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 591 من دعاء أبي حمزة الثمالي.
4- الصحيفة السجّادية (أبطحي): 410.

العالم الخامس: عالم البرزخ

المحور الأول: الاحتضار.

النقطة الأولى: سبب التسمية.
السبب الأول:

ويسمى أيضًا ب(عالم الموت)، وهو العالم ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة (المعاد) وفيه نتعرض إلى ثلاثة محاور، وهي:

المحور الأول: الاحتضار.

وهو أول المنازل التي يمرُّ بها الإنسان عند الموت، وتعبر عنه الروايات بأنه آخر يومٍ من أيام الدنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة، وتشير إليه بعض الآيات القرآنية منها قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾(1)،

ولنتعرف على هذا المنزل والعالم نتعرض إلى عدة نقاط:

النقطة الأولى: سبب التسمية.

الاحتضار هو لحظة نزع الروح، وأما سبب تسميته بهذا الاسم فقد ذكروا عدة آراء ليست متنافية، فهي ليست على نحو مانعة الجمع وإنّما يمكن قبولها كلها، وهي التالي:

السبب الول :

لحضور الملائكة من جانبٍ والشياطين من جانبٍ آخر عند الإنسان المُحتضر، فالملائكةُ تريد أن تثبت الإنسان على الإيمان لينتقل إلى عالم البرزخ وآخرُ كلمةٍ ينطقها هي كلمة (لا إله إلا الله)؛ فمن كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة، ولذا روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال: «لقِّنوا موتاكم (لا إله إلا الله) فإن من كان آخر كلامه (لا إله

ص: 227


1- سورة المؤمنون: آية 97 و 98.

إلا الله) دخل الجنة».(1)

وأما الشياطين فهي تحاول قدر إمكانها أنْ يموت الإنسان على غير التوحيد فتُغويه ليخرج من الدنيا كافرًا؛ فقد روي عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ:« مَا مِنْ أَحَدٍ يَحْضُرُه الْمَوْتُ إِلَّا وَكَّلَ بِه إِبْلِيسُ مِنْ شَيْطَانِه، أَنْ يَأْمُرَه بِالْكُفْرِ ويُشَكِّكَه فِي دِينِه، حَتَّى تَخْرُجَ نَفْسُه، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْه، فَإِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ، فَلَقِّنُوهُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُه (صلّی الله علیه و آله)، حَتَّى يَمُوتَ».(2)

لذا ورد في أدبياتنا أنَّ هناك بعض الأدعية والأعمال تنفع في التثبت على الدين لحظة نزع الروح مثل دعاء (العديلة).

والعديلة: هي عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل لحظةَ نزعِ الروح، وسُميّ الدعاء الذي يُقرأ لدفع ذلك العدول عن الإنسان بهذا الاسم. وفيه يستعرض الداعي عقائده الحقّة، ويؤمنها عند الله(عزّ و جلّ) ليُرجعها(عزّ و جلّ) إليه ساعة نزع الروح. وكذلك ورد في الروايات أنَّ تسبيح الزهراء(علیها السّلام) من الأمور التي تنفع في تثبيت الدين ساعة الاحتضار.

«وقال في المستدرك: قال فخر المحققين في آخر رسالته المسماة بإرشاد المسترشدين في أصول الدين: ولنختم رسالتنا هذه بمسألة مباركة، وهي أن العديلة عند الموت تقع، فإنه يجئ الشيطان ويعدل الإنسان عند الموت ليخرجه عن الإيمان فيحصل له عقاب النيران، وفي الدعاء قد تعوذ الأئمة (علیهم السّلام) منها، فإذا أراد الإنسان أن يسلم من هذه الأشياء فليستحضر أدلة الإيمان والأصول الخمس بالأدلة القطعية، ويصفي خاطره ويقول: اللهم يا أرحم الراحمين، إني قد أودعتك يقيني هذا وثبات ديني، وأنت خير مستودع، وقد أمرتنا بحفظ الودائع، فردّه علي وقت حضور موتي، ثم يخزي الشيطان

ص: 228


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 195.
2- الكافي للكليني ج3 ص 123 بَابُ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ ح6.

ويتعوذ منه بالرحمن، ويودع ذلك الله تعالى، ويسأله أن يرده عليه وقت حضور موته وعند ذلك يسلم من العديلة عند الموت قطعاً».(1)

وعن أبي عاصم يوسف عن محمد بن سليمان الديلمي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السّلام) فقلت له: جُعِلتُ فِداكَ، إنَّ شيعَتَكَ تَقولُ: إنَّ الإِيمانَ مُستَقَرٌّ ومُستَودَعٌ، فَعَلِّمني شَيئًا إذا أنا قُلتُهُ استَكمَلتُ الإِيمانَ.

فقال (علیه السّلام): «قُل في دُبُرِ كُلِّ صَلاةِ فَريضَة: رَضيتُ بِاللهِ رَبًّا، وبِمُحَمَّد نَبيًّا، وبِالإِسلامِ دينًا، وبِالقُرآنِ كِتابًا، وبِالكَعبَةِ قِبلَةً، وبِعَليٍّ وَليًّا وإمامًا، وبَالحَسَنِ والحُسَينِ والأَئِمَّةِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِم، اللّهُمَّ إنّي رَضيتُ بِهِم أئِمَّةً، فَارضِني لَهُم، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ».(2)

ومن الأمور النافعة لدفع العديلة(3)

هي الصلاة في وقتها، إذ روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِه وهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِه فَقَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، ارْفُقْ بِصَاحِبِي، فَإِنَّه مُؤْمِنٌ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، واعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، أَنِّي أَقْبِضُ رُوحَ ابْنِ آدَمَ فَيَجْزَعُ أَهْلُه، فَأَقُومُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ دَارِهِمْ فَأَقُولُ: مَا هَذَا الْجَزَعُ فَوَالله مَا تَعَجَّلْنَاه قَبْلَ أَجَلِه، ومَا كَانَ لَنَا فِي قَبْضِه مِنْ ذَنْبٍ، فَإِنْ تَحْتَسِبُوا وتَصْبِرُوا تُؤْجَرُوا، وإِنْ تَجْزَعُوا تَأْثَمُوا وتُوزَرُوا، واعْلَمُوا أَنَّ لَنَا فِيكُمْ عَوْدَةً، ثُمَّ عَوْدَةً، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، إِنَّه لَيْسَ فِي شَرْقِهَا ولَا فِي غَرْبِهَا أَهْلُ بَيْتِ مَدَرٍ ولَا وَبَرٍ إِلَّا وأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، ولأَنَا أَعْلَمُ بِصَغِيرِهِمْ وكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، ولَوْ أَرَدْتُ قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي رَبِّي بِهَا.

ص: 229


1- مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي ج7 ص 122
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج2 ص 109 ح 412 / 180.
3- ذكر الشيخ عباس القمي(قدّس سرّه) في كتابه (منازل الآخرة: العقبة الثانية: العديلة عند الموت) العديد من الأمور النافعة في هذا المجال.

فَقَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): إِنَّمَا يَتَصَفَّحُهُمْ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا عِنْدَ مَوَاقِيتِهَا، لَقَّنَه شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) ونَحَّى عَنْه مَلَكُ الْمَوْتِ إِبْلِيسَ».(1)

السبب الثاني:

لحضور النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام) ومعهم ملائكة الله العظام ومنهم جبرائيل (علیه السّلام) عند المحتضر، نسأل الله(عزّ و جلّ) حضورهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة إن شاء الله(عزّ و جلّ)، وعندئذٍ سيأتمر الملائكة بأوامر النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) التي سيصدرها لهم حسب عقيدة المحتضر.

روي عن أبي عَبْدِ الله (علیه السّلام) أنه قال:

«مِنْكُمْ والله يُقْبَلُ، ولَكُمْ والله يُغْفَرُ، إِنَّه لَيْسَ بَيْنَ أَحَدِكُمْ وبَيْنَ أَنْ يَغْتَبِطَ ويَرَى السُّرُورَ وقُرَّةَ الْعَيْنِ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُه هَاهُنَا -وأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه- ثُمَّ قَالَ (علیه السّلام):

إِنَّه إِذَا كَانَ ذَلِكَ واحْتُضِرَ حَضَرَه رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٌّ (علیه السّلام) وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ (علیه السّلام) فَيَدْنُو مِنْه عَلِيٌّ (علیه السّلام) فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَحِبَّه، ويَقُولُ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَحِبَّه، ويَقُولُ جَبْرَئِيلُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ3: إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه، فَأَحِبَّه وارْفُقْ بِه، فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رَقَبَتِكَ أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ، تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟

قَالَ: فَيُوَفِّقُه الله(عزّ و جلّ) فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: ومَا ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السّلام). فَيَقُولُ: صَدَقْتَ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه، فَقَدْ آمَنَكَ الله مِنْه، وأَمَّا الَّذِي كُنْتَ

ص: 230


1- الكافي للكليني ج3 ص 136 بَابُ إِخْرَاجِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ والْكَافِرِ ج2.

تَرْجُوه فَقَدْ أَدْرَكْتَه، أَبْشِرْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، مُرَافَقَةِ رَسُولِ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٍّ وفَاطِمَةَ3، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ رَفِيقاً، ثُمَّ يَنْزِلُ بِكَفَنِه مِنَ الْجَنَّةِ وحَنُوطِه مِنَ الْجَنَّةِ بِمِسْكٍ أَذْفَرَ، فَيُكَفَّنُ بِذَلِكَ الْكَفَنِ ويُحَنَّطُ بِذَلِكَ الْحَنُوطِ، ثُمَّ يُكْسَى حُلَّةً صَفْرَاءَ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ رَوْحِهَا ورَيْحَانِهَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَه عَنْ أَمَامِه مَسِيرَةَ شَهْرٍ وعَنْ يَمِينِه وعَنْ يَسَارِه، ثُمَّ يُقَالُ لَه: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ عَلَى فِرَاشِهَا أَبْشِرْ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، ثُمَّ يَزُورُ آلَ مُحَمَّدٍ فِي جِنَانِ رَضْوَى، فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، ويَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ ويَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِذَا قَامَ قَائِمُنَا بَعَثَهُمُ الله فَأَقْبَلُوا مَعَه يُلَبُّونَ زُمَراً زُمَراً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ ويَضْمَحِلُّ الْمُحِلُّونَ، وقَلِيلٌ مَا يَكُونُونَ، هَلَكَتِ الْمَحَاضِيرُ، ونَجَا الْمُقَرَّبُونَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) لِعَلِيٍّ (علیه السّلام): أَنْتَ أَخِي ومِيعَادُ مَا بَيْنِي وبَيْنَكَ وَادِي السَّلَامِ.

قَالَ (علیه السّلام): وإِذَا احْتُضِرَ الْكَافِرُ، حَضَرَه رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله) وعَلِيٌّ (علیه السّلام) وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ (علیه السّلام) فَيَدْنُو مِنْه عَلِيٌّ (علیه السّلام) فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَأَبْغِضْه. ويَقُولُ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه. فَيَقُولُ جَبْرَئِيلُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ الله ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه واعْنُفْ عَلَيْه.

فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رِهَانِكَ أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ الله بِسَخَطِ الله(عزّ و جلّ) وعَذَابِه والنَّارِ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه فَقَدْ نَزَلَ بِكَ، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ عَنِيفاً، ثُمَّ يُوَكِّلُ بِرُوحِه ثَلَاثَمِائَةِ شَيْطَانٍ كُلُّهُمْ يَبْزُقُ فِي وَجْهِه، ويَتَأَذَّى بِرُوحِه، فَإِذَا وُضِعَ

ص: 231

فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ قَيْحِهَا ولَهَبِهَا».(1)

السبب الثالث:

لحضور وتمثُّل أهم الأشياء عند الإنسان يراها عندما ينكشف عنه الغطاء، وهي ثلاثة أشياء كما جاء في الروايات الشريفة (ماله وولده وعمله).

عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السّلام): «إِنَّ ابْنَ آدَمَ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ، مُثِّلَ لَه مَالُه ووَلَدُه وعَمَلُه، فَيَلْتَفِتُ إِلَى مَالِه فَيَقُولُ: والله إِنِّي كُنْتُ عَلَيْكَ حَرِيصاً شَحِيحاً، فَمَا لِي عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: خُذْ مِنِّي كَفَنَكَ.

قَالَ: فَيَلْتَفِتُ إِلَى وَلَدِه فَيَقُولُ: والله، إِنِّي كُنْتُ لَكُمْ مُحِبّاً، وإِنِّي كُنْتُ عَلَيْكُمْ مُحَامِياً، فَمَا ذَا لِي عِنْدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نُؤَدِّيكَ إِلَى حُفْرَتِكَ، نُوَارِيكَ فِيهَا.

قَالَ: فَيَلْتَفِتُ إِلَى عَمَلِه فَيَقُولُ: والله، إِنِّي كُنْتُ فِيكَ لَزَاهِداً، وإِنْ كُنْتَ عَلَيَّ لَثَقِيلاً، فَمَا ذَا عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا قَرِينُكَ فِي قَبْرِكَ، ويَوْمِ نَشْرِكَ، حَتَّى أُعْرَضَ أَنَا وأَنْتَ عَلَى رَبِّكَ.

قَالَ (علیه السّلام): فَإِنْ كَانَ لله وَلِيّاً أَتَاه أَطْيَبَ النَّاسِ رِيحاً، وأَحْسَنَهُمْ مَنْظَراً، وأَحْسَنَهُمْ رِيَاشاً فَقَالَ: أَبْشِرْ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ، ومَقْدَمُكَ خَيْرُ مَقْدَمٍ. فَيَقُولُ لَه: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، ارْتَحِلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْجَنَّةِ. وإِنَّه لَيَعْرِفُ غَاسِلَه، ويُنَاشِدُ حَامِلَه أَنْ يُعَجِّلَه.

فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَه أَتَاه مَلَكَا الْقَبْرِ يَجُرَّانِ أَشْعَارَهُمَا ويَخُدَّانِ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمَا، أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ، وأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، فَيَقُولَانِ لَه: مَنْ رَبُّكَ ومَا دِينُكَ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: الله رَبِّي ودِينِيَ الإِسْلَامُ ونَبِيِّي مُحَمَّدٌ (صلّی الله علیه و آله). فَيَقُولَانِ لَه: ثَبَّتَكَ الله فِيمَا تُحِبُّ وتَرْضَى. وهُوَ قَوْلُ الله(عزّ و جلّ): ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي

ص: 232


1- الكافي للكليني ج3 ص 132 بَابُ مَا يُعَايِنُ الْمُؤْمِنُ والْكَافِرُ ح4.

الآخِرَةِ﴾.(1)

ثُمَّ يَفْسَحَانِ لَه فِي قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، ثُمَّ يَفْتَحَانِ لَه بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ نَوْمَ الشَّابِّ النَّاعِمِ، فَإِنَّ الله(عزّ و جلّ) يَقُولُ: ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾.(2)

قَالَ (علیه السّلام): وإِنْ كَانَ لِرَبِّه عَدُوّاً، فَإِنَّه يَأْتِيه أَقْبَحَ مَنْ خَلَقَ الله زِيّاً ورُؤْيَا، وأَنْتَنُه رِيحاً، فَيَقُولُ لَه: أَبْشِرْ بِنُزُلٍ مِنْ حَمِيمٍ وتَصْلِيَةِ جَحِيمٍ، وإِنَّه لَيَعْرِفُ غَاسِلَه ويُنَاشِدُ حَمَلَتَه أَنْ يَحْبِسُوه، فَإِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ أَتَاه مُمْتَحِنَا الْقَبْرِ، فَأَلْقَيَا عَنْه أَكْفَانَه، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: مَنْ رَبُّكَ ومَا دِينُكَ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: لَا دَرَيْتَ ولَا هَدَيْتَ، فَيَضْرِبَانِ يَافُوخَه بِمِرْزَبَةٍ مَعَهُمَا ضَرْبَةً مَا خَلَقَ الله(عزّ و جلّ) مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وتَذْعَرُ لَهَا، مَا خَلَا الثَّقَلَيْنِ، ثُمَّ يَفْتَحَانِ لَه بَاباً إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقُولَانِ لَه: نَمْ بِشَرِّ حَالٍ فِيه مِنَ الضَّيْقِ مِثْلُ مَا فِيه الْقَنَا مِنَ الزُّجِّ، حَتَّى إِنَّ دِمَاغَه لَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ظُفُرِه ولَحْمِه، ويُسَلِّطُ الله عَلَيْه حَيَّاتِ الأَرْضِ وعَقَارِبَهَا وهَوَامَّهَا، فَتَنْهَشُه حَتَّى يَبْعَثَه الله مِنْ قَبْرِه، وإِنَّه لَيَتَمَنَّى قِيَامَ السَّاعَةِ فِيمَا هُوَ فِيه مِنَ الشَّرِّ».(3)

السبب الرابع:

لحضور المؤمنين وأحباب المحتضر عنده حين يموت، وفي ذلك ترويحٌ عن المحتضر وإنّ فيه إشعارًا لمحبةِ قلوب من يحضرون عنده، وهناك استحبابٌ في هذا المجال كما ورد في بعض الروايات.

فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السّلام) يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنَ إِخْوَانَه بِمَرَضِه فَيَعُودُونَه، فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ ويُؤْجَرُونَ فِيه. قَالَ: فَقِيلَ لَه: نَعَمْ، هُمْ

ص: 233


1- إبراهيم: 26
2- الفرقان: 26
3- الكافي للكليني ج3 ص 231 – 233 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُمَثَّلُ لَه مَالُه ووَلَدُه وعَمَلُه قَبْلَ مَوْتِه ح1.

يُؤْجَرُونَ بِمَمْشَاهُمْ إِلَيْه، فَكَيْفَ يُؤْجَرُ هُوَ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَقَالَ (علیه السّلام): بِاكْتِسَابِه لَهُمُ الْحَسَنَاتِ فَيُؤْجَرُ فِيهِمْ، فَيُكْتَبُ لَه بِذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، ويُرْفَعُ لَه عَشْرُ دَرَجَاتٍ، ويُمْحَى بِهَا عَنْه عَشْرُ سَيِّئَاتٍ».(1)

النقطة الثانية: الأمور التي يفعلهاالمحتضر؟

الشخص الذي علم من نفسه أنّ الموت قرب منه، أو وصل إلى مرحلة الاحتضار، أو كان مريضاً مطلقاً، فيمكن القول بأنه يلزمه –على نحو الوجوب أو الاستحباب- التالي:

أولاً: التوبة.

وإنْ كانت هي واجبةً مطلقًا، تجب على الإنسان كلما صدر منه ذنبٌ، لكنها واجبةٌ مؤكدًا أكثر على الإنسان المحتضر، فعليه أنْ يُقلع عن الذنوب، ويتوب إلى الله(عزّ و جلّ).

ثانياً: أداء حقوق الناس الواجبة.

نحو ردِّ الودائع والأمانات مع الإمكان، فإنْ لم يتمكن، أوصى بها.

ثالثاً: الوصية بالأمور العبادية.

من صومٍ وصلاةٍ وحجٍ، فيُستحب أنْ يوصي أولاده في المستحبات بل في الواجبات كما لو كان الحجُّ مستقرًا في ذمته ولم يؤدِه فيجب عليه أنْ يعطي مالًا لذلك لمن يستأمنه.

الرابع: يُستحب للمريض أنْ يحمد الله(عزّ و جلّ) ويشكره في حال المرض كحال الصحة.

الخامس: يستحب له كتمان المرض وترك الشكاية.

عَنْ بَشِيرٍ الدَّهَّانِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «قَالَ الله(عزّ و جلّ): أَيُّمَا عَبْدٍ ابْتَلَيْتُه بِبَلِيَّةٍ، فَكَتَمَ

ص: 234


1- الكافي للكليني ج3 ص117 بَابُ الْمَرِيضِ يُؤْذِنُ بِه النَّاسَ ح1.

ذَلِكَ مِنْ عُوَّادِه ثَلَاثاً، أَبْدَلْتُه لَحْماً خَيْراً مِنْ لَحْمِه، ودَماً خَيْراً مِنْ دَمِه،وبَشَراً خَيْراً مِنْ بَشَرِه، فَإِنْ أَبْقَيْتُه أَبْقَيْتُه ولَا ذَنْبَ لَه، وإِنْ مَاتَ مَاتَ إِلَى رَحْمَتِي».(1).

النقطة الثالثة: الأمور التي يفعلها من يحضر عند المحتضر.

1/توجيه المحتضر نحو القبلة، بأن يُجعل باطن قدميه نحو القبلة بحيث لو جلس المحتضر لصار وجهه قبال القبلة، وهو واجب كفائي.

2/يُستحب نقل المحتضر إلى مُصلاه، أي إلى المكان الذي كان يُكثر الصلاة فيه.

3/يُستحب تلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة (علیهم السّلام)، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إذا حضرت الميت الوفاة فلقنه شهادة أنْ لا اله إلا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله.

4/يُستحب تلقينه كلمات الفرج، فقد ورد في الحديث أيضًا عن الإمام الصادق (علیه السّلام) ينقله عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله ربِّ السماوات السبع...».

5/يُستحب أنْ يُجعل آخر تلقينه كلمة لا إله إلا الله لما تقدم عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال: لقِّنوا موتاكم (لا إله إلا الله) فإن من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة.(2)

6/يُستحب قراءة القرآن عند المحتضر لدفع الشياطين المضللين والمشككين، ولأجل البركة.

7/يُستحب أنْ يُسرج عند الميت إذا مات ليلًا ولا يوضع في ظلام.

(علیه السّلام)/يُستحب التعجيل في تجهيزه فإنّه من إكرام الميت، وإنَّ تأخيره ربَّما يُسبِّب نتن

ص: 235


1- الكافي للشيخ الكليني. ج 3، ص 115 ح3.
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 195.

جسده، وبالتالي صدور الروائح الكريهة منه، وبالتالي قد يتقزَّز من يحضر جنازته، وربَّما يكون في هذا إهانة للميِّت، واحترامه واجب كما هو معلوم، وقد دلَّت علىٰ ذلك العديد من الروايات الشريفة، ومنها التالي:

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «يا معشر الناس لا ألفينَّ رجلاً مات له ميِّت فانتظر به الصبح، ولا رجلاً مات له ميِّت نهاراً فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها، عجِّلوا بهم إلىٰ مضاجعهم يرحمكم الله»، فقال الناس: وأنت يا رسول الله يرحمك الله(1).

وعنه (صلّی الله علیه و آله): «إذا مات الميِّت أوَّل النهار فلا يقيل(2)

إلَّا في قبره»(3).

وعنه (صلّی الله علیه و آله): «كرامة الميِّت تعجيله»(4).

9/يُستحب إعلام المؤمنين بموت المؤمن، فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَنْبَغِي لأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنُوا إِخْوَانَ الْمَيِّتِ بِمَوْتِه فَيَشْهَدُونَ جَنَازَتَه ويُصَلُّونَ عَلَيْه ويَسْتَغْفِرُونَ لَه، فَيُكْتَبُ لَهُمُ الأَجْرُ، ويُكْتَبُ لِلْمَيِّتِ الِاسْتِغْفَارُ، ويَكْتَسِبُ هُوَ الأَجْرَ فِيهِمْ وفِيمَا اكْتَسَبَ لِمَيِّتِهِمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ».(5)

وإجمال ما على الذي يحضر عند المحضر أن يفعله هو ما جاء في فقه الرضا (علیه السّلام) لعلي بن بابويه القمي: «إذا حضرت الميت الوفاة فلقنه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، والإقرار بالولاية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) والأئمة (علیهم السّلام) واحدا واحداً».

ص: 236


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ ح 1).
2- من القيلولة. كناية عن تعجيل الدفن. (هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 137 و138/ باب تعجيل الدفن/ح 2).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 140/ ح 385).
5- الكافي، الجزء 3، ص166 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤْذَنُ بِه النَّاسُ ح1.

ويستحب أن يلقن كلمات الفرج، وهي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ولا تحضر الحائض ولا الجنب عند التلقين، فإن الملائكة تتأذى بها، ولا بأس بأن يليا غسله ويصليا عليه، ولا ينزلا قبره، فإن حضرا ولم يجدا من ذلك بداً، فليخرجا إذا قرب خروج نفسه.

وإذا اشتد عليه نزع روحه، فحوله إلى المصلى الذي كان يصلي فيه أو عليه، وإياك أن تمسه.

وإن وجدته يحرك يديه أو رجليه أو رأسه، فلا تمنعه من ذلك كما (يفعل جهال) الناس...(1)

المحور الثاني: الموت

السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟

وهو من الأمور الوجدانية التي لا يستطيع أحدٌ أنْ ينكره، وقد أدرجها الإنسان في قائمة المكروهات والمبغوضات واللامشتهيات منذ القدم وما زال، الأمر الذي عبّر عنه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا ويَكَادُ صَاحِبُه يَشْبَعُ مِنْه ويَمَلُّه، إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّه لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً..».(2)

لذا نجدُ وجدانًا أنَّ الناس يكرهون الموت مع علمهم أنَّه مصيرٌ لابد منه ﴿كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوُت﴾.

وتثار حول الموت مجموعة من الأسئلة، سندرج الأهم منها ونجيب عنها تباعًا:

ص: 237


1- فقه الرضا (علیه السّلام) لعلي بن بابويه القمي ص 165- 166باب باب 22 باب غسل الميت وتكفينه.
2- نهج البلاغة – تحقيق صبحي صالح ص 192.

السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟

بعض الناس يتصور أنّ الموت أمرٌ عدمي وأن معناه الفناء؛ لأنَّ النظرة إلى الموت هي أنه إعدامٌ للحياة وفناءٌ ونهايةٌ لها. بيدَ أنَّ هذا التصور خلاف ظاهر القرآن الكريم الذي يعدُّ الموت مخلوقاً كالحياة، قال(عزّ و جلّ): ﴿الذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياة﴾.(1)

فالموتُ ليس فناءً وليس إعدامًا، وإنّما هو بعبارةٍ بسيطةٍ واضحةٍ: عمليةُ انفصال الروح عن البدن المادي، ذلك البدن الذي ارتبطت به الروح طيلة تواجدها في هذه الحياة الدنيا، ومن ثم فليس فيه فناء ولا نهاية، وبتعبير الروايات الشريفة هو مرحلة انتقالية من مكانٍ إلى آخر؛ لذلك لمّا سُئل الإمام السجاد علي بن الحسين3: ما الموت؟ قال (علیه السّلام): «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة(2)،

وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب، وآنس المنازل. وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب».(3)

وفي تعبير للإمام الباقر (علیه السّلام) عندما سُئل (علیه السّلام) عن الموت فقال: «هو النوم الذي يأتيكم كل ليلة إلا أنه طويل مدته لا ينتبه منه إلا يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره؟ فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟ هذا هو الموت فاستعدوا له».(4)

لذا قال أميرُ المؤمنين (علیه السّلام): «أيها الناس، إنا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنكم

ص: 238


1- تبارك: 2
2- ثوب وسخ: علاه الدرن لقلة تعهده بالماء. و (قمل) أي كثر فيه القمل وهو دويبة معروفة. [هامش المصدر]
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289.
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289.

من دار إلى دار تنقلون، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه».(1)

السؤال الثاني: لماذا نكره الموت؟
الأول: الجهل بحقيقة الموت.

إذا كان الموت قانونَ الحياة الثابت ﴿كُلُ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوُت﴾، وكلُّ الموجودات التي خلقها الله(عزّ و جلّ) مآلها إلى الموت، وإذا كان الموت هو قدرنا، فلماذا نهربُ منه؟ولماذا نكرهه؟

الجواب: ذكر العلماء عدة أسباب لذلك، منها:

الأول: الجهل بحقيقة الموت.

إنَّ الناس أعداءَ ما جهلوا، فمن البديهي أنْ يكرهوا الموت لجهلهم بحقيقته، لذلك ورد عن الإمام الجواد (علیه السّلام) عندما سُئل ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت؟ فقال (علیه السّلام): لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله(عزّ و جلّ) لأحبوه، ولعلموا أن الآخرة خير لهم من الدنيا، ثم قال (علیه السّلام): يا أبا عبد الله، ما بال الصبي والمجنون يمتنع من الدواء المنقي لبدنه والنافي للألم عنه؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء. قال (علیه السّلام): والذي بعث محمداً بالحق نبياً، إن من استعد للموت حق الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنهم لو عرفوا ما يؤدي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبوه أشد ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات.(2)

فإذا ما علم الناس حقيقة الموت وتهيأوا له، زال الخوف منه وانتفت كراهيته، ولعل خير مصداق على ذلك الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) فقد ورد في الروايات أنّه (صلّی الله علیه و آله) خُيّر بين الخلود في الدنيا وبين الموت فاختار الموت، فقد روي عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال: «لما حضرت

ص: 239


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 238.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 290.

النبي (صلّی الله علیه و آله) الوفاةُ، نزل جبرئيل (علیه السّلام) فقال: يا رسول الله هل لك في الرجوع إلى الدنيا؟ فقال: لا، قد بلغت رسالات ربي، فأعادها عليه، فقال: لا بل الرفيق الأعلى»(1)...(2)

وحبيبه وابن عمه وأخوه بل ونفسه أمير المؤمنين (علیه السّلام) روي عنه أنّه قال: «أيهنوا(3)، فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمه..».(4)

كما نقل لنا التاريخ أنَّ الإمام الحسين (علیه السّلام) أذن لأصحابه بالتفرق وطلب منهم أنْ يذهبوا ويتخذوا الليل جملًا، لكنهم اختاروا الموت على أنْ يتركوه، بل كانوا يستأنسون بالموت من أجله، فهو استئناسٌ بالموت بعد العلم بحقيقته.(5)

الثاني: الخوف من الموت

فإذا خفتَ شيئًا فمن البديهي أنه تكرهه، وهناك عدة أسباب للخوف من الموت

ص: 240


1- في النهاية «وألحقني بالرفيق الاعلى» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وهو اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط يقع على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ والرفيق: المرافق في الطريق، وقيل معنى «الحقني بالرفيق الاعلى» أي بالله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل. وغلط الأزهري قائل هذا واختار المعنى الأول، ومنه حديث عائشة «سمعته يقول عند موته: «بل الرفيق الاعلى» وذلك أنه خير بين البقاء في الدنيا وبين ما عند الله(عزّ و جلّ) فاختار ما عنده سبحانه. [هامش المصدر]
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 163 ح 5370.
3- هذه الكلمة فعل أمر من وهن يوهن كوجل يوجل: إذا ضعف في العمل أو الأمر، أي: كونوا ضعفاء لأنكم خفتم من الموت في سبيل الحق وصار الأمر إلى ما رأيتم... [هامش بحار الأنوار ج29 ص 141].
4- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 128.
5- في موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السّلام) – لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (علیه السّلام) ص 493: ثم قال [السيدة زينب(علیها السّلام)]: «أخي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة! فبكى (علیه السّلام) وقال: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ [إِلاَّ] الأْشْوَسَ الأْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ...».

منها:

1/فُطِر الإنسانُ على حُبِّ الخلود، بحيث لو أعطاه الله(عزّ و جلّ) ألف سنةٍ لطلب ألفًا ثانية، فإذا اعتقد أنَّ الموت نهايةُ المسيرة الإنسانية، وأنّه إعدامٌ للحياة، فمن البديهي أن يخافه، أما إذا علم أنَّ الموت قنطرةٌ كما عبّر عنه الإمام الحسين (علیه السّلام): «فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب»(1)،

فإنه سيتيقن أنه سينتقل إلى حياة أخرى.

نعم، هو للكافرين كمن ينتقل من قصرٍ إلى سجنٍ وهذا بحثٌ آخر –لأنه لم يكن كذلك إلا لسوء أفعالهم-، أما المؤمن فإذا عرف حقيقة الموت وأنّه سينتقل إلى النعيم فإنّه لن يخافه بعد ذلك، بل يشتاق إليه كما كان المخلصون من البشر.

2/التعلق الأعمى بالدنيا، فمن عشق شيئًا أعشى بصره وأصمَّ سمعه وأمرضَ قلبه، قال(عزّ و جلّ): ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ الْأَرضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(2)؛ إشارة إلى تعلق الإنسان بهذه الدنيا.

قيل: إن رجلاً رأى شابًا قد انحدر من المقبرة فقال له: من أين؟ فقال: من هذه القافلة، فقال: إلى أين؟ فقال الشاب: أتزوّدُ وألحق بها، فسأله: أيُّ شيءٍ قالوا لك وأيُّ شيءٍ قلت لهم؟ فقال: قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: حين تقدمون.

فلو استشعرنا حقيقة أنَّ الموت هي نهاية المسيرة الإنسانية، لما تعلقنا بهذه الدنيا الفانية.

3/النفس اللوامة، وهو من الأسباب الإيجابية، فإن الإنسان المؤمن إذا آمن بأنّ

ص: 241


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289 باب معنى الموت ح3.
2- التوبة 38.

هناك بعثًا وحسابًا وعقابًا، وأنّ الله(عزّ و جلّ) قد استنسخ أعماله كلها وسيعرضها عليه يومئذٍ، ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾(1)

فيفكر ذلك المؤمن حينئذٍ بهذه الأمور، ويرى كمّ الذنوب التي احتطبها على ظهره، فعندما يسمع بالموت والحال هذه فسيكرهه ويخافه؛ لأنه يخاف على نفسه أنْ يواجه ربه (سبحانه و تعالی)بهذه الذنوب وبالتالي سيكون مصيره غير جيدٍ، وهذا ما عبّرت عنه الروايات، «عمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة». فرغم معرفة المؤمن بحقيقة الموت، إلا أنّه يخافه لهذا اللحاظ، وليس خوفًا من نفس الموت.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا لَنَا نَكْرَه الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: لأَنَّكُمْ عَمَرْتُمُ الدُّنْيَا وأَخْرَبْتُمُ الآخِرَةَ، فَتَكْرَهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ عُمْرَانٍ إِلَى خَرَابٍ.

فَقَالَ لَه: فَكَيْفَ تَرَى قُدُومَنَا عَلَى الله تعالى؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِه، وأَمَّا الْمُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يَرِدُ عَلَى مَوْلَاه.

قَالَ: فَكَيْفَ تَرَى حَالَنَا عِنْدَ الله تعالى؟ قَالَ: اعْرِضُوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْكِتَابِ، إِنَّ الله يَقُولُ: ﴿إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾(2).

قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ الله؟ قَالَ: رَحْمَةُ الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.».(3)

السؤال الثالث: ما أنواع التوفي؟
الأول: توفي النفوس حال النوم.

ذكروا أنّ للإنسان نفوسًا ثلاثة، وأنّ للتوفي معنيين.

ص: 242


1- الكهف 49.
2- الانفطار: 14 و 15.
3- الكافي للكليني ج2 ص 458 بَابُ مُحَاسَبَةِ الْعَمَلِ- ح 20.

فأما النفوس الثلاثة(1)

فهي:

1/النفس النباتية:

وهي النفس التي بها ينمو الإنسان ويكبر، ويحتاج لأجلها إلى الطعام، وبذا يشترك معه سائر الحيوانات، ولو لم يفكر الإنسان إلا بإشباع هذا الجانب من وجوده لكان كما قال القرآن الكريم:

وإلى هذا الحد لا فرق فإذا الإنسان لم يفكر إلا فما الفرق بينه وبين سائر الأنعام؟! ولذا وصفهم القرآن الكريم بقوله عز من قائل: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾(2)

كما روي عن أمير المؤمنين8: «... فما خُلِقْتُ ليشغلني أكل الطيِّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسَلة شغلها تقمُّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها...»(3).

وهذه النفس هي أقلُّ مرتبةٍ من مراتب الإنسان كمالًا.

2/ النفس الحيوانية:

وهي تلك النفس التي يحسُّ بها الإنسان بالألم ويشعرُ بالرغبة والجوع ويتكاثر بها، وهي أرقى من النفس النباتية؛ لأنّ بها شعور وإحساس وتكاثر. ولذا قيل: إنَّ «الأظافر وشعر الإنسان تملك روحًا نباتية فقط، ولهذا السبب لا يشعر بها الإنسان عندما تقطع في عملية تقليم الأظافر وقصّ الشعر، ولكن اللحم والعضلات مضافًا إلى أنّها تملك روحًا نباتية، فلها روح حيوانية أيضًا، فأدنى ضرر أو أذى يلحق بالإنسان تحسّ به هذه

ص: 243


1- يُطلب تفسير هذه النفوس بتفصيل أكثر وما يتعلق بها من قوى مختلفة في علم النفس الفلسفي.
2- الأعراف: 179.
3- نهج البلاغة (ج 3/ ص 72).

العضلات وتتألم».(1)

3/ النفس الإنسانية العقلية:

وهي النفس التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان بميزةِ القوةِ المدركة عنده، وهو (العقل) الذي بنى حياة الإنسان وجعلها حياة متكاملة.(2)

وأما التوفي فله معنيان:

الأول: توفي النفوس حال النوم.

وتتوفى به كلٌّ من النفس الإنسانية العقلية والحيوانية، فتتوقفان عن العمل، ولا تبقى عند النوم إلا النفس النباتية؛ فتعمل حفاظًا على حياة الإنسان. ولذا لا يشعر النائم بالجوع أو العطش مثلًا؛ لأنّه يفقد شعوره وإحساسه بالنفس الإنسانية العقلية والنفس الحيوانية.

الثاني: توفي النفوس في الموت.

وفيه تتوقف جميع مراتب النفس، ويحدث انفصال تام بين الروح والبدن.

ص: 244


1- نفحات الولاية، مكارم الشيرازي، ج9، ص430.
2- وقال الشيخ الشيرازي في نفحات القرآن، ج9، ص430: وطبعًا هناك بعض الأشخاص الذين يملكون نفسًا رابعة أيضًا، وهي التي يطلق عليها بالنفس القدسية، وهذه تدرك الحقائق المجرّدة التي يعجز عن إدراكها الأفراد العاديون «أحيانًا تطلق روح القدس على جبرئيل، وأحيانًا أخرى على ملك أعظم منه» وقد ورد التعبير عنها في بعض الروايات (روح الإيمان) ولعلّ ذلك إشارة إلى هذه المرتبة العالية للنفس الإنسانية. وجاء في حديث شريف عن النبيّ الأكرم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إذا زَنَى الرَّجُلُ فارَقَهُ رُوحُ الإيمان»ِ [الكافي، ج 2، ص 280، باب الكبائر، ح 11.]، إلّا أنْ يتوب ويتحرّك على مستوى جبران الخلل. وجاء في بعض الروايات أنّ روح القدس أعلى مرتبةً من روح الإيمان وقد جاءت الأرواح الخمسة فيها [انظر: الكافي، ج 2، ص 282، باب الكبائر، ح 16.]
السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت؟
النوع الأول: موت البدن وموت القلب.

السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت(1)؟

ذكروا للموت عدة أنواعٍ نذكر فقط اثنين منها للفائدة:

النوع الأول: موت البدن وموت القلب.

ما نعرفه من الموت الذي هو انفصال الروح المجردة عن الجسم المادي، هو موت البدن، الذي يؤدي إلى فساده وتحوّله إلى جيفة، وكثيرًا ما ذكرته الروايات الشريفة، منها ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) في خطبةٍ رائعةٍ له يصف فيها حالة الإنسان عندما يبدأ بالاحتضار حتى يموت، حيث تُشلُّ يداه ورجلاه، وينعقدُ لسانه فيبقى يسمع بأذنيه ويرى بعينيه، ثم ينغلق سمعه، ولا يبقى إلا نظره إلى أن يموت فيقول (علیه السّلام):

«سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً، بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً، وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً، مَشْرَباً ومَطْعَماً وأَزْوَاجاً، وخَدَماً وقُصُوراً، وأَنْهَاراً وزُرُوعاً وثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا، ولَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، ولَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْه اشْتَاقُوا، أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، واصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَه، وأَمْرَضَ قَلْبَه، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَه، وأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَه، ووَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُه، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، ولِمَنْ فِي يَدَيْه شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لَا يَنْزَجِرُ مِنَ الله بِزَاجِرٍ، ولَا يَتَّعِظُ مِنْه بِوَاعِظٍ، وهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ، حَيْثُ لَا إِقَالَةَ ولَا رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وبَيْنَ مَنْطِقِه، وإِنَّه لَبَيْنَ أَهْلِه يَنْظُرُ بِبَصَرِه، ويَسْمَعُ بِأُذُنِه

ص: 245


1- وليس التوفي.

عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِه، وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّه، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَه، وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَه، ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْه تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَه يَنْعَمُونَ فِيهَا، ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِه والْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِه، والْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُه بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَه نَدَامَةً، عَلَى مَا أَصْحَرَ لَه عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِه، ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيه أَيَّامَ عُمُرِه، ويَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُه بِهَا، ويَحْسُدُه عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَه، فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِه، حَتَّى خَالَطَ لِسَانُه سَمْعَه، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِه لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِه، ولَا يَسْمَعُ بِسَمْعِه، يُرَدِّدُ طَرْفَه بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، ولَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِه، فَقُبِضَ بَصَرُه كَمَا قُبِضَ سَمْعُه وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِه، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِه، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِه، وتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِه، لَا يُسْعِدُ بَاكِياً ولَا يُجِيبُ دَاعِياً، ثُمَّ حَمَلُوه إِلَى مَخَطٌّ فِي الأَرْضِ، فَأَسْلَمُوه فِيه إِلَى عَمَلِه، وانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِه..».(1)

فهذا هو البدن، كم يُتعب عليه، وتُنفق الأموال لأجله، ما إنْ تخرج منه الروح حتى يُصبح جثةً هامدةً، يُخشى عليها من التعفن والتحلل إنْ تأخر دفنها، حتى يوضع عليه الثلج والعطر صيفًا كيلا تفوح رائحتها النتنة.

وهذا الموت الذي نعرفه ونخافه كثيرًا.

ولكن في الحقيقة هناك نوعٌ آخر من الموت هو أخطر وأعظم مصيبة من موت البدن، وهو ما تعبر عنه الروايات الشريفة بموت القلب.

وليس المقصود من القلب: ذلك العضو الصنوبري الموجود في القفص الصدري، فهذا إنْ مات يعني مات الإنسان موت البدن، وإنّما المراد منه هو موت العقل والوجدان، يعني أنْ يصل العقل أو الوجدان أو الإدراك إلى مرحلةٍ متدنيةٍ من التفكير والتعقل،

ص: 246


1- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 159 – 161.

فكأنه يصير ميتاً من هذه الجهة.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الأمر بتعبيراتٍ مختلفة، منها قوله(عزّ و جلّ): ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾(1).

إنَّ هؤلاء كالأموات، فقلوبهم ميتة، وهم عميان، وإنْ كانوا يُبصرون، ولكن عموا عن طريق الحقِّ، فهم في عداد الموتى؛ لأنَّ لهم صفات الأموات، إنْ تكلّمت معهم لا يسمعون فهم كالحجر.

وفي آيةٍ أخرى يقول الله(عزّ و جلّ): ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).

فهذا الإنسان الجاهل كأنّه ميتٌ، ولمّا أُعطيَ نور العلم فكأنّه أُحيي وعاد إلى الحياة، فهناك أناسٌ أبدانهم لم تمت، ولكنهم في الحقيقة يتصرفون تصرفَ الموتى؛ فهم لا يفهمون ولا يسمعون الكلام.

فموت القلب هي حالة نفسية روحية يمرُّ بها الإنسان، رغم أنّه لم يمت بدنه، وإنّما يموت قلبه.

عجيب أمر هذا القلب، فمرةً يكون كما ما روي في الحديث القدسي: «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»(3).

ومرةً يصل إلى أنْ يكون كالحجارة بل أشد؛ لأنَّ هناك من الحجارة ما يتفجر منه

ص: 247


1- سورة الروم: آية [52،53]
2- سورة الإنعام: آية [122]
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 4/ ص 7).

الأنهار، قال تعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1)

من أسباب موت القلب:

لقد ذكرت الروايات عدة أسباب لموت القلب:

فمنها: عدم تغيير المنكر رغم القدرة عليه.

عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «ومِنْهُمْ تَارِكٌ لإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِه وقَلْبِه ويَدِه، فَذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ».(2)

ومنها أربعة أمور جاءت في الحديث عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء – يعني محادثتهن - ومماراة الأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير [أبداً]، ومجالسة الموتى، فقيل له: يا رسول الله (صلّی الله علیه و آله) وما الموتى؟ قال كل غني مترف.(3)

فأما (الذنبُ على الذنب) فواضحٌ، لما ورد في الروايات أنّ الإنسان إذا أذنب خرج في قلبه نكتةً سوداء قد تطغى على القلب بتراكم الذنوب، فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلب علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(4).

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في

ص: 248


1- البقرة 74.
2- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 542.
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 228 ح65.
4- الكافي 2: 271/ باب الذنوب/ ح 13.

النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا [ت-]غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله(عزّ و جلّ): ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطفّفين: 14]»(1).

وأما (مناقشةُ النساء) فكثرة محادثتهن، فلعله باعتبار أنّ هناك غريزة ميلان كلا الجنسين إلى التحدث مع الجنس الآخر، وهذا التحدث إذا لم يكن ضمن الموازين الشرعية فإنّه يؤثر على القلب مباشرة ويُميته، فنفس المحادثة لا بأس بها، فقد كان هناك الكثير من النساء اللاتي يحضرن إلى الرسول (صلّی الله علیه و آله) ويسألنه عن بعض المسائل الشرعية فيأمرها بما تفعله.

وفي زمننا الحاضر حيث شاع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كثُرَت الأسئلة التي ترد إلى الفقهاء حول التواصل بين الرجال والنساء عبرها فكان جواب الفقهاء: إذا كان في الكلام أمور محرمة كالمزاح والغزل فبلا شك هو من الحرام، أما إذا لم يكن فيه شيء من ذلك فلا إشكال فيه، إلا إذا احتمل الإنسان أو خاف من الانجرار إلى الوقوع في الحرام في حال استمراره بالكلام، فإنَّ هذا الخوف نفسه كافٍ ليكون مانعًا له، فيحرم عليه استمرار التواصل مع الطرف الآخر.

وأما (الغني المترف) أي إذا كان الغني متعلقًا بالدنيا، فإنَّ الجلوس معه سببٌ من أسباب موت القلب، فالمقصود هو نوع خاصٌّ من الأغنياء، لا كلّ غنيٍّ، فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «إيّاكم ومجالسة الموتىٰ»، قيل: يا رسول الله، من الموتىٰ؟ قال: «كلُّ غنيٍّ أطغاه غناه»(2).

ومنها ثلاثة أمور رويت عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة مجالستهم تُميت القلب:

ص: 249


1- الكافي 2: 273/ باب الذنوب/ ح 20.
2- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 2/ ص 32).

مجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء»(1).

وعنه (صلّی الله علیه و آله) - في مواعظه لأبي ذر -: «إيّاك وكثرة الضحك، فإنَّه يميت القلب»(2).

وقال الإمام عليٌّ (علیه السّلام): «مَنْ قَلَّ وَرَعُه مَاتَ قَلْبُه، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُه دَخَلَ النَّارَ»(3).

هذا وقد ورد في الآيات والروايات عناوين لميتي القلب، ومنها التالي:

1/الكفار، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾(4).

2/الجهال، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) يقول: «مَنِ اسْتَحْكَمَتْ لِي فِيه خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ احْتَمَلْتُه عَلَيْهَا، واغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا، ولَا أَغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ ولَا دِينٍ، لأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ مُفَارَقَةُ الأَمْنِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ، وفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ، ولَا يُقَاسُ إِلَّا بِالأَمْوَاتِ».(5)

3/الأذلاء، من يقبل أنْ يعيش ذليلًا، عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ».(6)

النوع الثاني: موتُ الفرد وموتُ المجتمع.

من الواضح جدًا كيفية موت الإنسان الفرد، فهو يبدأ من الضعف، ثم تأخذ خلاياه تبني أكثر مما تهدم، وتقوى شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى مرحلةٍ يتساوى فيها الهدم

ص: 250


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 87).
2- () الخصال للصدوق: 526/ ح 13.
3- () نهج البلاغة: 536/ ح 349.
4- سورة فاطر: آية [22]
5- الكافي للكليني ج1 ص 27 كِتَابُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ ح 30.
6- نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص 89.

والبناء، ثم بعد ذلك يبدأ بالنزول تدريجيًا، فيكون الهدم أكثر من البناء حتى يموت.

ونفس هذه المراحل تمرُّ بها الحضارات والأمم؛ حيث يقول علماء الاجتماع: إنّ المجتمعات والحضارات تمرُّ بنفس فترات النمو للإنسان، مرحلة الطفولة ثم الشباب والقوة ثم الشيخوخة إلى أن يصل المجتمع والحضارة إلى فترةٍ يموت فيها فيندثر المجتمع والحضارة. وكم من الحضاراتِ التي قويَت ثم ماتت.

قال الله(عزّ و جلّ): ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1).

المحور الثالث: البرزخ

الأولى: البرزخ في اللغة:

وهنا نقاط توضيحية:

هو الفاصل بين شيئين، والمقصود منه هنا في علم الكلام: هو الفاصل بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وعبّر البعض عنه بأنّه الفاصلة بين عالم الدنيا وإلى ما بعد نفخةِ الصور الثانية؛ لوجود نفختين. حيث إنّ النفخة الأولى يموتُ بها كلُّ الناس، والثانية يبعث بها كلُّ الناس.

الثانية: البرزخ غير معلوم الفترة الزمنية:

أيّ ليس لدينا أية معلوماتٍ تدلُّنا على المدة الزمنية للبرزخ، ومتى سينتهي، وكم سيدوم، وكلُّ ما هو معلوم أنّه ينتهي يوم القيامة، فعالمُ الآخرة هو الغاية التي ينتهي عندها البرزخ،وحيثُ إنّ اللحظة التي تقوم فيها القيامة مجهولةٌ لدينا، فنهايةُ البرزخ أيضًا مجهولةٌ لدينا؛ لأنَّ نهاية البرزخ هي بداية القيامة.

ص: 251


1- سورة الأعراف: آية [34]
الثالثة: من عالم البرزخ تحصل الرجعة:

تقدّم في بحث الرجعة أنها تعني رجوع بعض الناس إلى عالم الدنيا من القبر، والقبر هو البرزخ، ورجوعهم لحكمةٍ عند الله(عزّ و جلّ)، فمن البرزخ تحصل الرجعة.

الرابعة: لماذا يطلب بعض الناس أنْ يرجعوا إلى الدنيا؟

يذكر القرآن الكريم في عدة آيات، أنّ الإنسان عندما يدخل عالم البرزخ، فأنّه يتمنى أنْ يرجع إلى الدنيا، ويطلب من الله(عزّ و جلّ) ذلك، ومنها هذان الموردان:

الأول: قال(عزّ و جلّ): ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ* حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1).

في هذه الآية ينقل القرآن الكريم أنّ الإنسان عندما يأتيه الموت ويدخل عالم البرزخ، يطلب من ربّه ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾، وكأنّه لو سأله الله(عزّ و جلّ): لماذا تريد أنْ ترجع إلى الدنيا؟ فيجيبه: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

فهو يريد الرجوع لعله يعملُ صالحًا فيما ترك من عمره، وفي هذا تنبيهٌ لنا أنْ نستثمر هذه الساعات القليلة التي نعيشها في هذه الحياة، والتي لا نعلم متى ستنتهي وأين وكيف، فنحن –وللأسف- تشغلنا في بعض الأحيان الدنيا كثيرًا، فنتناسى أننا في سيرٍ مستمرٍ نحو الموت، فنحنُ في كلِّ خطوةٍ بل في كلِّ نفسٍ نحثُّ الخُطى إلى الموت.

هذه الأنفاس التي نتنفسها هي طريقنا نحو الموت والقبر، فقد تأتينا لحظة الموت ونحن في غفلةٍ، وعندئذٍ ينتبه ذلك الإنسان إلى ما ضيّع من ساعاتِ عمره، فيطلبُ من ربِّه أنْ يرجع لعلّه يعملُ صالحًا، فيأتيه الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم

ص: 252


1- سورة المؤمنون: آية [97،98، 99،100]

بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

الثاني: قال(عزّ و جلّ): ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾(1).

القرآنُ الكريم يأمرنا أنْ نُنفقَ مما رزقنا(عزّ و جلّ) قبل أنْ يأتي الموت، لئلا تضيع هذه الفرصة العظيمة من يدي الإنسان، فإذا جاءه الموت تحسّر عليها سائلًا الله(عزّ و جلّ) أنْ يُمهله قليلًا ليرجع إلى الدنيا؛ لأجل أنْ يتصدق.

ففي الآيةِ الأولى يريدُ أنْ يرجع ليعمل صالحًا، أما في الآية الثانية فيطلب من الله(عزّ و جلّ) أنْ يُمهله قليلًا، وقد حدد الهدف من ذلك، وهو التصدق.

وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على ما للصدقة من عظيم الأثر وبالغ الأهمية للإنسان في حياة البرزخ، بل حتى لو كان من المتصدقين، فإنّه يندم أيضًا ويتمنى لو كان متصدقًا بأكثر مما تصدّق به.

ولا نجد هذا المعنى مقتصرًا على الآيات الكريمة، فهناك رواياتٌ شريفة تشير إليه أيضًا، منها ما ورد عن رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إنَّ الصدقة لتطفئ عن أهلها حرَّ القبور وإنّما يستظلُّ المؤمن يومَ القيامة في ظلِّ صدقته».(2)

وعلاوةً على الصدقة، فإنَّ الآية تشير إلى أمرٍ ثانٍ، وهو ﴿وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، مما يعني أنَّ الصدقة سببٌ من الأسباب التي تؤدي إلى أنْ يكون الإنسان من الصالحين، فهي إحدى الطرق للتدرج في طريق التكامل.

ص: 253


1- سورة المنافقون: آية [10]
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج6 ص 348 ح 15996.
الخامسة: البرزخ عالم تكامل.

صحيحٌ أنَّ الدنيا عالم العمل، وأنّ الآخرة عالم الجزاء، إلا أنَّ للإنسان فرصة أخرى للتكامل بعد انتقاله من عالم الدنيا، وتلك الفرصة هي في عالم البرزخ؛ فقد صرّحتِ العديد من الروايات أنَّ الإنسان يستطيعُ أنْ يستفيدَ من بعض الأعمال الصالحة وهو في عالم البرزخ، نذكر منها التالي:

قال الرضا (علیه السّلام): «ما من عبد [مؤمن] زار قبر مؤمن فقرأ عنده ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سبع مرّات إلَّا غفر الله له ولصاحب القبر».(1)

فبمنِّ الله(عزّ و جلّ) وكرمه يُمكن أن تُغفر ذنوب صاحب القبر بما يقرأه له المؤمن من القرآن الكريم، وهذا يعني أنه ازدادت درجته الكمالية وهو في عالم البرزخ.

وروي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مرَّ عيسىٰ بن مريم (علیه السّلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو لا يُعذَّب، فقال: يا ربِّ، مررت بهذا القبر عام أوَّل فكان يُعذَّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟ فأوحىٰ الله إليه أنَّه أُدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوىٰ يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه...»(2).

وهذا المعنى مطابق لما روي عن النبيِّ (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «إذا مات المؤمن انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له»(3).

فعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلَّا ثلاث خصال: صدقةٌ أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسُنَّةُ هدىٰ سنَّها فهي يُعْمَل بها

ص: 254


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 181/ ح 541).
2- الكافي للكليني 6: 3 و4/ باب فضل الولد/ ح 12.
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 2/ ص 53/ ح 139)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 2/ ص 22).

بعد موته، أو ولدٌ صالح يدعو له»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّه قال: «ستَّةٌ تلحق المؤمن بعد وفاته: ولدٌ يستغفر له، ومصحفٌ يُخلِفه، وغرسٌ يغرسه، وقليبٌ يحفره(2)،

وصدقةٌ يُجريها، وسُنَّةٌ يُؤخَذ بها من بعده»(3).

ومن الجدير بالذكر: أنَّ على الإنسان أنْ لا يتكل على هذه الأعمال، بل عليه أنْ يعمل بجدٍ، فما دام هو على قيدِ الحياة، فهو يسيرُ في طريق التكامل ويعملُ الكثير من الأعمال الصالحة.

استطراد: منافذ تكامل الإنسان.

لتكامل الإنسان عدة منافذ وطرق، ومنها:

1/الملكات الأخلاقية الموجودة في النفس.

فإنَّ النفس كلما التزمت الملكات الأخلاقية الكمالية، كلما زاد رقي الإنسان وتكامله، نحو (الصدق والصبر والإيمان واليقين والقناعة والرضا بما قسم الله(عزّ و جلّ) والتواضع والمروءة واللين). فالنفسُ إذا التزمت بهذه الملكات الأخلاقية تصفو، ثم تتهيأ للحصول على فيضٍ إلهي، وتتصاعد في طريق التكامل الوجودي.

وأما إذا اتصفت بعكس هذه الصفات من (جزع، وشك، وطمع، واعتراض على الله(عزّ و جلّ)، وتكبر على الناس، وسماجة بالأخلاق) فيتعكر صفاؤها، ثم قد يتوقف الإنسان عن التكامل، بل وربما يتسافل إلى أسفل السافلين والعياذ بالله.

ص: 255


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 1).
2- القليب: البئر.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 56/ باب ما يلحق الميِّت بعد موته/ ح 5).

2/البلاء الدنيوي والعذاب البرزخي.

ففي الروايات الشريفة: إذا صبر الإنسان على ما يُصيبه من البلاء في الحياة الدنيا تُغفر سيئاته وتزيد حسناته ويتكامل بسبب هذا البلاء.

وكذا العذاب البرزخي، فهو أيضًا يساعد في رفع مُلوِّثات النفس ويُطهرها من مُخلّفاتِ الذنوب، فلو كان لبعض المؤمنين ذنوبٌ لم يمحُها البلاء الدنيوي، فإنَّ العذاب البرزخي كفيلٌ بتصفيته منها، ليصل يوم القيامة وهو خالٍ من الذنوب فيدخل الجنة بغير حساب.

3/أعمال الخير التي يقوم بها الإنسان.

وهذه الأعمال يكتب له أجرها وتبقى ثابتة عنده وإنْ كانت من نوع الأعمال التي يبقى أثرها إلى ما بعد الحياة فتنفعه بعد موته، فيترقى في طريق التكامل وهو في قبره، كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك.

السادسة: هل بإمكان الميت أنْ يزور أهله ويطّلع عليهم؟

المتعارف عند الناس أنّ الميت يزور أهل بيته كلَّ ليلةِ جمعة، فهل الروايات الشريفة أشارت إلى ذلك؟

الجواب:

كلُّ شخصٍ له أعزاء فارقوا هذه الدنيا، وربما أحدنا يتمنى أنْ يرى شخص أمّه الحبيبة أو أباه العزيز المتوفيين بملءِ الدنيا ذهبًا، ليتحدث معه ويُرضيه، إذ لربما أغضبه في أحدِ الأيام أو عقَّه، فيرغب في رؤيته ومصالحته والفوز برضاه.

هذا وتذكر الروايات الشريفة أنّ الأموات يأتون إلى بيوتهم، وينظرون إلى أهلهم، فيُسمح لأرواحهم أنْ ترى أعزاءهم، وعلينا أنْ نضع بالحسبان أنّ أعمالنا السيئة يطّلع

ص: 256

عليها الأموات، وبالتالي سيتألمون إذا ما رأوا تلك الحقيقة؛ فعلينا أنْ نُحسن التصرف وأنْ نكون على حالٍ جيّدةٍ مع الله(عزّ و جلّ) لنحظى برضا الله(عزّ و جلّ) ونتخلص من العذاب الأخروي من جانبٍ، وندخل السرور على أهالينا وهم في عالم البرزخ من جانبٍ آخر.

وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة، وأنّ أرواح الأموات ترجع من عالم البرزخ إلى عالم الدنيا ويُسمح لها بزيارة الأهل، كما ذكرت الروايات أنّ هذه الزيارة تتكرر حسب العمل الصالح لذلك الميت، فربما تتكرر كلَّ ليلةِ جمعة، وربّما كلَّ يومٍ، والبعضُ كلَّ سنة، فكلٌّ حسب منزلته.

وقد ذكر الشيخ الكليني(رحمه الله)عدة روايات تدل على ذلك، ومنها ما عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزُورُ أَهْلَه فَيَرَى مَا يُحِبُّ ويُسْتَرُ عَنْه مَا يَكْرَه، وإِنَّ الْكَافِرَ لَيَزُورُ أَهْلَه فَيَرَى مَا يَكْرَه ويُسْتَرُ عَنْه مَا يُحِبُّ.

قَالَ: ومِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ كُلَّ جُمْعَةٍ، ومِنْهُمْ مَنْ يَزُورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِه».(1)

وعنه (علیه السّلام) قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ ولَا كَافِرٍ إِلَّا وهُوَ يَأْتِي أَهْلَه عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَأَى أَهْلَه يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ حَمِدَ الله عَلَى ذَلِك، وإِذَا رَأَى الْكَافِرُ أَهْلَه يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ كَانَتْ عَلَيْه حَسْرَةً».(2)

وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ [الكاظم] (علیه السّلام) قَالَ: «سَأَلْتُه عَنِ الْمَيِّتِ يَزُورُ أَهْلَه؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: فِي كَمْ يَزُورُ؟ قَالَ: فِي الْجُمْعَةِ، وفِي الشَّهْرِ، وفِي السَّنَةِ، عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِه. فَقُلْتُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ يَأْتِيهِمْ؟ قَالَ: فِي صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ عَلَى جُدُرِهِمْ، ويُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَآهُمْ بِخَيْرٍ فَرِحَ، وإِنْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وحَاجَةٍ حَزِنَ واغْتَمَّ».(3)

ص: 257


1- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح2.
3- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح3.

وهنا سؤال:

ما مدى صحةِ ما يُقال من أنّ أرواح المؤمنين تكون في حوصلة طير؟ فهل هذا صحيحٌ وهل يُعقل هذا الأمر؟

في مقام الجواب نقول:

أولًا: الروايات الشريفة نفت هذا الأمر، وبيّنت أنّ المؤمن أكرم على الله(عزّ و جلّ) من أنْ يضعه في حوصلةِ طير، فعَنْ أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَرْوُونَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ حَوْلَ الْعَرْشِ؟ فَقَالَ (علیه السّلام): «لَا، الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى الله تعالى مِنْ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَه فِي حَوْصَلَةِ طَيْرٍ، ولَكِنْ فِي أَبْدَانٍ كَأَبْدَانِهِمْ».(1)

ولعل الإمام (علیه السّلام) يشير أنَّ الروح تفارق الجسد كما تقدّم، وفي الآخرة ترجع إلى البدن، ولكن في عالم البرزخ هنالك بدنٌ مثالي تحلُّ فيه هذه الروح، شكله شكل هذا البدن، وله آثار هذا البدن، لكن ليس فيه مادة، أي إنّه لا يُحس، وليس له جرم أو مادة أو ثقل، وإنّما شكله الظاهري فقط كشكل بدنه، أشبه بالصورة التي تكون في المرآة، بحيث لو رُفِع الحجاب لنا واطلعنا عليه لرأينا أنّه نفس شكل الجسم المادي ولكن ليس له مادة. ولذا عبّر الإمام (علیه السّلام) عنه ب«أبدان كأبدانهم».

ثانيًا: ورد في بعض الروايات الشريفة ومنها الرواية المذكورة عن إسحاق بن عمار، فقد أردف إسحاق وسأل الإمام (علیه السّلام) فقال: «وفي أيِّ صورةٍ يأتيهم؟

فقال (علیه السّلام): فِي صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ عَلَى جُدُرِهِمْ، ويُشْرِفُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَآهُمْ بِخَيْرٍ فَرِحَ، وإِنْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وحَاجَةٍ حَزِنَ واغْتَمَّ».(2)

ص: 258


1- الكافي للكليني ج3 ص 244 بَابٌ آخَرُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 230 بَابُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزُورُ أَهْلَه ح3.

فهذه الرواية تصف الهيئة التي بها يزور الميتُ أهله، بأنّه يأتي في صورة طائر، وربما هذا الوصف من باب «كلموا الناس على قدر عقولهم»، أي ليس المراد من الطائر هو هذا الطائر المادي الدنيوي، وهذا ما قد أوضحته الرواية المذكورة عن أبي ولّاد.

فلربما المخاطب لم يكن ليفهم معنى الجسم المثالي وما شابه لو أنّ الإمام أخبره به، فعبّر له (علیه السّلام) بقوله: «طائر لطيف». ولعل كلمة «لطيف» تحمل إشارة إلى الجسم المثالي الخالي من المادة، فصورته صورة طير أو صورة الجسم المادي، ولعله لأجل مثل هذه الرواية فهم البعض أنّ أرواح الموتى توضع في حوصلة الطير، ولكنّ الإمام (علیه السّلام) أوضح أنّ المؤمن أكرم من أنْ توضع روحه في حوصلة الطير.

والحاصل: أن روح المؤمن في جسم مثالي، عبرت عنه الرواية لتقريب الفكرة بطائر لطيف.

السابعة: معنى سؤال منكر ونكير.

ورد في الروايات الشريفة أنَّ الميت يُسأل من منكر ونكير، فما معنى سؤال منكر ونكير؟

ورد في الروايات الشريفة أنّ القبر إما روضةٌ من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وتحول القبر إلى أحدهما لا يأتي من فراغ، وإنّما على أساس نتيجة الحساب الذي يقوم به الملائكة في القبر.

وتذكر الروايات الشريفة أنَّ الميت يُسأل عن العديد من الأمور، عن دينه، وعن ربه، وعن نبيه، وإمامه، وصلاته، وصومه وإلى آخره، فإنْ كانت أجوبته جيدةً يتحول قبره إلى روضةٍ من رياض الجنة، وإلا يكون حفرةً من حفر النار. ولم تذكر الروايات مدة تلك الفترة التي يتحول بها القبر. وللبرزخ قوانينه، فقد يتحول القبر بمجرد نزول

ص: 259

المؤمن فيه ولا نلحظ ذلك؛ لأننا قد حُجِب عنّا ما يحدث للأموات.

إنَّ السؤال الذي سيُطرح من الملائكة في القبر سيكون عن أمورٍ واقعية، وكذلك الجواب، فليس هناك مجال للإخفاء والإنكار، فعلى الإنسان أنْ يُرتِّب أموره جيدًا ويُتقن فهم عقيدته ويثبتها بحسن تطبيقها عن طريق الامتثال للأحكام الشرعية وحسن الخلق؛ ليكون مستعدًا للسؤال والجواب في عالم البرزخ في القبر.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «مَا مِنْ مَوْضِعِ قَبْرٍ إِلَّا وهُوَ يَنْطِقُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ الْبَلَاءِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ.

قَالَ: فَإِذَا دَخَلَه عَبْدٌ مُؤْمِنٌ قَالَ: مَرْحَباً وأَهْلاً، أَمَا والله لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، فَسَتَرَى ذَلِكَ. قَالَ: فَيُفْسَحُ لَه مَدَّ الْبَصَرِ ويُفْتَحُ لَه بَابٌ يَرَى مَقْعَدَه مِنَ الْجَنَّةِ.

قَالَ: ويَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ رَجُلٌ لَمْ تَرَ عَيْنَاه شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْه فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْكَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَأْيُكَ الْحَسَنُ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْه، وعَمَلُكَ الصَّالِحُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه.

قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ فِي الْجَنَّةِ، حَيْثُ رَأَى مَنْزِلَه، ثُمَّ يُقَالُ لَه:نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ. فَلَا يَزَالُ نَفْحَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ تُصِيبُ جَسَدَه يَجِدُ لَذَّتَهَا وطِيبَهَا حَتَّى يُبْعَثَ.

قَالَ: وإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ قَالَ: لَا مَرْحَباً بِكَ ولَا أَهْلاً، أَمَا والله لَقَدْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، سَتَرَى ذَلِكَ.

قَالَ: فَتَضُمُّ عَلَيْه فَتَجْعَلُه رَمِيماً ويُعَادُ كَمَا كَانَ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَرَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّه يَخْرُجُ مِنْه رَجُلٌ أَقْبَحُ مَنْ رَأَى قَط، قَالَ:فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَنْ أَنْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَقْبَحَ مِنْكَ! قَالَ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه، ورَأْيُكَ

ص: 260

الْخَبِيثُ. قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ حَيْثُ رَأَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ نَفْخَةٌ مِنَ النَّارِ تُصِيبُ جَسَدَه فَيَجِدُ أَلَمَهَا وحَرَّهَا فِي جَسَدِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ، ويُسَلِّطُ الله عَلَى رُوحِه تِسْعَةً وتِسْعِينَ تِنِّيناً تَنْهَشُه، لَيْسَ فِيهَا تِنِّينٌ يَنْفُخُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتُنْبِتَ شَيْئاً».(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَال: «إِنَّ لِلْقَبْرِ كَلَاماً فِي كُلِّ يَوْمٍ يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا الْقَبْرُ، أَنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».(2)

ص: 261


1- الكافي للكليني ج3 ص 241 و 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ- ح1.
2- الكافي للكليني ج3 ص 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ- ح2.

ص: 262

العالم السادس: عالم القيامة (المعاد أو اليوم الآخر)

النقطة الأولى: أسماء يوم القيامة.

الاسم الأول: يوم القيامة.

وهنا نذكر عدةَ نقاطٍ لتتضح الصورة:

لعالم القيامة أسماء عديدة، ذكرها العلماء، ومنهم من أحصاها في القرآن الكريم فكانت سبعين عنوانًا.

ويعود سبب تعددها إلى أن كلِّ عنوانٍ منها يُشير إلى حقيقةٍ من حقائق ذلك العالم أو حدثٍ من أحداثه، أي لبيان الحيثيات المختلفة والأحوال المتعددة التي يمرُّ بها الإنسان في ذلك العالم؛ لذا كان للتأمل فيها أثرٌ تربوي وعميق في النفس، ونذكر بعض الأمثلة لذلك:

الاسم الأول: يوم القيامة.

وهو من أشهر أسماء ذلك اليوم، وقد تكرّر ذكره في القرآن الكريم سبعينَ مرةٍ حسب بعض الإحصاءات، ومنها قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾(1).

وقد رفع القرآن الكريم السر وراء تلك التسمية، ومن ذلك:

1/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، قال(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ

ص: 263


1- سورة الأنبياء: آية [47]

الْعَالَمِينَ﴾(1)،

فلأنّ الناس يقومون فيه لربِّ العالمين، سُميّ بيوم القيامة.

2/أنّه اليوم الذي يقوم فيه أشرف ملائكة الله (الروح) مع سائر الملائكة، قال الله(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾(2).

3/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الشهود للشهادة على أعمال الناس، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾(3).

4/أنّه اليوم الذي يقوم فيه الحساب، نسأل الله(عزّ و جلّ) أنْ يحاسبنا حسابًا يسيرًا، قال(عزّ و جلّ): ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾(4).

5/أنّ الموتى يقومون من قبورهم ويرجعون إلى الله(عزّ و جلّ).

الاسم الثاني: يوم الصاخة:

ورد في قوله(عزّ و جلّ): ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(5).

والصاخةُ: كلمةٌ مأخوذةٌ من (صخَّ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد يأخذ بسمع الإنسان، ولعلّ فيه إشارة إلى نفخةِ الصور الثانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعًا ليبدأ منها يوم المحشر.

وقد بيَّن القرآن الكريم سببَ تسمية هذا اليوم بهذا الاسم؛ وذلك أنّه عندما يحدث

ص: 264


1- سورة المطففين: آية [6]
2- سورة النبأ: آية [38]
3- سورة غافر: آية [51]
4- سورة إبراهيم: آية [41]
5- عبس (33 – 37)

هذا الصوت الشديد، فإن على أثره سيحدث فرار وحالة من الفزع والرعب، بحيث إنّ الإنسان يفر من أقرب الناس إليه!

الإنسان في الدنيا إذا ما أصابته ملمة، فإنه يلجأ إلى أخيه أو أمه وأبيه أو إلى زوجته وأولاده، وهو أمرٌ متعارف في الدنيا، ولكن في الآخرة وعندما تحدث الصاخة، فإن المرء سيهرب من أقرب الناس إليه.

وربما يتبادر إلى الذهن سؤال:

لماذا يفرُّ الإنسان يوم القيامة من أقرب الناس إليه؟

الجواب: هناك عدة أسباب لهذا الفرار، وكُلُّها مستوحاةٌ من الآيات والروايات الشريفة، ومنها:

السبب الأول: إنَّ وحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الإنسان علاقته بأخيه وأمه وأبيه وزوجته وأولاده فحسب، فهو ليس مجرد نسيان، وإنّما يتعدى إلى الفرار منهم، وستنقطع كل العلاقات والروابط، فهي وحشةٌ ورهبةٌ تجعل الإنسان -لا يأنس بلْ- يفرُّ من كلِّ المقربين إليه، تلك الوحشة التي كانوا يستجير الأئمة (علیهم السّلام) منها.

السبب الثاني: إنّما يفر المرء للتهرب من الحقوق التي عليه وهو عاجز عن أدائها، فلو استولى أخٌ على إرثِ أبيه وأخذ حقَّ إخوته ولم يستطيعوا أنْ يستردوه منه في الدنيا، ففي يوم القيامة يطالبونه به، فيهرب منهم، لأنه لا يستطيع وفاءهم حقهم، وكذا من استولى على مهر زوجته وحقوقها، وامثال هذه الحالات كثيرة لا تحصى.

فكلُّ ذي حقٍ سيطالب بحقه يوم القيامة ممن ظلمه؛ لذا سيهرب الظالم من المظلوم، والغاصب من المغصوب حقه، وهكذا.

السبب الثالث: إنّما يفرُّ المؤمنون خاصة من أقربائهم من غير المؤمنين، يعني الفرار

ص: 265

لا يكون من كلِّ الناس، وإنّما من خصوص الأقارب غير المؤمنين خوفًا من العقاب الذي قد يصلهم من خلالهم، فالمؤمنون يهربون، رغم أنّ القرآن الكريم يقول ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾(1)،

ولكن ربما ينسون ذلك لشدة الخوف والهلع من أهوال يوم القيامة.(2)

ويذكر القرآن الكريم قاعدةً أساسيةً لسبب هذا الفرار، حاصلها: أنَّ كلَّ إنسانٍ سيكون مشغولًا بنفسه ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.(3)

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، أنه قال له بعض أهله، يا رسول الله، هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال (صلّی الله علیه و آله): «ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه ولا بنيه ولا والديه، وذلك قول الله تعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه﴾».(4)

ص: 266


1- الأنعام: 164.
2- ننبه على أنه ليس من الصحيح تطبيق هذا المعنى في الدنيا، فيهرب المؤمن من هذا النوع من الأقارب المذنبين، بل عليه أن لا يقطع رحمه، وفي الوقت عينه أنْ يضع نصب عينه، وفق مبدأ «أمرنا رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أن نلقىٰ أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة» (الكافي 5: 59/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 10). أما إذا أدرك عصر ظهور صاحب الزمان (علیه السّلام) فعليه أنْ يهرب من المذنبين حتى لو كانوا آباءه وإخوانه وما شاكل ذلك، كما عليه أنْ لا يعترض على حكم الإمام المهدي (علیه السّلام) على المنحرفين وإنْ كانوا أقرب الناس إليه.
3- عبس: 37.
4- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج5 ص 586 ح 11397 / [3] عن (بستان الواعظين).
الاسم الثالث: يوم الفصل:

قال(عزّ و جلّ): ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا.يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾(1).

الفصل: هو أنْ تفصل شيئًا عن شيءٍ آخر، وهذا معناه واضح، ولكن ما هو الشي الذي سيتم فصله وعزله في ذلك اليوم؟

إنَّ في ذلك اليوم –حسب الآيات المباركة والروايات الشريفة- سيحصل فصلٌ بين عدةِ أمورٍ، نذكر منها التالي:

1/لأنه يومُ فصْلِ الحق عن الباطل.

في الحياة الدنيا تتوالى الفتن على المؤمنين حتى تجعل الحكيم حيرانًا، فيشتبه الحق بالباطل، والبعض يجعل الحقّ باطلًا، والباطل حقًا، أما في يوم القيامة فالحقُّ واضحٌ لا لبس فيه ولا اشتباه مطلقًا، وكذا الباطل واضح، ولا يختلطان معًا.

2/لأنه يوم فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

ففي الدنيا قد يتأذى المؤمن من جارٍ فاجر، أو يتأذى الرجل أو المرأة من شريكٍ غير صالحٍ ويكون مجبرًا على البقاء معه ومجالسته وتحمل أذاه، وهكذا... لكن يوم القيامة يجمع الله(عزّ و جلّ) الصالحين قرب الصالحين، والفاجرين قرب الفاجرين، ويفصل بين الصالحين والفاجرين، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم باللهِ الْغَرُورُ﴾(2).

﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم﴾ يعني بين المؤمنين والكافرين، وهذا الباب الذي بينهم له خصيصة، وهو أنّه في باطنه الرحمة، أي وكأنّه من الداخل هناك مدينة فيها بساتين

ص: 267


1- سورة النبأ: آية [17 و 18]
2- سورة الحديد: آية [13و 14]

وأشجار وأنهار، ومن خارجه شتى ألوان العذاب، فإنّ ظاهر هذا الباب هو العذاب وهو للمنافقين والكافرين.

ومن البديهي أنّ هذا الفصل غير متحقق في الدنيا، فقد يكون المؤمنون والكافرون متجاورين في الدنيا، ولكن يوم القيامة يفصل بينهم بحاجزٍ عظيم، وهذا الحاجز هو تجسم للاعتقادات والأعمال المختلفة، فإن كانت صالحةً تتجلى للمؤمنين براحةٍ نفسيةٍ لهم وأما الأعمال الطالحة للكافرين فتتجلى بعذابٍ لهم.

وهناك خصوصية أخرى لهذا الباب، وهو أنه لا يمنع الصوت؛ لذا ففي الآية التي تليها ينادي الكافرون المؤمنين ﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ فيجيبهم المؤمنون قالوا: بلى ولكن فُصلنا عنكم بسبب الخطايا والذنوب التي ارتكبتموها، والتي أبعدتنا وفصلتنا عنكم...

3/ لأنّه يوم فصلِ الإنسان عن كل ما يتعلق به من الأحبة والأموال.

ففي يوم القيامة يُفصل الإنسان عن والديه وعن أولاده وعن أخوته، ويُفصل أيضًا عن أمواله، ولا يكون معه سوى كتاب أعماله التي عملها في الدنيا، قال تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً* وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.(1)

وقد نبّه الله(عزّ و جلّ) على ذلك بقوله: ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.(2)

فلن تنفعهم الأرحام حينئذٍ وإنما يفصل فيما بينهم، ولا تجمعهم إلا رابطة واحدة

ص: 268


1- الكهف: 47 – 49.
2- سورة الممتحنة: آية [3]

وهي رابطة الإيمان.

ملاحظة:

إنَّ العلماء يذكرون –تبعاً لبعض الآيات والروايات- العديد من العلامات والأحداث لاقتراب الساعة والنفخ في الصور والنشر وماهية الصور وعدد النفخات وما شابه ذلك، وهي مسائلُ تُترك لمراحل أعلى؛ لأن البحث فيها طويل الذيل، وإنّما تطرقنا إلى تعدد أسماء ذلك اليوم لنأخذ منها العظة وما نستفيد منه في حياتنا اليومية، وكيف نقي أنفسنا ونستعد لأهوال هذا اليوم.

النقطة الثانية: الحساب.

أولاً: مسائل حسابها دقيق.

إنَّ يوم القيامة هو اليوم الذي ستتمُّ فيه محاسبة جميع الناس على كلِّ ما صدر منهم من أعمالٍ وأقوالٍ، فهو يومٌ يوضع فيه كتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وسيجدُ الجميع أعمالهم حاضرةً لديهم، فلا مجال للإنكار ولا مجال للظلم فيه، ويمكننا التعرف على كيفية الحساب وأهم المسائل المتعلقة فيه عبر التالي:

أولاً: مسائل حسابها دقيق.

ما من شكٍ أنّ الإنسان سيُحاسب على كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ، إلا أنّ هناك مسائل مهمة سوف يحاسب عليها الإنسان حسابًا دقيقًا، لذا علينا أنْ نهتم بها كثيرًا، وهذا لا يعني أنْ نهمل ما عداها، ولكن الروايات الشريفة أكدت وركزت عليها، وقد يكون ذلك للآثار المهمة المترتبة عليها. وسنذكر تلك الأمور وفقًا لما نصت عليه الروايات الشريفة وهي كالتالي:

1/ما ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال:: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتَّىٰ يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه

ص: 269

وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت»(1).

وهذا الأربعة سيكون الحساب فيها دقيقًا.

والملاحظ أن الرسول (صلّی الله علیه و آله) فصل الشباب عن العمر رغم أنّ الشباب جزءٌ من العمر، ولعله لأجل أنّه مرحلة خطرة جدًا من جهة، وحسابها يختلف لما يتميز به من قوة وطاقة متفجرة من الممكن أنْ تُستثمر في منفعة الإنسانية ونفسه من جهةٍ أخرى.

وليس المراد هنا فقط في الأمور العبادية، بل في كلِّ المجالات التي فيها جهة إيجابية، فيجب على الشاب أنْ لا يستغل هذه الطاقة في ما لا يرضي الله(عزّ و جلّ) وفي هتك الأعراض والسرقة وغيرها من الأمور.

والسؤال الآخر سيكون عن الأموال، ليس فقط من أين جمعها، وإنما سيكون السؤال: أين أنفقها أيضًا، فالبعض يكتسب المال من حلالٍ ولكنه ينفقه في الحرام، والبعض يكسبه من حرامٍ وينفقه في الحلال، وكلاهما غير مقبول، هذا فضلًا عمن يكسبه من الحرام وينفقه بالحرام. لذا يجب أنْ يُكتسب المال من الحلال وينفق بالحلال أيضًا، فالمؤمنُ محاسبٌ على وارداته وصادراته، وهذا يعني أن المؤمن ليس حراً في تصرفاته بأمواله كيفما شاء، وإنما هو حر في صرفها ما دام الصرف حلالاً.

والسؤال الأخير عن حبِّ أهل البيت (علیهم السّلام) وهو أمرٌ واضحٌ جدًا؛ لأنهم الثقل الأكبر الذي تركه الرسول (صلّی الله علیه و آله) بين أظهرنا.

2/ عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «أنا أول قادم على الله تعالى، ثم يقدم على كتاب الله تعالى، ثم يقدم على أهل بيتي، ثم يقدم على أمتي، فيقفون فيسألهم: ما فعلتهم في كتابي وأهل بيت نبيكم».(2)

ص: 270


1- الخصال للصدوق: 253/ ح 125.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 432 باب (17) باب في قول رسول الله (صلّی الله علیه و آله) «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي»- ح1.

3/ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال:«إن أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإذا قبلت قبل سائر عمله، وإذا رُدّت رُدّ عليه ساير عمله».(1)

سؤال وجوابه:

ربما يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: ذكرت الروايات أمورًا مختلفة يُسأل عنها العبد يوم القيامة ولا إشكال في ذلك، إنما الإشكال يرد في ذكرها لكلٍ من تلك الأمور على أنّها أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فهل هناك تضاد بين هذه الروايات؟

الجواب: من الواضح أنْ لا تضاد، وإنّما الروايات الشريفة تريدُ أنْ تبين الأمور التي ستكون في أول قائمة الحساب وكأنها هي التي سيُسأل عنها في الجلسة الأولى للحساب وهي المتصدرة في قائمة الحساب.

ثانياً: ما لا يُحاسب عليه الإنسان:

ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ الله(عزّ و جلّ) لا يحاسب الإنسان على بعض الأمور، وعند التأمل فيها نجد أنّها تشترك في أنّ الله(عزّ و جلّ) ألجأ الإنسان اليها، إذ جعلها من أساسيات نظام حياته، فهو يحتاج إليها ولا يستغني عنها، فليس من العدل ولا الكرم أنْ يُلجئ الله(عزّ و جلّ) الإنسان إلى شيءٍ ثم يُحاسبه عليه.

وهذا نظير السيارة، فهي لا يمكن أن تسير من دون وقود، فإذا نفد وقودها فليس من العقل بشيء معاقبتها أو محاسبتها؛ لأنها لا تسير، أو لأنها احتاجت إلى الوقود، فلو كان لها ما تنطق به لقالت: إنّ من صنعني صممني على أن أكون محتاجةً إلى هذا الوقود، فليس الذنب ذنبي.

ص: 271


1- الأصول الستة عشر- عدة محدثين- ص 110.

وتلك الأمور التي لا يُحاسب عليها الإنسان هي كما ورد في الروايات الشريفة:

1- الطعام الذي يأكله، فالإنسان لا يستطيع أنْ يعيش من دون طعام؛ لذا لا يحاسبه الله(عزّ و جلّ) عليه يوم القيامة أو يسأله لمَ أكلت طعامًا مثلًا، إذا كان من حلال طبعاً.

2- الثوب الذي يلبسه الإنسان؛ لأنّ الله(عزّ و جلّ) أمرنا بالستر؛ لذا يجب التستر بلبس الثوب، فلا يحاسب الله(عزّ و جلّ) يوم القيامة على الثوب الذي يلبسه.

3- والبيت الذي يسكنه.

4- الزوجة التي يُحصن بها فرجه.

وهذا يعني أنّ الله(عزّ و جلّ) لا يحاسب الإنسان على أصل الإلجاء إلى هذه الأمور، أي على الأكل والثوب والبيت الذي يلتجئ إليه، والزوجة التي يتخذها له

فعن الإمام الباقر (علیه السّلام): «ثلاث لا يُسئل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، وكسرة يسدُّ بها جوعته، أو بيت يكنُّه من الحرِّ والبرد»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام)، قال: «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب عليهنَّ المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه، ويحصن بها فرجه»(2).

فأصل الإلجاء لا يسأل اللهُ (سبحانه و تعالی)الإنسان عنه، ولكنه تعالى يمكن أن يُحاسبه على طريقة تحصيل هذه الأمور أو طريقة استعمالها، فيسأله: هل طريقة كسبك لهذا الطعام حلال أو حرام؟ فإنْ كان حرامًا فله أنْ يعاقبه، وكذا عن طريقة استعمال هذا الأمر، فلا يجوز للإنسان أن يستخدم بيته في أمورٍ محرمةٍ، وهكذا، كما لا بُدّ من مراعاة مقدار الحاجة فلا يُسرف الإنسان إسرافًا كبيرًا ولا يُبذر تبذيرًا فاحشًا، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَلا تُبَذِّرْ

ص: 272


1- تفسير مجمع البيان للطبرسي 10: 433.
2- الكافي للكليني 6: 280/ باب آخر في التقدير وأنَّ الطعام لا حساب له/ ح 2.

تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾(1)

ثالثاً: مما يُهوّن الحساب.

من الأمور الوجدانية: أنَّ محاسبة الإنسان -ولو في الأمور الدنيوية- تستلزم نوعًا من الضغط النفسي والخوف من التقصير في العمل والخوف من نتائج الحساب وما شابه، فعندما يحاسب مدير العمل موظفيه، يولّد هذا الحساب ضغطًا نفسيًا لدى الموظف؛ لذلك يلجأ الإنسان في الدنيا إلى بعض الأمور التي من شأنها أنْ تُخفف من وطأة الحساب أو تعفيه منه تمامًا، كأن يوسِّط بينه وبين المدير واسطة، أو يُكمل عمله على أكمل وجه ليخفف الضغط النفسي.

فكيف إذا كان المحاسِب هو الله(عزّ و جلّ)، وكان الحاكم هو الشاهد، والشاهد هو الحاكم؟! بل كيف إذا شهدت علينا جوارحنا والأرض التي نمشي عليها والزمان الذي كنا فيه؟!

كيف سيكون الضغط النفسي في وقت الحساب وعند دخولنا قاعة المحكمة؟!

إنّه لموقفٌ عظيم؛ ولذلك ذكرت بعض الروايات الشريفة -من باب الرحمة والمنة والتخفيف على الإنسان- بعض الأمور التي تُهوِّن من الحساب على الإنسان، فعلينا أنْ نلتزم بها ليخفف عنا الحساب يوم القيامة إنْ شاء الله(عزّ و جلّ)، وهي:

1/صلة الرحم:

يقول الإمام الباقر (علیه السّلام): «صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوىٰ، وتُيسِّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»(2).

ص: 273


1- الإسراء 26 و 27.
2- الكافي 2: 150/ باب صلة الرحم/ ح 4.

ويقول الإمام الصادق (علیه السّلام): «إنَّ صلة الرحم والبرَّ ليُهوِّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصِلوا أرحامكم، وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردِّ الجواب»(1).

فإذا كان الإنسان وصولًا لرحمه، فإنه سيخفف عنه الحساب إن شاء الله تعالى.

2/القناعة:

عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «واقنع بما أُتيته، يخف عليك الحساب».(2)

وهذا يعني: أنه إذا صارت لديك قناعةً بما يقسمه الله(عزّ و جلّ) لك، فإنه سيهون عليك الحساب.

3/ التخفيف من التعلق بالدنيا:

عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال:...واعلم أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى، فإنه وصيتنا أهل البيت، فإن استطعت أن لا تنال من الدنيا شيئاً تُسأل عنه غداً فافعل.(3)

يعني أنّ لك أنْ تأخذ من الدنيا، ولكن يجب أنْ يكون بالحلال، وأنْ لا تأخذ منها ما يُخرجك عن دين الله(عزّ و جلّ) وعن التقوى.

4/ حسن الخلق:

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال:... حسّن خُلُقك، يخفّف اللهُ حسابك..(4)

ص: 274


1- الكافي 2: 157/ باب صلة الرحم/ ح 31.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للحسن بن محمد الديلمي ص 344.
3- بحار الأنوار ج72 ص 365.
4- الأمالي للشيخ الصدوق ص 278 من حديث 308 / 9.

رابعاً: معنى: سوء الحساب.

ورد في بعض الآيات التعبير عن بعض مواقف الحساب (بسوء الحساب) مثل قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ﴾.(1)

فما هو معنى سوء الحساب؟

قد يتصور البعض إلى أنّ الحساب نفسه سيءٌ، ولكن ليس من المعقول ذلك إذا كان الحساب من الله تعالى؛ فإنّه(عزّ و جلّ) الحاكم العدل الرحمن الرحيم، وهو من يحاسب الإنسان برحمته.

وإنّما معنى سوء الحساب هو الاستقصاء على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وعدم الغض والتهاون في الأمور الصغيرة، أي يكون الحساب دقيقًا جدًا؛ فيوصف بأنّه حسابٌ سيءٌ؛ لما يشتمل عليه من الضغط النفسي، ولا شك أن الله تعالى لو حاسبنا بهذه الطريقة لضاعت علينا السبل ولم نجد منجىً منه سواه، قال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.(2)

وقال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً﴾.(3)

وهذا ما استفيد من بعض الروايات، فعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنَّه قال لبعض شيعته: «ما بال أخيك يشكوك؟»، فقال: يشكوني أن استقصيتُ عليه حقّي؟! فجلس (علیه السّلام)

ص: 275


1- الرعد: 21.
2- النحل: 61.
3- فاطر: 45.

مغضباً ثمّ قال: «كأنَّك إذا استقصيت عليه حقَّك لم تسئ! أرأيتك ما حكىٰ الله عن قوم يخافون سوء الحساب، أخافوا أن يجور الله عليهم؟! لا، ولكنْ خافوا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقصىٰ فقد أساء»(1).

خامساً: نتيجة الحساب

القسم الأول: أصحاب الجنة:
النقطة الأولى: شروط دخول الجنة.
الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَی * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

سينقسم الناس نتيجة الحساب الذي سيُحاسب الله(عزّ و جلّ) به جميع البشر إلى قسمين، وهما أصحاب الجنة وأصحاب النار.

القسم الأول: أصحاب الجنة:

ونذكر هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: شروط دخول الجنة.

إنّ دخول الجنة ليس بالأمر المجاني، وإنّما له شروط وواجبات لا بُدّ من التزامها، ذكرتها الآيات والروايات المُفسرة تفصيلًا، سنذكر منها اثنين ترغيبًا للالتزام بها:

الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(2).

الآيةُ واضحةٌ في أنّ الجنة تكون مأوىً لمن حققّ في نفسه شرطين:

1/الخوف من الله(عزّ و جلّ).

2/السيطرة على النفس وكبح جماحها، وهو نتيجةٌ حتمية للالتزام بالشرط الأول.

إنّ أبغض إلهٍ عُبِد على وجه الأرض هو ﴿الْهَوَىٰ﴾ وقد نهى الله تعالى عن اتباعه،

ص: 276


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 372).
2- سورة النازعات: آية [40،41]

وحيث إنَّ من يخاف الله(عزّ و جلّ) فإنه ينتهي عن مناهيه، فهو يعمل على اجتنابه، والهوى –إنْ صحَّ التعبير- مصدر المعاصي والدافع الأساسي إليها، وباجتنابه يكون الإنسان قد سيطر على نفسه وكبح جماحها مبتعدًا عن جميع المعاصي.

بيان: معنى ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾.

ذكرت الآية المباركة: ﴿مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، ولم تقل: (خاف ربه)، وفيها دلالة عميقة ولطيفة في آنٍ واحد، وهي: أنَّ الإنسان لا يخاف من الله(عزّ و جلّ)؛ لأنه (سبحانه و تعالی)خيرٌ محض، وكله رحمة ورأفة، فذات الله(عزّ و جلّ) لا يُخاف منها، وإنّما الخوف هو من مقامه(سبحانه و تعالی).

ما المقصود من هذا المقام؟

ذُكِرت عدة آراء، ومنها:

1/مواقف القيامة

يقف الإنسان يوم القيامة مواقفَ ومقاماتٍ بين يدي ربه تعالى للحساب، يتعرضُ فيها للضغط النفسي والخوف أيضًا، وعلى هذا يكون معنى﴿خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ أنَّ المؤمن يخاف مواقف يوم القيامة التي تُنسي الوالد ولده، وتبعث على الفرار من الأقربين، كما تقدّم ذكره في المباحث السابقة، حيثُ الكلُّ ينادي نفسي نفسي إلا رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) فإنه يقول: «ربي أمتي أمتي».

وقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه قال لأبي ذر: ولو كان لرجل عمل سبعين نبياً لاستقلّ عمله من شدة ما يرى يومئذ، ولو أن دلواً صُبّ من غسلين في مطلع الشمس لغلت منه جماجم من في مغربها، ولو أن زفرات جهنم زفرت لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثياً على ركبتيه، يقول: رب نفسي نفسي حتى ينسى إبراهيم

ص: 277

إسحاق3 يقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم، لا تنسني.(1)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ (صلّی الله علیه و آله): أَخْبَرَنِي الرُّوحُ الأَمِينُ أَنَّ الله لَا إِلَه غَيْرُه إِذَا وَقَفَ الْخَلَائِقَ وجَمَعَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، أُتِيَ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِأَلْفِ زِمَامٍ، أَخَذَ بِكُلِّ زِمَامٍ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ مِنَ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ، ولَهَا هَدَّةٌ وتَحَطُّمٌ(2) وزَفِيرٌ وشَهِيقٌ، وإِنَّهَا لَتَزْفِرُ الزَّفْرَةَ، فَلَوْ لَا أَنَّ الله(عزّ و جلّ) أَخَّرَهَا إِلَى الْحِسَابِ لأَهْلَكَتِ الْجَمِيعَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ يُحِيطُ بِالْخَلَائِقِ الْبَرِّ مِنْهُمْ والْفَاجِرِ، فَمَا خَلَقَ الله عَبْداً مِنْ عِبَادِه مَلَكٍ ولَا نَبِيٍّ إِلَّا ويُنَادِي: يَا رَبِّ، نَفْسِي نَفْسِي. وأَنْتَ تَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي.

ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا صِرَاطٌ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، عَلَيْه ثَلَاثُ قَنَاطِرَ: الأُولَى عَلَيْهَا الأَمَانَةُ والرَّحْمَةُ، والثَّانِيَةُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ، والثَّالِثَةُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا إِلَه غَيْرُه، فَيُكَلَّفُونَ الْمَمَرَّ عَلَيْهَا، فَتَحْبِسُهُمُ الرَّحْمَةُ والأَمَانَةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا حَبَسَتْهُمُ الصَّلَاةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا كَانَ الْمُنْتَهَى إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ ذِكْرُه، وهُوَ قَوْلُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾(3) والنَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَمُتَعَلِّقٌ تَزِلُّ قَدَمُه وتَثْبُتُ قَدَمُه، والْمَلَائِكَةُ حَوْلَهَا يُنَادُونَ: يَا كَرِيمُ يَا حَلِيمُ، اعْفُ واصْفَحْ وعُدْ بِفَضْلِكَ وسَلِّمْ. والنَّاسُ يَتَهَافَتُونَ(4) فِيهَا كَالْفَرَاشِ، فَإِذَا نَجَا نَاجٍ بِرَحْمَةِ الله (تَبَارَكَ وتَعَالَى) نَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ بَعْدَ يَأْسٍ بِفَضْلِه ومَنِّه، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ».(5)

2/علم الله(عزّ و جلّ)

ص: 278


1- الأمالي للشيخ الطوسي ص 533 من حديث رقم (1162 / 1)
2- الهدة: صوت وقع الحائط ونحوه والتحطم: التلظي، ويقال: تحطم الرجل غيظا أي تلظى. [هامش المصدر]
3- الفجر: 14. والمرصاد: الطريق والمكان يرصد فيه العدو. [هامش المصدر]
4- التهافت: التساقط قطعة قطعة. [هامش المصدر]
5- الكافي للكليني ج8 ص 312 و 313 ح 468.

لله (سبحانه و تعالی)مقام مراقبة الإنسان، قال(عزّ و جلّ): ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.(1)

فاللهُ(عزّ و جلّ) يراقب كلَّ نفسٍ ويُحصي عليها ما كسبت، فإذا عاش الإنسان الإحساس بأنّ الله(عزّ و جلّ) مطلعٌ عليه ويُحصي عليه أنفاسه، عندئذٍ سيؤدي به هذا العلم والشعور بالمراقبة الإلهية إلى أنْ ينهى النفس عن الهوى.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): ﴿ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّه جَنَّتانِ﴾ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ الله(عزّ و جلّ) يَرَاه ويَسْمَعُ مَا يَقُولُه ويَفْعَلُه مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُه ذَلِكَ عَنِ الْقَبِيحِ مِنَ الأَعْمَالِ، فَذَلِكَ الَّذِي ﴿خافَ مَقامَ رَبِّه ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى﴾.(2)

3/ مقام العدالة الإلهية.

أي إنَّ المؤمن يخاف مقام العدالة الإلهية، لا من الذات المقدسة؛ لأنّها كُلُّها رحمة، وإنّما الخوف من عدل الله(عزّ و جلّ)؛ لأنَّ الإنسان إذا نظر إلى أعماله وقاسها بعدله(عزّ و جلّ)، فسيرى نفسه خاسرًا لا محالة، فإنه(عزّ و جلّ) إذا أراد أن يحاسب الإنسان بعدله فإنَّ نعمة واحدة -نعمة البصر مثلًا- تذهب بكلِّ أعماله الصالحة، إذ لا يبلغ الإنسان شكر الله(عزّ و جلّ) على هذه النعمة مهما أتى من عبادات ومهما قام به من طاعات وقربات، فكيف ونعمه فوق حدِّ الإحصاء، قال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾.(3)

فلو كان كل الناس عمياناً لما تطوّرت الحياة، ولما كانت كلّ هذه الحضارة والتقدم والتكنولوجيا، فإنّ هذه النعمة الواحدة (نعمة العين) تكفي أنْ تذهب جميع أعمال

ص: 279


1- سورة الرعد: آية [33]
2- الكافي للكليني ج2 ص 80 بَابُ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ح1.
3- إبراهيم 34.

الإنسان الصالحة أمامها؛ لذلك نحن دائمًا ندعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يعاملنا بعطفه ورحمته وجوده ومنّه؛ لأنّه إذا عاملنا بعدله فنحن مقصرون لا محالة، وعاجزون عن شكر أصغر نعمه (تبارك وتعالى) علينا.

الثاني: ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) حسب حديث السلسلة الذهبية.

يبين هذا الحديث الشريف أن شرط دخول الجنة هي ولاية أهل البيت (علیهم السّلام)، ونصه واضح جداً في هذا المعنى، إذ روي عن إسحاق بن راهويه قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (علیه السّلام) نيسابور، فأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟ وكان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه وقال: «سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله(عزّ و جلّ) يقول: (لا إله إلا الله) حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي»، فلما مرت الراحلة نادى: «بشروطها وأنا من شروطها».(1)

هذه الرواية تنقل حديثًا قدسيًا عن الله(عزّ و جلّ) أنَّ كلمة (لا إله إلا الله) هو حصن الله(عزّ و جلّ) ومن يدخل هذا الحصن يأمن من العذاب، ولكن نبّه الإمام (علیه السّلام) أنَّ لهذا الحصن شرطًا وهو: أنْ يتمَّ التوحيد الذي هو حصنُ الله(عزّ و جلّ) من العذاب بالولاية لأهل البيت (علیهم السّلام).

وفي حديثٍ أصرح من هذا أيضًا، وهو حديثٌ قدسيٌ، عن علي بن موسى الرضا (علیه السّلام) عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) عن النبي (صلّی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم قال: «يقول الله(عزّ و جلّ): ولاية علي بن أبي طالب حصني، فمن

ص: 280


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص7.

دخل حصني أمن من عذابي».(1)

وببيانٍ آخر:

إن ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) هي المنجية يوم القيامة، وهي شرط دخول الجنة، ونبين ذلك عبر عدة خطوات:

الخطوة الأولى: إنّ التوحيد يقود إلى الجنة.

لما روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: والذي بعثني بالحق بشيراً، لا يعذّب الله بالنار موحداً أبداً، وإن أهل التوحيد ليشفعون فيشفعون.(2)

الخطوة الثانية: لهذا التوحيد شرط قبول، وهو الإخلاص.

أي إنّ هذا التوحيد الذي يُثمر دخول الجنة هو التوحيد المقترن بالإخلاص، وإلا، فمن دونه [الإخلاص] فالمؤمن توحيده ناقصٌ وربما يقوده إلى النار؛ فعنه (صلّی الله علیه و آله): «إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله(عزّ و جلّ)، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار».(3)

الخطوة الثالثة: كيف يتحقق الإخلاص بالتوحيد؟

بعد أنْ بيّنتِ الروايات أنّ شرط التوحيد بالإخلاص، صرّحت أنّ ذلك الإخلاص هو ولايةُ أهل البيت (علیهم السّلام)، فمعنى الإخلاص هو ولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

فعن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: كنت مع الرضا (علیه السّلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء، وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة

ص: 281


1- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 146 باب (38) باب خبر نادر عن الرضا (علیه السّلام).
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 372 ح 469 / 10.
3- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.

تعلقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا بن رسول الله، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدثنا عن آبائك (علیهم السّلام)، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز، فقال: «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله)، قال: أخبرني

جبرئيل الروح الأمين، عن الله (تقدست أسماؤه وجل وجهه) قال: إني أنا الله، لا إله إلا أنا وحدي عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصا بها، أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي».

قالوا: يا بن رسول الله، وما إخلاص الشهادة لله؟ قال. «طاعة الله ورسوله، وولاية أهل بيته (علیهم السّلام)».(1)

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: «جاء أعرابي إلى النبي (صلّی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: نعم. قال: ما ثمنها؟ قال: (لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها. قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي. قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: أجل، إن حبهم لأعظم حقها».(2)

وفي صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها».(3)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) قَالَ: «يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ

ص: 282


1- أمالي الشيخ الطوسي ص589 ح1220/ 9.
2- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
3- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.

كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ (لَا إِلَه إِلَّا الله) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ».(1)

النقطة الثانية: موانع دخول الجنة.

كما أنَّ لدخول الجنة شروطًا ومقتضياتٍ، كذلك هناك موانعُ تمنع من دخولها، وهي عبارةٌ عن أعمالٍ وأقوالٍ من شأنها أنْ تكون مانعًا من دخول الجنة، مما يعني أنّها من مقتضيات دخول جهنم نستجير بالله تعالى، والروايات كثيرةٌ في هذا المجال، نذكرُ منها:

1/الكِبْر.

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «لا يدخل الجنَّة عبد في قلبه مثقال ذرَّة من خردل من كبر، ولا يدخل النار عبد في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان»، قلت: جُعلت فداك، إنَّ الرجل ليلبس الثوب ويركب الدابَّة، فيكاد يعرف من نفسه الكبر؟ قال: «ليس ذلك بكبر، إنَّما الكبر إنكار الحقِّ، والإيمان إقرار بالحقِّ»(2).

ولقد كان من أهم صفات رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنه كان متواضعًا مع نفسه وأصحابه وحتى مع الأطفال، فقد كان يبدأهم بالسلام لتكون سنةً من بعده (صلّی الله علیه و آله).

فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهنَّ حتَّىٰ الممات: الأكل علىٰ الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلب العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم علىٰ الصبيان، لتكون سُنَّة من بعدي».(3)

ص: 283


1- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.
2- ثواب الأعمال: 221 و222.
3- الخصال للشيخ الصدوق: ص 271.

2/القول الفاحش وقلة الحياء.

قَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): «إِنَّ الله حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيءٍ قَلِيلِ الْحَيَاءِ، لَا يُبَالِي مَا قَالَ ولَا مَا قِيلَ لَه، فَإِنَّكَ إِنْ فَتَّشْتَه لَمْ تَجِدْه إِلَّا لِغَيَّةٍ أَوْ شِرْكِ شَيْطَانٍ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وفِي النَّاسِ شِرْكُ شَيْطَانٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله (صلّی الله علیه و آله): أمَا تَقْرَأُ قَوْلَ الله(عزّ و جلّ): ﴿وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ﴾(1)..».(2)

3/الدياثة.

روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «حُرِّمَتِ الْجَنَّةُ عَلَى الدَّيُّوثِ».(3)

4/عقوق الوالدين.

روي عن الرسول (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «الجنةُ حرامٌ على عاقِّ والديه».(4)

ولنضع في الحسبان أنه ورد أنَّ من لم يبر والديه في حياتهما فليبرهما بعد مماتهما، فيدعو لهم ويعمل أعمال الخير لهم ويتصدق عنهم فيستدرك ما بدر منه عن عقوق والديه.

فعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السّلام)، قال: «إنَّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله(عزّ و جلّ) عاقّاً. وإنَّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضىٰ دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله(عزّ و جلّ) بارّاً»(5).

وقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال: «مرَّ عيسىٰ بن مريم (علیه السّلام) بقبر يُعذَّب صاحبه،

ص: 284


1- الإسراء: 64.
2- الكافي للكليني ج2 ص 323 و 324 بَابُ الْبَذَاءِ ح3.
3- الكافي للكليني ج5 ص 537 بَابُ الْغَيْرَةِ ح8.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ص 437.
5- الكافي للكليني 2: 163/ باب البرِّ بالوالدين/ ح 21.

ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو لا يُعذَّب، فقال: يا ربِّ، مررت بهذا القبر عام أوَّل فكان يُعذَّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب؟ فأوحىٰ الله إليه أنَّه أُدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوىٰ يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه...»(1).

5/النميمة.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «لا يدخل الجنة قتات».(2)

والقتات هو النمام أو الذي يستمع للناس من دون أن يعلموا فينمَّ عليهم.

6/الجور.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إيّاك والجور؛ فإنّ الجائر لا يريح رائحة الجنة».(3)

7/الجحود بولاية أهل البيت (علیهم السّلام).

عنه (صلّی الله علیه و آله): «لما أسري بي إلى السماء أوحى إلي ربي جل جلاله فقال: يا محمد، إني أطلعت على الأرض إطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبيا وشققت لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم أطلعت الثانية فاخترت منها علياً، وجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريتك، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي من المقربين، يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن

ص: 285


1- الكافي للكليني 6: 3 و4/ باب فضل الولد/ ح 12.
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 511 مناهي النبي (صلّی الله علیه و آله).
3- موسوعة أحاديث أهل البيت (علیهم السّلام) للشيخ هادي النجفي ج2 ص 437 ح [2350] 10 نقلاً عن الآمدي في غرره (ح 2670).

البالي(1)، ثم أتاني جاحدا لولايتهم فما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي..».(2)

8/الصلاة البتراء.

عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من صلى عليّ ولم يصلِّ على آلي، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».(3)

9/الشرك وإدمان الخمر.

روي عنه (صلّی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى بنى الفردوس بيده، وحظره على كل مشرك وكل مدمن الخمر سكير».(4)

10/الرد على الله(عزّ و جلّ) أو الإمام وحبس حق المؤمن.

روي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إنّ الله (تبارك وتعالى) آلى على نفسه أنْ لا يسكن جنته أصنافًا ثلاثة: رادٌّ على الله(عزّ و جلّ) أو رادٌّ على إمام هدى أو من حبس حق امرئٍ مؤمن».(5)

النقطة الثالثة: الجنةُ درجاتٌ.

مُخطئٌ من يظن أنّ الجنة درجةٌ واحدة أو أنّ كلَّ الذين يدخلون الجنة سيكونون بمكانٍ واحد، فالجنةُ درجاتٌ ومراتبُ، ولا بُد للإنسان أنْ يسعى لأن يكون في المراتب العليا من الجنة وإلا ستصيبه الحسرة حينئذ.

ص: 286


1- الشن البالي: الأسقية الخلقة التعبانة القديمة
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 252 ب 23 ح2.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 267 ح291 / 12.
4- شعب الإيمان للبيهقي ج5 ص 11 ح 5590.
5- الخصال للشيخ الصدوق ص 151 ح 185.

قال عز من قائل: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾(1)

وعن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله) أنه كان يقول: «ذر الناس يعملون، فإن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس».(2)

وفي رواية أخرى: «الجنة مائة درجة، لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم».(3)

بل ورد في بعض الروايات الشريفة أن الفردوس نفسها فيها درجات مختلفة، فقد ورد عن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله):... «من صلى صلاة الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله(عزّ و جلّ) حتى تطلع الشمس، كان له في الفردوس سبعون درجة، بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة(4)، ومن صلى الظهر في جماعة كان له في جنات عدن خمسون درجة بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد خمسين سنة، ومن صلى العصر في جماعة كان له كأجر ثمانية من ولد إسماعيل كل منهم رب بيت يعتقهم، ومن صلى المغرب في جماعة كان له كحجة مبرورة وعمرة مقبولة، ومن صلى العشاء في جماعة كان له كقيام ليلة القدر..».(5)

وقد يسأل سائل: ما الذي يؤدي إلى تفاضل الناس بين هذه الدرجات؟

ص: 287


1- الإسراء 21.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 455 ح 39238.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 451 ح 39222.
4- الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه، وضمْر الفرس للسباق: ربطه وعلفه وسقاه كثيرا مدة، ثم يركضه في الميدان حتى يخف ويدق ويقل لحمه. [هامش المصدر]
5- الأمالي الشيخ الصدوق ص 123 – 124 ح 113 / 1.

يمكن الجواب بالاستفادة من الروايات الشريفة إذ إنّها تشير إلى أسبابٍ ومنها:

1/المعرفة.

فكلما ازدادت معرفة الإنسان، كلما ارتفعت درجته في الجنة؛ فطريقُ طلب العلم هو في الحقيقة ليس طريقًا لحصول الطالب على الدرجات العليا في الدنيا فحسب، بل غاية طالب العلم هو أنْ يرتفع قدره عند الله(عزّ و جلّ)، ومن ثم سيرتقي بدرجاتٍ عليا في الجنة.

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: إنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.(1)

2/العمل.

فكلما زاد عمل الإنسان كلما زادت درجته في الجنة، فقد ورد عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «أنّ رجلًا أدخل الجنة فرأى عبده فوق درجته فقال يا رب هذا عبدي فوق درجتي بالجنة؟ فيُجيبه الله(عزّ و جلّ): نعم، جزيته بعمله وجزيتك بعملك».

3/الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ)

ورد في رواياتٍ أخرى بما مضمونها أنّ الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ) يزيد من فرصة الحصول على الدرجات العليا في الجنة، فقد ورد أنَّ اثنين يدخلان الجنة فيجد أحدهما صاحبه في درجةٍ أعلى منه وهما لهما نفس العمل، فيسال الله(عزّ و جلّ) عن السبب فيقول الله(عزّ و جلّ): هو دعاني وطلب مني وأنت لم تطلب، فيلزم أن ندعو الله(عزّ و جلّ) أنْ يرزقنا الدرجات العليا من فضله.

فقد روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «يدخل الجنة رجلان، كانا يعملان عملاً واحداً،

ص: 288


1- تحف العقول للحراني ص 54.

فيرى أحدهما صاحبه فوقه فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني. ثم قال (صلّی الله علیه و آله): اسألوا الله واجزلوا فإنه لا يتعاظمه شيء».(1)

سؤال:

لا شك أنّ أعظم الدرجات في الجنة يكون فيها النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله) وأنّ الروايات الشريفة أشارت إلى ذلك، فما هي الأعمال التي يمكن أن تجعل المؤمن أقرب من منزلة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) في الجنة؟

ذكرت الروايات الشريفة بعض الأعمال التي تجعل المؤمن أقرب من منزلة رسول الله (صلّی الله علیه و آله) في الجنة، نذكر منها:

1/أنْ يكون المرء من شيعة أهل البيت (علیهم السّلام)، فقد ورد أنه أخذ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) بيد الحسن والحسين فقال: «من أحب هذين الغلامين وأباهما وأمهما، فهو معي في درجتي يوم القيامة».(2)

2/أنْ يكفل يتيما، ففي بعض الروايات عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا: وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما».(3)

3/بعض الأمور، فقد ورد عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «من قلَّ ماله، وكثر عياله، وحسنت صلاته،ولم يغتبِ المسلمين، جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين».(4)

4/ذكر مصاب أهل البيت (علیهم السّلام)، روي عن الإمام الرضا (علیه السّلام) أنّه قال: من تذكر

ص: 289


1- عدة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد الحلي ص 36.
2- كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه ص 117 باب 15 ح [128] 13.
3- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري ج3 ص 346 ح 3831.
4- مجمع الزوائد للهيثمي ج10 ص 256.

مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».(1)

القسم الثاني: أصحاب النار.
النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم.

بادئ ذي بدءٍ لا بُدّ أنْ نعلم أنَّ الله(عزّ و جلّ) لم يكن ليخلق النار لو أنَّ البشر جميعًا التزموا بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، ولكن لأنهم ليسوا كذلك، كان من الضروري وضع حوافز لهم لدفعهم إلى ذلك، وهي الجنة، ولأنَّهم ليسوا جميعًا ممن يُجدي معه الترغيب بدخول الجنة نفعًا، اقتضت حكمة الله(عزّ و جلّ) خلق النار، وبذا كان هناك حافزان لالتزام عموم شرائع الله تعالى، وهما: الجنة والنار، وإلا فهناك صنفٌ من البشر -وهم الصفوة -لم تحملهم على التقوى جنةٌ ولا نار، وإنما حملهم عليها إحساسهم العالي بجليل نعم الله(عزّ و جلّ) عليهم، ثم إحساسهم الكبير بوجوب شكره (سبحانه و تعالی)، فيعبدونه لأجل ذلك حق عبادته. روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ».(2)

إذن، مما خلق الله(عزّ و جلّ) النار لأجله هو لتحفيز البشر على العبادة والالتزام، من خلال إخبارهم بأليم عذابها وعظيم عقابها لمن يعصي الله (سبحانه و تعالی)ويخالف أوامره ونواهيه، وإلا لو علموا أنّهم سيدخلون الجنة على أيةِ حال، فمن البعيد –ربما- أنْ يلتزم عوام الناس بأوامر الله تعالى ونواهيه، ولكان ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب أمرًا واردًا جدًا، بل نحن نرى أن بعضاً ممن يؤمن بوجود الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، ويعرف الأوامر

ص: 290


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 131 ح 119 / 4.
2- نهج البلاغة حكمة رقم 234

والنواهي، يرتكب المعاصي، فكيف لو لم تكن هناك جهنمٌ ووعيدٌ بالعقاب؟!

بل ربما يكون الاختبار حينئذٍ عبثًا؛ لانعدام الثمرة المترتبة عليه، خصوصاً وأنّ الإنسان يميل عادةً إلى الانفلات وعدم الانضباط وينزع إلى التحرر من القواعد والقوانين، «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ».(1)

ومن هنا نفهم بعض الحكمة من خلق الجنة والنار.

وهنا نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم.(2)

يمكن أن نستفيد من الروايات الشريفة أنَّ هناك العديد من الأسباب أو المقتضيات التي يسبب ارتكابها من قبل الإنسان دخوله النار، نذكر منها:

1/الغفلة: فقد روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «لا تكن غافلًا عن دينك، حريصًا على دنياك، مستكثرًا مما لا يبقى عليك، مستقلًا مما يبقى لديك، فيوردُك ذلك العذاب الشديد».(3)

2/الاستكبار: ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا يدخل الجنة أحد فيه مثقال حبة من خردل من كبر..».(4)

3/الكفر: وقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله): «إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة، فيقول:

ص: 291


1- القيامة 5.
2- ذكر الشيخ محمد الريشهري (حفظه الله) في كتابه (الجنة والنار في الكتاب والسنة) أربعةً وسبعين عنوانًا من أسباب دخول النار والعياذ بالله.
3- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 527 و 528.
4- الأصول الستة عشر لعدة من المحدثين ص 75.

أرحني ولو إلى النار».(1)

4/الشرك: وقد ورد عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إن الله(عزّ و جلّ) يحاسب كل خلق إلا من أشرك بالله، فإنه لا يُحاسَب يوم القيامة، ويؤمر به إلى النار».(2)

5/الارتداد: نذكّر هنا بما حدث بعد رسول الله الأعظم (صلّی الله علیه و آله) من ارتداد هذه الأمة على أدبارها وانقلابها على أعقابها، وبالرغم من ذلك لا زال البعض يؤمن بأنَّ جميع الصحابة عدول!

فقد ورد في بعض الروايات، ومنها مرويٌ في كتب العامة، أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يرى يوم القيامة من يحرم من أن يشرب من الحوض من الصحابة، عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال النبي (صلّی الله علیه و آله): «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا.

ثم يكمل (صلّی الله علیه و آله): ليردن عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني ثم يُحال بيني وبينهم».

فقال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لقد سمعته وهو يزيد فيها فيقول الرسول (صلّی الله علیه و آله): «فأقول إنّهم مني، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فأقول: سحقًا سحقًا لمن غيّر بعدي»(3).

6/الظلم: وقد ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «الحمد لله الذي... جعل الجنة ثواب المتقين، والنار عقاب الظالمين».(4)

ص: 292


1- مسند أبي يعلى لأبي يعلى الموصلي ج8 ص 398.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السّلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 37.
3- صحيح البخاري، ج2، ص 834، ح2238، وفي صحيح مسلم، ج4، ص1800، ح38.
4- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص 89 ح 24 / 24.

7/الركون إلى الظالم: بأن يكون الإنسان من أتباعه، كأن يتولاه أو يساعده أو يمدحه وما شابه، والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًا، نذكرُ ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (علیه السّلام) فِي قَوْلِ الله(عزّ و جلّ): «﴿ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(1) قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَأْتِي السُّلْطَانَ فَيُحِبُّ بَقَاءَه إِلَى أَنْ يُدْخِلَ يَدَه إِلَى كِيسِه فَيُعْطِيَه».(2)

فحتى هذه الفترة اليسيرة التي يحب فيها الإنسان بقاء الظالم، ينطبق عليه تفسير الآية الشريفة!

وقد ورد عن الإمام الكاظم (علیه السّلام) رواية عن صفوان الجمال الكوفي وهو من أصحاب الإمام الصادق (علیه السّلام) والإمام الكاظم (علیه السّلام)، وهو رجلٌ صاحبُ تقوى، وكانت معيشتُه تعتمد على إجارةِ إبله. يقول: دخلت علىٰ أبي الحسن الأوَّل (علیه السّلام)، فقال لي: «يا صفوان، كلُّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جُعلت فداك، أيُّ شيء؟ قال: «اكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -»، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو، ولكنّي أُكريه لهذا الطريق - يعني طريق مكَّة -، ولا أتولّاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم جُعلت فداك، قال: فقال لي: «أتُحِبُّ بقاءهم حتَّىٰ يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلىٰ هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان، بلغني أنَّك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهاتَ هيهاتَ أنّي لأعلم من أشار عليك بهذا موسىٰ بن جعفر، قلت: ما لي ولموسىٰ بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك، فوَالله لولا حسن

ص: 293


1- هود: 113. والركون الميل والاعتماد.
2- الكافي للكليني ج5 ص 108 و 109 بَابُ عَمَلِ السُّلْطَانِ وجَوَائِزِهِمْ / ح12.

صحبتك لقتلتك(1).

8/البدعة في الدين: والبدعةُ هي إدخال شيءٍ في الدين ليس من الدين، قال الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله): «أصحابُ البدع كلابُ النار».(2)

9/مخالفة أهل البيت (علیهم السّلام): ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الله(عزّ و جلّ) نَصَبَ عَلِيّاً (علیه السّلام) عَلَماً بَيْنَه وبَيْنَ خَلْقِه، فَمَنْ عَرَفَه كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَه كَانَ كَافِراً، ومَنْ جَهِلَه كَانَ ضَالاًّ، ومَنْ نَصَبَ مَعَه شَيْئاً كَانَ مُشْرِكاً، ومَنْ جَاءَ بِوَلَايَتِه دَخَلَ الْجَنَّةَ».(3)

10/بغض أهل البيت (علیهم السّلام): ورد عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السّلام)، فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون علياً. قال: قرّبني إليهم، فلما أن أوقف عليهم، قال: أيكم السابّ الله؟ قالوا: سبحان الله! من يسبّ الله فقد أشرك بالله. قال: فأيكم السابّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله)؟ قالوا: من يسبّ رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم السابّ علي بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله) يقول: «من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله(عزّ و جلّ)»، ثم مضى.

فقال لقائده: فهل قالوا شيئاً حين قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئاً. قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:

نظروا إليك بأعين محمرة *** نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك. قال:

خزر الحواجب، ناكسو أذقانهم *** نظر الذليل إلى العزيز القاهر

ص: 294


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 740/ ترجمة رقم 828).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 218 ح 1094.
3- الكافي للكليني ج1 ص 437 بَابٌ فِيه نُتَفٌ وجَوَامِعُ مِنَ الرِّوَايَةِ فِي الْوَلَايَةِ/ ح7.

قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا. قال: لكن عندي.

أحياؤهم خزي على أمواتهم *** والميتون فضيحة للغابر.(1)

النقطة الثانية: موانع دخول جهنم.

وهي -من وجهٍ ثانٍ- مقتضياتُ دخول الجنة، وقد ذكرت الروايات والآيات الشريفة العديد منها(2)، نذكر منها:

1/الإيمان بالحدِّ الذي تقدّم بيانه، بأنّ الإيمان هو ليس مجرد كلام وإنّما هو: قولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، واعتقادٌ بالقلب والجنان.

في روايةٍ عَنْ زُرَارَةَ قَال:َ «قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام): يَدْخُلُ النَّارَ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ (علیه السّلام): لَا والله..».(3)

وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «بِتَمَامِ الإِيمَانِ دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وبِالزِّيَادَةِ فِي الإِيمَانِ تَفَاضَلَ الْمُؤْمِنُونَ بِالدَّرَجَاتِ عِنْدَ الله، وبِالنُّقْصَانِ دَخَلَ الْمُفَرِّطُونَ النَّارَ».(4)

ص: 295


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 157 و 158 ح 151 / 2.
2- وهناك عناوين أخرى بلغت أربعين عنوانًا من موانع دخول نار جهنم حسب الروايات الشريفة، ذكرها الشيخ محمد الريشهري (حفظه الله) في كتابه (الجنة والنار في الكتاب والسنة)
3- الكافي للكليني ج2 ص 385 باب الكفر ح7، وتمام الرواية: عَنْ زُرَارَةَ قَال:َ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (علیه السّلام): «يَدْخُلُ النَّارَ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ (علیه السّلام): لَا والله.. فَمَا يَدْخُلُهَا إِلَّا كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَنْ شَاءَ الله. فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْه مِرَاراً قَالَ لِي: أَيْ زُرَارَةُ، إِنِّي أَقُولُ لَا، وأَقُولُ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله، وأَنْتَ تَقُولُ: لَ،ا ولَا تَقُولُ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله! قَالَ: فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وحَمَّادٌ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: شَيْخٌ لَا عِلْمَ لَه بِالْخُصُومَةِ! قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا زُرَارَةُ، مَا تَقُولُ فِيمَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالْحُكْمِ، أتَقْتُلُه؟ مَا تَقُولُ فِي خَدَمِكُمْ وأَهْلِيكُمْ أتَقْتُلُهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا والله الَّذِي لَا عِلْمَ لِي بِالْخُصُومَةِ».
4- الكافي للكليني ج2 ص 37 بَابٌ فِي أَنَّ الإِيمَانَ مَبْثُوثٌ لِجَوَارِحِ الْبَدَنِ كُلِّهَا/ ح1، والرواية طويلة.

2/ولاية أهل البيت (علیهم السّلام): وقد ثبت هذا في أكثر من مرةٍ، ففي الرواية عن النبي (صلّی الله علیه و آله)، قال: إذا كان يوم القيامة ونُصب الصراط على جهنم، لم يجز عليه إلا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾(1) يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (علیه السّلام).(2)

3/التقوى: قال(عزّ و جلّ): ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّىٰ. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَىٰ. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَىٰ. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّىٰ. وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلىٰ. وَلَسَوْفَ يَرْضىٰ﴾(3)

والتقوى هي العمل بالواجبات وترك المحرمات، وفي هذا المجال رواياتٌ كثيرةٌ جدًا، ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنّه قال: «التقوى أوكد سببٍ بينك وبين الله إنْ أخذت به، وجُنةٌ من عذابٍ أليم».(4)

4/التوبة والاستغفار: وهو علاجٌ لمن خالف التقوى ووقع في الذنب، وقد ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «فروا من فضول الدنيا كما تفرون من الحرام، وهونوا على أنفسكم الدنيا كما تهونون الجيفة، وتوبوا إلى الله من فضول الدنيا وسيئات أعمالكم، تنجوا من شدة العذاب».(5)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لا يزال العبد آمنًا من عذاب الله ما استغفر

ص: 296


1- الصافات 24.
2- الأمالي للشيخ الطوسي ص 290 /ح564 / 11.
3- الليل 14 – 21.
4- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 63.
5- مستدرك الوسائل للميرزا حسين النوري الطبرسي ج12 ص 54 /ح [13496] 8 نقلاً عن القطب الراوندي في لب اللباب.

الله».(1)

كما ورد في حديثٍ عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال: «لو أن الناس حين عصوا تابوا واستغفروا، لم يعذبوا ولم يهلكوا».(2)

فنحن لسنا معصومين، ومن المحتمل أنْ نواقع المعصية، ولكن هذا لا يعني أنْ نيأس من روح الله (سبحانه و تعالی)وإنّما علينا أنْ نتدارك فإن «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون».(3)

5/حسن الخلق: فقد روي أنه سألت أُمُّ المؤمنين أُمُّ سَلَمة رسولَ الله (صلّی الله علیه و آله)، فقالت: بأبي أنت وأُمّي، المرأة يكون لها زوجان فيموتان فيدخلان الجنَّة لأيِّهما تكون؟ فقال: «يا أُمَّ سَلَمة، تَخيَّر أحسنهما خُلُقاً وخيرهما لأهله. يا أُمَّ سَلَمة، إنَّ حَسَنَ الخُلُق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(4).

وفي الحديث عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدًا؟ قيل: بلى يا رسول الله. قال: الهيّن الليّن القريب السهل».(5)

ومن الواضح أنّ هذه الصفات تكشف عن حسن الخلق.

كما تؤكد الروايات كثيرًا على أنّ من سمات شيعة أهل البيت (علیهم السّلام) حسن أخلاقهم، فالمؤمنُ هشٌ بش، وفي وصية الإمام الصادق (علیه السّلام) لابن جندب: «يا ابن جندب، إنَّما شيعتنا يُعرَفون بخصال شتّىٰ: بالسخاء والبذل للإخوان، وبأنْ يُصلُّوا الخمسين ليلاً

ص: 297


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 479 ح 2094.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثي ص 417.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج4 ص 215 ح10220.
4- الخصال للصدوق: 42/ ح 34.
5- الخصال للشيخ الصدوق ص 238 ح83.

ونهاراً، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوًّا، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً، شيعتنا لا يأكلون الجرّي، ولا يمسحون علىٰ الخفَّين، ويحافظون علىٰ الزوال، ولا يشربون مسكراً.

ولا تكن فظًّا غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يُحقِّرك من عرفك..».(1)

6/الدفاع عن عرض المؤمن: فإذا اغتاب شخصٌ مؤمنًا أمامك أو انتقص منه أو نمَّ عليه أو بهته أو تجاوز على حرمته فدافعت عنه ولم تقبل، فهنيئًا لك العتق من النار إن شاء الله تعالى، فقد ورد عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «من رد عن عرض أخيه المسلم، وجبت له الجنة البتة».(2)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله): «من رد عن عرض أخيه، كان له حجاباً من النار».(3)

7/تحصيل العلم: فإنّ العلم ليس غايةً في حدّ نفسه، وإنّما هو وسيلةٌ كما يقال في الفلسفة هو (وسيلةٌ لكشفِ الواقع) سواء كان علمًا بديهيًا أو نظرياً، وهو الأصل في غائية العلم، وبالتالي لا بد من إلحاقه بالعمل، فليس الهدف من العلم بعد كشف الواقع تكديسه في الذهن، وإنّما فضيلته في العمل به.

لو كان للعلمِ من غيرِ التُقى شرفٌ *** لكان أشرفَ كلِّ الناسِ إبليسُ

إنّ إبليس لم ينقصه علمٌ، لكنّ ما أهلكه هو عدم العمل به، فإنْ علمت أنَّ هذا الكلام محرمٌ وغيبةٌ، ورغم ذلك تكلمت به، حينئذٍ لم تستفد من هذا العلم ولم تنتفع به، وهكذا.

ومن هنا فقد أشارت الروايات الشريفة إلى أنّ أحد أهم ثمار العلم هو أنْ يكون

ص: 298


1- الوصية طويلة، تجدها في تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 302 وما بعدها).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص 145.
3- الامالي للشيخ المفيد ص 338.

مانعًا من دخول جهنم، ولا شك أنه العلم الذي يعمل به صاحبه، فقد ورد في بعض الروايات: «يدخل جهنم عالمٌ لا يعمل بعلمه فأهل النار تتأذى من ناره».(1).

فالمقصود من تحصيل العلم هو التحصيل الذي يترتب عليه العمل فيكون مانعًا من دخول جهنم.

وقد ورد عن الرسول (صلّی الله علیه و آله): «مَن أحَبَّ أن يَنظُرَ إلى عُتَقاءِ اللهِ مِنَ النّارِ فَليَنظُر إلَى المُتَعَلِّمينَ، فَوَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ، ما مِن مُتَعَلِّم يَختَلِفُ إلى بابِ العالِمِ المُعَلِّمِ إلاّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَم عِبادَةَ سَنَة، وبَنَى اللهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَم مَدينَةً فِي الجَنَّةِ، ويَمشي عَلَى الأَرضِ وهِيَ تَستَغفِرُ لَهُ، ويُمسي ويُصبِحُ مَغفورًا لَهُ، وشَهِدَتِ المَلائِكَةُ أنَّهُم عُتَقاءُ اللهِ مِنَ النّارِ».(2)

8/تأليف كتابٍ -أو ولو ورقةٍ واحدة- في علم نافع: فقد روي عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه(عزّ و جلّ): جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي».(3)

ولعله لا يُشترط في ما يُكتب أن يكون منمقًا أو مبوبًا وما شابه ذلك، بل ولو كان

ص: 299


1- عن سُليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السّلام) يُحدِّث عن النبيِّ (صلّی الله علیه و آله) أنَّه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنَّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنَّ أشدَّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلىٰ الله، فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنَّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتِّباعه الهوىٰ وطول الأمل. أمَّا اتِّباع الهوىٰ فيصدُّ عن الحقِّ، وطول الأمل يُنسي الآخرة». (الكافي للكليني 1: 44/ باب استعمال العلم/ ح 1).
2- منية المريد للشهيد الثاني ص100.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 91 ح 64 / 4.

كتابةَ معلومةٍ، أو تأملاتٍ بسيطة استثمر وسائل التواصل الاجتماعي في نشرها، إذ إنّ مفردة (ورقة) مأخوذةٌ على نحو الطريقية، لا الموضوعية، وعليه، فتركك معلومةً على صفحةٍ في النت قد يصدقُ عليها هذه الورقة.

9/زيارةُ قبور أهل البيت (علیهم السّلام): والروايات في هذا عديدة، نقتصر على رواية واحدة وردت في بيان فضل زيارة الإمام الضامن ثمن الحجج (علیهم السّلام)، فقد روي رسول الله (صلّی الله علیه و آله): «ستدفن بضعة مني بأرض خراسان، لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله(عزّ و جلّ) له الجنة، وحرم جسده على النار».(1)

10/خدمة الزوج: فصحيحٌ أنه من الناحية الفقهية ليس على الزوجة خدمة الزوج، من غسل ملابسٍ، وطهي طعامٍ وما شابه ذلك وهذا هو الحكم الشرعي، بيدَ أنَّ الروايات الشريفة تذكر من الفضل العظيم لخدمة الزوج ورعايته، فعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «الامرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح، وأيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنَّة، تدخل من أيّها شاءت»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أنَّ رسول الله (صلّی الله علیه و آله) قال: «أيُّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلىٰ موضع تريد به صلاحاً نظر الله(عزّ و جلّ) إليها، ومن نظر الله إليه لم يُعذِّبْه».

فقالت أُمُّ سَلَمة1: ذهب الرجال بكلِّ خير، فأيُّ شيء للنساء المساكين؟ فقال (صلّی الله علیه و آله): «بلىٰ، إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا تدري ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكلِّ مصَّة كعِدْلِ عتق محرَّر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب مَلَك علىٰ جنبها

ص: 300


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 119 ح107 / 6.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي (آل البيت) 20: 172/ ح (25342/2).

وقال: استأنفي العمل فقد غُفِرَ لكِ»(1).

النقطة الثالثة: صفات ودرجات جهنم.

إنَّ جهنم،حسب ما يُستفاد من الآيات والروايات الشريفة، وادٍ في النار عمقه سبعون سنة، أي إذا رميت شيئًا من أعلى شفيرها، فإنه يصل إلى قعرها بعد سبعين سنة!

وهذا الوادي يُحيط بالكافرين، وكأنها تكون بين ساحة المحشر وبين الجنة، ومن أراد أنْ يصل إلى الجنة فعليه أنْ يعبر الصراط ليصل إليها.

والصراط ليس مجرد جسر، وإنّما عبارة عن محطاتٍ وعقباتٍ عديدة، على الإنسان أنْ يعبرها واحدةً تلو الأخرى حتى يصل إلى الجنة. وإنّ أول ما يُسأل عنه المرء باتجاه الجنة هو ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) فمن لديه جوازٌ من الإمام علي (علیه السّلام) يعبر ليُسأل عن الصلاة والصوم والحج والعدل ومظالم العباد وغيرها من الواجبات والمحرمات، فمن جازها فإلى الجنة وإلا فإلى النار والعياذ بالله.

وكما أنّ الجنة ليست درجةً واحدة بل لها درجات، فإنَّ النار لها دركات عديدة وليست مستوى واحد، دلت على ذلك روايات عديدة منها:

روي عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «ويل، واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا، قبل أن يبلغ قعره».(2)

وفي قوله تعالى ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً﴾(3)

عنه (صلّی الله علیه و آله): الصعود جبل من نار، يتصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوى فيه كذلك أبداً.(4)

ص: 301


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 496 و497/ ح 687/7).
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص12 ح 2937.
3- المدثر 17.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج2 ص12 ح 2935.

وفي روايةٍ عنه (صلّی الله علیه و آله) قال: «استعيذوا بالله من جب الخزي». قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: «وادٍ في جهنم أُعِدَّ للمرائين».(1)

والمرائي هو من يحاول أنْ يُثبت كلامه وإنْ كان باطلًا، وقد يكون بمعنى من يعمل رياءً وبدون إخلاص لله تعالى.

وفي رواية عن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «جاءني جبرائيل متغير اللون، فقلت: يا جبرائيل مالي أراك متغير اللون؟ فقال: اطلعت في النار فرأيت واديًا في جهنم يغلي، فقلت يا مالك لمن هذا؟ فقال مالك: لثلاث نفر للمحتكرين وللمدمنين على الخمر والقوادين».(2)

وعن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إن في جهنم طواحن يطحن بها، أفلا تسألوني ما طحنها؟ فقيل له: وما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة والقراء الفسقة والجبابرة الظلمة والوزراء الخونة والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها: الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل له: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ قال فيها أيدي الناكثين».(3)

وفي حديثٍ عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنّه قال: إنّ في النار لنارًا يتعوذ منها أهل النار، ما خُلِقت إلا لكلِّ متكبرٍ جبار عنيد ولكلِّ شيطانٍ مريد، ولكلِّ مُتكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، ولكلِّ ناصبٍ العداوة لآل محمد (علیهم السّلام).(4)

بحث: أبواب الجنة والنار.
الاحتمال الأول: الباب الحقيقي.

تشير بعض الآيات إلى أنّ للجنة والنار أبوابًا متعددة، قال(عزّ و جلّ): ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ

ص: 302


1- منية المريد للشهيد الثاني ص 318.
2- إرشاد القلوب للديلمي ج1 ص 174.
3- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 507.
4- تفسير القمي ج2 ص 257.

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾(1)،

وقال(عزّ و جلّ): ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾(2).

وقال(عزّ و جلّ): ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ﴾(3)،

أي إنّ هناك أبوابًا للجنة، وفي آية أخرى قال(عزّ و جلّ): ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلىٰ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَىٰ الْكافِرِينَ* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَىٰ الْمُتَكَبِّرِينَ* وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَىٰ الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ﴾(4).

وعن رسول الله (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب».(5)

فما هو معنى هذه الأبواب وما الحكمة منها؟ ولماذا عدد أبواب الجنة أكثر من عدد أبواب جهنم؟

بداية، فإن المعنى الحقيقي ربما لا يكون معلومًا عندنا، ولكن عبر استقراء الآيات والروايات وتفسير العلماء لها تُطرح أربعة احتمالات، وهي:

الاحتمال الأول: الباب الحقيقي.

أنْ يكون المقصود هو الباب الحقيقي فلها قفلٌ ومفتاحٌ، ولها مصراعٌ وعليها بوّاب، وهي تكون معبرًا ومدخلًا للجنة. أما تقسيمها إلى ثمانية؛ فلأن لكلِّ بابٍ مجموعةٌ من

ص: 303


1- النحل: 29.
2- الحجر: 43 و44.
3- ص: 50.
4- الزمر: 71 73.
5- الأمالي للشيخ الصدوق ص 123 ح 113 / 1.

الناس يدخلون عبرها.

وقد يظهر من بعض الروايات هذا المعنى، فقد ورد عن الرسول الأعظم (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «إن للنار لسبعة أبواب، ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً وان للجنة لثمانية أبواب، ما منهما بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً».(1)

وفي حديثٍ آخر عنه (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المجود(2) ثلاثاً.(3)

وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «أبواب النار بعضها فوق بعض، يبدأ بالأسفل فيملأ فهو أسفل سافلين، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يملأ النار».(4)

فأبواب جهنم تختلف عن أبواب الجنة، إذ هي عبارة عن طبقاتٍ ودركاتٍ، وهو صريح ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام): «إن جهنم لها سبعة أبواب أطباق، بعضها فوق بعض، ووضع إحدى يديه على الأخرى، فقال: هكذا، وإن الله وضع الجنان على العرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها لظى، وفوقها

ص: 304


1- مسند أحمد ج4 ص 14.
2- اسم فاعل من التجويد وهو التحسين قيل أي الراكب الذي يجود ركض الفرس من جودته أي جعلته جيدا وفي أساس البلاغة يجوز في صنعته يفوق فيها وأجاد الشئ وجوده أحسن فيما فعل وجود في عدوه عدا عدوا وجوادا والمعنى الراكب الذي يجود ركض الفرس وأن يكون مستافا إليه والإضافة لفظية أي الفرس الذي يجود في عدوه (ثلاثا) ظرف مسيره والمعنى ثلاث ليال أو سنين وهو الأظهر لأنه يفيد المبالغة أكثر ثم المراد به الكثرة لئلا يخالف ما ورد من أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة على أنه يمكن أنه أوحى إليه بالقليل ثم أعلم بالكثير أو يحمل على اختلاف الأبواب باختلاف أصحابها [تحفة الأحوذي للمباركفوري ج7 ص 218].
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص472 ح 39311.
4- المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص92.

الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية».(1)

الاحتمال الثاني: أن الباب بمعنى المرتبة والدرجة.

إنَّ المقصود من الأبواب مراتب وأنواع الجنة والنار، فكما تقدّم أنّ لكلٍ منهما أنواعاً وطبقات ومراتب عديدة، فليس المقصود هو الباب الحقيقي، وإنّما المراد منه أنواع الجنة وطبقاتها، وأنواع النار وطبقاتها. وقد ورد عن النبي (صلّی الله علیه و آله) أنّه قال: «لكلِّ أهلِ عملٍ بابٌ من أبواب الجنة يُدعون بذلك العمل، ولأهل الصيام بابٌ يُدعون منه يُقال له الريان».(2)

فلكلِّ عملٍ مرتبة، والآيات أو الروايات تُطلق عليها باب.

الاحتمال الثالث: أن الباب بمعنى السبب.

ببيان: من المعلوم أنه لا يصدر أي فعلٍ من الإنسان سواء أكان خيرًا أم شرًا- إلا عبر إحدى منافذه وهي: (حاسة النظر والسمع والشم والذوق واللمس) وهي الحواس الخمسة، يُضاف إليها (البطن والفرج) فتكون القوى سبعة، يُطلق عليها بعض علماء الأخلاق ب-(الأقاليم السبعة)، وأما بعض الفلاسفة فيقولون: منافذ الإنسان هي الحواس الخمسة مع قوتين باطنيتين موجودتين عند الإنسان هما (قوة الوهم وقوة الخيال).

وبغض النظر عن ذلك، فبالنتيجة هناك سبعةُ قوى يمكن أن تعمل الحسنات وتعمل السيئات، وهذا يعني: أن هذه القوى أو الأقاليم السبعة لها بوصلةٍ توجهها نحو فعل الخير، وهذه البوصلة هي العقل، فإذا انظم العقل إلى هذه السبعة تصير ثمانية فتسير في الطريق الصحيح فيقودها إلى الجنة ولها ثمانية أبواب، فلكلِّ قوةٍ بابٌ وثامنها

ص: 305


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج6 ص 118.
2- مسند أحمد ج2 ص 449.

هو باب العقل.

وأما إذا أُقصي العقل عن مهمته، فتعمل الحواس والقوى حينها من دون عقل (عينٌ من دون عقل، وسمعٌ من دون عقل وهكذا) فربما تقود الإنسان إلى جهنم والعياذ بالله، فلها سبعة أبواب؛ لانعدام العقل فيها، وينقل هذا الرأي الفلاسفة وابن سينا وصدر المتألهين وبعض المعاصرين.

وهذا المعنى يدعونا إلى أن نقيّد حواسنا دائمًا بالعقل حتى نصل إلى الجنة إنْ شاء الله(عزّ و جلّ).

وربما يُستفاد من السيد العلامة الطباطبائي هذا المعنى في تفسيره، حيث قال: لم يبين سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أهي كأبواب الحيطان مداخل تهدى الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته؟

وكثيراً ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع باباً، كما يقال أبواب الخير وأبواب الشر وأبواب الرحمة قال تعالى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيهِم أَبْوَابَ كُلِّ شَيء﴾(1).

وربما سُمي أسباب الشيء وطرق الوصول إليه أبواباً كأبواب الرزق لأنواع المكاسب والمعاملات.

وليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلىٰ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَىٰ الْكافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَىٰ

ص: 306


1- الانعام: 44.

الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (1)وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾(2) إلى غير ذلك من الآيات.

ويؤيده: قوله: ﴿لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب، وهذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل.

وأما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.

وعلى هذا، فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المُعدّ فيها متنوعاً إلى سبعة أنواع، ثم انقسام كل نوع اقساماً حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، وذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام وكذا انقسام الطرق المؤدية والأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام.(3)

وقال الشيخ الشيرازي: هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه.. كما هو الحال في أبواب الجنة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنة.(4)

الاحتمال الرابع: الأبواب كناية عن الطرق الموصلة.

أنّ التعبير ب-(الباب) تعبيرٌ كنائي لا حقيقي، أي لا يراد منه المعنى الظاهري للباب، وهذا يعني أنْ ليس هناك سبعة أبواب أو ثمانية، وإنّما المقصود المبالغة، أي إنَّ هناك عدة طرق توصلك إلى الجنة وكذا إلى النار، وإنّ طرق الجنة أكثر من طرق النار، وعلى الإنسان أنْ يحكّم عقله ويسلك طرق الجنة.

ص: 307


1- الزمر 71 و 72.
2- النساء 145.
3- تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي ج12 ص 170.
4- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج8 ص 65.

قال الشيخ الشيرازي: وثمة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي: إن أبواب جهنم - كأبواب الجنة - إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى دخولها، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر باباً، وثمة ما يشير إلى ذلك في الروايات الإسلامية، ووفق هذا المعنى فإن العدد (7) هو كناية عن الكثرة، وما ورد في القرآن الكريم من أن للجنة ثمانية أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب... (1)

إشارات:

الإشارة الأولى: يكفي الإيمان الإجمالي بالجنة والنار وبالبعث وما جاء به الرسول (صلّی الله علیه و آله)، وليس من الضروري أنْ يكون للفرد اعتقاد تفصيلي بتفصيلات يوم القيامة، وهذا ما أشار له الشيخ(قدّس سرّه) في عبارة الكتاب بقوله «فإن من يعتقد بالله اعتقادًا قاطعًا، ويعتقد كذلك بمحمد رسولًا منه أرسله بالهدى ودين الحق، لا بد أنْ يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم من البعث والثواب والعقاب والجنة والنعيم والنار والجحيم..»..

الإشارة الثانية: إنّه(رحمه الله)قال: إن القرآن الكريم قد صرّح بذلك الأمر لأهميته في آيات كثيرة بقوله: «وقد صرّح القرآن الكريم بذلك ولمح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة»، بل بعض الباحثين قال: إنّ ثلث القرآن يحكي عن المعاد، وهذا يعني ما يقارب ألفي آية.

الإشارة الثالثة: قوله(قدّس سرّه): «وإذا تطرق الشك في ذلك إلى شخص..». أي إذا اختلج صدر شخصٍ ما الشك في أمر المعاد، فإنّ هذا الشك لابُد أنْ يكون له سبب، ومن أسباب الشك:

1- الشك في نبوة النبي الأعظم (صلّی الله علیه و آله).

ص: 308


1- الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج15 ص 325.

2- الشك في عدم وجود الخالق.

3- الشك في قدرة الخالق.

4- الشك في أصل وجود الأديان.

وإلا فإنْ لم يكن له شكٌ فيما تقدّم فلا بُدّ أنْ يعتقد جزمًا في يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد آل الطيبين الطاهرين.

ص: 309

ص: 310

ص: 311

ص: 312

المصادر

بعد كتاب الله تعالى المجيد:

1. الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.

2. أحداث التأريخ الإسلامي: الترمانيني/ ط. دمشق.

3. اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه- .

4. ادّعياء المهدوية: أحمد الفرج الله- مركز الدراسات الاستراتيجية/ الطبعة الأولى.

5. إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415ه-/ مط أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.

6. الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

7. الإشاعة لأشراط الساعة: الشريف محمد بن رسول الحسيني البرزنجي

8. أصل الشيعة وأصولها: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

9. الأصول الستّة عشر: لعدة محدثين/ت ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ه-/ دار الحديث.

10. الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

11. أعلام الدين في صفات المؤمنين: الحسن بن محمد الديلمي/ تحقيق: مؤسسة آل

ص: 313

البيت (علیهم السّلام) لإحياء التراث – قم/الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السّلام) لإحياء التراث . قم.

12. إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ تحقيق: السيّد علي عاشور.

13. الإلهيات: محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني/ الطبعة الرابعة/ مطبعة اعتماد قم/ سنة 1417ه-.

14. الأمالي: السيّد المرتضىٰ/ ت النعساني الحلبي/ ط1/ 1325ه-/ مكتبة المرعشي/ قم.

15. الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.

16. الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

17. الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

18. الإمام المهدي عند أهل السنة: مهدي الفقيه الإيماني/المجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السّلام)/مطبعة التعارف/ الطبعة الثالثة/ 1431ه-/2010م.

19. الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404ه-/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.

20. الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.

21. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

22. الانتصار: العاملي/ ط 1/ 1422ه-/ دار السيرة/ بيروت.

23. أنساب الأشراف: البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط1/ 1394ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

24. بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

ص: 314

25. البداية والنهاية: ابن كثير/ ت علي شيري/ ط 1/ 1408ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

26. بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ه-/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

27. البيان في تفسير القرآن: السيد لخوئي(قدّس سرّه)/ الطبعة: الرابعة/ سنة الطبع: 1395 - 1975 م/ الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

28. تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

29. تاريخ الإسلام: الذهبي/ ت تدمري/ ط1/ 1407ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

30. تاريخ الشعوب الإسلامية: بروكلمان ص128/ط. بيروت.

31. التاريخ الصغير: البخاري/ ت محمود إبراهيم زيد/ ط1/ 1406ه-/ دار المعرفة بيروت.

32. تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

33. تاريخ المدينة: ابن شبة النميري/ ت فهيم محمّد شلتوت/ 1410ه-/ مط القدس/ دار الفكر/ قم.

34. تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.

35. تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط1/ 1417ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

36. تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت علي شيري/ 1415ه-/ دار الفكر/ بيروت.

37. تأويل الآيات الظاهرة: شرف الدين الحسيني/ ط 1/ 1407ه-/ مط أمير/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

ص: 315

38. تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

39. تحفة الأحوذي: المباركفوري/ ط 1/ 1410ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

40. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: عبد العظيم المنذري/ تحقيق: ضبط أحاديثه وعلق عليه: مصطفى محمد عماره/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

41. التشيع نشوؤه، مراحله، مقوماته: آية الله العلامة السيد عبد الله الغريفي/ ط التاسعة 1429ه-/2008م/ دار الإسلام.

42. تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

43. تفسير البرهان: السيِّد هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

44. تفسير الرازي: فخر الدين الرازي/ الطبعة الثالثة.

45. تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

46. تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

47. تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

48. تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.

49. تفسير غريب: القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي/تحقيق: تحقيق وتعليق: محمد كاظم الطريحي/ انتشارات زاهدي - قم.

ص: 316

50. تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ ت محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410ه-/ ت محمّد الكاظم/ مؤسسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

51. تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

52. التمهيد: ابن عبد البر/تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ،محمد عبد الكبير البكري/ سنة الطبع: 1387/ المطبعة: المغرب - وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية/ الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية.

53. تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

54. تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

55. التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرسين/ قم.

56. التوحيد: المفضَّل بن عمر/ ت كاظم المظفَّر/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسّسة الوفاء/ بيروت.

57. الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ ت نبيل رضا علوان/ ط 2/ 1412ه-/ مؤسسة أنصاريان/ قم.

58. ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

59. الجرح والتعديل: سليمان بن خلف بن سعد ابن أيوب الباجي المالكي.

60. الجنة والنار في الكتاب والسنة: محمد الريشهري/دار الحديث للطباعة والنشر/

ص: 317

الطبعة الأولى 1432ق/1390 ش.

61. الجواهر السنية: الحرّ العاملي/ 1384ه-/ مط النعمان/ النجف الأشرف.

62. حلية الأبرار: هاشم البحراني/ ت غلام رضا البروجردي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

63. حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين دميري/الطبعة: الثانية 1424 ه-/ الناشر: دار الكتب العلمية/ بيروت.

64. الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

65. الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

66. الخطر اليهودي: (بروتوكولات حكماء صهيون) لمحمّد خليفة التونسي.

67. دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ه-/ دار المعارف/ القاهرة.

68. الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

69. دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413ه-/ مؤسسة البعثة/ قم.

70. رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى/ تحقيق: تقديم: السيد أحمد الحسيني/ إعداد: السيد مهدي الرجائي/ سنة الطبع: 1405/ المطبعة: مطبعة سيد الشهداء – قم/ الناشر: دار القرآن الكريم.

71. روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي الأول/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه « السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي

ص: 318

پناه الإشتهاردي »/ الناشر: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور.

72. روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

73. سعد السعود: ابن طاووس/ 1363ه-/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

74. سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.

75. سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410ه-/ دار الفكر/ بيروت.

76. سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403ه-/ دار الفكر/ بيروت.

77. سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349ه-/ مط الاعتدال/ دمشق.

78. سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط9/ 1413ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

79. شذرات مهدوية: الشيخ حسين الأسدي/ تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام): الطبعة الأولى.

80. شرح إحقاق الحقّ: السيّد المرعشي/ ت شهاب الدين المرعشي/ مكتبة المرعشي/ قم.

81. شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

82. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه-/

ص: 319

دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

83. شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط1/ 1423ه-/ مكتبة الرشد.

84. صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

85. صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

86. الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

87. الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط1/ 1384ه-/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

88. صراط النجاة: تعليق الميرزا التبريزي علىٰ منهاج الصالحين للسيّد الخوئي/ ط 1/ 1416ه-/ دفتر نشر برگزيده.

89. الصلة بين التصوف والتشيع: الشيبي. ط. بيروت.

90. الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط1/ 1997م/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

91. الطبقات الكبرىٰ: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.

92. الطرائف: ابن طاووس/ ط1/ 1399ه-/ مط الخيام/ قم.

93. عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

94. عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

95. عقائد الإسلام: السيِّد مرتضىٰ العسكري/الناشر: التوحيد للنشر/ الطبعة الرابعة 1420ه-/1999م.

96. عقد الدرر: يوسف بن يحيىٰ المقدسي/ انتشارات نصائح.

97. علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

ص: 320

98. علم النفس الفلسفي: الشيخ غلام رضا الفياضي: تقرير: السيد جعفر الحكيم/ الطبعة الأولى سنة 2013 م.

99. على ضفاف الانتظار: الشيخ حسين الأسدي/ تقديم: مركز القمر للإعلام الرقمي/الطبعة الأولى/1438ه-.

100. عمدة القاري: العيني/المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي/ الناشر: دار إحياء التراث العربي.

101. عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط سيّد الشهداء/ قم.

102. عيون أخبار الرضا (علیه السّلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

103. عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.

104. الغارات: إبراهيم بن محمّد الثقفي/ ت جلال الدين الحسيني الأرموي المحدّث.

105. الغدير: الشيخ الأميني/ ط4/ 1397ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

106. الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

107. الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ.

108. الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ تحقيق: السيد نور الدين جعفريان الاصبهاني، الشيخ يعقوب الجعفري، الشيخ محسن الأحمدي/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

ص: 321

109. نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

110. الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

111. الفصول المهمّة: ابن الصبّاغ/ ت سامي الغريري/ ط1/ 1422ه-/ مط سرور/ دار الحديث.

112. فضائل سنن الترمذي: الإسعردي/ تحقيق: صبحي السامرائي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1409/الناشر: عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية - بيروت

113. بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر- الشيخ محمود الغرباوي- دار الكتاب العربي – الطبعة الأولى 2004.

114. فقه الحضارة: للسيِّد السيستاني

115. الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت (علیهم السّلام): الجزيري/ الغروي/ (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري وعلى مذهب أهل البيت (علیهم السّلام) للسيد محمد الغروي والشيخ ياسر مازح/دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع/بيروت – لبنان/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1419 - 1998 .

116. فهرست ابن النديم: ابن النديم البغدادي/ تحقيق: رضا – تجدد.

117. في رحاب حكومة الإمام المهدي (علیه السّلام): الشيخ نجم الدين الطبسي- ترجمة الشيخ أحمد وهبي- مطبعة نكارش- الطبعة الأولى سنة النشر 1425 ه-.ق

118. القرآن في الإسلام: السيد الطباطبائي/ تحقيق: تعريب السيد أحمد الحسيني.

119. قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي/ ت غلام رضا عرفانيان/ ط1/ 1418ه-/ الهادي.

120. قطاف شهر رمضان: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: معهد تراث

ص: 322

الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

121. كامل الزيارات: ابن قولويه/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1417ه-/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ مؤسسة نشر الثقافة.

122. الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1386ه-/ دار الصادر/ بيروت.

123. كتاب المؤمن: الحسين بن سعيد .

124. كشف الغمّة: ابن أبي الفتح الأربلي/ ط2/ 1405ه-/ دار الأضواء/ بيروت.

125. الكلام الإسلامي المعاصر: د: الشيخ عبد الحسين خسروبناه/ ترجمة: محمد حسين الواسطي/المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ قسم الكلام والعقيدة/دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى 1438ه-/2016م.

126. كليات في علم الرجال: الشيخ السبحاني/ الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: ذي القعدة الحرام 1414/ المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

127. كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

128. كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

129. مائة منقبة: ابن شاذان/ ت الأبطحي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ قم.

130. مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ه-/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

131. مجلة الإصلاح الحسيني: مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في الإمام الحسين (علیه السّلام).

132. مجلَّة الانتظار: الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (علیه السّلام).

ص: 323

133. مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

134. المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه-/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

135. مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

136. مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني/ تحقيق: الشيخ عزة الله المولائي الهمداني/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1413/ المطبعة: بهمن/ الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية - قم – ايران.

137. الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

138. مرآة العقول: العلاَّمة المجلسي/ ط2/ 1404ه-/ دار الكتب الإسلاميّة.

139. المراجعات: السيّد شرف الدين/ ت حسين الراضي/ ط2/ 1402ه- .

140. مروج الذهب: المسعودي/ ط2/ 1404ه-/ منشورات دار الهجرة/ قم.

141. المزار: ابن المشهدي/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1419ه-/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ نشر القيّوم/ قم.

142. مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط1 المحقَّقة/ 1408ه-/ مؤسسة آل البيت/بيروت.

143. مستدرك سفينة البحار: علي النمازي/ ت حسن بن علي النمازي/ 1418ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

144. المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

145. مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط1/ 1412ه-/ مط شفق/

ص: 324

طهران.

146. مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النش-ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.

147. مسند أبي يعلىٰ: أبو يعلىٰ الموصلي/ ت حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.

148. مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

149. مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ ت علي عاشور/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

150. مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه-/ دار الحديث.

151. مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.

152. المصنّف: ابن أبي شيبة/ ت سعيد اللحّام/ ط1/ 1409ه-/ دار الفكر/ بيروت.

153. معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

154. معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

155. المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه-/ دار الحرمين.

156. معجم رجال الحديث: السيّد الخوئي/ ط5/ 1413ه- .

157. المغازي: الواقدي/ ت الدكتور مارسدن جونس/ 1405ه-/ نشر دانش إسلامي.

158. مفاهيم القرآن: الشيخ جعفر السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق (علیه السّلام)/ إيران/

ص: 325

قم.

159. مقدمة فتح الباري: ابن حجر/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان/ الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1301 هجرية

160. صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ه-/ مؤسسة الرسالة.

161. المقنع في الغيبة: الشريف المرتضىٰ/ ت محمّد علي الحكيم/ ط1/ 1416ه-/ مط ستارة/ مؤسسة آل البيت/ قم.

162. صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: الشيخ محمد آصف المحسني(رحمه الله)/الناشر: ذوي القربى/ الطلعة الأولى/1428ه-/مطبعة: ستاره.

163. مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

164. الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط1/ 1416/ مؤسسة صاحب الأمر/ أصفهان.

165. من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

166. منازل الآخرة: الشيخ عبّاس القمي/ ت ياسين الموسوي/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

167. مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

168. مناقب الإمام أمير المؤمنين: محمّد بن سليمان الكوفي/ ت المحمودي/ ط1/

ص: 326

1412ه-/ مط النهضة/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة/ قم.

169. مناقب علي بن أبي طالب: ابن المغازلي/ ط 1/ 1426ه-/ مط سبحان/ انشارات سبط النبيّ.

170. منهاج الصالحين: للسيد السيستاني.

171. منية المريد: الشهيد الثاني/ ت رضا المختاري/ ط1/ 1409ه-/ مكتب الإعلام الإسلامي.

172. موسوعة أحاديث أهل البيت: الشيخ هادي النجفي/ ط 1/ 1423ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

173. موسوعة الإمام المهدي (علیه السّلام): السيد محمد الصدر.

174. موسوعة كلمات الإمام الحسين (علیه السّلام): لجنة الحديث في معهد باقر العلوم/ ط3/ 1416ه-/ دار المعروف.

175. نفحات القرآن: سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الأولى 1384ش/1426ه-/المطلعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام)/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

176. نفحات الولاية: آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الثانية 1426ه-.ق/المطلبعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السّلام)/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

177. نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه-/ بيروت.

178. الهداية الكبرىٰ: الخصيبي/ ط4/ 1411ه-/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.

179. الهدى والضلال في القرآن الكريم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم:

ص: 327

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

180. وفيات الأعيان: ابن خلكان/ ت إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.

181. ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط1/ 1416ه-/ دار الأسوة.

ص: 328

المحتویات

المحتویات

عقيدتنا في التقية: ... 5

النقطة الأولى: معنى التقية. ... 7

النقطة الثانية: التقية الاصطلاحية: ... 8

الخطوة الأولى: أدلة التقية. ... 8

الدليل الأول: الكتاب . ... 8

الدليل الثاني: الروايات الشريفة : ... 10

الدليل الثالث: الإجماع ... 11

الدليل الرابع: العقل . ... 11

الخطوة الثانية: نماذج للتقية من التاريخ: ... 11

النقطة الثالثة: هل التقية نفاق ودجل؟ ... 12

الفرق بين التقية والنفاق:... 13

النقطة الرابعة: مستثنيات التقية: .... 13

المورد الأول: لا تقية في الدم . ... 13

المورد الثاني: لا تقية فيما يوجب فساد الدين.... 14

النقطة الخامسة: التقوى. ... 14

الأولى: فعل الواجبات وترك المحرمات. ... 14

الثانية: فعل المستحبات وترك المكروهات ... 15

الثالثة: تقوى الفكر.... 15

إشارتان:... 16

الإشارة الأولى: آثار الذنوب... 16

ص: 329

1/فساد القلب ... 16

2/زوال النعمة ... 17

3/حلول النقمة.... 18

4/آثار تكوينية. ... 19

آثار خاصة لبعض الذنوب: ...20

الإشارة الثانية: طرقٌ مختصرةٌ إلى التقوى... 21

أ/أهرب من الفتوی: ... 22

ب/ ابتعد عن الشبهات: ... 22

ج/لا تُثر في نفسك الشهوات المحرمة، ويدخل ضمن هذا المعنى: ... 23

-لا تمش خلف امرأة وتنظر لمحاسنها: ... 23

-لا تنفرد بامرأة: ... 23

-لا تنظر إلى امرأة نظرة محرَّمة: ... 23

4/لا تهتك ستر مؤمن: ... 24

5/ لا تتعرب بعد الهجرة.... 24

6/ لا تَعِد بما لا تستطيع فعله. ...25

7/ لا تطمع بما عند الناس....25

8/ لا تكذب. ...25

9/لا تغضب. ...25

10/تواضع....26

11/أخلِص العمل. ...27

12/احبس جوارحك. ...27

ص: 330

13/لا تستمع الغناء. ... 27

14/ اصبر. ...28

15/اقرأ عن المتقين. ...28

النقطة السادسة: كيف حمى أهل البيت (علیهم السّلام) شيعتهم وأتباعهم؟ ...28

1/التقية. ...28

2/العمل داخل البلاط الحاكم....29

3/ذمُّ بعض شيعتهم....31

4/عدم إدخال الشيعة في حربٍ خاسرة....33

5/أمرهم (علیهم السّلام) شيعتهم بالعمل المخفي....34

التقية المداراتية: ...35

الفصل الرابع: ما أدّب به أهل البيت عليهم السلام شيعتهم ...37

النقطة الأولى: ما هو ربط هذه الآداب بأصول الدين؟...38

الوجه الأول:...38

الوجه الثاني:...39

النقطة الثانية: لماذا فتح أهل البيت (علیهم السّلام) باب هذه الآداب لشيعتهم؟ ...39

عقيدتنا في الدعاء ...43

الخطوة الأولى: الدعاء سبب معنوي ...48

الخطوة الثانية: الدعاء مفتاح الإجابة....19

الخطوة الثالثة: آداب الدعاء....51

هل الدعاء الجماعي بدعة؟ ...57

الرد الأول: مناقشة استنادهم إلى عدم فعل النبي (صلّی الله علیه و آله) ...57

ص: 331

الرد الثاني: مناقشة استنادهم إلى حجية عدم فعل الصحابة. ...57

الرد الثالث: الأصل في الأعمال الإباحة....58

الرد الرابع: أعمال جماعية مشروعة. ...58

الرد الخامس: الدعاء الجماعي ثابتٌ بالسنة المطهرة....58

أدعية الصحيفة السجادية ...61

النقطة الأولى: الدعاء في منظومة وعقيدة أهل البيت (علیهم السّلام)...64

1/الجبر: ...65

2/التفويض: ... 65

3/ الأمر بين أمرين: ...66

النقطة الثانية: الأدوار البارزة في حياة الإمام . ...67

الأولى: ظاهرة البكاء ...68

الثانية: الإعتاق....68

الثالثة: الإنفاق... 70

الرابعة: الدعاء....71

أولًا: فلسفة الإعتاق: ...71

ثانيًا: فلسفة الإنفاق:...74

ثالثًا: فلسفة البكاء:...74

رابعًا: فلسفة الدعاء:...74

إشارة: تراث الإمام السجاد (علیه السّلام)....79

عقيدتنا في زيارة القبور ...81

النقطة الأولى: الآراء في زيارة القبور...85

ص: 332

النقطة الثانية: مشروعية زيارة القبور. ...86

شواهد على مشروعية زيارة القبور:...88

النقطة الثالثة: الأهداف من زيارة القبور، وما يترتب على زيارة قبور ... 91

عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت عليهم السلام ...95

النقطة الأولى: معنى التشيع لغةً واصطلاحًا. ...98

النقطة الثانية: الآراء في نشأة الشيعة:...98

الاول: آیة التبلیغ: ... 101

الثاني: الاحادیث الکثیرة :..102

النقطة الثالثة: المراحل التي مر بها التشيع، أو السير التاريخي للتشيع...103

المرحلة الأولى: في زمن النبي الأكرم (صلّی الله علیه و آله)....103

المرحلة الثانية: في زمن الخلفاء....104

المرحلة الثالثة: زمن الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين (علیه السّلام) .... 104

المرحلة الرابعة: في زمن الإمام الحسن (علیه السّلام)...105

المرحلة الخامسة: في زمن الإمام الحسين (علیه السّلام) ....105

المرحلة السادسة: في إمامة الإمام السجاد (علیه السّلام). ...106

المرحلة السابعة: في إمامة الإمامين الباقرين(علیهما السّلام)...107

المرحلة الثامنة: في حياة الإمام الكاظم (علیه السّلام). ... 109

النقطة الرابعة: منزلة ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) في الإسلام.... 112

النقطة الخامسة: مقتضيات الولاية ...116

الأول: حبهم (علیهم السّلام)....117

الثاني: الورع....117

ص: 333

الثالث:لدعوة إلى الحق....119

الرابع: التزام مكارم الأخلاق....119

الخامس: التكافل الاجتماعي....119

الأولى: التكافل الاجتماعي على نحو الوجوب...119

الثانية: التكافل الاجتماعي المستحب....120

عقيدتنا في الجور والظلم ...123

التوجيه الأول: ... 129

التوجيه الثاني: ...129

التوجيه الثالث: ...130

التوجيه الرابع:...130

التوجيه الخامس:...130

التوجيه السادس:...131

التوجيه السابع:...131

عقيدتنا في التعاون مع الظالمين ...133

النقطة الأولى: ضرورة الحاكم...136

النقطة الثانية: حدود التعامل مع الحاكم الظالم....136

1. لا يجوز الركون إلى الظالم والرضا بأفعاله...136

2.عدم التحاكم إليه مع وجود الحاكم العادل. ...137

3. عدم محبة دوام الظالم ولو على حساب المصلحة الشخصية....138

4. عدم تشويه صورة المذهب أو التنازل عن الثوابت من قبل... ...139

5. القيام بوجه الظالم متى ما سنحت الفرصة. ...140

ص: 334

6. عدم إعانته في ظلمه ولو ببيع إبرةٍ له! ..142

عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة.... 143

6. عدم أعانته في ظلمة ولو ببيع إبرة....144

عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ... 147

النقطة الأولى: تأكيد القرآن الكريم على الوحدة بين الديانات. ..150

النقطة الثانية: الاشتراك بين الأديان لا يعني عدم التمايز بينها...151

النقطة الثالثة: التمايز والاختلاف هو ما يحفظ كيان المذهب....151

النقطة الرابعة: ضرورة عدم التنازل عن الثوابت ...152

النقطة الخامسة: رعاية الأولويات....152

عقيدتنا في حقِّ المسلمِ على المسلم...157

الفصل الخامس عقيدتنا في البعث والمعاد ...165

المطلب الأول:إثبات الوجود المجرد (إثبات وجود الروح). ...167

المدرسة الأولى: المدرسة المادية: ...167

المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية:...168

الأول: الموجود المادي.... 168

الثاني: الموجود المثالي....168

الثالث: الموجود المجرد: ...169

1/ واجب الوجود: ..169

2/ ممکن الوجود: ... 169

الدليل الأول: الأنا...169

الدليل الثاني: التقاط الصور....170

ص: 335

الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور:...172

المطلب الثاني: إمكان المعاد في حد نفسه. ...173

المطلب الثالث: هل إنَّ المعاد ضروريٌ؟ ...176

النقطة الأولى: ضرورة بلوغ الهدف من ... 177

الثانية: ضرورة إثابة المطيعين وتعذيب العاصين...178

الثالثة: ضرورة إنصاف المظلومين من الظالمين....179

مطلب الرابع: هل المعاد جسماني أو روحاني فقط؟ ...180

1/تبدل الجلود:...183

2/شهادة الجوارح:...183

3/اللذائذ المادية:..184

إشكالان حول المعاد جسماني. ...184

الإشكال الأول: إعادة المعدوم....184

الإشكال الثاني: شبهة الآكل والمأكول:...185

الجواب الأول:...186

الجواب الثاني:...186

الجواب الثالث:...188

المطلب الخامس: المعاد وتربية الإنسان...189

المطلب السادس: ما هو المقدار الواجب من الإيمان بالمعاد؟ ...191

مُلحق: عوالم الإنسان. ..195

العالم الأول: عالم الذر..195

النقطة الأولى: المعنى العام للآية:..196

ص: 336

النقطة الثانية: المعاني التربوية للآية...196

النقطة الثالثة: معنى عالم الذر: ..197

الرأي الأول:...197

الرأي الثاني: ... 202

الرأي الثالث:... 204

والخلاصة:... 206

العالم الثاني: عالم الأصلاب ... 209

فائدة تربوية:... 209

الصفات الوراثية في النطفة:... 211

العالم الثالث: عالم الأرحام ... 215

المرحلة الأولى: مرحلة العلقة:... 216

مرحلة الثانية: المضغة: ... 216

المرحلة الثالثة: مرحلة العظام: ... 216

المرحلة الرابعة: مرحلة تغطية العظام باللحم:... 216

المرحلة الخامسة: مرحلة بث الروح: ... 217

العالم الرابع: عالمُ الدنيا ... 219

الجواب:... 223

الأول: آلات العلوم الظاهرية والتجريبية:... 224

الثاني: آلة العلم الباطني:... 224

العالم الخامس: عالم البرزخ ... 227

المحور الأول: الاحتضار. ... 227

ص: 337

النقطة الأولى: سبب التسمية. ... 227

السبب الأول:... 227

السبب الثاني: .... 230

السبب الثالث:... 232

السبب الرابع:...233

النقطة الثانية: الأمور التي يفعلها المحتضر؟ ...234

اولاً: التوبة. ...234

ثانياً: أداء حقوق الناس الواجبة. ...234

ثالثاً: الوصية بالأمور العبادية. ...234

الرابع: يُستحب للمريض أنْ يحمد الله(عزّ و جلّ) ويشكره ......234

الخامس: يستحب له كتمان المرض وترك الشكاية. ...234

النقطة الثالثة: الأمور التي يفعلها من يحضر عند المحتضر....235

المحور الثاني: الموت ...237

السؤال الأول: ما حقيقة الموت؟ ...238

السؤال الثاني: لماذا نكره الموت؟...239

الأول: الجهل بحقيقة الموت....239

الثاني: الخوف من الموت....240

السؤال الثالث: ما أنواع التوفي؟...242

الأول: توفي النفوس حال النوم....244

الثاني: توفي النفوس في الموت....244

السؤال الرابع: ما هي أنواع الموت؟...245

ص: 338

النوع الأول: موت البدن وموت القلب....245

من أسباب موت القلب: ...248

النوع الثاني: موتُ الفرد وموتُ المجتمع....250

المحور الثالث: البرزخ ...251

الأولى: البرزخ في اللغة:...251

الثانية: البرزخ غير معلوم الفترة الزمنية:...251

الثالثة: من عالم البرزخ تحصل الرجعة: ...252

الرابعة: لماذا يطلب بعض الناس أنْ يرجعوا إلى الدنيا؟...252

الخامسة: البرزخ عالم تكامل....254

استطراد: منافذ تكامل الإنسان. ...255

السادسة: هل بإمكان الميت أنْ يزور أهله ويطّلع عليهم؟..256

السابعة: معنى سؤال منكر ونكير....259

العالم السادس: عالم القيامة (المعاد أو اليوم الآخر) ...263

النقطة الأولى: أسماء يوم القيامة. ...263

الاسم الأول: يوم القيامة....263

الاسم الثاني: يوم الصاخة....264

االاسم الثالث: يوم الفصل... 267

ملاحظة:...269

النقطة الثانية: الحساب. ...269

أولاً: مسائل حسابها دقيق....269

ثانياً: ما لا يُحاسب عليه الإنسان: ...271

ص: 339

ثالثاً: مما يُهوّن الحساب...273

1/صلة الرحم:...273

2/القناعة: ...274

3/ التخفيف من التعلق بالدنيا: ...274

4/ حسن الخلق:...274

رابعاً: معنى: سوء الحساب....275

خامساً: نتيجة الحساب ...276

القسم الأول: أصحاب الجنة: ...276

النقطة الأولى: شروط دخول الجنة. ...276

الأول: قوله(عزّ و جلّ): ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ ... ...276

الثاني: ولاية أهل البيت (علیهم السّلام) حسب حديث السلسلة الذهبية....280

الخطوة الأولى: إنّ التوحيد يقود إلى الجنة. ...281

الخطوة الثانية: لهذا التوحيد شرط قبول، وهو الإخلاص. ...281

الخطوة الثالثة: كيف يتحقق الإخلاص بالتوحيد؟ ...281

النقطة الثانية: موانع دخول الجنة....283

1/الكِبْر. ...283

2/القول الفاحش وقلة الحياء....284

3/الدياثة....284

4/عقوق الوالدين. ...284

5/النميمة....285

6/الجور. ...285

ص: 340

7/الجحود بولاية أهل البيت (علیهم السّلام)....285

8/الصلاة البتراء. ...286

9/الشرك وإدمان الخمر. ...286

10/الرد على الله(عزّ و جلّ) أو الإمام وحبس حق المؤمن....286

النقطة الثالثة: الجنةُ درجاتٌ....286

1/المعرفة. ...288

2/العمل....288

3/الدعاء والطلب من الله(عزّ و جلّ) ....288

القسم الثاني: أصحاب النار. ...290

النقطة الأولى: الأسباب التي تؤدي إلى دخول جهنم....291

النقطة الثانية: موانع دخول جهنم. ...295

النقطة الثالثة: صفات ودرجات جهنم...301

بحث: أبواب الجنة والنار. ...302

الاحتمال الأول: الباب الحقيقي. ...303

الاحتمال الثاني: أن الباب بمعنى المرتبة والدرجة. ...305

الاحتمال الثالث: أن الباب بمعنى السبب. ...305

الاحتمال الرابع: الأبواب كناية عن الطرق الموصلة... 307

إشارات:...308

المصادر...313

ص: 341

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.