دروس منهجیة في شرح عقائد الإمامية المجلد 1

هوية الکتاب

دروس منهجية

في شرح عقائد الإمامية

للشيخ محمد رضا المظفر(رحمه الله علیه)

1322 - 1383 ه-

/1904 / 1964م

الجزء الأول

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

الإهداء

إلى حواريي أهل البيت(علیهم السّلام)...

ومن حملوا على عاتقهم مشعل الهداية...

إلى من رسموا أبهى صورةٍ وأروعَ لوحةٍ للتشيع...

ومن حفظوا أحاديث أهل البيت(علیهم السّلام) ونقلوها لنا...

إلى من لولاهم، لما بقي من الدين ما يروي الظمآن ويسدّ نهمه المعرفي...

إليكم...

إلى كل من مشى على طريق أهل البيت(علیهم السّلام)

من أصحابهم، ووكلائهم، وسفرائهم...

إليكم يا سفراء الغائب الأربعة...

إلى كل عالم من علماء المذهب، نهل من منبع علم العترة الطاهرة

وأدى ما عليه من أمانة...

إليكم...

وإلى روح الشيخ محمد رضا المظفر...

وأرجو من الله تعالى القبول...

ص: 5

ص: 6

مقدمة المعهد

معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نش-ر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت(علیهم السّلام) ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين(سلام الله علیها) الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.

على أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت(علیهم السّلام) وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات

ص: 7

الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية، التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت(علیهم السّلام) الموروثة.

ومن ضمن ما يهدف المعهد إلى طباعته، هي المناهج المعدّة لطلبته (سواء في المعهد أو في جامعة أم البنين(سلام الله علیها)، وهذا الكتاب هو أحد دروس مرحلة المقدمات في معهدنا، حيث عمل فيه المؤلف على شرح كلمات الشيخ المجدد محمد رضا المظفر(قدس سره) في كتابه (عقائد الإمامية) وتفصيلها، وذكر البحوث التي أجملها الشيخ(رحمه الله علیه) في كتابه.

نسأل الله(رحمه الله علیه) أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 8

المقدمة

كل من يطالع في تاريخ شيعة أهل البيت(علیهم السّلام) يرى بوضوح أن الظروف التي مرت بهم -مذ أول يوم عُرفوا فيه بتشيعهم لأهل البيت(علیهم السّلام)- هي ظروف حالكة السواد، صعبة المزاج، شديدة العراك، حتى أنه مر زمن على الناس، أن يُقال في أحدهم: زنديق، خيرٌ له وأرحم من أن يُقال فيه: رافضي.

تلك الظروف توزعت على جميع مجالات حياة الشيعة، سواء الاقتصادية منها أو السياسية أو الثقافية وغيرها، والمنصف يحكم أن تلك الظروف والصعوبات لو مرّت بأي مذهب أو حركة أخرى، لذابت، وانتهت، وانقرض أتباعها، ولربما ينساهم حتى التاريخ، ولو بقي منها أو من أتباعها شيء، فلربما بقي خالٍ من الثوابت، بعيداً عن المفاصل المحورية فيه.

أما مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) فقد فرض نفسه بقوة الواقع كمذهب إسلامي له أصوله وثوابته وركائزه ومفاصله الحيوية، بل استطاع أن يطور من مناهجه وأن ينشر شعاراته وشعائره، وأن يثبت بوجه الرياح العاتية كجبلٍ أشم، تنثلم أعتى المعاول قبل أن تستقلّ منه شيئاً أو تغير من ثوابته أمراً...

إن هذه الظاهرة تستوقف الباحث المنصف، وتستدعي منه البحث عن العناصر التي كانت وراء هذا الثبات والدوام.

وبالتأمل، يمكن أن نُرجع أسباب ذلك إلى العديد من العناصر، منها:

العنصر الأول: الحفظ الإلهي، والمدد الغيبي، فإن الله تعالى كان ولا زال قادراً على

ص: 9

التدخل في مجريات الحياة، ولم تُغلّ يده كما زعمت اليهود والمعتزلة، وهو قد أخذ على نفسه أن ينصر دينه، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ﴾(1)

وقال تعالى: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ﴾(2)

ويدخل في هذا العنصر الرعاية الغيبية للمولى صاحب العصر والزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وهو القائل(علیه السّلام) في مكاتبته للشيخ المفيد: «...إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء...»(3).

العنصر الثاني: منظومة المذهب المتكاملة، والمنهجية العلمية التي رسمها أهل البيت(علیهم السّلام) عقائدياُ وفقهياً وسلوكياً، والذي أصّل له أهل البيت(علیهم السّلام) في أحاديثهم التي بثوها في أصحابهم وأمورهم بحفظها وتدوينها إيصالها إلى الأجيال اللاحقة.

العنصر الثالث: المرجعية الدينية -بعلمائها الأفذاذ- التي أخذت على عاتقها الحفاظ على تراث أهل البيت% وإحياءه وتطويره، ويكفي شهادة فخر لهم ما صرّح به الإمام الهادي(علیه السّلام) من دورهم المحوري في الحفاظ على التشيع وأتباعه، فقد ورد أنَّه قال(علیه السّلام): «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند

ص: 10


1- غافر 51.
2- الأنفال 62.
3- الاحتجاج 2: 323.

الله(رحمه الله علیه)»(1).

العنصر الرابع: الشعائر الدينية التي صاغت العقيدة بقالب العاطفة الجياشة والشعور الوجداني الذي ربط النفس بالعقيدة ربطاً وجداناً يصعب زواله، وهو أيضاً مما ندب له أهل البيت(علیهم السّلام).

وعلى كل حال، فإنه كان -ولا زال- لعلمائنا -الماضين منهم والمعاصرين- الدور الأكبر والمهمة العظمى في الحفاظ على التراث الذي ورثناه عن أهل البيت(علیهم السّلام) سواء على مستوى حفظه وتدوينه، أو على مستوى فهمه وتفهيمه، أو على مستوى تطويره وضبط مناهجه، أو على مستوى تسويقه ونقله للآخر، فضلاً عن حمايته من المتطفلين الذين يرمون شباكهم في غير مائهم، ويرومون خداع العامة من الناس.

وقد توزعت جهود علمائنا في مختلف مستويات الدين عقيدة وفقهاً وسلوكاً أخلاقياً، ولا يخفى أن الأساس في ذلك كله والخطوة الأولى في الدين هي العقيدة، والتي عبّر عنها أمير المؤمنين(علیه السّلام) بقوله: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه»(2)

ومن ضمن ما اهتم به علماؤنا –أمس واليوم- هو عرض عقائد المذهب الحق بكل شفافية ووضوح، مع بيان المرتكزات الأساسية والأسس المنهجية لها، سواء بطريقة عرضها المقارن، أو عرضها في حد نفسها، أو الإجابة عن الشبهات المثارة والتي قد تُثار.

وكتاب (عقائد الإمامية) للشيخ المرحوم محمد رضا المظفر (قدس الله روحه الشريفة) هو من الكتب العقائدية الدراسية، كتبه(رحمه الله علیه) بأسلوب مختصر، يتضمن إشارات لطيفة ومباحث عميقة بلفظ جزل وكلام قليل يدل على المطلوب، ويظهر من

ص: 11


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
2- نهج البلاغة- تحقيق: صبحي صالح- ص39.

التدقيق في كتابه أنه كان يحسب حساباً لكل كلمة منه، الأمر الذي يعني أنه يحتوي الكثير من المباحث التي ينبغي تفصيلها.

وبعبارة أخرى: أن كتابه(قدس سره) أشبه بالفهرسة العامة لما يؤمن به الشيعة من عقائد وأفكار وسلوكيات شرعية، مما يعني أن شرح مضامينه بصورة صحيحة يستدعي فتح ملفاته التي رسمها الشيخ(رحمه الله علیه) بألفاظ مختصرة جداً.

يشهد على ذلك أن الكتاب رغم عمره القصير نسبياً، إلا أن الشروح تعددت فيه، واختلفت بحجمها بين المختصر والموسع.

هذه الدروس هي محاولة لشرح ما اختصره المظفر(رحمه الله علیه) وتسليط الضوء على النكات العلمية المخبية تحت ألفاظه العبقة، وبيان المطالب العلمية التي يظهر من التأمل أنه كان يروم الإشارة إليها، والله تعالى أسأل أن أكون قد وُفّقت في شيء من ذلك.

ومن توفيق الباري جل وعلا أن تم بث هذه الدروس لطلبة معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ مرحلة المقدمات، ولعدة سنوات، وما زال بثها مستمراً للطلبة الجدد في المعهد الموقر.

هي محاولة من أحد طلبة العلم في حوزة النجف الأشرف (على مشرفها آلاف التحية الثناء) وأسأل الله تعالى أن يتقبلها مني بقبول حسن.

ختاماً، أتوجه بالشكر لكل من ساعد في إخراج هذا الكتاب إلى النور، بدءاً بمتابعة الدروس الصوتية، وتقريرها الأولي، ومراجعتها، وتدقيقها، والله ولي التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

30 صفر الخير 1442ه-

18 تشرين الأول 2020.

ص: 12

تمهيد

اشارة

بِسْمِ اللَّ-هِ الرَّحْمَ-ٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، اللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين...

اللهم صل على محمد وال محمد

اعتاد الباحثون والمؤلفون في أي علم من العلوم أن يقدموا بعض المقدمات والأمور قبل الدخول في أصل البحث المقصود، وهذه المقدمات يصطلحون عليها في علم المنطق بالرؤوس الثمانية، ولا يهمنا ذكر هذه المقدمات، وإنما نشير لبعض منها.

هذه المقدمات إنما تُقدم على البحث في أصل العلم باعتبار أنها تفيد الطالب في زيادة بصيرته في العلم الذي يدرسه، فالطالب إذا عرف تعريف العلم وموضوعه والغرض من دراسته والمنفعة التي يحصل عليها، والأدلة المستخدمة فيه، هذا سيجعله بصيراً بالعلم الذي يطلبه، وبالتالي:

أولاً: سيتعرف إجمالاً على العلم الذي يطلبه.

ثانياً: سيتولد عنده الدافع والحافز لزيادة بذل جهده في سبيل تحصيل هذا العلم.

وعلى نحو الإجمال نذكر بعض المقدمات:

ص: 13

المقدمة الأولى: تعريف العلم (علم الكلام).

بغض النظر عن كون التعريف بالحد التام أو الناقص، فإن علم الكلام: هو العلم الذي يبحث في المسائل الاعتقادية الدينية ويثبتها بالأدلة اليقينية، فلا يكفي الشك ولا يكفي الظن، ولا الوهم، بل لابد من الجزم واليقين.

المقدمة الثانية: موضوع العلم.

الموضوع: هو المحور الذي تدور حوله مسائل العلم، ألم نقل إن العلم عبارة عن مسائل؟ هذه المسائل هل هي مشتتة أو هي مرتبطة بمحور واحد؟

إنه لابد أن تكون متمركزة على محور واحد، ذلك المحور الذي تدور حوله مسائل العلم هو الذي يسمى بالموضوع، بحيث إذا ذهبت إلى أي مسألة من المسائل الخاصة بذلك العلم فإنك تجده موجودًا فيه.

وتعريفه العلمي هو: ما يُبحث فيه [أي في العلم] عن عوارضه [أي عوارض الموضوع] العلمية.

مثلاً فموضوع علم الفقه هو فعل المكلف، فكل مسائل الفقه نجد فيها عمل المكلف. التاجر عندما يتاجر بالربا فعله هذا حلال أو حرام؟ عندما يتاجر بالذهب؟ عندما يوقف شيئاً ماذا يجب عليه؟ هل يجوز للمكلف أن يتزوج أخت زوجته؟ عند أذان الظهر ما هو واجب المكلف؟ فموضوع علم الفقه فعل المكلف من واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح.

ما هو موضوع علم الكلام؟ وعن ماذا تبحث مسائل علم الكلام؟

ذكرت عدة آراء لموضوع علم الكلام، وقد اختار الشيخ محمد آصف المحسني(قدس سره)

ص: 14

في كتابه (صراط الحق) أن موضوع علم الكلام هو (ذات الله تعالى المقدسة).(1)

فنحن نبحث في ذات الله تعالى هل هي واجبة الوجود أو ممكنة الوجود؟ هذه الذات الإلهية هل من صفاتها العدل أو لا؟ هل هذه الذات قادرة أو ليست بقادرة؟ هذه الذات الإلهية مريدة أو ليست مريدة؟ هل تلك الذات الإلهية تلطف بالعباد فتبعث لهم أنبياءً ورسلاً وتنصّب أوصياء يدلونهم على شريعة الله(رحمه الله علیه) أو لا؟ هل تلك الذات الإلهية حكيمة في أفعالها؟ هل تلك الذات الإلهية تحاسب الناس في يوم ما وهو يوم المعاد؟

فكل مباحث علم الكلام محورها الذات المقدسة من حيث ذاتها وأفعالها وصفاتها.

فموضوع علم الكلام هو الذات الإلهية المقدسة.

المقدمة الثالثة: الغرض من علم الكلام.

الغرض منه: هو معرفة الحقائق الدينية والأصول الاعتقادية بصورتها الحقيقية، فعلم الكلام إذن يوضح لنا تلك العقائد الحقة.

المقدمة الرابعة: المنفعة من علم الكلام.

ماذا ننتفع من علم الكلام؟ ما هي الفائدة التي نجنيها؟

والجواب: أن الطالب الذي يدرس علم الكلام ستكون عنده قوة وبصيرة في دينه بحيث تثبت عنده عقائده بالدليل القطعي، وبذلك يستطيع إثباتها للغير، فتكون عنده قدرة مرة على إقناع المخالف، ومرة قدرة وقوة على إلزامه بالدليل اليقيني العلمي بحيث يسكته ولا تكون عنده القدرة على الرد.

ص: 15


1- صراط الحق- الشيخ محمد آصف المحسني(رحمه الله علیه) ج1 ص 11 – 14.

المقدمة الخامسة: مرتبة علم الكلام

هل هو أشرف العلوم؟ أو توجد علوم أشرف منه؟

معرفة مرتبة علم الكلام تعطي دافعاً للطالب يتناسب مع تلك المرتبة، ومرتبة علم الكلام ليس فوقها مرتبة، إذ إنه يمكن أن نعرف مرتبة أي علم من خلال موضوعه، وعلم الكلام موضوعه كما ذكرنا هو الذات الإلهية المقدسة، ولا أعظم من الذات الإلهية، فيكون علم الكلام أشرف العلوم، تلك الأشرفية النابعة من موضوعه.

المقدمة السادسة: من أي العلوم هو؟

هو من العلوم التي يطلب فيها اليقين ولا يكفي فيها الشك ولا الظن ولا الوهم. لذلك فالأدلة المستعملة فيه لابد أن تكون أدلة يقينية تصل إلى الجزم بالعقيدة.

ويوجد بحث سيتعرض له الشيخ(رحمه الله علیه) وهو: هل يجوز التقليد في أصول الدين أو لا يجوز؟

وهذا البحث نابع من أن الأدلة التي تستعمل في هذا العلم ما هي؟ وكما قلنا هي أدلة يقينية.

تنبيه:

الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) كتب كتابه عقائد الإمامية، وليس كله في أصول الدين، بل بعضه خارج عن أصول الدين، فبعضها عامة وفرعية وبعضها خاصة بأمور التشيع، لأنه أراد أن يستعرض عقائد الشيعة وما يترتب عليها وما تستند إليه في بعض الأحيان.

ص: 16

عقيدتنا في النظر والمعرفة

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في النظر والمعرفة

نعتقد أن الله تعالى لما منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الأَفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾(1)

وقد ذم المقلدين لآبائهم بقوله تعالى: ﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾(2)

كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾(3)

وفي الحقيقة أن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته، ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطراً.

وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقرِّراً لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبهاً

ص: 17


1- فصلت 53.
2- البقرة 170.
3- الأنعام 116.

للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتحاً للأذهان وموجها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.

فلا يصح -والحال هذه- أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية أو يتكل على تقليد المربين أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في أصول اعتقاداته المسماة بأصول الدين، التي أهمها: التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد. ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الأصول فقد ارتكب شططاً وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذوراً أبداً.

وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان:

(الأول) وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها.

(الثاني) إن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيداً بها بعد دلالة العقل.

وليس معنى الوجوب العقلي إلا إدراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات». انتهى.

معنى العقيدة والنظر والمعرفة

العقيدة:

هي مجموعة الأفكار والقيم التي يرتبط بها القلب ارتباطاً وثيقاً على مستوى التصديق والتدين، إذ العقيدة مأخوذة من العقد أو الشدّ بين المبدأ والقلب، فعندما تقول: أنا أعتقد بكذا، فكأن القلب قد شُدّ مع ذلك المبدأ والفكرة، فتصبح هناك عقيدة أو ارتباط بين القلب وذلك المبدأ، وقد صرحت الروايات بأن الايمان في الحقيقة ليس ما

ص: 18

تلفظ به الإنسان، إنما ما عُقد عليه وارتبط بالقلب ارتباطاً وثيقاً.

النظر:

هو البحث الصادر من النفس لتحصيل المجهولات من خلال المعلومات، وليس المقصود منه النظر بالعين، إنما هو عملية البحث التي تقوم بها النفس لتحصيل المعارف والمعلومات.

المعرفة:

إدراك الأشياء وتصورها على مستوى التصور أو التصديق، أي أن تدرك الأشياء والمعلومات و (ليس مجرد بحث)، وتأتي المعرفة نتيجة النظر(البحث)، فبعد البحث تصل إلى المعرفة (عندما تدرك الأشياء تكون لديك المعرفة).

ما هو المقصود من هذا البحث؟

المقصود هو:

هل إن البحث عن وجود الخالق وعن صفاته وأفعاله هو بحث ضروري واجب لازم أو لا؟

فالمقصود من هذا البحث هو إثبات ضرورة ولزوم البحث عن الخالق، وعن صفاته وأفعاله وإثبات أن الإنسان غير معذور إذا ترك هذا البحث وهذا النظر وتلك المعرفة.

هو بحث عن (يجب أو لا يجب) علينا أنْ نبحث عن خالقنا؟

وهل هذه الضرورة عقلية أو شرعية؟

ص: 19

يعني من الذي يوجب علينا أنْ نبحث عن خالقنا: العقل أم الشرع؟

بيانه: هناك وجوب عقلي أو ضرورة عقلية، فماذا يقصد منها؟

هي الضرورة التي يحكم بها العقل بغض النظر عن وجود شريعة من السماء، يعني بغض النظر عن الآيات والروايات، بحيث لو فرضنا -وفرض المحال ليس بمحال- أنه لم تكن هناك شريعة ولا رسل ولا كتب ولا آيات ولا روايات، فالعقل لو خُلّي لوحده من دون أي إرشادات خارجية من الشريعة، هل العقل يحكم بضرورة البحث عن الخالق أو لا يحكم؟

فإذا حكمنا أنه واجب، إذن نقول: إن النظر والمعرفة واجب عقلاً، يعني الذي يؤسس لهذه الضرورة -لضرورة البحث عن الخالق- هو العقل وليس الشرع، وهذا هو معنى الضرورة العقلية، مثل (اجتماع النقيضين) فإذا كان هذا أسوداً فلا نستطيع أن نقول عنه في نفس الوقت إنه ليس بأسود، حتى لو لم تكن هناك آية أو رواية تدل على ذلك، فالعقل يحكم هنا لوحده.

فالأمر الذي يحكم به العقل بغض النظر عن وجود الشريعة: هذه هي الضرورة العقلية.

أما الضرورة الشرعية: فهو الوجوب الصادر من الشارع المولى الذي له حق الطاعة والواصل إلى العبد، وهذا التشريع أو الاعتبار كما يقولون في علم الاصول (الاعتبار الشرعي) لا بد أن يصل إلى المكلف، أما قبل الوصول فلا يوجد وجوب فعلي في ذمة المكلف، فالشريعة أمر إلهي لا بد أنْ يصل المكلف ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1)

ص: 20


1- الإسراء 15.

وهذا الوجوب لا وجود له وراء اعتبار الشارع، فهو مجرد اعتبار من المولى، إذ إن المولى اعتبر أن الصلاة واجبة على المكلف، ولو لم يوجب الشارع (المولى) هذه الصلاة فهذا الوجوب ليس له وجود، والعقل وحده لا يمكن أن يدرك أن صلاة الصبح واجبة على المكلف، فمن أين أتى هذا الوجوب؟

لقد أتى من الشارع.

إذن، فهناك ضرورات عقلية هي التي يحكم بها العقل لوحده بغض النظر عن الشارع، وهناك ضرورات شرعية، وهذه لا وجود لها وراء اعتبار الشارع.

ولا بد أن نلتفت إلى أن العقل عندما يحكم بشيء، فقد يأتي الشارع ويحكم بنفس الحكم، عندئذٍ يكون حكم العقل تأسيسياً، أما حكم الشارع فهو هنا إرشادي، يعني يرشد إلى حكم العقل ذلك، من باب أنه قد يلتوي الإنسان ويغض نظره عن حكم العقل فيأتي الشارع ليؤكد ذلك الحكم العقلي، فيجوز اجتماعهما ولكن أحدهما يكون مؤسساً والآخر إرشادياً.

الآن نرجع إلى سؤالنا:

البحث عن وجود الخالق وصفاته وأفعاله هل هو واجب بوجوب عقلي أو بوجوب شرعي؟

الجواب: إن الوجوب عقلي، إذ العقل يدرك ضرورة البحث والنظر والمعرفة عن وجود خالق حتى لو لم تكن هناك شريعة.

من خالقُنا؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟

هذه أسئلة تولد مع الإنسان، فالعقل يحكم بضرورة إيجاد أجوبة مناسبة لها، وهناك

ص: 21

آيات وروايات تأمرنا بهذا البحث وهذه الروايات هنا تكون حكماً إرشادياً لتلك الضرورة العقلية.

هل يجوز التقليد في النظر والمعرفة؟

الشيخ أجاب: بأنه لا يجوز في أصول الدين أن يكون المكلف مقلداً، أي يجب أن يكون كل شخص مجتهداً، وله دليله الخاص على أصول الدين، لأن احتمال الخطأ موجود في التقليد، فأنا أقلّد بشراً معرّضاً للخطأ، والعقيدة لا بد أن تكون ثابتة بالدليل القطعي.

فالقضية ليست قضية بيع وشراء، بل هي قضية عبادة ومصير نهائي خالد، فاذا قلّدت شخصاً يعبد البقر فسأعبد البقر إلى نهاية عمري، فيكون الخطأ هنا فادحاً ولا يُغتفر.

وعلى كل حال، فالحاصل: أنه لا يجوز التقليد في أصول الدين، ويجب الاجتهاد، ولكن إذا حصل القطع والجزم من قول الغير فهذا يكفي، لأن المطلوب ليس الاجتهاد بل (تحصيل اليقين).

عندما تقول (الله موجود) فالطرف المقابل لهذه القضية (الله غير موجود) فإذا كانت نسبة اعتقادك بقضيتك الأولى 99% مما يعني وجود احتمال بنسبة 1% أنه غير موجود، فعقيدتك غير يقينية، فلا بد أن تكون نسبة قضية (الله غير موجود) هي صفر%، وعقيدتك بوجود الله تعالى 100%

وتحصيل اليقين فيها مرة يكون بالاجتهاد، بأن تكون مجتهداً وتأتي بالدليل، ومرة أنت تحصّل الدليل من قول الغير، كأنْ تذهب إلى الإمام المعصوم أو المجتهد أو العالم في العقائد وتحصل على الدليل، ويحصل عندك الجزم واليقين بوجود الله تعالى، فهذا يكفي

ص: 22

أيضاً.

ملاحظة:

هناك العديد من الاصطلاحات الضخمة والمعقّدة، وليس المطلوب منا حفظ هذه المصطلحات، وإنما فهم ما وراء تلك الاصطلاحات، مثلاً عندما نأتي إلى صفة القدرة سوف نبحث: ما الدليل على القدرة؟ وبأي معنى تأتي القدرة؟ وما هي أدلة المثبتين وأدلة النافين؟ وقد ننسى واقع القدرة!

وكذا في صفتي السميع البصير، قد نغوص في البحث العلمي فيهما وننسى أنّ الله تعالى يرانا ويسمعنا ويراقب أفعالنا وتصرفاتنا!

إذن -مهما تعمقنا في هذا البحث- يجب أنْ لا ننسى أننا في دائرة مفرغة لا يُدرك غورها، وسيأتي بحث في ذات الله(رحمه الله علیه)، فسنبحث في إمكان معرفة كنه الذات وحقيقتها أو في تعذّرها علينا، إذ إن عندنا روايات كثيرة تنهانا عن التفكر في ذات الله تعالى.

وسيأتي إشكال هناك في أنه وردت روايات تنهانا عن البحث في ذات الله تعالى، وعندها فإن علم الكلام كله سينتفي في هذه الحالة، إذ إن موضوعه كله يبحث في ذات الله(عزوجل)!

وسنعرف الجواب عنه في محله إن شاء الله تعالى.

هذه الأبحاث لا بد أن لا تنسينا واقع عبوديتنا، وواقع كوننا تحت المراقبة الإلهية، علينا أن لا نضيع في زحمة الاصطلاحات وننسى الواقع.

ص: 23

س/ما هو الدليل على أن النظر والمعرفة واجب عقلي؟

ج/ذكروا عدة أدلة منها:

دليل دفع الضرر المحتمل.

ومعناه: أن العقل يدرك أنه لو لم يبحث عن خالقه، فإنه يُحتمل وجود ضرر يأتيني من عدم المعرفة، لاحتمال أن الخالق يريد مني أفعالاً لا أعرفها لحد الآن، فاذا لم آتِ بما يريده الخالق فسأقع في مخالفته، وهذا يترتب عليه ضرر، وقد أخبر بهذا الضرر الكثير من الرجال [الأنبياء] الذين لم يكذبوا ولا مرة واحدة في حياتهم، والعقل يحكم بلزوم دفع الضرر حتى إذا كان محتملاً.

إذن فالعقل يحكم بوجوب النظر والمعرفة من أجل دفع الضرر.

وهذا يعني أنّ وجوب النظر وجوب غيري لا نفسي، فهو يُطلب لنصل به إلى العقيدة، فالمطلوب أنْ نبحث وننظر، لنصل إلى الاعتقاد، وأن نصل إلى الله(رحمه الله علیه)وأن نثبت وجوده وصفاته وأفعاله.

ص: 24

عقيدتنا في التقليد بالفروع

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في التقليد بالفروع:

أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال، فلا يجب فيها النظر والاجتهاد، بل يجب فيها - إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة - أحد أمور ثلاثة: إما أن يجتهد وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط، وأما أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلده عاقلاً عادلاً (صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه).

فمن لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه، وإن صلى وصام وتعبد طول عمره.

إلا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى». انتهى.

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: أهم الفروق بين الفروع والاصول:

أن الأصول لا يُكتفى فيها إلا بالقطع والجزم، وأما فروع الدين فإن حصل بها

ص: 25

الجزم فبها ونعمت، وإن لم يحصل الجزم فننتقل الى الظن، كما إذا نقل الثقةُ قول المعصوم، فإن نقله لا يؤدي إلى اليقين، باعتبار أن الثقة ربما يشتبه وربما يكذب وربما يخطئ، لكنه غالباً لا يكذب لفرض أنه ثقة، وعلى كل حال فقوله لا يؤدي إلى الجزم بنسبة (100%) فمؤدى قوله هو الظن، لكن هذا الظن جاء دليل (شرعي) قطعي على أنه معتبر، يعني: أن الشارع في فروع الدين اكتفى منا بهذا الظن، فجاء دليل من الشارع اعتبر هذا الظن (والذي هو ليس بعلم إذ إن العلم قطع ويقين) علماً وتمّمَ نقصه بجعله علماً، فخبر الثقة ليس قطعياً ولا يؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي، ولكن لدينا أدلة قطعية قالت: خذ بخبر الثقة، فالشارع قَبِل هذا الظن من المكلف في فروع الدين، الظن الذي دلّ الدليل الشرعي القطعي على حجيته، وبذا يخرج القياس أو الاستحسان وأمثالهما مما يستند إليه العامة، لأنها وإن كانت ظنيات، لكنه لم يدل الدليل الشرعي القطعي على حجيتها.

إن لكفاية الظن في فروع الدين تخريجًا، وحاصله:

أن تحصيل القطع في جميع المسائل الفقهية أمرٌ متعذر علينا، وبالتالي:

فإما أن لا نعمل بالفروع، وهذا واضح البطلان.

وإما أن يحصل اليقين، وهذا ليس متوفراً إلا في الضروريات.

وإما أن يصبح كل واحد منا مجتهداً، وهذا غير متاح للجميع.

وإما نقلد وهو طريق ظني، انحصر به طريق تحصيل الحكم الشرعي.

إن كثرة المسائل الفقهية من جانب، وابتعادنا عن زمن النص من جانب آخر، أي ابتعادنا عن زمن المعصوم حيث تؤخذ الأجوبة القطعية الواقعية من الإمام(علیه السّلام) التي لا تقبل الشك ولا الطرف المقابل في الحالات الطبيعية غير حالات التقية مثلاً، هذان

ص: 26

السببان كانا وراء فتح الباب للوصول الى التكاليف الشرعية من خلال التقليد رغم كونه ظنيًا، لكن قام الدليل القطعي على جوازه في فروع الدين.

النقطة الثانية: معنى التقليد.

التقليد لغة: هو وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به، كالقلادة التي تلبسها الفتاة فتحيط برقبتها.

عن الامام الحسين(علیه السّلام): «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة»(1)

واصطلاحاً: قبول قول الغير من غير دليل عليه.

فعندما تقلد عالماً في مسألة فقهية، هذا يعني أنك تأخذ قوله ولا يجب عليك أن تسأل عن الدليل، فأنت تكتفي بأخذ المسألة فقط.

ويسمى تقليداً باعتبار أن المكلف يقلّد ذلك المرجع، فكأنه قد جعل أمره في عنق المرجع، وهذا يعني: أنك عندما تقلّد مرجعاً معيناً، فإنك لا تحتاج للبحث عن صحة دليله، ولا تحتاج الى الإطمئنان بذلك الدليل.

وقد اختلف الفقهاء في تعريف التقليد، فمنهم من قال: يجب أن يلتزم المكلف بأنْ يقلد المرجع الفلاني، سواءً عمل بفتواه أولا، فهو مجرد التزام قلبي.

وبعضهم قال: لا يكفي الالتزام القلبي، بل لا بد من العمل بالفتاوى، بحيث إن المسألة التي لم تعمل بها فأنت لا تقلده بها، وتظهر ثمرة هذا عند وفاة المرجع وإرادة البقاء على تقليده، فالمسائل التي لم يعمل بها المكلف في حياته لا بد أن يرجع فيها الى الحي، إذا كان المرجع الميت ممن يقول بوجوب العمل بالفتاوى ولا يكتفي بالالتزام

ص: 27


1- مثير الأحزان لابن نما الحلي ص 29 وبحار الأنوار – العلامة المجلسي - ج 44 - ص 366.

القلبي.

وبعضهم قال: هو تطابق فعل المكلف مع فتوى المجتهد الذي يكون حجة عليه حين العمل مع إحراز مطابقته له، فإذا كنت في عمر خمسة عشر عاماً وكان الحجة عليك هو زيداً، فإذا كان عملك (صلاتك وصومك) مطابقاً لفتوى زيد فأنت مقلد له، ولا يشترط أن تعتمد على فتواه، أي لا يشترط عندما تصلي أن تقول: إن صلاتي هذه وفق تطبيقي لتقليد فلان.

والمسألة فقهية، وفيها خلاف في الفتوى وفي تفسيرها، فليرجع فيها إلى مرجع التقليد.

النقطة الثالثة: ما هي فروع الدين؟

هي المقرّرات التي شرّعها الإسلام لتنظيم الصلة والعلاقة بين الإنسان وربه من جهة، وبين الإنسان وبقية المخلوقات من جهة أخرى.

هذه المقررات والأنظمة التي شرّعها الله تعالى هي فروع الدين وهي الفروع العشرة من صلاة وصوم و...، و تدخل معها معاملات الإنسان كالتجارة مثلاً.

النقطة الرابعة: التقليد لا موضوعية له.

عندما تريد أن تشتري مرآة فإنك تنظر لشكلها، لونها، حجمها، صفاتها، ونوعية الزجاج المستعمل فيها، وبعد أن تشتريها وتعلقها فإنك لا تنظر إلى هذه الأمور، بل ستنظر فيها لأجل أن ترى بواسطتها وجهك، فالمرآة أصبحت طريقاً لرؤية وجهك، كذلك التقليد هو ليس مطلوباً لأجل التقليد نفسه، وإنما من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي.

ص: 28

وهذا ما أشار له الشيخ المظفر(رحمه الله علیه)، وإنما الموضوعية لمطابقة الفعل للحكم الشرعي، فالتقليد ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو طريق لتحصيل الحكم الشرعي، لذلك لزم البحث عن الفقيه الأعلم في التقليد، لأنه هو الأقدر على تطبيق القواعد الأصولية على الحوادث وإعطاء الحكم المناسب فيها، فتقليد الأعلم ووجوبه مرتبط بتعريف التقليد.

وهذا يترتب عليه أمور:

أولاً: إذا حصل عندك الجزم بالحكم الشرعي، كما لو التقيت بالإمام المعصوم(علیه السّلام) –فرضاً- فإنك لا تحتاج إلى تقليد، أو رأيت الهلال (هلال شهر شوال مثلاً) بعينك، فإنك لا تحتاج إلى تقليد هنا، حتى وإن قال لك مرجعك: إن غداً يجب عليك الصيام، فلا يجب عليك الصوم هنا، لأن الحكم الواقعي قد انكشف لك.

ثانياً: لا نحتاج إلى التقليد في الضروريات، كأصل وجوب الصلاة والصوم والحج، والضروري: هو البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل في إثباته، أي الذي وصل إلى مرحلة من الثبوت والوضوح بحيث يكون ذكر الدليل على وجوبه لغواً.

ثالثاً: لو عمل المكلف بلا تقليد، وصادف أن عمله مطابق لقول المجتهد الذي هو حجة عليه، فإنه يحكم على عمله بالصحة، لأن التقليد لا موضوعية له، بل الموضوعية هو أن يكون العمل مطابقاً للحكم الشرعي، ولو كان للتقليد موضوعية لكان عمل غير المقلِّد باطل مطلقاً. (وفي المسألة تفصيلات أخرى يُرجع فيها إلى كتب الفقه).

النقطة الخامسة: هل يجوز للمكلف الاحتياط؟

نعم يجوز، فالاحتياط هو أن يعمل المكلف بقول يتيقن معه ويطمئن بمطابقة فعله للواقع.

ص: 29

مثلاً إذا سافر المكلف، ووصل إلى مكان معين، وكان بعض الفقهاء يقول: بأن المسافة التي قطعها هي المسافة الشرعية ويتوجب عليه أن يأتي بالصلاة قصراً، ولكن البعض الآخر يقول: لا، لم يقطعها ويجب عليه أن يتم صلاته، (أو إنه وصل إلى مكان وشك في أنه مسافة أو لا) فهنا إذا أراد الاحتياط فعليه أن يأتي بالعمل مرتين: بأن يتم ويقصر في صلاته، وفي هذه الحالة يكون عمله مطابقاً للحكم الواقعي قطعاً، الذي هو إما التمام أو القصر.

والاحتياط وإن كان جائزاً، إلا أنه صعب جداً، لأنه يحتاج إلى معرفة آراء الفقهاء والأخذ برأي جميع الفقهاء الذين هم في معرض وشبهة الأعلمية، والعمل بأحوطها بما يتيقن معه بصحة عمله، وبعضها تقتضي إعادة العمل.

وقد روي عن الامام الحسن العسكري(علیه السّلام)قال: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظا لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمره مولاه، فللعوام أن يقلدوه،وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منه عنا شيئاً ولا كرامة».(1)

ص: 30


1- الاحتجاج – الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 263 – 264.

عقيدتنا في الاجتهاد

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الاجتهاد نعتقد أن الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام، بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين، ويكتفون بمن تصدى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم.

ففي كُلِّ عصرٍ يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم وكان جامعاً للشرائط التي تؤهله للتقليد، اكتفوا به وقلدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة وجب عليهم أن يحصل كل واحد رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرغ لنيل هذه المرتبة حيث يتعذر عليهم جميعاً السعي لهذا الأمر أو يتعسر، ولا يجوز لهم أن يقلدوا من مات من المجتهدين.

والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين، وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة والاجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه.

ص: 31

وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جد واجتهد وفرغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها». انتهى.

الاجتهاد لغة: هو بذل الجهد، بذل الطاقة، تحمل المشقة.

اصطلاحاً: مَلَكة يتمكن معها الإنسان من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها في الشريعة من القرآن والسنة.

من أين جاءت فكرة الاجتهاد؟

الجواب: جاءت الفكرة من مقدمات:

المقدمة الاولى: التكاليف الشرعية -الواجب والمستحب والمكروه والحرامهل هي مطلوبة من العباد فقط في زمن المعصوم8 أو إنها مطلوبة منهم إلى يوم القيامة؟

من الواضح أنها مطلوبة من المكلف الى يوم القيامة.

وهذا معنى ما يُقال من أن (الأحكام الشرعية مأخوذة على نحو القضية الحقيقية وليس على نحو القضية الخارجية).

يعني أن الله تعالى عندما يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مثلاً، فليس المراد منها الذين آمنوا فقط في زمن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما المراد هم الذين آمنوا إلى يوم الدين، فالتكاليف الشرعية مطلوبة إلى يوم القيامة.

المقدمة الثانية: مصادر التشريع موجودة أيضاً، وهي (القرآن الكريم، والسنة المعصومية - سنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم)

المقدمة الثالثة: استخراج الأحكام الشرعية من تلك المصادر(القرآن و السنة) متاح لبعض الأفراد وليس للجميع، فالقرآن ليس كله مفهوماً للجميع، والروايات كذلك،

ص: 32

فالإمام(علیه السّلام) يقول: «كلامنا صعب مستصعب»(1)،وفيه الناسخ و المنسوخ والباطن والظاهر و.....

من هذه المقدمات نحصل على نتيجة وهي: لا بد من توفر أفراد عندهم القدرة على استخراج الأحكام الشرعية من تلك المصادر، أي إننا نحتاج إلى متخصصين في مجال استنباط الأحكام الشرعية من مصدرها.

فالعقل يحكم بضرورة أن يجتهد البعض ليقلّده البعض الآخر، والنتيجة: أن الاجتهاد ضرورة عقلية، وما يأتي من آيات وروايات فإنما هي إرشاد لذلك الحكم العقلي ومنها: قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2)

فلم يقل جل وعلا: كل الناس، وإنما فقط البعض، ممن لديه القدرة والقابلية على ذلك.

فالاجتهاد واجب عقلي، وهو واجب كفائي وليس عينياً، فهو يجب عقلاً على الجميع (وذلك لحفظ الشريعة الإسلامية وأحكامها من الاندراس) فإذا تصدى له مَن فيه الكفاية سقط عن الباقين، (مثل قضية تغسيل الميت، فهو واجب كفائي فيما إذا توفي مسلم في العالم، وكل المسلمين في العالم مطالبون بتغسيله ودفنه، فإذا تبرع مسلمٌ ما للقيام بذلك، فقد سقط الوجوب عن الباقين)، وهذا يبين مكانة المجتهد، فهو يُسقط الوجوب عن الباقين، فضلاً عن ما ذكرته الروايات التي أشادت بمكانة المجتهد، ومنها

ص: 33


1- في كتاب الأصول الستة عشر – عدة محدثين - ص 61: قال أبو جعفر8 ان حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به الا ملك مقربأ ونبي مرسلأ وعبدا امتحن الله قلبه للإيمان فما عرفت قلوبكم فخذوه وما أنكرت فردوه إلينا.
2- التوبة 122.

ما روي عن الامام الهادي(علیه السّلام): «لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله و المنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس و مردته، و من فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، و لكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز و جل»(1)

إنّ العقل يحكم بضرورة الاجتهاد، لعدة اعتبارات منها: أنه لا بد من الرجوع إلى أهل الخبرة في مسألة الأحكام الشرعية، لأن المكلف يجب أن يتعلمها ويعمل بها.

قال المصنف(قدس سره): والاجتهاد هو: النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الشرعية التي جاء بها سيد المرسلين(صلی الله علیه و آله و سلم).

بيّن المصنّف حقيقة الاجتهاد، وأنه ملكة يستطيع من خلالها الفقيه أن يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية المعروفة.

والشيخ يعبّر عنها بالنظر في الأدلة الشرعية، لأجل معرفة الأحكام الفرعية والأحكام التي جاء بها سيد المرسلين محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن الواضح أن الاجتهاد والتقليد يأتي في الأحكام الفرعية، أما أصول الدين فقد تقدم أن المطلوب فيها الجزم،إما بالاجتهاد أو الجزم بأخذ الدليل من الآخر.

إن المطلوب منا هو أن نمتثل لكل ما جاء به الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، لما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(2)

ثم قال المصنف عبارة:(وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان و الأحوال)

ص: 34


1- الاحتجاج – الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 260.
2- الحشر 7.

وهنا إشارة الى ما ورد عن الإمام الصادق(علیه السّلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً الى يوم القيامة، لا يكون غيره و لا يجيء غيره».(1)

إشارة: بيان الثابت والمتغير في الشريعة.

اشارة

ذكر الشيخ أن هذه الأحكام التي جاء بها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ثابتة ومستمرة إلى يوم القيامة، ولكن ثباتها واستمرارها لا يتنافى مع التطور الحضاري والثقافي، باعتبار أنه يوجد في الشريعة عنصران: عنصر ثابت وعنصر متغير، والمقصود من المتغير: أنه قانون إسلامي له القابلية على التجدّد وعلى الانطباق على ما يأتي به الزمان من مفردات، فهو أشبه بالقاعدة الكلية التي تنسجم مع متغيرات الحياة، ولنضرب مثلاً لهذا المعنى بوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة على المسلم، فهل هذا الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان؟

كلا، إنه لا يتغير أبداً، فهو ثابت الى يوم القيامة، وهكذا الحال في وجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وغيرها، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير.

ولكن مثل قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ا لْخَيْلِ﴾(2)هذا قانون إسلامي، فهل نتصور أو نتوقع أن الله سبحانه تعالى يريد من الجيش الاسلامي أن يكون دائماً وفي كل الأزمات عنده خيل أو سيف و رمح فقط؟!

إن القرآن في هذه الآية كأنه يريد أن يقول للمسلمين: ابنوا وأسّسوا جيشاً معداً بالأسلحة، ومهيأً لأي حركة متوقعة، وفي ذلك الوقت كان مصداق هذا الإعداد هو

ص: 35


1- في الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 58 باب البدع والرأي والمقائيس ح19. عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله8 عن الحلال والحرام فقال: «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره»، وقال: قال علي8: «ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة».
2- الأنفال 60.

رباط الخيل، أما في هذا الزمن فلا معنى لأن نلتزم بتلك الكلمة، بل الصحيح هو أن نُبقي على القاعدة الاصلية وهي (إعداد الجيش) لكن نُغير في الانطباق، فنعدّ الجيش ونمدّه بالأسلحة الحديثة، وبذلك نكون ممتثلين لأمر الله(عزوجل).

ومثال آخر: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وقد كان طلب العلم في ذلك الوقت من خلال الكتاتيب، فيقرأ المعلم والطلبة يستمعون له، أما الآن فقد أصبح التعليم إليكترونياً، ولو بقينا على ما كان في زمن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) حينها سنحكم على هذه الطريقة الآن بأنها بدعة! ولكن باعتبار أن القاعدة هي طلب العلم، وطلب العلم مصاديقه متعددة تختلف باختلاف الزمان، فنبقى على الأصل وهو ثابت، وأما مصاديقه فتختلف وتتغير بتغير الزمان، وهذا من أهم الفواصل والفروقات بيننا وبين العامة، فالعامة في كثير من الأحيان جمدوا على ظاهر النص، ولم يخرجوا إلى تغير النص بتغير أحوال الحياة، لذلك حدث شرخ كبير بيننا وبينهم.

والشيخ(رحمه الله علیه) عندما قال (لا تتغير) لا يُفهم منه أن كل الأحكام كذلك، وإنما يريد أن يقول: إن أصل الشريعة وما جاء به النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) من أحكام هذا لا يتغير، وهذا لا يتنافى مع وجود قواعد عامة تتغير منطبقاتها بتغيرات وأحوال الزمان والمكان من حيث الانطباق الخارجي.

ثم أشار الشيخ إلى الأدلة الشرعية للاستنباط وهي:

أولاً: الكتاب الكريم:

وواضح جداً أن القرآن هو مصدر التشريع، ويعبرون عنه بأنه قطعي الصدور، فلا تحتاج إلى البحث عن أن هذه الآية صحيحة أو لا، بل القرآن كله قطعي الصدور، باعتبار أنه متواتر، فإنما أخذنا القرآن ممن سبقنا من المتشرعة - كل المتشرعة بل كل

ص: 36

الناس- بشكل معين، وهم قد أخذوه من متشرعين قبلهم، فنحن الآن في هذا الزمن عندنا متشرعة يقرأون القرآن، أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، والذين قبلهم أخذوه من الذين قبلهم، حيث نقلوا هذا المصحف بهذا الشكل بلا زيادة ولا نقصان، و هكذا إلى أن نصل إلى زمن الائمة(علیهم السّلام)، وزمن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)وعدد أولئك الذين نقلوا القرآن بهذا الشكل يتجاوز الآلاف، ومعه، فيحكم العقل بامتناع اجتماعهم كلهم على الكذب.(1)

فإذا صار عندنا خبر بهذه الكيفية، صار عندنا خبر متواتر، فلا نحتاج إلى البحث في سند القرآن الكريم، لأنه قطعي الصدور بالتواتر.

ثانياً: السُنة:

هي ما جاء عن النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم ويشمل (أقوالهم، أفعالهم وتقريرهم) فقولهم حجة وأفعالهم كذلك، فإذا رأيت النبي أو الإمام صلوات الله عليهم يتوضأ بكيفية معينة، ففعله هذا حجة علي. وإذا أراد الإنسان أن يتوضأ بصورة صحيحة، وقلّد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في وضوئه، فنحكم بصحة وضوئه.

وإذا رأينا الإمام(علیه السّلام) يأكل طعاماً معيناً، فنحكم بأن هذا الطعام حلال، وليس حراماً، لأن المعصوم لا يفعل الحرام.

إشارة: فعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم.

لا بد من ملاحظة أن فعل المعصوم عموماً يدل على الإباحة بالمعنى الاعم، وأنه

ص: 37


1- فربما يكذب أحدهم، أو اثنان منهم، أو ثلاث، لكن أن يتفق كل المتشرعة برغم اختلاف الازمان، واختلاف انتماءاتهم واختلاف مستوياتهم العلمية، فهذا ما يُقلّل العقل من نسبته الاحتمالية إلى أن يُحيله ويمنعه.

لا إلزام فيه، بمعنى أنه لو رأيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يفعل فعلاً معيناً، فلا أستطيع أن أعيّن الحكم التكليفي له بالضبط، إنما فقط أستطيع أن اقول شيئاً واحداً، وهو: أن ما يفعله المعصوم ليس حراماً، وليس مكروهاً، أما هل هو واجب أو مستحب أو مباح بالمعنى الأخص(1)، فهذا ما لا أستطيع تحديده.

ففعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم، فقد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون مباحاً بالمعنى الأخص.

لذلك لا نستطيع أن نستدل على وجوب شيء بفعل الإمام له، لأن فعله يدل على الإباحة بالمعنى الاعم، أي أنه ليس بحرام ولا مكروه فقط، فقد أرى الإمام يصلي في أرض معينة، فهل يمكن أن أقول: يجب علينا أن نذهب لتلك الأرض ونصلي فيها؟ كلا، فإن فعله هذا قد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً بالمعنى الأخص.

وهكذا لو أن الإمام(علیه السّلام) ترك الصلاة في مكان ما، كما يروى عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه ترك الصلاة في أرض بابل، فهل أستطيع أن أقول: إن هذا الفعل حرام لأن الإمام تركه؟ كلا، لأنه قد يكون مكروهاً وقد تركه الإمام، وقد يكون مباحاً وتركه، ربما لأنه رآها أرض خسف وتكره الصلاة في أرض الخسف.(2)

ففعل الإمام لا يدل على الإلزام، فإذا فعل شيئاً لا أقول: إن الذي فعله واجب، ولا

ص: 38


1- الذي ليس فيه ملاك الوجوب ولا الحرمة ولا الاستحباب ولا الكراهة، أو الذي فيه ملاك ترك الإنسان بلا قيود من ناحيته.
2- في الخرائج والجرائح - قطب الدين الراوندي - ج 1 - ص 224 ب2 ح69. روى جويرية بن مسهر قال: أقبلت مع علي(علیه السّلام)من النهروان فلما صرنا في أرض بابل حضر وقت الصلاة، فقال: «أيها الناس إن هذه أرض ملعونة قد خسف بها مرتين من الدهر، وهي إحدى المؤتفكات (المدن التي أبادها الله وقلبها على أهلها)، وهي أول أرض عبد فيها وثن، ولا ينبغي لنبي ولا لوصي أن يصلي فيها، وضرب بغلة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وسار».

أن تركه يدل على الالزام، فإذا ترك الصلاة في أرض الخسف مثلاً فلا أستطيع القول: إن الصلاة فيها حرام.

ما هو معنى التقرير هنا؟

اشارة

المقصود من تقرير المعصوم هو سكوت المعصوم عن فعل أو قول مع قدرته على إظهار خلافه لو كان غير حق.

مثلاً: يفعل شخص ما بمشهد المعصوم وحضوره فعلاً ما، فيسكت المعصوم عنه مع توجهه إليه وعلمه بفعله، وكان المعصوم بحالةٍ يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئاً، والسعة تكون من جهة عدم ضيق الوقت عن البيان، ومن جهة عدم المانع منه، كالخوف والتقية واليأس من تأثير الإرشاد والتنبيه ونحو ذلك.

فمع اجتماع هذه الشرائط، يكون سكوت المعصوم دالاً على إمضائه لفعل ذلك الشخص ورضاه به، وإلا -أي لو كان ذلك الفعل منهياً عنه- لوجب على المعصوم أن يُنبّه عليه، وأن ينهى ذلك الشخص عن فعله، باعتبار أن المعصوم(علیه السّلام) مكلف ببيان الأحكام الشرعية، والمفروض أنه لا مانع يمنعه من بيان الحق.

ثالثاً: الإجماع:

هو أن نجد كل الفقهاء يجمعون على حكم شرعي.

وهنا لفتتان:

الأولى: أن الإجماع ليس له قيمة في حد نفسه، إنما القيمة العلمية هي لما يكشف عنه الإجماع، حيث إنه يكشف عن رضا المعصوم وإمضائه للحكم المُجمع عليه.

وذكروا لذلك عدة تبريرات، منها (اللطف) بمعنى: أنه لو كان إجماعهم خاطئاً،

ص: 39

فالمعصوم وإن كان غائباً، لكنه حاضر ينظر إلى الفقهاء وأنهم أجمعوا على حكم شرعي خاطئ، فمهمته(علیه السّلام) تقتضي أن يخرج إليهم ويقول لهم: هذا حكم خاطئ، أو على الأقل يذهب إلى أحد الفقهاء من الذين يؤثر قولهم المخالف سلباً في الإجماع ويكشف له الحقيقة، ويقول له خالف، حتى تصير مخالفة، وينخرم به الإجماع.

فإجماع الفقهاء على حكم شرعي يكشف عن أن الإمام راضٍ به، ولو لم يكن راضياً لوجب عليه(علیه السّلام) أن يظهر ويبلغ بالحقيقة، باعتبار أنه المسؤول عن تبليغ الأحكام الشرعية الصحيحة، أو أن يذهب لأحد الفقهاء ويأمره بالمخالفة فينخرم الإجماع، كل ذلك من باب اللطف.

فالإجماع يكون حجة اذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم.

الثانية: أن الإجماع إنما يكون حجة إذا لم يكن مدركياً، ولا محتمل المدرك.

ومعنى كونه مدركياً أو محتمل المدركية: أن يكون إجماع الفقهاء اعتماداً منهم على رواية، أو نحتمل ذلك على الأقل، فلو فرضنا أنهم أجمعوا على حكم شرعي، ولما تابعناه وجدنا أنهم يعتمدون في إجماعهم على رواية من الروايات، أو على الأقل احتملنا وجود رواية يمكن أن تكون هي المدرك لذلك الإجماع، عندئذٍ لا يكون الإجماع حجة، لوجود الرواية، إذ إن حجية الرواية أقوى من الإجماع، فالأولى حينها أن نذهب للرواية، لأنها قول المعصوم، إما الإجماع فهو يكشف عن رأي المعصوم وقد يكون هذا الكشف خطأً.

رابعاً: العقل:

أي ما يدركه العقل، بمعنى أن العقل يدرك قضية، هذه القضية من شأنها أن تقع حداً أوسطاً في استنباط الحكم الشرعي، فليست كل قضية عقلية تدخل دليلاً في الحكم الشرعي، وإنما القضية التي يدركها العقل والتي يمكن أن نستنبط منها حكماً شرعياً،

ص: 40

فتلك القضية تدخل في نطاق الأدلة الشرعية.

مثلاً: العقل يحكم بأنه إذا وجب الشيء فقد وجبت مقدمته التي لا يمكن أن يحصل بدونها، فالعقل يحكم بأن الشيء إذا توقف على مقدمة، وكان ذلك الشيء واجباً فمقدمته واجبة.

مثلاً: لو فرضنا أنه جاءنا دليل شرعي دلّ على أن الصلاة واجبة، ودليل ثانٍ دلّ على أنه لا صلاة إلا بطهور، فالشرع قال لنا هذين الدليلين فقط، حينها يأتي العقل وينظر في هذين الدليلين، فيجد أن معنى (لا صلاة الا بطهور)(1)

أن الطهارة هي مقدمة للصلاة، فيحكم العقل بوجوب الطهارة، رغم أن الشرع لم يقل: إن الوضوء واجب، وإنما قال: إن الوضوء مقدمة للصلاة، فيأتي العقل فيقول: ما دام هذا واجب -أي الصلاة-، وهذه مقدمة يتوقف عليها -وهي الوضوء-، إذن تلك المقدمة واجبة ايضاً، فمثل هذه الأحكام هي التي تدخل كدليل شرعي.

احتياج الاجتهاد إلى جهد وتوفيق.

ثم قال الشيخ(رحمه الله علیه): «وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جد واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها».

بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ، فإن رتبة الاجتهاد تحتاج إلى توفيق من الله(عزوجل) فالإمام الصادق(علیه السّلام) في نصيحته لعنوان البصري يقول: ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً من نفسك

ص: 41


1- في كتاب: من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 33 باب وقت وجوب الطهور ح 67: قال أبو جعفر الباقر8: إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلا بطهور.

حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك.(1)

فهو يحتاج إلى توفيق، وليس مجرد تعلم، وهو الذي يذكره القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الَلهُ والله بكل شيءٍ عَلِيمٌ﴾(2)

وعلينا أن نلتفت إلى أن العلم ليس فضيلة بقدر ما هو مسؤولية، فالعلم مسؤولية قبل أن يكون فضيلة.

ص: 42


1- مشكاة الأنوار - علي الطبرسي - ص 563 الفصل العاشر من الباب الثامن.
2- البقرة 282.

عقيدتنا في المجتهد

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في المجتهد

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام(علیه السّلام) في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله(عزوجل)، وهو على حدِّ الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت(علیهم السّلام).

فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصاته لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه، إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيزات إلا بأمره وحكمه.

ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.

وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام(علیه السّلام) للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة، ولذلك يسمى (نائب الإمام)». انتهى.

نائب الإمام(علیه السّلام) على قسمين: خاص وعام، والخاص يكون في زمن حضور الإمام، أما في زمن الغيبة فلا يكون الا نائبٌ عام، وكل من ادّعى النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى للإمام المهدي(علیه السّلام)قبل الصيحة والسفياني فهو كذاب مفترٍ كما جاء في آخر

ص: 43

توقيع له(عجل الله تعالی فرجه الشریف) إلى سفيره الرابع علي بن محمد السمري.(1)

فالسفارة الخاصة تعني: أن يدعي الشخص أنه نائب الإمام المعصوم، وأن الإمام(علیه السّلام)حمّله بعض الأوامر، وأمره بإيصالها إلى الشيعة، وبالتالي يلزم على الشيعة طاعة ذلك الشخص.

وهذه هي المنفية بالرواية.(2)

أما أن يدعي شخص أنه نائب عام عن الإمام من دون أن يدّعي أن الإمام حمّله بعض الأوامر وأنه يجب على الشيعة إطاعته فهذا يعني أنه نائب عام، أي إنه مجتهد فهذا يجب علينا إطاعته من باب آخر، وهو باب لزوم الرجوع إلى ذوي الخبرة في مجال تخصصهم–كما تقدم-.

ص: 44


1- في كتاب كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 516 ب45 ح44.قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمريv فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلا بعد إذن الله(عزوجل) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
2- هنالك أدلة عدة على انقطاع السفارة غير الرواية المذكورة، ومنها التالي: أولاً: إن انقطاع النيابة والسفارة من أوليات وبديهيات وضروريات مذهب أهل البيت(علیهم السّلام). ثانيا: إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة وإجماعهم على كفر وضلال مدعي السفارة والنيابة. ثالثا: التواتر وحاصله إن للإمام المهدي(علیه السّلام) غيبتين غيبة صغرى وغيبة كبرى وان الفارق بينهما أن الغيبة الصغرى الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام(علیه السّلام)من خلال السفراء والنواب الخاصين وان الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاما أي الانقطاع تاما كما إن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة في حين انتهاء الغيبة الكبرى يكون بالبيعة للإمام(علیه السّلام) وظهوره وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته. [مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف)].

يُضاف إليه: أن النائب الخاص يُعيّنه المعصوم بشخصه، كما حصل في السفراء الأربعة، أما العام فيعيّنه المعصوم لا بشخصه، بل بصفته. كما روي عن الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام): «...فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم...»(1)

أو مثلاً ما ورد عن الإمام المهدي(علیه السّلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم».(2)

فالمجتهد نائب ووكيل عن المعصوم، ولكن وقع خلاف بين الفقهاء وهو:

هل المجتهد وكيل نائب عن المعصوم في كل ما للمعصوم من ولاية على الأنفس والأموال والأرض كلها، فالمعصوم ولايته عامة وهو أولى بنا من أنفسنا، فهل المجتهد ولايته هكذا؟

أو أن ولاية ونيابة المجتهد عن المعصوم هي في خصوص الأمور الحسبية؟ أي الأمور التي تتوقف عليها حياة الناس، والأمور التي يتوقف عليها النظام، والتي لو لم يتدخل بها المجتهد لأحدثت فوضى في المجتمع، كالنزاعات التي تحدث، وقضايا التوارث وقضايا الالتزام بأنظمة الدول، والتشريعات التي من شأنها أن تنّظم الحياة، وقضايا الدفاع عن بيضة الإسلام، أو الهجوم من أجل نشر الإسلام، والقضايا الحسبية كأموال الأيتام وما شابه؟

فهذه مسألة خلافية يرجع فيها إلى أبواب الفقه.

ص: 45


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 263 – 264.
2- الغيبة - الشيخ الطوسي - ص 291/247.

نكتة: في معنى الحدود والتعزيرات.

الحدود: هي العقوبات التي لها تقدير من الشارع، كحدّ شارب الخمر، وحد قذف المحصنة، وأما التي لم يحددها الشارع (ليس لها تقدير خاص من الشريعة) ويترك تحديدها للمجتهد فتسمى التعّزير، فالشارع ترك تحديدها للمجتهد حسب ما يرى، كالصبي اذا فعل معصية من المعاصي، فشرط إجراء الحدّ أن يكون بالغاً، ولكن لا يترك الصبي بلا عقوبة للتأديب، بل يعزّر من قبل المجتهد الجامع للشرائط.

ص: 46

الفصل الأول

الإلهيات

عقيدتنا في الله تعالى

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الله(عزوجل)

نعتقد إن الله(عزوجل)واحدٌ أحدٌ ليس كمثله شيء، قديمٌ لم يزل ولا يزال، هو الأولُ والآخرُ، عليمٌ حكيمٌ عادلٌ حيٌ قادرٌ غنيٌ سميعٌ بصيرٌ. ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، فليس هو بجسمٍ ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقلٌ أو خفةٌ، ولا حركةٌ أو سكونٌ، ولا مكانٌ ولا زمانٌ، ولا يشار إليه. كما لا ندَّ له، ولا شبه، ولا ضد، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم كين له كفواً أحد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صور له وجهاً ويداً وعيناً، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، (أو نحو ذلك) فإنه بمنزلةِ الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص، بل كل ما ميّزناه بأوهامنا في أدقِّ معانيه فهو مخلوقٌ مصنوعٌ مثلنا مردودٌ إلينا (على حد تعبير الإمام الباقر(علیه السّلام)) وما أجله من تعبيرٍ حكيم!

ص: 47

وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة، وإن نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان، فإن أمثال هؤلاء المدعين جمدوا على ظواهر الألفاظ في القرآن الكريم أو الحديث، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم. فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز».انتهى.

ملاحظات تمهيدية:

اشارة

الملاحظة الأولى: لماذا لم يذكر الشيخ (قدس سره) أدلة إثبات وجود الله تعالى؟

عندما نقرأ كتب الكلام والعقائد، نجد أن العلماء قبل أن يدخلوا في بحث صفات الله(عزوجل)، يدخلون في بحث إثبات وجوده(عزوجل) أولاً، وبعد إثبات وجوده تعالى يبحثون في صفاته، وهذا هو البحث المنهجي؛ لأنه كيف نبحث في الصفات قبل إثبات وجود الذات؟

ولكن الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) دخل في بحث صفات الله(عزوجل) من دون أن يثبت وجوده، فلماذا فعل هذا؟ وما هو السر فيه؟

الجواب: بمراجعة مقدمة هذا الكتاب، نجد أن الشيخ(رحمه الله علیه) قد كتبه لبيان عقائد اتباع أهل البيت(علیهم السّلام) في قبال عقائد غير مذهبنا، يعني هو يتكلم مع من يدّعي الإسلام، أي مع العامة، ومن الواضح أنه في كلامه مع العامة لا يحتاج إلى إثبات وجود الله(عزوجل) باعتبار أن إثبات وجوده يكون زائداً عن الهدف الذي كتب من أجله كتابه؛ لأنهم على كل حال يعتقدون بوجوده جل وعلا.

وبعبارة أخرى: أنه(قدس سره) لم يكتب هذا الكتاب لاستقصاء كل ما له دخل في علم

ص: 48

الكلام، وإنما لبيان عقيدة الشيعة في أصول الدين العامة في قبال أهل السنة، ومعه فلا يحتاج هنا إلى أكثر من البحث في صفاته تعالى، لأن الخلاف فيما بيننا وبين العامة هو في الصفات، لا في أصل إثبات وجوده تعالى.

الملاحظة الثانية: تنبيهات لا أدلة.

حيث إن وجود الله تعالى أمر بديهي، فلا يحتاج إلى إقامة برهان عليه، باعتبار أن العقل يدرك ضرورة وجود واجب الوجود، أو قل يدرك ضرورة وجود الله تعالى.(1)حتى لو فرضنا أنه لا توجد رسالات ولا آيات ولا روايات، فالعقل يدرك لوحده ضرورة وجود خالق، عالم، مدبر، مريد، قادر، حي لهذا العالم، بغض النظر عن تسمية هذا الذي أوجد هذا العالم، فقد يسميه البعض واجب الوجود -مثل الفلاسفة-والبعض يسميه (الله) مثلاً والبعض يسميه الصانع، بالنتيجة نحن نؤمن بأن هناك شيئاً أوجد العالم وهو موجود، والعقل يدرك هذه الضرورة، فلذلك لا نحتاج إلى إقامة الدليل على ذلك.

نعم، إنما تذكر الأدلة من باب المنبهات، باعتبار أن هذا الأمر وإن كان بديهياً، ولكن يمكن أن تدخل عليه الشبهة، فنحتاج إلى إزاحة وإزالة تلك الشبهة.

وهذا يعني: أن ما يذكره القرآن الكريم والروايات الشريفة من أدلة على وجود الله(عزوجل) ستكون من باب الإرشاد لا التأسيس.

الملاحظة الثالثة: برهان النظم.

قيل: إن الطرق الموصلة إلى الله(عزوجل) بعدد أنفاس الخلائق –كما يُقال-، ولكن مع ذلك تجد أن العلماء ذكروا أنواعاً عديدةً من الأدلة وعنونوها بعناوين خاصة، فمن برهان الإمكان والوجوب إلى برهان النظم إلى برهان انقطاع الدور والتسلسل وبرهان

ص: 49


1- واجب الوجود والله(عزوجل) عنوانان لمعنون واحد.

المفهوم والفطرة وما شابه، لكن القرآن الكريم ركّز على نوع من هذه الأنواع.

قد نجد في بعض آياته إشارات إلى بعض الادلة الفلسفية والكلامية وما شابه، ولكنّ هناك تركيزاً على نوع من أنواع تلك البراهين وهو: برهان النظم.

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت 53]

وفي هذه الملاحظة خطوتان:

الخطوة الأولى: بيان برهان النظام.

تتبين خلاصة برهان النظم عبر مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن هناك نظاماً دقيقاً يحكم عالم الوجود من الذرة إلى المجرة.

فكلُّ ما في هذا الوجود هو خاضع لنظام دقيق من أبسط شيء فيه إلى أكبره، هذه المقدمة الأولى، وهي صغرى القياس.

المقدمة الثانية: إن العقل يحكم بامتناع أن يكون هذا النظام من دون منظِّم، عالم، قادر، مريد، أي إنه يستحيل أن تكون الصدفة هي من أوجدت هذا النظام، وهذه تمثل كبرى القياس.

والنتيجة من هاتين المقدمتين: أن هذا الوجود والعالم له منظِّم قادر، عالم، حي، مريد، مدرك، هذا المنظِّم هو الذي نحن نسميه: الله(عزوجل).

ص: 50

هذه هي خلاصة برهان النظم

اشارة

بيان الصغرى:

أما أن هذا العالم مبتنٍ على نظام دقيق، فهذه لا تحتاج إلى إثبات، أنت فقط انظر إلى أي مفردة من مفردات هذا العالم، ستجدها مبتنية على أساس دقيق من النظام، وكلما تطور العلم اكتشف أنظمة أكثر في هذا الوجود، وهذا ما قد تشير له الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾(1)

فالعلماء هم الذين يستطيعون أن يكتشفوا هذا النظام الدقيق الموجود في مخلوقات الكون على اختلاف تخصصاتهم.

يوجد كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) كتبه مجموعة من العلماء الأمريكان في تخصصاتهم (اقتصادية، فيزيائية، زراعية) من خلال نظرهم للنظام الدقيق المحسوب في كل مفرداته وتيقّنوا بأن هذا النظام لابد أنْ يكون له منظِّم عالم، ونظامه وعلمه أدق مما هو موجود، وإلا فكيف أفاض هذا النظام وهو غير منظَّم وهو غير عالم، وفاقد الشيء لا يعطيه!

فالصغرى-أي إن هذا العالم مبتنٍ على نظام- يثبتها كل علم في مجاله، فعلم الطب يبحث في جسم الإنسان فيجد أن هناك نظاماً دقيقاً فيه، بل نجد أن هناك نظاماً دقيقاً في كل عضو من أعضائه الداخلية، ليس فقط العضو بنفسه، وإنما هناك توافق في العمل بينأعضاء الجسم كلها، فكل عضو يأخذ دوره ويقوم بما عليه من واجب، ويأخذ ما عليه من حقوق، وهناك تقسيم دقيق في كل عضو من اعضاء الإنسان وهكذا...

وعندما تذهب إلى عالم النبات، تجد أيضاً أن العلماء اكتشفوا أن ثمة علاقات تبادلية

ص: 51


1- فاطر 28.

-تبادل منفعة- بين بعض الموجودات والموجودات الاخرى، فهذا يعيش طفيلياً على نبات، وفي نفس الوقت يخلص ذلك النبات من عثة تريد أن تقتله، بالنتيجة، يمكننا أن ننظر إلى ما في الآفاق وإلى ما في الأنفس فنكتشف دقة هذا النظام.

بيان الكبرى:

وأما الكبرى – أي إن هذا النظام لابد له من منظِّم- فهي وجدانية عقلية لا ينكرها إلا مجنون أو مكابر، وإلا فالعقل لوحده يحكم باستحالة أن يكون هناك نظام من دون أن يوجد من نظّمه وينظّمه، وذلك المنظِّم لا بد أن يكون عالماً، تماماً كما إذا رأيت لوحةً مرسومةً بدقة معلقة على الحائط، فإن العقل يستحيل أن يحكم بأن هذه اللوحة رُسمت لوحدها وتعلّقت لوحدها على الحائط، فالعقل يحكم بأن هناك مَن أخذها وعلّقها على الحائط، هذا بصورة مصغّرة، وهكذا فالعقل يُدرك أن هذا النظام لا بد له من منظِّم، وهذه مسألة وجدانية لا نحتاج فيها إلى أكثر من التفكّر قليلاً.

وقد تعدّدت الصياغات لبرهان النظم، ضمن إطار عام واحد يتمثل بالانتقال من النظام إلى وجود المنظِّم، فقد روي أنّه سُئل أمير المؤمنين(علیه السّلام)عن إثبات الصانع، فقال: «البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟»(1)

ويُقال: كان هناك فيلسوف لديه ألف دليل على نفي وجود الله تعالى، وأخذ على عاتقه أن يذهب ويناقش أحد العلماء، وفي الطريق مرّ على فلّاح، فسأله: «أين بيت العالم (فلان)»؟ قال الفلّاح: «ما تريد منه؟» أجاب الفيلسوف: «لدي ألف دليل على عدم وجود الله». فرد عليه الفلّاح قائلًا: «لا داعي لأن تذهب إلى العالم، فأنا أجيبك: عندي

ص: 52


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 3 - ص 55.

دليل واحد على وجود الله ينسف أدلتك الألف! أرضي الزراعية هذه! فأنا أفتح الماء هنا وأقطعه هناك، فإن أهملتها ساعة واحدة مات الزرع، فأرض بمقدار دونم واحد إذا لم يكن لها ربٌّ تموت، وهذا العالم بأسره تنتظم أموره بلا رب؟! إنه المستحيل بعينه!

فهذا هو نفس دليل «النظام»، لكن الرجل صاغه بعبارته.

ومن اللطائف التي تنقل عن الشيخ أبي الحسن علي ابن ميثم البحراني أنه دخل على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظّمه والناس حوله، فقال: لقد رأيت ببابك عجباً، قال: وما هو ؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب، بلا ملّاح ولا ماصر، قال: فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته: إن هذا -أصلحك الله- لمجنون، قال: فقلت: وكيف ذاك ؟ قال: خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس ؟ قال: فقال أبو الحسن: فأيّهما أعجب: هذا أو هذا الماء الذي يجري على

وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء، تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله، وتنكر أن تكون سفينة تحرّك بلا مدبر وتعبر بالناس! قال: فبُهت الملحد.(1)

فكل واحد يصوغه بعبارته الخاصة، فهذا البرهان لا يحتاج أكثر من مطالعة النظام وتطبيقه على القاعدة العقلية التي تقول: إن النظام لا بد له من منظِّم.

روي عن الامام الصادق(علیه السّلام) في الكافي رواية تشير إلى برهان النظم: أن زنديقاً سأل الامام(علیه السّلام): ما الدليل على صانع العالم؟ [يعني أن الزنديق سأل عن شيء خارج العالم وهو صَنَعَ العالم، أي أخذ العالم كموجود وهناك من أوجده] فقال أبوعبد الل(علیه السّلام): «وُجُودُ الأَفَاعِيلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَانِعاً صَنَعَهَا، ألَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى بِنَاءٍ مُشَيَّدٍ مَبْنِيٍّ

ص: 53


1- الفصول المختارة - الشريف المرتضى - ص 76.

عَلِمْتَ أَنَّ لَه بَانِياً وإِنْ كُنْتَ لَمْ تَرَ البَانِيَ ولَمْ تُشَاهِدْه».(1)

فبمجرد أن ترى الأثر تنتقل إلى المؤثر، وبمجرد أن ترى النظام تنتقل إلى المنظم.

الخطوة الثانية: لماذا ركز القرآن الكريم على هذا البرهان؟

نجد في الآيات القرآنية بعض الإشارات إلى بعض الأدلة الفلسفية والكلامية، لكن هناك الكثير من الآيات التي تشير إلى هذا البرهان، والسبب في ذلك -والله العالم- يرجع إلى التالي:

أولاً: إن هذا البرهان يتلاءم مع المستويات العلمية المختلفة وحتى المتباينة، فالإنسان العادي الذي ليس عنده معارف كثيرة يستطيع أن يستدل بهذا البرهان ليثبت وجود الله(عزوجل)، وكذلك العالم المتخصص أيضًا يستطيع أن يستدل بهذا البرهان، فهو برهان يشمل الجميع، بمعنى أنه يمكن أن يستعمله الجميع.

فهو ليس كبرهان الوجوب والإمكان، الذي يحتاج إلى دراسة معينة في الفلسفة، ومعرفة العديد من الاصطلاحات والقواعد الفلسفية، ومعرفة بطلان الدور والتسلسل، وبحوث متعددة حتى تصل إلى إثبات وجود الله(عزوجل)من خلاله، فهو خاص بفئة من الفئات، أما برهان النظم فهو شامل لكل الناس.

ثانياً: إنه خالٍ من التعقيدات اللفظية، والمصطلحات العلمية والفلسفية، التي تحتاج إلى درس وتأمل، فلا يحتاج إلى اصطلاحات ولا تأملات، فبمجرد أنك تعرض

ص: 54


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 81 باب حدوث العالم وإثبات المحدِث ح5، وتمام الرواية: قَالَ: «فَمَا هُوَ؟ قَالَ: شَيْءٌ بِخِلَافِ الأَشْيَاءِ ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى، وأَنَّه شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّه لَا جِسْمٌ ولَا صُورَةٌ ولَا يُحَسُّ ولَا يُجَسُّ ولَا يُدْرَكُ بِالحَوَاسِّ الخَمْسِ، لَا تُدْرِكُه الأَوْهَامُ ولَا تَنْقُصُه الدُّهُورُ ولَا تُغَيِّرُه الأَزْمَانُ».

هذا البرهان بلغته البسيطة الواضحة للإنسان، فإن النتيجة تتضح له بكل يسر.

ثالثاً: إنه متجدد مع الزمن، باعتبار أن صغراه -المقدمة الاولى- ترتكز على النظام الموجود في الكون، فكلما تقدمت العلوم اكتشفت أنظمة أكثر، فيتجدد هذا البرهان مع تجدد العلوم.

الملاحظة الرابعة: بيان معنى الواجب والممكن.

قسّم الفلاسفة والمتكلمون الموجود إلى قسمين: واجب الوجود، وممكن الوجود.

أما واجب الوجود فيعني: الموجود الذي يكون وجوده نابعاً من ذاته، لا من شيء آخر، فهو موجود بذاته لذاته في ذاته، لم يكتسب وجوده من الخارج، ولا يحتاج إلى شيء آخر يفيض عليه الوجود.

وأما ممكن الوجود: فهو الموجود المسبوق بالعدم، بمعنى أنه يكون قد استفاد وجوده من غيره، لا من ذاته، فهو في ذاته لا يستحق إلا العدم، وإنما يأخذ وجوده من غيره، فيكون ممكن الوجود.

وكل ما عدا الله(عزوجل)–المعبّر عنه بالعالم- هو ممكن الوجود، والله لا يدخل في ضمن العالم، لأنه خالق العالم وهو فوق العالم، فالعالم هو عالم الممكنات.

والمقصود من هذا التقسيم هنا هي الإشارة إلى أن واجب الوجود له خصائص.

ما هي خصائص واجب الوجود؟

هذه الخصائص إذا عرفناها الآن ستنفعنا في عقيدتنا في الله(عزوجل) وعقيدتنا في التوحيد وبقية مباحث الإلهيات، فأكثر مباحث الصفات ترتكز على هذه الخصائص لواجب الوجود، مع الالتفات إلى ما قلناه في الدرس الأول من أن كثيراً من الأمور التي نذكرها

ص: 55

هنا في هذه المرحلة هي على نحو الدعوى من دون دليل، لأن أدلتها تحتاج إلى تعمق أكثر، فتُترك لمرحلة أخرى، لكنها على كل حال حق واضح، أما الآن فنأخذها كأصل موضوعي، أي إنها ثبتت في مرحلة مسبقة أو في علم آخر، ويتم الاستفادة منها هنا كقاعدة مسلَّمة صحيحة لا نقاش فيها.

وأما مميزات وخصائص واجب الوجود فهي التالي:

اشارة

أولاً: إنه واحد في ذاته لا متعدد، وهذا تثبته أدله التوحيد التي ستأتي إن شاء الله تعالى، فإذا وجدنا شيئاً له ثانٍ، عدل، ند، نظير، مثيل، فهو ليس واجب الوجود، لأن واجب الوجود واحد في ذاته، لا يشبهه شيء، ولاند له، لأن الندّ نفسه مقابل له، فيصيران اثنين، وكذا المثل، الشبه، النظير، كلها منفية، فواجب الوجود واحد فقط.

ثانياً: إنه غني مطلق، فلا يحتاج إلى أي شيء لا خارجاً ولا ذهناً؛ لأن الاحتياج صفة الممكن، أما الواجب فصفته الغنى المطلق.

فبمجرد فرض الاحتياج -سواء في الخارج أي الوجود الخارجي أو في الذهن- فلا يكون واجب وجود، بل سيكون ممكن الوجود، والفرض الذي فرضناه أنه واجب وجود، فيصير خُلف المفروض.

إن واجب الوجود لا يحتاج إلى شيء في الخارج، فمثلاً البيت، مركب من عدة أجزاء خارجية، وهي الطابوق والاسمنت والجص والأبواب والشبابيك وهكذا، هذه تتجمع وتكوّن لنا شيئاً خارجياً وهو البيت، فالبيت محتاج إلى أجزائه الخارجية.

ولا يحتاج إلى شيء في الذهن، فمثلاً الماهية، هي مركبة من جنس ونوع، مثل: «الإنسان حيوان ناطق» فهذه الماهية مركبة في الذهن لا في الخارج، فأنت تحلّل الإنسان في ذهنك فتقول: هذا قسم منه حيوان وقسم منه ناطق، يتركبان فتصير ماهية الإنسان،

ص: 56

فصار مركباً من جزئين.

إذن هو محتاج إلى أجزائه، فاذا أخذت جزءاً من أجزائه فلا يبقى إنساناً، فلذلك هو ممكن.

واجب الوجود غني مطلق لا يحتاج إلى شيء لا في الخارج -كالبيت- ولا في الذهن -كماهية الإنسان التي تحتاج إلى الحيوان والناطق حتى يكون إنساناً-

ثالثاً: ما دام هذا واجب الوجود، اذن كل صفات الممكنات تكون منفية عنه، فمثلاً واحدة من صفات الممكنات المادية أنها أجسام، فواجب الوجود ليس بجسم.

بعض الممكنات أعراض -مثل اللون الذي يعرض على الحائط، إذ اللون لا وجود مستقلًا له، إنما يوجد في الخارج إذا عرض على الحائط- فواجب الوجود ليس بعرض.

وهكذا فالممكن يجوع، يعطش، يحتاج إلى الراحة، يحتاج إلى النوم وإلى التكاثر، هذه الصفات كلها غير موجودة عند واجب الوجود، وإلا لم يكن واجب الوجود.

فكل صفات الممكنات –بما هي ممكنات- منفية عن واجب الوجود.

رابعاً: إن واجب الوجود متصف بكل الصفات الكمالية وبدرجاتها الوجودية المطلقة، كل صفات الواجب كاملة ولا نقص في أي صفة من صفاته، ولو كان فيها نقص فهذا يعني أن الواجب يحتاج إلى غيره من أجل تتميم هذه الصفة، وإذا احتاج إلى غيره أصبح ممكن الوجود.

إشارة: بيان معنى لفظ الجلالة وسبب عدم إمكان المعرفة التامة.

لفظ الجلالة: الله(عزوجل): هذا اللفظ اسم خاص لذات الواجب جل جلاله، وهو بمعنى المعبود، أو الذي تحيرت العقول عن إدراك ذاته، أو المستور عن إدراك العقول، فهناك

ص: 57

حاجب بين تلك الذات وبين تلك العقول يمنعها من إدراك حقيقة الذات.

ولكن ما هو ذلك الحاجب؟

الحاجب هو أن العقول متناهية، والواجب لا متناهي، وفي الرياضيات يقولون: إن الفاصل بين المتناهي واللا متناهي هو فاصلٌ لا متناهي، فلا يستطيع المتناهي أن يدرك اللا متناهي، والمحدودُ لا يستطيع أن يدرك اللا محدود، فهناك فاصلة غير متناهية بينهما، لذلك لا نستطيع أن ندرك حقيقة الله(عزوجل)، وبهذا الاعتبار نفهم الروايات الواردة عن أهل البيت(علیهم السّلام) التي نهت عن الكلام في الله(عزوجل) وأنه لا تبحثوا في ذات الله(عزوجل)، ولا تنظروا في ذات الله(عزوجل)، وأن الذي يبحث يضيع ويتيه، ويُخاف عليه أن يقع في الإلحاد! فالمقصود منها هو البحث عن الذات وحقيقتها، فهذا أمر مستحيل علينا، لا نستطيع -نحن القاصرين والمحدودين-أن ندرك تلك الذات اللا متناهية.

بل نحن لا نستطيع ان ندرك حقيقة بعض الأمور الموجودة في عالمنا المادي، فكيف بالله(عزوجل)؟!

فالروايات الناهية عن البحث في الله(عزوجل) تقصد البحث عن حقيقة الذات المقدسة، فهذا أمر لا يستطيع أي انسان أن يصل اليه، وتتيه العقول عن معرفته.

وهذا يعني: أن البحث الممكن لنا عن الله(عزوجل) هو البحث عن آثاره جل وعلا وأفعاله وما كشفه هو تعالى لنا.

فمثلاً نحن قد لا نعرف حقيقة الكهرباء، لكننا نرى آثارها إذا دخلت إلى آلة أو جهاز فحركته أو دخلت إلى المصباح لتجعله يضيء، أو دخلت إلى مدفئة تجعلها تبعث الدفء، أو دخلت جهاز تبريد تجعله يعطي البرودة وهكذا.

ص: 58

فهذه آثار الكهرباء، أما حقيقتها فقد لا نعرفها، لكننا نستدل على وجود الكهرباء من آثارها، طبعاً المثال يقرب من جهة وقد يبعد من ألف جهة، وذات الله(عزوجل) ممتنعة المعرفة علينا، فلا يمكن أن ندرك تلك الذات المقدسة، لكننا نتعرف على الله(عزوجل) من خلال آثاره -كما بحثنا الآن وأثبتنا وجود الله(عزوجل) عن طريق برهان النظم، فننتقل من المعلول إلى العلة-

وهذا طريقنا نحن -طريق العميان-! وإلا ففي دعاء الامام الحسين(علیه السّلام) يقول: «إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرُكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً».

فتوجد حجب تمنعنا من معرفته تعالى والوصول إليه مباشرة، فنبقى نتردد بين المعلولات والآثار.

قال(عزوجل): «نعتقد أن الله تعالى واحدٌ أحد».

سوف نمر على هذه الصفات مروراً سريعاً مع شرحٍ بسيط لها إن شاء الله تعالى.

أولاً: الواحد الأحد.

ما هو فرق بين الواحد والأحد؟

الواحد: هو الذي لا شريك له، إذ قلنا: إن واجب الوجود واحدٌ غير متعدد.

يقول أمير المؤمنين(علیه السّلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن(علیه السّلام): «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ

ص: 59

كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً»(1).

فالواحد بمعنى أنه غير متعدد، فلا شريك له.

أمّا الأحد: فهو بمعنى غير المركب من أجزاء لا خارجاً ولا ذهناً، ويصطلح عليه في الفلسفة بالبسيط، أي ما ليس له أجزاء خارجية ولا أجزاء ذهنية(2).

ثانياً: «ليس كمثله شيء»:

البعض فسّرها بأن الله(عزوجل) له مثل، وهذا المثل ليس هناك شيء يشبهه، فعندنا الله، وعندنا مثل لله(عزوجل)، وهذا المثل ليس هناك شيء يشبهه، فليس كمثله شيء!

وهذا تفسير خلاف التوحيد الذي يقول: إن الله واحد لا شريك له.

ويظهر أنه قد جاء هذا التفسير من ملاحظة الآية بلفظها بما هي: «لَيس كمثلِهِ شيءٌ»، وجعل الكاف أصلية للتشبيه.

ولكن الصحيح كما يقول المفسرون الموحدون عموماً: إن هذه الكاف زائدة (كمثله) وحروف الزيادة يؤتى بها كناية عن معنى، كالتأكيد وما شابه، فالتقدير «ليس مثلَه شيءٌ» فليس المقصود نفي الشبيه عن مثله، وإنما المقصود: نفي الشبيه عن نفسه، فالله سبحانه لا يوجد شيءٌ مثله، نفسه، يضاده أبداً.

ص: 60


1- نهج البلاغة: ج3، ص44.
2- ومن هنا احتجنا الى بيان الصفات الخبرية مثل صفة الوجه واليد، إذ كيف مع كونه(رحمه الله علیه) غير مركب يكون له وجه؟ إن هذا بظاهره يعني أنه مركب من وجه وغير الوجه، له وجه وله يد، وبروايات العامة له رجل وله عين، هذه كيف نوفق بينها وبين كونه أحداً غير مركب؟ وهذا يأتي بحثه في محله إن شاء الله تعالى.

وهذا ما صرّحت به بعض الروايات الشريفة، فقد روي عن رسول اللهs أنه قال: «ليس شيء إلّا وله شيء يعدله، إلّا الله(عزوجل) فإنه لا يعدله شيء»(1).

وعن أمير المؤمنين8: «ولَا لَهُ مِثْلٌ فَيُعْرَفُ بِمِثْلِه»(2).

هذان الحديثان يوضّحان هذه الصفة التي هي آية من آيات القرآن الكريم، وردت بهذا المعنى، كل شيء له عدل، له شيء يعدله إلّا الله(عزوجل)، فليس له مثلٌ فيُعرف به، وهذا يفسر لنا المقصود من هذه الآية، وأن الكاف زائدة وأن المقصود: ليس مثله شيء.

ثالثاً: قديمٌ لم يزل ولا يزال:

القديم: هو الموجود غير المسبوق بالعدم، أو هو الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء، ولم يسبقه أي شيء ويقابله (الحادث)، أي الموجود المسبوق بالعدم، يعني لم يكن ثم كان.

ويُعبر عن القديم بالأزلي، فالقديم والأزلي هما بمعنى واحد.

وهو تعالى أبدي أيضاً، بمعنى أنه لا نهاية له، فالعالم – نحن الممكنات – لنا بداية ولنا نهاية، ولكن الله سبحانه وتعالى قديم، بمعنى أنه لما ترجع الى أعماق الماضي فإنك تجد الله(عزوجل) موجوداً، إلى أن تصل إلى مرحلة إنهاء الزمن!! إذ الزمن مخلوق من المخلوقات، فهو حادث، فلو رجعت إلى ما قبل الزمن، فإنك تجد الله موجوداً، وكذلك من جهة المستقبل، فهو تعالى موجودٌ أبداً.

والقديم الباقي، أو الأزلي الأبدي تجمعهما صفة (السرمدي)، فالسرمدي هو من لا بداية له ولا نهاية.

ص: 61


1- ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق: ص3.
2- الكافي – الشيخ الكليني: ج1، ص142، باب جوامع التوحيد، ح7.

رابعاً: الأول والآخر:

الأول: لغةً هو مبتدأ الشيء، تقول عليه: أول، والآخر هو نهاية الشيء ومنتهاه.

وإذا وصف الله(عزوجل) بالأول والآخر فيكون المعنى: أن الله(عزوجل)محيط بكل الموجودات، فكل موجود تفرضه في الماضي فإن الله تعالى قبله، وكل موجود تفرضه في المستقبل فإن الله تعالى بعده، وهو معنى قريب من القديم والباقي، فهو تعالى محيطٌ بجميع الأشياء، العالم كله بالنسبة له تعالى كالدرهم في كفّ أحدنا – مع حفظ فارق اللا تناهي -.

ولو التفت الإنسان الى هذا المعنى من الإحاطة، لأمكنه أن يفهم شيئاً من قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4)، ومن قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضىٰ مِنَ القَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾(1)

خامساً: عليم:

عن الامام الصادق8 أنه قال: «إن الله علمٌ لا جهل فيه، حياةٌ لا موت فيه، نورٌ لا ظلمة فيه»(2).

العلم يكون عندنا من اكتساب المعلومات، يعني أن الذهن فارغ من المعلومات، فأقرأُ كتاباً أو أستمع للمحاضرة أو أدرس في مدرسة، فأصيرُ عالماً، وهذا الذي يسمونه بالعلم (الكسبي).

أمّا علم الله(عزوجل) فهو ليس من هذا النوع، لماذا؟ لأن الكسبي مسبوق بالعدم، بالجهل، أنا مثلاً لم أكن أعرف بقواعد اللغة العربية، تعلمت وصرت عالماً باللغة، فعلمي باللغة

ص: 62


1- النساء: 108.
2- التوحيد – الشيخ الصدوق: ص137، في كونه تعالى عالماً، ح11.

العربية مسبوق بعدم علمي، فصار علمي كسبياً.

ولو قال شخصٌ: بأن علم الله(عزوجل) من هذا النوع، فهذا كفرٌ بالله(عزوجل)، لأنه يستلزم أن الله تعالى كان جاهلاً ثم عَلِم (أستغفر الله تعالى)، وهذا خلاف الخصيصة الثانية التي ذكرناها في خصائص واجب الوجود من أنه غني مطلق، والجاهل يحتاج إلى من يُفيض عليه العلم.

فعلمه تعالى علم حضوري لا كسبي.(1)

ما معنى العلم الحضوري؟

بمعنى أن نفس الشيء حاضرٌ عند العالم، فعلم الله تعالى بي هو علم حضوري، وهو ليس كصورة التقطتها الكاميرا وحولتها إلى الشاشة أمام الله(عزوجل)، كلا، ليس بهذا المعنى، وإنما أنا كلي حاضرٌ عند الله(عزوجل)، فكل الموجودات تكون حاضرة عند الله(عزوجل) لا تغيب عنه طرفة عين.

سادساً: الحكيم:

الحكيم فُسِّر بتفسيرين:

التفسير الأول: هو الذي يضع الشيء المناسب بالقدر المناسب في الوقت والزمن المناسب والمكان المناسب، فباختصار ما قاله أمير المؤمنين(علیه السّلام): «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه»(2).

ص: 63


1- في مراحل أعلى من علم الكلام يُقال: إن علمه تعالى إحاطي لا حضوري ولا كسبي.
2- في نهج البلاغة: ج4، ص52: وقِيلَ لَه صِفْ لَنَا العَاقِلَ - فَقَالَ8: «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه». فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الجَاهِلَ. فَقَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ». «قال الرضي: يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل».

فمعنى أن الله سبحانه وتعالى حكيم هو أن كل أفعاله حكيمة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾(1)

ولذا قالوا في علم الكلام: إن أفعال الله(رحمه الله علیه) معلّلة بالغايات، يعني أن كل أفعال الله(عزوجل)لها غاية ولها هدف ولها حكمة، وهذا اعتقاد تعبّدي، فسواء علمنا بالحكمة أو لم نعلم، فإنه ليس من الضروري أن أعرف الحكمة والهدف والغاية من كل فعل من أفعال الله(عزوجل) بعد أن آمنت بالدليل القطعي بأنه حكيم في كل أفعاله(عزوجل)، فكل فعل يصدر من الله(عزوجل) أو يأمر به الله(عزوجل) فإن له حكمة، وغاية، سواء عرفتها أو لا.

ومن هذا القبيل ما ورد من أنه سئل الإمام الصادق(علیه السّلام) عن علة غيبة الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) فأجاب بأن العلة الحقيقية لم يؤذن لنا بالكشف عنها، إلى أن يخرج القائم(عجل الله تعالی فرجه الشریف) فيبين العلة الحقيقية، وهذا يستبطن أنه إذا آمنتم بأن الغيبة هي بأمر الله(عزوجل) فاطمئنوا بأن وراءها حكمة ليس من الضروري معرفتها الآن، وهذا لا ينافي البحث عنها طبعاً.(2)

ومن هنا تجد أن علماء الكلام يبحثون فيما يتساءل الملحدون عن الحكمة من وجود العقرب رغم كونها سامة، وعن الحكمة من حدوث هذه الزلازل والعواصف

ص: 64


1- القمر: 49.
2- في كمال الدين: 481 و482/ باب 45/ ح 11 ورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالىٰ ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر(علیه السّلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسىٰ(علیه السّلام) إلَّا وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالىٰ، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتىٰ علمنا أنَّه(عزوجل)حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف».

والفيضانات التي تفتك بالعالم وتقتل النفوس البريئة وتحدث أضراراً اقتصادية، فكيف نجمع بين كون الله(عزوجل)حكيماً وبين هذه الأفعال التي ظاهرها الشرور؟!

وهذا بحث مستقل يبحثونه في علم الكلام.

وفي هذه المرحلة يكفينا أن نؤمن بأن الله(عزوجل) حكيم في كل أفعاله، فكل فعل يصدر منه تعالى فله حكمة وهدف، سواء علمنا بالحكمة أو لم نعلم.

دليل غائية الأفعال الإلهية.

وطبعاً هذا له دليله، وهو باختصار: أن الله سبحانه وتعالى أو أي موجود إنما يفعل شيئاً عبثاً لسبب ما، والسبب إمّا كونه محتاجاً لهذا الفعل العبثي – والله غني كما ذكرنا في خصائص الواجب -، أو لا يدري أن هذا الفعل عبثي – وهذا جاهل والجاهل ليس بكامل وهذا خلاف الخصيصة الرابعة وهي أن صفاته كلها كمالية -، أو مثلاً يُجبر على هذا الفعل – وهذا لا يُتصور في الله تعالى لأن معناه أنه عاجز ومسلوب الإرادة وهو خلاف القدرة والإرادة الإلهية– أو أنه مضطر لفعله عبثاً– وهذا منزّه عنه جل وعلا إذ لا موجود أعلى منه يضطره إلى فعل معين-.

فكل مبررات العبث غير موجودة عند الله(عزوجل)، فلا يبقى إلّا أن يفعل الفعل عن هدف وعن حكمة.

فالتفسير الأول للحكمة هو: الذي يضع الشيء في موضعه المناسب.

التفسير الثاني: هو الذي إذا فعل فإنه يُحكم فعله ويُتقنه، فحكيمٌ هو بمعنى من يُتقن العمل، وأن أفعاله محكمة دقيقة مرتبة منظمة ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(1)

ص: 65


1- النمل: 88.

سابعاً: عادل:

يقول الإمام أمير المؤمنين(علیه السّلام) في وصف الله تبارك وتعالى: «وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه، وقَامَ بِالقِسْطِ فِي خَلْقِه، وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِه...»(1).

إن معنى العدل في الله(عزوجل) - في هذا البحث، والتفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى– هو الذي لا يجور في فعله ولا يظلم عبداً.

وقد سُمي الإمامية والمعتزلة بالعدلية لأنهم أثبتوا هذه الصفة له جل وعلا، وهي من أصول المذهب عندنا.

سبب تأصيل صفة العدل.

هنا سؤال: إذا كان العدل هي صفة من صفات الله(عزوجل)، فلماذا جعلتموها أصلاً من أصول الدين دون بقية الصفات؟

معجَّلاً نقول: كان ذلك لوجود خلاف شديد فيها، وترتب آثار خطيرة على إثباتها أو نفيها، وقد ترتبت عليها الكثير من المباحث التي من أهمها بحث التحسين والتقبيح العقليين، وبحث الجبر أو التفويض أو الأمر بين الأمرين، وغيرها، والتفاصيل في محلها إن شاء الله تعالى.

ثامناً: حي:

الحي: هو بمعنى الموجود المدرِك المتصف بالقدرة والعلم الكاملين المنزهين عن كل نقص، فقدرته كاملة لا نقص فيها، وعلمه كامل لا نقص فيه، إذن هو حي، فالله سبحانه حي؛ لأنه قادرٌ عالم.

ص: 66


1- نهج البلاغة: ج2، ص115.

تاسعاً: قادر:

القادر: هو الذي يتمكن من الفعل والترك في آن واحد، فمثلاً أمامك كتاب تستطيع أن ترفعه وتستطيع أن لا ترفعه، فيقال عنك: قادر.

فالقادر لا يصدق إلّا إذا أتيح له خياران، وكان له تمام القدرة وتمام الاختيار في انتخاب أحد الطرفين، فالإنسان مثلاً قادر على أن يفعل الخير وأن يفعل الشر، لأنه دائماً يقف على مفترق طرق، طريق يوصل إلى الله(عزوجل)، وطريق يوصل إلى الشيطان، وهو عندما يختار طريق الشيطان ويترك طريق الله(عزوجل) فهو مسؤول عن فعله ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى﴾(1)؛لأنه

فَعَلَه عن قدرة مسبقة، فما يصدر من الإنسان فهو سعيٌ منه، فيكون هو المسؤول عنه، لأنه تُرك له الاختيار، فهو قادر على أن يفعل ما يشاء.

وعندما نقول: إن الله سبحانه قادر، فهذا يعني أنه يستطيع أن يفعل ويستطيع أن لا يفعل، يستطيع أن يفعل ويستطيع أن يترك(2).

وغير القادر يسمونه: الموجَب، أي الذي أُوْجِبَ عليه الفعل بحيث لا يفعل بإرادته، فمثلاً القلب عنده فعل، وهكذا الأعضاء الداخلية للجسم عندها أفعال، لكن لا نستطيع أن نصفها بأنها أفعال اختيارية، فلا يقال أي عضو منها: إنه قادر بالاصطلاح الكلامي أو الفلسفي.

عاشراً: غني:

الغني: هو المستغني بذاته عن كل ما دونها، وقد تقدم أن من صفات الواجب أنه

ص: 67


1- النجم: 39.
2- هذا التعبير المختلف لوجود رأيين في تفسير القادر: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، أو: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. وتفصيله في محله في علم الفلسفة.

غني مطلق وغير محتاج إلى أي شيء، فهو بذاته مستغنٍ عن كل شيء، فلا يحتاج إلى غيره، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وكما يقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الإمام الحسن(علیه السّلام): «فَإِنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه...»(1).

حادي عشر: سميعٌ بصير:

اشارة

السميع البصير: بمعنى أنه يدرك المسموعات ويدرك المبصرات، وليس بمعنى أنه يسمع الأصوات كما نسمعها نحن من خلال صوت يدخل إلى الأُذن ويحرك شيئاً ما فيها، يتحول إلى الذهن ويُفهم الصوت، لأن هذا المعنى يستلزم الجسمية والتركب وبالتالي النقص.

فالله سبحانه يسمعُ لا بآلة، وأمّا نحن فنسمع بآلة، يعني أنه تعالى يدرك المسموعات ويدرك المبصرات.

وبعبارة بسيطة: أن السمع والبصر شعبة من شعب العلم، أي إنه علم بالمبصرات والمسموعات.

لماذا يركز القرآن الكريم على صفتي السمع والبصر أكثر من غيرها؟

عندما نقرأ القرآن الكريم، كثيراً ما يركز على صفتي السمع والبصر في الله(عزوجل)، والسؤال: لماذا هذا التركيز؟

الظاهر والله العالم أن التأكيد على هاتين الصفتين كان باعتبار أن الاعتقاد بأن الله

ص: 68


1- نهج البلاغة: ج2، ص160.

يسمعنا ويرانا من شأنه أن يردع عامة الناس عن الاقتحام في الجرائم والمعاصي، وهذا أمر وجداني.

الإنسان المنحرف إذا دخل مثلاً في محل وأراد أن يَسرقهُ، إذا انتبه لوجود كاميرات مراقبة موجودة في المكان فمن المؤكد أنه سيترك السرقة؛ لأنه يخاف من هذه الكاميرات التي تراقبه وتحصي حركاته فيبتعد عن الجريمة، ونفس هذا الكلام يُنقل إلى الاعتقاد بأن الله سميعٌ بصير.

الاعتقاد بأن الله(عزوجل) يسمع ويرى من شأنه أن يجعل الإنسان ملتزماً بما يريده الله(عزوجل).

في أدبياتنا الخاصة، فإن المراقبة ليست أمرًا خاصاً بالله(عزوجل)، بل أئمتنا صلوات الله عليهم بما وهبهم الله(عزوجل) من علم لدني فأيضا عندهم هذه المراقبة، هم يراقبون شِيعتهم ويفرحون إذا صدرت منهم الطاعة، وفي نفس الوقت يحزنون إذا صدرت منهم المعصية.

في مكاتبة الامام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) للشيخ المفيد مقطع يشير الى هذا المعنى، يقول الأمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف): «نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكنِ الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، مادامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علمنا بأنبائكم ولا يعزبُ عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزللّ الذي أصابكم، مذ جنحَ كثيرٌ منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنّا غير مُهمليِن لمُراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء، فأتقوا الله جلا جلاله».(1)

استطراد: في سبب عدم تسمية الله تعالى بالشام والذائق واللامس.

عرفنا أن معنى كونه(عزوجل) سميعاً بصيراً هو أنه يعلم بالمسموعات ويعلم بالمُبصرات،

ص: 69


1- الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج2 ص 322.

فلمَ لم تصف الروايات ولا القرآن الكريم الله(عزوجل) بصفات الشام، الذائق، اللامس؟

الجواب: مثلما فسرنا السميع بالعالم بالمسموعات، والبصير بالعالم بالمبصرات، يصح لنا أن نقول: إن الله(عزوجل) عالم بالمشمومات، بالمذوقات، بالملموسات، فلا يعزب عن علمهِ شيء، ولكن رغم ذلك لا تطلق على الله(عزوجل) اسم الشام ولا الذائق ولا اللامس.

والسر في ذلك يرجع إلى أحد أمرين:

الأمر الاول: أن هذه الصفات الثلاثة (الشام، الذائق، اللامس) شديدة الارتباط بالجسمية، فإذا أطلقنا على الله(عزوجل) اسم الشام فقد يتوهم بعض الناس بأن له آلةً ماديةً جسميةً يشم بها، كما أن الإنسان يشم بآلة مادية، وبالتالي قد تتوهم الجسمية فيه(عزوجل)، فقطعاً لهذا التوهم لا نصف الله(عزوجل) بهذه الصفات، لكن نبقى نعتقد بأن الله(عزوجل) يعلم بالمشمومات، بالمذوقات، بالملموسات، فهو يعلم بها لكن لا نسميه بهذه الاسماء للسبب المذكور.

الامر الثاني: توقيفية الأسماء، ولم يرد في الروايات ولا في الآيات تسميته بذلك.

بيان معنى توقيفية الأسماء.

هناك بحث يذكر في كتب الكلام حول أسماء الله(عزوجل) وأنه هل يجوز لنا أن نطلق أي اسم على الله(عزوجل) وإن لم يرد في القرآن الكريم أو السنة؟ أو إنه لا يجوز أن نسمي الله(عزوجل) باسم ألا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة؟

رأيان:

الرأي الأول: توقيفية الأسماء.

أي إنه لا يجوز إطلاق أي اسم عليه(عزوجل) إلا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة، مما

ص: 70

يعني أن صحة إطلاق اسم على الله(عزوجل) موقوف على وروده في الكتاب أو السنة.

الرأي الثاني: عدم توقيفية الأسماء.

فلا يشترط في وصف الله(عزوجل) وتسميته بصفة أو اسم أن يكون ذلك الاسم أو الصفة وارداً في الكتاب أو السنة، يجوز لك أن تسمي الله(عزوجل) بأسماء أو تصفه بصفات لم ترد في الكتاب والسنة لكن بشروط:

الشرط الأول: أن يكون معناه صحيحاً.

الشرط الثاني: أن يدل الدليل على اتصاف الله به.

الشرط الثالث: أن لا يوهم ذلك الاسم نقصاً في الله(عزوجل)، كالجسمية.

وهذه الشروط لا تتوفر عند كل أحد، بل لا بد من قطع شوط طويل في تحصيل العلوم الدينية والعقائدية ليتمكن الفرد من الوصول إلى مرحلة يستطيع من خلالها تحقيق تلك الشروط، وعدم خرقها ولو من بعيد.

وعلى كلا الرأيين نقول:

لا يجوز إطلاق صفة الشام ولا الذائق ولا اللامس على الله(عزوجل)؛ لأنه بناءً على توقيفية الأسماء فالأمر واضح، إذ إن اسم الشام، الذائق، اللامس، لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.

وبناءً على عدم توقيفية الاسماء فلأن هذه الصفات توهم النقص في الله(عزوجل)؛ لأنها شديدة الارتباط بالجسمية، ولذلك لم نجد أحدًا من علماء الكلام قد أطلق هذه الأسماء عليه تعالى.

قال(قدس سره): «ولا يوصف بما توصف به المخلوقات».

ص: 71

هذه قاعدة عامة مستندها: أن الله(عزوجل) واجب الوجود، وواجب الوجود لا يتصف بأي صفة من صفات الممكنات، لأن هذا هو معنى واجب الوجود.

الآن يبدأ الشيخ بتعداد بعض هذه الصفات، أي صفات الممكنات والمخلوقات التي لا يتصف بها الله(عزوجل)، لا يتصف بها واجب الوجود: فقال:

1. فليس هو بجسم.

الجسم: هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق أو الارتفاع، وهذا المعنى ملازم للتركيب، وأيضا ملازم للمحدودية إذ إن الجسم يكون محدودًا، فطوله يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وعرضه يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وعمقه كذلك. فالجسمية تلازم التركيب وتلازم المحدودية، والمركب محتاجٌ إلى أجزائه.

مثال مادي: السكنجبيل يحتاج إلى عسل وماء وخل، وأي جزء يذهب من هذه الأجزاء فلا يبقى السكنجبيل، وهذا معنى أن المركب محتاج إلى أجزائه.

-الجسمية تلازم المحدودية، وواجب الوجود غير محدود وغير متناهي فلا يكون الله(عزوجل) جسماً.

-الجسم محتاج إلى محل، إلى حيز يحلّ فيه، والمحتاج صفة الممكن، والله(عزوجل) واجب الوجود فلا يحتاج إلى محل، ولا إلى مكان، ولا إلى اي شيء،

2. قال(رحمه الله علیه): «ولا صورة».

الصورة: هي الجوهر المفيد لفعلية مادة من حيث الامتدادات الثلاثة.

بيانه: كل موجود ممكن له مادة، بعبارة اخرى أكثر وضوحًا: العجين الذي يسمونه الطين الصناعي الذي يصنعون منه أشكالًا وألعابًا، هذا الطين عندما يخرج من معمل

ص: 72

يكون مجرد عجينة، وعندما تصنع منه شكلاً معينًا، فأنت قد أضفت صورة لتلك المادة، هذه الصورة التي عرضت على المادة وشكلتها بشكل خاص هي نظير (الصورة) فلسفياً، والصورة هي الجوهر الذي يعطي الشكل الخارجي للمادة، الجوهر المفيد لفعلية مادة من حيث الامتدادات الثلاثة، يعني هناك مادة خام تريد أن تجعلها على شكل من الأشكال من حيث الطول والعرض والارتفاع بتحديد معين.

الصورة ما عملها؟

عملها تشكل المادة تعطي شكلاً خارجياً للمادة، فلا توجد صورة بدون مادة، ولا توجد المادة بالفعل بهذا الشكل إلا بالصورة.

فلابد للصورة من مادة تحل فيها، فهي محتاجة إلى المادة لكي تحلّ فيها، كما أن المادة محتاجة إلى الصورة في تعينها فعلًا.

والله سبحانه وتعالى ليس مادياً وليس محتاجاً إلى غيره، فلا صورة له.

نكتة:

اشارة

هذه الاعتقادات عندما تقيسها إلى اعتقادات بعض العامة بالله تعالى وأنه شاب أمرد و يلبس نعلين من ذهب وينزل إلى السماء الدنيا على دابة ويجلس على العرش وعرشه وسع السماوات والأرض... وأنه عندما يجلس على كرسيه لا يفضل منه مقدار أربعة أصابع أي إنه يملؤه، وأن كرسيه ليئط أطيطًا من ثقله، [الأطيط هذا الصوت الذي يوجد برحل الجمل عندما يمشي يصدر صوتاً]...

وأنت ترى أن هذه الاعتقادات كلها تؤدي إلى أن الله تعالى موجود مادي، فأين هذا من اعتقادنا الحق من أن الله تعالى موجود مجرد عن المادة تماماً، وأنه لا نعرفه(عزوجل)في

ص: 73

الحقيقة، لا نستطيع إدراكه، وأنه لا تدركه لا الأبصار ولا الأوهام ولا العقول؟!

3. قال(رحمه الله علیه): «وليس جوهرًا».

الجوهر: هي الماهية التي إذا وجدت في الخارج فإنها توجد لا في موضوع مستغنٍ عنها، وبعبارة مختصرة (الموجود لا في موضوع).

الجوهر يكون جنساً لما تحته، والجوهر يلازم التركيب سواء على مستوى الخارج أو الذهن بدون فرق، والتركيب خلاف وجوب الوجود، وواجب الوجود بسيط بمعنى غير مركب لا في ذهن ولا في خارج.

الجوهر مركب ذهني، نأخذها معلومة تعبدية في هذه المرحلة، الجوهر يلازم التركيب والله سبحانه ليس مركباً لأن المركب محتاج إلى أجزائه والمحتاج صفة الممكن والله(عزوجل) واجب الوجود.

وبعبارة أخرى: الجوهر ماهية مركبة من جنس وفصل، والتركيب خلاف وجوب الوجود، فلذلك لا يكون الله تعالى جوهرًا.

4. قال(رحمه الله علیه): «ولا عرضاً»

العرض: هو الذي ليس له وجود إلا عارضاً على محل، يعني لا يوجد إلا في موضوع، في محل، يحتاج إلى غيره لكي يوجد، والله سبحانه وتعالى غنيٌ مطلق لا يحتاج إلى غيره، فهو ليس بعرض.

العرض مثل اللون الذي يعرض على الجسم، فاللون لا وجود له إلا على الجسم، فلا يوجد اللون إلا على الجسم، فوجود العرض محتاج إلى الجسم، الى غيره: المحل أو الموضوع حتى يوجد، والله سبحانه وتعالى غنيٌ مطلق، فلا يكون عرضاً.

ص: 74

بالإضافة إلى أن الله موجود بذاته، والعرض موجود بغيره، فهو محتاج لغيره حتى يوجد، العرض لا وجود له الا باعتماد على غيره، والله سبحانه وتعالى له وجود متقرر في ذاته لا يحتاج إلى غيره حتى يوجد.

5. قال(رحمه الله علیه): «وليس له ثقلٌ أو خفة».

ثقل -على وزن عنب-: ضد الخفة، وهما متقابلان،، كل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال هو ثقيل.(1)

ضع شيئين على كفتي الميزان، فالثقيل هو الذي يترجح على ذلك المقابل (الخفيف)، وهاتان الصفتان من صفات الأجسام كما هو واضح، فالجسم يكون ثقيلًا في قبال جسم آخر أخف منه، والله سبحانه ليس بجسم، فلذلك لا يوصف بالثقل والخفة

6. قال(رحمه الله علیه): «ولا حركة أو سكون».

الحركة: هي الخروج تدريجاً من القوة إلى الفعل، وبعبارة بسيطة عرفية: حصول الجسم في مكان بعد مكان آخر.

مثال: أنت واقف على النقطة (ألف) فما دمت واقفًا على هذه النقطة فأنت غير متحرك، وعندما تنتقل من النقطة (ألف) إلى النقطة (باء) صار عندك حركة، فأنت كجسم كنت في نقطة الألف، ثم انتقلت إلى نقطة ثانية فتحرك جسمك من مكان إلى مكان، هذا هو معنى الحركة.

وهذا المعنى للحركة ملازم للمكان وللتحيز، فحتى تنتقل من مكان إلى آخر لا بد أن تكون متحيزًا في مكان ما ثم تنتقل منه إلى حيز آخر، فالحركة تلازم الحيز، فتلازم

ص: 75


1- تاج العروس للزبيدي مادة (ثقل).

الجسمية، و هذا صفات الممكن و ليست من صفات الواجب، فالواجب إذن لا حركة له.(1)

وأما السكون: فهو عدم الحركة مما من شأنه الحركة، يعني شيء له شانية الحركة، فإذا لم يتحرك قلنا عنه إنه ساكن.

بعبارة أخرى: حصول الجسم في المكان الأول في الآن الثاني.

أنت تقف في النقطة (ألف) في الساعة الواحدة تماماً، عندما تصبح الساعة الواحدة وثانية، جاء آن ثانٍ، جاء زمن ثانٍ، فإذا بقيت بنفس النقطة (ألف) فيُقال عنك: إنك ساكن، فالجسم يبقى في نفس النقطة في زمن ثاني، و هذا معناه: أن السكون -كما هي الحركة- من صفات ومن شؤون الجسم، والجسمية منفية عنه(عزوجل).

7. قال(رحمه الله علیه): «ولا مكانٌ ولا زمان».

لماذا لا يكون لله(عزوجل) مكان؟

المكان: هو ما يستقرُ عليه الجسم، وحيث إنه تعالى ليس بجسم، فليس له مكان.

بالإضافة إلى أن ما له مكان هو محتاج لذلك المكان، والله(عزوجل) واجب الوجود، فلا يكون محتاجاً لأي شيء.

وأما الزمان: فهناك اختلاف بين العلماء في تفسير حقيقة الزمان، ولكن بالمحصلة اتفق الجميع على أن الله تعالى ليس زمانياً، باعتبار أن الزمان هو عبارة عن آنات متفاوتة

ص: 76


1- في الحقيقة هذا أحد أنواع الحركة فلسفيًا، إذ الحركة فلسفيًا تعني الخروج من القوة إلى الفعل بالتدريج، يعني أن المتحرك يتحرك باتجاه كماله الممكن له، وهذا المعنى يلازم النقص، ويلازم المادية، فلذا لا يكون في الواجب حركة ولا استكمال، والتفاصيل في علم الفلسفة. ونكتفي في هذه المرحلة بذكر الحركة المادية لأنها أقرب إلى الذهن.

يذهب آن ويأتي آنٌ آخر.

في الفلسفة يقولون: إن الزمان موجودٌ غير قار، بمعنى أن أجزاءه لا تجتمع في الوجود، فالثانية رقم (1) أبداً لا تجتمع مع الثانية رقم (2)، الثانية رقم (2) لا تأتي إلا إذا فنيت الثانية رقم (1)، فآنأتهُ متفاوتة، يذهب آن ويأتي آنٌ جديد وهكذا.

وهذا معناه: أن الزمان موجود حادث؛ لأنه يُعدم ويوجد، وقد تقدم أن القديم موجود فقط وليس له عدم ومعه، فما يكون زمانياً يكون حادثاً، والله(عزوجل) قديم ليس بحادث، فلا يكون زمانياً.

8. قال(رحمه الله علیه): «ولا يُشار إليه».

إن الإشارة تستلزم أن يكون المشار إليه في جهة معينة، فمثلاً عندما يكون أمامك شيءٌ، فأنت تشير إليه، فالإشارة تستلزم أن يكون المشار إليه في جهةٍ معينة، وهذا يستلزم أن يكون له مكان، فيستلزم أن يكون محدودًا حتى يمكنك الإشارة إليه، وبالتالي يستلزم أن يكون المشار إليه جسمياً، والله(عزوجل) ليس جسماً ولا جسمياً.

الإشارة تستلزم المكان والتحديد والتحيز، وكل هذه الصفات هي صفات الممكنات، والله(عزوجل) واجب الوجود.

9. ثم قال(رحمه الله علیه): «كما لا ندَّ له».

الإشارة إلى هذه الصفة وردت في عدة آيات مثلاً قوله تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1)

﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ

ص: 77


1- البقرة 22.

العالَمِينَ﴾.(1)

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ وَلَوْ يَرَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذابِ﴾.(2)

﴿وَجَعَلُوا لِلهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَىٰ النَّارِ﴾.(3)

وغيرها من الآيات.

الند:

قال الراغب الاصفهاني في مفرداته/مادة (ندد): نَدِيدُ الشيءِ: مُشارِكه في جَوْهَره، وذلك ضربٌ من المُماثلة، فإنّ المِثْل يقال في أيِّ مشاركةٍ كانتْ، فكلّ نِدٍّ مثلٌ، وليس كلّ مثلٍ نِدّاً...

فالندّ يعني أن لدينا طرفين، عندما يريد أحد أن يصبح ندًا للثاني فيجب أن يماثله أو يشابهه أو يناظره ويشترك معه في جوهره، وهذا المعنى لا يصح في الله(عزوجل)، لأن كل ما دون الله(عزوجل) فهو ممكن، فكل ما عدا الله(عزوجل) هو دونه في الوجود، فلا يكون نداً لله(عزوجل).

بالإضافة إلى أنه -على تفسير الراغب الأصفهاني- الذي فسر الند بأنه الذي يشارك الآخر في جوهره، يعني هذا الفرد وهذا الفرد يدخلان تحت جوهر، أي تحت شيء أعلى منهما، فهذا معناه أن كل فرد منهما صار مركباً،

ص: 78


1- فصلت 9.
2- البقرة 165.
3- إبراهيم 30.

توضيح المسألة:

اشارة

زيد والحصان، كل منهما له وجوده الخاص، لكنهما يشتركان في الحيوانية، فصار الإنسان مركبًا من جزئين: جزء هو الحيوانية التي يشترك فيها مع الحصان، وجزء مختص به الذي ميّزه عن الحصان، فالإنسان ناطق، وهذه الناطقية هي التي ميّزت الإنسان عن الحصان، أما الحصان فصاهل، وهذه الصاهلية هي التي ميّزت الحصان عن الإنسان، فصار الإنسان مركبًا من جزء: الجزء الأول: الحيوانية، وهي التي تشترك بينه وبين الحصان. والجزء الثاني: الشيء المختص به، وهو الناطقية، فإذا كان هناك أمرأن مشتركين في شيء واحد، فمعناه أن كل واحد من هذين الشيئين مركب من هذا المشترك ومن الجزء المختص به.

فعند ما نقول: إن شيئاً ما ندٌّ لله(عزوجل)، والند هو المشارك له في الجوهر، فالجوهر سيكون مثل الحيوانية بالنسبة إلى الإنسان والحصان، فسيصير أمرًا عامًا، ويصير كل واحد من الندّين مركبًا من جزئين، الجزء الذي اشترك به مع صاحبه الند الآخر، والجزء المختص به الذي ميّزه عن صاحبه، وهذا من معاني التركيب، وقلنا: إن الله(عزوجل) غير مركب لا خارجاً ولا ذهناً؛ لأن التركيب صفة الممكن المحتاج إلى أجزائه، والمحتاج ممكن، وليس بواجب.

10. قال(رحمه الله علیه): «ولا شبه».

الشبيه: هو المماثل من جهة الكيفية.

مثلاً تقول: هذا الشيء يشبه هذا الشيء في لونه، فاللون كيف من الكيفيات، أو يشبهه في طعمه، والطعم كيف من الكيفيات، أو يشبهه في العدالة أو يشبهه في الظلم.

القرآن الكريم يعبر عن البعض ممن لا يتبعون المرسلين بأن قلوبهم متشابهة، يقول

ص: 79

تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.(1) أي تماثلت في الكيفية الخاصة.

وهذا يعني: أن المتشابِهين يكونان غير متميّزين، لما بينهما من التشابه، فنقول: طعم هذا الأكل يشبه طعم الأكل الثاني تماماً، لا أميز بينهما من حيث الطعم، فإذن التشابه يعني المماثلة في الكيفية، يعني عدم التميز بين الشيئين المتماثلين من جهة الكيف.

وهذه الصفات لا يوصف بها الله(عزوجل)، لأنه لا يوجد شيءٌ يشبه الله(عزوجل)، لأن كل ما عداه فهو دونه في الوجود، فلا يماثله فلا يشابههُ.

بالإضافة إلى أن الله(عزوجل) لا يوصف بالكيف، لأن الكيف عرض، هذا الطعام تعرض عليه الحلاوة أو تعرض عليه المرارة أو تعرض عليه الملوحة، فهو شيء يعرض على شيء آخر، والله(عزوجل) ليس محلاً للعوارض كما تقدم، فهو ليس جوهراً ولا صورةً ولا عرضاً، فلا يكون محلاً للعوارض.

11. ثم قال(رحمه الله علیه): «ولا ضدَّ»

لا ضد لله(عزوجل)، ببيان:

1/ الضدان: هما شيئان تحت جنس واحد، أي تحت جامع وأحد، يجمعهما شيء أو عنوان.

2/ ينافي كل واحد منهما الآخر في أوصافه الخاصة، فلكل منهما وصف خاص به، ينافي به الآخر في وصفه الخاص به.

ص: 80


1- البقرة 118.

3/بينهما أبعدُ البعد، وتمام البعد، وتمام المنافاة.

مثاله: «السواد والبياض) يدخلان تحت جامع واحد هو اللون، فكلاهما لون، ويختلف كل واحد منهما عن الآخر في وصفه الخاص به، فالسواد لونه غامق تماماً، والبياض لونه فاتح تماماً، وبينهما غاية البعد، إذ قالوا فلسفياً: إن الألوان تبدأ باللون الأبيض الذي هو غاية الانفتاح، ويبدأ هذا اللون بالتدريج فيصير غامقاً شيئاً فشيئًا فيأتي الأصفر ثم الأزرق مثلًا ثم الاحمر ثم يأتي الأسود، فلو فرضنا أن للألوان سلسلة لها بداية ولها نهاية، فطرف السلسلة من اليمين الأسود، ومن الشمال الأبيض، فبين الأبيض والأسواد غاية البعد، أما بين الأصفر والأحمر فيوجد ما أبعد منهما في سلسلة الألوان، لذلك ففلسفياً لا يقال عن الأحمر والأصفر إنهما ضدان، لأن الضدين لابدّ أن يكون بينهما غاية البعد.

ومعه، فمن الواضح أنه لا ضدّ لله تعالى، لأن الضدين يشتركان في شيء واحد يجمعهما، فالأسود والأبيض يجمعهما اللون، فلزم أن يكونا مركبين من مشترك ومميز، والتركيب صفة الممكن لا الواجب.

فاذا قلنا: إن شيئًا ما هو ضد لله(عزوجل)، فمعناه أن الله وذلك الضد يدخلان تحت جامع واحد يجمعهما، هذا يعني أنهما اشتركا في هذا العنوان والجامع، فصار العنوان جزءًا من كل واحد منهما، وكل واحد من الضدين له مواصفاته الخاصة، فصار مركبًا، فمثلاً الأسود مركب من لون وغامق، فلو كان هناك ضد لله(عزوجل) -والعياذ بالله- فمعناه أن الله تعالى مركب من ذلك الجامع الذي يشترك به مع الضد، ومن الشيء الذي يميزه ويختص به، فصار مركباً، وقد تبين أن الله(عزوجل) ليس مركباً بجميع أنواع التركب الخارجي والذهني.

ص: 81

12. ثم قال(رحمه الله علیه): «لا صاحبة له ولا ولد».

هذه من الصفات التي وردت كثيراً في القرآن الكريم، قال الله تعالى حكايةً عن الجن ﴿وَأَنَّهُ تَعالىٰ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً﴾(1) ومعنى الجد هنا: الحظ والبخت والعظمة، يعني أن الجن يقولون: إن الله سبحانه وتعالى عظيمٌ جداً، بحيث إن عظمته

وصلت إلى مرحلة لم يتخذ معها صاحبةً ولا ولداً، باعتبار أن اتخاذ الصاحبة (الزوجة) معناه الاحتياج، فالشخص إنما يتزوج لحاجته للزوجة تعينهُ، وتسدّ حاجته، والله سبحانه وتعالى غير محتاج، فلا تكون له صاحبة ولا ولدًا، لأن اتخاذ الصاحبة والولد ينافي الغنى المطلق الله(عزوجل)، فاذًا صفة الغنى المطلق لله(عزوجل) تنفي الصاحبة والولد.

13. قال(رحمه الله علیه): «ولا شريك».

ليس لله(عزوجل) شريك في أي شيء؛ لأن الشراكة تستلزم الاختصاص، بمعنى أنه عندما أكون شريكك في البيت، فمعناه أن في البيت شيئًا أختصُّ به أنا، وانت لك فيه شيء آخر تختص به، وهذا الاختصاص فرع الملكية، ولا شيء يشارك الله(عزوجل) في ملكه، وكل ما في الوجود فهو ملك الله(عزوجل)، وغيره كله مملوك له، فلا يمكن للمملوك أن يشارك المالك.

قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لولده الإمام الحسن8: «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه،- ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً».(2)

ص: 82


1- الجن 3.
2- نهج البلاغة ج3 ص 44.

14. قال(رحمه الله علیه): «ولم يكن له كفوًا أحد».

الكفؤ: يعني المساوي، وكل ما عدا الله(عزوجل) دونه ولا يساويه؛ لأن كل ما عداه فهو مخلوق له، فهو دونه في الوجود؛ فلا يكون كفؤاً له.

15. قال(رحمه الله علیه): «لا تدركه الأبصار».

يعني أن أبصارنا لا يمكنها أن ترى الله(عزوجل)، فتمتنع عليه الرؤية المادية، وذلك لأن الرؤية بالبصر مشروطة بأمور عديدة لا تصح إلا إذا توفرت، وقد عدّدها العلماء وأوصلوها إلى العشرة شروط تقريبًا.

مع التنبيه على أن الكلام عن الرؤية البصرية لا القلبية، التي لمّا سئل ذعلب اليماني أمير المؤمنين8 فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال8: «أفأعبد ما لا أرى»! فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لَا تُدْرِكُه العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُه القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ، قَرِيبٌ مِنَ الأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَابِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ، مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ، لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالجَفَاءِ، بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو الوُجُوه لِعَظَمَتِه وتَجِبُ القُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِه».(1)

فهذا النوع من الرؤية فيه نوع من الكناية والمجاز، فعندما تقول: أنا رأيت الله تقصد مثلًا: رأيت قدرة الله، رأيت حكمة الله، رأيت أفعال الله(عزوجل)، هذا ليس فيها أشكال.

المقصود هنا من نفي الرؤية هي الرؤية البصرية، ومثل قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾(2)هو يركز على قضية الرؤية البصرية.

ص: 83


1- نهج البلاغة ج2 ص 99 – 100.
2- الأنعام 103

من شروط الرؤية البصرية:

أشرنا إلى أن هذه الرؤية مشروطة بشروط، ومنها:

الشرط الأول: أن يكون بين الرائي والمرئي مقابلة، يعني أن الذي تريد أن تراه ببصرك يجب أن يكون أمامك أو مقابلًا لك، فإذا كان خلف ظهرك فلا يمكن أن تراه.

الشرط الثاني: عدم البعد المفرط؛ لأن البصر له حدّ،ُ فلا بد أن يكون المرئي واقعًا تحت مدى البصر.

الشرط الثالث: أن يكون المرئي كثيفاً، يعني ليس شيئًا خفيفًا مثل الهواء يعني أن يكون جسمًا ماديًا.

وحتى ترى الله تعالى ببصرك، فلا بد أن يكون في قبالك، وتحت مدى بصرك، وأن يكون كثيفاً مادياً جسميًا، وقد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم، وهذه الصفات صفة الكثافة والمادية هي صفات وسمات الممكن فلا يتصف بها الله(عزوجل).

16. قال(رحمه الله علیه): «وهو يدرك الابصار»

لأن الله(عزوجل) عالم، وما دام عالماً فهو يدرك، ويكون عنده علم بالأبصار وبكل شيء وليس فقط الأبصار.

تتمة:

بعد أن أثبت الشيخ(رحمه الله علیه) بعض الصفات لله(عزوجل) (واحد، أحد، قديم أزلي..). ونفى عنه بعض الصفات (لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد و....). قال:

هذه هي عقيدتنا، ومن يثبت لله(عزوجل) صفاتٍ تؤدي إلى خلل في الواجب ولو من بعيد، يعني أنها تنقص من قدره وتحوله من واجب إلى ممكن، فهذا يكون كافراً بالله(عزوجل)،

ص: 84

ثم أخذ يعدّد بعض الأمثلة، فقال(رحمه الله علیه): «ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن [الباء بيانية] صوّر له وجهاً ويداً وعيناً».

وهذا ما قال به الحنابلة والحشوية، وهذه الصفات تسمى بالصفات الخبرية، وهي الصفات التي وردت في القرآن الكريم وظاهرها التجسيم، مثل:

الوجه في قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالأَكْرامِ﴾(1)

العين في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا﴾(2)

اليد في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(3)

والصفات الخبرية لو حملناها على ظاهرها فإنها تستلزم التجسيم والتشبيه بالخلق، فسيكون الله تعالى –وحاشاه- مركبًا، ويكون جسمًا له وجه وله عين وله يد وله رجل، فيكون محتاجًا إلى أجزائه.

ملاحظة: في الصفات الخبرية:

اشارة

لا شك أن ظاهر القرآن الكريم حجة، وكذلك الروايات الشريفة.

الظهور يعني: ما نفهمهُ من لفظ الكلام، فإذا قلت: أنا عبد لفلان، فظاهر الكلام أنني مملوك لفلان، فهذا يكون حجة عليّ، والعقلاء يفهمون هذا الكلام ويرتّبون عليه الآثار.

إذا قلت مثلاً: أنا مديون لفلان بمبلغ كذا، فالعقلاء يقولون: إن هذا الكلام حجة،

ص: 85


1- الرحمن 26 – 27.
2- الطور 48.
3- الفتح 10.

ويفهمون من هذا الكلام أن في ذمتي لفلان مالًا ويجب عليّ تأديته.

فظاهر الكلام حجة، ولكن إذا جاءت قرينة تصرف ظاهر اللفظ من معناه الظاهر فيه إلى معنى آخر، بحيث إن هذا المعنى الآخر لولا القرينة لما فهمناه، ولكن القرينة توضح لنا أن المتكلم لا يريد هذا المعنى الظاهر، وإنما يريد معنى آخر، حينئذٍ ينصرف اللفظ من معناه الظاهر إلى ذلك المعنى الآخر الذي فهمناه بسبب القرينة.

مثلًا تقول: رأيت أسداً، فظاهر الكلام أنك رأيت ذلك الحيوان المفترس الذي يسمى بالأسد، لكن إذا قلت: رأيت اسداً يكتب بالقلم، فقولك: «يكتب بالقلم» قرينة تصرف اللفظ عن معناه الظاهر فيه إلى معنى جديد، فيكون المعنى: رأيت رجلاً شجاعاً يكتب بالقلم؛ لأن الأسد يستعمل كناية عن الرجل الشجاع.

إن العقلاء يتبعون هذه القرينة التي تصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر، ولا يرضون بأن تترك القرينة، لأنها تبين لك المراد الجدي للمتكلم، وتبين الشيء الذي يريده المتكلم بالجدّ.

إذا تبين هذا نقول:

إن بعض العامة المخالفين لمذهب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لم يطبقوا هذا المعنى في قضايا الظواهر القرآنية (في خصوص الصفات الخبرية محل البحث)، فلم يطبقوا قضية القرينة الصارفة عن المعنى الظاهر في بعض الآيات القرآنية، فالتزموا بظاهرها، وظاهرها أن لله(عزوجل) يداً ورجلاً وعيناً، فقالوا: إن لله وجهاً وعيناً ويداً، فالتزموا بظاهر القرآن الكريم وتناسوا أن هناك قرائن عقلية، والقرائن العقلية أقوى القرائن، ولا تقبل التشكيك، فحينما تقول: إن لله وجهاً، فلو حملتها على ظاهرها فهذا يعني أنك جعلت له جسماً، ووجهًا مثل وجوهنا ويدًا مثل أيدينا وعينًا مثل أعيننا، فلا

ص: 86

يكون واجب الوجود، بل أصبح ممكن الوجود، والحال أنه تعالى واجب الوجود.

طريفة:

ينقل عن بعض علمائنا أنه دار نقاش بينه وبين بعض العامة فأفحمه وألزمه بالحجة، فأراد العامّي أن ينسحب فقال: شيخنا، نحن لا نختلف، فربنُا واحد، ونبينا واحد... فأجابه العالم: كلا، ربنا ليس واحدًا، فربكم له وجه وله يد وله رجل وله عين، وينزل إلى السماء على دابة له، وعنده كرسي يجلس عليه، أما ربنا فلا نعرف حقيقته، ربنا شيء مجرد ليس جوهرًا ولا جسمًا، فربكم غير ربنا...

وهذا معنى أن من يثبت صفات مادية لله(عزوجل) فإنه يكون كافراً؛ لأنه لا يؤمن بالرب الحقيقي، وإنما يؤمن بشيء من صنع خياله.

وفي قول الشيخ(رحمه الله علیه): «ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صوّر له وجهاً ويداً وعيناً..». إشارات:

1/أشرنا إلى أن العقلاء يتفاهمون وفق ظواهر الخطابات، فإذا كان لكلام ظهور في معنى، فذلك الظهور حجة، ويؤخذ به وتترتب الآثار عليه، وهذه مسألة متفق عليها.

2/ولولا هذه الحجية للظهور لامتنع التفاهم بين البشر، إذ أنا إنما أتكلم بكلمة لها معنى ظاهر تنصرف إليه، ولو لا هذه الحقيقة لأمكن أن يفسرها الآخر كيف يشاء، والثالث يفسرها كيف يشاء، فينعدم التفاهم بين البشر.

3/ اللهم إلا إذا نصب المتكلم نفسه قرينة تدل على أنه يريد من كلامه خلاف ظاهره، بحيث تكون تلك القرينة وكأنها تقول على لسان المتكلم: «أنا لا أقصد هذا الظاهر، وإنما أقصد هذا المعنى الثاني)، عندئذٍ يذهب العقلاء إلى المعنى الثاني.

ص: 87

والذي جعلهم يذهبون إلى المعنى الثاني هي القرينة التي وضعها المتكلم، فإذا قلت: «رأيت اسداً) وسكتُّ، فهذا الأسد ظاهر في الحيوان المفترس المعروف، فلو قلتُ فيما بعد: إني لم أقصد الحيوان المفترس، وإنما قصدتُ الرجل الشجاع، فإن العقلاء يرفضون ذلك، لأن ظاهر لفظ الأسد هو الحيوان المفترس، ويقولون لي: إذا كنت تقصد (الرجل الشجاع) فلا بدَّ أن تعطي علامة أو قرينة -كما يسمونها في علم المنطق-، أي قرينة تصرف اللفظ من معناه الظاهر -الذي هو الحيوان المفترس- إلى ذلك المعنى الآخر الذي تريده -الذي هو مثلاً الرجل الشجاع- فأقول مثلاً: «رأيت أسداً يرمي بالسلاح»، فنحن نعلم أن الأسد العادي –الحيوان- لا يرمي بالسلاح، فمن هذا اللفظة –القرينة- نفهم أن المقصود من الأسد ليس المعنى الظاهر، وإنما المعنى الثاني، والذي جعَلَنا نترك المعنى الأول الظاهر ونذهب إلى المعنى الثاني هي القرينة.

4/قال العقلاء: إن من أقوى القرائن هي القرائن العقلية، أي التي يحكم بها العقل، ولو لم يحكم بها للزم محالٌ، يعني يلزم مستحيلٌ عقلي.

وهذا يعني: أنه إذا لم أتّبع هذه القرينة العقلية، فإنه سينتج لي المستحيل العقلي، بحيث يُرمى من لا يقول بالاستحالة بعدم العقل.

فلو قلتُ مثلاً: وضعتُ زيداً في كُمّي أو في جيبي، فإن الالتزام بظاهر هذه الجملة معناه: أني أتيتُ بزيد الذي طوله 170 سم وعرضه 65 سم ووضعته في جيبي! وهذا أمر مستحيل بالقياس إلى حجم (جيبي)، فالعقل هنا يقول: إن زيداً كبير، والجيب صغير، ولو كان هذا المقصود هو المعنى الظاهر فهذا يعني أنك وضعت الكبير على كبره في الصغير على صغره، والعقل يقول: لا بد أن يكون الظرف (الجيب) أكبر من المظروف (زيد)، ولذلك فمن المستحيل عقلاً أن يكون المقصود هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة.

ص: 88

وبهذه القرينة العقلية نفهم أن المقصود من (وضعت زيداً في جيبي) مثلاً أن أمره صار بيدي بحيث أستطيع أن أتحكم به كيف أشاء، كما أستطيع أن أتحكم بما في داخل جيبي، وهذا الأمر متفق عليه بين العقلاء.

5/في محل كلامنا، إذا أردنا أن نعطي صفةً من الصفات لله(عزوجل) مما ورد في الكتاب والسنة، فبها ونعمت، أو كانت الصفة مما يليق به تعالى بناءً على عدم توقيفية الأسماء.

ولكن الكلام في أنه: إذا وردت صفة في الكتاب أو السنة، ولكن لو فسرناها بمعناها الظاهر، فإنه يلزم من هذا التفسير لازمٌ يخالف ما ثبت في الشريعة الإسلامية، أو يخالف ثابتاً عقلياً، فعندئذ العقل والعقلاء يحكمون بلا بدية صرف هذا اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يتلاءم مع أمرين:

الأمر الأول: عدم نسبة نقص للواجب جل وعلا.

الأمر الثاني: أن يصح استعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى الثاني.

فإذا أثبتنا أن لله(عزوجل) وجهاً –تبعاً للنصوص القرآنية- وقلنا: إن هذا الوجه هو مثل وجوهنا، لكنه أكبر قليلاً أو كثيراً، فهذا يلزم منه محال عقلي، وهو التركيب والمحدودية والجسمية والكون في جهة من الجهات، وكل هذه هي صفات الممكنات، والله سبحانه وتعالى واجب.

فلا بد إذن أن نصرف هذا اللفظ إلى معنى آخر يتلاءم مع الأمرين السابقين.

وفي الوجه، يمكن أن نقول: إن هذا اللفظ يستعمل في هذا الوجه العادي الجسمي، ويمكن أن يراد منه الذات، فبدلاً من أن تقول مثلاً: رأيت الأمير -ذات الأمير ونفس الأمير-، يمكن أن تقول: رأيت وجه الأمير، وأنت لا تقصد هذا الوجه الموجود في

ص: 89

الرأس، بل تقصد أنك رأيت ذات الأمير نفسه، كل الأمير، لكن باعتبار أن ما يواجهك من الإنسان الآخر هو وجهه، لذلك عبّرت عن ذات الأمير بالوجه وقلت: وجه الأمير.

وهذا المعنى الكنائي يمكن أن ننسبه إلى الله تعالى، فالله(عزوجل) له ذات، والمقصود من وجه الله(عزوجل) هو ذات الله~، وهذا لا يلزم منه نسبة نقص لله(عزوجل)، وهو معنى يصح استعمال الوجه فيه.

فقد تبين أنه لو سُئلْنا: ما هو الأمر الذي دعانا واضطرنا إلى أن نغير معنى الوجه، من هذا المعنى الظاهر إلى ذلك المعنى الثاني؟

فالجواب: هي القرينة العقلية، لأنه إذا لم نلتزم بهذه القرينة العقلية فإنه يلزم نسبة النقص له جل وعلا كما تبين.

ملاحظة مهمة:

اشارة

إن عدم فهم هذه الحقيقة، أو عدم الالتزام بها، هو الذي أوقع البعض في نسبة ما لا يصح إلى الله(عزوجل)، حيث جاؤوا لآيات القرآن الكريم ولبعض الروايات الشريفة، فوجدوا فيها: أن لله تعالى وجهاً ويداً وفي روايات العامة: أن لله رِجْلاً، وما شابه، فقالوا: نلتزم بظاهر القرآن، فله وجه وله لسان وله عين، كما أن لنا وجهاً ويداً وعيناً...

إن من قال بهذا الكلام وبهذه العبارة فهو كافر، لأنه سيؤمن بربٍ له وجه وله رجل وله يد، وهذا الرب صار محدوداً وصار جسماً، والله سبحانه وتعالى ليس جسماً ولا محدوداً، فمن يؤمن بشيء هو جسم مادي، هو مركب، هو ناقص، فهذا لا يؤمن بالله(عزوجل)، فيكون كافراً.

ثم إن البعض منهم التفت إلى هذه المشكلة، فحاول أن يصحح المسار قليلاً فقال:

ص: 90

إن الله له وجه، لكن لا كوجوهنا، وله يد لا كأيدينا، وله عين لا كأعيننا، وهكذا...

ونحن نسأل: ماذا يعني (وجه لا كوجوهنا)؟ هل هو شيء مفهوم أو غير مفهوم؟

فإن قيل: هو أمر مفهوم، فنقول: وضّحوه لنا، هل هو وجه مادي أو معنى كنائي؟

وإن قيل: غير مفهوم، فهذا يلزم منه تعطيل فهم آية جاءت في القرآن الكريم، أي يلزم تعطيل معناها.

فهو يواجه أحد أمرين: إما أن يبين الوجه، أو يكون كلامه (لا كوجوهنا) هو مجرد لقلقة لسان، إذ هذا لا يغير من الواقع شيئاً.

لذلك ورد في الروايات الشريفة أن للقرآن ظهراً وبطناً، والفقيه كل الفقيه هو من يستطيع أن ينتقل من ظاهر القرآن إلى باطنه، أي إلى المعنى المقصود منه، والروايات في المجال كثيرة، نذكر منها:

روي عن علي(علیه السّلام) أنه قال: «أن كتاب الله على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء».(1)

وعن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سألت أبا جعفر(علیه السّلام) عن شيء من التفسير فأجابني، ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنتَ أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: «يا جابر، إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً، وله ظهر وللظهر ظهر، يا جابر، ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل منصرف على

ص: 91


1- عوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الإحسائي - ج 4 - ص 105 ح155.

وجوه».(1)

فأصعب شيء على الناس هو تفسير القرآن الكريم إذا لم يرجعوا إلى أهل الذكر ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(2)

من اللطائف التي تنقل في حياة الأمام العسكري صلوات الله وسلامه عليه عندما كان في سامراء: أن إسحاق الكندي -كان فيلسوف العراق في زمانه- أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وأن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام)، فقال له أبو محمد(علیه السّلام): «أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله القرآن؟!»

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟!

فقال له أبو محمد: «أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟» قال: نعم.

قال: «فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إنْ أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه، غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك، لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».

فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أنْ القى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليّ،

ص: 92


1- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 2 - ص 300 كتاب العلل ح5.
2- النحل 43.

فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر فقال: أقسمتُ عليك إلّا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردتُه عليك. فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد(علیه السّلام) فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت. ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه.(1)

والخلاصة:

أنه لا بد أنْ نصرف ما ثبت من الصفات الخبرية التي أخبر بها القرآن الكريم إلى معنى يتناسب مع الذات المقدسة.

تطبيقات في الصفات الخبرية:

اشارة

1/من لطائف قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ﴾.(2)

أن كلمة (ذو) جاءت صفة للوجه، وليس لكلمة (ربك)، لأنها مجرورة، فاذا كانت صفة للرب لقيل: «ذي»، وعندما قال: «ذو» فهذه صفة لكلمة (وجه)، فلو التزمنا بظاهر الآية من دون تأويل ولا كناية، لكان المعنى: أن الذي يبقى هو وجه الله(عزوجل)، يعني أن يده ورجله لا تبقى، لأن الآية صرّحت بأن الذي يبقى هو الوجه فقط!

فهل يمكن التزام هذا الظاهر؟!

2/ في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة 46] لو التزمنا بظاهرها لكانت النتيجة هي التالي:

ص: 93


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - ص 525 – 526.
2- الرحمن 26 – 27.

حيث إن اللقاء –الحقيقي أو الظاهري- يستلزم المقابلة، فهذا يلزم منه أن يكون الله -تعالى عن ذلك- جسماً حتى يمكن اللقاء به ومقابلته، وإذا كان جسماً صار مادياً، وإذا صار مادياً فهو غير واجب الوجود!

فلا بد من صرف ظاهر الآية عن معناها الظاهر إلى معنى كنائي، كأن يكون المقصود: ملاقو رحمة ربهم.

3/ رووا عن أبي هريرة أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً...»(1)

فظاهر روايتهم هذه أن الضمير في (صورته) يرجع إلى (الله تعالى)، يعني أن صورة آدم مثل صورة الله(عزوجل) (تعالى عن ذلك علواً كبيراً) فإذا أردت أن تنظر إلى الله تعالى فانظر إلى آدم، فهو يشبهه، وهذا يلزم منه التشبيه والتجسيم.

ولذلك أجاب الأئمة(علیهم السّلام) عن مثل هذه الترّهات بجوابين يمكن ترتيبهما بالتالي:

الجواب الأول:

إن هذه الرواية مقتطعة، ولها صدر يحل المشكلة، حيث يظهر منها أن الهاء في كلمة (صورته) ترجع إلى (آدم) لا إلى (الله)(عزوجل)، فقد روي عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضا(علیه السّلام): يا ابن رسول الله، إنّ الناس يروون أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إن الله خلق آدم على صورته، فقال: «قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك، فإنّ الله(عزوجل) خلق آدم على صورته».(2)

ص: 94


1- صحيح البخاري - البخاري - ج 7 - ص 125.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 152 – 153 بيانه في خلق الله تعالى آدم على صورته ح11.

الجواب الثاني:

ولو سلّمنا ورود الرواية بهذا المعنى، فليس المقصود منها معناها الظاهر، وإنما المقصود هي الكناية عن تشريف آدم(علیه السّلام) بنسبته إلى نفسه، فقد روي عنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(علیه السّلام) عَمَّا يَرْوُونَ: أَنَّ الله خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه؟ فَقَالَ: «هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ

مَخْلُوقَةٌ، واصْطَفَاهَا الله واخْتَارَهَا عَلَى سَائِرِ الصُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ، فَأَضَافَهَا إِلَى نَفْسِه كَمَا أَضَافَ الكَعْبَةَ إِلَى نَفْسِه والرُّوحَ إِلَى نَفْسِه، فقال: ﴿بَيْتِيَ﴾(1)،

﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾(2)».(3)

ص: 95


1- ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة 125].
2- ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر 29].
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 134 باب جوامع التوحيد ح4.

ص: 96

عقيدتنا في التوحيد

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في التوحيد:

ونعتقد بأنه يجب توحيد الله(عزوجل) من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب -ثانياً- توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك، وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية، فهو في العلم والقدرة لا نظير له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ند له.

وكذلك يجب -ثالثاً- توحيده في العبادة فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه، وكذا إشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة، واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كمن يرائي في عبادته ويتقرب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان، لا فرق بينهما.

أما زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها، بل هي من نوعٌ التقرب إلى الله(عزوجل) بالأعمال الصالحة كالتقرب إليه بعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الأخوان في الدين ومواساة الفقير، فإن عيادة المريض -مثلاً- في نفسها عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله(عزوجل). وليس هو تقربا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله

ص: 97

عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته. وكذلك باقي أمثال هذه الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الأخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته. والغرض أن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض.

وليس المقصود منها عبادة الأئمة، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾.

فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها، فإذا جاء الانسان متقرباُ بها إلى الله(عزوجل) طالباً مرضاته، استحق الثواب منه ونال جزاءه». انتهى.

بعد أن تكلم الشيخ(رحمه الله علیه) في بعض الصفات وأثبت الكمالية منها ونفى السلبية على نحو الإجمال، أخذ يفصل الكلام في بعض الصفات.

وذكر عقيدة التوحيد والتي يمكن أن نعبر عنها بتعبير آخر: عقيدتنا في نفي الشريك عنه جل وعلا في كل شيء، وهذه الصفة من أهم الصفات التي يُبحث عنها في علم الكلام، باعتبار أنها كانت محل الخلاف مع المشركين، وكانت جهود الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين منصبّة على تخليص الناس من عقيدة الشرك الفاسدة.

وقد ذكرت عدة معاني لمعنى التوحيد، أوصلها البعض إلى اثني عشر معنى، وطبعاً هناك تداخل فيما بينهما، والشيخ المظفر(رحمه الله علیه) هنا في هذا الكتاب ذكر ثلاث مفردات:

ص: 98

1/ التوحيد في الذات

2/ التوحيد في الصفات

3/ التوحيد في العبادة

وسنكتفي بما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه).

التوحيد في الذات.

وهو أول مصطلح من مصطلحات التوحيد وأهمها، والتوحيد بهذا المعنى يُتكلَّم فيه من جهتين:

الجهة الأولى: التوحيد الواحدي:

اشارة

وهو بمعنى نفي وجود ذات واجبة الوجود غير ذات الباري جل وعلا.

والوحدة لها معنيان:

المعنى الأول: الوحدة العددية:

يعني أن هناك مفهوماً ينطبق على عدة مصاديق، أو قل: يمكن أن يوجد له أكثر من فرد، ولكن صادَفَ أنه في الخارج لا يوجد منه أكثر من واحد، لكن بالإمكان العقلي يجوز أن يوجد أكثر من واحد (أي من فرد)، ومثاله: الشمس، ذلك الجرم السماوي الذي

يشع نوراً من ذاته، فإن من الممكن أن يكون له عدة أفراد، ولكن صادَفَ هنا أننا لم نجد إلا شمساً واحدة، وهذا معنى الوحدة العددية، فلا يمتنع عقلًا وجود فرد آخر.

المعنى الثاني: الوحدة الحقيقية:

يعني كون الموجود لا يقبل الاثنينية ولا التكثر ولا التكرار، يعني يمتنع عقلاً وجود فرد آخر من نفس المعنى.

وعندما نقول: إن الله(عزوجل) واحد بالتوحيد الواحدي، فنقصد به: الوحدة الحقيقية،

ص: 99

يعني هو واحد ويمتنع عقلاً وجود الآخر.

ما هو الدليل على هذا المعنى من التوحيد؟

ذُكرت الكثير من الأدلة، أوصلها البعض إلى أكثر من عشرين دليلاً، وهي في الحقيقة أدلة إرشادية لحكم العقل، فإن العقل إذا دخل في أعماق مفهوم واجب الوجود، لحَكَم بامتناع وجود فردٍ مكررٍ ثانٍ له.

نعم، هذا الحكم العقلي يحتاج إلى أن ننتبه إليه، ومن المنبّهات عليه (أو قل: الأدلة عليه) هي التالي:

الدليل الأول: لو كان في الوجود واجبان، فهذا يعني: أنهما لا بد أن يتوفر فيهما أمران:

الأمر الأول: ما به الاشتراك:

يعني أن هذين الواجبين يشتركان في وجوب الوجود مثلاً، فواجب الوجود مفهوم عام وله فردان: واجب رقم واحد، وواجب رقم اثنان.

الأمر الثاني: ما به الامتياز:

فعندما قلتم: هناك واجبان: رقم واحد ورقم اثنان، فهل هناك تمايز بينهما أو إنه لا يوجد أي تمايز بينهما؟

فإذا قيل: لا يوجد أي تمايز بينهما، أي هما مشتركان من كل جهة جهة، فإذاً هما واحد وليسا اثنين، إذ الكثرة فرع التمايز.

إذاً لابد من وجود تمايز بينهما، مثلاً الواجب الأول تميز بأن اسمه (ألف) والثاني اسمه (باء)، والنتيجة أن (ألف) الواجب الأول سيكون مركباً من أمرين: الشيء الذي

ص: 100

اشترك به مع الثاني، والشيء الذي تميز به عن الثاني، فالإنسان والحصان يشتركان في الحيوانية، وكل واحد له ما يميزه عن الآخر، فالإنسان يميزه عن الحصان كونه ناطقاً، والحصان يميزه عن الإنسان أنه صاهل، فصار الإنسان مركباً من حيوان وناطق، والحصان مركباً من حيوان وصاهل، فكلٌ منها مركب من جزئين، وحينها يتحقق معنى الاثنينية.

فلو كان هناك واجبان، فكل واحد منها مركب من ما به الاشتراك -الذي اشترك به مع الثاني-، ومن ما به الامتياز -الذي تميز به عن الثاني-، فصار مركباً، والمركب محتاج إلى أجزائه، فإن أي جزء منها ينتفي فإن المركب ينتفي، وهذا خلاف كونه واجب الوجود، فلزم من افتراض الثاني خلف الفرض.

وهذا الدليل سوف يفيدنا في التوحيد الأحدي، لأن دليل التوحيد الأحدي قريب جداً من هذا الدليل.

الدليل الثاني: لو كان هناك مصداقان لواجب الوجود، فلا يخلو الأمر: إما أن يكونا ضعيفين، أو أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، أو كلاهما قوياً، ولا حالة رابعة.

1- فاذا كانا ضعيفين، فلا يصلحان للربوبية.

2- وإذا كان أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً، فالضعيف لا يصلح للربوبية.

3- وإذا كانا قويين، فهنا شقان:

فإما أن يشتركا في الإرادة، أو لا، وعلى كل حال يلزم المحال؛ لأنه:

إذا اختلفا في الإرادة، يلزم فساد الكون، لأن الأول قد يأمر الشمس بأن تشرق، والثاني يأمرها بأن لا تشرق، فهنا صار فساد، وهذا من معاني قوله(عزوجل): ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا

ص: 101

آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(1)

ويلزم منه أيضاً تكليف المكلّف بالمحال، لأن الواجب الأول إذا قال لزيد: صلِّ، والثاني قال له: لا تصلِّ، فإذا أطاع الأول وصلى، فقد عصى الثاني فسيعاقبه، وإذا أطاع الثاني ولم يصل، فقد عصى الأول فسيعاقبه، ولا يستطيع طاعة الاثنين، لأنه تكليف بالمحال (بأن يصلي ولا يصلي في آن واحد، وهذا اجتماع للنقيضين أو الضدين)، وهذا ممتنع عقلاً، فإذاً، اذا اختلف الواجبان في الإرادة، فيلزم فساد الكون والتكليف بالمُحال وغير المقدور.

وأما إذا كانا متفقين في الإرادة، أي إن كليهما واجب، وكانا متفقين في الإرادة، ولا يوجد أي اختلاف بينهما، رجع الاثنان واحداً، لأنه لا يوجد بينهما أي تمايز، والكثرة فرع التمايز...

وهذا ما أشار له امير المؤمنين8 لما قال لولده الحسن المجتبى8: «واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُهُ، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وسُلْطَانِهِ، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، ولَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً ولَمْ يَزَلْ».(2)

من هم المخالفون في هذه المسألة؟

المخالفون هنا هم:

1- الثنوية: الذين قالوا بوجود مبدئين للوجود: مبدأ الخير ومبدأ الشر.

2-المسيحيون: حيث آمنوا بعقيدة التثليث: الأب، الابن، روح القدس، فقالوا:

ص: 102


1- الأنبياء 22.
2- نهج البلاغة - ج 3 - ص 44.

هؤلاء الثلاثة إله واحد والعقل محدود، والرب غير محدود، والمحدود لا يدرك اللامحدود!

3- الأشاعرة: حيث قالوا بأن صفات الله(عزوجل) مستقلة عنه زائدة على الذات قديمة بقدمه. وسيأتي توضحيه إن شاء الله تعالى في العقيدة القادمة: عقيدتنا في صفاته تعالى.

الجهة الثانية: التوحيد الأحدي:

يعني الإيمان بأن الله(عزوجل) (واجب الوجود) أحدٌ، أي غير مركب من أجزاء لا حقيقية خارجية ولا ذهنية.

الأجزاء الذهنية: مثل تركب الإنسان من (حيوان ناطق) ففي الخارج لا يوجد عندنا إلا شيء واحد هو (زيد) مثلاً، ولكن في الذهن نحلّله إلى (حيوان) و (ناطق).

وأما التركيب الخارجي فهو واضح، مثل تركيب البيت أو تركيب الماء، الماء مركب خارجاً من أوكسجين وهيدروجين، وأي واحد من هذين الجزئين يزول فلا يبقى الماء في الخارج.

والتوحيد الأحدي يعني أن نؤمن بأن الله(عزوجل) واجب الوجود أحد غير مركب، لا من أجزاء خارجية ولا من أجزاء ذهنية، ويعبر عن هذا المعنى بالبساطة، فيقال: إن واجب الوجود بسيط، يعني غير مركب لا من أجزاء خارجية حقيقية ولا من أجزاء ذهنية تحليلية.

والدليل على هذا القسم من التوحيد هو:

أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلف وجوب الوجود، لأن من خصائص واجب الواجب أنه غني مطلق لا يحتاج إلى أي شيء أبداً.

ص: 103

هذا كله في التوحيد في الذات.

وأما التوحيد في الصفات فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، والآن نتحدث عن:

التوحيد في العبادة

اشارة

ولتوضيحه نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: محور الخلاف في التوحيد في العبادة.

اتفق الموحِّدون جميعاً على ضرورة التوحيد في العبادة، فكل من آمن بالله(عزوجل) ووحّده قال بأنه يجب أن نعبد الله(عزوجل) وحده لا شريك له، وهذا يمثل واحداً من أهم الأهداف التي بُعث من أجلها الرسل والأنبياء.

قال عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(1)

أي: ولقد بعثنا في كل امة رسولاً، الهدف منه: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فأصل التوحيد في العبادة متفق عليه بين جميع الموحدين، إلا أن الخلاف حصل في بعض الممارسات التي جعلها البعض تمثلاً للتوحيد في العبادة، واعتبرها البعض الآخر مظهراً من مظاهر الشرك فيها.

فزيارة القبور مثلاً، في الوقت الذي يعتبرها أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم مظهراً من مظاهر توحيد الله(عزوجل)، أي إنه لا يتعارض مع توحيد الله وعبادته(عزوجل)، فالبعض الآخر يقول: بأنها عين الشرك، ويرمي الشيعة بالشرك لأنهم يزورون القبور، فهذا الاختلاف نشأ من الاختلاف في مفهوم العبادة، وإذا أردنا أن نحلّ النزاع فلا بد من

ص: 104


1- النحل 36.

بيان المعنى الصحيح لمفهوم العبادة، لنعلم أن زيارة القبور أو تقبيل الأضرحة مثلًا عبادة لغير الله تعالى أو لا.

النقطة الثانية: ما هو معنى العبادة؟

قال(قدس سره): «كذلك يجب ثالثاً توحيده في العبادة».

العبادة لغةً هي الطاعة مع الخضوع، ومنه قولهم طريق مُعبَّد، إذا كان مذلَّلاً لكثرة الوطيء والمشي عليه.

واصطلاحاً: هي المواظبة على فعل المأمور به.

ولا يوجد خلاف في المعنى اللغوي والاصطلاحي للعبادة

أما العبادة شرعاً، فيمكن إعطاء عدة تعريفات لها، ومن المهم فهم معنى العبادة شرعاً، حتى نستطيع أن نتعرف على أن هذا الفعل هو من الشرك أو من إخلاص العبادة، والذي يظهر من خلال الآيات الكريمة والروايات الشريفة، بل ما يحكم به العقل أيضاً هو أن العبادة شرعاً هي مفهوم مركب من جزئين:

الجزء الأول: الخضوع.

والجزء الثاني: الاعتقاد.

الخضوع: بمعنى التذلل ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة﴾(1)

والخضوع لوحده لا يسمى عبادة شرعاً، بل هو يحتاج إلى جزء آخر، وهو الاعتقاد.

الاعتقاد يعني: أن يعتقد الخاضع أن المخضوع له رب مدبر للأمور أو خالق أو رازق على نحو الاستقلال، أو إني أنا الخاضع أحتاج لذلك المخضوع له في أصل

ص: 105


1- الإسراء 24.

وجودي، لأنه وجود مستقل وأنا لست كذلك.

الوجود المستقل: هو الذي لا يحتاج إلى غيره في وجوده.

الوجود غير المستقل: هو الذي يستمد وجوده من غيره، فهو في ذاته لا قدرة له على إيجاد نفسه.

مثال ذلك: قالوا في علم الأصول: إن الاسم وجوده مستقل، لأنه يدل على معناه من دون أن يحتاج إلى غيره، أما حروف الربط -كحرف جر مثلاً- فهي لوحدها ليس لها معنى محصل، ومعناها يأتي من وجودين مستقلين تربطهما مع بعضها، فتقول مثلاً: سافرت إلى بغداد، فصار لكلمة (إلى) معنى، وهو ابتداء السفر من هنا ونهايته في بغداد، وهذا المعنى (الانتهاء) غير مستقل، بل هو يحتاج الى غيره حتى يظهر معناه، وهما الاسمان المستقلان اللذان يربط بينهما.

النقطة الثالثة: تطبيقات:

إذا عرفنا هذا المعنى ستتبين عندنا عدة أمور:

الأمر الأول: أن سجود الملائكة لآدم8 ليس هو من العبادة في شيء، لأنه وإن كان مشتملاً على الخضوع لآدم، ولكنه كان خالياً من الاعتقاد بكونه رباً أو خالقاً وما شاكل ذلك.

هذا بناء على أن المقصود من آية ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾(1)

أن السجود كان لآدم نفسه، فيصير معناه: اخضعوا لآدم، وإلا فإنه يمكن القول بأن السجود كان لله(عزوجل)، لكن الداعي له هو خلق آدم، يعني لأجل آدم وإكراماً له، اسجدوا لله(عزوجل)، وعليه فلا توجد أي مشكلة

ص: 106


1- الإسراء 61.

عبادية حينها.

الأمر الثاني: أن سجود أبوي يوسف وأخوته له لم يكن من العبادة في شيء، لنفس السبب المتقدم، وهو أنه كان مجرد خضوع مع عدم الاعتقاد بأن يوسف خالق، رازق، رب، له وجود مستقل، فهو المعنى اللغوي للعبادة وليس الشرعي.

الأمر الثالث: أن خضوع الولد لأبيه ليس من العبادة في شيء، فعندما يُقبّل الولد يد أبيه أو قدم أمه، فهذا مجرد خضوع، وليس من العبادة في شيء، لذلك فالقرآن الكريم أمر به ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾(1)

أي تذلَّل لهما بقدر المستطاع، ولا يعتبر عبادة كما هو واضح.

الأمر الرابع: أن خضوع التلميذ لأستاذه ليس من العبادة في شيء، لأنه خضوع احترم خالٍ من الاعتقاد بالربوبية.

الأمر الخامس: أن زيارة القبور والتوسل بالأولياء ليس هو من العبادة في شيء، لأن خضوعنا للأولياء وزيارتنا لقبور الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) وإنْ كان فيها خضوع، بل فيه منتهى الخضوع والتذلل والخشوع، والروايات تقول: إذا ذهبت لزيارة الإمام الحسين(علیه السّلام) فامش خاضعًا خاشعًا متذلِّلًا، ولكن رغم ذلك فهي ليست بعبادة، إذ لا أحد من الشيعة إطلاقاً يعتقد بأن الإمام الحسين(علیه السّلام) رب له أو خالق أو رازق مستقل له.

النقطة الرابعة: فائدة جانبية

العبادات لها أنواع، يعني: يمكن أن نقسمها بعدة تقسيمات:

ص: 107


1- الإسراء 24.

التقسيم الأول: تنقسم العبادة إلى:

1/ عبادة تتعلق بالأبدان، مثل الصلاة والصوم

2/ عبادة تتعلق بالأموال، مثل الزكاة والخمس والنفقات الواجبة، مثل النفقة على الزوجة أو على الأولاد أو الابوين، والنفقات المستحبة كالصدقات.

3/ عبادة تتعلق بالأبدان والأموال، مثل الحج والجهاد

التقسيم الثاني: بلحاظ التكرار وعدمه.

1/ هناك عبادة تتكرر كل يوم، كالصلاة.

2/ وهناك عبادة تُطلب في السنة مرة كالصوم والزكاة والخمس.

4/وهناك عبادة تطلب في العمر مرة، كالحج، فإن المطلوب هي حجة الإسلام مرة واحدة في العمر وإذا ذهب مرة ثانية فهي مستحبة.

يبقى عندنا الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه تطلب حسب الظروف الموضوعية، فرب ظرف يقتضي الجهاد حسب أمر الإمام، أو بأمر نائب الإمام، وقد لا يكون كذلك.

التقسيم الثالث: تقسم العبادة إلى:

1/ عبادات جارحية، تقوم بها الجوارح، يعني الأعضاء الخارجية للإنسان، كغض البصر، فهذه عبادة تقوم بها العين، وكفّ اليد عن لمس الحرام، مثل أن تمس امرأة حرامًا، هذه عبادة تقوم بها اليد، أو مثلاً أن تمشي إلى المسجد أو إلى زيارة مريض، فنفس المشي ونفس القصد إلى المسجد، ونفس قصد زيارة المريض، ونفس قصد زيارة الإمام الحسين(علیه السّلام)، كلها عبادة تتعلق بالجوارح.

ص: 108

2/ عبادات جانحية، أي عبادة تتعلق بالجوانح، يعني الأعضاء الداخلية للإنسان، مثل التفكّر، فتفكر ساعة خير من عبادة سنة كما ورد في بعض الروايات(1)،

والتفكر شيء داخلي، فأنت تفكر بذهنك وبعقلك، تتفكر في عظمة الله(عزوجل)، تتفكر في النعم التي وهبها الله(عزوجل)، تتفكر في آلاء الله(عزوجل)، أو مثلاً تعمل على الانقطاع إلى الله(عزوجل) بالقلب، بأن لا يكون في القلب سوى الله(عزوجل)، فهذه عبادة جانحية.

3/ وعبادة تشتملهما معاً، عبادة جانحية وجارحية، مثل العبادات التي يشترط فيها قصد القربة مثل الصلاة، الصلاة عبادة جارحية وجانحية، ففيها أفعال جارحية فتقوم وتركع وتسجد وتتكلم بلسانك، وهذه كلها أفعال جارحية، وفي نفس الوقت يطلب فيها إخلاص العمل وإخلاص القلب، يُطلب فيها قصد القربة، وهو أمر جانحي، فالنية أمر قلبي.

فاذا صار خلل في القصد (النية) فالعمل الجارحي وحده لا يكفي، فلو صلى شخصان نفس الصلاة، الأول كانت صلاته خالصة لله تعالى، والثاني كانت صلاته فيها رياء، فالشكل الخارجي الجارحي (أو قل: الفعل الفيزيائي) للصلاتين واحد، ولكن الأولى التي فيها إخلاص تكون مقبولة، والثانية باطلة للخلل الداخلي بالنية فيها.

قال الشيخ(رحمه الله علیه): كذلك يجب ثالثاً توحيده في العبادة، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من

ص: 109


1- عن أبي العباس عن أبي عبد الله(علیه السّلام) قال: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة، قال الله: ﴿إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ﴾» [الزمر 9] [تفسير العياشي ج2 ص 208 ح 26]. عن أمير المؤمنين8 أنه قال: «فكر ساعة قصيرة خير من عبادة طويلة». [عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 358] وروي عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله(علیه السّلام) عَمَّا يَرْوِي النَّاسُ أَنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ يَتَفَكَّرُ؟ قَالَ: «يَمُرُّ بِالخَرِبَةِ أَوْ بِالدَّارِ فَيَقُولُ: أَيْنَ سَاكِنُوكِ أَيْنَ بَانُوكِ مَا بَالُكِ لَا تَتَكَلَّمِينَ..»[ الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 54 - 55 باب التفكر ح2].

الوجوه وكذا إشراكه في العبادة.

الفرق بين عبادة غير الله تعالى وإشراكه في العبادة:

عندما أعبد غير الله(عزوجل)، فأنا لا أعبد الله ابداً، كمن يعبد البقرة أو الفأر أو النار، أما المشرك فهو يعبد الله ويعبد غيره معه، فيشرك مع الله غيره.

عن أبي عبد الله(علیه السّلام): قال الله(عزوجل): أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله، إلا ما كان لي خالصاً.(1)

ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك، كمن يرائي في عبادته، فلو كانت العبادة مثلاً من النوع الذي يشترط فيها العمل الجارحي مع العمل الجانحي –كالصلاة-، فالجارحي ربما يكون صحيحاً، ولكن العنصر الثاني إذا كان فيه خلل كالرياء مثلاً، فسيكون بمثابة المشرك وتكون العبادة باطلة، وسيتقرب إلى غير الله تعالى.

ملاحظة:

الشيخ لم يبين المعنى الشرعي للعبادة اعتماداً على وضوحه، وذكر مصاديق من العبادة الباطلة، ثم ذكر مصاديق من الأفعال التي أراد غيرنا أن يجعلها شركاً ويتهمنا به، ولكنها في الحقيقة ليست بشرك، وليست بعبادة، لأنها خالية من عنصر الاعتقاد بالربوبية.

ثم قال(رحمه الله علیه): «أما زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها، بل هي من نوع التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، كالتقرب إليه بعيادة

ص: 110


1- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 252/270.

المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير..».

إنه(رحمه الله علیه) دخل من مدخل آخر –غير ما تقدم- لتصحيح مثل هذه الأفعال، وهو:

أن هذه الأفعال قد ورد الأمر الشرعي فيها، فالله سبحانه وتعالى أراد منا زيارة القبور والخضوع للأولياء، فإذا أرادها الله تعالى فلا شرك فيها، فالله سبحانه وتعالى هو المولى، وهو يريدنا أن نعبده كما يحب هو لا أن نعبده كما نحب نحن، فأراد منا زيارة القبور، فنحن نزورها بكل أدب وإخلاص واطمئنان.

طبعاً هذا المدخل يحتاج إلى إثبات فقهي، يحتاج إلى أن نثبت بدليل شرعي أن زيارة القبور مثلاً ورد استحبابها في آية أو رواية، والشيخ كان ملتفتاً إلى هذا الأمر؛ فلذا قال: «أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته»

وأما المدخل الذي دخلنا منه في البداية، فهو لا يحتاج إلى إثبات فقهي، لأنه يأتي للمسألة الاعتقادية من الأساس، ويثبت أنها فاقدة لحقيقة العبادة، إذ هي خضوع فقط كما تقدم تفصيله.

ص: 111

ص: 112

عقيدتنا في صفاته (تعالى)

اشارة

قال(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في صفاته تعالى ونعتقد أن من صفاته(عزوجل) الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات (الجمال والكمال)، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة - هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته. وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.

نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها، لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد.

وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها إلى صفةٍ واحدةٍ حقيقيةٍ وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفةٌ واحدةٌ تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات (الجلال)، فهي ترجع جميعها إلى سلبٍ واحدٍ هو سلبُ الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمة بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص. ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية،

ص: 113

فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الأمر إلى صفات الكمالية (الثبوتية). والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية لما عز عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها، فوقع بما هو أسوأ، إذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الأقلام.

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء لواجب الوجود، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك، قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين(علیه السّلام): «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصفه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه جزأه، ومن جزأه فقد جهله..»». انتهى

هنا عدة مباحث في هذه العقيدة نذكرها تباعاً حتّى يتَّضح المقصود من كلامه.

وفي البداية لابد أن نبيِّن أن هناك تقسيمات عديدة لصفات الله(عزوجل)، وفي هذه المرحلة نقتصر على ما ذكره الشيخ مع بيانه.

أنواع الصفات

اشارة

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) هنا ثلاثة أنواع للصفات:

النوع الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية.

اشارة

ولهذا النوع عدة خصائص:

ص: 114

الخصيصة الأولى: أن هذه الصفات هي من النوع الذي يليق بالواجب جل وعلا، كالعلم والحياة، في قبال ما لا يليق به جل وعلا، فيجب سلبه عنه، كالتركيب والظلم، وهذا هو معنى الثبوتية، والثبوتية تقابلها السلبية.

الخصيصة الثانية: أن هذه الصفات تشير إلى كمال في الذات المقدسة، وما دامت تشير إلى كمال فيجب إثباتها له(عزوجل)، من باب أن واجب الوجود متَّصف بجميع الصفات الكمالية، وهذا هو معنى الكمالية.

الخصيصة الثالثة:أن تلك الصفات ذاتية، بمعنى أنه يكفي في تحققها وجود الذات المقدسة فقط، أي إنها لا تحتاج إلى طرفٍ آخر لتثبت، هي ليست كصفة الخالقية أو الرازقية، فهاتان الصفتان وإن كانتا من الصفات الكمالية لله(عزوجل)، لكنهما تحتاجان إلى طرف آخر حتى تتحقق، فالخالقية مثلاً تعني: وجود خالق ومخلوق، فبدون وجود المخلوق لا توجد خالقية، وإنما يوجد قدرة على الخلق، فلا نصف الله سبحانه وتعالى بالخالقية إلّا إذا مارس عملية الخلق فأوجد مخلوقات، أمّا قبل فعله الخلق أو ممارسته لعملية الخلق فنقول: إن الله(عزوجل) عنده القدرة على الخلق.

وكذلك الرازقية، فإنها تحتاج إلى وجود رازق ومرزوق حتّى تتحقق صفة الرازقية، فقبل وجود المرزوق نقول: إن الله تعالى له القدرة على الرزق.

مثل هذه الصفات لا يكفي مجرد وجود الذات أو تحقق الذات لوجودها أو تحققها، ولذا فيمكن افتراض الذات المقدسة من دون صفة الخالقية والرازقية.

وتسمى هذه الصفات بالكمالية الإضافية، وهي مأخوذة من الإضافة التي لا تتحقق إلّا بوجود طرفين: المضاف والمضاف إليه.

أمّا مثل صفة القدرة والعلم والحياة، فهي صفات حقيقية، بمعنى أن نفس الذات

ص: 115

لوحدها تكفي لتحقق تلك الصفة، فالله سبحانه وتعالى هو بذاته حي، ولا تحتاج هذه الصفة إلى طرف آخر حتى نقول: الله سبحانه وتعالى حي، بحيث يكون قبلها غير حي.

وهكذا صفة القدرة، فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ونقول: الله قادر على الخلق، سواء وُجد خلق في الخارج أو لم يوجد.

وهكذا نقول: إن الله(عزوجل) عالم، سواء كان هناك معلوم في الخارج من الممكنات أم لم يكن هناك معلوم.

البحث المهم في هذا النوع:

إن البحث المهم في هذه الصفات هو: هل لها وجود حقيقي أو ليس لها وجود حقيقي؟ وهل هي عين الذات أو زائدة على الذات؟

تعددت الآراء في هذه المسألة وتناقضت، فبعضها أخذ جانب الإفراط، وبعضها أخذ جانب التفريط.

وكل من الفرق المختلفة أراد الحفاظ على جهة من جهات التوحيد.

فالأشاعرة أرادوا الحفاظ على وصف الباري جل وعلا بالصفات الكمالية حقيقةً، ولكنهم لم يتعقّلوا وصف الله بها إلّا بالقول بأنها زائدة على الذات، وهؤلاء يمثلون جانب الإفراط.

وعلى الطرف النقيض تماماً وقف المعتزلة، حيث أرادوا تنزيه الباري(عزوجل) عن النقص والتركيب، فقالوا بعدم وجود أي صفة حقيقية له تعالى، وهؤلاء يمثلون جانب التفريط.

وأمّا الحكماء والإمامية فقد جاءوا – تبعاً لأئمة أهل البيت(علیهم السّلام) - برأي يثبت الصفات الحقيقة له(عزوجل)، بحيث لا تكون هذه الصفات زائدة على الذات، فخالفوا

ص: 116

الأشاعرة، ولا يلزم منها تركب الذات، فخالفوا المعتزلة، فقالوا: إن صفات الله(عزوجل) هي عين ذاته.

تفاصيل الأقوال:

القول الأول: للأشاعرة:

قالوا: إن الصفات الكمالية قائمةٌ بنفسها زائدة على الذات.

أنت كإنسان عادي تملك بيتاً وسيارة وشهادة وبستاناً، وملكك لهذه الأمور يمثل كمالاً لك، لكن أنت موجود بوجود خاص، وكل واحد من هذه الأمور له وجود خاص به، لكن هناك علاقة بينك وبينها، وهي أنها ملك لك.

وما نُسب إلى الأشاعرة في ما يتعلق بصفات الباري (جل وعلا) الثبوتية يشبه هذا المثال، فهم يقولون: إن مثل صفة العلم هي صفة زائدة على الذات، فعندنا ذات الله تعالى، وله وجود مستقل، وعندنا وجود ثاني اسمه: العلم، ووجود ثالث اسمه: القدرة، ووجود رابع اسمه: الحياة، وهكذا.

وتلك الموجودات لها ارتباط بهذه الذات المقدسة، فقالوا: إن الصفات لها وجود قائم بنفسه مستقل زائدة على الذات، والصفة تعرض على الذات.

لماذا قالوا بهذا الشيء؟

إن الصفات ثابتة ومتكثرة بنص القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يذكر العلم والحياة والقدرة والإرادة والإدراك والسمع والبصر، هذا من جانب.

ومن جانب آخر: إن الذات المقدسة بسيطة أي غير مركبة.

فإذا كانت الصفات داخل الذات وليست خارجة عنها، فيلزم أن الذات مركبة

ص: 117

من واجب الوجود ومن العلم والقدرة والحياة... فصار الواجب مركباً، وهذا خلاف التوحيد.

فالأشاعرة أرادوا أن يثبتوا التوحيد بمعنى البساطة، فقالوا: بأن الصفات زائدة عن الذات، وأن الصفات الثبوتية الكمالية زائدة وقديمة بقدمه تعالى، فالله سبحانه وتعالى منذ القدم موجود، وهناك صفة اسمها العلم موجودة مستقلة عنه موجودة معه، لأنه إذا لم تكن موجودة معه منذ القدم، فهذا يلزم منه كون الله(عزوجل) من دون علم في آن ما، وهذا خلاف وجوب الوجود.

لذلك قالوا: بأن تلك الصفات قديمة بقدمه(عزوجل).

الإشكال على هذا الرأي:

إن القول بزيادة الصفات على الذات يلزم منه العديد من المحاذير، نذكر منها التالي:

المحذور الأول:

يلزم تعدد القدماء، فالله(عزوجل) قديم، والعلم موجود قديم، الحياة قديم، القدرة قديم، الإرادة قديم، السمع قديم، البصر قديم، وهكذا.

فقالوا بالقدماء الثمانية: الذات المقدسة مع الصفات السبعة التي هي: الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام النفسي.

فهم أرادوا أن يثبتوا التوحيد فوقعوا في الشرك، لذلك نقل عن أحد علمائهم بأنه كان يقول: إننا نستهجن من الثنوية الذين قالوا بوجود قديمين: مبدأ للخير ومبدأ للشر، ونستهجن من النصارى الذين قالوا بأن القدماء ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وأصحابنا يقولون بقدماء ثمانية!

ص: 118

المحذور الثاني:

يلزم منه افتقار الذات المقدسة إلى الصفات الزائدة، حيث قالوا: هناك ذات وإلى جانبها صفة علم وقدرة، وهذه الذات تتصف بالعلم والقدرة، وهذا معناه أنه إذا نظرنا إلى الذات بغض النظر عن غيرها، أي عندما نقصر النظر على الذات، فهذه الذات مفتقرة إلى تلك الصفة، أي إنها في حد نفسها خالية من العلم مثلاً، وحتى تكون عالمة فهي مفتقرة إلى تلك الصفة الخارجة عن ذاتها، والافتقار صفة الممكن، وهذا خلف كونه تعالى واجب الوجود الغني المطلق.

المحذور الثالث:

أن هذا القول يلزم منه النقص ومحدودية الذات، لأن الذات على هذا القول في مرتبة وجودها الخاص خالية عن الصفات، ففي ذاتها تكون ناقصة، وهذا خلاف وجوب الوجود، وسيكون حالها حينئذٍ حال الإنسان الذي هو كما قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)

فالإنسان عندما يخرج إلى الدنيا ليس عنده أي علم فعلي، فالإنسان بمرتبة الذات في هذه المرحلة ناقص، وبالاستمرار في حياته حيث جعل الله تعالى له منافذ للعلم، يبدأ يكسب العلم شيئاً فشيئاً، فيتكامل، فالإنسان في مرتبة الذات غير صفة العلم وغير صفة السمع، ففي ذاته يكون ناقصاً.

فالأشاعرة عندما قالوا: إن الصفات زائدة عن الذات، فهذا يعني أنه لو نظرنا إلى الذات المقدسة في مرتبة الذات، فهي تكون ناقصة، لأنه لا يوجد فيها العلم ولا القدرة

ص: 119


1- النحل: 78

ولا الحياة، فأصبحت ناقصة ومحدودة، والنقص والمحدودية من صفات الممكن، والفرض أن الذات المقدسة واجب الوجود.

الرأي الثاني: للمعتزلة:

هؤلاء وقفوا على طرف النقيض من قول الأشاعرة، فقالوا بأنه ليس هناك أي تحقق ووجود للصفات، فليس هناك صفات في الحقيقة، فليس عندنا لا صفة العلم ولا القدرة، ليس عندنا إلّا الذات المقدسة، نعم، هذه الذات تنوب عن هذه الصفات، فهي ذاتٌ بسيطةٌ واحدةٌ لها آثار متعددة، فأثرٌ يشبه أثر الحياة، لكن لا توجد صفة الحياة في الحقيقة، وأثر آخر يشبه أثر العلم، وثالث يشبه أثر القدرة، وهكذا.

والسبب في ذلك حسب اعتقادهم: أن الواجب بسيط محض وأحدي الذات، يعني غير مركب، وأن الاتِّصاف بالصفات المتكثرة من علم وقدرة وحياة يعني أن تلك الذات متكثرة، والتكثر يوجب التركب، فتصير الذات المقدسة مركبة من ذات وصفات، وهذا خلاف التوحيد الأحدي، أو خلاف أن واجب الوجود هو صرف الوجود، يعني غير مركب.

النقاش في هذا الرأي:

أيضاً يلزم من هذا الرأي عدة محاذير نذكر منها:

المحذور الأول: يلزم منه التعطيل، يعني تعطيل الذات عن الاتصاف بأي صفة من الصفات.

المحذور الثاني: أنه خلاف ظاهر بل صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة التي وصفت الله(عزوجل) حقيقةً بأنه قادر، عالم، حي، أي إنه تعالى هو القادر، وهو العالِم، وهو

ص: 120

المريد، لا أن له أثر العلم أو القدرة أو الحياة، فالقرآن واضح جداً ويقول: إن الله هو سميع بصير حي، فالقرآن يثبت الصفات بصراحة لله(عزوجل).

قال تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْ-رِكُونَ. هُوَ اللهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُ الحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(1)

والحاصل:

أننا لا نقول بأن الصفات زائدة على الذات كما يقول الأشاعرة، لأنه يلزم منه تعدد القدماء ونسبة النقص لله(عزوجل)، وافتقار الذات.

ولا نقول بقول المعتزلة الذين قالوا: إن الذات تقوم مقام الصفات التي هي ذات واحدة ولها أثر القدرة والعلم، ولا توجد صفات في الحقيقة، لأنه يلزم منه التعطيل، وهو خلاف ظاهر بل صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة.

والرأي الصحيح هو رأي أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) والذي يقول: بأن الصفات هي عين الذات، وهو ما سيتبين في الرأي الثالث إن شاء الله تعالى.

الرأي الثالث: للإمامية (أتباع أهل البيت(علیهم السّلام)): عينية الصفات للذات:

أي إن الصفات موجودة حقيقة، بخلاف المعتزلة الذين قالوا: لا توجد هناك صفات حقيقية.

وفي نفس الوقت هذه الصفات الموجودة هي ليست زائدة على الذات، خلافًا

ص: 121


1- الحشر: 22-24.

للأشاعرة.

وانما هي عين الذات، فالذات الالهية المقدسة هي ذات واحدة بسيطة، وهذه الذات نفسها عالمة، وهي نفسها قادرة، حية، مدركة، سميعة، بصيرة والى آخر هذه الصفات.

وهذا العلم المتصفة به هذه الذات ليس زائدًا عليها، أي ليس له وجود مستقل عن الذات، يعني عندما نقول: إن هذه الذات عالمة قادرة حية، فليس معنى قولنا هذا: أن الذات جزء منها عالم، وجزء آخر غير الجزء الأول قادر، وجزء ثالث غير الجزئين الأولين حي، كلا، لأن هذا يلزم منه التركيب الذي أراد أن يفرّ منه الأشاعرة والمعتزلة، بل هي ذات واحدة واحدة كلها عالمة، وهي كلها قادرة، مدركة، سميعة، بصيرة لا مجال للتركيب فيها، فالصفات هي عين الذات.

وهذا هو رأي الامامية.

فالصفات وإن كانت قديمة مثلما قال الأشاعرة، ولكن الفرق بيننا وبينهم هو: أنهم قالوا: إن هذه الصفات زائدة على الذات، أما نحن (الامامية) فنقول: هي صفات قديمة، ولكنها عين الذات غير زائدة عليها، وبعبارة منطقية: إن المصداق واحد، لكن المفاهيم متعددة، والمصداق هو الذات العالمة، القادرة، المدركة، الحية، السميعة، البصيرة إلى آخره، وهي ذات واحدة.

فمثلًا مفهوم العلم -الذي قلنا إنه في الذات الالهية هو (العلم الحضوري) يعني نفس الأشياء حاضرة عند الله(عزوجل) كما تقدم- هذا المفهوم يختلف عن مفهوم الحي (المدرك بأقصى درجات الإدراك)، فمفهوم الحياة يختلف عن مفهوم القدرة، وعن مفهوم العلم وعن مفهوم السمع، ولكن هذه المفاهيم مصداقها في الخارج واحد وهو: الذات الالهية المقدسة.

ص: 122

مثال للتوضيح:

شخص مثلًا في البيت له اسم معين، وفي المدرسة له اسم آخر، وفي هويته له اسم ثالث، وكل اسم له معنى، فمثلاً في البيت اسمه: محمد، وفي المدرسة اسمه: علي، ومحمد معناه يختلف عن علي، فمحمد معناه صاحب المقامات المحمودة، وعلي معناه صاحب المقام الرفيع، وكل له معنى يختلف عن الآخر، لكن المصداق في الخارج هو مصداق لشخص واحد، وهكذا لو أسميناه: ابن فلان، أو الدكتور، فكلها تشير إلى شخص واحد رغم اختلاف معانيها، وهذا المثال للتوضيح لا أكثر.

الذات الالهية واحدة، لكن هذه الذات الإلهية عالمة، قادرة، حية، مدركة... ومفهوم الحياة يختلف عن مفهوم العلم وعن مفهوم القدرة، لكن في الخارج لدينا مصداق واحد وهي الذات الإلهية المقدسة البسيطة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في نهج البلاغة إشارة لهذا المعنى عندما قال: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ المَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه»(1)

ومعنى الحديث:

نفي الصفات: أي نفي الصفات الزائدة.

فمن وصف الله: يعني بوصف زائد على الذات.

ص: 123


1- نهج البلاغة ج1 ص 15.

فقد قرنه: يعني صار هناك تعدد، الأول وقرينه الثاني.

فقد ثناه: بأن جعل له ذاتًا ولها علم زائد، فصارا اثنين.

فقد جزّأه: فصار مركبًا من أجزاء.

هذا كله في النوع الأول من الصفات، وهي الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية.

النوع الثاني: الصفات الثبوتية الكمالية الاضافية (الفعلية).

اشارة

الثبوتية والكمالية قد تقدم معناها، أما الاضافية فهي الصفات التي تحتاج لطرف آخر لتحصل ولتتحقق.

ملاحظة:

هذه الصفات الإضافية -مثل الخالقية والرازقية وصفة الجود وغيرها- هي صفات حادثة؛ لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وكل شيء غير الله جل وعلا هو ممكن وحادث، فصفة الخالقية هي حادثة.

أما صفة الخالق بمعنى القادر على الخلق فهي قديمة، والرازق بمعنى القادر على الرزق صفة قديمة، أما تفعيل هذه الصفات، أي الخالقية (إيجاد خلق) الرازقية (إعطاء رزق) فهذه الصفات حادثة؛ لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وهو حادث.

هذه الصفات الثبوتية الكمالية الإضافية قال عنها الشيخ(رحمه الله علیه): إنها ترجع إلى صفة حقيقية واحدة هي صفة القيومية لمخلوقاته.

ما معنى القيومية؟

اشارة

القيوم له معنيان:

ص: 124

الأول: القائم بذاته:

يعني عندما نصف الله(عزوجل) بأنه قيوم، فهذا يعني أن وجوده قائم بذاته غير محتاج إلى غيره (مخلوقاته)، فقيام الله(عزوجل) معناه أنه لا يعتمد على غيره ولا يتبع أحدًا ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا سهو، قائم بذاته مستغنٍ بذاته عن جميع ما سواه.

الثاني: القائم بشؤون غيره:

فقيام الله على هذا المعنى يعني أنه حافظ لمخلوقاته، وموجد لها، ومدبر لأمورها، وتلك المخلوقات قائمة به من جميع الجهات، يعني محتاجة لذلك القيوم في جميع جهاتها، وكما قالوا في علم الفلسفة: «إن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً»، يعني جميع الموجودات الممكنة محتاجة في جميع شؤونها إلى الواجب حدوثًا، أي في أصل وجودها، وبقاءً، يعني في استمرار وجودها.

وكمثال للتوضيح: المصباح الكهربائي حتى يعطي الضوء يحتاج إلى وصول التيار الكهربائي إليه حدوثًا واستمرارًا.

وبعد أن تبين معنى القيومية، فقول الشيخ(رحمه الله علیه): إن هذه الصفات الإضافية (الخالقية والرازقية وغيرها) ترجع إلى صفة واحدة وهي القيومية، فإنه يقصد: المعنى الثاني، وهو أن الخالق يفيض الخلق والوجود على مخلوقاته، وهذا يعني أنه هو تعالى مدبر شؤون مخلوقاته، وهي محتاجة له في جميع شؤونها، وأن الرازق يفيض الرزق على مخلوقاته، وهكذا بقية المعاني والصفات.

في حديث للإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه يفسّر القائم بالمعنى الثاني، قال(علیه السّلام)8: «وهُوَ قَائِمٌ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى انْتِصَابٍ وقِيَامٍ عَلَى سَاقٍ فِي كَبَدٍ(1)،

كَمَا قَامَتِ

ص: 125


1- الكبد: الشدة والتعب.

الأَشْيَاءُ، ولَكِنْ قَائِمٌ يُخْبِرُ أَنَّه حَافِظٌ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: القَائِمُ بِأَمْرِنَا فُلَانٌ، والله هُوَ القَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..».(1)

النوع الثالث: الصفات السلبية:

اشارة

وهي الصفات التي يجب تنزيه الباري جل وعلا عنها، فهناك صفات تليق بالباري جل وعلا ويجب أن نثبتها له؛ لأنها كمال، وكل كمال هو ثابت لله(عزوجل)، وهناك صفات لا تليق به جل وعلا، هي صفات إذا وصفنا بها الواجب فإنها ستشير إلى نقص وجودي، وحيث إن واجب الوجود هو كمال مطلق، فيجب نفي تلك الصفات عنه تعالى، وهذه الصفات التي يجب أن ننزه الباري عنها تسمى: الصفات السلبية، بمعنى أنها تُسلب عن الذات المقدسة، و إذا أردنا ان نحملها على الذات المقدسة فيجب أن يوضع أمامها حرف النفي، فنقول: الله ليس بجسم، الله لا يرى بالعين المجردة.

وهذه الصفات يمكن أن تنقسم إلى قسمين:

الأول: الصفات السلبية الذاتية:

وهي الصفات التي يجب أن نسلبها عن الذات المقدسة، بغضّ النظر عن أي شيء آخر وراء الذات، أي إن النظر يكون فيها إلى نفس الذات بما هي هي، وهذه الصفات السلبية الذاتية هي التالي:

1/ إنه(عزوجل) ليس مركباً (أي إن نفس الذات ليست مركبة).

2/ليس جسماً.

ص: 126


1- الكافي للكليني ج1 ص 121 بَابٌ آخَرُ وهُوَ مِنَ البَابِ الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّ فِيه زِيَادَةً وهُوَ الفَرْقُ مَا بَيْنَ المَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ الله وأَسْمَاءِ المَخْلُوقِينَ ح2.

3/ليس له شريك.

4/ليس له مكان.

5/لا يُرى بالعين.

6/ليس محتاجاً.

7/ليس محلاً للحوادث (أي إن الأمور الحادثة لا تحل به، مثل الحركة) وقد تقدم شرح معنى الحركة.

فهذه هي صفات الحوادث، وهو(عزوجل) ليس محلاً للحوادث (كالفرح والحزن والسكون والحركة).

الثاني: الصفات السلبية الفعلية:

وهي الصفات التي يجب تنزيه فعل الله(عزوجل) عنها، أي إنها راجعة إلى الفعل لا الذات، مثل الظلم والجور والعبث والشر واللعب والخطأ والاشتباه، فكل هذه الصفات وأمثالها منفية عن فعله جل وعلا، فليس في فعله ظلم أو جور أو عبث أو لعب وهكذا.

وسيذكر المصنف(قدس سره) الدليل على سلب تلك الصفات عن فعله في العقيدة التالية (العدل) بالتفصيل، وسنبينه هنا بعجالة:

لو اتصف فعله جل وعلا بإحدى هذه الصفات كالظلم -والعياذ بالله- حينها نتساءل: لماذا يظلم الله(عزوجل)؟

إن هذا لا يخلو:

إما أن يكون محتاجاً للظلم، ولكن الله(عزوجل) غني مطلق.

ص: 127

وإما أن يفعل الظلم جهلاً، ولكن الله(عزوجل) عالم بالمطلق.

وإما أن يفعل الظلم عبثاً، ولكن الله(عزوجل) حكيم بالمطلق.

وإما أن يفعل الظلم اضطراراً إليه، ولكن الله(عزوجل) قوي قادر لا يوجد من هو أقوى منه ليضطره إلى فعلٍ ما.

فهذه هي الأسباب التي تدعو الظالم إلى الظلم، وهذه كلها منفية عن الله(عزوجل)، فيمتنع صدور الظلم منه(عزوجل)، وهكذا بقية الصفات السلبية الفعلية.

رجوع الصفات السلبية إلى سلب الإمكان.

إن هذه الصفات السلبية -سواء كانت ذاتية أو فعلية- كلها ترجع إلى سلبٍ واحد، هو سلب الإمكان عنه تعالى.

بمعنى أنه: لماذا يجب علينا أن نسلب هذه الصفات عنه تعالى؟ وما هو منشأ تنزيه الباري(عزوجل) عن هذه الصفات السلبية؟

والجواب:

أن الله(عزوجل) واجب الوجود، وليس ممكن الوجود، فكل ما يتصف به ممكن الوجود يكون منفياً عنه جل وعلا، وهذا تقدم في صفات الواجب، وهذا معنى قول الشيخ المظفر(رحمه الله علیه): إن هذه الصفات السلبية ترجع إلى سلب واحد، وهو سلب الامكان عنه، لأن سلب الامكان يرجع إلى وجوب الوجود.

فحيث إن الله(عزوجل) هو واجب الوجود، فلا تكون تلك الصفات السلبية ثابتة له، بل يجب أن تنفى عنه جل وعلا.

ص: 128

مبحث جانبي أشار له الشيخ المظفر(قدس سره):

هل الصفات الثبوتية ترجع إلى السلبية أو بالعكس؟

رأيان:

الرأي الأول: أن الثبوتية ترجع إلى السلبية، ومعنى هذا: أن صفة (العالم) أصلها (ليس بجاهل)، و (قادر) يعني (ليس بعاجز)، و (الحي) يعني (ليس بميت)، و (مريد) يعني (ليس بمكرَه)، وهكذا.

وبرروا ذلك بأحد تبريرين:

التبرير الأول: عدم تعقّل أن صفات الله(عزوجل) الثبوتية هي عين ذاته، وبالتالي فإن إثبات الصفات حقيقة له تعالى يؤدي إلى كونها زائدة على الذات، وهذا يلزم منه تعدد القدماء، وإذا قيل: إنها غير حقيقية، فهذا خلاف ظاهر القرآن الكريم، الذي أثبت الصفات حقيقة، ولأجل الحفاظ على التوحيد، وصلوا إلى هذا الرأي، بأن معنى العالم أنه ليس بجاهل، ووصف (ليس بجاهل) يمكن أن يكون عين الذات.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) في عبارته، حيث قال ما نصُّه: «ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية، لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب، ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها».

التبرير الثاني: أن معرفة كنه وحقيقة الصفات الثبوتية محجوب عنا، فنحن لا نستطيع أن نفهم المعنى الحقيقي لعلم الله(عزوجل)، أو المعنى الكامل لقدرة الله(عزوجل)،وهكذا باقي الصفات الثبوتية، هذا الأمر غير معقول لنا، وكيف يعرف المحدود اللامحدود؟!

ص: 129

فحيث إننا لا نتعقل معنى العالم، وإنما يمكننا أن نتعقل أنه ليس بجاهل، فننفي الجهل عن الله(عزوجل)، أما حقيقة علم الله فغير مفهومة لدينا، فلا يمكن إثباتها له تعالى، باعتبار أننا لا يمكن أن نفهم الصفات الثبوتية، وإنما نفهم السلوب، أي سلب الجهل والعجز والموت و... فنحن نثبت ما نتعقله دون ما لا نتعقله.

الرأي الثاني: أن السلبية هي التي ترجع إلى الثبوتية، يعني أن كل الصفات السلبية ترجع إلى صفة واحدة وهي صفة سلب الإمكان، وسلب الإمكان حقيقته راجعة إلى وجوب الوجود، وهي صفة ثبوتية.

وأما الرأي الأول فغير صحيح، لأنه يلزم منه التالي:

أولاً: أن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية معناه التعطيل، يعني تعطيل الذات المقدسة عن الصفات الثبوتية، يعني عدم إثبات أي صفة ثبوتية لله(عزوجل)، فلا نقول: الله عالم، وإنما نقول: الله ليس بجاهل، فلا تثبت أي صفة ثبوتية لله(عزوجل)، وحتى إذا قلت بلسانك: الله عالم، فهذا مجرد لقلة لسان، ولا تستطيع أن تثبت هذه الحقيقة.

ثانياً: أن نفي الصفات الثبوتية عنه جل وعلا هو على خلاف ظاهر القرآن الكريم، الذي أثبت وبصراحة تامة الصفات الثبوتية له جل وعلا، قال تعالى: ﴿هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(1)

ثالثاً: أنّ ما قالوه في التبرير الثاني من عدم فهم حقيقة الصفات الثبوتية بلحاظ عجز الإنسان عن معرفة حقيقة الصفات الثبوتية، أمر صحيح، فإنه لا يمكننا أن ندرك

ص: 130


1- الحشر آية 23-24.

حقيقة الصفات الثبوتية، باعتبار:

أولاً: أن صفات الثبوت هي عين الذات.

ثانياً: والذات الإلهية غير محدودة.

فينتج: أن ما هو عين الذات أيضاً غير محدود.

فلا يمكننا -نحن بني الإمكان- أن ندرك حقيقة اللا محدود.

إن هذا كله صحيح، ولكن عدم معرفتنا بحقيقة وكنه الصفات الثبوتية لا يمنع من إثباتها له(عزوجل)، فنحن لا نفهم حقيقة العلم، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول: إن الله عالم، أَلا نقول: إن الله موجود! مع عدم إمكاننا أن نعرف حقيقة وجوده تعالى، ولكننا نثبت هذه الحقيقة، وكذا صفة واجب الوجود، فما فرقها عن باقي الصفات؟

والنتيجة: نحن نصف الله(عزوجل) بما وصف به نفسه، كما تقدم في الآيتين الكريمتين اللتين أثبتتا العديد من الصفات الثبوتية له تعالى.

بالإضافة إلى أن هناك روايات تقول: بأن لله(عزوجل) تسعة وتسعين اسماً. وأدعية أخرى ذكرت الكثير من الأسماء له جل وعلا.

بيان معنى الصمد:

الصمد هو: إما البسيط غير المركب، أو المصمود له، أي المقصود إليه، والمولى المطاع.

ص: 131

ص: 132

عقيدتنا في العدل

اشارة

قال الشيخ المظفر(قدس سره):

«عقيدتنا بالعدل ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادلٌ غير ظالم، فلا يجور في قضائه ولا يحيف في حكمه، يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون. ونعتقد أنه (سبحانه) لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة ولا يفعل القبيح، لأنه(عزوجل) قادر على فعل الحسن وترك القبيح مع فرض علمه بحسن الحسن وقبح القبيح وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم لا بد أن يكون فعله مطابقا للحكمة وعلى حسب النظام الأكمل.

فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

1 - أن يكون جاهلاً بالأمر فلا يدري أنه قبيح.

2 - أن يكون عالماً به ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه.

3 - أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولكنه محتاج إلى فعله.

4 - أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولا يحتاج إليه فينحصر في أن يكون فعله له تشهياً وعبثاً ولهواً.

ص: 133

وكل هذه الصور محال على الله تعالى وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

غير أن بعض المسلمين جوز عليه(عزوجل) فعل القبيح تقدست أسماؤه، فجوز أن يعاقب المطيعين ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين، وجوز أن يكلف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوز أن يصدر منه الظلم وجور والكذب والخداع وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة وبحجة أنه لا يسأل عما يفعل وهو يسألون.

فرب أمثال هؤلاء الذين صوروه على عقيدتهم الفاسدة، ظالم جائر سفيه لاعب كاذب مخادع يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهذا هو الكفر بعينه. وقد قال الله(عزوجل) في محكم كتابه: ﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ وقال: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً» انتهى.

هذه العقيدة من العقائد المهمة جداً.

وهنا نذكر عدة نقاط:

النقطة الأولى: سبب تأصيل صفة العدل.

إن العدل في الحقيقة من الصفات الثبوتية لله جل وعلا، ومادام العدل من الصفات، قد يُتساءل: ما هو السبب الذي لأجله جعلتم هذه الصفة أصلاً من أصول الدين؟ ولمَ لمْ تبق مع بقية الصفات؟

ص: 134

والجواب:

أن السبب في ذلك يعود إلى:

أولاً: خطورة نفي هذه الصفة، بمعنى أنه سينتج من عدم إثباتها الكثير من الأمور الخطرة جداً على جميع المستويات، أي ليس فقط على المستوى العقائدي، بل حتى على المستوى العملي والسياسي.

ثانياً: الاختلاف الكبير الذي وقع في هذه الصفة، من حيث بعض الثمرات والنتائج المترتبة عليها، الأمر الذي أدّى إلى أن ينقسم مدعو الإسلام إلى مدرستين رئيسيتين، هما: العدلية، (وهم الإمامية أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) والمعتزلة)، وفي قبالهم مدرسة الأشاعرة.

بل انقسم المسلمون في بعض ما يترتب على هذه الصفة إلى ثلاث فرق وهم: المجبّرة وهم الأشاعرة، والمفوّضة وهم المعتزلة، والقائلون بالأمر بين الأمرين، وهم أتباع مذهب أهل البيت سلام الله عليهم، وستتضح هذه المعاني لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ثالثاً: أن أهمية هذه الصفة تتبين إذا ما عرفنا أنه يمكن اختزال الأصول الخمسة في التوحيد والعدل فقط، باعتبار أن النبوة ثمرة من ثمرات العدل الإلهي، يعني لو لم يكن الله عادلاً -والعياذ بالله- لأمكن أن يترك الناس من دون أن يرسل إليهم رسولاً، ومن دون أن يبين لنا ما يحبّ وما يبغض، ومع ذلك يعذبنا، وإذا جاء إنسان وأراد أن يعترض على الله(عزوجل)، فإنه سيقال له ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(1)،

وهذا ما يؤول إليه قول الأشاعرة، بحيث لو أن الله تعالى أدخل الناس كلهم في جهنم حتى المحسنين فهذا عدل، لأنه تعالى فعله.

وكذلك الإمامة يمكن أن نرجعها إلى العدل كما سيتضح إن شاء الله تعالى، وهكذا

ص: 135


1- الأنبياء 23.

المعاد، فإن واحدة من تجليات صفة العدل هي صفة الجزاء والثواب والعقاب.

فأهمية هذه الصفة أنها تختزل بقية الأصول، فيمكنك أن تقول: إن أصول الدين هي التوحيد والعدل، والعدل ينتج ضرورة النبوة والإمامة والمعاد، فهو أصل مهم، لذلك ورد في بعض الأحاديث الشريفة «إن أساس الدين التوحيد والعدل».(1)

فضلاً عن أن أهمية هذه الصفة وهذا الأصل تبرز حتى على المستوى الاجتماعي والسياسي لحياة البشر، إذ إن من أهم مباحث العدل الإلهي هو أن فعل الإنسان ممن يصدر؟ ومن المسؤول عن أفعال الإنسان؟

فإذا كان المسؤول هو الإنسان نفسه فيحق لنا أن نعترض على ظلم ظالم وجور جائر، أما إذا كانت الأفعال صادرة حقيقة من الله تعالى والإنسان مجبور عليها، وليس بيده أن يفعل أو أن لا يفعل -وهذا مذهب الجبر- فهذا معناه: أنه إذا جاءنا ظالم وظلمنا، فلا يحق لنا أن نعترض عليه، لأن هذا الظالم سيقول: أنا ما ظلمتكم! لأن الفعل الصادر مني أنا مجبور عليه، والفاعل الحقيقي هو الله جل وعلا! ولا يحق لكم أن تعترضوا على الله جل وعلا!

وهذا الذي أراد أن يزرّقه بنو أمية في أذهان الناس حتى لا يعترضوا عليهم، لذلك فمعاوية لما صعد المنبر بعد صلحه مع الإمام الحسن(علیه السّلام) قال: إني والله ما أقاتلكم لتصلوا ولا تصوموا ولا تحجوا ولا تزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم،

ص: 136


1- في كتاب التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 96 باب 5 - باب معنى التوحيد والعدل ح1 عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه سأله رجل، فقال له: إن أساس الدين التوحيد والعدل، وعلمه كثير، ولا بد لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه ويتهيأ حفظه، فقال(علیه السّلام): «أما التوحيد فأن لا تجوز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لا ملك عليه».

وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون!(1)

إي إن الله هو الذي سلطني عليكم!

ونفس الكلمة قالها عبيد الله بن زياد يوم دخل عليه الإمام زين العابدين(علیه السّلام) قال من هذا؟ فقيل له علي بن الحسين، فقال: أوليس الله قتل علياً (يقصد علي بن الحسين علي الأكبر سلام الله عليهما)، و الإمام زين العابدين(علیه السّلام) كان ملتفتاً إلى هذه القضية،

وأراد أن يبين للناس أن المسالة هي ليست مسالة جبر، فأجابه وقال له: «كان لي أخ اسمه علي قتلتموه أو قتله الناس»، يعني: أنتم المسؤولون عن هذا الفعل.(2)

فإثبات هذه الصفة أو نفيها له أثر مباشر في هذه القضايا الاجتماعية والسياسية، وكذا في مسألة الحسن والقبح العقليين.

فلذلك كله اعتبر الإمامية بل العدلية العدل أصلاً من أصول الدين.

النقطة الثانية: العدل صفة فعلية.

اشارة

إن العدل هو من الصفات الثبوتية الكمالية الإضافية.

والشيخ المظفر(رحمه الله علیه) ذكر في عقيدتنا في الله تعالى «نعتقد أن الله واحد أحد ليس كثله شيء قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر عليم حكيم عادل حي قادر.... إلى آخره».

ص: 137


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 3 - ص 196.
2- في كتاب الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - ص 116:..وعرض عليه علي بن الحسين(علیهما السّلام) فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا علي بن الحسين». فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له علي(علیه السّلام): «قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس». فقال له ابن زياد: بل الله قتله. فقال علي بن الحسين(علیه السّلام): ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر 42] فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فقد يتصور البعض: أن عدّ صفة العدل ضمن هذه الصفات الذاتية وليس الاضافية يعني أن الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) يقول بأن العدل من الصفات الذاتية لا الإضافية.

ولكن الحقيقة هي: أن الشيخ(قدس سره) هنا ليس في مقام فرز الصفات الذاتية عن الإضافية، بل في مقام تعداد الصفات الكمالية، وصفة العدل كمالية، والشاهد على ذلك هو ذكره صفة (الحكيم) هنا، وإحدى تفسيرات هذه الصفة هو ما يكون فعله متقناً، فالحكمة صفة للفعل، وأيضاً ذكرها من ضمن الصفات الذاتية، فيتبين من هذا أن مقصود الشيخ(قدس سره) هو تعداد الصفات الثبوتية الكمالية، بالإضافة إلى الصفات السلبية، حيث ذكر بعضاً من الصفات السلبية.

تنبيه: رجوع الصفات الفعلية إلى الذاتية.

إن الصفات الفعلية وإن كانت إضافية، لكنها ناشئة في الحقيقة من صفة ثبوتية كمالية ذاتية، وهي أن ذات الواجب جل وعلا تتصف بكل كمال وجودي، سواء كان هذا الاتصاف الكمالي على مستوى الذات أو الفعل، لا يوجد كمال متصور إلا وذات الواجب متصفة به، سواء كان هذا الكمال ذاتياً كالعلم والقدرة والحياة، أو كان على مستوى الفعل، كالعدل والحكمة والعلّية وما شابه، فهذه الصفات الفعلية الإضافية ترجع الى هذه الصفة (وهي الاتصاف بكل كمال وجودي) وهي صفة ذاتية.

النقطة الثالثة: ما هو معنى العدل الالهي؟

اشارة

للعدل عدة تعريفات متصورة، نذكر منها ثلاثة:

التعريف الأول: أن العدل هو الإعطاء بالسوية (بالتساوي).

وهذا المعنى هو ما قد يتبادر إلى الذهن، أي أن يعطي الله تعالى الجميع بالتساوي،

ص: 138

وهذا المعنى الذي تنادي به بعض المنظمات والمؤسسات الحقوقية والفلسفات الغربية، وعلى رأسها الاشتراكية، الذين نادوا ورفعوا شعار الإعطاء بالتساوي، وطالبوا بالمساواة بين الرجل والمرأة، وتوزيع الأموال العامة بالتساوي، لا على أساس الجهد المبذول.

وهذا المعنى في الحقيقة هو للظلم أقرب منه إلى العدل، لأن العقل يقضي بأن الحكمة تكون في توزيع الثروات بحسب الجهد المبذول، وبحسب الأدوار الملقاة على عاتق الأشخاص، نظير ما إذا كان لديك ثلاثة أولاد وعندك ست تفاحات وتعطي كل واحد منهم تفاحتين، فهل من العدل أن أبناءك الثلاثة أحدهم طفل رضيع، والآخر يبلغ من السنوات خمسًا، والثالث عمره خمس عشرة سنة وتعطي كلاً منهم تفاحتين؟! إن العقلاء يقولون لك: هذا الفعل غير صحيح، والمفروض أن تعطي الكبير حصة زائدة، لأن جسمه يحتاج إلى غذاء زائد، أما الرضيع فحتى إذا لم تعطه شيئاً فلا تكون ظالماً له، لأنه لا يستطيع أن يستفيد من هذه التفاحة، وهذا المثال للتقريب.

وهذا يعني: أنه ليس من العدل أن تعطي بالتساوي دائماً، فلو تصورنا أن الله(عزوجل) في يوم القيامة عندما يأتي المؤمنون -من كان منهم يصلي الواجب فقط، ومن كان منهم يصلي الفريضة والنوافل والمستحبات، ودائماً تجده قائماً راكعاً ويصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ويؤتى بالرجل الذي مات على فراشه من دون أن يقدم للمجتمع شيئاً، لا كتاباً علمياً ولا جاهدَ ولا بذل دمه، ولم يترك مشروعاً خيرياً، جاء إلى الدنيا صلى وصام ومات، ويأتي بالرجل الذي ملأ المكتبة الإسلامية بأنواع من العلوم، أو جاهد إلى أن استُشهد وقُتل في سبيل الله، وهو في عمله مخلص- كل هؤلاء يؤتون ويوضعون في درجة واحدة وفي منزلة واحدة من الجنة، ويكون لهم نفس الجزاء ونفس الثواب! هناك ألا يحس المجاهد بالغبن؟! يقول: تساويني مع ذلك الذي لم يقدم شيئاً؟!

ص: 139

إن الفطرة تحكم في داخل الإنسان بأن هذا الشيء مخالف للحكمة، وهذا ما أشارت له بعض النصوص الدينية، مثلاً يقول الله(عزوجل) في سورة النساء(1):

﴿لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

وفي سورة الحديد(2)، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾

التعريف الثاني: أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه.

فإذا أردنا أن نصف أحداً بالعدل، فالمفروض أن يعطي كل إنسان حقه، ولا يأخذ حق أي أحد.

وهذا المعنى يصح بين المخلوقات الممكنات، حيث يمكن أن نتصور الحقوق المتبادلة، فأنت لك حق عليّ، ومن العدل أن أعطيك حقك، وأنا لي حق عليك، ومن العدل أن تعطيني حقي، فإذا جئنا لقاضٍ بشري فنقول: لكي يكون عادلاً فعليه أن يعطي كل ذي حق حقه.

لكن عندما ننتقل إلى العلاقة بين المخلوق والخالق، بين المرزوق والرازق، بين المدبَّر والمدبِّر، بين المربوب والرب، بين المعلول والعلة التامة المستقلة، فأي حق لنا على

ص: 140


1- الآيات 96 -95.
2- الآية 10.

الله(عزوجل) حتى نقول: إن عدله يقتضي أن يعطي كل إنسان حقه؟! في حين أن كل وجود الإنسان فضلاً عما يملكه هو ملك له(عزوجل)، فنحن لا نستحق أي شيء أمامه جل وعلا، فلا يصح أن نقول: إن عدل الله تعالى هو بمعنى أن يعطي لكل إنسان حقه عليه، لأنه لا يوجد هنالك أي حق للإنسان على الله(عزوجل).

وقد يتبادر التساؤل التالي:

أو ليس الإنسان إذا صلى فيجب على الله تعالى أن يدخله الجنة؟

والجواب:

أن العقل يحكم بذلك لأن الله(عزوجل) هو وعَدنا بدخول الجنة إذا أقمنا الصلاة، وهذا في الحقيقة إعطاء من الله تعالى لنا من باب المنّة لا الاستحقاق، فهو تعالى عندما وعَدنا بالجنة من باب الامتنان، وليس من باب الحق والمطالبة بالحقوق، وهذا سياتي تفصيله في نقطة مستقلة إن شاء الله تعالى.

التعريف الثالث: أن عدل الله تعالى يعني وضع الشيء في موضعه.

وبعبارة أخرى: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له، أو وضع الشيء في موضعه المناسب في وقته المناسب في مكانه المناسب، وهذا هو المعنى الصحيح.

بيانه:

من الواضح أن لكل واحد من البشر قابلية معينة، والعدل الإلهي يتحقق بأن يعطي الله(عزوجل) لكل واحد حسب قابليته واستعداده، بدون نقصان ولا حرمان، لأنه ظلم، ولا أكثر من الاستعداد لأنه جزاف وعبث، وكلاهما (الظلم والجزاف) محال في فعل الله(عزوجل).

إن العدل يتحقق بأن يفيض الله تعالى على إنسان معين بحسب كفاءته وقابليته، لا

ص: 141

أقل -حتى لا يكون ظلماً- ولا أكثر -فيكون عبثاً وجزافاً- وكلاهما محال على الله(عزوجل)، وهذا ما تشير له بعض الآيات والروايات الشريفة، مثل قوله عز من قائل ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا..﴾.(1)

وهذا يمكن عكسه على الإنسان، فإن الله تعالى له إفاضات على كل البشرية، لكن كل واحد يأخذ منها بحسب قدره وكفاءته واستعداده، وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية ما يُشير إلى هذا المعنى، حيث ورد أن الله(عزوجل) يقول:

...وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغناء، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير.(2)

وهذا المعنى سيغطي لنا بعدين مهمين:

الأول: بعد الإمكانات والاستعدادات.

فالعدل يعني إعطاء كلٍ حسب استعداده وامكاناته، وهذا ما تشير له الآية الكريمة من سورة الإسراء(3): ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾

ص: 142


1- الرعد 17.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 398 – 400 باب 62 إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ح 1.
3- الآية 20.

الثاني: بعد الجزاء ونتائج الأفعال.

فالعدل يقتضي إعطاء كل واحد جزاءه حسب عمله، وليس بالسوية، وهذا ما تشير له الآية الكريمة ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(1)

النقطة الرابعة: امتدادات العدل الإلهي في الأفعال.

أن كون فعل الله(عزوجل) متصفاً بالعدل، له امتدادات من عدة جهات، نذكر منها التالي:

أولاً: مادام الله(عزوجل) عادلاً في فعله، إذن فالإنسان هو المسؤول عما يصدر عنه من أفعال، والله(عزوجل) لا يجبره ولا يضطره إلى الذنوب والمعاصي، وهذا ما أشار له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث ينسب له يقول فيه: ما عرف الله من شبهه بخلقه، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده.(2)

وتفصيل هذا الأمر سيأتي إن شاء الله تعالى من المصنف(رحمه الله علیه)، في قوله (عقيدتنا في القضاء والقدر).

ثانياً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن هو لم يكلف العباد فوق طاقتهم وأكثر مما يتحملون، وهذا ما أشار له الإمام الصادق(علیه السّلام) في ما روي عنه من قوله: «الله أكرم من أن يكلف عباده ما لا يطيقون»(3)، وهذا الأمر تعرض له المصنف(رحمه الله علیه) في (عقيدتنا في التكليف) وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ثالثاً: ما دام الله(عزوجل) عادلاً، إذن فهو أعطى لكل مخلوق خَلَقَه ما هو لائق به حسب

ص: 143


1- الزلزلة 7 – 8.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 47 باب 2 باب التوحيد ونفي التشبيه ح10.
3- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 296/ 464 وتكملة الحديث: والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.

قابلياته، وحسب ما يساعده في التدرج بمدارج الكمال الوجودي، وهذا المعنى إذا آمنّا به فسنجيب عن أنه: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى الأفعى والعقرب سامة أو الماء يغرق؟ وأمثال هذا الكلام الذي يثيره المشككون في عدل الله تعالى.

وباختصار: أن كل موجود جعله الله تعالى وفق نظام خاص، له قابليات خاصة، فاذا سلب منه هذه القابلية أو هذا الشيء منه يكون نقصاً في ذلك الموجود، وإن صادف أن هذه القابلية عند هذا الموجود تضر موجوداً آخر، فالإنسان مثلاً كان من كماله أن يكون مفكراً، ولكنه إذا استغل هذا الكمال ليصنع المتفجرات والقنابل النووية والسموم التي تفتك بالناس! فهذا الخطأ لا يُنسب إلى الله تعالى، بل إلى اختيار الإنسان.

رابعاً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن فتشريعاته كلها متلائمة مع السير الكمالي الوجودي للإنسان، وهذا الأمر سيتعمق أكثر في عقيدتنا بالتكليف إن شاء الله تعالى.

خامساً: مادام الله(عزوجل) عادلاً، إذن هو لا ينظر إلى المحسن والمسيء بنظرة واحدة، ولا يتعامل مع المؤمن والكافر تعاملاً واحداً، بل هو يجازي كلاً طبقاً لاستحقاقه ووفقاً لعمله، وهذا ما يعبر عنه بالعدل في الجزاء.

النقطة الخامسة: ما هو الدليل على اتصاف الله(عزوجل) بالعدل؟

نذكر دليلين:

الدليل الأول: حيث إن الله(عزوجل) واجب الوجود، إذن هو متصف بكل أنواع الكمالات الوجودية، وأي كمال لا يتصف به واجب الوجود يصير ناقصاً، وهذا خلف كونه واجب الوجود، وربما أشار إليه الشيخ(رحمه الله علیه)حيث قال: «نعتقد أنه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح، لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح..».، إذن العدل كمال، ويجب أن يتصف به واجب الوجود.

ص: 144

الدليل الثاني: وقد أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) وحاصله: أن فعل الظلم والقبيح لابد له من سبب، ولا يخلو الأمر من أربع صور:

الأولى: أن يكون الفاعل للظلم لا يعلم أن هذا الفعل ظلم وأنه قبيح.

والله تعالى علم كله، عالم لا يخفى عليه شيء، فتنتفي هذه الصورة.

الثانية: أن يكون عالماً ولكنه مضطر ومجبر على فعله وعاجز عن تركه.

ومن الواضح أن اتصاف الله(عزوجل) بالقدرة المطلقة ينفي هذه الصورة.

الثالثة: أن يكون عالماً وقادراً غير عاجز، ولكنه محتاج إلى أن يظلم.

ومن الواضح أن من خصائص واجب الوجود هو الغنى المطلق، فهو لا يحتاج إلى أي شيء خارج ذاته.

الرابعة: أن يكون عالماً وقادراً وغنياً غير محتاج، ولكنه يظلم عبثاً ولعباً.

ومن الواضح جداً أن العبث منفي عنه تعالى؛ لأنه حكيم، ويتصف كل فعله بالحكمة، لا بالعبث ولا الظلم ولا الجور.

النقطة السادسة: التعويض الإلهي استحقاق أم مِنّة؟

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أن من عدل الله(عزوجل) هو أنه يثيب المطيعين، وهنا سؤال:

عندما يأمرنا الله(عزوجل) بالصلاة وصلينا، وامتثلنا لهذا الأمر الإلهي، فهل يجب على الله تعالى أن يثيبنا ويعوضنا عن هذه الصلاة؟

عندما يأمرنا الله تعالى بالصوم والجهاد ونتحمل كل المشاق من تحمّل الجوع والحر، وترك الأهل والأحبّة والمال ونقتل في سبيل الجهاد، هل يجب على الله(عزوجل) أن يعوضنا

ص: 145

ويعطينا ثواباً على هذا؟

الجواب:

مرة نتكلم بلغة الاستحقاق، ومرة بلغة المِنّة.

فإذا تكلمنا بلغة الاستحقاق (يعني لو لم يفعله الله(عزوجل) يكون مخالفاً للعدل وقبيحاً) فنحن لا نستحق على الله(عزوجل)، فليس لنا أي حق على الله تعالى.

لماذا لم يكن للمخلوق على الخالق أي حق؟

الجواب:

أولاً: لأن الإنسان هو عبد قنٌّ لله(عزوجل)، يعني أنه عبد مطلق من جميع جهاته، هو ملك صرف لله تعالى بكل وجوده وكل ما يملك، فأي استحقاق للعبد على مولاه؟!

ثانياً: أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان (الأعمال الحسنة من عبادات وغيرها) إنما يقوم الإنسان بها بما أعطاه الله تعالى من القوة والقدرة على فعلها، ولولا الفيض الإلهي على الإنسان لما استطاع أن يقوم بأي عبادة من العبادات، وهذا المعنى ما تشير اليه حقيقة الممكن من أنه محتاج للواجب جل وعلا حدوثاً واستمراراً.

ثالثاً: أن الإنسان إنما يعبد الله تعالى بواسطة آلات هي هبات مجانية من الله(عزوجل)، فلا يستحق على تفعيلها أي شيء على الله تعالى، نظير شخص تغنيه بالأموال ويصرف منها على فقير، ثم يأتي اليك يطالبك بأن ترد إليه ما قد صرفه على الفقير، فأي جزاء وأي استحقاق له في ذلك؟!

نحن نعبد الله(عزوجل) عندما نغض النظر، أي بواسطة العين، أو بالحمد والشكر باللسان، أو غيرها، وكل هذه الآلات من الله(عزوجل)، فنحن لا نستحق على الله شيئاً.

ص: 146

رابعاً: أن أي عمل يقوم به الإنسان اتجاه الله(عزوجل)، هو لا يعادل ما أنعمه الله(عزوجل) على الإنسان من نعم لا تعد ولا تحصى، في دعاء للإمام زين العابدين(علیه السّلام) يقول: «... ثُمَّ لَمْ تَسُمْه القِصَاصَ فِيمَا أَكَلَ مِنْ رِزْقِكَ الَّذِي يَقْوَىٰ بِه عَلَىٰ طَاعَتِكَ، وَلَمْ تَحْمِلْه عَلَىٰ المُنَاقَشَاتِ فِي الآلَاتِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَىٰ مَغْفِرَتِكَ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِه لَذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا كَدَحَ لَه وَجُمْلَةِ مَا سَعَىٰ فِيه جَزَاءً لِلصُّغْرَىٰ مِنْ أَيَادِيكَ وَمِنَنِكَ، وَلَبَقِيَ رَهِيناً بَيْنَ يَدَيْكَ بِسَائِرِ نِعَمِكَ، فَمَتَىٰ كَانَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِكَ؟...»(1).

يعني إذا حاسبنا الله تعالى على أصغر مِنّة من مننه علينا، فكل ما قدمنا له يذهب هباءً منثوراً وتبقى باقي مننه علينا مرهونة لديه، ويبقى الإنسان خالي الوفاض.

هذا كله إذا تكلمنا بلغة الاستحقاق.

أما اذا تكلمنا بلغة الكرم والرحمة والمِنّة الإلهية والوعد الإلهي حيث يكون الوفاء به حسناً وكمالاً، فإننا وإنْ كنا لا نستحق على الله شيئاً، ولكنه جل وعلا رحمة منه بنا، كتب على نفسه هو، وألزم نفسه أن يثيب المطيع ويكافأه كأحسن ما تكون المكافأة والإثابة، لذلك نجد أن الله تعالى كتب على نفسه أنه يعوض الإنسان على عدة أمور، منها:

أولاً: أن الإنسان إذا التزم الواجبات، فإن الله تعالى وعده أن يعطيه ثوابًا، عن يزيد بن خليفة، قال سمعت أبا عبد الله الصادق(علیه السّلام) يقول: «إِذَا قَامَ المُصَلِّي إِلَى الصَّلَاةِ نَزَلَتْ عَلَيْه الرَّحْمَةُ مِنْ أَعْنَانِ السَّمَاءِ إِلَى أَعْنَانِ الأَرْضِ، وحَفَّتْ بِه المَلَائِكَةُ ونَادَاه مَلَكٌ: لَوْ يَعْلَمُ هَذَا المُصَلِّي مَا فِي الصَّلَاةِ مَا انْفَتَلَ».(2)

ثانياً: إذا ابتعد الإنسان عن المحرمات، فإن الله تعالى سيكافؤه على ذلك ايضاً،

ص: 147


1- الصحيفة السجّادية: 164/ الدعاء رقم 37.
2- الكافي الشيخ الكليني، ج3، ص 265 باب فضل الصلاة ح4.

عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال في حديث قدسي عن الله تعالى: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.(1)

ثالثاً: إذا التزم العبد بالمستحبات، من باب التقرّب إلى الله(عزوجل)، فيقوم العبد ببعض الأمور التي يحبها المولى مما لم يفرضها عليه، لمجرد طلب التقرب منه(عزوجل)، فإن الله(عزوجل) يعطيه أكثر مما يتصور، فعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، ترك شهوته من أجلي.(2)

رابعاً: إذا دعا العبد بدعاء، فإن الله(عزوجل) يعوضه بأحد ثلاثة أمور كما في الروايات الشريفة، فعن الإمام زين العابدين(علیه السّلام) قال: «المؤمن من دعائه على ثلاث: إما أن يدخر له، وإما أن يعجل له، وإما أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه».(3)

وعن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه قال: «إن الكافر ليدعو [في حاجته] فيقول الله(عزوجل): عجلوا حاجته بغضاً لصوته. وإن المؤمن ليدعو في حاجته، فيقول الله(عزوجل): أخّروا حاجته شوقاً إلى صوته، فإذا كان يوم القيامة قال الله(عزوجل): دعوتني في كذا وكذا فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا فيما يرى من حسن الثواب».(4)

تنبيه: هل يجوز لله تعالى أن لا يثيب المطيع، على اعتبار أن الاثابة (مِنّة)؟

أي إذا قضيت عمرك في طاعة الله تعالى وتأتي يوم القيامة ولا يعطيك شيئًا، وليس من حقك أن تعترض أبدًا، إذ يقال لك: إنك وما عملت ملك لله تعالى، فلا يجب على

ص: 148


1- مجمع الزوائد - الهيثمي - ج 8 - ص 63.
2- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 15 - ص 776/ 43057.
3- تحف العقول - ابن شعبة الحراني - ص 280.
4- كتاب المؤمن - الحسين بن سعيد - ص 34/ 68.

الله أن يعطيك أي شيء!

وللإجابة على هذا التساؤل نشرع في النقطة السابعة:

سابعًا: الوعد والوعيد.

اشارة

وفيها جهتان:

الجهة الأولى: الوعد:

هو الإخبار عن خير يناله المخبَر في المستقبل (كما لو أخبرتك أني سأعطيك هدية يوم الجمعة القادم) فهذا إخبار بخير تناله في المستقبل، ويطلق عليه بالوعد.

إن ما يعطيه الله(عزوجل) للعبد من ثواب هو من باب المنة لا الاستحقاق، كما تقدم، ولكن هذا لا يعني بحال أن الله تعالى سوف لا يعطي المؤمنين ثوابًا أو أنه سيخلف وعده معهم، فصحيح أن ما يعطيه الله(عزوجل) للإنسان هو من باب المنة لا الاستحقاق، لكن مع هذا نقول: إنه يجب ويلزم على الله تعالى أن يثيب المطيعين.

ما معنى الوجوب هنا؟ ومن الذي يستطيع أن يوجب عليه جل وعلا شيئًا؟

ليس المقصود من أنه يجب على الله تعالى أن هناك أحدًا ما يوجب شيئًا على الله تعالى، بل معناه: أن هذا الوجوب (وجوب إثابة المطيع) ناشئ من صفة ثبوتية كمالية في الذات المقدسة، فمعنى هذا الوجوب: أنه تعالى هو الذي ألزم نفسه بإثابة المطيع، هو الذي

أوجب على نفسه، قال تعالى: ﴿كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾(1)، ومعنى هذا: أن الخيار ما زال بيد الله تعالى، فيمكنه وبكل قدرة وقاهرية أن يفعل ما يشاء، ولكنه تعالى هو من يُحدّد فعله بما يتوافق مع الوعد لأنه كمال.

ص: 149


1- الأنعام 12.

ما هو منشأ هذه الكتابة والإلزام؟

أولًا: من جهة أن الله تعالى وعد المطيعين بذلك الثواب، قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.(1)

ثانيًا: أن الوفاء بالوعد كمال، وخُلف الوعد يُعد نقصًا وقبيحًا. وأن الذات المقدسة حيث إنها ذات واجبة الوجود، فإذن هي متصفة بكل كمال وجودي، ومنزهة عن كل نقص.

والنتيجة من هذا: أن الله تعالى يجب أن يفي بالوعد من باب أن الوفاء بالوعد كمال وجودي، وهو متصف بكل كمل وجودي.

وإذا نظرنا من جهة اخرى، فإن خلف الوعد نقص وقبيح، والواجب جل وعلا منزه عن كل نقص.

وهذا ما أشار له الامام الصادق صلوات الله وسلامه عليه في الحديث «من وعده الله على عمل ثوابًا فهو منجزه له..».(2)

وهذا يعني: أننا وإن كنّا غير مستحقين للثواب على الله تبارك وتعالى، باعتبارنا مجرد عبيد، ونحن وما نملك ملك لله(عزوجل)، وعندما يأمرنا بأمر فليس أمامنا إلا أن نطيع، وهذا هو مقتضى العبودية، ولكن مع ذلك فإننا نقطع قطعًا يقينيًا لا يشوبه شك بأن الله تعالى سيعطينا ما وعدنا من ثواب، وذلك القطع من باب أنه وعدنا، وهو تعالى سيفي بوعده، لأن الوفاء بالوعد كمال وجودي، وخلفه نقص والله(عزوجل) منزه من كل نقص.

ص: 150


1- الفتح 29.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 406 باب 63 باب الأمر والنهي والوعد والوعيد من حديث رقم (4).

الجهة الثانية: الوعيد.

وهو يقابل الوعد، فهو الإخبار عن شر أو أمر غير مرغوب فيه يناله المخبَر في المستقبل.

الوعيد من الله تعالى إنما يكون على مخالفة يُقْبِل عليها العبد، فالمولى يأمر بأمر ويقول: من خالفه فأنا أعذبه بكذا، فإذا قام العبد بمخالفة الأمر الإلهي فالعقل يحكم بجواز (لا بلزوم) أن يعاقب المولى المالكُ عبدَه المخالف.

فالوعيد إذًا هو فرع مخالفة العبد للمولى.

وبعبارة أخرى: أن الوعيد متفرع على تضييع حق من حقوق المولى، وهو حق الطاعة، فعلى العبد أن يطيع المولى، فإذا خالفه فقد تحقق موضوع الوعيد.

ومن الواضح أنه يجوز للمولى أن يتفضل على عبده ويُسقط حقه، والعقل يحكم بجواز ذلك وعدم قبحه، وهذا أمر متعارف حتى عند بني البشر، فمثلًا لو كنت أنا أطلبك مالًا ومن حقي عليك أن ترده لي، وإن لم تفعل فمن حقي أن أشتكيك إلى السلطات مثلًا، كذلك يمكنني أن أُسقط حقي هذا عنك، فالعقل يحكم بجواز ذلك وعدم قبحه، وقد يحكم بحسنه.

كذلك المولى إذا أوعد عبده أنه إذا خالف أمره فسيعاقبه، فإذا جاء المولى وأسقط حقه وقال له: رغم مخالفتك لا أعاقبك، فهذا الأمر جائز عقلًا، وبذلك ننتهي إلى نتيجة وهي:

أنه وإن أوعد الله(عزوجل) المذنب بالعقاب، إلا أنه يمكن ويجوز أن لا يعاقبه وأن يسقط عنه العقوبة ويعفو عنه.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بإشارة دقيقة فقال: «ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية

ص: 151

الكمالية... ولا يحيف في حكمه، يثيب المطيعين وله أن يجازي العاصين»، فنلاحظ أن الاثابة هنا جاءت على نحو الجزم والإلزام؛ لأنها من باب الوفاء بالوعد، لكن لما جاء إلى عقاب العاصين قال (وله) يعني: من باب الاختيار لا الإلزام، يعني: وله أن لا يجازيهم، وهذا ما أشار له الامام الصادق8 في الحديث المتقدم «... ومن اوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار».(1)

فالعقل يحكم هنا بجواز إسقاط الحق، بل في بعض الاحيان يحكم بحسن إسقاطه.

لذلك فالمفترض بنا أن ندعو الله تعالى أن يعفو عنا وإن كنا مسيئين.

تنبيهان:

التنبيه الأول: ضرورة عدم الاغترار بعفو الله تعالى.

صحيح أن لله(عزوجل) أن يسقط العقوبة عن العبد ويعفو عنه، لكن هذا لا يعني أن يتكل العبد على ذلك العفو، ويترك العبد العبادات ويستمر بالمعاصي، ويقول: إن الله رحيم غفور ودود عفو...، هذا لا يجوز، لإن أمر إسقاط العقوبة هو أمر جائز، يعني يمكن له أن يسقط أو لا يسقط، فليس من الضروري أن يعفو الله تعالى عن المذنب، وبالتالي فاحتمال العقوبة موجود، ولا جزم عندي باستحقاقي للعفو، فيأتي العقل ليحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل وهي العقوبة الأخروية، وهي بحيث لا يحتملها الإنسان، كما يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، والعَثْرَةِ تُدْمِيه والرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ

ص: 152


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 406 باب 63 باب الأمر والنهي والوعد والوعيد من حديث رقم (4).

نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وقَرِينَ شَيْطَانٍ، أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه».(1)

وبالتالي فلا يتكلنّ الإنسان على هذا العفو، إذ هو غير مقطوع به، ويبقى احتمال الضرر المتوجه على الإنسان موجودًا، وفي هذه الموارد يحكم العقل بلزوم العمل بالاحتياط.

التنبيه الثاني: ضرورة تشريع قانون العقوبات.

ليس صحيحًا أن نعتقد أن الله تعالى لا يعاقب أي إنسان أبدًا، كأن يقول شخص: إن الله عفو، رحيم غفور، ومعصيتنا لا تضره، وعقابنا لا يزيد شيئًا في ملكه، وعفوه عنا لا يُنقص من ملكه شيئًا.

إن هذا كله صحيح، ولكن مع ذلك فإن العقل يقول: ليس من الصحيح أن نعتقد أن الله تعالى لا يعاقب أي إنسان أبدًا، هذا الاعتقاد غير صحيح، لأنه يؤدي إلى محاذير عديدة، ومنها:

الأول: لزوم لغوية التشريع والتقنين.

إذ لو أمر المولى العبد بأوامر، فأعطاه مائة أمر مثلًا وقال له: يجب عليك أن تلتزم بهذه الأوامر، وعلمنا بأن هذا المولى بنى أمره على أنه سواء التزمتُ أنا بهذه الأوامر أو لم ألتزم، فإنه سيدخلني الجنة، فما الفائدة إذن من هذه التشريعات؟

فلو لم يكن هناك عقوبة للزمت لغوية التشريع؛ اذ سيتساوى المطيع والعاصي.

ص: 153


1- نهج البلاغة ج2 ص 112 – 113.

الثاني: لزوم تضييع حقوق الناس.

فالوجدان يحكم بأن الذي يلزمني بأن أرجع لك حقك هو خوفي من العقاب، لذلك صار الناس يحترمون بعضهم، وهذا جاري حتى في قوانين الدولة، إذ بدون هذا الردع يلزم منه تضييع حقوق الناس، وهذا المحذور يجل عنه الحكيم جل وعلا.

الثالث: تغرير العاصي بالمعصية.

وعدم التزامه بأي أمر من الأوامر الإلهية، فيكون للعاصي فسحة لعمل المعصية، وتغرير العبد بالمعصية قبيح بحكم العقل.

لا شك أن العقل يحكم بلزوم توفير الظروف الملائمة للطاعة، وهو ما يسميه العلماء باللطف الإلهي، الذي هو بمعنى توفير الظروف المقرِّبة للعبد من الطاعة، فالله تعالى يوفرها لعبده، وإن أحد أدلة إثبات النبوة وكذا الإمامة هو دليل اللطف، باعتبار أن النبوة –وكذا الامامة- من شأنها أن تقرب العباد من الله(عزوجل)، أما إذا لم يوفّر له الظروف الملائمة للطاعة، بل وفّر له الظروف الملائمة للمعصية، فهذا الأمر قبيح عقلًا، والاعتقاد بعدم معاقبة العاصي من هذا القبيل، إذ إنه يُغرّر العبد بعدم الطاعة.

فكما ننظر إلى أن الله(عزوجل) رؤوف رحيم، لا بد أن نتذكر أنه تعالى أيضًا شديد العقاب، وهذا معنى ما جاء في الروايات بأنه يجب على الإنسان أن يعيش بين الخوف والرجاء، كما روي هذا المعنى عن الإمام الصادق جعفر بن محمد(علیه السّلام)، قال : «كان فيما أوصى به لقمان ابنه ناتان أن قال له :... يا بني، خف الله خوفًا لو وافيته ببر الثقلين خفْتَ أن يعذبك الله، وارج الله رجاءً لو وافيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر الله لك».(1)

ص: 154


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 766 ح 1031/ 5.

النقطة الثامنة: هل الحسن والقبح عقليان أو شرعيان؟

هنا عدة خطوات:

الخطوة الأولى: تحرير محل النزاع:

لاشك أن هناك بعض الأفعال لا يستطيع العقل لوحده أن يُدرك حسنها، إلا إذا أخذ ذلك الأمر من الشارع المقدس، فمثلاً الصلاة حسنة، الصوم حسن، ترك الصوم قبيح، ترك الحج قبيح، هذه الأمور (التعبدية) لا يستطيع العقل لوحده أن يدرك حُسن فعلها أو قُبح تركها، باعتبار أنها مجرد اعتبارات من المولى، فمثلاً: إن المولى اعتبر الصلاة واجبة عليك، وحيث إنك تعلم أن الله تعالى حكيم في أفعاله، فتقول: إن هذه الصلاة نشأت من مصلحة واقعية يعلمها الله(عزوجل) وعرّفها لي بواسطة الأنبياء، ومثل هذه الاعتبارات الشرعية لا خلاف ولا شبهة في أن وظيفة العقل فيها إرشادية وليست تأسيسية. وهذا ليس هو محل الخلاف.

إنما محل الخلاف في أنه: هل إن للعقل قدرة على أن يدرك حُسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر بحيث يستقل العقل في حكمه بالحُسن أو القبح، أي بغض النظر عن الآيات والروايات؟

فمثلاً العدل (هو فعل من الأفعال) هل يستطيع العقل أو هل له القدرة على أن يحكم لوحده بأن العدل حسن، وأن فاعله ممدوح؟

وهل يستطيع أن يقول: إن الظلم قبيح، وإن فاعل الظلم مذموم؟

هذا هو محل الخلاف بين العدلية (من الإمامية اتباع مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) والمعتزلة) وبين الأشاعرة أتباع المذاهب السنية الأربعة.

ص: 155

فالخلاف إذن ليس في الأمور الاعتبارية، وإنما في الأمور التكوينية التي لها واقع في الخارج، بغض النظر عن اعتبار الشارع، كالعدل والصدق والظلم والكذب وأمثالها.

فالعدلية قالوا: بأن للعقل قدرة على إدراك حُسن بعض الأفعال [وليس كل الافعال، فهم أثبتوا الموجبة الجزئية لا الكلية] وعلى الأقل هو يدرك قضية قبح الظلم وحسن العدل، فعندهم الحسن والقبح عقليان.

وأما الأشاعرة فقد نُسب إليهم أنهم قالوا: إنه ليس للعقل أي قدرة على إدراك حسن أي فعل من الأفعال (أي ذهبوا إلى السالبة الكلية)، وقالوا: إن الحُسن والقبح شرعيان، بمعنى أن الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، فتكون وظيفة العقل -على رأي الأشاعرة- إمضائية، أي إنه يُمضي ما أسسه الشارع.

الخطوة الثانية: أقسام الأفعال التكوينية من حيث الحسن والقبح.

قُسمت الأفعال (التكوينية) من حيث الاتصاف بالحسن والقبح إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يكون حُسنه أو قُبحه ذاتياً، بمعنى أن الحسن أو القبح يكون من صفاته الذاتية والتي لا تفارقه بحال من الأحوال وفي أي زمن وفي أي مكان، في أي ظرف.

ولعل هذا القسم ينحصر بحسن العدل وقبح الظلم.

فالعدل من المسلم حسن، من الكافر حسن، من المرأة حسن، من الرجل حسن، في أي ظرف حسن، وأما الظلم فهو قبيح من أي شخص صدر وأنى صدر.

القسم الثاني: ما يكون حسنه أو قبحه ثابتاً له (للفعل) أولاً وبالذات، ولكنه وبسبب طروء عنوان ثانوي قد ينقلب الحسن قبيحاً، ولكنه إنما صار قبيحاً لعارض، أما

ص: 156

إذا خُليّ وذاته فإنه حسن، والعكس بالعكس.

مثال على ذلك: أكل المِيتة حرام (قبيح) ولكن عند الاضطرار يتحول إلى جائز أو ربما واجب (حسن)، ولكن هذا بالعنوان الثانوي، وهذا مثال اعتباري.

كذلك في الأفعال التكوينية، وأوضح مثال له هو حُسن الصدق وقبح الكذب، فمن المعلوم أن الصدق حسن، ولكن إذا جاء ظالم وسأل عن مؤمن، فإن صدقك معه حينئذٍ قبيح، لأنه سوف يقتل المؤمن، فهنا يجوز الكذب، بل قد يجب، فهو حسن.

وهكذا فإن الكذب قبيح، ولكن في إصلاح ذات البين يكون حسناً وجائزاً.

القسم الثالث: ما لا يتصف بذاته لا بالحسن ولا بالقبح، لكنه يتصف بأحدهما (بالحسن أو القبح) بسبب ما يعتريه ويعرض عليه من ظروف وحالات، فإن كان ذلك العارض حسناً، اتصف هذا الفعل بالحسن، وإن كان قبيحًا اتصف بالقبح، مثل ضرب الولد، فإنه إن كان للتأديب وضمن الحدود الشرعية فإنه يكون حسناً، وإن كان للتشفي وخارج الحدود الشرعية فإنه يكون قبيحاً.

الخطوة الثالثة: أدلة الحسن والقبح العقليين.

هناك عدة أدلة تدل على أن الحسن والقبح عقليان، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: لو كان الحسن والقبح شرعيين، للزم من ذلك: أن الفرد الذي لا يعرف عن الدين وعن الشرع أي شيء، أنْ لا يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، وهذا اللازم باطل.

توضيح الدليل: نفرض أن شخصاً أول ما وُلد وضع في غرفة لوحده، بمعزل عن العالم الخارجي، إلى أن وصل عمره إلى ثلاثين أو أربعين سنة، فإن جاءه شخص آخر

ص: 157

وضربه ظلماً وعدواناً، فهل الشخص المضروب يحس أنه ظُلِم أو لا يحس؟ أكيداً سيشعر بأنه قد ظُلِم، وهكذا لو كان المضروب لا دينياً وملحداً.

فمثل هؤلاء نجد أنهم يعرفون أن العدل حسن والظلم قبيح، فمن أين عرفوا ذلك؟

لو كان حسن العدل شرعياً، فالمفروض بالذي لا يعرف الدين أن لا يعرف أن العدل حسن، لأن مثل هذا الشخص لا يملك ديناً أو شريعة تصل من خلالها أوامر الشارع إليه، فلن يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، فإذن، لو كانا شرعيين لما عرفهما الملحد.

وحيث إنه يعرف ذلك، فهذا يكشف عن أنه إنما عرفها بعقله.

الدليل الثاني: لو كان الحسن والقبح شرعيين، لضاع الهدف من بعثة الأنبياء.

توضيحه: أن وظيفة الأنبياء هي هداية الناس، وهم يدّعون ارتباطهم بالسماء، ودليل ارتباطهم بالسماء هي المعجزة.

فلنفترض أنفسنا أشعريين، وعقيدتنا أن ما يفعله الشارع هو الحسن، وما لا يفعله هو القبيح، وجاء الله(عزوجل) بالأنبياء ووضعهم في جهنم، فلو كنتُ أشعرياً لقلت: هذا الفعل حسن؛ لأنه قد فعله الله(عزوجل)!

ولو جاء بالمشركين والكفار ووضعهم في الجنة، فيكون فعله أيضاً حسن؛ لأن الله هو من فَعله.

فلو كانت عقيدتنا أشعرية حينها، ألا نحتمل أن الله(عزوجل) يُجري المعجزة على يدي كاذب؟

ص: 158

فإنه إن جرت المعجزة على يدي كاذب فهو فعل حسن؛ لأن الله تعالى فعله، ومع وجود هذا الاحتمال فما الذي يميز لي الصادق من الكاذب؟

ففي كل مدعٍ للنبوة سأحتمل أنه صادق فيجب اتباعه، وسأحتمل أنه كاذب فيجب اجتنابه. وبالتالي يحق لي أن لا أتبع أي نبي لاحتمال كونه كاذباً وإن جرت المعجزة على يديه، فتذهب فائدة بعثة الأنبياء التي هي طاعتهم.

طبعاً هنا نحتاج إلى تنبيه مهم، وهو:

لو سألْنا الأشعري: هل يمكن لله أن يضع الأنبياء في النار؟

فإنه حتماً سوف يقول: لا، وإنما يضعهم في الجنة.

إذن: أين الخلاف معه؟

الجواب: الخلاف إنما هو في قضية تنزيه الذات، والحديث هو في الإمكان والامتناع، بمعنى أنه هل يمكن للمصلي أن يدخله الله تعالى في النار؟ نحن نقول: لا يمكن (امتناع)، وهذا الأمر يأتي من كمال الذات ومن الوفاء بالوعد، وليس المقصود هو الامتناع الذاتي، إذ لا شك أن الله تعالى قادر على ذلك، ولكنه امتناع وقوعي، بمعنى أنه من غير الممكن أن يُدخل الله تعالى المؤمن إلى النار، لأنه خلاف وعده له بأن يُدخله الجنة، وخلف الوعد قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح..

أما الأشاعرة فأنهم يقولون بالإمكان، وهذا الفرض هو بذاته ينسب النقص للذات المقدسة.

الدليل الثالث: القرآن الكريم يشير في بعض الآيات القرآنية إلى أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، وأن القرآن الكريم جاء ليمضي ما عليه العقلاء، بمعنى أن القرآن

ص: 159

يأخذ أموراً يعتبرها العقلاء حسنة فيأمر بها، ويأخذ أموراً يعتبرها العقلاء سيئة فينهى عنها.

مثاله: الآية الشريفة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(1)

فهو تعالى ﴿يَعِظُكُمْ﴾ فالمسألة مسألة موعظة، بمعنى يعرّفكم على الطريق.

وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(2)

إذن مسألة القبح والحسن وجدانية، ليس على نحو الموجبة الكلية وإنما على الأقل في بعض الافعال.

استدلال الأشاعرة على أن الحسن والقبح شرعيين:

اشارة

ذُكرت للأشاعرة عدة أدلة في هذا المجال، نقتصر هنا على ذكر ما استدلوا به من قوله تعالى: ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ﴾(3).

ببيان: أن هذه الآية ظاهرة في أن القانون للأفعال هي إرادته جل وعلا، لذلك لا يجوز لأحد أن يسأل عن إرادته وعن فعله، حتى لو كان ذلك الفعل بنظرنا ظلمًا أو عبثًا أو خلاف الحكمة، بمعنى أن ما يفعله إنما هو بنظرنا ظلم، أما بنظره جل وعلا فليس بظلم لأن فعَله، إذًا هو حسن.

ص: 160


1- النحل 90.
2- الأعراف 33.
3- الأنبياء 23.

والجواب عن استدلالهم هذا:

لو كان ظاهر الآية ومعناها منحصرًا بما قاله الأشاعرة، فلربما يقال بصحة استدلالهم، وإلا فالآية أصلًا لا دلالة فيها على ما أرادوه، لكن تنزلًا نقول:

إن ما ذكره الأشاعرة هو احتمال في معنى الآية، وهو يحتاج إلى تكلّف في الاستدلال.

ولكن في الآية احتمالات أخرى، وهي متلائمة مع ظاهرها أيضًا، وتنسجم مع الحسن والقبح العقليين، وإن لم يكن هذا الرأي هو المتعين، فعلى الأقل هو محتمل، وما دام لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر، فتكون الآية مجملة، ولا يصح حينها الاستدلال بها على أحد المطلوبين؛ لأنه يكون ترجيحًا بلا مرجح.

وبعبارة أخرى: لا نعرف المقصود من الآية، وهل هو ما فسّر به الأشاعرة الآية أو إنه الاحتمال الآخر –الذي هو ما فسّر به أهل البيت% هذه الآية؟

طبعا هذا القياس –بين الأشاعرة وبين أهل البيت%- هو مع الفارق، ولكن من باب البحث العلمي.

وإلا فنحن نجزم بصحة تفسير أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لمكان عصمتهم ولأنه متلائم مع الوجدان، ومع ما دل على اتصاف الواجب جل وعلا بكل الصفات الكمالية بمراتبها اللا متناهية.

احتمالات ثلاثة أخرى في الآية:

الاحتمال الأول:

أن الآية إنما قالت: لا يسأل عما يفعل، باعتبار أنه لا حاجة للسؤال عن فعله، لأن أفعاله كلها حكيمة، والحكيم لا يسأل عن فعله، أما غيره فحيث إن أفعاله قد تكون

ص: 161

حكيمة وقد لا تكون، فيمكن حينها أن يوجه له السؤال.

ومما يدل على هذا المعنى هو ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر(علیه السّلام) قال: «... فهو المتفضل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون». قال جابر : يا بن رسول الله وكيف لا يُسأل عما يفعل؟ قال(علیه السّلام) : «لأنه لا يفعل الا ما كان حكمة وصوابا».(1)

وقال السيد المرتضى: «وإنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلها حسنة غير قبيحة، لم يجز أن يُسأل عنها، وإن سُئل العباد عن أفعالهم لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معًا»(2)

وقال الشيخ الطوسي في التبيان: لأنه لا يفعل الا ما هو حكمة وصواب، ولا يقال للحكيم: لو فعلت الصواب (وهم يسألون) لأنه يجوز عليهم الخطأ.(3)

الخلاصة: أن الآية في صدد أنه لا يصح أن يسأل الله تعالى، لأن أفعاله كلها حكيمة، ومادامت حكيمة فلا موجِب لتوجيه سؤال للحكيم، أما غيره فحيث يحتمل أن يكون فعله حكيمًا أو عبثيًا، حسنًا أو قبيحًا، فيصح توجيه السؤال إليه.

تطبيق: البعض يسأل: لماذا جعل الله تعالى الإمامة في ذرية الإمام الحسين(علیه السّلام) ولم يجعلها في ذرية الإمام الحسن(علیه السّلام)، رغم أن الإمام الحسن(علیه السّلام)أكبر سنًا وأعظم من الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليهما؟

الجواب يكون بتطبيق المعنى الذي عرفناه في الآية موضوع البحث.

ص: 162


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397/ح 13.
2- الأمالي ج2/ص 57.
3- التبيان ج7/ ص 239.

فعن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق(علیه السّلام) قال: سألته: يا ابن رسول الله، فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن(علیهم السّلام) وهما جميعًا ولَدا رسول الله وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة؟

فقال(علیه السّلام): «إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين أخوين، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن لأحد أن يقول: لم فعل الله ذلك؟ فإن الإمامة خلافة الله(عزوجل) ليس لأحد أن يقول : لمَ جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الحكيم في أفعاله، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون..»(1)

وفي هذه الرواية جوابان للسؤال المطروح:

الأول: أن الامامة تنصيب إلهي، وبما أنها تنصيب إلهي، فليس لنا الحق أن نسأل لمَ لمْ تكن في صلب الإمام الحسن(علیه السّلام).

الثاني: أنه لا يصح السؤال عن أفعال الله تعالى؛ لأنها أفعال حكيمة، وما دامت حكيمة فلا يصح السؤال عنها.

الاحتمال الثاني:

أن هذه الآية الكريمة في صدد بيان أمر وجداني، وهو أن الذي له حق أن يسأل ويحاسب هو الخالق والمالك، أما المخلوق والمملوك فلا يحق له أن يحاسب أو يسأل المالك والخالق، وهذا معنى محتمل، ومادام محتملًا فيبطل استدلال الأشاعرة.

الاحتمال الثالث:

أن الله(عزوجل)لا يُسأل إذا ادّعى أنه رب، لأن هذه الصفة لائقة به (جل وعلا)، أما غيره

ص: 163


1- معاني الاخبار للشيخ الصدوق ص 126- 127.

إذا ادّعى الربوبية، فيمكن أن يُسأل أنه على أي اساس ادّعيتَ الربوبية، وقد أشار لهذا الاحتمال الشيخ الطبرسي حيث قال: «وقيل : معناه أنه لا يُسأل عن ادّعاء الربوبية، وهم مسؤولون إذا ادّعَوها، ويدل على هذا التأويل النظم والسياق».(1)

وهكذا يمكن أن نجد العديد من المحتملات في معنى الآية، فلا ينحصر الأمر بما ذكره الأشاعرة، وبالتالي فإن لم نقل بترجيح رأي أهل البيت(علیهم السّلام) كما هو الصحيح بلا أدنى ريب، فلا أقل من أن نقول بأن الآية مجملة، فلا يصح الاستدلال بها على رأي الأشاعرة.

فتلخص من كل ما تقدم:

1/أن العدل من الصفات الثبوتية لله(عزوجل)، إلا أن شدة الخلاف فيها، وكثرة وخطورة الثمرات المترتبة عليها، جعل من العدلية يعتبرونها أصلًا من أصول الدين.

2/العدل من الصفات الإضافية، لأن الكلام فيها هو أن أفعاله عزوجل هل هي موافقة للحكمة والعدل؟ وهل هي موافقة للحسن العقلي؟ فهو بحث بلحاظ أفعاله جل وعلا، فتكون إضافية.

3/المقصود من العدل الإلهي هو ليس الإعطاء بالسوية، وليس هو إعطاء كل ذي حق حقه، وإنما هو وضع الشيء المناسب في موضعه المناسب، أو هو إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له.

4/ أن من تجليات عدل الله تعالى هو أن الإنسان هو المسؤول عن إفعاله، وأنه عزوجل لا يكلف العباد فوق طاقتهم.

ص: 164


1- مجمع البيان ج7 ص80.

عقيدتنا في التكليف

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في التكليف:

نعتقد أنه(عزوجل) لا يكلف عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم، ولا يكلفهم إلا ما يسعهم وما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون، لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم.

أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله(عزوجل) ومعاقب على تقصيره، إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية.

ونعتقد أنه(عزوجل) لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرايع وما فيه صلاحهم وخيرهم ليدلهم على طرق الخير والسعادة الدائمة ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنهم لا يطيعونه، لأن ذلك لطف ورحمة بعباده وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران. والله(عزوجل) هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته ويستحيل أن ينفك عنه. ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته غير منقادين إلى أوامره ونواهيه». انتهى.

ص: 165

تنبيه: إن ارتباط هذا المبحث بالسابق واضح، باعتبار أن أحد امتدادات العدل هو امتداده للتكليف، وأن الله تعالى لا يكلف العباد فوق طاقتهم؛ لأنه يكون خلاف العدل، ولهذا السبب كان مناسبًا أن يعقد المصنف(رحمه الله علیه) هذا البحث ليسلط الضوء على تجلي العدل في مسألة التكليف.

في هذه العقيدة عدة إشارات ذكرها الشيخ(رحمه الله علیه)، وللدخول لها علينا أن نجيب السؤال التالي:

ما هو التكليف؟

التكليف: هو الخطاب الصادر من المولى، والواصل الى المكلف، والكاشف عن إرادة المولى لفعل أو إرادته لترك فعل.

وهو تعريف ليس منطقي بقدر ما هو توضيحي، ولتفسير وتوضيح التعريف نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الخطاب.

اشارة

الخطاب: هو ما يكشف عن الحكم الشرعي، فنحن لا نعلم ما عند الله(عزوجل) إلا من خلال خطاباته لنا، بواسطة أنبيائه ورسله، فالخطاب بالتكليف بإقامة الصلاة مثلًا (أقيموا الصلاة) هو ليس الحكم الشرعي، إنما هو كاشف عن الحكم الشرعي.

علمًا أن طريقة ايصال الحكم الشرعي تكون إما عن طريق:

1/القول:

وهو الكاشف الأكثر إفهامًا، وهو آيات القرآن الكريم وأقوال المعصومين، فالقرآن قال (أقيموا الصلاة) من خلال هذا نكتشف أن الله(عزوجل) يريد منا فعل الصلاة، وقال:

ص: 166

﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾(1) هذا الخطاب يكشف لنا عن أن الله(عزوجل) يريد منا أن نترك هذا الفعل وهو الغيبة.

2/الفعل:

فإذا رأينا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يتوضأ بطريقة معينة، فنكتشف أن هذا الوضوء هو الذي يريده الله تعالى منا، لذا نجد أن الائمة صلوات الله وسلامه عليهم، مثلًا الإمام الباقر(علیه السّلام) قال لأصحابه: «ألا أحكي لكم وضوء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قالوا: بلى يا بن رسول الله، فأخذ ماء وصار يتوضأ أمامهم».(2)

فهذا فعل من المعصوم، وبه نعرف الحكم الشرعي، أي نكتشف الحكم الشرعي الذي يريده الله تبارك وتعالى.

أو مثلًا لو أن المعصوم صلى ركعتين في أرض بوار (مفتوحة كالصحراء)، فنكتشف أن الصلاة في الأراضي المفتوحة الواسعة تجوز؛ لأن المعصوم فعل هذا الفعل، فنكتشف أن فعله موافق لما يريده الله(عزوجل).

3/التقرير:

مثاله: أن يدخل شخص على النبي أو الامام ويسأله سؤالًا، والنبي أو الأمام لا يجيب، وإنما من يجيب هو أحد الأصحاب، مثلًا لو فرضنا أنه دخل شخص على الإمام الصادق(علیه السّلام) وسأله: هل يجوز أكل الأرنب؟ والإمام(علیه السّلام) لم يُجب، لكن أحد أصحابه

ص: 167


1- الحجرات 12
2- في الكافي للكليني ج3 ص 24 بَابُ صِفَةِ الوُضُوءِ ح2: عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ:«ألَا أَحْكِي لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهs؟ فَأَخَذَ بِكَفِّه اليُمْنَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه وَجْهَه، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِه اليُسْرَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه يَدَه اليُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِه اليُمْنَى كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِه يَدَه اليُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِفَضْلِ يَدَيْه رَأْسَه ورِجْلَيْه».

أجابه وقال: لا يجوز، والإمام(علیه السّلام) سكت ولم يعترض، فسكوته هذا يعني أنه أقرّ جوابه ووافق عليه، وهذه تسمى بدلالة التقرير.

لماذا كان تقرير المعصوم يدل على الحكم الشرعي؟

لأن وظيفة المعصوم وتكليفه هي حفظ الشريعة، فإذا كان الجواب خاطئًا فيجب على المعصوم أن يعترض، ولذلك نجد أن هناك موارد عديدة يعترض الامام فيها على الجواب.

ومن ذلك مثلًا أنه روي أنه قال أبو حنيفة للإمام الصادق(علیه السّلام): أخبرني جعلت فداك عن قول الله(عزوجل): ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قال: «فما هو عندك يا أبا حنيفة»؟ قال، الامن في السرب، وصحة البدن، والقوت الحاضر. فقال : «يا أبا حنيفة لئن وقفك الله أو أوقفك يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك». قال : فما النعيم جعلت فداك ؟ قال : «النعيم نحن، الذين أنقذ الله الناس بنا من الضلالة، وبصرهم بنا من العمى، وعلمهم بنا من الجهل».(1)

تنبيه:

أ. إن دلالة التقرير فيها شرط، وهو: أن لا يكون سكوت المعصوم ناشئًا عن تقية، وإلا فلا نستكشف الحكم الشرعي من سكوته.

ب. يلحق بالتقرير: ما يسمى بسيرة المتشرعة، يعني إذا وجدنا المتشرعة ملتزمين بعمل من الأعمال ولم نجد دليلًا شرعيًا واضحًا من آية أو رواية على ذلك الفعل الذي يقوم به المتشرعة، فلنا أن نسأل: من أين جاء المتشرعة بهذا العمل؟

ص: 168


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج10 ص 209.

فيُجاب: أن المتشرعة في زماننا كلهم يقومون بهذا الفعل، ولا شك أنهم أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، والمتشرعة الذين قبلهم أخذوه من المتشرعة الذين قبلهم، إلى أن نصل إلى زمن المعصوم، فنجد في الروايات أن المتشرعة في زمن المعصوم كانوا يقومون بهذا الفعل، والمعصوم كان على مرأى ومسمع من هذا الفعل الذي يقومون به، فلو كان هذا العمل خاطئًا للزم على المعصوم أن ينبههم وينهاهم عنه، وحيث إنه لم ينبههم ولم ينههم عنه، فيتضح أن المعصوم راضٍ وموافق على فعلهم.

وقريب من هذا يُقال في سيرة العقلاء، إذا وجدنا أن فعلهم أخذوه من الذين قبلهم إلى زمن المعصوم، والمعصوم سكت ورضي بفعلهم، ولم يردع عنه.

وأوضح مثال على ذلك هو العمل بخبر الثقة، فاذا جاءك الثقة بخبر أو رواية فعليك أن تصدقه، إذ هناك مبحث في أصول الفقه عن حجية خبر الثقة وأدلة هذه الحجية، ومن أقوى الأدلة المعتمدة على هذه الحجية هي السيرة، حيث إن العقلاء بل والمتشرعة في زمن المعصوم كانوا يعتمدون على خبر الثقة، ولو لم يكن خبر الثقة حجة لجاءت رواية من المعصوم تقول: لا تأخذوا بخبر الثقة، وحيث إن الامام لم ينه ولم يردع عن هذه السيرة، فهذا كافٍ لإثبات حجية خبر الثقة.

والخلاصة: أن الخطاب هو الكاشف عن الحكم الشرعي، أي عما يريده الله(عزوجل)؛ لأننا لا نعلم ذلك إلا من خلال طريقة الخطاب.

ص: 169

النقطة الثانية: معنى المولى.

المولى: هو من له حق التشريع ومن له حق الطاعة على عباده.

فهنا قيدان:

القيد الاول: أن المولى هو من له حق الطاعة.

وهذا يشمل السيد من البشر ممن يملك عبدًا مثلًا، ويشمل الله(عزوجل).

القيد الثاني: أن المولى هو من له حق التشريع.

وبهذا القيد يخرج السيد من البشر؛ إذ ليس له أن يشرع أحكامًا، فحق التشريع ثابت أولًا وبالذات لله(عزوجل)، قال الله تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلهِ﴾.(1)

استطراد: في الولاية التشريعية للنبيs.

هل يحق لأحد غير الله(عزوجل) أن يصدر تشريعات وأحكامًا شرعية؟

الجواب: ما من يريد أن يشرع من تلقاء نفسه، فهذا بالاتفاق لا يجوز وهو المسمى بالبدعة.

والبدعة: هي إدخال ما ليس في الدين فيه.

وأما إذا كان الشخص مأذونًا من المشرِّع الحقيقي، بحيث تكون تشريعاته موافقه لما يريده الله(عزوجل) واقعًا، فهذا يمكن أن يكون مشرعً، بمعنى أنه يعطينا حكماً، وهذا الحكم موافق لما يريده الله(عزوجل)، يعني نحرز رضا الله(عزوجل) من هذا التشريع من خلال هذا الشخص المعين، وهذا ما يطلق عليه في علم الكلام بالولاية التشريعية للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، لذلك للنبي حق التشريع كما ورد في القرآن الكريم ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ

ص: 170


1- الأنعام 57.

فَانْتَهُوا﴾(1)

وعَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وأَبَا عَبْدِ الله(علیهما السّلام) يَقُولَانِ: «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ فَوَّضَ إِلَى نَبِيِّه(صلی الله علیه و آله و سلم) أَمْرَ خَلْقِه؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ. ثُمَّ تَلَا هَذِه الآيَةَ: ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا﴾».(2)

وهنا سؤال:

هل لهذا الحق للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أساس علمي أو إنه جاء اعتباطاً؟

من الواضح جدا أن له أساسًا علميًا، وهو ما يمكن بيانه بالتالي:

أ. أن الأحكام الشرعية تابعة لملاكات خاصة (ضوابط وأساسات) والله تعالى عندما يشرّع حكمًا فإنه يكون له ملاك ونظام خاص؛ لأن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.

ب. الضابط والملاك الذي على أساسه الله(عزوجل) يوجب علينا شيئًا أو يحرّمه، هو كون الفعل فيه مصلحة واقعية أو مفسدة واقعية، فما فيه مصلحة يأمرنا بفعله، فإذا كانت المصلحة ملزمة وضرورية فإنه تعالى يأمرنا على نحو الوجوب والالزام، وإذا كانت المصلحة مخففة وغير ملزمة فيأمرنا على نحو الاستحباب، وهكذا المفسدة، إن كانت عالية جدًا فينهانا عن ارتكاب الفعل على نحو الإلزام والحرمة، وإن كانت تلك المفسدة مخففة فينهانا على نحو الكراهة مع جواز الفعل.

ج. إذا أُتيح لشخص أن يعرف ملاكات الأحكام الواقعية، يعني أن الله(عزوجل) كشف له

ص: 171


1- الحشر 7.
2- الكافي للكليني ج1 ص 266 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ اللهs وإِلَى الأَئِمَّةِ% فِي أَمْرِ الدِّينِ ح3.

عن تلك المصالح والمفاسد الواقعية، وحكَم ذلك الشخص وفق تلك المصالح والمفاسد، يعني أن الله تعالى أذن له أن يصدر الأحكام الشرعية وفق علمه بتلك المصالح والمفاسد، فعلى هذا الأساس للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) الولاية التشريعية في إصدار تلك الاحكام.

تمامًا كما لو أن شخصًا اطّلع على تشريعات البرلمان، وكان رئيس البرلمان أطْلع هذا الشخص على تلك التشريعات وأذن له بنقلها، وجاء وأعلمنا بأن غدًا عطلة رسمية، وبعد علمنا بأنه قد اطّلع على التشريعات، وأُذن له بنقلها، فلا شك أننا نتبع ما يقوله.

ومما يُشير إلى هذا المعنى ما جاء في فرض الصلاة وعدد ركعاتها، إذ روي عن عليِّ بن مهزيار، قال: قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله(علیه السّلام): ما بال صلاة المغرب لم يُقصِّر فيها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في السفر والحضر مع نافلتها؟ قال: «لأنَّ الصلاة كانت ركعتين ركعتين، فأضاف رسول اللهs إلىٰ كلِّ ركعتين ركعتين، ووضعها عن المسافر، وأقرَّ المغرب علىٰ وجهها في السفر والحضر، ولم يُقصِّر في ركعتي الفجر أن يكون تمام الصلاة سبع عشرة ركعة في السفر والحضر»(1).

وعن أبي جعفر(علیه السّلام)، قال: «لمَّا عُرِجَ برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نزل بالصلاة عشر ركعات، ركعتين ركعتين، فلمَّا وُلِدَ الحسن والحسين زاد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) سبع ركعات شكراً لله، فأجاز الله له ذلك، وترك الفجر لم يزد فيها لضيق وقتها، لأنَّه تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، فلمَّا أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن أُمَّته ستُّ ركعات، وترك المغرب لم يُنقِص منها شيئاً، وإنَّما يجب السهو فيما زاد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن شكَّ في أصل الفرض في الركعتين الأُوَّلتين استقبل صلاته»(2).

ص: 172


1- المحاسن للبرقي 2: 327/ ح 78.
2- الكافي للكليني 3: 487/ باب النوادر/ ح 2.

فالقرآن الكريم حينما قال: ﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُ-رُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً﴾.(1) فهذا يعني أنه أخذ تشريع النبيs بنظر الاعتبار، ولم يتجاوزه، ولذلك رتّب عليه حكمًا شرعيًا في السفر، وهو القصر.

ونفس الكلام يُقال في ولاية أهل البيت(علیهم السّلام) التشريعية، وعلى كل حال فإن المسألة خلافية، فالبعض يثبت الولاية التشريعية لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، وهو الصحيح وجاءت روايات على ذلك، والبعض الآخر لا يثبتها لهم، ويقولون: هم فقط ينقلون الأحكام الشرعية من الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) والقرآن الكريم.

وبنفس المعنى روي عن سنن عبد المطلب التي أمضاها القرآن الكريم، إذ ورد في بعض الروايات الشريفة أن الله(عزوجل) أمضى سننًا كان قد فعلها عبد المطلب(علیه السّلام) وامضاؤه لهذه السنن يكشف عن أنها كانت مطابقة لما أراده الله(عزوجل).

حيث روي أنه كان عبد المطَّلب يأمر بصلة الأرحام وإطعام الطعام، وترك الظلم والبغي، ويقول: إنَّه لن يخرج من هذه الدنيا ظلوم حتَّىٰ يُنتَقم منه، ويقول: والله إنَّ وراء هذه الدار دار جزاء الأعمال.

وسنَّ عبد المطَّلب الوفاء بالنذر، وقطع يد السارق، ومنع من نكاح المحارم، ونهىٰ عن قتل الموءودة، وحرَّم الخمر والزنىٰ وألَّا يطوف بالبيت عريان. وجاء كلُّ ذلك في شريعة خاتم الأنبياء، واستجاب الله دعاءه في طلب المطر لأهل مكّة، وكان يتعبَّد بغار حراء في شهر رمضان، وأوصىٰ قريشاً عامَّة برسول الله، وأوصىٰ به (أبا طالب)

ص: 173


1- النساء 101.

خاصَّة(1).

وروي عن النبيِّ الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّ عبد المطَّلب سنَّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله تعالىٰ له في الإسلام:

1 - حرَّم زوجات الآباء علىٰ الأبناء، فأنزل الله(عزوجل): ﴿وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾(2)

2 - وجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدَّق به، فأنزل الله(عزوجل): ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ...﴾(3)

3 - لمَّا حفر بئر زمزم جعلها لسقاية الحاجِّ، فأنزل الله(عزوجل): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(4)

4 - سنَّ في القتل مائة من الإبل، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.

5 - إنَّه لم يكن للطواف عدد عند قريش، فسنَّ فيهم عبد المطَّلب سبعة أشواط، فأجرىٰ الله تعالىٰ ذلك في الإسلام.

وكان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذُبِحَ علىٰ النصب، ويقول: أنا علىٰ دين أبي إبراهيم(5).

ص: 174


1- راجع: عقائد الإسلام للسيِّد مرتض-ىٰ العسكري 2: 246/ في ترجمة عبد المطَّلب8.
2- النساء: 22.
3- الأنفال: 41.
4- التوبة: 19.
5- راجع: الخصال للصدوق: 312 و313/ ح 90.

ملاحظة: من شروط التكليف أن يكون خاليًا من المفسدة.

النقطة الثالثة: معنى الواصل:

بمعنى أن يصل الخطاب الشرعي إلى المكلف في وقتٍ يتمكن معه المكلف من الإتيان بالعمل، على الوجه الذي يريده المولى جل وعلا منه، ولا يكون وصوله إلى المكلف بعد وقت العمل، لأن تكليفه به آنذاك ظلمٌ وقبيحٌ، والمولى منزهٌ عنه.

مثلًا: أراد الله(عزوجل) منا الصوم في شهر رمضان، فالصوم لا يكون واجبًا علينا وتكليفًا لنا -وبالتعبير الأصولي: منجَّزٌ علينا- إلا إذا وصل الأمر (بالصيام) قبل شهر رمضان، لكي يتمكن المكلف من الإتيان به في شهر رمضان، أما إذا وصل الخطاب في شهر شوال، وطلب منك أن تصوم شهر رمضان الذي فات، فهذا تكليف بغير المقدور، وظلم وقبيح، والمولى منزه عن القبيح.

فالتكليف إنما يكون تكليفًا ومنجَّزًا في ذمة المكلف إذا وصل له الخطاب الشرعي في وقت يتمكن من العمل.

وهذا معناه أنه إنما يجوز عقلًا للمولى أن يعاقب العبد إذا كان الخطاب الشرعي قد وصل الى المكلف، وهذا هو معنى من معاني قوله جل وعلا ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من ان التكليف منجزٌ على المكلف.

بيان: منجّز (بحكم العقل): يقصد به أنه يجوز للمولى أن يعاقب العبد إذا خالف، وهذا ما أشار له المصنف(رحمه الله علیه)بقوله: نعتقد أن الله تعالى لا يكلف عباده إلا بعد إتمام الحجة عليهم.

ص: 175

النقطة الرابعة: معنى المكلف.

اشارة

هنا خطوتان:

الخطوة الأولى: هل المكلف هو فقط الإنسان أو إنه يشمل غيره من الجن والملائكة؟

رأيان:

الرأي الأول: أن المكلف هو الإنسان فقط، واليه ذهب الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر، عندما عرف المكلف قال (هو الإنسان الحي البالغ القادر).

الرأي الثاني: أن المكلف يشمل الإنسان والجن و الملائكة، وممن ذهب إليه المحسني في صراط الحق(1)،

واستدل بعدة ايات منها قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(2)

فالخطاب بالعبادة (التكليف بها) شامل للجن والإنس.

وكذلك ما ورد في سورة الجن ﴿وَأَنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ وَمِنَّا القاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾.(3)

وكذلك بالنسبة للملائكة حيث جاء في القرآن الكريم ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾.(4)

ويمكن أن يستدل لتكليف الملائكة أيضًا بأمره(عزوجل) لهم بالسجود لآدم8، إذ هو نوع من التكليف، مع الالتفات إلى أن الملائكة معصومون، فلا يصدر منهم الخطأ ولا يتعبون من عبادة الله(عزوجل).

ص: 176


1- ج2 ص 277 من طبعة ذوي القربى.
2- الذاريات 56.
3- الجن 14 – 15.
4- التحريم 6.

الخطوة الثانية: ما هي شروط التكليف؟

ذكروا لذلك عدة شروط، أهمها:

الشرط الأول: الحياة: إذ لا يمكن توجيه الخطاب للميت كما هو واضح.

الشرط الثاني: العقل: إذ من دون العقل فإن الإنسان لا يدرك الحسن من القبيح، فيكون القلم مرفوعًا عنه.

ويدخل ضمنه المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والمغمى عليه حتى يرجع إليه وعيه، وقد ورد عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه قال: «إن القلم رفع عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ».(1)

الشرط الثالث: القدرة على العمل: يعني أن يكون المكلف قادرًا على الاتيان بالعمل، لا عاجزًا عنه، لأن تكليف العاجز قبيح، والله(عزوجل) منزه عن القبيح.

وهذا الشرط ينحل إلى ثلاث مفردات:

المفردة الأولى: تشترط القدرة حين العمل لا حين الخطاب، بمعنى أنه قد يصدر الخطاب للعاجز ويطلب منه الاتيان به أثناء عجزه، فهذا لا يصح؛ لأنه قبيح.

ولكن لو توجه الخطاب إلى العاجز وقيل له: إن هذا الفعل يجب عليك، ولكن ليس الآن، وإنما عندما يرتفع عنك العجز وتكون قادرًا على أدائه، كما لو قال المولى للمريض الذي لا يستطيع أنْ يصوم: صم إذا برئت من المرض، فهذا ليس خلاف العدل وليس ظلمًا وليس تعجيزًا للإنسان.

وكتطبيق لذلك: قوله(عزوجل): ﴿وَلِلهِ عَلَىٰ النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(2)

ص: 177


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 94.
2- آل عمران 97.

فهذا الخطاب يشمل الجميع، ولكن لو كنتُ أنا غير مستطيع، فإن هذا الخطاب لا يكون منجّزًا في حقي وليس واجبًا علي، لأن وجوبه عند الاستطاعة، فالخطاب وصل إليّ الآن لكن التكليف مطلوب مني عند الاستطاعة.

المفردة الثانية: لا يجوز التكليف بالممتنع ذاتًا على الإنسان، مثل أن يُطلب من الإنسان أن يُدخل الشيء الكبير على كبره في الشيء الصغير على صغره، فالعقل يحكم بامتناع وقوع هذا الأمر أصلًا، فلا يجوز للمولى أن يكلف العبد بمثل هذا الشيء، لأنه تكليف بممتنع ذاتي، وهو قبيح عقلًا.

المفردة الثالثة: لا يجوز التكليف بالممتنع وقوعًا وإن كان ممكنًا ذاتًا.

بيانه: هناك أشياء هي ليست ممتنعة بحكم العقل، بل هي في حدّ نفسها ممكن، ولكنها في العالم الخارجي لا يمكن أن تقع، فيسمى مثل هذا الشيء بالممتنع وقوعًا في الخارج، مثل أن تطلب من الإنسان أن يصعد إلى السطح بدون استخدام السلم، فهذا الأمر لا تلزم منه الاستحالة العقلية أو اجتماع النقيضين، لكن في الواقع لا يمكن أن يقع.

أو أن يطلب من الإنسان أن يطير بدون جناحين، فعقلًا هذا أمر ممكن، فيمكن مثلًا أن الله تعالى يعطي إنسانًا ما القدرة على الطيران بدون أجنحة، لكن هذا الأمر في الخارج غير ممكن.

والتكليف لا بد أن يكون ممكنًا وقوعًا كما يلزم أن يكون ممكنًا ذاتًا.

الشرط الرابع: العلم بالتكليف: وهذا عبارة أخرى عن وصول التكليف للعبد.

وهنا نلفت النظر إلى:

ص: 178

أولًا: أن العلم بالتكليف ليس شرطًا في أصل التكليف، وإنما هو شرط في تنجّز التكليف، أي إنه لو قال الله تعالى: ﴿أَقِيْمُوْا الصَّلَاْةَ﴾ فهذا الخطاب موجّه لكل الناس، العالم والجاهل منهم مشمول بهذا الخطاب، وهذا ما يعبر عنه بقاعدة الاشتراك، يعني اشتراك العالم والجاهل في التكاليف، فعندما يصدر أمر من المولى فهو يشمل العالم والجاهل، فيجب عليهما معًا، لكن الفرق هو: أن العالم إذا خالف ولم يصل فيجوز للمولى أن يعاقبه، لأن التكليف صدَر من المولى ووصَل إلى العبد، فصار منجّزًا عليه، أما الجاهل إذا خالف ولم يصلِّ، فبحكم العقل لا يجوز للمولى أن يعاقب الجاهل؛ لأن هذا التكليف غير منجّز في ذمة الجاهل؛ لأن شرط التنجيز هو العلم.

ثانيًا: هناك فرق في الجاهل بين أن يكون مقصِّرًا وبين أن يكون قاصرًا.

الجاهل المقصر هو من كان بإمكانه أن يتعلم ولكنه عمدًا ترك التعلم، فتكون الحجة بالغة عليه، يعني يستحق العقوبة، وهذا ما اشار له الشيخ في عبارة الكتاب بقوله (أما الجاهل المقصِّر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى ومعاقب على تقصيره؛ إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه في الأحكام الشرعية)

ورد في رواية معتبرة السند عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه) وقد سئل عن قوله تعالى: ﴿فَلِلّٰهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾(1)،

فقال الإمام الصادق(علیه السّلام): «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالمًا ؟ فإن قال: نعم. قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلًا، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل. فيخصمه، وذلك الحجة البالغة».(2)

ص: 179


1- الأنعام 149.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 227.

أما الجاهل القاصر فهو مَن كان لا يتمكن من التعلُّم، وحتى لو علَّمناه فإنه لا يستطيع أن يدرك المسائل، ولا أن يضبطها، فهذا ورد في الروايات الشريفة أن الله تعالى يحاسبه على قدر عقله، ويكون معذورًا فيما لا يستطيع أن يدركه.

فعن أبي جعفر(علیه السّلام) قال: «إنَّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(1). عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السّلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: «كيف عقله؟»، قلت: لا أدري، فقال: «إنَّ الثواب علىٰ قدر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإنَّ ملكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربِّ، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله [تعالىٰ] ذلك، فاستقلَّه الملك، فأوحىٰ الله [تعالىٰ] إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلمَّا أصبح قال له الملك: إنَّ مكانك لنزه، وما يصلح إلَّا للعبادة، فقال له العابد: إنَّ لمكاننا هذا عيباً! فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربِّك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يُضيِّع مثل هذا الحشيش، فأوحىٰ الله إلىٰ الملك: إنَّما أُثيبه علىٰ قدر عقله»(2).

الشرط الخامس: البلوغ: وهو أن يصل الإنسان إلى مرحلة تسمى شرعًا بالبلوغ، وللبلوغ علامات معينة ذكرت في كتب الفقه، وفي المقام ما يهمنا في علم الكلام هو التالي:

أن الأحكام منها تكليفية ومنها وضعية، والتكليفية منها إلزامية ومنها غير إلزامية،

ص: 180


1- الكافي للكليني 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 7.
2- الكافي للكليني 1: 11 و12/ كتاب العقل والجهل/ ح 8.

وعليه يكون لدينا ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: الأحكام التكليفية الإلزامية:

وهي الواجبات والمحرمات، الواجب التكليفي هو ما يطلب فعلُه مباشرة من المكلف، ولا يجوز له تركه، والمحرم هو ما يُطلب منه أن لا يقترب منه، ولا يجوز له أن يفعله.

وهذه التكاليف بالاتفاق لا تشمل الصبي، فيشترط في ثبوتها على الإنسان أن يكون بالغًا، فلا تتنجز هذه التكاليف في ذمة الإنسان إلا إذا كان بالغًا، ودليلها هو مثل حديث رفع القلم.

النقطة الثانية: الأحكام التكليفية غير الإلزامية:

وهي المستحبات والمكروهات، فهل تصح المستحبات من الصبي؟ فاذا صلى الصبي قبل البلوغ على نحو الاستحباب، فهل يثاب الصبي على فعله هذا أو لا يثاب؟

ولمعرفة ترتب الثواب على قيام الصبي بالمستحب وتركه للمكروه من عدمه لابد من الرجوع إلى ما يبتني عليه هذا الحكم وهو: هل إن عبادات الصبي شرعية أو تدريبية؟

لعل مشهور علمائنا يذهب إلى أنها شرعية، مما يعني ترتب الثواب عليها. مما يعني أن الأحكام التكليفية غير الإلزامية لا يشترط فيها البلوغ.

ويترتب على هذا البحث ثمرة فقهية مهمة، وهي معرفة ما إذا كانت صلاة الصبي مُجزِأةً أو لا فيما لو صلى قبل البلوغ ثم بلغ ووقت الصلاة لم ينتهِ بعدُ، كما لو صلى في الساعة الثانية ظهراً صلاتي الظهر والعصر، وبلغ بعد أدائهما بنصف ساعة، أي إن وقت الصلاتين لازال قائماً، فهل يجب عليه في هذه الحالة إعادة صلاة الظهرين أو إن صلاته

ص: 181

مجزأة؟

الحكم يختلف باختلاف قول العلماء في عبادات الصبي هل هي شرعية أو تدريبية:

فمن قال بأن عباداته تدريبية: أي إن عباداته مجرد صورة للعبادة ولا أثر لها؛ لعدم توجه خطاب له لا على نحو الوجوب ولا على نحو الاستحباب. وعليهِ لابد من إعادة الصلاة؛ لتوجه الخطاب إليه فور بلوغه فيلزمه بالأداء.

وأما من قال بأن عباداته شرعية: أي إن صلاته شرعية؛ وأن الأمر موجه إلى الصبي على نحو الاستحباب، بالتالي فإن صلاته وقعت صحيحة، فلا موجب لإعادتها.

فإن قيل: أو ليس حديث رفع القلم رفع التكاليف عن الصبي؟ فكيف يُقال بأن المستحبات والمكروهات تصح من الصبي وأنه مخاطب بها؟

فالجواب: أن القدر المتيقن من حديث رفع القلم هو الواجبات والمحرمات، يعني أن الذي نجزم بأنه رُفع عن الصبي هو الواجبات والمحرمات، أما المستحبات والمكروهات فليست مرفوعة عن الصبي.(1)

النقطة الثالثة: الأحكام الوضعية:

وهي غير الاحكام التكليفية الخمسة التي تقدم ذكرها (الواجب والمحرم والمكروه والمستحب والمباح). وتختصر ب_(الصحة والفساد). فلو قام صبي بعقد من العقود كالبيع مثلاً، أو إيقاع من الايقاعات كالطلاق مثلاً، فهل يعد فعله صحيحاً شرعاً، وبالتالي يكون ملزِمًا لكلا الطرفين، أو إنه فاسد فلا يكون ملزماً لهما؟

يعني أن هذا الفعل صحيح أو فاسد؟

ص: 182


1- التفاصيل في أبحاث الخارج.

يختلف الجواب وبالتالي الحكم باختلاف طبيعة الموضوعات:

فالموضوعات غير الموقوفة على القصد ولا على النية بحيث يترتب على فاعلها الحكم الوضعي بمجرد تحققها، كتحقق حكم الجنابة بالجماع، فبمجرد أن يجامع الصبي يحكم عليه بأنه مجنب. والحكم بجنابته حكم وضعي، ولكن لا يُلزم بالحكم التكليفي (وجوب الغسل) منها؛ لأنه غير مخاطب بأداء تكليف لازم تُشترط فيه الطهارة، كالصلاة مثلاً. فلا يجب عليه الغسل حتى البلوغ.

وكذا الحال بالنسبة لحكم التنجس، فإنه يترتب على الصبي متى ما لاقى بدنه أو ثوبه أحد الأعيان النجسة مع الرطوبة المسرية، كما لو تنجس بالبول مثلاً، إلا أنه لا يتوجب عليه التطهير كحكم تكليفي إلا عندما يُلزم شرعاً بأداء ما تشترط فيه الطهارة، كالصلاة مثلاً.

وكذلك بالنسبة للضمان بالإتلاف، فلو أتلف الصبي مال غيره، كأن يكون كسر زجاجة سيارة أحدٍ ما، فإنه لا يجب عليه أن يغرم. ويجب ذلك على وليه كما قال العلماء، فإن هو لم يغرم عنه توجه التكليف حينئذٍ إلى الصبي بعد بلوغه.(1)

وعليه فإن الموضوعات التي لا يشترط فيها القصد أو النية لا يشترط فيها البلوغ في ترتب الأحكام الوضعية عليها.

وأما الموضوعات التي يشترط في إتيانها القصد أو النية، فيشترط في تحققها البلوغ، وهذه الموضوعات من الواضح أنها لا تشمل الصبي، مثل: كفارة الإفطار عمداً في شهر رمضان. فقد تقدّم أن المشهور بين العلماء أن عبادات الصبي شرعية، فيمكنه الإتيان بها على نحو الاستحباب، فلو صام في شهر رمضان صحَّ صومه، ولكنه لو أفطر عمداً في

ص: 183


1- والمسألة فقهية تُراجع في مظانها.

نهار أحد أيامه، فلا تجب عليه الكفارة فضلاً عن القضاء؛ لأنها موضوعات يشترط في أدائها القصد والنية.

وبالعودة إلى المثالين اللذين طرحا في بداية مبحث الأحكام الوضعية: وهما: حكم البيع بالنسبة إلى الصبي كمثال على العقود، وحكم الطلاق كمثال على الإيقاعات، بالنسبة إلى الصبي، فنقول:

بما أن هذين الموضوعين مما يجب في تحققهما القصد والنية، إذاً لا يحكم بصحتهما فيما لو صدرا من الصبي. نعم، استثنى بعض الفقهاء من ذلك بالنسبة للبيع ما كانت قيمته يسيرة من الأشياء التي جرت العادة بتصدي الصبي المميز لمعاملتها بإذن وليه.(1)

الخطوة الثالثة: إثبات حسن التكليف من المولى.

هل إن تكليف العباد من قبل المولى (جل وعلا) أمرٌ حسنٌ أو لا؟

هو أمرٌ حسن، ويمكن إثبات حسنه بعدة طرق، نذكر منها طريقين:

الأول: الإثبات الإجمالي:

وخلاصته: أن الله(عزوجل) فَعَل التكليف. وبما أن كل أفعاله سبحانه حسنة، ولا يصدر منه القبيح قط. إذاً التكليف أمرٌ حسنٌ.

ص: 184


1- في منهاج الصالحين للسيِّد السيستاني (ج 2/ الفصل الثاني: شروط المتعاقدين/ مسألة 62): «يُشتَرط في كلٍّ من المتعاقدين أُمور: الأوَّل: البلوغ، فلا يصحُّ عقد الصبيِّ في ماله، وإن كان ممِّيزاً، إذا لم يكن بإذن الوليِّ، بل وإن كان بإذنه إذا كان الصبيُّ مستقلًّا في التصرُّف إلَّا في الأشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدّي الصبيِّ المميِّز لمعاملتها، فإنّها تصحُّ منه بإذن وليه، كما تصحُّ فيما إذا كانت المعاملة من الوليِّ، وكان الصبيُّ وكيلاً عنه في إنشاء الصيغة، وهكذا إذا كانت معاملة الصبي في مال الغير بإذن مالكه، وإن لم يكن بإذن الولي».

وبعبارة أخرى: التكليف فعل الله، وكل أفعاله حسنة، فالتكليف حسن.

الثاني: قاعدة اللطف:

وهو الطريق الذي ذكره الشيخ المظفر(رحمه الله علیه).

وخلاصته: التكليف لطفٌ، واللطف واجب على الحكيم فالتكليف واجبٌ على الحكيم.

وهذا الدليل يثبت حسن التكليف بل لزومه ووجوبه أيضاً.

بيان قاعدة اللطف:

اللطف: هو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية.

وهو واجبٌ على المولى (جل وعلا)- بمعنى أنه هو الذي أوجبه على نفسه لا بمعنى أن أحداً ما أوجبه عليه (سبحانه)-؛ وذلك لأنه حكيمٌ، والحكيم إذا علم أنَّ عبده لا يمكن أن يصل إلى طاعته ورضاه إلا إذا ساعده في ذلك. بل إنه لو لم يساعده لوقع في المعصية، لحكم بوجوب مساعدته وكذا يحكم العقل.

ومن هنا استدل العلماء على لزوم إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع التي تنظم علاقات الفرد بربه وبالأفراد بقاعدة اللطف؛ لأن هذه الأمور تساعد العبد على بلوغ رضا الله(عزوجل) وتجنب معصيته وسخطه، وتتمُّ الحجة عليه. ولولاها لوقع العبد بالمعصية ولبَعُدَ عن رضا مولاه من جهة، ولقبح على المولى أن يعاقبه من جهةٍ أخرى.

بل أشار الشيخ(قدس سره) إلى أن قاعدة اللطف تجب وإن علم الله (جل شأنه) أنَّ بعض عبيده لا يمتثل لأوامره حتى إذا وضُح له طريق الطاعة. وبالتالي لا يسوغ عدم اللطف بهم أو عدم توضيح الأمر لهم؛ وذلك لأن الوجدان يحكم بعدم كون ذلك مسوغاً لعدم

ص: 185

اللطف، بل يبقى اللطف لازماً على الحكيم لأمرين هما:

الأول: أن فيض الكريم الكامل لا يوقفه ولا يحده عناد بعض العبيد. فالله(عزوجل) هو الكمال المطلق، فلا يحدُّ جوده الكامل ورحمته المطلقة عنادُ بعض العبيد. وهذا ما أشار إليه الماتن(قدس سره) في الكتاب.

الثاني: لو لم يرسل الله(عزوجل) الرسل لأولئك العباد، لأمكن أن تتوفر حجة لأولئك العباد على الله(عزوجل)؛ لذا جاء في القرآن الكريم: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1)

أي حتى نلقي الحجة التامة على العباد.

ص: 186


1- الإسراء 15.

عقيدتنا في القضاء والقدر

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في القضاء والقدر:

ذهب قومٌ وهم (المجبرة) إلى أنه(عزوجل) هو الفاعل لأفعال المخلوقين فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي وهو مع ذلك يعذبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، لأنهم يقولون إن أفعالهم في الحقيقة أفعاله وإنما تنسب إليهم على سبيل التجوز لأنهم محلها، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه(عزوجل) هو الخالق الذي لا شريك له، ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه(عزوجل) عن ذلك.

وذهب قوم آخرون وهم (المفوضة) إلى أنه(عزوجل) فوّض الأفعال إلى المخلوقين ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أن نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وإن للموجودات أسبابها الخاصة وإن انتهت كلها إلى مسبب الأسباب والسبب الأول، وهو الله(عزوجل). ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله(عزوجل) من سلطانه، وأشرك غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار(علیهم السّلام) من الأمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل

ص: 187

الكلام، ففرط منهم قوم وأفرط آخرون. ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلا بعد عدة قرون.

وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة(علیهم السّلام) وأقوالهم أن يحسب إن هذا القول، وهو الأمر بين الأمرين، من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادق(علیه السّلام) لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».

ما أجل هذا المغزى وما أدق معناه. وخلاصته: إن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد.

وعلى كل حال، فعقيدتنا إن القضاء والقدر سر من أسرار الله(عزوجل)، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلا فلا يجب عليه أن يتكلف فهمه والتدقيق فيه لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور بل من أدق مباحث الفلسفة» انتهى.

من المباحث المهمة جداً في علم الكلام والتي تمتدّ جذورها في حياة الإنسان العملية والسياسية والعقائدية هو مبحث القضاء والقدر، وما يتوقف عليه من بحث الجبر والتفويض أو الأمر بين الامرين؛ إذ اختلف الناس في هذا على ثلاثة مذاهب: مفوّضة، ومجبِّرة، ومذهب أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) الذي عبر عنه

ص: 188

الامام الصادق(علیه السّلام) بقوله: «لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ».(1)

وهذا البحث مهم جدًا، لا بد من التأمل فيه وأخذه بالتسلسل لنصل إلى قناعة معينة فيه.

مصطلحات البحث:

المصطلح الأول: القدر.

وهو التقدير والهندسة النظرية بحسب المكان والزمان والكيفيات والأسباب والشروط وغيرها، فلوجود الجماد حدٌّ، ولوجود النبات حدٌّ، ولوجود الحيوان حدٌّ، هذه الشروط التي وضعت لهذه الحدود هي تخطيط نظري أشبه برسم الخريطة للبيت نظريًا، هذا هو القدر.

المصطلح الثاني: القضاء.

وهو الإبرام يعني إتمام الأمر وإنجازه تمامًا، بحيث يصل الى النقطة الاخيرة للتحقق في الخارج قال(عزوجل): ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ..﴾.(2) فقضيتم مناسككم يعني أنجزتموها وانتهيتم منها.

والقضاء في الحقيقة هو نتيجة التقدير والقدر.

وكل من القدر والقضاء ينقسم الى قسمين هما: قدر وقضاء تكويني وقدر وقضاء تشريعي.

فأما القدر والقضاء التكويني:

ص: 189


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 بَابُ الجَبْرِ والقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح13.
2- البقرة 200.

فهي القوانين الخارجية أو الكونية التي تتحكم بالعالم، ومثال على ذلك: تقدير الجنين في بطن أمه، ويشمل جميع المراحل التي يمر بها حتى يكتمل نموّه، فإذا تمّ تقديره فإنه يولد، فولادته القضاء.

وهكذا تقدير القمر هو مروره بالمراحل المعلومة إلى أن تنتهي دورته الشهرية فيصل إلى نقطة البداية ويولد من جديد، فيكون هلالاً.

وأما القدر والقضاء التشريعي:

فهو مجموع الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنة. وإلى القضاء والقدر التشريعيين أشار ما روي أنّ رجلًا قال لأمير المؤمنين(علیه السّلام): فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال: «الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنّه، فإن الظنّ له محبط للأعمال».

فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.(1)

وهنا يبين أمير المؤمنين(علیه السّلام) أن القدر والقضاء التشريعي هو مجموع الأوامر والنواهي الإلهية التي تصدر منه(عزوجل) مع تمكين الإنسان على فعلها وعدم إجباره عليها، وبالتالي استحقاق الثواب أو العقاب.

وكلٌّ من القدر والقضاء هما من مقدمات الأفعال.

ص: 190


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص311.

المصطلح الثالث: الجبر.

وهو ادّعاء أن الأفعال التي نراها تصدر من الإنسان إنما هي في الحقيقة صادرة من الله(عزوجل). وما الإنسان معها إلا مجرد آلة لتنفيذ أفعال الله(عزوجل)، وينطلق هذا الادعاء من نفي وجود نظام العلل والمعلولات في عالمنا، وإثبات وجود علة واحدة فقط وفاعل واحد فقط هو الله(عزوجل) وما عداه كلها معلولات ومخلوقات له(عزوجل)، حتى إنّ الكتابة التي نكتبها في الحقيقة هي فعل الله(عزوجل).

المصطلح الرابع: التفويض.

ويستعمل في عدة معانٍ:

المعنى الأول: أنّ الله(عزوجل) بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله. فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله(عزوجل)، أي إنه ليس بحاجةٍ إلى الله(عزوجل) في أفعاله، نعم الله(عزوجل) قادر على تلك الأفعال وقدرته لم تُسلب منه (جل وعلا)، لكن في الوقت نفسه قد استغنى عنه الإنسانُ وبات مستقلاً في أفعاله، رغم أنه ممكن ومن أبرز سماته الافتقار وجوداً واستمراراً!

المعنى الثاني: أنّ الله(عزوجل) بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله، فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله(عزوجل)، أي إنه لا يحتاج الى الله(عزوجل) في أفعاله، وعلاوةً على ذلك فإنّه(عزوجل) غير قادر على التحكم في أفعال الإنسان فلا يستطيع منعه من القيام بفعلٍ ما مثلاً.

وهذا المعنى أقبح وأردأ من الأول.

المعنى الثالث: أنّ الله(عزوجل) يوكل بعض الأمور لبعض مخلوقاته في أن يفعلوها حسب اختيارهم، لكن لا يخرج أولئك المخلوقون لا هم ولا أفعالهم عن قدرة الله(عزوجل) وعن إذنه وعن أمره (جل وعلا)، فيبقى الله(عزوجل) قادراً وغير عاجزٍ، ولكنه يوكل إلى بعض عباده

ص: 191

فعل أمور محددة.

وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات والآيات الشريفة، وهذا المعنى على نوعين:

النوع الأول: التفويض التكويني:

كتفويض الله(عزوجل) مهمة قبض الأرواح للملك عزرائيل(علیه السّلام) في قوله(عزوجل): ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(1)

بالرغم من أنه (جل وعلا) مالك لهذه المهمة أصالةً في قوله(عزوجل): ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾(2)

وكتفويض أمر إحياء الموتى وإبراء المرضى إلى النبي عيسى(علیه السّلام) مع أنها من أفعاله(عزوجل).

وليس في ذلك أي إشكال؛ لأنه في ضمن دائرة ارادته ومشيئته وتحت سلطانه(عزوجل).

الثاني: التفويض التشريعي:

وهو أن يأذن الله(عزوجل) لبعض عباده وفق مواصفاتٍ خاصة بأن يعطوا تشريعاتٍ وفق المصالح والمفاسد الواقعية. ومثاله تفويض الله(عزوجل) مهمة التشريع للمعصومين(علیهم السّلام) وهو المصطلح عليه بين المتكلمين بالولاية التشريعية. ومستنده من القرآن الكريم قوله(عزوجل): ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)

وقد تقدم بعض الحديث عن الولاية التشريعية.

ص: 192


1- السجدة 11.
2- الزمر 42.
3- الحشر 7.

والمعنى الثالث من بين المعاني الثلاث للتفويض هو الذي يتوافق مع ما يذهب إليه أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم): أنه لا جبر ولا تفويض وإنما هو أمر بين أمرين.

وبعد أن اتضحت مصطلحات البحث نعود إليه فنقول:

اختلف المتكلمون في مسألة القضاء والقدر وانقسموا في ذلك إلى مذاهب ثلاث:

المذهب الأول: مذهب الجبر.

وللإحاطة بهذا المذهب لا بد من التعرض إلى الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: مؤسسو مذهب الجبر:

على الرغم من أن الأشاعرة هم من رفعوا لواء الجبر، وأنَّ أول من قال به ونظّر له وصرّح به بشكلٍ رسمي في الكتب هو الجهم بن صفوان. إلا أنَّ لدعوى الجبر جذوراً ترجع إلى بني أمية. فهم أول من أسّسها وعمل على ترسيخها في أذهان الناس لأهدافٍ سياسية، بدليل خطبة معاوية عليه لعائن الله التي خطبها في أهل الكوفة بعد الهدنة التي حدثت بينه وبين الإمام الحسن8، قال المفيد: «فلمَّا استتمَّت الهدنة علىٰ ذلك، سار معاوية حتَّىٰ نزل بالنخيلة، وكان ذلك يوم جمعة، فصلّىٰ بالناس ضحىٰ النهار، فخطبهم وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألَا وإنّي كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدميَّ لا أفي بشيء منها له».(1)

ومحل الشاهد قوله: «وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون» وفيه إشارة واضحة

ص: 193


1- الإرشاد 2: 14.

إلى مذهب الجبر.

وعلى نفس المنوال جرى ابن زياد، حيث روي أنه عُرِضَ عليه [أي على ابن زياد لعنه الله] عليُّ بن الحسين(علیه السّلام)، فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا عليُّ بن الحسين»، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال له عليٌّ(علیه السّلام): «قد كان لي أخ يُسمّىٰ عليّاً قتله الناس»، فقال له ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليُّ بن الحسين(علیه السّلام): «﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الَانْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(1)»،

فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقيَّة للردِّ عليَّ!؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به زينب عمته وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته...(2)

كما وردت الاشارة إلى القول بالجبر في قول ابن زياد للسيدة زينب (صلوات الله وسلامه عليها): كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكِ؟ فقالت: «ما رأيت إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصَم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة...»(3).

فهو قد نسب الفعل إلى الله تعالى ليبرئ ساحته من الجرم.

الخطوة الثانية: خلاصة دعوى الجبر:

يمكن تلخيص دعوى الجبر بأنها تعني نفي نظام السببية والمسببية أو العلة والمعلولات بين الأشياء، والاقتصار على علة واحدة وهي الله (جل جلاله) ومعلولات وهي كل ما سواه. فكما خلق الله (سبحانه) المخلوقات فهو أيضًا خلق أفعالها، وبالتالي

ص: 194


1- الزمر: 42.
2- الإرشاد للشيخ المفيد 2: 116.
3- مثير الأحزان لابن نما الحلّي (ص 71)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 115 و116) بتفاوت يسير.

فإن أي فعل يصدر عنها إنما هو فعله (سبحانه) في حقيقة الأمر، فكل من الأفعال الصالحة والطالحة التي تصدر من الإنسان إنما هي أفعاله (جل شأنه).

فإن قيل لأصحاب هذه الدعوى: إننا في الخارج نجد أن الأفعال تصدر من الإنسان، فالإنسان هو الذي يأكل ويكتب ويتكلم، وعند النظر إلى النار نجد أنها هي التي تحرق، فكيف يمكن التوفيق بين ذلك وبين ما تدّعونه بأن الأفعال تصدر من الله(عزوجل) وأنه هو الفاعل الحقيقي لها؟

قالوا: إن الإنسان هو مجرد محل لصدور الفعل منه، يعني أن الفعل في الحقيقة يصدر من الله(عزوجل)، لكنه يصادف أن يصدر هذا الفعل مقارناً لفعل الإنسان، يعني أن الله(عزوجل) هو الذي يكتب، لكن يصادف أن يقارن هذا الفعل حركة الإنسان، كما في ألعاب الدمى التي يتم تحريكها بواسطة خيوط معينة، إذا نظرنا نجد أن الدمى هي التي تتحرك، لكن في الحقيقة أن هناك يداً هي التي تحركها بواسطة الخيوط، فالحركة تنسب حقيقةً لليد التي تحركها، لكن تصادف أن تلك الحركة أن تخرج وتصدر من تلك الدمية، وكذا النار

فليست هي التي تحرق الخشب في الحقيقة، وأن الله تعالى هو الذي يحرق الخشب، لكن يصادف أن الإحراق دائما يقع مجاوراً للنار! والنار ليس لها أي دور في الإحراق. وقد حاولوا بيان هذا من خلال عدة نظريات ومنها نظرية الكسب والحلول وغيرها مما ليس هنا محل تفصيله.

الخطوة الثالثة: منشأ هذه الدعوى:

يمكن القول بأن لهذه الدعوى منشأين هما:

أولهما: المنشأ العلمي:

صعُب على الأشاعرة فهم نظام السببية والمسببية أو العلل والمعلولات فهماً صحيحاً

ص: 195

يتوافق مع التوحيد، فظنوا إن القول به يستلزم الشرك بالله(عزوجل) في الخالقية، إذ قالوا بأن نسبة الفعل إلى الإنسان عند صدوره منه يعني نسبة خلق ذلك الفعل إليه، فالله يخلق أفعالًا والإنسان يخلق أفعالًا، وبالتالي يصبح الإنسان شريكاً لله(عزوجل) في خلقه للأفعال، وهذا شرك وخلاف للتوحيد الأفعالي الذي يقتضي أن لا مؤثر ولا فاعل في الوجود مستقلًا إلا الله(عزوجل).

إذاً لا بد من نسبة الأفعال إليه (سبحانه) لا إلى مَن صدرت منه بنظرنا، بقطع النظر عمّن صدرت تلك الأفعال من جهة، وبقطع النظر عن حسنها وقبحها من جهة أخرى، وعليه فحفاظاً على التوحيد الأفعالي يتوجب علينا القول بأن الأفعال في الحقيقة تصدر من الله تعالى، لا من الإنسان.

ثانيهما: المنشأ السياسي:

علينا أن لا نغفل أن الحكومات الدموية كانت تعمل على شرعنة أعمالها بطريقة تقنع المسلمين بأن سياساتهم موافقة للدين والتوحيد من جهة، وتُلزم المسلمين بإطاعة الحكام والسلاطين بل تحرم عليهم الخروج على السلطان بالاستناد إلى مستند شرعي يقدسه المسلمون من جهة أخرى.

فادعت أنّ السلطان يعمل وفق النظام الاسلامي، وأنّ الخروج عليه سيكون خروجاً على النظام والحاكم الإسلامي، أي خروجاً على إمام الزمان -قاصدين به الخليفة-.

وقد أسس لهذه الدعوى وطبّل لها بنو أمية؛ لأنها تخدم أهدافهم السياسية وتحقق مطامعهم الدنيوية بكل يسر؛ إذ إنّ القول بالجبر يعني أمرين مهمين بالنسبة لهم، وهما:

الأمر الأول: أن ما يصدر من ظلم منهم فهم بريؤون منه؛ لأنه (الظلم) لم يصدر

ص: 196

منهم حسبما يدّعي مذهب الجبر، وإنما في حقيقة الأمر هو صادر من الله(عزوجل) وهم أُجبروا على أن يكونوا محلًا لصدوره، وعليهِ فمعاوية لم يقتل عليًا(علیه السّلام) ولا الحسن(علیه السّلام)، وإنما قتلهما الله(عزوجل)، وكذا فإن يزيد لم يشرب الخمر ولم يقتل الامام الحسين(علیه السّلام)، وهكذا.. فلمَ اللوم اذن؟!

وقد رأينا هذا اواضحًا في كلماتهم التي نظّرت للجبر وقد تقدم بعضها.

الأمر الثاني: بما أن المسلمين ملزمون بالإيمان بقضاء الله وقدره -وهذا أمرٌ واضحٌ فهناك روايات تدل على وجوب ذلك- فإذن لا يجوز للناس الخروج على إمام زمانهم (الخليفة) وإن كان مفسداً أو فاجراً أو جائراً، بل من يخرج عليه سيكون ملحداً وكافراً!

وبالتالي ستنتج هذه الدعوى مجتمعاً راضياً بالظلم خاضعاً للذل، وهو يحسب أن الله(عزوجل) هو من أراد له ذلك. وأنه على تمام العبودية لله(عزوجل) عندما يرضى بالأمير ولا ينبس عليه ببنت شفة.

وهو مراد بني أمية.

الخطوة الرابعة: إبطال الجبر.

هناك الكثير من الأدلة التي تثبت بطلان مذهب الجبر ومنها:

الدليل الأول: الوجدان:

وهو دليل يُنبّه على بطلان دعوى الجبر، فكلُّ واحد منا يحسُّ بوجدانه أنّه قادر على أن يتخذ قراراته بنفسه، وأنّ له أنْ يختار الفعل أو الترك من دون مؤثر خارجي يسلب إرادته واختياراته.

فمثلاً عندما تُقدم إليك وجبة طعام وفيها ثلاثة أصناف منه، فأنت بإرادتك الخاصة

ص: 197

تشعر برغبةٍ في أن تمد يدك لأكلة معينة دون سواها، وتحس أن لك مطلق الحرية لاختيار الطعام الذي ترغب أنت فيه، وهذا إحساس وجداني لا ينكره إلا مكابر؛ وهو أمرٌ بديهي، والبديهي لا يُستدل عليه، إنما يُنبّه عليه، ولأجل ذلك قلنا إنّه مُنبّه لبطلان الجبر.

ومعه، فإن منكر هذا البديهي، إذا ادعى الجبر فيكفي أن نُبيّن له المسألة وأنّه مختار يقوم بالأفعال بملئ إرادته، ونذكّره بوجدانه ونطلب منه أن يرجع إليه، فإن اقتنع فبها، وإلا نجلده بالسوط، فإذا اعترض نردُّ عليه بما يعتقد به: لمَ الاعتراض على فعل الله تعالى! فإن الله(عزوجل) هو الذي ضربك؟!

وهذا ما فعله البهلول عندما سمع أبا حنيفة يقول: إنّ جعفر بن محمّد(علیه السّلام) يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها.

يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، كيف وهو من النار!؟

ويقول: إنّ الله لا يرى ولا تصحّ عليه الرؤية، وكيف لا تصحّ الرؤية على موجود!؟

ويقول: إنّ العبد هو الفاعل لفعله، والنصوص بخلافه.

فأخذ البهلول حجرًا وضربه به فأوجعه، فذهب أبو حنيفة إلى هارون، واستحضروا البهلول ووبّخوه على ذلك. فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي تدّعيه وإلَّا فأنت كاذب، وأيضًا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب!؟ ثمّ ما الذي أذنبتُه إليك والفاعل ليس هو العبد بل الله!

فسكت أبو حنيفة وقام خجلًا.(1)

الدليل الثاني: ان الجبر يؤدي الى نتائج وخيمة خطرة جداً، نذكر منها التالي:

ص: 198


1- منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني ج2 ص 181.

النتيجة الأولى: انتفاء التكليف.

أو قل: لغوية التكليف، يعني: أن الأوامر والنواهي التي تصدر من الله تعالى تكون لغواً على مذهب الجبر!

المفروض وفق مذهب الجبر أن الانسان لا إرادة له، فلا يستطيع أن يفعل أي شيء أو أن يترك أي شيء. ومعه فلا معنى ولا داعي لأن يأمرنا الله(عزوجل) بالصلاة أو ينهانا عن الغيبة؛ لأنه هو الذي يحركنا ونحن لا إرادة لنا، فيكون تكليفنا بالصلاة مثلاً نظير من يصعد سيارته ويأمرها أن تدور به إلى اليمين، فإن السيارة لها الحق أن تقول بأنها لا إرادة لها، فأمرها بالدوران نحو اليمين لغو، إذ يكفي أن يمسك الآمر بالمقود ويدور بها نحو اليمين.

وكذا بالنسبة لتكليف الله تعالى إيانا بالصلاة مثلاً، إذ لا داعي لتكليفه إيانا بالصلاة لأننا مُجبرون ولا إرادة لنا، ويكفي لتحقق الصلاة منا أن يحركنا بالحركات الأدائية للصلاة، لأن الانسان من دون إرادة واختيار أشبه ما يكون بالدمى، وكما لا يمكن تحقق الحركة من الدمى إلا بتحريكها، كذلك لا يمكن تأدية الإنسان للصلاة إلا بتحريكه، فإن صدرت أوامر تكليفية تأمره بالحركة، كانت تلك الأوامر عبثاً ولغواً، وسيكون من صدرت منه ليس سوى عابث يفتقر إلى الحكمة.

وبعبارة مختصرة: أن التكليف فرع الاختيار، ومع الجبر لا اختيار، فلا تكليف.

لذا لا يصح من العقلاء أن يطلبوا من الإنسان المشلول أن يكتب رسالة، ويحكمون على هذا التكليف بأنه لغو؛ لأنه مشلول لا يستطيع أن يحرك يده فكيف يصح تكليفه بما لا يستطيع؟! وكذا الإنسان وفقاً لمذهب الجبر هو إنسان مشلول لا يستطيع أن يحرك

ص: 199

أي شيء باختياره.

النتيجة الثانية: أن الجبر يؤدي الى تملص وتبرؤ المجرم من جريمته.

بحجة أنه لم يكن مختاراً بفعله للجريمة، وفي نفس الوقت لا يحق للمعتدى عليه أن يحاسب المجرم ويطالبه بحقه منه؛ إذ إن الفعل لم يصدر منه، إنما صدر من الله(عزوجل)، فإن كان للمظلوم أن يتظلم جراء ذلك فعليه يعاتب الله تعالى ويلومه على ذلك؛ لأن المجرم لم يكن سوى آلةً يحركها الله سبحانه!

وهذا ما ركز عليه السلاطين وخصوصاً بني أمية.

ومن الواضح جداً بطلان هذه النتيجة، وأن الإيمان بها يؤدي إلى خلل واضح في النظام العام لحياة الفرد والمجتمع؛ إذ لا توجد وفقها أي ضوابط تضبط المجتمع، وكل فرد سيكون غير مسؤول عما يصدر منه من أفعال، فتنتفي بذلك المسؤولية تماماً عن الانسان، ونتيجة ذلك انعدام الانضباط في المجتمع؛ لأن الانضباط هو فرع تحمل المسؤولية، ومع عدم اختيار الإنسان فلا مسؤولية عليه، فلا نظام في المجتمع، وهذا يعني: أن عقيدة الجبر تؤدي إلى الفوضى تماماً.

النتيجة الثالثة: نسبة الظلم إلى الله تبارك وتعالى.

وقد أشار إلى هذه النتيجة الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) بقوله: «ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه تعالى عن ذلك».

فالجبر يستلزم نسبة الظلم إلى الله جل وعلا، ويمكن تصوير نسبة الظلم الى الله(عزوجل) بتصويرين:

التصوير الأول: أن الجبر يعني أن الظالم لم يفعل هو الظلم، بل إن الذي فعله في

ص: 200

الحقيقة هو الله جل وعلا -تعالى عن ذلك علوا كبيراً- لذا قال عبيد الله بن زياد كما تقدم: «أوليس قتل الله عليا؟» فنسب القتل إلى الله.

وكذلك معاوية قال: «ولقد أمّرني الله عليكم» أي إن الذي أعطاني الأمارة عليكم هو الله جل جلاله، وعليه فإن كل المظالم إنما صدرت منه تعالى، وهذا يستلزم نسبة الظلم إليه(عزوجل)!

التصوير الثاني: أن الله تعالى وحسب صريح القرآن الكريم والأمر المتفق عليه وفق جميع المسلمين، قد أوعد المذنبين بالنار، ولكن وفقاً لنظرية الجبر فإن الذي يفعل الظلم في الحقيقة هو الله سبحانه؛ لأن الذنب لا يصدر من الإنسان، وإنما يصدر من الله(عزوجل) -تعالى عن ذلك علوا كبيراً- فمثلاً من يقتل شخصاً فليس هو المذنب؛ لأن الفعل في الحقيقة من الله تعالى، ولكن بالرغم من ذلك فإن العقوبة ستقع على الإنسان، فيُعاقب على فعل لم يصدر منه، وهذا هو عين الظلم.

هذا كله في الدليل الثاني على بطلان الجبر.

الدليل الثالث:

أن عقيدة الجبر مخالفة لصريح الآيات القرآنية الكريمة التي تصرح بأن الإنسان هو المسؤول عن فعله لا غيره، وتشير بصراحة إلى نسبة الفعل الى الانسان.

كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾(1)

وقوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(2)

فالآية واضحة في أن الذي يكدح بنصب وجهد وتعب هو الإنسان.

ص: 201


1- النجم 39-0 4.
2- الانشقاق 6.

وقوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(1)

فلاحظ أن العمل نُسبَ إلى المجرمين.

وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(2)

فقوله (عملوا الصالحات) يؤكد أن الصالحات إنما تصدر من الإنسان، فهو الذي يعمل.

فالآيات الشريفة واضحة جدًا في نسبة الأفعال إلى الإنسان، وهذا يعني أن المسؤول عن الفعل هو الإنسان نفسه، وهذه الآيات تبطل عقيدة الجبر.

المذهب الثاني: التفويض المعتزلي.

وللإحاطة بهذه العقيدة لا بد من التعرّض إلى منشئها وخلاصة دعواها ثم أدلة إبطالها. وهو ما سنأتي عليه تباعاً ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: منشأ عقيدة التفويض.

لعل المعتزلة لم تقل بالتفويض إلا بعد أن قالت الأشاعرة بالجبر، أي إن القول بالتفويض كأنه أتى ردَّ فعلٍ على القول بالجبر، فالأشاعرة قالوا: إن كل فعل هو صادر في الحقيقة من الله تعالى والإنسان لا مدخلية له في صدور أي فعل منه، وأما المعتزلة المفوضة فقد وقفوا على طرف النقيض من هذه المقالة، فقالوا: إن الإنسان مستقلٌ تماماً عن الله تعالى في فعله!

ص: 202


1- الكهف 49.
2- العصر 1-3.

وقد تقدم أن التفويض المرفوض له معنيان:

الأول: أن الإنسان مستقل في أفعاله، لكن الله تعالى قادر على هذه الافعال وقادر على منعه منها.

المعنى: أن الإنسان مستقل في أفعاله وأن الله تعالى غير قادر على فعل الإنسان وغير قادر على أن يمنعه، وهذه المقالة أسوأ من الاولى.

وبقطع النظر عن هذين المعنيين، يكفينا لإبطال هذه العقيدة التوقف فقط عند المقالة (أن الإنسان مستقل تماماً عن الله تعالى) والتي تعني أن الإنسان غير محتاج إلى الله تماماً..

أما الذي دعا المفوضة إلى القول بالتفويض فهو:

تصورهم بأن تنزيه الله تعالى عن الظلم والحفاظ على العدل الإلهي لا يتحقق إلا بالقول بالتفويض.

بيان ذلك:

أن الأفعال التي تصدر من الإنسان تشتمل على الكثير من الظلم والشرور والقبائح من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن صدور تلك الظلامات والشرور من الإنسان يترتب عليها عقابه كما هو الثابت في الأدلة الشرعية، ولكي ننزه الله تعالى عن هذه النقائص والقبائح من جهةٍ، وننزهه عن نسبة الظلم إليه من جهةٍ أخرى، فإنه لابد من القول بأن هذه الأفعال صادرة من الإنسان مستقلاً عن الله تعالى. وبهذا يتحقق العدل الالهي.

الخطوة الثانية: خلاصة دعوى التفويض.

قالوا: إن الإنسان قد فوّض الله تعالى إليه جميع أفعاله، فهو تعالى خلق عباده وفوّض

ص: 203

لهم جميع أمورهم، وبعدئذٍ غُلّت يده عنهم سبحانه!

فجعلوا الله تعالى أشبه بالذي أخذ حجراً ورماه، فبمجرد أن أفلت الحجر من يديه فإن سلطتنه عليه قد انتهت، فهو قد أوجد الحركة الأولى في رميه لهذا الحجر، ولكن بعد ذلك غُلت يده وعجزت عن أن تصنع شيئاً بهذا الحجر أو توقفه.

وكذلك فإن الله تعالى أخرج الإنسان إلى هذه الدنيا، وبعدها فإن الإنسان يفعل ما يشاء، بحيث إن الله تعالى لا يتدخل في أي شيء والإنسان مستقلٌ تماماً عن الله(عزوجل)، وبعضهم قال بعدم قدرة الله تعالى على التدخل في شؤون الكون والإنسان.

الخطوة الثالثة: الاستدلال على بطلان عقيدة التفويض.

هناك عدة ادلة تدل على بطلانها، منها:

الدليل الأول:

أن القول بالتفويض يستلزم الشرك؛ لأنه قولٌ بأن العبد هو الذي يخلق أفعاله مستقلاً عن الله(عزوجل)، وقد أثبتت مباحث التوحيد أن هناك فاعلاً واحداً مستقلاً في الكون هو الله(عزوجل).

ونقصد بالاستقلال عدم الاحتياج إلى أي شيء خارج الذات، بيد أن المفوضة قالوا بأن الله مستقلٌ في فعله، ولكن الإنسان مستقل في فعله هو الآخر. فصار هناك فاعلان مستقلان بل فواعل مستقلون غير متناهين، فالعالم اليوم ستة مليارات مثلًا، فإذن يوجد اليوم ستة مليارات خالق مستقل، وهذا يستلزم الشرك في التوحيد الأفعالي الذي رام المجبرة منه هرباً، فوقعوا في خلل العدل الإلهي الذي رغبت المفوضة في الحفاظ عليه، فوقعت في الشرك الأفعالي!

ص: 204

فكلاهما سقطوا في ما هو محذور الثاني، لأنهما وقفا على طرفي النقيض، وهذا واضح البطلان.

الدليل الثاني:

أن أهم خصائص الممكن، التي تميزه عن الواجب، هي: أن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثاً وبقاءً ومفتقرٌ وغير مستقل لا في أصل وجوده ولا في استمرار وجوده، فقوام الممكن هو الافتقار إلى الواجب، والقول بأن الإنسان مستقل في أفعاله خلاف خصوصية الممكن.

وهذا الدليل يمكن عدُّه تعبيرًا آخر عن الدليل الأول أو لازمًا له.

الدليل الثالث:

أن هناك آيات قرآنية تدل بوضوح على أن أفعال الإنسان لها نحو ارتباط بالله تعالى، وأن الإنسان ليس فاعلاً مستقلاً، بل هو محتاج إلى الإذن الإلهي في كل أفعاله، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾(1)

فهذه الآية تقول بأن الناس فقراء إلى الله تعالى مطلقاً، فيشمل الإطلاق حتى في أفعالهم.

وقوله(عزوجل): ﴿وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾.(2)

وقوله عز من قائل: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾.(3)

وقوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ﴾.(4)

ص: 205


1- فاطر 15.
2- البقرة 102.
3- البقرة 249.
4- البقرة 251.

وغيرها من الآيات التي تشير وتصرح بوضوح أن الإنسان غير مستقل في أفعاله، بل هناك نحو ارتباط بالله(عزوجل).

هذا نحو الارتباط هو ما لم يفهمه المجبرة ولا المفوضة، وإنما الذي وضحه هم أهلُ البيت(علیهم السّلام).

وقد نهى أهل البيت(علیهم السّلام) عن كل من الجبر والتفويض، وبيّنوا بعض لوازمهما الباطلة، من قبيل ما روي عن أبي حمزة الثمالي أنه قال : قال أبو جعفر الإمام الباقر(علیه السّلام) للحسن البصري: «إياك أن تقول بالتفويض، فإن الله(عزوجل) لم يفوض الأمر إلى خلقه وهناً منه ولا ضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً».(1)

ففي هذه الرواية إشارة واضحة من الإمام الباقر(علیه السّلام) على أن القول بالتفويض يؤدي إلى إن الله تعالى غير قادر على الهيمنة على الإنسان، وهذا يستلزم نسبة الضعف والوهن إليه سبحانه، وأما الجبر فيستلزم نسبة الظلم الى الله(عزوجل).

ومنه يتضح: أن الاعتقاد الصحيح هو فقط الاعتقاد بأنه (لا جبر ولا تفويض، إنما هو أمر بين أمرين) وهو ما يعتقد به أهل البيت(علیهم السّلام)..

المذهب الثالث: الأمر بين الأمرين.

ولتوضيحه نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: خلاصة نظرية الأمر بين الأمرين.

إن الأمر بين الأمرين يعني: الاعتقاد بأن الله تعالى لم يجبر عباده على أفعالهم -وهذا معنى لا جبر- ولم يفوض إليهم الأمر تماماً -وهذا معنى لا تفويض، فهم غير مستقلين

ص: 206


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج5 ص 17.

بأفعالهم- وإنما منَحَهم القدرة على الفعل، وترك لهم الاختيار في أن يفعلوا أو لا يفعلوا، مع قدرته على جعلهم يفعلون أو يتركون.

ومنه يتبين أن هذه النظيرة ترتكز على عدة ركائز:

الركيزة الأولى: أن الله تعالى أعطى للعبد القدرة على الفعل أو الترك، يعني أن العبد يفعل فعله بإقدار من الله، وفيها خالَفْنا المجبرة.

الركيزة الثانية: أن إعطاء القدرة للعبد على الفعل وعدمه لا يعني أن الله غير قادر على سلب تلك القدرة، وفيها خالَفْنا المفوضة.

الركيزة الثالثة: أن الله تعالى رغم قدرته على أن يسلب الاختيار من العبد، لكنه جل وعلا لم يفعل ذلك، وإنما ترك الخيار والاختيار للعبد، وبعبارة مختصرة: «أن الله تعالى أجبر العباد على الاختيار» فالعبد مجبور على أن يكون مختاراً، هكذا أراد الله تعالى، فهو ليس مجبوراً على هذا الفعل دون ذاك، أو على ترك هذا الفعل دون ذاك، إنما هو مجبور على اختيار أي فعلٍ يريد وترك أي فعل يشاء، فليس بيده أن لا يكون مختارًا.

فنظام الإنسان قائم على نظام الاختيار، ولذا فإنه إذا كان غير مختارٍ يسقط التكليف عنه؛ لذا كان العاجز غير مكلّفٍ؛ لأنه ليس بمختار، وكذا الميت كما تقدم في شروط التكليف.

وهذا الجبر على الاختيار لا ينافي الاختيار كما هو واضح، وهذا معنى (لا جبر).

أما معنى (لا تفويض) فيعني: أن الله تعالى قد زوّد الإنسان بالقدرة على الفعل والترك ابتداءً واستمراراً، ومثله في ذلك كمثل الطاقة الكهربائية بالنسبة للمصباح، إذ إنها هي التي تمنح المصباح القدرة على الإضاءة منذ بدء إضاءته وطيلة مدة إضاءته،

ص: 207

فإن توقف سريانها إليه ولو لجزء من الثانية فإنه ينطفئ فوراً، وعليه فالله قادرٌ على جبر الإنسان كقدرته على ظلمه، ولكنه لا يفعل، لأن وجود الإنسان في دنيا الاختبار يقتضي منه ذلك، أي يقتضي إعطاء الخيار بيد الإنسان، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(1)

الخطوة الثانية: مثالان توضيحيان:

ولمزيدٍ من التوضيح لفكرة الأمر بين الأمرين نذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: ذكره السيد الخوئي(رحمه الله علیه).

(لنفرض إنسانًا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلًا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلًا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمده بالقوة في كل آن - فلا شبهة في أن تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلًا، لأنه موقوف على إيصال القوة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلًا، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد، ولم يفوض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأن المدد من غيره، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع. فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئًا إلا بمشيئة الله).(2)

ص: 208


1- الملك 2.
2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئيv ص 88.

وبالعودة إلى الاعتقاد بالقضاء والقدر نقول: إن الله(عزوجل) وإن منح الإنسان القدرة على فعل الأفعال وتركها، إلا أنه لم يجبره على أن يفعل فعلًا بعينه أو يترك فعلًا بذاته، وكون الإنسان مختارًا في ذلك ينفي الجبر، وفي الوقت نفسه فإنه جل وعلا بإمكانه متى ما شاء أن يقطع فيض القدرة عن الإنسان أو يمنعه من فعل أو ترك، مما يعني أن لا تفويض تام.

المثال الثاني: ما نُسب إلى الشيخ المفيد(1)،

وحاصله:

نفترض أن مولى من الموالي العرفيين يختار عبدًا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمى.

فإن قلنا: إن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى، وملكه ما ملك، فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا: إن المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه، جعله مالكًا وانعزل هو عن المالكية، وكان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، وقلنا: إن للمولى مقامه في المولوية، وللعبد مقامه في الرقية، وإن العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت(علیهم السّلام) وقام عليه البرهان...

ص: 209


1- الإلهيات ج2 ص 348 – 349.. وانظر: الميزان للسيد الطباطبائي ج1 ص 100.

الخطوة الثالثة: نصوص دينية تؤيد نظرية الأمر بين الأمرين.

اشارة

هناك عدة روايات تشير إلى هذا المعنى في هذا المثال، ومنها ما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): عن الله أروي حديثي: «أن الله تبارك وتعالى يقول : يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني وعافيتي أديت إليّ فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني».(1)

أي إنّ الله(عزوجل) أجبره على الإرادة والاختيار.

وهناك آيات قرآنية تشير إلى هذا المعنى منها قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمىٰ﴾(2) أي إن الله قتلهم بأيديكم، والذي رمى هو النبيs، لكن الرمي أيضاً هو منسوب إلى الله تعالى.

ومنها أيضاً قوله تعالى: ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾(3)

إشارات:

الإشارة الأولى: رجوع بعض أهل السنة إلى نظرية الأمر بين الأمرين.

إنّ كثيراً من أهل السنة بعد ما رأوا بطلان مذهب الجبر جملة وتفصيلاً، لم يجدوا بداً من الرجوع الى المبدأ الذي ذكره أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا ما هم عليه الآن في كتاباتهم، إذ إنهم يقولون بمذهب الأمر بين الأمرين، ولكن يتعمدون او يغفلون إسناده إلى من رفع لواءه وقال به ودافع عنه، وهم أهل البيت(علیهم السّلام). ويسندون

ص: 210


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 344 ح 13.
2- الأنفال 17.
3- التوبة 14.

القول فيه إلى (أهل العلم) وعند ذكره يقولون: هذا مذهب أهل العلم. وإليك أخي القارئ بعضٌ من كلماتهم:

1/فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير المعروف قال ما نصه: «الحق ما قال بعض أئمة الدين: أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين».(1)

2/الشيخ محمد عبده وهو أحد شيوخ الأزهر قال ما نصه: «إن القول بالجبر قول طائفة ضئيلة انقرضت وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجد والعمل(2)».

3/ ذكر سلمان العودة وهو كاتب سعودي في شرح أسماء الله(عزوجل)في شرح اسم القاهر والقهار قال: «فهو القاهر سبحانه لعباده، فلا وجود لهم ولا حركة إلا بإذنه؛ لأنه ربهم ومليكهم وخالقهم ولا حجة بذلك للعباد، فلا يحتج أحد بالقدر وأنه مقهور على فعل الذنوب والمعاصي؛ لأنا نقول: وإن كان الله تعالى هو القاهر وهو القهار وهو الخالق للخلق وما يعملون، إلا أن كل عبد يدرك بالضرورة أنه يفعل ما يفعل باختياره ويترك ما يترك باختياره(3)، فإن هذه الضرورة التي يشعر بها الإنسان وهو يهم بأن يقوم بكل عمل ما، كأن ينوي السفر أو الاقامة أو الأكل أو النوم يؤديها وهو يشعر بأنه يؤديها بمحض اختياره وإرادته ورغبته، وأن له الخيار أن يفعل هذا الشيء أو لا يفعله..».(4)

ص: 211


1- نقله التفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام ج2 ص142 كما نقله الشيخ جعفر سبحاني في الالهيات ج2ص360.
2- نقلاً عن رسالة هل نحن مسيرون أم مخيرون ص11.
3- وهذا إشارة إلى دليل الوجدان الي يبطل الجبر، وقد تقدم.
4- مع الله، لسلمان العودة- ص 107 الطبعة السابعة صفر 1433ه_/ مؤسسة الإسلام اليوم.

الإشارة الثانية: ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر تعبّداً.

أن فهم القضاء والقدر وإن كان صعباً على الأفهام، ولكن المطلوب منا أن نؤمن به ولو تعبداً.

والتعبد يعني أن شيئًا أمَرنا به الدين أو أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ونحن لا نعرف الحكمة به، فيكون المطلوب منا أن نؤمن به من باب أنه جاء في الدين وبالدليل القطعي وإن لم نفهم معناه.

والروايات أكدت هذا الجانب. كما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال:

«...ولو أنفقت جبل أحد ذهبًا في سبيل الله(عزوجل) ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مِتَّ على غير ذلك لدخلت النار..».(1)

فاذا نحن مأمورون بالإيمان بالقضاء والقدر بهذا المعنى.

الإشارة الثالثة: حث الروايات على عدم الخوض كثيراً في القضاء والقدر.

أن القضاء والقدر حيث إن فهمهما صعب، فقد وردت الروايات عن أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) بعدم الخوض كثيراً في هذه المسألة، إلا لمن كان عنده مقدمات علمية ويمتلك القابلية الذهنية والفكرية اللازمة لفهم هذه الحقيقة الصعبة، لذلك ورد عن أمير المؤمنين8 - وسُئِلَ عَنِ القَدَرِ - فَقَالَ: «طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلَا تَسْلُكُوه، وبَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلِجُوه، وسِرُّ الله فَلَا تَتَكَلَّفُوه».(2)

وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنه قال في القدر: «ألا إن القدر سرٌّ من سر الله، وستر من ستر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم

ص: 212


1- مسند أحمد بن حنبل ج5 ص 182 – 183.
2- نهج البلاغة ج4 ص 69 الحكمة رقم (287).

بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله العباد عن علمه ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا بقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية، لأنه بحر زاخر خالص لله تعالى، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس...»(1)

الخلاصة:

نحن مأمورون بالإيمان بالقضاء والقدر، وأننا نعيش وفق الأمر بين الأمرين.

فإن فهمنا هذا الأمر فبها ونعمت، وهذا يحتاج إلى مقدمات علمية وتدقيق وتأمل.

وإن لم نفهمه فيجب أن نؤمن به تعبداً، ومن لم تكن له القدرة العقلية في الخوض في هذه المسائل فالأفضل أن يكتفي بالتعبد قائلاً: أنا أرى نفسي مختاراً في أعمالي، والله(عزوجل) لا يجبرني، لأنه لا يظلم وأنا لا أخرج عن سلطته وقدرته، وهذا المعنى يكفي.

ومن الجدير بالذكر أن بحث القضاء والقدر عادة يترجم بالجبر والتفويض، وقد يعبر عنه بالمصير، أي إنه يُسأل فيه عن مصير الإنسان وأنه بيده أو بيد غيره.

ص: 213


1- التوحيد للشيخ الصدوق 2 383 – 384.

ص: 214

عقيدتنا في البداء

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في البداء:

البداء في الإنسان: أن يبدو له رأيٌ في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله(عزوجل)؛ لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادق(علیه السّلام): «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافرٌ بالله العظيم»، وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيءٍ ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهار(علیهم السّلام) رواياتٌ توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق(علیه السّلام): «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني» ولذلك نَسبَ بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله(عزوجل) في محكم كتابه المجيد: ﴿يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾

ص: 215

ومعنى ذلك: أنّه(عزوجل) قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنّه يذبحه.

فيكون معنى قول الإمام(علیه السّلام): أنّه ما ظهر لله (سبحانه) أمر في شيءٍ كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لأنّه أكبر ولده.

وقريبٌ من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّنا(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)». انتهى.

إنّ بحث البداء من البحوث العقائدية المهمة، وله ارتباطٌ وثيقٌ ببحث صفة العلم من جهة، وببحث القضاء والقدر من جهةٍ أخرى؛ لذا يصح ذكره بعد هذا أو ذاك. ولبيان البداء بشكل جلي لا بد من التطرق إلى معناه لغةً واصطلاحاً وإلى موقعه والحكمة منه وأخيراً الفرق بينه وبين النسخ، ضمن الجهات التالية:

الجهة الأولى: البداء بمعناه اللغوي.

البداء لغةً: هو الظهور بعد الخفاء، فهو يقوم على ركنين أساسيين:

الأول: ظهور أمرٍ كان خافياً أولاً، كأن تنوي أن تفعل شيئاً ما، وقبل أن تفعله يظهر لك أمر كنت تجهله، ولم تكن تعلم به سابقاً.

الثاني: ترك الأمر الأول بعد أن لم تكن عازماً على تركه، بسبب علمك بالأمر الذي كنت تجهله.

فالبداء بعبارة أخرى هو العزم على فعل أمر ثم تركه لظهور الأمر الثاني، كأن ترى

ص: 216

إنساناً من بعيد فتقرّر أن تكرمه لأنه صديقك كما تصورت، فالفعل الأول هو الإكرام. ولكن عندما تصل إليه وتقترب منه يظهر لك أنه عدوك مثلاً، فيظهر لك أمر جديد لم يكن ظاهراً لك منذ البداية، وهو أن القادم عدوك، فيؤثر في عزمك ويتسبب في تركك الأمر الأول الذي كان لديك عزمٌ على فعله، وهو إكرامه، إلى عزم آخر وهو عدم إكرامه.

وبلا أدنى شك أن البداء بهذا المعنى لا يمكن أن ينطبق على الله تعالى؛ إذ لا أمر يخفى عليه البتة ليظهر ويبدو له فيما بعد، والذي ينسب البداء إليه سبحانه بالمعنى المتقدم إنما هو بقوة الكافر؛ لأنه ينسب الجهل والنقص والندامة لله(عزوجل)، فأما الجهل فلأنه ظهر له أمر لم يكن عالماً به منذ البداية، وأما الندامة فلأن تركه الأمر الاول بعد عزمه عليه لظهور أمر جديد إنما يعني أنه ندم على قراره الأول فتركه.

وهذا المعنى لا يقول به مسلم في الله(عزوجل)؛ لذا ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) حديثين في هذا المجال عن الامام الصادق(علیه السّلام): «من زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(1)

وفيه إشارة إلى الركن الثاني من البداء بالمعنى المتقدم.

وذكر رواية أخرى قال: «من زعم ان الله بدا له في شيء لم يعلمه امس فابرأ منه»(2)

وفيه إشارة إلى الركن الأول.

وبالتالي فليس من الصحيح نسبة البداء إليه جل جلاله بالمعنى اللغوي، وإنما عُبِر عنه بالبداء مجازاً من باب المشاكلة في التسمية، كما عبّر الله جل شأنه عن نفسه بأنه يمكر

ص: 217


1- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 41.
2- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 41.

في قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾(1)

الجهة الثانية: البداء بمعناه الاصطلاحي.

تقدّم أن البداء بمعناه اللغوي لا تصح نسبته إلى الله(عزوجل)، مما يعني أن للبداء معنىً آخر، وهو الذي ننسبه إلى الباري جل وعلا، وهو في حقيقة الأمر بمعنى إبداء، أي الإظهار المسبوق بالعلم.

لتوضيح الفرق بين البداء والإبداء نذكر مثالًا:

لو رغبت أن تُكني عن جمال امرأة فقلت: هي كالقمر. ثم التفتَّ لتجدَ أن الشمس أجمل من القمر فقلت: بل هي كالشمس. هنا إذا لم يكن لديك علمٌ بأنك ستترقى من القمر إلى الشمس بل كنت من البداية تريد أن تصفها فقط بالقمر، معتقداً أن أجمل شيء توصف به المرأة هو القمر، فقلت: هي كالقمر، ثم بدا وظهر لك أن الشمس أجمل من القمر، فقلت: هي كالشمس، فهذا بداء بالمعنى اللغوي.

ولكن قد تكون منذ البداية عالماً بأن الشمس أجمل من القمر، لكن كنت تريد -لهدف من الأهداف أو لحكمة من الحكم- أن تصفها أولاً بالقمر ثم تلغي هذا الوصف وتنتقل إلى وصف آخر، فتقول: هي كالقمر بل هي كالشمس، فهذا إبداء، وهو أنك أظهرت شيئاً كنت تعلمه منذ البداية لكن أخفيته في البداية ثم أظهرته في الوقت الذي تجده مناسباً للإظهار، وهذا ما نقوله في الله(عزوجل) وهو: أنه تبارك وتعالى أظهر أمراً ثم أظهر أمراً آخر وقد سبق في علمه بأنه سيلغي الأمر الأول ويمحوه ويثبت الثاني.

ص: 218


1- الأنفال 30.

ركائز البداء

اشارة

ويستند بداء الله تعالى -والذي هو في حقيقته إبداء كما تقدّم- على ركائز ثلاثة -وهي من الأصول الموضوعية في بحث البداء وتم إثباتها في مباحث سابقة وتم الاستدلال عليها- وهي:

الركيزة الأولى: السلطة المطلقة لله(عزوجل) والقدرة غير المحدودة.

بحيث يمكنه(عزوجل) أن يفعل ما يشاء ويغيّر ما يشاء من أمر المخلوقات وتقديراتها.

وهذا أصل ثابت في بحث صفة القدرة، وهو أن الله على كل شيء قدير، وطالما هو كذلك فهو يملك أن يغيّر هذا التقدير والأمر التكويني، فيترك أمراً ويُظهِر أمراً جديداً، أي هو ترجمة عملية لقدرة الله(عزوجل).

الركيزة الثانية: أنّ الله تعالى حكيم.

فلا يغير تقديراً ما إلا لحكمةٍ ومصلحةٍ واقعيةٍ، فلا يفعل شيئًا عبثًا ولا جاهلًا بالعبث ولا مضطرًا إليه، فإذا علمنا ذلك لا يهم بعدئذٍ أن لا نعرف ما هي الحكمة أو المصلحة؛ لأن الحكيم لا يسأل عما يفعل.

الركيزة الثالثة: العلم الإلهي المطلق.

وأن هذا التغيير جاء عن علم مسبق منه جل وعلا، غير مسبوق بجهل.

الجهة الثالثة: أين يقع البداء، وأقسام القضاء والقدر.

تقدّم أن البداء يرتبط ببحث العلم من جهةٍ، وببحث القضاء والقدر من جهةٍ اخرى؛ لذا يصح بحثه بعد أيٍ منهما.

وبما أن الشيخ المظفر (طيّب الله ثراه) قد أدرجه بعد بحث القضاء والقدر؛ لذا

ص: 219

سنبين موقعه بالنسبة إلى هذا البحث فنقول:

ينقسم القضاء إلى ثلاثة أقسام هي:

القسم الأول: قضاء لم يطلع عليه أحد إلا الله(عزوجل)، وهو علم الله تعالى المخزون في اللوح المحفوظ.

وهذا القسم لا يمكن أن يحصل فيه بداء.

القسم الثاني: قضاء أخبر الله تعالى به بعض مخلوقاته، كالأنبياء والرسل والملائكة، وأخبَرهم أيضاً بأنه واقع لا محالة.

وهذا لا يقع فيه البداء أيضاً، مثاله ظهور الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف). فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا(علیه السّلام)، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1).

فأمر القائم أمر مستقبلي أخبر الله تعالى أنبياءه ورسله، وأخبر بأنه واقع لا محالة؛ لأنه من الميعاد، فهذا لا يقع فيه البداء.

القسم الثالث: قضاءٌ أخبر الله بعض أنبيائه ورسله، وأخبرهم بأنه معلّق على مشيئته، أي إنْ شاء أمضاه وإنْ شاء ألغاه وفق شروط خاصة.

وهذا القضاء هو الذي يقع فيه البداء. كما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ! فَقَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): عَلَيْكَ. فَقَالَ أَصْحَابُه: إِنَّمَا سَلَّمَ

ص: 220


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).

عَلَيْكَ بِالمَوْتِ، قَالَ: المَوْتُ عَلَيْكَ! قَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم): وكَذَلِكَ رَدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم): إِنَّ هَذَا اليَهُودِيَّ يَعَضُّه أَسْوَدُ فِي قَفَاه فَيَقْتُلُه.

قَالَ: فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ فَاحْتَطَبَ حَطَباً كَثِيراً فَاحْتَمَلَه، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَه رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ضَعْه. فَوَضَعَ الحَطَب، فَإِذَا أَسْوَدُ فِي جَوْفِ الحَطَبِ عَاضٌّ عَلَى عُودٍ! فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ، مَا عَمِلْتَ اليَوْمَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً إِلَّا حَطَبِي هَذَا احْتَمَلْتُه فَجِئْتُ بِه، وكَانَ مَعِي كَعْكَتَانِ [أي خبزتان] فَأَكَلْتُ وَاحِدَةً وتَصَدَّقْتُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): بِهَا دَفَعَ الله عَنْه. وقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ عَنِ الإِنْسَانِ».(1)

فقد محى الله(عزوجل) التقدير الأول -وهو موت اليهودي- وأثبت التقدير الثاني -وهو عدم موته-، ومدّ في حياته التقدير الثاني بسبب الصدقة التي تصدّق بها على المسكين.

وكلا التقديرين داخل في علم الله تعالى؛ لأنه يعلم بالعلل التامة، أي إنه سبحانه يعلم أن التقدير الأول هو موت اليهودي بسبب ما قال للرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) فيما لو لم يمنع مانع من وقوع الموت، ولكنه كان عالماً أيضاً بأنه سيتصدق، والصدقة تطيل العمر، فهي من موانع تقدير الموت؛ ولذا كان عالماً أيضاً بالتقدير الثاني، وعليه فإن الأمر قد يبدو بداءً بالنسبة لنا نحن العبيد، أما بالنسبة إليه سبحانه فلا بداء، بل هو إبداءٌ أي إظهارٌ لما كان يعلمه سابقاً لنا بهيأة حوادث على أرض الواقع.

الجهة الرابعة: ما المصلحة من البداء؟

اشارة

أو لماذا الله(عزوجل) يجعل هناك تقديرات معلقة ومشروطة؟

ذكر العلماء (رضوان الله عليهم) أنّ في البداء عدة مصالح، نذكر منها اثنتين:

ص: 221


1- الكافي للكليني ج4 ص 5 بَابُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ البَلَاءَ ح3.

الأولى: البداء يولّد الأمل في النفوس.

فإذا علم الإنسان أنّ كل شيء قابل للتغيير، إذن يمكن أن يُصبح الفقير غنياً، والجاهل عالماً، ومن الممكن أن يغدو الحزن فرحاً والألم راحةً ويعقب المرضَ صحةٌ والعسرَ يسرٌ، وحينها فإنه لن ييأس، وسيبذل جهده ساعياً لبلوغ ذلك التغيير.

الثانية: البداء من أقوى الدوافع نحو التوبة.

فإنه إنْ علم الإنسان أنه مهما فعل من ذنوب ومهما كتبت الملائكة عليه من سيئات، فإن الله تعالى من الممكن أن يمحوها بل يبدلها حسنات فيما لو تاب توبة صادقة، فإن هذا سيولّد لديه الدافع نحو التوبة، على حين أن عدم الاعتقاد به يولّد القنوط من رحمة الله، بل قد يؤدي إلى التمادي في المعاصي أيضاً؛ إذ إن العاصي لو اعتقد أنْ لا سبيل إلى محو الذنوب؛ لأن الصحف جفت والأقلام رُفعت، فإنه سيصيبه اليأس لا محالة، وقد يدفعه ذلك إلى ارتكاب المزيد من المعاصي.

استطراد:

نظير هذه الفكرة هي التي يجب أن نبثها في الناس في قضية الامام المهدي(علیه السّلام)، فإن البعض من الناس يتصور أن الامام إذا ظهر فسيغلق باب التوبة، وهو ليس بصحيح؛ للروايات المتكاثرة على أن الامام(علیه السّلام) سيفتح باب التوبة على مصراعيه...

وبدليل إرساله النفس الزكية لأهل مكة، فإن لم يكن هناك باب للتوبة لكان من الممكن أن يظهر مباشرة ويقتل النواصب...

ثم إنه وما الجدوى من جلوسه مع اليهود والنصارى ومناقشتهم بالتوراة والانجيل لإقناعهم بالدليل العلمي. أوليس هذا مؤشرًا على دليل قبول التوبة؟

ص: 222

وما الجدوى من بعث بعض رجاله الى مدينة القسطنطينية مثلاً؟ وفي الرواية أنهم يمشون على الماء وأهل القسطنطينية يفتحون أبوابهم سلمًا وجنود الامام لا يقتلونهم ولا يقاتلونهم، فهذا أيضاً مؤشر على قبول التوبة.

فعن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه(علیهم السّلام)، قال: «إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كلّ إقليم رجلاً، يقول: عهدك في كفّك، فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه فانظر إلىٰ كفّك واعمل بما فيها»، قال: «ويبعث جنداً إلىٰ القسطنطينية، فإذا بلغوا الخليج كتبوا علىٰ أقدامهم شيئاً ومشوا علىٰ الماء، فإذا نظر إليهم الروم يمشون علىٰ الماء قالوا: هؤلاء أصحابه يمشون علىٰ الماء، فكيف هو؟! فعند ذلك يفتحون لهم أبواب المدينة، فيدخلونها فيحكمون فيها ما يريدون»(1).

مثل هذه المعاني يجب أن نزرّقها للناس؛ لئلا يتولد عندهم إحساس داخلي بكراهة الامام المهدي(علیه السّلام).

الجهة الخامسة: ما الفرق بين النسخ والبداء؟

يحسن بنا قبل التطرق إلى الفرق بين النسخ والبداء أن نبين بإيجاز معنى كل منهما، وقد تقدم بيان معنى البداء فنقتصر على بيان النسخ.

النسخ لغة: هو الاستكتاب، كالاستنساخ عندما تنسخ الكتاب على دفترك، ويأتي أيضاً بمعنى النقل والتحويل والإزالة، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ يعني أزالتْه.

وأما اصطلاحاً: فهو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة لانتهاء أمده وزمانه.

أي هو حكم شرعي صدر من الله(عزوجل) ثم أُلغيَ -إلغاءً كلياً أو جزئياً-؛ لانتهاء

ص: 223


1- الغيبة للنعماني: 334 و335/ باب 21/ ح 8.

المصلحة المترتبة على تشريعه، نحو ما قيل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾(1).

وفيها حكَم الله تعالى بوجوب تقديم صدقة على كل من يريد أن يناجي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتذكر الروايات أنه لم يمتثل لهذا الحكم سوى أمير المؤمنين(علیه السّلام)، حيث اقترض ديناراً وصرّفه عشرة دراهم، وسأل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عشرة مسائل. وبعد أن انتهى وقت هذا التكليف نُسخ الحكم وأُلغي.(2)

ما الفرق بين النسخ والبداء؟

أما وجه الاتفاق بينهما فإنهما يعنيان إلغاء ما كان ثابتاً عن علم مسبق من الله تعالى وحكمة ومصلحة إلهية.

ويختلفان في:

أولاً: أن البداء متفقٌ على إمكانه ووقوعه، على حين أن النسخ اختلف في إمكانه، ومن قال بالإمكان اختلف في وقوعه، أي إنه ممكن ولكن هل وقع في شريعتنا أو لا.

ثانياً: أن البداء يتعلق بالأمور التكوينية عادة والحوادث الخارجية، مثلًا الموت، وإنزال العذاب أو تقدير العمر وما شابه، أما النسخ فيتعلق بالأحكام التشريعية -الوضعية منها والتكليفية- أي وظائف المكلفين.

ص: 224


1- المجادلة 12.
2- في الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) للقرطبي ج17 ص 302 ما نصه: ذكر القشيري وغيره عن علي بن أبن طالب أنه قال: «في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾». وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

ثالثاً: البداء عادة ما يُبحث في علم الكلام، أما النسخ فيُبحث في أصول الفقه. وقد يبحث الاثنان في علوم القرآن.

توضيح:

ذكر الشيخ المظفر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)

(رحمه الله علیه) رواية عن الامام الصادق(علیه السّلام) قال: «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(1)

هنا توجد روايتان في هذا المجال، ففي رواية التوحيد الأولى للشيخ الصدوق ورد «في إسماعيل ابني» يعني إسماعيل الابن الأكبر للإمام الصادق(علیه السّلام) وهو أكبر من الإمام الكاظم(علیه السّلام)، وكان رجلًا صالحًا، فكان بعض المؤمنين يتصور أنه هو الذي سيكون إماماً بعد أبيه(علیه السّلام)، فتوفاه الله تعالى في حياة أبيه(علیه السّلام) فظهر للناس أنه ليس هو الإمام بل هو الإمام الكاظم(علیه السّلام).

ولعل الشيخ (طيب الله ثراه) يقصد الرواية الثانية التي رواها الصدوق أيضًا، وهي «ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل أبي، إذا أمر أباه إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم»(2)،

فيكون حينئذٍ الكلام عن النبي إسماعيل(علیه السّلام) وكيف أن الله سبحانه أمر أباه إبراهيم(علیه السّلام) بذبحه اختبارًا، وعندما نجح في الاختبار أُلغي ذلك الأمر.

ص: 225


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 336 ح10.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 336 ح11.

ص: 226

عقيدتنا في أحكام الدين

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه، وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعةٍ حكمٌ، ولا يخلو شيءٌ من الأشياء من حكمٍ واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه. ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله(عزوجل) عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان، وهذا قولٌ مخالفٌ للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله(عزوجل) القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفةٌ عظيمةٌ، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه (سبحانه)، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه(عزوجل) لا مصلحة له ولا منفعة في

ص: 227

تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده». انتهى.

قد تقدم الحديث عن أغلب ما ذكره الشيخ المظفر(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة، خصوصًا في مباحث العدل وحسن التكليف والقضاء والقدر؛ لذا فما ذكره هنا هو أشبه ما يكون بفهرسة عامة لما ذكره سابقًا. وللإحاطة بهذا المبحث أكثر، يحسن بنا بيان عدة نقاط:

النقطة الأولى: أن لله تعالى حكماً في كل واقعة.

يعتقد الإمامية أن لله تعالى حكمًا في كل واقعة. سواء كان وضعيًا من قبيل الصحة والبطلان، كصحة عقد الزواج فيما لو اشتمل على شروط الصحة، وبطلان عقد الربا، أو تكليفيًا كالحكم بالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة، فإن الدين الإلهي جاء ليسد جميع الفراغات وفي شتى مجالات الحياة الإنسانية، وفي مختلف علاقات الإنسان، سواء علاقة الإنسان بنفسه أو بالإنسان الآخر مثله أو بربه جل وعلا.

النقطة الثانية: استناد الأحكام إلى المصالح والمفاسد الواقعية.

نعتقد أن ملاك تشريع الأحكام التكليفية هو مدى موافقتها لمصلحة أو مفسدة واقعية.

والمصلحة قد تكون ملزِمة، يعني: شديدة، بحيث لا تقبل الترك، فيشرع على أساسها حكم واجب.

وإن كانت المصلحة ليست بتلك الشدة، فيشرع على وفقها حكم مستحب.

وإن كانت المفسدة شديدة جدًا تمنع من الفعل، فيشرع على وفقها حكم تحريمي.

ص: 228

وإن كانت غير ملزمة وليست بتلك الشدة، فيشرع على وفقها حكم كراهتي تنزيهي.

وإذا كانت المصلحة والمفسدة متساويتين، لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فهو المباح.

وتسمى الأحكام الواجبة والأحكام التحريمية بالأحكام الإلزامية، أي التي لابد من الالتزام بها.

فيما يسمى سواهما بالأحكام غير الالزامية وهي (المستحب والمكروه والمباح).

النقطة الثالثة: عدم التكليف بمعرفة العلل الواقعية للأحكام.

تمثل المصالح والمفاسد الواقعية التي تبتني عليها الأحكام التكليفية عللًا تامة لها، وهي عللٌ لسنا مكلفين بمعرفتها، بل قد نكون عاجزين عن معرفتها أيضًا.

نعم، قد نستكشف من خلال بعض الروايات الشريفة بعض الحكم الداعية إلى تشريع تلك الاحكام، والحكمة غير العلة؛ فالحكمة يمكن أن توضّح الدافع نحو الفعل، أو الثمرة المترتبة عليه، وما يمكن أن يستفاد من هذا الحكم، على حين أن العلة هي السبب الرئيسي لتشريع الحكم، بحيث متى ما انتفت انتفى الحكم من رأس.

ومنه يتضح أن تسمية الشيخ الصدوق لكتابه باسم: (علل الشرائع) لم يكن قاصدًا بها العلل الحقيقية، بل يقصد ما استفاده من الروايات الشريفة من حِكَمٍ وثمرات تترتب على تشريع الأحكام الشرعية.

وللمزيد من توضيح الفرق بين العلة التامة والحكمة نقول:

إن واحدة من ثمرات تشريع الصوم وحِكَمِه هو أن يشعر الغني بجوع الفقير،

ص: 229

فيتولد لديه الحافز لإعطاء الفقير من ماله، فلو فرضنا أن الناس كلهم أصبحوا أغنياء، فإن حكم وجوب الصوم لا يسقط، فلو كانت علة الصوم ما تقدم، للزم أن يسقط الحكم بانتفائها؛ لأن الحكم يدور مدار العلة ثبوتًا وانتفاءً، فإذا انتفت العلة فإنه ينتفي المعلول.

وكذا بالنسبة لتشريع الخمس والزكاة، فإن الحكمة منه -لا علته التامة- هي اختبار الإنسان وتعويده على القناعة وعدم الطمع وإغناء الفقير. والدليل: أن الناس لو أصبحوا بأجمعهم قنوعين أو أغنياء، فإن حكم وجوب الخمس أو الزكاة لا يسقط. كما تذكر الروايات الشريفة وقوع ذلك في دولة الامام المهدي(علیه السّلام). إذ يصبح جميع الناس أغنياء، ولكن مع ذلك فإن حكم وجوب الخمس والزكاة لا يسقط، فيخرج المكلف زكاته ويبحث عن مستحق فلا يجد(1)، ولو كان اختبار المكلف وإغناء الفقير هي العلة التامة للحكم لوجب ارتفاعه بارتفاعهما.

النقطة الرابعة: انحصار استكشاف الحكم الشرعي بالمصادر الشرعية.

إن الطريق لمعرفة الاحكام الشرعية هو بالرجوع الى مصادر التشريع في الشريعة الاسلامية وهي (القرآن الكريم وسنة المعصومين الرسول الأكرم وأهل البيت(علیهم السّلام) الشاملة لأقوالهم وأفعالهم وتقريرهم، والإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، والعقل بالنسبة للقضايا العقلية التي يصح أن تكون موضوعًا (حدًا أوسط) للحكم الشرعي

ص: 230


1- روى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) يقول: «إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها، واستغنى الناس عن ضوء الشمس، وذهبت الظلمة، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له ألف ذكر لا يولد فيهم أنثى، وتظهر الأرض كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ منه زكاته فلا يجد أحدًا يقبل منه ذلك، استغنى الناس بما زرقهم الله من فضله» الإرشاد للشيخ المفيد ص 381.

وللكشف عنه).

النقطة الخامسة: تقسيم الأحكام الشرعية.

اشارة

تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين:

الأول: الأحكام الواقعية:

وهي ما نجزم يقينًا بأنها الأحكام المطلوبة منا بأمر الله(عزوجل)، كأصل وجوب الصوم والصلاة والحج، وحرمة النميمة والغيبة والفاحشة، وهي ما تسمى بالضروريات.

الثاني: الأحكام الظاهرية:

وهي الأحكام التي لا نعلم يقينًا بأنها مطلوبة منا شرعًا، يعني قد نواجه واقعة لا نملك دليلًا قطعيًا يوصلنا إلى حكمها الواقعي من جهةٍ، يعني لا نتمكن من الوصول إلى حكمها الواقعي عند الله تعالى، ومن جهةٍ أخرى لا بد أن يكون لهذه الواقعة حكمٌ، هنا الشارع فتح لنا باب الأحكام الظاهرية التي تستفاد من الأمارات (كخبر الثقة، إذ الثقة لا يتعمد الخطأ، لكن من الممكن أن يخطئ أو ينسى، ومع هذا أجاز الشارع الأخذ بالأحكام منه).

والأصول العملية، كأصل الطهارة أو أصل الصحة أو أصل الاستصحاب.

فمثلا لو كنتَ ماشيًا وسقط عليك ماء من إحدى الشقق، فبالرغم من أنك لا تعلم أن هذا الماء طاهر أو نجس، إلا أن الشارع أجاز لك أن تجري أصل أو قاعدة الطهارة وهي: كل شيءٍ لك طاهر حتى تعلم بنجاسته.

وكذا لو كان لديك ماء طاهر في إناء غفلت عنه آنًا ما، فوجدت إلى جانبه كلبًا واحتملت أنه شرب منه فتنجس، فبالرغم من أن الكلب قد يكون ولغ في الماء، إلا

ص: 231

أن بإمكانك إجراء قاعدة الاستصحاب (الشك لا ينقض اليقين أو اليقين لا ينتقض إلا بمثله، أو أبقِ ما كان على ما كان، إلى أن يصلك يقين بخلافه)، فتستصحب طهارته.

علمًا أن الأحكام الواقعية قليلة بالقياس إلى الأحكام الظاهرية.

النقطة السادسة: علاقة الحكم الظاهري بالواقع.

الاحكام الظاهرية قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه.

وللمزيد من التوضيح لا بد من بيان أمرين:

الأمر الأول: ما هو موقع الاجتهاد (عند الشيعة) من مصادر التشريع؟

لبيان موقع الاجتهاد يحسن بنا بيان معناه.

اصطلاح الاجتهاد يطلق على معنيين:

المعنى الاول: الاجتهاد بالرأي.

أو ما هو مقابل النص، بمعنى أن الفقيه إذا لم يجد نصًا أو دليلًا على الحكم الشرعي، فإنه يُعمِل رأيه وفكره حسب ما يراه هو ويستحسنه، وإن كان ما يستحسنه على خلاف ما ثبت شرعًا، وهذا ما يقول به أصحاب مدرسة الرأي (العامة).

ومثاله أن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) حلل متعتين (متعة الحج ومتعة النساء) لكنهم حرموا متعة النساء وأحلوا الاخرى والبعض قال بحرمتهما معًا.

المعنى الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من المصادر الأصيلة للحكم الشرعي (القرآن الكريم والسنة المطهرة).

وهذا هو المراد من الاجتهاد في مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.

ص: 232

وعليه فالاجتهاد عند الامامية هي عملية استخراج الحكم الشرعي من مصادر التشريع: القرآن الكريم والسنة المطهرة، أي هو ابنٌ للنص وفي طوله وليس في عرض النص.

وهذا المعنى هو ما أشار له الإمام الصادق(علیه السّلام) فيما روي عنه أنه قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا».

وعن أبي الحسن الرضا(علیه السّلام) قال : «علينا إلقاء الأصول إليكم وعليكم التفريع».(1)

يعني أن أصل التشريع هو من القرآن والسنة، لكن المجتهد يطبّق ما جاء في القرآن والسنة ليستخرج منه أحكامًا شرعية، وعلى غرار هذا أن الإمام سئل مسألة فقال: «هذا وأشباهه يعرف من القرآن الكريم»(2).

وأما الاجتهاد عند العامة، فهو مصدر من مصادر التشريع، أي في عرضها وليس في طولها؛ ولذا كانت هذه الكلمة (الاجتهاد) محل رفض وإشكال في السابق لدى بعض المتقدمين من الفقهاء.

الأمر الثاني: التخطئة والتصويب.

هل الاجتهاد دائمًا مصيب للواقع أو ماذا؟

آراء ثلاثة:

ص: 233


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 110.
2- عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام): عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مَرَارَةً فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالوُضُوءِ؟ قَالَ(علیه السّلام): «يُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُه مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ : ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ امْسَحْ عَلَيْه بَابُ الشَّكِّ فِي الوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ». [الكافي للكليني ج3 ص 33 بَابُ الجَبَائِرِ والقُرُوحِ والجِرَاحَاتِ ح4.

الرأي الأول: للإمامية: قالوا: ما من واقعة إلا ولها حكم، بيد أن هذا الحكم تارةً قد تكون الأدلة الشرعية أوضحته بصورة جلية، فيكون حينئذٍ من الأحكام الواقعية التي نقطع بصحتها، وقد لا تكون الأدلة الشرعية قد أوضحته بصورة جلية، وإنما استنبطه الفقهاء منها استنباطًا، فيكون من الأحكام الظاهرية، وحينئذٍ لا يمكن القطع بصحتها، إذ قد يكون مطابقًا للحكم الواقعي الموجود والثابت عند الله(عزوجل)، وقد لا يكون كذلك، بمعنى أن الأحكام الظاهرية قد تصيب ذلك الحكم الواقعي وقد تخطئه فلا تصيبه، أي إن هناك حكمًا واقعيًا لكل حادثة، والأحكام الظاهرية قد تصيب ذلك الحكم الواقعي وقد تخطئه فلا تصيبه، وهذا هو معنى وصف الامامية انهم مُخَطِّئة.

الرأي الثاني: للمعتزلة: المعتزلة وافقوا الإمامية في وجود حكم واقعي، إلا أنهم اختلفوا معهم في أن كل ما يتوصل إليه المجتهد فهو صائب ومطابق للواقع وبصورة دائمية، ولهذا سُمُّوا بالمُصوِّبة، وسُمي ما قالوا به بالتصويب المعتزلي.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال، وعلى المعتزلة الاجابة عنه، مفاده:

كيف يمكن للمعتزلة أن يوفقوا بين قولهم بالتصويب وبين اختلاف الفقهاء في الاجتهاد مع العلم أن الواقع واحد، وتعدده من المحال؟!

الرأي الثالث : للأشاعرة: إن الحكم الواقعي يدور مدار قول المجتهد، وعليه فلا يوجد حكم واقعي سوى ما يحكم به المجتهد، وهذا هو التصويب الاشعري.

وبهذا فقد اتفق الأشاعرة مع المعتزلة في أن المجتهد على حق دائمًا.

وأما نقطة الاختلاف: فإن المعتزلة ترى أن حقانية وصواب حكم المجتهد نابع من مطابقته للحكم الواقعي الثابت عند الله تعالى، أما الأشاعرة فلا تقول بوجود حكم واقعي ثابت عند الله تعالى إطلاقًا، وبالتالي فإن حقانية المجتهد في حكمه نابعة من كونه

ص: 234

مجتهدًا ليس إلا، فالحكم الواقعي هو ما يقول به المجتهد لا ما هو ثابت عند الله تبارك وتعالى، بل إن ما عند الله تعالى يدور مدار ما عند المجتهد.

ومن الواضح جدًا بطلان رأي المعتزلة فضلًا عن الأشاعرة، بلا بذل كثير جهد أو مؤونة، إذ كيف يمكن القول بأن المجتهد مصيب دائمًا في حكمه، وفي الوقت نفسه فإن المسائل الخلافية بين الفقهاء قد لا يمكن احصاؤها وهي بازدياد دائم!!

كيف يمكن القول بأن كل حكم صدر من أبي حنيفة ومالك هو على صواب وحق، بالرغم من أن الأول يوجب التكتف في الصلاة و الثاني يوجب –أو على الأقل يُجيز- الإسبال فيها؟!

فإن كان تطبيق نظريتهم متعسر بل محال في اقتصاره على اثنين فقط منهم، والالتزام به يوجب الحرج، والتكليف به ليس بمقدور، فكيف والحال أن لهم أربعة فقهاء، وكل منهم حجة، وعلى صواب دائم، وفي الوقت نفسه يختلفون في الكثير من المسائل!!

النقطة السابعة: رجوع مصالح التكليف للعباد.

أن المصالح والمفاسد الواقعية التي تبتني عليها الأحكام الشرعية تعود إلى العباد لا إلى الله جل وعلا.

فهو سبحانه وتعالى غنيٌ عن العالمين، وليست له أية مصلحة ذاتية، لا في نفس تشريع الحكم ولا في امتثال العبد له، فالمصلحة في كلٍّ من تشريع الحكم والامتثال له يعود إلى العبد- كالمصلحة من أصل تشريع الصلاة والامتثال له مثلًا، وكذا بالنسبة إلى سائر التشريعات الأخرى.

وقد روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) أنه قال: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وتَعَالَىٰ خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ

ص: 235

خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّه لَا تَضُ-رُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1).

ص: 236


1- نهج البلاغة: 303/ الخطبة 193.

الفصل الثاني

عقيدتنا في النبوّة

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في النبوّة.

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفةٌ إلهية، وسفارةٌ ربّانية، يجعلها الله(عزوجل) لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طريق السعادة والخير؛ لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف على ما سيأتي معناها توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر، وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنّه(عزوجل) لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك بيده تعالى؛ لأنّه ﴿أَعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ﴾

وليس لهم أن يتحكَّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكَّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة». انتهى.

ص: 237

الحديث في النبوة يكون في خطوتين:

الخطوة الأولى: النبوة العامة: ويتم فيها بيان معنى النبوة ولزومها وغاياتها والصفات العامة في كل نبي، من دون تخصيص الكلام بنبي معين، فهو كلام في النبوة عموماً.

الخطوة الثانية: النبوة الخاصة: ويتم فيها بيان نبوة نبي الإسلام الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويتناول فيها الحديث عن دين الإسلام والمعجزة التي جاء بها نبي هذا الدين وهو القرآن الكريم وما يتعلق بهما.

ص: 238

الخطوة الأولى: النبوة العامة.

اشارة

ويمكن بيانها من خلال النقاط الآتية:

النقطة الأولى: تعريف النبوة والنبي.

النبوة: وظيفة إلهية وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين.

فهي وظيفة بين الله(عزوجل) وبين بني البشر، يقوم بها بشر أيضاً يتصفون بصفات خاصة.

وأما النبي: فهو الإنسان الكامل المخبِر عن الله تعالى بلا واسطة من البشر.

بيان تعريف النبي: الإنسان الكامل: وبه يخرج الملك، فالنبي من البشر لا من الملائكة؛ لأن المَلَك قد يخبر عن الله تعالى كالملك جبرئيل(علیه السّلام) ولكنه لا يعد نبياً.

كما يخرج به الإنسان غير الكامل أي غير المعصوم؛ وذلك لأن من شروط كون الشخص نبياً أن يكون معصوماً عن كل معصية وخطأ وسهو.

المخبر عن الله تعالى: وبه يخرج من يخبر عن غير الله تعالى، كالإمام الذي يُخبر عن النبي، وكالراوي الذي يخبر عن النبي أو عن الإمام.

بلا واسطة من البشر: وبه يخرج كلٌّ من الإمام والعالم فيما لو أخبرا عن الله تعالى؛ لأن الأول يُخبر عن الله تعالى لكن بواسطة البشر الذي هو النبي، فيما يخبر الثاني عن الله تعالى أيضاً لكن بواسطة النبي أو الإمام. نعم، النبي أيضاً يخبر بواسطة، ولكنها ليست

ص: 239

من البشر، إذ هو يخبر بواسطة الملك كجبرئيل(علیه السّلام).

النقطة الثانية: خصائص النبوة.

تتميز النبوة بعدة خصائص نشير إلى ما أشار الشيخ إليه منها، وهي:

الخصيصة الأولى: التعيين الإلهي.

الخصيصة الثانية: النبوة لطف.

الثالثة: التأييد بالمعجزة.

الرابعة: لا تكون إلا في الإنسان الكامل (المعصوم).

وستأتي هذه الخصائص من المصنف(رحمه الله علیه) تباعًا.

التعيين الإلهي.

أي إن منصب النبوة لا يخضع لاختيار البشر، فلا يمكن أن يكون النبي نبياً عن طريق الانتخابات أو عن طريق تعيين أهل الحل والعقد وما شابه ذلك من الطرق، بل ينحصر تعيين النبي بالله تعالى فقط.

يدل على ذلك صريح الآيات المباركة.

ولا يختلف على هذه الخصيصة للنبوة أحد من المسلمين، فهي موضع اتفاق جميع المسلمين، بخلاف الإمامة التي هي الأخرى منصب إلهي ووظيفة ربانية، حيث يرى الإمامية أنها كالنبوة، لابد أن يكون الإمام فيها مُعيناً من قبل الله تبارك وتعالى حصراً، وبذا قالوا بنظرية التنصيب الإلهي مستندين في ذلك إلى عدة أدلة يقينية عقلية ونقلية.

في حين ذهب غيرهم إلى القول: إن الإمامة ليست بمنصب إلهي، وبإمكان الناس

ص: 240

أن يختاروا إمامهم، وبذا قالوا بنظرية الشورى، مثلًا على الرغم من أنهم صححوا خلافة العديد من خلفائهم من غير طريق الشورى كخلافة الأول، بل هم صححوا خلافة من يستولي على كرسي الحكم غصباً! الأمر الذي يكشف أنهم لم يؤسسوا النظرية على مستند عقلي أو علمي رصين، بل رفعوا نظرية الشورى لتخطئة نظرية التنصيب الإلهي فقط من جهة، ولمحاولة تصحيح خلافة رموزهم من جهةٍ أخرى، وبقليل من التأمل يجد العاقل أنهم لم يفلحوا في أيٍّ منهما.

وقد يُثار في البين سؤالٌ مفاده:

لماذا لابد أن يكون التعيين لمنصب النبوة حصرًا بيد الله تعالى؟

الجواب:

أن تعيين شخصٍ ما لمنصبٍ ما إنما هو فرع علم الشخص المُعيِّن بمن يصلح لذلك المنصب، فلو رغبتَ في تعيين شخصٍ ما ليتسلم منصبٍ ما، كأن يكون وكيلاً عنك في منصب يدير فيه أعمالك التجارية مثلاً، فمما لا شك فيه أنك لا تعيّن إلا من تقطع بأنه أهل لذلك المنصب، وهذا القطع لا يأتي إلا عن طريق العلم به ومعرفته بأنه الأصلح والأفضل لهذا المنصب.

وكما هو معلوم أن لا أحد يعرف تمام المعرفة بما في الضمائر وما تخفيه القلوب وما عليه النفوس من أحوال صالحة أو طالحة سوى الله سبحانه، لذا وجب حصر تعيين النبي والإمام فيه جل وعلا.

بالإضافة إلى ذلك: أنه لو افترضنا أن شخصًا عيّن نبيًا، فإن هذا الأمر سيكون من موارد التهمة، لأن هذا المنصب يستلزم الرئاسة والقيادة والقوة، وإذا كان هناك مورد للتهمة فهذا يعني أن الناس لا تتحقق لديهم حقانية هذا النبي، مما قد يؤدي إلى عدم

ص: 241

اتباعه من قبل الناس، فقد يتهم الشخص بالمحاباة أو الرشوة، فتذهب فائدة النبوة.

والشاهد على إمكان التهمة، هو ما حصل حتى مع النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)، عندما أمر(صلی الله علیه و آله و سلم) بسد أبواب البيوت المطلّة على المسجد كلها إلا باب الإمام علي(علیه السّلام)، إذ اعترض عليه بعض الصحابة وقالوا: هذا منك أو من الله تعالى؟! بالرغم من أن آيات الكتاب الكريم تصرح بأنهs ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(1)

وفي يوم الغدير أيضاً اتهم البعضُ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) في مسألة تعيين أمير المؤمنين(علیه السّلام)، حيث روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنه قال:« لمّا كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي(علیه السّلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟

فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ.

ص: 242


1- النجم 3 -4.

لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ﴾(1)»(2)

أما إن كان التعيين إلهياً، فعلاوة على أنه هو الأعلم بالأصلح، فهو يقف على مسافة واحدة من جميع البشر، فلا يكون في تعيينه محاباة ولا قرابة ولا رشوة وما إلى ذلك.

هذا تمام ما أشار له المصنف(رحمه الله علیه) في الخصيصة الأولى، والبقية تأتي في محلها قريبًا إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: ما هو الهدف من إرسال الانبياء؟

اشارة

ذكرت الآيات الكريمة والروايات الشريفة عدة أهداف في ذلك، ونشير إلى ما أشار إليه الشيخ في كتابه:

الهدف الأول: تكامل الإنسان.

خلق الله تعالى الناس للتكامل، ومن لطفه سبحانه أنه سهل على الناس هذه المهمة؛ إذ بعث إليهم الأنبياء من أجل أن يأخذوا بأيديهم نحو الصعود في درجات الكمال الوجودي، إلى أن يبلغوا أعلى ما يمكنهم أن يصلوا إليه من الكمال.

روي عن الامام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:«...أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِه يُعَبِّرُونَ عَنْه إِلَى خَلْقِه وعِبَادِه، ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ، ومَا بِه بَقَاؤُهُمْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ..».(3)

علمًا أن هذا التكامل يقابله النزول إلى الدركات السفلى، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين 4 – 5]

ص: 243


1- المعارج 1-2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245.
3- الكافي للكليني ج1 ص 168 بَابُ الِاضْطِرَارِ إِلَى الحُجَّةِ ح1.

الهدف الثاني: تعليم الكتاب والحكمة.

قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة 2]

الهدف الثالث: تزكية الاخلاق.

فمن أهداف إرسال الأنبياء هو تأسيس بعض القوانين الأخلاقية.

وبعبارة أصح: لتصحيح وتتميم الأخلاق الموجودة عند الناس.

والأخلاق: هي القوانين السلوكية التي يعتقد بها الناس وتُترجم إلى سلوك عملي في الحياة، مثل الظلم والعدل، الإيثار والأنانية، (فمنها فضائل ومنها رذائل)، فهذه الاخلاق موجودة لدى الناس وهدف الأنبياء هو تأييد وتتميم الأخلاق الحسنة وتصحيح الأخلاق المنحرفة.

فقد روي عن الرسول الأكرمs: «إنَّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق»(1).

وعنهs أيضاً: «إن الله تعالى بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال».(2)

بالإضافة إلى هذه الأهداف، فقد ذكر القرآن الكريم أهدافاً أخرى ولكن نكتفي بهذا تماشياً مع ما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه).

النقطة الرابعة: هل النبوة واجبة أو لا؟

نعم هي واجبة على الله تعالى من باب اللطف. وقد تقدم معنى اللطف وسيأتي أيضاً، وهو واجب على الله تعالى؛ بمعنى أنه سبحانه يعلم أن الإنسان لا يستطيع أن

ص: 244


1- مكارم الأخلاق للطبرسي: 8؛ بحار الأنوار للمجلسي 16: 210.
2- المعجم الأوسط للطبراني ج7 ص 74.

يُطيعه ويتقرب إليه إلا من خلال لطفه جل وعلا، وبذا يكون اللطف تتميماً لنقص البشر، ومن المعلوم أن تتميم نقص الغير كمال، والذات الإلهية هي منبع الكمالات الذي لا يشوبه نقص البتة، من هنا وجب اللطف على الله جل جلاله.

ومما تجدر الاشارة إليه: أن كون اللطف واجباً عليه جل وعلا لا يعني أن هناك موجودًا غير الله تعالى قد أوجبه عليه وألزمه به، كلا، بل وجوبه كوجوب الزوجية للأربعة مثلًا، فكما أن الزوجية لزمت الأربعة من دون أن يأتي شخص ويجعلها ويضعها للأربعة، غاية الأمر أن الزوجية لا يمكن أن تنفك عنها بحال من الأحوال، فكذلك جل وعلا لم يُلزمه غيره باللطف، وإنما اللطف لا يمكن أن ينفك عنه بحال من الأحوال.

النقطة الخامسة: لزوم طاعة الأنبياء.

ليس للناس مع الأنبياء إلا الاتباع، فليس لهم حق في التشريع أو تغيير التشريع، باعتبار:

أولًا: أن حق تعيين النبي حق مختص بالله(عزوجل) –كما تقدم-

ثانيًا: أن حق التشريع هو الآخر مختص بالله(عزوجل)، فليس لأحد أن يشرع إلا بإذن الله(عزوجل)، قال تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلهِ﴾(1) وعليه فليس لأحد أن يتحكم بما يجيء به النبي أو أن يغير منه شيئاً، ومن يفعل ذلك يكون مبتدِعًا، والبدعة هي إدخال شيء في الدين هو ليس من الدين.

ص: 245


1- الأنعام 57.

ص: 246

النبوّة لطف

اشارة

قال الشيخ المظفر(رحمه الله علیه):

«النبوّة لطفٌ:

إنّ الإنسان مخلوقٌ غريبُ الأطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فردٍ من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى.

فمن جهةٍ قد جُبِل على العواطف والغرائز من حب النفس، والهوى، والاثرة، وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب، والاستطالة، والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال(عزوجل): ﴿إنَّ الاِنسنَ لَفِي خُسْرٍ﴾، و﴿إنَّ الاِنسنَ لَيَطْغَى أَنْ رآهُ استَغنَى﴾ و﴿إنَّ النَّفْس لاَمَّارَةٌ بالسُّوءِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الاِنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية، خلق الله(عزوجل) فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلَّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاماً، والراشدين في إنسانيتهم، والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة، والمتردّين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

ص: 247

وأشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة، ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف ﴿وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمُؤمِنيِنَ﴾.

على أنّ الانسان لقصوره، وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق، وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه؛ لا فيما يتعلَّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً، أو إدراكاً لجهله بنفسه، كلّما تقدّم العلم عنده بالأشياء الطبيعية، والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالإنسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى؛ لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللَّدود اللجوج عندما يهيأ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه وكثيراً ما تفعل فتزيِّن له أعماله، وتحسّن لنفسه انحرافاتها؛ إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقتٍ ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منّا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدِّن المثقَّف فضلاً عن الوحشي الجاهل أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن

ص: 248

هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله(عزوجل) في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم ﴿رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتِه وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتبَ والحكمَةَ﴾، وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله(عزوجل) واجباً، فلأنّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعدّاً لفيض الجود واللطف، فإنّه(عزوجل) لا بد أن يفيض لطفه؛ إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود أي اللزوم واستحالة الانفكاك». انتهى.

يشير الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أن ضرورة النبوة تنبع من كونها لطفًا من الله(عزوجل)، واللطف واجب على ما تقدم بيانه.

وقد أطنب الشيخ كثيراً في بيان هذه القاعدة (قاعدة اللطف)، ويمكن تلخيص أهم ما يروم بيانه بما يأتي من مقدمات:

المقدمة الأولى:

أن في الإنسان قوتين تتجاذبان وجوده:

القوة الأولى: هو العقل، تلك القوة التي تدفعه نحو فعل الخير ونحو التكامل.

والقوة الثانية: هي الغرائز، تلك القوة التي تريد إشباع الرغبات ولو بانفلات ومن

ص: 249

دون انضباط.

والذي يضبط انفلات الغرائز هو العقل.

ولا إشكال في البين فيما لو توحّد توجه كل من الغرائز والعقل، كما في حب جمع المال مثلاً، فهو من الغرائز ولكن لا إشكال فيه إذا كان بطرق مشروعة، وكذا لو دعت الغريزة الإنسان إلى الزواج لإشباعها في هذا الجانب مثلاً، بل حتى بالنسبة إلى الصلاة فإن الإنسان قد يجمع بين الغريزة والعقل فيما لو كانت طمعاً في الجنة. انما التعارض والصراع ينشأ فيما لو لم يكن الطريق إلى إشباع الغريزة مشروعاً، فهنا يحدث تعارض بين مقتضيات العقل ومقتضيات الغريزة، وحيث إن الإنسان يميل عادة إلى الراحة والدعة، فقد يُقدم ما تمليه غرائزه على ما يحكم به عقله، وهذا واقع لا يحتاج الى شواهد.

وحينئذ إذا كان الإنسان يعيش هذه المعركة الداخلية في نفسه، فالعقل يحكم بضرورة أن يوفر المولى(عزوجل) له -من باب اللطف- حصانة تحصنه من الانحراف.

المقدمة الثانية:

يصعب على الإنسان أن يعرف مصالحه الواقعية فيما لو تُرك ونفسه، لاسيما أنه لا يعلم الغيب، بل قد يظن أن شيئاً ما ينفعه وهو في الواقع على خلاف ذلك، وقد يصاب بخلل فكري يشوش عليه الحقائق، وهذه نقائص في الإنسان، فيكون بحاجة ماسة معها إلى عنصر كامل يخلو من تلك النقائص، وليس في فكره تشويش، وعنده اتصال بمن يعلم الغيب، فينقل لنا خبر السماء ويرسم لنا طريق السعادة.

المقدمة الثالثة:

أن الله(عزوجل) مطلع على الإنسان وعالم بما يعانيه من النقائص السالفة الذكر، كما أنه

ص: 250

عالم بأن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى الكمال المنشود وطاعة خالقه إلا بوجود عنصر كامل من نوعه يصله بعالِم الغيب، وهو سبحانه حكيم، وحينئذٍ فإن العقل يحكم بوجوب إرسال الأنبياء ليرشدوا الإنسان الى طريق السعادة والفلاح.

وهذا هو اللطف.

إشارة:

أن لطفه تعالى يشمل جميع عباده، وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى ذلك، وحثت على التعرض إلى فيضه، كما روي عن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها».(1)

فمن جهة الله(عزوجل) لا بخل في ساحته، فإن الفيض ينزل من الله(عزوجل) على الجميع كالمطر، فإن تعرض الإنسان لذلك الفيض وأخرج اناءه مفتوحاً طاهراً فإنه يستفيد من المطر، بخلاف ذلك الذي يُخرج إناءه منكوساً مقلوباً، فلا ينتفع منه شيئاً، بل قد يضره أحياناً، كما في قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾(2)

ونقصد بالإناء: القلب، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(علیه السّلام) قَالَ: «القُلُوبُ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ مَنْكُوسٌ لَا يَعِي شَيْئاً مِنَ الخَيْرِ، وهُوَ قَلْبُ الكَ. وقَلْبٌ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَالخَيْرُ والشَّرُّ فِيه يَعْتَلِجَانِ، فَأَيُّهُمَا كَانَتْ مِنْه غَلَبَ عَلَيْه، وقَلْبٌ مَفْتُوحٌ فِيه مَصَابِيحُ تَزْهَرُ ولَا يُطْفَأُ نُورُه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهُوَ قَلْبُ المُؤْمِنِ».(3)

ص: 251


1- بحار الأنوار للمجلسي ج68 ص 221.
2- الإسراء 82.
3- الكافي للكليني ج2 ص 323 بَابٌ فِي ظُلْمَةِ قَلْبِ المُنَافِقِ وإِنْ أُعْطِيَ اللِّسَانَ ونُورِ قَلْبِ المُؤْمِنِ وإِنْ قَصَرَ بِه لِسَانُه ح3.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بقوله: «إذا كان المحل قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لا بد أن..».

وقد أشار الإمام الصادق(علیه السّلام) إلى سبب عدم فلاح القلب بقوله: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتَّىٰ تغلبَ علىٰ قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(1).

وهذا ما يفسر سبب انقلاب من عاصر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) على عقبيه، ومن ثم خالفه فأصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾(2)

وأخيراً: نؤكد أنه لا يقصد بوجوب اللطف على الله أن سواه قد أوجب عليه ذلك، بل إنه من قبيل وجوب وجوده سبحانه، ثابت له بذاته، لأنه محض الكمال.

ص: 252


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 271/ باب الذنوب/ ح 13).
2- آل عمران 144.

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

اشارة

قال(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في معجزة الأنبياء:

نعتقد: أنّه(عزوجل) إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لا بدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم؛ إتماماً للطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوعٍ لا يصدر إلا من خالق الكائنات، ومدبر الموجودات أي فوق مستوى مقدور البشر فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي؛ ليكون معرِّفاً به، ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة؛ لأنّه يكون على وجهٍ يعجز البشر عن مجاراته والاِتيان بمثله.

وكما أنّه لا بد للنبي من معجزةٍ يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرةَ الاِعجاز بين الناس على وجهٍ يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه؛ لتكون دليلاً على مدَّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر، وخارقة للعادة، فيُعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبِّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخصٍ، من ظهور المعجز الخارق للعادة، وادّعى مع ذلك النبوة

ص: 253

والرسالة، يكون حينئذٍ موضعاً لتصديق الناس بدعواه، والإيمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسى(علیه السّلام) هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون؛ إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءَت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدروهم، وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم.

وكذلك كانت معجزة عيسى(علیه السّلام)، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ إذ جاءَت في وقتٍ كان فن الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى(علیه السّلام).

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقتٍ كان فن البلاغة معروفاً. وكان البلغاء هم المقدَّمين عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة؛ أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم به، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته، وقصروا عن اللحاق بغبارة.

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبد الله مقروناً بدعوى الرسالة.

فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به،(صلی الله علیه و آله و سلم)». انتهى.

ص: 254

نقطتان:

النقطة الأولى: ضرورة المعجزة:

وبيانها ضمن مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن منصب النبوة منصب غيبي، ولا سبيل ماديًا لمعرفة صدق مدّعي هذا المنصب.

المقدمة الثانية: أن منصب النبوة منصب مرموق ترنو إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، حيث يسود النبي قومه، ويكون أولى منهم بأموالهم بل وبأنفسهم، ومعه فاحتمال الادّعاء الباطل لمنصب النبوة احتمال وارد جداً.

بناءً على هاتين المقدمتين فإن الإنسان لا يستطيع أن يميز مدّعي النبوة بالحق من مدّعيها باطلاً، وهنا لا بد أن يلطف الله تعالى بعباده ويساعدهم على معرفة النبي الحق لاتباعه، وليدفع مدّعي النبوة باطلاً ليجتنبوه، وأقوى طريق لتوضيح النبي الحق هو طريق المعجزة، إذ تكون شاهد صدق على مدعي النبوة.

النقطة الثانية: ماهي المعجزة وما هي خصائصها؟

اشارة

المعجزة: هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي لأهل الفن مع عدم المعارضة، ومع ادعاء النبوة، مع مطابقة الدعوى.

ومن التعريف المذكور يمكننا أن نبين للمعجزة عدة خصائص هي:

الخصيصة الأولى: خرق العادة.

نحن نعلم أن الله(عزوجل) خلق العالم وفق نظام العلة والمعلول والأسباب والمسببات، ونظام العلة والمعلول يكون على مرتبتين:

ص: 255

الأولى: المرتبة الظاهرة للناس والمعروفة القانون لكل البشر، مثل قانون الإحراق للنار، وقانون الجاذبية، وأن الماء يروي، والطاعم يُشبع، وعشرات القوانين الأخرى

وأما المرتبة الثانية: فهو نظام علة ومعلولات غير منكشف للإنسان وغير متاح له، نحو: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾(1)

والمعجزة إنما لا تخضع لنظام العلة والمعلول بمرتبته الأولى المعروفة والمتاحة للإنسان العادي، بل إنها تخرقه، ولكنها تبقى ضمن نظام العلة والمعلول العام، فللمعجزة علة، ولكنها غير منكشفة للإنسان العادي، فاذا انكشفت لإنسان ما دلّت على ارتباطه بعالم الغيب.

إذاً للمعجزة قانون ونظام علة ومعلول، ولكنه ليس معروفًا عند عامة الناس.

وهذا معنى كونها خارقة للعادة، كإحياء الموتى، الذي له قانون، لكنه غير منكشف لنا، فإذا قام به إنسان وأحيى الموتى، دلّ ذلك على أنه انكشف لديه هذا القانون، وأنه مرتبط بالله سبحانه.

نكتة:

من الجدير بالذكر أن مهمة المعجزة تقتصر على كشف الحقيقة والواقع فقط، ولا تجبر الناس على الهداية، من هنا وجدنا الكثير ممن رأى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وسمع كلامه ولكنه انقلب على عقبيه.

ولذلك أيضًا فإن من الممكن أن البعض ينحرف عن الإمام المهدي(علیه السّلام) رغم وقوع الصيحة الإعجازية، فعن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام) يقول: «ينادي

ص: 256


1- يس 38.

منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليَّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون _ لرجل من بني أُميَّة _»، قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون، قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون».(1)

الخصيصة الثانية: التحدي لأهل الفن.

لما كان الهدف من المعجزة إثبات صدق مدّعي النبوة عن طريق بيان عجز البشر عن الإتيان بمثلها، فلابد أن تأتي المعجزة بأعلى وأرقى ما لدى البشر من علوم وفنون؛ لتتحدى أهلها، باعتبارهم أرقى وأعلى مستوى بين البشر، فإنْ هم عجزوا عن الإتيان بمثلها كان غيرهم أعجز، وبذا تتم الحجة عليهم ويعظم الدليل لديهم.

ولذا كانت معاجز الأنبياء تتحدى أهل الفن المشتهر في زمنه، وهذا ما صرَّحت به بعض الروايات الشريفة، حيث روي عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ البَغْدَادِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ لأَبِي الحَسَنِ(علیه السّلام): لِمَاذَا بَعَثَ الله مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ(علیه السّلام) بِالعَصَا ويَدِه البَيْضَاءِ وآلَةِ السِّحْرِ وبَعَثَ عِيسَى بِآلَةِ الطِّبِّ وبَعَثَ مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) وعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ بِالكَلَامِ والخُطَبِ؟

فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ(علیه السّلام): «إِنَّ الله لَمَّا بَعَثَ مُوسَى(علیه السّلام) كَانَ الغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُه ومَا أَبْطَلَ بِه سِحْرَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.

وإِنَّ الله بَعَثَ عِيسَى(علیه السّلام) فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيه الزَّمَانَاتُ(2) واحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى

ص: 257


1- الغيبة للنعماني ص 272 – 273 باب 14 ح 28.
2- الزمانات: الآفات الواردة علىٰ بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة كالفالج واللقوة، ويُطلَق المزمن علىٰ مرض طال زمانه. (من المصدر).

الطِّبِّ فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُه وبِمَا أَحْيَا لَهُمُ المَوْتَى وأَبْرَأَ الأَكْمَه والأَبْرَصَ بِإِذْنِ الله وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.

وإِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) فِي وَقْتٍ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه الخُطَبَ والكَلَامَ -وأَظُنُّه قَالَ: الشِّعْرَ- فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله مِنْ مَوَاعِظِه وحِكَمِه مَا أَبْطَلَ بِه قَوْلَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ».

قَالَ: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَالله مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ، فَمَا الحُجَّةُ عَلَى الخَلْقِ اليَوْمَ؟

قَالَ: فَقَالَ(علیه السّلام): «العَقْلُ يُعْرَفُ بِه الصَّادِقُ عَلَى الله فَيُصَدِّقُه والكَاذِبُ عَلَى الله فَيُكَذِّبُه».

قَالَ: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هَذَا والله هُوَ الجَوَابُ(1).

ولأن التحدي كان لأهل الفن في فنهم، فقد كانوا – في العادة- هم أول من يصدق الأنبياء(علیهم السّلام) كما حدث مع النبي موسى(علیه السّلام) والنبي عيسى(علیه السّلام) والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، حتى أن قريش أنزلوا المعلقات التي كانت معلقة على أستار الكعبة استحياءً من سذاجتها بالمقارنة بالقرآن الكريم؛ لأنهم وجدوا في القرآن من البلاغة ما لا تُقاس به المعلقات.(2)

الخصيصة الثالثة: عدم المعارضة.

فلابد أن يأتي النبي بمعجزة يعجز الجميع عن معارضتها، أي أن لا يأتي شخص آخر بأمر يبطل معجزة النبي، أو يأتي بأمر يخرق العادة أكثر من المعجزة، وإلا كان ذلك

ص: 258


1- الكافي للكليني 1: 24 و25/ كتاب العقل والجهل/ ح 20.
2- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي(علیه السّلام): 32.

الشخص الثاني أولى بالاتّباع، أو على الأقل لا مرجح لأحدهما بالاتباع، وعلى كل حال تذهب فائدة البعثة.

الخصيصة الرابعة: أن يكون الإتيان بهذا الأمر الخارق مرافقاً لدعوى النبوة.

تشترك المعجزة مع الكرامة في أنهما معاً أمران خارقان للعادة، بل قد يقوم الإمام بنفس الفعل الذي يقوم به النبي كإحياء الموتى مثلاً، إلا أن بينهما مائزًا وفرقًا جوهريًا، وهو: أن المعجزة تأتي مع ادعاء النبوة ولإثبات صدق مدعيها، أما الكرامة فلا تكون مع ادّعاء النبوة.

الخصيصة الخامسة: مع المطابقة للدعوى.

فلا بد أن تكون المعجزة مطابقة لما يدّعيه النبي، ومؤيدة له، كالمعجزات التي أيّدت ادعاء الأنبياء(علیهم السّلام) وكانت الدليل على صدقهم في دعوى النبوة، فإنْ هي لم تطابق دعواهم لم تكن معجزة، وهذا ما حصل مع مسيلمة الكذاب الذي حاول أن يقوم بما قام به الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) فجاء إلى بئر غائرة وبصق فيها لتفيض بالماء كما حدث معه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإذا بها قد جفت تماماً. وجفافها تماماً أيضاً أمر خارق للعادة! لكنه غير مطابق للدعوى، فلا يعد معجزة.

ص: 259

ص: 260

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد: أنّ الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء، فضلاً عن الأئمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل يجب أن يكون منزَّهاً حتى عمّا ينافي المروءة، كالتبذل بين الناس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عال، وكل عملٍ يستهجن فعله عند العرف العام.

والدليل على وجوب العصمة؛ أنّه لو جاز أن يفعل النبي المعصية، أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل، فإمّا أن يجب اتّباعه في فعله الصادر منه عصياناً أو خطأً أو لا يجب، فإن وجب اتّباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله(عزوجل)، بل أوجبنا ذلك، وهذا باطل بضرورة الدين والعقل.

وإن لم يجب اتّباعه فذلك ينافي النبوَّة التي لا بدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً.

على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ، فلا يجب اتّباعه في شيءٍ من الأشياء، فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس،

ص: 261

ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً، كما لا تبقى طاعة حتمية لأوامره، ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله.

وهذا الدليل على العصمة يجري عيناً في الامام؛ لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله(عزوجل) لهداية البشر خليفة للنبي، على ما سيأتي في فصل الاِمامة». انتهى.

يمكننا توضيح ما أراده الشيخ(رحمه الله علیه) في جملة من النقاط:

النقطة الأولى: تعريف العصمة.

العصمة لغة: من المنع، والمصونية: من الصيانة.

وأما اصطلاحاً: فقد عُرّفت بعدة تعريفات، منها التعريف الذي ذكره الشيخ(رحمه الله علیه)، وهو:

العصمة: التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان.

وأضاف البعض: السهو.

فيما أضاف الشيخ: ما ينافي المروءة أيضاً.

وعليه فتكون تصرفات المعصوم مطلقاً صحيحة مائة بالمائة.

النقطة الثانية: الآراء في العصمة

اشارة

تُبحث العصمة عادة ضمن عدة مقامات:

الأول: العصمة في الاعتقاد.

يجب أن يكون النبي معتقداً بالاعتقادات الصحيحة، فلا يكون كافراً ولا ملحداً ولا منافقاً ولا غيرها، وقد اتفقت الأمة على هذا المعنى من العصمة.

ص: 262

الثاني: العصمة في التبليغ.

يعني أن النبي عندما ينقل خبراً إلى الناس على أنه تبليغ رسمي من جهة السماء، فهذا التبليغ لا يقع فيه الخطأ أو النسيان، فالنبي معصوم في تبليغ الأحكام الشرعية الواقعية، وهذا المعنى أيضاً على نحو الاجمال متفق عليه.

وقد ادعى البعض: أن النبي معصوم في الفُتيا، أي عندما يعطي فتوى فإنه يكون معصوماً فيها.

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم صحة هذا الادعاء، إن كان المراد من المفتي فيه(صلی الله علیه و آله و سلم) هو المستنبط للأحكام الشرعية؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يعلم الأحكام الواقعية، ولذا فهو ليس بحاجةٍ الى استنباط قط.

كما أن الاستنباط المتعارف قد يؤدي إلى الجزم بالحكم الواقعي وقد لا يؤدي إلا إلى الظن المعتبر، على حين أن أحكام النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كلها مصيبة للواقع بلا أدنى شك.

وعليه فلا يصح القول بأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) مفتٍ بهذا المعنى.

الثالث: العصمة في أفعال النبي وسيرته.

بمعنى أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) معصوم في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع أفعاله: من أكله، شربه، نومه، ذهابه، مجيئه، وما إلى ذلك من أفعال حياتية، فهو معصوم عن الذنوب الكبيرة والصغيرة وعن أن يقع فيها عمدًا أو نسيانًا، في أمور الاعتقاد والتبليغ والأفعال العادية.

وبعبارة بسيطة: أن كل نَفَس من النبي معصوم، وكل حركة وسكون مطابقة للواقع.

وهذا المقام من العصمة هو ما وقع فيه الخلاف، إذ قال به الامامية،

ص: 263

أما غير الامامية فقد ذهبوا الى غير هذا الأمر، فمنهم من قال: بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر فقط دون الصغائر.

ومنهم من ذهب إلى عصمتهم من الذنوب كبيرها وصغيرها في حالة العمد فقط، أي من الممكن أن تقع منهم المعصية خطأً أو نسياناً، وهذا ما ذهب إليه أكثر الأشاعرة.

بل البعض جوّز على الأنبياء فعل الكبائر والصغائر مطلقاً، وهذا قول الحشوية وأكثر أصحاب الحديث من العامة.

ولم يقتصر الخلاف بين المسلمين في مقام عصمة الأنبياء فقط، بل امتد ليشمل مبدأها أيضاً، فقد ذهب الامامية إلى أن الأنبياء معصومون مطلقًا، يعني: من الولادة وحتى الوفاة، على حين ذهبت المعتزلة إلى القول بأنهم معصومون منذ البلوغ، أما أكثر الأشاعرة وبعض المعتزلة فقالوا بأنهم معصومون منذ النبوة.

ومن هنا يتضح أن الامامية هم أكثر الفرق تنزيهاً للأنبياء مطلقا طيلة مدة حياتهم، فقد روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه في وصفه لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(صلی الله علیه و آله و سلم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ المَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه..».(1)

النقطة الثالثة: هل العصمة تجبر المعصوم على ترك المعصية؟

يقصد بالعصمة: الامتناع عن المعصية مع القدرة على الإتيان بها، مما يعني أن المعصوم ليس مجبراً على تركها، بل هو مختارٌ في ذلك؛ ولذا كانت العصمة فضيلة للمعصوم.

ص: 264


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.

وتعضد هذا المعنى آيات كريمة وروايات شريفة منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾(1)

فقد روي عن الإمام الرضا(علیه السّلام): «لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همت، لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب، ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق(علیه السّلام) أنه قال: همت بأن تفعل، وهم بأن لا يفعل».(2)

ومن الروايات ما روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: «هَيْهَاتَ لَوْ لَا التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى العَرَبِ...»(3)

وعنه(علیه السّلام): «والله ما معاوية بأدهىٰ منّي، ولكنَّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهىٰ الناس، ولكن كلَّ غدرة فجرة، وكلَّ فجرة كفرة، ولكلِّ غادر لواء يُعرَف به يوم القيامة. والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة [أي لا يستضعفني شديد القوَّة]»(4).

وعنه أيضاً: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْه، ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ المَرْجِعُ، ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الغَدْرَ كَيْساً، ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ فِيه إِلَى حُسْنِ الحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ الله، قَدْ يَرَى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجْه الحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ الله ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»(5).

ص: 265


1- يوسف 24.
2- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 221.
3- الكافي للكليني ج8 ص 24.
4- نهج البلاغة (ج 2/ ص 180 و181).
5- نهج البلاغة (ج 1/ ص 92).

النقطة الرابعة: ما هو الدليل على ضرورة العصمة في النبي؟

اشارة

ذكر الشيخ(قدس سره) دليلين:

الدليل الأول:

لو لم يكن النبي معصوماً، لجاز صدور المعصية منه.

وإن جاز صدور المعصية منه، فإما أن يجب على العباد اتباعه فيها، أو لا.

فإن وجب عليهم اتباعه في فعل المعصية، فهذا يعني: أن الله تعالى قد أغراهم بفعل المعصية والعياذ بالله، فإن عاقبهم الله تعالى على هذه المعصية فقد ظلمهم، وإلا – أي لو لم يعاقبهم رغم أنهم ارتكبوا المعصية- للزم لغوية الأحكام الشرعية وعبثيتها.

وإن لم يجب على العباد اتباعه، فقد انتفت فائدة البعثة.

الدليل الثاني:

لو لم يكن النبي معصوماً، لجاز صدور الخطأ منه.

وبالتالي: سنحتمل الخطأ والصواب في كل فعل وقول يصدر من النبي، مما يؤدي إلى انعدام الاطمئنان باتباعه؛ لاحتمال المعصية فيه، وحينئذٍ فإن العقل يحكم بالاحتياط، أي إنه يحكم بترك ما يصدر من النبي، لاحتمال أن يكون أمراً بالمعصية تؤدي إلى دخول النار، وبهذا تذهب الفائدة من البعثة.

ومما تجدر الاشارة إليه:

أن التشكيك في صدق كل أقوال وأفعال النبي والقول باحتمال صدور الخطأ والمعصية منه أمرٌ قد عمل على تسويقه حزب معاصر للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) وأن النبي مجرد إنسان عادي، بشر يخطئ ويصيب.

ص: 266

روي في هذا المجال عن عبد الله ابن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق».(1)

فهذه الرواية واضحة جدًا في تشكيكهم (مجموعة من قريش وفي حياته(صلی الله علیه و آله و سلم)) بعصمته(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه لا ينبغي أن يؤخذ منه كل ما يقول ويفعل، لأنه بشر عادي.

ص: 267


1- سنن أبي داود- سليمان بن الأشعث السجستاني/ج2 ص 167 باب (3) باب في كتاب العلم ح 3646.

ص: 268

عقيدتنا في صفات النبي

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في صفات النبي.

ونعتقد: أنّ النبي كما يجب أن يكون معصوماً يجب أن يكون متّصفاً بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها، من نحو: الشجاعة، والسياسة، والتدبير، والصبر، والفطنة، والذكاء؛ حتّى لا يدانيه بشر سواه فيها؛ لأنّه لولا ذلك لما صحّ أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق، ولا قوَّة إدارة العالم كله.

كما يجب أن يكون طاهر المولد أميناً صادقاً منزَّهاً عن الرذائل قبل بعثته أيضاً؛ لكي تطمئنّ إليه القلوب، وتركن إليه النفوس، بل لكي يستحق هذا المقام الاِلهي العظيم». انتهى.

مازال الكلام في الصفات التي يلزم توفرها في الأنبياء عموماً ليكونوا لائقين بهذا المنصب الإلهي والسفارة الربانية، وقد تقدمت من الصفات التنصيب الإلهي والعصمة والتأييد بالمعجزة، وهنا يُكْمِل الشيخ كلامه في الصفات:

ومن تلك الصفات:

أولاً: أن يكون النبي أفضل أهل زمانه في كل شيء.

ففي الشجاعة يكون أشجع أهل زمانه، وكذا في العلم والحلم والسياسة والتدبير، وفي كل شيء، واشتراط هذه الصفة واضح جدًا ولا نقاش فيه؛ وذلك لأنه:

ص: 269

إن النبي إذا قيس إلى غيره، فإن الأمر لا يخلو عن أحد وجوه ثلاث:

الوجه الأول: أن يكون مساوياً له في كل الصفات.

الوجه الثاني: أن يكون النبي أقل من غيره.

الوجه الثالث: أن يكون النبي أفضل منه.

فعلى الوجه الأول، يكون تقديم النبي على سواه ترجيح بلا مرجح، والحكيم لا يفعل ذلك.

وإذا كان النبي أدنى من غيره فيلزم من ذلك تقديم الأقل شأناً والمرجوح على الراجح، والعقل يحكم بقبح هذا التقديم، والله سبحانه منزه عن القبيح.

فلا يبقى سوى الوجه الثالث وهو الصحيح.

علاوةً على أن هذه المسألة مسألة وجدانية، إذ ما من عاقلٍ إلا ويقدّم الأفضل دائماً، فالمريض يقدم الطبيب الأفضل لعلاجه، والمتعلم يقدم المعلِّم الأفضل لتعليمه، وهكذا.

وعليه يكون النبي أفضل أهل زمانه عقلاً وعرفاً وشرعاً.

ومن الجدير بالذكر: أنّنا نعتقد أنّ النبي لابد أن يكون أكمل في (الصفات الخَلقية) أيضاً، فلا يكون ناقصاً خلقياً، أي لا يكون أعور أو أعرج أو ما شابه ذلك.

ثانياً: أن يكون النبي كامل العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وما شابه هذه الصفات.

وهذه المسألة هي الأخرى مسألة عقلائية، فإن أي عاقل إذا ما أراد أن يعهد إلى شخصٍ ما منصبًا مهمًّا، فإنه بلا أدنى شك لا يختار إلا من كان الأفضل في الصفات المذكورة، ولا يمكن أن يقدم غيره عليه، فإن فعل عُدَّ هذا الأمر سفهاً عرفاً وعقلاً.

ص: 270

ثالثاً: أن يكون النبي منزهاً عن كل ما ينفر عنه الطباع.

كدناءة الآباء وعهر الأمهات وما شابه تلك الأمور، كالتصرفات غير اللائقة، كالأكل في الطرقات، والضحك بصوت عالٍ وما شابه.

ص: 271

ص: 272

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

اشارة

قال(قدس سره):

«عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

نؤمن على الإجمال بأنّ جميع الأنبياء والمرسلين على حق، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم، وأمّا إنكار نبوتّهم، أو سبّهم، أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة؛ لاَنّ ذلك يستلزم إنكار نبينا الذي أخبر عنهم وصدّقهم.

أمّا المعروفة أسماؤهم وشرائعهم، كآدم ونوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم، فيجب الإيمان بهم على الخصوص، ومن أنكر واحداً منهم فقد أنكر الجميع، وأنكر نبوّة نبينا بالخصوص.

وكذلك يجب الايمان بكتبهم وما نزل عليهم.

وأمّا التوراة والانجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس، فقد ثبت أنّهما محرَّفان عمّا أُنزلا بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل، والزيادات والاضافات بعد زماني موسى وعيسى(علیهما السّلام) بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع، بل الموجود منهما أكثره أو كلّه موضوع بعد زمانهما من الأتباع والأشياع». انتهى.

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة إلى عدة إشارات هامة، نذكرها تباعًا:

ص: 273

الإشارة الأولى:

يجب أن نؤمن بجميع الأنبياء اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم بغض النظر عن مقدار عددهم الذي اختلِفَ فيه، فقال بعضٌ (124) ألف نبي، وبعضٌ (144) ألفًا، وبعض (120) ألفًا.

ولا بد أن يكون هذا الإيمان على نحوين:

الأول: الإيمان بالخصوص بالأنبياء الذين ذُكِروا في القرآن الكريم أو في الروايات التي وردت عن المعصومين(علیهم السّلام).

الثاني: الإيمان على نحو إجمالي بالأنبياء الذين لم يُذكروا في القرآن الكريم، ولكن نعلم إجمالا بأنهم كانوا موجودين، يدُلُنا على وجودهم زيادة عدد الأنبياء الذي ذكر على اختلاف تقديره عمَا ذُكِر منهم فعلاً في القرآن الكريم بأسمائهم وقصصهم.

الإشارة الثانية:

أن إنكار أي نبيٍ منهم يستلزم الكفر؛ لأن القرآن الكريم ومن تنزل عليه(صلی الله علیه و آله و سلم) هما من أبلغانا بنبوته، وبالتالي يكون تكذيبنا لنبوته تكذيباً لهما. وتكذيب الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) والكتاب الكريم كفر.

الإشارة الثالثة:

يجب أن نؤمن بجميع كتب الأنبياء، لاسيما الرسل الذين كلفوا بتبليغ الشرائع.

وقد يرد إشكالٌ مفاده:

أن كتب أهل الكتاب الموجودة بين أيدينا كتبٌ قد سُلِّمَ بأنها محرفة، فكيف يتوجب علينا الإيمان بها؟

ص: 274

الجواب:

لا بد أن نؤمن بما أنزل على الأنبياء والرسل من كتب، لا التي حُرّفت فيما بعد، فلا يستلزم إنكارنا لما هو موجود من الكتب المحرَّفة اليوم إنكارَنا للكتب التي نزلت على الأنبياء.

وقد أشار الشيخ إلى أن ما موجود بين أيدينا من الكتب الآن محرّف بقوله (بل الموجود منه أكثره أو كله موضوع).

إن قلت: إن كلمة (كله موضوع) تستدعي الوقوف عليها والتأمل؛ ولربما لا نسلّمها، وذلك لوجود عبارات في التوراة والإنجيل تتضمن اعتقادات صحيحة، وبعض الباحثين بدأوا يستدلون بها في بحوثهم على العقائد الحقّة، مثل قضية الإمام المهدي سلام الله عليه، فكيف يمكن القول بأن كل ما فيهما موضوع؟!

فيمكن أن يُقال: في مقام دفع الإشكال عن قول الشيخ طيب الله ثراه:

ربما قصد(رحمه الله علیه) بذلك: عدم استطاعتنا تمييز الحق من الباطل فيها، فكل فقرةٍ فقرةٍ من التوراة والإنجيل نحتمل فيها الحق والبطلان، فلا تطمئن النفس بها، وبالتالي يمكن الحكم على جميع ما فيها بأنه موضوع.

بالإضافة إلى أنه حتى الحق الموجود فيها، فلا يمكننا القطع بأنه بنفس اللفظ المنزل من عند الله سبحانه على النبيين موسى وعيسى(علیهما السّلام)، إذ لربما هو الآخر قد غُيِرَ وحُرِّفَ ولو لفظاً.

ص: 275

إضاءتان

الإضاءة الأولى: ما الفرق بين الإمامية وسواهم في الاعتقاد بصفات الأنبياء؟

علمنا فيما تقدم أن الشيعة أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) يقدسون الرسل والأنبياء أعظم تقديس، ويصفونهم بالعصمة في اعتقاداتهم وفي تبليغهم للشريعة وفي كل فعل وقول وتصرف منهم، وينزهونهم عن جميع المنفرات وجميع المعاصي صغائرها وكبائرها.

وباختصار: أن شيعة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم ينظرون إلى أي نبي على أنه إنسان كامل.

أما سوى أتباع أهل البيت(علیهم السّلام) فلا يحملون نفس هذا الاعتقاد والتنزيه، بل نجدهم وفي أهم وأصح مصدرين عندهم -كما يدّعون-: صحيح البخاري وصحيح مسلم، قد ذكروا روايات تتضمن نسبة صفاتٍ إلى الأنبياء، هي بضعاف النفوس أليق! فإذا عرفنا أنّهم يعتبرون هذين الكتابين ديناً يجب الإيمان به، فوجوب الاعتقاد بما ورد في كل تلك الروايات أمرٌ مفروغٌ عنه بالنسبة إليهم، وبالتالي فهي من صميم عقيدتهم، وحجة عليهم، ولا مجال أمامهم لنكران ذلك؛ لقولهم بصحة كل ما ورد بين دفتي هذين المصدرين، فإن حاولوا التملص من نسبتها إلى ما يعتقدون، فلا بد أن يصرحوا بعدم صحتها.

ومن الروايات التي ذكرت في هذين الصحيحين والتي تقدح بنزاهة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم):

ما روي عن ابي هريرة، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثًا..». فنسبوا الكذب الى ابراهيم سلام الله عليه.(1)

ص: 276


1- صحيح البخاري ج4 ص 112، ونص الرواية: عن أبي هريرة... قال لم يكذب إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله(عزوجل): قوله: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه قال أختي. فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وان هذا سألني عنك فأخبرته انك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال: ادعى الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعى الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما اتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلى، فأومأ بيده مهيا قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره واخدم هاجر. قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بنى ماء السماء.

ومنها ما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ(علیه السّلام) فَقَالَ «دَعْهُمَا» فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.(1)

كما روي عنها: وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيs وَإِمَّا قَالَ «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ»، فَقُلْتُ نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ «دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ»، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ «حَسْبُكِ»، قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَاذْهَبِي».(2)

وعن حذيفة قال كنت مع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا فتنحيت فقال: «ادنه»، فدنوت، حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه.(3)

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سمع أبا هريرة يقول: أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج علينا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فأتى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) حتى إذا

ص: 277


1- صحيح البخاري ج2 ص 2 – 3. و ج3 ص 228.
2- صحيح البخاري ج2 ص 3. و ج3 ص 228.
3- صحيح مسلم النيسابوري ج1 ص 157.

قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف، وقال لنا: «مكانكم». فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطّف رأسه ماءً، فكبر فصلى بنا.(1)

وعن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سمع إن النبي صلى الله عليه [وآله] رجلًا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا.(2)

الإضاءة الثانية: ما هو الفرق بين النبي والرسول؟

ورد الفرق بينهما في بعض الروايات، منها ما روي في رواية عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(علیه السّلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿وكانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾ مَا الرَّسُولُ ومَا النَّبِيُّ؟

قَالَ(علیه السّلام): «النَّبِيُّ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِه ويَسْمَعُ الصَّوْتَ، ولَا يُعَايِنُ المَلَكَ، والرَّسُولُ الَّذِي يَسْمَعُ الصَّوْتَ ويَرَى فِي المَنَامِ ويُعَايِنُ المَلَكَ...»(3)

وقد ذكر البعض فروقاً أخرى، من قبيل: أن الرسول مأمور بالتبليغ أما النبي فلا.

ومن قبيل: أن الرسول له شريعة، والنبي ليست له شريعة.

ولكننا في هذه المرحلة الدراسية نكتفي بالفرق الأول.

ص: 278


1- صحيح مسلم النيسابوري ج2 ص 101.
2- صحيح البخاري ج3 ص 152.
3- الكافي للكليني ج1 ص 176 بَابُ الفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ والنَّبِيِّ والمُحَدَّثِ ح1.

عقيدتنا في الإسلام

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في الإسلام:

نعتقد: أنّ الدين عند الله الإسلام، وهو الشريعة الإلهية الحقّة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها، وأوفقها في سعادة البشر، وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم، وصالحةٌ للبقاء مدى الدهور والعصور، لا تتغيّر ولا تتبدّل، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية.

ولمّا كانت خاتمة الشرائع، ولا نترقَّب شريعة أُخرى تُصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد، فلا بدَّ أن يأتي يوم يقوى فيه الدين. ولو طُبِّقت الشريعة الاسلامية بقوانينها في الاَرض تطبيقاً كاملاً صحيحاً، لعمّ السلام بين البشر، وتمَّت السعادة لهم، وبلغوا أقصى ما يحلم به الإنسان من الرفاه والعزّة، والسعة والدعة، والخلق الفاضل، ولاِنقشع الظلم من الدنيا، وسادت المحبّة والإخاء بين الناس أجمعين، ولانمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود.

وإذا كنّا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمُّون أنفسهم بالمسلمين، فلاَنّ الدين الاسلامي في الحقيقة لم يطبَّق بنصه وروحه، ابتداء من القرن الاَول من عهودهم، واستمرت الحال بنا نحن الذين سمَّينا أنفسنا بالمسلمين من سيّىء إلى أسوأ إلى يومنا هذا، فلم يكن التمسُّك بالدين الاسلامي هو الذي جر على المسلمين

ص: 279

هذا التأخّر المشين، بل بالعكس إنَّ تمرُّدهم على تعاليمه، واستهانتهم بقوانينه، وانتشار الظلم والعدوان فيهم؛ من ملوكهم إلى صعاليكهم ومن خاصتهم إلى عامتهم، هو الذي شلَّ حركة تقدّمهم، وأضعف قوَّتهم، وحطَّم معنوياتهم، وجلب عليهم الويل والثبور، فأهلكهم الله(عزوجل) بذنوبهم: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغيِّراً نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلى قَومٍ حَتَّى يُغيِّروا ما بأَنفُسِهِمْ﴾، تلك سنّة الله في خلقه ﴿إِنَّهُ لا يُفلحُ المُجرِمُونَ﴾، ﴿وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحوُن﴾، ﴿وَكذَلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذا أَخَذَ القُرَى وَهي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليِمٌ شَدِيدٌ﴾.

وكيف يُنتظر من الدين أن ينتشل الأُمّة من وهدتها وهو عندها حبرٌ على ورق؛ لا يُعمل بأقل القليل من تعاليمه.

إنّ الإيمان والأمانة، والصدق والإخلاص، وحسن المعاملة والايثار، وأن يُحب المسلم لأخيه ما يحِب لنفسه، وأشباهها، من أوّل اُسس دين الاسلام، والمسلمون قد ودَّعوها من قديم أيّامهم إلى حيث نحن الآن، وكلّما تقدمّ بهم الزمن وجدناهم أشتاتاً وأحزاباً وفرقاً، يتكالبون على الدنيا، ويتطاحنون على الخيال، ويكُفِّر بعضهم بعضاً، بالآراء غير المفهومة، أو الأُمور التي لا تعنيهم، فانشغلوا عن جوهر الدين، وعن ما صالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن، والقول بالوعيد والرجعة وأنّ الجنة والنار مخلوقتان أو سيُخلقان، ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق، وكفَّر بها بعضهم بعضاً، وهي إن دلَّت على شيء فإنّما تدلّ على انحرافهم عن سنن الجادّة المعبّدة لهم، إلى حيث الهلاك والفناء.

وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان، حتى شملهم الجهل والضلال، وانشغلوا بالتوافه والقشور، وبالأتعاب والخرافات والأوهام، وبالحروب والمجادلات والمباهاة،

ص: 280

فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها، يوم تمكَّن الغرب المتيقظ العدو اللَّدود للإسلام من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام، وهي في غفلتها وغفوتها، فيرمي بها في هذه الهوّة السحيقة، ولا يعلم إلاّ الله(عزوجل) مداها ومنتهاها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلاّ أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والاَجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة، ليمحو الظلم والجور من بينهم، وبذلك يتمكّنون من أن ينجو بأنفسهم من هذه الطامة العظمى، ولا بدَّ بعد ذلك أن يملأوا الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، كما وعدهم الله~ ورسوله، وكما هو المترقَّب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان، ولا رجاء في صلاح الدنيا وإصلاحها بدونه.

ولا بدَّ من إمام ينفي عن الإسلام ما علق فيه من أوهام، وأُلصق فيه من بدع وضلالات، وينقذ البشر وينجّيهم ممّا بلغوا إليه من فساد شامل، وظلم دائم، وعدوان مستمر، واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية،(عجل الله تعالی فرجه الشریف)». انتهى.

إن ما أشار إليه الشيخ في هذه العقيدة واضحٌ، ومفادهُ:

أن الدين الخاتم هو الإسلام وهو الذي يجب الإيمان به، ولو طُبِق، لأَخَذَ الناس إلى طريق السعادة، ولكن خروقاتٍ وتلكؤاتٍ حدثت بعد استشهاد الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) أدّت الى أن يتجرد الكثير من المسلمين من الإسلام الحقيقي، وكما روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام): «يَأْتِي عَلَىٰ النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَىٰ فِيهِمْ مِنَ القُرْآنِ إِلَّا رَسْمُه، وَمِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُه، وَمَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ البِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ الهُدَىٰ، سُكَّانُهَا وَعُمَّارُهَا شَرُّ أَهْلِ الأَرْضِ، مِنْهُمْ تَخْرُجُ الفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَأْوِي الخَطِيئَةُ، يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا، وَيَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَه فَبِي حَلَفْتُ: لأَبْعَثَنَّ عَلَىٰ أُولَئِكَ فِتْنَةً تَتْرُكُ الحَلِيمَ

ص: 281

فِيهَا حَيْرَانَ، وَقَدْ فَعَلَ وَنَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللهَ عَثْرَةَ الغَفْلَةِ»(1).

ومن المفيد في المقام أن نشير إلى عدة إشارات مهمة:

الإشارة الأولى: ما هو الفرق بين الاسلام والايمان؟

نذكر ثلاث رواياتٍ تبين الفرق بينهما، وقد ذكرها الشيخ الكليني(رحمه الله علیه).

الرواية الأولى: عَنِ القَاسِمِ الصَّيْرَفِيِّ شَرِيكِ المُفَضَّلِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله(علیه السّلام) يَقُولُ: «الإِسْلَامُ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وتُسْتَحَلُّ بِه الفُرُوجُ، والثَّوَابُ عَلَى الإِيمَانِ».(2)

الرواية الثانية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا(علیهما السّلام) قَالَ: «الإِيمَانُ إِقْرَارٌ وعَمَلٌ والإِسْلَامُ إِقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ».(3)

الرواية الثالثة: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ السِّمْطِ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله(علیه السّلام) عَنِ الإِسْلَامِ والإِيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ سَأَلَه فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ التَقَيَا فِي الطَّرِيقِ وقَدْ أَزِفَ [أي قرب] مِنَ الرَّجُلِ الرَّحِيلُ فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله(علیه السّلام): «كَأَنَّه قَدْ أَزِفَ مِنْكَ رَحِيلٌ»؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: «فَالقَنِي فِي البَيْتِ»، فَلَقِيَه فَسَأَلَه عَنِ الإِسْلَامِ والإِيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ:

«الإِسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي عَلَيْه النَّاسُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، وإِقَامُ الصَّلَاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحِجُّ البَيْتِ وصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ،

ص: 282


1- نهج البلاغة: 540/ ح 369.
2- الكافي للكليني ج2 ص 24 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ ح1.
3- الكافي للكليني ج2 ص 24 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ ح2.

فَهَذَا الإِسْلَامُ.

وقَالَ: الإِيمَانُ مَعْرِفَةُ هَذَا الأَمْرِ مَعَ هَذَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا ولَمْ يَعْرِفْ هَذَا الأَمْرَ كَانَ مُسْلِماً وكَانَ ضَالاًّ».(1)

والخلاصة المستفادة من هذه الروايات الثلاثة يكمن الفرق بينهما في التالي:

أن الإسلام هو عبارة عن حصانة دبلوماسية إذا صح التعبير، يحقن الشخص بها دمه وعرضه وماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، يصلي عليه المسلمون إذا مات، ويدفن في مقابر المسلمين، ويجوز تزويجه والزواج منه، إلى آخر هذه الأحكام الظاهرية.

وأن هذه المرتبة من الإسلام يمكن أن تجتمع مع النفاق؛ لأنها مجرد إظهار للإسلام بمجرد لقلقة لسان، ومن هنا كان الثواب على الإيمان (الاعتقاد الباطني)، وهذا ما عبرت عنه الرواية الأولى.

وهو نفس المعنى المراد في الرواية الثانية من أنَ الإسلام: إقرار بلا عمل، فإذا اقترن بالعمل كان إيماناً.

أما الرواية الثالثة فقد ذكرت الركن الأساسي في الإيمان وهي: الولاية لأهل البيت(علیهم السّلام) وهي أس الإسلام.

إذاً الفرق الأساسي بين الإسلام والإيمان هو أن الإسلام متعلقٌ بالظاهر، وأما الإيمان فمتعلق بالباطن، وهو عقد القلب بما تلفظ به بلسانك.

ص: 283


1- الكافي للكليني ج2 ص 24 - 25 بَابُ أَنَّ الإِسْلَامَ يُحْقَنُ بِه الدَّمُ وتُؤَدَّى بِه الأَمَانَةُ وأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الإِيمَانِ/ 4.

الإشارة الثانية: مستويات القوانين الأخلاقية في القرآن الكريم.

اشارة

إن في الاسلام قوانين أخلاقية تأخذ بيد الإنسان إلى طريق الصلاح والسعادة.

وقد أشار الشيخ (طيب الله ثراه) إلى ذلك، ولو راجعنا القرآن الكريم والروايات الشريفة فلربما استطعنا أن نستخلص مستوياتٍ خمسة مترتبة بعضها على البعض الآخر للقوانين الأخلاقية في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

والمستويات الخمسة هي:

المستوى الأول: القدوة الصالحة.

من الواضح أنَّ المربي إذا ما أراد أن يربي شخصاً ما، فإنه لابد أن يسلك معه عدة طرق أو أساليب لأجل ذلك، فمنها أسلوب الترهيب وأسلوب الترغيب، ومنها أسلوب المراقبة عن بعد، ومنها أسلوب الأسوة الصالحة؛ إذ من الواضح أن يتأثر الإنسان بالشخصية الكاملة لاسيما إذا اعتقد أنّها قدوةٌ له؛ لذا ركزَّ عليه دين الإسلام عندما أرشدنا إلى الإنسان الكامل الذي يجب أن نتخذه قدوةً صالحةً نتبعها في جميع مجالات الحياة، وهو الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال الله(عزوجل): ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾(1)

وقد جسّدت ذلك سيرته العطرة(صلی الله علیه و آله و سلم) التي سنذكر منها نماذج في عقيدتنا في صفاته(صلی الله علیه و آله و سلم) إن شاء الله تعالى، ومن ذلك ما روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام) أنَّه قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه

ص: 284


1- الأحزاب 21.

وتعالىٰ: ﴿طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾(1)»(2).

المستوى الثاني: تصحيح المفاهيم بما يناسب روح الإسلام.

فقد بدأ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) -وهو القدوة الصالحة المنزّه عن أي خلل أخلاقي أو سلوكي- بعملية يمكن أن تُسمى بعملية انقلاب المفاهيم، وخلاصتها:

قيامهs بتشذيب المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها عند العرب في زمن الجاهلية، والتي كانت تمثل سلوكاً اجتماعياً، فلم يقم(صلی الله علیه و آله و سلم) بإلغاء كل ذلك السلوك، بل هذّبه بما يتناسب وروح الإسلام من خلال التعديل فيما يلزم تعديله، أو حذف ما يلزم حذفه،كتعديله لمفهوم الظلم الذي هو عند الجاهلية بمعنى الاعتداء على الغير وسلبه حقه، فأضاف إليه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ظلم النفس أيضاً وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(3)

وكمفهوم الشجاعة التي كانت تعني القوة البدنية والجرأة وخوض المعارك والحروب بدون تردد وخوف، ولكن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) وسّع دائرته لتشمل البعد المعنوي أيضاً، يدلنا على ذلك ما روي أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّه مرَّ بقوم فيهم رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، وهم يعجبون منه، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما هذا؟»، قالوا: رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، فقال: «ألَا أُخبركم بما هو أشدّ منه؟ رجل سبَّه رجل فحلم عنه، فغلب نفسه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه»(4).

ص: 285


1- طه: 1 و2.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
3- النحل 118.
4- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 289/ح 13050/10)، نقلاً عن الشيخ ورّام في تنبيه الخاطر.

فهنا بيّن(صلی الله علیه و آله و سلم) معنى آخر للشجاعة وهي القوة النفسية التي يغلب بها الإنسان نفسه ويملكها عند الغضب ويغلب شيطانه وشيطان صاحبه.

وكمفهوم الجهاد، إذ المعروف عنه أنه الذهاب إلى المعركة ومقاتلة الأعداء، ولكن وسّعه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ليشمل جهاد النفس، فقد روي عن أبي عبد الله(علیه السّلام): «إنَّ النبيَّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بعث بسرية، فلمَّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي (عليهم) الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(1).

المستوى الثالث: ربط الأعمال بالداعي الإلهي.

أي جعل أساس العمل هو الدافع الذاتي والنية الخالصة لله(عزوجل)، فقد تجد شخصين يصليان نفس الصلاة من حيث المحتوى الظاهري والعمل الجوارحي، إلا أن المحتوى الباطني أو القصد الجوانحي للمصلي نفسه مختلف، بحيث إنه أثّر في كلٍ منهما فأهبط الأولى نحو البطلان لأنها كانت رياءً مثلًا، ورفع الأخرى نحو القبول لأنها كانت خالصة لله تعالى.

ومن هنا فقد أكدّت الروايات الشريفة على جعل النية هي الأساس في قبول الأعمال وعدمه، بل وحتى في الخلود في الجنة أو النار، فقد روي عن أبي هاشم، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السّلام) عن الخلود في الجنَّة والنار، فقال: «إنَّما خُلِّدَ أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّدَ أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: «﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾(2)،

أي علىٰ نيَّته»(3).

ص: 286


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 12/ باب وجوه الجهاد/ ح 1).
2- الإسراء: 84.
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ ح 94).

المستوى الرابع: تأسيس القوانين الأخلاقية.

بعد أن صار النبيs قدوة صالحة، واستطاع بصبره وحكمته أن يقلب الكثير من المفاهيم المغلوطة إلى مفاهيم صحيحة، وعمد إلى ربط العمل بالدافع الإلهي (الاخلاص)، جاء الإسلام ليؤسس قوانين أخلاقية جديدة تعالج جميع مشاكل الحياة على جميع المستويات، وما بعض سور القرآن الكريم إلا عبارة عن سلسلة من القوانين الأخلاقية كسورة الإسراء والحجرات وغيرهما. من تلك القوانين: قوله تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(1)

وهو قانون أخلاقي يدعو إلى العمل للآخرة؛ لأن كل ما في الحياة الدنيا مؤقت.

وفي آية أخرى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(2)

ولكن لم يقتصر الدين الإسلامي في دعوته على التمسك بالآخرة فقط، بل ودعا إلى التمسك بالدنيا أيضاَ ولكن على نحو الوسيلة لا الغاية، قال عز من قائل: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ﴾(3)

ومن الجدير بالذكر: أن الدين الإسلامي لم يقتصر على تأسيس القوانين والنظم الأخلاقية فقط، بل شمل تأسيسه للنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكننا ركّزنا الكلام عن النظم الأخلاقية فحسب؛ لأهميتها من جهة، ومراعاةً للاختصار من جهةٍ أخرى.

المستوى الخامس: بيان ثمرات الأعمال الأخلاقية.

من طبيعة الإنسان أنه ميّال إلى معرفة الثمار التي يمكن أن يجنيها من الأعمال التي

ص: 287


1- التوبة 38.
2- العنكبوت 64.
3- القصص 77.

يقوم بها، وكذا ما نُهيَ عنه منها، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة، وتحريم الغيبة والكذب والنميمة وما إلى ذلك.

وقد تكفلّت الآيات والروايات ببيان ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾(1)

وفي قوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: ثواب عملك أفضل من عملك.(3)

الإشارة الثالثة: بدء المسلمين بالانحطاط والتردّي الأخلاقي والديني.

وقد أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى ذلك في عباراته.

ولابد في المقام أن نلتفت إلى أهم الخطط التي سلكها أعداء الدين لتدمير الإسلام في نفوس المسلمين، لا لغرض إيصال المعلومات فحسب، بل لأجل توعية المسلمين وبيان خطر تلك المخططات والعمل على صدها، وهو عملٌ من صميم الانتظار الحقيقي للإمام(عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ إذ إن الانتظار إنما هو عبارة عن بناء الإنسان والتمهيد العملي لظهور الامام(علیه السّلام)، لا أنه يحمل مفهوماً سلبياً كما يحلو للبعض أن يصوّره، فيدعو العاملين إلى ترك الساحة بما فيها من آفات وشبهات ومخططات تدميرية حتى يظهر الإمام(عجل الله تعالی فرجه الشریف).

ص: 288


1- مريم 76.
2- النحل 96.
3- عيون الحكم والمواعظ للّيثي الواسطي ص 218.

مخططات تدمير الإسلام:

من أهم تلك المخططات:

أولاً: تشكيك المسلمين في دينهم، وذلك من خلال التشكيك في بعض الأحكام الشرعية وتصويرها على أنها أحكام جائرة قاسية مجردة من الرحمة، كحكم قطع يد السارق وحكم رجم الزاني وحكم حجاب المرأة وما شابه ذلك.

وقد أثّرت هذه التشكيكات في بعض المسلمين وللأسف الشديد، حتى أضحى الشاب الملتزم يُعيَّر بالتزامه ويُطلق عليه مصطلح (إسلامي)، كما يُطلق على الفتاة الملتزمة كلمة (معقدة) وما شابه.

ثانياً: تشجيع الحركات والمذاهب الحاملة لاسم دين الإسلام المعادية لروحه وتعاليمه، كحركة الوهابية التي تتخذ من القتل والتكفير مبدأً محوريًا من مبادئها، مشوهةً بذلك صورة الاسلام والمسلمين.

ثالثاً: نشر الفساد الأخلاقي.

وقد صرّح أحدهم بذلك قائلاً: كأسٌ وغانيةٌ يفعلان بالأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع.

ومن أنماط الفساد الأخلاقي التي يؤكد عليها الأعداء هي: الجنس، الخمور، والمخدرات، الأدب المكشوف الذي تنتهجه أغلب المسلسلات والأفلام اليوم، وهو عبارة عن تبرير الأخطاء الفادحة وإظهار الجاني بصورة الضحية، من خلال الضرب على مشاعر المتلقين وتجنيدها في الجبهة التي يرغبون، من ذلك تصوير الزوجة الخائنة على أنها مظلومة، وشارب الخمر على أنه إنسان شهمٌ وذو نخوة بالقياس إلى أقرانه في القصة من المتدينين...

ص: 289

الرابعة: تشويه صورة العلماء لدى العامة، وهو من أخطر المخططات، وإن من الأهمية بمكان تنبيه عامة الناس إلى ذلك؛ لئلا ينجرفوا مع التيار الماكر.

ومن المفيد أن نستشهد ببعض النصوص التي وردت في كتب الأعداء والتي تؤكد ما أسلفناه من صور المخططات منها كتاب بروتوكولات حكام صهيون، فقد جاء في بعض بنود مخطَّطات اليهود ما نصّه: «وقد عنينا عناية عظيمة بالحطِّ من كرامة رجال الدين من الأُمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا. وإنَّ نفوذ رجال الدين علىٰ الناس ليتضاءل يوماً فيوماً»(1).

بالإضافة إلىٰ أنَّ الوثيقة الرابعة من الوثائق الاشتراكية اليهودية(2) تقول فيما تقول(3):

2 - تشويه سمعة رجال الدين، والحكّام المتديِّنين، واتِّهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية.

4 - الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم بيقظة لمحو أيّ انبعاث ديني.

5 - ومع هذا لا يغيب عنّا أنَّ للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات؛ ولذا وجب

ص: 290


1- الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) لمحمّد خليفة التونسي.
2- نقلها الأُستاذ طارق حجّي في كتابه (الشيوعية والأديان)، هذا الرجل الذي اعتقد الماركسية ومارس العمل بمبادئها، وقرأ فيها خمسة آلاف مرجع، ونش-رتها كذلك مجلَّة (كلمة الحقِّ) في العدد الصادر في شهر المحرَّم سنة (1387ه-)، ووردت في كتاب: (الكيد الأحمر) للمؤلِّف عبد الرحمن حسن حنبكة.
3- ملاحظة: ترقيم الفقرات حسب ما هو موجود في الوثيقة.

أن نحاصره من كلِّ الجهات، وفي كلِّ مكان، وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأُسلوب الذي لا ينمُّ عن معاداة الإسلام.

6 - تشجيع الكُتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرّية كلّها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية.

14 - تحطيم القيم الدينية والروحية، واصطناع الخلل والعيوب لها.

18 - إلصاق كلّ عيوب الدراويش، وخطايا المنتسبين للدين بالدين نفسه؛ لإثبات أنَّ الدين خرافة.

19 - تسمية الإسلام الذي تُؤيِّده الاشتراكية لبلوغ مآربها وتحقيق غاياتها - بالدين الصحيح، والدين الثوري، والدين المتطوّر.

20 - باسم تصحيح المفاهيم الإسلاميَّة، وتنقية الدين من الشوائب، وتحت ستار الإسلام، يتمُّ القضاء عليه بأن نستبدل به الاشتراكية).

بهذا وأمثاله أرادوا تشويه صورة العلماء وللأسف نجحوا في كثير من الاحيان، ولكن نحن يجب ان نتذكر قيمة العلماء كما يقول الامام الهادي صلوات الله وسلامه عليه: لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم(علیه السّلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله(عزوجل)»(1).

ص: 291


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.

ص: 292

عقيدتنا في مشرّع الإسلام

الخطوة الثانية: النبوة الخاصة.

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في مشرع الإسلام:

نعتقد: أنَّ صاحب الرسالة الاسلامية هو محمد بن عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضلهم على الإطلاق كما أنَّه سيد البشر جميعاً لا يُوازيه فاضل في فضل ولا يُدانيه أحدٌ في مكرمة، ولا يقاربه عاقلٌ في عقل، ولا يشبهه شخص في خلق، وأنه لعلى خلقٍ عظيم، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة». انتهى.

تقدم حديث الشيخ(قدس سره) عن النبوة العامة بما هي أصل، بقطع النظر عن ذكر أي نبيٍ من الأنبياء. وبعد أن أكمل المفهوم العام للنبوة وما يتعلق بها من عصمة والدليل عليها من إعجاز، انتقل إلى الحديث عن النبوة الخاصة المتمثلة بنبوة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذكر معجزته ودستوره وهو القرآن الكريم، وانتقل إلى طريقة اثبات الإسلام في قبال الديانات الأخرى. وهي أمور لا يكتنفها الكثير من التعقيد، يمكننا أن نوضحها بالإشارات الآتية:

الإشارة الاولى: أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) هو أفضل ما خلق الله(عزوجل).

وهو أمر متفق عليه لم يختلف عليه أحد من المسلمين، والأدلة الدالة عليه كثيرة

ص: 293

جداً، منها ما ورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع».(1) وفي حديث آخر للرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذ وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر».(2)

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اللهs انْتَهَى بِه جَبْرَئِيلُ إِلَى مَكَانٍ فَخَلَّى عَنْه، فَقَالَ لَه: يَا جَبْرَئِيلُ تُخَلِّينِي عَلَى هَذِه الحَالَةِ؟ فَقَالَ: امْضِه، فَوَاللهِ لَقَدْ وَطِئْتَ مَكَاناً مَا وَطِئَه بَشَرٌ ومَا مَشَى فِيه بَشَرٌ قَبْلَكَ».(3)

كما أشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أنَّ النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) هو خاتم النبيين، وهو أمرٌ متفقٌ عليه بين المسلمين أيضاً، وقد أكّد عليه كل من القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(4)

وكذا السنة النبوية المطهرة، كما في قول الرسول الأكرم مخاطباً الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليهما): «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي».

الإشارة الثانية: اتصافه(صلی الله علیه و آله و سلم) بالأخلاق الفاضلة.

لقد كان(صلی الله علیه و آله و سلم)أعبد الناس، فقد روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام) أنَّه قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم

ص: 294


1- مسند أحمد بن حنبل ج2 ص 540.
2- كنز العمال للمتقي الهندي ج11 ص 403 ح31878.
3- الكافي للكليني ج1 ص 442 بَابُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ووَفَاتِه/ ح12.
4- الأحزاب 40.

من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ﴿طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾(1)»(2).

ومع هذا لم يكن ليترك الدنيا مطلقاً، بل كان يأكل ويشرب ويُحِبُّ الطيب ويقارب النساء، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) أشدّ الناس حياءً، فقد كان أحيىٰ من العذراء في خدرها، وكانs(صلی الله علیه و آله و سلم) لا يُسئَل شيئاً إلَّا أعطاه، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) متواضعاً بحيث كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل علىٰ الحضيض، وينام علىٰ الحضيض، وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) يحلب المعز بيده، ويلبس الصوف، ويُسلِّم علىٰ الصبيان (لتكون سُنَّة من بعده)، وكان إلىٰ جانب ذلك أشجع الناس، قال أمير المؤمنين(علیه السّلام): «لقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو أقربنا إلىٰ العدوِّ، وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً»(3)، وقال(علیه السّلام): «كنّا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتَّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلىٰ العدوِّ منهs»(4).

وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) خير الناس بأهله، وأرحمَهم بهم.

إلى غيرها من الصفات الكثيرة التي ينبغي للمسلم أن يجعلها منهاجاً في حياته يتمثلها في سلوكه اليومي.

ص: 295


1- طه: 1 و2.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
3- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 18).
4- المصدر السابق.

الإشارة الثالثة: ديانة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) قبل بعثته في عمر الأربعين.

مما لا شك فيه أنَّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يسجد لصنم قط قبل بعثته، ولم ينحرف عن خط التوحيد بل والإنسانية العام؛ لذا كان(صلی الله علیه و آله و سلم) يُسمى بالصادق الأمين، وقد كان كذلك في نظر قريش حتى بعد بعثته فضلاً عما قبلها، فعندما هاجر(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى المدينة ترك الإمام علي(علیه السّلام) في مكة المكرمة؛ وذلك لعدة غايات إحداها: ليرد الودائع إلى أهلها، أي إنه(صلی الله علیه و آله و سلم) ولمدة ثلاث عشرة سنة يدعو قريش إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ويحذرهم من عذاب النار ولم يستجيبوا لدعوته، وبالرغم من كل ذلك كانوا يودعون أماناتهم عنده؛ ليقينهم بأمانته وعدم تصورهم خيانته يوماً ولو لمن هم في نظره كفار مشركون يستحقون نار جهنم.

أقوال في ديانة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):

القول الأول: ذهب البعض الى أنه كان على الديانة المسيحية؛ لأنه الدين السابق على الإسلام ولم يكن منسوخاً بعد.

القول الثاني: أنّه كان على دين إبراهيم الخليل(علیه السّلام).

ولكن لا يوجد دليل واضح على هذين القولين.

القول الثالث: أنَّه كان على دينٍ لا نعرفه.

والصحيح والله العالم: أنّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يتعبد ببرنامج خاص به.

ويعضد هذا الرأي عدة مؤيدات:

المؤيد الاول: لم يُبعث الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بالنبوة في الأربعين من عمره، وإنما بُعِث بالرسالة. وإلا فقد كان نبياً قبل ذلك، وهو رأي العلامة المجلسي(رحمه الله علیه).(1)

ص: 296


1- هناك بحث مفصل وطويل ذكره العلامة المجلسي(رحمه الله علیه) في بحاره ج18 ص 271 وما بعدها، بعنوان: تذنيب: اعلم أن علماء الخاصة والعامة اختلفوا في أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) هل كان قبل بعثته متعبدا بشريعة أم لا... فمن أحب الاستزادة فليراجع المصدر، ففيه الكثير من الفوائد النافعة.

بل في بعض الروايات أنه كان(صلی الله علیه و آله و سلم) نبياً قبل إتمام خلق آدم(علیه السّلام)، فقد روي عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين».(1)

وفي رواية: «نُبّئت وآدم بين الروح والجسد».(2)

وعليه فليس من المستبعد أن يكون قد تعبد قبل بعثته وفقاً لمنهاجٍ خصه الله(عزوجل) به.

المؤيد الثاني: وصف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في نهج البلاغة إياه(صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: «ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(صلی الله علیه و آله و سلم)، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ المَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه...»(3)

فوجود الملك معهs يشير إلى أنّه كان نبياً يتعبد بمنهاجه الديني الخاص من الله(عزوجل) بواسطة ذلك الملك.

المؤيد الثالث: أنّ التاريخ لم يذكر لنا بأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) قد تعبد في كنيسة أو معبد لليهود أو في أيِّ معبد لأي ديانة من الديانات، بل كان يذهب لوحده في غار حراء ليتعبد هناك، وهذا يشير إلى أنَّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يتعبد وفقاً لمنهاج خاص به.

المؤيد الرابع: معرفته(صلی الله علیه و آله و سلم) بالله(عزوجل) قبل بعثته وباعتماده على نفسه دون سواه، وذلك ما أوضحته بعض الروايات منها ما ورد عن ابن عباس عن حليمة السعدية مرضعته(4)(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 297


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ج4 ص 121.
2- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 248.
3- نهج البلاغة ج2 ص 157.
4- بناءً على صحة كونها مرضعته(صلی الله علیه و آله و سلم).

أنَّها قالت: فلما تمَّ له ثلاث سنين قال لي يوما: يا أمّاه مالي لا أرى أخويَ بالنهار قاصداً أخويه من الرضاعة --؟

قلت له: يا بني إنهما يرعيان غُنيمات. فقال لي: ومالي لا أخرج معهما؟ قلت له: تحب ذلك؟ قال: نعم. فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانية، فنزعها ثم قال لي: مهلاً يا أماه فإن معي من يحفظني.(1)

وبناءً على ما تقدّم:

فإننا نعتقد وبشكل قاطع بإيمان الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بل ونبوته أيضاً قبل بعثته المباركة، وعليه ينبغي فهم النصوص الشرعية وفقاً لهذه العقيدة، وهذا ما تعتقده الفرقة الإمامية.

تتمات:

التتمة الأولى:

في الوقت الذي نؤمن بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بهذا المعنى، فإن بعض العامة لا تأبه لذلك كثيراً؛ بل إنهم ينسبون له(صلی الله علیه و آله و سلم) ما لا يُرتضى لمثله، ومن ذلك ما ورد في تفسير الرازي في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىٰ﴾(2)

قال ما نصه: «فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر، ثم هداه الله وجعله نبياً، قال الكلبي: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد، وقال السدي: كان على دين قومه أربعين سنة، وقال مجاهد: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ عن الهدى لدينه..».(3)

ص: 298


1- بحار الأنوار ج15 ص 392.
2- الضحى 7.
3- تفسير الرازي ج31 ص 216.

التتمة الثانية: حديث شق الصدر.

أساءت إلى الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) كثيرٌ من الأحاديث في كتب العامة، إلا أننا نقتصر في المقام على بيان حديث لانتشاره بينهم أولاً، ولقولهم بتكرار مضمونه في أكثر من مرحلة عمرية من حياته الشريفة ثانياً، فضلاً عن جسامة الإساءة التي نسبت إليه(صلی الله علیه و آله و سلم) فيه، وهو حديث شق الصدر(1)، ومفاده:

روي عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أتاه جبرائيل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله بطست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمه ثم أعاده في مكانه، وجاؤوا الغلمان يسعون إلى أمه وقالوا: إنَّ محمداً قد قُتِل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وكنت أرى ذلك المخيط في صدره...(2)

وقد ذكروا أنَه قد شُقَّ صدره خمس مرات، أربعة منها ثابتة في عمر الثلاث سنوات، والأخرى في العاشرة من عمره، والثالثة عند مبعثه، ورابعة عند الإسراء، أما الخامسة فقد اختلفوا فيها.

وبعيداً عن المناقشة السندية نتناول متن الحديث بشيءٍ من النقاش في النقاط الآتية:

الأولى: عبارة (وهو يلعب مع الصبيان):

من الثابت في عقيدتنا أنَّ الأنبياء والأئمة جميعاً من خصائصهم المعروفة أنّهم لا يلهون ولا يلعبون مع الصبيان كغيرهم من الأقران، والشواهد على صحة تلك العقيدة

ص: 299


1- للتفاصيل انظر: الصحيح من سيرة النبي الأعظمs للسيد جعفر مرتضى العاملي(رحمه الله علیه) ج2 ص 164 وما بعدها.
2- انظر مسند أحمد ج3 ص 121 و 149 و 288 وصحيح مسلم ج1 ص 101 – 102 وغيرها.

كثيرةٌ، منها ما جاء من قول الله تعالى في قصة يحيى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا... يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾(1)

وقد روي في ذلك: أنَّه كان صبياً فقال له الصبيان: هلُّم بنا نلعب، فقال: «أوهٍ والله ما للعبِ خُلِقنا وإنّما خُلقنا للجد لأمرٍ عظيمٍ».(2)

فإذا كان النبي يحيى(علیه السّلام) لم يرضَ باللعب في صباه، فكيف بسيده وأفضل المخلوقات والأنبياء النبي محمدs؟!

كما روي أنَّ الإمام الصادق(علیه السّلام) قد سُئلَ عن صاحب هذا الأمر فقال: «هو من لا يلهو ولا يلعب»، يقول الراوي: فأقبل الإمام الكاظم(علیه السّلام) صغيراً ومعه عناق له وهو يقول لها: «اسجدي لربك»، فضمه الإمام الصادق(علیه السّلام) وقال: «بأبي من لا يلهو ولا يلعب».(3)

وفي بعض الروايات أنَّ حليمة السعدية روت في أحوال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنها قالت: «وكان أخواه من الرضاعة يخرجان فيمران بالغلمان فيلعبان معهم وإذا رآهم محمدs اجتنبهم وأخذ بيد أخويه ثم قال لهما: إنّا لم نخلق لهذا...»(4)

الثانية: عبارة (فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك)

ما يفهم من منطوق هذه العبارة أن مصدر الشر في الإنسان ودافعه إلى ارتكاب

ص: 300


1- مريم 7 و12.
2- التفسير المنسوب للإمام العسكري(علیه السّلام) ص 661.
3- الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي النباطي البياضي ج2 ص 164.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15 ص 391.

المعاصي واقتراف الذنوب يكمن في علقة في القلب، فإن زالت زال من الإنسان كل شر، والعكس صحيح فيما إذا بقيت. وللرد عليها نقول:

هل من الصحيح أن مصدر الشر والذنوب والمعاصي هو علقة في القلب؟

لو كان الأمر كذلك عند كل إنسان، فالأمر جداً يسير، إذ بإمكانه أن يدرأ عن نفسه مؤونة جهاد النفس وصعوبته من خلال قيامه بإجراء عملية جراحية يستأصل فيها تلك العلقة، لاسيما في الوقت الراهن الذي يشهد تطور العلم والطب، بل ويُصبح حينئذٍ معصوماً.

أما إن اقتصر تواجد تلك العلقة في قلب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حصراً، فالأمر أدهى وأمرّ حينئذٍ، إذ يكون في أكرم المخلوقات وأفضلها وأقربها إلى الله تعالى وأرقاها، مصدرٌ للشر قد تنزهت عن تضمنه سائر قلوب المخلوقات! وفيه إساءة أكبر للرسول الأعظمs كما هو واضح.

الثالثة: لو سلّمنا جدلاً أنَّ مصدر الشر هي علقة في القلب، فهل إنَّ هذه العلقة من النوع الذي ينمو كلما قُلِع، ولأجل ذلك تكررت هذه العملية أربع مرات، وفي أوقات متباعدة؟ أو إنَّ الجراح كان غير حاذق، فاستدعى تكرار العملية رغم أنها واحدة لا غير؟!

الرابعة: هذا الحديث يتنافى مع صريح القرآن الكريم، إذ يقول تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ﴾(1)

ص: 301


1- الحجر 39--42.

ويقول جل وعلا: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾.(1)

وقال جل شأنه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(2)

فإذا كان العبد المخلص من عباد الله تعالى فإن الشيطان لا يقربه، فكيف بسيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله؟!

الخامسة: هذا الحديث يسيء إلى الدين الإسلامي برمته، ويدعو البعض إلى القول بأحقية النصرانية في الاتباع منه. فقد روي في صحيح البخاري (ما من بني آدم مولود الا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان غير مريم وابنها)(3)

وهذا ما يعتقد به المسيحيون من أنّ السيدة مريم وابنها النبي عيسى(علیهما السّلام) لم يمسهما الشيطان، وإذا ضممنا إليه حديث شق الصدر، تكون النتيجة واضحة جداً مفادها: أنَّ الأفضل بين النبيين هو النبي عيسى(علیه السّلام) فلِمَ يجب على الناس اتباع المفضول في حين أن الفاضل موجود؟!

وقد علم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بما سيروى عنه كذباً ومآل ذلك على صحة العقيدة الإسلامية بل والدين الإسلامي برمته كما تقدّم؛ لذا فقد حذّر في خطبة حجة الوداع من الكذب عليه قائلاً: «قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده

من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به».(4)

ص: 302


1- الإسراء 65.
2- النحل 99.
3- صحيح البخاري ج4 ص 138.
4- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 246.

وعملاً بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) هذا، فإننا لو عرضنا هذه الرواية وأمثالها على القرآن الكريم، فإننا نقطع بمخالفتها للقرآن الكريم؛ لأنه(صلی الله علیه و آله و سلم) من أفضل عباد الله المخلصين.

وبالإضافة إلى تفنيد القرآن الكريم لهذا الحديث المكذوب، فإن سيرته العطرة(صلی الله علیه و آله و سلم) هي الأخرى تضرب بهذا الحديث عرض الجدار وتنفي مضمونه جملةً وتفصيلاً، فهو(صلی الله علیه و آله و سلم) قبل أن يُبعث كان يُلقب بالصادق الأمين، كما أنه لم يسجل التأريخ عليه ارتكابه لمعصيةٍ واحدة مهما صغرت، أو كان من المتعارف عليها في الزمن الجاهلي، كشرب الخمر وارتكاب الفاحشة والسجود للصنم، بل ولم يصدر منه أي فعل مخالف للمرؤة.

فما هذا الحديث وأمثاله إلا خزعبلات وترهات ينبغي أن نُجل أيّ إنسانٍ عظيمٍ ملتزمٍ بما أمره الله(عزوجل) عنها، فكيف بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)؟!

التتمة الثالثة:

مما يؤسف له حقاً أنَّ روايات العامة يغلب على بعض منها -إن لم يكن الكثير منها- طابع الاستخفاف بقدسية الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فتارةً تصوره على ما تقدم، وأخرى كإنسان والعياذ بالله ماجن، وثالثة أنه يستمع للغناء، وما شاكل ذلك.

فإن كان هؤلاء المسلمون يصورون نبيهم على هذه الشاكلة، فلا غرو إذن أن يصوره الأعداء على ما صوروه في أفلامهم المسيئة له(صلی الله علیه و آله و سلم).

لذا فمن واجب المسلمين أجمع قبل التعبير عن الشجب والاستنكار لتلك الأفلام، أن يلتفتوا التفاتة جادة إلى مضمون كتبهم وما تحمله من مآسٍ وظلامات بحق منقذهم من الضلالة وأعظم ما خلق الله(عزوجل) من أول الخلق إلى يوم القيامة، كما أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في آخر عبارته إلى هذا المعنى عندما قال: «ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة، فلا يدانيه أحد في فضل».

ص: 303

ص: 304

عقيدتنا في القرآن الكريم

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«عقيدتنا في القرآن الكريم:

نعتقد أن (القرآن) هو الوحي الإلهي المنزل من الله(عزوجل) على لسان نبيه الأكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا تتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

ومن دلائل إعجازه أنه كلما تقدم الزمن وتقدمت العلوم والفنون، فهو باقٍ على طراوته وحلاوته وعلى سمو مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية، فإنه يبدو بعض منها على الأقل تافهاً أو نابياً أو مغلوطاً، كلما تقدمت الأبحاث العلمية وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وإفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوة العلمية والتفوق الفكري.

ونعتقد أيضاً بوجوب احترام القرآن الكريم وتعظيمه بالقول والعمل، فلا يجوز

ص: 305

تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزء منه على وجه يقصد أنها جزء منه، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه (لا يمسه إلا المطهرون) سواء كان محدثاً بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها، أو محدثاً بالحدث الأصغر حتى النوم، إلا إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية.

كما أنه لا يجوز إحراقه، ولا يجوز توهينه بأي ضربٍ من ضروب التوهين الذي يُعدُّ في عرف الناس توهينا، مثل رميه أو تقذيره أو سحقه بالرجل أو وضعه في مكان مستحقر، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الأمور وشبهها فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر برب العالمين». انتهى.

عقيدتنا في القرآن الكريم.

اشارة

نعتقد أنَّ القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)...

أشار الشيخ(رحمه الله علیه) في هذه العقيدة إلى عدة امور نذكرها في نقاط:

النقطة الأولى: الوحي.

الوحي لغة: هو الخطاب الخفي، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الوحي بهذا المعنى، وهو ينقسم الى قسمين:

القسم الأول: الوحي الرسالي: وهو وسيلة الاتصال بين الله(عزوجل) وبين أنبيائه، ولا يوحي الله جل جلاله بهذا الوحي إلا للأنبياء كما هو واضح، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾(1)

ص: 306


1- يوسف 109.

وقال جل شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(1)

فهو خطاب خفي إلى الرجال خاصة مع قيد ادّعاء النبوة.

القسم الثاني: الوحي غير الرسالي: وهو الخطاب الذي يوحي الله جل جلاله به لغير الأنبياء، سواء كانوا رجالًا أو نساءً، مع عدم ادّعاء النبوة بطبيعة الحال، مع الالتفات إلى أنَّ الوحي غير الرسالي قد يكون للبشر وقد يكون لسواهم، كالنحل وما شابه، لكن ما يهمنا في البحث هو خصوص الوحي للبشر، وهذا النوع من الوحي يشمل كلًا من الرجال والنساء.

فإذا اتضح الفرق بين قسمي الوحي، أمكننا فهم المراد من هذه الكلمة (الوحي) في كل مورد، فمثلاً المراد من الوحي في القول: أنَّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بوفاته انقطع الوحي، هو خصوص الوحي الرسالي، على حين أنَّ الوحي غير الرسالي هو المراد منه في تلك الروايات التي تحدثت عن أنَّ أمير المؤمنين(علیه السّلام) كان يوحى إليه، وأنَّ السيدة الزهراء(سلام الله علیها) كانت تحدثها الملائكة، أو أنَّ الأئمة(علیهم السّلام) كانوا يقولون: إنهم كان ينقر في آذانهم، وهو نوع من الوحي أيضاً، أو ما ورد في بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف) إذا أُذِنَ له بالظهور يوحى إليه بهذا المعنى(2)،

أي إنَّ الملائكة تحدثه، كل ذلك مع عدم ادعاء النبوة.

والوحي غير الرسالي ليس بدعاً من الرسل، حيث إنَ القرآن الكريم ذكر أمثلة عليه أوضحها ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾(3)

ص: 307


1- النحل 43.
2- بحار الأنوار ج52 ص 390.
3- القصص 7.

وفي قوله(عزوجل): ﴿إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(1)

وفي قوله سبحانه: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب﴾(2)

فهذا الوحي في هذه الآيات لا يمكن أن يكون رسالياً؛ لاختصاص الوحي الرسالي بالرجال؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(3)

فهذا الوحي لا مانع من استمراره بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، بخلاف الرسالي.

هذا ويسمى الشخص الذي يوحى إليه بالوحي غير رسالي ب-(المُحدَّث).

النقطة الثانية: القرآن تبيان كل شيء.

اشار الشيخ(رحمه الله علیه) إلى أنَّ في هذا القران تبيانًا لكل شيء، وهو ما صرّح به كل من القرآن الكريم والروايات الشريفة أيضاً.

فقد ورد عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن»(4)

أي يفكر في القرآن وتفسيره.

كما روي عن أمير المؤمنين(علیه السّلام) في حديثه حول القرآن الكريم:

ص: 308


1- آل عمران 45.
2- هود 71.
3- النحل 43.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 548 ح 2454.

«...أَلَا إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا يَأْتِي، والحَدِيثَ عَنِ المَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ...»(1)

وعن الإمام الصادق(علیه السّلام): «إِنَّ العَزِيزَ الجَبَّارَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَه وهُوَ الصَّادِقُ البَارُّ فِيه خَبَرُكُمْ وخَبَرُ مَنْ قَبْلَكُمْ وخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ وخَبَرُ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَوْ أَتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ لَتَعَجَّبْتُمْ».(2)

وعنه(علیه السّلام) أيضاً: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله(عزوجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(3).

وقد يرد سؤال مفاده:

إن كان في القرآن تبيان كل شيء، فلماذا لا نجد فيه علاج مرض معين أو قانون في الفيزياء وما شابه؟

في مقام الإجابة نقول(4):

إن هذا القرآن الكريم وإن كان فيه تبيان كل شيء، إلا أن إدراكه ليس متاحاً لكل أحد، بل هو أشبه ما يكون مشتملاً على خزائن من العلوم، ولكن ليس كل أحد يملك مفتاح تلك الخزائن.

ص: 309


1- نهج البلاغة ج2 ص 54.
2- الكافي للكليني ج2 ص 599 كِتَابُ فَضْلِ القُرْآنِ ح3.
3- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.
4- للجواب وجوه أُخر أكثر دقة وعمقًا، نتركها لدراسات أعلى.

وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله عز من قائل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾.(1)

وفي الرواية عن الامام الصادق(علیه السّلام) يقول: «نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله»(2).

النقطة الثالثة: إعجاز القرآن.

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) أن القرآن الكريم يمثل معجزة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).

ووجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة، نذكر منها:

الوجه الأول: بلاغته الفريدة.

كان العرب يعلّقون المعلقات على الكعبة تقديساً لبلاغتها، فلما نزل القرآن الكريم ورأوا بلاغته وقاسوها إلى ما هو موجود في تلك المعلقات، وجدوا أنّها سمجة جداً بالقياس إلى القرآن الكريم، فأنزلوها ليلاً خجلاً منها.(3)

وبالإضافة إلى عملهم هذا الموضح لمدى إكبارهم لبلاغة القرآن الكريم، فقد صرحوا بها في الكثير من المناسبات، فهذا الوليد بن المغيرة (ريحانة العرب) لمَّا سمع الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) يتلو آيات سورة غافر والتي أوَّلها: ﴿حم* تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ....﴾(4)،

فانطلق الوليد حتَّىٰ أتىٰ مجلس قومه بني مخزوم فقال: «والله، لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو وما يُعلىٰ»(5).

ص: 310


1- آل عمران: 7.
2- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة(علیهم السّلام)/ ح 1.
3- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي(علیه السّلام): 32.
4- غافر: 1 - 3.
5- راجع: تفسير جوامع الجامع للطبرسي 3: 673.

وقد لا نتذوق اليوم مدى بلاغته الراقية، لا لشيءٍ إلا لأننا ابتعدنا عن البلاغة ومقاييسها، ومع ذلك يمكننا إدراك بعض بلاغته عن طريق مطالعة الروايات وكلمات علمائنا الأعلام الواردة في تفسير بعض الآيات، وكيفية استخراج الأحكام البلاغية منها.

الوجه الثاني: عدم الاختلاف والتناقض في آياته الكريمة.

فالقرآن الكريم لا يمكن نقضه بتاتاً؛ فهو على نسقٍ واحد لا اختلاف بين آياته ولا تناقض، على الرغم من كثرة آياته نسبياً، ونزوله في مواقف مختلفة، وعند أحداث متباينة، وعلى مدى سنوات متمادية، فلو كان من تأليف البشر لتأثر حتماً بالظروف التي تحيط به والأحداث، ولتغيّرت طريقة كتابته على أقل التقادير، فكما هو معلوم أن الإنسان لو كتب كتابةً -بغض النظر عن جنسها الأدبي- فإنه بلا أدنى شك وعندما يعود إلى مطالعته بعد أشهر، فإنه يشعر بضرورة تغيير كلمةٍ أو تقديم فقرةٍ أو تأخيرها وما شابه ذلك، ومن هنا احتج القرآن الكريم لإثبات أنّ مصدره الله جلّ في علاه بعدم تناقضه بل بعدم اختلافه، قال(عزوجل): ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾(1)

ومن ذلك ما رواه هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفَّع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤون بالحاجِّ ويطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالَوا ننقض كلُّ واحد منّا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتَّفقوا علىٰ ذلك وافترقوا.

فلمَّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمَّا أنا فمفكِّر

ص: 311


1- النساء 82.

منذ افترقنا في هذه الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾(1)، فما أقدر أن أضمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكُّر في ما سواها.

فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿يا أَي-ُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ﴾(2)، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا﴾(3)،

لم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفَّع: يا قوم، إنَّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكِّر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الماءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَىٰ الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(4)،

لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر علىٰ الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرَّ بهم جعفر بن محمّد الصادق(علیهم السّلام)، فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾(5)

فنظر القوم بعضهم إلىٰ بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيَّة

ص: 312


1- يوسف: 80.
2- الحجّ: 73.
3- الأنبياء: 22.
4- هود: 44.
5- الإسراء: 88.

محمّد إلَّا إلىٰ جعفر بن محمّد، والله ما رأيناه قطُّ إلَّا هبناه واقشعرَّت جلودنا لهيبته، ثمّ تفرَّقوا مقرّين بالعجز(1).

وفي قضية الكندي وهو الفيلسوف الذي شغل نفسه بتأليف كتاب في تناقض القرآن، إذ روي أنَّ إسحاق الكندي الذي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرَّد به في منزله، وأنَّ بعض تلامذته دخل يوماً علىٰ الإمام الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد(علیه السّلام): «أمَا فيكم رجل رشيد يردع أُستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟».

فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟

فقال له أبو محمّد: «أتؤدّي إليه ما أُلقيه إليك؟».

قال: نعم.

قال: «فصر إليه وتلطَّف في مؤانسته ومعونته علىٰ ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقال: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنَّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلِّم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلَّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنَّك ذهبت إليها؟ فإنَّه سيقول لك: إنَّه من الجائز، لأنَّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يُدريك لعلَّه قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه».

فصار الرجل إلىٰ الكندي وتلطَّف إلىٰ أن ألقىٰ عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأىٰ ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلَّا أخبرتني من أين لك؟

ص: 313


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 142 و143.

فقال: إنَّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.

فقال: كلَّا، ما مثلك من اهتدىٰ إلىٰ هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرِّفني من أين لك هذا؟

فقال: أمرني به أبو محمّد.

فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلَّا من ذلك البيت، ثمّ إنَّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألَّفه(1).

الوجه الثالث: الإخبارات العلمية الموجودة في القرآن الكريم.

هناك عدة كتب أُلِّفت في هذه الإخبارات، والمقصود من الإخبار العلمي: أن تُشير آيةٌ قرآنية إلى معنى معين يفهمه العرب آنذاك، ثم يُفهم منها معنى آخر وينكشف بتقدم الزمن وتطور العلم، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾. فما فهمه العرب من اللواقح في ذلك الزمن هو ما تدفع به السفن الشراعية، حيث لم يكن في ذلك الوقت مكائن ومحركات، فتأتي الرياح وتلقح السفن وتمشي بها في البحار، ولكن مع تطور العلم انكشف أنّ هذه الرياح تنقل العنصر الذكري في النباتات أحادية المسكن إلى العنصر الانثوي فتلقحه، ومع تطور العلم أكثر وجدوا هناك معنى ثالثًا لهذه الآية، وهو: عندما تشرق الشمس تسخّن مياه البحار فتصبح بخاراً، فتهب الرياح لتنقل هذه القطرات المتبخرة من البحار وتصعد بها الى السماء فتلقح الغيوم لتنزل الأمطار، وهكذا اتضح أكثر من معنى للآية الواحدة وفقاً لتطور العلم، وهناك آيات أخرى كثيرة يمكن لمن يريد الاطلاع على المزيد أن يراجع موسوعات القرآن العلمية.

ص: 314


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 525 و526.

النقطة الرابعة: القرآن الكريم خالد وغير مُحرَّف.

أما كونه خالداً فباعتبار أنَّ القرآن هو دستور الدين الخاتم الذي سيبقى إلى يوم القيامة، ومادام الدين سيبقى إلى يوم القيامة فدستوره كذلك، وهذا هو المقصود من الخلود. ولم يختلف في هذا الأمر أحد من المسلمين.

أما كونه غير محرف فلابُدّ قبل الولوج في الحديث عنه أن نقدم توضيحًا لمعنى التحريف.

معنى التحريف

اشارة

يُطلق التحريف ويُراد به أحد معنيين:

الأول: التحريف المعنوي:

ويكون بتفسير ألفاظ القرآن الكريم على غير معناها وتأويلها بما لم تنزل فيه، بلا دليل لغوي ولا رواية صحيحة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته الطاهرين(علیهم السّلام).

وهذا المعنى من التحريف بلا شك هو واقع ومعترف به بلسان القال أو الحال، يشهد على ذلك الاختلاف الكبير بين المفسرين في تفسير بعض الآيات القرآنية.

المعنى الثاني: التحريف اللفظي:

بمعنى ادّعاء وجود زيادة في ألفاظ القرآن الكريم لم تكن من القرآن المُنزل من الله(عزوجل)، أو ادّعاء وجود نقيصة في آياته، أي ادّعاء أن هناك آيات وألفاظًا قد حُذِفت من القرآن الكريم، أو ادّعاء أن هناك تبديلاً في بعض الآيات القرآنية.

وبعبارة أخرى: التحريف يعني أنَه قد نزل من القرآن ألف من الألفاظ على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ولكن الموجود الآن هو ألف وعشرة، أو أن الموجود الآن تسعمائة وتسعون،

ص: 315

أو لا يوجد لا زيادة ولا نقيصة، وإنما حصل تبديل في الآيات الكريمة ولو بخمس كلمات رُفِعت وجيء بخمسٍ أخريات، بل ولو بكلمة واحدة.

وقد أجمع علماء الإمامية على أنه لا تحريف في القرآن بهذا المعنى أبدًا.

الأدلة على عدم تحريف القرآن الكريم:

اشارة

هناك العديد من الأدلة التي تدل على عدم تحريفهِ، وسنقتصر على شيءٍ قليل منها:

الدليل الأول: القرآن الكريم يشهد لنفسهِ على أنّه غير مُحرّف.

إذ قال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾(1)،

وهي آية واضحة جدًا في الدلالة على أنَّ القرآن الكريم لا تمسه يد التحريف.

قال السيد الخوئي(قدس سره): فإن في هذه الآية دلالة على حفظ القرآن من التحريف، وأن الأيدي الجائرة لن تتمكن من التلاعب فيه.(2)

وربما يُشكل البعض على صحةِ صدور نفس هذه الآية من الله جل وعلا! أي يُشكل بإمكان كونها هي بالأساس مُحرّفة، فكيف يمكن الاستناد إليها في إثبات عدم تحريف القرآن؟ فرُبما يُدّعى أنّ هذه الآية قد دَسّها البعض في القرآن الكريم؛ ليثبت عدم تحريفه، فإن لم تكن من القرآن الكريم فلا دليل على عدم تحريف القرآن الكريم؛ بل هي ستكون آية على تحريفه!

لذا نحتاج إلى تثبيت هذه الآية وأنّها من القرآن الكريم أولًا، ليصح الاستدلال بها على عدم التحريف.

ص: 316


1- الحجر: 9.
2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي(قدس سره) ص 207.

ويمكن ذلك وبكل سهولةٍ من خلال إثبات نقلها بالتواتر، وقد تقدّم معنى التواتر، وأنه نقل الدليل الشرعي بألفاظ معينة من قبل مجموعة كبيرة يمتنع عقلًا اجتماعهم على الكذب، وهؤلاء أيضًا كانوا قد نقلوا ذلك الدليل من قبل مجموعةٍ قبلهم يمتنع عقلًا اجتماعهم على الكذب، وهكذا إلى أنْ نصل إلى زمن المعصوم وزمن الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

وأصلًا قد ثبتت صحة صدور القرآن الكريم بأجمعه من الخالق عزّ وجل بمجموعة من الأدلة أهمها وأقواها النقل بالتواتر، وهذه الآية منه، إذن فقد نقلت هي الأخرى بالتواتر، وبالتالي تصلح لتكون دليلَ إثباتٍ لعدم تحريف القرآن الكريم.

الدليل الثاني: السنة الشريفة تثبت عدم تحريف القرآن الكريم.

فقد أشارت الكثير من الروايات إلى هذه الحقيقة:

فمنها: ما دلَّ على أنَّ القرآن الكريم هو الفيصل في غربلة الروايات:

فقد علم الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) بكثرة ما سينسب إليه من أحاديث مكذوبة وأدرك خطورتها على الدين الإسلامي، فصرّح بهذه الحقيقة وقدّم العلاج الناجع لتمييز السليم من الروايات من السقيم منها، وذلك بعرضها على كتاب الله المجيد، كما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ:

قَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوه، ومَا خَالَفَ كِتَابَ الله فَدَعُوه».(1)

وعَنْ أَبي عَبْدِ الله(علیه السّلام) لمّا سُئل عَنِ اخْتِلَافِ الحَدِيثِ يَرْوِيه مَنْ نَثِقُ بِه ومِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِه فقَالَ(علیه السّلام): «إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَه شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ

ص: 317


1- الكافي للكليني ج1 ص 69 بَابُ الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وشَوَاهِدِ الكِتَابِ ح1.

رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِه أَوْلَى بِه».(1)

ولو كان القرآن محرفًا لما صحَّ أنْ يكون فيصلًا لتمييز الحق من الباطل، فهذه الروايات لا موضوعية لها إلا مع القول بعدم التحريف، بمعنى أنه لو كان القرآن محرفًا، فكيف يمكن ان يكون هو المميز للحق من الروايات من الباطل منها، إن كونه كذلك لا يستقيم إلا مع افتراض كونه غير محرف، ليصح أن نميز به الحق من الباطل.

ومنها: رواية التمسك بالثقلين:

وهي رواية متواترة عند الفريقين، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ المُسَبِّحَةِ والوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا».(2)

فكل من القرآن الكريم والعترة الطاهرة باقيان إلى يوم القيامة، ومن يتمسك بهما فلن يضل أبدًا، فلو كان القرآن محرفًا أو يمكن أن يقع فيه التحريف، فإن التمسك به ضلال وليس هداية، وبناءً على ذلك فإن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) عندما يأمرنا بالتمسك بغير المعصوم وبما هو سيُحرّف فلا يخلو الأمر من أحد احتمالين: إما أنّه يعلم أنّ القرآن سيُحرّف، وبالرغم من ذلك يأمر بالتمسك به، فإنه والحال هذه يدعو إلى الضلالة والعياذ بالله، أو أنّه يدعو إلى التمسك بالقرآن لعدم علمهِ بأنّه سيحرف، فالقول بهذا

ص: 318


1- الكافي للكليني ج1 ص 69 بَابُ الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وشَوَاهِدِ الكِتَابِ ح2.
2- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه العَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

كفرٌ، يُجلُّ عنه الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإن الله تعالى الذي يأمر عباده بطاعته(صلی الله علیه و آله و سلم) مطلقًا في قوله: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(1)،

بل جعل قوله وحياً: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(2)

إن القول بتحريف القرآن الكريم قولٌ على الخطورة بمكان؛ وذلك لأنه مصدر المصادر الإسلامية في كل شيء في حياة الفرد والمجتمع، من الفكر والعقيدة، إلى الأحكام والتشريع بكلا شقيه العبادي والمعاملاتي، إلى الجانب القيمي والأخلاقي، إلى تنظيم الدول داخليًا وما يتعلق بعلاقاتها الخارجية،... فهو علاوةً على حجيّته، فقد منح الحجية للسنة المُطهّرة، أضف إلى ذلك أنّه الفيصل في الحكم على الروايات وغربلتها كما تقدم.

فلو قيل بتحريف القرآن وسُلِّمَ به من قبل المسلمين، لما بقي للإسلام مرجعٌ يرجع إليه عند الاختلاف، فإذا جاءت رواية تقضي بجواز نزع الحجاب بالنسبةِ للنساء مثلًا، أنّى لنا أن نثبت خطأها؟ فإن استندنا إلى آية ﴿يا أَيهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.(3)

مثلًا، لأمكن أن يُقال بأنها آية محرّفة...

ولذا فقد حفظ الله تبارك وتعالى القرآن كحفظه لعِدْلِه وهو الإمام المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ لأن بهما معًا قوام الدين ونجاة المسلمين، فهما حقًا حبل الله الممدود..

محاكمة المذهب ينبغي أن تكون بما هو مُجمع عليه.

ص: 319


1- الحشر7.
2- النجم 3 - 4.
3- الأحزاب 59.

ادعى البعض أنَّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن الكريم، وهي دعوى عارية عن الصحة لكثير من الأدلة أوضحها: أن القرآن الكريم الذي يتلونه تقربًا به إلى الله تعالى ويستنبطون منه عقيدتهم وأحكامهم إنما هو نفس القرآن الكريم لدى جميع المسلمين في مختلف بلدان العالم الإسلامي، لا يختلف عنه في لفظ بل ولا في حرف، ولا حتى حركة، وهو الذي نزل على الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

أما الاعتماد في اتهام الإمامية بالقول بالتحريف استنادًا على قول عالمٍ من هنا أو هناك اشتبه عليه الأمر وقال بإمكان تحريف القرآن الكريم، فهذا لو صح، فإنه يمثل رأيًا خاصًا بنفسه ولا يمثل رأي المذهب، ولا يؤخذ هذا الرأي الشاذ على أنّه وجه للمذهب، وإلا إن كان الأمر كذلك –أي جواز محاكمة المذهب بما يتضمنه من الأقوال الشاذة وجعلها هي المدار في الحكم عليه والوجه العام له- فإنه لا يخلو مذهبٌ من أقوال شاذة، أفيصح لنا محاكمته وفقًا لذلك الرأي الشاذ؟ فنحاكم مثلًا مذهباً ما بالقول بجواز الوضوء بالنبيذ؛ فقط لأن من بين علمائه عالمًا يقول بهذا الرأي الشاذ؟! أم يصح لنا محاكمة مذهبٍ لقولٍ شاذ فيه يعد تقديم البنت للضيف من الكرم؟!

فكما ينبغي علينا عدم محاكمة تلك المذاهب بناءً على ما يرد فيها من آراءٍ شاذة، والاعتماد على ما هو مشهورٌ فقط بل ومجمع عليه، كذلك يجب على علماء سائر المذاهب أّلا يحاكموا مذهبنا وفقًا لرأي شاذ، وأن يعتمدوا فقط على ما يرد فيه من آراء مشهورة ومجمع عليها.

ومن المعلوم لكل منصف أنَّ علماءَنا يقولون بأنَ كل ما موجود اليوم بين دفتي المصحف إنما هو نفس القرآن الذي أنزل على الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يقل أيُّ منهم بتحريف القرآن لا بالزيادة ولا بالنقيصة ولا بالتغيير، بل على العكس.

ص: 320

إنّ هناك العديد من الروايات التي تقول بتحريف القرآن في كتب من يرمينا بهذه التهمة زورًا وبهتانًا، ومنها صحيحا البخاري ومسلم لمن أراد المتابعة والتحقيق.

أحكام فقهية تقدس القرآن.

اشارة

اشار الشيخ (طيب الله ثراه) في كتابه إلى بعض الأحكام الفقهية الواجبة التي تقدِّس القرآن الكريم، من قبيل: عدم جواز إهانته، وعدم جواز مس ألفاظه من قبل المحدث، وغيرها من الأحكام الفقهية المذكورة في الكتب الفقهية.

إشارتان:

الإشارة الأولى: ماهي حقيقة مصحف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه؟

استغل البعض من العامة هذا اللفظ ليُطبل ضدّ مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) مدعيًا أن لدى الشيعة قرآنًا خاصًا بهم، وأنهم لا يعترفون بهذا القرآن الموجود عند المسلمين، وأن اسم قرآنهم (مُصحف علي) ويدّعون أنّه موجود عند إمامهم المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وبالتالي فإن الشيعة يدّعون تحريف القرآن!

فما هي صحة هذه الدعوى؟

الجواب:

أما القول: «إنَّ الشيعة لهم مصحف اسمه مصحف علي(علیه السّلام)».، فصحيحٌ، بل تؤكد الروايات الشريفة أنّه من مصادر علوم أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) بل أكثر من ذلك، فإن الروايات تؤكد على أن للأمير(علیه السّلام) كتابًا ومصحفًا أيضًا.

وأما القول بأنهم يقولون بتحريف القرآن الكريم أو أنّهم لا يحترمون هذا القرآن الموجود بين المسلمين أو أنّهم يقولون أنّ مصحف علي هو بديل لهذا المصحف الموجود

ص: 321

بين أيدينا فكلها أقاويل خاطئة ودعاوى فارغة لا أساس لها من الصحة.

أمَّا عن مصحف علي(علیه السّلام)، فقصَّته أنَّه (بعدما ارتحل النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) إلىٰ الرفيق الأعلىٰ جلس علي(علیه السّلام) _ الذي كان بنصٍّ من النبيّ أعلم الناس بالقرآن _ في بيته حتَّىٰ جمع القرآن في مصحف علىٰ ترتيب النزول، ولم يمض ستَّة أشهر من استشهاد الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) إلَّا كان علي قد فرغ من عمل الجمع وحمله للناس علىٰ بعير..).(1).

فلمَّا أكمله خرج به إلىٰ المسجد وعرضه عليهم، ولكنَّهم رفضوا أن يلتزموه، فأخفاه عنهم الإمام(علیه السّلام) وقال: «أمَا والله لا ترونه بعد يومكم هذا أبداً»، حتَّىٰ يُظهِره الله تعالىٰ علىٰ يدي الإمام المهدي(علیه السّلام)(2).

ولهذا المصحف خصّيصتان(3):

الخصّيصة الأُولىٰ: كان مرتَّباً علىٰ ترتيب النزول، فكان أوَّله: اقرأ، ثمّ المدَّثِّر، ثمّ نون، ثمّ المزَّمِّل، ثمّ تبَّت، ثمّ التكوير، وهكذا إلىٰ آخر المكّي والمدني، نقله في الإتقان عن ابن فارس...(4).

وهو بهذا يختلف عن المصحف الموجود بين أيدينا، لأنَّ الموجود عندنا اليوم مرتَّب لا علىٰ حسب النزول كما هو واضح.

وليس في هذا أيّ نوع من التحريف، إذ لا زيادة ولا نقيصة فيه، إنَّما هو نفس المصحف الموجود اليوم مع اختلاف ترتيب الآيات والسور حسب النزول.

ص: 322


1- القرآن في الإسلام للعلَّامة الطباطبائي: 134 و135.
2- أُنظر: بصائر الدرجات: 213/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم جميع القرآن الذي أُنزل علىٰ رسول الله 9/ ح 3.
3- انظر: شذرات مهدوية- الشيخ حسين الأسدي – ص 73 – 75.
4- تفسير الميزان 12: 126.

ولذا روي أنَّه عندما يُخرِجه الإمام المهدي(علیه السّلام) فإنَّه سيكون صعباً، لتعوِّد الناس علىٰ تأليف غير التأليف الذي سيُخرِجه المهدي(علیه السّلام).

فقد روي أنَّه «إذا قام قائم آل محمّد(علیهم السّلام)ضرب فساطيط لمن يُعلِّم الناس القرآن علىٰ ما أنزل الله(عزوجل)، فأصعب ما يكون علىٰ من حفظه اليوم، لأنَّه يخالف فيه التأليف»(1).

الخصّيصة الثانية: أنَّه يحتوي علىٰ التفسير الصحيح الذي أخذه أمير المؤمنين(علیه السّلام) عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن جبرئيل(علیه السّلام)، كتبه أمير المؤمنين(علیه السّلام) مع الآيات، أي كأنَّه كتب التفسير كحاشية للمصحف الشريف أو ما يشبه الحاشية.

وذلك لأنَّ أعلم الناس بالقرآن الكريم هو أمير المؤمنين(علیه السّلام)، كما روي عن عامر بن واثلة، قال: خطبنا أمير المؤمنين(علیه السّلام) علىٰ منبر الكوفة، فحمد الله وأثنىٰ عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلّىٰ علىٰ نبيِّه، ثمّ قال: «أيّها الناس، سلوني سلوني، فوَالله لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلَّا حدَّثتكم عنها بما نزلت، بليل أو بنهار؟ أو في مقام أو في مسير؟ أو في سهل أم في جبل؟ وفيمن نزلت، أفي مؤمن أم في منافق؟ وما عني به، أخاصَّة أم عامَّة؟ ولئن فقدتموني لا يُحدِّثكم أحد حديثي...»(2).

وأمَّا عن كتاب أو صحيفة علي(علیه السّلام)، فقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام): «إنَّ عندنا ما لا نحتاج معه إلىٰ الناس، وإنَّ الناس ليحتاجون إلينا، وإن عندنا الصحيفة سبعون ذراعاً بخطّ علي(علیه السّلام) وإملاء رسول الله صلّىٰ الله عليهما وعلىٰ أولادهما، فيها من كلّ حلال وحرام»(3).

ص: 323


1- بحار الأنوار 52: 339/ ح 85، عن الإرشاد 2: 386.
2- بحار الأنوار 36: 190/ ذيل الحديث 192، عن سعد السعود: 108 و109.
3- بحار الأنوار 26: 21 و22/ ح 8، عن بصائر الدرجات: 162/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم الصحيفة الجامعة التي هي إملاء رسول الله وخط على(علیه السّلام) بيده.../ ح 1.

الاشارة الثانية: التأكيد على ضرورة تعاهد القرآن الكريم.

ورد التأكيد الشديد في الروايات الشريفة على ضرورة تعاهد القرآن الكريم تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وعملًا وعدم هجره على أية حال من الأحوال.

فينبغي للمؤمن أن يضع في جدوله اليومي تلاوة القرآن الكريم، وقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية»(1).

وفي هذا المجال وردت روايات كثيرة نذكر البعض منها ما روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتَّىٰ يتعلَّم القرآن أو يكون في تعليمه»(2).

وعن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله(عزوجل) يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».(3)

وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «إنّ الذي ليس في جوفه شيئًا من القرآن كالبيت الخرب».(4)

وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «وليس ينبغي لحامل القرآن أنْ يسفه فيمن يسفه أو يغضب فيمن يغضب أو يحتد فيمن يحتد ولكن يعفو ويصفح لفضل القرآن الكريم».(5)

وفي حديث آخر عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنَّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها

ص: 324


1- الكافي للكليني 2: 609/ باب في قراءته/ ح 1.
2- الكافي للكليني 2: 607/ باب من يتعلَّم القرآن بمشقَّة/ ح 3.
3- مستدرك الوسائل للنوري ج3 ص 363 ح 3788/ 20.
4- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 512 ح 2276.
5- كنز العمال للمتقي الهندي ج1 ص 525 ح 2349.

يا رسول الله؟ قال: «كثرة تلاوة كتاب الله تعالىٰ، وكثرة الذكر لله(عزوجل)»(1).

تنبيه:

إن في قراءة القرآن استحباباً نفسياً، ولكن الهدف من قراءته هو هدف طريقي للعمل به ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(2)

ص: 325


1- كنز العمّال للمتَّقي الهندي 2: 241/ ح 3924.
2- محمد 24.

ص: 326

طريقة اثبات الاسلام والشرائع السابقة

اشارة

قال الشيخ(رحمه الله علیه):

«طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة:

لو خاصمنا أحدٌ في صحّة الدين الاسلامي، نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم على ما تقدّم من وجه إعجازه. وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللَّذين لا بدَّ أن يمرّا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها.

أمّا الشرائع السابقة، كاليهودية والنصرانية، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم، أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الاسلامية، لا حجّة لنا لإقناع نفوسنا بصحتها، ولا لإقناع المشكّك المتسائل؛ إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للأنبياء السابقين فهم متّهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها، وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الأنبياء كالتوراة والإنجيل ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجّة قاطعة، ودليلاً مقنعاً في نفسها قبل تصديق الإسلام لها.

وإنّما صحَّ لنا نحن المسلمين أن نقرَّ ونصدّق بنبوة أهل الشرائع السابقة، فلأنّا بعد تصديقنا بالدين الاسلامي كان علينا أن نصدّق بكل ما جاء به وصدّقه، ومن جملة ما جاء به وصدّقه نبوّة جملة من الأنبياء السابقين على نحو ما مرّ ذكره.

ص: 327

وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحّة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة بعد اعتناقه الإسلام لاَنّ التصديق به تصديقٌ بها، والإيمان به إيمان بالرسل السابقين والأنبياء المتقدمين، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها، لأن المفروض أنه مسلم قد آمن بها بإيمانه بالإسلام، وكفى.

نعم لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي فلم تثبت له صحته، وجب عليه عقلا - بمقتضى وجوب المعرفة والنظر - أن يبحث عن صحة دين النصرانية، لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضاً وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض...

وهكذا ينتقل في الفحص حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا.

وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية، فإن اليهودي لا يعنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحة النصرانية والدين الإسلامي بل يجب على النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل. وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بإيمانه بالمسيح(علیه السّلام)، بل يجب أن يبحث ويفحص عن الإسلام وصحته، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص، لأن اليهودية وكذا النصرانية لا تنفي وجود شريعة لا حقة لها ناسخة لأحكامها. ولم يقل موسى ولا المسيح(علیهما السّلام) أنه لا نبي بعدي.

فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى. بل يجب بحسب فطرة العقول أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبتت لهم صحتها انتقلوا في

ص: 328

دينهم إليها، وإلا صح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه.

أما المسلم - كما قلنا - فإنه إذا اعتقد بالإسلام لا يجب عليه الفحص لا عن الأديان السابقة على دينه ولا عن اللاحقة التي تدعى، أما السابقة فلأن المفروض أنه مصدق بها فلماذا يطلب الدليل عليها؟ وإنما فقط قد حكم له بأنها منسوخةٌ بشريعته الإسلامية فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها. وأما اللاحقة فلأن نبي الإسلام محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «لا نبي بعدي» وهو الصادق الأمين كما هو المفروض، (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فلماذا يطلب الدليل على صحة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدعٍ؟

نعم على المسلم - بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة واختلاف المذاهب والآراء وتشعب الفرق والنحل - أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنه يوصله إلى معرفة الأحكام المنزلة على محمد صاحب الرسالة، لأن المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في

الشريعة كما أنزلت ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما أنزلت والمسلمون مختلفون والطوائف متفرقة فلا الصلاة واحدة، ولا العبادات متفقة، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرةٍ واحدة!... فماذا يصنع؟ بأية طريقةٍ من الصلاة - إذن - يصلي؟ وبأية شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك؟

ولا يجوز له أن يقلد الآباء، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه بل لا بد أن يتيقن بينه وبين نفسه وبينه وبين الله(عزوجل)، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب، نعم لا بد أن يتيقن بأنه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه(عزوجل)، ويعتقد أنه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها وأخذ الأحكام منها. ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ

ص: 329

سُدًى﴾ ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.

﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ وأول ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقه غيرهم. وإذا أخذ بطريقة آل البيت فهل الطريقة الصحيحة طريقة الإمامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الأخرى. ثم إذا أخذ بطريقة أهل السنة فمن يقلد من المذاهب الأربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن أعطي الحرية في التفكير والاختيار، حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق.

ولأجل هذا وجب علينا -بعد هذا- أن نبحث عن الإمامة، وأن نبحث عما يتبعها في عقيدة الإمامية الاثني عشرية». انتهى.

ما ذكره الشيخ(رحمه الله علیه) في عبارته واضح ولا يحتاج إلى كثير من العناء، ولكن هناك عدة ملاحظات مهمة تنفع في المقام:

الملاحظة الأولى:

إنَّ البحث عن الدين الصحيح يدخل تحت كبرى: (وجوب النظر والمعرفة) بالمعنى المتقدم، أي إنَّه واجبٌ عقليٌ قبل أن يكون شرعيًا، ومن نفس هذا المنطلق وتحت هذه الكبرى ذكر الشيخ هذا البحث ليشيرَ إلى ضرورة أنْ يبحث كل متدين بدين سماوي عن الدين الذي يجب اتّباعه الآن.

الملاحظة الثانية:

يجب أنْ يكون البحث عن الدين (الحق) مبتنيًا على أسس متينة ليصل الباحث فيه إلى اليقين بأن يعتمد التالي:

ص: 330

أولًا: أنْ يكون بحثه صادقًا:

أي يطلب فيه الحقيقة ليؤمن بها، فلا يكفي البحث من أجل الترف الفكري، كالذي يبحث ليكتب رسالةٍ ما، فضلًا عن أن يكون هدفه مجرد نقض الآخر وليس طلبًا للحق، كما فعل الكثير من المستشرقين في بحثهم عن الإسلام، إذ دخلوا البلاد الإسلامية وبحثوا في الإسلام من أجل أنْ يظهروا نقاط الضعف في الدين الإسلامي، والقليل منهم فقط من أسلم.

ثانيًا: لا بُد أنْ يكون البحث عن الدين الحق معتمدًا على مصادر ذلك الدين المعتبرة.

ولا يكفي في الحكم على الدين أو في معرفته أن يكون ذلك من خلال أعدائه، وهذا أمر وجداني، فليس منهجيًا ما يفعله البعض عندما يبحث عن مذهب أهل البيت(علیهم السّلام) ويحكم على عقائدهم عبر ما يكتبه النواصب، فهذا بحث غير منهجي، فلا بد للتعرف على عقائد مذهبٍ أو دين أو الحكم عليه من التعرف عليه من خلال كتبه ومصادره المعتبرة حصرًا.

ثالثًا: أنْ يكون البحث من خلال مراجعة المتخصصين في ذلك الدين.

لأنَّ المتخصص أعرف بمداخل الدين، فيكون هو الأجدر بالمراجعة، وهذا ما كان يسلكه بعض اليهود في بحثهم عن صحة الدين الإسلامي حسبما ورد في العديد من الروايات، فقد كانوا يأتون إلى المدينة ويسألون عن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) ليجيبهم على أسئلتهم، وبعد رحيله (صلوات الله وسلامه عليه وآله) كانوا يأتون إلى خليفته ويوجهون أسئلتهم إليه، فإن لم يُجِبْ، علموا أنَّه ليس من المتخصصين في هذا الدين، وبالتالي يعرفون عدم أحقيته بالخلافة، فمثلًا ورد في كتاب الخصال للشيخ الصدوق عن طاووس قال: أتى

ص: 331

قوم من اليهود عمر بن الخطاب وهو يومئذ والي على الناس فقالوا: أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم، وقد أتيناك نسألك عن أشياء إن أنت أخبرتنا بها آمنا وصدقنا واتبعناك، فقال عمر: سلوا عما بدا لكم، قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات السبع ومفاتيحها، وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟ وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس؟ وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه، وأخبرنا عن خمسة لم يُخلقوا في الأرحام، وعن واحد واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة، وعن ثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟

قال: فأطرق عمر ساعة ثم فتح عينيه ثم قال: سألتم عمر بن الخطاب عما ليس له به علم، ولكن ابن عم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يخبركم بما سألتموني عنه، فأرسل إليه فدعاه فلما أتاه قال له: يا أبا الحسن، إن معاشر اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم فيها بشيء وقد ضمنوا لي إن أخبرتهم أنْ يؤمنوا بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم). فقال لهم علي(علیه السّلام): «يا معشر اليهود اعرضوا عليّ مسائلكم» فقالوا له مثل ما قالوا لعمر، فقال لهم علي(علیه السّلام): «أتريدون أن تسألوا عن شيء سوى هذا»؟ قالوا لا: يا أبا شبر وشبير.

فقال لهم علي(علیه السّلام): «أما أقفال السماوات فالشرك بالله، ومفاتيحها قول لا إله إلا الله.

وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت سار بيونس في بطنه البحار السبعة.

وأما الذي أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس فتلك نملة سليمان بن داود(علیهما السّلام).

أما الموضع الذي طلعت فيه الشمس فلم تعد إليه فذاك البحر الذي أنجى الله(عزوجل) فيه موسى(علیه السّلام) وغرق فيه فرعون وأصحابه.

وأما الخمسة الذين لم يُخلقوا في الأرحام فآدم وحواء وعصا موسى وناقة صالح وكبش إبراهيم(علیهم السّلام).

ص: 332

وأما الواحد فالله الواحد لا شريك له، وأما الاثنان فآدم وحواء، وأما الثلاثة فجبريل وميكائيل وإسرافيل، وأما الأربعة فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وأما الخمس فخمس صلوات مفروضات على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأما الستة فقول الله(عزوجل):

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وأما السبعة فقول الله(عزوجل): ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾، وأما الثمانية فقول الله(عزوجل) ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾، وأما التسعة فالآيات المنزلات على موسى بن عمران(علیه السّلام)، وأما العشرة فقول

الله(عزوجل): ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾، وأما الحادي عشر فقول يوسف لأبيه ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾، وأما الاثني عشر فقول الله(عزوجل) لموسى(علیه السّلام): ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾».

قال: فأقبل اليهود يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنك ابن عم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أقبلوا على عمر فقالوا: نشهد أنَّ هذا أخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والله، إنه أحق بهذا المقام منك. وأسلم من كان معهم وحسن إسلامهم.(1)

رابعًا: حيث أنَّ بحثنا في الأديان السماوية فلا بد من الاعتماد على الكتاب الذي يعتقد أهل ذلك الدين أنَه كتابهم السماوي ودستورهم.

فنبحث عن الدين الإسلامي في القرآن الكريم، وعن الدين اليهودي في التوراة، وعن الدين النصراني في الإنجيل وهكذا، وهناك بعض الروايات تؤكد هذا المعنى، منها ما روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) أنَّه قال: «مَن عَرَفَ دينَهُ مِن كِتابِ اللهِ عزّ وجلّ زالَتِ الجِبالُ قَبلَ أنْ يَزولَ، ومَن دَخَلَ في أَمر بِجَهل خَرَجَ مِنهُ بِجَهل».(2)

ص: 333


1- الخصال للصدوق ص456و457/ باب الواحد الى اثني عشر/ح1.
2- بحار الأنوار : 23/ 103/ 11.

وقال8: «مَن دَخَلَ في هذَا الدّينِ بِالرِّجالِ أَخرَجَهُ مِنهُ الرِّجالُ كَما أَدخَلوهُ فيهِ، ومَن دَخَلَ فيه بالكتابِ والسنَّةِ زالَتِ الجبالُ قبلَ أَن يَزولَ».(1)

والمقصود ب-(الرجال) هنا خصوص غير المتخصصين في الدين قطعًا كما هو واضح.

الملاحظة الثالثة:

يؤكد القرآن الكريم وبعض الروايات الشريفة على أنَّ الشرائع السماوية واحدة، يقول الله(عزوجل): ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَىٰ المُشْ-رِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾.(2)

عن أمير المؤمنين(علیه السّلام): «أَلَا وإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وسُبُلَه قَاصِدَةٌ».(3)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام) قَالَ: «إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) شَرَائِعَ نُوحٍ وإِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى(علیهم السّلام): التَّوْحِيدَ والإِخْلَاصَ وخَلْعَ الأَنْدَادِ والفِطْرَةَ الحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ ولَا رَهْبَانِيَّةَ ولَا سِيَاحَةَ أَحَلَّ فِيهَا الطَّيِّبَاتِ وحَرَّمَ فِيهَا الخَبَائِثَ ووَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْه فِيهَا الصَّلَاةَ والزَّكَاةَ والصِّيَامَ والحَجَّ والأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ والحَلَالَ والحَرَامَ والمَوَارِيثَ والحُدُودَ والفَرَائِضَ والجِهَادَ فِي سَبِيلِ الله...»(4)

ص: 334


1- الغيبة للنعماني ص 28.
2- الشورى 13.
3- نهج اليبلاغة ج1 ص 233.
4- الكافي للكليني ج2 ص 17 بَابُ الشَّرَائِعِ ح1.

ما معنى تلك الوحدة في هذه الشرائع؟

المقصود من الوحدة بين الأديان السماوية هي وحدة الأصول العامة للأديان، فهناك اتحاد في جوهر الأديان، وأما الاختلافات فخارجة عن ذلك الجوهر، فكل الأديان السماوية متفقة على أصل التوحيد وأصل النبوة وأصل المعاد، بل متفقةٌ حتى على أصل العدل، وحتى على أصل الإمامة أو قل الوصاية والخلافة. فقد روي عن الإمام السجاد(علیه السّلام) لما سُئل عن جميع الشرائع قال: «قول الحق والحكم بالعدل والوفاء بالعهد».(1)

ورب سائلٍ يسأل: إذا كانت هناك وحدة بين الأديان السماوية، فلماذا الاختلاف بين اتباع تلك الاديان؟

وللجواب عن ذلك نقول:

إنَّ الاختلاف يرجع إلى عدة أسباب:

الأول: عدم المعرفة الصحيحة بالدين.

الثاني: الخطأ في التطبيق، فجميع اليهود كانوا يعلمون أنَ النبي عيسى(علیه السّلام) سيكون منقذًا لهم، ولكنهم أرادوا أنْ يطبقوا ذلك على غيره، كما أنَ كلًا من اليهود والمسيح كانوا ينتظرون النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ولكنهم أرادوا أنْ يطبّقوا ذلك على غيره، أو لنقُل: أخطأوا في التطبيق إن أردنا أنْ نحسن الظن بهم.

الثالث: في كثير من الأحيان كان أنْ تولّى زمام الأمور من هم ليسوا أهلًا لذلك، وربما هذا من أهم الأسباب للاختلاف بين الأديان والمذاهب.

ص: 335


1- بحار الأنوار ج72 ص 92.

الملاحظة الرابعة:

اشارة

كيف نثبت أنَّ الإسلام هو الحق وأنَّه يلزم على اليهود والنصارى أنْ يصبحوا مسلمين؟

ذكر الشيخ(رحمه الله علیه) أنَّ الطريق الى ذلك من خلال:

الأول: المعجزة:

وهذا طريق صحيح وعقلائي ويورث الاطمئنان، فالقرآن الكريم هو معجزة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) التي من خلالها يثبت أنَّ محمدًا(صلی الله علیه و آله و سلم) نبي آخر الزمان، وبالتالي على جميع المتدينين بالأديان السماوية أنْ يؤمنوا بالإسلام.

بل هو السبيل إلى الإيمان بسائر الأنبياء وكتبهم الحقيقية فضلًا عن معاجزهم؛ لأننا إذا جرَّدنا أنفسنا من القرآن فلا يوجد دليل آنذاك على إثباتها، فالقرآن أيضًا يثبت نبوة الأنبياء السابقين.

وهذا ما أشار له الشيخ(رحمه الله علیه) بقوله: «أما الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم أو عند تجريد أنفسنا بالعقيدة الإسلامية، لا حجة لنا بإقناع نفوسنا بصحتها ولا لإقناع المشكك المتسائل..».

وهنا نكتة مستفادة من عبارة الشيخ هذه، وهي:

إن معجزة المسلمين باقية، وهي القرآن الكريم، أما معجزة اليهود مثلًا بشق البحر لموسى(علیه السّلام)فهي غير باقية، فنستطيع أن نتهم اليهود بالكذب مثلًا، وأنه لم تكن هناك معجزة لنبيهم بهذا المعنى، ولا مثبت لها إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم، إذ إن كتبهم قد حُرّفت.

ص: 336

وهذا من معاني أن التصديق بالإسلام هو تصديق بالأديان السابقة، وعلى النصارى واليهود أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لهم حيث أن انبياءهم بشروا بديانة لاحقة لهم- ولا يصح لهم البقاء على دينهم، وهذا ما سيتبين أكثر في الطريق الثاني.

الثاني: طريق الاحتياط.

بمعنى: أنَّ الإيمان بالإسلام يستلزم الإيمان بكل الأديان، بخلاف الإيمان بالمسيحية أو اليهودية (الموجودتين الآن)؛ إذ إنَّه لا يستبطن الاعتراف بالإسلام، وعليه، فإنَ الإيمان بالإسلام هو مقتضى الاحتياط الذي يحكم به العقل؛ لأنه إيمانٌ بجميع الأديان السماوية، إيمان بالإسلام صراحةً وبما سبقه ضمنًا، فأيٌّ منها كان هو الدين الصحيح فقد أتى به المكلف، بخلاف الإيمان بالنصرانية مثلًا، فهو إيمانٌ لا يشمل سوى الإيمان بديانتين: النصرانية وسابقتها وهي اليهودية، وفضلًا عن الإيمان باليهودية؛ لأنه إيمانٌ بديانةٍ واحدةٍ فقط.

وهو احتجاجٌ لطيفٌ، وقد احتج به بعض الأئمة(علیهم السّلام) على بعض الزنادقة.

فقد روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام) انه قال لعبد الكريم ابن أبي العوجاء: «يا عبد الكريم... إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ، نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وهُوَ كَمَا نَقُولُ، نَجَوْنَا وهَلَكْتَ».

فَأَقْبَلَ عَبْدُ الكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَه، فَقَالَ: وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي، فَرَدُّوه، فَمَاتَ لَا رَحِمَه الله.(1)

وعن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا(علیه السّلام) قال: دخل رجل من الزنادقة علي أبي الحسن(علیه السّلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن8: «أَيُّهَا الرَّجُلُ، أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ القَوْلُ

ص: 337


1- نفس المصدر ص78 ح2.

قَوْلَكُمْ ولَيْسَ هُوَ، كَمَا تَقُولُونَ ألَسْنَا وإِيَّاكُمْ شَرَعاً سَوَاءً، لَا يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا وصُمْنَا وزَكَّيْنَا وأَقْرَرْنَا؟» فَسَكَتَ الرَّجُلُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الحَسَنِ(علیه السّلام): «وإِنْ كَانَ القَوْلُ قَوْلَنَا وهُوَ قَوْلُنَا ألَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ ونَجَوْنَا؟!»(1)

ومن مناظرة للإمام الصادق(علیه السّلام) مع الطبيب الهندي: «أرأيت إنْ كان القول قولك، فهل يُخاف علي شيء مما أخوّفك به من عقاب الله؟» قال: لا. قلتُ: «أفرأيت إنْ كان كما أقول والحقُّ في يدي ألستُ قد أخذتُ فيما كنتُ أحاذر من عقاب الخالق بالثقة، وأنك قد وقعتَ بجحودك وإنكارك في الهلكة؟» قال: بلى. قلتُ: «فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟» قال: أنت.(2)

ص: 338


1- نفس المصدر ح3.
2- بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج 3- ص 154.

ص: 339

ص: 340

المحتویات

الإهداء... 5

مقدمة المعهد... 7

المقدمة... 9

تمهيد... 13

المقدمة الأولى: تعريف العلم (علم الكلام). ... 14

المقدمة الثانية : موضوع العلم. ... 14

ما هو موضوع علم الكلام ؟ وعن ماذا تبحث مسائل علم الکلام؟... 14

المقدمة الثالثة : الغرض من علم الكلام. ... 15

المقدمة الرابعة: المنفعة من علم الكلام. ... 15

المقدمة الخامسة : مرتبة علم الكلام... 16

المقدمة السادسة: من أي العلوم هو ؟... 16

تنبیه: ... 16

عقیدتنا في النظر والمعرفة ... 17

معنی العقیدة والنظر والمعرفة... 18

العقیدة: ... 18

النظر: ... 19

المعرفة: ... 19

ص: 341

ما هو المقصود من هذا البحث؟ ... 19

هل يجوز التقليد في النظر والمعرفة؟ ... 22

ملاحظة: ... 23

س/ ما هو الدليل على أن النظر والمعرفة واجب عقلي؟ ... 24

دليل دفع الضرر المحتمل. ... 24

عقيدتنا في التقليد بالفروع ... 25

النقطة الأولى: أهم الفروق بين الفروع والاصول: ... 25

النقطة الثانية: معنى التقليد. ... 27

النقطة الثالثة: ما هي فروع الدين؟ ... 28

النقطة الرابعة: التقليد لا موضوعية له. ... 28

النقطة الخامسة هل يجوز للمكلف الاحتياط ؟ ... 29

عقيدتنا في الاجتهاد ... 31

من أين جاءت فكرة الاجتهاد؟ ... 32

إشارة: بيان الثابت والمتغير في الشريعة. ... 35

أولا الكتاب الكريم: ... 36

ثانيا: السنة: ... 37

إشارة: فعل المعصوم يدل على الإباحة بالمعنى الأعم ... 37

ما هو معنی التقریر هنا؟ ... 39

ثالثا: الاجماع: ... 39

رابعا: العقل: ... 40

احتیاج الاجتهاد الی جهد و توفیق. ... 41

ص: 342

عقيدتنا المجتهد ... 43

نكتة: في معنى الحدود والتعزيرات. ... 46

الإلهيات ... 47

عقيدتنا في الله تعالى ... 47

ملاحظات تمهيدية؛ ... 48

الملاحظة الأولى: لماذا لم يذكر الشيخ (قدس سره) أدلة إثبات... 48

الملاحظة الثانية: تنبيهات لا أدلة. ... 49

الملاحظة الثالثة: برهان النظم. ... 49

الخطوة الأولى: بيان برهان النظام. ... 50

هذه هي خلاصة برحان النظم. ... 51

بيان الصغرى: ... 51

بيان الكبرى : ... 52

الخطوة الثانية لماذا ركز القرآن الكريم على هذا البرهان؟ ... 54

الملاحظة الرابعة بيان معنى الواجب والممكن. ... 55

ما هي خصائص واجب الوجود؟ ... 55

وأما مميزات وخصائص واجب الوجود فني التالي: ... 56

إشارة: بيان معنى لفظ الجلالة وحس- عدم إمكان المعرفة التامة. ... 57

أولا: و الواحد الاحد. ... 59

ثانیا: «لیس کمثله شیء»: ... 60

ثالثا: قدیم لم یزل ولا یزال: ... 61

رابعا« الأول و الأخر: ... 62

ص: 343

خامسا: عليم: ... 62

ما معنى العلم الحضوري؟ ... 63

سادساً: الحكيم: ... 63

دليل غائية الأفعال الإلهية. ... 65

سابعا: عادل: ... 66

سبب تأصيل صفة العدل. ... 66

ثامنا: حي: ... 66

تاسعا: قادر: ... 67

عاشرا: غني: ... 67

حادي عشر، سميع بصیر: ... 68

الماذا يركز القرآن الكريم على صفتي السمع والبصر أكثر من غيرها؟ ... 68

استطراد في سبب عدم تسمية الله تعالى بالشام والذائق واللامس. ... 69

بیان معنى توقيفية الأسماء. ... 70

1. فليس هو بجسم. ... 72

2. قال(رحمه الله علیه):«ولا صورة». ... 72

الصورة ما عملها ؟ ... 73

نکته: ... 73

3. قال(رحمه الله علیه):«ولیس جوهرا». ... 74

4. قال(رحمه الله علیه):«ولا عرضا» ...74

6. قال(رحمه الله علیه):«و لیس له ثقل أو خفة». ... 75

6. قال(رحمه الله علیه):«ولا حرکة أو سکون». ... 75

ص: 344

7. قال(رحمه الله علیه): «ولا مكان ولا زمان». ... 76

8 . قال(رحمه الله علیه): «ولا يُشار إليه». ... 77

9. ثم قال(رحمه الله علیه): «كما لا ند له». ... 77

الند: ... 78

توضيح المسألة: ... 79

10 . قال(رحمه الله علیه): «ولا شبه». ... 79

11 . ثم قال(رحمه الله علیه): «ولا ضد» ... 80

12 . ثم قال(رحمه الله علیه): «لا صاحبة له ولا ولد». ... 82

13 . قال(رحمه الله علیه): «ولا شريك». ... 82

14. قال(رحمه الله علیه):«ولم يكن له كفوا أحد». ... 83

15 . قال(رحمه الله علیه): لا تدركه الأبصار». ...83

من شروط الرؤية البصرية :84

16 . قال(رحمه الله علیه): «وهو يدرك الابصار» ... 84

تتمة: ... 84

ملاحظة في الصفا الخبریة: ... 85

طريقة : ... 87

ملاحظة مهمة: ... 90

والخلاصة : ... 93

تطبيقات في الصفات الخبرية: ... 93

الجواب الآول: ... 97

الجواب الثاني: ... 95

ص: 345

عقيدتنا في التوحيد ... 97

التوحيد في الذات. ... 99

الجهة الأولى التوحيد الواحدي: ... 99

المعنى الأول: الوحدة العددية: ... 99

المعنى الثاني: الوحدة الحقيقية: ... 99

من هم المخالفون في هذه المسألة؟ ... 102

الجهة الثانية: التوحيد الأحدي: ... 103

التوحيد في العبادة ... 104

النقطة الأولى: محور الخلاف في التوحيد في العبادة. ... 104

النقطة الثانية: ما هو معنى العبادة؟ ... 105

النقطة الثالثة: تطبيقات: ... 106

النقطة الرابعة: فائدة جانبية ... 107

التقسيم الأول: تنقسم العبادة إلى: ... 108

التقسيم الثاني: بلحاظ التكرار وعدمه. ... 108

التقسيم الثالث: تقسم العبادة إلى: ... 118

الفرق بين عبادة غير الله تعالى وإشراكه في العبادة: ... 110

ملاحظة: ... 110

عقيدتنا في صفاته (تعالى) ... 113

أنواع الصفات ... 114

النوع الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية. ... 114

البحث المهم في هذا النوع: ... 116

ص: 346

تفاصيل الأقوال: ... 117

القول الأول: للأشاعرة: 117

الإشكال على هذا الرأي: ... 118

المحذور الأول: ... 118

المحذور الثاني: ... 119

المحذور الثالث: ... 119

الرأي الثاني: للمعتزلة : ... 120

النقاش في هذا الرأي: ... 120

والحاصل: ... 121

الرأي الثالث: للإمامية (أتباع أهل البيت(علیهم السّلام)) ... 121

النوع الثاني: الصفات الثبوتية الكمالية الاضافية (الفعلية). ... 124

ملاحظة: ... 124

ما معنى القيومية ؟ ... 124

الأول: القائم بذاته: ... 125

الثاني: القائم بشؤون غيره: ... 125

النوع الثالث: الصفات السلبية: ... 126

الأول: الصفات السلبية الذاتية: ... 126

الثاني : الصفات السلبية الفعلية: ... 127

رجوع الصفات السلبية إلى سلب الإمكان. ... 128

مبحث جانبي أشار له الشيخ المظفر(قدس سره) : ... 129

هل الصفات الثبوتية ترجع إلى السلبية أو بالعكس ؟ ... 129

ص: 347

بیان معنى الصمد: ... 131

عقيدتنا في العدل ... 133

النقطة الأولى: سبب تأصيل صفة العدل. ...134

النقطة الثانية: العدل صفة فعلية. ... 137

تنبيه رجوع الصفات الفعلية إلى الذاتية. ... 138

النقطة الثالثة: ما هو معنى العدل الالهي؟ ... 138

التعريف الأول: أن العدل هو الإعطاء بالسوية (بالتساوي). ... 138

التعريف الثاني: أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه. ... 140

والجواب: ... 141

التعريف الثالث: أن عدل الله تعالى يعني....141

بیانه: ... 141

الأول: بعد الإمكانات والاستعدادات. ... 142

الثاني: بعد الجزاء ونتائج الأفعال. ... 143

النقطة الرابعة امتدادات العدل الإلهي في الأفعال. ... 143

النقطة الخامسة: ما هو الدليل على اتصاف الله(رحمه الله علیه)بالعدل ؟ ... 144

النقطة السادسة: التعويض الإلهي استحقاق أم منة؟ ... 145

سابعا: الوعد والوعيد. ... 149

الجهة الأولى: الوعد: ... 149

الجهة الثانية: الوعيد. ... 151

تنبيهان: ... 152

التنبيه الأول: ضرورة عدم الاغترار بعفو الله تعالى. ... 152

ص: 348

التنبيه الثاني: ضرورة تشريع قانون العقوبات. ... 153

الأول: لزوم لغوية التشريع والتقنين. ... 153

الثاني: لزوم تضييع حقوق الناس. ... 154

الثالث: تغرير العاصي بالمعصية. ... 154

النقطة الثامنة: هل الحسن والقبح عقليان أو شرعيان؟ ... 154

الخطوة الأولى تحرير محل النزاع: ... 155

الخطوة الثانية: أقسام الأفعال التكوينية من حيث الحسن والقبح. ... 156

الخطوة الثالثة: أدلة الحسن والقبح العقليين. ... 157

استدلال الأشاعرة على أن الحسن والقبح شرعيين: ... 160

احتمالات ثلاثة أخرى في الآية: ... 161

الاحتمال الأول: ... 161

الاحتمال الثاني: ... 163

الاحتمال الثالث: ... 163

عقيدتنا في التكليف ... 165

ما هو التكليف؟ ... 166

النقطة الأولى معنى الخطاب. ... 166

1/القول: ... 166

2/ الفعل: ... 167

3/التقرير: ... 167

لماذا كان تقرير المعصوم يدل على الحكم الشرعي ؟... 168

النقطة الثانية معنى المولى. ... 170

ص: 349

النقطة الثالثة: معنى الواصل: ... 175

النقطة الرابعة: معنى المكلف. ... 176

الخطوة الأولى: هل المكلف هو فقط الإنسان أو إنه... ... 176

الخطوة الثانية: ما هي شروط التكليف؟ ... 177

النقطة الأولى: الأحكام التكليفية الإلزامية: ... 181

النقطة الثانية: الأحكام التكليفية غير الإلزامية: ... 181

النقطة الثالثة: الأحكام الوضعية: ... 182

الخطوة الثالثة إثبات حسن التكليف من المولى. ... 184

عقيدتنا في القضاء والقدر ... 187

مصطلحات البحث: ... 189

المصطلح الأول: القدر. ... 189

المصطلح الثاني: القضاء. ... 189

المصطلح الثالث: الجبر. ... 191

المصطلح الرابع: التفويض. ... 191

النوع الأول: التفويض التكويني: ... 192

الثاني: التفويض التشريعي: ... 192

المذهب الأول: مذهب الجبر. ... 193

الخطوة الأولى: مؤسسو مذهب الجبر: ... 193

الخطوة الثانية خلاصة دعوى الجبر: ... 194

الخطوة الثالثة: منشأ هذه الدعوى : ...195

الخطوة الرابعة: إبطال الجبر. ... 197

ص: 350

المذهب الثاني: التفويض المعتزلي. ... 202

الخطوة الأولى: منشأ عقيدة التفويض. ... 202

الخطوة الثانية خلاصة دعوى التفويض. ... 203

الخطوة الثالثة: الاستدلال على بطلان عقيدة التفويض. ... 204

المذهب الثالث: الأمر بين الأمرين. ... 206

الخطوة الأولى: خلاصة نظرية الأمر بين الأمرين. ... 206

الخطوة الثانية: مثالان توضيحيان: ... 208

الخطوة الثالثة: نصوص دينية تؤيد نظرية الأمر بين الأمرين. ... 210

إشارات: ... 210

الإشارة الأولى: رجوع بعض أهل السنة إلى نظرية الأمر بين الأمرين. ... 210

الإشارة الثانية: ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر تعبداً. ... 212

الإشارة الثالثة: حث الروايات على عدم الخوض كثيراً في القضاء والقدر. ... 212

الخلاصة: ... 213

عقيدتنا في البداء ... 215

الجهة الأولى: البداء بمعناه اللغوي. ... 216

الجهة الثانية: البداء بمعناه الاصطلاحي. ... 218

ركائز البداء ... 219

الركيزة الأولى: السلطة المطلقة الله(عزوجل)والقدرة غير المحدودة. ... 219

الركيزة الثانية: أن الله تعالى حكيم. ... 219

الركيزة الثالثة: العلم الإلهي المطلق. ... 219

الجهة الثالثة: أين يقع البداء، وأقسام القضاء والقدر. ... 219

ص: 351

الجهة الرابعة: ما المصلحة من البداء؟ ... 221

الأولى: البداء يولد الأمل في النفوس. ... 222

الثانية: البداء من أقوى الدوافع نحو التوبة. ... 222

استطراد: ... 222

الجهة الخامسة: ما الفرق بين النسخ والبداء؟ ... 223

ما الفرق بين النسخ والبداء؟ ... 224

توضيح: ... 225

عقيدتنا في أحكام الدين ... 227

النقطة الأولى: أن الله تعالى حكماً في كل واقعة. ... 228

النقطة الثانية: استناد الأحكام إلى المصالح والمفاسد الواقعية. ... 228

النقطة الثالثة: عدم التكليف بمعرفة العلل الواقعية للأحكام. ... 229

النقطة الرابعة: انحصار استكشاف. ... 230

النقطة الخامسة: تقسيم الأحكام الشرعية. ... 231

الأول: الأحكام الواقعية: ... 231

الثاني: الأحكام الظاهرية: ... 231

النقطة السادسة علاقة الحكم الظاهري بالواقع. ... 232

الأمر الأول: ما هو موقع الاجتهاد ( عند الشيعة) من مصادر التشريع؟ ... 232

الأمر الثاني: التخطئة والتصويب. ... 233

النقطة السابعة: رجوع مصالح التكليف للعياد. ... 235

ص: 352

عقيدتنا في النبوة ... 237

الخطوة الأولى: النبوة العامة. ... 239

النقطة الأولى: تعريف النبوة والنبي. ... 239

النقطة الثانية: خصائص النبوة. ... 240

التعيين الإلهي. ... 240

النقطة الثالثة: ما هو الهدف من إرسال الانبياء؟ ... 243

الهدف الأول: تكامل الإنسان. ... 243

الهدف الثاني: تعليم الكتاب والحكمة. ... 244

الهدف الثالث: تزكية الاخلاق. ... 244

النقطة الرابعة هل النيوة واجبة أو لا ؟ ... 244

النقطة الخامسة: لزوم طاعة الأنبياء. ... 245

النبوة لطف ... 247

المقدمة الأولى: ... 249

المقدمة الثانية: ... 250

المقدمة الثالثة: ... 250

عقيدتنا في معجزة الأنبياء ... 253

نقطتان: ... 255

النقطة الأولى: ضرورة المعجزة: ... 255

النقطة الثانية: ماهي المعجزة وما هي خصائصها ؟ ... 255

الخصيصة الأولى: خرق العادة. ... 255

نكتة: ... 256

ص: 353

الخصيصة الثانية: التحدي لأهل الفن. ... 257

الخصيصة الثالثة: عدم المعارضة. ... 258

الخصيصة الرابعة: أن يكون الإتيان بهذا الأمر ... ... 259

الخصيصة الخامسة: مع المطابقة للدعوى. ... 259

عقيدتنا في عصمة الأنبياء ... 261

النقطة الأولى: تعريف العصمة. ... 262

النقطة الثانية الآراء في العصمة. ... 262

الأول: العصمة في الاعتقاد. ... 262

الثاني: العصمة في التبليغ. ... 263

الثالث: العصمة في أفعال النبي وسيرته. ... 263

النقطة الثالثة: هل العصمة تجبر المعصوم على ترك المعصية؟ ... 264

النقطة الرابعة ما هو الدليل على ضرورة العصمة في النبي؟ ... 266

الدليل الأول: ... 266

الدليل الثاني: ... 266

عقيدتنا في صفات النبي ... 269

أولا: أن يكون النبي أفضل أهل زمانه في كل شيء. ... 269

ثانيا: أن يكون النبي كامل العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم... ... 270

ثالثا: أن يكون النبي منزها عن كل ما ينفر عنه الطباع. ... 271

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم ... 273

الإشارة الأولى: ... 274

الإشارة الثانية: ... 274

ص: 354

الإشارة الثالثة: ... 274

إضاءتان ... 276

الإضاءة الأولى: ما الفرق بين الإمامية وسواهم في ... ... 276

الإضاءة الثانية: ما هو الفرق بين النبي والرسول؟ ... 278

عقيدتنا في الإسلام ... 279

الإشارة الأولى: ما هو الفرق بين الاسلام والايمان؟ ... 282

الإشارة الثانية مستويات القوانين الأخلاقية في القرآن الكريم. ... 284

المستوى الأول: القدوة الصالحة. ... 284

المستوى الثاني: تصحيح المفاهيم بما يناسب روح الإسلام. ... 285

المستوى الثالث: ربط الأعمال بالداعي الإلهي. ... 286

المستوى الرابع: تأسيس القوانين الأخلاقية. ... 287

المستوى الخامس : بيان ثمرات الأعمال الأخلاقية. ... 287

الإشارة الثالثة: بدء المسلمين بالانحطاط والتردي الأخلاقي والديني. ... 288

مخططات تدمير الإسلام ... 289

عقيدتنا في مشرع الإسلام ... 293

الخطوة الثانية النبوة الخاصة. ... 293

الإشارة الأولى: أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو أفضل ما خلق الله(عزوجل). ... 293

الإشارة الثانية: اتصافه(صلی الله علیه و آله و سلم)بالأخلاق الفاضلة. ... 294

الإشارة الثالثة: ديانة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل بعثته في عمر الأربعين. ... 296

أقوال في ديانة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ... 296

تتمات: ... 298

ص: 355

عقيدتنا في القرآن الكريم ... 305

عقيدتنا في القرآن الكريم. ... 306

النقطة الأولى: الوحي. ... 306

النقطة الثانية: القرآن تبيان كل شيء. ... 308

النقطة الثالثة: إعجاز القرآن. ... 310

الوجه الأول: بلاغته الفريدة. ... 310

الوجه الثاني: عدم الاختلاف والتناقض في آياته الكريمة. ... 311

الوجه الثالث: الإخبارات العلمية الموجودة في القرآن الكريم. ... 314

النقطة الرابعة: القرآن الكريم خالد وغير محرف. ... 315

معنى التحريف ... 315

الأول: التحريف المعنوي: ... 315

المعنى الثاني: التحريف اللفظي: ... 315

الأدلة على عدم تحريف القرآن الكريم : ... 316

الدليل الأول: القرآن الكريم يشهد لنفسه على أنه غير محرف. ... 316

الدليل الثاني: السنة الشريفة تثبت عدم تحريف القرآن الكريم. ... 317

أحكام فقهية تقدس القرآن. ... 321

إشارتان: ... 321

الإشارة الأولى: ما هي حقيقة مصحف أمير المؤمنين... ... 321

الاشارة الثانية: التأكيد على ضرورة تعاهد القرآن الكريم. ... 324

طريقة اثبات الاسلام والشرائع السابقة ... 327

الملاحظة الأولى: ... 330

ص: 356

الملاحظة الثانية: ... 330

الملاحظة الثالثة: ... 334

ما معنى تلك الوحدة في هذه الشرائع؟ ... 335

الملاحظة الرابعة: ... 336

الأول: المعجزة: ... 336

الثاني: طريق الاحتياط. ... 337

ص: 357

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.