دروس منهجیة في شرح عقائد الإمامية المجلد 2

هوية الکتاب

العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة

قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة

مَعهَدُ تُزَاثُ الأنبِیاء علیهم السلام لِلدِّراسَاتِ الحَوزَونَة الألِکتِرونَیة

المَنَاهِج الدِّراسِّیة

دُرُوسُ مَنهَجِیَّةُ

فِی شَرحِ عَقَائِدِ الإمَامِیَّة

لِلشَّیخ مُحَمَّد رِضَا المُظَفَّر رحمه الله

1322 - 1383 ه

1904 - 1964م

الجُزءُ الثَّانی

الشَیخ حُسَین عَبد الرِّضَا الأسَدی

ص: 1

اشارة

العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة

قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلی: 163-175

الکتاب : دُرُوسُ مَنهَجِیَّةُفِی شَرحِ عَقَائِدِ الإمَامِیَّة.

تالیف: الشَیخ حُسَین عَبد الرِّضَا الأسَدی.

الناشر: قِسمُ الشُّؤُونُ الفِیکرِیَّة و الثَقَافِّیَّة فی العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسة مَعهَدُ تُزَاثُ الأنبِیاء لِلدِّراسَاتِ الحَوزَونَة الألِکتِرونَیة.

الاخراج الطباعی : علاء سعید الاسدی، محمد قاسم النصراوی.

المطبعة: دار الکفیل للطباعة و النشر.

الطبعة: الأولی.

عدد النسخ: 500.

ربیع الآخر 1442ه - تشرین الثانی 2020م

ص: 2

بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحیم

ص: 3

ص: 4

عقیدتا فی الإمامة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في الإمامة:

نعتقدُ أنّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.

وعلى الأقلِّ أنّ الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجاباً أو سلباً، فإذا لم تكنْ أصلاً من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونِها أصلاً فإنّه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة أي من جهة أنّ فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعاً من الله عزوجل واجبٌ عقلاً، وليست كُلُّها معلومةً من طريقةٍ قطعية، فلا بُدّ من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه، أما الإمام على طريقة الإمامية أو غير على طريقة غيرهم.

كما نعتقد أنّها كالنبوة لطفٌ من الله عزو جل، فلا بُدّ أنْ يكون في كُلِّ عصرٍ إمامٍ هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا، فالإمامة استمرارٌ للنبوة. والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الإمام بعد الرسول.

ص: 5

فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله عزوجل على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله. وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أنْ ينصبوا أحداً نصبوه، وإذا شاءوا أنْ يعينوا إماماً لهم عينوه، ومتى شاءوا أنْ يتركوا تعيينه تركوه، ليصحّ لهم البقاء بلا إمام، بل «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» على ما ثبت ذلك عن الرسول الأعظم بالحديث المستفيض.

وعليه لا يجوز أن يخلو عصرٌ من العصور من إمامٍ مفروض الطاعة منصوبٍ من الله عز وجل، سواء أبى البشر أم لم يأبوا، وسواء ناصروه أم لم يناصروه، أطاعوه أم لم يطيعوه، وسواء كان حاضراً أم غائباً عن أعين الناس، إذ كما يصح أن يغيب النبي كغيبته في الغار والشعب صح أن يغيب الإمام، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها.

قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.» انتهى.

في هذا الفصل يبدأ الشيخ رحمه الله ببحثٍ مفصلي في علم الكلام، ربما يكون هو أهم البحوث على الإطلاق، وقد أشار الشيخ إلى عدة نقاط:

ص: 6

النقطة الأولى:

هل الإمامة أصلٌ من أصول الدين أو فرعٌ من فروعه؟

ذهب الإمامية أتباع مذهب أهل البيت علیهم السلام إلى أنَّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين. وتترتبُ على قولهم هذا عدة نتائج:

الأولى: أنَّ الإيمان بها ضروري على حدّ التوحيد والنبوة، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها».

الثانية: يجب تحصيل اليقين فيها ولا يكفي الظن فضلًا عن التقليد، بل لابد من اليقين والجزم والاعتقاد الواضح، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا».

الثالثة: أنَّ البحث فيها سيدخل تحت كبرى: لزوم النظر والمعرفة، ذلك اللزوم والوجوب العقلي قبل أنْ يكون شرعيًا، وقد أشار الشيخ رحمه الله إلى ذلك قائلًا: «بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة».

أما العامة فجلُّهم ذهب إلى أنًّها مسألة فرعية، وعليه فيكفي فيها الظن والتقليد، وليس للعقل في ثبوتها أو عدمه مسرحٌ؛ لأنها تابعة لاجتهاد المجتهدين.

وقد أنتج هذا الخلاف منظومتين فكريتين قسّمتا الأمة الإسلامية إلى مدرستين، اختلفتا في الكثير من النتائج على مستوى العقيدة وعلى مستوى الفقه، بل وعلى مستوى السلوك أيضًا.

ص: 7

سبب الاختلاف في كون الإمامة أصلاً أو فرعاً:

اشارة

يرجع هذا الاختلاف في الحقيقة إلى خلافٍ أعمق منه، وسيشير إليه الشيخ لاحقًا في (عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص)، فمن قال: إنَّها لابد أنْ تكون بالنص (أي إنَّ التعيين فيها يكون من قبل الله عزوجل حصرًا)، فقد جعلها والنبوة على حدٍ سواء من هذه الناحية (التعيين)، وبما أنَّ النبوة أصل من أصول الدين، فالإمامة كذلك.

أما من قال بكفاية الانتخاب أو الشورى أو اختيار أهل الحل والعقد أو حتى الانقلاب العسكري في تعيين الإمام، فلا محالة سينتهي إلى القول بأنَّها مسألة فرعية تابعة للاجتهادات والاختيارات البشرية.

ما هو الدليل على أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين؟

مقدمة:

قبل الولوج في الجواب عن هذا السؤال يحسُن بنا أن نقدمَ مقدمة، مفادها: ما هو الملاك أو المعيار أو الضابط في كون عقيدةٍ ما أصلًا من أصول الدين؟

الظاهر أنَّ المعيار في جعل عقيدةٍ ما أصلًا من أصول الدين يكمن في أهمية تلك العقيدة، أي مقدار دورها ووظيفتها في المنظومة الأساسية للإسلام، فقد تقدم أنه على الرغم من أنَّ العدل صفة من الصفات الكمالية لله جل وعلا، ولكنه جُعِل أصلًا من أصول الدين لما يترتب على الإيمان به أو عدمه من الثمرات الخطيرة جداً، ونفس هذا المعيار يأتي في الإمامة، حيث إنَّ لها دورًا ضخماً جدًا في منظومة الإسلام عموماً.

ومن هنا يجدر بمن يحاجّ ويناظر أتباع مدرسة الخلفاء أن يسلّط الضوء كل الضوء ويكثف الجهد كل الجهد على مسألة الإمامة، ولا يهدر جهده ووقته على النقاش في المسائل التفصيلية التي ما هي إلا فروع أثمرت من أساس تلك المسألة، من قبيل

ص: 8

الاختلاف في التكتف في الصلاة أو إسبالهما، والاختلاف في حلّية الزواج المنقطع أو حرمته، والاختلاف في جواز السجود على التربة أو عدمه، والاختلاف في جواز التوسل بالأولياء أو عدمه...؛ فإن النقاش فيها عقيمٌ في العادة؛ لأنها نتائج لخلاف أسبق يكمن فيمن هو الخليفة الشرعي لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ فإن تمكن المناظر والمحاجج من إثبات أنه هو أمير المؤمنين علي علیه السلام ، أغناه ذلك عن النقاش في جميع تلك المسائل التفصيلية، لأنها ستثبت بتلقائية حسب ما يراه أمير المؤمنين علیه السلام .

ويرجع الاختلاف في تعيين الإمام أو الخليفة الشرعي إلى اختلاف أسبق ورئيسي مفاده: هل إنَّ الإمامة بالنص أو لا؟

فإن ثبت أنها بالنص، فقد توجّب البحث عن النصوص والأدلة الشرعية التي عيّنت الإمام، وحينئذٍ يثبت أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام وحده هو الخليفة الشرعي؛ إذ ما من نصٍ معتبرٍ أشار إلى سواه بالإمامة، وهذا ما ذهب إليه الإمامية، على خلاف مدرسة الخلفاء التي نفت الإمامة النصّية من رأس، وبالتالي نفت تعيين أي إمامٍ، متخبطةً في أمر تعيين الخليفة بين عدة نظرياتٍ، ما وضعت إلا لتصحيح واقع متناقض وشرعنة أحداث منحرفة سيأتي الحديث عنها لاحقًا.

كما نعتقد أنَّ الإمامة ليست مجرد مسألة مهمة من مسائل الإسلام، بل هي أهم مسائله؛ وذلك لأن أصلي التوحيد والنبوة ثابتان بصورة عامة لدى المسلمين، وإن كان هناك خلاف في بعض الجزئيات، على حين أنَّ الإمامة مختلفٌ فيها اختلافًا جذريًا يمتد إلى أصلها وأساسها.

أدلة كون الإمامة أصلًا من أصول الدين:

الدليل الاول: قوله عزو جل: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ

ص: 9

الشَّاكِرِينَ﴾.(1)

أنبأت هذه الآية أنَّ هناك حدثًا سيقع بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم يؤدي الى الانقلاب على العقب، والانقلاب على العقب كناية عن الخروج عن الدين، وإذا رجعنا إلى التاريخ المتفق عليه نجد: أنَّ الأمة الإسلامية بعد رحيل النبي صلی الله علیه وآله و سلم مباشرة، وقبل أنْ يُدفن صلی الله علیه وآله و سلم، فإنه قد حدث نزاعٌ ضخم حول (منا أمير ومنكم أمير) أي الخلاف على الإمامة، وكان هذا الخلاف سبب انقلاب الكثير منهم على العقب، بغضّ النظر عن حقّانية دعوى كل فريق، ولكن من كان على باطل فإنّه يخرج عن الدين والإسلام، وهنا تكمن خطورة الإمامة في كونها مسألةً يدور عليها الإسلام ثبوتًا ونفيًا، وبالتالي فإنَّ مسألةً هي الملاك في إيمان الإنسان وكفره لهي جديرةٌ بكل تأكيد أن تكون أصلًا من أصول الدين.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.(2)

الذي نزل في حجة الوداع يوم غدير خم، وعلى إثره جمع الرسول الاعظم صلی الله علیه وآله و سلم المسلمين، فأمر المتقدم أنْ يرجع والمتأخر أنْ يلحق، وعمل منبرًا من أقتاب الإبل، وصعد عليه وخطب خُطبة عظيمة ثم أردفها: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ فَقَالُوا: الله ورَسُولُه. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..».(3)

فنزول الأمر الإلهي بالتبليغ بمسألةٍ ما، والمقرون بالتشديد على أهميته، بحيث

ص: 10


1- آل عمران 144
2- المائدة 67
3- الحديث متواتر لدى العامة والخاصة، انظر مثلًا: الكافي للكليني ج1 ص293 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين علیه السلام ح (3) ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص 118 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ج1 ص 45 وغيرها.

يكون عدم الامتثال له وعدم تبليغ رسالة السماء من رأس سواءً بسواء، أي يوجب ضياع أتعاب ثلاثٍ وعشرين سنةً من التبليغ للرسالة الإلهية أدراج الرياح، لهو ادلُّ دليلٍ على عظم هذه المسألة وخطورتها وأهميتها البالغة، فلا يعقل أن تكون مجرد مسألة فرعية أبداً، ولا يناسبها إلا أنْ تكون أصولية.

ومما يؤكد ذلك أيضًا، أنه ما أن بلّغ الرسول صلی الله علیه وآله و سلم وبايع المسلمون أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حتى نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(1) أي إن الدين لم يكتمل ولم يرضه الله دينًا إلا بالتبليغ بولاية الإمام علي علیه السلام .

الدليل الثالث: الحديث المستفيض والمتفق عليه بين المسلمين بل والمتواتر أيضًا، حديث «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» هو دليلٌ آخر على أنَّ الإمامة أصلٌ لا فرع؛ لترتب خروج الإنسان من الدين على الجهل بالإمام وعدم معرفته، ومثله الحديث الوارد عن رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(2).

الدليل الرابع: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾(3).

وفي تفسيره روي عن رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم أنه قال: «يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب الله وسنة نبيهم».(4)

وعَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «يَا مَالِكُ، أمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُقِيمُوا الصَّلَاةَ وتُؤْتُوا الزَّكَاةَ وتَكُفُّوا وتَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، يَا مَالِكُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ ائْتَمُّوا بِإِمَامٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ ويَلْعَنُونَه، إِلَّا أَنْتُمْ ومَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِكُمْ، يَا مَالِكُ،

ص: 11


1- المائدة 3
2- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
3- الإسراء 71
4- عيون أخبار الرضا ج2 ص 37.

إِنَّ الْمَيِّتَ والله مِنْكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ لَشَهِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الضَّارِبِ بِسَيْفِه فِي سَبِيلِ الله».(1)

أي: إلا الذين يوالون أهل البيت علیهم السلام.

إذن تخصيص النداء يوم القيامة بالإمام يدل بوضوح على أنَّ الإمامة مسألة مصيرية، وفقها يكون مصير الإنسان يوم القيامة في الجنة أو النار، وهذا يتناسب مع كونها مسألة أصولية لا فرعية.

الدليل الخامس: ما دلَّ من الروايات على أنَّ منكر الإمام كافر، أي خارج عن الدين، ومن الواضح أنَّ الذي يوجب الخروج عن الدين هو الأصل لا الفرع، فمثلًا: من لا يصلي وهو يعترف أنَّها أمر من الله تعالى، لكنه لا يصلي، فإنه يقال عنه: فاسق، لا كافر، أما بالنسبة لمنكر الإمامة فيُقال عنه: كافر لا فاسق، كما ورد عن الإمام الباقر صلوات الله عليه أنَه قال في قوله تعالى: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(2): «الَّذِي لَا يَعْرِفُ الإِمَامَ».(3)

بل الأوضح ما ورد عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: «نَحْنُ الَّذِينَ فَرَضَ الله طَاعَتَنَا لَا يَسَعُ النَّاسَ إِلَّا مَعْرِفَتُنَا ولَا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِنَا مَنْ عَرَفَنَا كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَنَا كَانَ كَافِراً، ومَنْ لَمْ يَعْرِفْنَا ولَمْ يُنْكِرْنَا كَانَ ضَالاًّ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْهُدَى الَّذِي افْتَرَضَ اللهَ عَلَيْه مِنْ طَاعَتِنَا الْوَاجِبَةِ، فَإِنْ يَمُتْ عَلَى ضَلَالَتِه يَفْعَلِ الله بِه مَا يَشَاءُ».(4)

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق علیه السلام : «الإمام علم بين الله عز و جل وبين خلقه، فمن

ص: 12


1- الكافي للكليني ج8 ص 146 ح122.
2- الأنعام 122
3- الكافي للكليني ج1 ص 185 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح13.
4- الكافي للكليني ج1 ص 187 بَابُ فَرْضِ طَاعَةِ الأَئِمَّةِ علیهم السلام / ح11.

عرفه كان مؤمنًا، ومن أنكره كان كافراً».(1)

الدليل السادس: ما دلَّ الدليل من الروايات الشريفة على أنَّ من تولّى غير إمام الحق فإنَّه بمنزلة المشرك، كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَنْ أَشْرَكَ مَعَ إِمَامٍ إِمَامَتُه مِنْ عِنْدِ الله مَنْ لَيْسَتْ إِمَامَتُه مِنَ الله كَانَ مُشْرِكاً بِالله».(2)

وفي رواية عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «قَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: لأُعَذِّبَنَّ كُلَّ رَعِيَّةٍ فِي الإِسْلَامِ دَانَتْ بِوَلَايَةِ كُلِّ إِمَامٍ جَائِرٍ لَيْسَ مِنَ الله، وإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ فِي أَعْمَالِهَا بَرَّةً تَقِيَّةً..».(3)

الدليل السابع: السيرة العملية للمخالفين، فالمخالفون الذين قالوا بأنَّ الإمامة فرع من فروع الدين هم أنفسهم قد تعاملوا مع الإمامة على أنَّها اصلٌ من أصول الدين. فقد روي أنه لمَّا دخل الحجّاج مكَّة وصلب ابن الزبير راح عبد الله بن عمر إليه وقال: مُدَّ يدك لأُبايعك لعبد المَلِك، قال رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، فأخرج الحجّاج رجله وقال: خذ رجلي فإنَّ يدي مشغولة، فقال ابن عمر: أتستهزئ منّي؟ قال الحجّاج: يا أحمق بني عدي ما بايعت مع عليٍّ وتقول اليوم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أوَما كان عليٌّ إمام زمانك؟ والله ما جئت إليَّ لقول النبيِّ صلی الله علیه وآله و سلم ، بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صُلِبَ عليها ابن الزبير.(4)

ففعلُ عبد الله بن عمر هذا يكشف وبشكل جلي أنَّه كان يتعامل مع الإمامة على أنَّها مسألة مهمة جدًا –بغض النظر عن حقيقة توجهه الذي كشفه له الحجاج-

ص: 13


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 412 باب 39 ح 9.
2- الكافي للكليني ج1 ص 373 بَابُ مَنِ ادَّعَى الإِمَامَةَ ولَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ومَنْ جَحَدَ الأَئِمَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ ومَنْ أَثْبَتَ الإِمَامَةَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ح6.
3- الكافي للكليني ج1 ص 376 بَابٌ فِيمَنْ دَانَ الله عز و جلّ بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنَ الله جَلَّ جَلَالُه ح4.
4- الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: ج 1/ ص 363.

أضف إلى ذلك: الفتاوى الكثيرة التي صدرت ولازالت تصدر بأنَّ من يشتم الخليفة يُقتل، على حين أنَّ من يشرب الخمر أو لا يصلي لا يُقتل، وإنَّما يجلد وحسب، فنلاحظ أن تعاملهم مع المسائل الفرعية مختلف تمامًا عن تعاملهم مع الإمامة، فإنَّ سيرتهم العملية مع الإمامة تكشف عن أنهم يتعاملون معها على أنها مسألة من صميم الإسلام، وهذا مؤشر على أنَّهم يرفعونها عمليًا عن مرتبة الفروع، وإن كانوا نظريًا يقولون بأنَّها ليست من الأصول.

إن مجموع هذه المؤشرات أو المؤيدات يصلح –كل واحد منها أو مجموعها- دليلًا على أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين.

ص: 14

النقطة الثانية:

منشأ الضرورة في البحث عن الإمامة.

قال الشيخ رحمه الله : «وعلى الأقل أنَّ الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها سلباً أو ايجاباً».

قد يتساءل البعض: هل هناك من ضرورة في البحث في الإمامة؟ وإذا كانت هناك ضرورة فما هو منشؤها؟

أشار الشيخe إلى أنَّ البحث في الإمامة أمر ضروري، وأنَّ ضرورته تنبع من أحد أمرين - بحسب ما أشار إليه الشيخ -:

الأول: أنَّ الإمامة أصل من أصول الدين، وبالتالي فهي تدخل في صميم الانتماء للدين الاسلامي، بمعنى أنَّ الإمامة مدار الإسلام وأصله، وأنَّ الإيمان متوقفٌ على الاعتقاد بها، وهذا ما تقدم في الروايات التي ذُكرت في النقطة الأولى.

الثاني: البحث في الإمامة يستلزمه الاحتياط العقلي، ويُلزم هذا الأمرُ من لا يعتقد بأنَّ الإمامة أصلٌ من أصول الدين، وبيان ذلك:

إنَّ المسلم يواجه مدرستين أساسيتين على الأقل في باب تفريغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله عز و جل، إحداهما تذهب إلى أنَّ الخلافة إنما تثبت بالنص، وأنَّ الخلفاء بعد رسول الله الأعظم صلی الله علیه وآله و سلم هم الأئمة من أهل البيت علیهم السلام فقط، وأنَّهم معصومون، ولهم الولايتان التكوينية والتشريعية، وتجب مودتهم والطاعة والتسليم المطلق لهم.

والأخرى تذهب إلى غير هذا، فتكتفي فيها بالانتخاب أو الشورى بل وحتى

ص: 15

الانقلاب العسكري، ولا تلتزم بضرورة العصمة ولا بالولاية التشريعية فضلًا عن التكوينية.

ثم إنَّ المسلم مكلفٌ بتكاليف واجبة على كلا المستويين العقائدي والفقهي، ولا تفرغ ذمته إلا بعد الإتيان بها على الوجه الصحيح، ولا يختلف اثنان على أنَّ هناك اختلافًا جذريًا بين هاتين المدرستين في بعض تلك الموضوعات، لاسيما تلك المسائل التي تتعلق بالتوحيد وصفات الله عز و جل والعدل والنبوة على المستوى العقدي، وإسبال اليدين أو تكتيفهما والوضوء ووقت الإفطار وغيرها.

وبالتالي فإنَّ المكلف عندما يلتزم بإحدى المدرستين بصورة عفوية أو نتيجة تقليد الآباء لا يمكنه القطع بأنَّه قد جاء بالتكاليف على الوجه الذي يطلبه الشارع الأقدس، مما يعني أنَّ فراغ ذمته من تلك التكاليف سيكون مشكوكًا؛ ولأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فإنَّ العقل يحكم بضرورة بحث المكلف عن المدرسة الحقّ التي ينهل من فكرها ويعتقد بعقائدها ويلتزم بأحكامها بحثًا موضوعيًا منهجيًا بعيدًا عن الأهواء والتعصب؛ حتى يصل إلى القطع بحقّانية إحدى المدرستين؛ ليجزم بعد ذلك بفراغ ذمته لسلامة عقيدته من الانحراف ولصحة ما يأتي به من تكاليف.

ص: 16

النقطة الثالثة:

الإمامة لطف من الله تعالى

اشارة

قال رحمه الله : «كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى».

لا بدّ من الإشارة بادئ ذي بدء أنَّ دليل اللطف يثبت ضرورة المبدأ ولا يشخص القائم بالمبدأ، بمعنى: أنَّ دليل اللطف في النبوة مثلًا، يثبت ضرورة إرسال الأنبياء والرسل من الله تعالى، ولكن لا يُشخِّص لنا خصوص شخص النبي وأن فلانًا هو النبي لا غيره، فنحتاج إلى مثبتات أخرى لإثبات الشخص، كالمعجزة، وكذلك اللطف في مسألة الإمامة، هو يثبت لزوم تعيين إمامٍ أو خليفةٍ بعد الرسول، لكن لا يُعيِّن لنا شخص الإمام.

نكتة:

إن لطف الله تعالى ذاته دليلٌ عقلي على ضرورة وجود الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف حيًا في هذا العصر، وإن كان قاصرًا عن تشخيص شخصه المبارك الذي هو موكول إلى الدليل النقلي.

وقد تقدم تعريف اللطف بأنَّه: ما يكون سببًا في تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، وهو لازم على الله تعالى لزومًا عقليًا، كلزوم الزوجية للعدد أربعة، إذ لم يفرض أحدٌ عليه ذلك سوى طبيعة ذاته. وكذا الله جل وعلا إذ لم يوجب اللطف ويفرضه أحدٌ عليه، ولكن طبيعة كمال ذاته اللامتناهي قد اقتضت ذلك، فهو الحكيم دائمًا وأبدًا، فلا يفعل إلا الفعل الأكمل ورحمته ولطفه وسعا كل شيء، فلا يفعل إلا ما

ص: 17

يُقرِّب العبد إلى الطاعة والكمال.

كما إنّه سبحانه وتعالى يعلم أنَّ الإنسان لا يصل إلى الطاعة إلا إذا بيَّن هو عزوجل له الطريق المؤدي إليها، وإلا فلا يستطيع أنْ يصل إليها بمفرده، وبالتالي تكون عقوبته على المخالفة قبيحة عقلًا، والله تعالى لا يفعل إلا الحسن، فلزم ألّا يصدر منه قبيحٌ قط، وبذا لزم عليه -لطفًا بعباده- أنْ يبعث الأنبياء والرسل ويُعيِّن الائمة، فهو إلزام من باب الكمال الذاتي، لا أنه إلزام من الخارج.

ومن الواضح جدًا أنَّ وجود الإمام بين الناس، يُبيِّن لهم الأحكام الشرعية، ويقطع في نزاعاتهم، ويعلم الجاهل ويرد المتجاوز على الحدود الشرعية، ويفسر القرآن الكريم، ويقيم القسط بين الناس ويردُّ الشبهات، لا شك أنَّها من الأمور التي تقرب العبد إلى الطاعة وتبعده عن المعصية، إذن وجود الإمام لطف، وحيث إنَّ اللطف واجب على الله تعالى، إذن الإمامة واجبة على الله تعالى من باب اللطف.

ومن ألطف الأدلة الروائية في بيان مجال اللطف ما روي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: «كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله إِنِّي أُجِلُّكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.(1)

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(2)

قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُه فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ

ص: 18


1- وهذا أدب من هشام بين يدي الإمام المعصوم علیه السلام.
2- إذ الطاعة أولى من الأدب كما يُقال.

ذَلِكَ عَلَيَّ.(1)

فَخَرَجْتُ إِلَيْه ودَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَلَيْه شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، والنَّاسُ يَسْأَلُونَه، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ(2)عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:

أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟

فَقَالَ لِي: نَعَمْ. فَقُلْتُ: لَه ألَكَ عَيْنٌ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وشَيْءٌ تَرَاه كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْه؟! فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قَالَ لِي: سَلْ. قُلْتُ: ألَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ والأَشْخَاصَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ أَشَمُّ بِه الرَّائِحَةَ.

قُلْتُ: ألَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أَذُوقُ بِه الطَّعْمَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قُلْتُ: ألَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِه الْجَوَارِحِ والْحَوَاسِّ.

قُلْتُ: أولَيْسَ فِي هَذِه الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْه أَوْ رَأَتْه أَوْ ذَاقَتْه أَوْ

ص: 19


1- وهو أمر لا بد أن يكون همّ كل داعٍ ومؤمن، إذ إن الاهتمام بأمور المسلمين مما ندب إليه الدين ودعا إليه.
2- ولعله من باب الأدب؛ لأن عمر هشام كان صغيرًا، ولعله من باب إرادة أن يسمع الجميع حوارهما.

سَمِعَتْه، رَدَّتْه إِلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ ويُبْطِلُ الشَّكَّ.(1)

قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَه: فَإِنَّمَا أَقَامَ الله الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟!(2)

قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَالله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِه مَا شُكَّ فِيه، ويَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْه شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْه حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟!

قَالَ: فَسَكَتَ ولَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أمِنْ جُلَسَائِه؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ! ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْه وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِه وزَالَ عَنْ مَجْلِسِه! ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام وقَالَ: يَا هِشَامُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُه مِنْكَ وأَلَّفْتُه.(3)

فَقَالَ علیه السلام: هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(4)

ص: 20


1- وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أصحاب المنهج الحسي لا يكفيهم الحس للوصول إلى اليقين من دون الرجوع إلى (القلب) أو العقل.
2- كرّر السؤال نفسه بعبارات مختلفة ليُقرّه على ما أجاب به، حتى لا يتمكن من الهروب من لوازمه فيما بعد.
3- وفي هذا إشارة إلى تواضع هشام وأدبه في حضرة الإمام علیه السلام ، فلم ينسب هذه المناظرة لنفسه، وفيه إشارة أيضًا إلى جواز الاجتهاد والاستنباط، إذ هشام أخبر الإمام علیه السلام بأنه ألّف هذا المعنى مما سمعه منه، والإمام أقرّه عليه.
4- الكافي للكليني ج1 ص169 - 171 باب الاضطرار الى الحجة ح3.

النقطة الرابعة:

إنَّ الإمامة استمرار للنبوة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله :«كما نعتقد أنّها كالنبوة لطفٌ من الله~، فلا بُدّ أن يكون في كُلِّ عصرٍ إمامٌ هادٍ يخلف النبي في وظائفه...».

نعتقد أنَّ كلَّ وظائف النبي تكون للإمام الذي يخلف، من بيان الأحكام الشرعية وتفسير القرآن والقضاء بين الناس ورد الشبهات، فلا فرق من حيث الوظيفة بين النبي والإمام، إنّما الفرق بينهما يكون في أنَّ النبي يوحى إليه وحيًا رساليًا، أما الإمام فلا يوحى إليه هذا النوع من الوحي، ولا يُفهم من ذلك أنَّنا نقول بمساواة الإمام للنبي والعياذ بالله، فإنَّ الإمام علی علیه السلام نفسه كان يقول: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍصلی الله علیه وآله و سلم.(1)

فإذا كانت الإمامة استمرارًا للنبوة، فهذا يعني أنَّ الأحكام المتعلقة بالنبوة والمميزات والركائز الأساسية، كلها لا بُدَّ أنْ تتوفر في الإمامة وهي الآتية:

1/أنْ تكون الإمامة بالنص.

2/ضرورة وجود الإمام في كل عصر.

3/ أنَّ وجود الإمام لا يتوقف على إطاعة الخلق له، بل إنَّ وظيفته الهداية

ص: 21


1- في الكافي للكليني (ج1 ص 89 - 90 باب بَابُ الْكَوْنِ والْمَكَانِ ح5): عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «جَاءَ حِبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ8 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَتَى كَانَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ لَه: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ! ومَتَى لَمْ يَكُنْ حَتَّى يُقَالَ مَتَى كَانَ؟ كَانَ رَبِّي قَبْلَ الْقَبْلِ بِلَا قَبْلٍ، وبَعْدَ الْبَعْدِ بِلَا بَعْدٍ، ولَا غَايَةَ ولَا مُنْتَهَى لِغَايَتِه، انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ عِنْدَه، فَهُوَ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَنَبِيٌّ أَنْتَ. فَقَالَ: وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍصلی الله علیه وآله و سلم ».

الاختيارية، فيبقى الاختيار للناس، فقد يطيعونه وقد لا، كما في النبي تمامًا، كما أنَّ القرآن هدى للناس، ولكنّه لا يجبر الناس على الهداية.

4/ أنَّ ضرورة وجود الإمام لا تتوقف على كونه ظاهرًا، بل يكفي وجوده الواقعي وإنْ كان غائبًا، وإنْ لم نعلم به أو نصل إليه، وهناك العديد من الروايات الشريفة تؤكد أنَّ الحجة سواء كان إمامًا أو نبيًا فإنه قد يكون ظاهرًا أو غائبًا، فقد رويَ عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «اللهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّنَاتُه».(1)

كما رويَ عن الإمام الصادق علیه السلام : «لم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله...»(2)

بل في بعض الروايات يسأل البعض الإمام عن صحة الروايات التي تقول: إنَّ الله تعالى لا يرفع الحجة من الأرض إلا إذا غضب عليهم، فنفى الإمام ذلك معللًا بأن رفع الحجة يوجب أنْ تسيخ الأرض بأهلها.

فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: لَا، لَا تَبْقَى إِذاً لَسَاخَتْ».(3)

وعلى الرغم من أنَّ ظهور الحجة وعدمه سيّان من هذه الناحية، إلا أنَّ ظهوره بلا شك أعظم من غيبته، من جهة إمكان الاستفادة منه مباشرة؛ ولذا كان الأصلُ هو

ص: 22


1- نهج البلاغة ج4 ص 37. من الحكمة رقم (147)
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 207 باب 21 ح 22.
3- الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ ح11.

ظهور الحجة، فإذا غاب كان خلاف الأصل، وحينئذٍ يشرع السؤال عن سبب غيابه، وسيأتي تفصيل الجواب في عقيدتنا في المهدي عج الله تعالی فرجه الشریف إن شاء الله تعالى.

5/ كفاية وجود الحجة الواقعي فيما إذا كان غائبًا طالما أنَّه قائمٌ بوظائفه، وكانت غيبته وفقًا لحكمة الله تعالى، سواءً طالت غيبته أو قصرت؛ لأن العقل لا يفرق بين الغيبة القصيرة أو الطويلة، حيث إنَّه في كلا الحالتين قد اضطرّ إلى بعض مسؤولياته التي تقتضي ظهوره كالقيادة المباشرة لهم وما إلى ذلك من مسؤوليات، أما الأمور الأخرى ككونه أمانًا لأهل الأرض كما إنَّ النجوم أمان لأهل السماء فهو لا زال يقوم بها على أتمّ وجه، وستأتي التفاصيل في محلها إن شاء الله تعالى.

إشكالٌ (الفترة) وجوابه:

تقدّم أنَّ من الركائز الأساسية للنبوة: أنْ يكون في كل عصر نبيٌّ يهدي الناس يوضح لهم الشريعة ويردهم عن الظلم والطغيان، والقرآن الكريم يؤكد هذه المسألة في كثير من الآيات، ومنها ما ذكره الشيخe قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.(1)

إلا أن هناك ما ربما يتنافى -لأول وهلة- مع هذه الحقيقة، من قبيل قوله عز من قائل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾.(2)

والفترة: من الفتور، أي السكون بعد الحدة، أو اللين بعد الشدة، أو الضعف بعد القوة.

ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ

ص: 23


1- فاطر 24
2- المائدة 19

كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.

وقد يرد نفس هذا الإشكال على غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه بمعنى (على فترة من الإمامة)؟

والجواب:

أوَّلاً: الآية قالت: إنَّه صلی الله علیه وآله و سلم جاء علىٰ فترة من الرُّسُل لا الأنبياء، ومعلوم أنَّ الأنبياء أكثر بكثير من الرُّسُل، فلا ملازمة بين عدم وجود رسول وبين عدم وجود نبيٍّ، فقد يكون في زمن لا يوجد رسول ولكنَّه يوجد نبيٌّ. وهذا هو المروي، حيث ذكرت بعض الروايات وجود بعض الأنبياء بين النبيِّ الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم وبين النبيِّ عيسىٰ علیه السلام ، كخالد بن سنان العبسي كما سيأتي بعد قليل.

ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّه وبوجود الكتاب السماوي (الإنجيل) وبوجود العلماء والأوصياء في تلك الفترة فإنَّ الحجَّة قائمة علىٰ الناس، وإنَّما يرسل الله تعالىٰ الرُّسُل لإتمام الحجَّة عليهم، فإذا كانت الحجَّة تامَّة لم يكن عدم الإرسال منافياً لهداية الدعوة، إذ الهداية موجودة حسب الفرض.

ثالثاً: أنَّ المقصود من الفترة هو خلوّها من حجَّة ظاهر، وأمَّا الحجَّة غير الظاهر فقد كان موجوداً في تلك الفترة.

وهذا المعنىٰ - أي عدم خلوِّ الأرض من حجَّة ولو غير ظاهر - هو ما صرَّح به أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «اللهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهذا ما ذهب إليه الشيخ الصدوق؛ في إكماله، حيث قال ما نصُّه:

ص: 24


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.

«وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله عزوجل بعث محمّداً صلی الله علیه وآله وسلم علىٰ حين فترة من الرُّسُل، لا من الأنبياء و الأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسى علیه السلام أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، نبيٌّ لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاصِّ والعامِّ، وشهرته عندهم، وأنَّ ابنته أدركت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ودخلت عليه، فقال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «هذه ابنة نبيٍّ ضيَّعه قومُه، خالد بن سنان العبسي»(1)،وكان بين مبعثه ومبعث نبيِّنا محمّد صلی الله علیه وآله وسلم خمسون سنة...»(2).

نكتة مهدوية:

ذكرت بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه يظهر بعد فترة من الأئمَّة، بمعنىٰ أنَّه يظهر بعد وجود فاصل زمني بينه وبينه آخر ظهور وحضور للمعصوم.

ص: 25


1- في الكافي للكليني (ج 8/ ص 342 و343/ ح 540، حديث ابنة خالد بن سنان): عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «بينما رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم جالساً إذ جاءته امرأة، فرحَّب بها وأخذ بيدها وأقعدها، ثمّ قال: ابنة نبيٌّ ضيَّعه قومه، خالد بن سنان، دعاهم فأبوا أن يؤمنوا، وكانت نار يقال لها: نار الحدثان تأتيهم كلَّ سنة فتأكل بعضهم، وكانت تخرج في وقت معلوم، فقال لهم: إن رددتها عنكم تؤمنون؟ قالوا: نعم»، قال: «فجاءت فاستقبلها بثوبه فردَّها، ثمّ تبعها حتَّىٰ دخلت كهفها ودخل معها، وجلسوا علىٰ باب الكهف وهم يرون ألَّا يخرج أبداً، فخرج وهو يقول: هذا هذا وكلُّ هذا من ذا (أي هذا شأني وإعجازي)، زعمت بنو عبس أنّي لا أخرج وجبيني يندىٰ (أي يبتلُّ من العرق)، ثمّ قال: تؤمنون بي؟ قالوا: لا، قال: فإنّي ميِّت يوم كذا وكذا، فإذا أنا متُّ فادفنوني، فإنَّها ستجيء عانة (القطيع من حمر الوحش) من حمر يقدمها عَير أبتر (والعَير بالفتح: الحمار الوحش-ي، وقد يُطلَق علىٰ الأهلي أيضاً. والأبتر: المقطوع الذنب) حتَّىٰ يقف علىٰ قبري، فانبشوني وسَلوني عمَّا شئتم، فلمَّا مات دفنوه، وكان ذلك اليوم إذ جاءت العانة اجتمعوا وجاؤوا يريدون نبشه، فقالوا: ما آمنتم به في حياته، فكيف تؤمنون به بعد موته؟ ولئن نبشتموه ليكون سبَّة عليكم، فاتركوه، فتركوه».
2- كمال الدين للصدوق: 659/ باب 58/ ذيل الحديث 2.

فقد روي عن أبي حمزة، قال: «دخلت علىٰ أبي عبد الله علیه السلام ، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: لا، فقلت: فولدك؟ فقال: لا، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: لا، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: لا، قلت: من هو؟ قال: الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، علىٰ فترة من الأئمَّة، كما أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بُعِثَ علىٰ فترة من الرُّسُل»(1).

استطراد:

لاصطلاح (صاحب الأمر) الذي ورد في الرواية الآنفة معنيان:

الأول: هو الإمام المفترض الطاعة من الله عروجل وهذا المعنى ينطبق على كل أئمتنا صلوات الله عليهم.

الثاني: يُراد به الإمام الذي يقوم بإزالة الظلم والجور، والذي يقوم بإقامة الدولة العادلة ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلِأت ظلمًا وجورًا، وهو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وهكذا الحال في اصطلاح (القائم) إذ إنَّه ايضًا له معنيان:

الأول: هو من يقوم بأمور الولاية التكوينية والتشريعية خلافة عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا ينطبق على كل أئمتنا علیهم السلام ؛ لذلك ورد في زيارة الإمام الحسن علیه السلام التعبير عنه بالقائم. وهكذا في زيارات بعض الأئمة علیهم السلام .

وأما المعنى الثاني فهو: القائم الذي يقوم بدولة العدل الإلهية، وهو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وقد أشارت بعض الروايات إلى كلا المعنيين، كما روي في رد بعض الأئمة صلوات الله عليهم عن سؤال: أأنت القائم بهذا الأمر؟ فيروى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: نعم، أنا

ص: 26


1- الكافي للكليني 1: 341/ باب في الغيبة/ ح 21.

القائم بهذا الأمر ولكنّي لست بالذي أملأها قسطًا وعدلًا.(1)

ص: 27


1- في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 376 باب35 ح 7: عن الريان بن الصلت قال: «قلت للرضا علیه السلام : أنت صاحب هذا الامر؟ فقال: أنا صاحب هذا الامر ولكني لست بالذي أملاها عدلا كما ملئت جورا، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وإن القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشبان، قويًا في بدنه، حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى، وخاتم سليمان علیه السلام. ذاك الرابع من ولدي، يغيبه الله في ستره ما شاء، ثم يظهره فيملأ [ به] الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما».

ص: 28

عقيدتنا في عصمة الإمام

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في عصمة الإمام:

ونعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً. كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة، بلا فرق.

ليس على الله بمستنكرٍ أن يجمع العالم في واحد» انتهى.

قبل الشروع في شرح هذه العقيدة لابد من الإشارة إلى أنَّ هناك بحثين يجدر بنا أن نفرِّق بينهما:

أولهما: أصل الحاجة إلى الإمامة، وهل يلزم وجود إمام أو لا يلزم، وما هو الدليل على لزوم الإمام؟ وقد تقدم الحديث عن كل ذلك فيما عنونه الشيخ رحمه الله (عقيدتنا في الإمامة).

ثانيهما: في صفات الإمام ومؤهلاته التي لا بد أن تتوفر فيه ليشغل هذا المنصب المهم، وهذا ما تناوله الشيخ رحمه الله في: (عقيدتنا في عصمة الإمام) و(عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه).

ص: 29

عقيدتنا في عصمة الإمام.

تقدم أنَّ الإمام هو القائم مقام النبي صلی الله علیه وآله وسلم في جميع وظائفه، وأنَّه لا فرق بينهما من هذه الناحية إلا بالوحي الرسالي الذي يوحى به إلى النبي دون الإمام، وبالتالي فإنَّ قيام الإمام بكل تلك المهام يستلزم العصمة.

ما الدليل على لزوم عصمة الإمام؟

اشارة

يمكن الاستدلال على عصمة الإمام من خلال التالي:

أولًا: إنَّ العصمة إثباتًا ونفيًا مرتبطةٌ بتفسير الإمامة، فمن فسرها بأنَّها مجرد منصب دنيوي يحكم فيها الإمام عباد الله تعالى، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى هذا الحكم، وبغض النظر عن مقدار التزامه الديني ومقامه العلمي، فإنه ينتهي بلا ريب إلى أنه لا تُشترط العصمة فيها، وأما من فسرها بأنَّها منصبٌ إلهي خلافةً عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم في كل ما يقوم به، خلا تلقي الوحي الرسالي، أي إنَّها امتداد للنبوة، فلا محالة ينتهي إلى أنَّ العصمة أمرٌ جوهري بالنسبة للإمامة وعنصر من عناصرها الذاتية لا تتقوم إلا بها.

ولذا قال علماء مدرسة الخلفاء بعدم لزوم العصمة، مستشهدين بسيَر خلفائهم وكونهم ليسوا معصومين ويرتكبون الأخطاء بإقرارهم، كما ورد عن أبي بكر أنَّه قال: إنَ لي شيطانًا يعتريني فإنْ استقمت فأعينوني، وإنْ زغت فقوموني(1).

وعن عمر بن الخطاب كان يقول: ...إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها

ص: 30


1- في الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص 183: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أمبعد أيها الناس قد وليت أمركم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن وسن النبي صلی الله علیه وآله وسلم السنن فعلمنا فعلمنا اعملوا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني.

قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها...(1)

كما ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أن عمر قال: كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال في خدورهن.(2)

وفي الحقيقة، أنَّ ما ذكروه إنما هو مصادرة على الدليل - أيّ الاستشهاد بالنتيجة كدليل-، فهم استدلوا على لزوم عدم عصمة الإمام بعدم عصمة خلفائهم، على حين أنَّ عصمة الإمام واجبة، وبما أنَّهم ليسوا بمعصومين، لذا فإنهم ليسوا بأئمةٍ من رأس.

ثانيًا: تقدّم أنَّ الإمامة امتدادٌ للنبوة، وأنَّها منصبٌ إلهي كما النبوة، فثمرتها هي حفظ الشريعة من حيث التبليغ والتعليم وردّ الشبهات عن الدين وتفسير القرآن الكريم والقضاء بين الناس وما شابه ذلك، ولازم كل ذلك: العصمة، وإلا لما كان الإمام حافظًا للدين، فلو جاز على الإمام الخطأ وارتكاب المعصية، لكان المسلمون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما وجوب الطاعة أو لا، فإن وجبت الطاعة عليهم، كان ذلك تغريرًا لهم - للمسلمين - بهما - أي بالخطأ والمعصية - فكيف سيحاسبهم الله تعالى عليهما؟! وإن لم تجب الطاعة كانت الإمامة لغوًا وعبثًا.(3)

ص: 31


1- صحيح البخاري ج8 ص 26.
2- في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص 182: قال مرة: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل الله لك ذلك، إنه تعالى قال: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ فقال: كل النساء أفقه من عمر، حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، فأضلت إمامكم ففضلته!
3- في الشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 179 – 180.قال السيد المرتضى في تقريب هذا البيان: قد علمنا أن شريعة نبينا صلی الله علیه وآله وسلم مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإن التعبّد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة، ولا بد لها من حافظ، لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصومًا أو غير معصوم، فإن لم يكن معصومًا لم يُؤْمَنْ من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة، لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أن الحافظ لا بد أن يكون معصومًا، استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها.

كما أنَّ وظيفة الإمامة هي الحفاظ على الدين، وهل يُنتظر ممن يُخطئ أنْ يُحكم الرد على جميع الشبهات الواردة عليه؟ أو يُفسر آيات القرآن الكريم بما لا يمكن أنْ يُخطِئه العلم مهما تقدّم أو تطور.

وعليه فلابُدَّ أنْ يكون الإمام معصومًا ولو في الجملة، أي على نحو العصمة المتفق عليها بين الفرق الكلامية للنبيصلی الله علیه وآله وسلم وهي العصمة في تبليغ الأحكام الشرعية وتعليم الإسلام وتفسير القرآن الكريم والقضاء بين الناس وما شابه. لا سيما أنْ لا دليل على انحصار العصمة بالنبي صلی الله علیه وآله وسلم–علمًا أننا نؤمن بالعصمة المطلقة للأئمة علیهم السلام-

لماذا كانت العصمة أمرًا جوهريًا في الإمامة عند الإمامية؟

في مقام الجواب توجد عدة أدلة، ولكننا نقتصر على أحدها، وهو قوله عز من قائل: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1)،

فالآية تحكي أنَّ النبي ابراهيم علیه السلام بعد نجاحه في الاختبار والابتلاء، بلغ مرحلةً جعله الله تعالى فيها إمامًا، وعندما طلب لذريته هذا المقام أجابه الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

ويمكن الاستفادة من هذه الآية المباركة بحوثًا كثيرةً قيّمةً، ولكننا نشير إلى بعضها بإيجاز بما يناسب هذه المرحلة بنقاط:

الأولى: قال تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، جاءت كلمة (عهدي) هنا فاعلًا، والظالمين مفعولًا به، مما يعني أنَ الإمامة هي التي تنال الناس، لا أنَّ الناس هم الذين

ص: 32


1- البقرة 124

ينالونها، وفيها إشارة إلى التنصيب الإلهي.

الثانية: نسب الله تعالى العهد إلى نفسه، مما يبطل نظرية الشورى في تنصيب الإمام التي يتشبث بها علماء العامة جملةً وتفصيلًا، إذ إنّ عهد الإمامة عهد الله تعالى يضعه حيث من يشاء.

الثالثة: يمكن تقسيم الناس على أساس الظلم وعدمه قسمة عقلية إلى أربعة أقسام:

الأول: من يكون ظالمًا من بداية حياته إلى أن يموت، وهذا لا يستحق الإمامة قطعًا.

الثاني: من يكون محسنًا في بداية حياته ثم يصبح ظالمًا، وهذا أيضًا من الواضح جدًا أنه لا يكون إمامًا.

الثالث: من يكون ظالمًا في بداية حياته سواء كان كافرًا أو مشركًا أو منافقًا ثم أصبح محسنًا، وهذا أيضًا لا يستحق الإمامة؛ وذلك لأن الآية أطلقت عدم نيل العهد الإلهي للظالم، أي لكل ظالم، وإن اتصف بالظلم بمقدار ثوانٍ من حياته.

الرابع: من كان محسنًا من بداية حياته إلى أنْ يموت، أي لم يظلم ولو بمقدار ثانيةٍ منها، ولا يعني ذلك إلا العصمة، وهو الذي يستحق الإمامة.

وهذا يدلُّ على أنًّ العصمة أمرٌ جوهري في استحقاق الإمامة وهو المطلوب.

ثالثًا: بطلان التسلسل:

ببيان:

اشارة

لو فرضنا أنَّ الإمام غير معصوم، فإنَّ عدم عصمته يعني أنَّه سيجهل بعض الأحكام الشرعية، وعليه لو سُئل عن حكم مسألةٍ شرعيةٍ مثلًا، فإنَّ الأمر لا يخلو من أحد احتمالين هما:

ص: 33

1/أنْ يكون جاهلًا بالجهل المركب، فيُجيب خطأً، لأنه جاهلٌ بالحكم، وهنا يترتب على وجوب اتباعه الوقوع في المعصية، ويترتب على عدمها عبثية الإمامة ولغويتها.

2/أنْ يعلم أنَّه جاهلٌ فلا يُجيب، وهنا:

أ/ إما أنْ يُكرِه السائلَ على عدم البوح بجهله، والتكتّم عليه وإلا يُنزل به العقاب، وهذا خلاف اللطف الالهي؛ لأنه سيؤدي الى ضياع الأحكام الشرعية.

ب/ أو لا، فيذهب السائل إلى شخصٍ آخر ليسأله، وحينئذٍ لا يخلو الأمر: إما أنْ يكون –ذاك الثاني- عالمًا بالحكم الشرعي أو لا، فإنْ كان عارفًا بكل الأحكام كان هو الأولى أن يكون الإمام، وإلا يذهب السائل إلى غيره وهكذا يتسلسل، أي لا نصل إلى شخص نتمكن من معرفة الحكم الشرعي الواقعي منه... ومعلومٌ أنَّ التسلسل باطلٌ في هكذا أمور، لاسيما بوجود قاعدة اللطف، فلا بُدَّ من انتهائه عند حد، والعصمة هي التي تقطع التسلسل بالانتهاء إلى الإمام المعصوم؛ ولذا فمن باب اللطف فإن الله تعالى يُنصب للناس إمامًا معصومًا لئلا يبقى الناس من دون حكم شرعي، وبذا نصل إلى ضرورة عصمة الإمام.(1)

ملاحظة:

إن استقراء سير الأئمة علیهم السلام يكشف بكل وضوح عن عصمتهم، فمثلًا أمير المؤمنين علیه السلام نجد أنه لم يخطئ ولم يجهل ولم ينس ولم يسه على الاطلاق، فواقعه علیه السلام دليل عصمته.

ص: 34


1- في رسائل الشريف المرتضى- الشريف المرتضى- ج1 ص 324. قال السيد المرتضى رحمه الله في بيان هذا التقريب: والذي يدل على عصمة الإمام: أن علة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة. قال: فليس يخلو الإمام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته أو لا يجوز ذلك عليه. قال: وفي الأول وجوب إثبات إمام له، لأن علة الحاجة إليه موجودة فيه وإلا كان ذلك نقضًا للعلة، وهذا يؤدي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء إلى إمام معصوم، وهو المطلوب.

وهذا ليس دليلًا مستقلًا، وإنما نذكره للاستئناس.

بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة، هناك الأدلة النقلية، وأهمها:

أولًا: آية التطهير: قال تعالى ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.(1)

وكلمة (يريد) في الآية المباركة تصرّح بكل وضوح أنَّ الله عزوجل هو الذي يريد أن يذهب عن أهل البيت علیهم السلام الرجس، والرجس: كل ما يلوث النفس الإنسانية. وقد أذهب الله تعالى هذا الرجس عنهم علیهم السلام، فهم معصومون.

ثانيًا: حديث الثقلين المتواتر: الذي قال فيه النبي صلی الله علیه وآله وسلم: انى تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.(2)

وروي أنه قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عزوجل إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(3)

إنَّ عبارة «لن تضلوا بعدي» تنفي الضلال بصورة مؤبدة لمن يتمسك بهم، وهي دليل جلي على عصمتهم علیهم السلام هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الرسول صلی الله علیه وآله وسلم قد قرن

ص: 35


1- الأحزاب 33
2- الحديث متواتر، انظر مثلًا: مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 و ج5 ص 182 وسنن الترمذي ج5 ص 329 والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 110 وج3 ص 148 ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 162 وغيرها من المصادر.
3- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

بين العترة وبين القرآن الكريم، وحيث إنَّ القرآن معصومٌ، فقرينه لابُدَّ أنْ يكون كذلك، وإلا لا يصح القرن بينهما.

ثالثًا: عن أبي سخيلة، قال: أتيت أبا ذرe فقلت: يا أبا ذر، إني قد رأيت اختلافا، فبماذا تأمرني؟ قال: عليك بهاتين الخصلتين: كتاب الله، والشيخ علي بن أبي طالب علیه السلام، فإني سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل».(1)

ص: 36


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 274 ح 304/ 5. وانظر شرح ابن أبي الحديد ج 13 ص 228.

عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه:

ونعتقد أنّ الإمام كالنبي يجب أنْ يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعةٍ وكرمٍ وعفةٍ وصدقٍ وعدلٍ، ومن تدبيرٍ وعقلٍ وحكمةٍ وخلقٍ. والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام...

أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجدّ شيءٌ لا بُدّ أنْ يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله عروجل فيه، فإنْ توجّه إلى شيءٍ وشاء أنْ يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطأ فيه ولا يشتبه يد معلم، من مبدأ طفولتهم إلى سنِّ الرشد، حتى القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم أنّه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيءٍ من الأشياء، مع ما لهم من منزلةٍ علميةٍ لا تجاري. وما سُئلوا عن شيءٍ إلا أجابوا عليه في وقته، ولم تمر على ألسنتهم كلمة (لا أدري)، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك. في حين أنّك لا تجد شخصا مترجماً له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية أو العلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات، كعادة البشر في كُلِّ عصرٍ ومصرٍ.» انتهى.

يتعرض الشيخ رحمه الله في هذه العقيدة إلى ضرورة أنْ يكون الإمام الذي يخلف الرسول صلی الله علیه وآله وسلم جامعًا للكمالات التي تجعله أفضل الناس على الإطلاق؛ لأنَّ لمنصب

ص: 37

الإمامة ومقام الحجية أهمية عظيمة، بحيث وصفته الروايات الشريفة بأنه لولا (القائم) على هذا المنصب لساخت الأرض ومن عليها، فهو الأمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، وبالتالي فليس لأي أحد أنْ يدّعي هذا المقام إلا إذا كان متصفًا بما يجعله أفضل من غيره على الإطلاق –بالإضافة إلى ما تقدم من ضرورة النص-.

وأما الدليل على ذلك فهو نفس الدليل الذي ذُكر في لزوم كون النبي أفضل الموجودين قاطبةً، وقد تقدّم أنَّ هناك عدة أدلة لإثبات هذه المسألة، منها: أننا لو قسنا الإمام إلى غيره فلا يخلو الأمر: إما أنْ يكون مساويًا له أو أقل منه أو أفضل، فإن كان مساويًا لغيره فإن ترجحيه على الغير يكون ترجيحًا بلا مرجح، وإذا كان أقل فالعقل يحكم بتقديم الأفضل، فلا يبقى سوى تقديم الافضل وترجيحه.

ثم تطرّق الشيخ رحمه الله إلى ذكر بعض الصفات المتوفرة لدى الإمام، ثم أشار إلى تفسيرٍ لمعنى الإلهام أو النكت بالقلب.

ومن المناسب بعد هذا البيان، ذكر إشارتين:

الإشارة الأولى: أنواع كمالات الإمام

اشارة

قبل الولوج في إيضاح أنواع كمالات المعصوم، لابُد من التنويه على أنَّ ما سنتناوله من كمالاتٍ تقتصر على الكمالات الذاتية للمعصوم، فلا يشتمل حديثنا مثل (التنصيص الإلهي على المعصوم) على الرغم من كونه هو الآخر كمالًا.

تعتقد المدرسة الإمامية بأنَّه ليس لأيٍ كان الحق بادّعاء الإمامة بل لابُدَّ من توفره على كمالات من عدة أنواع، فإذا هي توفرت فيه، أمكن أنْ يكون إمامًا وخليفة عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وإلا فلا، وبما أنَ أنواع الكمالات هذه مشتركة بين الأنبياء والأئمة، فمن المفيد التحدّث عنها تحت عنوان الكمالات في الحجة ليشملهما معًا، وهي:

ص: 38

النوع الأول: الكمال البدني او الخَلقي.

فلابُدَّ أنْ يكون جسم الحجة عمومًا خاليًا من التشوهات البدنية والعلامات الفارقة الدالة على النقص كالعرج والعمى والخرس وغيرها، كذلك يجب أنْ يكون جسم الحجة خاليًا من المُنفِّرات كالرائحة النتنة المقرفة سواءً كانت ولاديةً (أي منذ الولادة) أو عارضةً (كأن تعرض عليه لمرضٍ ونحوه)؛ ولذا تجد أنَّ الأئمة علیهم السلام قد نفوا ما تضمنته بعض الروايات الموضوعة من نسبة التشوهات الخلقية إلى بعض المعصومين، وأشهرها تلك التي وردت في قصة النبي أيوب علیه السلام حيث ذكرت أنَّ جسمه وصل إلى مرحلة من التعفن بحيث أنَّ الدود كان ينمو في جسده!

فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «إن أيوب من جميع ما ابتلي به، لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدوّد شيء من جسده، وهكذا يصنع الله~ بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما أجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج».(1)

ومن لطيف ما ورد عن جابر بن عبد الله قال: «كان في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم خصال: لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه...».(2)

وعن ثابت بن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كان أزهر اللون، كأن لونه اللؤلؤ، وإذا مشى تكفأ، وما شممت رائحة مسك ولا عنبر أطيب من رائحته، ولا مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كان أخف الناس صلاة في تمام.(3)

ص: 39


1- بحار الأنوار للمجلسي ج12 ص 348.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 55.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج16 ص 238.

علاوة على ذلك، فقد كان صلی الله علیه وآله وسلم دائمًا ما يضع العطور ويتطيَّب، ويؤكد عليه، بل روي أنَّه ما أنفقت في الطيب فليس بسرف(1)، وأنَّه كان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يُنفِق في الطيب أكثر ممَّا يُنفِق في الطعام(2)،

وأنَّه كان يُعرَف موضع سجود أبي عبد الله علیه السلام بطيب ريحه(3).

فالتطيُّب أمرٌ لطيف يسهم في التحابب والتقارب بين المؤمنين، على عكس الرائحة المنفرّة التي تكون داعيةً للفرقة والتباعد؛ ولذا فقد ورد في بعض الروايات كراهة حضور المسجد لمن تنبعث من فمه رائحة الثوم وما الى ذلك، حتى يبقى على رائحة طيبة.(4)

النوع الثاني: الكمال النفسي

بمعنى أنْ تكون التصرفات النفسية للحجة مستقيمة، في الحالات الاعتيادية وفي الحياة اليومية مما يراه الناس منه بحيث تكشف بنفسها عن تفرّده عن سائر الناس بصفات استثنائية.

وبعبارة أخرى: أنْ تكون أفعاله تكشف عن مقام الحجية، فتجد الحجة يتصف بالسكينة والهدوء وإنْ كان يمرُّ بأحلك الصعاب، كما نقل الشيخ المفيد في حالات الامام الحسين علیه السلام عن حميد بن مسلم قال: فوالله ما رأيت مكثورًا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه علیه السلام ، إن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب.(5)

ص: 40


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 16).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 18).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 511/ باب الطيب/ ح 11).
4- في الكافي للكليني ج6 ص 375 – 376 بَابُ الثُّومِ ح1 «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ أَكْلِ الثُّومِ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم عَنْه لِرِيحِه، فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ هَذِه الْبَقْلَةَ الْخَبِيثَةَ فَلَا يَقْرَبْ مَسْجِدَنَا فَأَمَّا مَنْ أَكَلَه ولَمْ يَأْتِ الْمَسْجِدَ فَلَا بَأْسَ».
5- الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 111.

كذلك يجب أنْ يتصف الحجة بالتوكل المطلق على الله عزوجل ، كما ورد في أحوال الإمام السجاد سلام الله عليه عن إبراهيم بن أدهم، وفتح الموصلي قال كل واحد منهما: «كنت أسيح في البادية مع القافلة فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة فإذا أنا بصبي يمشي فقلت: سبحان الله بادية بيداء وصبي يمشي! فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت له: إلى أين؟ قال: أريد بيت ربي، فقلت: حبيبي انك صغير ليس عليك فرض ولا سنة، فقال: يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنا منى مات؟ فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: زادي تقواي وراحلتي رجلاي وقصدي مولاي، فقلت، ما أرى شيئا من الطعام معك! فقال: يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك انسان إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام؟ قلت: لا، قال: الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني، فقلت: ارفع رجلك حتى تدرك، فقال علي الجهاد وعليه الابلاغ أما سمعت قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(1)...»(2)

وهذا يكشف عن شدة توكل الإمام زين العابدين علیه السلام على صغر سنه.

ومن صفات الحجة: هيبته في القلوب، رغم أنَّه لا يخرج عن الحد المتعارف في

ص: 41


1- العنكبوت 69
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 280، وتمام الرواية:...قال: فبينا نحن كذلك إذا أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة فعانق الصبي وسلم عليه فأقبلت على الشاب وقلت له: أسألك بالذي حسن خلقك من هذا الصبي؟ فقال: أما تعرفه! هذا علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، فتركت الشاب وأقبلت على الصبي فقلت: أسألك بآبائك من هذا الشاب؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر يأتينا كل يوم فيسلم علينا، فقلت: أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: بلى أجوز بزاد وزادي فيها أربعة أشياء، قلت: وما هي؟ قال: أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة الله، وأرى الخلق كلهم عبيد الله واماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذا في كل أرض الله، فقلت: نعم الزاد زادك يا زين العابدين وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة فكيف مفاوز الدنيا.

التص-رف مع أصحابه، وقد وصف ضرارُ أميرَ المؤمنين علیه السلام في مجلس معاوية بأوصاف كان جُلُّها التواضع لله تعالىٰ والناس، حيث روي أنَّه قال: «... كان والله فينا كأحدنا، يُدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويُقرِّبنا إذا زرناه، لا يُغلَق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نُكلِّمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم...»(1).

ومن صفات الحجة: وضعه الشيء في موضعه، ومن ذلك اهتمامه البالغ بالوقت وحرصه على استثماره خير استثمار، فقد نقل ابن حجر في الصواعق في أولاد الإمام الهادي صلوات الله عليه ما نصه «أجلّهم أبو محمد الحسن الخالص.... ووقع لبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي، والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال:يا قليل العقل، ما للعب خلقنا. فقال له:فلماذا خُلقنا؟ قال: للعلم والعبادة! فقال له: من أين لك ذلك؟ قال من قول الله عزوجل ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾(2)، ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات، ثم خرّ الحسن مغشياً عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟! فقال: إليك عني يا بهلول،إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا تتّقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم».(3)

النوع الثالث: الكمال الأخلاقي

نعتقد أنَّ الحجة عمومًا والإمام خصوصًا يجب أنْ يتحلى ليس بمجرد الأخلاق، وإنّما أنْ يكون على قمة الهرم الأخلاقي، فمثلًا يقر القرآن الكريم بقانونين أخلاقيين:

ص: 42


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 41/ ص 15).
2- المؤمنون 115
3- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيتمي المكي ص 207.

أحدهما: ردُّ الاعتداء ﴿فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ﴾(1)

والآخر أرقى منه وهو قانون العفو والمغفرة ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(2) فعلى الرغم من إن كليهما أخلاقي، وبأيٍ منهما التزم المؤمن فإنه لا يخرج عن دائرة التعامل الأخلاقي، إلا أن الإمام لا يتعامل إلا بالثاني منهما عادة، ولذا فهو لا يتصف بالأخلاق وحسب، بل بالكمال الأخلاقي أيضًا.

رُوِيَ أَنَّ أمير المؤمنين علیه السلام «كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِه، فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ علیه السلام: إِنَّ أَبْصَارَ هَذِه الْفُحُولِ طَوَامِحُ وإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُه فَلْيُلَامِسْ أَهْلَه، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِه. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، قَاتَلَه الله كَافِراً مَا أَفْقَهَه! فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوه، فَقَالَ علیه السلام رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ».(3)

ولم ينقل التاريخ أنه عاقبه، فهنا الإمام علیه السلام اختار القانون الأرقى.

وروي عن المبرَّد وابن عائشة: أنَّ شامياً رأىٰ الحسن بن عليٍّ علیه السلام راكباً فجعل يلعنه! و الحسن لا يردُّ. فلمَّا فرغ أقبل الحسن علیه السلام فسلَّم عليه وضحك، فقال:

«أيُّها الشيخ أظنُّك غريباً، ولعلَّك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكْتَ رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلىٰ وقت ارتحالك، كان

ص: 43


1- البقرة 194
2- آل عمران 134
3- نهج البلاغة ج4 ص 98 – 99 الحكمة 420.

أعود عليك، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً».

فلمَّا سمع الرجل كلامه، بكىٰ ثمّ قال: أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليَّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفه إلىٰ أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبَّتهم(1).

وقال نصراني للإمام الباقر علیه السلام : أنت بقر؟ قال: «أنا باقر»، قال: أنت ابن الطبّاخة؟ قال: «ذاك حرفتها»، قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذيَّة؟ قال: «إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك»، قال: فأسلم النصراني(2).

ولم يكتفِ الأئمة علیهم السلام بالقمم من الأخلاق لأنفسهم، بل حثُّوا شيعتهم على الاتصاف بها أيضًا، منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال: «...فمن قال لك: إنْ قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إنْ قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل: إنْ كنت صادقاً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لي، وإنْ كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أنْ يغفرها لك، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنصيحة والدعاء...»(3).

فعلى من يدّعي التشيع أنْ يتصف بمعالي ومكارم الاخلاق، وقد كان مالك الأشتر من خير من امتثل لأقوالهم علیهم السلام واتصف بصفاتهم، فقد حُكِيَ أنَّ مالِكاً الأَشتَرَ رحمه الله كانَ مُجتازاً بِسوقِ الكوفَةِ وعَلَيهِ قَميصٌ خامٌ وعِمامَةٌ مِنهُ، فَرَآهُ بَعضُ السّوقَةِ فَازدَرى بِزِيِّهِ، فَرَماهُ بَبُندُقَة تَهاوُناً بِهِ، فَمَضى ولَم يَلتَفِت. فَقيلَ لَهُ: وَيلَكَ! أتَدري بِمَن رَمَيتَ؟ فَقالَ: لا، فَقيلَ لَهُ: هذا مالِكٌ صاحِبُ أميرِ المُؤمِنينَ علیه السلام. فَارتَعَدَ الرَّجُلُ ومَضى إلَيهِ لِيَعتَذِرَ مِنهُ، فَرَآهُ وقَد دَخَلَ مَسجِداً وهُوَ قائِمٌ يُصَلّي، فَلَمَّا انفَتَلَ أكَبَّ الرَّجُلُ عَلى قَدَمَيهِ

ص: 44


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 184).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 337.
3- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 564).

يُقَبِّلُهُما، فَقالَ: ما هذَا الأَمرُ؟ فَقالَ: أعتَذِرُ إلَيكَ مِمّا صَنَعتُ. فَقالَ: لا بَأسَ عَلَيكَ ؛ فَوَاللهِ ما دَخَلتُ المَسجِدَ إلاّ لاَِستَغفِرَنَّ لَكَ.(1)

كما نُقِل عن الخواجة نصير الدين الطوسي، قيل: إن ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما فيها: يا كلب بن كلب. فكان الجواب: أما قولك (يا كذا) فليس بصحيح، لأن الكلب من ذوات الأربع، وهو نابح طويل الأظفار، وأما أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص. وأطال في نقض كلما قاله. هكذا رد عليه بحسن طوية وتأن غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.(2)

فكان جوابه منطقيًا لا ردًّا عليه بالمثل.

وأيضًا نقل أنه في أحد الأيام التي كان شيخ الفقهاء العظام المرحوم الحاج الشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء) موجودًا في (أصفهان) أنه قسّم مرة حقوقًا شرعية على الفقراء قبل شروعه بالصلاة. فعند انتهائه من تلك الصلاة، وقيامه للصلاة الأخرى جاءه أحد السادات الفقراء - الذين أخبروا بالأمر - بين الصلاتين، وقال له: أعطني من مال جدي. فقال له: لقد جئت متأخرًا، ولا يوجد عندي الآن شيء لأعطيك منه. فغضب ذلك السيد، وبصق على لحية الشيخ المباركة. فقام الشيخ من المحراب، ورفع طرف ردائه وأخذ يدور في صفوف الجماعة وهو يقول: (من كان يحترم شيبة الشيخ فليساعد هذا السيد). فملأ الناس طرف ثوبه بالأموال، ثم أعطاها الشيخ للسيد. وبعد ذلك توجه لصلاة العصر.(3)

ص: 45


1- تنبيه الخواطر لورام بن أبي فراس ص10.
2- خاتمة المستدرك للميرزا حسين النوري الطبرسي ج2 ص 423.
3- منازل الآخرة للشيخ عباس القمي ص 215.

النوع الرابع: الكمال العلمي

من المعلوم أنَّه لابُدَّ أنْ يكون الإمام عالمًا، وبشروط:

1/أنْ يكون أعلم اناس.

2/أنْ لا يكون قد أخذ هذا العلم من غيره، إلا إذا كان ذلك الغير نبيًا أو إمامًا مثله، كما روي عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال علي علیه السلام: علمني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ألفَ باب، يفتح ألفَ باب».(1)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علّم عليًا علیه السلام بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب». (2)

3/أنْ يكون عالمًا باللغات المختلفة، وهذا ما يقتضيه كونه حجة الله على الأرض والمكلف ببيان الأحكام الإلهية لكل الناس.

4/أنْ يكون الإمام يعرف حتى لغة الحيوانات.

وقد أثبتت السيَر العطرة لأئمتنا علیهم السلام أنَهم أعلم الناس رغم صغر سنهم، فالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف استلم الإمامة وعمره خمس سنوات، والإمام الهادي علیه السلام استلم الإمامة وعمره ست أو ثمان سنوات، والإمام الجواد علیه السلام استلم الإمامة وعمره ست سنوات، ومن يقرأ التاريخ يجد كيف أنَّ الإمام الجواد علیه السلام مثلًا ردَ على يحيى بن الأكثم عندما سأله عن محرمٍ قتل صيدًا وكيف فصّل له وفرّع له فروعًا متكثرة من هذا السؤال، بحيث عجز ابن الأكثم أنْ يجيبه(3)،

وأنه علیه السلام سأل ابن أكثم فقال له: «يا أبا محمد ما تقول في رجل

ص: 46


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أمير المؤمنين علیه السلام ح (5).
3- تحف العقول للحراني 452...

حرمت عليه امرأة بالغداة وحلت له ارتفاع النهار وحرمت عليه نصف النهار، ثم حلت له الظهر، ثم حرمت عليه العصر، ثم حلت له المغرب، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلت له الفجر، ثم حرمت عليه ارتفاع النهار، ثم حلت له نصف النهار؟ فبقي يحيى والفقهاء بلسًا خرسًا(1)،

فقال المأمون: يا أبا جعفر أعزك الله بين لنا هذا؟ قال علیه السلام : هذا رجل نظر إلى مملوكة لا تحل له، اشتراها فحلت له. ثم أعتقها فحرمت عليه، ثم تزوجها فحلت له. فظاهر منها فحرمت عليه. فكفر الظهار فحلت له، ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه، ثم راجعها فحلت له، فارتد عن الاسلام فحرمت عليه. فتاب ورجع إلى الاسلام فحلت له بالنكاح الأول، كما أقر رسول الله عروجل نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم على النكاح الأول.»(2)

وفي هذه المحاورة لم يكن الإمام علیه السلام قد بلغ الحلم بعد!

بل إنَهم كانوا يعرفون حتى لغات الحيوان، ففي رواية عن عبد الله بن قيس قال: كنت مع من غزى مع أمير المؤمنين علیه السلام في صفين وقد أخذ أبو أيوب الأعور السلمي الماء وحرزه عن الناس فشكى المسلمون العطش فأرسل فوارس على كشفه فانحرفوا خائبين، فضاق صدره، فقال له ولده الحسين علیه السلام أمضي إليه يا أبتاه؟ فقال: امض يا ولدي، فمضى مع فوارس فهزم أبا أيوب عن الماء، وبنى خيمته وحط فوارسه، وأتى إلى أبيه وأخبره. فبكى علي علیه السلام فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ وهذا أول فتح ببركة الحسين علیه السلام فقال: ذكرت أنه سيقتل عطشانا بطف كربلا، حتى ينفر فرسه ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأمة قتلت ابن بنت نبيها.(3)

ص: 47


1- البلس - بالضم -: جمع أبلس: المتحير. والخرس - بالضم -: جمع أخرس: الذي انعقد لسانه عن الكلام. [هامش المصدر]
2- تحف العقول للحراني ص 454.
3- بحار الأنوار للمجلسي ص 266.

النوع الخامس: الكمال الغيبي

أي أنْ تكون للحجة قدرات غيبية لا يمكن لغيره أنْ يفعلها، كالإخبار بالمغيبات (المستقبليات) وكمعرفته ما في داخل النفس، وكإحياء الموتى وما شابه ذلك من الأمور.

وكل ما تقدم إنّما هي كمالات لابُدَّ أنْ يتسم بها من يدّعي أنَّه حجة الله.

وقد شهد التاريخ على أنَّ أئمتنا (سلام الله عليهم) هم فقط -دون سواهم- المصاديق الحقيقية لأئمة الإسلام وخلفاء الرسول الأكرمصلی الله علیه وآله وسلم؛ لما اتّسموا به من مختلف هذه الكمالات لذا نجد أنْ لا أحد يستطيع أنْ ينكرها لهم، لاسيما المعتزلة الذين اعترفوا بأفضلية أمير المؤمنين علیه السلام.

ومن يقرأ التاريخ بعين الإنصاف يتجلَّ له وبشكلٍ واضح الإمام الحقّ عمّا سواه، لأن الكامل هو من يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إلى أحد، وهذا أحد الأدلة التي استخدمها الفراهيدي لما سُئل عن أفضلية علي بن أبي طالب سلام الله عليه قال: «احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل إمامته»، ولكن التعصب الأعمى حال دون هدايتهم، فحيث إنَّهم لم يستطيعوا أنْ ينكروا أفضليته علیه السلام، فقد عمدوا إلى إنكار قاعدة عقلية ووجدانية أيضًا، إذ قالوا بعدم لزوم اتباع الفاضل بل يجوز تقديم المفضول على الفاضل! وهم في هذا إنّما خالفوا وجدانهم واستهانوا بعقلهم؛ لأن كلًا من العقل والوجدان يستقبحان تقديم المفضول مع وجود الفاضل.

وقد أشار الشيخرحمه الله إلى ضرورة أنْ يتصف الإمام بكل صفات الكمال فقال: «ونعتقد أنَّ الإمام كالنبي يجب أنْ يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخُلق (خَلق) والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام....».

ص: 48

قال الشيخرحمه الله :

«أما علمه، فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الامام من قبله...».

الإشارة الثانية: مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام

اشارة

إن من يطالع التاريخ العام والخاص، يجد أن هناك ظاهرة ملفتة للنظر في حق أهل البيت علیهم السلام، وهي أنهم كانوا أعلم الناس في زمانهم على الإطلاق، رغم أنهم لم يأخذوا العلم من أي أحد، فلم ينقل لنا التاريخ – عامه وخاصه – عن أحد كان أستاذاً لأحد الأئمة علیهم السلام، فالكل كان عيالاً على أهل البيت علیهم السلام، وهذا ما يدعو إلى الاستغراب، فكيف يخرج أحدهم عالماً رغم أنه لم يأخذ العلم من أي معلم!

إن هذا يدعونا لأن نبحث عن المصادر التي كان أهل البيت علیهم السلام يعتمدون عليها في ذلك، وهذا ما أغنتنا به مكتبة أهل البيت علیهم السلام العلمية الغنية الأحاديث الشريفة في كل المجالات.

فما هي المصادر التي كان أهل البيت (سلام الله عليهم) يعتمدونها على ذلك؟

ويمكن الإجابة بجوابين:

أولهما: إجمالي:

حيث إننا نعتقد أنَّ الإمام معصوم، فلا غرابة حينئذٍ في عدم تعلّمه من غير المعصوم؛ لأن العصمة تعني فيما تعنيه: العلم الخاص الذي يتمتع به المعصوم منذ نعومة أظفاره، وهو علمٌ لدني، أي هو من لدن الله تبارك وتعالى.

وثانيهما: تفصيلي:

اشارة

عندما نرجع لكلماتهم علیهم السلام نجد أنّهم قد بّينوا العديد من مصادر العلوم التي

ص: 49

أغنتهم عن غيرهم، وتلك المصادر على نحو الإجمال هي التالي:

الأول: القرآن الكريم

لا شك أن أهم مصادر العلوم الإسلامية عموماً هو القرآن الكريم، ولكن القرآن الكريم والروايات تؤكد أن الذي يستطيع فهم القرآن هم الراسخون في العلم وهم أهل البيت علیهم السلام ، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.(1)

وهذا ينبغي أن يكون واضحاً، إذ القرآن نزل في بيوتهم، وأهل البيت أدرى بما فيه.

إذا عرفنا هذا، فاعلم أن من أهم مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام هو القرآن الكريم.

فعن محمد بن شريح قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلم يقول: «والله لولا أن الله فرض ولايتنا ومودتنا وقرابتنا ما أدخلناكم بيوتنا، ولا أوقفناكم على أبوابنا، والله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلا ما قال ربنا».(2)

إن الروايات الشريفة تؤكد على أن أعلم الناس بالقرآن الكريم هو أمير المؤمنين علیه السلام، هذا ما تؤكده الآيات القرآنية المفسرة بالروايات الشريفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول تعالى ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾.(3)

إن صريح هذه الآية في أن هناك شهيداً بين الذين يكذبون النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم وبينه، وهو الله تعالى ومن عنده علم الكتاب، فمن هو من عنده علم الكتاب؟

قيل هو (الله) تعالى، وهو رأي ترده نفس الآية، لأن الآية تقول: إن الشهود اثنين،

ص: 50


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 224 باب 11 ح 5.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 320 باب 14 ح 5.
3- سورة الرعد(43).

وهما الله تعالى ومن عنده علم الكتاب.

وقيل: هو عبد الله بن سلام، وقيل: هو سلمان المحمدي الفارسي، وهذا أيضاً مردود، لأنهما أسلما في المدينة، وهذه الآية هي من سورة الرعد، وهي سورة مكية!

والصحيح هو ما روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم عن قول الله جل ثناؤه: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾؟ قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود. فقلت له: يا رسول الله: ﴿قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾؟ قال: ذاك علي بن أبي طالب.(1)

والالتفات إلى الفرق بين ﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ الذي يعني العلم الجزئي، و﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ الذي يعني العلم الكلي، يكش-ف البون الشاسع بين آصف بن برخيا وصي سليمان علیه السلام وعلي علیه السلام.(2)

الثاني: تعاليم النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم

وهذا واضح جدًا في روايات أهل البيت (سلام الله عليهم).

ففي رواية أنه قال رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم لأمير المؤمنين علیه السلام: «اكتب ما أملي عليك. فقال: يا نبي الله، أتخاف علي النسيان؟ فقال صلی الله علیه وآله و سلم: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك.

قال: قلت: ومن شركائي، يا نبي الله؟

قال: الأئمة من ولدك، بهم تسقى أمتي الغيث، وبهم يستجاب دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم ينزل الرحمة من السماء، وهذا أولهم. وأومى بيده إلى

ص: 51


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 659 ح 892/ 3.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 12 - ص 74.

الحسن بن علي علیهما السلام، ثم أومى بيده إلى الحسين علیه السلام ، ثم قال: الأئمة من ولده».(1)

من هنا روي عن جابر قال: «قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقرعلیهم السلام : إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، عن جبرئيل علیه السلام، عن الله عزوجل، وكل ما أحدثك بهذا الإسناد. وقال: يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها».(2)

لذا يسأل البعض إذا ورد حديث عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنستطيع أنْ نقول عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والجواب فيما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : الْحَدِيثُ أَسْمَعُه مِنْكَ أَرْوِيه عَنْ أَبِيكَ أَوْ أَسْمَعُه مِنْ أَبِيكَ أَرْوِيه عَنْكَ؟ قَالَ علیه السلام : سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّكَ تَرْوِيه عَنْ أَبِي أَحَبُّ إِلَيَّ. وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام لِجَمِيلٍ: مَا سَمِعْتَ مِنِّي فَارْوِه عَنْ أَبِي».(3)

إشارة هامة:

إنَّ أهل البيت سلام الله عليهم يؤكدون على الكتابة لا الحفظ، ففي الكافي(4) عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «الْقَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابَةِ».

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا».

وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا».

ص: 52


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 485 ح 659/ 1.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 42 ح 10.
3- الكافي للكليني: ج1، ص 51، بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح4.
4- الكافي للكليني: ج1، ص52، باب رواية الكتب والحديث، الأحاديث: 8 و9 و10 و11.

وعَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهعلیه السلام : «اكْتُبْ، وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيه إِلَّا بِكُتُبِهِمْ».

وكذا أوصانا أساتذتنا في الحوزة العلمية المباركة، ولقد كان الأستاذ الشيخ باقر الأيرواني (حفظه الله) يقول: هذه المطالب العلمية مثل السمكة، كلما أمسكتها من جهة أفلتت من جهة أخرى؛ لذا يجب أنْ تُقيد بالكتابة والمراجعة.

فإذا أدركنا أهمية الكتابة في حفظ العلوم وتوارثها، تبين لنا مدى فداحة الجريمة التاريخية العظمى في منع تدوين أحاديث النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، والروايات صريحة جدًا وثابتة حتى عند أهل العامة، بأنَّ الخلفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وأول الملوك الجبابرة في الإسلام معاوية، عملوا على منع ليس فقط تدوين الحديث وإنّما تناقل الحديث أيضًا سوى الأحاديث التي كانت موجودة في زمن أبي بكر وعمر. وليت الأمر توقف عند منع تدوينها وتناقلها، بل تعداهما إلى الأمر بإحراق الأحاديث المدونة عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم بأمر من أبي بكر برواية عن عائشة بنت أبي بكر.

قال عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرا، قالت: فغمني فقلت تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فأحرقها وقال، خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك.(1)

فحُرقت أحاديث الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم على الرغم من علمهم بأنه ليس فيها سوى الحق، بل يظهر من بعض الروايات أن هناك محاولات للتقليل من شأن أحاديث

ص: 53


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج10 ص 285.

النبي صلی الله علیه وآله وسلم في حياته، ومنع البعض من تدوين الأحاديث لأجل ذلك، فقد روي عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أُريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب ورسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول في الغضب والرضا! فأمسكتُّ، حتَّىٰ ذكرت ذلك لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فقال: «اكتب فوَالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ»(1).

وفي الحقيقة، لم ترتكب جريمة منع تدوين الأحاديث أول مرة بعد رحيل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، بل ارتكبت وبكل جرأة ووقاحة في محضره روحي فداه، وهي الكلمة التي قيلت في حضرة النبيِّ الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه، عندما طلب من المسلمين أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، فقال قائلهم: «إنَّ الرجل ليهجر»(2)، أو«حسبنا كتاب الله»(3)،

قاصدين بذلك عدم الحاجة لأحاديث النبيِّ

ص: 54


1- مسند أحمد بن حنبل 2: 192.
2- عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: اشتكىٰ النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم يوم الخميس، فجعل - يعني ابن عبّاس - يبكي ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدَّ بالنبيِّ صلی الله علیه وآله وسلم وجعه، فقال: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً»، قال: فقال بعض من كان عنده: إنَّ نبيَّ الله ليهجر! قال: فقيل له: ألَا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أوَبعد ما قال!؟ - أو بعد ماذا؟ - فلم يدع به...» (الطبقات الكبرىٰ لابن سعد 2: 242). أقول: لاحظ كيف أنَّهم لا يُصرِّحون بالقائل لتلك الكلمة رغم وضوح أنَّه عمر، وما ذاك إلَّا لأنَّهم يريدون الحفاظ علىٰ قداسته عندهم وإن كانت من نوع المكابرة، ولو علىٰ حساب إخفاء الحقيقة.
3- عن ابن عبّاس، قال: ل-مَّا حض-ر رسول اللهs وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»، فقال عمر: إنَّ النبيَّ صلی الله علیه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم كتاباً لن تضلّوا بعده. ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم : «قوموا». قال عبيد الله: وكان ابن عبّاس يقول: إنَّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللهsوبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (صحيح البخاري 7: 9).

الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم.

ثم ما الذي حدث ليتحول الممنوع إلى مسموح به؟! حيث أخذ القوم -- وعلى خلاف أئمتهم -- بتدوين الأحاديث في كتب الصحاح واعتمادها بل وجعلها بالمرتبة الثانية بعد القرآن مباشرة.

الثالث: أصول العلم

من الواضح إنَّ للعلم أصولًا، والأصول تعني: قواعد عامة يمكن أنْ يستخرج منها أحكام وجزئيات لتلك القاعدة العامة، والذي يستطيع استخراج الأحكام الجزئية هو من يعرف تلك الأصول، لذلك ورد أنَ أهل البيت صلوات الله عليهم ألقوا إلى أصحابهم أصول العلم وتركوا التفريع لعلماء الشيعة ليفتحوا بذلك باب الاجتهاد الأصولي الشيعي المعروف. فقد روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا».

وما روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: «علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع».(1)

وبمطالعة الروايات الشريفة يتضح أنَّ لأهل البيت (سلام الله عليهم) أصول علم، تُفتح لهم من تلك العلوم علوم أخرى، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال علي علیه السلام : علمني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ألفَ باب، يفتح ألفَ باب».(2)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله8 يقول: «إن رسول اللهs علّم عليًا8 بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب».(3)

ص: 55


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 575.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول اللهs أمير المؤمنين8 ح (5).

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قال: «لما حضرت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الوفاة دعاني فلما دخلت عليه قال لي: يا علي أنت وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي، في حياتي وبعد موتي، وليك وليي ووليي ولي الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، يا علي المنكر لولايتك بعدي كالمنكر لرسالتي في حياتي لأنك مني وأنا منك، ثم أدناني فأسرّ إلي ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب».(1)

الرابع: كتب الأنبياء السابقين (غير المُحرّفة)

لا شك أنَّ جميع الديانات السماوية النازلة من الله عزجل كانت أصول الشرائع فيها واحدة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾.(2)

فأصول الدين واحدة والكتب التي نزلت من الله تعالى غير المحرفة لا شك أنَ فيها علوماً تنفع الأمم، وفيها معارف ثرة تعالج كثيرًا من جوانب الحياة، فمن يعلمها لاشك أنها تُغنيه بعلوم تنفعه في إفتائه ووعظه وإرشاده، وأهل البيت علیهم السلام كانت عندهم تلك العلوم، لذا نجد الكثير من الروايات أنَّ الإمام الصادق علیه السلام يروي حديثاً عن النبي عيسى علیه السلام مثلاً، أو حكم لقمان أو قضايا عن النبي إبراهيم علیه السلام ، وهذا يعني: أنَّه يدعونا إلى الامتثال لقول النبي عيسى علیه السلام .

وهناك روايات كثيرة تؤكد هذا المعنى، منها ما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قال: «قَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ الله عزوجل لَمْ يُعْطِ الأَنْبِيَاءَ شَيْئاً إِلَّا وقَدْ أَعْطَاه مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 56


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 652.
2- الشورى: 13.

قَالَ: وقَدْ أَعْطَى مُحَمَّداً جَمِيعَ مَا أَعْطَى الأَنْبِيَاءَ، وعِنْدَنَا الصُّحُفُ الَّتِي قَالَ الله عزوجل: ﴿صُحُفِ إِبْراهِيمَ ومُوسى﴾ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، هِيَ الأَلْوَاحُ؟ قَالَ نَعَمْ».(1)

وعَنْ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ بُرَيْه،«أَنَّه لَمَّا جَاءَ مَعَه إِلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَلَقِيَ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْحِكَايَةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام لِبُرَيْه: يَا بُرَيْه، كَيْفَ عِلْمُكَ بِكِتَابِكَ؟ قَالَ: أَنَا بِه عَالِمٌ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ ثِقَتُكَ بِتَأْوِيلِه؟ قَالَ: مَا أَوْثَقَنِي بِعِلْمِي فِيه. قَالَ: فَابْتَدَأَ أَبُو الْحَسَنِ علیه السلام يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ. فَقَالَ بُرَيْه: إِيَّاكَ كُنْتُ أَطْلُبُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ مِثْلَكَ. قَالَ: فَآمَنَ بُرَيْه وحَسُنَ إِيمَانُه وآمَنَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَه. فَدَخَلَ هِشَامٌ وبُرَيْه والْمَرْأَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام، فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام وبَيْنَ بُرَيْه، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فَقَالَ بُرَيْه: أَنَّى لَكُمُ التَّوْرَاةُ والإِنْجِيلُ وكُتُبُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ علیه السلام : هِيَ عِنْدَنَا وِرَاثَةً مِنْ عِنْدِهِمْ، نَقْرَؤُهَا كَمَا قَرَؤُوهَا،ونَقُولُهَا كَمَا قَالُوا، إِنَّ الله لَا يَجْعَلُ حُجَّةً فِي أَرْضِه يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي».(2)

لذلك ورد في روايات المستقبل أنَّ الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف بأنَّه سيجلس مع أصحاب كل الديانات وكل حسب كتابه يناظره ويناقشه، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «... فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصىٰ الله، فإنَّما سُمّي المهدي لأنَّه يهدي لأمر خفي، يستخرج التوراة وسائر كتب الله من غار بأنطاكية، فيحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين

ص: 57


1- الكافي للكليني ج1 ص 225 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 227 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام عِنْدَهُمْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِ الله عزوجل وأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهَا ح1.

أهل الفرقان بالفرقان...»(1).

وهذا لا يُعدّ إقرارًا لهم على دياناتهم، وإنّما هي مناقشة لعلمائهم بكتبهم في مقام البيان العلمي ليثبت لهم أنَّه الحق من كتبهم.

الخامس: كتاب علي علیه السلام

وقد تقدّم معنى هذا المصحف(2)،

وأنَّ فيه خصيصتين الأولى: أنَّه مرتب حسب النزول، والثانية: أنه كُتِب فيه تفسير القرآن الكريم الذي أخذه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا بحد ذاته يعتبر علمًا يستفاد منه، وصحيفة علي صلوات الله عليه التي تحوي على الأمور الفقهية.

السادس: مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها

وقد رويت فيه عدة روايات: عن أبي بصير، عن الإمام الصادق علیه السلام ، قال: «إنَّ عندنا لمصحف فاطمة علیها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة علیها السلام ؟!»، قال: قلت: وما مصحف فاطمة علیها السلام ؟ قال: «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد»(3).

وعن حمّاد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة علیها السلام»، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: «إنَّ الله تعالىٰ لمَّا قبض نبيَّه صلی الله علیه وآله وسلم دخل علىٰ فاطمة علیها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلَّا الله عزوجل، فأرسل الله إليها ملكاً يُسلّي غمّها ويُحدِّثها، فشكت ذلك إلىٰ أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال: إذا أحسستِ بذلك وسمعتِ الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك،

ص: 58


1- بحار الأنوار 51: 29/ ح 2، عن علل الشرائع 1: 161/ باب 129/ ح 3.
2- انظر: عقيدتنا في القرآن الكريم.
3- الكافي 1: 239/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام / ح 1.

فجعل أمير المؤمنين علیه السلام يكتب كلَّما سمع حتَّىٰ أثبت من ذلك مصحفاً»، قال: ثمّ قال: «أمَا إنَّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون»(1).

وعن الحسين بن أبي العلاء قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: عندي الجفر الأبيض. قال: قلنا: وأي شيء فيه؟ قال: فقال علیه السلام لي: زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم ان فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش..».(2)

والمصحف لغةً هو ما فيه أوراق تُتصفح، أي هي أوراق مجموعة في جلد واحد وتُتصفح، وهذا المعنى المراد من مصحف فاطمة (سلام الله عليها)، وفيما بعد انتقل لفظ (مصحف) إلى القرآن الكريم.

ويظهر من الروايات أنَ هناك مصحفين للزهراء صلوات الله وسلامه عليها، وهما:

1/مصحف العلوم الغيبية المستقبلية، وهو ما روي عن حماد بن عثمان.

2/مصحف التكاليف الشرعية، وهو ما روي عن الحسين بن أبي العلاء، فهو رسالة عملية فيها الأحكام الشرعية وعلى الأقل كتاب فقهي في الديات وأحكامها.

السابع: الجامعة

يظهر من بعض الروايات الشريفة أنَ الجامعة كتاب فيه الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلم، فهو شبيه بالرسالة العملية أو بأحد مصاحف فاطمة صلوات الله عليها، لكنها من إملاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

عن أبي بصير، عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال له: «يا أبا محمّد، وإنَّ عندنا الجامعة،

ص: 59


1- الكافي 1: 240/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام / ح 2.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 170 باب الجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام ح1.

وما يدريهم ما الجامعة؟»، قلت: جُعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: «صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وإملائه من فلق فيه وخطّ علي بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج الناس إليه حتَّىٰ الأرش في الخدش»، وضرب بيده إليَّ فقال: «تأذن لي يا أبا محمّد؟»، قلت: جُعلت فداك، إنَّما أنا لك فاصنع ما شئت، فغمزني بيده وقال: «حتَّىٰ أرش هذا _ كأنَّه مغضب _...» الخ(1).

الثامن: الجفر

الظاهر من الروايات أنَّه العلم المشتمل علىٰ علم المنايا والبلايا، كما في رواية عن الإمام الصادق علیه السلام يتكلَّم مع أصحابه، فقال فيما قال: «... نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل علىٰ علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلىٰ يوم القيامة الذي خُصَّ به محمّداً والأئمَّة من بعده علیهم السلام ، وتأمَّلت منه مولد غائبنا وغيبته وابطاءه وطول عمره وبلوىٰ المؤمنين في ذلك الزمان وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم...»(2).

فهذه الرواية تُبيِّن معنىٰ الجفر، وتدلُّ علىٰ أنَّه من العلوم الموجودة عند الإمام علیه السلام ، وهو ما دلَّت عليه أيضاً رواية الإمام الرضا علیه السلام في علامات الإمام حيث يقول: «... عنده الجفر الأكبر والأصغر...»(3).

نعم، ورد في رواية عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّ الجفر ليس علماً خاصَّاً، وإنَّما هو وعاءٌ فيه علوم، فهو بمثابة الخزينة أو المكتبة(4)، ففي الرواية: «وأمَّا الجفر الأحمر فوعاء

ص: 60


1- الكافي 1: 238 و239/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام/ ح 1.
2- كمال الدين: 353 و354/ باب 33/ ح 50.
3- عيون أخبار الرضا8 1: 192 و193/ ح 1.
4- جاء في تاج العروس (ج 6/ ص 205/ مادَّة جفر) ما يمكن أن يكون مشيراً إلىٰ هذا المعنىٰ، قال: والجفير: جعبة من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود، وفي بعض الأُصول الجيّدة: لا جلد فيها، وهي من جلود مشقوقة في جنبها، يُفعَل ذلك بها ليدخلها الريح، فلا يأتكَّل الريش. وقال الأحمر: الجفير والجعبة: الكنانة. وقال الليث: الجفير شبه الكنانة إلَّا أنَّه أوسع منها، يُجعَل فيها نشاب كثير. وفي الحديث: «من اتَّخذ قوساً عربيةً وجفيرها نفىٰ الله عنه الفقر».

فيه سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولن يخرج حتَّىٰ يقوم قائمنا أهل البيت. وأمَّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسىٰ وإنجيل عيسىٰ وزبور داود وكتب الله الأُولىٰ...»(1).

ولا تعارض بين المعنيين للجفر، إذ لا إشكال في وجود الجفر بكلا معنييه عندهم علیهم السلام.

التاسع: الإلهام

وقد ذكره الشيخ رحمه الله في كتابه.

روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ علیه السلام : لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ».(2)

وعن الحرث بن المغيرة النضري قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : جعلت فداك، الذي يُسأل عنه الامام وليس عنده فيه شيء، من أين يعلمه؟ قال علیه السلام ينكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الاذن نقراً».(3)

فالإلهام قوة خاصة عند الإمام المعصوم علیه السلام، يُمكنه من خلالها أنْ يعلم ما لا يعلمه، وهي مرتبة متقدمة وعالية جدًا من الذكاء الذي إحدى مراحله الحدس -كما أشار الشيخ رحمه الله-، إذ قد يحدس الإنسان شيئًا فيقع، فإنْ تطور الحدس صار إلهامًا.

وللإمام أعلى مستويات الذكاء والإلهام بلا شك، فإذا أراد شيئًا أعلمه الله تعالى،

ص: 61


1- بحار الأنوار 26: 18/ ح 1، عن الإرشاد 2: 186، والاحتجاج 2: 134.
2- الكافي للكليني ج1 ص 257 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح4.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 336 باب (3) باب ما يفعل بالامام من النكت والقذف والنقر في قلوبهم واذنهم ح1.

فعلمه حينئذٍ ليس ذاتيًا إنّما مكتسب من الله تعالى، والإلهام مصدر علمي قوي جدًا لا يتوقف معه الإمام عند حدٍ من العلوم.

قال الشيخ رحمه الله: «...أن قوة الالهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية تبلغ الكمال في أعلى درجاته، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة، فمتى توجه إلى شئ من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم. وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام..».

العاشر: الزيادة المستمرة للعلوم

حيث ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام علیه السلام في ازدياد مستمر للعلوم، منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّا نَزْدَادُ لأَنْفَدْنَا. قَالَ: قُلْتُ: تَزْدَادُونَ شَيْئاً لَا يَعْلَمُه رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم؟ قَالَ: أَمَا إِنَّه إِذَا كَانَ ذَلِكَ عُرِضَ عَلَى رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ثُمَّ عَلَى الأَئِمَّةِ، ثُمَّ انْتَهَى الأَمْرُ إِلَيْنَا».(1)

ورب سائل يتساءل: إن كان النبي صلی الله علیه وآله وسلم قد بيّن الحلال والحرام فما مورد هذه الزيادة؟

الجواب فيما روي عن سليمان قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام فقلت: جعلت فداك، سمعتك وأنت تقول غير مرة لولا أنا نزاد لأنفدنا. قال: أما الحلال والحرام، فقد والله أنزله الله على نبيه بكماله ولا يزاد الامام في حلال ولا حرام. قال: فقلت: فما هذه الزيادة؟ قال: في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام».(2)

الحادي عشر: الناموس

وهو عبارة عن كتاب فيه أسماء الشيعة كلّهم، فأهل البيت علیهم السلام يعرفون شيعتهم

ص: 62


1- الكافي للكليني ج1 ص 255 بَابُ لَوْ لَا أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام يَزْدَادُونَ لَنَفِدَ مَا عِنْدَهُمْ ح3.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 413 باب 9 ح 5.

بواسطته.

عن رجل من بني حنيفة، قال: كنت مع عمّي فدخل علىٰ علي بن الحسين علیهما السلام ، فرأىٰ بين يديه صحائف ينظر فيها، فقال له: أيّ شي ء هذه الصحف جُعلت فداك؟قال: «هذا ديوان شيعتنا»، قال: أفتأذن أطلب اسمي فيه؟! قال: «نعم»، فقال: فإنّي لست أقرأ و ابن أخي معي علىٰ الباب فتأذن له يدخل حتَّىٰ يقرأ؟! قال: «نعم»، فأدخلني عمّي، فنظرت في الكتاب، فأوَّل شي ء هجمت عليه اسمي، فقلت: اسمي وربّ الكعبة، قال: ويحك، فأين أنا؟ فجزت بخمسة أسماء أو ستَّة ثمّ وجدت اسم عمّي. فقال علي بن الحسين علیه السلام : «أخذ الله ميثاقهم معنا علىٰ ولايتنا لا يزيدون ولا ينقصون، إنَّ الله خلقنا من أعلىٰ علّيين وخلق شيعتنا من طينتنا أسفل من ذلك، وخلق عدوّنا من سجّين وخلق أولياءهم منهم من أسفل ذلك»(1).

وعن ابن فضّال، عن ظريف بن ناصح وغيره، عمَّن رواه، عن حبّابة الوالبية(2)، قالت: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إنَّ لي ابن أخ وهو يعرف فضلكم، وإنّي أُحِبُّ أن تُعلِمني أمن شيعتكم؟ قال: «و ما اسمه؟»، قالت: قلت: فلان بن فلان. قالت: فقال: «يا فلانة، هات الناموس، فجاءت بصحيفة تحملها كبيرة، فنشرها، ثمّ نظر فيها فقال: نعم هو ذا اسمه و اسم أبيه هاهنا»(3).

ص: 63


1- بحار الأنوار 26: 121 و122/ ح 11، عن بصائر الدرجات: 191/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 2.
2- عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ حبّابة الوالبية كان إذا وفد الناس إلىٰ معاوية وفدت هي إلىٰ الحسين8، وكانت امرأة شديدة الاجتهاد قد يبس جلدها علىٰ بطنها من العبادة...». (بصائر الدرجات: 191/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 4).
3- بحار الأنوار 26: 121/ ح 10، عن بصائر الدرجات: 190/ باب ما عند الأئمَّة علیهم السلام من ديوان شيعتهم.../ ح 1.
الثاني عشر: التوسم

التوسّم هو القدرة علىٰ تمييز النوايا والخفايا والاطّلاع عليها من خلال نظر العين، وهذه القدرة لا تكون لأيّ أحد كما هو واضح، إنَّما تكون للمؤمنين الذين وصلوا إلىٰ مراتب كمالية تُهيِّئهم لهذا المقام.

وهي كما صرحت الروايات الشريفة سيكون عند الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف. فعن الإمام الباقر علیه السلام: «كأنّي أنظر إلىٰ القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف وأصحابه في نجف الكوفة، كأنَّ علىٰ رؤوسهم الطير، قد شنت مزادهم، وخُلِقت ثيابهم، متنكّبين قسيّهم، قد أثَّر السجود بجباههم، ليوث بالنهار رهبان بالليل، كأنَّ قلوبهم زبر الحديد، يُعطىٰ الرجل منهم قوَّة أربعين رجلاً، ويعطيهم صاحبهم التوسم، لا يقتل أحد منهم إلَّا كافراً أو منافقاً، فقد وصفهم الله بالتوسّم في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(1)»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي قَوْلِ الله عزوجل: «﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(3) قَالَ: هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام ، قَالَ رَسُولُ اللهs: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّه يَنْظُرُ بِنُورِ الله عزوجل».(4)

وعن معاوية الدهني عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزول ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾(5). فقال علیه السلام : «يا معاوية، ما يقولون في هذا؟ قال: قلت: يزعمون أن الله تبارك وتعالى يعرف المجرمون بسيماهم يوم القيمة فيأمر بهم فيؤخذ

ص: 64


1- الحجر: 75.
2- منتخب الأنوار المضيئة: 344.
3- الحجر: 75.
4- الكافي للكليني ج1 ص 218 بَابُ أَنَّ الْمُتَوَسِّمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الله تَعَالَى فِي كِتَابِه هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام والسَّبِيلُ فِيهِمْ مُقِيمٌ ح3.
5- الرحمن 41.

بنواصيهم واقدامهم ويلقون في النار.

قال: فقال لي: وكيف يحتاج الجبار تبارك وتعالى إلى معرفة خلق أنشأهم وهو خلقهم؟!

قال: فقلت: فما ذاك، جعلت فداك؟

قال علیه السلام: ذلك لو قد قام قائمنا اعطاء الله السيما، فيأمر بالكافر فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ثم يخبط بالسيف خبطاً».(1)

وبعد أن علمنا مصادر علم الأئمة علیهم السلام بشكل اجمالي، ينبغي أنْ نلتفت إلى ضرورة أن لا نطلب العلم إلا منهم علیهم السلام. وقد جاء في وصية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى كميل بن زياد: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا.(2)

كما روي عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: «ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب، ولا أحد من الناس يقض-ي بقضاء حقٍّ إلَّا ما خرج منّا أهل البيت، وإذا تشعَّبت بهم الأُمور كان الخطأ منهم والصواب من عليٍّ علیه السلام»(3).

كما علينا أنْ نأخذ بعين الاعتبار أنَّ أعمالنا تعرض عليهم، وكل مؤمن بيده أنْ يدخل السرور على قلب الإمام أو يحزنه، في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد ; يقول فيها: «فليعمل كلُّ امرئ منكم بما يقرب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علىٰ حوبة»(4).

ص: 65


1- بصائر الدرجات للصفار ص 376 باب 17 ح 8.
2- تحف العقول للحراني ص 171.
3- الكافي للكليني 1: 399/ باب أنَّه ليس شيء من الحقِّ في يد الناس إلَّا ما خرج من عند الأئمَّة علیهم السلام.../ ح 1.
4- الاحتجاج للطبرسي 2: 323 و324.

ص: 66

عقيدتنا في طاعة الأئمة

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقديتنا في طاعة الأئمة

ونعتقد أنَّ الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله عزوجل بطاعتهم، وأنّهم الشهداء على الناس، وأنّهم أبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه، وأنّهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده وخزان معرفته، ولذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء على حدِّ تعبيره صلی الله علیه وآله وسلم. وكذلك -على حدِّ قوله أيضاً- «أن مثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى»، وأنّهم حسبما جاء في الكتاب المجيد ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ وأنّهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

بل نعتقد أنّ أمرهم أمر الله عزوجل، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه، وعدوهم عدوه، ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله~. فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.

ولهذا نعتقد أنّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير مائهم، ولا يصحُّ أخذها إلا منهم، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئن بينه وبين الله إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم. أنّهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات،

ص: 67

والادعاءات والمنازعات.

ولا يهمنا من بحث الإمامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها. وإنّما الذي يهمنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به. وأنّ في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم ابتعاداً عن محجة الصواب في الدين، ولا يطمئن المكلف من فراغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله عزوجل؛ لأنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلق بالأحكام الشرعية اختلافاً لا يرجى معه التوفيق، لا يبقى للمكلف مجال أن يتخير ويرجع إلى أي مذهب شاء ورأى اختار، بل لا بد له أن يفحص ويبحث حتى تحصل له الحجة القاطعة بينه وبين الله عزوجل على تعيين مذهبٍ خاصٍ يتيقن أنّه يتوصل به إلى أحكام الله وتفرغ به ذمته من التكاليف المفروضة، فإنّه كما يقطع بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أنْ يقطع بفراغ ذمته منها، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والدليل القطعي دالٌ على وجوب الرجوع إلى آل البيت وأنهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله المنزلة. وعلى الأقل قوله عليه أفضل التحيات «إنّي قد تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وهذا الحديث اتفقت الرواية عليه من طرق أهل السنة والشيعة.

فدقِّق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في قوله: «إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً» والذي تركه فينا هما الثقلان

ص: 68

معا إذ جعلهما كأمرٍ واحدٍ ولم يكتفِ بالتمسك بواحد منهما فقط، فبهما معاً لن نضل بعده أبداً.

وما أوضح المعنى في قوله: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» فلا يجد الهداية أبدا من فرق بينهما ولم يتمسك بهما معا. فلذلك كانوا «سفينة النجاة» و «أماناً لأهل الأرض» ومن تخلّف عنهم غرق في لُجج الضلال ولم يأمن من الهلاك. وتفسير ذلك بحبهم فقط من دون الأخذ بأقوالهم واتباع طريقهم هروب من الحق لا يلجأ إليه إلا التعصب والغفلة عن المنهج الصحيح في تفسير الكلام العربي المبين.» انتهى.

إنَّ بحث لزوم طاعة الأئمة علیهم السلام يترتب على بحث الاعتراف بإمامتهم أولًا، والطاعةُ - كما هو ثابت عقلًا - لا يمكن أن تلزم على أحدٍ إلا لسبب ومسوّغ؛ لأنَّ الأصل هو عدم لزوم طاعة الآخر، فإذا لزمت الطاعة على أحدٍ كان له الحق أنْ يسأل: لماذا لزمت؟ ما سبب لزومها؟

أسباب أو مقتضيات لزوم الطاعة

هناك عدّة مُقتضيات تقتضي على الفرد لزوم طاعته للغير عقلًا، وهي:

الأول: أنْ يكون ذلك الغير مُنعِمًا على الفرد، كما إذا كان خالقًا أو رازقًا أو كان قادرًا وذلك الفرد عاجز، فيكون لزوم الطاعة حينئذٍ نابعًا إما من لزوم شكر المُنعم، فالعقل يحكم بلزوم شكر الله عزوجل مثلًا؛ لأنه أخرج ذلك الفرد من كتم العدم إلى حيز الوجود، ورزقه بمختلف النعم، أو يكون لزوم الطاعة نابعًا من الاحتياج، كاحتياج العاجز إلى القادر، واحتياج الجاهل إلى العالم، فالنب موسى علیه السلام عندما طلب من الخضر علیه السلام أن يعلّمه، أمره الخضر بالطاعة كما في القصة التي ذكرها القرآن الكريم، ومن المناسب الإشارة إلى أنَّ النبي موسى علیه السلام كان أعلم من الخضر، وأما اتباعه إيّاه لأجل التعلم فله تخريجٌ ليس هذا محل ذكره.

ص: 69

الثاني: أنْ تكون طاعة الغير مؤدية إلى إرضاء من تجب طاعته، كما إذا علم العبد -وبصورة قطعية- أنَّ امتثاله لأوامر ابن المولى الصغير من الأمور التي تحقق رضا المولى، فالعقل حينئذٍ يجد طاعة العبد لابن المولى أمرًا حسنًا، بل ويأمره بذلك أيضًا، تحصيلاً لرضا المولى نفسه.

وقد ورد نظير هذا المقتضي في بعض الروايات الشريفة، مُلزِمًا المسلمين بطاعة أهل البيت علیهم السلام كما روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ الله يرضى لرضا فاطمة»، فالعقل هنا يُلزِم المسلمين قاطبةً بطاعة السيدة فاطمة علیها السلام وإرضائها إرضاءً لله عزوجل.

الثالث: أنْ يأمر من تجب طاعته بإطاعة شخصٍ ما، كأمر الملك عبده بالذهاب مع فلان، وأن يسمع أمره كما لو أنه أمر الملك، فحينئذٍ يوجب العقل على العبد أن يطيع فلاناً طاعةً للملك، فإن لم يطِع هذا العبد فلاناً كان مُلامًا ومذمومًا عند العقلاء؛ لأنه عندما خالف فلاناً ولم يُطعه، فإنَّه في الحقيقة خالف الملك ولم يُطعهُ.

وبناءً على هذا المُقتضي وجبت طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، في قوله عزوجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)، وبما أنَّ الله عزوجل تجبُ طاعته على جميع المخلوقات، وقد أمر بإطاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فقد وجبت طاعته على جميع المخلوقات أيضًا، فإن ادعى شخصٌ الاكتفاء بطاعته لله عزوجل دون طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم كان مُلامًا ومذمومًا بنظر العقلاء، تمامًا كالعبد الذي خالَف أمر الملك في المثال السابق، بل كان أكثر منه وأشد؛ لأنَّ وجوب طاعة العبد للملك وجوب عرضي، أيّ لأجل المملوكية الاعتبارية، لكونه ملكاً عليه، فإنْ هو تنحّى عن الملوكية أو غُصِبت منه، فلربما ينتفي لزوم طاعته على العبد، وأما طاعة الله عزوجل فهي واجبة دائمًا وأبدًا وفي كلِّ زمان ومكان بل وفي كلِّ عالمٍ من العوالم كلها. وعليه فإنَّ عدم طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إنما هي عدم

ص: 70


1- النساء 59.

طاعة الله سبحانه و تعالی ومن ثم فهي معصية له عزوجل.

ولم يكتفِ القرآن الكريم بأمره بطاعة الرسول وأولي الأمر عزوجل في الآية المتقدمة، بل وقال أيضًا: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾(1)حيث أوجب الله عزوجل طاعة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم على جميع المسلمين، وأمرهم بوجوب الأخذ بما يأتيهم من أوامر والانتهاء عمّا نهاهم عنه، وقد أمر الرسول الأكرمs صلی الله علیه وآله وسلم بوجوب طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فمن خالَف ذلك بعدئذٍ ولم يُطِع الإمام عليا علیه السلام فهو في حقيقة الأمر لم يُطِع الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن ثم لم يُطعِ الله عزوجل؛ لذا ورد في الحديث المشهور عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «أيها الناس، من عصى علياً فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله عزوجل، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله».(2)

وهذا هو معنى أن الراد عليهم كالراد على الله عزوجل وهو على حدِّ الشرك بالله عزوجل.

فقد روي عن سَعِيد الأَعْرَج قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَابْتَدَأَنَا فَقَالَ:«يَا سُلَيْمَانُ، مَا جَاءَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام يُؤْخَذُ بِه، ومَا نَهَى عَنْه يُنْتَهَى عَنْه، جَرَى لَه مِنَ الْفَضْلِ مَا جَرَى لِرَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ولِرَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ الله، الْمُعَيِّبُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِه كَالْمُعَيِّبِ عَلَى الله عزوجل وعَلَى رَسُولِه صلی الله علیه وآله وسلم، والرَّادُّ عَلَيْه فِي صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِالله..».(3)

فإذا أُيدَت هذه المؤيدات العقلية بمؤيداتٍ وأوامر شرعية، كان اللزوم والوجوب لا مناص منه ولا مهرب، وهذا ما ندّعيه في لزوم طاعة أهل البيت علیهم السلام ، فإنَّ جميع

ص: 71


1- الحشر 7
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 373.
3- الكافي للكليني ج1 ص 197 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ ح2.

مقتضيات الطاعة متوفرة فيهم علیهم السلام ولا سبيل للنجاة إلا بطاعتهم والامتثال لأوامرهم.

والخُلاصة: أنَّ طاعة أهل البيت علیهم السلام لها أسبابها العقلية والنقلية (الشرعية)، وقبل الولوج في الأدلة النقلية (الشرعية) التي توجب طاعتهم علیهم السلام، لا بُدَّ من الإشارة إلى ملاحظات مهمة.

ملاحظات مهمة

الأولى

الأولی: أن طاعة أهل البيت علیهم السلام عين في طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم

نعتقدُ أنَّ طاعة الأئمة علیهم السلام ليست في عرض طاعة الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم بل هي في طولها، ومعنى ذلك: أنَّ طاعتهم مترشحة من طاعة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ونابعة منها، كما أنَّ طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم هي الأخرى نابعة من طاعة الله عزوجل.

ومعه، فلا يصحُّ أن يُشكل علينا أحد بدعوى أننا نطيع أهل البيت علیهم السلام أكثر من طاعتنا لرسول اللهs أو أننا نقدِّم طاعتهم على طاعته؛ وذلك لأنَّ طاعتنا لأهل البيت علیهم السلام إنَّما هي في حقيقتها طاعة للرسولs؛ لأنه هو من أمرنا بطاعتهم.

فالإشكال المذكور لا صحة له ولا واقع، بل على العكس، هم من عصى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ولم يُطيعوه إذ لم يأتمروا بأوامره، وما تمسكهم به إلا كتمسكهم بسائر الشبهات التي يسددونها إزاء المدرسة الإمامية ظلمًا وزورًا والناتجة عن جهلهم وعدم معرفتهم بالعقيدة الحقّة لهذه المدرسة الطاهرة، وهم لا يُعذرون فيه بعد أنْ بيّنها ووضحها الأئمة علیهم السلام بأنفسهم، وأكّدوا أنَّ كل ما عندهم هو من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كما أكد أميرهم أمير المؤمنين علیها السلام أنّه ما هو إلا عبد من عبيد محمدٍ صلی الله علیه وآله وسلم.(1)

ص: 72


1- الكافي للكليني ج1 ص 90 بَابُ الْكَوْنِ والْمَكَانِ ح5.

الثانیة

الثانية: أنَّ معنى طاعة أهل البيت علیهم السلام تعني التالي:

1/أنَّ أخذ أحكام الإسلام وتفسير القرآن والقضاء في الأمور المتنازع عليها وكلَّ ما يتعلق بالتكاليف الشرعية سينحصر بطريقٍ واحد هو طريقهم علیهم السلام، وهذا يعني أن أخذ العلم «أي التكاليف الشرعية والحلال والحرام والتفاسير...» يجب أنْ يكون منهم لا من غيرهم، فإنَّ أخذ العلم الشرعي منهم يساوق طاعتهم علیهم السلام، والعكس بالعكس، وهذا ما أشار له الشيخ رحمه الله بعبارته: «ولهذا نعتقد أنَّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تُستقى إلا من نمير مائهم، ولا يصح أخذها إلا منهم،ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم...».

2/ويتفرع عليه: أن طاعتهم علیهم السلام تعني ترجيح وتقديم قولهم على قول غيرهم فيما لو تعارضا واختلفا، فمثلًا لو سافر شخصٌ ما وكان سفره ليس فيه معصية ولا سفر عمل ولا بنية إقامة لمدة عشرة أيام، فما حكم صلاته؟ ومن أين يستقيه؟ هل يأخذ بما تحكم به مدرسة أهل البيت علیهم السلام وهو أنْ يُقصر في صلاته، أو بما تحكم به مدارس غيرهم وهو التخيير بين القصر والتمام؟

فهنا حكمان متعارضان، والمُطيع لأهل البيت علیهم السلام لا يختار سوى أحكامهم، بل لا يُفكر بأن يعمل يومًا بأحكام سواهم ولو مجرد تفكير، ولذا فإنَّه يؤدي صلاته قصرًا، بل لا معنى للمُقايسة بين قولهم وقول غيرهم، إذ لا معنى للاجتهاد مقابل النص؛ لأن قولهم علیهم السلام إنَّما هو قول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وقوله صلی الله علیه وآله وسلم معصوم بنص القرآن الكريم: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾(1)

فقولهم نص شرعي، وأما قول غيرهم فلا يعدو أنْ يكون اجتهادًا شخصياً غير مستند على دليل قطعي شرعياً كان أو عقلياً، وحينئذٍ ما من عاقلٍ يجوِّز وضع كلا القولين

ص: 73


1- النجم 3 -4.

على منضدة المقايسة، وبالتالي فإنَّ قولهم دائمًا هو المُقدّم، وهذا معنى طاعتهم علیهم السلام.

الثالثة: هناك فرق بين الاعتراف النظري والاعتراف العملي بطاعة أهل البيت علیهم السلام.

فالاعتراف النظري هو مجرد الاعتقاد بأنَّ أهل البيت علیهم السلام هم خلفاء لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، واقتصار الاعتراف بطاعتهم على المستوى النظري لا يؤدي إلى الطاعة العملية، بدليل أنَّ من يعترف من المخالفين بأنَّ عليًا علیه السلام هو خليفة لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلا أنَّه الخليفة الرابع، فهو يعتقد بإمامة أمير المؤمنين علیه السلام لكن في مقام الطاعة يُقدِّم طاعة غيره عليه علیه السلام، فيقول بسنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسنة الشيخين، أي لا مكان لطاعة أمير المؤمنين وسنته علیه السلام لديه أساسًا!

فالاعتراف النظري بهم علیهم السلام لا بد أن يستتبعه عمل بما يقولون ويأمرون به، أي أن تتحول الطاعة من النظرية إلى العملية، فهذا هو المنجي.

الأدلة الدالة على لزوم طاعة أهل البيت علیهم السلام

الدليل الأول: استلزام مفهوم الإمامة لوجوب الطاعة

إنَّ معنى الإمامة في حدِّ نفسه يستلزم وجوب الطاعة، فلا معنى لإمامٍ لا يُطاع، فهذا بمثابة التفرقة بين الذات والذاتي، كالتفرقة بين الإنسان والناطق؛ لأنه تقدم أنَّ معنى الإمامة هي الخلافة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في جميع شؤونه ووظائفه، وأنَّ الفرق بين النبي والإمام ينحصر بالوحي الرسالي، وحيث إنَّ وظائف وشؤون النبي صلی الله علیه وآله وسلم لا تتم إلا بالطاعة، فلذلك من يقوم مقام النبي (صلّى الله عليه وآله و سلم) في تلك الشؤون يجب أنْ يُطاع.

وبعبارة أخرى: حيث إنَّ تلك الوظائف لا تتم ولا تتفعل إلا إذا كان المسلمون

ص: 74

يطيعون رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم، كذلك من يقوم مقام النبي صلّى الله عليه وآله و سلم في تلك الوظائف لا يتم إلا بطاعة المسلمين له، وهم الأئمة علهم السلام ، قال عزوجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(1)

وهذا الأمر نفسه يجري في أئمة أهل البيت علیهم السلام .

إذًا لزوم الطاعة نابع من نفس الاعتقاد بالإمامة، وإلا كان شبه التفرقة بين الذات والذاتي.

الدليل الثاني: حديث الثقلين:

وهو حديثٌ ثابت عند كلٍّ من العامة والخاصة، وبتعبير بعض العلماء أنه حديث لا يُدانيه في الثبوت حديث سوى حديث الغدير، فهو حديثٌ متواتر مُتَفَق عليه وإنْ حصل بعض التحريف في بعض الكتب العامية، حيث حرّفوه بتبديل عبارة «كتاب الله وعترتي» ب«كتاب الله وسنتي»، وقد ورد هذا الحديث بألفاظ عديدة ومعناها واحد.

فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: «إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض..».(2)

وأما من حيث دلالته، فإنَّه وما يُحيط به من قرائن يدلُّ على العديد من الدلالات المهمة، ومن أهم تلك القرائن التي وضّحت مُراد الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله و سلم من الحديث ما ورد في بعض الروايات بأن العلاقة بين القرآن والعترة هي كالعلاقة بين السبابتين، لا بين الوسطى والسبابة، لئلا تزيد إحداهما على الأخرى، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله و سلم

ص: 75


1- النساء 65.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.

فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عزوجل إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(1)

وهناك عدة دلالات في حديث الثقلين، نذكر منها:

الأولى: دلالته على إمامة أهل البيت علیهم السلام ، فكما أنَّ القرآن الكريم إمام الناس وطاعته لازمة عليهم، فكذلك هم أهل البيت علیهم السلام بمقتضى المساواة والإقران بينهما.

الثانية: دلالته على عصمة أهل البيت علیهم السلام ، فكما أنَّ القرآن معصومٌ ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(2)

فكذلك الثقل الثاني الذي قُرِنَ به، وهم أهل البيت علیهم السلام.

الثالثة: دلالته على الهداية، فحيث إنَّ القرآن الكريم ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(3)،

فكذلك من قُرِنوا به، وهم أهل البيت علیهم السلام فهم يهدون إلى الطريق الأقوم.

الرابعة: دلالته على أنَّ الهداية إنَّما تتحقق بهما معًا على نحو الكلِّ المجموعي، ونقصد بالكلِّ المجموعي أن المجموع بما هو مجموع مطلوبٌ، ولتقريب المعنى نضرب مثالًا:

لو طلبتُ منك إكرام كلّ من في الدار، وكنت أقصد بالكلِّ في قولي الكل المجموعي الاستغراقي، فالامتثال لهذا الأمر إنَّما يكون بإكرام كلّ فردٍ في الدار، فلو كان عددهم مثلا (100) فردٍ، فقد وجب إكرامهم كلهم لتكون ممتثلًا للأمر، فإنْ أكرمتَ (99) فردًا

ص: 76


1- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.
2- فصلت 41 – 42
3- الإسراء 9

مثلًا، فلا يُقال عنك عندئذٍ إنّك امتثلت للأمر بنسبة (99)، بل يُقال: إنّك لم تمتثل الأمر أصلاً، وتستحق عقوبة من لم يمتثل الأمر رأساً.

وعليه، فإنَّ قوله صلّى الله عليه وآله و سلم: «ما إنْ تمسكتم بهما»، هو على نحو الكُلي المجموعي، أيّ إنَّ الهداية وعدم الضلالة تتحقق بالتمسك بهما (القرآن الكريم والعترة المُطهّرة) معًا، فبهما معًا يهتدي المُكلَّفون وينجون من الضلالة، ولن يهتديَ أبدًا من أخذ بأحدهما دون الآخر، كما لن يهتديَ أبدًا من تمسك ببعض العترة دون بعض؛ وذلك لأنَّ العترة تعني اثني عشر إمامًا، ومن لم يؤمن ولو بإمامٍ واحدٍ منهم، فهو كمن لم يؤمن بجميعهم أصلاً.

وعليه، فإنَّ من قال بالاكتفاء بكتاب الله عزوجل دون العترة فهو ضال، وهو ممن انقلب على عقبيه في قوله تعالى ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُ-رَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.(1)

وقوله ليس بكلمة حقٍ يراد بها باطل، بل هي كلمة باطلة؛ لمخالفتها كتاب الله العزيز من جهة، والسنة النبوية المطهرة من جهةٍ أخرى.

ومثل من قال بالاكتفاء بكتاب الله عزوجل في الضلالة وعدم الهداية والانقلاب على الأعقاب، من قال بالاكتفاء ببعض الأئمة دون بعض، نحو بعض الفرق الشيعية كالزيدية والواقفية مثلًا.

الخامسة: دلالته على وجوب طاعة أهل البيت علیهم السلام ؛ لأمر الله عزوجل باتباع القرآن الكريم وباتخاذه هاديًا وأنّه شفاء لما في الصدور؛ وذلك بمقتضى الاقتران بينه وبينهم علیهم السلام .

السادسة: دلالته على أنَّ الأرض لا تخلو من إمام؛ وذلك للإقران بينهما في قولهs:

ص: 77


1- آل عمران 144.

«وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، والقرآن الكريم باقٍ دستورًا للأمة ومرجعًا لها ما بقيت الأرض، فالعترة الهادية هي الأخرى باقية ما بقيت الأرض مرجعًا وهاديًا.

كما يُثبت هذا الحديث أيضًا ضرورة وجود الإمام الثاني عشر علیه السلام في زمننا هذا؛ لأنَّ القول بعدم وجوده يلزم منه التفكيك بين القرآن الكريم والعترة الطاهرة، ويلزم من هذا تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله و سلم إذ قال: «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، وحاشاه من ذلك، وحيث إنَّ النبي لا يكذب فلابُدَّ من انطباق هذا الحديث بتمام معنى الكلمة، وهذا لا يتم الا بالاعتراف بوجود الامام الثاني عشر علیه السلام، وأما مسألة إثبات أنَّه خصوص الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف دون سواه فإنها موكولةٌ إلى الأدلة النقلية المستفيضة والكثيرة التي تدل وبشكلٍ قاطع على أنَّه هوf وأنَّه المولود في الخامس عشر من شعبان... إلى آخر الأدلة النقلية التي تحدثت عنه (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).

الدلیل الثالث: قوله عز من قائل

الدليل الثالث: قوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾.(1)

وللاستدلال بهذه الآية المباركة على وجوب طاعتهم علیم السلام لابُدَّ من تقديم مقدمات:

المقدمة الأولى: كلمة (أطيعوا) فعل الأمر، جاءت بصورةٍ منفردة مع الله عزوجل، وأما مع الرسول وأولي الأمر (عليهم الصلاة والسلام) فقد جاءت بصورةٍ مشتركة لكليهما، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك اختلافًا بين حقيقة طاعة الله عزوجل وبين طاعة (النبي الأعظم وأولي الأمر)، فطاعته عزوجل واجبةٌ بالذات على العباد؛ لأنَّه الخالق والمدبر والرازق والرب، وأما طاعة النبي وأولي الأمر فهي واجبةٌ بالعرض؛ أي لأنَّ الله عزوجل أوجبها.

وفي نفس الوقت، فإنه لا يخفى أنَّ استعمال فعل أمرٍ واحد لكلِّ من الرسول وأولي

ص: 78


1- النساء 59.

الأمر يدلُّ على وحدة الطاعة، أيّ إنَّ طاعة الرسول تتحقق بطاعة أولي الأمر، وطاعة أولي الأمر هي طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم.

المقدمة الثانية: من هم أولوا الأمر؟

اختلف المفسرون على ثلاثة أقوال:

الرأي الأول: هم الأمراء.

الرأي الثاني: هم العلماء.

الرأي الثالث: هم صنف خاص من الأمة، وهم أهل البيت علیهم السلام.

بقطع النظر عن الروايات، وبتأملٍ قليل في معنى وجوب طاعة أولي الأمر، يُفهَم منه وجوب كونهم معصومين؛ لاستحالة أن يأمر الله عزوجل وهو الحكيم بوجوب طاعة من يمكن أن يعصي ويخطئ ويسهو، فذلك تغرير بالمعصية بلا شك.

ومنه يتضح أنَّ الرأي الثالث هو الصحيح وأنَّ أولي الأمر الواجب طاعتهم هم أهل البيت المعصومون عزوجل دون غيرهم.

تفصيل المُلازمة بين وجوب الطاعة والعصمة.

لابُدَّ أنْ يكون من تجب طاعته معصومًا، وذلك للنقاط الآتية:

أولًا: أطلق الله عزوجل وجوب طاعة أولي الأمر ولم يُقيّدها بقيد، مما يعني وجوب طاعتهم في كلِّ أوامرهم، وهذا يستلزم أنْ تخلو جميع أوامرهم من كلِّ معصية مهما صغرت، وأنْ تكون مطابقة لما يريده الله عزوجل، أي إنَّ أفعال وأقوال وتقريرات كلّ شخصٍ منهم مطابقة لما يريده الله عزوجل، وهذا هو معنى العصمة.

ويؤيد المعنى المتقدم -مُلازمة الاطلاق في الطاعة للعصمة- تقييد الله عزوجل لأمره بوجوب طاعة الوالدين مثلاً بقوله: ﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ

ص: 79

عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾(1)، فطاعة الوالدين رغم أنَّها قُرِنت بعبادة الله عزوجل: ﴿وَقَض-ىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾(2)، إلا أنَّها مُقيّدة بما تقدم، على حين إنَّ طاعة أولي الأمر مطلقة ولم تقيد بأيّ قيد.

ثانيًا: تقدّم أنَّ كلمة (أطيعوا) في الآية المباركة قد وردت مرتين، مرةً أفرِدت للأمر بطاعة الله عزوجل، وأخرى كانت مشتركة، أيّ للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم وأولي الأمر علیهم السلام، ومُقتضى الاشتراك بأمر بالطاعة لكليهما هي وحدة الطاعة، وبما أنَّ طاعة الرسولs على نحو الإطلاق لقوله عزوجل: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)لأنه صلّى الله عليه وآله و سلم معصومٌ لقوله (عزّ من قائل): ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(4)، فكذلك هي طاعة أولي الأمر؛ لوحدة الملاك الموجب لكلٍ منهما، وهي العصمة.

كما أنَّ من الواضح جدًا أنَّ الأمراء وحتى العلماء لا تؤمَن منهم المعصية، ومثلهم في الحكم الخلفاء المسمون بالراشدين وأمراء السرايا، وعليه، فلا تصدق الآية والحال هذه إلا على المعصومين، وبالتالي علينا أنْ نرجع إلى الأدلة القطعية لنعرف من هم المعصومون ليكونوا هم أولي الأمر، وحديث الثقلين المُتقدِّم يُثبت عصمة العترة الطاهرة بالبيان المتقدم.

ونخلص من كل ذلك إلى أنَّ المقصود من أولي الأمر هم المعصومون وهم أهل البيت علیهم السلام.

ص: 80


1- لقمان 15
2- الإسراء 23
3- الحشر 7؛
4- النجم 3 -4

أولوا الأمر هم أهل البيت علیهم السلام نقلًا.

تبين بالقرائن والأدلة العقلية أنَّ أولي الأمر الذين أوجب الله~ طاعتهم لابُدَّ أنْ يكونوا معصومين، وقد تقدم إثبات عصمة أهل البيت علیهم السلام في حديث الثقلين، وبذا يكون المقصود بأولي الأمر هم أهل البيت علیهم السلام ، ولكنْ هناك طريق أقصر للوصول إلى هذه النتيجة، من خلال الروايات التي صرّحت أنَّ المقصود بأولي الأمر هم أهل البيت علیهم السلام ، منها روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله~ على نبيّه محمد صلّى الله عليه وآله و سلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1)

قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلّى الله عليه وآله و سلم: هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها...»(2).

ص: 81


1- سورة النساء: 59.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق،ج 1، ص 253 باب 23 ح 3.

ص: 82

دلالات حديث السفينة

اشارة

ورد عن النبي صلّى الله عليه وآله و سلم بعِدّة ألفاظٍ كلّها تُشبِّه أهلَ بيته علیهم السلام بسفينة نوح، وأنَّ من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وأحد ألفاظ هذا الحديث ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله و سلم: «يا علي مثلك في أمتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق».(1)

فما هي أوجه الشبه بين سفينة نوح علیه السلام وأهل البيت علیهم السلام؟

هناك عدة وجوه نذكر منها التالي:

1/كلتا السفينتين وُجِدَت بأمر الله عزوجل:

فكما أنَّ صنع السفينة من قبل نوح علیه السلام لم يكن من تلقاء نفسه، وإنَّما بأمرٍ ووحيٍ من الله عزوجل؛ لقوله عزوجل: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾(2)و﴿فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾(3)، فكذلك كانت خلافة أمير المؤمنين وأهل البيت علیهم السلام بأمرٍ من الله عزوجل في قوله (عزَّ من قائل): ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافِرِينَ﴾(4)

ص: 83


1- الخصال للشيخ الصدوق ص573/ أبواب السبعين. وفي لفظٍ آخر ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله و سلم فيما رواه الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا سلام الله عليه ج1 ص30.: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها زج في النار».
2- هود 37
3- المؤمنون 27
4- المائدة 67

وقد اتفقت الروايات على أنَّ هذه الآية قد نزلت في يوم غدير خُم(1)،

حيث جمع الرسول صلّى الله عليه وآله و سلم الناس وقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

وما يؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي علیه السلام فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله و سلم وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله و سلم فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟

فقال صلّى الله عليه وآله و سلم: والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر

ص: 84


1- وقد اتفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم، وافقهم على ذلك لفيف من المحدثين والمؤرخين، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ، منهم: 1 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي (المتوفى 327 ه). 2 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي (المتوفى 330 ه). 3 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي (المتوفى 407 ه). 4 - الحافظ ابن مردويه (المتوفى 716 ه). وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ، وقد جمع المحقق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنة فبلغ 30 رجلًا. [انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 116 – 119.]

فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍQ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ﴾»(1)(2)

2/كلٌّ من النبي نوح علیه السلام والنبي محمد صلّى الله عليه وآله و سلم واجها الاستهزاء من قومهما بسبب سفينة النجاة.

فقد استهزأ قوم نوح به حتى نعتوه بالجنون، ولكنَّ ذلك لم يكن ليؤثر فيه أو يتسبب في تراجعه عن صنع سفينته، بل كان يتلذذ أيضًا؛ لعلمه ويقينه التام بأنَّ ما يفعله إنَّما هو بعين الله عزوجل، وقد قال (عزَّ من قائل): ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾.(3)

وقد واجه النبي صلّى الله عليه وآله و سلم مثل هذا الأمر عندما نصَّب أمير المؤمنين عزوجل وذلك في حديث الدار، «يقول المفسرون: لما نزل قوله سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(4)أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم علي بن أبي طالب8 علیه السلام أن يُعدّ طعامًا ولبَنًا، فدعا خمسة وأربعين رجلًا من وجوه بني هاشم، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم فقال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتُن كما تنامون، ولتبعثُن كما تستيقظون، ولتحاسبُن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا.

ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عزوجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

ص: 85


1- المعارج 1-2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245، ومناقب ابن شهر آشوب ج2 ص 240 – 241.
3- هود 37.
4- الشعراء 214 – 215.

ولما بلغ النبي صلّى الله عليه وآله و سلم إلى هذه النقطة، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكرون مليًا في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، وما يكتنفه من أخطار، قام علي علیه السلام فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول: أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يُحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليٌّ ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي صلّى الله عليه وآله و سلم، ويأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بالجلوس، حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرًا.

هذا موجز ما ذكره المفسرِّون والمحدِّثون حول الآية، وفي صحاحهم ومسانيدهم».(1)

لذلك شجّع الله عزوجل رسوله الأكرم صلّى الله عليه وآله و سلم في آية التبليغ إذْ قال: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.(2)

3/لم يقتنع كلٌّ من قوم النبي نوح علیه السلام وقوم النبي محمدصلّى الله عليه وآله و سلم بما أمرهم الله به في أمر سفينتهما.

فأما عدم قناعة قوم النبي نوح علیه السلام فكما في قوله عزوجل: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ

ص: 86


1- انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 10 ص 109 – 110، نقل هذه الحادثة عن: تاريخ الطبري: 2/ 62 - 63، الكامل في التاريخ: 2/ 40 - 41، مسند أحمد: 1/ 111، شرح نهج البلاغة: 13/ 210 - 211.
2- المائدة 67.

مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾.(1)

واما قوم النبي محمد صلّى الله عليه وآله و سلم فتتجلى عدم قناعتهم وسخريتهم بأمر تنصيب الإمام علي علیه السلام في حديث الدار المذكور آنفًا.

4/انحصار النجاة بالسفينتين فقط، كل منهما في زمنها.

فقد حدثنا القرآن الكريم عن أنَّ الحل الوحيد في النجاة من الهلاك كان منحصرًا في السفينة التي صنعها نوح علیه السلام، ولم يكن حتى لمثل الجبل أن يُجدي في النجاة!

قال عزوجل: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(2)

فكان مصير كل من تخلّف عنها الهلاك بما فيهم ابنه!

والأمر مشابهٌ لذلك تمامًا بالنسبة إلى أهل البيت علیهم السلام، إذْ هم الحل الوحيد للخلاص من الضلالة والهلاك الدنيوي ومن ثم الآخروي، فقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنَّه قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلم: ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسك بالعروة الوثقى، فقيل: يا رسول الله وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيد الوصيين، قيل: ومن سيد الوصيين؟ قال: أمير المؤمنين، قيل: يا رسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي، قيل: يا رسول الله من مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب».(3)

وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قلت: يا رسول الله، أرشدني إلى النجاة، فقال: «يا

ص: 87


1- هود 38
2- هود 42 – 43
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج26 ص 20.

ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرقت الآراء، فعليك بعلي بن أبي طالب، فإنه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجاه، ومن اقتدى به هداه».(1)

5/الكلُّ محتاج إلى السفينتين، كل في زمنها.

ولا غرو في ذلك طالما كانت كل من السفينتين المنجى الوحيد لمن عاصر زمنها من المكلفين، ففي زمن النبي نوح علیه السلام كان هو فقط وفقط السفينة، اذ كان الكلُّ محتاجًا اليها لتُنجيه من الغرق، وكذلك أهل البيت علیهم السلام كان ولازال الكلُّ محتاجًا إليهم، إذْ لم يستغنِ عنهم أحدٌ أبداً، فكم من مرةٍ قال عمر بن الخطاب: «لولا علي لهلك عمر»(2)،

وقال عنه عثمان «لولا علي لهلك عثمان»(3) وقال عنه عمر «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»(4)...

ص: 88


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 78 ح 45/ 3.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج12 ص 179 وغيره من المصادر.
3- الغدير للشيخ الأميني ج8 ص 214 قال: أخرج الحافظ العاصمي في كتابه (زين الفتى في شرح سورة هل أتى) من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.
4- في أنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص 100 ح 29 - حدثني إسحاق بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن مؤمل ابن إسماعيل عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن.

وهو أمرٌ ثابت، وعلى من يشكك فيه مراجعة كتب العامة، كما أنَّ أبا بكر عندما استولى على الخلافة كان أول أقواله: لست بخيركم.(1)

وعندما سئلَ عن الكلالة، قال: أقول فيها برأيي فإنْ اصبتُ فمن الله وإنْ أخطأتُ فمن نفسي ومن الشيطان.(2)

وأما أمير المؤمنين علیه السلام فقد كان يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَلأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الأَرْضِ».(3)

وقد كان الكلُّ محتاجًا إليهم علیهم السلام، والروايات في هذا المجال كثيرة، فقد روي أنَّ عبد الملك بن مروان واجه مشكلة بينه وبين ملك الروم حول طباعة شعار الكفر (الاب والابن وروح القدس) على العملة النقدية المتداولة في الدولة الإسلامية والتي كانت تُسك في بلاد الروم، فأراد عبد الملك أنْ يُغيّر الشعار ورفض ملك الروم ذلك، وضرب حصارًا اقتصاديًا على البلاد الإسلامية، فوقع حينها عبد الملك في حيرةٍ كبيرة، لم يُخرجه منها إلا الإمام الباقر علیه السلام بناءً على اقتراح أحد وزرائه، فبعث إلى الإمام الباقر

ص: 89


1- في كنز العمال للمتقي الهندي ج5 ص 631 ح (14112) عن عيسى بن عطية قال: قام أبو بكر الغد حين بويع فخطب الناس فقال: يا أيها الناس إني قد أقتلكم رأيكم إني لست بخيركم فبايعوا خيركم.
2- في الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 201: وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. فبلغ ذلك أمير المؤمنين علیه السلام فقال: ما أغناه عن الرأي في هذا المكان! أما علم أن الكلالة هم الإخوة والأخوات من قبل الأب والأم، ومن قبل الأب على انفراده، ومن قبل الأم أيضا على حدتها، قال الله عز قائلا: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾. وقال جلت عظمته: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾.
3- نهج البلاغة ج2 ص 130.

يترجاه ويتوسل إليه بأنَّ أمَّة النبي صلی الله علیه وآله وسلم في خطر، عندها علّمهم الإمام الباقر علیه السلام كيفية سكِّ النقود وبأوزانٍ خاصة، وطبعوا عليها سورة التوحيد من جهة والشهادتين من الجهة الثانية.(1)

ص: 90


1- في حياة الحيوان للدميري ج1 ص 95 – 97: قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم، وهو في ديوانه، وبين يديه مال كثير، قد شق عنه البدر شقا. وأمر بتفريقه في خدمه الخاصة، وبيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله وكان كثيرا ما يحدثني، فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي، غير أنه أوّل من أحدث هذه الكتابة. فقال: سأخبرك كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله، يمضي على ما كان عليه، إلى أن مَلَكَ عبد الملك بن مروان، فتنبه له، وكان فطنا فبينما هو ذات يوم، إذ مر به قرطاس، فنظر إلى طرازه، فأمر أن يترجم بالعربية، ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس، وهي تحمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد، على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد، وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز ابن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس، أن يطرزوها بصورة التوحيد: شهد الله أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة، إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع، والحبس الطويل. فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم وترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك: أن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم، إلى أن أبطلته فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه، في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر. فلما قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له، ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه، من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا. فقرأ عبد الملك الكتاب، ولم يجبه ورد الهدية فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية، فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح، لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيك فإذا قرأته أرفض جبينك عرقا فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، ونبقى على الحال بيني وبينك. فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟ فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلی الله علیه وآله وسلم! قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف لنفقته، وارح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه، من أصحابه، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي فلما وافاه، أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله~، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، والأخرى وجود الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة، التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا إحدى وعشرين مثقالا، فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل. وكانت الدراهم، في ذلك الوقت، إنما هي الكسروية [نسبة إلى كسرى ملك الفرس]، التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله تعالى عنه، بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي كل هنيئا. وكان وزن الدرهم منها، قبل الإسلام، مثقالا والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل، هي السمرية والخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها. وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل، حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ففعل عبد الملك ذلك. ورد رسول ملك الروم إليه بذلك بقوله: إن الله عزوجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبإبطال السكك والطروز الرومية. فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه، والمال وغيره برسوم الروم، فأما الأن فلا أفعل، لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال. وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه إلى اليوم. وقد علق المرحوم السيد جعفر مرتضى العاملي رحمه الله على هذه الرواية في مقال له بعنوان (ضرب النقود في الإٍسلام) بقوله ما نصه: إن هذه الرواية تقول: إن الإمام الباقر علیه السلام هو الذي أمر عبد الملك بذلك. و إن روح بن زنباغ إنما أشار على عبد الملك به.. و هذا غير معقول؛ لأن البعض يقول: إن عبد الملك قد ضرب النقود سنة 74ﻫ [فتوح البلدان - للبلاذري: قسم 3 ص 574 و 575، و التراتيب الإدارية: ج1 ص421، و العقد المنير: ج1 ص49.]، والبعض الآخر يقول: إنه ضربها في سنة 75ﻫ [مآثر الانافة: ج 3 ص 345، و تاريخ الخلفاء: ص 218، و البحر الزخار: ج 3 ص 50 عن التخليص عن ابن سعد في الطبقات، و التراتيب: ج 1 ص 417 و 421 عن الطبقات، وعن المدائني.]، وفريق ثالث يرى أن ذلك كان في سنة 76ﻫ، و قال البلاذري: «عبد الملك بن مروان أول من ضرب الذهب و الورق بعد عام الجماعة» [فتوح البلدان - للبلاذري القسم الثالث: ص576.]، وعلى كل حال فإنهم متفقون على أن ضرب عبد الملك للنقود كان ما بين ال-74و77 وعليه فإننا إذا ما أضفنا إلى ذلك: أن ولادة الباقر علیه السلام كانت في سنة 57ﻫ. و وفاة والده زين العابدين علیه السلام كانت سنة 94ﻫ. فإننا سنرى: أن عُمْرَ الباقر حين ضرب النقود كان ما بين 17 و 19 سنة ؛ فهو في مقتبل عمره؛ و لم يكن له بعد من الشهرة ما يغطي على شهرة أبيه، و لا من الشخصية ما يضارع شخصيته، و لا كان ذكره قد سار في الآفاق بحيث يغطي على أبيه، إلى حد أن يهمل أمره، و تذهب منزلته لا سيما و أن أباه كان يتمتع باحترام كبير جداً، و شهرة واسعة، فاقت كل ذلك الذي منحه الناس و بالأخص الأمويون لأي من أبنائه، بل و حتى آبائه الطاهرين. فالظاهر: أن صاحب هذه القضية مع عبد الملك هو الإمام زين العابدين بالذات، و ليس هو الإمام الباقر علیه السلام. قال الصعدي: «قال في الانتصار: و أول من ضرب الدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان سنة خمس و سبعين من الهجرة، و كان السبب في ذلك: أن القرطاس كان يحمل إلى الروم، و كان يكتب على عنوانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. فشق ذلك على صاحب الروم لما كان كافراً ؛ فكتب إلى عبد الملك: أما أن تزيلوا ما تكتبون على القرطاس، أو يأتيكم على الدراهم ما تكرهون. فتحير عبد الملك في الجواب ؛ فاستحضر علي بن الحسين زين العابدين ؛ فاستشاره في ذلك. فقال: حَرِّم التبايع إلا بما تضربه من الدراهم، فبطل بذلك كيد صاحب الروم. فأمر أن يكتب عليها ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إلى آخر السورة غيظاً للروم» انتهى، و في الشفاء نحو حديث الدراهم [راجع: جواهر الأخبار و الآثار - المطبوع بهامش البحر الزخار: ج3 ص150.] و قد صرح بذلك الشهيد رحمه الله في البيان، في باب زكاة النقدين، حيث قال: «و الدنانير في الدينار بزنة المثقال، و هو لم يختلف في الإسلام و لا قبله، و في الدرهم: ما استقر عليه في زمن بني أمية بإشارة زين العابدين الخ..» [البيان: ط هجرية ص185.].و حكى في الوسائل ذلك عنه في الذكرى. كما أن صاحب الجواهر قد صرح في كتاب الزكاة، في مسألة أن عشرة دراهم سبعة مثاقيل: بأن ذلك كان بإشارة زين العابدين علیه السلام. و قال ابن كثير وهو يتحدث عن السجاد: «و قد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق، فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه في أمر السكة، و طراز القراطيس».[ البداية و النهاية: ج9 ص104]. و يؤيد ذلك: ان في بعض نسخ المحاسن و المساوئ قوله: «الباقي من أهل بيت النبي». بدل: الباقر من... الخ.. و قوله: إلى موافاته علياً؛ فلما وافاه أخبره الخبر ؛ فقال له علي الخ.. بدل قوله: موافاة محمد بن علي.. و فقال له محمد بن علي الخ. [العقد المنير: ج1 ص72/73.].. لكن باقي ما في الرواية بقى على حاله. و بعد كل الذي قدمناه نقول: إن كون زين العابدين علیه السلام هو المشير على عبد الملك هو الحق الذي لا محيص عنه.

ص: 91

ص: 92

وفي زمن الإمام الهادي علیه السلام ادعت امرأة أنَّها زينب بنت علي علیهما السلام، فاضطر المتوكل أنْ يبعث إلى الإمام الهادي علیه السلام، فحلَّ الإمام علیه السلام بقولٍ مختصر: إن كنتِ فعلًا زينب ابنة أمير المؤمنين فإنَّ لحوم بني فاطمة علیها السلام مُحرّمة على السباع، فسمع المتوكل ذلك وكان يتحين الفرص لقتل الامام الهادي علیه السلام، وكان عنده سباع فجوّعها، وطلب من الإمام الهادي علیه السلام أن ينزل أولًا، فنزل الإمام، وإذا بالأسود جاءت وسجدت عند الإمام

ص: 93

الهادي علیه السلام، وعند ذلك رأت المرأة ما رأت قالت: يا بن رسول الله أنا أتوب على يديك فأنا امرأة محتاجة...(1)

ص: 94


1- في الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 406 روي أن أبا هاشم الجعفري قال: ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال لها المتوكل: أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ما مضى من السنين. فقالت: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مسح على رأسي وسأل الله أن يرد علي شبابي في كل أربعين سنة، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية، فلحقتني الحاجة فصرت إليهم. فدعا المتوكل كل مشايخ آل أبي طالب، وولد العباس وقريش فعرفهم حالها. فروى جماعة وفاة زينب [بنت فاطمة علیها السلام] في سنة كذا، فقال لها: ما تقولين في هذه الرواية؟ فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستورا عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت. فقال لهم المتوكل: هل عندكم حجة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ قالوا: لا. قال: أنا برئ من العباس إن [لا] أنزلها عما ادعت إلا بحجة [تلزمها]. قالوا: فأحضر [علي بن محمد] ابن الرضا - علیه السلام فلعل عنده شيئا من الحجة غير ما عندنا. فبعث إليه فحضر فأخبره المرأة. فقال: كذبت فإن زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا. قال: فإن هؤلاء قد رووا مثل هذه الرواية وقد حلفت أن لا أنزلها عما ادعت إلا بحجة تلزمها. قال: ولا عليك فههنا حجة تلزمها وتلزم غيرها. قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة محرمة على السباع، فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرها [السباع]. فقال لها: ما تقولين؟ قالت: إنه يريد قتلي. قال: فههنا جماعة من ولد الحسن والحسين علیهما السلام فأنزل من شئت منهم. قال: فوالله لقد تغيرت وجوه الجميع. فقال بعض المتعصبين: هو يحيل على غيره، لم لا يكون هو؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع. فقال: يا أبا الحسن لم لا يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك. قال: فافعل! قال: أفعل [إن شاء الله]. فأتى بسلم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد. فنزل [الامام] أبو الحسن علیه السلام إليها، فلما دخل وجلس صارت [الأسود] إليه، ورمت بأنفسها بين يديه، ومدت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه. فجعل يمسح على رأس كل واحد منها بيده، ثم يشير له بيده إلى الاعتزال فيعتزل ناحية، حتى اعتزلت كلها وقامت بإزائه. فقال له الوزير: ما كان هذا صوابا، فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره. فقال له: أبا الحسن ما أردنا بك سوءا وإنما أردنا أن نكون على يقين مما قلت، فأحب أن تصعد. فقام وصار إلى السلم وهي حوله تتمسح بثيابه. فلما وضع رجله على أول درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع. فرجعت وصعد فقال: كل من زعم أنه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس. فقال لها المتوكل: انزلي. قالت: الله الله ادعيت الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضر على ما قلت. فقال [المتوكل]: ألقوها إلى السباع، فبعثت والدته واستوهبتها منه وأحسنت إليها.

6/كلتا السفينتين آوت كلَّ من لجأ إليها وأنجته من الهلاك.

وقد قصَّ الله عزوجل قصة سفينة نوح علیه السلام حيث آوت كل من لجأ اليها ولم تترك أحدًا ممن آمن بقائدها وبرسالته ليغرق ويموت في الدنيا أو يحترق بنار جهنم في الآخرة، قال عزوجل: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ* وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(1)

وهكذا هم أهل البيت علیهم السلام فقد كانوا ولازالوا يُمثلون الإسلام الحقيقي الذي بولايتهم كمُلَ، فإن تكلّمنا عن أهل البيت فإنَّما نكون قد تكلّمنا عن الإسلام، فهم كانوا النعمة السابغة التي عمّت الجميع، وكانوا يسيرون على هدى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الذي قال فيه القرآن الكريم: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(2)

وفي آيةٍ أخرى ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾(3)

لذا كان أهل البيت علیهم السلام رحمةً عامةً للعالمين، فتجدهم يحاولون أنْ يهدوا كل من لجأ إليهم، سواء كان جاهلًا أو عالمًا أو يدّعي الإسلام أو يهوديًا أو نصرانيًا بل وحتى إنْ كان زنديقًا ومُلحدًا.

ص: 95


1- هود 40 – 43.
2- سبأ 28.
3- الأنبياء 107.

7/وحدة القيادة في كلٍ من السفينين.

فكما كان القائد الوحيد للسفينة هو النبي نوح علیه السلام وكل شيءٍ في السفينة يرجع إليه، كان القائد لأهل البيت علیهم السلام هو الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم وهم بلسانهم كانوا يصرحون بأنَّ كلَّ ما عندهم هو من عند رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

فقد روي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه، قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ علیه السلام، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ علیه السلام، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم، وحَدِيثُ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم قَوْلُ الله عزوجل.(1)

وعن جابر قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «يا جابر، لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم».(2)

8/كلتا السفينتين كانت فاتحة عهدٍ جديد.

فأما سفينة نوح علیه السلام فقد أبقت المؤمنين فقط على وجه البسيطة، حتى كُنيَ نوحٌ علیه السلام ب(الأبِ الثاني للبشر)، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك قائلًا: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ﴾.(3)

وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فقد فتحوا عهدًا جديدًا؛ وذلك من جهاتٍ عديدة:

الجهة الأولى: فتحوا عهدًا جديدًا في الخلافة؛ إذْ لم يكن خليفةً فيما سبق إلا وهو

ص: 96


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح14.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 320 باب 14 ح 4.
3- الإسراء 3

نبي، وأما الأئمة علیهم السلام فليسوا بأنبياء؛ لأنَّ النبوّة خُتِمت بالرسول الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم.

الجهة الثانية: كانت سفينة نجاة الأمة الإسلامية (أهل البيت علیهم السلام) فاتحة عهدٍ جديد؛ لأنها أكملت الدين الإسلامي، حيث لم تنزل آية إكمال الدين وإتمام النعمة إلا بعد تبليغ الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم المسلمين بولاية أمير المؤمنين علیه السلام في غدير خُمٍ.

الجهة الثالثة: كانت إمامة أهل البيت علیهم السلام هي الخاتمة لجميع الخلافات والوصايات لجميع الأنبياء، فإنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو خاتم الأوصياء.

9/لم يركب السفينتين إلا خلفاء الأرض، كلٌ في زمنه.

فقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ الذين ركبوا سفينة نوح هم كانوا خلفاء الأرض، يقول عزوجل: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾(1)وكذلك

القرآن الكريم يؤكد أنَّ خلفاء أهل الأرض هم أهل البيت علیهم السلام ومن تبعهم، إذْ قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾.(2)

وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في تفسيرها: هم آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم، يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم ويذل عدوهم.(3)

فكما أنَّ من ركب سفينة نوح علیه السلام ورث الأرض، فكذلك من ركب سفينة أهل البيت علیهم السلام سيرث الأرض ولو بعد حين.

10/قلة من ركب كلًّا من السفينتين.

يُصرِّح القرآن الكريم بأنَّ الذين آمنوا بنوحٍ علیه السلام كانوا قليلاً، قال تعالى: ﴿ما آمَنَ

ص: 97


1- يونس 73.
2- القصص 5.
3- الغيبة للطوسي ص 184 ح 143.

مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (1)، وهم ثمانية(2)،

وروي أنَّهم ثمانون في أكثر الاحتمالات(3).

وكذلك الذين يؤمنون بأهل البيت (سلام الله عليهم) فإنَّ نسبتهم إلى المسلمين عمومًا لا تصل حتى إلى الربع، وهي نسبة ضئيلة، بل حتى من يدّعون التشيّع أنفسهم، كم منهم اتبع أهل البيت علیهم السلام حقًا؟!

فعَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ بِوَلَايَتِنَا مُؤْمِناً، ولَكِنْ جُعِلُوا أُنْساً لِلْمُؤْمِنِينَ».(4)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : «ولم يخل أرضه من عالم بما يحتاج إليه الخليقة، ومتعلم على سبيل النجاة، أولئك هم الأقلون عدداً، وقد بين الله ذلك في أمم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخر، مثل قوله في قوم نوح علیه السلام: و﴿ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(5)».(6)

11/الارتباط بكلٍّ من سفينتي النجاة ارتباط عقائدي لا نَسَبي.

فكما أنَّ النجاة انحصرت بمن ارتبط بسفينة نوحٍ علیه السلام ارتباطًا عقائديًا لا نسبيًا، يشهد على ذلك هلاك ابن نوح علیه السلام في قوله عزوجل: ﴿وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾.(7)

ص: 98


1- هود: 40.
2- عن حمران، عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عزوجل: ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، قال: «كانوا ثمانية». (معاني الأخبار للصدوق: 151/ باب معنىٰ القليل/ ح 1).
3- راجع: تفسير مجمع البيان للطبرسي 5: 279.
4- الكافي للكليني ج2 ص 244 بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ ح7.
5- هود: 40
6- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 368.
7- هود 45 – 47

فكذلك الارتباط بأهل البيت علیهم السلام لابُدَّ أن يكون عقائديًا لا نسبيًا، وإنْ كُنا نقدس أولاد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ونُجلهم، لكن دخول الجنة ليست له علاقة بارتباط النسب، الإمام زين العابدين علیه السلام يقول لطاووس اليماني: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾(1)؟

والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح»(2).

ص: 99


1- المؤمنون 101.
2- في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 291 و292): عن طاووس الفقيه، قال: رأيت الإمام زين العابدين علیه السلام يطوف من العشاء إلىٰ السحر ويتعبَّد، فلمَّا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتَّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد في عرصات القيامة»، ثمّ بكىٰ، وقال: «وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرِّض، ولكن سوَّلت لي نفسي وأعانني علىٰ ذلك سترُك المرخىٰ به عليَّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إنْ قطعت حبلك عنّي، فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفِّين: جوزوا، وللمثقلين: حطُّوا، أمع المخفِّين أجوز أم مع المثقلين أحطُّ؟ ويلي كلَّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي؟»، ثمّ بكىٰ، ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المنىٰ *** فأين رجائي ثمّ أين محبَّتي أتيتُ بأعمالٍ قباح رديَّة *** وما في الورىٰ خلقٌ جنىٰ كجنايتي ثمّ بكىٰ وقال: «سبحانك تُعصىٰ كأنَّك لا ترىٰ، وتحلمُ كأنَّك لم تُعْصَ، تتودَّد إلىٰ خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيِّدي الغنيُّ عنهم». ثمّ خرَّ إلىٰ الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته علىٰ ركبتي وبكيت حتَّىٰ جرت دموعي علىٰ خدِّه، فاستوىٰ جالساً وقال: «من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟!». فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أنْ نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن عليٍّ، وأُمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله. فالتفت إليَّ وقال: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح».

12/ركوب كلٍّ من السفينتين لا يعصم من الذنوب.

لم يُعصم من الذنب والخطأ أو من دخول جهنم كلُّ من ركب سفينة نوح علیه السلام بمجرد ركوبه السفينة، وبعبارة منطقية: ركوب السفينة لم يكن علةً تامة لدخول الجنة والعصمة من الخطأ، بل كان مقتضيًا لدخول الجنة مع لزوم رفع الموانع.

وكذلك من آمن بأهل البيت علیهم السلام لا يكفيهم مجرد ادعاء مودتهم ومحبتهم، بل لا بد من طاعتهم، روي أنه قال رجل للحسن بن علي علیهما السلام: يا بن رسول الله أنا من شيعتكم. فقال الحسن بن علي علیهما السلام: «يا عبد الله، إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها! لا تقل: أنا من شيعتكم، ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم، ومعادي أعدائكم، وأنت في خير، وإلى خير».(1)

إن حديث السفينة يلزمنا بطاعة أهل البيت علیهم السلام ، لذلك روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام أنَّه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظُهم لها عند عدوِّنا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة أشياء: لا يكون فيهم من يسأل بكفِّه، ولا يكون فيهم بخيل، ولا يكون فيهم من يُؤتىٰ في دُبُره».(3)

ص: 100


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري8 ص 308 – 309 ح 153.
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 103/ ح 62).
3- الخصال للشيخ الصدوق: ص 131.

دلالات حديث النجوم

اشارة

وردت الكثير من الروايات التي شبّه فيها الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم -كما شبّه الائمة من بعده علیهم السلام- أهل البيت علیهم السلام بنجوم السماء في كونهم أمانًا لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء. وقد اختلفت ألفاظ بعضها ولكن المعنى واحد، ومن تلك الروايات:

ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء».(1)

وروي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبتِ النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون».(2)

وروي عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ النجوم في السماء أمان من الغرق، وإنَّ أهل بيتي أمان لأمتي من الضلالة في أديانهم لا يهلكون فيها مادام فيهم من يتبعون هديه وسنته».(3)

وروي عن الإمام علي علیه السلام : «ألا إنَّ مثل آل محمدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كمثل نجوم السماء إذا خوى (غاب) نجمٌ طلع نجم».(4)

ص: 101


1- ينابيع المودة ج1 ص72.
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص123و124.
3- التفسير المنسوب للإمام العسكري علیه السلام ص546.
4- نهج البلاغة لأمير المؤمنين علیه السلام ج1 ص194.

دلالات حديث النجوم

اشارة

على الرغم من قصر تراكيب حديث النجوم وقلة ألفاظه إلا أنَّه يحمل من الدلالات المهمة ما يحمل، وبيانه بالتالي:

أولًا: دلالة فوائد النجوم:
اشارة

للنجوم فوائد عديدة ذكرها القرآن الكريم في آياته المباركة أبرزها:

1/الهداية.

كما في قوله عز وجل: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾.(1)

فقد كانت النجوم وسيلة مهمة لهداية الناس فيما مضى إلى الاتجاهات، حيث لم تكن الآلات الحديثة والخرائط البحرية متوفرة، فكانوا يهتدون من خلال النجوم، لاسيما أولئك الذين يسافرون عبر البحار أو الصحاري، إذ كان بعضها يُشير إلى بعض الاتجاهات، فالدب القطبي دائمًا يُشير إلى جهة الشمال، فإن كان خلف الشخص علم أنَّه متجه نحو الجنوب، والعكس بالعكس، وبذا يستطيع أيضًا أنْ يعرف المشرق والمغرب؛ لذلك عبّرت بعض الأحاديث أنَّ النجوم أمانٌ للناس من الغرق، وقد بلغ اعتمادهم على النجوم في الاهتداء إلى السبيل الصحيح درجةً أنْ يتوقفوا عن الإبحار عندما تكون السماء ملبدةً بالغيوم؛ لأنهم من دونها لا يعرفون المقصد الذي يبغون إليه.

وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم يُشير إلى هذه الحقيقة، وهي عدم إمكان اهتداء الناس إلى الحق من دون التمسك بهم وبنهجهم علیهم السلام ، لاسيما في فتن الدنيا وكثرة السبل المتفرقة، حيث يكونون بأمس الحاجة إلى علامة توصلهم إلى الصراط المستقيم، والى الله عزوجل.

ص: 102


1- النحل 16

فكما أنَّ الناس يهتدون بالنجوم للوصول إلى الهدف، كذلك الناس يهتدون بأهل البيت علیهم السلام للوصول إلى الهدف؛ لذلك روي عن دَاوُد الْجَصَّاص قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: ﴿وعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ قَالَ: «النَّجْمُ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم والْعَلَامَاتُ هُمُ الأَئِمَّةُ%».(1)

وعَنِ الْوَشَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا8 عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ قَالَ: نَحْنُ الْعَلَامَاتُ، والنَّجْمُ رَسُولُ اللهs.(2)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام قال: ﴿بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ﴾.(3)

وقد أشار الله تعالى في ايات عديدة عن فوائد النجوم منها قوله عز من قائل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.(4)

2/المنع من الضلال.

يصرح القرآن الكريم بأنَّ مهمة بعض النجوم هو رجم الشياطين، فهي رجومٌ للشياطين، فإذا أراد شيطانٌ ما أنْ يطّلع على ما في السماء من غيبٍ، فهناك نجومٌ ترصدُ تحركاته وتمنعه من الوصول إلى ذلك، قال عزوجل: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾.(5)

إننا وإن لم نصل إلى فهم معنى وكيفية رصد النجوم للشياطين ودحرهم، ولكن

ص: 103


1- الكافي للكليني ج1 ص 206 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ علیهم السلام هُمُ الْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الله عزوجل فِي كِتَابِه ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 207 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ% هُمُ الْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الله~ فِي كِتَابِه ح3.
3- نهج البلاغة ج1 ص 38.
4- الأنعام 97.
5- الصافات 6 – 10.

علينا التسليم والأخذ به ولو تعبدًا، لنصّ القرآن الكريم على ذلك، فالنجوم تمثل مانعًا من توسع خط الضلالة، وهم الشياطين، وبذا يشبه أهل البيت% النجوم؛ إذ إنَّهم% يُمثِّلون المانع الأقوى ضد حزب الشيطان وحزب الضلالة، فمن أراد أنْ يعرف المخرج من الفتن والشبهات فعليه أنْ يتمسك بأهل البيت%.

ثانيًا: دلالة دوام البقاء ما بقيت الدنيا.

فكما أنَّ الله عزوجل قد قضى بوجود النجوم ما دامت السماء، أي قضى باستمرار وجودها إلى يوم القيامة؛ لأنها الأمان لأهل السماء، فإن انعدم وجودها هلكوا، فكذلك قد قضى أنْ يستمر وجود أهل البيت علیهم السلام إلى يوم القيامة أماناً لأهل الأرض، فإن رُفِعوا منها ولو قليلًا من الزمن ساخت الأرض بأهلها، وهذا معنى ما روي متواتراً:لولا الإمام لساخت الأرض.

وهذا يدل على ضرورة وجود الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في لحظة استشهاد الإمام العسكري علیه السلام وحتى يومنا هذا وإلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور.

ثالثًا: دلالة دوام الهداية.

قد تقدّم أنَّ الله عزوجل قد قضى بوجود النجوم أمانًا لأهل السماء، ومعلومٌ أنَّ وجودها لا ينفك عن هدايتها لبني البشر إلى سبيل الصواب دائمًا وأبدًا، وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فإنَّ وجودهم لا ينفك عن هدايتهم لهم، إذ إنَّ هدايتهم للإنسان ليست بالمنقطعة أو المؤقتة بوقتٍ محدود، بل مستمرة إلى يوم القيامة، وفي أيةِ لحظةٍ تنتفي فإنَّ الناس يضلون، وهذا دليلٌ واضحٌ على عدم إمكانية غصب إمامتهم وإن تمكن الظالمون من غصب بعض شؤونها ظاهرًا وهي الخلافة السياسية فقط. فهم الأئمة المفروضة طاعتهم على الأمة دائمًا وأبدًا، فإن نُحيّت عنهم الخلافة السياسية فذلك لأنَّ الأمة لم تطعهم ولم تقم بالواجب عليهم في ذلك، لا لأنهم علیهم السلام فقدوا الإمامة أو غصبت

ص: 104

عنهم؛ لأن الإمامة منصبٌ إلهي لا يمكن غصبه كالنبوة تمامًا.

رابعًا: دلالة عصمة الهداية.

فالنجوم حيث إنَّها ثابتة في السماء فإنّها تهدي من يرجع إليها إلى سبيل الصواب دائمًا وأبدًا، ولا تخدعه يومًا أو توقعه في الخطأ ولو ساعةً ما؛ لأنَّ عصمتها تكوينية، فالله عزوجل هو الذي جعلها وفق نظام ثابت خاص وهو نظام معصوم، وكذلك هي هداية أهل البيت علیهم السلام معصومة لا يعتريها خطأ ولا يجوز عليها البتة، والحديث موضوع البحث، حيثُ إنه شبههم بالنجوم، فهو أحد الأدلة -أو على الأقل المنبهات- التي تثبت عصمتهم علیهم السلام. وتوجد غيره الكثير من الأدلة العقلية والنقلية بشقيها الآيات المباركة والروايات الشريفة.

خامسًا: دلالة التعاقب:

من الواضح جدًا أنَّ النجوم تتعاقب في البزوغ، أي تبزغ في السماء ثم تأفل، لكن كُلّما يأفل نجمٌ يبزغ نجمٌ آخر، وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم له نفس المعنى حيثُ إنه كُلّما غابَ إمامٌ ظهرَ امامٌ آخر، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عیه السلام في نهج البلاغة حيث قال: «أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ».(1)

سادسًا: دلالة عدم أو مانعية الخلو.

ونقصد بها أنه كما أنَّ النجوم لا تخلو منها السماء ولو لجزء من الثانية، إذ إنَّها موجودةٌ حتى في النهار -وإن لم نتمكن من رؤيتها- فضلًا عن الليل، فكذلك هم الائمة علیهم السلام لا تخلو منهم الأرض ولو لجزء من الثانية، وهذا يشير إلى ضرورة أن يكون الإمام المهدي عجل الله تعاعلی فرجه الشریف مولودًا وموجودًا واقعًا، وإنْ لم يظهر للناس في غيبته حتى يأذن الله

ص: 105


1- نهج البلاغة ج1 ص 194.

في الوقت المناسب.

ومن الجدير بالذكر قول البعض بإمكانية رؤية النجوم نهارًا إذا ما نظر الناظر في البئر، فإنَّ ذلك مُشابهٌ لما يُقال من أنَّ رؤية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وإن كانت غير متاحة للجميع إلا أنَّها تتاح عند توفر شروطٍ خاصة.

سابعًا: دلالة مجهولية الحقيقة.

في كثيرٍ من الأحيان لا يُمكننا أنْ ندرك غور النجوم حتى مع التلسكوبات الحديثة، حيث إنَّها تصل إلى غور السماء إلى حدٍ معين من السنوات الضوئية وإنْ بلغت المليون أو أكثر لكنها تقف عند حدٍّ معين لا يُمكننا معرفة حقيقة وغور النجوم بعده، وكذلك هي حقيقة أهل البيت (سلام الله عليهم) مجهولةٌ عندنا، فلا يستطيع أحدٌ أنْ يُدركها، بل إنَّ أحاديثهم لا يُمكن لنا إدراكها تمام الإدراك، فكيف بحقيقتهم؟!

روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يُؤْمِنُ بِه إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ الله قَلْبَه لِلإِيمَانِ».(1)

وفي حديث الإمام الرضا علیه السلام: «إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكَماً كمحكم القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها؛ فتضلوا».(2)

وأما حقيقتهم فمن بابٍ أولى لأنها مما لا يمكن إدراكه، ومن ذلك ما روي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا

ص: 106


1- الكافي للكليني ج1 ص 410 بَابٌ فِيمَا جَاءَ أَنَّ حَدِيثَهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ ح1.
2- عيون أخبار الرضا8 للشيخ الصدوق ج1 ص 261 ح39.

الله وأنا».(1)

كما روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ الليلة فاطمة، والقدر الله تعالى، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها...»(2)

فما نعرفه نحن عن أهل البيت علیهم السلام مجرد خطوطٍ عامة وشعاعٍ يصلنا من نورهم، أما حقيقتهم فهي مجهولة بالنسبة لنا.

ثامنًا: دلالة عدم التعارض.

فكما لا تصادم بين النجوم في السماء، بل ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(3)، فكذلك هم أهل البيت علیهم السلام لا تصادم بينهم وبين أحاديثهم، لذلك كان هناك بحثٌ طويل ومهم في علم الأصول يحلُّ مسألة التعارض الظاهري بين الأدلة؛ إذ لا يمكن أنْ يكون تعارض حقيقي بين أقوالهم علیهم السلام ؛ فهم كالقرآن لا ينقض بعضه بعضًا، قال عزوجل : ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.(4)

بل ورد في أحاديث الأئمة علیهم السلام أمرٌ بردِّ الحديث إلى أهله فيما إذا جاء عنهم علیهم السلام حديث ولم يُعرف معناه او حلُّه، ومن ذلك ما روي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنَّ حَدِيثَ آلِ مُحَمَّدٍ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يُؤْمِنُ بِه إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ الله قَلْبَه لِلإِيمَانِ، فَمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَدِيثِ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم فَلَانَتْ لَه قُلُوبُكُمْ وعَرَفْتُمُوه فَاقْبَلُوه، ومَا اشْمَأَزَّتْ مِنْه قُلُوبُكُمْ وأَنْكَرْتُمُوه فَرُدُّوه إِلَى الله

ص: 107


1- مختصر بصائر الدرجات للشيخ الحلي ص 125.
2- تفسير فرات الكوفي ص 581 ح 747/ 2.
3- الأنبياء 33
4- النساء 82

وإِلَى الرَّسُولِ وإِلَى الْعَالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وإِنَّمَا الْهَالِكُ أَنْ يُحَدِّثَ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْه لَا يَحْتَمِلُه، فَيَقُولَ: والله، مَا كَانَ هَذَا، والله مَا كَانَ هَذَا، والإِنْكَارُ هُوَ الْكُفْرُ».(1)

ولذا فإن علماءنا في بعض الأحيان عندما يصلون إلى رواياتٍ صحيحة ولكن لا يجدون مخرجاً لها، فإنهم يقولون: هذا الحديث لا نُنكره ولكن نردُّ علمه إلى أهله، فإذا أدركنا الإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف فإنَّه سيبين لنا ما اختلف فيه.

تاسعًا: دلالة وحدة المحور.

من المعلوم أنَّ كلَّ مجموعةٍ نجمية ترجع إلى محورٍ واحد، فمجموعتنا الشمسية مثلًا تدور حول الشمس، وكذلك هم أهل البيت علیهم السلام فإنَّهم يدورون حول محورٍ واحدٍ وهو الرسول الأعظم (صلوات الله وسلامه عليه وآله)، كما تقدم في رواية داود الجصاص.

عاشرًا: الدلالة على قدرة الله تعالى وحكمته.

أقسم الله عزوجل بالنجوم، وذكر أنّه قسمٌ عظيم؛ وذلك لأنَّ ثبات مواقع النجوم رغم دوران الأرض حول نفسها، ودوران الأرض حول الشمس، والنسق الدقيق في ذلك، هو أمرٌ تتجلى فيه عظمة قدرة الله عزوجل وحكمته غير المتناهيتين، وتشبيه أهل البيت علیهم السلام بالنجوم يُشير أيضًا إلى هذا المعنى، فإنَّ الله (سبحانه وتعالى) عندما اختارهم علیهم السلام ليكونوا خلفاء للرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فإنَّه اختارهم بقدرته وحكمته غير المتناهيتين؛ لِما علِمَ أنْ ليس هناك من هو مؤهل ليكون خليفةً عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلا هم علیهم السلام، وقضى بإمامتهم، فلا بد أنْ يرضخ له كلُّ بني البشر لذلك، فليس أمام هذا الجعل الإلهي إلا التسليم.

ص: 108


1- الكافي للكليني ج1 ص 410 بَابٌ فِيمَا جَاءَ أَنَّ حَدِيثَهُمْ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ ح1.
أحد عشر: دلالة عدم التصادم بين الوظائف.

فكلُّ نجمٍ من النجوم يدور في مسارٍ ثابت ليؤدي وظيفته الخاصة، فالشمس تجري لمستقر لها لتؤدي وظيفتها الخاصة، وكذلك القمر يسير في مساره الخاص ليؤدي وظيفته الخاصة، وهكذا بقية النجوم، فكلٌّ له دوره الخاص الذي يُكمِّل دور النجم الآخر ولا يعارضه، فالشمس تضيئ في النهار، ليأتي دور القمر ليلًا، من دون أيّ تعارضٍ بينهما، فكما لا تصادم في المسارات بين النجوم، ولا تصادم في وظائفها، وكذلك أهل البيت علیهم السلام، فأمير المؤمنين علیه السلام جلس ما يقارب خمسًا وعشرين سنةً في بيته؛ لأن وظيفته كانت الجلوس، وعندما صارت وظيفته الحكم الظاهري قام بها، كما قام بكل ما يترتب عليها من مهام، فقاتل على التأويل كلًّا من الناكثين والقاسطين والمارقين، وأما الإمام الحسن علیه السلام فقد كانت وظيفته أنْ يُهادن، والإمام الحسين علیه السلام كانت وظيفته أنْ يقاتل.

إنَّ لكلٍ منهم علیهم السلام الخصائص ذاتها، فكلٍ منهم ثائر وكلٍ منهم مُطالب بالإصلاح، وكلٍ منهم كاظم وهكذا، وعليه فلو كان الإمام الحسن في موضع الإمام الحسين علیه السلام لقاتل، فأدوارهم شتى والهدف واحدٌ، بحيث إن كلّ دورٍ من الأدوار يكون مكمّلاً للدور الآخر، فصلح الإمام الحسن علیه السلام هو الذي مهّد لثورة الإمام الحسين علیه السلام، وثورة الإمام الحسين علیه السلام هي التي مهّدت لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وعليه فهناك علاقة بين الإصلاح الحسيني وتحقيق العدل المهدوي، فنتيجة الإصلاح هو العدل الذي لم يتحقق في ثورة الإمام الحسين علیه السلام حيث وقف الناس موانع. وللسيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله كتابٌ مهمٌ يوضح هذه المسألة بعنوان (تنوع أدوار ووحدة هدف).

إشارة: في مناقشة حديث: أصحابي كالنجوم.

ورد في بعض أحاديث العامة أنَّهم رووا عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

ص: 109

واستدلوا به على ضرورة تقديس كلِّ صحابةِ النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وعدم جواز تخطئة أحدٍ منهم، أو القول بمجانبته للصواب، فما مدى صحة هذا الحديث؟

الجواب:

بدايةً وبضميمة ما كان يقوم به بعض الرواة من وضع الروايات على لسان النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم لقاء ملذات دنيا رخيصة يلعقونها من يد حاكمٍ تتصبب يداه من دماء الأبرياء، فإنَّ من الواضح جدًا أنَّ هذا الحديث إنّما وُضِعَ ليثبت كرامةً لمن لا يستحق، إزاء كرامةٍ أثبتها من لا ينطق عن الهوى، لمن هو يستحق وبكلِّ جدارة، أيّ ليقابل الحديث الثابت عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في تشبيهه لأهل بيته علیهم السلام بالنجوم، وقد تكررت بصمات الجريمة ذاتها في حديث «أبو بكر وعمر سيدا شيوخ أهل الجنة»، إزاء حديث مروي عن الصادق الأمين صلی الله علیه وآله وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»؛ بدليل اقتضاء حكمة اللهعزوجل أنْ يقوم نظام الجنة -إن صحَّ التعبير- على اقتصار أهلها على الشباب فقط، وانعدام وجود الشيوخ فيها.

وأما بالنسبة إلى الجواب، فإنَّ هذا الحديث من المحال نسبته إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم؛ للأسباب التالية:

أولًا: لمعارضته الحديث الصحيح الوارد عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم عند كتب الفريقين، فقد روي عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم في صحيح البخاري أنَّه قال: «ألا وإنه يُجاء برجالٍ من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا ربي أصحابي، فيُقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾(1)، فيُقال: إنَّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ

ص: 110


1- المائدة 117

فارقتهم».(1)

ثانيًا: لاستلزامه عصمة جميع أصحابه صلی الله علیه وآله وسلم، حيث إنَّ لفظ: «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» لا تعني إلا أن التمسك بأيٍّ منهم موصلٌ إلى الجنة، على حين أنَّ التاريخ المحرف فضلًا عن الصحيح قد روى قصص اختلافهم إلى حدِّ التقاتل! فكلٌّ من معاوية الذي يعدونه صحابيًا وأمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام قد دخلا في حربٍ طحنت الكثير من النفوس وسفكت فيها الكثير من الدماء، فكيف يمكن أن يكون كلاهما على حقٍ وصوابٍ ويهديان إلى الجنة؟!

بل كيف يمكن للمسلم أن يتمسك بكليهما وهما على طرفي نقيض! فطريقَ من يسلك وبمن يقتدي؟! فما هذا إلا جمع بين متضادين، بل كيف يكون كلاهما على سرر متقابلة في الفردوس وأحدهما قد قاتل بل قتل الآخر!

وقد أخبر النبي صلی الله علیه وآله وسلم صراحةً ببغي فئةٍ من المسلمين من بعده، بقوله صلی الله علیه وآله وسلم: «يا عمار تقتلك الفئة الباغية»(2)، وقد تحقق قتل عمار (رضوان الله عليه) على يد جيش معاوية، فبعد التصريح ببغي معاوية كيف يُعقل أنْ يُقتدى به ويهتدى به إلى الجنة؟!

ثم كيف نؤدي عباداتنا وصلواتنا؟ هل نتكتف أو نُسبل؟ لا سيما أنَّ مذهبًا يقول بوجوبه وآخر يقول ببطلان الصلاة به!

لكلِّ ما تقدّم لا يُمكن نسبة هذا الحديث إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم.

ثالثًا: الحديث المروي حتى وإن كان حقًا قد صدر من الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، فإنّه لا يمكن الاحتجاج به على عدالة جميع الصحابة؛ وذلك لأنَّه ليس بمطلقٍ، إذ لا بد من تقييده بمن لم يغير ولم يبدل، كما روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه سُئِل عن قول النبي صلی الله علیه وآله وسلم:

ص: 111


1- البخاري/ج5/ص191- 192.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 392.

«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، وعن قوله علیه السلام: دعوا لي أصحابي».

فقال علیه السلام: «هذا صحيح، يريد من لم يُغيّر بعده ولم يبدّل».

قيل: وكيف يعلم أنهم قد غيروا أو بدلوا؟

قال: لما يرْوونه من أنه صلی الله علیه وآله وسلم قال: «ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: بعداً وسحقاً لهم. أَفَترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل؟!».(1)

ص: 112


1- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق/ج2/ص 93/ح33.

دلالات حديث المنزلة

اشارة

وهو من الأحاديث المسندة والمتواترة عند الفريقين، فلا ينبغي الكلام في هذه الجهة؛ لأنّها ثابتة ولا مناص من الاعتراف بصدور هذا الحديث من الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم، كل ما في الأمر أنَّه روي بعدة ألفاظ متقاربة جدًا لا تضر بالمعنى العام للحديث الشريف، ومن هذه الألفاظ:

عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبي بعدي».

قال سعيد: فأحببتُ أن أشافه بها سعدًا، فلقيت سعدًا فحدثته بما سمعته من عامر، فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته؟! قال: فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا استُكتا.(1)

و عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فلن أسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه؟ فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحب الله، ورسوله ويحبه الله

ص: 113


1- صحيح مسلم ج7 ص 120.

ورسوله...»(1)

وسأل رجل معاوية عن مسألة فقال: «سل عنها عليّ بن أبي طالب فانّه أعلم، قال له: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحبُّ إليَّ من قول عليِّ بن أبي طالب، فقال: بئس ما قلت، ولَؤُمَ ما جئت به، لقد كرهت رجلاً كان رسول اللهs يُغرُّه بالعلم غرّاً. ولقد قال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي، ولقد كان عمر ابن الخطّاب يسأله فيأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه شيء قال: هاهنا عليّ؟ قم لا أقام الله رِجلَيك. ومحا اسمه من الديوان..».(2)

و عن عبد الله بن عبّاس: «سمعت عمر بن الخطّاب يقول: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ؛ فقد رأيت من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فيه خصالاً لأن تكون لي واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس: كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فانتهيت إلى باب أُمّ سلمة وعليٌّ قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فقال: يخرج إليكم. فخرج رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فسرنا إليه، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبه، ثمّ قال: إنّك مخاصم تخاصم ؛ أنت أوّل المؤمنين إيماناً، وأعلمهم بأيّام الله، وأوفاهم بعهده، وأقسمهم بالسويّة، وأرأفهم بالرعيّة، وأعظمهم رزيّة، وأنت عاضدي، وغاسلي، ودافني، والمتقدّم إلى كلّ شديدة وكريهة، ولن ترجع بعدي كافراً، وأنت تتقدّمني بلواء الحمد، وتذود عن حوضي.

ثمّ قال ابن عبّاس من نفسه: ولقد فاز عليّ بصهر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وبسطةً في العشيرة، وبذلاً للماعون، وعلماً بالتنزيل، وفقهاً للتأويل، ونيلاً للأقران.(3)

ص: 114


1- سنن الترمذي ج5 ص310 - 302
2- مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 51 – 52 ح 53.
3- كنز العمال للمتقي الهندي ج13 ص 116 – 117 ح 36378.

وغيرها من الطرق الكثيرة.

إشكالٌ وجوابه:

وبالرغم من كلِّ ما تقدم، فقد أشكل بعض المنحرفين عن خط أمير المؤمنين علیه السلام عليه، وهو الطريق الذي يسلكه النواصب عادةً، إذ إنهم ما إنْ يُغلق أمامهم طريق الطعن في صحة سند الحديث، حتى يسلكوا طريق إفراغ متن الحديث من محتواه الصحيح ودلالته الحقّة، وقد وقع هذا التعامل مع حديث الغدير، كما وقع مع هذا الحديث أيضًا، حديث المنزلة، وحاصل هذا الإشكال:

عدم دلالة هذا الحديث على أكثر من أن عليًا علیه السلام خليفة للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في حياته فقط دون ما بعد وفاته، أي اقتصار دلالته على أنّ عليًا علیه السلام خليفة للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم في حياته فقط، أي إن هذا الحديث واردٌ في موردٍ خاص، وهو في غزوة تبوك، فلا يشمل ما بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم...

وفي مقام الجواب نقول(1):

إن هذا الكلام باطل؛ للأسباب الآتية:

أولًا: ورود الاستثناء في سياق حديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم دليلٌ واضحٌ على عمومه؛ لأن الاستثناء لا يرد إلا على العام – كما اتفقت على ذلك كلمات النحاة -. ومن ثم فإن نفس كلام الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كان عامًا لا خصوص فيه، فكيف أمكنهم الادعاء بتخصيصه في مورد!

ثم إنّك تلاحظ أن النبي صلی الله علیه وآله وسلم يؤكد دائمًا على جملة «إلا أنَّه لا نبي بعدي»، أي على استثناء خصوص النبوة، ولو كان استخلاف الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام خاصًا بغزوة

ص: 115


1- انظر التفاصيل في المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، المراجعة رقم (30).

تبوك، لما احتاج الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلى التأكيد على هذه المسألة، ونفي النبوة من بعده.

إذن، تأكيد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم على ذلك يدل على عموم استخلاف علي علیه االسلام له صلی الله علیه وآله وسلم، ولكن قطعًا لادعاء النبوة قال تلك الجملة.

ثانيًا: خصوص المورد لا يخصص الوارد، فحتى لو سلَّمنا أنَّ مورد هذا الحديث خاص، ولكن خصوص مورده لا يخرجه عن عمومه!

وهذه القاعدة مسلمة عند العلماء، فلو رأيت أحدًا يريد أن يشرب كأس خمر فقلت له (هذا الخمر حرام شربه)، فهل هذا الحكم خاص بخصوص هذا الكأس، وغيره من الخمر حلال؟! قطعًا لا، وكذا لو رأيت الجنب يمس آية الكرسي مثلاً فقلت له: لا يمسنّ آيات القرآن محدثٌ، أيكون هذا خاصًا بمورده أم عامًا شاملًا لجميع آيات القرآن الكريم، ولكل محدثٍ؟!

وقد وردت الكثير من الأحكام على لسان أهل البيت علیهم السلام جوابًا لأسئلةٍ سُئلوا بها أو تعليقًا على حادثةٍ وقعت أمامهم، ولو كانت قاعدة تخصيص المورد بالوارد لانتفى الاستدلال بها جميعًا، ولما أمكن للعلماء الاستناد عليها في بيان الأحكام الشرعية.

إذن، حتى لو كان هذا الحديث خاصًا بغزوة تبوك، فهذا لا يجعل خلافة أمير المؤمنين علیه السلام خاصة بتلك الغزوة؛ لأنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد.

ثالثًا: ورود الحديث في موارد عديدة وكثيرة

فلو سلّمنا أنَّ المورد (وهو قول النبي صلی الله علیه وآله وسلم هذا الحديث) يُخصص الوارد (وهو استخلاف النبي للإمام (عليهما وآلهما السلام))، فإنَّ هذا الحديث قد ورد في موارد عديدة وكثيرة، ففي قصة مؤاخاة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم:- «والذي بعثني بالحق نبيًا، ما أخّرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى

ص: 116

غير انه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي...».(1)

وفي حديث الدار والإنذار قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ووصيي وخليفتي في أهلي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟»(2)

وفي قضية سدِّ الأبواب قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «وإن عليًا مني بمنزلة هارون من موسى»(3) وغيرها من الموارد الكثيرة.

دلالات حديث المنزلة

اشارة

وفيه فقرتان:

الفقرة الأولى: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى».

الفقرة الثانية: «إلا أنَّه لا نبي بعدي».

الفقرة الأولى: دلالات «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»:
اشارة

تمثل دلالات حديث المنزلة منازل الإمام علي علیه السلام من النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وللتعرف عليها لا بُدَّ من التعرف إلى منازل هارون من موسى علیه السلام والثابتة في القرآن الكريم. لا سيما أنَّ الله عزوجل قد أجاب سؤل موسى علیه السلام.

قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي

ص: 117


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج9 ص 167 ح 25554 و ص 170 ح 25555 و ج13 ص 105 – 106 ح 36345 وغيرها.
2- تفسير فرات الكوفي ص 303.
3- ينابيع المودة للقندوزي ج1 ص 259 باب 16 ح 8.

أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً﴾(1)

المنزلة الأولى: الوزارة.

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي﴾(2)وقال عزوجل ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً﴾.(3)

وفقًا لهاتين الآيتين يكون هارون وزيرًا لموسى، وعليه فيكون عليٌ وزيرًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

والوزير لغةً مشتق من: (الوِزر) بمعنى الثقل، أو قل من: (الوَزَر) بفتحتين بمعنى الجبل الذي يُلتجأ إليه، وبناءً على المعنى الأول إنما سُمي الوزير وزيرًا؛ لأنه يحمل ثقل الملك، وأما بناءً على المعنى الثاني فقد سُمي كذلك؛ لأن الملك يلتجأ إليه في آرائه وأحكامه.

وعليه، فإنَّ طلب موسى علیه السلام من الله عزوجل أن يجعل أخاه هارون وزيرًا له، إنما يدل على معرفته علیه السلام بكثرة وصعوبة وثقل أعباء الرسالة، مما يحتاج إلى من يساعده ويؤازره ويشد أزره؛ لذا قال: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ فموسى علیه السلام طلب أن يكون له من يحمل ثقله ويساعده فيه، وأن يكون له من يساعده في آرائه وأحكامه وأدائه للرسالة، فكان هارون وزيره.

وعلي علیه السلام قد حاز هذه المرتبة والمنزلة أيضًا، فكان وزير الرسول الأعظمs، وقد ورد أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال لابن عباس: «إنَّ أول ما كلمني به [أي الله عزوجل في ليلة الإسراء والمعراج] أنْ قال: يا محمد، انظر تحتك، فنظرت إلى الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب

ص: 118


1- طه 25 – 35.
2- طه 29.
3- الفرقان 35.

السماء قد فُتحت، ونظرت إلى علي وهو رافع رأسه إليّ، فكلمني وكلمته، وكلمني ربي عزوجل.

فقلت (أي ابن عباس): يا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، بمَ كلمك ربك؟

قالs: قال لي: يا محمد، إنّي جعلته وصيُّك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فأعلمه».(1)

وقد قال صلی الله علیه وآله وسلم لعلي علیه السلام: «إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ..».(2)

المنزلة الثانية: الأخوّة وشدِّ الأزر.

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ فأجابه الله عزوجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً﴾(3)

لا بُدَّ من التنويه أولًا إلى أنَّ الأنبياء أعلى وأرقى من التقيّد بالقيود المادية، فهم ينظرون إلى الروابط من منظارٍ روحي عقائدي، وعليه، فإنَّ الأخوة هنا لا تُقصر على المعنى النسبي المادي المعروف؛ فقد اتخذ صلی الله علیه وآله وسلم أبا لهب عدوًا رغم قرابته، وسلمان المحمدي من أهله رغم أنه غريبٌ، ومن ثم فإنَّ الرسول الأعظمs لم يتخذ الإمام علي علیه السلام أخًا لأجل قرابته فحسب، كما أنَّ موسى علیه السلام لم يتخذ هارون علیه السلام أخًا بناءً على إخوته النسبية فحسب، بل لأجل قوله عزوجل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(4)، أيّ لأجل الإخوة الإيمانية، وهكذا

ص: 119


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي ص 141 – 142 و الأملي للشيخ الطوسي ص 104 – 105 ح 161/ 15.
2- نهج البلاغة ج2 ص 158.
3- الفرقان 35.
4- الحجرات 10.

جاء جوابه عزوجل بالتأكيد على أنَّ هارون أخوه ﴿وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ﴾.

وهكذا علي علیه السلام كان أخًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بالإخوة الإيمانية، فضلًا عن كونه ابن عمه، وقد أكد هذا المعنى رسول اللهs عندما آخى بينه وبين علي علیه السلام ولعدة مراتٍ، القدرُ المتيقن منها مرتان، وذكر حديث المنزلة، كما تقدم قبل قليل.

ولقد أكّد أمير المؤمنين علیه السلام على الصلة الوثيقة بينه وبين الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حينما قال: «وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه صلی الله علیه وآله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه صلی الله علیه وآله وسلم، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ صلی الله علیه وآله وسلم: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ»(1)

وكما أنَّ هارون علیه السلام قد شدّ أزر موسى علیه السلام، فكذا أمير المؤمنين علیه السلام قد شدّ أزر النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وبذل مهجته فيه في كل المواطن، ليلة بات على فراشه، ويوم أحد إذ تركه المسلمون، وغيرها من المواقف الكثيرة التي شهد التاريخ بها.

ص: 120


1- نهج البلاغة ج2 ص 157 - 158.
المنزلة الثالثة: الإشراك في الأمر.

وكان مما طلبه النبي موسى علیه السلام أنْ يُشرك اللهُ عزوجل أخاه هارون معه في أمره، قال عزوجل حكايةً عنه ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾.

ولا شك أنَّ أمر موسى علیه السلام لم يكن سوى الرسالة والتبليغ الإلهي وهداية الناس، وقد أجاب الله عزوجل نبيه موسى إلى ذلك، فقال عزوجل: ﴿قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسىٰ﴾(1) ولذا فقد أرسلهما كليهما ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ وَهارُونَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾.(2)

وقال سبحانه و تعالی: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسىٰ وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾.(3)

وقد ثبتت هذه المنزلة لأمير المؤمنين علیه السلام بدلالة حديث المنزلة، ولا يعني هذا أنَّ عليًا علیه السلام نبيٌ، كلا، إذ لا نبيَّ بعد نبيِّ الإسلام، ولكنّه يعني أنّه علیه السلام كان شريكَ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم في تبليغ الرسالة الإلهية، ولذا قال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عندما خرج لغزوة تبوك: «إنه بد من أن أقيم أو تقيم».(4)

ولذا أرسل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علياً8 وراء أبي بكر ليأخذ منه سورة براءة ويبلغها هو علیه السلام دونه، وقال له رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حين بعثه: «لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه».(5)كما في حديثٍ لابن عباس.

وفي رواية أخرى قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «... ولكن جبرائيل جاء فقال: لن يؤدي

ص: 121


1- طه 36.
2- يونس 75.
3- المؤمنون 45.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص 24.
5- مسند أحمد ج1 ص 331.

عنك إلا أنت أو رجل منك».(1)

فكما كان هارون الناطق الرسمي والمبلغ لموسى علیه السلام: ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلىٰ هارُونَ﴾(2)،

﴿وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي﴾.(3)

كذلك كان الإمام علي علیه السلام هو المبلغ الوحيد عن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم؛ بدليل تبليغ سورة براءة الذي تقدّم، علاوةً على ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال له علیه السلام: (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي).(4)

ومن هنا نجد أنَّ القرآن الكريم لم يعتبر تبليغ الإسلام كاملًا إلا عندما بلّغ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الناس بإمامة علي علیه السلام، يوم غدير خم، ولمّا أتم التبليغ نزل قوله عزوجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾.(5)

فلم يكن هذا كله إلا لأنَّ عليًا علیه السلام كان شريكًا للرسول الكريم محمد صلی الله علیه وآله وسلم في أمر الرسالة وتبليغها.

إشارة: معنى العقدة في لسان النبي موسى علیه السلام:

قيل: إنّ النبي موسى علیه السلام إنما قال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾؛ لأنه كان في حجر فرعون ومدَّ يده على لحيته ثم سحبها، فقال فرعون: إنَّه اسرائيلي، وخشي أنْ يقتله، فقالوا له: إنَّه طفل لا يفهم، فقال لهم: ما الدليل على ذلك؟ فقربوا إليه جمرة وحلاوة، فمدَّ يده على الجمرة ووضعها في فمه، فصار في لسانه (رتة لا يفصح معها بالحروف شبه

ص: 122


1- مسند أحمد ج1 ص 151.
2- الشعراء 13.
3- القصص 34.
4- تاريخ ابن عساكر ج42 ص 387.
5- المائدة 3.

التمتمة)»(1)

ويمكن النقاش في هذه الدعوى؛ لأنَّ الأنبياء علیهم السلام كاملون في جميع الجهات وعلى مختلف الأصعدة، وأما العقدة التي ذكرها النبي صلی الله علیه وآله وسلم فهي النعمة التي تربى فيها في بيت فرعون فلا يستطيع أنْ يُحاجّهم ويُكلمهم؛ لأنهم سرعان ما سيعيرونه بإقامته عندهم لسنين من عمره المبارك، وفعلًا هذا ما قد حصل على ما حكاه قوله عزوجل: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ* قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.(2)مما يعني أنَّ النبي موسى علیه السلام كان ملتفتًا إلى هذه القضية.

المنزلة الرابعة: الخلافة:

قال عزوجل : ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.(3)

تصرح هذه الآية بأنَّ هارون علیه السلام كان خليفةً لموسى عزوجل حين ذهب إلى الميقات، فهو خليفته.

ولا يقال: إنَّ المورد خاص، حيث إنَّ خلافة هارون كانت عندما ذهب موسى للميقات فقط.

لأننا نقول: تقدّم أن خصوص المورد لا يخصص الوارد، فراجع التفصيل.

وبمقتضى حديث المنزلة قد ثبتت هذه المنزلة للإمام علي علیه السلام، أيّ إنَّه خليفة للرسول الأعظمs بلا فصلٍ.

ص: 123


1- مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج7 ص 18 – 19 عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي.
2- الشعراء 16 – 19.
3- الأعراف 142.

وهذا من الأمور المختلف فيها بين المدرستين، فعلى الرغم من اتفاقهما على أنَّ الإمام علي علیه السلام خليفةٌ للمسلمين، إلا أن الخلاف وقع في كون خلافته بلا فصلٍ كما تذهب إلى ذلك الإمامية وهو الحق بدلالة حديث المنزلة وغيره من الأحاديث، أو كون خلافته تأتي بعد الفصل بينها وبين الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بثلاثة خلفاء؟

إنّ حديث المنزلة مطلقٌ، فيدل ويقتضي أن يكون8 خليفةً للرسولs مباشرة وبلا فصل، فعندما يقول الرسول الأعظمs بأنَّ عليًا منه بمنزلة هارون من موسى، وكانت تلك المنزلة هي الخلافة، فإطلاق ذلك الكلام يدلُّ على أنّه علیه السلام خليفته صلی الله علیه وآله وسلم مباشرةً وبلا فصل.

وحينئذٍ يكون كلُّ من تجرأ وغصب ذلك المنصب ظاهرًا بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مباشرة قد عصى الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم؛ لأنَّ نص ذلك الحديث دال على أنَّ عليًا علیه السلام هو الوحيد الذي يكون خليفةً للرسول صلی الله علیه وآله وسلم مباشرةً وبلا فصل.

المنزلة الخامسة: التصديق:

قال عزوجل حكاية عن موسى علیه السلام: ﴿وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾(1)

إن موسى علیه السلام طلب من الله عزوجل أنْ يكونَ معه أخوه هارون ردءًا أي معينًا، ويُصدِّقه ببيان الحجة ورفع الشبهة، وقد أجابه الله عزوجل بقوله عزوجل: ﴿قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ﴾.(2)

وقد حاز هذه المنزلة أميرُ المؤمنين علیه السلام، فقد كان الردء والمعين للرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وكان هو قاضي دَينه ومنجز عداته من بعده، وقد كان أول من صدّق الرسول

ص: 124


1- القصص 34.
2- القصص 35.

الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، روي عن أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنَّ أمتي عُرضت عليّ عند الميثاق، وكان أول من آمن بي وصدّقني علي، وكان أول من آمن بي وصدّقني حين بُعثتُ، فهو الصدّيق الأكبر».(1)

بل قد روي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، قال: «مكتوب على العرش: أنا الله لا إله إلا أنا، وحدي لا شريك لي، ومحمد عبدي ورسولي، أيدته بعلي. فأنزل الله عزوجل ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾(2)فكان النصر علياً علیه السلام، ودخل مع المؤمنين، فدخل في الوجهين جميعا (صلى الله عليه)».(3)

لقد كان علیه السلام ردءًا للرسول صلی الله علیه وآله وسلم عندما بات على فراشه، وحينما صدع بالدعوة فأجابه في حديث الدار، وعندما تركه الجميع في أحد، وعندما تركه الجميع عند وفاته وتغسيله وتكفينه إلا القليل من خُلّص الصحابة كابن عباس، كما صدّق أمير المؤمنين علیه السلام رسول اللهs في جميع أقواله وأفعاله ودافع عنها بالحجة والبيان والبنان، وصدّقه في إسرائه ومعراجه؛ ولذا قال فيه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لكلِّ أمة صدّيق وفاروق، وصدّيق هذه الأمة وفاروقها علي بن أبي طالب».(4)

ولا غرو في ذلك ما دام عليٌ من الرسول (عليهما وآلهما السلام) بمنزلة هارون من موسى علیه السلام.

ومن اللطيف، أنَّ الله عزوجل عندما أجاب موسى علیه السلام فإنه عزوجل قد جعل السلطان لهما معًا، وجعل الغلبة لهما كليهما ولمن اتبعهما كليهما، وهكذا الحال مع الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأمير

ص: 125


1- مختصر بصائر الدرجات/ حسن بن سليمان الحلي ص 165. وبصائر الدرجات للصفار ص 103 باب 14 ح3.
2- الأنفال 62.
3- أمالي الشيخ الصدوق ص 284 ح 312/ 3.
4- عيون أخبار الرضا8 للشيخ الصدوق ج2 ص 17 ح 30.

المؤمنين علیه السلام، فإن السلطان والغلبة لهما كليهما، والنجاة إنما تكون باتباعهما كليهما؛ ولذا قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك».(1)

وسيأتي إنْ شاء الله عزوجل ما يؤيد هذا المطلب.

وقد قال تعالى في شأن موسى وهارون علیهما السلام: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلىٰ مُوسىٰ وَهارُونَ* وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ﴾.(2)

وكذا الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام.

المنزلة السادسة: إتيان الكتاب:

قال عزوجل متكلمًا عن موسى وهارون ﴿وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ﴾.(3)

إنَّ الكتاب -الذي هو التوراة- قد آتاه الله عزوجل لكلٍ من موسى وهارون علیهما السلام، ذلك الكتاب الذي «يستبين المجهولات الخفية فيبينها، وهي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم وأخرتهم...»(4)،

ذلك الكتاب قد أنزل على موسى علیه السلام وكان هارون المطبق الأول له، والناطق الرسمي.

وهكذا أمير المؤمنين علیه السلام، فلقد كان الكتاب الناطق الذي نطق بالكتاب الصامت الذي نزل على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو القرآن الكريم.

أضف إلى ذلك فإنّه هو المحامي عنه والحافظ له بعد الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إذ قاتل على تأويله، كما سبقه صلی الله علیه وآله وسلم بالقتال على تنزيله. فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوسًا ننظر إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله فرمى به إلى علي علیه السلام

ص: 126


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 151 باب الحب ح 71.
2- الصافات 114 – 116.
3- الصافات 117.
4- تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج17 ص 157.

فقال: إنَّ منكم رجلًا يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله. قال أبو بكر: أنا؟ قال: لا قال عمر: أنا؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل.

قال: فأتينا علياً نبشره بذلك، فكأنه لم يرفع به رأساً، وكأنه قد سمعه قبل».(1)

فعليٌ علیه السلام هو القرآن الناطق، والمقاتل على تأويله.

وقد ارتبط القرآن الكريم بعلي علیه السلام ارتباطًا وثيقًا كما ارتبط برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهذا ما أكده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كثيرًا خصوصًا في حديث الثقلين المشهور والمتواتر: «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

من هنا تجد أن الإمام الصادق علیه السلام يؤكد هذه العلاقة، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام: «إن الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن، وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن، وبها نوهت الكتب ويستبين الايمان، وقد أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أن يقتدى بالقرآن وآل محمد، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: انى تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي؛ فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما».(2)

المنزلة السابعة: الهداية:

يقول عزوجل متعرضًا للنعم التي وهبها لموسى وهارون علیهما السلام : ﴿وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.(3)

لقد هُدي موسى وهارون علیهما السلام إلى الصراط المستقيم، ذاك الصراط الذي ورد

ص: 127


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 254 حديث النعل 458/ 50.
2- تفسير العياشي ج1 ص 5 ح 9.
3- الصافات 118.

في سورة الفاتحة ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(1)

فالصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي قضية موسى وهارون علیهما السلام، فإن الله عزوجل هداهما إلى ذلك الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى الحق...

والمُراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، ولذا خصها بهما ولم يشرك فيها معهما قومهما، وهكذا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام قد هُديا إلى الصراط المستقيم، إذ هما من أنعم الله عليهما، وهذه الهداية خاصة بهما دون سائر الأمة.

إذن، الصراط المستقيم هو الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیهم السلام.

روى الثعلبي في تفسير ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قال: قال مسلم بن حيان: سمعت أبا بريده يقول: صراط محمد وآل محمد.(2)

وهم الهُداة إليه، قال عزوجل: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(3)

وبعد أنْ بيّن الله عزوجلف من هم الصراط المستقيم الذين يدعون المؤمنين لاتباعه، أمر المؤمنين باتباع هذا الصراط: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ معتبراً إياه وصيته لنوع الإنسان ﴿ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(4)

وما أمره سبحانه تعالی باتباع الصراط إلا أمره باتباعهم وطاعتهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)

ص: 128


1- الفاتحة 6 – 7.
2- الطرائف في معرفة مذهب الطوائف للسيد بن طاووس ص 131 ح 204.
3- المؤمنون 73.
4- الأنعام 153.

والهداية إلى الصراط المستقيم أمرٌ لا يوفق إليه إلا من آمن بالله واعتصم به، قال سبحانه تعالی: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾(1)وقال عزوجل أيضًا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾.(2)

وقال سبحانه تعالی: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(3)

وغيرها من الآيات الكثير.

ولأنَّ طاعتهم هي سبيل النجاة، فقد حرص الشيطان أنْ يحول دون وصول المؤمنين إليها جهد إمكانه؛ لأجل غوايتهم وإضلالهم؛ ولذا ﴿قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾.(4)

فإنه – أي الشيطان – إنما يقعد أولًا على الصراط المستقيم ليغوي الناس بإبعادهم عن خط أهل البيت علیهم السلام وعن طاعتهم، فإن استطاع ذلك سَهُل عليه حينئذٍ إتيانهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم؛ ولذا فقد وصف الله عزوجل الذين لم يؤمنوا بصراط النبي صلی الله علیه وآله وسلم بأنهم ناكبون عنه في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ﴾.(5)

كما وصفهم بأنهم غاوون في قوله عزوجل: ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي

ص: 129


1- النساء 175.
2- النساء 66 – 68.
3- آل عمران 101.
4- الأعراف 16 – 17.
5- المؤمنون 73 – 74.

لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ﴾.(1)

ومن الجدير بالذكر، أنّ البحث عن الصراط المستقيم في الكتاب والسنة بحثٌ طويل الذيل، وإنما ذكرنا هنا ما يتعلق بموضوعنا، ولابد من الالتفات إلى أنَّ التمسك بالصراط المستقيم في الدنيا يعني الجواز على الصراط في يوم القيامة وبنفس الشروط، ولذا ورد عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم، قال: «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنم لم يجز عليه إلا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله عزوجل: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾(2)يعني عن ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام».(3)

كما روي في قوله عزوجل: ﴿يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾(4)أنّ الإمام أبا جعفر الباقر علیه السلام قال في تفسيره: «يا ليتني اتخذت مع الرسول عليًا».(5)

و عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «سألته عن قول الله عزجل ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾(6)؟قال علیه السلام: هو والله عليٌّ، الميزان والصراط».(7)

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(8)سألت الله أن يجعلها لعلي ففعل.(9)

نسأل الله عزوجل أنْ يجعلنا من المتمسكين بالصراط المستقيم، صراط محمد وعلي (صلى

ص: 130


1- الحجر 41 – 42.
2- الصافات 24.
3- الأمالي للشيخ الطوسي ص 290 ح 564/ 11.
4- الفرقان 27.
5- تفسير القمي ج2 ص 113.
6- الأنعام 153.
7- بصائر الدرجات للصفار ص 99 باب 11 ح 9.
8- الأنعام 153.
9- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 106.

الله عليهما وآلهما) الذي هو الإسلام الحقيقي.

المنزلة الثامنة: السلام:

قال عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَهارُونَQ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾.(1)

وفي هذه الآيات يصف الله عزوجل نبيه موسى وهارون علیهما السلام بعدة صفات:

1/ السلام عليهما من الله عزوجل:

وهو رمزٌ لسلامة الدين والإيمان والرسالة والاعتقاد والمذهب، السلام الذي يوضح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وكذلك سلّم الله عزوجل على محمد وعلي (صلوات الله عليهما) في قوله عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ إِلْ ياسِينَ﴾.(2)

وقرأ ابن عامر ونافع ورويس عن يعقوب: «آل يس».(3)

وهذا يعني «محمداً وآل محمد».

كما روي «في المعاني بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي علیهم السلام في قول الله عزوجل: ﴿سَلامٌ عَلىٰ إِلْ ياسِينَ﴾ قال: يس محمد صلی الله علیه وآله وسلم، ونحن آل ياسين».(4)

وعليٌ هو أول آل محمد، فيكون عزوجل قد سلّم على محمد صلی الله علیه وآله وسلم وعلي علیه السلام كما سلّم على موسى وهارون علیهم السلام.

ص: 131


1- الصافات 120 – 122.
2- الصافات 130.
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج8 ص 328.
4- أمالي الشيخ الصدوق ص 558 ح 743/ 1.

فإنْ أبى البيان المتقدم مَن في قلبه مرض، فإنَّ قوله عزوجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(1)واضحٌ وضوح الشمس، إذ أمر الله عزوجل بالصلاة على محمد والتسليم له صلی الله علیه وآله وسلم، وقد روي عن كعب بن عجزة: «خرج علينا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله، كيف السلام عليك، كيف الصلاة عليك؟ قال صلی الله علیه وآله وسلم: قولوا: اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد».(2)

فيتحصل أنًّ الصلاة الصحيحة هي التي تضم إلى محمدٍ آلَه (صلوات الله عليهم أجمعين)، وعليٌ علیه السلام هو أول آله كما هو معلوم.

2/ أنهما من المحسنين:

نستفيد من الآيات المباركة المتقدمة أنَّ موسى وهارون علیهما السلام من المحسنين، ثم ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(3)، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(4)بل ﴿وَإِنَّ اللهَ لَمَع الْمُحْسِنِينَ﴾(5)

وهل يشكُ منصفٌ في أنَّ محمدًا وعليًا علیهم السلام أول المحسنين؟!

أضف إلى ذلك: فقد ثبت أنهما من المحسنين بمقتضى حديث المنزلة، وبمقتضى أنَّ أفضل الأنبياء والمرسلين هو محمد صلی الله علیه وآله وسلم فيكون من المحسنين وبلا ريب، وأمير المؤمنين علیه السلام هو نفسه بنص القرآن الكريم –كما في آية المباهلة- فيكون كذلك، علاوةً

ص: 132


1- الأحزاب 56.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 322- 323.
3- البقرة 195.
4- الأعراف 56.
5- العنكبوت 69.

على أنَّ منزلته من الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هي بمنزلة هارون من موسى.

3/ أنهما من المؤمنين:

فكذلك محمد وعلي (صلوات الله عليهما وآلهما)، وقد روي أنه قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إن الله أوحى إليّ في علي ثلاثة أشياء ليلة أُسريَ بي: أنه سيد المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين».(1)

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: ما أنزل الله آية (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعليٌّ أميرها وشريفها.(2)

المنزلة التاسعة: الإصلاح:

كان من وصية موسى علیه السلام لهارون أن قال له ﴿وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.(3)

فكان المصلح من بعد موسى هو هارون علیه السلام.

وكذلك كان أمير المؤمنين علیه السلام هو مصلح هذه الأمة، ولذا فهو الذي قاتل على تأويل القرآن كما تقدمت الأحاديث في ذلك.

هذا مجمل ما ذكره القرآن الكريم من منازل كانت لهارون من موسى علیه السلام، والتي أثبتها حديث المنزلة لعلي من محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وليس ما ذكرناه هو كلّ الأوجه، فربما يستطيع أحدٌ أن يستخرج أكثر مما ذكرناه هنا.

أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام.

وتتميمًا للفائدة، نذكر فيما يلي بعض أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام مما بان على

ص: 133


1- مجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 121.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 104.
3- الأعراف 142.

الواقع الخارجي، لتؤكد تلك الأوجه أن منزلة علي علیه السلام من الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هي نفسها منزلة هارون من موسى علیه السلام.

1/ خيانة الأمة والاستضعاف.

إن القرآن الكريم يحدثنا عن قوم موسى علیه السلام وكيف خانوه ولم يطيعوا وصيته في جعل هارون علیه السلام خليفةً عليهم عندما ذهب إلى الميقات، وكيف أنهم عبدوا العجل، وأن هارون علیه السلام اعتذر لموسى علیه السلام بأنه بقي ملتزمًا بوصيته له، ولم يرد أن يفرّق بين بني إسرائيل، قال عزوجل: ﴿وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسىٰ* قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾.(1)

بل إن بني إسرائيل قد هدّدوا هارون بالقتل إن اعترض، وكان هذا أيضًا يمثل عذرًا لهارون، وهذا ما ينقله القرآن الكريم: ﴿قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾.(2)

وما حصل لهارون علیه السلام بعد غياب موسى علیه السلام، هو بعينه قد حصل لأمير المؤمنين علیه السلام بعد غياب الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فكلِّ المسلمين يعلمون أنه صلی الله علیه وآله وسلم جعل الخلافة لعلي علیه السلام، وكلهم يعلمون أن لا أحد يستطيع تحمّل ذلك المنصب سواه علیه السلام، ومع ذلك فقد أقدموا على غصب هذا الحق منه وجعلوه في غير أهله، فقد روي عن أبي عمر خطبة خطبها الحسن بن علي علیه السلام في الناس بحضور معاوية قال علیه السلام:«فقد تركت بنو إسرائيل هارون، وهم يعلمون انه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري، وقد تركت هذه الأمة

ص: 134


1- طه 90 – 94.
2- الأعراف 150.

أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا النبوة»...».(1)

ولم يكن يمنع عليًا أن يقوم ليأخذ حقه -كما لم يكن يمنعه ذلك حين منع الظالمون الزهراء علیها السلام فدكاً، ولم يكن يمنعه حين قادوه بجنادل سيفه، ولم...- إلا ما أوصاه به الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأن لا يشق عصا المسلمين، و أن يُقدم المصلحة العليا للإسلام على مصالحه الشخصية.

ولقد أوضح كل هذا في خطبة له علیه السلام وهي المعروفة بالشقشقية: «أَمَا والله، لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ، وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً..».(2)

وورد: وإن أبا بكر... تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له يا أبا حفص. إن فيها فاطمة؟فقال وإنْ!

فخرجوا فبايعوا إلا علياً، فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم جنازة بين أيدينا، وقطعتم

ص: 135


1- حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني ج2 ص 80.
2- نهج البلاغة ج1 ص 30 – 31.

أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفد وهو مولى له: اذهب فادع لي علياً، قال فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك؟ فقال يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلاً. فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفد: عد إليه، فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفد، فأدى ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله! لقد ادعى ما ليس له، فرجع قنفد، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلا، ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبتِ، يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، فقال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يصيح ويبكي، وينادي: يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني».(1)

2/ ما أُحل لهارون وعلي علیهما السلام.

ويتلخص هذا الوجه بقضية سد الأبواب، فلقد أوضحت الأحاديث الشريفة هذا المعنى بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، وبما يؤكد عموم المشابهة بين هارون وعلي علیهما السلام، فقد روي عن أبي رافع قال: إن رسول صلی الله علیه وآله وسلم خطب الناس فقال: «يا أيها الناس، ان الله عزوجل أمر

ص: 136


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 19 – 20.

موسى وهارون أن يبنيا لقومها بمصر بيوتاً، وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جُنُبٌ، ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته، وإنعليا علیه السلام مني بمنزلة هارون من موسى، فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جُنُبٌ إلا علي وذريته، فمن ساءه ذلك فهاهنا. وضرب بيده نحو الشام».(1)

وعن محمد و عبد الرحمن ابني جابر [عن أبيهما] قال: «كنا نياماً في المسجد وفينا علي بن أبي طالب، فخرج علينا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال: أتنامون في مسجدي؟ إنه لا يُنام في مسجدي قال: فخرجنا وخرج عليٌّ معنا، قال صلی الله علیه وآله وسلم: إلا أنت يا عليّ، أنت ليس كهيئتهم، إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي».(2)

وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: «يا علي، لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك».(3)

وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: أمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بسد الأبواب إلا باب عليّ، قالوا: يا رسول الله، سددت الأبواب كلها إلا باب علي؟ فقال: ما أنا سددت أبوابكم، ولكن الله سدّها.(4)

وعن زيد بن أرقم قال: «كان لنفر من أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد. قال: فقال يوماً: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي. قال: فتكلم في ذلك الناس. قال: فقام رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فحمد الله تعالى وأنثى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أُمرتُ بسدّ هذه الأبواب إلا باب عليّ، وقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددْت شيئاً ولا فتحتُه، ولكني أُمرتُ بشيء فاتبعته».(5)

ص: 137


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 202.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج2 ص 46 ح 960.
3- سير أعلام النبلاء للذهبي ج13 ص 272.
4- المعجم الأوسط للطبراني ج4 ص 186
5- مسند أحمد ج4 ص 369.

3/ أسماء أولادهما.

عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين علیهم السلام، قال: «لما ولدت فاطمة الحسن علیه السلام، قالت لعلي علیه السلام: سمِّهْ. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فأخرج إليه في خرقة صفراء، فقال: ألم أنهكم أن تلفوه في [ خرقة] صفراء، ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها، ثم قال لعلي علیه السلام: هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه؟ فقال صلی الله علیه وآله وسلم: وما كنت لأسبق باسمه ربي عزوجل، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط واقرئه السلام وهنئه، وقل له: إن عليا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. فهبط جبرئيل علیه السلام فهنأه من الله عزوجل، ثم قال: إن الله عزوجل يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسن، فسماه الحسن.

فلما ولد الحسين علیه السلام أوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط إليه وهنئه، وقل له: إن عليا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. قال: فهبط جبرئيل فهنأه من الله تبارك وتعالى، ثم قال: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون. قال: وما اسمه؟ قال: شبير. قال: لساني عربي. قال: سمه الحسين، فسماه الحسين.(1)

وقد روي أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «إنما سميتهم بأسماء ولد هارون: شبر وشبير ومشبر».(2)

كل ذلك تحقيقًا منه صلی الله علیه وآله وسلم وتأكيدًا للمشابهة بين الهارونين: هارون وعلي علیهما السلام. ونعم الشبه بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون.

ص: 138


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 197 ح 209/ 3.
2- مسند أحمد ج1 ص 98.

4/ المحنة المشتركة:

وقد ورد في زيارة أمير المؤمنين علیه السلام المطولة ليوم الغدير التصريح بوجه شبه آخر جاء في هذه الزيارة، وهذا نصه: «ثُمَّ مِحْنَتُكَ يَوْمَ صِفِّينَ وَقَدْ رُفِعَتِ المَصاحِفُ حِيلَةً وَمَكْراً فَأَعْرَضَ الشَّكُّ وَعُرِفَ الحَقُّ وَاتُّبَعَ الظَّنُّ أَشْبَهْتْ مِحْنَةَ هارُونَ إِذْ أَمَّرَهُ مُوسى عَلى قَوْمِهِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَهارُونُ يُنادِي بِهِمْ وَيَقُولُ: ﴿يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى﴾، وَكذلِكَ أَنْتَ لَمَّا رُفِعَتِ المَصاحِفُ قُلْتَ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِها وَخُدِعْتُمْ فَعَصَوكَ، وَخالَفُوا عَلَيْكَ وَاسْتَدْعَوا نَصْبَ الحَكَمَيْنِ فَأَبَيْتَ عَلَيْهِمْ وَتَبَرَّأْتَ إِلى الله مِنْ فِعْلِهِمْ وَفَوَّضْتَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَسْفَرَ الحَقُّ وَسَفِهَ المُنْكَرُ وَاعْتَرَفُوا».(1)

الفقرة الثانية: (إلا أنه لا نبي بعدي).
اشارة

قد استدرك بهذه العبارة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كلامه السابق عليها، فبعد أن أثبت لعلي علیه السلام جميع منازل هارون من موسى علیهما السلام ، قال كلمته «إلا أنه لا نبي بعدي».

وفي الحقيقة، يمكن استخراج حقيقتين من هذه الكلمة، وربما يأتي من يستخرج حقائق أكثر:

الحقيقة الأولى: ختم النبوة به صلی الله علیه وآله وسلم.

وهذا ما قطع الطريق على كل من تسول له نفسه ادّعاء النبوة بعده، فهذا علي علیه السلام على عظمته وعلى ما حازه من المنازل العظيمة، إلا أنه ليس بنبي، بل لا نبي بعد نبي الإسلام. وبهذا قطع الطريق على أمثال مسيلمة الكذاب، ذاك الذي كتب إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد، فإني قد أُشرِكتُ في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريش

ص: 139


1- المزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص 279.

قوم يعتدون..».

فلمّا جاء الكتاب، كتب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».(1)

وهكذا ليقطع الطريق على أمثال (طليحة بن خويلد الأسدي) و(سجاح بنت الحارث بنت سويد التميمية). ويروى أن أمرها قد أخاف مسيلمة، فاجتمعا وعرض عليها أن يتزوجا وقال: «هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب؟» فأجابته، وانصرفت إلى قومها فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته.(2)

وفي الحقيقة، لم تكن نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!

وهكذا ليقطع الطريق على أمثال الأسود العنسي.

على أن القرآن الكريم قد أوضح هذه الحقيقة في صريح آياته، قال~: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾.(3)

الحقيقة الثانية: خلافة الإمام علیه السلام خلافة وصاية بلا نبوة.

وهي أن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أراد أن يبين للأمة أن خلافته ليست كخلافة الأنبياء من قبله، إذ كان خلفاء الأنبياء أنبياء أيضًا، وأما خلفاؤهs فهم أوصياء لا أنبياء، يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله:

والإمامة ظاهرة ربانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتخذت شكلين ربانيين:

ص: 140


1- البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص 62 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص 686.
2- تاريخ الطبري ج2 ص 499.
3- الأحزاب 40

أحدهما: شكل النبوة التابعة لرسالة النبي القائد، فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يُكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها، وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمة بمعنى أنهم أوصياء على الرسالة وليسوا أصحاب رسالة، ﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ * وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾(1)وقال عزوجل: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾.(2)

والشكل الآخر: هو الوصاية بدون نبوة، وهذا هو الشكل الذي اتخذه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بأمر من الله عزوجل، فعيّن أوصياءه الاثني عشر من أئمة أهل البيت علیهم السلام، ونصّ على وصيه المباشر بعده علي بن أبي طالب في أعظم ملأٍ من المسلمين...

... ويلاحظ في تاريخ العمل الرباني على الأرض: أن الوصاية كانت تعطى غالبًا لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطًا نسبيًا أو لذريته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم تتفق فقط في أوصياء النبي محمد صلی الله علیه وآله وسلم، بل اتفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل. قال الله (سبحانه وتعالى): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ﴾ [الحديد 26] وقال: ﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ..﴾. [الأنعام 84]

فاختيار الوصي كان يتم عادة من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة ولم يروا النور إلا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساسا للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الإطار السليم

ص: 141


1- الأنبياء 72- 73.
2- لقمان 24.

لتربية الوصي وإعداده للقيام بدوره الرباني. وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الإطار فلا أثر لها في حساب السماء، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.(1)

ولذلك تجد أنَّ الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم كثيراً ما كان يعبر عن أمير المؤمنين علیه السلام بالوصي.

روي عن ابن عمر قال: «مرّ سلمان الفارسي وهو يريد أن يعود رجلاً ونحن في حلقة، وفينا رجل يقول: لو شئتُ لأنبأتكم بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وأفضل من هذين الرجلين (أبي بكر وعمر)، فسُئل سلمان فقال: أما والله، لو شئتُ لأنبأتكم بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وأفضل من هذين الرجلين (أبي بكر وعمر) ثم مضى، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما قلت؟ قال: دخلت على رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو في غمرات الموت فقلت: يا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، هل أوصيت؟ قال: يا سلمان، أتدري من الأوصياء؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن آدم كان وصيه شيث، وكان أفضل من تركه من بعده من ولده. وكان وصي نوح سام، وكان أفضل من تركه من بعده. وكان وصي موسى يوشع، وكان أفضل من تركه بعده. وكان وصي سليمان آصف بن برخيا، وكان أفضل من تركه بعده. وإني أوصيت إلى علي، وهو أفضل من أتركه بعدي».(2)

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لكلِّ نبيِّ وَصِيُّ ووارث وإنَّ وَصِيِّي ووارثي عليُّ بن أبي طالب».(3)

ص: 142


1- الإمامة وأهل البيت علیهم السلام النظرية والاستدلال، السيد محمد باقر الحكيم، ص 60 عن الإسلام يقود الحياة: 157.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي ج1 ص 389 ح 311.
3- مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام لابن المغازلي ص 167 ح 212.

إشارات في عبارة الكتاب

الإشارة الأولى

هم الشهداء على الناس

قال رحمه الله: «وأنّهم الشهداء على الناس».

ورد في بعض الروايات الشريفة أنهم (سلام الله عليهم) هم الشهداء على الناس تفسيرًا لبعض الآيات المباركة، فقد ورد عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام فِي قَوْلِ الله عزوجل: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً﴾(1)قَالَ:«نَزَلَتْ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله وسلم خَاصَّةً، فِي كُلِّ قَرْنٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ مِنَّا شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ، ومُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله وسلم شَاهِدٌ عَلَيْنَا».(2)

فقد فسّر الإمام الصادق علیه السلام هذه الآية بأنَّها نزلت بخصوص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، وأنَّ الشهداء الذين سيأتون من بعده هم أهل البيت علیهم السلام والنبي صلی الله علیه و آله وسلم سيكون شهيدًا عليهم. وواضحٌ أنَّ المراد من الشهادة هو ما يسمى في العرف بالتزكية، أي الشهادة بأن الشخص كان مطيعًا وممتثلًا لأوامر الله عزوجل أو لا.

الإشارة الثانية

هم أبواب الله

وقد ورد هذا المعنى في رواياتٍ عديدة منها، ما روي عن الأصبغ بن نباتة، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: «معاشر الناس، اعلموا أن الله تعالى جعل لكم باباً من دخله أمن من النار ومن الفزع الأكبر.

ص: 143


1- النساء: 41.
2- الكافي للكليني ج1 ص 290 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ شُهَدَاءُ الله عزوجل عَلَى خَلْقِه ح1.

فقام إليه أبو سعيد الخدري، فقال: يا رسول الله، اهدنا إلى هذا الباب حتى نعرفه.

قال صلی الله علیه و آله وسلم: هو علي بن أبي طالب، سيد الوصيين، وأمير المؤمنين، وأخو رسول رب العالمين، وخليفة الله على الناس أجمعين.

معاشر الناس من أحب أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية علي بن أبي طالب علیه اسلام فإن ولايته ولايتي، وطاعته طاعتي، معاشر الناس من أحب أن يعرف الحجة بعدي فليعرف علي بن أبي طالب علیه السلام، معاشر الناس، من أراد أن يتولى الله ورسوله فليقتد بعلي بن أبي طالب بعدي والأئمة من ذريتي، فإنهم خزان علمي.

فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله، وما عدة الأئمة؟

فقال: يا جابر، سألتني رحمك الله عن الاسلام بأجمعه، عدتهم عدة الشهور وهي عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، وعدتهم عدة العيون التي انفجرت لموسى بن عمران علیه السلام حين ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وعدتهم عدة نقباء بني إسرائيل، قال الله تعالى: ﴿وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَ-رَ نَقِيباً﴾(1)

فالأئمة يا جابر إثنا عشر إماماً، أولهم علي بن أبي طالب علیه السلام وآخرهم القائم المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.(2)

وهذا يعني: أنَّ المقصود من الباب هو ما يُستفاد منه أو الفائدة المترتبة عليه، وهو الدخول عبره إلى مكانٍ لا يمكن الدخول إليه إلا عبره فقط، لا بما هو هو، أو بما يعنيه من معنى مادي. وقد استعير هذا اللفظ في الدخول إلى الجنة بلحاظ هذا المعنى، فلا يمكن الدخول إليها إلا عبر بابٍ واحدٍ، وهو باب أهل البيت علیهم السلام، إذًا المنفذ أو

ص: 144


1- المائدة 12.
2- مائة منقبة لمحمد بن أحمد بن علي بن الحسين القمي (ابن شاذان) ص 71 - 72 المنقبة الحادية والأربعون.

السبيل للخلاص من جهنم هي طاعة أهل البيت (صلوات الله سلامه عليهم).

الإشارة الثالثة

هم السبب إليه والأدلّاء عليه.

أما السبب الذي يوصل إلى الله عزوجل أي الشيء الذي إذا تمسكنا به فإنّه موجبٌ لرضا الله عزوجل، وموصلٌ إليه. وأما الأدلاءُ فجمعُ دليلٍ، وأهلُ البيت علیهم السلام يدلون على الله عزوجل وعلى الطريق الذي يوصل إليه عزوجل.

الإشارة الرابعة: هم عيبةُ علمه.

عيبة: بمعنى موضع السر، يُقال: فلان عيبة الرجل: أي فلان موضع سره.

والأئمة علیهم السلام هم موضع سر الله عزوجل، وهم موضع سر العلم؛ لذلك فإنَّ علومهم إلهية.

الإشارة الخامسة

هم تراجمة وحيه.

الترجمان: هو المبيِّن والموضح، فاذا تكلمت مع من يتحدث بغير لغتك فإنّك تحتاج إلى من يترجم لك ما يقوله ويترجم له ما تقوله.

وأهل البيت (سلام الله عليهم) هم ترجمان الوحي، بمعنى أنَّهم هم من يبينون ما نزل على رسول اللهs، أي يُبينون القرآن وأحكام الإسلام، وهذا ما تُشير إليه الكثير من الروايات الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين علیه السلام من قبيل أنه علیه السلام قال: «سلوني عن كتاب الله عزوجل، فوالله ما نزلت آية منه في ليل أو نهار ولا مسير ولا مقام إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وعلمني تأويلها»...(1)

والواقع أيضًا يشهد على أنَّه لم يكن في التاريخ الإسلامي مبين ومفسر للقرآن الكريم مثل أهل البيت علیهم السلام.

ص: 145


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 523 ح 1158/ 65.

الإشارة السادسة

هم أركان توحيده.

التوحيد له أركان يقوم عليها، والإيمان بأهل البيت علیهم السلام يمثل تلك الأركان؛ لذلك كان التبليغ بولاية أمير المؤمنين علیه السلام هو اختزال لكلِّ رسالة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم، قال عزوجل: ﴿يا أَي-ُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ [المائدة 67].

وكلام الله عزوجل متواترٌ؛ لقطعية صدوره، وهذه الآية واضحةٌ لا لبس في مفهومها؛ لقطعية دلالتها؛ لذا لا يمكن لأيّ أحد إنكار مدلولها، مع ضم الروايات الكثيرة والمتواترة في حادثة الغدير.

الإشارة السابعة

هم خزان معرفته.

ومعناه واضح، كما تقدّمت الكثير من الآيات والروايات دليلًا وإثباتًا عليه.

ومن مجموع ما تقدّم من أنّهم هم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم، وبهم يدخل الناس إلى الجنة، وهم الشهداء على الناس يوم القيامة، وهم الأبواب إلى الله (جلّ وعلا)؛ لذا كانوا أمانًا لأهل الأرض كما إنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء. على حد تعبيره صلی الله علیه و آله وسلم في أكثر من موضع.

قال الشيخ رحمه الله:

وكذلك على حد قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «إنَّ مثلهم في هذه الأمة كسفينةِ نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وهوى..».

وقد تقدّم الكلام عن حديث السفينة ودلالاته.

الإشارة الثامنة

هم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

قبل الولوج في توضيح المراد من هذه الإشارة، لا بُد من الإشارة إلى أنَّ هناك

ص: 146

آياتٍ قد تنزل في حادثةٍ معينة في شخص معين، لكنها تمثل قاعدةً عامة تنطبق على الحالات المشابهة، على الأشخاص الذين يتطابقون من حيث المواصفات مع الشخص الذي نزلت فيه الآية، أيّ إنّها تنظر إلى علة الحدث أو وصف الشخص- لا إلى ذاتيهما-وتنزل، فيكون المدار لا على نفس الشخص أو نفس الحادثة، بل على العنوان العام الذي انطبق على الشخص أو الحادثة.

ولعلَّ هذه كبرى في التفسير القرآني، تندرج تحتها العديد من الآيات الكريمة، منها ما روي عن ابن عباس: ما أنزل الله في القرآن ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إلّا وعلي أميرها وشريفها.(1)

لكن هذا لا يعني أنّها خاصة بأمير المؤمنين علیه السلام، إنَّما تعني أنّه علیه السلام يمثل المصداق الأبرز لهذا العنوان.

والخلاصة: أنَّ هناك آياتٍ قرآنيةً تُشير إلى العنوان، فتنطبق هذه الآية على كلِّ مصداق ينطبق عليه ذلك العنوان.

ص: 147


1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 104. وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج2 ص 252: روى جماعة من الثقات عن الأعمش عن عباية الأسدي عن علي علیه السلام، والليث عن مجاهد، والسدي عن أبي مالك، وابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه وابن جريح عن عطاء، وعكرمة وسعيد بن جبير، كلهم عن ابن عباس. وروى العوام بن حوشب عن مجاهد، وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة كلهم عن النبي أنه قال: «ما انزل الله تعالى آية في القرآن فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها». وفي رواية حذيفة «الا كان لعلي بن أبي طالب لبها ولبابها». وفي روايات «إلا على رأسها وأميرها». وفي رواية يوسف بن موسى القطان، ووكيع بن الجراح «أميرها وشريفها لأنه أول المؤمنين ايمانا»، وفي رواية إبراهيم الثقفي، وأحمد بن حنبل وابن بطة العكبري، عن عكرمة، عن ابن عباس «الا علي رأسها وشريفها وأميرها». وفي صحيفة الرضا علیه السلام «ليس في القرآن يا أيها الذين آمنوا الا في حقنا ولا في التوراة يا أيها الناس الا فينا»، وفي تفسير مجاهد قال: ما كان في القرآن يا أيها الذين آمنوا فان لعلي سابقه ذلك الآية لأنه سبقهم إلى الاسلام فسماه الله في تسع وثمانين موضعا أمير المؤمنين وسيد المخاطبين إلى يوم الدين.

ومن هذه الآيات ما ذكرها الشيخ رحمه الله في قوله: «وأنّهم حسب ما جاء في الكتاب المجيد ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(1)

فقد وردت هذه الآية وصفًا للملائكة، كما في خُطبةٍ لأمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة(2)،

كما وردت في رواياتٍ أخرى وصفًا لأهل البيت علیهم السلام؛ وذلك لاشتراكهما في عنوان العصمة، وأنّهم ليسوا أبناء الله عزوجل ولا أربابًا، بل هم عبادٌ له عزوجل موصوفون بالعصمة، ومن ثم فكلُّ عبدٍ معصوم يصحُ أن يكون معنونًا بهذا العنوان، ويدخل تحت وصف هذه الآية المباركة؛ لذلك فسرت تارةً بالملائكة، وأخرى بأهل البيت علیهم السلام، بنفس اللحاظ أي إنَّهم مخلوقون معصومون.

وقد ورد في بعض الروايات الشريفة استشهاد أهل البيت علیهم السلام بهذه الآية على نفي الربوبية عنهم، إذ غالت فئةٌ من المسلمين بالإمام علي علیه السلام، حتى ادعت إلوهيته، وادّعت أيضًا ألوهية بعض الأئمة علیهم السلام، كما ادعت النصارى أنَّ المسيح ابن الله، وادّعت اليهود أنَّ العزير ابن الله كما ورد في القران الكريم(3)،فكانوا علیهم السلام ينفون عنهم الألوهية

ص: 148


1- الأنبياء 26 – 27.
2- في نهج البلاغة ج1 ص 169 قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَه لإِسْكَانِ سَمَاوَاتِه، وعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِه، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِه، ومَلأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ، مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ، وسُتُرَاتِ الْحُجُبِ وسُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ، ووَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْه الأَسْمَاعُ، سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا، وأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، (أُولِي أَجْنِحَةٍ) تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِه، لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِه، ولَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَه مِمَّا انْفَرَدَ بِه ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ﴾..».
3- قال تعالى: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة 30].

مستشهدين بهذه الآية المباركة؛ ليبينوا أنَّهم عباد مخلوقون، والمخلوق ليس ربًا، نعم، هم موصوفون بالعصمة.

منها ما روي عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا والْقَاسِمُ شَرِيكِي ونَجْمُ بْنُ حَطِيمٍ وصَالِحُ بْنُ سَهْلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَتَنَاظَرْنَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَصْنَعُونَ بِهَذَا نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْه، ولَيْسَ مِنَّا فِي تَقِيَّةٍ، قُومُوا بِنَا إِلَيْه. قَالَ: فَقُمْنَا، فَوَالله مَا بَلَغْنَا الْبَابَ إِلَّا وقَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ، قَدْ قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِه مِنْه، وهُوَ يَقُولُ: لَا، لَا يَا مُفَضَّلُ، ويَا قَاسِمُ، ويَا نَجْمُ، لَا، لَا، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ.(1)

الإشارة التاسعة

هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.

قال قدس سره: «وأنًّهم الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا».

هذه إشارةٌ إلى آية التطهير التي تواتر نزولها بشأن أهل البيت علیهم السلام، إذ نقلها عددٌ كبير من الصحابة يبلغ حد التواتر، ولا يشكك بها إلا ضعيف المعرفة في أصول الحديث وأصول التفسير.

وتثبت هذه الآية أنَّ الأئمة علیهم السلام مطهرون من الرجس، أي أنهم مطهرون من جميع الذنوب والمعاصي، فإذا ثبت ذلك ثبت أنَّهم معصومون، وثبت أنَّهم حججٌ علينا؛ لأنَّ أقوالهم دائمًا معصومة، ومن ثم يثبت لزوم طاعتهم وهو المطلوب.

فإنه إنْ كانت كلُّ أقوالهم مطابقةً لما يريد الله عزوجل ولا يحتمل فيها الخطأ أبدًا على مستوى القول والعمل، وجب علينا أنْ نطيعهم؛ لأنهم لا يأمرون إلا بما يريد الله ولا ينهون إلا عمّا نهى عنه.

ص: 149


1- الكافي للكليني ج8 ص 231 ح 303.

الإشارة العاشرة

عدم جواز الرد عليهم.

قال رحمه الله: «ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، والراد على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كالراد على الله عزوجل».

وقد اتضح فيما تقدّم كونهم علیهم السلام معصومين؛ ومطابقة أقوالهم أفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم لما يريده الله عزوجل، كما اتضح أنَّ الله عزوجل ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم قد أمروا بطاعتهم، فمن البديهي جدًا أنْ يكون الراد عليهم رادًا على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ومن ثم يكون رادًا على الله عزوجل.

الإشارة الحادية عشرة

عدم فراغ الذمة إلا بالرجوع إليهم.

قال رحمه الله: «ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم».

وذلك لأنَّهم معصومون، وغيرهم ليس بمعصوم، وطبقًا لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ونحن على يقين بأننا مكلفون بأحكامٍ شرعية كالصلاة والصوم والحج وغيرها، فإذا أطعنا غير المعصوم في صلاتنا مثلًا؛ فإننا لا نتيقن فراغ الذمة منها؛ لاحتمال إتياننا بها على النحو الخاطئ، والإتيان بها على النحو الخاطئ كعدمه، فمن يطلب منك أن تسقي زهرةً مثلًا كي تنمو ولا تموت، فإن سقيتها من دون دراية ومن دون استشارة أهل التخصص، لربما قلّلت من كمية الماء اللازمة، ولربما أكثرت، وفي كلتا الحالتين لم تحقق الغاية التي استهدفها من أمرك بسقايتها، وبالتالي فإنَّ هذا الامتثال كعدمه.

من هُنا فإنَّ العقل -قبل الأدلة الشرعية- هو الذي يحكم بالاستناد إلى المعصوم عند الامتثال للأحكام الشرعية؛ لضمان إبرائها للذمة، وبالتالي يحكم بلزوم طاعة المعصوم لفراغ الذمة مما انشغلت به من تكاليف.

الإشارة الثانية عشرة

المهم في بحث الإمامة إثبات لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام

ص: 150

الله تعالى الشرعية.

قال رحمه الله: «ولا يهمنا من بحث الامامة في هذه العصور إثبات أنَّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإنَّ ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد، أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها، وإنما الذي يهمنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به».

هنا يشير الشيخ رحمه الله إلى عدم الحاجة إلى إثبات أصل الإمامة وأنَّ الأئمة علیهم السلام هم الخلفاء بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بلا فصل؛ لأنَّه أمر تاريخي، وإنّما فقط المهم أنْ نثبت لزوم الرجوع إليهم لأخذ الأحكام الشرعية منهم.

وقد يُعترض في هذا الأمر على قول الشيخ رحمه الله، إذ إنَّ الإمامة تعد أُس وأساس الإسلام كما ورد في بعض الروايات الشريفة، وورد في أخرى أنّه لم يُنادَ في الإسلام كما نودي بالولاية، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصَّوْمِ والْحَجِّ والْوَلَايَةِ، ولَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ».(1)

وهكذا فإن البحث عن الإمامة يُعدُّ من أهم المباحث العقائدية!

لكن ربما قال الشيخ رحمه الله ما قال - والله العالم - من باب المجاراة مع القوم الذين لا يعترفون بخلافتهم المباشرة، فكأنّما يرد عليهم من باب ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.(2)

فكأنه يقول لهم: حتى وإنْ سلّمنا أنّهم ليسوا بخلفاء بعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم بلا فصل، فإنَّنا

ص: 151


1- الكافي للكليني ج2 ص 18 بَابُ دَعَائِمِ الإِسْلَامِ ح1..
2- آل عمران 64

نتيقن بأننا مكلفون بتكاليف شرعية أولًا، وأنَّ هناك مذاهب متعددة تعتقد بجواز الرجوع إلى أي مذهبٍ منها ثانيًا، وأنَّ الاختلاف بين المذاهب قد يصل إلى حد التضاد أحيانًا ثالثًا، والعقل يحكم بضرورة فراغ ذمة المكلف من الأحكام الشرعية رابعًا، وعليه لابُد من البحث عن المذهب الذي نتيقن بفراغ ذمة المكلف بالالتزام به.

فإن كان المدار البحث عن الأعلم والأكمل، فهل تعرفون لهم من نظير بين علماء الإسلام كلهم؟ هل هناك من هو معصومٌ كما هم؟ أو هل هناك من قال في حقهم الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم ما قال فيهم في حديث الثقلين والنجوم وغيرها.

إذًا يجب علينا أنْ نطيعهم لا أنْ نطيع غيرهم، ونستقي العلوم منهم لا من غيرهم، ونمتثل للأحكام الشرعية بناءً على قولهم لا على قول غيرهم.

مما تقدم وبعدّهم (سلام الله عليهم) في عداد العلماء دون خلافة أو إمامة يتوصل الشيخ رحمه الله إلى دليل عقلي قطعي في وجوب طاعتهم، فيقول:

«والدليل القطعي دالٌ على وجوب الرجوع إلى آل البيت وأنّهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله تعالى المنزلة وعلى الأقل قوله (عليه أفضل التحيات): «إنّي قد تركت فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، وقد اتفقت الرواية على هذا الحديث من قبل السنة والشيعة».

ثم يؤكد سماحته رحمه الله على دقة انتقاء الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم للألفاظ التي تشير بوضوح إلى تأكيدهs على ضرورة الرجوع إلى أهل البيت علیهم السلام، فقال (رحمه الله تعالى): «فدقق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في

قوله: «إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا» والذي تركه فينا هما الثقلان معا إذ جعلهما كأمر واحد ولم يكتف بالتمسك بواحد منهما فقط، فبهما معا لن نضل بعده أبدا».

ص: 152

إشكالٌ وجوابه:

ربما يُشكل أحدهم مُدعيًا أنَّ كلَّ هذه الأحاديث الصحيحة التي تقدّمت إنما وردت على لسان الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم للدلالة على وجوب حبهم فقط لا على لزوم طاعتهم.

وفي مقام الرد نقول:

إنّا وإنْ سلّمنا بصحة ادعاء المُشكل هذا، فها هو القرآن الكريم ذا يُشير إلى أنَّ المحبة لا تكون إلا منبثقةً من الطاعة، قال (عزّ من قائل): ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.(1)

فحبٌ من دون طاعة إنّما هو محالٌ؛ لأنه تفريقٌ بين اللازم وملزومه، والتفريق بينهما غير صحيح، وما القول به إلا حياد من الصواب وهروب من الحق.

ص: 153


1- آل عمران 31

ص: 154

عقيدتنا في حب آل البيت عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ رحمه الله: «عقديتنا في حُبِّ آلِ البيت:

قال الله عزوجل: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾(1)

نعتقد أنّه زيادةً على وجوب التمسك بآل البيت، يجب على كُلِّ مسلمٍ أن يدين بحبهم ومودتهم، لأنه عزوجل في هذه الآية المذكورة حصر المسؤول عليه الناس في المودة في القربى.

وقد تواتر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أنّ حُبًّهم علامة الإيمان، وأنَّ بغضهم علامة النفاق، وأنَّ من أحبهم أحبّ الله ورسوله، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.

بل حبهم فرضٌ من ضروريات الدين الإسلامي التي لا تقبل الجدل والشك. وقد اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم، عدا فئةٍ قليلةٍ اعتُبِروا من أعداء آل محمد، فنُبِزوا باسم (النواصب) أي من نصبوا العداوة لآلِ بيت محمد. وبهذا يُعدّون من المُنكرين لضرورةٍ إسلاميةٍ ثابتةٍ بالقطع. والمنكر للضرورة الإسلامية كوجوب الصلاة والزكاة يعد في حكم المنكر لأصل الرسالة، بل هو على التحقيق مُنكرٌ للرسالة، وإن أقرَّ في ظاهر الحال بالشهادتين، ولأجل هذا كان بغض آل محمد من علامات النفاق وحبهم من علامات الإيمان. ولأجله أيضاً كان بغضهم بغضاً لله ولرسوله.

ولا شكَّ أنّه عزوجل لم يفرض حبهم ومودتهم إلا لأنهم أهلٌ للحب والولاء، من ناحية قربهم إليه سبحانه و تعالی، ومنزلتهم عنده، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ومن كُلِّ ما يُبعد عن

ص: 155


1- الشورى 23

دار كرامته وساحة رضاه.

ولا يمكن أنْ تتصور أنّه عزوجل يفرض حُبّ من يرتكب المعاصي أو لا يُطيعه حقَّ طاعته، فإنّه ليس له قرابةٌ مع أحدٍ أو صداقةٌ وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلا عبيداً مخلوقين على حدٍ سواء، وإنّما أكرمهم عند الله أتقاهم. فمن أوجب حبه على الناس كلهم لا بد أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعاً، وإلا كان غيره أولى بذلك الحب، أو كان الله يفضل بعضاً على بعض في وجوب الحب والولاية عبثاً أو لهواً بلا جهة استحقاق وكرامة.» انتهى.

إنَّ جميع من يدّعي الإسلام لا يجدُ مناصًا من حب آل البيت علیهم السلام، ولا يخالف هذه المسألة إلا النواصب،وهم بذلك يخرجون عن الإسلام.

وقد اعتمد الشيخ في هذه العقيدة على قوله تعالى ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾.(1)

ولمزيدٍ من الإيضاح حول ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذه المسألة نذكر عدة أسئلة تتعلق بها:

السؤال الأول:

ما هو معنى هذه الآية؟

وردت العديد من التفسيرات لهذه الآية المباركة، بعضها ضعيفٌ جدًا فأثرنا عدم التعرض إليه فنقتصر على آراءٍ ثلاثة:

الأول: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم في هذه الآية يخاطب قريش، طالبًا منهم أن لا يؤذوه وإنْ لم يكونوا مؤمنين به؛ وذلك للقرابة التي تربطه بهم، فتكون كلمة (في) في قوله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾ هي (في السببية)، على غرار (دخلت امرأةٌ النار في هِرّةٍ حبستها حتى ماتت).

ص: 156


1- الشورى 23

وهذا الرأي واضحُ البطلان وضعيفٌ جدًا، إذ كيف يُتصور طلب الأجر ممن لم يؤمن به صلی الله علیه و آله وسلم؟! فإنَّ الأجر إنَّما يكون إزاء خدمةٍ مُعترفٍ بها من قبل الطرف الآخر، والمشركون لم يعترفوا بذلك ليصح طلب الأجر منهم.

الثاني: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم يخاطب جميع المسلمين طالبًا منهم أنْ يحبوا من يتقرب إلى الله عزوجل بالطاعة، فتكون القربى هنا بمعنى (التقرب إلى الله)، وهذا هو أجر رسالته صلی الله علیه و آله وسلم.

وهذا الرأي ضعيفٌ باطلٌ من جهتين:

أولهما: نصَّ أهل اللغة على أنَّ كلمة القُربى لا تُستعمل في (التقرب)، وإنَّما هي بمعنى القرابة، وهذا خلاف الرأي هذا.

ثانيهما: ورد في النصوص المتواترة أنَّ المقصود من (القُربى) هو خصوص قرابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فيكون تفسيرها ب(التقرب) حينئذٍ اجتهادًا في مقابل النص، والاجتهاد في مقابل ما ثبت في الشريعة الإسلامية كنصٍ واضحٍ باطلٌ، فيكون هذا التفسير باطلًا.

الثالث: إنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم يُخاطب المسلمين جميعًا طالبًا منهم أنْ يودوا قرابته وهو المعنى المُتعين.

السؤال الثاني:

بعد أنْ علمنا أنَّ معنى (القربى) هم قرابة الرسولs، فالآية المباركة قصدت أيًّا منهم تحديدًا؟

الجواب: ذكر المفسرون رأيين:

الرأي الأول: إنَّ المقصود ب(القربى) جميع أقرباء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أيّ إنَّ المسلمين جميعًا مأمورون بمودة كل من يمتُّ إليه بقرابة، فيشمل ذلك جميع قريش، وهذا الرأي واضحُ البطلان لجهاتٍ ثلاث:

الجهة الأولى: للقرينة العقلية، إذْ لا يُتصور أنْ يُطلب من المسلمين أنْ يودوا قرابة

ص: 157

الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بما فيهم من مؤمنين ومشركين وكافرين، وبما فيهم أبو لهب الذي نصَّ القرآن الكريم على لعنه ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.(1)

الجهة الثانية: لمعارضته قوله عزوجل: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(2)

فهذه الآية صريحةٌ في أنَّ الذي يؤمنُ بالله واليوم الآخر لا يودُّ من يُحادِّ الله ورسوله وإنْ كان أبًا أو ابنًا أو أخًا، ونحن نعلم أنَّ أيَّ مقولةٍ تتعارض مع القرآن الكريم يُضرب بها عرض الجدار.

الجهة الثالثة: من المعلوم أنَّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان يظهر منه الاعتناء بمجموعة خاصة من قرابته وهم أهل الكساء، والروايات كثيرة في هذا المجال تبين بأنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يُفضلهم على كلِّ أقربائه، ويجعلهم كنفسه، ويتألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، فكيف نتصور أنْ يساويهم بذلك المشرك الذي شهر السيف بوجهه صلی الله علیه و آله وسلم، وإنْ أسلم فإنَّ إسلامه بعد اللتيا والتي.

الرأي الثاني: إنَّ المقصود من القرابة هم خصوص أصحاب الكساء وهم (عليٌ، وفاطمة والحسنان صلوات الله وسلامه عليهم)، وهذا هو المعنى المتعين، والذي دلت عليه الروايات الكثيرة من كتب القوم فضلًا عن كتبنا، فمثلًا رووا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قالوا: يا رسول الله، من قرابتك التي افترض الله علينا مودتهم؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وولدها. يردّدها».(3)

ص: 158


1- المسد 1.
2- المجادلة 22.
3- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 191 ح 824.

والروايات في هذا المجال كثيرة وعديدة.

السؤال الثالث:

أشكل البعض خصوصًا السلفية والوهابية، وملخص إشكالهم: إنَّ آية المودة وردت في سورة الشورى، وسورة الشورى مكية، وإنَّ عليًا علیه السلام تزوج بفاطمة (سلام الله عليها) في المدينة المنورة، فكيف نتصور أنّ هذه الآية وهي من سورة الشورى المكية نزلت في علي وفاطمة وابنيهما وهما لم يتزوجا بعد ولم يولد الحسنان بعد؟

ويمكن الجواب عنه من جهتين:

الأولى: إنَّ أهل الفن نصوا على أنَّ خصوص هذه الآية مدنية، أيّ إنَّ سورة الشورى مكية إلا آية المودة وما بعدها من آيتين أو ثلاث فهن آياتٌ مدنيات، وأنْ تجمع سورةٌ واحدةٌ آياتٍ مكية وأخرى مدنية أمرٌ مُتعارفٌ عليه في القرآن الكريم، وقد نصَّ أهل الفن وأكدوا على أنّ هذه الآية من سورة الشورى مدنية.

الثانية: حتى وإن سلّمنا جدلًا بأنّ هذه الآية مكية، فقد جاءت على نحو القضية الحقيقية، وهي القضية التي تتحقق في أيِّ وقتٍ وجِدَ من تنطبقُ عليه في الخارج، كما في الأحكام الشرعية المأخوذة على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية، ومنها الآيات التي أوجبت علينا الصلاة ولم نكن موجودين خارجًا عند نزول القرآن الكريم، ولكن لكونها على نحو القضية الحقيقية فمتى ما وجِد المكلفون انطبق حكمها عليهم وهو وجوب الصلاة.

وعليه، فإنَّ آية المودة ليست م-أخوذة على نحو القضية الخارجية، أي إنَّها تنطبقُ على خصوص الأفراد الموجودين من القرابة في الخارج فعلًا وقت النزول، بل على نحو القضية الحقيقة، أي متى ما وجد الأفراد الذين تنطبق عليهم في الخارج فإنَّها تتحقق ولو في المستقبل، ومن تنطبق عليه هم الذين ذكرهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، فمتى ما وجدوا في الخارج انطبقت عليهم الآية المباركة.

ص: 159

السؤال الرابع:

هل تختص الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام فقط؟ أو تشمل بقية الأئمة علیهم السلام؟

الجواب: بل تشمل الأئمة كلهم علیه السلام للروايات الخاصة والدالة على ذلك، ومنها ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْه أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾، قَالَ: هُمُ الأَئِمَّةُ علیهم السلام.(1)

السؤال الخامس:

كيف يطلب النبي صلی الله علیه وآله وسلم أجرًا على رسالته، على حين أنّ الأنبياء عمومًا لم يطلبوا ذلك، وكان قولهم: ﴿وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلىٰ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾(2)فكيف

يطلب النبي صلی الله علیه وآله وسلم هذا الأجر؟

قبل الجواب عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أنَّه لعله يتضمن جرأةً وجهلًا في آنٍ واحد، فأما الجرأة؛ ففي التطاول على مقام القرآن العزيز والنبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وأما الجهل؛ ففي فهم آيات القرآن الكريم، إذ لابُدَّ أنْ يؤخذ القرآن الكريم ككلٍّ واحدٍ في تفسير آياته؛ لأنَّها تفسر بعضها بعضًا، ولذا ذمَّ الله عزوجل من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وهنا دعوة إلى الرجوع إلى أهل البيت علیهم الاسلام في تفسير القران.

والجواب: بناءً على ما تقدّم، فإنَّ القرآن الكريم بيّن أنَّ هذا الأجر الذي طلبه النبي صلی الله علیه وآله وسلم يمثل السبيل الأقوم لمن يبتغي الوصول إلى رضا الله عزوجل، قال عزوجل: ﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً﴾(3)،ومن ثم فإنَّ الالتزام به يعود بالفائدة على الملتزم نفسه لا على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فلا يصحَّ السؤال، قال (عزَّ من قائل): ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ اللهِ وَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ

ص: 160


1- الكافي للكليني ج1 ص413 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح7.
2- الشعراء109
3- الفرقان 57

شَهِيدٌ﴾.(1)

السؤال السادس:

لو سلّمنا أنّ مفاد آية المودة هو إظهار المودة لأهل البيت علیهم السلام كأجرٍ للرسالة، فما الدليل على أنَّ مودتهم تستلزم إطاعتهم؟ فلنقل: إنه تلزم مودتهم ولكن في باب الطاعة فتتم إطاعة غيرهم؟!

الجواب: ربما يصحُّ هذا الكلام في المودة الاعتيادية، أما في مودةٍ تُمثل أجرًا للرسالة الخاتمة، أي تُمثل أجرًا لما قدّمه النبي الأكرمs من تضحيات جسيمة، وما تحمّله من أذى بالغ حتى قال: «ما أوذي نبي قط كما اوذيت»(2)، فهذه المودة يجب أنْ تكون متناسبةً مع عظمةِ الرسالة، ولا يُمكن أنْ نتصور أنَّ هذه المودة التي تمثل أجر رسالة النبي صلی الله علیه وآله وسلم كمودة أحدنا للآخر مما لا تستلزم الطاعة.

إشارات:

الإشارة الأولى:

إنَّ وجوب الحب والمودة لآل البيت علیهم السلام يدلُّ على طهارتهم من الشرك والمعاصي، أي يدلُّ على عصمتهم، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: «ولا شك أنه تعالى لم يفرض حبهم ومودتهم إلا لأنهم أهل للحب والولاء، من ناحية قربهم إليه سبحانه، ومنزلتهم عنده، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه.

ولا يمكن أن تتصور أنه تعالى يفرض حب من يرتكب المعاصي أو لا يطيعه حق طاعته، فإنه ليس له قرابة مع أحد أو صداقة وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلا عبيداً مخلوقين على حد سواء، وإنما أكرمهم عند الله أتقاهم. فمن أوجب حبه على الناس كلهم لا بد أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعاً، وإلا كان غيره أولى بذلك الحب، أو كان الله

ص: 161


1- سبأ 47.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 42.

تعالى يفضّل بعضاً على بعض في وجوب الحب والولاية عبثاً أو لهواً بلا جهة استحقاق وكرامة».

فلا يُعقل أنْ يأمرنا الله عزوجل بمحبتهم وهم يمارسون المعصية، وعليه؛ فإنَّ هذا الوجوب يكشفُ عن طهارتهم وعصمتهم، ومن ثم ذُكرت هذه الآية المباركة كدليلٍ على عصمتهم.

الإشارة الثانية:

إنَّ وجوب حبِّهم يُلازم خروج مُبغضهم عن الدين والإسلام؛ لأنَّ بغضهم يعني تكذيبًا لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وردّاً لأمر الله عزوجل، حيث إنَّهما يقولان بوجوب حب أهل البيت علیهم السلام، فيكون بغضهم علیهم السلام ونصب العداء لهم مخالفةً لأمر الله عزوجل، ومن ثم الخروج عن الإسلام، وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه الله أيضًا في كلامه حيث قال: «وقد تواتر عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أن حبهم علامة الإيمان، وأن بغضهم علامة النفاق، وأن من أحبهم أحب الله ورسوله، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله. بل حبهم فرض من ضروريات الدين الاسلامي التي لا تقبل الجدل والشك... بل هو على التحقيق منكر للرسالة، وإن أقر في ظاهر الحال بالشهادتين، ولأجل هذا كان بغض آل محمد من علامات النفاق وحبهم من علامات الإيمان. ولأجله أيضاً كان بغضهم بغضاً لله ولرسوله».

الإشارة الثالثة:

إنَّ لزوم المحبة يعني لزوم الاتباع؛ إذ لا معنى للحُبِّ من دون طاعة؛ لقوله (عزَّ من قائل): ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.(1)

فمن دون اتباع أهل البيت علیهم السلام لا تصدق المودة.

وهذا الأمر يجري حتى على من يدّعي التشيع؛ فادعاء حبهم لا يكفي، بل لابد من الاتباع العملي لهم علیهم السلام، وقد ورد عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ لِي: «يَا

ص: 162


1- آل عمران 31.

جَابِرُ، أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَوَالله مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى الله وأَطَاعَه، ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ، إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، والتَّخَشُّعِ، والأَمَانَةِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ الله، والصَّوْمِ والصَّلَاةِ والْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْغَارِمِينَ، والأَيْتَامِ، وصِدْقِ الْحَدِيثِ وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ.

قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ!

فَقَالَ علیه السلام: يَا جَابِرُ، لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً!

فَلَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله وسلم، فَرَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ علیه السلام، ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه، مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه شَيْئاً، فَاتَّقُوا الله واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ الله، لَيْسَ بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى الله عزوجل وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه، يَا جَابِرُ، والله مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ، ومَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، ولَا عَلَى الله لأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ مَنْ كَانَ لله مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، ومَنْ كَانَ لله عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، ومَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ والْوَرَعِ.(1)

ص: 163


1- الكافي للكليني ج2 ص 74 – 75 بَابُ الطَّاعَةِ والتَّقْوَى ح3.

ص: 164

عقيدتنا في الأئمة عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ قدس سره: «عقيدتنا في الأئمة:

لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغُلاة والحلوليون (كبُرت كلمةٌ تخرجُ من أفواههم). بل عقديتنا الخاصة أنهم بشرٌ مثلنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنّما هم عبادٌ مكرمون اختصهم الله عزوجل بكرامته وحباهم بولايته، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحدٌ من البشر فيما اختصوا به. وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمةً وهُداةً ومرجعاً بعد النبي في كل ما يعود للناس من أحكام وحكم، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل.

قال إمامنا الصادق علیه السلام: «ما جاءكم عنا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا، وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فأجحدوه ولا تردوه إلينا».» انتهى.

بعد أن انتهينا إلى أنَّهم علیهم السلام خلفاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حقًا وثبت لهم من الصفات ما لم تثبت لغيرهم، كالعصمة والعلم الخاص، فقد يخطر على الذهن ما يُردده بعض المخالفين، من أنَّ الشيعة يغالون في أئمتهم ويجعلونهم أربابًا وما شابه هذا الكلام؛ لذا كان من الفني جدًا أنْ يتطرّق الشيخ رحمه الله إلى هذه العقيدة (عقيدتنا في الأئمة علیهم السلام )، والتي أوضح من خلالها حدَّ الاعتقاد بأهلِ البيت علیهم السلام، ويمكن تلخيصها في نقطتين:

ص: 165

النقطة الأولى:

اشارة

لا يخلو مسلمٌ من الاعتقاد بهم.

إنَّ مسألة الاعتقاد بأهل البيت علیهم السلام هي مسألةٌ لا يخلو منها مسلم سلبًا أو إيجابًا، فكلُّ مسلمٍ مطالبٌ بأنْ يعتقد بأهل البيت صلوات الله عليهم، نعم، قد يكون هذا الاعتقاد إيجابياً (موافقا للأسس العامة للإسلام)، وقد يكون سلبيًا، وهذا السلبي قد يكون على نحو الإفراط في الاعتقاد بهم علیهم السلام وهو (الغلو)، وقد يكون على نحو التفريط بالاعتقاد بهم علیهم السلام.

وهذا يعني أنَّ الناس في هذه المسألة على ثلاثِ مراتب، وقد أشار إليها أمير المؤمنين علیه السلام في قوله: «الْيَمِينُ والشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، والطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ، عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ، وآثَارُ النُّبُوَّةِ، ومِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ...».(1)

والمراتبُ هي:

الأولى: مرتبة المُقصِّرة.

وهم الذين أنكروا مقامات أهل البيت علیهم السلام ومنازلهم التي وهبها لهم رب العالمين، وربما عادوا أهل البيت وحاربوهم وأنكروا خلافتهم وإمامتهم، ولهم عدة أنحاء:

الأول: من أنكر إمامتهم، وهذا قصَّر في الاعتقاد بأهل البيت علیهم السلام.

الثاني: من ساوى غيرهم بهم من المسلمين، فضلًا عمن فضّل غيرهم عليهم.

الثالث: من أنكر عصمتهم، ولعله يعترف بخلافتهم وإمامتهم.

الرابع: من أنكر كراماتهم ومعاجزهم.

وفي بعض الأحيان نجد بعض هذه المراتب حتى فيمن يدّعي التشيع، خصوصًا لدى من انغمس بالماديات كثيرًا، ويعتبر نفسه مثقفًا فينكر ما يصدر عن الأئمة علیهم السلام

ص: 166


1- نهج البلاغة ج1 ص 50.

من كرامات.

الثانية: مرتبة الغلاة.

وهؤلاء على أنحاء:

الأول: من ادعى الألوهية لهم علیهم السلام، وهذا واضحٌ جدًا بأنّه كفر.

الثاني: من أدى اعتقاده بالأئمة إلى إنكار نبوة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا أيضًا من الكفر، وهذا الذي يدّعيه البعض علينا بأنَّ الشيعة يقولون: خان الأمين، خان الأمين، أي إنَّ الوحي نزل وكان مكلفًا بإعطاء النبوة للإمام علي علیه السلام، لكنّه لم يجده فأعطاها للنبي صلی الله علیه وآله وسلم، وبهذا قد خان الأمانة!

وهو ادعاءٌ باطل ومكذوب على الشيعة، وأدلُّ دليلٍ على ذلك قول الشيعة أنفسهم بكفر من يعتقد بخيانة الأمين هذه، ولا يوجد شيعي يقول بهذا الشيء، ولكن ذكرناه من باب الاستقصاء العلمي.

الثالث: الذي اعتقد بأنَّ الأئمة علیهم السلام مُستقلون في أفعالهم عن الله عزوجل، وهذا مشركٌ؛ إذ كما تقدم في مبحث التفويض أنَّ التفويض:

أ: التفويض المعتزلي: ومفاده أنَّ الإنسان مستقل بأفعاله عن الله عزوجل وهذا يؤدي إلى الشرك.

ب: التفويض الذي ذكره القرآن الكريم: كتفويض قبض الأرواح إلى ملك الموت، وكتفويض النبي عيسى علیه السلام في إحياء الموتى، فهذا التفويض يعني التوكيل، ولا يعني أنَّ أيًا من ملك الموت أو النبي عيسى علیه السلام مستقلٌ في فعله عن الله عزوجل، بل يبقيان محتاجين إلى الإذن الإلهي، وهذا النحو من التفويض لا يؤدي إلى الشرك؛ لأنّه بإذن الله عزوجل وفي طول إرادته.

ص: 167

وعليه فإنَّ من يطلب من الأئمة حاجةً، كأن يطلب منه أنْ يرزقه ذرية مثلًا، فهذا إنْ كان يعتقد أنَّ الله عزوجل لا يستطيع أنْ يرزقه الذرية وأنَّ عليًا علیه السلام هو الذي يستطيع ذلك مستقلًا عنه عزوجل، فإن مثل هذا الشخص يُعدّ مشركًا، وإنْ كان يعتقد أنَّ الإمام علیه السلام يرزقه ذريةً بإذن الله تعالى وبكرامته عند الله (جلّ وعلا) لم يكن مشركًا البتة.

وهذا ما تعتقد المدرسة الإمامية؛ لأنَّ الائمة (سلام الله عليهم) تصدر منهم كرامات، وأما الرازق الحقيقي فهو الله عزوجل بتوسط ولاية أمير المؤمنين علیه السلام . فهذا تفويضٌ لكن لا على نحو الاستقلال، وأما الغلو فيقع فيما إذا اعتقد شخصٌ ما باستقلال أهل البيت علیهم السلام عن الله عزوجل، ومن لم يكن معتقدًا بهذا الأمر فلا يُعدُّ مُغاليًا؛ لتوافق اعتقاده مع ما جاء في القرآن الكريم الذي ذكر مسألة التفويض بصورةٍ واضحة.

الرابع: من قال بالحلول، يعني أن أرواح الأئمة علیهم السلام تحلُّ (تنتقل وتدخل) إلى أجساد بعض الناس، والذي عبّر عنهم الشيخ ب(الحلوليين)، وهذا التيار كان موجودًا حتى في زمن الأئمة (سلام الله عليهم) وفي بدايات الغيبة الصغرى، أما الآن فلا وجود علنياً له. نعم، ظهرت بعض التيارات في بعض السنوات السابقة ما تسمى ب(السلوكيين) وهو قريب من الحلول أو هو نفسه.

المرتبة الثالثة: (النمرقة الوسطى).

وهم الآخذون بالحدِّ الوسط، فلا ينكرون مقاماتهم وكراماتهم كما يفعل المقصرة، ولا يرفعونهم إلى مقام الألوهية كما يفعل الغلاة. وهذه المرتبة هي المتوافقة مع النظام العام للإسلام، وهي المرتبة التي أرادها منّا أهل البيت علیهم السلام، وهي ما يلتزم به الشيعة في كلِّ الأزمنة وفي كلِّ أنحاء الأرض، روي عن أمير المؤمنين علیه السلام في بيان هذه المراتب: نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى، بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي، وإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي.(1)

ص: 168


1- نهج البلاغة ج4 ص 26 الحكمة 109.

النقطة الثانية: حد الاعتقاد (النمرقة الوسطى).

هناك مجموعة من الأحاديث الشريفة تبين لنا أنَّ هذه المرتبة من الاعتقاد في الحقيقة هي مرتبةٌ عاليةٌ جدًا، ولا يعني الالتزام بها الوصول إلى حقيقة مقاماتهم أو معرفة كنه منازلهم علیهم السلام، ومما يُنبِّه على عِظَمِ هذه المرتبة ويُبين حدَّها الدقيقَ -وفي نفس الوقت الغامضَ؛ إذ لا يمكن إدراك غوره- عدة روايات:

ما روي أنه قال أمير المؤمنين علیه السلام: جلَّ «مقام آل محمد عن وصف الواصفين ونعت الناعتين، وأنى يُقاس بهم أحد من العالمين؟ وكيف وهم النور الأول...».(1)

وروي عنهم علیهم السلام: «نزهونا عن الربوبية(2)وارفعوا عنا حظوظ البشرية، فلا يقاس بنا أحد من الناس».(3)

وفي ما روي عنهم من إخبارهم بالمغيبات وتصحيح فكر الآخر بكونهم عبيدًا لله تعالى ما روي عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: «قال لي أبو عبد الله علیه السلام ضع لي في المتوضأ ماءً. قال: فقمت فوضعت له فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ! فلم يلبث أن خرج فقال: يا إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا

ص: 169


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 177 وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 171 - 172
2- في هذه الرواية وُجّه سؤال إلى السيد الخوئي نُقل في صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 2 - ص 452 تحت رقم السؤال 1421:«نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم» هل أن هذه المقولة حديث؟ وإلى من تنسب من الأئمة الأطهار:؟ ج/ الخوئي: لا يحتاج تنزيههم عن صفات الرب المختصة به واتصافهم بجميع ما عدى تلك من صفات الكمال التي يمكن أن تنالها البشرية في قدسيتها، كما هم منزهون عن ما لا يليق أن يتصف به المخلوق المعصوم عن الزلل والمعاصي لا تحتاج تلك إلى ورود رواية حتى نثبته بمضمونها إن كانت معتبرة، أو نطرحها إن كانت ضعيفة غير معتبرة، والله العالم.
3- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 101.

البناء فوق طاقتنا فينهدم، اجعلونا عبيدًا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم...».(1)

وعن خالد بن نجيح الجوار قال: «دخلت على أبي عبد الله علیه السلام وعنده خلقٌ، فقنعت رأسي فجلست في ناحية وقلت في نفسي: ويحكم ما أغفلكم عند من تكلمون؟ عند رب العالمين! قال: فناداني: ويحك يا خالد، إني والله عبد مخلوق، لي ربٌّ أعبده، إن لم أعبدْه والله عذّبني بالنار. فقلت: لا والله لا أقول فيك أبدا إلا قولك في نفسك».(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال لأبي ذر: «اعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عزوجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته، فإن الله عزوجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه واصفُكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون».(3)

وهذه الروايات تحكي واقعًا صحيحًا، وهو أنَّ الائمة علیهم السلام ليسوا آلهة لكنهم من العظمة بمكان بحيث لا ندرك حقيقتهم.

وهو بحثٌ خاصٌ بالمدرسة الإمامية؛ وذلك لأنها هي الوحيدة التي تُنزل أهل البيت علیهم السلام المنزلة الوسطى، حيث لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا تقصير. فمن الضروري التعرف إليها ليعلم كلٌّ منا أين موقعه ومرتبته في اعتقاده بهم علیهم السلام، لا سيما أنَّها هي الأخرى على مراتب متعددة، وهي على نحو الإجمال:

ص: 170


1- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 22)
2- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 – 262 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 25)
3- بحار الأنوار للمجلسي ج26 ص 2.

مراتب المعرفة بأهل البيت عليهم السلام

المرتبة الأولى: المعرفة الإجمالية:

فهناك من لا يعرف عن أهل البيت علیهم السلام إلا أسماءهم، وأنهم هم الذين تجب طاعتهم وموالاتهم، وهم أهل الكساء والذرية المعصومة من الإمام الحسين علیه السلام، وهذه المرتبة على بساطتها أفضل ممن يُنكر مقاماتهم، ولكنها معرفةٌ متواضعة جدًا، لا ترتقي بالإنسان الموالي إلى مراتب الكمال المطلوبة. نعم، بالنسبة للعجائز أو ممن عقله لا يُحسن أنْ يحمل أكثر من هذا المقدار فهذا معذورٌ، لكن الإنسان الذي يتمتع بعقلٍ يمكنه المعرفة أكثر من ذلك، ويستطيع أن يصل إلى كمالٍ أعلى بطلب العلم، فلا يُكتفى منه بهذه المرتبة.

المرتبة الثانية: الجمع بين محبتهم ومحبة أعدائهم.

هناك من يعرف أسماء أهل البيت علیهم السلام، ويعتقد بأفضليتهم وأعلميتهم ومنزلتهم من الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ولكنه رغم ذلك لا يُعادي عدوهم، ولا يرضى بأن يبتعد عن دائرة أعدائهم بحجةٍ أو بأخرى، كأن يقول عنهم: إنَّهم صحابة ولا بد أنْ نحبهم، أو يقول: نوكل حسابهم إلى الله عزوجل، بالنتيجة هو يحبهم ويحب أعداءهم!

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيع أبدًا؛ لأنَّ أهل البيت علیهم السلام أنفسهم قد نصّوا على أنَّ الالتحاق بهم لا يكون إلا بحبهم الذي يعني في نفس الوقت معاداة أعدائهم، وبهذه الطريقة تكتملُ النمرقة الوسطى.

وقد أكّدت الروايات على أنَّ تمام الولاية في البراءة من أعداء أهل البيت علیهم السلام،

ص: 171

وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام: «من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر».(1)

وقيل للصادق علیه السلام: «إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات، كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرّأ من عدونا».(2)

كما روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنَّه قال: «كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا».(3)

ومن الجدير بالذكر، أنَّ الجمع بين حبهم وحب أعدائهم مما يمكن أنْ نجده في خارج دائرة التشيُّع وربما بكثرة، وما يعتقده العامة من المسلمين اليوم أدلُّ دليلٍ على ذلك، فضلًا عما وردنا من روايات، فقد ورد أنَّ معاوية سأل سعد بن أبي وقاص: «ما يمنعك أنْ تَسُبَّ ابن أبي طالب؟ فقال سعد: لا أسبه؛ ما ذكرتُ ثلاثًا قالهن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لئن يكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمرِ النعم:

لا أسبه ما ذكرتُ حين نزل الوحي عليه فأخذ عليًا وابنيه وفاطمة وأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: ربي هؤلاء أهل بيتي وأهلي، ولا أسبه ما ذكرت حين خلّفه في غزوةٍ غزاها، قال عليٌ: خلّفتني مع الصبيان والنساء؟! قال: أو لا ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي، ولا أسبه ما ذكرتُ يوم خيبر حين قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويفتح الله على يديه فتطاولنا، فقال: أين علي؟ فقالوا: هو أرمد، قال: ادعوه، فدعوه فبصق في عينيه ثم أعطاه الراية ففتح الله عليه».(4)

ولكن رغم ذلك فإن موقف ابن أبي وقاص من أمير المؤمنين علیه السلام واضح للعيان.

ص: 172


1- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 104.
2- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 266.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 640.
4- المستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 108 – 109 وخصائص أمير المؤمنين علیه السلام للنسائي ص 81- 82.

المرتبة الثالثة: محبتهم وطاعتهم دون الاعتقاد بمقاماتهم العالية.

وهي نظرية (علماء أبرار)، بمعنى أنه قد يوالي أهل البيت (سلام الله عليهم)، ويعتقد بوجوب طاعتهم، ولكنه لا يُقرُّ بمقاماتهم العالية؛ لاعتقاده أنَّ أهل البيت علیهم السلام كسائر عبيد الله عزوجل، إلا أنَّهم أفضل منهم إلى درجةٍ لا تصل إلى بلوغهم تلك المقامات العالية، كقدرتهم علیهم السلام على معرفة ما في النفوس مثلًا، أو قدرتهم (سلام الله عليهم) على معرفة بعض الغيبيات، أو القيام ببعض المعجزات والكرامات، متهمًا كلَّ من يعتقد بذلك بالغلو فيهم علیهم السلام وربما تأليههم، رغم أنَّه يعتقد تمامًا بأنَّ صدور تلك المعاجز من الأنبياء علیهم السلام لا غلو فيه ولا تأليه؛ مستندًا إلى الأدلة الدالة على معجزاتهم لا سيما في القرآن الكريم.

والغريب أنه إنْ جاز صدور المعجزات في حدِّ ذاته، ولم ينافِ توحيد الله (تبارك وتعالى)، بل كان متماشيًا مع إيمان المسلم طالما صدرت عن أفرادٍ دلّت الأدلة الشرعية على صدورها منهم أو قدرتهم عليها؛ لما بلغوا من مراتب عليا في الكمال، فما الضير إذاً في أن يكون أئمة أهل البيت علیهم السلام كذلك؟! وهم الذين دلّت الأدلة الشرعية أيضًا على قدرتهم على الإتيان بالمعجزات؛ وقد بلغوا أعلى المراتب الكمالية، التي تفوق مراتب الأنبياء علیهم السلام أيضًا؟!

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيع.

المرتبة الرابعة: الاتباع المصلحي.

هناك من يتبع أهل البيت علیهم السلام طالما كانت مصلحته الشخصية في اتباعهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون؛ لعدم بلوغهم درجةً من الإيمان تؤهلهم للاستعداد عن التخلي عن مصالحهم الشخصية فيما إذا تعارضت مع اتباعهم للأئمة علیهم السلام، وأبرز مثال على ذلك هم من تخلوا عن نصرة الإمام الحسين علیه السلام رغم اعتقاده بإمامته وأنَّه على حق.

ص: 173

وهذه المرتبة غير مقبولة في التشيُّع؛ لذا استحق الخاذلون للإمام الحسين علیه السلام من السيدة زينب علیها السلام الملام والتوبيخ.

المرتبة الخامسة: الاعتقاد المطلق بولايتهم والبراءة من أعدائهم.

وهي مرتبة الاعتقاد بأهل البيت (سلام الله عليهم) اعتقادًا مطلقًا يتمثل بالإيمان بولايتهم، وبالبراءة من عدوهم، والإقرار بأنَّهم قد تمَّ تنصيبهم من الله عزوجل؛ فيلزم اتباعهم بلا نقاش، فنؤمن بكلِّ ما ورد عنهم ونأتمر بكلِّ أوامرهم بقطع النظر عن مسألةِ المنافع الدنيوية التي تجرُّها إلينا الولاية، أو تمنعنا منها.

ولسان حال هذه المرتبة –كما في الزيارة الجامعة-: «فَالرَّاغِبُ عَنْكُمْ مارِقٌ وَاللازِمُ لَكُمْ لاحِقٌ وَالمُقَصِّرُ فِي حَقِّكُمْ زاهِقٌ وَالحَقُّ مَعكُمْ وَفِيكُمْ وَمِنْكُمْ وَإِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ وَمَعْدِنُهُ، وَمِيراثُ النُّبُوَّةِ عِنْدَكُمْ وَإِيابُ الخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابُهُمْ عَلَيْكُمْ وَفَصْلُ الخِطابِ عِنْدَكُمْ وَآياتُ الله لَدَيْكُمْ وَعَزائِمُهُ فِيكُمْ وَنُورُهُ وَبُرْهانُهُ عِنْدَكُمْ وَأَمْرُهُ إِلَيْكُمْ.

مَنْ وَالاكُمْ فَقَدْ وَالى الله وَمَنْ عاداكُمْ فَقَدْ عادى الله وَمَنْ أَحَبَّكُمْ فَقَدْ أَحَبَّ الله وَمَنْ أَبْغَضَكُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ الله وَمَنْ اعْتَصَمَ بِكُمْ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِاللهِ، أَنْتُمُ الصِّراطُ الأقْوَمُ وَشُهَداءُ دارِ الفَناءِ وَشُفَعاءُ دارِ البَقاءِ وَالرَّحْمَةُ المَوْصُولَةُ وَالآيَةُ المَخْزُونَةُ وَالاَمانَةُ المَحْفُوظَةُ وَالبابُ المُبْتَلى بِهِ النَّاسُ، مَنْ أَتاكُمْ نَجا وَمَنْ لَمْ يَأْتِكُمْ هَلَكَ...

فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ غَيْرِكُمْ آمَنْتُ بِكُمْ وَتَوَلَّيْتُ آخِرَكُمْ بِما تَوَلَّيْتُ بِهِ أَوَّلَكُمْ وَبَرِئْتُ إِلى الله عزوجل مِنْ أَعْدائِكُمْ، وَمِنَ الجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَالشَّياطِين وَحِزْبِهِمُ الظَّالِمِينَ لَكُمْ الجاحِدِينَ لِحَقِّكُمْ وَالمارِقِينَ مِنْ وِلايَتِكُمْ وَالغاصِبِينَ لاِرْثِكُمْ الشَّاكِّينَ فِيكُمْ المُنْحَرِفِينَ عَنْكُمْ وَمِنْ كُلِّ وَلِيجَةٍ دُونَكُمْ وَكُلِّ مُطاعٍ سِواكم، وَمِنَ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلى النَّارِ..».

وأصحابُ هذه المرتبة لا يبالون بما يجري عليهم في موالاة أهل البيت علیهم السلام ولو قُطِّعوا إربًا، يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: «إن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض

ص: 174

فاختارنا، واختار لنا شيعة، ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا..».(1)

وعن أبي جعفر علیه السلام، قال: «كان علي بن الحسين علیه اسلام يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي علیهما السلام دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا للذي مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوأ صدق، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله، عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار».(2)

إشارة: في لزوم التسليم لهم علیهم السلام .

إنَّ الأئمة علیهم السلام هم فوق مستوى البشر؛ لما بلغوا من كمالاتٍ عالية، بحيث لا ندرك مقاماتهم الحقيقية، ولذا فمن الممكن أنْ يعسر علينا فهم أو إدراك بعض أقوالهم، فوظيفتنا حينئذ لزوم التسليم فضلًا عن عدم الجحود بها طالما ثبت صدروها عنهم سواء كانت متواترةً أو أخبار ثقة سلسلتها صحيحة مائة بالمائة؛ لأنَّ عدم فهم حديثٍ ما لا يُسوِّغ رفضه، ولا يبرر الجحود به، بل يلزم قبوله وإرجاع فهمه إلى الإمام نفسه. أي يجب الإيمان بما لا ندركه من الأحاديث تعبدًا؛ لوجوب طاعتهم علیهم السلام بأمر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، الذي أمرنا الله عزوجل بوجوب طاعته، فيتحصّل أنَّ الله عزوجل هو من أمرنا بأنْ نطيعهم.

وقد أرشدت الروايات الشريفة إلى ذلك، منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال: «ما جاءكم منا مما يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا

ص: 175


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 635 حديث أربعمائة...
2- كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه ص 201 الباب (32) ثواب من بكى على الحسين بن علي3 ح 285/ 1.

تجحدوه، وردوه إلينا، وما جاء كم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردوه إلينا».(1)

وهذا مقتضى الإيمان بمقام إمامتهم علیهم السلام، وبعصمتهم التي تمنعهم من الخطأ، وبلزوم طاعتهم.

ص: 176


1- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص 92.

عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص

اشارة

قال قدس سره: «عقيدتنا في أن الإمامة بالنص

نعتقد أنّ الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عزوجل على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه الله هادياً ومرشداً لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله ولا يعين إلا بتعيينه.

ونعتقد أنّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده، فعيّن ابن عمه علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحي وإماماً للخلق في عدة مواطن، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير فقال: «ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِرِ الحقَّ معه كيفما دار».

ومن أول مواطن النص على إمامته قوله حينما دعا أقرباءه الأدنين وعشيرته الأقربين فقال: «هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وهو يومئذٍ صبيٌ لم يبلغ الحلم. وكرّر قوله له في عدة مرات: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبي بعدي» إلى غير ذلك من رواياتٍ وآياتٍ كريمةٍ دلّت على ثبوت الولاية العامة له كآية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

ص: 177

وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، وقد نزلت فيه عندما تصدق بالخاتم وهو راكعٌ ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كُلِّ ما ورد في إمامته من الآيات والروايات ولا بيان وجه دلالتها.

ثم إنّه علیه السلام نصَّ على إمامة الحسن والحسين، والحسين نصَّ على إمامة ولده علي زين العابدين وهكذا إماماً بعد إمامٍ ينصُّ المتقدم منهم على المتأخر إلى آخرهم وهو أخيرهم على ما سيأتي.» انتهى.

يُعدُّ هذا البحث من الأبحاث المهمة والرئيسية في الإسلام؛ وذلك لأنَّ إثبات مضمون هذا البحث أو نفيه هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى انقسام المسلمين إلى فرقتين عظيمتين جدًا، وهما: فرقةُ أتباع أهل البيت علیهم السلام، وفرقةُ العامة، لذا فما من نقاشٍ يمكن أنْ يكون مثمرًا بين هاتين الفرقتين إلا إذا كان مدخله هذه النقطة، وهو (بحثُ الإمامة، وهل هي بنصٍ من الله عزوجل أو لا؟).

ولمزيدٍ من التوضيح نذكر عدة نقاطٍ في هذا المجال:

ص: 178

النقطة الأولى:

اشارة

الآراء في كيفية جعل الإمام

هناك رأيان أساسيان في هذه المسألة، تولّدت منهما نظريتان، ترتب على تلكما النظريتين الكثير من الآثار على مستوى العقيدة أو الفقه أو السلوك، وهما:

النظرية الأولى: نظريةُ قبولِ الأمر الواقع:

وتبتني هذه النظرية على أنَّ خلافة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ليس لها أساسٌ مُسبقٌ تبتني عليه إلا ما وجدنا في التاريخ من الأمر الذي وقع، بمعنى أننا نصوغ الخلافة على أساس ما وقع، فالمؤسس لهذه النظرية نفسُ الذي وقع لا أمرٌ سابق، فإنْ حصلت الخلافة عن طريق الشورى فبها ونعمت، وإنْ حصلت عن طريق التعيين أو عن طريق اختيار الحل والعقد فلا إشكال، بل وإنْ حصلت عن طريق القهر والسيف فلا إشكال أيضًا.

وبعبارةٍ صريحةٍ جدًا: إنَّ هذه النظرية تقول بشرعية حكم كلِّ من وصل إلى كرسي الحكم بقطع النظر عن الطريقة التي وصل عبرها إليه.

والأشاعرة هم من قالوا بهذه النظرية؛ وذلك من خلال مطالعتهم لما حدث وتصحيحه أيًا كان ليس إلا، فهم وجدوا أنَّ خلافة أبي بكر اجتمع عليها بعض الأشخاص مثل عمر بن أبي الخطاب والذين كانوا معه كما جاء في الروايات وكما حفظ التاريخ أسماءهم (عمر بن أبي الخطاب، ابو عبيدة الجراح، أُسيد بن خضير، بشر بن سعد وأسلم مولى أبي حذيفة)، فهؤلاء الخمسة هم من بايعوا أبا بكر وخرجوا من السقيفة يدعون الناس إلى مبايعته، فكتبوا البند الأول في نظريتهم: إنَّ الخلافة يمكن

ص: 179

أنْ تنعقد بأهل الحل والعقد.

وعندما وجدوا أنَّ خلافة عمر بن أبي الخطاب جاءت بتعيينٍ من أبي بكر، أضافوا بندًا آخر مفاده صحة انعقاد الخلافة بالتعيين، وعندما وجدوا أنَّ خلافة عثمان بن عفان صارت بالشورى عن طريق ستة أشخاص، بل باتفاق ثلاثة لو كان فيهم شخص معين (وهو عبد الرحمن بن عوف)، قالوا بصحتها، وعندما وجدوا أنَّ خلافة أمير المؤمنين علیه السلام جاءت بالإجماع أي بإجماع أهل المدينة، قالوا بصحتها أيضًا، ولأنَّ معاوية أصبح خليفةً بالسيف، فقد أضافوا إلى نظريتهم ما يصحح انعقاد الخلافة بالقوة والسيف!

وعليه فإنَّ كلَّ أنواع طرق الوصول إلى هذه الخلافة هي مقبولةٌ لديهم، ويُعدُّ الواصل إلى الحكم -من أيِّ طريق كان- خليفةً وإمامًا، وتجب طاعته والخارج عليه هو خارج على إمام زمانه إلا إذا تاب، وإذا لم يتُب قُتِل وهو باغٍ.

ومن الجدير بالذكر: أنَّ هذه النظرية ما وضعت إلا لتصحيح السبل التي سلكها من يسمونهم بالخلفاء في الوصول إلى الحكم وإن كانت ظلمًا وجورًا، ومن ثَمّ فإنَّ الهدف من وضعها محاولة شرعنة المخالفات الشرعية وإسباغ حكم الإباحة على ما حرّمه الشارع الأقدس، وتبرير مختلف الجرائم التي ارتُكبت في سبيل الوصول إلى الحكم.

ومن جهةٍ أخرى فإنَّها تضفي الشرعية على كلِّ من يحاول الوصول إلى الحكم مهما كانت السبل التي يسلكها -ملتوية أو إجرامية وما شاكل ذلك-.

فهي نظرية -علاوة على قبولها بالظلم فيما مضى- فإنَّها تؤسس للظلم فيما هو آتٍ.

النظرية الثانية: نظرية النص:

وهي ما يصرّ أهل البيت علیهم السلام على تبنيها في مسالة تعيين الامام، هذه النظرية تمثل أساسا لتعيين الإمام، فهي سابقة على كون الإمام إماماً، أي إن هناك أساسًا، ومن انطبق عليه الأساس فإنه يكون هو الخليفة.

ص: 180

النقطة الثانية:

اشارة

ماذا يعني النص؟

يُقصد بالنص: التنصيب الإلهي، أي إنَّ من يجعل الشخص إمامًا وخليفةً عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ليس هو إلا الله عزوجل، فيكون حالُ الإمامة في ذلك حالَ النبوة في أنَّ من يجعل النبي ليس هو إلا الله عزوجل.

وبما أنَّ التنصيب من الله عزوجل، وهو سبحانه وتعالی لا يمكن الاتصال به من سائر البشر؛ لذا لا بد من كاشف لنا عن هذا التنصيب، وقد أمكن الكشف عنه بأحد الطرق الثلاثة التالية:

الطريق الأول: التبليغ.

فيكون التنصيب بتبليغ النبيs، فينص على أنَّ خليفته فلان، أو أنْ ينص الإمام الذي ثبتت إمامته على إمامة الإمام اللاحق، وهذا النص من الرسول أو الإمام يمثل واسطةً في نقل الأمر الإلهي إلى الناس، لا أنَّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم أو الإمام هما من ينصّبان الإمام؛ لأنَّ مسألة الإمامة هي حقٌّ مختصٌ بالله عزوجل وحده.

الطريق الثاني: المعجزة.

من الواضح جدًا أنَّ المعجزة تثبت نبوة النبي، فمن بابٍ أولى أنَّها تثبت إمامة الإمام؛ لذا فمن طرق كشف من يدّعون إمامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف مثلاً، هو مطالبتهم بالمعجزة، وقد ورد أنَّ الخراساني أو الحسني عندما يطالب الإمام بالمعجزة فإن الإمام يأخذ غصنًا من خشبٍ يابس يغرسه فيورق من ساعته.

ص: 181

ففي رواية: «ويلحقه الحسني في اثني عشر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلىٰ الطير فيسقط علىٰ كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضرّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه الحسني الجيش، ويكون الحسني علىٰ مقدمته...»(1).

الطريق الثالث: الطريق العقلي.

ويُسمى أيضًا طريق جمع القرائن، أو ملاحظة الصفات والخصائص والأفعال المتوفرة لدى شخصٍ ما، بحيث يتيقن الإنسان العاقل من خلال مشاهدة هذه الخصائص والصفات بأنَّ هذا الشخص هو إمامٌ معصوم.

وقد أثبتت الحوادث التاريخية اكتشاف العديد من الأشخاص نبوة النبي أو إمامة الإمام عن طريق تجميع القرائن فقط، كما يظهر ذلك بشكل جلي من رواية دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف فأخبره بمحمد صلی الله علیه وآله وسلم وكتابه فقال: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

فقال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال قيصر: التمسوا لي من قومه ها هنا أحدا أسأله عنه.

وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجارا فأحضرهم، قال: ليدنُ مني أقربكم نسبا به. فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول: إنه نبي. ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان: لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

ص: 182


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 295 و296.

فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم.

قال: [ فهل] يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون.

قال: يرتد أحد منهم سخطًا لدينه؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.

قال: فهل قاتلكم؟ قلت: نعم.

قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال، مرة له، ومرة عليه.

قال: هذه آية النبوة. قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وإداء الأمانة والوفاء بالعهد.

قال: هذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أنه يخرج ولم أظن أنه منكم، فإنه يوشك أن يملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقياه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

وإن النصارى اجتمعوا على الأسقف ليقتلوه فقال: اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي، وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن النصارى أنكروا ذلك علي. ثم خرج إليهم فقتلوه.(1)

كما وقعت الكثير من الحوادث بين الأئمة علیهم السلام وأعدائهم ممن ينكرون فضلهم

ص: 183


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 131 – 132 ح 217

فضلًا عن إمامتهم، ولكن ما إنْ يروا دماثة خلقهم حتى يحكمون بإمامتهم، منها ما روي أنَّه قالَ نَصرانِيٌّ للإِمامِ الباقِرِ علیه السلام: «أنتَ بَقَرٌ! قالَ: أنَا باقِرٌ. قالَ: أنتَ ابنُ الطَّبّاخَةِ! قالَ: ذاكَ حِرفَتُها. قالَ: أنتَ ابنُ السَّوداءِ الزِّنجِيَّةِ البَذِيَّةِ! قالَ: إن كُنتَ صَدَقتَ غَفَرَ اللهُ لَها، وإن كُنتَ كَذَبتَ غَفَرَ اللهُ لَكَ. قالَ: فَأَسلَمَ النَّصرانِيُّ».(1)

ص: 184


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 337.

النقطة الثالثة:

اشارة

أدلة وجوب التنصيب الإلهي

عرفنا أنَّ الإمامية يقولون بنظرية النص، فما هو الدليل على وجوب جعل الإمام من الله عزوجل؟

وفي مقام الجواب استند الإمامية على عدة أدلة، ومنها التالي:

الدليل الاول:

دليل اللطف:

وهو الدليل المشهور عند الإمامية، وخلاصته: أنَّ نصب الإمام لطفٌ، وهذه هي الصغرى، وأما الكبرى: فاللطفُ واجبٌ على الله عزوجل، والنتيجة: أنَّ جعل الإمام واجبٌ على الله عزوجل، وكما تقدم أنَّ هذا الوجوب ليس من الخارج، أي لا توجد قوة خارجية هي التي أوجبت على الله عزوجل اللطف، بل إنّه هو سبحانه وتعالی من أوجبه على نفسه؛ إذ إنّه من الصفات الكمالية.

ودليل الصغرى (إنَّ تنصيب الإمام لطفٌ)، دليلٌ وجداني؛ إذ إنَّ كلَّ واحدٍ منا يحكم وجدانًا بأنَّ وجود الإمام بين الناس أمرٌ يقرب الرعية من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وأنَّ الإمام الكامل في صفاته ومن لديه علمٌ لدني، يكشف بعض الحقائق، فهو مفسر للقرآن الكريم، يقضي بين الناس بالحق، يحل نزاعاتهم و...، وكل ذلك من شأنه أن يجرَّ الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وهذا هو اللطف.

وأما دليل الكبرى (وجوب اللطف على الله عزوجل)؛ فقد تقدم أنَّ اللطف من الصفات الكمالية التي يتصف بها واجب الوجود، وأنَّ عدمها يعني أنَّ الله عزوجل يعلم بعدم إمكانية

ص: 185

العبيد من الوصول إلى طاعته، إلا بمعونة هذا اللطف، ورغم ذلك لا يفعله، وهذا خلاف الكمال الإلهي، فيكون اللطف المقرب إلى الطاعة والمبعد عن المعصية واجبًا.

فضلًا عن أنَّ اللطف في حدِّ ذاته هو من الصفات الكمالية، وذات الله (جلَّ شأنه) منبع كل كمال من جهة، فلا بد أن تكون قد اشتملت على هذه الصفة، وافتقارها إلى هذه الصفة نقصٌ من جهةٍ أخرى، فلا بد أيضًا من اشتمالها عليها.

الدليل الثاني:

الإمام المجعول من الله عزوجل يمثل الحل الأمثل والأصلح للمجتمع:

لو وازنّا بين أنْ نتولى نحن اختيار الإمام وبين أنْ يختاره الله عزوجل، لكان الأفضل والأصلح جزمًا هو أن يتولى الله سبحانه و تعالی ذلك، وفعل الأصلح واجبٌ على الله عزوجل عقلًا؛ لأنه هو ما يليق بساحة الكمال الإلهي، فإن لم يفعل، فإنَّ الأمر لا يخلو إما أن يكون لجهلٍ أو لبخلٍ أو لعبثٍ أو لعجزٍ، والله (جل في علاه) منزهٌ عن كلِّ هذه النقائص، فثبت أنَّ الله عزوجل دومًا يفعل الأصلح، وقد تقدم أنّ تنصيب الإمام أصلح، فتعيّن أنَّ الله عزوجل هو من يتولى تنصيب الإمام.

الدليل الثالث:

تنصيب الإمام مهمة الله عزوجل وحده:

تقدم أنَّ الإمام لابدَّ أنْ يكون معصومًا؛ لشرطية العصمة في الإمامة، والعصمة أمرٌ خفي لا يمكن أنْ يُدركه الناس بحواسهم، ولا يستطيعون أنْ يُحرزوه في شخصٍ ما مهما بذلوا من جهود؛ لانحصار تعاملهم مع الآخرين ضمن دائرة الظاهر المحسوس، وأما ما خفي عنهم من باطن فهو خارج تكليفهم، بل وخارج مقدورهم أيضًا. ومن ثم يكون تكليفهم بتنصيب الإمام تكليفاً بما لا يُستطاع، وبما هو أزيد من الوسع والقدرة؛ لأن الناس لا يستطيعون أنْ يُدركوا المعصوم بطرقهم الاعتيادية، وحيث إنَّ الله عزوجل لا يُكلف الناس بما لا يُطيقون، قال عزوجل: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(1)؛لذا فقد

ص: 186


1- البقرة286

أعفاهم من هذا التكليف، وتولّاه بنفسه (سبحانه وتعالى)، وبذا ننتهي إلى أنَّ تنصيب الإمام مهمةُ الله عزوجل وفعله وهو المطلوب.

فإنْ قيل: إنَّ ذلك يتعارض مع ما قدمتموه في أنَّ تجميع القرائن طريقٌ من طرق كشف الإمام؟

فيُقال: لم نقل إنَّ ذلك الطريق متاحٌ للجميع، بل هو لفئةٍ خاصةٍ ممن يذعنون للحق فور معرفته، ولا تحول دون ذلك أية شبهات أو أهواء.

كما سيأتي أيضًا إمكانية تشخيص الإمام من قِبل العقلاء الذين يحسنون استخدام العقل، وكانت أنفسهم مجردةً من الأهواء؛ وذلك عبر تتبع سلسلة مقدماتٍ تشير نتيجتها إلى الإمام بعينه، ولكن يبقى هذا الطريق مقتصرًا على البعض، وبالتالي فلا تعارض بينه وبين ما ذهبنا إليه من أنَّ تنصيب الإمام مهمة إلهية؛ لتعذر تكليف الناس بها.

إشارات:

الإشارة الأولى: إنَّ النص على الإمام يوفر لنا بعدين مهمين:

الأول: أن التعيين والتنصيب أمرٌ خاصٌ بالله عزوجل

وهذا البعد يكشف لنا عن أنَّ قضية تعيين الإمام لم تفوض إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم، فضلًا عن الأمة وقبول سياسة الأمر الواقع، قال عزوجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾.(1)

الثاني: أن التنصيب الإلهي لإمامٍ ما كاشفٌ عن مؤهلاته الخاصة وأهمها: العصمة والعلم الخاص.

ص: 187


1- الأحزاب 36

فالنص الإلهي الذي ينصب الأئمة علیهم السلام يوفر لنا الكشف عن ذواتهم الطاهرة، ويكشف لنا عن أنَّ هذا الإمام الذي نصَّ الله عزوجل على إمامته هو مؤهلٌ تمامَ الأهلية لأن يكون إمامًا ووليًا لله عزوجل على الناس، ومن أهم تلك المؤهلات التي يكشفها لنا النص الإلهي: العصمة والعلم الخاص الذي يتمتع به الإمام.

ومن هنا يتضح ما أشرنا إليه سابقًا من أنَّ واحدًا من طرق كشف النص الإلهي هو جمعُ القرائن، وبيانه:

أننا تارةً ننظر من جهةِ النص إلى الإمام، فينكشف لنا أنَّ الإمام معصومٌ وله علمٌ خاص.

وتارةً أخرى ومن دون نصٍ ولا رواية، نجمّع القرائن عن شخصٍ ما فتقودنا إلى أنَّ ذلك الشخص هو الإمام، كما لو وجدنا أنَّ لديه من العلم ما ليس لغيره، أو جاء بما يعجز عنه البشر عادةً من معجزات، أو وجدناه على درجةٍ عالية جدًا من الخلق الرفيع مما لا يتوفر عند سائر البشر عادةً، فنتوقع عصمته.

والكشف بالقرائن عن الإمام هو كشف إنّي عن وجود النص، أي كشف المعلول عن علته، وهذا هو معنى الدليل العقلي.

ومن هنا يمكن أن نفهم حديث أبي ذر (رضوان الله عليه) عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «من استعمل غلامًا في عصابة فيها من هو أرضى لله منه، فقد خان الله».(1)

حيث ذكر صاحب البحار هذا الحديث في باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص(2)، وأنت ترى أنه لا نص في هذا الحديث على إمامة الأئمة علیهم السلام، وهذا يعني أن ذكره في هذا الباب إشارة إلى أن النص ليس مجهول الملاك، وإنما الملاك فيه هو توفّر الأئمة على

ص: 188


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 221.
2- بحار الأنوار - ج 23 - ص 75.

كمالات كانوا بها أرضى لله تعالى من غيرهم، أهّلتهم لمنصب الإمامة والولاية، ولذلك كانت تنصيب المفضول مع وجود الفاضل خيانة لله تعالى، وهذا ما يُدركه العقلاء بمتابعة سيرة أهل البيت علیهم السلام.

الإشارة الثانية: هل يمكن للعقل أن يُدرك الإمام الحق؟

نعم يمكن للعقل ذلك، عن طريق جمع القرائن -كما تقدّم-، ولكن ليس أيّ عقلٍ -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضًا-، بل هو طريق خاص لفئةٍ خاصةٍ من الناس، وهي تلك الفئة التي كملت عقولها بما يكفي لهذه المعرفة، وخلت نفوسها من الأهواء والشبهات، فنظروا بعين الواقع وطبقوا ما يرونه على أحكام العقل، حتى نتج لهم أنَّ هذا هو الإمام.

فطريق العقل إذًا طريقٌ خاص، ولذا احتيج إلى طريقٍ عام في تعيين الإمام، يستعين به كافة الناس عالمهم وجاهلهم، ولا يحتاج إلى تكلف العناء والبحث والمقدمات، وهو النص الإلهي.

وعلاوةً على ذلك، فإنَّ النص الإلهي يمتاز عن العقل بوجهين آخرين، وهما:

الوجه الأول: مقام المولوية.

إنَّ تعيين العقل وإنْ صدر من كُمَّل العقلاء، فإنّه يبقى أقل مرتبةً من النص الإلهي في الجانب الإلزامي؛ لافتقاره إلى ما يتمتع به النص الإلهي من مقام المولوية والألوهية. فيبقى حكم العقل حكمًا راجحًا وحسنًا، إلا أنَّه ليس بواجبٍ شرعًا، مما يُقلل من عزم المكلف على الإتيان به، ويُدخل في نفسه التراخي عن الامتثال إليه، بخلاف الحكم المولوي الذي يبثُ في نفس المكلف روح الإلزام، ويدعوها بعزم إلى الامتثال إليه.

وكمثال على ذلك: فإنَّ الإحسان إلى اليتيم هو أمرٌ حسنٌ بحكم العقل، لكن لا

ص: 189

ضير في مخالفته، على حين لو كان الإحسان إلى اليتيم واجبًا، فلا تجوز مخالفته شرعاً، وعليه فإنَّ حكم العقل في أمرٍ ما وإنْ كانت له قوة الحسن والرجحان، إلا أنَّ النص الإلهي إنْ وافقه فيه، فإنّه يزيده قوةً إلى قوته.

الوجه الثاني: النص الإلهي يكشف جميع المقامات.

إنَّ العقل له القدرة على كشف بعض المقامات التي يتمتع بها الإمام، أما النص الإلهي فيكشف عن جميعها، ما يمكن للعقل أنْ يصل إليها وما لا يمكنه بمفرده.

فمقام علم الإمام الخاص الذي لا يجهل معه شيئاً ما، ومقام كلٍّ من الولاية التكوينية والتشريعية، لا يمكن للعقل كشفها بمفرده، وكذلك مقام الشهادة على الأعمال، وأنَّ صحف الناس ترفع إليه مثلاً، وفي النصف من شعبان وليلة القدر حسب ما ورد في الروايات التي فسرت قول الله عزوجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَىٰ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.(1)

بخلاف النص الإلهي، الذي يكشف كل ذلك وأكثر.

إذن العقل حتى وإنْ كان قادراً على استكشاف ما يُفيده النص الإلهي بخصوص التنصيب، لكنّه لا يُلغي دور النص؛ لأنَّ النص يمثل:

1/أمرًا مولويًا يُضيف قوةً إلى قوة الواقع الذي يستكشفه العقل.

2/وسيلةً عامةً لكلِّ الناس، وليس كالعقل الذي هو وسيلةٌ خاصةٌ للكشف.

3/كاشفًا عن كلِّ المقامات الكمالية للإمام، بخلاف حكم العقل الذي لا يمكنه ذلك لو خُلّي وحده.

ص: 190


1- التوبة 105.

الإشارة الثالثة: لماذا لم يُذكر اسم الإمام عليٍّ علیه السلام في القرآن؟

يستبطن هذا السؤال الإشارة إلى أنَّ إثبات الخلافة بالنص لأمير المؤمنين علیه السلام، إنّما هو فرعُ ذكر اسمه علیه السلام صراحةً في القرآن الكريم، ومن ثم فإنَّه يحصر مسألة النص بلفظ القرآن الكريم الصريح.

يمكننا تقديم عدة أجوبة عن هذا السؤال، يصلح كلٌّ منها أن تكون جوابًا بمفرده، فإنْ اتسم المقابل بالعناد كما هي عادتهم، تكون هذه الأجوبة بمجموعها ردًا قاطعًا:

الجواب الأول: يستبطن هذا السؤال القول إنًّ العقيدة لا يمكن أن تُقبل إلا إذا ذُكِرت صريحًا في القرآن الكريم، وهذا الرد أضحى وكأنه قاعدةٌ يتمسك بها المخالفون لاسيما السلفية الوهابية في أي نقاش ديني، فما إنْ تشرع معه في نقاشٍ حتى يبادر إلى مطالبتك بآية.

والرد عليه سهلٌ يسير، وهو أن نقول له: ما هو الدليل الصريح من القرآن الكريم على صحة هذه القاعدة؟

ولمّا لم يكن هناك نصٌ صريحٌ على تلك القاعدة، فإنَّهم سيحاولون الاستناد على دليلٍ روائي، حينئذٍ يمكننا نحن أيضًا أنْ نحتج بالروايات؛ إذ طالما صحَّ أن تكون لهم حجة، فهي كذلك بالنسبة إلينا.

وها هي ذي كتب الحديث ومن الفريقين أيضًا فيها ما فيها من الروايات التي تدل على أنَّ أمير المؤمنين علیه السلام هو الخليفة وهذا يكفي.

الجواب الثاني: مطالبتهم بآيةٍ تتضمن اسم أمير المؤمنين علیه السلام كدليلٍ على خلافته، إنّما يهدفون من ورائها إلى الحصول على دلالةٍ نصية قطعية على أنَّ الخلافة لا تكون إلا بالنص.

وقد غاب عن أذهانهم أو ربما غيّبوه، أنَّ تحصيل القطع منهجيًا لا يتوقف على ذكر

ص: 191

الاسم الصريح؛ لأنَّ الكناية أبلغ من التصريح كما قالت العرب، أي إنَّ الكناية أكثرُ دِلالةً في الوصول إلى المقصود من التصريح، وكمثالٍ على ذلك، فإنَّ قولك: فلانٌ كثير الرماد، أكثرُ دلالةً على كرمه من قولك: فلانٌ كريم؛ لأنَّ كثرة الرماد لم تحصل إلا لكثرة ما يقدمه إلى ضيوفه من طعام.

وعليه فإنَّ مسالة النص على ولاية خصوص أمير المؤمنين علیه السلام لا تتوقف على ذكر اسمه في القرآن الكريم.

الجواب الثالث: يقرر القرآن الكريم أنَّ الله عزوجل قد فوّض إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم مهمة بيان وتفسير الأمور والتعاليم الدينية الضرورية، يقول عزوجل: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.(1) وفي آيةٍ أخرى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(2)

وإنَّما جاء هذا التفويض لهs؛ لأنَّ القران الكريم لم يُتَح للجميع أنْ يفهموه حقّ فهمه، فلا بُدَّ له من مُبيّن، ومُبيّنه من نزل عليه، وهو رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم؛ ومن ثم إذا عرض علينا أمرٌ ديني مهم فلا بُد من أنْ نرجع إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

وما تقدّم إنّما هي كبرى الجواب.

وأما صغراه: فالأحاديث الواردة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم التي تنص على تنصيب أمير المؤمنين من قِبَلِه علیه السلام.

وهذا ما قام به الشيخ المظفر (طيّب الله ثراه) في عبارة الكتاب، إذ ذكر بعض الأحاديث الثابتة في كتب الفريقين والواردة عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم التي تذكر بكلِّ صراحة

ص: 192


1- النحل 44
2- الجمعة 2

تنصيب الإمام علي علیه السلام للخلافة.

ثم إنَّ السؤال عن أنه «لماذا لم يذكر اسم علي علیه السلام في القرآن الكريم؟» ليس وليد الساعة، بل طُرِح على الأئمة علیهم السلام من قبلُ، وقد أجابوا عنه بأجوبةٍ من ضمنها هذا الجواب الثالث.

ففي رواية عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ قَوْلِ الله عزوجل: ﴿أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(1)فَقَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ علیهم السلام».

فَقُلْتُ لَه: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا لَه لَمْ يُسَمِّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِه علیهم السلام فِي كِتَابِ الله عزوجل؟

قَال: فَقَالَ علیه السلام: قُولُوا لَهُمْ:

إِنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله وسلم نَزَلَتْ عَلَيْه الصَّلَاةُ ولَمْ يُسَمِّ الله لَهُمْ ثَلَاثاً ولَا أَرْبَعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَتْ عَلَيْه الزَّكَاةُ ولَمْ يُسَمِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَ الْحَجُّ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ طُوفُوا أُسْبُوعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ ونَزَلَتْ ﴿أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ونَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فِي عَلِيٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، وقَالَ صلی الله علیه وآله وسلم: أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وأَهْلِ بَيْتِي، فَإِنِّي سَأَلْتُ الله عزوجل أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُورِدَهُمَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَأَعْطَانِي ذَلِكَ، وقَالَ: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.

وقَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى ولَنْ يُدْخِلُوكُمْ فِي بَابِ ضَلَالَةٍ، فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم فَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ أَهْلُ بَيْتِه لَادَّعَاهَا آلُ فُلَانٍ وآلُ فُلَانٍ، ولَكِنَّ الله عزوجل أَنْزَلَه فِي كِتَابِه تَصْدِيقاً لِنَبِيِّه صلی الله علیه وآله وسلم: ﴿إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ

ص: 193


1- النساء 59

تَطْهِيراً﴾(1)، فَكَانَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وفَاطِمَةُ علیهم السلام فَأَدْخَلَهُمْ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم تَحْتَ الْكِسَاءِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَهْلاً وثَقَلاً، وهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وثَقَلِي.

فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وثِقْلِي.

فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم كَانَ عَلِيٌّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا بَلَّغَ فِيه رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم وإِقَامَتِه لِلنَّاسِ وأَخْذِه بِيَدِه...».(2)

الجواب الرابع: هناك مجموعةٌ من الآيات التي لا يمكن أنْ تُفسّر إلا بالأئمة علیهم السلام ، لكنها نزلت بمواصفاتهم لا بأسمائهم. وذكر الفرد بصفاته المختصة به والتي لا يمكن أن تنطبق على غيره أبدًا بمنزلة ذكر الاسم، بل أبلغ في الدلالة عليه، كآية المودة وآية التطهير وآية التصدق حال الركوع وآية المباهلة وآية التبليغ وغيرها عشرات الآيات التي لا تنطبق إلا على أهل البيت علیهم السلام.

الجواب الخامس: يُقرر القرآن الكريم أنَّ الأمة ستمر بحالةٍ من الانقلاب على العقب بعد وفاة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم بقوله عزوجل: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.(3)

وقد ظهرت بوادر هذا الانقلاب في حياتهs والتي كان آخرها قولهم: «إن النبي أو الرجل يهجر أو غلبه الوجع!»(4)

ص: 194


1- الأحزاب 33
2- الكافي للكليني ج1 ص 286 – 288 بَابُ مَا نَصَّ الله عزوجل ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ ع وَاحِداً فَوَاحِداً/ح1.
3- آل عمران 144
4- انظر: مسند أحمد ج1 ص 325 و ج1 ص 355 وصحيح البخاري ج1 ص 37 و ج5 ص 138 و ج8 ص 161 و صحيح مسلم النيسابوري ج5 ص 76 وغيرها من مصادر العامة.

وهذه المقدمة الأولى.

والقرآن الكريم قد أخبر أنَّ القرآن سيكون محفوظًا من التحريف، فقال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.(1)

وهذا الحفظ جاء بوسائل عادية ومادية وشهودية بالإضافة إلى بعض الوسائل الغيبية والإعجازية في القرآن الكريم. وهذه المقدمة الثانية.

وأما المقدمة الثالثة: فلا يشكك أحدٌ بوجود أعداءٍ أظهروا عداءهم للإمام علي علیه السلام في حياة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فضلًا عمّا بعد وفاته.

وعليه، ألا يُحتمل أنْ يتعرض القرآن الكريم إلى التحريف فيما لو كان قد صرح باسم الإمام علي وأولاده علیهم السلام في آياته؟!

كما لو قام أولئك الذين أخبر القرآن عن انقلابهم على أعقابهم -وهم أعداء الإمام علي علیه السلام- بتحريف تلك الآيات التي صرّحت باسمه وباسم أولاده.

وهذا ليس بالأمر المحتمل أو المظنون به، بل من المؤكد ومما لا شكَّ فيه، بدليل أنَّهم -كما في بعض رواياتنا-كانوا يرفضون تفسير الإمام علي علیه السلام للآيات رغم صحة تفسيره وإخبارهم أنه تفسير الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، فمن باب أولى أنْ يُحرَّفوا الآيات التي يُذكر فيها اسمه واسم أولاده (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) إما بالحذف أو التغيير.(2)

لذا كان عدم ذكر الله سبحانه و تعالی أسماءَ الأئمة علیهم السلام في القرآن الكريم هو سببٌ من أسباب

ص: 195


1- الحجر 9.
2- في علل الشرائع للشيخ الصدوق ج2 ص 531 باب 315 ح1: عن أبي إسحاق الإرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا ندري، فقال: ان عليا علیه السلام لم يكن يدين الله بدين الا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين علیه السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس».

حفظه من التحريف.

الجواب السادس: يقرّرُ القرآن الكريم مبدأ ابتلاء الناس في الدنيا في آيات كثيرة، قال تعالى ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾.(1)

وقال تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾.(2)

ومنهجية البلاء والاختبار يضعها الله عزوجل حسب ما يراه من الحكمة.

فما المانع إذًا من أنْ تكون قضية الإمامة من اختبارات وابتلاءات الأمة؛ لتمحيص المؤمنين، فلربما لو ذُكِر اسم الإمام علي علیه السلام صراحةً في القرآن الكريم، لم يتحقق ذلك الاختبار، فيكون إخفاء التصريح بالاسم واحدًا من الابتلاءات التي أرادها الله (جل جلاله) للمسلمين.

الجواب السابع: إنَّ نظرية الإمامة نظرية قرآنية بكلِّ ما يرتبط بها من التنصيص عليها، وشرطية العصمة فيها، واختصاصها بالولايتين التشريعية والتكوينية، والعلم الخاص اللدني، ولكن رغم ذلك لو تنزلنا وسلّمنا جدلًا بأنَّ القرآن الكريم لم يُشِر إليها من قريب ولا من بعيد، فإنه تبقى لدينا أحاديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم المتواترة الكثيرة التي صرّحت بإمامته وإمامة أولاده من بعده.

ألا تورث كلُّ هذه الأحاديث الكثيرة والروايات الوفيرة التي دلّت على إمامته علیه السلام بالقطع وبالتواتر وضوحًا لا يُمكن إنكاره إلا من المكابر المعاند؟!

الجواب الثامن: المنفي عن القرآن الكريم هو التحريف، وأما القراءات المختلفة

ص: 196


1- العنكبوت 2.
2- البقرة 214.

من قبيل كلمة (هيت) في قوله عزوجل: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾(1)، فإنّها تُقرأ (هَيت) و(هِيت) أي بفتح الهاء وكسرها، فلا تعدُّ كذلك؛ لذا لم ينكرها الخاصة ولا العامة.

وقد صرّحت بعض القراءات بذكر اسم الإمام علي علیه السلام في القرآن الكريم، فوفق تعدد القراءات، فإنه توجد عدة آيات صرّحت باسم علي علیه السلام وفق بعض القراءات، ومنها التالي:

1/ ما ورد في قراءة أخرى لقوله تعالى ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾(2)حيث قُرئ بلفظ (صِراطُ عَلَيٍّ).

روي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله علیه السلام: ﴿قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾(3) قال: «هو والله علي، هو والله علي الميزان والصراط».(4)

«وروى الصادق، عن أبيه، عن جده علیهم السلام قال: «قال يوما الثاني لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: إنك لا تزال تقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فقد ذكر الله هارون في أم القرآن ولم يذكر عليًا، فقال: يا غليظ يا جاهل، أما سمعت الله سبحانه يقول: هذا صراطُ عليٍّ مستقيم.».

موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده علیهم السلام: «هذا صراطُ عليٍّ مستقيم. وقُرئ مثله في رواية جابر».

أبو بكر الشيرازي، في كتابه بالإسناد، عن شعبة، عن قتادة قال: «سمعت الحسن البصري يقرأ هذا الحرف: هذا صراط علي مستقيم، قلت: ما معناه؟ قال: هذا طريق

ص: 197


1- يوسف: 23.
2- الحجر 41.
3- الحجر 41.
4- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 532 وتفسير أبي حمزة الثمالي ص 226.

علي بن أبي طالب، ودينه طريق دين مستقيم، فاتبعوه وتمسكوا به فإنه واضح لا عوج فيه.»(1)

2/ عن أبي بصير، عن الصادق علیه السلام، في خبر: «أن إبراهيم علیه السلام كان قد دعا الله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال الله تعالى: ﴿وَهَبْنا لَه إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ وكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ووَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾(2)يعني علي بن أبي طالب علیه السلام».(3)

3/ في التهذيب في دعاء الغدير: «وأشهد أنه الإمام الهادي المهدي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذكرته في كتابك، وإنك قلت: ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(4)»(5)

ومن الروايات التي ذكرت أن اسم علي علیه السلام قد ذُكر صريحًا في القرآن الكريم:

عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزوجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قال: «هو أمير المؤمنين علیه السلام ومعرفته، والدليل على أنه أمير المؤمنين علیه السلام قوله عزوجل: ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(6)وهو أمير المؤمنين علیه االسلامفي أم الكتاب في قوله عزوجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾».(7)

ص: 198


1- انظر بحار الأنوار للمجلسي ج 35 ص 59. هذا وقد ذكر قدس سره عدة آيات بهذا المعنى، يمكن مراجعة المصدر لمطالعتها.
2- مريم 49 و 50.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرا آشوب ج2 ص 302 وعنه البحار ج35 ص 59 والبرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج3 ص 717.
4- الزخرف 4.
5- التهذيب للشيخ الطوسي ص 748، وذكره أيضًا في مناقب آل أبي طالب لابن شهرا آشوب ج2 ص 302. والمزار لمحمد بن جعفر المشهدي ص 287 وغيرها.
6- الزخرف 4.
7- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 23.

وعن محمد بن علي بن جعفر قال: سمعت الرضا علیه السلام يقول: «قال أبي علیه السلام وقد تلا هذه الآية ﴿وإِنَّه فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(1)،قال: هو علي بن أبي طالب علیه السلام».(2)

العلا، قال: «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد علیهما السلام عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾. قال: هو أمير المؤمنين علي علیه السلام أوتي الحكمة وفصل الخطاب وورث علم الأولين وكان [أي اسم علي] اسمَه في الصحف الأولى وما أنزل الله تعالى كتابا على نبي مرسل إلا ذكر فيه اسم رسوله محمد صلی الله علیه وآله وسلم واسمه وأخذ العهد بالولاية له علیه السلام».(3)

وفي المزار لابن المشهدي في زيارته علیه السلام: «السلام على أمين الله في أرضه وخليفته في عباده، والحاكم بأمره، والقيم بدينه، والناطق بحكمته، والعامل بكتابه، أخي الرسول، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، السلام على صاحب الدلالات والآيات الباهرات والمعجزات القاهرات، المنجي من الهلكات، الذي ذكره الله في محكم الآيات، فقال تعالى ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.

وفي زيارته علیه السلام الأخرى: «السلام عليك أيها النبأ العظيم، السلام عليك يا من انزل الله فيه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، السلام عليك يا صراط المستقيم».

وفي دعاء يوم الغدير: «وأشهد أنه الإمام الهادي الرشيد أمير المؤمنين الذي ذكرت في كتابك فإنك قلت وقولك الحق ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾».

وعن أبي عبد الله علیه السلام وقد سأله سائل عن قول الله عزوجل: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾. قال: «هو أمير المؤمنين».

ص: 199


1- الزخرف 4.
2- الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي ج2 ص 894.
3- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 244.

والخلاصة:

أنَّ السؤال عن عدم ذكر اسم الإمام علي وأولاده علیهم السلام في القرآن هو سؤالٌ يفتقر إلى الصحة والمنهجية، فإنْ قبلناه، فما تقدّم من أجوبة تكفي في الرد عنه.

الإشارة الرابعة: نظرية التنصيب أمرٌ متصور لدى المسلمين منذ صدر الإسلام.

عندما نرجع إلى العصر الأول للإسلام، عصر وجود رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وما بعده بقليل، نجد أنَّ المسلمين قد أخذوا تصورًا واضحًا بأنَّ الإمامة والخلافة لابد أنْ تكون بالنص، وأنّه لا يُتصور لراعٍ حكيم أنْ يترك رعيته من دون أنْ يجعل عليهم وليًا من بعده يُسيّر أمورهم بما يصبُّ في صالحهم، والروايات التي نقلت لنا هذا التصور كثيرةٌ نذكر منها:

1/روي أنه صلی الله علیه وآله وسلم أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: «أرأيت إنْ نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك، أيَكون لنا الأمر من بعدك؟ قال صلی الله علیه وآله وسلم: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفَنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك!».(1)

2/ وروي أيضًا أنه صلی الله علیه وآله وسلم «بعث سليط بن عمرو العامري... إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، فقدم عليه وأنزله وحباه وقرأ كتاب النبي صلی الله علیه وآله وسلم، وردّ ردًّا دون رد، وكتب إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعْك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابًا من نسْج هجَر، فقدم بذلك كله على النبيs وأخبره عنه بما قال، وقرأ كتابه، وقال صلی الله علیه وآله وسلم: لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ، بادَ وبادَ ما في يديه، فلما

ص: 200


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 93 (واللفظ له) وتاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري ج2 ص 84.

انصرف من عام الفتح، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات».(1)

وفي رواية ابن الأثير:

«وأما هوذة بن علي، فكان ملك اليمامة، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام وكان نصرانياً أرسل إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرجّال بن عُنفوة يقول له: إنْ جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصَره، وإلا قصد حربه. فقال رسول اللهّ صلی الله علیه وآله وسلم: لا، ولا كرامة، اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل».(2)

3/استخلاف عثمان بن عفان عن طريق الشورى بين ستةِ أشخاصٍ عيّنهم عمر بن الخطاب، فضلًا عن قيام أبي بكر بتعيين عمرَ خليفةً له، يدلُّ على أنَّ تنصيب الخليفة كان أمرًا مرتكزًا في الأذهان، وأنَّ مسألة الخلافة يجب أنْ تكون عن طريق الجعل والتعيين.

ومن المفارقات أن من المناقب التي ذكرها القوم لأبي بكر أنَّه لم يترك الأمة من بعده بلا راعٍ؛ إذ عيّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهدٍ كتبه عثمان بن عفان، فإنْ كان عمر قد تفطّن إلى هذا الأمر حتى كُتِب من مناقبه، فكيف لم يتفطن له النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وترك الأمة من بعده بلا راعٍ؟

4/ أن عائشة قالت لابن عمر: «يا بني، أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راعٍ، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هَمَلًا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبدُ الله فأعْلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيًا استخلفتُه ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفتُه، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «إن معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة». ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من

ص: 201


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص 262.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 215.

وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: «خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على المشركين»، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم..».(1)

5/عن ابن عمر قال: «دخلت على حفصة، فقالت: أَعَلِمتَ ان أباك غير مستخلف؟! قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلًا حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا اخبره. قال: ثم قلت له: إنى سمعتُ الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد..».(2)

6/ وممن كان يتبنى هذه النظرية أيضًا معاوية بن أبي سفيان، وأنه كان يرى أن عدم تنصيب خليفة من بعده يؤدي إلى ضياع الأمة، فقال لابن عمر: «إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها».(3)

الإشارة الخامسة: علة جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسين دون الإمام الحسن علیهما السلام؟

مما هو معلومٌ في مدرسة أهل البيت علیهم السلام أنَّ الإمام الحسن علیه السلام أكبر من الإمام الحسين علیه السلام، وأنَّه أفضل منه أيضًا حسب بعض الروايات، فلماذا صارت الإمامة في ذرية الإمام الحسين علیه السلام دون الإمام الحسن علیه السلام؟ لاسيما أنَّ هذا الأمر يُضفي خصوصية

ص: 202


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 28.
2- صحيح مسلم النيسابوري ج6 ص 5.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 159.

للإمام الحسين عللیه السلام تجعله أفضل من الإمام الحسن علیه السلام.

يحمل السؤال المتقدم نقطتين لابُدَّ من تسليط الضوء عليهما عند الإجابة، أولاهما السؤال بعينه، والأخرى الملازمة بين خصوصية جعل الأئمة علیهم السلام في ذرية الإمام الحسين علیه السلام وبين الأفضلية، وهما ما سنجيب عنهما في نقطتين:

الأولى: تنصيب الإمام إلهيٌّ، والله تعالى لا يُسأل عن فعله.

في مقام الجواب عن السؤال، لابُدَّ أنْ نذكر بأننا نتحدث وفقًا لنظرية التنصيب الإلهي، ومعه، فإنَّ أمر تنصيب الإمام مختصٌ فقط بالله (جلّ في علاه)، وما من مخلوقٍ له الحق في ذلك، ومن ثَمّ فليس لنا الحق في أنْ نسأله عن سبب جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسن أو الحسين (سلام الله عليهما) طالما علمنا أنَّ أفعاله عزوجل كلها حسنةٌ وحكيمةٌ، والحكيم لا يُسأل عما يفعل.

وعليه فإنّ هذا السؤال غير منهجي وغير صحيح من رأس، وهذا ما استفيد من روايةٍ للإمام الرضا علیه السلام عن محمد بن أبي يعقوب البلخي، قال: «سألت أبي محمد الرضا علیه السلام فقلت له: لأي علةٍ صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن علیه السلام؟ فقال الإمام الرضا8: لأن الله عزوجل جعلها في ولد الحسين ولم يجعلها في ولد الحسن والله لا يُسأل عمّا يفعل.(1)

نعم، ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ مسألة جعل الأئمة من ذرية الإمام الحسين علیه السلام هي مسألة تعويضٍ له علیه السلام عمّا قدّمه في سبيل الله عزوجل، فقد ورد عن محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد علیهم السلام يقولان: أن الله عزوجل عوض الحسين علیه السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.

ص: 203


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق/ ج1/ص208 باب 156 ح 10.

قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله علیه السلام: هذا الجلال ينال بالحسين علیه السلام فماله في نفسه؟ قال: إن الله عزوجل ألحقه بالنبي صلی الله علیه وآله وسلم فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾».(1)

الثانية: عدم الملازمة بين الخصوصية والأفضلية.

وأما افتراض السائل أنَّ جعل الأئمة من ذرية الإمام الحسين علیه السلام يستلزم تفضيله على أخيه الإمام الحسن علیه السلام فهو افتراضٌ عارٍ عن الصحة.

نعم، كون الأئمة علیهم السلام من ولد الإمام الحسين علیه السلام خصوصيةً خصَّ الله عزوجل بها الإمام الحسين دون الإمام الحسن علیهما السلام، ولكن لا ملازمة بين الخصوصيات والتفضيل، فيبقى للإمام الحسن علیه السلام مقام الأفضلية على الإمام الحسين علیه السلام رغم أنَّ الأئمة من ذرية الأخير؛ يدُلُّنا على ذلك ما لأمير المؤمنين علیه السلام من خصوصياتٍ عظيمة اختص بها دون رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ومنها أنَّه ولِد في الكعبة دون الرسولs، وأنَّه أخو رسولٍ دونه أيضًا، وأنّه زوج بنت رسولٍ دونه أيضًا، وأنَّ ولديه إمامان دونه (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

كما استفيد معنى عدم الملازمة بين الخصوصية والأفضلية من روايات أهل البيت (سلام الله عليهم)، فقد روي عن هشام بن سالم قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد علیه السلام: الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين. [قال:] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين علیهما السلام، ألا ترى أنهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة وإن الله عزوجل جعل

ص: 204


1- الطور 21.

النبوة في ولد هارون ولم يجعلها في ولد موسى وإن كان موسى أفضل من هارون علیه السلام.

قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟

قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا.

قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين علیهما السلام؟

قال: لا إنما هي جارية في عقب الحسين علیه السلام كما قال الله عزول: ﴿وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾.(1)

ثم هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.(2)

الإشارة السادسة: شبهة الإمامة بسنٍ مبكرة:

من الثابت في المدرسة الإمامية أنَّ بعض الأئمة قد تسلّم منصب الإمامة في سنٍ مبكرة، كالإمام الجواد الذي صار إمامًا في السابعة من عمره، والإمام الهادي الذي صار إمامًا في الثامنة من عمره، والإمام المهدي الذي صار إمامًا في الخامسة من عمره (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

بيدَ أنَّ البعض استشكل على ذلك ومنهم من يُسمى ب(أحمد الكاتب) وغيره؛ إذ قالوا كيف يكون بعض الأئمة الذين ادعوا الشيعة أنَّهم أئمة وهم لا زالوا صبيانًا؟!

يمكن الجواب عن هذا السؤال بطريقين هما:

الأول: الجواب بطريق النقض:

كيف يُفسر المعترضون إتيان الله عزوجل النبوة لبعض الأنبياء حال صباهم، كما أتى

ص: 205


1- الزخرف 28.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 417 باب 40 ح 9.

النبوة والحكم للنبي يحيى علیه السلام وهو صبيٌ يقول الله عزوجل: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)، بل كيف يُفسر جعل النبي عيسى علیه السلام نبيًا وهو بعدُ في المهد، قال عزوجل: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.(2)

فبنفس تفسيرهم لجعل الله عزوجل النبوة لبعض الأنبياء حال صباهم، يمكن تفسير جعله عزوجل الإمامة لبعض الأئمة حال صباهم.

الثاني: الجواب بطريق الحل:

ويمكن ذلك بعدة وجوهٍ، إن لم يكف أحدها، فبمجموعها صالحة للجواب، وهي:

الأول: تقدّم مرارًا أنَّ الإمامة إنَّما تكون بالجعل والنص الإلهي؛ لذا فإنَّ هذا السؤال لا يكون منطقيًا، إذ ما دام جعل الإمام تابعًا لإرادة الله عزوجل، وهو من فعله عزوجل، ونحن نعلم أنَّ أفعاله سبحانه و تعالی حكيمةٌ لا لغو فيها ولا عبث، فلا يصح حينئذٍ أنْ نسأل لمَ جعل الله عزوجل الإمام الجواد علیه السلام مثلًا إمامًا في هذا العمر.

الثاني: إنَّ النص الإلهي له بعدان: أولهما، إنَّ جعل الإمامة أمرٌ خاصٌ بالله عزوجل، والثاني إنَّ النص الإلهي يكشفُ عن مؤهلاتٍ موجودةٍ في الإمام تجعله مستحقًا لذلك المنصب، وبالتالي لا مانع أنْ يكون الإمام صغيرًا في عمره طالما أنَّه يمتلك تلك المقامات والكمالات الوجودية التي تؤهله لمنصب الإمامة.

الثالث: إنَّ هذا السؤال إنَّما يصدر ممن لا يعرف حقيقة الإمام، وعظم علاقته بالسماء، فإنَّ الإمام وإن كان بشرًا مثلنا إلا أنَّ علاقته بالسماء تتجاوز الحدود الطبيعية للبشر من حيث الفهم والعلم والحكمة، وهذا ما تكشف عنه النقاشات والبحوث التي

ص: 206


1- مريم 12.
2- مريم 29 و 30.

قام بها الإمام الجواد علیه السلام مثلاً مع يحيى بن أكثم وغيره من فقهاء البلاط العباسي في ذلك الوقت كما هو مذكور في الروايات الشريفة.

وكذلك ما كان يتمتع به الإمام الهادي علیه السلام من الفضائل والكمالات التي تبين تلك العلاقة الغيبية بالسماء، تلك الفضائل التي كانت للإمام الجواد والهادي (سلام الله عليهما) التي دعت أعداءهم إلى الإقرار بفضلهم وعلمهم، وبالتالي لا يصح أنْ نسأل كيف صار الإمامُ أمامًا وهو لا زال صبيًا.

الرابع: بالإضافة إلى ما تقدَّم من أجوبةٍ دينية، نضيف جوابًا يتماشى مع الفكر المادي، مفاده:

من المسلّم به لدى الجميع وجود العباقرة والنوابغ ممن هم صغار السن، بعمر ثلاث سنوات أو خمس، فلماذا لا يُعترض على هؤلاء العباقرة كيف أصبحوا كذلك بهذا العمر الصغير؟!

ولا شك أنَّ الموحدين يبررونها على أنَّ الله عزوجل وهب لهم عقلًا خارقًا، فلماذا لا يُبرر هذا الأمر جعل الإمامة لبعض الأئمة (سلام الله عليهم) في صغر سنهم؟!

ص: 207

ص: 208

عقيدتنا في عدد الأئمة عليهم السلام

اشارة

قال الشيخ رحمه الله:

«عقيدتنا في عدد الأئمة:

ونعتقد أنَّ الأئمة الذين لهم صفة الإمامة الحقّة هم مرجعنا في الأحكام الشرعية المنصوص عليهم بالإمامة اثنا عشر إماماً، نصَّ عليهم النبي صلی الله علیه وآله وسلم جميعاً بأسمائهم، ثم نصّ المتقدِّم منهم على من بعده، على النحو الآتي:

1 - أبو الحسن علي أبي طالب (المرتضى) المتولد سنة 23 قبل الهجرة والمقتول سنة 40 بعدها.

2 - أبو محمد الحسن بن علي (الزكي)، (2 - 50) .

3 - أبو عبد الله الحسين بن علي (سيد الشهداء)، (3 - 61).

4 - أبو محمد علي بن الحسين (زين العابدين)، (38 - 95).

5 - أبو جعفر محمد بن علي (الباقر)، (57 - 114).

6 - أبو عبد الله جعفر بن محمد (الصادق)، (83 - 148).

7 - أبو إبراهيم موسى بن جعفر (الكاظم)، (128 - 183).

8 - أبو الحسن علي بن موسى (الرضا)، (148 - 203).

9 - أبو جعفر محمد بن علي (الجواد)، (195 - 220).

10 - أبو الحسن علي بن محمد (الهادي)، (212 - 254).

ص: 209

11 - أبو محمد الحسن بن علي (العسكري)، (232 - 260).

12 - أبو القاسم محمد بن الحسن (المهدي)، (256 -...) وهو الحجة في عصرنا الغائب المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.» انتهى.

قد حسب الشيخ رحمه الله لكلِّ كلمةٍ من هذه الكلمات حسابًا، وفي كلٍّ منها كان له مغزى.

فالإمامةُ الحقّة:

هي الإمامة التي تكون بتنصيبٍ من الله عزوجل، لا من البشر، لا بالشورى ولا بالقوة ولا غيرها مما تقدم من طرق الوصول إلى الحكم وفقًا لنظرية الأمر الواقع.

وهم مرجعنا في الأحكام الشرعية:

هم (سلام الله عليهم) مرجعنا في كلِّ الأمور المتعلقة في الدين، من أصول وفروع وثمرتهما الأخلاق. ولكن بما أنَّ الأحكام الشرعية تدخل في كلِّ مجالات الحياة، فحياتنا عبارة عن وقائعَ وأحداثٍ، ولكلٍّ منها حكمٌ شرعيٌ؛ إذ ما من واقعةٍ إلا ولها حكمٌ، لذا ذكرها الشيخ (طيب الله ثراه).

المنصوص عليهم بالإمامة:

وقد تقدّم الحديث مفصلًا في أنَّ الإمامة لا تكون إلا بالنص الإلهي.

وأكملe: نصَّ عليهم الرسول صلی الله علیه وآله وسلم جميعًا بأسمائهم، ثم نصَّ المتقدم منهم على من بعده على النحو الآتي:

فيذكر الشيخ أنَّ الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم قد نصَّ عليهم جميعًا، وذكر أسماءهم (سلام الله عليهم)، ثم نص الإمام المتقدِّم منهم على الذي يليه.

ص: 210

شبهة الاختلاف في عدد الأئمة علیهم السلام:

أثار بعض المشككين ومنهم أحمد الكاتب شبهةً في نشرةٍ عنوانها الشورى، مفادها: إنَّ الشيعة اختلفوا فيما بينهم في عدد أئمتهم، وإنَّ الشيعة افترقوا فرقتين في هذا المجال، فالبعض يقول: إنَّ الأئمة اثنا عشر، والبعض يقول: إنَّ الأئمة ثلاثة عشر. وهذا الاختلاف يترتب عليه أنَّ الشيعة ليسوا على حق ومذهبهم باطل، والدليلُ على بطلانه هو اختلافهم فيما بينهم على عدد أئمتهم.(1)

في مقام الجواب نقول:

بعد تسليم وجود بعض الروايات التي قد يظهر منها أنَّ الأئمة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ثلاثة عشر، وهذه الروايات خمسةٌ ذكرها الشيخ الكليني رحمه الله في كتابه الكافي، ج1 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام.

وقد يظهر من هذه الروايات أنَّ عدد الأئمة ثلاثة عشر.(2)

ص: 211


1- نُقل عنه النص التالي: وعندما نشأت فكرة تحديد عدد الائمة، بعد القول بوجود وغيبة الامام الثاني عشر علیهم السلام كان الشيعة الامامية يختلفون فيما بينهم حول تحديد عددهم باثني عشر أو ثلاثة عشر، إذ برزت في ذلك الوقت روايات تقول، بان عدد الائمة ثلاثة عشر، وقد نقلها الكليني في (الكافى) (ج1ص534) ووجدت في الكتاب الذي ظهر في تلك الفترة ونسب إلى سليم بن قيس الهلالي، حيث تقول إحدى الروايات، ان النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال لامير المؤمنين علیه السلام: «أنت واثنا عشر من ولدك أئمة الحق». وهذا ما دفع هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب، حفيد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، الذي كان يتعاطى (الكلام) لان يؤلف كتابا في الامامة، يقول فيه، ان الائمة ثلاثة عشر، ويضيف إلى القائمة المعروفة (زيد بن علي) كما يقول النجاشي في (رجاله)
2- الروايات في الكافي للكليني ج1 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام: 1/الحديث 7: عَنْ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَر علیه السلام يَقُولُ «الِاثْنَا عَشَرَ الإِمَامَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه وآله وسلم كُلُّهُمْ مُحَدَّثٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ومِنْ وُلْدِ عَلِيٍّ ورَسُولُ الله وعَلِيٌّ علیه السلام هُمَا الْوَالِدَانِ...». 2/الحديث 9: عنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ$ وبَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيه أَسْمَاءُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهَا، فَعَدَدْتُ اثْنَيْ عَشَرَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ عجل الله تعالی فرجه الشریف، ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ وثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ عَلِيٌّ. 3/الحديث 14: عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: «الِاثْنَا عَشَرَ الإِمَامَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ مُحَدَّثٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وسلم ووُلْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ8، فَرَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم وعَلِيٌّ علیه السلام هُمَا الْوَالِدَانِ». 4/الحديث 17: عَنْ أَبِي الْجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: إِنِّي واثْنَيْ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي وأَنْتَ يَا عَلِيُّ زِرُّ الأَرْضِ يَعْنِي أَوْتَادَهَا وجِبَالَهَا بِنَا أَوْتَدَ الله الأَرْضَ أَنْ تَسِيخَ بِأَهْلِهَا فَإِذَا ذَهَبَ الِاثْنَا عَشَرَ مِنْ وُلْدِي سَاخَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا ولَمْ يُنْظَرُوا». 5/الحديث 18: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله وسلم: مِنْ وُلْدِيَ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً نُجَبَاءُ مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ آخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ يَمْلأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً».

ويكون رد هذه الشبهة بجوابٍ تفصيلي تارةً، أي بالتعرض إلى هذه الروايات روايةً روايةً، وإثبات ضعف سندها، وما توصل إليه العلماء في بحثهم في متونها بالرجوع إلى مصادر الأمهات، وخلاصته أنَّ تصحيفًا، أو خطأً أو اشتباهًا من النُساخ حدث في إضافة حرفٍ، ترتب عليه دلالتها على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر.

ويكون بجوابٍ إجمالي تارةً أخرى، ولأن الأخير كافٍ في رد هذه الشبهة، فقد استغنينا عن التعرض للأول. وللجواب الإجمالي وجهان هما:

الأول: من الأصول الموضوعية عند الشيعة: عدم وجود كتابٍ يوصف بصحةِ كلِّ ما ورد فيه من الغلاف إلى الغلاف سوى القرآن الكريم، فكلُّ كتابٍ عندنا سوى القرآن الكريم هو خاضعٌ للنقاش وللأخذ والرد ولتصحيح بعض ما ورد فيه وتخطئةِ البعض الآخر.

وهذا خلاف العامة الذين وصفوا بعض كتبهم بالصحاح، وهو وصفٌ يعني أنَّ كلَّ ما موجود بين دفتيها هو صحيحٌ، ويمثل عقيدتهم ودينهم، والتزامهم بهذا الأمر

ص: 212

يُلزمهم بالامتثال والاعتقاد بكلِّ ما ورد فيها.

أما نحن -كأتباع المدرسة الإمامية- فلا كتاب صحيحاً عندنا سوى القرآن الكريم، وعليه لو تضمن أثمن الكتب وأهمها ما يُخالف عقيدةً ثابتة راسخةً، فتركه ورفضه لا يخرج عن الحدود العلمية التي بنينا عليها معارفنا.

وهذا يعني: خضوع أيّ روايةٍ موجودةٌ في كتبنا المعرفية والحديثية إلى قوانين علم الرجال وغيرها من العلوم، كعلم الكلام والفقه والقرآن الكريم، ومن ثَمّ فإنَّ هذه الروايات الخمس التي قد يُستظهر منها أنَّ عدد الأئمة ثلاثة عشر يمكننا أنْ نرفضها بكلِّ سهولةٍ ولا تؤثر على عقيدتنا في شيء.

علاوةً على ذلك فإنَّ هذه الروايات إما ضعيفةُ السند -وكُلُّها كذلك-، وإما ثبت تصحيفها وزيادةِ حرفٍ أو كلمةٍ فيها، كما ذكر علماؤنا المحققون في هذا المجال، أو يمكن أنْ تُحمَل على معانٍ كنائية تتوافق مع الاعتقاد بأنَّ الأئمة اثنا عشر فقط، كما ذهب البعض إلى أنَّ المقصود منها هو إدخال السيدة الزهراء (سلام الله عليها)؛ لأنها حجةٌ من حُجج الله عزوجل، فيما ذهب البعض إلى أنَّ ذلك من باب عطف العام على الخاص، أيّ ذكر الإمام عليٍّ علیه السلام ثم ذكره ضمن الاثني عشر إمامًا، فمن الممكن حملها على هكذا محامل تتوافق مع عقيدتنا، هذا بقطع النظر عن سندها الضعيف، وكونها ضعيفةً بمفرده يكفي في عدم الاستناد عليها في أمرٍ فقهي فضلًا عن العَقَدي.

بل يمكن الجزم بوقوع خطأٍ من النُساخ (تصحيف) عندما كتبوا الكافي، أو ربما يكون اشتباهًا من نفس الشيخ الكلينيe كما لو كتب اثني عشر عوضًا عن أحد عشر لما هو مترسخٌ في الذهن أنَّ الائمة اثنا عشر.

وجزمنا بوقوع الاشتباه هذا لم يأتِ اعتباطًا، بل يتأتى من ذكر الشيخ رحمه الله هذه الروايات الخمسة في بابٍ سمّاه ب-(بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ علیهم السلام.)،

ص: 213

فلا يُعقل أن يثبت رواياتٍ تدلُّ على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر في بابٍ ما عقده إلا ليُثبت فيه عقيدته بأنَّ الأئمة من بعد النبي صلی الله علیه وآله وسلم هم اثنا عشر.

كما أنَّه رحمه الله قد ذكر في هذا الباب عشرين رواية للاستدلال بها على أنَّ الأئمة اثنا عشر، ومن ضمنها ذكر هذه الروايات الدالّة على أنَّ الأئمة ثلاثة عشر!

ومن هنا يمكن الجزم بوقوع الخطأ أو الاشتباه من الشيخ الكليني رحمه الله، ولكننا نجلّه عن هذا الخطأ، فلربما صدر من أحد النُساخ، ومعه لا تكون هذه الروايات معارضةً لعقيدتنا في أنَّ الأئمة اثنا عشر فقط.

الثاني: إنَّ من الأمور المُسلّمة لدى الشيعة، والتي لا يختلف فيها اثنان، من عوامهم فضلًا عن خواصهم في أنَّ أئمتنا وخلفاء النبي صلی الله علیه وآله وسلم هم اثنا عشر إمامًا لا غير، بل إنَّ مذهبنا معروفٌ بالاثني عشرية.

نعم، نُقِل أنَّ الذي قال بتلك المقالة هو هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب، المُكنّى بأبي نصر، والمعروف بابن برنية، وكان قد حضر في مجلس أبي الحسين بن أبي شيبة العلوي الزيدي، فأراد هبة الله أنْ يتقرب إلى دنيا أبي الحسين فكتب له كتابًا، ذكر فيه إنَّ الأئمة ثلاثة عشر، بإضافة (زيد بن علي) لكون الرجل (أبي الحسين) زيدياً.

وقد احتج هبة الله على ذلك بحديثٍ جاء في كتاب سُليم بن قيس الهلالي، وتلك الرواية من إحدى الروايات الخمسة التي ذكرها الشيخ الكليني ومفاده أن «الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين».(1)

ص: 214


1- قد عدَّ ابن الغضائري وجود هذه الرواية في كتاب سليم بن قيس إحدى العلامات على وضعه. وأجاب عنه العلامة التستري بقوله «انه من سوء تعبير الرواة وإلا فمثله في الكافي أيضاً موجود»، ولزيادة الفائدة: نذكر ترجمة هبة الله على ما ورد في مستدركات علم الرجال للنمازي الشاهرودي ج8 ص 140 – 141 رقم (15863) هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب أبو نصر المعروف بابن برنية: هكذا عنونه النجاشي والعلامة، ثم قالا: وكان يتعاطى الكلام ويحضر مجلس أبي الحسين بن الشبيه العلوي الزيدي المذهب، فعمل له كتاب وذكر أن الأئمة ثلاثة عشر مع زيد بن علي بن الحسين واحتج بحديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي أن الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين علیه السلام. وزاد النجاشي على ذلك: أنه كان يذكر أن أمه أم كلثوم بنت أبي جعفر محمد بن عثمان العمري. وله كتاب في الإمامة، وكتاب في أخبار أبي عمرو وأبي جعفر العمريين. ورأيت أبا العباس بن نوح قد عول عليه في الحكاية في كتابه أخبار الوكلاء. وكان هذا الرجل كثير الزيارات. وآخر زيارة حضرها معنا يوم الغدير سنة أربعمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين علیه السلام. انتهى. وظاهره اعتماد أبي العباس عليه. ونقل العلامة المامقاني عن الفاضل التفرشي أنه علق على قول النجاشي: (واحتج بحديث - الخ): أنه ليس في كتاب سليم بن قيس أن الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين علیه لسلام، بل فيه: أن الأئمة ثلاثة عشر من ولد إسماعيل وهم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مع الأئمة الاثني عشر، فكأنه اشتبه على النجاشي أو غيره. انتهى. أقول: ولو فرض وجود الحديث لا يدل على أن الأئمة ثلاثة عشر لأن الكلام بعد قوله (اثنا عشر) منقطع، فكأنه يقال: الأول معلوم والباقي من ولد من يكونون؟ فأجاب: من ولد أمير المؤمنين. فتدبر جيدا.

والخلاصة: أنَّ الشيعة لم يفترقوا فرقتين كما ذهبت إليه الشبهة، وإنّما هم مُطبقون على أنَّ الأئمة اثنا عشر، وأما (هبة الله) الذي أراد الدنيا فكتب كتابًا يتقرب به إلى دنيا أبي الحسين العلوي الزيدي، فهو شاذٌ نادر.

فعقيدتنا في الأئمة أنَّهم اثنا عشر، وأما من ادّعى سوى ذلك بأنْ زاد على ذلك أو أنقص فهو خارجٌ بدعواه هذه عن المذهب.

ص: 215

ص: 216

عقيدتنا في المهدي عجل الله فرجه الشريف

اشارة

قال قدس سره:

«عقيدتنا في المهدي:

إن البشارة بظهور (المهدي) من ولد فاطمة في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً - ثابتةٌ عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم بالتواتر، وسجلها المسلمون جميعاً فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم.

وليست هي بالفكرةِ المُستحدثة عند (الشيعة) دفع إليها انتشار الظلم والجور، فحلموا بظهور من يطهر الأرض من رجس الظلم، كما يريد أن يصوّرها بغض المغالطين غير المنصفين.

ولولا ثبوت (فكرة المهدي) عن النبي على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكن مدعو المهدوية في القرون الأولى كالكيسانية والعباسيين وجملةٍ من العلويين وغيرهم، من خدعة الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا ادعاءهم المهدوية الكاذبة طريقاً للتأثير على العامة وبسط نفوذهم عليهم.

ونحن مع إيماننا بصحة الدين الاسلامي وأنّه خاتمة الأديان الإلهية ولا تترقب ديناً آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين

أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية، وعدم

ص: 217

التزامهم بواحدٍ من الألف من أحكام الإسلام - نحن مع كل ذلك لا بُدّ أنْ ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.

ثم لا يمكن أن يعود الدين الإسلامي إلى قوته وسيطرته على البشر عامة، وهو على ما هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادعاءاتهم.

نعم لا يمكن أنْ يعود الدين إلى قوته إلا إذا ظهر على رأسه مصلحٌ عظيمٌ يجمع الكلمة ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويبطل ما ألصق به من البدع والضلالات بعنايةٍ ربانيةٍ وبلطفٍ إلهي؛ ليجعل منه شخصاً هادياً مهدياً، له هذه المنزلة العظمى والرياسة العامة والقدرة الخارقة ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

والخُلاصة أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم، مع الإيمان بصحة هذا الدين وأنّه الخاتمة للأديان - يقتضي انتظار هذا المصلح (المهدي)، لإنقاذ العالم مما هو فيه.

ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة، بل الأمم من غير المسلمين غير أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أن الإمامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخصٌ معينٌ معروفٌ ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حياً، هو ابن الحسن العسكري واسمه (محمد).

وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.

ولا يجوز أنْ تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور، وإنْ كان الإمام مخفياً،

ص: 218

ليظهر في اليوم الموعود به من الله عزوجل الذي هو من الأسرار الإلهية التي لا يعلم بها إلا هو عزوجل.

ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزةً جعلها الله عزوجل له، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماماً للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلّم الناس في المهد صبياً وبُعِثَ في الناس نبياً.

وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي أو الذي يُتخيّل أنّه العمر الطبيعي لا يمنع منها فنُ الطب ولا يحيلها، غير أنّ الطب بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعمير حياة الانسان.

وإذا عجز عنه الطب فإنّ الله عزوجل قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وقد وقع فعلاً تعمير نوح وبقاء عيسى علیه السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم.. ولو شكَّ الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الإسلام السلام.

ومن العجب أنْ يتساءل المسلم عن إمكان ذلك وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز.

ومما يجدر أنْ نذكره في هذا الصدد ونذكِّر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أنْ يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته والجهاد في سبيله والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل المسلم أبداً مكلفٌ بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجبٌ عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة وواجبٌ عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرته «كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيته».

ص: 219

فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمُجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإنّ هذا لا يُسقِطُ تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم.» انتهى.

إنَّ قضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف تمثل قضيةً محوريةً في الدين الإسلامي؛ لذا سنحاول التفصيل فيها نوعًا ما، لمعالجة أمورٍ مهمة ذكرها الشيخ رحمه الله في طيّات حديثه عنها، وأخرى من المناسب أن نتعرض إليها، على شكل مباحثَ مستقلةٍ، في كلٍّ منها نتناول جانبًا من جوانب هذه القضية.

ص: 220

المبحث الأول

اشارة

هل إنَّ القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟

من المسلَّم به أنَّ القضية المهدوية مما تؤمن بها المدرسة الإمامية كما سيأتي تفصيله بإذن الله عزوجل، وهناك من عزا ظهور هذا الاعتقاد في الشيعة؛ نتيجةً لتعرضهم لبعض الظروف القاسية كما ادعى ذلك أحمد الكاتب وغيره؛ إذ قالوا: إنّها فكرة مُستحدثة عند الشيعة نتيجةً للظروف الصعبة التي مرّوا بها من ظلم وطغيان وما شابه، ولكي يوفروا لأنفسهم قبسَ أملٍ يعيشون من أجله، اخترعوا هذه القضية.

فهل القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟ بمعنى أنه لا توجد فرقة عقائدية ولا فكر إنساني يؤمن بها؟

للجواب عن ذلك لا بُدَّ من البحث خارج الدائرة الإمامية، ولكي يكون البحث متسلسلًا لا بُدَّ من التدرج شيئًا فشيئًا في البحث حتى نصل إلى المعتقد الإمامي، ضمن المطالب التالية:

المطلب الأول: هل القضية المهدوية قضية إنسانية؟

المطلب الثاني: ما هو اعتقاد أهل الديانات السماوية والوضعية بالقضية المهدوية؟

المطلب الثالث: ما هو اعتقاد أهل السنة بالقضية المهدوية؟ وفيه:

أولًا: الروايات التي أثبتت القضية المهدوية.

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي دليل على بطلانها!

ص: 221

المطلب الرابع: ادعاء المهدوية دليلٌ على صحة القضية المهدوية، وفيها:

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية.

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية.

ثالثًا: الخطوط العامة للدعاوى المهدوية.

رابعًا: كيف نواجه مدعي المهدوية؟

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية.

المطلب الأول

هل إنَّ القضية المهدوية قضية إنسانية؟

تتلخص القضية المهدوية بشكلٍ عام، أو قل: نظرية المنقذ أو المخلص، بالاعتقاد بأنَّ هناك شخصًا ما يأتي في آخر الزمان؛ ليزيل الظلم عن وجه المعمورة، ويملأ الدنيا قسطًا وعدلًا، ويُحوِّل الأرض إلى جنةٍ دنيويةٍ، أو شخصًا يحقق المدينة الفاضلة بحسب تعبير أفلاطون.

إنَّ القضية المهدوية بشكلها العام المتقدم -أو قل نظرية المنقذ أو المُخلِّص بقطع النظر عن شخص ذلك المنقذ وذلك المخلص- إنَّما هي في الحقيقة قضيةٌ تنطلق من أسسٍ متينة تمتد جذورها إلى الماضي السحيق، بل تجدُ أثرها جليًا في ضمير أيِّ إنسانٍ لم يمُت ضميره، ومن ثم فهي قضيةٌ إنسانية؛ لأنها:

أولًا: تنطلق من أسسٍ تاريخية رصينة وقوية جدًا، وهذا الأمر واضحٌ؛ إذ إنَّ فكرةً تتمحور حول محورٍ واحدٍ وهو ظهور شخصٍ يُزيل الظلم ويُحلّ محله العدل، وتتعاقب عليها العصور والأجيال والحضارات على اختلاف معتقداتها وممارساتها وطقوسها، هي بلا أدنى شكٍ فكرةٌ متأصلة في النفوس، تمتد بجذورها في الماضي السحيق.

ثانيًا: هي من الأمور الفطرية؛ إذ إنَّ للأمور الفطرية خصائص وصفات، ومن

ص: 222

أهمها اشتراك جميع البشر فيها، كمسألة الجوع مثلًا، فإنَّ الشعور به أمرٌ مشترك بين جميع البشر على اختلاف توجهاتهم الدينية والسياسية، بل وعلى اختلاف مراحلهم العمرية وأجناسهم وأعراقهم.

وقد اشترك بالقضية المهدوية جميع البشر على اختلاف دياناتهم السماوية والوضعية، مما يكشف عن فطرية هذه الفكرة ويزيدها قوة.

فهي قضية تتناغم مع فطرة الإنسان المُحِبة للخير؛ إذ إنَّ الإنسان -- كما يذكر علم النفس -- قد فُطِر على عدة أمورٍ: حب الجمال، وحب الاستطلاع (الفضول العلمي)، وحب التدين أي أنْ يكون له إلهٌ يعبده، ومنها حب الخير، والقضية المهدوية تتناغم مع حب الخير، ولو بأدنى مستوياته وهو حب الإنسان الخير لنفسه؛ لأنَّها تجلب الخير على أقل التقادير لنفس الإنسان، فإذا أحسّ الشخص بالأمان وتطبيق العدل على الجميع، وأنَّ حقوقه سيأخذها تامةً لا نقص فيها، فهذا أمرٌ يتوافق مع حبِّه للخير على الأقل لذاته.

المطلب الثاني

اشارة

ما هو اعتقاد أهل الديانات السماوية والوضعية بالقضية المهدوية؟

لم تقتصر القضية المهدوية في إطارها العام (نظرية المخلص) على الوجدان الإنساني والفطرة البشرية وحسب، بل تجد خيوطها واضحةً في جميع الديانات. فقد استأثرت بحيزٍ واضحٍ في التراث الديني سماويًا كان أم وضعيًا، نذكر منها(1):

أولًا: الديانات السماوية:

أ/ الديانة اليهودية:

ووصلنا منها عدة أمور تتصل بجذور القضية المهدوية، وهي:

ص: 223


1- انظر: حقيقة الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر - المحامي أحمد حسين يعقوب - ص 154 – 159 ط. المجمع العالمي للمبلغين.

1/ التأكيد على الفكرة الرئيسية، أي أنَّ هناك مهديًا سيزيل الظلم من على الأرض ويحل محله العدل.

2/ الإشارة العامة إلى أصول المهدي النسبية، فذكرت أنَّه من نسل إسماعيل علیه السلام، وأنَّه واحدٌ من اثني عشر عظيمًا.

3/ الإشارة إلى الظروف والمخاطر التي ستحيط بولادته.

4/ صرّحت الديانة اليهودية بأنَّ الله عزوجل سيغيبه عن الناس من أجل أنْ يحفظه، وسيظهره بعد ذلك في الوقت المناسب.

ب/ الديانة المسيحية:

أشارت إلى عهد الظهور، وركّزت على ظهور السيد المسيح علیه السلام على وجه الخصوص، وركزت عليه تركيزًا خاصًا. وهذا لا يتعارض مع الديانة الإسلامية؛ إذ أنَّ للسيد المسيح علیه السلام دورًا خاصًا، وإنّه سيصلي خلف الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ج/الديانة الإسلامية:

وسيأتي الحديث عنها مفصلًا.

ثانيًا: الديانات الوضعية:

فقد اعتقد الزرادشتيون بفكرة الظهور، واعتقدوا أنَّ منقذهم هو بهرام شاه الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا.

فيما اعتقد المجوس بعودة أرشيدو.

أما البوذيون فقد اعتقدوا بعودة بوذا.

وتنقل بعض المصادر أنَّ الإسبان آمنوا بعودة ملكهم روذريق.

وأنَّ المغول اعتقدوا بعودة جنكيز خان.

ص: 224

وأن مسيحيي الأحباش اعتقدوا بعودة ملكهم ثيودور.

ومثل هذه الاعتقادات نجدها عند قدماء المصريين وفي كتب الصينيين القديمة.

أضف إلى ذلك فإنَّ بعض المفكرين ذكروا في كتاباتهم ما يشير إلى اعتقادهم بالقضية المهدوية، أو قل بنظرية المنقذ أو المصلح بقطع النظر عن شخصيته، فالفيلسوف الانكليزي برت راند راسل يقول: «إنَّ العالم بانتظار مصلح يوحد العالم تحت علمٍ واحد وشعارٍ واحد».

كما نُقِل عن أينشتاين صاحب النظرية النسبية المعروف أنَّه قال: «إنَّ اليوم الذي يسود العالم كله الصلح والصفا ويكون الناس متحابين ليس ببعيد».

وأما الفيلسوف الانكليزي برنارد شو فلديه كتاب باسم (الإنسان والسوبر مان)، علّق عليه الكاتب عباس محمود العقاد قائلًا: «يلوح لنا أنَّ سوبر مان (شو) ليس بالمستحيل، وأنَّ دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة».

وبشكل مجمل، فإنَّ أصحاب هذه الكلمات وإن اختلفوا فيمن هو ذلك المنقذ، أو المخلص أو المصلح، حتى اعتقد بعضهم بأنَّ أشخاصًا كانوا معروفين قد اختفوا في ظروفٍ اكتنفها الغموض، أو أنَّهم كانوا مشهورين وماتوا، واعتقدوا بعودتهم، إلا أنَّهم قد آمنوا جميعًا بفكرة ظهور المنقذ وأنَّ العالم محتاجٌ إليه، وهو الذي سيعمل على إنقاذ البشرية وتحقيق السعادة وإحالة الأرض إلى جنة دنيوية، وهي لا تختلف عمّا ورد في الروايات من انه «سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا».

المطلب الثالث

اشارة

ما هو اعتقاد أهل السنة بالقضية المهدوية؟

من الواضح جدًا لكلِّ مُطلع أنَّ الاعتقاد بالمهدي هو من الاعتقادات الثابتة والراسخة عند مدرسة الخلفاء، فهي قضية مفروغ منها وقد آمنوا بها. نعم، هناك

ص: 225

اختلافاتُ بيننا وبينهم في التفاصيل، ولكن أصل الفكرة المهدوية مُتفقٌ عليها، يدلُّنا على ذلك ما ورد في كتبهم الحديثية من روايات.

علاوةً على هذا الدليل فإن هناك مؤيدًا لها وهو ادعاء المهدوية، والذي سنتناوله في مطلبٍ مستقل، بعد الاستدلال بالروايات.

وقد ذكرت القضيةَ المهدويةَ جميعُ الكتب الحديثية سوى صحيحي البخاري ومسلم، فلم يذكرانها –كما قيل-؛ لذا كان لابُد من تناول تلك الروايات أولًا، ليكون ما بعدها في معالجة عدم ذكر ذينك الصحيحين لها.

أولًا: بعض الروايات العامية التي أثبتت القضية المهدوية.

ذكرت هذه الروايات في عدد من الكتب الحديثية، هي:

1/ سنن الترمذي: وهو الكتاب الذي قيل عنه: «من كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبيٌّ يتكلم»(1)،فهو كتابٌ معتمدٌ عندهم، ويقدسونه ويحترمون ما فيه، وقد ذكر فيه الترمذي عدة أحاديث عن المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ومنها حديثٌ قال عنه الترمذي: (حديث صحيح) ونصه التالي:

حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، أخبرنا أبي، أخبرنا سفيان الثوري عن عصام بن بهدلة عن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهلِ بيتي يواطئ اسمه اسمي». (2)

2/ سنن أبي داوود: وهو كتابٌ قال عنه ابن الإعرابي: لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي في كتاب الله، ثم هذا المصحف، لم يحتج معهما إلى شيء من

ص: 226


1- فضائل سنن الترمذي للإسعردي ص 32.
2- سنن الترمذي - الترمذي - ج 3 - ص 343.

العلم البتة.(1)

وقد ذكر أحاديث عديدة أيضاً، ومنها(2):

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا الفضل بن دكين، ثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي رضى الله تعالى عنه، عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا».

ومنها: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «المهدى من عترتي من ولد فاطمة»(3).

3/ سنن ابن ماجة: وفي سنن ابن ماجة أيضاً ذكر العديد من هذه الأحاديث ومنها(4):

حدثنا هدية بن عبد الوهاب، ثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وحمزة وعلى وجعفر والحسن والحسين والمهدي».

من الجدير بالإشارة إليه، أنَّ النبيs في حديثه هذا قد ركّز على عبد المطلب في قوله: «نحن ولد عبد الملطلب»، ولا بُدَّ أن يكون التركيز عليه لسبب، ومن سياق الحديث أنَّ ذلك السبب هو الفخر، مما يعني أنه قد كان عبد المطلب أهلًا لافتخار

ص: 227


1- تاريخ الإسلام للذهبي ج 27 ص 166.
2- سنن أبي داود - ابن الأشعث السجستاني - ج 2 - ص 310.
3- سنن أبي داود - ابن الأشعث السجستاني - ج 2 - ص 310.
4- سنن ابن ماجة - محمد بن يزيد القزويني - ج 2 - ص 1368.

النبي صلی الله علیه وآله وسلم بالانتساب إليه؟ وهل يصح أن يفتخر بكافرٍ قد مات على غير دين الله عزوجل كما يدّعون؟!

الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كلمات المعاصرين من مدرسة الخلفاء:

ورد ذكره علیه السلام في كلمات بعض العلماء المعاصرين، نقتصر بالذكر على اثنين فقط:

1/ مقالة الشيخ ناصر الدين الالباني.

للشيخ الألباني مقالةٌ بعنوان (حول المهدي)، نُشِرت في مجلة التمدن الإسلامي، قال في المقدمة ما نصه: «أما مسألة المهدي فليُعلم أنَّ في خروجه أحاديثَ كثيرةً صحيحةً، قسمٌ كبيرٌ منها له أسانيد صحيحة».

2/ الشيخ محمود الغرباوي.

وهو المفتش بوزارة الأوقاف في مديرية أوقاف الجيزة، قال في مقدمة كتابه (بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر) ما نصه: «فقد وردت الأحاديث بلا نزاعٍ مؤكدةً ظهور المهدي المنتظر منها الصحيح ومنها الحسن ومنها ما يُقوّي بعضها بعضًا».(1)

كما ذكر في الفصل الأول من نفس الكتاب في (ص 11) ما نصه: «روى أحاديث المهدي أكثر المحدثين منهم: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الترمذي، والإمام أبو داوود، والإمام ابن ماجة، والطبراني، والبزاز، والحاكم، وأبو يعلي، وغيرهم من أئمة الحديث والمعاجم والأسانيد».

مما تقدّم يتبين بكلِّ وضوحٍ أنَّ أصل قضية خروج المنقذ أو المُخلِّص أو المهدي أمرٌ مفروغٌ عنه عند الإنسانية جمعاء.

ص: 228


1- بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظر- الشيخ محمود الغرباوي- ص 5/ دار الكتاب العربي – الطبعة الأولى 2004.

وينتج عن هذا الأمر عدة نتائج:

1/إنَّ القضية متينة، وهذا يمثل مصدرًا من مصادر القضية؛ كونها موجودة عند جميع البشرية.

2/وهذا سيرسم لنا طريقًا واضحًا إلى النصر المهدوي.

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي.

تقدّم أن الاعتقاد بالقضية المهدوية ليس خاصًا بالشيعة، بل يمتد ليشمل المسلمين أيضًا. ولكن رغم ذلك، فقد أشكل بعض أهل العناد قائلًا: لو كان الاعتقاد بالمهدي من المعتقدات الإسلامية، والنبي صلی الله علیه وآله وسلم قد بشّر به لأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والحال أنَّهما لم يذكراه، إذًا لا صحة له.

وإنّ الذي نظّر لهذه الفكرة هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون صاحب المقدمة المتوفي سنة 808 هجرية، فحاول الاستدلال بعدم تخريج البخاري ومسلم لأحاديث المهدي على بطلان الاعتقاد به. وافقه في ذلك أحمد أمين المصري، بقوله: ومما يشهد بالفخار للبخاري والمسلم أنَّهما لم تتسرب إليهما من هذه الأحاديث وإنْ تسربت إلى غيرهما من الكتب.

ومن المعلوم أنَّ ابن خلدون مؤرخٌ، وعليه فليس له الحق في أنْ يدُسَّ أنفه في علم الرجال والحديث، وهذا فضولٌ منه لا مبرر له. ولكن مع ذلك نرد هذه الشبهة، ومن المناسب قبل الولوج في ذلك ذكر مقدمةٍ.

تعريف موجز للبخاري ومسلم:

البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة بن بردزيه البخاري، وبردزيه مجوسي ومات على المجوسية، وأما المُغيرة فقد أسلم على يدي اليمان الجعفي والي بخارى.

ص: 229

يُذكر أنَّ قول البخاري بخلق القرآن في المحنة المعروفة ب-(محنة خلق القرآن) تسبب في نقمةِ الناس عليه وطرده من بلدهم.

ومحنة خلق القرآن: مسألةٌ كلامية فكرية ولكن عظم الخلاف فيها حتى بلغ مبلغ سفك الدماء، موضوعها أن كلام الله عزوجل حادث أم قديم، وقد كانت السلطات الحاكمة تبدّل رأيها في المسألة مع تبدّل الخليفة، فمن وافقه عاش في سلام، ليكون الظلم والتشريد وربما القتل من نصيب من يخالفها في ذلك. وكانت السلطة آنذاك تقول بقدم القرآن فأصدرت الأوامر بطرده من البلاد وبمقاطعته.

ويذكر أنَّ شيخ البخاري (محمد بن يحيى الذهلي) قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ولا يُجالس، ولا يُكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.(1)

فانقطع عنه الناس بعد هذه الحادثة سوى مسلم بن الحجاج صاحب صحيح مسلم، وأحمد بن سلمة.

وأما مسلم، فهو مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، وكان يحضر مجلس كلٍّ من البخاري وشيخه، حتى قال محمد بن يحيى في أحد مجالسه: «ألا من قال باللفظ (أي أنَّ القرآن مخلوق) فلا يحلُّ له أنْ يحضر مجلسنا»، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس وخرج من المجلس.(2)

وبعد هذه المقدمة، نشرع في الجواب عن الشبهة بعدّةِ وجوهٍ:

الوجه الأول: عدم وجود قاعدةٍ عند العامة تقضي بأنَّ ما لم يوجد في البخاري ومسلم وُوجد في غيرهما من المصادر فهو باطل، إذ إنهما لم يجمعا بين دفتي كتابيهما كلَّ

ص: 230


1- انظر: التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص 16 (المقدمة).
2- انظر: التاريخ الصغير للبخاري ج1 ص 16 (المقدمة).

ما في الدين الإسلامي.

وعليه فلا يصحُّ أنْ نستدل على بطلان عقيدةٍ ما بعدم ذكر أحاديثها في البخاري ومسلم؛ لأنَّ لازم الاستدلال على بطلان أحاديث المهدي بعدم ورودها في البخاري ومسلم، هو أنَّ البخاري ومسلم قد ذكرا كل الدين أصولًا وفقهًا وسلوكًا وسياسةً في أحاديثهم، ولم يقل أحدٌ بهذا اللازم فضلًا عن القول بصحته.

بل إنَّ نفس البخاري ومسلم صرّحا بأنّهما لم يذكرا كلَّ حديثٍ صحيح، بل اختارا أحاديث صحيحةً سطراها في صحيحيهما. من ذلك قول البخاري: «لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا وما تركتُ من الصحيح أكثر.(1)

و في عبارةٍ أخرى يقول: ما أدخلت في كتابي الجامع الا ما صح، وتركت من الصحيح؛ حتى لا يطول.(2)

كما أنَّ مسلم القشيري كذلك لم يذكر كل الأحاديث الصحيحة، كما نقل ابن الصلاح عنه قوله: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هنا - يعني في كتابه (الصحيح) - إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه.(3)

وفي أخرى يقول: إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف.(4)

فهما يصرحان بأنًّ كل ما أخرجاه هو صحيحٌ، وهذا لا يعني بأنَّ كلَّ ما لم يخرجاه ليس بصحيح وضعيف، بل وقد صرّحا بذلك كما تقدَّم. وعليه، فإنَّ الاستدلال على

ص: 231


1- مقدمة فتح الباري على شرح صحيح البخاري لابن حجر/ج1/ص5.
2- مقدمة فتح الباري على شرح صحيح البخاري لابن حجر/ج1/ص5.
3- صحيح ابن حبان ج1 ص 6 مقدمة التحقيق.
4- شرح صحيح مسلم للنووي ج1 ص 26.

بطلان عقيدةٍ أو أيِّ أمرٍ؛ لعدم ذكره في كتابيهما غير صحيح.

الوجه الثاني: يبدو أنَّ تصحيح كلِّ ما في صحيح مسلم والبخاري حكمٌ عام؛ لذا عُرِف عن مدرسة الخلفاء أنَّها تعدهما دينها الذي تدين به، قال النووي: «ثم ما كان في صحيحي البخاري ومسلم أو في أحدهما اقتصر على إضافته إليهما لحصول الغرض وهو صحته، فإن جميع ما فيهما صحيح».(1)

بيدَ أنَّ الأمر خلاف الواقع؛ فقد وجد بعض العلماء في البخاري ومسلم من الأحاديث ما لا يمكن الحكم بصحته، بل ووجدوا ما يلزم منه أمور فاسدة كثيرة مما لا يسكت عنه أيضًا، مما حدا بهم –أو ببعضهم على الأقل- إلى التنازل عن الحكم بصحة كلِّ ما فيهما.

ومن أولئك: الألباني حيث نقل عنه في السلسلة الصحيحة/ج6/ ص93 في تعليقه على أحد الأحاديث، ما نصه: «هذا الشذوذ في هذا الحديث مثالٌ من عشرات الأمثلة التي تدلُّ على جهلِ بعض الناشئين الذين يتعصبون لصحيح البخاري وكذا لصحيح مسلم تعصبًا أعمى، ويقطعون بأنَّ كلَّ ما فيهما صحيح».

وقال ابن حجر: «أخرج البخاري عن مسروق عن أم رومان... وهى أم عائشة طرفاً من حديث الإفك، وهو وهمٌ، لم يسمع مسروق من أم رومان... لأنها توفيت في عهد النبي صلی الله علیه وآله وسلم وكان لمسروق حين توفيت ست سنين قال وخفيت هذه العلة على البخاري، وأظن مسلما فطن لهذه العلة فلم يخرجه له...».(2)

بل إنه نُقل أن البخاري ومسلم ما كانا يتعاملان مع كتب بعضهما على أن كلا ما فيهما صحيح، فقد قال الباجي المالكي: «وقد أخرج البخاري أحاديث اعتقد صحتها تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها

ص: 232


1- الأذكار النووية- النووي- ص 14.
2- مقدمة فتح الباري لابن حجر ص 371.

تركها البخاري لما اعتقد فيها غير معتقده وهو يدل على أن الامر طريقه الاجتهاد لمن كان من أهل العلم بهذا الشأن وقليل ما هم».(1)

وهذا يعني أنّه كما اشتبه البخاري ومسلم وأوردا في صحيحيهما أحاديثَ قالا إنَّها صحيحة وتبيّن بأنّها ضعيفة، فيُحتمل أنَّهما تركا أحاديث صحيحة ولم يخرجاها في صحيحيهما اشتباهًا منهما وظنّا أنَّها ضعيفة وموضوعة. (هذا إذا أردنا أن نحسن الظن طبعاً).

ومن ثم فلا يُستدلُّ على بطلان كلِّ ما لم يخرجاه من أحاديث، ومنها أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف..

الوجه الثالث: إنَّ ما تقدّم يبتني على أنَّ البخاري ومسلم فعلًا لم يخرجا أيَّ حديثٍ يتعلق بالمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لا صراحةً ولا بالإشارة، وهذا الأمرُ فيه نقاش؛ وذلك لأننا عندما نتابع صحيحيهما نجدُ فيهما أحاديث مضامينها متعلقة ومتصلة بالمهدي، وإنْ لم يُصرحا باسمه، تدلُّنا عليها أحاديث صحيحة وبنفس المضامين وردت في غيرهما مُصرحةً باسم المهدي، فتكون بذلك مُفسرة لما أبهِم من تلك الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم.

وأما سبب عدم ذكر البخاري ومسلم اسم المهدي فيها، فلربما لتعمد الإبهام منهما، فإنْ أردنا أنْ نُحسن الظن بهما فقد يكون بسبب خطأ من قبل النساخ.

وعلى هذا لا يمكن لنا القول: إنَّ البخاري ومسلم لم يخرجا أحاديث عن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كتابيهما، وبذا تنتفي دعوى ابن خلدون من رأس.

ص: 233


1- الجرح والتعديل لسليمان بن خلف بن سعد، ابن أيوب الباجي المالكي ج1 ص 286.

نماذج عن تلك الأحاديث:

النموذج الأول: روى مسلم بسنده عن أبي الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلی الله علیه وآله وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أمراء تكرمةَ الله لهذه الأمة».(1)

والإبهام في كلمة أميرهم: «فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ بنا»، والتي وردت في حديثٍ آخر عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعالَ صلِّ بنا، فيقول: لا، إنَّ بعضهم أميرُ بعضٍ تكرمةَ الله لهذه الأمّة».(2)

النموذج الثاني: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم».(3)

والكلمة المبهمة في الرواية (إمامكم)، وهي التي تفسرها الرواية التي أخرجها المروزي في الفتن والمقدسي في عقد الدرر عن عبد الله بن عمر قال: «المهدي الذي ينزل عليه عيسى بن مريم ويصلي خلفه عيسى».(4)

النموذج الثالث: روى مسلم بسنده عن أبي سعيد وعن جابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده».(5)

والإبهام كما هو واضح في كلمة (خليفة)، وقد فسرتها رواية احمد عن أبي سعيد

ص: 234


1- صحيح مسلم (ج1 ص 95).
2- ينابيع المودة لذوي القرى للقندوزي ج3 ص343 ب85 والصواعق المحرقة لابن حجر ص164.
3- صحيح البخاري (ج4 ص143)، وفي صحيح مسلم (ج1ص 194).
4- الفتن لنعيم بن حمد المروزي ص 230، وعقد الدرر للمقدسي ص 230.
5- صحيح مسلم (ج8 ص 185).

الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحاً. فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس. قال: ويملأ الله قلوب أمة محمدs غنىً، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً فينادى فيقول: من له في مال حاجة، فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان، يعنى الخازن، فقل له: إن المهدى يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: احث، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً أوَ عجز عني ما وسعهم.

قال: فيرده، فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده. أو قال: ثم لا خير في الحياة بعده».(1)

وقال عنه الهيثمي: قلت رواه الترمذي وغيره باختصار كثير، رواه أحمد بأسانيد وأبو يعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات.(2)

الوجه الرابع: تواتر أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

إنَّ شبهة ضعف أحاديث المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إنّما تصحُّ لو كانت قليلةً، ولم يصل الحدُّ فيها إلى التواتر. والتواتر: من الدرجات العليا لتوثيق الحديث، والحال أن الأحاديث فيه علیه السلام متواترةٌ؛ فلا تصحُّ هذه الشبهة.

وقد صرّح جملةٌ من العلماء والحفاظ والمحدثين العامة بتواتر أحاديث المهديf عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ومن أولئك العلماء:

1/ قال أبو الحسن الآبري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها [أي

ص: 235


1- مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 37.
2- مجمع الزوائد للهيثمي ج7 ص 314.

أحاديث المهدي] عن المصطفى بخروجه [أي المهدي]، وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأنه يخرج مع عيسى (على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام) فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه.(1)

2/ محمد بن رسول الحسيني البرزنجي، توفي 1103 ه، فقد قال في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة: الباب الثالث في الاشراط العظام والامارات القريبة التي تعقبها الساعة وهي أيضا كثيرة فمنها المهدي وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر.(2)

وقال أيضاً: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها.(3)

وقال أيضاً: وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت حد التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما.(4)

والتواتر منه لفظي: كتواتر حديث «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» الذي ذُكِر بهذه الألفاظ من جماعة عن جماعة وهكذا إلى أنْ يصل إلى رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم، ومن دون أي تغيير فيها. ومنه المعنوي، أي التواتر بالمعنى، ولكن مع اختلاف اللفظ، بأن تكون كلّ الألفاظ تشير إلى معنى واحد، وقد ثبت إسنادها جميعًا إلى رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم.

3/ وقال السفاريني في عقيدته المسماة (بالدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية):

ص: 236


1- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص 167.
2- الإشاعة في أشراط الساعة (87).
3- الإشاعة في أشراط الساعة (112).
4- الإشاعة في أشراط الساعة (189).

وما أتى في النص من أشراط *** فكله حق بلا شطاط

منها الإمام الخاتم الفصيح *** محمد المهدي والمسيح

وقال أيضا في شرحها: كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل: لا مهدي إلا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحق: إن المهدي غير عيسى، وإنه يخرج قبل نزول عيسى علیه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم.(1)

المطلب الرابع

اشارة

ادعاء المهدوية دليلٌ على صحة قضيتها.

قال الشيخ رحمه الله: «ولولا ثبوت فكرة المهدي عن النبي صلی الله علیه وآله و سلم على وجهٍ عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها، لما كان يتمكن مُدّعو المهدوية في القرون الأولى كالكيسانية والعباسيين وجملة من العلويين وغيرهم من خدعةِ الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلبًا للملك والسلطان، فجعلوا ادعاءهم للمهدوية الكاذبة طريقًا للتأثير على العامة وبسط نفوذهم عليهم».

تقدَّم الاستدلال بروايات مدرسة الخلفاء على أنَّ القضية المهدوية ذات صبغةٍ إسلامية، وكُنا قد ذكرنا أنَّ هناك ما يؤيد صحة هذه القضية أيضًا وهو ادعاء المهدوية، وهو ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذا المقطع.

وعليه، فإنَّ فكرة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هي فكرةٌ حقّة على الأقل على المستوى الإسلامي، ولا يمكن لمسلمٍ على الأقل أنْ ينكر هذه العقيدة أو يقول ببطلان أصل فكرتها.

ويمكن طرح خلاصة ما يريد إثباته الشيخ رحمه الله في هذا المقطع ليكون مؤيدًا لفكرة المهدي، على شكل مقدمات متسلسلة ونتيجة:

ص: 237


1- شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج 33 ص 921، و الإمام المهدي عند أهل السنة (ج2 ص20).

المقدمة الأولى: إنَّ هناك مدعين للمهدوية في القرون الأولى، أي القرون القريبة من زمن النص، حيث كان المعصومون موجودين، وحيث كان بعض الصحابة أو التابعين موجودين.

المقدمة الثانية: انقسم الناس على إثر ذلك إلى قسمين: فمنهم من صدَّق هذه الدعاوى، واتبع من كان يزعم أنّه المهدي، ومنهم اعترض ولم يؤمن به.

المقدمة الثالثة: لم يكن اعتراض القسم الثاني من الناس على نفس فكرة المهدي، فهو يُسلِّم بها ويُذعن لها، إلا أنَّ اعتراضه كان لعدم انطباق مواصفات المهدي على مدعي المهدوية آنذاك.

النتيجة: هذا يعني أنَّ الناس في ذلك الوقت مؤمنون بأصل فكرة المهدي، بل هي من المسلمات عندهم؛ لذا لم يعترضوا على أصل الفكرة، وإنَّما اعترضوا على التطبيق.

هذا من جانب.

ومن جانبٍ آخر فإنَّ المدعي لأي منصبٍ من المناصب خصوصًا المناصب الدينية، عادةً ما يحاول أنْ يدّعي منصبًا معترفًا به من المسلمين؛ ليستطيع أنْ يحكمهم بذلك المنصب، كادّعاء الأمويين والعباسيين أنّهم خلفاء رسول الله صلی الله علیه وآله و سلم؛ ولذا حكموا الناس باسم الإسلام رغم أنَّ كلَّ أفعالهم كانت ضد الإسلام، وعليه فهذا الذي يدّعي المهدوية لم يدّعِها إلا بعد علمه برسوخها بين الناس، ليحاول من خلالها حكم الناس.

وقد ادّعاها الكثير، فهي إذن من القضايا الراسخة بين الناس والمتسالم عليها عندهم.

بيان: في الدعاوى المهدوية الباطلة والنقاش فيها:

ولتوضيح الدعاوى المهدوية، لا بُدَّ من التعرف على أسبابها أولًا، وأقسامها ثانيًا،

ص: 238

والخطوط العامة لها ثالثًا، فإذا تمَّ ذلك كان لا بُدَّ من التعرض إلى كيفية مواجهتها، وإتمامًا للفائدة نذكر طرق النقاش في القضية المهدوية بشكلٍ عام، فهذه مطالبُ خمسةٌ سنتناولها تباعًا:

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية

ثالثًا: الخطوط العامة للدعاوى المهدوية

رابعًا: كيف نواجه مدعو المهدوية؟

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية:

حيث إنَّ الفكرة المهدوية كانت ثابتة وراسخة في أذهان الناس، وحيث إنَّها منصب قيادي يُلزم الغير بالاتباع، بل ذلك المنصب يعطي لصاحبه أولوية في التصرف بالأموال بل وبالنفوس؛ لذلك كثرت الدعاوى المهدوية.

والنفس الإنسانية عادة تُحبُّ التسلط، وأنْ تكون مسموعةَ الكلمة، وحيث إنَّ المنصب المهدوي عظيمٌ جدًا، ويلزم منه أنْ يكون هذا الشخص هو الآمر والناهي والمتصرف في أموال بل ونفوس الناس، لذا تجد أن بعض أصحاب النفوس المريضة حالوا خداع بسطاءَ من الناس، وقد اتخذوا من ادعاء المهدوية سبيلًا للوصول الى مآربهم.

فالنفس المريضة، وعظم المنصب، وحب التملك، من أهم أسباب أدّعاء المهدوية.

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية:

بمتابعة الظروف التي نشأت فيها الدعاوى المهدوية يمكن أنْ نقسم أصل الدعاوى

ص: 239

إلى ثلاثة أقسام(1):

الأول: من نُسبت إليه المهدوية وهو لم يدعِها، وهو بريءٌ منها.

الثاني: من ادّعاها بدافع حب الرئاسة والجاه، وربما خُدِع فيها.

الثالث: من ادّعى المهدوية بخطة من الاستعمار وإيعاز منهم.

وهذه الأقسام تقريبًا هي الأقسام العامة لادعاء المهدوية، وسنذكر لكلِّ قسم منها نماذج:

نماذج من القسم الأول: من نُسبت إليه المهدوية وهو منها بريء:

الفرقة الأولى: الكيسانية:

وهذه الفرقة كان اتباعها يدّعون أنَّ المهدي هو محمد بن أمير المؤمنين8 المعروف بابن الحنفية، وسُميت ب(الكيسانية) نسبةً إلى كيسان.

أما من هو كيسان؟ فقد اختلف العلماء على أقوال، هي:

1/ محمد بن الحنفية، وكان يسمى بكيسان.

2/ مولى لأمير المؤمنين علیه السلام، أو لمحمد بن الحنفية نفسه. وقيل: كان هو المنظِّر لهذه الفرقة.

3/ المختار بن عُبيدة الثقفي، حيث إنَّ البعض اتهم المختار بأنه يدّعي أنَّ ابن الحنفية هو المهدي.

4/ صاحب شرطة المختار الذي كان يكنى ب(أبي عمرة). وقيل كان هو المنظِّر لهذه الفرقة.

ومن الواضح جدًا أنَّ محمداً بن الحنفية أجلُّ من أنْ يدّعي مثل هذه الدعوى وهو

ص: 240


1- انظر: ادّعياء المهدوية- أحمد الفرج الله- مركز الدراسات الاستراتيجية.

منها بريء؛ بل «أن محمدا رضي الله عنه لم يدع قط الإمامة لنفسه، ولا دعا أحدا إلى اعتقاد ذلك فيه»(1).

وقد روي أن أبا خالد الكابلي كان يخدم محمد بن الحنفية دهرا، وما كان يشك أنه إمام، حتى أتاه يوما فقال: إن لي حرمة، فأسألك برسول الله وبأمير المؤمنين إلا أخبرتني: أنت الامام الذي فرض الله طاعته؟

فقال: علي، وعليك، وعلى كل مسلم الإمام علي بن الحسين.

فجاء أبو خالد إلى علي بن الحسين علیهما السلام، فلما سلم عليه قال له: مرحبا بك يا كنكر، ما كنت لنا بزوار! ما بدا لك فينا؟

فخر أبو خالد ساجداً لله تعالى لما سمعه منه، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي.

قال: كيف عرفت؟

قال: إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أمي، ولقد كنت في عماء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية عمرا، فناشدته اليوم: أنت إمام؟ فأرشدني إليك فقال: هو الإمام علي، وعليك، وعلى الخلق كلهم، فلما دنوت منك سميتني باسمي الذي سمتني به أمي، فعلمت أنك الامام الذي فرض الله علي وعلى كل مسلم طاعته.(2)

من أهم عقائد الكيسانية:

1/إنَّ المهدي هو ابن الحنفية، وهو وصي أمير المؤمنين علیه السلام ؛ لذا فليس لأحدٍ من أهل بيته أنْ يخالفه، أو يخرج عن إمامته، أو حتى أنْ يُشهِر السيف -أي يقوم بثورة- إلا بإذنه. وبعضهم ذهب إلى إمامته بعد

ص: 241


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد ص 300 و بحار الأنوار ج37 ص 5.
2- الخرائج والجررائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 261.

أخويه الحسنين علیه السلام، وبعضهم إلى إمامته بعد أبيه أمير المؤمنين علیه السلام،(1)

وهذا يعني أنَّ كلّاً من خروج الإمام الحسن علیه السلام للحرب على معاوية، وصلحه أيضًا، وخروج الإمام الحسين علیه السلام كان بإذنٍ من ابن الحنفية، بل قالوا: إنَّ الحسن والحسين (سلام الله عليهما) لو خرجا من دون إذنه لضلّا، والعياذ بالله.

2/إنَّ من خالف محمدًا بن الحنفية فهو كافر ومشرك.

3/إنَّ خروج المختار للطلب بثأر الإمام الحسين علیه السلام كان بإذنِ ابن الحنفية.

وأما المبرر لدعوى مهدوية ابن الحنفية، فالظاهر -- والله العالم -- استنادهم إلى ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم: «نَّ المهدي اسمه اسمي»، فطبقوا الحديث على ابن الحنفية، ولكنهم تناسوا أنَّ الاحاديث التي قالت: إنَّ اسم المهدي كاسم النبي صلی الله علیه وآله و سلم قالت أيضًا: «إنَّه من ولد فاطمة علیها السلام»، وأنَّ ابن الحنفية ليس من ولدها علیها السلام.

وبعد أنْ مات ابن الحنفية ادعت الكيسانية عدم موته، وأنَّه حيٌ مقيم في جبل رضوى من جبال تهامة، وأنَّه يجلس بين أسدٍ ونمر يحفظانه، وأنَّ عنده عينيين تجريان بعسلٍ وماءٍ، وأنَّه غاب وسيعود بعد غيبته ليملأ الأرض قسطًا وعدلاً.

وهذه الفرقة منقرضة ليس لها أي وجودٍ اليوم.

الفرقة الثانية: الفرقة الباقرية:

وهم من ادعوا أنَّ الإمام محمد الباقر علیه السلام بأنّه هو المهدي.

الفرقة الثالثة: الناووسية:

«وهم الذين قالوا: إن جعفر بن محمد علیهما السلام حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر ويلي أمور الناس، وأنه هو المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: «إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه، فإني أنا صاحبكم» وأنه قال لهم: «إن جاءكم

ص: 242


1- لاحظ: كليات في علم الرجال للشيخ السبحاني ص 406.

من يخبركم عني أنه غسلني وكفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم صاحب السيف».

وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس. [وقيل إنَّ اسمه (عبد الله بن ناووس).]

وقال عبد القاهر: وهم أتباع رجل من أهل البصرة كان ينتسب إلى (ناووس) بها وهم يسوقون الإمامة إلى جعفر الصادق بنص الباقر عليه وأنه المهدي المنتظر.

وقال الشهرستاني قريبا منه ; غير أنه قال: هم أتباع رجل يقال له ناووس.»(1)

ومن أهم عقائدهم بالإضافة إلى ادعائهم أنَّ المهدي هو الإمام جعفر الصادق علیه السلام، أنَّهم قالوا بإمامة ستة أئمة علیهم السلام: الإمام علي، والإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وهذه الفرقة ليس لها وجود اليوم.

الفرقة الرابعة: المباركية:

نشأت بعد وفاة الإمام الصادق علیه السلام، وزعموا أنَّ الإمامة بعد الإمام الصادق علیه السلام كانت لمحمد بن إسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام؛ لاعتقادهم أنَّ أمر الإمامة كان لإسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام، ولكنّه توفي في حياة الإمام الصادق علیه السلام، فانتقلت الإمامة بعد استشهاد الإمام الصادق إلى (محمد) وهو ابن اسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام.

وسميت الفرقة ب-(المباركية)؛ نسبةً إلى رئيسهم: مبارك الذي كان عبدًا لإسماعيل ابن الإمام الصادق علیه السلام.

الفرقة الخامسة: الإسماعيلية:

وهي من الفرق الباطنية التي انتسبت إلى إسماعيل بن الإمام الصادق علیه السلام، ولها

ص: 243


1- انظر: كليات في علم الرجال للشيخ السبحاني ص 408 – 409.

امتدادٌ إلى هذا اليوم، ولها فرقٌ عديدة.

قال النوبختي: فرقة زعمت أن الامام بعد جعفر بن محمد، ابنه إسماعيل بن جعفر وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ويقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبه، والإمام لا يقول إلا الحق، فلما ظهر موته علمنا أنه قد صدق وأنه القائم وأنه لم يمت وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة.(1)

كما ادعى البعض أنَّ زيدًا بن علي الشهيد هو المهدي، ولكن عقائد الزيدية اليوم لا تقول بهذا، ونستبعده؛ وذلك لأنَّ اسمه ليس بمحمد، وأنَّ أغلبية من نُسبت المهدوية إليهم كانوا يحملون اسم محمد.

القسم الثاني: من ادعى المهدوية بدافع حب الرئاسة والجاه والمنصب، ومنها:

الشخصية الأولى: محمد المحض(2).

وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن المجتبى المعروف

ص: 244


1- كليات في علم الرجال للسبحاني ص 410 نقلاً عن فرق الشيعة: الصفحة 89..
2- ترجم له السيد الخوئيv في معجم رجاله (ج17 ص 249 – 250 رقم 11110) بما نصه: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن: ابن علي بن أبي طالب علیه السلام، أبو عبد الله المدني: ذكر ابن داود (1391) من القسم الأول والسيد التفريشي (481) والميرزا في رجاليه، والمولى القهبائي: عد الشيخ إياه في رجاله من أصحاب الصادق علیه السلام، وأنه قتل سنة (145) بالمدينة، وزاد ابن داود قوله: « الملقب بالنفس الزكية». والنسخة المطبوعة خالية عن ذكره. ثم إن محمدا هذا أدعى الخلافة، دعا الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام إلى بيعته، وتكلم معه بكلام غليظ حتى بلغ الامر إلى أنه أمر بحبسه سلام الله عليه، وكان الصادق علیه السلام يعظه ويصرفه عما أراد، ويخبره بأن الامر لا يتم له، ولكنه لم يصغ إلى ذلك، وأصر على ما أراد حتى انتهى الامر إلى قتله، راجع الكافي: الجزء 1، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة (81)، الحديث 17. وروى الصفار باسناده، عن المعلى بن خنيس، قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام إذ أقبل محمد بن عبد الله بن الحسن فسلم، ثم ذهب، ورق له أبو عبد الله علیه السلام ودمعت عينه، فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع، قال: «رققت له، لأنه ينسب في أمر ليس له، لم أجده في كتاب علي في خلفاء هذه الأمة، ولا ملوكها». وروى عن عبد الله بن جعفر، عن محمد بن عيسى، عن صفوان، عن العيص بن القاسم، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «ما من نبي ولا وصي ولا ملك إلا في كتاب عندي، والله ما لمحمد بن عبد الله فيه اسم». بصائر الدرجات: الجزء 4، باب 2، في الأئمة عندهم الكتب التي فيها أسماء الملوك، الحديث 6. أقول: الروايات في أن محمدا هذا أدعى الخلافة ولم ينته بنهي الصادق علیه السلام، حتى انتهى أمره إلى القتل متعددة...

ب-(المحض)، وقد ثار قبيل ظهور الدولة العباسية، وكان المنصور الدوانيقي من أنصاره؛ ليسقط الدولة الأموية.

وقد ابتدعوا حديثًا عن النبي صلی الله علیه وآله و سلم مضمونه: «المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» تبريرًا لهذه الدعوى. وممن بايعه على أنَّه المهدي: أبوه عبد الله بن محمد، والمنصور الدوانيقي.

وتذكر الروايات أنَّ الإمام الصادق علیه السلام أخبرهم بأنَّه ليس صاحب هذا الأمر، وأنَّه سيقتل، ولكنهم لم يصدقوه، بل البعض رماه بالحسد!

وقيل: إنَّه تاب، والأمر موكولٌ إلى البحث والتحقيق؛ لأننا في مقام بيان مطلبٍ تاريخي ليس إلا، وكانت نهاية أمره كما تنبأ الإمام الصادق علیه السلام، حيث قُتِل.

الشخصية الثانية: الخليفة العباسي الملقب بالمهدي.

وهو محمد بن عبد الله المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي الملقب بالمهدي، وقد اتخذ من كون اسمه (محمد بن عبد الله) مبررًا لادعائه المهدوية بالاستناد إلى نفس الحديث المبتدع عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله و سلم المذكور آنفًا. وممن بايعه أبوه المنصور الدوانيقي، بل

ص: 245

وكان يدعو إلى مبايعته على أنَّه هو المهدي.

وكان السبب الرئيسي وراء ادعاء هاتين الشخصيتين المهدوية هو الوصول إلى مآربهما في الجاه والرئاسة. علمًا أنَّ البعض أحصى عدد مدعي المهدوية فكانوا خمسين شخصية، دفع أغلبيتهم إلى هذا الادعاء الجاه والرئاسة أيضًا.

القسم الثالث: من كانت للاستعمار يدٌ في ادعائه المهدوية، ويبرز في هذا المجال:

علي بن محمد الملقب بالباب:

ذكروا أن جاسوساً روسيًا جاء إلى إيران، وأقام فيها فترة ثم جاء إلى العراق، مرتديًا الزي الديني، ومدعيًا أنَّ اسمه الشيخ (عيسى لنكراني)، على حين أنّ اسمه الحقيقي كان (كنياز دالكوركي)!

ويقال إنَّه حضر درس السيد كاظم الرشتي، وتعرَّف على رجل يشرب الحشيشة اسمه علي محمد، وكان هذا الجاسوس يستغل الفترة التي كان يفقد بها علي محمد عقله، ويخاطبه بلقب صاحب الزمان.

في بادئ الأمر أنكر علي محمد عليه هذا الأمر، حتى أقنعه بذلك في يومٍ من الأيام وبدأ يوحي إليه، فشرع بادعاء أنّه الباب، أي الباب إلى الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، وظهرت دعوته أولًا في كربلاء ولاقت رفضًا ثم ذهب إلى إيران، فانتشرت دعوته على أنَّه الباب، ثم تطور أمره وأصبح يدّعي أنَّه هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأسس الفرقة البهائية.

وتذكر بعض الروايات أنَّ نقاشًا دار فيما بينه وبين بعض العلماء، وترك دعواه، ولكن الحاكم الجديد أمر بإعدامه، فأعدِم. وبقطع النظر عمّا إذا تاب أو لا، فإنَّ ادعاءه المهدوية ما جاء إلا بيدٍ من الاستعمار؛ لتشق الوحدة الإسلامية، ومن ثم الوصول إلى مآربها.

ص: 246

واليوم نجد العديد من المدعين للمهدوية، الذين نجهل الأيادي الخفية التي تحركهم، والتي تمولهم بأموال طائلة، مما يرجح احتمال كونهم منصّبين من قبل دولٍ لها مصالح في نشر مثل هذه الدعاوى، سواء كانت ترتدي زي الإسلام أو غيره، بل ويمكن الاطمئنان بذلك أيضًا.

ثالثًا: الخطوط العامة لدعاوى السفارة والمهدوية:

على الرغم من اختلاف دوافع دعاوى السفارة والمهدوية واختلاف أقسامها، إلا أنَّها تشترك بخطوط عامة يمكن أنْ نلاحظها فيمن يدّعي السفارة أو المهدوية، وهي:

الخط الأول: إلغاء مسألة التقليد.

وهو أول عملٍ يقوم به مدعو المهدوية أو السفارة؛ لأنَّه ينتج نتيجتين مهمتين كلتاهما تصب في صالحهم، وهما:

الأولى: ضمان رجوع الناس أليهم، وهذا مما يؤدي إلى فصل المجتمع عن المرجعية، فيبقى المجتمع كغنمٍ بلا راعٍ يدخل فيها الذئب يصنع ما يشاء.

الثانية: أن الحقوق الشرعية ستؤول إليهم.

الخط الثاني: لا وجود لدليلٍ ملموس على حقانية الدعوى.

فإنَّ جميع أدلتهم تستند إلى الرؤى والاستفتاح بالقرآن وما شاكل ذلك، وأما الأدلة التي دعا إليها الشرع لإثبات مثل هكذا دعاوى من قبيل المعجزات أو الدليل القطعي، فهم عاجزون عنها.

وهذا من أهم سبل فضحهم وكشف بطلان دعواهم، كما حُكيَ أنَّ أحد هؤلاء المدعين ذهب إلى أحد العلماء، فلم يناقشه الأخير في شيءٍ سوى أنَّه طلب منه إزاء إيمانه به أن يعيد إلى لحيته البيضاء سوادها. وهي الطريقة التي كان اعتمدها الحسين بن

ص: 247

روح رحمه الله في رد بعض المدّعين(1)..

الخط الثالث: لا مجال للتريث في تصديق الدعوى.

فإما أنْ تؤمن أو تكفر.

الخط الرابع: كلُّ من لا يؤمن بالدعوى فهو كذابٌ أشر.

وإذا كان كاذبًا فلا يُسمع كلامه ولا يُصدّق في أية كلمةٍ يقولها أو ينقلها سواء كان عن المدعي أو غيره ولو كانت آيةً أو روايةً.

ص: 248


1- ورد عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي رحمه الله ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل0 يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعِدني عنهنَّ [ويُبغِّضني إليهنَّ]، وأحتاج أن أُخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل رحمه الله حدوثة وضحكة ويطنز(طنز يطنز طنزاً: كلَّمه باستهزاء. (هامش المصدر).) به عند كلِّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه. [الغيبة لطوسي: 401 و402/ ح 376.]
رابعًا: كيف نواجه مدّعي السفارة أو المهدوية؟

لم يُشِر الشيخ رحمه الله في كتابه إلى كيفية مواجهة مدعي السفارة أو المهدوية، ولكننا نذكرها استطرادًا، لا سيما إننا في زمنٍ كثرت فيه مثل هذه الدعاوى، فنكون بأمس الحاجة إليها. فنذكر بعض الأمور العملية:

الأمر الأول: متابعة الظروف التي أحاطت بالمدّعي.

قبل كلِّ شيءٍ لابُدَّ أنْ نتابع الظروف التي أحاطت بالمدعي، نحو: مسيرته في الحياة، أساتذته في العلم، أصحابه، أخلاقه في بيته ، مكسبه أي من أين يكسب الأموال.

وهذا لمن يدّعي السفارة، أما بالنسبة لمن يدّعي المهدوية فيكفي تتبع نسبه ليكشف عن كذبه.

الأمر الثاني: التريُّث في تصديق الدعوى.

إنَّ أمر أهل البيت علیهم السلام هو أوضح من الشمس وأبين من الأمس، ومع وجود غموض في دعوةٍ ما، فإنه يحق لأيِّ إنسان أنْ يتريث ويبحث حتى يصل إلى اليقين، لاسيما في الأصول الاعتقادية التي يُطلب فيها اليقين، واليقين عادة ما يحتاج إلى وقتٍ وفكرٍ ونظرٍ وتأملٍ، وربما مراجعة حتى يصل المرء إلى اليقين، وهذا ما أشار إليه ما روي عن أبي جعفر علیه السلام أنه قال:«كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم قتلاهم شهداء أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».(1)

أي إنه حتى مع ثبوت حقانية تلك الحركة، فإنّي أفضل انتظار صاحب الأمر،

ص: 249


1- الغيبة للنعماني ص 282 و 283 باب 14 ح 50.

وأبقي نفسي له.

يجرنا ما تقدّم إلى سؤال ربما يتبادر إلى الأذهان:

هل يجب الالتحاق باليماني حال خروجه؟

لعله يُقال: بعدم وجود رواية تدلُّ على لزوم اتباع اليماني ووجوب اللحاق به، وإنَّما الوارد هو حرمة الالتواء عليه، وهناك فرق بين حرمة الالتواء ووجوب الاتباع، فلا يجوز الاعتراض عليه وتثبيط الناس عنه، ولكن في نفس الوقت ليس هناك ما يدل على لزوم الالتحاق به.

وأما حال ظهور الإمام فلا بُدَّ من الالتحاق به كما هو واضح، فقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر علیهما السلام في حديثه مع أبي الجارود قال: «يا أبا الجارود، إذا دارت الفلك، وقال الناس: مات القائم أو هلك، بأي واد سلك، وقال الطالب: أنى يكون ذلك وقد بليت عظامه فعند ذلك فارجوه، فإذا سمعتم به فأتوه ولو حبواً على الثلج».(1)

الأمر الثالث: النظر في مدى مطابقة دعوى مدّعي السفارة أو المهدوية لضرورات الدين أو المذهب.

والضرورات: هي الأحكام الشرعية والأصول الاعتقادية التي اتفق جميع المسلمين على ثبوتها وعلى صدقها؛ لوجود نص قرآني أو نص شرعي متواتر صحيح وما شابه هذا الأمر، كوجوب أصل الصلاة.

فلو ادعى شخص عدم وجوب الصلاة أو عدم وجوب الحجاب، أو ادعى موت الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأنَّه هو من يجب اتباعه؛ لأنه ابنه أو خليفته، فلمخالفتهما لضرورة من ضرورات الدين يحكم بزيفها من دون تردد.

ص: 250


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 326 باب 32 ح 5.

الأمر الرابع: المطالبة بإقامة الكرامة.

ربما لم تُجدِ أيًا من الأمور السابقة في الكشف عن حقانية مدّعي السفارة أو المهدوية من عدمها، فحينئذٍ لا بُدَّ من المطالبة بدليل قطعي. ولا دليل قطعياً أدلُّ على حقانية الدعاوى المرتبطة بالسماء من الكرامات، والكرامة كالمعجزة لا تختلف عنها إلا في خلوها من ادعاء النبوة، فيجوز ادعاء سواها من المناصب الغيبية المتصلة بالسماء كالإمامة والسفارة وغيرها؛ لذا فما من نبي دعا قومه إلا وطولب بمعجزةٍ دليلًا على صدق دعواه.

وعليه، فلا يجوز للمدعي أن يتنصل من إثبات حقانية دعواه بالطريق الإعجازي، أو يُنكر هذا الأمر على من يطالبه به؛ لأنه علاوةً على كونه عرفًا عامًا في التعامل مع الدعاوى الغيبية، فهو عرفٌ خاص في خصوص التعامل مع الدعاوى المهدوية؛ للروايات الواضحة في هذا المجال، ومنها ما عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: يرجع في أحدهما إلىٰ أهله، والأُخرىٰ يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعىٰ مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

والعظائم التي يجيب فيها مثله هي الأمور الغيبية، أو حلِّ معضلةٍ علمية عجز العلماء عن حلها.

وقد ورد في بعض الروايات أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف نفسه يستجيب لمن يطلب منه الكرامة، ولا ينكر عليه ذلك، ففي رواية أُخرىٰ: «ويلحقه الحسني في اثني عشر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلىٰ الطير فيسقط علىٰ كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضرّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه

ص: 251


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.

الحسني الجيش، ويكون الحسني علىٰ مقدمته...»(1).

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية

خامسًا: طرق النقاش في القضايا المهدوية(2).

إتمامًا للفائدة، من المناسب أن نتعرض إلى كيفية المناقشة في القضايا المهدوية لكشف المزيفة منها. وهناك عدة طرق للنقاش مع أصحاب الدعاوى المزيفة لكشف زيفهم، وهذه الطرق مختلفة باختلاف المستوى العلمي للمدعين، وباختلاف الظروف الموضوعية التي قد تصل إلى حد التباين، وهي كالتالي:

الطريق الأول: الطريق الفكري.

إنَّ لكلِّ علم من العلوم وكلّ جانب من جوانب المعرفة أُصولاً موضوعية تؤخذ فيه على أنَّها أُصول ثابتة لا تنازل عنها، أي إنَّ الداخل في جانب من جوانب المعرفة سيجد فيه أساسات ومرتكزات يبتني عليها هذا الجانب المعرفي، وبالتالي على من يريد النقاش والحوار في هذا الجانب أن يلتزم أُصوله الموضوعية.

هكذا تقضي الأُصول العلمية المتعارفة في الأوساط المعرفية.

ومن هنا، فإنَّ الحوار في القضيَّة المهدوية له أساساته وأُصوله الموضوعية، وخلاصتها التالي:

أوَّلاً: إنَّ مفردات القضيَّة المهدوية هي من نوع الروايات التاريخية أو الملاحم المستقبلية، وعليه فالروايات تُمثِّل أساساً لا يُتنازل عنه فيها، فلا موضع للتخمينات ولا للظنّيات...

ثانياً: إنَّ هذا الأمر يخضع للعلوم المتعلّقة بالروايات، كالفقه وأُصوله وقواعدهما،

ص: 252


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 295 و296.
2- نشر هذا البحث في مجلة الموعود العدد 3/ جمادى الآخرة/ 1438ه- الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي8 مع تفاصيل أكثر.

وقواعد التعارض والتراجيح، وعلم الرجال والتراجم، وعلم الدراية...

ثالثاً: إنَّ هذا يعني ضرورة الرجوع إلى المتخصِّص في هذه العلوم، ولا يُسمَح لغير المتخصِّص فيها أن يتطفَّل عليها.

فإذا تحقَّقت هذه العناصر أمكن أن يكون النقاش مثمراً، وصار إثبات الرأي الصائب قريباً جدّاً من حيِّز الوقوع.

أمثلةٌ مواجهة المدعين بالطريق الفكري

المثال الأول: دعوى سفارة أحمد بن إسماعيل.

ادَّعى جماعة أحمد إسماعيل گاطع أنَّه وليّ مفترض الطاعة، وأنَّه يجب على كلِّ شيعي أن يبايعه، استناداً إلى رواية أسموها برواية الوصيَّة، وهي رواية رواها الشيخ الطوسي في غيبته، وقد ورد في ذيلها:

«... ثمّ يكون من بعده اثنا عش-ر مهدياً، (فإذا حض-رته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(1)

فادَّعى ابن گاطع - وصفَّق له جماعته - بأنَّه هو المقصود بأوَّل المقرَّبين وأوَّل المؤمنين، وبالتالي يجب على الشيعة أن يبايعوه و...

ووفق هذا الطريق الفكري يكون الردّ على هذه الدعوى بمنتهى العلمية والمهنية وفي نفس الوقت بمنتهى السهولة، ذلك لأنَّ هذه الرواية ضعيفة السند جدّاً، فلا تصلح للاستدلال الفقهي فضلاً عن العقائدي.

فإنَّ الشيخ رواها بالسند التالي:

ص: 253


1- الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.

«أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن سفيان البزوفري، عن عليّ بن سنان الموصلي العدل، عن عليّ بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المص-ري، عن عمِّه الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيِّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ...».

وهذا السند غاية في الضعف، لاشتماله على عدَّة مجاهيل وضعفاء، فإنَّ (عليّ بن سنان الموصلي العدل)، وكذلك (أحمد بن محمّد بن الخليل)، و(جعفر بن أحمد المصري)، و(عمّه الحسن بن عليّ، عن أبيه) كلّهم مجاهيل، فلا تصلح رواية وردوا في طريقها للاستدلال.(1)

المثال الثاني: خروج اليماني من البصرة لا من اليمن.

ومثال آخر على هذا الطريق، هو ما قد يدَّعيه البعض - ومنهم أحمد الگاطع - أنَّ اليماني من العراق من البصرة بالخصوص، وأنَّ اليماني المقصود منه النسبة إلى اليُمْن.

ويكون ردُّ هذه الدعوى وفق هذا الطريق بالرجوع أوَّلاً إلى الروايات، لنرى ما يُستفاد منها، وبالرجوع إلى أهل اللغة العربية لنرى ماذا يستفيدون من كلمة (اليماني).

وبالرجوع لهذين العلمين نجد أنَّ الروايات يُستفاد منها أنَّ اليماني من اليمن بالخصوص، فإنَّه قد ورد عن هشام، عن الإمام الصادق علیه السلام، قال: «لمَّا خرج طالب الحقِّ قيل لأبي عبد الله علیه السلام: نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: «لا، اليماني يوالي عليّاً وهذا يبرأ»(2).

ص: 254


1- للتفاصيل راجع كتاب: الردُّ القاصم لدعوة المفتري على الإمام القائم للشيخ عليّ آل محسن: 28 - 34/ تقديم مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه.
2- أمالي الصدوق: 661/ ح (1375/19).

فتجد أنَّ الإمام الصادق علیه السلام لم ينفِ اليمانية عن هذا المسمّى (الطالب للحقِّ) من جهة أنَّه خرج من اليمن لا من العراق، بل نفاها من جهة عدم موالاته لأمير المؤمنين علیه السلام، ولو كان ثَمَّة جهة أُخرى لكان مناسباً للإمام علیه السلام أن يُبيِّنها.

فيظهر من هذا أنَّ كون اليماني من اليمن هو من الواضحات في الذهنية الشيعية عموماً آنذاك، أي في عصر الإمام علیه السلام، وسكوت الإمام علیه السلام عن ذلك إقرار منه بصحَّة هذا الفهم في الذهنية العامَّة.

وهكذا لو رجعنا لأهل اللغة، لرأينا أنَّهم يفهمون من (اليماني) النسبة إلى اليَمَن، كما يفهمون من (الحبرة اليمانية) انتسابها إلى اليمن، ومن الركن اليماني الجهة المقابلة من الكعبة لليمن، وأنَّ النسبة المأخوذة من (اليُمْن) هي (ميمون) لا (يماني)، بل إنَّ المتبادر من (اليماني) هو النسبة إلى اليمن، والتبادر علامة الحقيقة، ولا ينصرف إلى غير هذا المعنى إلَّا بقرينة صارفة، وهي مفقودة في المقام.

الطريق الثاني: الطريق الخطابي.

من أهمّ الأساليب الإقناعية وأقدمها وأكثرها تأثيراً في الجمهور هو أُسلوب الخطابة، ذلك الأُسلوب الذي يكون القصد المباشر منه إقناع الجمهور والطرف الآخر، سواء كانت القضايا المستعملة فيه علمية أو مشهورة أو من نوع المسلَّمات وما شابه، فليس المقصود فيها أكثر من إقناع الطرف الآخر، بغضِّ النظر عن نوع القضيَّة المستعملة في الإقناع.

ولا نريد الخوض في أجزاء الخطابة وقوامها، فإنَّ الكلام فيه طويل الذيل.

المهمّ أن نعرف أنَّ هذا الأُسلوب نافع في الكثير من الأحيان، خصوصاً إذا كان الحوار يدور على مرأى ومسمع من جمهور متوسّط الثقافة أو قليلها.

ص: 255

وعندما نرجع إلى أساليب أهل البيت علیهم السلام في الحوار نجد أنَّهم علیهم السلام قد يستعملون الأُسلوب والطريق الفكري العلمي، وقد يستعملون الأُسلوب والطريق الخطابي، وما ذاك إلَّا لأنَّهم كانوا يلاحظون الظروف الموضوعية المحيطة بالحالة، فيتخيَّرون المناسب من طرق الإقناع.

وكتطبيق عملي لهذه الفكرة، نجد في الروايات الشريفة سؤالاً واحداً توجَّه إلى اثنين من أئمَّة أهل البيت علیهم السلام، وقد أجابا عنه بجوابين مختلفين، وما ذاك إلَّا لاختلاف حال السائل معهما، حيث ورد أنَّ الديصاني - وهو أحد أقطاب الزنادقة الذين كانوا يُشكِّكون بوجود الله تعالى - قال لهشام بن الحكم: ألك ربٌّ؟ قال: بلى. قال: أقادرٌ؟ قال: بلى. قال: أيقدر أن يُدخِل الدنيا كلّها في البيضة، لا يُكبِّر البيضة ولا يُصغِّر الدنيا؟ فجاء هشام إلى الإمام الصادق علیه السلام وقال له: قال لي الديصاني كذا وكذا. فقال علیهم السلام له: «كم حواسّك؟»، قال: خمس. قال علیه السلام: «أيّها أصغر؟»، قال: الناظر. قال علیه السلام: «كم قدر الناظر؟»، قال: مثل العدسة أو أقلّ. قال علیه السلام: «فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى». قال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وجبالاً وأنهاراً. فقال علیه السلام: «إنَّ الذي قدر على أن يُدخِل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يُدخِل الدنيا كلّها البيضة، لا يُصغِّر الدنيا ولا يُكبِّر البيضة»(1).

ونفس هذا السؤال أجاب عنه أمير المؤمنين علیه السلام بجواب آخر، فعن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين علیه السلام: هل يقدر ربّك أن يُدخِل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغِّر الدنيا أو يُكبِّر البيضة؟ قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسَب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»(2).

ص: 256


1- التوحيد للصدوق: 122.
2- التوحيد للصدوق: 129 و130.

فنلاحظ أنَّ جواب الإمام الصادق علیه السلام كان جواباً خطابياً اسكاتياً، وأمَّا جواب أمير المؤمنين علیه السلام فقد كان جواباً علمياً برهانياً، مفاده أنَّ ما يقوله السائل يستلزم محالاً عقلياً، فإنَّ قدرة الله تعالى تتعلَّق بالأمر الممكن، وأمَّا الأمر الممتنع ذاتاً فإنَّ القدرة لا تتعلَّق به، لأنَّه ممتنع بالذات، وإدخال الدنيا في البيضة مخالف لقانون عقلي متسالم عليه، وهو عدم إمكان أن يكون الصغير ظرفاً للكبير، لأنَّ قانون الظرفية العقلي يقتضي أن يكون الكبير ظرفاً للصغير.

فهنا امتناع إدخال الدنيا في البيضة لنقص في البيضة لا لنقص في قدرة الله تعالى، تماماً كما إذا كان هناك رسّام ماهر يجيد كلَّ أنواع الرسم، فيأتيه شخص ويقول له: أتستطيع أن ترسم لي لوحة على الماء أو الهواء!؟ فهل عدم استطاعة الرسّام لذلك يعني أنَّ الرسام ليس ماهراً أم أنَّ نفس الرسم على الماء والهواء مستحيل!؟ حكِّم عقلك واخرج بنتيجة.

تطبيق في القضيَّة المهدوية:

إنَّ جماعة أحمد الگاطع وحتَّى يتملَّصوا من الردِّ العلمي على رواية الوصيَّة، أنكروا (علم الرجال) ونتائجه، فلا يكفي القول بضعف سندها لردِّها، ونحن لو تنزَّلنا عن هذا الأمر، فإنَّه يمكن أن نجيبهم بجواب خطابي لا يمكنهم أن يتملَّصوا منه، وخلاصته التالي:

إنَّ رواية الوصيَّة نصَّت على أنَّ (ابن المهدي) و(أوَّل المقرَّبين) سيتولّى مهام قيادة الدولة المهدوية بعد وفاة أبيه، إذ أنَّها قالت ما نصّه: «... ثمّ يكون من بعده اثنا عش-ر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(1).

وهنا نقول: لو سلَّمنا أنَّ رواية الوصيَّة صحيحة السند، وأنَّ (أحمد إسماعيل گاطع)

ص: 257


1- الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.

هو ابن الإمام، ولكن لا يجب علينا أن نبايعه ونتَّبعه إلَّا بعد ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وحكمه الأرض ووفاته، لأنَّ هذا هو ما نصَّت عليه الرواية، وبالتالي فلا دليل على لزوم اتِّباعه اليوم إلَّا أن يخالف الوجدان ويدَّعي ظهور الإمام وموته!

الطريق الثالث: طلب الكرامة أو المعجزة.

الاتِّصال بالغيب، ليس له أدوات حسّية للإثبات في الأعمِّ الأغلب، لذا أيَّد الله تعالى رسله وأنبياءه بالمعجزات الكثيرة، حتَّى يتمكَّنوا من إثبات اتِّصالهم بالسماء.

ذلك لأنَّ المعجزة حيث إنَّها «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة»(1).

وهذا الأمر لا يحصل لأيِّ مدَّعٍ، فإنَّ جريان المعجزة إنَّما يكون بإذن الله تعالى، وهو ما صرَّح به القرآن الكريم على لسان النبيِّ عيسى علیه السلام: ﴿وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْن اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(2)

فجريانها إنَّما يكون بإذن الله تعالى، فلو جرت على يدي مدَّعٍ كاذب، كان هذا إغراءً من الله تعالى بالمعصية، وهو بحكم العقل قبيح، والله تعالى منزَّهٌ فعلُه عن أيِّ قبيح.

فالحكمة الإلهية واللطف الإلهي يمنع من إجراء المعجزة إلَّا على يدي الصادق، ومن له علاقة بالسماء.

ومن هنا حكم العقل بصدق من تجري المعجزة على يديه، بل وضرورة طاعته.

ومن يدَّعِ الاتِّصال بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف - وهو نوع من أنواع الاتِّصال بالغيب، إذ

ص: 258


1- محاضرات في الإلهيات للسبحاني: 258.
2- آل عمران: 49.

ليس له أدوات إثبات حسّية – فإن عليه أن يُثبِت ذلك بنفس الكيفية، إذ ما من طريق يقيني يورث الاطمئنان بذلك إلَّا أن يأتي المدَّعي بما يكشف عن صدق دعواه، وذلك بأن يأتي بشيءٍ خارق للعادة، من دون سابق إنذار، ومن دون تعليم مسبق، لا كما يفعل المشعوذون والسحرة.

وهذا الأمر له شواهد عديدة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: يرجع في أحدهما إلى أهله، والأُخرى يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعى مدَّعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

فالإمام الصادق علیه السلام يدلّنا على أنَّ من يدَّعي مقاماً غيبياً كالمهدوية، أو حتَّى الاتِّصال بالمهدي والسفارة عنه، فعليه أن يجيب من يسأله عن أُمور عظائم، لا يجيب عليها إلَّا الإمام أو من يرسله الإمام ويعطيه المؤيِّدات على ذلك، ومن تلك العظائم بل وعلى رأسها المعجزة.

ثانياً: ما ورد عن الحسين بن عليّ بن محمّد المعروف بأبي عليّ البغدادي، قال: رأيت في تلك السنة بمدينة السلام امرأة، تسأل عن وكيل مولانا علیه السلام من هو؟ فأخبرها بعض القمّيين أنَّه أبو القاسم الحسين بن روح، وأشار لها إليه وأنا عنده. فقالت له: أيّها الشيخ أيّ شيء معي؟ فقال: ما معكِ اذهبي فألقيه في دجلة، ثمّ ائتيني حتَّى أُخبركِ. قال: فذهبت المرأة، وحملت ما كان معها، فألقته في دجلة، ثمّ رجعت، ودخلت إلى أبي القاسم الروحي، وأنا عنده. فقال أبو القاسم لمملوكته: أخرجي إليَّ الحقَّة فأخرجت إليه الحقَّة، فقال للمرأة: هذه الحقَّة التي كانت معكِ، ورميتِ بها في دجلة، أُخبرك بما فيها أم

ص: 259


1- الغيبة للنعماني: 178.

تخبريني؟ قالت: بل تخبرني أنت. قال: في هذه الحقَّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جواهر وخاتمان أحدهما فيروزج، والآخر عقيق. وكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً. ثمّ فتح الحقَّة، فعرض عليَّ ما فيها، ونظرت المرأة إليه فقالت: هذه التي حملتها بعينها، ورميت بها في دجلة. فغش-ي عليَّ وعلى المرأة لما شاهدناه من صدق الدلالة والعلامة.(1).

ثالثاً: ما ورد عن محمّد بن الحسن الصيرفي الدورقي المقيم بأرض بلخ يقول: أردت الخروج إلى الحجِّ، وكان معي مال بعضه ذهب وبعضه فضَّة، فجعلت ما كان معي من الذهب سبائك وما كان معي من الفضَّة نقراً، وكان قد دُفِعَ ذلك المال إليَّ لأُسلِّمه من (إلى) الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله، قال: فلمَّا نزلت سرخس ضربت خيمتي على موضع فيه رمل، فجعلت أُميِّز تلك السبائك والنقر، فسقطت سبيكة من تلك السبائك منّي وغاضت في الرمل وأنا لا أعلم، قال: فلمَّا دخلت همدان ميَّزت تلك السبائك والنقر مرَّة أُخرى اهتماماً منّي بحفظها، ففقدت منها سبيكة وزنها مائة مثقال وثلاثة مثاقيل - أو قال: ثلاثة وتسعون مثقالاً -، قال: فسبكت مكانها من مالي بوزنها سبيكة وجعلتها بين السبائك، فلمَّا وردت مدينة السلام قصدت الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه)، وسلَّمت إليه ما كان معي من السبائك والنقر، فمدَّ يده من بين [تلك] السبائك إلى السبيكة التي كنت سبكتها من مالي بدلاً ممَّا ضاع منّي، فرمى بها إليَّ، وقال لي: ليست هذه السبيكة لنا، وسبيكتنا ضيَّعتها بس-رخس حيث ضربت خيمتك في الرمل، فارجع إلى مكانك وانزل حيث نزلت واطلب السبيكة هناك تحت الرمل فإنَّك ستجدها، وستعود إلى هاهنا فلا تراني. قال: فرجعت إلى سرخس ونزلت حيث كنت نزلت، فوجدت السبيكة تحت الرمل وقد نبت عليها الحشيش، فأخذت السبيكة وانصرفت إلى بلدي، فلمَّا كان بعد ذلك حججت ومعي السبيكة

ص: 260


1- الخرائج والجرائح للراوندي 3: 1125 و1126.

فدخلت مدينة السلام وقد كان الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مضى، ولقيت أبا الحسن عليّ بن محمّد السمري قدس سره، فسلَّمت السبيكة إليه.(1).

ومن هذه الإشارات نفهم:

أوَّلاً: ضرورة التروّي في اتِّباع أيّ مدَّعٍ لدعاوى الارتباط بالغيب، وعدم الاستعجال والدخول معه من دون بصيرة.

ثانياً: يجوز لنا أن نطالب مدَّعي الاتِّصال بالغيب بآية تُثبِت صدق دعواه، فإذا رفض كان ذلك علامة كذبه.

الطريق الرابع: الإهمال.

هل من الصحيح أن نواجه علناً كلَّ من ادَّعى دعوى غيبية؟

وهل من الصحيح أن نجالس كلَّ من طالبنا بالنقاش والمحاججة؟

وهل طاولة النقاش مفتوحة لكلِّ من هبَّ ودبَّ؟

الجواب:

إنَّ التفكير المنطقي الموزون يقضي بضرورة الجلوس والنقاش مع البعض، وفي نفس الوقت يحكم بضرورة اتِّخاذ إجراء (الإهمال المتعمَّد) مع بعض آخر، فإنَّه يكون أبلغ جواب له هو إهماله، إذ لعلَّ مناقشته ترفع من شأنه وهو وضيع، وقد تُلفِت الأنظار إليه فينخدع به من لا بصيرة له، فيكون التصرّف الحكيم معه هو إهماله، والاجتناب عن الجلوس معه، ليعرف الجميع ضعته وزيفه، وأنَّه لا يصل إلى منزلة يستحقُّ معها إنفاق بعض الوقت والجهد لأجله.

وهذا الأُسلوب قد استعمله بعض الأئمَّة الأطهار مع بعض الخصوم والمدَّعين،

ص: 261


1- كمال الدين للصدوق: 516 و517.

فقد ورد أنَّ أبا سَلَمة الخلال، وهو أحد نقباء الدولة العبّاسية، والعضو الفعّال في قيادة الثورة العبّاسية، بعث كتاباً إلى الإمام الصادق علیه السلام يُعلِن فيه استعداده للدعوة إليه والتخلّي عن بني العبّاس، فكان جواب الإمام: «ما أنا وأبو سَلَمة، وأبو سَلَمة شيعة لغيري»، فقال رسول أبي سَلَمة: إنّي رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه. فدعا الإمام الصادق علیه السلام بسراج ثمّ أخذ كتاب أبي سَلَمة فوضعه على السراج حتَّى احترق، وقال للرسول: «عرِّفْ صاحبك بما رأيت»(1).

فالإهمال في بعض الأحيان جواب كافٍ ووافٍ لمن يدَّعي ما ليس فيه.

وهذا ما فعله السفير الثالث الشيخ الحسين بن روح مع الشلمغاني، فقد ورد أنَّه أنفذ محمّد بن عليّ الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله، وقال: أنا صاحب الرجل وقد أمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ رحمه الله في جواب ذلك: أيّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتِلَ وصُلِبَ...(2).

وكذلك ما فعله السفير الأوَّل عثمان بن سعيد العمري الأسدي مع محمّد بن نصير النميري الذي ادَّعى أنَّه رسول نبيّ، وكان يقول بربوبية عليّ علیه السلام، ويقول بإباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال...، فقد ورد أنَّه لمَّا ظهر محمّد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر قدس سره وتبرَّأ منه، فبلغه ذلك، فقصد أبا جعفر قدس سره ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه، فلم يأذن له وحجبه وردَّه خائباً.(3).

ص: 262


1- اُنظر: مروج الذهب للمسعودي 3: 253.
2- الغيبة للطوسي: 307/ ح 258.
3- الغيبة لطوسي: 398/ ح 370.

الطريق الخامس: الاستهزاء.

نحن نعرف أنَّ الإسلام دين الاحترام وتقييم الآخر، فليس فيه دعوة أو حثّ على الاستهزاء بالآخرين، ومعه فما معنى أن يكون الاستهزاء طريقاً للنقاش والحوار وإثبات الرأي؟

إنَّ المقصود هنا هو عدم إعطاء المدَّعي - إذا ما ثبت تعمّده الكذب واختلاق مقام ليس هو من أهله - أيّ فرصة لإثبات نفسه أو شخصيته، وعدم السماح له بالنبس ببنت شفة، وإظهار أمره لخطورة دعواه الباطلة، فإنَّ ذلك في الوقت الذي قد يُؤثِّر إيجاباً على نفسية المدَّعي، بأن يرتدع عن الخوض في الباطل، أو على الأقلّ أن يُخفِّف من التبشير بدعواه خوفاً من الفضيحة والاستهزاء، كذلك فإنَّه يقف حاجزاً دون السماح للآخرين باتِّباع المبطل، فإنَّ الناس إذا رأوا حقارة ذلك المدَّعي وعدم هيبته، فإنَّهم سيحاولون الحفاظ على كرامتهم بالابتعاد عنه، وبالتالي نكون قد حصلنا على نتيجتين في آنٍ واحد: ردع المدَّعي بالباطل، ومنع الناس من اتِّباعه.

وهذا التص-رّف يحتاج إلى حنكة اجتماعية وذكاء وجداني يستطيع من خلاله الإنسان أن يعرف التصرّف المناسب مع المدَّعي، كما فعله الشيخ ابن بابويه والد الشيخ الصدوق رحمه الله مع الحلّاج، فقد ورد أنَّ ابن الحلّاج صار إلى قمّ، وكاتب قرابة أبي الحسن - وهو والد الشيخ الصدوق - يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله.

قال الصدوق: فلمَّا وقعت المكاتبة في يد أبي رحمه الله خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل:... فإنَّ الرجل قد استدعانا فلِمَ خرقت مكاتبته!؟

وضحكوا منه وهزؤا به. ثمّ نهض إلى دكّانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه. قال: فلمَّا دخل إلى الدار التي كان فيها دكّانه نهض له من كان هناك جالساً غير رجل رآه

ص: 263

جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي، فلمَّا جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجّار أقبل على بعض من كان حاضراً، فسأله عنه، فأخبره، فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عنّي وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيّها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك. فقال له: تخرق رقعتي وأنا أُشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذاً.

ثمّ قال: يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدوّ لله ولرسوله، ثمّ قال له: أتدَّعي المعجزات عليك لعنة الله؟ أو كما قال، فأُخرج بقفاه، فما رأيناه بعدها بقم.(1).

ومنه ما ورد عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي قدس الله روحه ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عجلالله تعالی فرجه الشریف - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعِدني عنهنَّ [ويُبغِّضني إليهنَّ]، وأحتاج أن أُخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار

ص: 264


1- الغيبة للطوسي: 402 و403/ ح 377.

القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه

جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل رضي الله عنه أُحدوثة وضحكة ويطنز(1) به عند كلِّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.(2)

ص: 265


1- طنز يطنز طنزاً: كلَّمه باستهزاء. (هامش المصدر).
2- الغيبة لطوسي: 401 و402/ ح 376.

ص: 266

المبحث الثاني

اشارة

ضرورة القضية المهدوية

قال الشيخ رحمه الله:

«...ونحن مع إيماننا بصحة الدين الاسلامي وأنه خاتمة الأديان الإلهية ولا نترقب ديناً آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية، وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام - نحن مع كل ذلك لا بد أن ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد...»

يُشير الشيخ في هذا المقطع، إلى ضرورة ولزوم وجود يوم الظهور، أي ضرورة أنْ يأتي ذلك اليوم الذي يُزال فيه الظلم ويحلُّ محله العدل والقسط.

لسنا بحاجةٍ إلى الحديث عن ضرورة القضية المهدوية فضلًا عن إثباتها لمن يعتقد بالمدرسة الإمامية؛ لتسليمه المطلق بها حدَّ البداهة، وإنَّما الحديث عن ذلك لمن هو خارج هذه المدرسة اعتقادًا من عامة المسلمين، فضلًا عمّن هو خارج دائرة الدين الإسلامي من معتنقي سائر الأديان السماوية الأخرى.

أولًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية للعامة من المسلمين.

اشارة

ويمكن إثبات ضرورتها بعدة طرق [غير ما تقدم من الاتفاق عليها وورود

ص: 267

النصوص المتواترة فيها] ولكننا سنقتصر على ما ذكره الشيخ رحمه الله:

الدليل العقلي: دليل نقض الغرض.

ونقتصر فيه على المقدمات التي ذكرها الشيخe:

المقدمة الأولى: إنَّ آخر الأديان هو الإسلام، وأنَّه الدين الأصلح للبشرية.

وهذه المقدمة مسلَّمةٌ عند جميع المسلمين، ومن ينكرها يخرج عن الإسلام؛ لأنَّ القرآن الكريم صرّح وبوضوحٍ أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم هو خاتم النبيين، والقول بأنَّ الإسلام ليس بآخر الأديان يستلزم القول بعدم خاتمية النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن ثم تكذيب القرآن، ومن يُكذِّب القرآن والنبي صلی الله علیه وآله وسلم فإنه يخرج عن الإسلام.

المقدمة الثانية: إنَّ أحد أهم أهداف الخلقة هو الوصول بالجن والإنس إلى العبادة المطلقة لله عزوجل، قال عزوجل: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.(1)

وهو ما لم يتحقق حتى الآن وجدانًا.

المقدمة الثالثة: إنَّ الأرض كانت ولا زالت تئنُّ من الظلم وترضخ تحت الجور، وإنَّ الظلم والجور مستمران وباشتداد، وإنَّ الأرض لم تعِش يومًا من أيامها في عدلٍ ورخاء وسعادة وهناء بشكل مطلق، ولا غرو في ذلك؛ إذ لم يحكم جميع أرجائها الدينُ الحقُّ قط.

وعليه، فإنَّ استمرار الحياة على هذه الوتيرة من انعدام العدل وانتشار الظلم إلى الأبد، يؤدي إلى نقض الغرض من خلقها، أي إنَّ ذلك الغرض والهدف من خلقتها والذي تقدّم -- الوصول بالجن والإنس إلى العبادة -- لم يتحقق، وهذا يعني نقض الغرض من الخلقة.

ص: 268


1- الذاريات 56.

إشكالٌ وجواب: ربما يُشكل على دليلنا أحدٌ بالقول: ما الضير في انتقاض هذا الغرض أو الهدف؟

والجواب: إنَّ نقض الغرض يستلزم العبث، وإنَّ الله عزوجل حيث إنّه حكيمٌ فهو منزهٌ عن العبث.

كما أنَّه يستلزم الكذب؛ لأنَّ الله سبحانه تعالی صرَّح بأنّه لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدون، وهو (جلَّ وعلا) منزهٌ عن الكذب أيضًا.

وعودٌ إلهية...

ومن الجدير بالذكر أنَّ الله سبحانه تعالی قد وعد بأمورٍ أخرى تتحقق في الحياة الدنيا غير وصول الثقلين من الجن والإنس إلى العبادة، ومنها:

1/استخلاف الذين آمنوا في الأرض، قال عروجل: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.(1)

2/وراثة الأئمة الذين استضعفوا الأرضَ، قال عزوجل: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.(2)

3/ظهور الدين الإسلامي على الدين كلّه، قال عزوجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(3)

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَىٰ اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

ص: 269


1- النور 55.
2- القصص 5.
3- الصف 9.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْ-رِكُونَ﴾.(1)

وفي آيةٍ أخرى ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفىٰ بِاللهِ شَهِيداً﴾.(2)

ومن المعلوم وجدانًا عدم تحقق أيٍّ من هذه الأمور فيما مضى، كما لا يمكن الادعاء بتحقق خصوص الظهور على الدين كله ولو في زمن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم كما ذهب إلى ذلك البعض؛ لإطلاق ظهور الدين في الآية المباركة، مما يعني ظهوره على الدين كله في جميع أرجاء المعمورة.

وهذا ما لا يمكن أنْ يتحقق إلا بالظهور المهدوي، وبما أنَّ عدم تحققها خلفٌ للوعد الإلهي، وخلفُ الوعد قبيحٌ عليه (جل شأنه)، فتثبت بذلك ضرورة القضية المهدوية أيضًا.

والنتيجة إذًا:

لابد أنْ يأتي يومٌ ينتشر فيه الإسلام في ربوع الأرض تحقيقًا للغرض الإلهي، ويصل الناس كل الناس إلى مرحلة (ليعبدون)، وهذا هو ما نُسميه بيوم الظهور.

وبه يتضح أن البشرية تسير تلقائيا باتجاه نحو يوم الظهور.

وأن هذا اليوم الذي سيحقق فيه الهدف الإلهي لا يمكن ان يتحقق إلا على يدي رجل إلهي ومصلح عظيم بعيد عن الخطأ وصاحب حِنكة وحكمة وذي علم عظيم، يستطيع به ردّ الشبهات وكشف الواقع، وهو عبارة عن العصمة، إذ لو لم يكن كذلك فإن احتمال خطئه وانحراف مسيرته واردٌ جداً، وبالتالي لا يتحقق ذلك الهدف على يديه، وهذه النتيجة هي ما يمكن ان يكون ترجمة لما رُوى عن الامام الباقر علیه السلام من قوله: دولتنا

ص: 270


1- التوبة 32 و 33.
2- الفتح 28.

آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1).(2)

إذاً لابدّ أن يتحقق هذا الغرض في يوم من الأيام، وهذا اليوم هو الذي نسميه اليوم الموعود وهذا هو ما ذكرته الروايات الشريفة عن عمار بن موسى السباطي عن الإمام الصادق علیه السلام قال عمار: سمعته وهو يقول علیه السلام: «لم تخلُ الارض منذُ كانت من حجهٍ عالما يُحيي فيها ما يُميِتون من الحق ثم تلا هذه الآية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾»(3).

وفي رواية اخرى عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام في قوله تعالى «﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فاذا خرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لم يبق كافرٌ بالله العظيم ولا مشركٌ بالأمام إلا كرِه خروجه».(4)

المقصود من الإظهار في الآية:

ذكرت الآيات المتقدمات أنَّ الغاية من إرسال النبي صلی الله علیه وآله وسلم هو إظهار الإسلام على كلِّ الأديان، بمعنى غلبته، ولكن ما هو المقصود من هذا الإظهار وهذه الغلبة؟

يمكن أنْ يُذكر هنا ثلاثة معانٍ نعرضها لنعرف المناسب منها:

الأول: الإظهار والغلبة المنطقية.

مما لا شكّ فيه لو دار نقاش بين الإسلام وبين بقية الأديان لرجحت كفة الإسلام

ص: 271


1- القصص 83.
2- الغيبة للشيخ الطوسي ص 472 ح 493.
3- كمال الدين، ص 221، باب 22، حديث رقم 4.
4- كمال الدين، ص 670، باب 58، حديث، 16.

على غيره؛ لما فيه من قوانين منطقية ثابتة وقواعد واقعية بالإضافة إلى خلوه من الخرافات والتحريفات التي ابتليت بها بقية الأديان بعد التحريف.

وهذا المعنى صحيحٌ، لكن ليس هو المراد من الإظهار في هذه الآية؛ لأنّه موجودٌ وثابتٌ منذ الصدر الأول للإسلام، والآية في صدد الحديث عن أمر مستقبلي، وقد مرَّ ذكر الرواية التي قالت: ما نزل تأويلها بعد.

الثاني: إظهار الإسلام وغلبته على الأديان ولو على بعض الأرض.

وهذا المعنى تحقق في الأزمنة الماضية في الحجاز والعراق وبلاد فارس وغيرها.

ولكنّه ليس المقصود من الآية؛ لأن الآية تتحدث عن إظهاره على الدين كله، وليس على بعض الدين.

الثالث: إظهار الإسلام وغلبته على سائر الأديان وعلى كلِّ الأرض.

وهذا هو المتناسب مع الآية الكريمة، وهو المعنى الذي صرّحت به الروايات الشريفة، منها ما روي عن عباية بن ربعي: «أنَّه سمع أمير المؤمنين علیه السلام يقول في تفسير الآية وكأنّه يتساءل مع بعض أصحابه: أ ظهر ذلك بعد؟ قالوا: نعم، فقال صلی الله علیه وآله وسلم: كلا والذي نفسي بيده حتى لا يبقى قرية إلا ونودي فيها بشهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا صلی الله علیه وآله وسلم رسول الله بكرةً وعشيًا».(1)

وفي روايةٍ أخرى عن ابن عباس في نفس الآية قال: «لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلا دخل في الإسلام... وذلك قوله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ وذلك يكون عند قيام القائم».(2)

ص: 272


1- تأويل الآيات الظاهرة/ج2/ص689/ح8.
2- تأويل الآيات الظاهرة/ج2/ص689/ح9.

ثانيًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقي سائر الديانات الإلهية الأخرى.

لم يذكر الشيخ رحمه الله كيفية إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقي سائر الديانات الأخرى؛ لأنّه لم يكتب هذا الكتاب المبارك لإثبات عقائدنا في مقابل الأديان الأخرى، بل لإثباتها في مقابل العامة.

ولكن إتمامًا للفائدة نقول:

بإمكاننا أنْ نستدل لغير المسلم عليها بطريقين هما:

الأول: بالدليل العقلي المتقدم.

ولكن ينبغي قبل ذلك أنْ نثبت خاتمية نبوة النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم، وكذا خاتمية الدين الإسلامي.

الثاني: بالأدلة النقلية الواردة في الكتب المسيحية أو اليهودية أو غيرها.

ص: 273

ص: 274

المبحث الثالث

اشارة

شخصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بين المدرستين

المطلب الأول: أهم الفروق بين المدرستين في شخصيته عجل الله تعالی فرجه الشریف.

قال الشيخ رحمه الله:

«غير أنَّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أنَّ الإمامية تعتقد أنَّ هذا المصلح المهدي هو شخصٌ معينٌ معروفٌ، ولد سنة 256ه- ولا يزال حيًا(1)،هو ابن الحسن العسكري، واسمه محمد، وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت علیهم السلام من الوعد به، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه...».

بعد أنْ أشار الشيخe إلى أنَّ القضية المهدوية من المسائل التي اتفقت عليها كلمة المسلمين بصورةٍ عامة، أشار في هذا المقطع إلى أنَّ هناك اختلافًا بينهم في تفاصيل هذه القضية، كما في بقية المسائل الأخرى كالصلاة مثلًا، فإنَّه وإنْ كان الاتفاق بين المدرستين حاصلًا على وجوبها، وعددها، وعدد ركعاتها، إلا أنَّهما اختلفتا في بعض تفاصيلها، ككون البسملة جزءًا من السورة أو لا؟ وهل تُقرأ جهراً أو إخفاتًا؟ وهل الواجب في الصلاة هو التكتف أو إسبال اليدين؟ وهل يجوز الجمع بين صلاتي الظهرين أو العشائين في غير السفر أو لا؟ وما إلى ذلك

والقضية المهدوية هي الأخرى وإنْ تمَّ الاتفاق عليها بشكلٍ عام، إذ يعتقد الجميع بلا بُدية وجوده في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أنْ مُلأت ظلمًا وجورًا،

ص: 275


1- إلا أن المشهور هو أنه ولد سنة (255) للهجرة.

لكن الاختلاف موجودٌ أيضًا في التفاصيل ومن عدة جهات، من قبيل: علامات الظهور، وما هو الواجب على الإنسان في التمهيد لعملية الظهور، والاختلاف في شخص المهدي.

ولأهمية الاختلاف الأخير، فقد اختاره الشيخ رحمه الله لتسليط الضوء عليه، حيث ذكر عدة فروقٍ في شخصٍ الإمام المهدي فيما يعتقده العامة وما يعتقده الخاصة، ورومًا للإيجاز سنقتصر على ذكرها وهي:

الفرق الأول: أنَّ المهدي عند الشيعة هو من ولد الإمام الحسين علیه السلام، وأمَّا عند العامَّة فهو من ولد الإمام الحسن المجتبىٰ علیه السلام.

الفرق الثاني: أنَّ المهدي عند الشيعة اسمه (محمّد بن الحسن)، وأمَّا عند العامَّة فاسمه (محمّد بن عبد الله).

الفرق الثالث: أنَّ المهدي عند الشيعة كان قد وُلِدَ سنة (255 أو 256) للهجرة، وما زال حيّاً إلىٰ أنْ يُظهِره الله (تعالىٰ) في الوقت الذي لا يعلمه إلَّا هو عزوجل، وأمَّا عند العامَّة فإنَّه يُولَد في آخر الزمان.

الفرق الرابع: أنَّ المهدي حيٌ منذ ولادته وحتى وفاته بعد ظهوره المبارك وملئه الأرض قسطًا وعدلًا، ومن ثم فهو الآن حيٌ بالقطع واليقين عند الشيعة، على حين لا تقول العامة بحياته الآن؛ لأنهم لم يؤمنوا بولادته، فضلًا عن طول عمره. وعليه، فلربما كان حيًا عندهم فيما إذا قرب الظهور، وربما لا يكون كذلك فيما إذا كان الظهور بعيدًا.

الفرق الخامس: أنَّ المهدي عند الشيعة ينصره الله (تعالىٰ) بالملائكة(1)،

وبالأولياء الذين سيُرجِعهم الله (تعالىٰ) بإذنه(2)، وأمَّا المهدي عند العامَّة فلم أجد أنهم يذكرون له

ص: 276


1- الغيبة للنعماني: 239 و240/ باب 13/ ح 22.
2- الإرشاد للمفيد 2: 386.

هذه النصرة، خصوصًا وأنَّهم لا يؤمنون بالرجعة أصلًا.

الفرق السادس: أنَّ مهدي الشيعة معصومٌ، كما هو الحال في النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أما مهدي السنة فليس بالضرورة أنْ يكون معصومًا.

الفرق السابع: أنَّ المهدي عند الشيعة يقومُ بتجهيزه بعد موته الإمامُ الحسينُ علیه السلام، وأمَّا عند العامَّة فليس كذلك؛ لأنَّهم لا يؤمنون بالرجعة كما أسلفنا.

وهذه هي أوضح الفروق بين المدرستين فيما يخص شخص الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

المطلب الثاني: من أدلة ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

اشارة

قال الشيخ رحمه الله: «وهذا ما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه».

أولًا: العامة وولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف

بادئ ذي بدءٍ لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الأصل في الإنسان هو عدم الولادة، فإنْ ادُعيَ خلاف ذلك طُلِب الدليل، وعليه فلا غرو في مطالبة العامة إيّانا بالدليل، لكن فيما لو عدموا الأدلة على ولادته في كتبهم ورواياتهم.

بيدَ أنَّ الأمر على خلاف ذلك؛ لسببين:

الأول: إثبات العديد من علمائهم ولادته علیه السلام سنة 255 هجرية، فقد اعترفوا بوجود ولدٍ للإمام العسكري علیه السلام، ولم يذكروا أنّه توفي البتة، مما يعني أنَّه لازال على قيد الحياة. وهم علماءٌ كُثُر، أحصاهم بعض الباحثين فكانوا أكثر من تسعةٍ وخمسين عالمًا، ومنهم –على سبيل المثال لا الحصر-

1/ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة في ترجمة الإمام العسكري علیه السلام: قال: «ولم يُخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن

ص: 277

آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر».(1)

2/ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال في ترجمة الإمام العسكري علیه السلام ما نصّه: «أبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن الرضا بن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، أحد الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة».(2)

3/ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، قال: وروى ابن الخشّاب في كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلى عليّ بن موسى الرضا علیهما السلام أنه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري، وهو صاحب الزمان القائم وهو المهدي...

... ولد أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأمّا نسبه أباً واُمّاً فهو: أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص ابن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين).

وأمّا اُمّه فاُمّ ولد يقال لها نرجس خير أمَة، وقيل اسمها غير ذلك. وأما كنيته فأبو القاسم، وأمّا لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.(3)

الثاني: إن ما ورد من روايات في كتبهم حول المهدي، عبرت عنه بما يتلاءم مع كونه مولوداً غائباً ويظهر عند الوقت المعلوم عند الله تعالى، وذلك لمجيئها بلفظ (يظهر

ص: 278


1- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص 208.
2- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج2 ص 94.
3- الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي ص 1102 – 1104.

في آخر الزمان)، ولا توجد ولو رواية واحدة تعبّر بأنَّه (يولد في آخر الزمان)، ومن الواضح أنَّ (يظهر) تتناسب مع كونهِ قد ولِدَ سابقًا وغاب ثم ظهر.

وعليه، فلا يصح منهم الادعاء بما يخالف هذين الأمرين إلا بعد دحضهما، ولمّا لم يتمكن علماؤهم من ذلك، فلا يحقُّ لهم ادعاء عدم ولادته، فإن ادعوا -- وإنهم لفاعلون -- فقد خالفوا أصول الاستدلال وقواعده، وحينئذٍ لا قيمة لدعواهم في الميزان العلمي.

ثانيًا: من أدلة الإمامية على ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.
الدليل الأول: حديث الثقلين:

وهو من الأحاديث المتواترة والتي لا يستطيع أحدٌ أنْ ينكر صدوره عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم؛ فقد رواه الترمذي في صحيحه بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسكتم به لنْ تضلوا أبدًا، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».(1)

فقد صرّح الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فيه بامتناع افتراق العترة عن القرآن بقوله: «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، أيّ إلى يوم القيامة.

وهذا يعني دوام وجود عترة الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ما دام القرآن موجودًا، والمراد من العترة في الحديث ليس هو عموم ذرية النبيs، بل خصوص الأئمة المعصومين علیهم السلام الذين هم أمانٌ لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السماء.

وعليه، فإن قلنا بعدم وجود أحدٍ من عترة النبي صلی الله علیه وآله وسلم، فهذا يعني أنَّ القرآن الكريم غير موجود، والتالي باطلٌ؛ لوجود القرآن، فالمقدم معه في البطلان.

ص: 279


1- سنن الترمذي/ج5/ص663/ رقم 3788.

وإن قلنا بوجود القرآن دون العترة، فهو تكذيب للنبي صلی الله علیه وآله وسلم، وهذا هو والكفر سواء.

إذن لابد من وجود أحدٍ من عترة النبي صلی الله علیه وآله وسلم مع القرآن الكريم، وهذا هو المطلوب.

ولحديث الثقلين دلالاتٌ أخرى، منها الدلالة على عصمة الأئمة لأن القرآن معصوم، وغيرها، ولكن أعرضنا عنها؛ فلتطلب في مظانّها.

والخلاصة: أنَّ الحديث يصرح بوجود قرينٍ للقرآن الكريم يكوِّن مع القرآن حبلًا لنجاة المسلمين، من يتمسك به يرفعه عن مستنقع الظلام والضلالة، ومن يعرض عنه فإنه يهوي فيهما، وذاك الرجل في زماننا الحاضر هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الدليل الثاني: روايات عدم خلو الأرض من حجة.

تُفيد مجموعةٌ كبيرة من الرواياتٍ -المتفق عليها- معنىً واحدًا، وهو: عدم خلو الأرض من حجة، فإنْ خلت ساخت وماجت بأهلها، ومنها:

ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَال: لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ».(1)

كما جاء في بعض الروايات بأن الله عزوجل في آخر الزمان يرفع الحجة من الأرض وبعد أربعين يومًا تنتهي الدنيا وتقوم القيامة.

فعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما زالت الأرض ولله فيها حجة يعرف الحلال والحرام، ويدعو إلى سبيل الله، ولا ينقطع الحجة من الأرض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة، فإذا رفعت الحجة أغلق باب التوبة ولم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة

ص: 280


1- الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ - ح11..

وأولئك شرار من خلق الله، وهم الذين يقوم عليهم القيامة».(1)

وبما أنَّ الأرض لم تسَخ ولم تمُج بأهلها بعدُ، فهذا يدلَّ ذلك على وجود حجةٍ على الأرض هو صمام الأمان لها ولأهلها. والمقصود من الحجة هو من له علاقةٌ خاصة بالسماء، أي من جعله الله تعالى حجة على الأرض، وكان معصومًا، والمتمثل بالإمام المهدي المنتظر في زماننا الحاضر.

الدليل الثالث: روايات: من مات أو بات ولم يعرف إمام زمانه فميتته جاهلية.

وهي متواترة بين العامة والخاصة تواترًا معنويًا، بمعنى وحدة المعنى وإن تعددت واختلفت الألفاظ، ولربما تواتر بعضها تواترًا لفظيًا أيضًا.

وبناءً على ادعاء العامة، لو كان إمام الزمان غير مولود بعد، لكانت ميتة الناس كلهم ميتةً جاهلية. وهو خلاف اللطف الإلهي والصفات الكمالية لوجوده (جلَّ وعلا)، وخلف تلك الروايات.

ومن تلك الروايات هي التالي:

عن أبان بن تغلب، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: من عرف الأئمَّة ولم يعرف الإمام الذي في زمانه أمؤمن هو؟ قال: لا، قلت: أمسلم هو؟ قال: نعم»(2).

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(3).

وعن الإمام أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(4).

ص: 281


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 236 باب 22 باب حجج الله على خلقه ح202.
2- كمال الدين للصدوق: 410/ باب 39/ ح 3.
3- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
4- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
الدليل الرابع: روايات الاثني عشر إمامًا أو وصيًا كلهم من قريش.

وهي من الروايات الموجودة في صحاح العامة(1)،

ولا خلاف فيها. فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش»(2).

وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم حديث الأئمّة الاثني عشر بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متّفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً... كلّهم من قريش»(3).

ولو بحثنا عن مصداقٍ لها في كلِّ من ادعوا الخلافة من بني أُمية وبني العباس وسواهم فلن نجد إلا تيهًا عندهم وضياعًا في تحديد الاثني عشر خليفة. ولا غرو في ذلك، فمهما شرّقوا أو غرّبوا فلن يجدوا من تنطبق عليه سوى أئمة أهل البيت الاثني عشر المعصومين علیهم السلام، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم الإمام المهدي علیهم السلام. ولو لم يكن مولودًا لاستلزم ذك اشتباه النبي الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وحيث إنّه معصومٌ -ولو في نطاق التبليغ كما ذهبت إليه العامة-، فلا بد من ولادة ولدٍ للإمام الحسن العسكري علیه السلام.

روي عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إن خلفائي و أوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، والذي بعثني بالحق نبيًا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي

ص: 282


1- للتفاصيل انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 206 – 209.
2- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حديث 1148؛ سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 715، ح 6586.
3- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.

خلفه، وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب».(1)

المطلب الثالث:طول عمر الإمام عجل الله فرجه الشریف.

قال رحمه الله: «ولا يخلو من أنْ تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزةً جعلها الله عزوجل له، وهي ليست بأعظم من معجزة أن يكون إمامًا للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلم الناس في المهد صبيًا وبعث في الناس نبيًا. وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي -أو الذي يُتخيّل أنَّه العمر الطبيعي- لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أنَّ الطب لم يتوصل إلى ما يُمكنه من تعمير حياة الإنسان، وإذا عجز عنه الطب فإنَّ الله عزوجل قادرٌ على كلِّ شيءٍ وقد وقع فعلًا تعمير نوح وبقاء عيسى علیه السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم، ولو شكّ الشاك فيما أخبر عنهما القرآن فعلى الإسلام السلام. ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إمكان ذلك وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز»

تقدّم إثبات أنّ الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف قد ولِد سنة 255 ه، ولم تثبت وفاته، بل لم يقُل بها أحدٌ، وهذا يلزم منه القول إنّه ما زال حيًا، وقد تجاوز عمره الشريف1280 سنة(2). وهو عمرٌ لا يعسر على المؤمن بقدرة الله عروجل حقًا التصديقُ به، فضلًا عن أدلةٍ أخرى سنتعرض لها لاحقًا، ولكن مخالفي المدرسة الإمامية جعلوه من المستحيلات، مثيرين بشأنها شبهةً من الشبهات؛ ليجعلوا من عقيدة شيعة أهل البيت علیهم السلام عقيدة خرافية لا حقيقة لها.

وللرد على هذه الشبهة لا بُدَّ من التطرق إلى أسئلةٍ مهمة والجواب عنها، وهي:

ما الضابط في كون أمرٍ ما مستحيلُا؟

ص: 283


1- كمال الدين للشيخ الصدوق ص280 باب 24 ح27.
2- في فترة طرح هذه الدروس.

وهل يمكن للإنسان أن يُعمِّر عمرًا يتجاوز 1280سنة أم أنّ ذلك مستحيلٌ؟

وما الأدلة على إمكانه فيما لو كان ممكنًا؟

أولًا: متى نحكم على أن شيئًا ما مستحيلٌ؟

الجواب: نحكم على أنَّ شيئًا ما مستحيلٌ وغير ممكن في حالتين لا ثالث لهما:

الأولى: عند مخالفته قانونًا عقليًا، نحو: مخالفته قانون اجتماع النقيضين، أو مخالفته لقانون أن الكل أعظم من الجزء، أو مخالفة ضرورة كون الظرف أكبر من المظروف.

الثانية: عند مخالفته ضرورةً شرعية أو حكمًا ثابتًا شرعيًا، نحو: كون الصلاة واجبةً، وكون الخمر حرامًا.

وطول عمر الإنسان ليس فيها أيةِ مخالفةٍ للقانون العقلي ولا للضرورة الشرعية، فليس من المستحيل أن يعمّر إنسانٌ ما لآلاف السنين.

ثانيًا: هل يمكن للإنسان أنْ يُعمِّر عمرًا يتجاوز 1280سنة؟

الجواب: من الممكن ذلك للتالي:

1/ الدليل الشرعي:

من المعلوم أنَّ من لم يؤمن بوجود شجرةٍ فمن البديهي أنْ يُنكر وجود ثمرتها. وعليه، ففي خصوص إثبات إمكانية طول عمر الإمام المهديf فإننا لا نناقش ملحدًا لا يقر بوجود الله عزوجل، ولا نناقش من لا يعتقد بالكمال المطلق لله عروجل والقدرة المطلقة له، فلا موضوعية للكلام معهما في طول عمر الإمام علیه السلام.

وإنّما كلامنا يقع في دائرة المعتقدين به سبحانه تعالی والمؤمنين بقدرته إيمانًا مطلقًا، فنقول: ما المانع الذي يمنع من طول عمر الإمام علیه السلام إذا كان الله عزوجل هو من أراد ذلك؟ وحينئذٍ لا يخلو الجواب من أحد الأمرين:

ص: 284

إما أنْ يُجيب بسؤالٍ مفاده: وما هي خصوصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف؛ ليطيل الله عمره؟

والجواب: إنَّ له خصوصيةً، وهو أنه هو الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا، الأمر الذي يقتضي توفر الظروف وفق العلم والحكمة الإلهية، وقد يستلزم إطالة العمر، كما هو الواقع في اعتقادنا.

أو يتمسك بأنَّ طول العمر بهذا الحد خلاف المعتاد.

والجواب: طالما تعلقت به قدرة الله عروجل، فليكن من خلاف المعتاد، إذ ما المانع من الإعجاز الإلهي نفسه؟!

2/ الدليل الطبي:

إنّ الطبَّ لم ينفِ إمكانية طول عمر الإنسان، ولم يقل باستحالته، بل نسمع اليوم عن محاولاتٍ طبيةٍ علمية لإطالة عمر الإنسان، ولو كانت أمرًا مستحيلًا لما سعى إليها الطب، ولما هدر العلماء وقتهم وجهدهم. فقد نُقِل عن الدكتور الأمريكي كي لورد أنَّه قال: إنَّ علم الطب في هذا اليوم بمعونةِ علم التغذية رفع الموانع والحدود التي تمنع البشر من أنْ يُعمروا، ونحن اليوم على خلافِ ما كان عليه أجدادنا وآباؤنا نأمل أنْ نعيش أعمارًا طويلة.

كما نُقِل أنَّ الدكتور جورج رئيس الجامعات في المانيا قام بالتحقيق على نباتٍ طفيلي (سابرولينا مسكتا) وهذا النبات يعيش على ظهر الذباب الأزرق وعمره لا يتجاوز الأسبوعين، ولكن عندما زرعه في ظروفٍ خاصة، عاش لستِ سنواتٍ، بمعنى أنَّه ضاعف عمره 10920 مرةً، أي ما يُقارب أحد عشر ألف مرة!

وعليه فلو ضاعفنا عمر الإنسان الطبيعي إلى عشرة آلاف مرة، لكان خمسين ألف سنة –كمعدل-، فما المانع من أنَّ الله عزوجل يضاعف عمر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف؟!

ص: 285

3/ الدليل التاريخي:

فقد ثبت تاريخيًا أنَّ هناك معمرين عاشوا أكثر من الأعمار الطبيعية للإنسان، مثل الخضر علیه السلام، الذي عاصر النبي موسى علیه السلام، وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصته المعروفة معه، ولا زال حيَ-ًا حتى الآن.

والنبي عيسى علیه السلام فإنَّه طبقًا لعقيدتنا تمَّ رفعه إلى السماء وحتى الآن ما زال حيًا.

والنبي نوح علیه السلام الذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾(1)وهذه مدة دعوته إلى الله تعالى فقط.

كما أنَّ النبي آدم علیه السلام كان عمره 930 سنة.

والنبي سليمان علیه السلام في روايةٍ كان عمره 100 سنة، وفي روايةٍ أخرى 1712 سنة.

ونبي الله شيث علیه السلام كان عمره 920 سنة.

ونبي الله هودعلیه السلام 670 سنة.

بل ولم يقتصر طول العمر على الصالحين فقط، فقد قيل: إنَّ شداد بن عاد عاش 900 سنة، وعمر بن عامر عاش 800 سنة.(2)

فإذًا، فضلًا عن الإمكان العقلي والشرعي فإنَّ هناك شواهدَ من الواقع على وقوع طول العمر، ولا يرفض هذا الأمر إلا من يخالف وجدانه.

ص: 286


1- العنكبوت 14
2- راجع التفاصيل: كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، الباب الرابع والخمسون: ذكر المعمرين.

المبحث الرابع

اشارة

الانتظار المهدوي

المطلب الأول : فضل الإنتظار

المطلب الأول: فضل الانتظار(1)

من عادة العاقل أنَّه لا يخطو خطوة إلَّا إذا حسب لها حسابها الخاصّ، وعرف ما سيجنيه منها، وهذه العادة عمَّت حتَّىٰ المقولات الدينية، ولذا نرىٰ أنَّ أصحاب كلّ حركة أو مذهب، أوَّل ما يُعلِنون فإنَّهم يُعلِنون عمَّا سيجنيه الفرد من فوائد وأرباح من اتّباعه لهم..

وقد جرىٰ الدين الحقّ في ذلك هذا المجرىٰ، وخصَّص جزءاً كبيراً من أدبياته وتربويّاته في آياته ورواياته لبيان الفوائد _ الدنيوية والأُخروية _ المترتّبة علىٰ دين الحقّ، وذكر الجنَّة وما فيها من نعم لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ تصبُّ في هذا المعنىٰ..

وعلىٰ نفس هذا السياق، جاءت الروايات الشريفة لتؤكّد فضل الانتظار والمنتظرين، وهي روايات كثيرة جدَّاً، ويمكن استخلاص عدَّة عناوين لذلك الفضل:

1 _ إنَّ الانتظار من أفضل العبادات وأحبّها إلىٰ الله تعالىٰ:

فعن موسىٰ بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه علیهم السلام أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عزوجل»(2).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث الأربعمائة: «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح

ص: 287


1- شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 131 – 134.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلىٰ الله عزوجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن...»(1).

ومن هنا فقد رتَّبت الروايات الكثير من الآثار العظيمة علىٰ عبادة الانتظار، فعن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «من مات منكم علىٰ هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم8»(2).

وعن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علیه السلام، قال: «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(3).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(4).

وعن عمرو بن ثابت، قال: قال سيّد العابدين علیه السلام: «من ثبت علىٰ موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عزوجل أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحُد»(5).

وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «يأتي علىٰ الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبىٰ للثابتين علىٰ أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنىٰ ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ عزوجل فيقول: عبادي وإمائي! آمنتم بسرّي وصدَّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقَّاً، منكم أتقبَّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث، وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي»، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك

ص: 288


1- الخصال: 616.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 1.
3- كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
4- الخصال: 625/ حديث الأربعمائة.
5- كمال الدين: 323/ باب 31/ ح 7.

الزمان؟ قال: «حفظ اللسان، ولزوم البيت»(1).

2 _ إنَّ الانتظار هو الأمل الذي تُحيىٰ به النفوس، وهو ما عبَّرت عنه الروايات بأنَّ انتظار الفرج هو الفرج بعينه:

فعن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: «سألته عن شيء من الفرج، فقال: أوَليس تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟ إنَّ الله يقول:﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾(2)»(3).

وعن الحسن بن الجهم، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن شيء من الفرج، فقال: أوَلست تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟، قلت: لا أدري إلَّا أن تُعلِّمني، فقال: نعم، انتظار الفرج من الفرج»(4).

3 _ إنَّ الانتظار سبب القرب الإلهي:

فعن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «أقرب ما يكون العباد من الله جلَّ ذكره، وأرضىٰ ما يكون عنهم، إذا افتقدوا حجَّة الله عزوجل ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه، وهم في ذلك يعلمون أنَّه لم تبطل حجَّة الله جلَّ ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقَّعوا الفرج صاحباً ومساءً، فإنَّ أشدَّ ما يكون غضب الله علىٰ أعدائه إذا افتقدوا حجَّته ولم يظهر لهم، وقد علم أنَّ أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنَّهم يرتابون ما غيَّب حجَّته عنهم طرفه عين، ولا يكون ذلك إلَّا علىٰ رأس شرار الناس»(5).

ص: 289


1- كمال الدين: 330/ باب 32/ ح 15.
2- الأعراف: 71
3- تفسير العيّاشي 2: 138/ ح 50.
4- الغيبة للطوسي: 459/ ح 471.
5- الكافي 1: 333/ باب نادر في حال الغيبة/ ح 1.

4 _ إنَّ الانتظار سبب لتكامل العقول والمعرفة:

فعن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين علیه السلام، قال: «... ثمّ تمتدُّ الغيبة بوليّ الله عزوجل الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم والأئمَّة بعده. يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالىٰ أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بالسيف، أُولئك المخلصون حقَّاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلىٰ دين الله عزوجل سرَّاً وجهراً...»(1).

5 _ إنَّ الانتظار مخرج من المهلكات، وباب رزق _ معنوي ومادّي _ من الله تعالىٰ، وهو موجب لرحمة الله تعالىٰ:

عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیهم السلام، قال: قلت له: أصلحك الله لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، فقال علیه السلام: «يا عبد الحميد، أترىٰ من حبس نفسه علىٰ الله عزوجل لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلىٰ والله ليجعلنَّ الله له مخرجاً، رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا»، قال: قلت: فإن متُّ قبل أن أدرك القائم؟ قال: «القائل منكم أن لو أدركت قائم آل محمّد نصرته، كان كالمقارع بين يديه بسيفه، لا بل كالشهيد معه»(2).

المطلب الثاني: الفوائد التربوية للانتظار.

المطلب الثاني: الفوائد التربوية للانتظار.(3)

للانتظار وجهتان: وجهة فردية، وأُخرىٰ اجتماعية.

والانتظار في وجهتيه يُمثِّل حالة من الصراع النفسي، وعملاً باستمرار وجهد

ص: 290


1- كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 2.
3- شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي- ص 138 – 140.

ونصب إلىٰ أن يسيطر المؤمن علىٰ شهواته، ويجعل قيادة وجوده بيد عقله الواعي، فإذا عرفنا أنَّ الانتظار هو عبادة من العبادات، بل هو من أفضلها _ كما تقدَّم قبل قليل _ حينئذٍ أمكننا الجزم بفائدة الانتظار علىٰ المستوىٰ الفردي، ويمكن تلخيص ذلك ب-:

1 _ إنَّ الانتظار يُمثِّل عملاً عبادياً مهمَّاً، فإذا اقترن بالنيَّة الخالصة ترتَّب عليه الثواب العظيم، وما يستتبعه من لطف إلهي خفي وظاهر، ومن توفيق للعمل وفق فطرة الدين.

2 _ والانتظار _ حاله في ذلك حال بقيَّة العبادات _ يصبُّ في عملية بناء الفرد بناءً متكاملاً، وليس الفرد فقط بل والمجتمع، فإنَّ الدين عموماً جاء من أجل هذه الغاية، خصوصاً عندما يُتعرَّف علىٰ المعنىٰ الصحيح للانتظار..

3 _ والانتظار _ بمعناه الصحيح _ يُمثِّل شعلة أمل تبثُّ إلىٰ النفس قوَّة العمل، ووهج نور ينير الطريق بالاتّجاه الصحيح، ذلك أنَّ المؤمن المنتظر لا بدَّ وأن يتعايش مع المجتمع المنحرف، ذلك المجتمع الذي يكون المؤمن فيه (كالقابض علىٰ جمرة بيده)، وأنت تعرف حالة القابض علىٰ جمرة! خصوصاً إذا علمنا أنَّه لا يمكنه الاستغناء عن تلك الجمرة، إذ أنَّه لا يرىٰ وجوده وكيانه إلَّا بالقبض عليها(1)!

وإنسان بهذه الصفة يعيش حالة من الاضطراب والألم، وصراعاً نفسياً عظيماً،

ص: 291


1- عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللّهمّ لقِّني إخواني مرَّتين، فقال من حوله من أصحابه: أمَا نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا إنَّكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني، لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يُخرِجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أُمَّهاتهم، لأحدهم أشدّ بقيَّة علىٰ دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض علىٰ جمر الغضا، أُولئك مصابيح الدجىٰ، ينجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة». (بصائر الدرجات: 104/ باب في رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أنَّه عرف ما رأىٰ في الأظلَّة والذرّ وغيره/ ح 4).

بين اتّجاهين في وجوده: اتّجاه يناديه: ألق ما في يدك، وعش بحرّية مع الناس، وفق مبدأ (حشر مع الناس عيد)، واتّجاه يناجيه: اثبت علىٰ مبدئك، ولا تخشَ الناس، إنَّ الله معك.

في صراع كهذا، يأتي الانتظار ليلقي بالصبر والأمل في قلب المؤمن، ليجعله ليس فقط يتحمَّل أذىٰ الجمرة، وإنَّما ليجعله يعيش حالة من اللذَّة والفرح بقبضه عليها، ذلك عندما يرىٰ كثرة الساقطين في الطريق، وهو يرىٰ نفسه ثابتاً في خطواته علىٰ طريق الحقّ.

إنَّ من الآثار المهمَّة للاعتقاد بوجود الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف هو شحن طاقات الأُمَّة وبعث روح الأمل فيها..، ففرق بين من يسير وليس له هدف مرجو ومحدَّد، وبين من يسير ويحدوه الأمل الكبير..، ومن هنا تأكَّد الأمر بانتظار الفرج، وأنَّه أفضل الأعمال، ومن الواضح أنَّ المراد بانتظار الفرج هو تهيئة الأسباب لقدوم من ننتظر فرجه..، وذلك يكون في كلِّ شخص بحسب قدراته العقلية والجسدية.

المطلب الثالث: معنى الانتظار

قال الشيخ رحمه الله: ومما يجدر أنْ نذكره في هذا الصدد ونذكر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المهدي أنْ يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود من الحق إلى دينهم...

نذكر هنا أموراً:

الأمر الأول: ما معنى الانتظار؟ ولماذا كان أفضل الأعمال؟

المراد بانتظار الفرج هو تهيئة الأسباب لقدوم من ننتظر فرجه..، وذلك يكون في كلِّ شخص بحسب قدراته العقلية والجسدية.

والتفصيل أنَّ مفهوم الانتظار مفهومٌ مركب من أربعةِ عناصر ضرورية يجب أنْ

ص: 292

تتوفر كلُّها ليتحقق معنى الانتظار التام:

العنصر الأول: العنصر الاعتقادي.

فالاعتقاد في كلِّ عملٍ هو الأساس فيه، وما من عملٍ لاسيما -إن كان دينيًا- يؤتي أكله ما لم يؤسس على أساسٍ عقائدي، ومن هنا كان الانتظار قائمًا على أساس الإيمان بالله عزوجل وبصفاته الكمالية والجلالية، وبنبوةِ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم وبكلِّ ما أمر به ونهى عنه، والإيمان بأئمة الهدى علیهم السلام، والإيمان باليوم الآخر..

فانتظار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف إنَّما هو انتظار لأحد الأئمة علیهم السلام، فلا بُدَّ من الإيمان بإمامتهم، وهم خلفاء الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فلا بُدَّ من الإيمان به، والرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم إنَّما هو رسول الله عزوجل فلا بُدَّ من الإيمان به وبصفاته، وأنَّه عادلٌ حكيمٌ ما خلق الخلق في الدنيا لهوًا ولا عبثًا، وإنَّما خلقهم ليُعيدهم في يومٍ يُثيب فيه المطيعين ويعاقب العاصين، وهو يوم المعاد، فلا بُدَّ من الإيمان بالعدل والمعاد.

وبذا فقد اختزل الانتظار الإيمان بأصول الدين كافة فضلًا عن معرفتها، وهذا يعني: أنَّ كلَّ شخصٍ ينتظر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف عليه أنْ يبحث عن عقائده الحقّة ويُثبتها بالدليل القطعي، عن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: طوبىٰ لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتدٍ به قبل قيامه، يأتمّ به وبأئمَّة الهدىٰ من قبله، ويبرء إلىٰ الله عزوجل من عدوّهم، أُولئك رفقائي وأكرم أُمَّتي عليَّ»(1).

العنصر الثاني: العنصر الفقهي.

ويعني الالتزام العملي بالتكاليف الشرعية، أيّ: فعل الواجبات وترك المحرّمات، وهذا هو المُستفاد مما روي عن يمان التمّار، قال: كنّا عند أبي عبد الله علیه السلام جلوساً فقال لنا:

ص: 293


1- كمال الدين: 286 و287/ باب 25/ ح 3.

«إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد _ ثمّ قال هكذا بيده _، فأيّكم يُمسِك شوك القتاد بيده؟»، ثمّ أطرق مليَّاً، ثمّ قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتَّق الله عبد وليتمسَّك بدينه»(1).

والتقوى عنوان لأمرٍ مركب من عنصرين، هما: الورع والاجتهاد، أي الورع عن محارم الله عزوجل والاجتهاد في عبادته، ويشمل اجتناب الظلم والكذب والسرقة وشرب الخمر وكلِّ المحرمات، وأداء الصلاة والصوم والخمس والحج وكلِّ الواجبات.

العنصر الثالث: العنصر السلوكي.

وهو أشمل من العنصر الفقهي، ويتضمن -علاوة على أداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات- القيام بالمستحبات وترك المكروهات، لا على المستوى الفردي وحسب، بل وعلى المستوى الاجتماعي أيضًا، فلا بُدَّ من الالتزام بآداب العشرة (حقوق الأهل والجيران والأصدقاء وما يُذكر في كتب الأخلاق).

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال ذات يوم: «ألَا أُخبركم بما لا يقبل الله عزوجل من العباد عملاً إلَّا به؟»، فقلت: بلىٰ، فقال: «شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا _ يعني الأئمَّة خاصَّة_، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد، والطمأنينة، والانتظار للقائم عجل الله فرجه الشریف»، ثمّ قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»، ثمّ قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظِر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة»(2).

ص: 294


1- الكافي 1: 335 و336/ باب في الغيبة/ ح 1.
2- الغيبة للنعماني: 207/ باب 11/ ح 16.

العنصر الرابع: الاستعداد العملي.

وهو مستبطن في العناصر الثلاثة المتقدمة، ولكن لأهميته ولأثره الفعّال في التمهيد المهدوي؛ فقد تم إفراده كعنصرٍ مستقل.

فعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «ليعدنَّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله تعالىٰ إذا علم ذلك من نيَّته رجوت لأن ينسئ في عمره حتَّىٰ يُدرِكه، فيكون من أعوانه وأنصاره»(1).

يُنقل أنَّ بعض العلماء كان ينام وسيفه تحت وسادته؛ ليكون متهيئًا لظهور الإمامعجل الله فرجه الشریف، وفي هذا المضمار لا يبعد أنْ يكون التدريب على السباحة أو كمال الأجسام بنية التهيئة لظهور الإمام عجل الله فرجه الشریف ولنصرته من مفردات انتظاره عجل الله فرجه الشریف.

والخُلاصة: الانتظار هو الإسلام.

الانتظار أفضل الأعمال.

عن موسىٰ بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه علیهم السلام أنَّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عزوجل»(2).

ولا غرو في ذلك؛ لما تقدّم من أنَّ الانتظار الصحيح يتضمن عناصر متعددة هي بمجموعها تمثل الإسلام بجميع مفاصله، من اعتقادٍ صحيحٍ راسخ، وأداء الواجبات بشقيها العبادية والأخلاقية والانتهاء عن المحرمات بجميع أشكالها، بل والتحلّي بمكارم الأخلاق ومحاسنها من المروءة والكرم وطلاقة الوجه، وطيب الكلام وما شابهها من سلوكيات..

ومنه نعرف أنه وإن كانت الصلاة عمود الدين، ومعراج المؤمن، إنْ قُبِلت قُبِل ما

ص: 295


1- الغيبة للنعماني: 335/ باب 21/ ح 10.
2- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.

سواها، وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها، إلا أنها على عظم أهميتها، لا تعدو أن تكون مفردةً من عنصرٍ من عناصر الانتظار الأربعة.

الأمر الثاني: بيان المراد من روايات لزوم البيت.

كيف نوفق بين ما تقدم من: ضرورة التهيئة العملية لظهور الإمام عجل الله فرجه الشریف، وبين الروايات الآمرة بعدم التحرك وبلزوم البيت، ومنها: «كونوا أحلاس بيوتكم وألبدوا ما ألبدنا»، و«كونوا أحلاس بيوتكم فإنَّ الغبرة على من أثارها»، و«كفُّوا ألسنتكم وألزموا بيوتكم»؟

تدلُّ ظواهر هذه الروايات على لزوم الابتعاد عن ساحة الصراع في الحياة، وكأنّها تقول: قِفوا على التل، ولا تذهبوا يمينًا ولا شمالًا، أي كن متفرجًا فقط.

ولكن إذا قسنا هذه الروايات إلى العنصر الرابع من الانتظار -وهو التهيؤ العملي ولو بتحضير سهمٍ للظهور المبارك- نجد أن هناك تنافراً وتعانُداً بين الأمرين، فكيف نوفق بينهما؟

والجواب(1):

أوَّلاً: أنَّ هذا الكلام دعوة صريحة لإلغاء أهمّ مبدأ من مبادئ الإسلام، ذلك المبدأ الذي به كانت هذه الأُمَّة خير أُمَّة أُخرجت للناس، وهو المبدأ الذي كان مقدّمة مهمَّة، بل أهمّ مقدّمات الإيمان، ألَا وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالىٰ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله...﴾(2)، ويكفينا جواباً عن هذا الإشكال دعوته إلىٰ ذلك.

وثانياً: إنَّ من الأساليب الملتوية للمغرضين هو أنَّهم يستندون إلىٰ جزء رواية

ص: 296


1- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ الحسين الأسدي ص 14- - 144.
2- آل عمران: 110

ويقطعونه عن بقيَّة الرواية، أو ينظرون إلىٰ الروايات بنظرة تجزيئية لا ربط لها بالروايات الأُخر..

وهذا ما لا يمكن القبول به، فإنَّ الدين كلٌّ واحدٌ، يُفسِّر بعضه بعضاً، ويرتبط أوَّله بآخره، ونظرة كهذه من شأنها أن تحلَّ أمثال هذه الإشكالات، وعليه فنقول في الجواب:

إنَّ تتبّعاً بسيطاً لأجواء صدور مثل تلك الروايات يكشف عن أنَّ أهل البيت علیهم السلام أطلقوها في أجواء ومناسبات خاصَّة، كانت فيها السلطات تتحيَّن الفرص بأتباع أهل البيت علیهم السلام من جانب، وكانت بعض الصيحات اللامسؤولة تتعالىٰ بالثورات والقتال من جانب آخر..

وبين هذين الجانبين، كان أهل البيت علیهم السلام يلاحظون الظروف الموضوعية لمثل تلك الحركات، وكانوا يعلمون أنَّها ستنتهي بالفشل الذريع، وأنَّها لا يُجنىٰ منها إلَّا القتل والتشريد، لأنَّها ستُعطي الظالمين العذر المشروع لتتبّع أنصارها والقضاء عليهم..

وفي ظروف كهذه صدرت بعض الروايات الآمرة بعدم الخروج والانطواء تحت رايات تلك الحركات(1)، بمعنىٰ أنَّهم علیهم السلام أمروا أتباعهم بالقعود عن تأجيج الفتن وعن الانغماس فيها، ولكن في نفس الوقت هناك روايات كثيرة تدعو إلىٰ أنَّه متىٰ ما ظهر الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف فلا بدَّ من الخروج معه ولو حبواً، ويلزم من هذا ضرورة التهيّؤ لخروجه والعمل علىٰ توفير الظروف المناسبة للظهور، وهو معنىٰ الانتظار الصحيح _ كما ستعرف قريباً إن شاء الله تعالىٰ _.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فالروايات تلك بعضها جاء علىٰ نحو القضيَّة الخارجية المحدودة

ص: 297


1- ولا يعني هذا أنَّ تلك الحركات كانت باطلة ومحرَّمة بأجمعها، وإنَّما كانت تنتهي بالفشل رغم حقّانية بعضها، وما كان الشيعة رخيص-ي الثمن عند أهل البيت علیهم السلام ليسمحوا لهم بالانخراط في معركة خاسرة، فمثل حركة زيد بن علي ;انتهت بالفشل، ولكن الإمام الصادق علیه السلام ترحَّم علىٰ عمّه زيد كثيراً، وكان يبكي عليه كلَّما تذكَّره.

بحدودها، ومن تلك الروايات ما ورد: عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «كفّوا ألسنتكم، والزموا بيوتكم، فإنَّه لا يصيبكم أمر تخصّون به أبداً، ويصيب العامَّة، ولا تزال الزيدية وقاء لكم أبداً»(1).

فهذه الرواية يظهر منها أنَّها صدرت في زمن تحرّك الزيدية، والإمام الصادق علیه السلام أمر أتباعه بعدم الانخراط في تلك الحركة، لأنَّ تلك الحركة ستلهي السلطات عن متابعة الشيعة، بمعنىٰ أنَّ تلك الحركة ستكون بمثابة الغطاء الذي يُخفي الشيعة(2).

وبعض تلك الروايات جاءت علىٰ نحو القضيَّة الحقيقية التي تنطبق علىٰ أيّ مورد مشابه لمورد الرواية، ومن تلك الروايات التالي:

1 _ عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت أنا وأبان علىٰ أبي عبد الله علیه السلام وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان، فقلنا: ما ترىٰ؟ فقال: «اجلسوا في بيوتكم، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا علىٰ رجل فانهدّوا إلينا بالسلاح»(3).

وهذه الرواية ظاهرة المعنىٰ في أمر أهل البيت علیهم السلام أتباعهم بعدم الانخراط في أيّ حركة ليس لهم فيها دور، فإذا كان لهم علیهم السلام فيها دور فيجب التحرّك إليها بالسلاح وبسرعة.

2 _ عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا علىٰ أحد فإنَّ أمركم ليس به خفاء، ألَا إنَّها آية من

ص: 298


1- الغيبة للنعماني: 203 و204/ باب 11/ ح 7.
2- وربَّما يكون هذا من أهداف حركة زيد بن علي، فلعلَّه رأىٰ توجّه السلطات إلىٰ الإمام الصادق علیه السلام وأتباعه الذين سيقومون بدور نشر المذهب والتعريف به، فقام بثورته ليُبعد أنظار السلطات عنهم، خصوصاً وإنَّ السلطات كانت ترىٰ القضاء علىٰ المعارضة المسلَّحة أهمّ من القضاء علىٰ المعارضة الفكرية.
3- الغيبة للنعماني: 203/ باب 11/ ح 6.

الله عزوجل ليست من الناس، ألَا إنَّها أضوء من الشمس لا تخفىٰ علىٰ برّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟ فإنَّها كالصبح ليس به خفاء»(1).

وكم هي واضحة هذه الرواية في اتّباع الحقّ إذا ظهر، والابتعاد عن الشبهات، لأنَّها ربَّما تُهلِك المؤمن من حيث لا يشعر.

وخلاصة القول في الجواب هو أنَّ أهل البيت علیهم السلام دعوا إلىٰ:

أ) عدم الانخراط في الحركات المنحرفة.

ب) الصبر إلىٰ حين تحرّكهم علیهم السلام.

ج-) الإسراع بالالتحاق بحركة يقومون بها هم علیهم السلام .

ووفق هذه المعاني يكون تأويل الروايات الواردة بلزوم البيت وحفظ اللسان وما شابه.

ولذلك، فإنَّ أيَّة حركة تقوم، ويكون منهجها منهج أهل البيت علیهم السلام، فإنَّه يمكن للمنتظر أن ينخرط فيها، ويكون من دعاتها، لأنَّها حركة تُمثِّل أهل البيت علیهم السلام، وفي المقابل فإنَّ أيَّة حركة لا تكون في طول خطّ أهل البيت علیهم السلام ولا تقوم وفق منهجهم صلوات الله عليهم تكون مشمولة للنهي الوارد في تلك الروايات.

ولذلك نجد علماءنا أفتوا بالجهاد وبالقيام إذا اقتضت الظروف الموضوعية ذلك، كما حصل في ثورة العش-رين وفتوىٰ الشيخ محمّد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه) بالجهاد، وكما عشناه من فتوىٰ السيّد علي السيستاني (دام ظلّه) بالجهاد ضدّ أعداء أهل البيت علیهم السلام في العراق.

ص: 299


1- الغيبة للنعماني: 207 و208/ باب 11/ ح 17.

الأمر الثالث: مفاهيم مغلوطة للانتظار.

تقدَّم أنَّ الانتظار يتضمن عناصر تجعل منه مبدأً فعالًا حركيًا مؤثرًا منتجًا.

بيدَ أنَّ البعض انقلب على ما تسالم عليه العلماء وعموم الشيعة، بل وانقلب على ما نصت عليه الروايات بشكلٍ واضحٍ وصريح، فنظّر لنظرياتٍ مغلوطة عن الانتظار أفرزت حركات منحرفة ودعاوى مُضِلة، أطلق عليها بعض الباحثين مصطلح (الانتظار السلبي).

بدايةً نتساءل: هل هناك انتظار سلبي وانتظار إيجابي؟

في الحقيقة أن الانتظار هو ما تقدم معناه، وهو بذاك المعنى انتظار إيجابي حركي تفاعلي، وأما ما يُسمى بالانتظار السلبي، فإنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فهو ليس انتظاراً أصلاً، إلا أن بعض الباحثين جرى على هذا الاصطلاح لبيان المفاهيم المغلوطة للانتظار؛ والتي تخلو من مقوماته، فلا تكون انتظارًا.

ولتقريب المعنى نقول: لو كان للنبي عيسى علیه السلام أبٌ، لأمكن حينئذٍ السؤال عن خصائصه من عمر وعمل وغيرها، وأما لو لم يكن له أبٌ، لما صحَّ السؤال من رأس، لعدم وجود موضوع نحمل عليه الجواب. وهذا معنى سالبة بانتفاء الموضوع، فلا يمكن تثبيت حكمٍ لما هو بالأساس غير ثابتٍ أو موجود، وكما يُقال (العرش ثم النقش) أي ثبت العرش ومن ثم النقش، أي ثبِّت الموضوع ثم الصفات.

إذاً ليس هناك سوى انتظارٍ بمعنى العمل والتمهيد، وأما (الانتظار السلبي) فهو ما اصطلحه بعض الباحثين قاصدًا به بيان بعض المفاهيم المغلوطة من الانتظار.

ومن تلك المفاهيم المغلوطة للانتظار:

ص: 300

الأول: الانتظار يعني السكون.

حاول البعض تصوير أنَّ الانتظار يستلزم السكون والهدوء وكف الألسن، وعدم تقديم قدمٍ ولا تأخير أخرى، وكأنّ المنتظر جالسٌ بانتظار دوره عند الطبيب، يلتزم الهدوء ويترقب دوره دون أنْ ينبس ببنت شفة أو يقوم بأيّ عمل. ولسان حاله يقول:

هي النفسُ نفسي يذهبُ الكلُّ عندها إذا سلُمت، فليذهبْ الكونُ عاطبًا

فإذا حان الظهور المقدس فإنَّه سوف يتنعم بدولة العدل الإلهي.

ويظهر أن هذه النظرية استند أصحابها إلى نصوص مقتطعة من الروايات يظهر منها الأمر بلزوم السكون وعدم التحرك، والتي تقدّمت مناقشتها.

الثاني: الانتظار بنشر الفساد لأجل تعجيل الفرج.

لم تتوقف هذه النظرية –أو على الأصح: الحركة- عند المستوى النظري، بل أفرزت حركات أخذت على عاتقها الترويج إلى مثل هذه الأفكار، وحجتهم في ذلك:

أن الروايات صرّحت بأن الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف لا يظهر إلا إذا امتلأت الأرض ظلمًا وجورًا، وهذه المقدمة الأولى وهي صحيحة وقد استندت إلى الروايات التي تصرِّح بهذه الحقيقة: (...يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ما ملأت ظلمًا وجورًا).

وحيث إننا مطالبون للعمل بتعجيل الفرج والظهور... وهذه صحيحة أيضًا.

فالنتيجة: إذا أردنا أنْ نعجل الظهور، فعلينا أنْ نحقق سببه، وهو: أنْ تمتلأ الأرض ظلمًا وجورًا، فعلينا أنْ ننشر الظلم والفساد والانحراف، ونمارسه أيضًا؛ فالمرأةُ تلقي حجابها وتترك العفة، والرجل يرتكب المحرمات، وسيكونا في عبادةٍ، حيث إنَّه يقومان بخطوةٍ في تعجيل الظهور!

ص: 301

والجواب(1):

في البداية لا بدَّ أن نضع نُصب أعيننا أنَّ أيَّ مقولة إذا أردنا أن نعرف صحَّتها من سقمها، فعلينا أن نزنها بميزان القرآن الكريم وسُنَّة النبيِّ الأكرم وأهل البيت الطاهرين علیهم السلام، إذ هما المرجع في مثل هذه الأُمور.

ووفق هذا المقياس الواضح، نجد التالي:

أوَّلاً: أنَّ القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(2)

ثانياً: أنَّ الإمام الصادق علیه السلام في ضمن كلامٍ له عن زمن الغيبة الكبرىٰ يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة فليتَّق الله عبد وليتمسَّك بدينه»(3).

ثالثاً: من الواضح جدّاً أنَّه «لا يُطاع الله من حيث يُعصىٰ»، إذ العقل يحكم بأنَّ طاعة المولىٰ تكون كما يُحِبُّ هو، لا كما يحلو للعبد ولو كان الفعل مبغوضاً للمولىٰ.

ومن هنا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنَّه قال في رواية: «... قال الله تبارك وتعالىٰ للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا له، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد، فأبىٰ أن يسجد، فقال الله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾(4)»،

قال الصادق علیه السلام: «فأوَّل من قاس إبليس واستكبر، والاستكبار هو أوَّل معصية عُصِيَ الله بها»، قال: «فقال إبليس: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم، وأنا أعبدك عبادةً لم يعبدكها ملك مقرَّب ولا نبيُّ مرسل، فقال الله: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد، فأبىٰ أن

ص: 302


1- على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين الأسدي ص 104 و 105.
2- المائدة: 27
3- كمال الدين للصدوق: 343/ باب 33/ ح 25.
4- الأعراف: 12

يسجد، فقال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌQ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾(1)»(2).

ووفق هذه المعطيات، ينكشف بسهولة زيغ وزيف تلك المقولة، وأنَّ هناك أيدٍ خفيَّة تعمل من وراء الكواليس هدفها تمييع القضيَّة المهدوية وتحويلها إلىٰ سبب للفساد والدمار الشامل.

فعلىٰ المؤمن أن ينتبه لخدع أبالسة الجنِّ والإنس، ولا يُدخِل يده في جُحر أفعىٰ، فإنَّ اللدغة مميتة.

ص: 303


1- الحجر: 34 و35
2- تفسير القمّي 1: 41 و42.

ص: 304

المبحث الخامس

اشارة

الغَيبة المهدوية

بعد أن أثبت الشيخ رحمه الله ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف ، وأنْ لا غرابة في مسألة طول عمره الشريف، تعرَّض إلى مفهوم الانتظار وما يتعلق به من تفريعات تشبع الأساسيات في هذا المطلب.

ولفهم موضوع الغيبة لابُدَّ من التعرَّف على معناها، وعللها، والفوائد المترتبة على كلٍ منها ومن الإمام الغائبf. وهذا ما سنتناوله، مفردين لكل جانبٍ منها مطلبًا خاصًا، مقدمين مطلب العلل على معنى الغيبة؛ لترتب توضيح معنى الغيبة وترجيح أحد معنييه على بعض ما نورده في مطلب العلل.

المطلب الأول: علل الغيبة والحكمة منها.

اشارة

المطلب الأول: علل الغيبة والحكمة منها.(1)

لابد أنْ نسلم أولًا وهذا هو المفروض على كلِّ مسلمٍ بضميمة ما تقدم من أبحاث في الإلهيات من إثبات حكمة الله عزوجل أنَّ ما أراده الله سبحانه و تعالی لابُدَّ أنْ يكون هو الأصلح للبشر، وحيث إنَّه عزوجل أراد للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف أنْ يغيب، إذاً الغيبة هي الأصلح للبشر.

وقد تقدَّم في بحث (عقيدتنا في الأحكام الشرعية) أنَّ العلل الواقعية للأحكام -مِلاكات الأحكام- ليست مُتاحةً لنا، وبالتالي فنحن لسنا مكلّفين بمعرفتها وإنْ كُنا مكلّفين بالامتثال للأحكام.

بيدَ أنَّ القول بمجهولية علل وملاكات أمرٍ ما، لا يعني خلوه من المصالح والحِكَم،

ص: 305


1- يُنظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي- ص 106 – 109.

وهو ما نريد التأكيد عليه في مسألة معرفة العلة الحقيقية لغيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف، حسب ما أثبتته بعض الروايات الشريفة، منها ما روي عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفرًا بن محمدٍ علیهما السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبةً لابد منها يرتاب فيهل كلُّ مُبطل، فقلت: ولِمَ جُعِلتُ فداك؟ فقال الإمام علیه السلام: لأمرٍ لم يؤذن لنا في كشفهِ لكم. قلتُ: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال الإمام علیه السلام: وجهُ الحكمةِ في غيبتِه وجهُ الحكمةِ في غيبيات من تقدّمه من حُججِ الله عزوجل ذكره. إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشفُ إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر علیه السلام من خرقِ السفينةِ، وقتلِ الغلامِ، وإقامةِ الجدار لموسى علیه السلام إلا وقت افتراقهما. إنَّ هذا الأمرَ أمرٌ من أمرِ الله عزوجل وسرٌ من سرِ الله وغيبٌ من غيبِ الله، ومتى علمنا أنَّه عزوجل حكيمٌ صدّقنا بأنَّ أفعاله كُلَّها حكمة وإنْ كان وجهها غير منكشف».(1)

فالعلة أو المِلاك في أمرِ الغيبة منكشفٌ بالنسبةِ للإمام علیه السلام لكن لم يؤذن له في كشفه لنا.

ونفس الكلام يُقال في علمه علیه السلام بساعة الظهور المبارك (ساعةُ الصفر بالتعبير الحديث) وهو التوقيت الذي نُهينا عنه؛ لأنَّ عدم علم المعصوم بذلك خلاف العصمة وما تقتضيه من العلمِ اللدني.

ثم إنَّ إسدال ستار الغيب على بعض الأمور الغيبية أمام سائر الناس إنّما لعلةٍ ما هي منتفيةٌ تمامًا في المعصومين علیهم السلام؛ ولذا فلا مانع من رفع هذا الستار أمامهم، كعلمهم بزمان ومكان وكيفية موتهم دون سائر البشر.

وعليه فلا مشكلة من معرفة الإمامf بساعةِ الصفر أي ساعة الظهور، وبملاكات الأمور والأحكام، ومنها الغيبة، وإنْ لم يؤذن له أنْ يكشف لنا ذلك.

ص: 306


1- كمال الدين ص481، 482 باب45 ح11.

وعلى كل حال، فإن من الحكم التي ذكرتها الروايات من غيبته عجل الله فرجه الشریف هي:

أ) الخوف من القتل:

عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم، وهو المطلوب تراثه»، قلت: ولِمَ ذلك؟ قال: «يخاف _ وأومأ بيده إلىٰ بطنه، يعني القتل_»(1).

ذلك الخوف الذي فُسِّر بأنَّه علیه السلام يخاف علىٰ نفسه من أعدائه، والخوف علىٰ النفس ليس معناه الجبن، بل هو الخوف علىٰ دين الله وشريعة جدّه سيّد المرسلين صلی الله علیه وآله وسلم.

ب) التمييز والتمحيص:

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «مع القائم عجل الله فرجه الشریف من العرب شيء يسير»، فقيل له: إنَّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال: «لا بدَّ للناس من أن يُمحَّصوا ويُميَّزوا ويُغربَلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير»(2).

وفي حديث أمير المؤمنين علیه السلام السابق: «وليبعثنَّ الله رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليغيبنَّ عنهم تمييزاً لأهل الضلالة حتَّىٰ يقول الجاهل: ما لله في آل محمّد من حاجة»(3).

ج) حتَّى لا يبايع ظالماً:

ورد في جواب الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف لمسائل إسحاق بن يعقوب: «وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة فإنَّ الله عزوجل يقول:﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾(4)، إنَّه لم يكن أحد من آبائي علیهم السلام إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج

ص: 307


1- الغيبة للنعماني: 182 و183/ باب 10/ فصل 4/ ح 20.
2- الغيبة للنعماني: 212/ باب 12/ ح 6.
3- الغيبة للنعماني: 143/ باب 10/ ح 1.
4- المائدة: 101

حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي...»(1).

وطبعاً هذا يعتبر واحداً من خصائصه التي تميَّز بها عن آبائه الطاهرين صلوات الله عليهم.

د) السنن التاريخية:

عن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها»، فقلت له: يا ابن رسول الله، ولِمَ ذلك؟ قال: «لأنَّ الله عزوجل أبىٰ إلَّا أن تجري فيه سنن الأنبياء علیهم السلام في غيباتهم، وإنَّه لا بدَّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم»، قال الله تعالىٰ:﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾(2)، أي سنن من كان قبلكم»(3).

ه) أن لا تضيع ودائع الله عزوجل:

أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله علیه السلام في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له _ يعني أبا عبد الله علیه السلام _: ما بال أمير المؤمنين لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالىٰ:﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾(4)»،

قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم عجل الله فرجه الشریف لم يظهر أبداً، حتَّىٰ تخرج ودائع الله عزوجل، فإذا خرجت ظهر علىٰ من ظهر من أعداء الله عزوجل فقتلهم»(5).

و) قبائح أعمال العباد، وفضائح أفعالهم، ممَّا يُسبِّب قلَّة العدد المطلوب من

ص: 308


1- كمال الدين: 485/ باب 45/ ح 4.
2- الانشقاق: 19
3- كمال الدين: 480 و481/ باب 44/ ح 6.
4- الفتح: 25
5- كمال الدين: 641/ باب 54.

الأنصار:

فإنَّها المانعة عن ظهوره عجل الله فرجه الشریف عقوبةً علينا كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام أنَّه قال: «واعلموا أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله عزوجل، ولكنَّ الله سيُعمي خلقه عنها، بظلمهم وجورهم وإسرافهم علىٰ أنفسهم...» الخبر(1).

وفي توقيع الحجَّة عجل الله فرجه الشریف إلىٰ الشيخ المفيد: «ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته علىٰ اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخَّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا، علىٰ حقِّ المعرفة، وصدقها منهم بنا، فما يُحبِسنا عنهم إلَّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه، ولا نُؤثِره منهم، والله المستعان...»(2).

ولربما لا ينحصر الارتباط بين غيبة الإمام وقبائح الأعمال في العقوبة وحسب، إذ من البديهي أنْ يؤدي ارتكاب المعاصي لا سيما كثرته إلى قلة العدد المطلوب من الأنصار كشرطٍ للظهور.

وسواء كان الأمر عقابًا أو تأخرًا في تحقق الشرط (العدد المطلوب من الأنصار) فيتأخر المشروط (وهو الظهور)، فإن على كلٍّ منا أنْ يدرك أنّه قد ساهم في تأخير الظهور في حال ارتكابه للذنوب، وإنْ لم تكن مساهمته على نحو العلة التامة فهي من قبيل الجزء من العلة بلا شك. ومن ثم فإنَّ كلًا منّا بكلِّ فعلٍ من أفعاله لا يخلو إما أنْ يعجل أو يؤخر بالظهور ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.

ز) إظهار عجز من يسعى للإصلاح الكامل من غير أهل البيت علیهم السلام وإن كان محقَّاً:

عن أبي صادق، عن أبي جعفر علیهم السلام، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم

ص: 309


1- الغيبة للنعماني: 144/ باب 10/ ح 2.
2- الاحتجاج 2: 325.

دولة إلَّا ملكوا قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل :﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)»(2).

المطلب الثانی: معنی الغیبة

اشارة

المطلب الثاني: معنى الغيبة.(3)

اقتضت الحكمة الإلهية حفظ الإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف من كيد الأعداء إلىٰ اليوم الموعود للظهور المبارك، وتلك الحكمة استوجبت اتّخاذ طريقة عملية مزدوجة، يتمُّ فيها حفظ الإمام علیه السلام من جانب، وضمان اطّلاعه علىٰ الأوضاع الجارية ومتابعتها ومعايشتها عن كثب من جانب آخر..

تلك الطريقة كانت هي الغيبة..

ولكن ما هو معناها؟

هل معناها هو أنَّ الإمام علیه السلام وبمعجزة إلهية اختفىٰ عن الأنظار، بحيث فقد جسمه أيّ لون أو أصبح مثالياً أو شفّافاً أو شيئاً من هذا القبيل؟

أو أنَّ معناها هو أنَّه علیه السلام لا زال يراه الناس، ولكنَّهم لا يعرفون انطباق عنوان المهدي عليه، وإنَّما قد يرونه لكن بشخصية شاب وقور عليه سيماء الصالحين؟

الصحيح هو الثاني، ويمكن الاستدلال عليه:

1 _ عرفنا فيما سبق أنَّ واحداً من أسباب الغيبة هو حفظ الإمام عجل الله فرجه الشریف من أعدائه، إذ هم يحاولون القضاء عليه، لأنَّ وجوده يقلق مضاجعهم. وهذه الغاية من الغيبة يكفي فيها أن لا يعرفوه بشخصه وإن رأوه، ولا داعي للانتقال إلىٰ إخفائه، لأنَّ هذه الطريقة تعني جريان المعجزة، وقد قيل بأنَّ المعجزة إنَّما تجري عادَّة فيما لو توقَّف إثبات الحقّ

ص: 310


1- الأعراف: 128.
2- الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
3- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 110 – 113.

عليها، أمَّا إذا كان لإثباته طريقة أُخرىٰ من دون جريان المعجزة فلا تجري، وفي المقام حيث أمكن حفظ الإمام عجل الله فرجه الشریف بإخفاء هويَّته وشخصيته، فلا موجب لاتّخاذ الطريقة الأُخرىٰ.

2 _ وقد كان من أسباب الغيبة أيضاً هو جريان السنن التاريخية في الأنبياء السابقين عليه عجل الله فرجه الشریف، وقد كانت غيبتهم بابتعادهم عن الناس من دون اختفاء الجسد، بل ما زالوا يمكن رؤيتهم بالعين المجرَّدة. وبمقتضىٰ وحدة تلك السنن الجارية، يثبت أنَّ غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف هي بنفس النحو..

عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول: «إنَّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف»، فقلت: فكأنَّك تُخبِرنا بغيبة أو حيرة؟! فقال: «ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك؟ إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباطاً أولاد أنبياء دخلوا عليه فكلَّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه وكانوا إخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتَّىٰ عرَّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذٍ، فما تنكر هذه الأُمَّة المتحيّرة أن يكون الله عزوجل يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجَّته عنهم، لقد كان يوسف النبيّ ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يُعلِمه بمكانه لقدر علىٰ ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلىٰ مصر، فما تنكر هذه الأُمَّة أن يكون الله يفعل بحجَّته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقَّه صاحب هذا الأمر يتردَّد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتَّىٰ يأذن الله له أن يُعرِّفهم نفسه كما أذن ليوسف حين قال له إخوته:﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ﴾(1)»(2).

ص: 311


1- يوسف: 90
2- الغيبة للنعماني: 166 و167/ باب 10/ فصل 3/ ح 4.

3 _ الروايات التي تُص-رِّح بإمكان رؤيته عجل الله تعالی فرجه الشریف لكن من دون معرفته بشخصيته الواقعية..

عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمّد بن عثمان العمري قدس الله سره قال: سمعته يقول: «والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة فيرىٰ الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه»(1).

وعنه، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري قدس الله سره فقلت له: أرأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: «اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني»(2).

وفي رواية: رأيته صلوات الله عليه متعلِّقاً بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول: «اللّهمّ انتقم لي من أعدائي»(3).

إشارة:

نحن وإن انتهينا إلىٰ أنَّ معنىٰ الغيبة هو ما تقدَّم، لكن هذا لا يمنع من أن يتَّخذ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف طريقة اختفاء الجسد (الشخص)، بمعنىٰ أنَّ قدرته علىٰ ذلك ما زالت موجودة، والإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف يمكنه أن يستعمل هذه الطريقة متىٰ شاء أو اضطرَّته الظروف الموضوعية إلىٰ ذلك.

وبهذا يتَّضح المغزىٰ من بعض الروايات الشريفة التي صرَّحت باختفاء شخص الإمام صلوات الله عليه، ومنها التالي:

الرواية الأُولىٰ: عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «يفقد

ص: 312


1- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 8.
2- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 9.
3- كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 10.

الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه»(1).

الرواية الثانية: ما ورد عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت علىٰ أبي محمّد الحسن بن علي علیهم السلام وهو جالس علىٰ دكّان في الدار، وعن يمينه بيت وعليه ستر مسبل، فقلت له: [يا] سيّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفّين(2)، معطوف الركبتين(3)،

في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس علىٰ فخذ أبي محمّد علیه السلام، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «يا بنيّ، أُدخل إلىٰ الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، أُنظر من في البيت؟»، فدخلت فما رأيت أحداً(4).

المطلب الثالث: قائدة الغائب و الغیبة

اشارة

المطلب الثالث: فائدة الغائب والغيبة.(5)

من الأسئلة التي ترد كثيراً حول القضيَّة المهدوية سؤالان:

السؤال الأوَّل: ما الفائدة في إمام غائب عن قواعده وعن مباشرة ما أُوكل إليه من مهام؟

السؤال الثاني: وأصلاً، ما الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة؟

أمَّا جواب السؤال الأوَّل فهو:

إنَّ هذا السؤال يستبطن اعترافاً بوجود الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، حتَّىٰ لو كان هذا الاعتراف

ص: 313


1- الكافي 1: 337 و338/ باب في الغيبة/ ح 6.
2- أي خشن الكفّين.
3- أي منحني الكتفين.
4- كمال الدين: 407/ باب 38/ ح 2.
5- انظر: شذرات مهدوية – الشيخ حسين الأسدي ص 113- 117.

تنزّلياً، ومع تسليم وجود الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فالفوائد المترتّبة عليه _ حتَّىٰ وهو غائب _ كثيرة، منها:

أوَّلاً: إنَّ الشعور بوجود إمام مفترض الطاعة، مطَّلع علىٰ الأعمال، وعلىٰ ما يجري علىٰ أتباعه، يتألَّم لألمهم ويفرح لفرحهم، يُولِّد إحساساً بالطمأنينة، ودافعاً لتحمّل المصاعب ما دامت بعين الإمام، وبصيص أمل للمستضعفين، بأنَّ ما يمرُّ عليهم من مصاعب مهما طال زمنها فإنَّها لا محالة منتهية وزائلة، وأنَّ العاقبة لهم، وأنَّ عاقبة أمرهم هي الراحة والس-رور والطمأنينة، إنْ في الدنيا لو أدركوا زمن ظهور إمامهم، وإنْ في الآخرة بالنعيم الأبدي.

ثانياً: إنَّ من أدوار الإمام _ أيّ إمام _ هو دور الرعاية الأبوية لأتباعه وشيعته، وهذا الدور يمكن تأديته _ وعلىٰ وجه حسن _ حتَّىٰ لو كان الراعي غائباً عن الأنظار..

ومعه نقول: إنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف له دور رعاية أتباعه وهو غائب عنهم ما دام لم يؤذن له بعد بالظهور..

في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد؛ يقول عجل الله تعالی فرجه الشریف: «... إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء...»(1).

ثالثاً: إنَّ للإمام _ أيّ إمام _ ثلاثة أدوار _ غير دور الرعاية الأبوية _:

الدور الأوَّل: دور المبيِّن للأحكام الش-رعية، وهذا الدور يرتكز علىٰ العلم والورع، قال تعالىٰ:﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(2)

عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الصباح، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إنَّ الله

ص: 314


1- الاحتجاج 2: 323.
2- آل عمران: 164.

تبارك وتعالىٰ لم يدع الأرض إلَّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم، ولولا ذلك لالتبست علىٰ المؤمنين أُمورهم»(1).

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «إنَّ الله عزوجل لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لما عُرِفَ الحقُّ من الباطل»(2).

وعن عبد الأعلىٰ بن أعين، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سمعته يقول: «ما ترك الله الأرض بغير عالم يُنقِص ما زادوا ويزيد ما نقصوا، ولولا ذلك لاختلطت علىٰ الناس أُمورهم»(3).

الدور الثاني: دور الحاكم الأعلىٰ للدولة، وهذا الدور مرتكز علىٰ العلم والأمانة، قال تعالىٰ حكايةً عن النبيّ يوسف علیه السلام :﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.(4)

الدور الثالث: دور الحجَّة، والواسطة بين الله تعالىٰ وبين جميع عالم الإمكان..، الحجَّة الذي يجب أن يوجد علىٰ الأرض حتَّىٰ لو لم يبقَ علىٰ الأرض إلَّا شخصان لكان أحدهما الحجَّة..، الحجَّة الذي هو أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء..، الحجَّة الذي لو رُفِعَ من الأرض طرفة عين لساخت الأرض ومن فيها..

عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سمعته يقول: «لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا لساخت بأهلها، ولعذَّبهم الله بأشدِّ عذابه، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ جعلنا حجَّةً في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يُهلِكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا

ص: 315


1- كمال الدين: 203/ باب 21/ ح 11.
2- كمال الدين: 203 و204/ باب 21/ ح 12.
3- كمال الدين: 204 و205/ باب 21/ ح 16.
4- يوسف: 55

من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما شاء وأحبّ»(1).

هذه هي الأدوار الثلاثة للحجَّة علىٰ الأرض..

ولكن هل يجب أن يُفعِّل الحجَّة هذه الأدوار الثلاثة كلّها بنفسه أم يمكن أن يوكلها إلىٰ غيره؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يسلبها منه بطريقة أو بأُخرىٰ أو لا يمكن ذلك؟

في هذا تفصيل:

أمَّا الدور الأوَّل (دور العلم)، فلا يمكن لأحدٍ أن يسلبه منه، وهل يمكن لأحدٍ أن يسلب علم غيره!؟

نعم، لظروف موضوعية تحيط بالحجَّة لعلَّه لا يُظهِر علمه، ولكن هذا لا يمنعه من إيكال هذه المهمَّة إلىٰ غيره ممَّن أخذوا العلم عنه وحفظوه ووعوه..، ولذا فالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وإن ابتعد عن مباشرة دور التعليم، ولكنَّه أوكل هذه المهمَّة للفقهاء الذي يستقون علمهم من مناهل أهل البيت علیهم السلام ويُعلِّمونه للشيعة..

وأمَّا الدور الثاني (دور الحاكم الأعلىٰ للبلاد)، فليس هو دوراً أساسياً للحجَّة، وإنَّما هو دور كمالي أو تكميلي، فما دام هو العالم بأحكام الله تعالىٰ والمبيِّن لها، فمن المناسب أن يكون هو الحاكم السياسي الأعلىٰ للدولة، ومعه فلو أخذ ظالم هذا المركز فهذا لا يُؤثِّر في مقام الحجّية شيئاً، بل تجد الظالمين رغم أخذهم الحقّ من أصحابه الش-رعيين يعرفون في دخائل أنفسهم ويعترفون بأنَّ الحقَّ للحجَّة لا لهم.

فتلخَّص: أنَّ الدورين الأوَّل والثاني بحاجة إلىٰ ظروف موضوعية مناسبة حتَّىٰ يقوم الإمام والحجَّة نفسه بأدائهما.

وأمَّا الدور الثالث (دور الحجَّة)، فهذا الدور ذاتي للإمام، ولا يمكن لأحدٍ أن

ص: 316


1- كمال الدين: 204/ باب 21/ ح 14.

يسلبه إيّاه أو يمنعه من أدائه كما هو واضح، ويمكن للإمام أن يؤدّيه سواء كان ظاهراً أو مغموراً، وهو ما عبَّر عنه أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: «اللهُمَّ بَلَىٰ، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهنا تظهر واحدة من فوائد وجود الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في زمن الغيبة _ وإن كان غائباً _، فهو الحجَّة علىٰ الأرض الذي به نُرزَق، وهو الأمان علىٰ الأرض، وهو الذي لولاه لساخت الأرض وما فيها في طرفة عين..

الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة.

وأمَّا جواب السؤال الثاني: أصلاً، ما الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة؟ فتكمن الفائدة من أُسلوب الغيبة الطويلة في عدَّة أُمور أيضاً، هذه بعضها باختصار:

1 _ إنَّ الغيبة أفضل أُسلوب للتمحيص ولفرز المخلصين عن غيرهم، خصوصاً إذا طالت مدَّة الاختبار، وهي سُنَّة إلهية تاريخية للتمحيص، كما في قضيَّة النبيّ نوح علیه السلام.

2 _ إنَّ الغيبة فرصة سانحة ومهمَّة للتوبة والإنابة قبل الظهور وعدم التوفيق للتوبة، في مكاتبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ المفيد: «فليعمل كلّ امرء منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علىٰ حوبة. والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته»(2).

3 _ إنَّ فترة الغيبة أفضل فترة يمكن للمؤمن أن يُهيِّئ نفسه فيها للظهور المبارك ونصرة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف..، وهو الذي عبَّرت عنه الروايات الشريفة بلزوم الانتظار.

4 _ إنَّ من أهمّ عناصر انتصار ثورة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ أعدائه المتهيّئين له

ص: 317


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.
2- الاحتجاج 2: 323 و324.

علىٰ الدوام هو عنصر المباغتة، وحتَّىٰ يكون عنصر المباغتة تامَّاً لا بدَّ من تكتيك منظَّم يُنسي الظالمين لحظة الظهور، وليس هو أفضل من تكتيك الغيبة الطويلة.

ص: 318

المبحث السادس

اشارة

كيف لنا أن نُميّز المهدي الحقّ؟(1)

مع غيبة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وعدم رؤيتنا له مباشرة، وعدم وجود صورة شخصية له، ومع كثرة المدَّعين للمهدوية زمن الغيبة الكبرىٰ، ما هي الطريقة التي يُمكِننا من خلالها معرفة المهدي الحقّ من مدَّعيها زوراً؟

الجواب: هناك نحوان من الطرق(2):

النحو الأوَّل: طرق تشخيصية:

بمعنى أنَّ من خلالها يمكن تشخيص المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وعدم اشتباهه بغيره أبداً، ونذكر طريقين في هذا المجال:

الأوَّل: سؤاله عمَّا يعجز غيره عن الإجابة عنه: كسؤاله عن معضلة تاريخية أو مسألة علمية عجز عنها أهل الاختصاص كلّهم، وما شابه ممَّا يعجز عنه الناس كلّهم، ولا يستطيع أن يجيب عنها إلَّا الإمام المفترض الطاعة من الله عزوجل، وعلىٰ غرار قول أمير المؤمنين علیه السلام: «سلوني قبل أن تفقدوني»(3).

عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر

ص: 319


1- انظر: شذرات مهدوية: الشذرة رقم (19)
2- يضاف إلىٰ هذين النحوين ما تقدَّم من صفاته الخاصَّة به (في الشذرة الثانية)، وبعض مواريث الأنبياء التي تحمل صفة إعجازية (كما في الشذرة السادسة)، وكذلك بعض مختصّاته كخروجه شابَّاً لا يتغيَّر بتطاول السنين.
3- نهج البلاغة 2: 130/ ح 189.

غيبتين: يرجع في أحدهما إلىٰ أهله، والأُخرىٰ يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعىٰ مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(1).

الثاني: سؤاله المعجزة: فإنَّ الله تعالىٰ يؤيِّد رسله وحججه بالمعجزات الخارقة للعادة، والتي لا يستطيع أيّ إنسان عادي أن يأتي بها، والإمام يمكنه القيام بذلك فيما إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك، فإنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عنده القدرة علىٰ ذلك بلا شكّ، وأوضح ما ورد في ذلك ما جاء في إقامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف المعجزة الواضحة للحسني عندما يطالبه بها لإثبات أنَّه الحقّ(2).

النحو الثاني: طرق تقريبية:

بمعنىٰ أنَّها لا تُشخِّص المهدي بالضبط، وإنَّما تفيد في تقريب الصورة، ممَّا يساعد علىٰ التهيّؤ النفسي لظهور الإمام8، ونذكر هنا طريقين أيضاً:

الأوَّل: زيادة المعرفة المهدوية زمن الغيبة الكبرىٰ، فإنَّ لها أثراً مهمَّاً في التعرّف علىٰ الواقع المعاش وعلىٰ قرب الظهور وعلىٰ تمييز الحقّ من الباطل، كما ورد ذلك عن أهل البيت علیهم السلام في عدَّة روايات:

في كتاب الغيبة للنعماني(3)

وردت الروايات التالية:

1 _ عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليَّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون

ص: 320


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.
2- راجع: الهداية الكبرىٰ: 404.
3- الغيبة للنعماني: 272 - 274/ باب 14/ ح 28 و31 و32.

_لرجل من بني أُميَّة_»، قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون، قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون».

فالرواية واضحة في أنَّ إبليس وأعوانه سيحاولون خداع الناس، وأنَّ الناس في معرض الوقوع في تلك الخُدع، ولكن الذين عندهم معرفة مسبقة بالحقِّ، سوف ينجحون في هذا الاختبار ويتجاوزونه.

وربَّما يكون قول الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف: «الذين كانوا يروون حديثنا» إشارة إلىٰ ضرورة التفقّه المعمَّق والفهم الدقيق لرواياتهم علیهم السلام.

ولعلَّه إشارة إلىٰ ضرورة استشارة الفقهاء المأمونين علىٰ الدين ممَّن ثبت كونه نائباً عامَّاً للمعصوم علیه السلام في زمن الغيبة الكبرىٰ، فيكون الرجوع إليهم عاملاً مساعداً في كشف الفتنة.

2 _ عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «هما صيحتان: صيحة في أوَّل الليل، وصيحة في آخر الليلة الثانية»، قال: فقلت: كيف ذلك؟ قال: فقال: «واحدة من السماء، وواحدة من إبليس»، فقلت: وكيف تُعرَف هذه من هذه؟ فقال: «يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون».

3 _ عن عبد الرحمن بن مسلمة الجريري، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردّون عليهم؟»، قلت: فما نردّ عليهم شيئاً، قال: فقال: «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»، قال: «إنَّ الله عزوجل يقول:﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1)».

ص: 321


1- يونس: 35

وهنا إشارة مهمَّة جدَّاً، وهي أنَّه لا بدَّ أن تكون المعرفة من الطريق الذي رسمه لنا أهل البيت علیهم السلام، وهو طريق العلماء الذين بذلوا أنفسهم لاستنباط الأحكام الشرعية، وتداول أحاديث أهل البيت علیهم السلام، فهم صمّام الأمان للأُمَّة الإسلاميَّة لو اتَّبعناهم بصدق.

الثاني: علامات الظهور: إنَّ أهل البيت علیهم السلام ذكروا علامات حتمية لظهور الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وكونها علامات يعني أنَّها أُمور فارقة من خلالها يمكننا تمييز المهدي الحقّ، مع الالتفات إلىٰ أنَّ العلامات لها فائدة من جهتين:

الجهة الأُولىٰ: القطع بكذب وزيف مدَّعي المهدوية قبل وقوعها، تطبيقاً للتوقيع الشريف الأخير الذي صدر للسفير الرابع: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توص إلىٰ أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم»(1).

الجهة الثانية: إنَّ وقوعها مؤشِّر مهمّ لقرب ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .

وهذا لا يعني امتناع أن يدَّعي أحد المهدوية بعد وقوع العلامات، فتكون فائدة العلامة آنذاك هو التريّث والبحث عن صدق المدَّعي بأحد الطريقين المتقدّمين.

ولذا، توجَّه البحث إلىٰ معرفة أمر لطالما سأل عنه كثير من الناس، وهو معرفة علامات الظهور.

ص: 322


1- كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.

إشارة: في بعض الصفات المختصة بالإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف:

1/ عدم تغيّر هيأته وقوَّته بمرور الدهور والسنين، وخروجه يوم يخرج شاباً كأقوىٰ ما يكون الإنسان، وإن كان عمره أكبر من عمر أيّ شيخ موجود:

فعن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا علیه السلام : ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أن يكون شيخ السنّ، شابّ المنظر، حتَّىٰ أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتَّىٰ يأتيه أجله»(1).

2/ تظليل غمامة علىٰ رأسه الشريف دائماً، وصوت من تلك الغمامة يسمعه الثقلان بأنَّ هذا مهدي آل محمّد، وبعض الروايات قالت بأنَّ المنادي بذلك الصوت هو ملك، ولا منافاة بين الروايتين كما هو واضح.

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «... يظهر في آخر الزمان [و]علىٰ رأسه غمامة تظلّه من الشمس تدور معه حيثما دار تنادي بصوت فصيح هذا المهدي»(2).

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه»(3).

وفي رواية أُخرىٰ عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه ملك ينادي: ألَا إنَّ هذا المهدي فاتَّبعوه»(4).

3/ يكون عليه درس رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بخاصيته التي ذكرتها الروايات الشريفة، فقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قلت له: جُعلت فداك، إنّي أُريد أن

ص: 323


1- كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 12.
2- كشف الغمَّة 3: 275.
3- كشف الغمَّة 3: 270/ ح 16.
4- الصراط المستقيم 2: 259/ ح 1.

ألمس صدرك. فقال: «افعل»، فمسست صدره ومناكبه، فقال: «ولِمَ يا أبا محمّد؟»، فقلت: جُعلت فداك، إنّي سمعت أباك وهو يقول: «إنَّ القائم واسع الصدر مسترسل المنكبين عريض ما بينهما»، فقال: «يا [أبا] محمّد، إنَّ أبي لبس درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وكانت تستخب علىٰ الأرض، وأنا لبستها فكانت وكانت، وإنَّها تكون من القائم كما كانت من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم مشمرة، كأنَّه ترفع نطاقها بحلقتين، وليس صاحب هذا الأمر من جاز أربعين»(1).

وفي رواية أُخرىٰ عن الإمام الصادق علیه السلام يذكر فيها بعض مواريث الأنبياء التي ورثها أهل البيت علیهم السلام: «ولقد لبس أبي درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخطَّت علىٰ الأرض خطيطاً، ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله»(2).

ص: 324


1- بصائر الدرجات: 208 و209/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.../ ح 56.
2- الكافي 1: 233/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ومتاعه/ ح 1.

المبحث السابع

اشارة

علامات الظهور(1)

شاءت إرادة المولىٰ جلَّ وعلا أن يجعل قبيل ظهور وليّ من أوليائه أو مزامناً له إرهاصات كونية ملفتة لنظر عموم الناس حتَّىٰ يستعدَّ من كان ينتظره لتفعيل مقتضىٰ انتظاره، وهذا ما وجدناه في حركات أغلب الأنبياء، فالنبيّ موسىٰ علیه السلام كانت قبله نبوءة من أتباع بلاط فرعون بأنَّ مولوداً من بني إسرائيل سيزيل ملكه، وقتل لأجل التخلّص منه أكثر من عشرين ألف مولود ذكر، ولكن شاء المولىٰ أن يعيش من يزيل ملك فرعون في بيت فرعون نفسه...(2).

والنبيّ عيسىٰ علیه السلام كانت علامة ولادته نجماً في السماء معروفاً بصفات محدَّدة، وقد تتبَّعه بعض العلماء في ذلك الزمن حتَّىٰ وصلوا إلىٰ فلسطين، وفي بيت لحم بناحية بيت المقدس، حيث وُلِدَ النبيّ عيسىٰ علیه السلام...(3).

والنبيُّ الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم صلی الله علیه وآله وسلم كذلك، حيث سقطت شرف طاق كسرىٰ، وخمدت نار فارس وهي التي لم تخمد مذ نشبت، وغارت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة...(4).

ص: 325


1- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي ص 247 - 273.
2- راجع: كمال الدين: 354/ باب 33/ ح 50.
3- راجع: سعد السعود: 553 و54.
4- عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام، قال: «كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلمَّا وُلِدَ عيسىٰ علیه السلام حُجِبَ عن ثلاث سماوات، وكان يخترق أربع سماوات، فلمَّا وُلِدَ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حُجِبَ عن السبع كلّها، ورُميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنّا نسمع أهل الكتب يذكرونه، وقال عمرو بن أُميَّة، وكان من أزجر أهل الجاهلية: أُنظروا هذه النجوم التي يُهتدىٰ بها، ويُعرَف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رُمي بها فهو هلاك كلّ شيء، وإن كانت ثبتت ورُمي بغيرها فهو أمر حدث. وأصبحت الأصنام كلّها صبيحة مولد النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم ليس منها صنم إلَّا وهو منكبٌّ علىٰ وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرىٰ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأىٰ المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرىٰ من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قِبَل الحجاز، ثمّ استطار حتَّىٰ بلغ المشرق، ولم يبقَ سرير لملك من ملوك الدنيا إلَّا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا يتكلَّم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبقَ كاهنة في العرب إلَّا حُجِبَت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسمّوا آل الله عزوجل»، قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام: «إنَّما سمّوا آل الله عزوجل لأنَّهم في بيت الله الحرام». (أمالي الصدوق: 360 و361/ ح 444/1).

فهذه هي سنن ولادات الأنبياء علیهم السلام، أو قل: هذه هي علامات ظهور حركة جديدة تُغيِّر مساراً سارت عليه الأُمَّة لقرون متمادية، وتلك هي العلامات التي ينتظرها المؤمنون.

إذن، «مسألة العلامات تُمثِّل إرهاصات لظهور الحقّ، وتمهيد الناس لاستقبال الحدث المهمّ، وهو أمر جرىٰ في الأنبياء السابقين...»(1).

وهي عادةً تشير إلىٰ أُمور غير مألوفة أو غير طبيعية، وربَّما حوت بعضها علىٰ عنصر المعجزة، من شأنها أن تهزّ كيان الإنسان، وأن تُحرِّك شعوره وفضوله حول معرفة ما يجري حوله، وبالتالي الاستعداد لذلك الحدث المهمّ.

علامات الظهور قسمان:

إنَّ علامات الظهور كثيرة جدَّاً، وقد قُسِّمت إلىٰ حتمية وغير حتمية، ولكن «النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم والأئمَّة علیهم السلام يختارون بعض الحوادث الكبرىٰ الملفتة للنظر، ممَّا يعلمون وقوعه في المستقبل، بالوحي والإلهام، فيُخبِرون به مرتبطاً بالظهور، حتَّىٰ إذا ما وقعت

ص: 326


1- مجلَّة الانتظار/ العدد 4/ ص 11.

الحادثة في الأزمان ثبت عند الجيل المعاصر لها والأجيال المتأخّرة عنها صدق هذه الأخبار بالحسِّ والوجدان...»(1).

ومن هنا، سنذكر بعضاً من مهمّ العلامات.

لعلامات الظهور فهمان:

ولكن قبل ذكر ذلك، لا بدَّ أن نعرف أنَّه يمكن فهم العلامات بنوعين من الفهم، أحدهما سمّي بالفهم الحرفي، والآخر بالفهم الرمزي، فالأوَّل يعني فهم العلامة حرفياً كما وردت في الرواية، فالدجّال والسفياني شخصان يقودان خطّ الفساد ومحاولة القضاء علىٰ حركة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، واليماني رجل يُمثِّل خطّ الإيمان والتمهيد للمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، والفهم الثاني يعني فهم الروايات بفهم رمزي تأويلي، وعليه يكون الدجّال والسفياني رمزين للحركات المنحرفة العاملة ضدّ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، الظاهر من الروايات الشريفة لمن اطَّلع عليها أنَّ مثل السفياني واليماني والخراساني هم شخصيات حقيقية لا رمزية، نعم، مثل الدجّال لو صحَّت رواياته فربَّما يظهر منها أنَّه يُمثِّل حركة فكرية لا شخصاً بعينه، علىٰ أنَّه يمكن حمله علىٰ الشخص الحقيقي، وعلىٰ كلِّ حالٍ، لا يهمّنا التعرّض لمثل هذه المسألة الآن.

المهمّ لنا الآن أن نتعرَّف علىٰ العلامات البارزة كما ذكرت ذلك الروايات الشريفة.

والعلامات المذكورة في الروايات كثيرة، ولكن سأُحاول هنا ذكر ما له دخل في التمحيص الإلهي والابتلاءات التي تمرُّ علىٰ المؤمن زمن الغيبة، حتَّىٰ نكون علىٰ اطّلاع بها، وبالتالي نضمن _ ولو جزئياً _ عدم الوقوع في شراكها.

وأهمّ العلامات هي ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام: «قبل قيام القائم خمس علامات

ص: 327


1- تاريخ الغيبة الكبرىٰ للسيّد محمّد الصدر: 443 و444.

محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(1).

هل من ضرورةٍ لمعرفة العلامات؟

ينبغي أن يكون واضحاً أنَّ الله تعالىٰ لم يجعل علامات الظهور بمحض الصدفة أو العبثية، وإنَّما جعلها لأهداف تربوية ونفسية، وتلك الفوائد لا يمكن لأحد أن يشعر بها إلَّا إذا اطَّلع علىٰ تلك العلامات، وهذا هو أساس الفوائد المرجوَّة من العلامات، وهذا يعني أنَّه لولا المعرفة بها، لحصلت عدَّة أُمور لا تُحمَد عقباها، وهي:

1 _ اشتباه الحقّ بالباطل، حيث إنَّ المنحرفين يحاولون تغرير البسطاء من الناس ببعض تصرّفاتهم، خصوصاً مدَّعي المهدوية.

2 _ فقدان عنصر الاستعداد النفسي والسلوكي، الذي يُعتَبر من أهمّ فوائد معرفة العلامات، بمعنىٰ أنَّ من كان يعرف العلامات، لو حدثت، فإنَّه سيعمل علىٰ تفعيل ما كان قد تجهَّز به زمن الغيبة، أو زيادة التعبئة والتهيئة عند وقوعها، أمَّا من فَقَدَ هذه المعرفة، فستمرُّ عليه تلك العلامات من دون أن تترك أيّ أثر في نفسه وسلوكه، وبالتالي لربَّما ظهر الإمام8 وهو غافل بالكلّية عنه وعن الاستعداد له.

3 _ هذا فضلاً عن أنَّ معرفتها قبل حصولها، من ِشأنه أن يكون دافعاً مهمَّاً وحافزاً قويَّاً للتدارك إذا ما حصلت، فهي بمثابة المنبّهات من الخطر، الأمر الذي يدفع إلىٰ تجنّبه.

والخطر يكمن في أن يعيش المرء حالة الفساد والانحراف إلىٰ أن يظهر الإمامعجل الله تعالی فرجه الشریف، وحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً(2)، إذ لعلَّ

ص: 328


1- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7.
2- عن أبي بصير، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام في قول الله عزوجل:﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها﴾، «يعني خروج القائم المنتظر منّا»، ثمّ قال علیه السلام: «يا أبا بصير، طوبىٰ لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أُولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». (كمال الدين: 357/ باب 33/ ح 54).

المنحرف لا يُوفَّق للتدارك زمن الظهور، خصوصاً مع سرعة عمليات التطهير من براثن الانحراف، ممَّا نسمعه في الروايات الشريفة.

إذن، لمعرفة العلامات فوائد عديدة ظهرت، وقد عبَّرت الروايات عنها بعدَّة تعبيرات، فمرَّة يقول الإمام الصادق علیه السلام: «يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون»(1).

وأُخرىٰ قال علیه السلام لعبد الرحمن بن مسلمة الجريري حينما قال له: إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردّون عليهم؟»، قلت: فما نردّ عليهم شيئاً، قال: فقال: «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»، قال: «إنَّ الله عزوجل يقول:﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]»(2).

إشارةٌ مهمّة:

لا يعني هذا ضرورة التعمّق الكبير والغور في أعماق معرفة العلامات، فالمهمّ هو البحث عن وتطبيق عوامل الظهور، وأمَّا علامات الظهور فهي واضحة جدَّاً بحيث لا تقبل التشكيك، فإنَّها إمَّا قائمة علىٰ الإعجاز _ كالخسف والصيحة _، وإمَّا علىٰ كونها ظواهر اجتماعية أو سياسية غريبة ملفتة للأنظار بشكل كبير، كتحرّك ثلاث قوىٰ ومن ثلاثة محاور إلىٰ مركز واحد (السفياني من الشام، واليماني من اليمن، والخراساني من بلاد المشرق إيران)، في يوم واحد باتّجاه الكوفة أو العراق عموماً)، وكقتل النفس الزكيَّة في حرم الله الآمن بين الركن والمقام.

المهمّ لنا الآن أن نتعرَّف علىٰ العلامات البارزة كما ذكرت ذلك الروايات الشريفة.

والعلامات المذكورة في الروايات كثيرة، ولكن سأُحاول هنا ذكر ما له دخل في

ص: 329


1- الغيبة للنعماني: 273 و274/ باب 14/ ح 31.
2- الغيبة للنعماني: 274/ باب 14/ ح 32.

التمحيص الإلهي والابتلاءات التي تمرُّ علىٰ المؤمن زمن الغيبة، حتَّىٰ نكون علىٰ اطّلاع بها، وبالتالي نضمن _ ولو جزئياً _ عدم الوقوع في شراكها.

وأهمّ العلامات هي ما ورد عن أبي عبد الله علیه السلام : «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(1).

العلامة الأُولى والثانية: السفياني والخسف في البيداء:

اشارة

يعتبر السفياني من البلاءات والاختبارات الصعبة التي تمرُّ بها الأُمَّة الإسلاميَّة المؤمنة علىٰ مشارف الظهور، ويمكن متابعة حركته من خلال ثلاثة مواقف متسلسلة تاريخياً:

الموقف الأوَّل: مبدأ ظهوره وتحرّكه:

تُحدِّثنا الروايات الشريفة بالتالي:

عن عيسىٰ بن أعين، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «السفياني من المحتوم، وخروجه في رجب، ومن أوَّل خروجه إلىٰ آخره خمسة عشر شهراً، ستَّة أشهر يقاتل فيها، فإذا ملك الكور الخمس ملك تسعة أشهر، ولم يزد عليها يوماً»(2).

إشارة مهمَّة جدَّاً:

يظهر من الأخبار أنَّه حين يتوجَّه إلىٰ العراق والكوفة، فإنَّه يقع قتلاً بشيعة علي علیه السلام، فعن عمر بن أبان الكلبي، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «كأنّي بالسفياني أو لصاحب السفياني قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادىٰ مناديه: من جاء برأس [رجل من] شيعة علي فله ألف درهم، فيثبُ الجار علىٰ جاره يقول: هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ

ص: 330


1- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7.
2- الغيبة للنعماني: 310/ باب 18/ ح 1.

ألف درهم. أمَا إنَّ إمارتكم يومئذٍ لا تكون إلَّا لأولاد البغايا...»(1).

ولكن ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ أصل خروج السفياني هو من الأُمور الحتمية كما نصَّت الروايات علىٰ ذلك، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّه إذا خرج فإنَّ علينا أن نخنع له، وأن نستسلم له، وأن ننتظر سيفه ليصل إلىٰ أعناقنا، كلَّا أبداً، إنَّ هذه الفكرة هي ما يحاول البعض أن يقنع بها الشيعة والمنتظرين، ممَّا يُولِّد الخوف والفزع عندهم من السفياني، والحال أنَّه يمكن أن نقول التالي:

1 _ إنَّ أهل البيت علیهم السلام حينما ذكروا لنا ما يفعله السفياني بالشيعة، لا يعني هذا أنَّهم يأمروننا بأن نستسلم لهذا الأمر، وإنَّما يعني أنَّهم يريدون تحذيرنا منه، ممَّا يعني أنَّهم يدعوننا إلىٰ أخذ الحيطة والحذر منه، وإلىٰ الاستعداد تمام الاستعداد لتحرّكه في أيّ وقت.

2 _ وهذا يعني أنَّه لو اتَّحد المؤمنون يداً واحدة، ووقفوا ضدّ أطماع السفياني التوسّعية، وانضووا تحت لواء قياداتهم المخلصة ومرجعياتهم الدينية، لأمكن أن يقفوا في وجه السفياني، وأن يمنعوه من إيقاع القتل والتشريد فيهم.

3 _ إذن، لا ينبغي للمؤمن أن يعيش حالة الخوف والفزع من السفياني بقدر ما يلزم عليه أن يُهيّئ نفسه لمواجهته في أيَّة لحظة.

الموقف الثاني: بعثه بالجيش خلف المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف والخسف به:

يظهر من بعض الروايات أنَّ السفياني إذا ظهر في الشام وملك كورها الخمسة، فإنَّه سيعلم _ من طريق جواسيسه المنتش-رين في بقاع الأرض _ أنَّ ثمَّة ظهوراً جزئياً للمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في المدينة، فيبعث السفياني بجيش ليقتله، ولكن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف يخرج إلىٰ مكّة، فيصل الجيش ويعلم بذلك، فيتبعه، ولكن مكّة حرم الله الآمن، والمهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو الموعود لتطبيق الوعد الإلهي، فتقتضي الحكمة الإلهية أن يُخسَف بذلك الجيش في البيداء، ولا

ص: 331


1- الغيبة للطوسي: 450/ ح 453.

ينجو منه إلَّا المخبر عن ذلك الخسف.

ويظهر أيضاً أنَّ ذلك الجيش فيه بعض من كره قتال المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولكنَّه خرج مكرهاً، وسيشمله الخسف، ولكن في يوم القيامة سيُحاسب علىٰ نيَّته الواقعية.

عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كان ببيداء من الأرض يُخسَف بهم»، فقلنا: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: «يُخسَف به معهم، ولكنَّه يُبعَث يوم القيامة علىٰ نيَّته»(1).

الموقف الثالث: القضاء عليه:

بعد حصول الخسف بجيش السفياني، تحصل عنده حجَّة واضحة بأنَّ الحقّ مع المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، فيقرُّ بذلك، ويلتقي بالإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف في الكوفة، وفي محاولة من الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف لهدايته، يبايعه السفياني، ولكنَّها بيعة لا عن اعتقاد قلبي راسخ، وإنَّما عن خوف وفرق منه8، ولذلك حينما يرجع إلىٰ أخواله _ وهم قبيلة كلب _ يُعيِّرونه بذلك، فينكث بيعته، فيقاتل المهدي، فيقتله الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وبذلك تنتهي حركة السفياني إلىٰ الأبد.

عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «إذا بلغ السفياني أنَّ القائم قد توجَّه إليه من ناحية الكوفة، يتجرَّد بخيله حتَّىٰ يلقىٰ القائم، فيخرج فيقول: أُخرجوا إليَّ ابن عمّي، فيخرج عليه السفياني فيُكلِّمه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، فيجيء السفياني فيبايعه، ثمّ ينصرف إلىٰ أصحابه، فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: أسلمت وبايعت، فيقولون له: قبَّح الله رأيك، بين ما أنت خليفة متبوع فصرت تابعاً، فيستقبله فيقاتله، ثمّ يمسون تلك الليلة، ثمّ يصبحون للقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف بالحرب، فيقتتلون يومهم ذلك. ثمّ إنَّ الله تعالىٰ يمنح القائم وأصحابه أكتافهم، فيقتلونهم حتَّىٰ يفنوهم، حتَّىٰ أنَّ الرجل يختفي في الشجرة

ص: 332


1- صحيح مسلم 8: 167.

والحجرة، فتقول الشجرة والحجرة: يا مؤمن، هذا رجل كافر فاقتله، فيقتله...»(1).

وتكشف لنا الروايات المتقدمة عن:

1/ أن باب التوبة مفتوحٌ زمن الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف.

2/أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف رجلُ سلامٍ غيرُ مُحبٍّ للقتل والدماء، يشبه في ذلك جده المصطفى صلی الله علیه وآله وسلم؛ إذ كلاهما أُرسِل رحمةً للعالمين.

العلامة الثالثة: اليماني:

اشارة

وهو من الشخصيات التي تعمل علىٰ تمهيد الأوضاع للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، خصوصاً في ما يتعلَّق بمجابهة حركة السفياني، ويبدو أنَّه «نطلق من اليمن إثر أنباء قادمة من الكوفة بتوجّه السفياني إليها، وهو صاحب حركة إصلاحية تتَّخذ اليمن معقلاً لها تهدف إرجاع الناس إلىٰ الحقّ...»(2).

ويظهر من الروايات أنَّ اليماني يبدأ حركته متزامناً مع حركة السفياني، ليوقف من مدّ جذوره في الكوفة، وكذلك متزامناً مع تحرّك الخراساني، الذي يعمل أيضاً علىٰ إيقاف تحرّكات السفياني والقضاء عليه.

ولا يخفىٰ ما لهاتين الحركتين من أثر مهمّ يومذاك في مجابهة السفياني، فالخراساني من الشرق (إيران)، واليماني من الجنوب الغربي (اليمن)، فيُطوِّقان حركة السفياني ويوقفانها في الكوفة، ويحدّان من توسّعها لغير العراق.

وعموماً، فالذي يظهر من الروايات هو أنَّ هناك ثورة عارمة ستحدث في اليمن علىٰ يدي شخص سمَّته باليماني، وهي راية هدىٰ، «بل تصفها عدَّة روايات بأنَّها أهدىٰ

ص: 333


1- بحارالأنوار 52: 388/ ح 206.
2- موجز دائرة معارف الغيبة: 186.

الرايات في عصر الظهور علىٰ الإطلاق...»(1).

قال الإمام الباقر علیه السلام: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدىٰ من راية اليماني، هي راية هدىٰ، لأنَّه يدعو إلىٰ صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح علىٰ الناس وكلّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدىٰ، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلىٰ الحقّ وإلىٰ طريق مستقيم»(2).

عن سيف بن عميرة، عن بكر بن محمّد الأزدي، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، وليس فيها راية بأهدىٰ من راية اليماني، يهدي إلىٰ الحقّ»(3).

أسئلة وأجوبة مفيدة

أسئلة وأجوبة مفيدة(4):

السؤال الأوَّل: ما هي مقوّمات وأُسس معرفة اليماني التي هي غير واضحة عندنا.

الجواب:

أوَّلاً: كون اليماني لا يخرج عن بديهيات المذهب الجعفري، ولا يخالف ضروريات المذهب من عدم مخالفة الحجَّة الشرعية في زمن الغيبة الكبرىٰ وهم الفقهاء العدول، وهذا ما أمر به أهل البيت علیهم السلام من انحصار طريق أخذ التكليف الشرعي من طريق الفقهاء.

ص: 334


1- عصر الظهور للشيخ علي الكوراني العاملي: 113.
2- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
3- الغيبة للطوسي: 446 و447/ ح 443.
4- مستفادة من مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

أو كونه منهم حقيقة لا مجرَّد ادِّعاء، وهذا أهمّ أمر، علماً أنَّه لم يرد في الروايات أنَّه من فقهاء وعلماء الطائفة.

ثانياً: خروجه من اليمن.

ثالثاً: التزامن الواحد في الخروج بين اليماني والخراساني والسفياني، فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً»(1).

السؤال الثاني: من هو اليماني في عصرنا؟

الجواب:

ليس اليماني ولا السفياني ولا الخراساني شخصية مستنسخة يمكن أن نُوجِد لها شاخصاً في كلّ عصر حتَّىٰ يصحَّ السؤال عن من هو اليماني في عصرنا.

وكأنَّ اليماني في العصور الماضية كان شخصية أُخرىٰ وفي عصرنا هذا شخصية ثانية وفي عصر الظهور شخصية ثالثة، كلَّا، فإنَّ اليماني هو شخصية واحدة تظهر قبيل ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ويواكب ظهوره ظهور كلّ من الخراساني والسفياني، كما في تعبير الروايات: «اليماني والسفياني كفرسي رهان»(2)،

وأنَّ رايته أهدىٰ الرايات الثلاث.

السؤال الثالث: إذا ظهر اليماني بعد السفياني هل يجب علينا وإن كنّا في كلّ مكان من العالم الالتحاق به؟

الجواب:

ورد في الروايات ما يمكن أن يدلَّ علىٰ لزوم اتّباع اليماني وحرمة الالتواء عليه، فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر

ص: 335


1- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
2- الغيبة للنعماني: 316 و317/ باب 18/ ح 15.

واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدىٰ من راية اليماني، هي راية هدىٰ، لأنَّه يدعو إلىٰ صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح علىٰ الناس وكلّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدىٰ، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلىٰ الحقّ وإلىٰ طريق مستقيم»(1).

هذا، ولكن الرواية يمكن المناقشة في صحَّة سندها، بالإضافة إلىٰ أنَّ معنىٰ عدم الالتواء هو عدم معاداته ومحاربته، وهذا غير الالتحاق به.

علىٰ أنَّ النص-رة تختلف باختلاف الزمان والمكان وقدرات الشخص، فلعلَّ نصرة رجل يعيش في اليمن تتحقَّق بالالتحاق بجيش اليماني، ولكن نصرة رجل يعيش في بلاد الهند أو السند تكون بتأييده قلباً وذكره لساناً.

علىٰ أنَّ القاعدة في مثل هذه الحالة هو الرجوع إلىٰ المراجع الذين أُمرنا باتّباع أوامرهم في زمن الغيبة الكبرىٰ.

العلامة الرابعة: الصيحة:

ذكرت الروايات أنَّه ستحصل حادثة غريبة من نوعها، تكون المعجزة سِمتُها الظاهرة، عبَّرت عنها الروايات الشريفة بعدَّة تعبيرات، كالصيحة والفزعة والنداء في السماء، حيث يظهر من الروايات «أنَّ أخبار الصيحة والفزعة وأخبار النداء بأقسامها تشير إلىٰ معنىٰ مشترك وحادثة واحدة، لا اختلاف فيها وإن تعدَّدت أساليب الأخبار، ولا تعارض بينها في الحقيقة...»(2).

وخلاصة هذه العلامة هي: في الليلة الثالثة والعشرين _ ليلة جمعة _ من شهر

ص: 336


1- الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
2- تاريخ ما بعد الظهور للسيّد محمّد الصدر: 130.

رمضان، سينادي جبرئيل علیه السلام بالحقّ: أنَّ الحقَّ مع آل محمّد عموماً ومع قائمهم عجل الله تعالی فرجه الشریف خصوصاً، وحينئذٍ سيحصل فزع عظيم، بحيث يصل إلىٰ كلّ من علىٰ وجه البسيطة، وستفزع حتَّىٰ الفتاة الحيية من خدرها، ويعلم الجميع بالحقّ، فتخضع رقاب الظالمين وأعداء الله تعالىٰ، لأنَّ إعلامهم المنحرف ضدّ القضيَّة المهدوية سيذهب أدراج الرياح بسبب ذلك النداء الإعجازي(1)، وستكون هذه العلامة أقرب العلامات نسبياً للظهور المبارك، إذ أنَّها تحصل في شهر رمضان، والظهور سيكون في محرَّم الحرام. وسيكون لذلك النداء أثر مهمّ في قيام ذكر المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ ألسنة الناس، حتَّىٰ يُشربوا حبَّه، وسيكون موضوع الساعة _ كلّ ساعة _ هو الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

والروايات في هذا المجال عديدة، نذكر منها:

عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان»(2).

وعن الإمام الباقر علیه السلام: «الصيحة لا تكون إلَّا في شهر رمضان، لأنَّ شهر رمضان شهر الله، والصيحة فيه هي صيحة جبرائيل إلىٰ هذا الخلق»، ثمّ قال: «ينادي منادٍ من السماء باسم القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقىٰ راقد إلَّا استيقظ، ولا قائم إلَّا قعد، ولا قاعد إلَّا قام علىٰ رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت الأوَّل هو صوت جبرئيل الروح الأمين علیه السلام»، ثمّ قال علیه السلام: «يكون الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة ليلة ثلاث وعشرين فلا تشكّوا في ذلك، واسمعوا وأطيعوا...، فإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان فلا تشكّوا فيه

ص: 337


1- وكون النداء إعجازياً يمنع من صدور نداء معارض بأنَّ الحقّ مع (آل فلان) كما عبَّرت بعض الروايات، اللّهمّ إلَّا أن يُحمَل النداء علىٰ معنىٰ طبيعي، والتفاصيل في تاريخ الغيبة الكبرىٰ: 131 و132.
2- كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 6.

أنَّه صوت جبرئيل، وعلامة ذلك أنَّه ينادي باسم القائم واسم أبيه علیهم السلام حتَّىٰ تسمعه العذراء في خدرها فتُحرِّض أباها وأخاها علىٰ الخروج...»(1).

وأخرج ابن طاووس ; عن أبو نعيم بإسناده عن علي علیه السلام، قال: «إذا نادىٰ منادٍ من السماء أنَّ الحقَّ في آل محمّد، فعند ذلك يظهر المهدي علىٰ أفواه الناس، ويشربون حبَّه، فلا يكون لهم ذكر غيره»(2).

والصيحة أوضح العلامات على الإطلاق؛ وذلك لمواصفاتها الواضحة:

1/صوتٌ من السماء.

2/في ليلةٍ معينةٍ ومحددة ليلة الجمعة ليلة 23 من شهر رمضان وهي ليلة القدر.

3/يسمعها كلُّ الناسِ كلٌّ بلغته.

4/كونها مُفزعة.

5/ وأنَّ من كان عالمًا بهذه الصيحة فإنه يستطيع أنْ يُميّزها عن صيحة الباطل الأخرى التي تم ذكرها سابقاً.

العلامة الخامسة: قتل النفس الزكية:

بعد أن يلجأ المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إلىٰ مكّة، ويخسف بجيش السفياني، يقبل أصحاب المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عليه ويقترحون أن يعلن ظهوره ويبدأ بحركته المباركة في مكّة، فيجيبهم بأنَّ أهل مكّة لا ينصرونه، ولكن من باب إلقاء الحجَّة، ورجاء هدايتهم أو هداية بعضهم، فإنَّه يُرسِل بعض المؤمنين من خاصَّته _ وهو الذي سمَّته الروايات بالنفس الزكيَّة _ ليدعوهم إلىٰ نصرته، فيطيع أمره، ويذهب إلىٰ مكّة، وعند بيت الله الحرام يخطب بهم

ص: 338


1- الغيبة للنعماني: 262 و263/ باب 14/ ح 13.
2- الملاحم والفتن لابن طاووس: 129/ ح 136.

ويدعوهم لنصرة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولكن أهل مكّة يقتلونه في حرم الله الآمن، ليقترفوا بذلك أنواعاً من المعاصي في آنٍ واحد، هي:

1 _ هتك حرمة البيت الحرام، الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً.

2 _ قتل النفس المحرَّمة بدون حقّ، قال تعالىٰ:﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(1)

3 _ رفض نصرة المظلومين، وقد قال النبيُّ صلی الله علیه وآله وسلم: «من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

ولا يخفىٰ أنَّ قتل أهل مكّة إيّاه إعلان منهم لمعارضة حركة المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وتمرّدهم عليه، وهذا ما يحدو به عجل الله تعالی فرجه الشریف لتطهيرها بداية ظهوره، ولعلَّ تسميته بالنفس الزكيَّة لبراءته وكونه يُقتَل مظلوماً، وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم:﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً﴾(3)،

أي بريئة من الذنب، كما عليه المفسِّرون(4).

هذا وتُحدِّثنا الروايات الشريفة أنَّ ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف التامّ سيكون بعد مقتل النفس الزكيَّة بخمس عشرة ليلة، لتكون هذه العلامة أقرب العلامات للظهور المبارك.

عن أبي جعفر علیه السلام في حديث طويل إلىٰ أن قال: «يقول القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكّة لا يريدونني، ولكنّي مرسل إليهم لاحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ

ص: 339


1- المائدة: 32.
2- الكافي 2: 164/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 5.
3- الكهف: 74.
4- موجز دائرة معارف الغيبة: 173.

عليهم. فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امض إلىٰ أهل مكّة، فقل: يا أهل مكّة، أنا رسول فلان إليكم وهو يقول لكم: إنّا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرّية محمّد وسلالة النبيّين، وأنّا قد ظلمنا واضطهدنا وقهرنا وابتزَّ منّا حقّنا منذ قُبِضَ نبيّنا إلىٰ يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا. فإذا تكلَّم هذا الفتىٰ بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهي النفس الزكيَّة، فإذا بلغ ذلك الإمام قال لأصحابه: ألَا أخبرتكم أنَّ أهل مكّة لا يريدوننا...»(1).

وعن صالح مولىٰ بني العذراء، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول: «ليس بين قيام قائم آل محمّد وبين قتل النفس الزكيَّة إلَّا خمسة عشر ليلة»(2).

ص: 340


1- بحار الأنوار 52: 307/ ح 81.
2- كمال الدين: 649/ باب 57/ ح 2.

المبحث الثامن

اشارة

أسئلةٌ حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف

السؤال الأول: ما هو سلاح الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف إذا ظهر؟

الجواب:

لقد وردت روايات عديدة تصرح بأن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقوم بالسيف، من قبيل التالي:

عن المفضل بن عمر، قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: ما علامة القائم؟ قال: إذا استدار الفلك، فقيل: مات أو هلك، في أي واد سلك؟ قلت: جعلت فداك، ثم يكون ماذا؟ قال: لا يظهر إلا بالسيف».(1)

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله ما لباسه إلا الغليظ، ولا طعامه إلا الجشب، وما هو إلا السيف، والموت تحت ظل السيف».(2)

وهذا النوع من اللباس والطعام خاص بالإمام علیه السلام، أما رعيته فسيلعقهم العسل ولا يتعامل معهم بالشدة، إلا جيشه؛ لأنه يريد منهم رباطة الجأش.

ولكن ما المقصود بالسيف؟ هل هو هذا السيف الحقيقي؟ أي الآلة الحديدية، أو إنَّ كلمة السيف رمزٌ يراد به غير المعنى الموضوع له؟

ص: 341


1- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 158 – 159 الباب 10 الحديث 19.
2- نفس المصدر ص 238 – 239 الباب 13 الحديث 20.

لا شك أن القرآن الكريم والرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهل البيت علیهم السلام كانت لهم طريقة معينة في إلقاء الخطابات الشرعية وروايات المستقبل، وتلك الطريقة لا شك أنها اتصفت بالخطاب الذي يتناسب مع أفهام المخاطبين وحدودهم العلمية، وإن كانت هناك في بعض الأحيان إشارات لمفاهيم ومعانٍ علمية مستقبلية أوسع بكثير مما كان يفهمه المخاطبون في عصر النص.

ولكن الطريقة العامة والمتعارفة في تلك الخطابات هي أن تكون متناسبة مع المستوى العلمي للمخاطبين.

وعلى هذا شواهد عديدة، نذكر منها:

عن الإمام الصادق علیه السلام: «ما كلَّم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم العباد بكنه عقله قطُّ»، وقال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(1).

وقال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا تحدثوا أمتي من أحاديثي إلا بما تحمله عقولهم».(2)

ومن هنا نجد أن الروايات الشريفة ذكرت أسلحة البر والبحر، ولم تذكر سلاح الجو رغم أن المتكلم عالم بما ستؤول إليه حالة الأسلحة وتطورها.

ومن هذا القبيل ورد في الصحيح أنّ رجلاً من أهل الشام سأل الإمام الحسن علیه السلام:...كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: بين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب من مغربها.(3)

فنحن نعتقد أن الإمام علیه السلام –باعتبار عصمته وعلمه اللدني- يعلم مقدار المسافة بالميل أو بالكيلو متر مثلاً وبالدقة، ولكنه8 لم يذكر المسافة إلا بما يفهمه الناس

ص: 342


1- الكافي للكليني 1: 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج10 ص 242 ح 29284.
3- الشيخ الصدوق في الخصال:441 ضمن ح33 باب العشرة.

والسائل آنذاك.

ومن هنا، يتضح لنا جلياً السبب في تعبير أهل البيت علیهم السلام عن سلاح الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بأنه يخرج بالسيف، فما ذاك إلا لأن السيف هو رمز القوة والغلبة على مر العصور.

وإلا فتصوروا دهشة وحيرة أصحاب الأئمة علیهم السلام في ذلك العصر لو كان أهل البيت علیهم السلام أخبروهم بأن المهدي يخرج مثلاً بدبابة من طراز كذا! أو أن عنده مسدس ليزر قدرته كذا! أو أن طائراته أسرع من لمح البصر!

وبعبارة واضحة: نحن نعتقد أن الإمام صلوات الله عليه سيظهر بأسلحة أقوى بكثير مما هو معروف اليوم، أسلحة لا تقاوم ما هو موجود اليوم وحسب، وإنما تنتصر عليه أيما انتصار.

أما أنه يرجع إلى عصر السيف (بالمعنى الحقيقي) فهو رجوع بالحضارة إلى الوراء، وهو مما لا يتناسب مع عصر العلم الذي سيفجره الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف بصورة لم يسبق لها مثيل، فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف أخرج الخمسة والعشرين حرفاً، فبثّها في الناس، وضمّ إليها الحرفين، حتى يبثَّها سبعة وعشرين حرفا».(1)

وعن جابر قال: «قال أبو جعفر علیه السلام في قول الله تعالى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾(2)قال:

«ينزل في سبع قباب من نور لا

ص: 343


1- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 117.
2- البقرة 210.

يعلم في أيها هو حين ينزل في ظهر الكوفة، فهذا حين ينزل».(1)

وقال أبو جعفر علیه السلام «إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».(2)

وهكذا ما قد يقال من إنه عندما يخرج بالسيف فإنه وبإشارة واحدة من سيفه فإنه سيوقف جميع أجهزة الاتصالات، وسيوقف عمل جميع الأسلحة، ولو أطلقت عليه قوة غاشمة صاروخاً، فإنه سيرجعه على المنصة التي انطلق منها بإشارة من سيفه، فكل ذلك هو مجرد تخرصات وكلام مضحك للثكلى وألفاظ لا دليل عليها أبداً، ولا يعني هذا أننا لا نعتقد بامتلاك الإمام علیه السلام لتلك القدرة، كلا، بل هو صاحب الولاية التكوينية بلا أدنى ريب، ولكن هذا مما لا دليل عليه ولا داعي له، وهو خروج عن النظام العام للدنيا ولحركة الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف الذي هو نظام الأسباب والمسببات الطبيعية، وأن العصمة استثناء من هذا النظام.

فالأولى إذن والصحيح أن نلتزم بالنتيجة التي انتهينا إليها.

وهو ما عليه المحققون من العلماء.

وقال السيد محمد الصدر رحمه الله: «من الواضح بالضرورة أن المهدي يستعمل سلاح عصره ولا معنى لاستعمال سلاح آخر...».(3)

وقال الشيخ خليل رزق: «لا بد من حمل السيف على المعنى الرمزي الذي يراد به أي سلاح»(4)

ص: 344


1- تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 1 - ص 103 الحديث 301.
2- نفس المصدر الحديث 303.
3- تاريخ ما بعد الظهور ص 404.
4- الإمام المهدي واليوم الموعود ص 93.

إشارة:

إذا أبى البعض إلا التمسك بظاهر الروايات الواردة في السيف، فيمكن القول:

إن الإمام علیه السلام سيظهر بالسيف حقيقة – سيف ذي الفقار- ولكنه يظهر به من باب أنه من المواريث المهمة لديه، للدلالة على ارتباط قيامه المبارك بأمير المؤمنين علیه السلام الذي يمثل الإسلام المحمدي الأصيل، فيقوم بأحدث التقنيات، لكنه يرتدي ذلك السيف، وهذا الأمر طبيعي جداً، بل نرى اليوم أن الكثير من الرؤساء من يرتدي شيئاً يمثل ارتباطه بقوميته أو بدينه أو حتى ببلده، رغم امتلاكه أنواع الأسلحة الحربية للقتال.

السؤال الثاني: هل المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف قاتلٌ سفاح وقصّاب أرواح؟ أو هو داعيةُ سلام؟!

الجواب:

عندما نطالع الروايات في قضية الإمام المهدي سلام الله عليه نجد أنَّ هناك كمًا من الروايات أشارت إلى أنَّ الإمام علیه السلام سيستعمل السيف، أي سيقتل عدة طوائف من الناس، فاستغلها البعض في توظيفها لتصوير الإمام علیه السلام كرجل محب للدماء، مُزهق للأرواح، لا رحمة في قلبه، لا همَّ له إلا استئصال الآخر، فهل هذا الأمر صحيح؟

للجواب بصورةٍ واضحةٍ جليّة، نذكر عدةِ خطوات:

الخطوة الأولى: ركائز الدولة إداريًا.

اشارة

إنَّ قيام أيّ دولةٍ يحتاج إلى ثلاث ركائز بعد الفراغ عن ضرورة وجود القائد والجمهور، وهذه المسألة ليس لها علاقة بالدين أو الشريعة بمعنى أنَّها قضية عقلائية:

1/السلطة التشريعية

ومهمتها تشريع الأحكام وسنِّ القوانين التي تحكم الدولة، وكذلك تشريع الجزاءات المناسبة لموافقة أو مخالفة تلك التشريعات، كقانون المرور مثلًا.

ص: 345

2/السلطة التنفيذية.

ومهمتها تنفيذ القوانين، ولأنَّ القوانين تقيد السلوك البشري ضمن إطارها، وتمنع من ارتكاب المخالفات والجرائم التي تنزع ضعاف النفوس إلى ممارستها، احتيج إلى جهازٍ يكفل تنفيذ القوانين بالقوة، وتقديم من لا يلتزم بها من الشعب إلى القضاء؛ لينال جزاءه العادل، وهو جهاز الشرطة مثلاً. والسلطة التنفيذية مهمة؛ إذ لا فائدةٍ تُرجى من القوانين إنْ لم تُنفّذ.

3/السلطة القضائية.

ومهمتها إرجاع الأمور الى نصابها عند حدوث خرقٍ للقانون، فمن أمن العقاب أساء الأدب.

فهي نوع من التدخلات الإجرائية والعملية عند حدوث خرق للقانون أو تطاول عليه، من أجل إرجاع الأمور إلى نصابها.

ولا ينفرد القانون الوضعي بالنص على هذه السلطة، ودورها في إصدار الأحكام والعقوبات على من يخالفه، بل القانون الإلهي ينص على ذلك أيضًا، وإلا فما خلق الله عزوجل نار جهنم إلا لهذا الغرض، ولولاها لترك جُلَّ الناس طاعته عزوجل، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾.(1)

ولكن عندما علم الأنسان أنَّ هناك مراقبة وملائكة تسجل كلَّ ما يقوم به بل وتنسخه، وأنَّ هناك حساباً أخروياً، حينها علم أنَّ عليه عدم المخالفة.

وهذا أمرٌ عقلائي، ولا تقوم دولة منظمة من دون هذه الركائز الثلاثة، ونتيجة لهذا الأمر نقول التالي:

ص: 346


1- المؤمنون 37.

إنَّ الروايات وإنْ ذكرت أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقوم ببعض الحروب وبقتل بعض الاصناف من الناس، إلا أن هذا لا يخرج من الإطار العقلائي لإقامة الدولة، فبالنتيجة فإن الإمام علیه السلام لديه تشريعات ويريد أن يقيمها، فمن قام بالمخالفة يجب أن يحاسب وفق إجراءات عملية، والتي اسماها الإسلام (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وبهذا هو لم يخرج عن الإسلام حيث ان الإسلام امرنا بذلك في رواية «أُمرت أن أُقاتل الناس حتَّىٰ يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها فقد حرم عليَّ دماؤهم وأموالهم»(1)، ووضع القوانين تحت عنوان (القصاص والحد والتأديب وما الى ذلك)، وعليه فإن الإمام علیه السلام غير خارج عن الإطار العقلائي ولا الإسلامي لإقامة الدولة.

الخطوة الثانية: لماذا يخاف البعض من ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

إذا كانت المسالة عقلائية إلى هذه الدرجة، فلماذا نجد أنَّ بعض الناس -سواء أأظهروا هذا الأمر أم أبقوه في كامن شعورهم- يتصورون أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف عندما يخرج لا يكون له همٌ إلا القتل والذبح والتشريد؟

وهذا نجده حتى في بعض الأوساط الشيعية -- مع بالغ الأسف --، إذ بمجرد أنْ يُذكر الإمام علیه السلام عند البعض، تتوارد هذه الأفكار السلبية، ولا يحضر تصور أنَّ الإمام سيأتي كما أتى جده المصطفى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) رحمةً للعالمين، وأنّه سيبني مدينة سلامٍ وجنةً على الأرض، فلا يستحضر النظرة الإيجابية، وإنّما بعض مهمٌّ من الناس في اللاشعور يرى الجانب السلبي فقط؛ لذلك يخاف من ظهور الإمام علیه السلام، فما سبب هذا الشعور الداخلي لديه، وتلك النظرة؟

الجواب:

من الممكن تصور عدة أسباب وراء هذه النظرة السلبية تجاه الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف،

ص: 347


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 65/ ص 242): عن عليٍّ علیه السلام، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم...

وأهمها:

1/الجهل بقضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وبأهدافه التي يقوم من أجلها، وعدم الاطلاع الكافي على روايات هذه القضية الطاهرة، وهو من أهم الأسباب، فكثيرٌ من الناس يتصور أنَّ الإمام علیه السلام ما إنْ يخرج حتى يبدأ بقتل علماء الشيعة رغم عدم وجود حتى روايةٍ واحدة تشير إلى ذلك، فهذا كلامٌ من دون دليل، وهو نتيجة الجهل المطبق، أو الحقد الدفين لأهل العلم.

2/القراءة السطحية والساذجة لروايات فتن واختبارات الظهور، من دون الرجوع لأهل الاختصاص فيها ومعرفة الهدف منها وتخريجاتها العقائدية والفقهية والعقلائية، فإنَّ أهل الاختصاص يدخلون في أعماق الرواية ويعطون الفهم الصحيح لها.

3/تعمُّد بثّ تلك الفكرة الخاطئة في نفوس الناس من قبل بعض المُغرضين، وهذا الأمر له مؤشراتٌ كثيرة، فهناك كثيرٌ من الفئات تعمل خلف الكواليس وهدفها بثّ أفكار يائسة سلبية تجاه الدين عمومًا، نحو: الدين يقيد الحرية، ولا يقبل بالعلم، ومنها قضية الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الخطوة الثالثة: من هم الذين سيقتلهم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

اشارة

الجواب: ذكرت الروايات العديد من الأصناف الذين سيقتلهم الإمام علیه السلام، نذكر منهم ثلاثة عناوين:

1/السفياني:

ومن الواضح أنه لا نحتاج إلى تبرير مقاتلة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للسفياني، ولكن مع ذلك فالمبررات لذلك عديدة، نذكر منها:

أولاً: إن السفياني هو من يبدأ الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف القتال، بل ويبعث البعث تلو الآخر

ص: 348

في محاولة قتل الإمام صلوات الله عليه، ومن الواضح أن حكم من يريد قتل الإمام المفترض الطاعة هو القتل على أقل تقدير.

عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «ويعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كان ببيداء من الأرض يخسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، كيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته..».(1)

ثانياً: أن السفياني يمثل امتداداً للعداء المتأصل بين بني هاشم وبني أمية، القتال الذي كان محوره تصديق الله عزوجل وعدمه.

فقد ورد عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنَّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله. وقالوا: كذب الله. قاتل أبو سفيان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقاتل معاوية علي بن أبي طالب علیه السلام. وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي علیه السلام، والسفياني يقاتل القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف.»(2)

ثالثاً: إن السفياني مجرم حرب، بل مجرم إنسانية، وهو يعمل على قتل كل من ينتمي لخط أهل البيت% كما ذكرت الروايات ذلك، وأنه يقتل كل من اسمه على أسماء أهل البيت%.

ولا ريب أن من وظيفة الإمام علیه السلام هو الدفاع عن المظلومين عموماً وعن شيعته خصوصاً.

جاء في خطبة البيان المنسوبة لأمير المؤمنين علیه السلام انه قال: «ولا يزال السفياني يقتل كل من اسمه محمد وعلي وحسن وحسين وفاطمة وجعفر وموسى وزينب وخديجة ورقية بغضاً وحنقاً لآل محمد..».(3)

ص: 349


1- مسند أحمد: ج 6 ص 290 ومسلم: ج 4 ص 2208 ب 52 ح 2882.
2- معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 346.
3- الزام الناصب ج2 ص173 خطبة البيان.

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: ثم يبعث فيجمع الاطفال ويغلي الزيت لهم فيقولون: إن كان آباؤنا عصوك فنحن ما ذنبنا؟ فيأخذ منهم اثنين اسمهما حسن وحسين فيصلبهما، ثم يسير الى الكوفة فيفعل بها كما فعله بالأطفال ويصلب على باب مسجدها طفلين اسمهما حسن وحسين فتغلي دماؤهما كما غلي دم يحيى بن زكريا....».(1)

وسواء صحت هذه الروايات من حيث السند ام لم تصح، فإنها تعطي صوراً واضحة –وبضم الروايات الاخرى التي بيّنت سيرة السفياني في خروجه وتحركاته- عن سلوك السفياني وعقيدته وسيرته في الناس، فإنها تشير الى بغضه الصارخ لآل البيت علیهم السلام ولكل من يمتّ اليهم بصلة ولو بالاسم، ويشير الى انه يعتبر التسمية رابطة عقائدية تشير الى مدلول باطني، فهو يقتل من ينتسب الى اهل البيت علیهم السلام ولو بالاسم.

رابعاً: إن السفياني ينكث البيعة مع الإمام علیه السلام كما ذكرت ذلك بعض الروايات الشريفة، ونكثه للبيعة يساوق خروجه ضد الإمام، والخارج على إمام زمانه المفترض الطاعة حكمه أن يُقاتَل.

فعن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إذا بلغ السفياني أن القائم قد توجه إليه من ناحية الكوفة، يتجرد بخيله حتى يلقى القائم فيخرج فيقول: أخرجوا إلى ابن عمي، فيخرج عليه السفياني فيكلمه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف فيجيء السفياني فيبايعه ثم ينصرف إلى أصحابه فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: أسلمت وبايعت فيقولون له: قبح الله رأيك بين ما أنت خليفة متبوع فصرت تابعا فيستقبله فيقاتله، ثم يمسون تلك الليلة، ثم يصبحون للقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف بالحرب فيقتتلون يومهم ذلك. ثم إن الله تعالى يمنح القائم وأصحابه أكتافهم فيقتلونهم حتى يفنوهم حتى أن الرجل يختفي في الشجرة والحجرة، فتقول الشجرة

ص: 350


1- عقد الدرر 93 و 94.

والحجرة: يا مؤمن هذا رجل كافر فاقتله، فيقتله..».(1)

2/البترية.

يظهر من الروايات الشريفة أنَّهم خطّ منحرف عقائدياً، حيث إنَّهم لا يتبرَّؤون من أعداء الإمام علي علیه السلام، وإنَّهم بتروا أمر أهل البيت علیهم السلام بعدم البراءة من أعدائهم، ولهم جذور تاريخية تمتدُّ إلىٰ زمن الإمام زين العابدين علیه السلام، ولمزيد بيان ننقل ما أورده الشيخ الصدوق: «البترية _ بضمِّ الباء الموحَّدة وسكون التاء المثنّاة الفوقية والراء المكسورة _، والنسبة بتري، وهم طائفة من الزيدية يُجوِّزون تقديم المفضول علىٰ الفاضل، يقولون: إنَّ أبا بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الأُمَّة في البيعة لهما مع وجود علي علیه السلام، ولكنَّه خطأ لم ينته إلىٰ درجة الفسق، وتوقَّفوا في عثمان، ودعوا إلىٰ ولاية أمير المؤمنين علیه السلام، ويرون الخروج مع بطون ولد علي علیه السلام، ويذهبون في ذلك إلىٰ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُثبِتون لكلِّ من خرج من أولاد علي علیه السلام عند خروجه الإمامة، وهم أصحاب كثير النواء والحسن بن صالح بن حيّ وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسَلَمة بن كهيل أبي يحيىٰ الحضرمي، وأبي المقدام ثابت بن هرمز الحدّاد.»(2).

وروىٰ أيضاً بإسناده عن سدير، قال: «دخلت علىٰ أبي جعفرعلیه السلام ومعي سَلَمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحدّاد وسالم بن أبي حفصة وكثير النواء وجماعة منهم، وعند أبي جعفر علیه السلام أخوه زيد بن علي علیه السلام، فقالوا لأبي جعفر علیه السلام: نتولّىٰ عليَّاً وحسناً وحسيناً ونتبرَّأ من أعدائهم، قال: «نعم»، قالوا: فنتولّىٰ أبا بكر وعمر ونتبرَّأ من أعدائهم، قال: فالتفت إليهم زيد بن علي علیه السلام وقال لهم: «أتتبرَّؤون من فاطمة علیها السلام، بترتم أمرنا بتركم

ص: 351


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 52 - ص 388.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج4، ص544-545

الله» فيومئذٍ سمّوا البترية»(1).

وروىٰ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن سعد الجلَّاب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لو أنَّ البترية صف واحد ما بين المشرق إلىٰ المغرب ما أعزَّ الله بهم ديناً»(2) (3).

وعلى كل حال، فقد ذكرت بعض الروايات أنهم سيخرجون ضد الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وسيقاتلهم ويقتلهم، ففي بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي: روىٰ أبو الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام في حديث طويل أنَّه قال: «إذا قام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف سار إلىٰ الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس يُدعون البترية، عليهم السلاح فيقولون له: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتَّىٰ يأتي علىٰ آخرهم»(4).

وهذه الرواية علىٰ فرض ثبوتها فيها ما يأتي:

1 _ الرواية تتحدَّث عن أُناس منحرفين عقائدياً، حيث أطلقت عليهم الرواية اسم البترية، وهم طائفة من الزيدية يقولون بالنصِّ علىٰ أمير المؤمنين علیه السلام والحسنين وزين العابدين علیهم السلام فقط، ويدَّعون أنَّ الإمامة بعدهم شورىٰ في أولاد الحسنين لمن قام منهم بالسيف.

2 _ إنَّ هذه الطائفة توالي قوماً غصبوا حقوق أهل البيت علیهم السلام وأزالوهم عن مراتبهم.

3 _ إنَّ هؤلاء الأقوام الذين يقتلهم الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف رفعوا السلاح في وجهه وردّوا دعوته ولم يستمعوا إليه.

ص: 352


1- اختيار معرفة الرجال 2: 504 و505/ ح 429.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 499/ ح 422.
3- من لايحضره الفقيه 4: 544 و545.
4- بحار الأنوار 52: 338/ ح 81، عن الإرشاد 2: 384.

4 _ إنَّ هؤلاء ليسوا من رجال العلم والعلماء، بل هم من جهلة الأُمَّة، فالروايات تُعبِّر عن علماء الدين برواة الحديث، ففي توقيع الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(1).

ومن هنا يتَّضح أنَّ دعوىٰ قتل الإمام الحجَّة عجل الله تعالی فرجه الشریف لعلماء الدين دعوىٰ باطلة منشؤها الجهل بتعابير الروايات، فأصحاب هذه الدعوىٰ قد وقعوا في جهل مركب.

3/ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام:

حتى نعرف حقيقة الحال في هذا العنوان علينا أن نتبين أمرين:

الأمر الأول: إن من الأمور الواضحة للعيان أن قيام أية دولة ستواجهه العديد من المشاكل والتلكؤات، ومن الطبيعي جدا أن الدولة ومن أجل أن تبني نفسها وتحافظ على كيانها فإنها تعمل على إزالة الأشواك من طريقها قبل تعبيده.

وإذا كانت الدولة تنشد العدل وتطبق القسط، فإن العقل والطبيعة والفطرة الإنسانية تتفق على قبول بعض الإجراءات العملية ولو كانت صعبة قليلة، ولو استلزمت القيام ببعض الأعمال التي قد لا يتعرف الناس على مناشئها العقلية أو نتائجها الإنسانية إلا بعد حين، لكنهم حينما يتعرفون النتائج العظيمة لتلك الأفعال، فإنهم سيحكمون بحسنها بل وبضرورتها في وقتها، وما نحن فيه من هذا القبيل.

الأمر الثاني: هناك مبدأ إسلامي يقرره القرآن الكريم وتؤكده الروايات الشريفة، وهو أن العلاقة العقائدية القائمة على الرضا القلبي من أقوى العلاقات التي تجمع بين بني البشر على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم، بل ورغم اختلاف أزمنتهم.

وهذا ما نجده بوضوح في الروايات الشريفة.

ص: 353


1- كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.

فقد ورد عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن الرضا علیه السلام قال: «من غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده وأتاه».(1)

وعن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا علیه السلام، قال: سمعته يقول (في شأن ابن نوح الذي غرق): «كذبوا هو ابنه ولكن الله عزوجل نفاه عنه حين خالفه في دينه».(2)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: أيها الناس، إنما عقر ناقة صالح واحد فأصابهم الله بعذابه بالرضا لفعله، وآية ذلك قوله عزوجل: ﴿فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطىٰ فَعَقَرَ* فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ﴾(3)،

وقال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها * وَلا يَخافُ عُقْباها﴾(4)،

ألا ومن سئل عن قاتلي فزعم أنه مؤمن فقد قتلني.(5)

ولما أظفر الله أمير المؤمنين علیه السلام بأصحاب الجمل، قَالَ لَه بَعْضُ أَصْحَابِه: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا، لِيَرَى مَا نَصَرَكَ الله بِه عَلَى أَعْدَائِكَ.

فَقَالَ لَه علیه السلام: أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

قَالَ علیه السلام: فَقَدْ شَهِدَنَا، ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ.(6)

ومن هذا المنطلق، وهذا المبدأ، يمكن أن نفهم ما ورد من أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيقتل ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام لرضاهم بفعال آبائهم.

فقد ورد أنَّ عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لأبي الحسن عليِّ بن موسىٰ

ص: 354


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 392.
2- عيون أخبار الرضا علیه السلام - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 82.
3- القمر 29 و 30.
4- الشمس 14 و 15.
5- الغيبة للنعماني ص 35 مقدمة المؤلف.
6- نهج البلاغة - خطب الإمام علي علیه السلام - ج 1 - ص 44.

الرضا علیه السلام: يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق علیه السلام أنَّه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين علیه السلام بفعال آبائها»؟ فقال علیه السلام: «هو كذلك»، فقلت: فقول الله عزوجل: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ﴾(1)، ما معناه؟ فقال: «صدق الله في جميع أقواله، لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنَّ رجلاً قُتِلَ في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب كان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنَّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم»(2).

ويُقرِّر الإمام الصادق علیه السلام هذا المبدأ أكثر فيما روىٰ عنه محمّد بن الأرقط حيث قال له الإمام الصادق علیه السلام: «تنزل الكوفة؟»، قلت: نعم، قال: «ترون قتلة الحسين علیه السلام بين أظهركم؟»، قال: قلت: جُعلت فداك، ما بقي منهم أحداً، قال: «فأنت إذاً لا ترىٰ القاتل إلَّا من قُتِلَ أو من ولي القتل؟! ألم تسمع إلىٰ قول الله: ﴿قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾(3)، فأيُّ رسول قتل الذين كان محمّد صلی الله علیه وآله وسلم بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسىٰ رسول، إنَّما رضوا قتل أُولئك فسمّوا قاتلين»(4).

وهو الأمر الذي أشارت له العديد من زيارات الإمام الحسين علیه السلام بعنوان: «وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرِضِيَتْ بِهِ»(5).

الخطوة الرابعة: الإمامُ داعيةُ سلام.

هنا مؤشرات لابد أنْ نلتفت إليها حتى تطمئن النفوس وتنشرح الصدور وتتحول

ص: 355


1- الأنعام: 164.
2- علل الشرائع للصدوق 1: 229/ باب 164/ ح 1.
3- آل عمران: 183.
4- تفسير العيّاشي 1: 209/ ح 165.
5- مصباح المتهجِّد للطوسي: 721/ ح (806/75).

النظرةٍ إلى نظرةٍ إيجابية تجاه الإمام علیه السلام، فتكون دافعًا للعمل والتهيئة لدولته،

والمؤشِّرات علىٰ ذلك كثيرة، نذكر منها التالي:

1 - وصفه بأنَّه رحمةً للعالمين في بعض الروايات الشريفة، ففي حديث اللوح الوارد عن جابر، عن الإمام الباقر علیه السلام: «وأختم بالسعادة لابنه عليٍّ وليّي وناصري والشاهد في خلقي وأميني علىٰ وحيي، أخرج منه الداعي إلىٰ سبيلي والخازن لعلمي الحسن، وأُكمل ذلك بابنه (م ح م د) رحمةً للعالمين، عليه كمال موسىٰ وبهاء عيسىٰ وصبر أيّوب...»(1).

2 - قبوله لبيعة السفياني رغم أفعاله الشنيعة، كما ذكرت ذلك بعض الروايات(2).

3 - ما ورد من إرساله الجند إلىٰ القسطنطينية، ممَّا يظهر منه أنَّه أرسلهم للقتال، لكن عندما يستسلم أهاليها فإنَّ جنده يتركون القتال، ويدخلون المدينة سلماً(3).

4 - ما ورد من جلوسه لمحاججة أهل الديانات بالدليل، ممَّا يعني أنَّه يُقدِّم الحجَّة والدليل العلمي علىٰ القتال...(4).

5 - ما ورد من أنَّه علیه السلام سوف لا يقاتل إلَّا من يقاتله، ولا يزيد علىٰ ذلك شيئاً، وهو أمر لا تجده إلَّا عند من تتمثَّل الإنسانية والأحكام الش-رعية في سلوكه رغم ما عنده من أسباب القوَّة ما لا يحتاج معه إلىٰ التودّد إلىٰ أحد.

فقد روي بالإسناد إلىٰ الكابلي، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: «يبايع القائم بمكّة علىٰ كتاب الله وسُنَّة رسوله، ويستعمل علىٰ مكّة، ثمّ يسير نحو المدينة فيبلغه أنَّ عامله قُتِلَ، فيرجع إليهم فيقتل المقاتلة، ولا يزيد علىٰ ذلك»(5).

ص: 356


1- الكافي للكليني 1: 528/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم علیهم السلام/ ح 3.
2- راجع: بحار الأنوار للمجلسي 52: 388/ ح 206.
3- الغيبة للنعماني: 334 و335/ باب 21/ ح 8.
4- علل الشرائع للصدوق 1: 161/ باب 129/ ح 3.
5- بحار الأنوار للمجلسي 52: 308/ ح 83.

6 - ما ورد من أنَّه وأصحابه يعظون بعض الخارجين عليهم قبل أن يبدؤوهم القتال، ممَّا يعني أنَّهم يرجون أن لا يكون بينهم قتال، ولكن لو لم يكن إلَّا الكيّ فهو آخر العلاج.

فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام: «ثمّ يرسل جريدة خيل إلىٰ الروم فيستحضرون بقيَّة بني أُميَّة، فإذا انتهوا إلىٰ الروم قالوا: أخرجوا إلينا أهل ملَّتنا عندكم، فيأبون ويقولون: والله لا نفعل، فيقول الجريدة: والله لو أمرنا لقاتلناكم، ثمّ ينطلقون إلىٰ صاحبهم...»(1).

إنَّ هذه المؤشِّرات وغيرها واضحة في أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف رغم تمتّعه بموقع القوَّة والهيمنة، إلَّا أنَّه لا يبدأ المشركين، بل الزنادقة وأهل الردَّة بالقتال، وإنَّما يُظهِر لهم من قوَّة التسامح وقبول التوبة أكثر ممَّا يُظهِر لهم من قوَّة البطش والقتل، وما هذا إلَّا لأنَّه داعية صلاح وسلام، اللّهمّ إلَّا من يأبىٰ منهم، أو من يبادر الإمام علیه السلام بالقتال أو بالمكر لحركة الإصلاح المهدوية العالمية، فإنَّه يتعامل معه التعامل الإسلامي الواضح والذي فعله قبله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عندما كان يضطرُّ إلىٰ ذلك.

هذا فضلاً عن توافق هذا الفعل مع القانون العقلائي القاضي بإزاحة العقبات عن طريق الإصلاح.

فيتلخص:

1/إنَّ الإمام علیه السلام سيقوم ببعض المعارك؛ لأنَّ هذه مسألةٌ طبيعية لبناء الدولة وهي غير خارجة عن حدود الإسلام، وإنَّ النبي صلی الله علیه وآله وسلم أيضًا فعل ذلك.

2/لا يكون القتال هو الطابع العام لحركة الإمام علیه السلام، فيقتل بصورةٍ عشوائية وغير مبررة كما يتصور البعض. وإنَّما كلِّ ما سيقوم به الإمام علیه السلام من قتالٍ مبررٌ إسلاميًا وإنسانيًا وعقلائيًا.

ص: 357


1- تفسير العيّاشي 2: 60/ ح 49.

ص: 358

المبحث التاسع

اشارة

ضمانات الانتصار المهدوي

للدول الكافرة منظومة ضخمة جدًا من الأسلحة، ترسانةٌ بإمكانها أن تفني الأرض ست مراتٍ حسب بعض التقارير، ومع كلِّ هذا التطور في تلك الدول، كيف سيواجه الإمام علیه السلام تلك القوى؟ هل هناك ضماناتٌ توضح لنا كيفية انتصار الإمام علیه السلام على أعدائه؟

الجواب:

نجيب ببعض العناوين؛ لأنّ البحث في هذا الموضوع ضخمٌ جدًا، ولكن قبل الجواب من المناسب أنْ نشير إلى ملاحظةٍ جدًا مهمة وهي تبعث الاطمئنان في النفوس، وهي:

إنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو وعد الله عزوجل، وقد أخبر الله عزوجل والروايات الشريفة الكثيرة المتواترة لدى الطرفين أنَّ الإمام علیه السلام سينتصر، وأنَّ الله عزوجل سيؤيده بالنصر ويُمكِّن له الأرض، وهذه هي النتيجة. أما الضمانات فمعرفتها قد تدخل في باب الفضول العلمي الذي يزيد من الاطمئنان في النفوس ويساعد في جدال الطرف المقابل.

وعلى كل حال، فهناك عدةُ ضماناتٍ تساعد في انتصار القضية المهدوية:

الضمان الأول: قوة مصادر القضية المهدوية.

وهذا ما أشرنا إليه في بداية البحث في القضية المهدوية، وإنَّ من أهم مصادر قوة

ص: 359

هذه القضية كونها قضية إنسانية أولًا، وكونها نابعةً من الواقع لمعالجة الواقع ثانيًا، وكونها وعدًا إلهيًا وأصلًا اعتقاديًا ثالثًا.

الضمان الثاني: عنصر المباغتة:

المباغتة: بضم الميم وفتح الغين من بغته الامر، أي: فاجأه. ولقيته بغتة، أي: فجأة، ومنه: مباغتة العدو.(1)

من الأمور التي أكدت عليها الروايات الشريفة بشأن الظهور المبارك، أمران:

الأمر الأول: إن وقت الظهور غير محدد.

والروايات في هذا المعنى عديدة، نذكر منها التالي:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْه مِهْزَمٌ، فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي نَنْتَظِرُ مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ: يَا مِهْزَمُ، كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ وهَلَكَ الْمُسْتَعْجِلُونَ ونَجَا الْمُسَلِّمُونَ».(2)

وعن محمد بن مسلم، قال: «قال أبو عبد الله علیه السلام: يا محمد، من أخبرك عنا توقيتاً فلا تهابنّ أن تكذبه، فإنا لا نوقّت لأحد وقتاً».(3)

وهنا قد يرد إلى الذهن سؤال(4):

ما هي الحكمة من عدم التوقيت والنهي عنه؟

أوَ لم يكن الأفضل أن يذكر لنا أهل البيت علیهم السلام وقت الظهور بالضبط، حتى نكون على بينة من أمرنا؟

ص: 360


1- معجم لغة الفقهاء - محمد قلعجي - ص 399.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 368 – 369 باب كراهية التوقيت، الحديث 2.
3- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 300 الباب 16 الحديث 3.
4- مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الجواب:

لابد أن يعلم أنه إن كان المقصود من الحكمة هي العلة التامة، فلا يعلم العلة التامة الا الله جل وعلا.

أما إن كان المقصود منها الحكمة أو الفائدة فنقول: هناك فوائد كثيرة:

أولاً: إن انتظار الفرج بمعنى ترقب ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف في كل زمان، يستوجب -في ما يستوجب- أن يكون المؤمن متهيأً للظهور في أية لحظة، وهذا يناسبه عدم التوقيت، بحيث يتوقع المؤمن الظهور في أية لحظة، على غرار ما ورد «فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً»(1)

ثانياً: إن الظهور ممكن جداً في العصر الراهن، بدليل الروايات الشريفة التي تصرح بأن ظهور الإمام هو أمر مخفي ويحصل فجأة، من قبيل «فليعمل كل امرئٍ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة، حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة»(2).

ومن قبيل «يصلح الله له أمره في ليلة».(3)

ثالثاً: إن التوقيت يولد اليأس والإحباط، وهذا أمر وجداني، فلو علمت يقيناً بأن الظهور سوف يكون في سنة 3000 ميلادية، فإن اليأس سيدب أكيداً في ذهني ويمنعني من العمل على تهيئة الظروف المناسبة للظهور، فإني أكيداً لن أدركه.

ورابعاً: لو علم الشخص بأن وقت الظهور مثلاً هو في عام 2050 فإن إمكانية انحراف الشخص عن سبيل الشريعة وارد جداً، وإذا دعوته إلى التوبة لأخبرك بأنه

ص: 361


1- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 337 الباب 23 الحديث 10.
2- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 323 – 324.
3- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 152 الباب 6 الحديث 13.

سيتوب قبيل الظهور! وهذا المعنى يكون أوضح إذا نظرنا إلى قضية الموت.

الأمر الثاني: إن الظهور حيث إنه لم يحدد وقته، فسيكون الظهور مفاجأة وبغتة.

وهو أمر أكّدته الروايات كثيراً.

روي أن النبي صلی الله علیه وآله قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال صلی الله علیه وآله و سلم: مثله مثل الساعة التي ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾(1).(2)

وعن أبي حمزة الثمالي أنه سئل الإمام الباقر علیه السلام عن قوله تعالى: «﴿حَتَّىٰ إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾(3)، فقال: يعنى قيام القائم».(4)

وفي مكاتبة الإمام المهديf للشيخ المفيد رحمه الله:...فليعمل كل امرئٍ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة.(5)

وهذا الأمر في الحقيقة سيمثل واحداً من الضمانات لانتصار الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، إذ لا شك أن غفلة العدو، وتناسيه أمر المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، سيعطي فرصة مواتية للإمام وأصحابه بالانقضاض على مراكز القوة لدى العدو، وتهديم بنيانه من الأساس.

وهو ما حدث في غزوة بني النضير كما حكى القرآن لنا ذلك في قوله عز من قائل: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي

ص: 362


1- الأعراف 187
2- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 373.
3- الأنعام 44
4- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 98.
5- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 323 – 324.

قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾.(1)

ولعنصر المباغتة فوائد مزدوجة:

الأول: عنصرُ قوةٍ في المجال العسكري للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

الثاني: عنصرُ إنذارٍ للذين ابتعدوا عن الطريق الصحيح، فالتشيع الحقيقي لا يقتصر على الادعاء والأقوال المجردة عن واقعٍ يصدقها؛ إذ إنَّ الدين كلَّه عملٌ يجسد العقيدة، وليس الإيمان قول بلا عمل، بل إن الإيمان عمل كله، فعلى من يدّعي التشيع أن يعجل بالتوبة وأن يستمر بالسير على الصراط المستقيم، إذ لعل الظهور يحدث فجأة وهو في غفلة لو كان عاصياً.

الضمان الثالث: التركيبة الاستثنائية للقيادة والجيش.

اشارة

فهي على مستوى عالٍ من القوة والانضباط والإيمان والجهاد، وكلُّ هذه الأمور تؤدي إلى جيشٍ قوي لا يُقهر. وفي هذه القضية جهتين:

الجهة الأولى: شخصية القائد:

لا شك أنَّ شخصية القائد لها تأثير مباشر إيجابي أو سلبي على الجيش، فإذا كانت شخصيةً فذة وكان القائد قائدًا محنكًا لا يخاف فإنَّ الجيش ستكون معنوياته قوية جدًا، والعكس بالعكس.

فلا يختلف اثنان في أن هناك صفات واقعية إذا ما توفرت في القائد، فإن من شأنها أن تولّد إخلاصاً لا مثيل له في الأفراد، مما يجعلهم مستعدين للتضحية من أجل قضيتهم، سواء بالأموال أم بالأنفس.

وشخصية المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف احتوت على الكثير من الصفات تلك، ومن أهمها التالي:

ص: 363


1- الحشر: 2.

الصفة الأولى: العصمة: وهذه الصفة وإن كانت مختصة بمن يعتقد بها في الإمام، لكنها على كل حال ستفرز سلوكاً اجتماعياً مميزاً، يجعل كل من يراه يطمئن قلبه له، على غرار ما روي عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن الرضا علیه السلام يقول: «رحم الله عبداً أحيىٰ أمرنا»، فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: «يتعلَّم علومنا ويُعلِّمها الناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا...»(1).

وهذه سيرة أهل البيت علیهم السلام، تشهد بصراحة على أن سلوكهم الاجتماعي المعصوم كان من أهم الأسباب التي أدت إلى اطمئنان المخالفين لهم إن لم نقل هدايتهم والانضواء تحت لوائهم.

والعصمة تنضوي في حقيقتها على علمٍ لدني، ينكشف معه الواقع للمعصوم، وهذا ما يفرز سلوكاً مزدوجاً ذا أثرين:

الأثر الأول: إنه يولّد لدى الأتباع إحساساً بمراقبة الإمام الدائمة والمستمرة لهم، خصوصاً مع تصريح الروايات بهذا المعنى.

الأثر الثاني: إنّه يولّد إحساساً بالاطمئنان بأن الأتباع هم في عين قائدهم، وهو يتابع أمورهم باستمرار، فينامون قريري العيون بتلك المتابعة.

الصفة الثانية: الإنصاف: فقد ذكرت بعض الروايات الشريفة أن من أنصافه عجل الله تعالی فرجه الشریف أنه سيشترط شروطاً على أصحابه، في قبال التزامات يُلزم بها نفسه، وهذا من الإنصاف الذي قلما يوجد عند قائد، فقد روي أنه علیه السلام يقول لأصحابه: «إني لست قاطعاً أمراً حتى تبايعوني على ثلاثين خصلة تلزمكم، لا تغيرون منها شيئاً، ولكم علي ثمان خصال.

قالوا: قد فعلنا ذلك، فاذكر ما أنت ذاكر يا بن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، فيخرجون معه إلى

ص: 364


1- معاني الأخبار للصدوق: 180/ باب معنىٰ قول الصادق علیه السلام: من تعلَّم علماً ليماري به السفهاء.../ ح 1.

الصفا، فيقول: أنا معكم على أن لا تولوا، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا محرماً، ولا تأتوا فاحشة، ولا تضربوا أحداً إلا بحقه، ولا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا تبراً ولا شعيراً، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تشهدوا بغير ما تعلمون، ولا تخربوا مسدداً، ولا تقبحوا مسلماً، ولا تعلنوا مؤاجراً إلا بحقه، ولا تشربوا مسكراً، ولا تلبسوا الذهب ولا الحرير ولا الديباج، ولا تبيعوها رباً، ولا تسفكوا دماً حراماً، ولا تغدروا بمستأمن، ولا تبقوا على كافر ولا منافق، وتلبسون الخشن من الثياب، وتتوسدون التراب على الخدود، وتجاهدون في الله حق جهاده، ولا تشتمون، وتكرهون النجاسة، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر.

فإذا فعلتم ذلك فعلي أن لا أتخذ حاجباً، ولا ألبس إلا كما تلبسون، ولا أركب إلا كما تركبون، وأرضى بالقليل، وأملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأعبد الله عز ودجل حق عبادته، وأفي لكم وتفوا لي.

قالوا: رضينا واتبعناك على هذا.

فيصافحهم رجلاً رجلاً.»(1)

الصفة الثالثة: التعامل الحازم مع خوارق النظام.

عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «بينا الرجل على رأس القائم يأمره وينهاه إذ قال: أديروه، فيديرونه إلى قدامه فيأمر بضرب عنقه، فلا يبقى في الخافقين شيء إلا خافه».(2)

الصفة الرابعة: المنهجية المتكاملة لبناء الدولة.

والتي تشمل:

1/منهج الطاعة المطلقة لله عزوجل.

ص: 365


1- عقد الدرر في أخبار المنتظر ليوسف بن يحيى المقدسي ص 93 و 94.
2- الغيبة للنعماني ص 345 و 346 ب13 ح 32.

2/منهج اليقين.

3/المنهج العلمي.

4/المنهج الأخلاقي.

5/المنهج الاقتصادي.

6/منهج الأمن العام.

7/ منهج الصحة العامة.

وكل هذه الجهات صرحت بها الروايات الشريفة، وعلى من يحب التوسع مراجعة الروايات الواردة بشأن بركات الدولة المهدوية.(1)

الجهة الثانية: الجيش.
اشارة

وجيش الإمام سيكون مركبًا من:

القسم الأوَّل: أصحاب الألوية:

وهم الأصحاب الذين يبدأ الإمام معهم نهضته، وهم ال- (313) رجلاً.

قال الإمام الصادق علیه السلام لمفضَّل بن عمر: «كأنّي أنظر إلىٰ القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف علىٰ منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثة مائة وثلاثة عشر رجلاً، عدَّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه علىٰ خلقه»(2).

القسم الثاني: الجيش الذي سيخرج به من مكّة المكرَّمة:

وقد اختلفت الروايات في تحديد عدده بين (10) أو (12) أو (15) ألفاً.

ص: 366


1- للتوسع يمكن مراجعة كتاب: في رحاب حكومة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف للشيخ نجم الدين الطبسي- ترجمة الشيخ أحمد وهبي- مطبعة نكارش- الطبعة الأولى سنة النشر 1425 ه-.ق. ص 71 وما بعدها.
2- كمال الدين للصدوق: 672 و673/ باب 58/ ح 25.

ورد عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف حتَّىٰ يكون تكملة الحلقة»، قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: «عشرة آلاف...» (1).

وقد روىٰ السيِّد ابن طاووس في (الملاحم والفتن)(2)

عن ابن زرير الغافقي أنَّه سمع عليّاً علیه السلام يقول: «يخرج المهدي في اثني عشر ألفاً إن قلوا، وخمسة عشر ألفاً إن كثروا...».

يُضاف إلى ذلك من سيلتحق به في قادم الأيام، كالحسني وجيشه، وأمثاله، وبقية المؤمنين.

الضمان الرابع: مساندة العنصر الغيبي لتلك القضية:

اشارة

صحيح أن الصفة العامة لحركة التغيير المهدوية هي الصفة الطبيعية، أي اتخاذ الإجراءات العملية بصورة طبيعية لا إعجازية، وهذا الأمر هو ما قد يكون من أسباب تأخر اليوم الموعود إلى حين اكتمال التهيئة الطبيعية بعناصرها المختلفة (الزمنية والبشرية)، وهو ما قد تشير له بعض الروايات الشريفة، من قبيل ما ورد عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: لا يخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف حتى يكون تكملة الحلقة. قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: عشرة آلاف..».(3)

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «ليعدن أحدكم لخروج القائم ولو سهما..».(4)

إن هذا كله صحيح.

ص: 367


1- الغيبة للنعماني: 319 و320/ باب 19/ ح 2.
2- الملاحم والفتن لابن طاووس: 138/ ح 158.
3- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 320.
4- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ص 335.

ولكن مع ذلك، نجد أن السنة الإلهية اقتضت أن يكون هناك تأييد غيبي للحركات الرسالية، وهذا التأييد له عدة مبررات، يمكن إجمالها بالتالي:

أولاً: قد يقتضي إثبات الحق في بعض الأحيان قدرات غيبية، حينما تعجز القدرات الطبيعية عن إنجاز ذلك.

ثانياً: إنها تزيد من قوة الأتباع وإصرارهم وثباتهم على مبدئهم، فإن رؤيتهم للعنصر الغيبي بين يدي قائدهم يطمئنهم بأن الغيب معهم، وبأن قوة -أعلى من قوة أي إنسان وأية قوة- تسير معهم وبجانبهم.

ثالثاً: إن الإعجاز خير دليل على حقانية الحركة، لذلك كانت المعجزة هي أول ما يطالب به الناس الأنبياء إبان دعواتهم الإلهية.

أو قل: إنها فيصل مهم يميز الحركة الحق من الأخرى الكاذبة، ولذلك يمكننا أن نطالب من يدّعي المهدوية بما لا يستطيع أن يأتي به إلا من عنده تأييد إلهي غيبي، على غرار ما ورد عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «...إن ادَّعى مدعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله».(1)

وأوضح ما ورد في ذلك ما جاء في إقامة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف المعجزة الواضحة للحسني عندما يطالبه بها لإثبات أنَّه الحقّ.(2)

وكل هذا يولّد نقطة قوة لا مثيل لها في أية حركة تصاحبها المعجزة، أو قل: يصاحبها التأييد الغيبي.

والقضية المهدوية شأنها شأن الحركات التغييرية للأنبياء، ستقوم وفق القانون الطبيعي، لكن العنصر الغيبي سيكون حاضراً فيها بصورة واضحة جداً، وهو ما

ص: 368


1- الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.
2- راجع: الهداية الكبرى: 404.

حدّثتنا به روايات الملاحم وعصر الظهور.

المفردة الأولى: الصيحة:

فإن عنصر التأييد الغيبي فيها واضح جداً، فالمنادي بها هو جبرئيل علیه السلام، والصوت يصل إلى الجميع في لحظة واحدة، بل ويفهمها الجميع مرة واحدة، والصوت يوضح وبصراحة أن الحق هو مع المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .(1)

المفردة الثانية: الخسف في البيداء.

فعندما يلحق جيش السفياني بالمهدي، يؤمر به، فيُخسف به في البيداء بين مكة والمدينة، وهي علامة إعجازية بحتة.

المفردة الثالثة: الرعب:

ففي الرواية عن أبي جعفر علیه السلام: «...يسير الرعب أمامه شهرا وخلفه شهرا...».(2)

وعن علي علیه السلام: «...ويسير الرعب بين يديه...».(3)

المفردة الرابعة: بعض خصائص الإمام علیه السلام:

1/ عدم تغيّر هيأته وقوَّته بمرور الدهور والسنين، وخروجه يوم يخرج شاباً كأقوىٰ ما يكون الإنسان، وإن كان عمره أكبر من عمر أيّ شيخ موجود:

فعن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا علیه السلام: ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أن يكون شيخ السنّ، شابّ المنظر، حتَّىٰ أنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين

ص: 369


1- غيبة النعماني/ باب 14.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 52 - ص 343 عن تفسير العياشي ج2 ص 59
3- الملاحم والفتن - السيد ابن طاووس - ص 138 عن نعيم.

سنة أو دونها، وإنَّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتَّىٰ يأتيه أجله»(1).

ولذا، فمن فتن وامتحانات الظهور هو خروج الإمام علیه السلام شابَّاً وهم يظنّونه شيخاً كبيراً، فعن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «لو قد قام القائم لأنكره الناس، لأنَّه يرجع إليهم شابَّاً موفَّقاً، لا يثبت عليه إلَّا من قد أخذ الله ميثاقه في الذرّ الأوَّل»، وفي غير هذه الرواية أنَّه قال علیه السلام: «وإنَّ من أعظم البلية أن يخرج إليهم صاحبهم شابَّاً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً»(2).

2/ تظليل غمامة علىٰ رأسه الشريف دائماً، وصوت من تلك الغمامة يسمعه الثقلان بأنَّ هذا مهدي آل محمّد، وبعض الروايات قالت بأنَّ المنادي بذلك الصوت هو ملك، ولا منافاة بين الروايتين كما هو واضح.

فعن الإمام الصادق علیه السلام: «... يظهر في آخر الزمان [و]علىٰ رأسه غمامة تظلّه من الشمس تدور معه حيثما دار تنادي بصوت فصيح هذا المهدي»(3).

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه»(4).

وفي رواية أُخرىٰ عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «يخرج المهدي وعلىٰ رأسه ملك ينادي: ألَا إنَّ هذا المهدي فاتَّبعوه»(5).

3/عنده مواريث الأنبياء(6)،

ومن تلك المواريث ما صفته إعجازية كعصا موسى

ص: 370


1- كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 12.
2- الغيبة للنعماني: 194 و195/ باب 10/ فصل 4/ ح 43.
3- كشف الغمَّة 3: 275.
4- كشف الغمَّة 3: 270/ ح 16.
5- الصراط المستقيم 2: 259/ ح 1.
6- انظر لتفاصيل تلك المواريث: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الاسدي- الشذرة السادسة.

ودرعي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فإنَّ هناك درعان ذكرتهم الروايات، أحدهما: يسمى ب(درع الإمامة)، ولا يلبسه إلا المعصوم، فإذا ما لبسه غير المعصوم لا يستوي عليه، وأما الدرع الآخر: فيسمى ب(درع الخاتمية)، وهذا لا يستوي إلا على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والإمام المهدي عجل الله فرجه الشریف، وقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام يذكر فيها بعض مواريث الأنبياء التي ورثها أهل البيت علیهم السلام : «ولقد لبس أبي درع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فخطَّت علىٰ الأرض خطيطاً، ولبستها أنا فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله»(1).

المفردة الخامسة: نصرته بالملائكة.

وهو ما ذكرته الروايات الكثيرة أيضًا، فعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي علیهما السلام يقول: «لو قد خرج قائم آل محمّد صلی الله علیه وآله وسلم لنصره الله بالملائكة المسوّمين والمردفين والمنزلين والكرّوبيين، يكون جبرائيل أمامه، وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، والرعب يسير مسيرة شهر أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، والملائكة المقرَّبون حذاه...»(2).تذكر

بعض الروايات الشريفة

أنَّ مجموعة من الملائكة نزلوا لنصرة الإمام الحسين علیه السلام، ولكنَّهم لم يُؤذَن لهم، وكان رئيسهم اسمه (منصور)، وأنَّهم ينتظرون قيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف لينصروه وليكونوا معه.

وعن الإمام الصادق علیه السلام : «... وأربعة آلاف هبطوا يريدون القتال مع الحسين علیه السلام لم يُؤذَن لهم، فرجعوا في الاستيمار، فهبطوا وقد قُتِلَ الحسين علیه السلام، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلىٰ يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلَّا استقبلوه، ولا يُودِّعه مودِّع إلَّا شيَّعوه، ولا مريض إلَّا عادوه، ولا يموت ميِّت إلَّا صلّوا عليه

ص: 371


1- الكافي 1: 233/ باب ما عند الأئمَّة من سلاح رسول الله 9 ومتاعه/ ح 1.
2- الغيبة للنعماني: 239 و240/ باب 13/ ح 22.

واستغفروا له بعد موته، فكلُّ هؤلاء ينتظرون قيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف...»(1).

وغيرها من الروايات.

المفردة السادسة: إحياء بعض الموتى وحضورهم في ركبه عجل الله تعالی فرجه الشریف:

عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «يُخرِج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسىٰ علیه السلام الذين كانوا يهدون بالحقّ وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكّاماً»(2).

وموضوع الرجعة موضوع مستقل، لذلك أفرده الشيخ رحمه الله ببحث خاص.

ص: 372


1- الغيبة للنعماني: 323/ باب 20/ ح 5.
2- الإرشاد 2: 386.

عقيدتنا في الرجعة

اشارة

قال سماحة الشيخ المظفر (رحمه الله وطيّب ثراه):

«عقيدتنا في الرجعة:

إنّ الذي تذهب إليه الإمامية أخذاً بما جاء عن آل البيت علیهم السلام أنّ الله عزوجل يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيُعِزُّ فريقاً ويُذِلُّ فريقاً آخر، ويديل المُحقين من المُبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله عزوجل في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المُرتجعين الذين لم يُصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أنْ يخرجوا ثالثاً لعلهم يُصلحون: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾.

نعم قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة.

والإمامية بأجمعها عليه إلا قليلون منهم تأولوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى.

والقول بالرجعة يُعدُّ عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها،

ص: 373

وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يُعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها.

ويبدو أنّهم يُعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم.

ولا شكَّ في أنَّ هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده.

ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل، لأنَّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوة، بل يؤكد صحة العقيدتين، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله عزوجل كالبعث والنشر، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزةً لنبينا محمد وآل بيته (صلى الله عليه وعليهم) وهي عيناً معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح علیه السلام، بل أبلغ هنا؛ لأنّها بعد أنْ يصبح الأموات رميماً ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾

وأما من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل، فلأنّه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإن معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإن معناه رجوع نفس البدن الأول بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة.

وإذا كانت الرجعة تناسخاً فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى علیه السلام كان تناسخاً، وإذا كانت الرجعة تناسخاً كان البعث والمعاد الجسماني تناسخاً.

إذن، لم يبقَ إلا أنْ يناقش في الرجعة من جهتين (الأولى) أنّها مستحيلة الوقوع (الثانية) كذب الأحاديث الواردة فيها.

وعلى تقدير صحة المناقشتين فإنّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي

ص: 374

هو لها خصوم الشيعة.

وكم من معتقداتٍ لباقي طوائف المسلمين هي من الأمور المستحيلة أو التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنّها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الإسلام، ولذلك أمثلةٌ كثيرةٌ: منها الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن، ومنها القول بالوعيد، ومنها الاعتقاد بأنّ النبي لم ينص على خليفة من بعده.

على أنَّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة، أما أنّ الرجعة مستحيلةٌ فقد قلنا أنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني غير أنّها بعثٌ موقوتٌ في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليلٌ على إمكانها.

ولا سبب لاستغرابها إلا أنّها أمرٌ غير معهودٍ لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقربها إلى اعترافنا أو يبعدها وخيال الإنسان لا يسهل عليه أنْ يتقبّل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ فيقال له: ﴿يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.

نعم في مثل ذلك، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات كمعجزة عيسى علیه السلام في إحياء الموتى ﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾، وكقوله عزوجل: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ والآية المتقدمة: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ..﴾، فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإنْ تكلّف بعض المفسرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يُحقِّق معنى الآية.

وأما المناقشة الثانية، وهي دعوى أنَّ الحديث فيها موضوع، فإنّه لا وجه لها؛ لأنّ الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة.

ص: 375

وبعد هذا، أفلا تعجب من كاتب شهير يدعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول: «فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة»، فأنا أقول له على مدعاه: فاليهودية أيضاً ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة.

ونزيده فنقول: والحقيقة أنّه لا بُدّ أنْ تظهر اليهودية والنصرانية في كثيرٍ من المعتقدات والأحكام الإسلامية؛ لأنّ النبي الأكرم جاء مصدقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية وإنْ نسخَ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ليس عيباً في الإسلام، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كُلِّ حالٍ فالرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنّما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت علیهم السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الأمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.» انتهى.

أشار الشيخ إلى عدة نقاطٍ نتناولها بشيءٍ من التوضيح تباعًا، وهي:

النقطة الأولى: معنى الرجعة.

اشارة

إنَّ الرجعة بعبارة بسيطة هي: رجوع بعض الأموات بأجسادهم التي دُفِنوا بها إلى دار الدنيا عند ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؛ ليُكملوا حياةً أخرى لهم من النقطة التي ماتوا عندها، لا من نقطة الصفر.

فتختلف رجعة الإنسان عن ولادته في أن الولادة هي خروج من رحم الأم ومن نقطة الصفر، ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.(1)

ص: 376


1- النحل 78

كما تختلف عن البعث يوم القيامة من عدة جهات، منها: أنّها خاصة، ورجوعٌ إلى عالم الدنيا، ومتبوعةٌ بالموت، أما البعث فهو عام لجميع البشرية التي وجدت على وجه الأرض بل حتى الحيوانات، ولا يكون إلا في عالم الآخرة، وهو يوم الخلود.

وتختلف أيضًا عن التناسخ الذي يعتقد به البعض؛ لأنَّ التناسخ يعني تحول وانتقال الروح إلى جسمٍ جديد إنساني أو حيواني، ويبدأ التكامل من نقطة الصفر، على حين أنَّ الرجعة هي رجوعُ الروح إلى نفس الجسد الذي خرجت منه لا إلى غيره، وترجع إليه وهو بنفس الحالة الكمالية التي كانت عندما خرجت الروح منه.

تفسيرٌ آخر للرجعة ومناقشته:

حاول البعض أنْ يفسر الرجعة بتفسيرٍ غير ما تقدّم، وخلاصته: رجوع الحق والإمامة إلى أصحابها الشرعيين أهل البيت علیهم السلام في زمن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، لا رجوع الأموات إلى الحياة.

وهو تفسيرٌ ليس وليد اليوم، إنَّما يظهر من بعض الروايات الشريفة أنَّه موجود في زمن الأئمة علیهم السلام، وقد أطلق الإمام الصادق علیه السلام على من يقول بهذه المقولة من الشيعة (مقصرة الشيعة).

وهو تفسيرٌ مخالفٌ لصريح الروايات الشريفة لاسيما تلك الروايات التي شخّصت بعض الأفراد بأنَّهم سيرجعون زمن ظهور الإمام علیه السلام.

روي أنَّ الإمام الصادق علیه السلام سأل المفضل بن عمر: «فمن أين قلت برجعتنا ومقصرة شيعتنا أن معنى الرجعة أن يرد الله الينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي، ويحهم متى سلبنا الملك حتى يرد إلينا.

قال المفضل: لا والله يا مولاي ما سلبتموه ولا تسلبونه لأنه ملك النبوة والرسالة

ص: 377

والوصية والإمامة.

قال الصادق علیه السلام: يا مفضل، لو تدبر القرآن شيعتنا لما شكُّوا في فضلنا، أما سمعوا قول الله جل من قائل: ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتىٰ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلىٰ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1)،

فأخذ إبراهيم علیه السلام أربعة أطيار فذبحها وقطعها وأخلط لحومها وريشها حتى صارت قبضة واحدة ثم قسّمها أربعة اجزاء وجعلها على أربعة أجبال ودعاها فأجابته وأقرت وأيقنت بوحدانية وبرسالة إبراهيم بصورها الأولية..».(2)

وأخذ الإمام علیه السلام يعدد بعض الآيات التي تدل على وقوع الرجعة في الأمم السابقة...

النقطة الثانية: القيمة الاعتقادية للرجعة.

إنَّ الاعتقاد بالرجعة لا يُعدُّ أصلًا من أصول الدين بحيث يكفر منكرها أو يخرج عن المذهب فيما إذا كان إنكاره لها عن شبهةٍ أو عن شيءٍ اعتقد به دليلًا على عدم وقوعها.

وبعبارةٍ أخرى: لو قال شخصٌ بعدم ثبوت أدلة الرجعة عنده، فلا يكفر ولا يخرج عن المذهب؛ لذلك تجد أنَّ هناك خلافًا في إثباتها أو نفيها بين العلماء. وبهذا الاعتبار، فلا يصح جعلها مفصلًا يكفر عليها الإنسان إثباتًا أو نفيًا.

نعم، إن كان إنكارها راجعًا إلى إنكار قدرة الله عزوجل عليها، أي استلزم إنكارها إنكار قدرتهسبحانه تعالی على إحياء الموتى، فهذا يستلزم الكفر، ولكن لا من جهة إنكار الرجعة بما هي هي، ولكن لاستلزامها إنكار صفةٍ ذاتيةٍ من صفاته عزوجل وهي القدرة الثابتة عقلًا ونقلًا.

ص: 378


1- البقرة 260
2- الهداية الكبرى للخصيبي ص419 و 420.

والقول بعدم ترتب الكفر على منكر الرجعة لا يعني أنَّها ليست من المسائل العقائدية الضرورية، بل هي ضرورية؛ للأدلة المتواترة التي أقيمت عليها، بل أشار السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان إلى أنَّ الروايات الدالة على الرجعة قد بلغت ما يقرب من الخمسمائة رواية.(1)

وقال في موضع آخر: وأخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا.(2)

وقال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها: «ليس التديُّن بالرجعة في مذهب الشيعة بلازمٍ ولا إنكارها بضارٍ، ولا يُناط التشيع بها وجودًا وعدمًا، وليست هي إلا كبعض أنباء الغيب وحوادث المستقبل وأشراط الساعة مثل نزول عيسى من السماء وظهور الدجال وخروج السفياني وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين وما هي من الإسلام في شيء، وليس إنكارها خروجًا منه ولا الاعتراف بها بذاته دخولًا فيه وكذا حال الرجعة عند الشيعة».(3)

النقطة الثالثة: هل الرجعة أمر ممكن أو مستحيل؟

اشارة

إننا نحكم ببطلان عقيدةٍ ما إذا كانت متصفةً بإحدى صفتين:

الأولى: أن تكون مخالفةً لضرورة عقلية.

كقول النصارى: إنَّ الله عزوجل في عين كونه واحدًا هو ثلاثة (الأب والابن وروح القدس)، وكادعاء بعض المجسمة -ومنهم الوهابية- أنَّ لله عزوجل يدًا مادية وعينًا مادية وما شاكل ذلك، فإنَّ هذا يستلزم التركيب والجسمية والمحدودية، مما يعني وجود الله عروجل في مكانٍ دون آخر، وهو محالٌ؛ لأنّ التركيب والجسمية والمحدودية من صفات الإمكان،

ص: 379


1- تفسير الميزان للطباطبائي ج2 ص 106.
2- تفسير الميزان للطباطبائي ج15 ص 406.
3- أصل الشيعة وأصولها- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء- ص167

وهو (جلّ في علاه) واجبٌ. تعالى الله عما يصفون علوًا كبيرًا.

الثانية: أن تكون مخالفةً لضرورةٍ نقلية.

كادعاء أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم يهجر أو يخطئ؛ لأنه مخالفٌ لقوله عزوجل: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾(1)

وليس في الرجعة ما يخالف ضرورة نقلية ولا عقلية.

بل إنَّ العقل والنقل دلّا على إمكان البعث يوم القيامة، وهو رجوعٌ بصورةٍ شاملة وعامة وأكثر وأعقد من الرجعة، فكلُّ من آمن بالبعث والمعاد يلزمه أن يقول بإمكان الرجعة.

النقطة الرابعة: هل الرجعة أمرٌ واقعٌ خارجًا أو إنه باقٍ في حيز الإمكان؟

إنَّ الرجعة وقعت في الأمم السابقة، وما دامت وقعت سابقًا فلا مانع من وقوعها في المستقبل، خصوصًا مع ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة»، وفي روايةٍ أخرى: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».(2)

وهناك أدلةٌ قرآنيةٌ كثيرة تدلُّ على وقوع الرجعة في الأمم السابقة، منها ما يأتي(3):

ألف: في ما يتعلق بالنبي الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال: أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم أحياه فقال له: كم لبثت؟! قال: لبثت يوما أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام. [مؤدى الآية 259 - من سورة البقرة]. وسواء كان هذا النبي عزيراً أم سواه، فلا فرق في ذلك، المهم أن القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله

ص: 380


1- النجم 4 و 5.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 1.
3- انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 12 - ص 142 – 144.

مئة عام ثم بعثه!

ب - يتحدث القرآن - في الآية (243) من سورة البقرة ذاتها - عن جماعة أخرى خرجت من ديارها خوفا من الموت، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجة مرض الطاعون، فأماتها الله ثم أحياها ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ وبالرغم من أن بعض المفسرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة، وعدوها مثالا فحسب، إلا أن من الواضح أن مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية - بل صراحتها - لا يمكن المساعدة عليه!

ج - وفي الآيتين 55 و 56 من سورة البقرة أيضاً، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون.

د - ونقرأ في الآية (110) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾. ويدل هذا التعبير على أن المسيح علیه السلام أحيا الموتى فعلا، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدل على أنه أحيا الموتى مرارا، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعا من الرجعة لبعضهم!

ه - وأخيرا ففي الآيتين (72) و (73) من سورة البقرة، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة - الواردة خصائصها في الآية 71 و 72 - إذ يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتىٰ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها، فهناك مواطن أخر في القرآن،

ص: 381

منها قصة أصحاب الكهف، وهي قصة تشبه الرجعة. وقصة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعيا بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءا منهن، ليتضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسدا برجوع هذه الطيور إلى الدنيا.

النقطة الخامسة: استدلال آخر على الرجعة قرآنيًا.

اشارة

من الأدلة التي استُدِلَ بها على الرجعة هي الآية القرآنية التي تحكي حال بعض الناس مع الله عزوجل: ﴿قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾(1)

ببيان:

إنَّ هؤلاء يتكلمون مع الله عزوجل بقولهم: ﴿رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ والإماتة الأولى وقعت في الحياة الدنيا، وأنهت حياتهم الأولى، وبعد ذلك رجعوا إلى الدنيا، ومن ثم أماتهم الله عزوجل مرةً ثانية، وهذه الإماتة أيضًا وقعت في الحياة الدنيا، وأنهت حياتهم الثانية فيها. وبعد أن ماتوا أعاد الله عروجل لهم الحياة مرة ولكن هذه المرة في الحياة الأخروية.

وبذا كانت هناك إماتتان وإحياءان، ومعنى الآية لا يستقيم إلا بالقول بالرجعة. وهذا ما اشار إليه الشيخ رحمه الله في عبارة كلامه، حيث قال: «كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون:﴿قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾.»

ثم أشار (طيّب الله ثراه) إلى أنَّ البعض قد حاول أنْ يناقش في هذه الآية ويفسرها بتفسيرٍ آخر لا يتلاءم مع الرجعة، ومن هذه التفاسير ما نقله فخر الدين الطريحي في

ص: 382


1- غافر 11.

تفسير غريب القرآن:

التفسير الأول:

قال: «فالموتة الأولى: كونهم نطفا في أصلاب آبائهم لأن النطفة ميتة، والحياة الأولى إحياء الله إياهم من النطفة، والموتة الثانية إماتة الله إياهم بعد الحياة، والحياة الثانية إحياء الله إياهم للبعث فهاتان موتتان وحياتان.»(1)

وهذا التفسير غير مقبول؛ لأنّه لا يُقال عن النطفة في صلب الرجل إنَّها ميتة؛ لأنَّ الموتَ يكون عن حياة، أي هناك حياةٌ تسبق الموت، والعلم أثبت أنَّ النطفة ليست ميتة.

التفسير الثاني:

إنَّ الحياة الأولى هي حياتهم في عالمِ الذر، وبعد عالم الذر ماتوا الموتة الأولى، ثم صار عندهم حياة في الدنيا ثم ماتوا، حيث نقل الطريحي: «وقيل: إن الموتة الأولى التي كانت بعد إحياء الله إياهم في الذر إذ سألهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىٰ﴾(2)، ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم بإخراجهم إلى الدنيا، ثم أماتهم ثم يبعثهم الله إذا شاء، فهذه موتتان وحياتان».(3)

وهذا التفسير أغرب من سابقه كما هو واضح.

النقطة السادسة: محاولة الكيد بالتشيع من خلال القول بالرجعة.

حاول البعض (مثل أحمد أمين المصري في كتابه فجر الإسلام) أنْ ينكر القول بالرجعة ويحاول الكيد بالتشيع فيقول: فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة.(4)

والحال أنَّه مع إمكانها وتصريح القرآن بوقوعها لا مجال لإنكارها، وأما اعتقاد

ص: 383


1- تفسير غريب القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي ص 138.
2- الأعراف 172
3- تفسير غريب القرآن للشيخ فخر الدين الطريحي ص 138.
4- راجع: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج1 ص55.

اليهود بها فلا يبطل حقانيتها، فإنَّ الذي يمكن أنْ يُشنَّع به على أحد هو الاعتقاد بالباطل، أما إذا كان اعتقادًا صحيحًا فلا.

وإلا فاليهود يعتقدون بوجوب الختان والذبح بالسكين أيضًا، أفمن اللازم أنْ نتخلى عن تلك الأحكام لاعتقادهم بها، بل هم يعتقدون أيضًا بأن الله عزوجل هو الخالق، أفنكفر بذلك لنظفر برضا أحمد أمين وأمثاله قليلي العقل والمنطق؟!

ثم لا أدري كيف يجيب أحمد أمين وأمثاله على أمر عمر بن الخطاب بالتكتف في الصلاة وجعله واجبًا بعد أنْ شاهده عند مجموعةٍ من اليهود تبجيلًا لعظمائهم، فاستحسنه وحمله على المسلمين في صلاتهم!

النقطة السابعة: ما هي فلسفة الرجعة؟

ذكر العلماء العديد من النكات والحكم للرجعة في الدنيا، نذكر منها:

1 – هي دليلٌ آخر على إمكان وقوع البعث يوم القيامة.

2 – هي فرصةٌ لتكامل المؤمنين الذي حالت الظروف دون وصولهم إلى كمالهم الذي كان من الممكن أن يصلوا إليه.

3 – هي انتقامٌ معجل لأولئك الظلمة الذين ماتوا من دون أنْ يؤخذ الحق منهم.

4 – إنَّ كثيرًا ممن يرجعون سيكون لهم أدوار مهمة في دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، ولذلك نجد الترابط واضحًا بين الرجعة ودولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف.

النقطة الثامنة: هل ذكرت الروايات الشريفة أسماء بعض الذين يرجعون؟

نعم، والروايات في هذا المجال كثيرة، منها:

عن الإمام الصادق علیه السلام: «أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن

ص: 384

علي علیهما السلام».(1)

وعنه علیه السلام : «إنَّ أول من يكر في الرجعة الحسين بن علي علیه السلام، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتى يسقط حاجباه على عينيه».(2)

وعن الإمام الحسين علیه السلام: «أكون أول من ينشق الأرض عنه، فأخرج خرجة يوافق ذلك خرجة أمير المؤمنين وقيام قائمنا».(3)

وعن الإمام الباقر علیه السلام - لبكير بن أعين: «إنَّ رسول الله صلی اللععلیه وآله وسلم وعليًا سيرجعان».(4)

وعن الإمام الصادق علیه السلام : «كأني بحمران بن أعين وميسر بن عبد العزيز يخبطان الناس بأسيافهما بين الصفا والمروة».(5)

وعن الإمام علي علیه السلام : «...وليبعثنهم الله أحياءً من آدم إلى محمد صلی الله علیه وآله وسلم كل نبي مرسل، يضربون بين يدي بالسيف هام الأموات والأحياء والثقلين جميعًا... وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة، وأنا صاحب الرجعات والكرات وصاحب الصولات والنقمات».(6)

وعن الإمام الباقر علیه السلام: «كأني بعبد الله بن شريك العامري عليه عمامة سوداء وذؤابتاها بين كتفيه مصعدًا في لحف الجبل بين يدي قائمنا أهل البيت في أربعة آلاف مكبرون، ومكرون».(7)

ص: 385


1- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 24.
2- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 18.
3- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 37.
4- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 37.
5- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 25.
6- مختصر بصائر الدرجات - الحسن بن سليمان الحلي - ص 33.
7- اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 481 رقم 390.

وعن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّي سألت الله في إسماعيل أنْ يبقيه بعدي فأبى ولكنه قد أعطاني فيه منزلة أخرى أنَّه يكون أول منشور في عشرة من أصحابه ومنهم عبد الله بن شريك وهو صاحب لوائه».(1)

وفي رواية الإرشاد عن الإمام الصادق علیه السلام : «يُخرج القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلا، خمسة عشر من قوم موسى علیه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكا الأشتر، فيكونون بين يديه أنصارا وحكاما»(2).

وهناك روايات أخرى، نكتفي بهذا القدر منها.

النقطة التاسعة: رجوع الإمام الحسين علیه السلام ودوره؟

اشارة

إنَّ مما أكدته الروايات الشريفة هو رجوع الإمام الحسين علیه السلام، وأنّه أول من سيرجع وتنشق الأرض عنه، ومن تلك الروايات الواردة في هذا المجال ما روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام: «أنّ الحسين علیه السلام قال لأصحابه: «أبشروا بالجنة، فوالله! إنّا نمكث ما شاء الله بعد ما يجري علينا، ثم يخرجنا الله وإياكم حتى يظهر قائمنا، فينتقم من الظالمين وأنا وأنتم نشاهدهم في السلاسل والأغلال وأنواع العذاب».(3)

وورد أنَّ الله عزوجل أخبر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وبشّره بالحسين علیه السلام قبل حمله وأنَّ الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة ثم أخبره بما يُصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده ثم عوضه بأنْ جعل الإمامة في عقبه وأعلمه أنَّه يُقتل، ثم يرده إلى الدنيا وينصره حتى يقتل

ص: 386


1- اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 481 رقم 391.
2- الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص386.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين علیه السلام - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم علیه السلام - ص 498 الحديث 476.

أعداءه ويملكه الأرض وهو قوله عزوجل: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾(1).(2)

وقد ذكر بعض العلماء بأنَّ رجوعه هو من أجل:

1/ الوصول بالأمة إلى هدفه الذي نهض من أجله وحالت الظروف دون وصوله إليه «الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم »...(3)

2/ قيادة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد قتله، ولذلك ذكرت الرواية أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيكون موته بعد استقرار معرفة الناس بأن هذا هو الحسين علیه السلام ...

إن الإصلاح الذي ثار من أجله الإمام الحسين علیه السلام غايته العدل والقسط، وهو ما لم تتح الفرصة المواتية لتحقيقه آنذاك، وهو ما سيتم على يدي المهديf وسيكون للإمام الحسين علیه السلام دور في ذلك أيضاً.

3/ إنه هو الذي يلي أمر الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد وفاته، لأن الوصي لا يلي أمره إلا الوصي.

فهو علیه السلام من سيغسل الإمام المهديf ويلي أمره.

فقد روي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْقَاسِمِ الْبَطَلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله8 فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ قَالَ: قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام وطَعْنُ الْحَسَنِ علیه السلام ﴿ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ قَالَ: قَتْلُ الْحُسَيْنِ علیه السلام ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما﴾ فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ الْحُسَيْنِ علیه السلام ﴿بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ الله قَبْلَ خُرُوجِ الْقَائِمِ عجل الله تعالی فرجه الشریف فَلَا يَدَعُونَ وَتْراً

ص: 387


1- القصص 5.
2- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 2 - ص 297.
3- الشيخ محمد السند في حوار أجرته معه مجلة الإصلاح الحسيني العدد الثاني ص 31.

لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَتَلُوه ﴿وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ خُرُوجُ الْقَائِمِ عجل الله تعالی فرجه الشریف: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ علیه السلام فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِه عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ الْمُذَهَّبُ لِكُلِّ بَيْضَةٍ وَجْهَانِ الْمُؤَدُّونَ إِلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْحُسَيْنَ قَدْ خَرَجَ حَتَّى لَا يَشُكَّ الْمُؤْمِنُونَ فِيه وأَنَّه لَيْسَ بِدَجَّالٍ ولَا شَيْطَانٍ والْحُجَّةُ الْقَائِمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ الْمَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّه الْحُسَيْنُ علیه السلام جَاءَ الْحُجَّةَ الْمَوْتُ فَيَكُونُ الَّذِي يُغَسِّلُه ويُكَفِّنُه ويُحَنِّطُه ويَلْحَدُه فِي حُفْرَتِه الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ علیه السلام،ولَا يَلِي الْوَصِيَّ إِلَّا الْوَصِيُّ.(1)

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف(2)؟

ينبغي علينا في هذا الموضوع أن نُميِّز بين أمرين:

الأمر الأوَّل: مدَّة الدولة المهدوية العادلة:

وهنا يمكن القول بأنَّ الدولة ستبقىٰ إلىٰ يوم القيامة، إذا لاحظنا التالي - مع الالتفات إلىٰ أنَّ المقصود من الدولة المهدوية ما يشمل حكم الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وحكم الأئمَّة علیهم السلام في الرجعة -:

أوَّلاً: ما ورد من أنَّ دولتهم علیهم السلام هي آخر الدول علىٰ الأرض، ممَّا يعني عدم قيام دولة أُخرىٰ بعدها.

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «ما يكون هذا الأمر حتَّىٰ لا يبقىٰ صنف من الناس إلَّا وقد ولّوا علىٰ الناس حتَّىٰ لا يقول قائل: إنّا لو ولّينا لعدلنا، ثمّ يقوم القائم بالحقِّ والعدل»(3).

وعن أبي جعفر علیه السلام، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا

ص: 388


1- الكافي للكليني ج8 ص 206 و 207 ح 250.
2- انظر: على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين الأسدي ص 276 عنوان رقم (105)
3- الغيبة للنعماني: 282/ باب 14/ ح 53.

قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزوجل: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)»(2).

ثانياً: ما ورد من تصريح بكونها ستبقىٰ إلىٰ يوم القيامة، مثل الحديث القدسي الشريف: «ولأُطَهِّرَنَّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأُمَكِّنَّنَه مشارق الأرض ومغاربها، ولأُسَخِّرَنَّ له الرياح، ولأُذَلِلَنَّ له السحاب الصعاب، ولأُرَقِيَّنَّه في الأسباب، ولأنصرنَّه بجندي، ولأمدنَّه بملائكتي حتَّىٰ تعلو دعوتي ويجتمع الخلق علىٰ توحيدي، ثمّ لأديمنَّ ملكه، ولأُداولنَّ الأيّام بين أوليائي إلىٰ يوم القيامة»(3).

ثالثاً: أنَّ قيام دولة أُخرىٰ بعدها يعني رجوع الأرض إلىٰ الظلم والجور ولو بالتدريج، وهذا خلاف ما ورد من أنَّ الأرض ستكون نهايتها بيد الصالحين، الأمر الذي يستدعي قيام مهدي آخر ليُحقِّق هذا الوعد الإلهي، ومن الواضح أنَّه لا مهدي بعد مهدي آل محمّد علیهم السلام.

الأمر الثاني: مدَّة ملك الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف:

والروايات الواردة في هذا المجال جاءت بلفظ: «يملك القائم».

وقد اختلفت الروايات في تحديد تلك المدَّة بين سبع وثمان وتسع وتسع عشرة سنة وأشهراً وسبعين وثلاثمائة وتسع سنين.

وقد يكون سبب اختلاف الروايات في تحديد هذه المدَّة راجعاً إلىٰ أحد الأُمور التالية:

أ - إمكان حصول البداء في هذه المدَّة.

ص: 389


1- الأعراف: 128
2- الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
3- علل الشرائع للصدوق 1: 7/ باب 7/ ح 1.

ب - أنَّ الصحيح منها رواية واحدة في علم الله تعالىٰ ذكرت مدَّة معيَّنة، ولكن نحن لا نعلمها لسبب وآخر.

ج - تعمّد إخفاء أهل البيت علیه السلام المدَّة الحقيقية لسبب ما، ولعلَّه إشارة إلىٰ أنَّه ليس مهمّاً طول الفترة التي يملك بها الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، بل المهمُّ أنَّه سيُثبِّت أركان الدولة العادلة، ليستلمها من بعده من يستمرُّ بها من دون أن يزيغ عن الحقِّ قيد أنملة.

والأرجح من هذه الروايات هي الروايات التي قالت: إنَّه يملك ثلاثمائة وتسع سنين، لأنَّها واردة في كتبنا، وأكثر الروايات الأُخر واردة في كتب العامَّة.

فعن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «إنَّ القائم يملك ثلاثمائة وتسع سنين كما لبث أهل الكهف في كهفهم، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً...»(1).

سؤال: من الذي يلي أمر المعصوم؟

إذا كان الوصي لا يلي أمره إلا الوصي، فعند موت الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف يلي أمره الإمام الحسين علیه السلام، فإن مات الإمام الحسين علیه السلام من الذي يلي أمره؟

لو قيل: يأتي بعده أمير المؤمنين علیه السلام وهو الذي يلي أمره وهكذا، إذا وصلنا إلى آخر معصوم بحيث لا يرجع بعده معصوم آخر ليَلي أمره، فمن الذي يغسله؟

الجواب: نذكر أمرين:

الأول: هل إنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) قاعدة عقلية؟

للتوضيح: القاعدة العقلية هي القاعدة التي لا تختلف ولا تتخلف، كمجموع زوايا المثلث التي تساوي 180 درجة، فلا يمكن أنْ تختلف باختلاف الظروف والزمان والمكان، كما لا يمكن أن تتخلف فيكون مثلثٌ ما من المثلثات مجموع زواياه أقل أو أكثر

ص: 390


1- الغيبة للطوسي: 473 و474/ ح 496.

من 180 درجة. وكاجتماع النقيضين فهو أمرٌ محال، لا يختلف في ذلك ولا يتخلف ولا يقبل الاستثناء.

ومعه، فمن الواضح أنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) هي ليست قاعدة عقلية، وإنَّما هي قاعدة عادية إن صحّ التعبير، بمعنى أننا وجدنا أن من علامات الإمام اللاحق أنه يغسل ويصلي على الإمام السابق، وهو كما ذكر في الروايات الشريفة، لذلك عندما توفي الإمام الحسن العسكري علیه السلام خرج جعفر ليصلي عليه، فخرج الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وكان صبيًا وعمره خمس سنوات وقال: «تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي»، فتأخر جعفر، وقد أربد وجهه واصفر.(1)

فهي قاعدة عاديّة لا عقلية ويمكن أنْ تختلف وتتخلف.

الثاني: نحن نؤمن بأنَّ الله عزوجل سيهيئ شخصًا لائقًا ليلي أمر المعصوم الأخير.

تنبيه:

يظهر من الروايات الشريفة التالي:

1/أن انتظار الفرج بمعناه الصحيح الذي تقدم الكلام عنه تفصيلاً، يجعل المؤمن مهيئاً ومرشحاً ليكون من الراجعين.

2/ صرَّحت بعض الروايات بأنَّ سؤالاً كان يُقلِق مضاجع بعض المؤمنين في زمن المعصومين علیهم السلام، لذلك كانوا قد توجَّهوا للأئمَّة علیهم السلام بالسؤال عنه، وهو أنه ما هو مصير المؤمن المنتظر الذي مات قبل الظهور وهو يأمل أن يُدرك ظهور مولاه الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

وقد ألقىٰ إليهم الأئمَّة جواباً يُثلِج الصدور ويُبرِّد الغليل.

ص: 391


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 475 ب43.

إنَّ المؤمن المنتظر إذا مات قبل ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف فإنَّه سيُبشَّر بذلك وهو في قبره، وقد يُخيَّر في الرجوع إلىٰ الدنيا لنصرة القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف.

وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة، فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام - وهو يتحدَّث عن زمن الظهور المبارك -: «... ولا يبقىٰ مؤمن ميِّت إلَّا دخلت عليه تلك الفرحة في قبره، وذلك حيث يتزاورون في قبورهم ويتباشرون بقيام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف»(1).

وعن المفضَّل بن عمر، قال: ذكرنا القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبد الله علیه السلام: «إذا قام أُتِىٰ المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا! إنَّه قد ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربِّك فأقم»(2).

وفي نفس السياق جاء عن الإمام الباقر علیه السلام: «... وإنَّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولّاها الله لمن يشاء منّا أهل البيت، فمن أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلىٰ، وإن قبضه الله قبل ذلك خار له...»(3).

فقوله علیه السلام: «خار له» يُراد منه ما أشارت له الرواية السابقة من التخيير بين البقاء أو الرجوع، والله العالم.

ص: 392


1- الغيبة للنعماني: 323/ باب 20/ ح 5.
2- الغيبة للطوسي: 458 و459/ ح 470.
3- الغيبة للنعماني: 201/ باب 11/ ح 2.

الحَمدُ لله ربِّ العَالَمِین

ص: 393

ص: 394

المحتویات

عقیدتنا فی الإمامة ... 5

هل الامامة اصلٌ من اصول الدین أو فرعٌ من فروعه ... 7

سبب الختلاف فی کون الامامة أصلاً أو فرعاً ... 8

ماهو الدلیل علی أنّ الامامة اصل من اصول الدین؟ ... 8

مقدمة: ... 8

أدلة كون الإمامة أصلا من أصول الدین: ... 9

منشأ الضرورة في البحث عن الإمامة ... 15

الإمامة لطف من الله تعالی ... 17

نکتة: ... 17

إنّ الإمامة استمرار للنبوة ... 21

اشکالٌ ( الفترة) و جوابه: ... 23

و الجواب: ... 24

نکتة مهدویة: ... 25

استطراد: ... 26

عقیدتنا فی عصمة الإمام ... 29

عقیدتنا فی عصمة الإمام. ... 30

ما الدلیل علی لزوم عصمة الإمام؟ ... 30

ص: 395

لماذا كانت العصمة أمرًا جوهريًا في الإمامة عند الإمامية؟ ... 32

ثالثًا: بطلان التسلسل ... 33

ببيان: ... 33

ملاحظة: ... 34

عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه ... 37

الإشارة الأولى: أنواع كمالات الإمام ... 38

النوع الأول: الكمال البدني او الخَلقي. ... 39

النوع الثاني: الكمال النفسي ... 40

النوع الثالث: الكمال الأخلاقي ... 42

النوع الرابع: الكمال العلمي ... 46

النوع الخامس: الكمال الغيبي ... 48

الإشارة الثانية: مصادر علوم أهل البيت علیهم السلام ... 49

أولهما: إجمالي: ... 49

وثانيهما: تفصيلي: ... 49

الأول: القرآن الكريم ... 50

الثاني: تعاليم النبي الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم ... 51

إشارة هامة: ... 52

الثالث: أصول العلم. ... 55

الرابع: كتب الأنبياء السابقين(غير المُحرّفة) ... 56

الخامس: كتاب علي علیه السلام ... 58

السادس: مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها. ... 58

ص: 396

السابع: الجامعة: ... 59

الثامن: الجفر ... : 60

التاسع: الإلهام. ... 61

العاشر: الزيادة المستمرة للعلوم: ... 62

الحادي عشر: الناموس: ... 62

الثاني عشر: التوسم: ... 64

عقيدتنا في طاعة الأئمة ... 67

أسباب أو مقتضيات لزوم اطلاعة ... 69

ملاحظات مهمة: ... 72

الأولى: أن طاعة أهل البيت عين في طاعة الرسول صلی الله علیه وآله ... 72

الثانية: أنَّ معنى طاعة أهل البيت علیهم السلام تعني التالي: ... 73

الثالثة: هناك فرق بين الاعتراف النظري والاعتراف العملي ... 74

الأدلة الدالة على لزوم طاعة أهل البيت ... 74

الدليل الأول: استلزام مفهوم الإمامة لوجوب الطاعة. ... 74

الدليل الثاني: حديث الثقلين: ... 75

الدليل الثالث: قوله عز من قائل: ﴿يَا أَ اُّهيَ الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ و... ... 78

أولوا الأمر هم اهل البیت علیهم السلام نقلاً ... 81

د لالات حديث السفينة ... 83

1/كلتا السفينتين وُجِدَت بأمر الله ... 83

2/كلٌّ من النبي نوح علیه السلام والنبي محمد صلی الله علیه وآله واجها الاستهزاء... ... 85

3/لم يقتنع كلٌّ من قوم النبي نوح علیه السلام وقوم النبي... ... 86

ص: 397

4/انحصار النجاة بالسفينتين فقط، كل منهما في زمنها. ... 87

5/الكلُّ محتاج إلى السفينتين، كل في زمنها. ... 88

6/كلتا السفينتين آوت كلَّ من لجأ إليها وأنجته من الهلاك. ... 95

7/وحدة القيادة في كلٍ من السفينين. ... 96

8/كلتا السفينتين كانت فاتحة عهدٍ جديد. ... 96

9/لم يركب السفينتين إلا خلفاء الأرض، كلٌ في زمنه. ... 97

10 /قلة من ركب ك من السفينتين. ... 97

11 /الارتباط بكلٍّ من سفينتي النجاة ارتباط عقائدي لا نَسَبي. ... 98

12 /ركوب كلٍّ من السفينتين لا يعصم من الذنوب. ... 100

دلالات حديث النجوم ... 101

دلالات حديث النجوم ... 102

أولًا: دلالة فوائد النجوم: ... 102

1/الهداية. ... 102

2/المنع من الضلال. ... 103

ثانيًا: دلالة دوام البقاء ما بقيت الدنيا. ... 104

ثالثًا: دلالة دوام الهداية. ... 104

رابعًا: دلالة عصمة الهداية. ... 105

خامسًا: دلالة التعاقب: ... 105

سادسًا: دلالة عدم أو مانعية الخلو. ... 105

سابعًا: دلالة مجهولية الحقيقة ... . 106

ثامنًا: دلالة عدم التعارض ... 107

ص: 398

تاسعًا: دلالة وحدة المحور ... 108

عاشرًا: الدلالة على قدرة الله تعالى وحكمته ... 108

أحد عشر: دلالة عدم التصادم بين الوظائف. ... 109

إشارة: في مناقشة حديث: أصحابي كالنجوم ... 109

الجواب: ... 110

دلالات حديث المنزلة ... 113

إشكا وجوابه: ... 115

دلالات حديث المنزلة ... 117

الفقرة الأولى: دلالان «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ... 117

المنزلة الأولى: الوزارة. ... 118

المنزلة الثانية: الأخوّة وشدِّ الأزر. ... 119

المنزلة الثالثة: الإشراك في الأمر. ... 121

إشارة: معنى العقدة في لسان النبي موسى علیه السلام ... 122

المنزلة الرابعة: الخلافة: ... 123

المنزلة الخامسة: التصديق: ... 124

المنزلة السادسة: إتيان الكتاب: ... 126

المنزلة السابعة: الهداية: ... 127

المنزلة الثامنة: السلام: ... 131

1/ السلام عليهما من الله عزوجل ... 131

2/ أنهما من المحسنين: ... 132

3/ أنهما من المؤمنين: ... 133

ص: 399

المنزلة التاسعة: الإصلاح: ... 133

أوجه الشبه بين هارون وعلي علیهما السلام ... 133 .

1/ خيانة الأمة والاستضعاف. ... 134

2/ ما أُحل لهارون وعلي علیهما السلام ... 136 .

3/ أسماء أولادهما ... . 138

4/ المحنة المشتركة: ... 139

الفقرة الثانية: (إلا أنه لا نبي بعدي) ... 139

الحقيقة الأولى: ختم النبوة به صلی الله علیه وآله وسلم ... 139 .

الحقيقة الثانية: خلافة الإمام علیه السلام خلافة وصاية بلا نبوة. ... 140

إشارات في عبارة الكتاب ... 143

الإشارة الأولى: هم الشهداء على الناس ... 143

الإ شارة الثانية: هم أبواب الله ... 143

الإ شارة الثالثة: هم البسب إليه والأدلّاء عليه ... 145

الإ شارة الرابعة: هم عيبةُ علمه ... 145

الإشارة الخام سة: هم تراجمة وحيه ... 145

الإشارة السادسة: هم أركان توحيده. ... 146

الإشارة السابعة: هم خزان معرفته ... 146

الإشارة الثامنة: هم عباد مكرمون لا یسبقونه بالقول وهم بأمره یعملون ... 146

الإشارة التاسعة: هم الذني أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم طتهيرًا. ... 149

الإشارة العاشرة: عدم جواز الرد عليهم. ... 150

الإ شارة الحادية عشرة: عدم فراغ الذمة إلا بالرجوع إليهم. ... 150

ص: 400

الإشارة الثانية عشرة: المهم في بحث الإمامة إثبات لزوم الرجوع إليهم .... 150

إشكال وجوابه: ... 153

عقيدتنا في حب آل البيت عليهم السلام ... 155

إشارات: ... 161

عقيدتنا في الأئمة عليهم السلام ... 165

النقطة الأولى: لا يخول مسلمٌ من الاعتقاد بهم. ... 166

الأولى: مر بتة المُقصرة ... 166

الثانية: مربتة الغلاة ... 167

المر بتة الثالثة: (النمرقة الوسطى) ... 168

النقطة الثانية: حد الاعتقاد (النمرقة الوسطى) ... 169

مراتب المعرفة ب أهل البيت عليهم السلام ... 171

المر بتة الأولى: المعرفة الإجمالية: ... 171

المر بتة الثانية: الجمع بين محتبهم ومحبة أعدائهم. ... 171

المر بتة الثالثة: محتبهم وطاعتهم دون الاعتقاد بمقاماتهم ا علالية. ... 173

المر بتة الرابعة: الاتباع المصحي. ... 173

المر بتة الخامسة: الاعتقاد الم لطق بتيلاوهم والبراءة من أعدائهم. ... 174

إشارة: في لزوم التسليم لهم علیهم السلام ... 175

عقيدتنا في أنَّ الإمامة بالنص ... 177

الآراء في كيفية جعل الإمام ... 179

النظرية الأولى: نظريةُ قلوبِ الأمر اولاقع: ... 179

النظرية الثانية: نظرية النص: ... 180

ص: 401

ماذا يعني النص؟ ... 181

الطریق الأول: البتليغ. ... 181

الطریق الثاني: المعجزة ... 181

الطریق الثالث: ا طلريق ا علقلي. ... 182

أدلة وجوب التنصيب الإلهي ... 185

الدليل الاول: دليل اللطف: ... 185

الدليل الثاني: الإمام المجلوع من الله عزوجل يمثل الحل الأمثل ... 186

الدليل الثالث: تنصيب الإمام مهمة الله عزوجل وحده: ... 186

إشارات: ... 187

الإشارة الأولى: إنَّ النص على الإمام يوفر لنا بعدين مهمين: ... 187

الإشارة الثانية: له يمكن عللقل أن يُدرك الإمام الحق؟ ... 189

الوجه الأول: مقام المولویة. ... 189

الوجه الثاني: النص الإلهي يكشف جميع المقامات ... 190

الإشارة الثالثة: لماذا لم يُذكر اسم الإمام عليٍّ علیه السلام في القرآن ... 191

والخلاصة: ... 200

الاشارة الرابعة: نظرية التنصيب أمرٌمتصور لدى ... ... 200

الإشارة الخام سة: علة جعل الإمامة في ذرية الإمام الحسين ... ... 202

الأولى: تنصيب الإمام إلهيٌّ، والله تعالى لا یُسأل عن فعله ... 203

الثانية: عدم الملازمة بين الخصو صية والأفضلية ... 204

الإشارة السادسة: شبهة الإمامة بسٍن مبكرة: ... 205

ص: 402

عقيدتنا في عدد الأئمة عليهم السلام ... 209

شبهة الاختلاف في عدد الأئمة علیهم السلام ... 211

عقيدتنا في المهدي عجل الله فرجه الشريف ... 217

هل إنَّ القضية المهدوية من مختصات الشيعة؟ ... 221

المطلب الأول: هل إن القضية المهدوية قضية إنسانية؟ ... 222

المطلب الثاني: ما هو اعتقاد لهأ الديانات المساوية والوضعية ... ... 223

أولًا: الديانات المساوية: ... 223

ثانيًا: الديانات الوضعية: ... 224

المطلب الثالث: ما وه اعتقاد اهل السنة بالقضية المهدوية؟ ... 225

أولًا: بعض الروايات العامية التي أثبتت القضية المهدوية. ... 226

الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه في كملات المعاصرین من مدرسة الخفلاء: ... 228

ثانيًا: شبهة عدم ذكر البخاري ومسلم لأحاديث المهدي. ... 229

عتر في موجز بللخاري ومسلم: ... 229

نماذج عن لتك الأحاديث: ... 234

المطلب الرابع: ادعاء المهدوية دلي على صحة قضيتها. ... 237

بيان: في الدعاوى المهدوية الباطلة والنقاش فيها: ... 238

أولًا: أسباب الدعاوى المهدوية: ... 239

ثانيًا: أقسام الدعاوى المهدوية: ... 239

نماذج من القسم الأول: من نُسبت إليه المهدوية و هو منها بريء: ... 240

الفرقة الأولى: الكيسانية: ... 240

من أهم عقائد الكيسانية: ... 241

ص: 403

الفرقة الثانية: الفرقة الباقرية: ... 242

الفرقة الثالثة: الناووسية: ... 242

الفرقة الرابعة: المباركية: ... 243

الفرقة الخامسة: الإسماعيلية: ... 243

القسم الثاني: من ادعى المهدوية بدافع حب الرئاسة والجاه والمنصب، ومنها: ... 244

الشخصية الأولى: محمد المحض. ... 244

الشخصية الثانية: الخليفة العباسي الملقب بالمهدي. ... 245

القسم الثالث: من كانت للاستعمار يدٌ في ادعائه المهدوية ... ... 246

علي بن محمد الملقب بالباب: ... 246

ثالثًا: الخطوط العلامة لدعاوى الفسارة والمهدوية: ... 247

رابعًا: كيف نواجه مدّعي السفارة أو المهدوية؟ ... 249

الأمر الأول: متابعة الظروف التي أحاطت بالمدّعي. ... 249

الأمر الثاني: التريُّث في تصديق الدعوى. ... 249

الأمر الثالث: النظر في مدى مطابقة دعوى مدّعي السفارة... ... 250

الأمر الرابع: المطالبة بإقامة الكرامة. ... 251

خامًسا: طرق النقاش في القضايا المهدوية. ... 252

الطريق الأول: الطريق الفكری ... 252

المثال الأول: دعوى سفارة أحمد بن إسماعيل ... . 253

المثال الثاني: خروج اليماني من البصرة لا من اليمن. ... 254

ا طلريق الثاني: الطريق الخطابي. ... 255

تطبيق في القضيَّة المهدوية: ... 257

ص: 404

الطريق الثالث: طلب الكرامة أو المعجزة. ... 258

الطريق الرابع: الإهمال. ... 261

الطريق الخامس: الاستهزاء. ... 263

ضرورة القضية المهدوية ... 267

أولًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية عللامة من المسلمين. ... 267

الدليل العلقلي: دليل نقض الغرض ... 268

وعودٌ إلهية ... 269

ثانيًا: إثبات ضرورة القضية المهدوية لمعتنقی سائر الديانات الإلهية الأخرى. ... 273

شخصية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بين المدرستين ... 275

المطلب الأول: أهم الفروق بين المدرتسين في شخصيته علیه السلام ... 275

المطلب الثاني: من أدلة ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 277

أولًا: العامة و ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 277

ثانيًا: من أدلة الإمامية على ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه ... 279

المطلب الثالث: طلو عمر الإمام عجل الله تعالی فرجه ... 283 .

1/ الدليل الشرعي: ... 284

2/ الدليل الطبي: ... 285

3/ الدليل التاريخي: ... 286

الانتظار المهدوي ... 287

المطلب الأول: فلض الانتظار ... 287

المطلب الثاني: الفوائد التربيویة للانتظار. ... 290

المطلب الثالث: معنى الانتظار. ... 292

ص: 405

الأمر الأول: ما معنى الانتظار؟ ولماذا كان أفضل الأعمال ... 292

العنصر الأول: العنصر الاعتقادي. ... 293

العنصر الثاني: العنصر الفقهي. ... 293

العنصر الثالث: العنصر السلوكي ... 294

العنصر الرابع: الاستعداد العملي ... 295

الأمر الثاني: بيان المراد من روايات لزوم البيت ... 296

الأمر الثالث: مفاهيم مغولطة للانتظار ... . 300

الأول: الانتظار يعني السكون. ... 301

الثاني: الانتظار بنشر الفساد لأجل تعجيل الفرج ... 301

الغَيبة المهدوية ... 305

الم لطب الأول: علل الغيبة والحكمة منها. ... 305

أ) الخوف من القتل: ... 307

ب) التمييز والتمحيص: ... 307

ج)حتَّى لا يبايع ظالماً: ... 307

د) السنن التاريخية: ... 308

ه) أن لا تضيع ودائع الله ... 308

و) قبائح أعمال العباد، وفضائح أفعالهم، ممَّا يُسبِّب قلَّة ... 308

ز) إظهار عجز من يسعى للإصلاح الكامل من غير ... 309

المطلب الثاني: معنى الغيبة. ... 310

إشارة: ... 312

المطلب الثالث: فائدة الغائب والغيبة. ... 313

ص: 406

الفائدة من أصل ظاهرة الغيبة. ... 317

كيف لنا أن يُمنّز المهدي الحقّ؟ ... 319

النحو الأولَّ: طرق تشخيصية: ... 319

النحو الثاني: طرق تقربيية: ... 320

إشارة: في بعض الصفات المخصتة بالإمام المهدي علیه السلام ... 323 :

علامات الظهور ... 325

علامات الظهور قسمان: ... 326

لعلامات الظهور فهمان: ... 327

إشارةٌ مهمّةَ: ... 329

العلامة الأُولى والثانية: السفياني والخسف في البيداء: ... 330

الموقف الأوَّل: مبدأ ظهوره وتحرّكه: ... 330

الموقف الثاني: بعثه بالجيش خلف المهدي علیه السلام والخسف به: ... 331

الموقف الثالث: القضاء عليه: ... 332

العلامة الثالثة: اليماني: ... 333

أسئلة وأجوبة مفيدة: ... 334

العلامة الرابعة: الصيحة: ... 336

العلامة الخامسة: قلت النفس الزكية: ... 338

أسئلةٌ حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ... 341

السؤال الأول: ما هو سلاح الإمام المهدي علیه السلام إذا ظهر؟ ... 341

إشارة: ... 345

السؤال الثاني: له المهدي علیه السلام قا تلٌ سفاح وقصاب أرواح؟ أو هو داعيةُ سلام! ... 345

ص: 407

الخطوة الأولى: ركائز الدولة إداريًا. ... 345

1/السلطة التشريعية ... 345

2/السلطة التنفيذية. ... 346

3/السلطة القضائية. ... 346

الخطوة الثانية: لماذا يخاف البعض من ظهور الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 347

الخطوة الثالثة: من هم الذين سيقتلهم الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 348

1/السفياني: ... 348

2/البترية. ... 351

3/ذراري قتلة الإمام الحسين علیه السلام ... 353

الخطوة الرابعة: الإمامُ داعيةُ سلام. ... 355

ضمانات الانتصار المهدوي ... 359

الضمان الأول: قوة مصادر القضية المهدوية. ... 359

الضمان الثاني: عنصر المباغتة: ... 360

الضمان الثالث: التركيبة الاستثنائية للقيادة والجيش. ... 363

الجهة الأولى: شخصية القائد: ... 363

الجهة الثانية: الجيش. ... 366

القسم الأوَّل: أصحاب الألوية: ... 366

القسم الثاني: الجيش الذي سيخرج به من مكّة المكرَّمة: ... 366

الضمان الرابع: مساندة العنصر الغيبي لتلك القضية: ... 367

المفردة الأولى: الصيحة: ... 369

المفردة الثانية: الخسف في البيداء. ... 369

ص: 408

المفردة الثالثة: الرعب: ... 369

المفردة الرابعة: بعض خصائص الإمام ... 369

المفردة الخامسة: نصرته بالملائكة. ... 371

المفردة السادسة: إحياء بعض الموتى وحضورهم في ركبه ... 372

عقيدتنا في الرجعة ... 373

النقطة الأولى: معنى الرجعة. ... 376

تفسيرٌ آخر للرجعة ومناقشته ... 377

النقطة الثانية: القيمة الاعتقادية للرجعة. ... 378

النقطة الثالثة: له الرجعة أمر ممكن أو متسحيل ... 379

الأولى: أن تكون مخالفةً لضرورة عقلية. ... 379

الثانية: أن تكون مخالفةً لضرورةٍ نقلية. ... 380

النقطة الرابعة: هل الرجعة أمرٌ واقعٌ خارجًا أو إنه باقٍ في حيز الإمكان ... 380

النقطة الخامسة: استدلال آخر على الرجعة قرآنيًا. ... 382

التفسير الأول: ... 383

التفسير الثاني: ... 383

النقطة السادسة: محاولة الكيد بالتشيع من خلال القلو بالرجعة. ... 383

النقطة السابعة: ما هي فلسفة الرجعة؟ ... 384

النقطة الثامنة: له ذكرت الروايات الشریفة أسماء بعض الذين يرجعون ... 385

النقطة التاسعة: رجعو الإمام الحسين علیه السلام ودوره؟ ... 386

سؤال: كم هي مدة دولة الإمام المهدي علیه السلام؟ ... 388 ؟

الأمر الأولَّ: مدةَّ الدولة المهدوية العادلة: ... 388

ص: 409

الأمر الثاني: مدَّة ملك الإمام المهدي عج الله تعالی فرجه ... 389

سؤال: من الذي یلي أمر المعصوم ... 390

ص: 410

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.