مکارم الأخلاق و رذائلها المجلد 2

هویة الکتاب

مکارم الأخلاق و رذائلها

كاتب: خامنه ای، علی، رهبر جمهوری اسلامی ایران

مؤلفين آخرين

جامع: عاشور، علی

تعداد جلد: 2

لسان: العربية

الناشر: مؤسسة التاريخ العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1428 هجری قمری|2008 میلادی

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

مکارم الأخلاق و رذائلها

نويسنده: خامنه ای، علی، رهبر جمهوری اسلامی ایران

سایر نویسندگان

گردآورنده: عاشور، علی

ص: 3

ص: 4

تتمة باب مكارم الأخلاق

القناعة

أهمية القناعة

عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «مطلوبات الناس في الدنيا الفانية أربعة:

الغنى و الدعة و قلة الإهتمام و العز.

فأما الغنى فموجود في القناعة فمن يجده في كثرة المال لم يجده.

و أما الدعة فموجودة في خفّة المحمل فمن طلبها في ثقله لم يجدها.

و أما قلّة الإهتمام فموجودة في قلّة الشغل، فمن طلبها مع كثرته لم يجدها.

و أما العزّ فموجود في خدمة الخالق فمن طلبه في خدمة المخلوق لم يجده»(1).

متطلبات الناس في الدنيا الفانية عبارة عن أربعة أمور:

1 - الغنى و عدم الحاجة.

2 - الأطمئنان و الراحة.

3 - قلة الاهتمام و الانشغال.

ص: 5


1- الخصال/باب الأربعة/ح 7.

4 - العزّ.

أما الغنى فقد جعله اللّه في القناعة، فإذا اقتنع الإنسان في حياته و رضي بالمقدار القليل منها فإنّه سوف يشعر بعدم احتياجه للآخرين، و أما إذا أراد أن يتحصن بالمال لرفع حاجته فلن يصل الى ذلك، لأن طبيعة مال الدنيا أنّ الإنسان كلما أكثر منه كلما ازداد عطشا للأزيد.

و أما الراحة و الدعة فقد جعلها اللّه تعالى في خفة المحمل أي يكون خفيف الحمل في الدنيا فكلما كان متاعه من الدنيا قليلا و خفيفا كلما ازداد راحة و طمأنينة. و لذلك فإن أصحاب الأملاك الكثيرة و الرساميل الزائدة من الضياع و السلع و العقارات لا يرتاح بالهم و لا يكونون مطمئنين.

و أما قلّة الاهتمام فهي موجودة في قلة الإنشغالات، فإن الإنسان إذا كان بصدد تحصيل المشاغل و المناصب المختلفة سيزداد اضطرابه و تشويش ذهنه و انشغال قلبه و اضطرابه.

و أما العز فقد جعل في خدمة الإنسان للّه تعالى و إن أدّى ذلك الى عدم رضا الناس عنه.

و أما لو كان العزّ في كسب و تحصيل رضا الناس و السعي و العمل لأجل تحصيل رضا الأحزاب و الأجنحة المختلفة فسوف لن يحصل عليه أبدا.(1)

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و لمّا نزلت عليه قوله تعالى: وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ... (2) إلى آخر الآية، قال صلّى اللّه عليه و آله: «من لم يتعزّ بعزاء اللّه انقطعت نفسه حسرات على الدنيا، و من مدّ عينيه إلى ما في أيدي الناس من دنياهم طال حزنه،

ص: 6


1- كلمات مضيئة: 35-36.
2- سورة طه: 131.

و سخط ما قسّم اللّه له من رزقه، و تنغّص عليه عيشه»(1).

ذكر النّبي صلّى اللّه عليه و آله في مقام البيان و التوضيح لقوله تعالى: وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ... ما يلي:

إنّ المؤمن يجب عليه أن يعزّي نفسه بالعزاء الإلهي و يرضى نفسه و يقنّعها بما أعدّه اللّه تعالى للمؤمنين من النعمة الدائمة الأبدية و العطايا المعدّة للمؤمنين يوم القيامة.

و إلا فإن مدّ عينيه و تطلّع إلى المال و المنصب و القدرات و الإمكانيات الموجودة عند الآخر فسوف تذهب نفسه على ذلك حسرات و يعيش في الغصص و الأحزان و يسخط على ما قسّمه اللّه تعالى و قدّره له من ذلك، أو سيدخل ميدان السعي و المنازعة المرّة و التعدّي على حدود الحلال و الحرام و تجاوزها ليحصل على ما يريد و لو من طرق و أسباب غير مشروعة.

إذن فلأجل أن لا يحترق الإنسان في نار حسرة حياة الآخرين و لا يبتلى بالدخول في ميدان السعي و المنازعة الذي لا حدود له يجب عليه أن يعزّي نفسه بالعزاء الإلهي و يسلّي نفسه بذلك(2).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي.

و لا جهل أضرّ من العجب»(3).

معنى الورع على ما ورد في كثير من رواياتنا الإجتناب. و يحتمل فيه و جهان:

ص: 7


1- تحف العقول، صفحة: 411.
2- كلمات مضيئة: 63.
3- تحف العقول، صفحة: 359.

أحدهما: الإجتناب عن المحرمات الإلهية.

و الآخر: الورع عن الأمور المحلّلة (الزهد).

و هذا النوع و إن كان مطلوبا إلاّ أن الورع الأهم هو الأوّل.

و الحياة و العيش في ظل الخلق الحسن ألذّ و أهنأ من كل شيء، و ذلك لأن الحسد و الضغينة و الكره و التشاؤم و البخل و الإمساك تجعل الحياة مريرة، حتى و إن كان الإنسان لديه من النعم و الهبات المادية الشيء الكثير(1).

ص: 8


1- كلمات مضيئة: 122.

الإنصاف و المواساة

أهمية الإنصاف و المواساة

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا على: سيّد الأعمال ثلاث خصال:

إنصافك الناس من نفسك.

و مواساة الأخ في اللّه عز و جل.

و ذكر اللّه تعالى على كل حال»(1).

ثلاث خصال هي سيّدة و رأس كل الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان. خصلتان منها مرتبطتان بالعلاقات الإجتماعية، و خصلة مرتبطة بعلاقة الإنسان مع اللّه تعالى.

و هي:

1 - التعامل مع الناس بالعدل و الإنصاف.

و هذه المسألة سهلة جدّا في القول و الكلام و لكنّها صعبة جدّا في العمل. لأن الغالب في الإنسان أنه حينما تطرح مصالح الإنسان و شخصيته للبحث يقوم بإعطاء الحق لنفسه و يقيس الآخرين على وفق مصالحه و منافعه هو، مع أنّ الواجب يفرض عليه أن ينظر إلى نفسه كالآخرين من هذه الجهة.

ص: 9


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.

2 - مواساة الأخوة في الدين و التي تعني مساعدتهم و إعانتهم.

3 - ذكر اللّه تعالى في كل الأحوال. لأنّ روح كل أعمال الإنسان هي أن يكون الإنسان في كل أحواله ذاكرا لله تعالى، و يستمد من اللّه تعالى الألطاف و النّعم و الرحمة، و يضع نصب عينيه القوّة و العظمة الإلهيّة اللامتناهية(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاثة يحرمها.

قيل: و ما هنّ؟

قال عليه السّلام: المواساة في ذات يده باللّه، و الإنصاف من نفسه، و ذكر اللّه كثيرا.

أما إني لا أقول لكم «سبحان و الحمد و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر» و لكن ذكر اللّه عند ما أحل له و ذكر اللّه على ما حرم عليه»(2)

المستفاد من هذه الرواية أن الإبتلاء العظيم بحسب قانون و نظام القيم هو أن لا يكون في الإنسان المؤمن واحدة من هذه الصفات الثلاثة، و هي:

1 - المواساة في ذات يده بالله، فالمواساة تعني أنّ ما هو مملوك له ليس منحصرا به بل يرى لغيره نصيبا أيضا بخلاف الشخص الذي يرى أنّ ما يملكه متعلق به فقط و لا حقّ لأحد عنده أبدا.

2 - الإنصاف من نفسه أي أن يتعامل مع الآخرين على أساس العدل و الإنصاف حتى لو كان على نفسه، و أما إذا كانت علاقته مع الآخرين مبنيّة على محورية نفسه و كان ملاك حكمه على الآخرين هو نفسه و منافعها فقط فهذا لا يملك من الإنصاف شيئا.

ص: 10


1- كلمات مضيئة: 17.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 130

3 - ذكر اللّه كثيرا، كما قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً (1).

و لكن الذكر ليس المقصود به الذكر باللسان فقط بل المراد منه تذكّر اللّه تعالى عند الحلال و الحرام و عدم التجاوز و التعدي على الحدود الإلهيّة.

فذكر اللّه في الحلال هو الصبر و أحيانا يكون هو الشكر و أما ذكر اللّه عند الحرام فهو الإجتناب و التورّع عنه(2).

ص: 11


1- سورة الأحزاب: 41.
2- كلمات مضيئة: 88.

البصيرة و التعقل و التثبت

أهمية البصيرة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق، فلا تزيده سرعة السير إلاّ بعدا»(1).

الإنسان الذي يريد الذهاب إلى مقصد معيّن، إذا تحرّك على خلاف جهة مقصده إشتباها أو جهلا، فإنّه كلّما جدّ في السير و أسرع فيه كلما ازداد بعدا عن مسيره الأصلي.

و هكذا حال الإنسان الذي يعمل من غير بصيرة و إطّلاع و معرفة بالأمور و المسائل و المعارف الدينية، فإنه لن يصل إلى هدفه الحقيقي أبدا أي التكامل و القرب إلى اللّه تعالى(2).

أهمية التثبت و عدم التهاون

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و من فرّط تورّط، و من خاف العاقبة تثبّت فيما لا يعلم،

ص: 12


1- تحف العقول، صفحة: 362.
2- كلمات مضيئة: 122.

و من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه»(1).

التفريط يقابل الإفراط، و معناه التقصير و التهاون في العمل، و منشاؤه في الغالب يكون الكسل و الخلود إلى الراحة.

فالإنسان الذي يسعى للرّاحة من خلال اتّباعه للملذّات و الطيّبات و المسرّات الزائلة يقع في ورطة المصاعب و المتاعب و المشاكل.

و الإنسان الذي تكون عاقبة الأمور واضحة و مبيّنة له و لا يريد أن يبتلى بالوقوع في النهاية المرّة فإنّه يتّبع الحقيقة و المعرفة، و لا يقدم أبدا على عمل من دون تفكّر و تدبّر و علم، لأن كل إنسان يقدم على عمل من دون تقييم و موازنة لجوانب القضايا و من دون فحص و تحقّق فيه سوف يبتلى في الوقوع بالخسارة و الذلّة(2).

الإسلام مطابق للعقل و المنطق

بإمكان المعارف القرآنية ملء الفراغ المعنوي في الحياة البشرية في كل الأحوال، فهناك قوة خاصة تكمن في المعارف الإسلامية و بوسعها أن تملأ - تحت أية ظروف - الفراغ المعنوي و الروحي و تتيح للبشرية الحياة في مناخ روحي و معنوي.

إن من شروط انتشار دعوة بين الشعوب و الملل هو أن تكون الدعوة منطقية و معقولة، إن أي حديث يفصل الإسلام عن المنطق و العقل فهو مانع لانتشار الإسلام.

فعلى المفكرين و المنظّرين في القضايا و الشؤون الإسلامية أن يتوجهوا لهذه النقطة و هي أنّ الإسلام هو دين المنطق و العقل و إنّ العقل السليم و الفطري يستوعبه و يفهمه و يتقبله بسرعة، طبعا ليس بمعنى أنه لا بدّ من برهان عقلي لكل حكم من احكام الإسلام، مثلا لماذا تكون صلاة الصبح ركعتين، فيلزم دليل عقلي عليه، كلا

ص: 13


1- تحف العقول، صفحة: 356.
2- كلمات مضيئة: 29.

ليس بهذا المعني، و لا بمعنى لزوم وجود أي شيء يفهمه و يدركه العقل في الإسلام، بل بمعنى إمكانية الدفاع عن المعارف الإسلامية الثابتة و المقبولة من قبل أهل الخبرة و الفن في الإسلام في أي محيط عقلي و علمي، فيمكن إثبات و تعليل و توضيح ضرورة الصلاة لأكثر الناس مادية، و على حدّ تعبير أحد المفكرين الغربيين المشهورين في القرن التاسع عشر - قرن اللادينية في الغرب - إنّ في الصلاة سرّا عظيما، نعم لو لم تكن كذلك لما حملت مفكرا غربيا يعيش في عالم الغرب المادي على الاعتراف بذلك.

المنصفون و أهل العلم و العقل و المنطق و الإستدلال يمكنهم استيعاب و قبول جميع المعارف الإسلامية، و هذه من خصائص الإسلام؛ إنه مطابق للعقل و المنطق.

فإن سعى اناس لإفراغ الإسلام من هذه الخصيصة سواء إعلاميا بأن يقولوا: إن هذه المعارف مخالفة للعلم و العقل، أو عمليا بأن ينسبوا ما ليس في الإسلام و ما ليس موافقا للعقل السليم الى الإسلام فإنهم لم يدعموا الإسلام بل عرقلوا انتشاره(1).

الحكمة و التعقل

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يا بنيّ، من يصحب صاحب السؤ لا يسلم، و من لا يقيّد ألفاظه يندم، و من يدخل مداخل السؤيتّهم.

قلت: يا ابن بنت رسول اللّه، فما الثلاث اللّواتي نهاك عنهنّ؟

قال عليه السّلام: نهاني أن أصاحب حاسد نعمة و شامتا بمصيبة أو حامل نميمة»(2).

صاحب السوء أي الصديق السيّ ء في جميع مراحل الحياة من الصغر إلى الشباب و موجب لإنحراف من يصحبه عن الطريق القويم.

ص: 14


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه
2- تحف العقول، صفحة: 377.

و كل إنسان لا يكون في كلامه متعقّلا و متدبّرا و يقول كل ما يجري على لسانه سوف يندم في النهاية.

و كل إنسان يدخل إلى مراكز السؤيتّهم.

و لا ينبغي للإنسان أن يصاحب الحسود و النمّام و الذي يشمت بالآخرين إذا حلّت بهم المصائب.

و هذه التعليمات و الإرشادات هي التي أطلق عليها في القرآن الكريم إسم الحكمة.

و هي و إن كانت بالنظرة الأولى أمورا عادية إلاّ أنّها تشكّل أساس بناء الحياة العقلانية.

و إذا أدرك الإنسان هذه المعارف بعمق و عمل بها فسوف لن يرى في حياته أي ضرر(1).

علينا تشخيص الحق من الباطل لخلاص الإنسان

يجب أن لا تضطرب و لا تتداخل جبهات الحق و جبهات الباطل، و يجب تشخيص الحق أين يكون و مع من، و ما هو هدفه و اسلوبه و تكتيكه و عمله؟ و من هو الباطل و ما هي أساليبه و غاياته؟ هذه الأمور يجب عدم إغفالها، و إهمال هذه الحدود ليس من صالح جبهة الحق. و ما من أحد يمتدح غفلة و إهمال جبهة الحق و جهلها بعلل أحقّيتها، و ما العمل الذي يجب عليها أداؤه، و من هي الجبهة المقابلة لها، و حتى الأعداء أنفسهم لا يمتدحون هذا العمل منها.

كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يبيّن تلك الحدود؛ فكان أولا يشخّص جبهة الكفار؛ و هي تلك الجبهة المقابلة التي جاءت بعثة الرسول الأعظم و نظامه و جهاده لأجل التغلغل بين صفوفها و دحرها و توسيع دائرة حقّانيته. فجبهة الكفر لا ينبغي إهمالها، و إنّما يجب تشخيصها بصفتها الجبهة المتصدية لدعوة الحق. و يجب تشخيص

ص: 15


1- كلمات مضيئة: 12.

طبيعة العلاقة بين جبهة الحق و جبهة الكفر، بل و لماذا يظهر الحق إلى الوجود أساسا؟ و لماذا يلهم اللّه تعالى دعوة الحق للأنبياء عليهم السّلام و يبلغهم إيّاهم؟ و لماذا يطرحونها؟ و إذا كانت هناك حكمة من وراء ظهور رسالة الحق التي تعني رسالة خلاص الإنسان و توجب مسؤولية على حملة تلك الرسالة - و هو الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و امتداد نهجه الباقي إلى الأبد - فيجب أن يفهم إذا هدف جبهة الحق و كيف ينبغي أن تصل إلى ذلك الهدف.

بأي شيء يحصل خلاص الإنسان؟ من الطبيعي أنه لا يحصل بالنصح و الموعظة فقط، و لهذا فإن جبهة الحق - أي جميع الأنبياء عليهم السّلام - متى ما واتتهم الفرصة و أتيح لهم إبراز أنفسهم و التقدّم خطوة إلى الأمام سعوا إلى أن يغرسوا في أذهان الناس و يحققوا في واقع حياتهم الحقائق التي يجب أن يكونوا على معرفة بها؛ و هي تلك الحقائق الكفيلة بتقريبهم إلى النجاة و الفلاح. هذه هي مهمة جبهة الحق، و هذا هو ما يستوجب المجاهدة؛ و سبب ذلك هو وجود معارض لحقّانية الحق؛ فإذا كانت غاية الحق خلاص الناس، فهناك في العالم من يستهدف استعباد الناس؛ و إذا كان الحق يرمي إلى تطبيق العدالة، فهناك من يناهض العدالة و يناصر الظلم؛ و إذا كان الحق يدعو إلى عبادة اللّه، فهناك من يدعي الألوهية و ينكر التسليم لله. و من الطبيعي أن هؤلاء جميعهم يعارضون دعوة الحق، و لا يمكن لتلك الرسالة أن تحرز أي تقدّم و لا يتسنى لها أن تغرس في الأذهان أو تتحقق في الواقع الخارجي دون مجاهدة.

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يشخّص حالة الكفار، و يشخّص حالة المؤمنين الضعفاء، سواء المنافقين منهم أو الذين أقل منهم نفاقا و يعيشون حالة من التذبذب؛ و حتّى هؤلاء يحرص الإسلام على تحويلهم إلى مؤمنين أشداء(1).

ص: 16


1- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

الإستقامة و الثبات

أهمية الإستقامة

إن المحافظة على النعمة أكثر صعوبة من اكتسابها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ (1) فلا يكفي مجرد قول: (رَبُّنَا اَللّٰهُ) بل لا بدّ مع ذلك من الاستقامة، و عندها تتنزّل عليهم الملائكة، فالإستقامة هي الأساس، و إلا فقد يكون بإمكان الشخص الضعيف مثلي أن يرفع حملا ثقيلا للحظات، إلاّ أنه لا يمكنه أن يستمر في حمله و سرعان ما سيطرحه أرضا، فالقوي الذي ينجز العمل هو الذي يتمكن من مواصلة رفع هذا الحمل الثقيل في تمام المدة المرصودة لحمله.

إنّ نية الكثير منا صالحة، و نباشر العمل بنوايا صالحة، إلاّ أننا لا نستطيع الإبقاء على هذه النوايا، حيث تصطدم هذه النوايا ببعض الموانع أثناء الطريق و تبدأ بالتآكل و الاضمحلال، و أحيانا تقوم جاذبة قوية بمعارضة الفؤاد - الذي هو مكمن النوايا - و جرّه إليها، و سرعان ما تدركون اختفاء النية و تبدّلها، و حينها ينحرف الشخص عن مساره، و إذا رأيتم أن أشخاصا كانوا يقولون: رَبُّنَا اَللّٰهُ في حين أنهم حاليا يعبدون الأصنام، و انقلبوا على شعاراتهم الخلاّبة 180 درجة، إنما هو بسبب عدم تمكنهم من الحفاظ على مبادئهم، و ذلك لظهور بعض المزالق التي تنحرف بالإنسان عن مساره.

ص: 17


1- سورة فصّلت: 30.

ربما سمعتم بذلك الشخص الذي نوى أن يمارس الإرتياض أربعين يوما، فما بلغ اليوم العشرين حتى دبّت إليه الوساوس الشيطانية، فعرضت له إمرأة بالغة الجمال، و وضع أمامه طعام شهي، و عرضت له أموال طائلة، و لذا لم يتمالك نفسه، و استسلم للرغبات و ذهبت الجهود التي بذلها طوال عشرين يوما أدراج الرياح، يمكن لهذه الحكاية أن تكون حقيقة، و حتى إذا لم تكن حقيقة فإن الدرس الذي يراد تقديمه من خلالها واضح(1).

إستقامة النبي صلّى اللّه عليه و آله

لقد كانت استقامة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بلا نظير في تاريخ البشرية، و هو ما جعله قادرا على ترسيخ هذا الكيان الإلهي الخالد و العظيم. و هل كان ذلك ممكنا بلا استقامة؟! فباستقامته بات واقعا ملموسا؛ لقد ربّى أصحابه الكبار و أعدّهم باستقامته.

و رفع عماد فسطاط المدينة الإنسانية الخالدة وسط صحراء الحجاز المقفرة فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ (2)-(3).

و يقول اللّه تعالى لرسوله في سورة هود: فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ وَ لاٰ تَطْغَوْا (4).

و جاء في رواية عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «شيّبتني سورة هود»(5) أي شيّبتني سورة هود نتيجة ثقل الأمر الذي تحمله في آية من آياتها؟ و روي أنّ المراد

ص: 18


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.
2- سورة الشورى: 15.
3- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
4- سورة هود: 112.
5- كنز العمال: 573/1 ح 2590.

هو هذه الآية فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ.

لماذا شيّبت هذه الآية الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؟ لأنّ اللّه تعالى يقول في هذه الآية:

عليك بالإستقامة و الثبات و التحلّي بالصبر في هذا الطريق كما أمرناك.

إنّ هذه الإستقامة عمل شاق، إنّه الصراط؛ أي حبل الصراط، الذي ضرب لنا مثله في يوم القيامة، و هو حقيقة عملنا و سلوكنا في الدنيا، نحن الآن نعبر على حبل الصراط، فعلينا أن نتوخّى الحذر و الدقة، و لو أن إنسانا أراد أن يطبّق هذه الدقة على جميع سلوكه؛ فسوف يشيب بسببها، إلاّ أنّ الأهم من ذلك - كما أظن - هي العبارة التالية: وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ، فليس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله وحده مأمورا بالإستقامة، بل عليه أن يهدي جمعا كبيرا من المؤمنين الى الإستقامة في هذا الطريق.

إنّ الأفراد الذين يكونون عرضة للهجوم من قبل آفات الحياة و مفاسدها - كالأعداء و المتآمرين و الظلمة و قوى التسلط - من جهة، و من قبل أهوائهم النفسية - الرغبات النفسية و القلوب التي تستميلها زخارف و بهارج الدنيا، و تنجر وراءها - من جهة أخرى، سوف ينحرفون يمينا أو يسارا عن جادة الإستقامة، و إنّ كلا من حبّ الذهب و الفضة و الأموال و الرغبات الجنسية و الرئاسة و غيرها، يمثل حبائل و شباك تلقى في قلب الإنسان لينجر وراءها، و إنّ المقاومة و الثبات للحيولة دون أن تنزلق قدم الإنسان نحو ذلك. هو المراد من عبارة وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ.

إنّ المؤمنين يقعون تحت تأثير هذين المؤثرين القويين - ضغط العدو، و الضغط الداخلي للقلب المصاب بالهوس - و أغلب الظن، أنّ ما شيّب النبي صلّى اللّه عليه و آله هو همّ هداية هؤلاء المؤمنين نحو الصراط المستقيم، و المحافظة عليه مع تأثير هاتين القوتين الجاذبتين.

أ لا تعلمون أنّه برغم كثرة المخاطر و الصعاب إستطاع النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أن يتجاوز بالمسلمين - سواء في العهد المكي الذي دام ثلاث عشرة سنة، أو في عهد تأسيس الدولة في المدينة المنورة - و أن يوصلهم الى القمم الشامخة؟

ص: 19

إنّ مثل هذه النهضة العظيمة لم تكن بمقدور أي إنسان أن يقوم بها، إلاّ أنّه مع ذلك إستطاع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله القيام بتغيير أفراد ذلك المجتمع - المجتمع الذي لم يكن يفقه شيئا، و لم يتذوّق طعما للأخلاق الإنسانية - الى أشخاص تتصاغر أمام عظمتهم و نورانيتهم ملائكة السماء، هذه هي الإستقامة التي نحتاجها اليوم.

نحن - أيضا - مبتلون بتعلّق قلوبنا و أهوائنا بجاذبية الحياة ذات الألوان المختلفة، فما أكثر الأشخاص الذين رأيناهم في عهد الثورة و قد كانوا يمتلكون قلوبا صالحة، و عقائد صحيحة، إلاّ أنّهم لم يصمدوا بعد ذلك في مواجهة الخلود للدعة و الشهوات، و حبّ التسلط و الرئاسة، و المدح من قبل هذا و ذاك، و تهديد العدو، فمالوا الى هذه الجهة أو تلك، و أصبحوا معارضين، و أحيانا معاندين للخط الإلهي.

بناء على ذلك فإنّ الثبات أمر لازم، فعلينا أن نثبت أمام العدو؛ لأنّه يهدد و يتوعّد، و يحاول أن يبرز عظمته و يستعرضها أمام المجتمع الإسلامي، و يتكلّم بمنطق القوّة، و أحيانا يمزج منطق القوّة بشيء من عذوبة الوعود الكاذبة، ليوهم القلوب بمكره.

إنّ التصدي لخدع العدو و تهديداته فن عظيم، و لو أن شعبا إستطاع أن يحصل على هذا الفن فسوف يكون مدعاة لبلوغه القمم الشامخة، بحيث يكون في مكانة لا تجدي معها تهديدات العدو؛ فيكون مضطرا لمصانعته أو التسليم قباله(1).

الإستقامة و الإرتقاء الروحي

إن المعنويات الكامنة في وجود الإنسان تمثل مصدرا للهدفية و تضفي معنى على حياته و توجهها، مثلما تقوم المبادئ المعنوية و الأخلاقية بتوجيه حياة المجتمع و البلد و الامة، فتضفي على جهدها و كفاحها معنى و تهب الإنسان هويته، فإذا ما أفرغ

ص: 20


1- من كلمة ألقاها في 1385/1/6 ه. ش الموافق 25 /صفر/ 1427 ه. ق الموافق: 2006/3/26 م - طهران.

شعب أو بلد من مبادئه الأخلاقية و المعنوية ضيع هويته الحقيقية و غدا كالعهن المنفوش، يتأرجح تارة بهذا الإتجاه و أخرى بذاك الإتجاه، و مرة تتلاقفه يد هذا و أخرى يد ذاك، و إن الشهور الشريفة - شهر رجب، شعبان، و شهر رمضان - تعد فرصا لنا لاستكمال ذخيرتنا المعنوية.

إننا نتعرض للصدأ و التلف، فقلوبنا و أرواحنا يعتريها الصدأ بشكل مستمر أثناء مواجهتنا لوقائع الحياة اليومية، و لا بد من وضع هذا الصدأ في الحسبان و تلافيه بالطرق الصحيحة، و إلاّ لتعرض الإنسان للفناء، فلربما يكون الإنسان قويا شديدا من الناحية المادية و الظاهرية لكنه سيفنى معنويا إن لم يضع التعويض عن هذا التلف في الحسبان. يقول تعالى في كتابه العزيز الكريم: إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ (1)، فقولهم رَبُّنَا اَللّٰهُ يعني الإقرار بالعبودية لله و التسليم له.

و هذا أمر في غاية العظمة لكنه ليس كافيا، فحينما نقول (ربّنا اللّه) إنما ذلك حسن جدا لذلك الأوان الذي نطلقها فيه، لكننا إذا نسيناها فإن (ربّنا اللّه) الذي أطلقنا اليوم لن تجدينا نفعا في الغد، لذلك فهو يقول ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا، أي يستقيمون و يثبتون و يمضون على هذا الطريق.

و هذا مما يؤدي إلى أن تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ و إلاّ لا تتنزل عليهم ملائكة اللّه إن غطّو في سبات لحظة أو آنا واحدا، و لا يدرك الإنسان نور الهداية و لا تمتد نحوه يد العون الإلهي، و لا يبلغ الإنسان مقام العباد الصالحين.

فلا بد من مواصلة هذا الدرب و المضي في ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا و إذا ما أردتم أن تتحقق هذه الاستقامة فعليكم الحذر دائما من أن يهبط ميزان المعنوية هذا عن مستواه المطلوب.

إن هذه الأشهر فرصة لإعادة النظر، و لقد كان أولياء اللّه و أئمة الهدى عليه السّلام يدأبون

ص: 21


1- سورة فصّلت: 30.

على المناجاة الشعبانية. و إنني سألت إمامنا العظيم ذات مرة: أيّا من الأدعية ترجح؟ فذكر منها اثنين: أحدهما المناجاة الشعبانية و الآخر دعاء كميل. فهذان الدعاءان يحتويان على مضامين راقية، و هذه الأدعية ليس من شأنها القراءة فقط، أي ليس أن يملأ الإنسان الأجواء بصوته و يتفوه بهذه الكلمات فقط، فهذه حالة قشرية ليس لها شأن يذكر. بل لا بد أن تتناغم هذه المفاهيم مع الفؤاد و يدخل القلب رحابها.

و إن هذه المفاهيم الراقية و المضامين البهية بألفاظها الرائعة إنما الغاية منها أن تستقر في فؤاد الإنسان: «إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك. و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك». أي اللهم اجعلني دائم الاتصال و الارتباط بك و أدخلني في حريم عزك و شأنك و أنر بصيرة فؤادي بحيث تقوى على النظر إليك: «حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور»(1).

فيقدر بصري على اختراق كافة الحجب النوارنية و يجتازها حتى يصل إليك ليراك و يدعوك(2).

إن الآمال الكبرى لا تتحقق إلاّ في ظل الصبر و الاستقامة و الجد و التوكل على اللّه و التوجه إليه و التقوى و التزكي و التطهير من الخبائث و الأرجاس. إنكم لو حققتم في شتى مظاهر التقدم أو التخلف في كافة بقاع العالم لو جدتم أن الحقيقة لا تخرج عن هذا؛ فحيثما عقد شعب أو جماعة العزم على تحقيق الآمال الكبرى فلا بد من الجد و المثابرة و الاستقامة و الاصرار و التشمير عن سواعد الهمة و التحلي بالفضائل في الحياة اليومية الخاصة و العامة، بينما إذا تضاءلت الآمال و تقاعست العزائم فإن كل شيء سيؤول إلى الزوال في خضم الحياة المتلاطم(3).

ص: 22


1- بحار الأنوار: 99/91.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1423 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 2 ذي القعدة 1420 ه - طهران.

برّ الوالدين

أهمية برّ الوالدين

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ثلاثة لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة الى البرّ و الفاجر.

و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر.

و برّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين».(1)

الإنسان يجب عليه الإحسان الى والديه و البرّ بهما سواء كانا صالحين مؤمنين أم كانا فاجرين فاسقين(2).

ثواب الشفقة على الوالدين

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(3)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة و عدّ منها:

ص: 23


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 118.
2- كلمات مضيئة: 15.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 53.

من أشفق على والديه، أي كان لطيفا ودودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما مع اللطف و المحبة...(1).

ص: 24


1- كلمات مضيئة: 187.

الإيثار

أهمية الإيثار

أمّا ما يتعلق باللّه و عباده و أوامره و كل ما له صلة بذاته المقدسة فهو يتلخص بالإيثار و التضحية؛ فالشهيد قد آثر و ضحّى للّه. الإيثار معناه إنكار الذات و عدم إدخالها في الحسبان. و هذا أول موقف للشهيد. فلو أنه أقحم ذاته في الحسابات و ضنّ بها و لم يخاطر لما بلغ هذه المنزلة. الشبان الذين قصدوا سوح الوغى و ضحوا بأنفسهم على رمضاء خوزستان التي تصل حرارتها 65 درجة، أو على جبال كردستان و بردها القارص و الثلوج، كانت لهم مساكن و اسر، و كان لكل منهم أبوان عطوفان، و زوجة عزيزة، و البعض منهم كان لهم أطفال يمثلون بالنسبة اليهم فلذات أكبادهم، و كانوا يعيشون حياة دعة و استقرار، إلاّ أنهم تخلوا عن كل هذا و قصدوا سوح القتال.

ما هي الرسالة التي كان يحملها هؤلاء الشهداء و يفترض بنا استلهامها منهم؟ رسالتهم هي أنّ من يبتغي مرضاة اللّه، و يطمح لأن يكون وجوده نافعا في سبيل اللّه على طريق تحقيق الغايات الإلهية السامية في عالم الوجود، فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف ذات الطابع الإلهي. و ليس هذا من نوع التكليف الذي لا يطاق. حيثما تمسكت فئة مؤمنة بهذه السمة انتصرت كلمة اللّه، و حيثما ارتعدت فرائص المؤمنين، كانت الغلبة - بلا جدال - لكلمة الباطل.

هذه الثورة انتصرت بفعل عوامل الإيثار و التضحية التي تمسك بها عباد اللّه

ص: 25

المؤمنون، و وقع ما لم يكن يخطر بحسبان أي محلل، و ذلك هو إقامة الحكم الإسلامي و في هذه النقطة من العالم بالذات، من كان يتوقع هذا؟ و من كان يصدّق بحدوثه؟ و لكن بفعل مواقف الإيثار و التضحية على يد المؤمنين تحقق هذا الأمر الذي ما كان متوقعا تحققه؛ إذ فئة مصطفاة من المؤمنين - و لا نقول كل المؤمنين - أنكرت ذاتها، و الجميع مطالبون بالسعي لأن يكونوا ضمن هذه الفئة، لنيل هذه المنقبة.

كل موضع انعدم فيه عنصر الإيثار، كما هو الحال في كل بقعة خلت منه، و كما هو الحال على امتداد التأريخ، و كذلك في عهد الإمام الحسين عليه السّلام حين تنصلت الأكثرية العظمى من المؤمنين و الخواص عن واجبها، و نكلت و تراجعت، انتصرت حينها كلمة الباطل، و تسلط يزيد على الرقاب و استمر الحكم الأموي تسعين سنة، و جاء عهد بني العباس و دامت حكومتهم بين خمسة و ستة قرون. و كان السبب الأساسي لكل هذا هو انعدام الإيثار. و كانت النتيجة أنّ المجتمعات الإسلامية كابدت الكثير من العناء، و ذاق المؤمنون أمرّ أنواع الظلم.

أثر التضحية و الإيثار

و عصرنا هذا يا أعزائي شبيه بمعركة احد؛ فإن أحسنّا ستكون الهزيمة من نصيب العدو، و لكن إذا وقعت أبصارنا على الغنائم و لاحظنا بضعة أشخاص يتكالبون على جمع الغنائم، و غلبتنا مشاعر الطمع و تركنا مواضعنا و انهمكنا في الاستحواذ على الغنائم، تنعكس المعادلة حينذاك. انتم تعلمون كيف انعكست القضية في معركة احد، و لقد تكررت معركة احد على مدى تأريخ الإسلام.

القائد الرباني الذي يرى بصفاء قلبه صفحة الحقيقة انتدب لذلك الموضع فئة من المسلمين و أوصاهم بعدم مغادرة أماكنهم، و أن يحرسوا هذه الجبهة.

و لكن ما إن وقعت أبصارهم على الغنائم و شاهدوا أفرادا يحوزون الغنائم، زلزلت

ص: 26

القلوب طمعا. و لو استنطق كل منهم لقالوا: نحن أيضا بشر، و قلوبنا تهوي مستلزمات العيش الرغيد. هذا صحيح، و لكن لاحظتم النتائج التي أدى إليها هذا الخنوع أمام الأهواء البشرية التافهة؛ فقد كسر ضرس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و أصيب بجراح، و غلبت جبهة الحق، و انتصر العدو و استشهد الكثير من أكابر المسلمين.

نداء الشهداء يدعو إلى عدم الانصياع لهواجس الغنائم. هذا هو نداؤهم لي و لكم و لجميع من يكرّم هذه الدماء الطاهرة المسفوكة ظلما. لا تنظروا إلى من يعصي و يتجه إلى جمع الغنائم لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ (1)، عليكم بأنفسكم و لا يشغلنكم من اختار طريق الغواية. هذا ما يأمر به الإسلام و ما تدعو إليه دماء الشهيد.

يوم استشهد هؤلاء الأعزاء في الجبهة، كان بعض المخلّفين منهمكين في الكسب، و بعضهم الآخر غارق بجمع الأموال، و آخرون منكبين على انتهاز الفرص، و بعضهم الآخر كان منغمسا في الخيانة.

أما الشهداء فقد ساروا صوب الجبهات بدون الالتفات إلى هؤلاء. و كانت النتيجة هي أنهم استطاعوا حفظ النظام الإسلامي، و غدا كل واحد منهم اليوم كوكبا منيرا و نجما ساطعا.

و على هذا يكون النداء الأول هو نكران الذات أمام اللّه تعالى، و أمام عباده، و أمام الإرادة الإلهية.

و يجب علينا استيعاب هذا النداء، يا أعزائي، لا يمكن التغافل عن هذه الحقائق و المرور عليها مرّ الكرام؛ إنّها تستدعي من الإنسان العزم و الإرادة(2).

ص: 27


1- سورة المائدة: 105.
2- من كلمة ألقاها في 29 ذي الحجة 1417 ه

الإخلاص نوع من الإيثار

الإخلاص يعد نوعا من الإيثار. و كلّما استطاع الإنسان تجاوز أغراضه الذاتية و بلوغ درجات سامية و رفيعة يكون أقرب للإخلاص. الإخلاص، معناه الصفاء و النقاء، و الإخلاص في العمل يأتي في أعقاب صفاء النوايا. أما الصفة المضادة للإخلاص، فهي أن يكون المرء ذا نزعة مادية، و يعمل لاغراض و دوافع ذاتية و مادية، أو يعمل لأغراض معنوية تافهة. فبعض الدوافع ليست مادية - بالمعنى المصطلح للمادة - صرفة و لا ملموسة، إلاّ أنها تافهة، من قبيل حب الجاه بين الناس. فمثل هذا الدافع ليس دافعا ماديا بالمعنى المعروف للمادة، لكن قيمته تافهة، حيث يقوم البعض و إنطلاقا من هذا الدافع بعمل لا يتطابق مع الدوافع الإلهية، و لا مع الصراط القويم.

و على هذا الأساس، كلّما نأى الإنسان بذاته عن نوازع الانانية و حب الذات، اصبح مظهرا للإخلاص. و لكن كيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة؟ و الجواب هو أنّ هذه الحالة يمكن بلوغها بشيء من التضحية، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأعمال الاخرى التي تشترط فيها المجاهدة.

و معنى هذا أنّ الإنسان يجب أن يبذل شيئا من التضحية. فهو يرى في بعض المواقف أنه إذا طرح رأيا معينا، يجلب له الوجاهة أمام الناس و لكنه في سريرته لا يعتقد بذلك الرأي. فإذا لم يكن الإنسان مخلصا لا يتورع عن طرح ذلك الرأي، أما إذا كان مخلصا؛ أي أنه يرغب في أن تكون أعماله خالصة للقيم السامية التي يؤمن بها - و تكون في ختام المطاف لوجه اللّه تعالى - فأنه يحجم عن طرح ذلك الرأي. و هذا يعد في واقع الحال نوعا من الإيثار(1).

ص: 28


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1419 ه - طهران.

الإيمان و خصائصه

أثر الإخلاص في الإيمان

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

يا عبيد السؤ، نقّوا القمح و طيّبوه و أدقوا طحنه تجدوا طعمه و يهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان و اكملوه تجدوا حلاوته و ينفعكم غبّه»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في موعظته و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

كما أنّكم تنظّفون و تنقّون القمح من الشوك و التبن و العشب ثم تطحنونه و تعجنونه و تخبزونه لتحصلوا على طعام طيّب لذيذ.

فكذلك حال إيمانكم إذا أخلصتم الإيمان و طهرتموه من الشوائب و الأهواء النفسانيّة و عبادة الذات و حبّ الدنيا فسوف تجدون لذيذ طعمه و حلاوة عاقبته.

ذلك أنّ الإيمان الخالص يسلك بالإنسان العوالم العليا الملكوتية و يجعله يحلّق في سماء المعنويّات.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لترك الأمور الدنيوية و يعطينا السير و السلوك في عالم

ص: 29


1- تحف العقول، صفحة: 392.

المعنويات.(1)

علامة الإيمان الحقيقي

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ و إن ضرّك على الباطل و إن نفعك، و أن لا تجوز منطقك علمك».(2)

قد يدّعي الإنسان أحيانا أو يظن أنّه مؤمن، و لكن حينما يأتي الإمتحان و الإختبار يعلم أن إيمانه ليس إيمانا حقيقيا بل هو وهم و خيال.

فالإيمان الحقيقي الذي يكون به الإنسان مؤمنا بمعناه الواقعي له علامتان ذكرتهما هذه الرواية، و هما:

1 - أن يؤثر الإنسان و يرجّح الحق على الباطل، حتى و إن كان الحق مضرا به و الباطل ينفعه.

علما أنّ الحق و الباطل لهما مصاديق مختلفة، ففي العلاقات الإجتماعية و التجاذبات السياسيّة، و في تقييم الأشخاص و المحاورات الرائجة و المتداولة، يجب في كل هذه الموارد أن يرجّح الحق على الباطل و إن لم يكن لصالحه و نفعه بل كان يضره.

2 - أن لا يتكلم من دون علم، فيجب على الإنسان في مختلف المسائل سواء كانت أمورا دينيّة أم مسائل إجتماعيّة، بل في كل الموارد الأخرى أن لا يتكلّم عن ظنّ أو من دون علم.(3)

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم في

ص: 30


1- كلمات مضيئة: 53.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 70.
3- كلمات مضيئة: 53.

بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه.

فقال: ما أنتم؟

قالوا: مؤمنون.

قال: فما حقيقة إيمانكم؟

قالوا: الرضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه و التفويض الى اللّه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علماء حكماء، كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صاديقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتقوا اللّه الذي إليه ترجعون».(1)

عند ما كان الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله في أحد أسفاره التقى بركب من الناس، فلّما سلمّوا عليه و أجابهم، سألهم من أي الناس أنتم؟ فأجابوا بأنهم من المؤمنين. و كان هذا السؤال من النبي صلّى اللّه عليه و آله مقدمة و تمهيدا ليعلّمهم بعض الأمور و المعارف، و لذلك سألهم عن حقيقة إيمانهم ما هو؟

فأجابوه بأن محور إيمانهم عبارة عن ثلاثة أمور:

1 - الرضا بقضاء اللّه تعالى، أي أنهم يرضون بما قدّره اللّه لهم و قضاه عليهم.

طبعا ليس المراد من الرضا هنا أنّ الأنسان يكفّ عن السعي و الجدّ بل يجب عليه السعي و الجد و القيام بالنشاطات و الفعاليات و لكنه في نهاية المطاف يكون راضيا بما قضاه اللّه تعالى له.

2 - التسليم لأمر اللّه تعالى، أي أنهم يقبلون و يطيعون كل ما أمر به اللّه و يجتنبون عن كل ما نهى عنه.

3 - التفويض الى اللّه تعالى، و التفويض معناه أنّ الإنسان يجب عليه أن يعتقد أنّ عمله و سعيه ليس هو العلة التامة لحصول النتيجة، بل علة العلل هي إرادة اللّه تعالى،

ص: 31


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 175 /

و حصول النتيجة النهائية بيد اللّه تعالى.

نظير الشخص الذي يدرس و يتعلم و لكن نور الحكمة و المعرفة يقذفه اللّه في قلبه.

ثمّ يبين النبي صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

أنتم حكماء علماء و درجتكم قريبة من درجة الأنبياء عليهم السّلام بسبب هذه الحكمة الموجودة عندكم.

و إذا كنتم صادقين في قولكم هذا فيجب أن تتصفوا بالصفات التالية:

لا تبنوا أزيد مما تحتاجون إليه من السكن و نحوه.

و لا تجمعوا أكثر من المقدار الذي يكفيكم.

و اتقوا اللّه الذي إليه مرجعكم.(1)

شروط الإيمان الحقيقي و الكامل

قال الإمام علي بن موسى عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام.

فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ.

و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس.

و أمّا السنّة من وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(2).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة، و هذه الأصول و السنن الثلاثة هي من أصول و سنن التربية الإسلامية و هي:

1 - سنّة و قانون من اللّه تعالى.

ص: 32


1- كلمات مضيئة: 56.
2- تحف العقول، صفحة: 442.

2 - سنّة و قانون من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

3 - سنّة و قانون من الإمام عليه السّلام.

فالمؤمن هو الذي يحفظ السرّ و يكتمه عن اللّه تعالى، و يداري الناس كما عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و يصبر و يستقيم مقابل الإبتلاءات و المشكلات متّبعا في ذلك وليّه و إمامه عليه السّلام.

و هذه الصفات الحميدة يجب على المؤمن إقامتها و العمل بها في كلّ تصرّفاته في هذه الحياة.

- فأمّا كتمان السرّ و حفظه فهو نوع من الأمانة، فيجب على المؤمن أن يحافظ و يواظب على شأن و حرمة و شرف و عرض المؤمنين سواء كان سرّ نفسه أم سرّ غيره، و سواء كان من أسرار الدولة أم من أسرار المؤسّسات و الإدارات المختلفة. و بالتدقيق في هذا الأمر نجد أنّ كثيرا من المشكلات و الإبتلاءات مبدأوها و منشاؤها هذا الحجاب (أي عدم كتمان السرّ) الرائج و الشائع و المدمّر و المفرّق بين الناس.

- و أمّا المداراة مع الناس فلأنّه يوجد في المجتمع أشخاص منافقون و ضعيفو الإيمان و الواجب علينا أن نتعامل معهم بمداراة، و هذا لا يعني أن نعتمد عليهم و نثق بهم و نسند الأعمال و المهام إليهم. و لكن يجب علينا إعطاؤهم حقوقهم و احترامها و نتعايش معهم.

- و أمّا الصبر و الإستقامة و الثبات و الصمود فهو من أهمّ المسائل التربوية.

فإذا لم نصبر فسوف نتوقّف في طريقنا الذي نسلكه و أولياء اللّه تعالى صبروا و استقاموا مقابل الضائقات المالية و السياسية و قاوموها.

و بمراعاة هذه الخصال الحميدة (كتمان السرّ و المدارة و الصبر) يصل الإنسان إلى المقام الإنساني الشامخ(1).

ص: 33


1- كلمات مضيئة: 54.

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال علي بن الحسين عليه السّلام: «أربع من كنّ فيه كمل إسلامه و محّصت عنه ذنوبه و لقي ربّه عزّ و جلّ و هو عنه راض: من وفى اللّه عز و جل بما يجعل على نفسه للناس، و صدّق لسانه مع الناس، و استحي من كل قبيح عند اللّه و عند الناس، و حسّن خلقه مع أهله»(1).

إذا وجدت أربعة خصال في الإنسان كان إسلامه كاملا، و محيت عنه ذنوبه، و رضي اللّه عنه عند ما يلقاه. و هي:

1 - إذا قام بأداء الحقوق التي أوجبها اللّه عليه للآخرين.

طبعا حقوق اللّه تعالى لا تعد و لا تحصى و لكن القدر المسلّم منها هو الواجبات الإلهية.

2 - إذا حدّث الناس و تعامل معهم كان صادقا بلسانه و فعله فلا يكذب عليهم و لا يخدعهم.

3 - إذا أراد أن يقوم بعمل قبيح عند الناس استحى فلم يقدم.

طبعا ليس المراد أنه لا يفعل عملا قبيحا أصلا و إلاّ فلا يكون مذنبا حتّى يمحى عنه، بل المراد أنه لا يرتكب الذنب حينما يرتكبه بوقاحة و بلا حياء و بلا رهبة و خوف.

4 - إذا تعامل مع أهله فإنه يتعامل معهم بخلق حسن.(2)

و قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من أصبح من أمّتي و همّته غير اللّه فليس من اللّه تعالى.

و من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.

و من أقرّ بالذلّ طائعا فليس منّا أهل البيت»(3).

ص: 34


1- الخصال/باب الأربعة/ح 50.
2- كلمات مضيئة: 56.
3- تحف العقول، صفحة: 47.

كل إنسان يصبح و لا يكون لرضا اللّه تعالى دور و تأثير في نواياه و أهدافه فلا يعدّ من جند اللّه و لا من العاملين للّه.

و كل إنسان يصبح و لا تكون مصالح و مفاسد الناس و المجتمع الإسلامي مهمّة عنده و لا يعتني بها فلا يعد من المسلمين الحقيقيّن.

ثمّ إنّ أمور المسلمين لها مصاديق عديدة و مختلفة و المصداق الأبرز و الأعلى منها هو الإهتمام بأمور الأمّة الإسلامية و عزة و قدرة و حكومة المسلمين، و من مصاديقها أيضا قضاء حوائج الضعفاء و الفقراء و المحتاجين.

و كل إنسان يعطي من نفسه الذّل طائعا و مختارا و يقرّ و يرضى به فهو ليس من أهل البيت عليهم السّلام.

و هنا يجب أن يعلم أن التسليم الذليل ليس مختصّا بما إذا كان مقابل القوى السياسية، بل يشمل أيضا ما إذا كان الإنسان ذليلا في مقابل حرصه و طمعه و الحطام الدنيوي.

و قد ورد في بعض الروايات أنّ المؤمن يرضى بكل شيء إلاّ الذلّ (1).

و قال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام: «يا ابن جندب، إنّما المؤمنون الذين يخافون اللّه و يشفقون أن يسلبوا ما أعطوا من الهدى، فإذا ذكروا اللّه و نعماءه وجلوا و أشفقوا، و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا»(2).

للمؤمن خصوصيّات و خصائص عديدة:

منها الخوف من اللّه تعالى، فإنّ الخوف أمام العظمة الإلهية و ما أوعد اللّه عليه - في الجملة - شرط في الإيمان الصادق.

و كذلك فإنّ الإنسان المؤمن دائما يخاف من أن يأتي يوم تسلب عنه فيه الهداية

ص: 35


1- كلمات مضيئة: 64.
2- تحف العقول، صفحة: 301.

و الإيمان اللذان أعطاهما اللّه إيّاهما.

و إحدى أهم أسباب سلب الإيمان عن الإنسان هي الذنوب و القذارات المادية، فإنّ الذنب - مضافا إلى آثاره السيئة الشخصية و الإجتماعية - أهم أثر فيه هو ذهاب جوهر الإيمان و الحقيقة المعنوية للإنسان.

و لذلك حذّر القرآن الكريم في عدّة آيات من ذلك كقوله:

ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ (1) .

فإذا بقي بريق الإيمان موجودا في القلب فإنّه بتلاوة الآيات الإلهية سوف يتلألأ و يشعّ أكثر، و إلاّ فلن يكون للقرآن أيّ تأثير على قلبه.

اللّهم إبق سراج إيماننا دائما وهّاجا و مضيئا في قلوبنا(2).

سبب رسوخ الإيمان

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قلت: ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟

قال عليه السّلام: الذي يثبته فيه الورع، و الذي يخرجه منه الطمع»(3)

إنّ سبب ثبات و رسوخ الإيمان في الإنسان هو الورع (أي المحافظة و التحصّن أمام الذنوب).

فالورع كالدرع الحصين يمنع من نفوذ سهام الذنوب المسمومة إلى بدن الإنسان، و يوجب حفظ الإيمان للإنسان.

و في مقابله الطمع أي الإرتباط و التعلّق و حبّ الزخارف و المظاهر الدنيوية و اكتساب الثروات و الحصول على المقام و الشهرة من الطرق المحرّمة اللّأخلاقية.

ص: 36


1- سورة الروم: 10.
2- كلمات مضيئة: 65.
3- الخصال، باب الواحد، صفحة: 9.

و يوجب في النهاية سلب الإيمان أو على الأقلّ تنزّله و هبوطه من درجاته و مراتبه العالية الرفيعة(1).

خصال الإيمان

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

وقور عند الهزاهز - صبور عند البلاء - شكور عند الرخاء - قانع بما رزقه اللّه - لا يظلم الأعداء - و لا يتحامل (على) الأصدقاء - بدنه منه في تعب - و الناس منه في راحة»(2).

من المناسب للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

1 - أن يكون مقابل الحوادث الإجتماعية و العائلية الصعبة كالصخرة صامدا محكما ثابتا، و لا يكون كالريشة التي تعلو و تسقط مع أدنى نسمة الهواء.

2 - أن يكون في مقابل عاصفة البلاء صابرا متحمّلا.

3 - أن يكون في مقابل نعمة الصحة و العافية و الهدوء و الطمأنينة و الأمن و الأمان غير مبتلى بالغرور و العجب، بل عليه أن يعلم أن كل هذه النعم من اللّه تعالى و عليه أن يشكرها.

4 - أن يكون قانعا بما يحصل عليه بعد جهده و تعبه و سعيه الملزم به.

5 - أن لا يظلم أعداءه سواء كانوا فسّاقا أم كفّارا، و لا يتجاوز و لا يتعدّى الحدود الإلهية بحقّهم.

6 - أن لا يفرض على أصدقائه شيئا لا يطيقونه و لا يحملنّهم ذلك.

7 و 8 - أن يكون - خلافا لما يعتقده بعض الغفلة - الإنسان في حالات الراحة

ص: 37


1- كلمات مضيئة: 55.
2- تحف العقول، صفحة: 362، و الكافي: 230/2 ح 2.

و الهدوء بدنه منه في تعب، بينما يكون الآخرون منه في راحة(1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث خصال من كن فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم و لا باطل.

و إذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق.

و إذا قدر لم يتعاط ما ليس له».(2)

كل إنسان تكون فيه ثلاثة خصال يكون قد استكمل جميع خصال الإيمان و هي:

1 - إذا كانت الأوضاع و الظروف موافية و ملائمة له، كما إذا كان من الناحية المالية مكتفيا و ميسورا و كان من الناحية الأمنية مطمئنا و مستقرا و كان لديه الأنصار و الموالون و الأصدقاء و كان أعداؤه مغلوبين، فإنه لا يقع في الزلاّت و لا يسقط في دوّامة الذنوب و المعاصي و الأعمال الباطلة و الفاسدة.

2 - إذا كان في حالة الغضب و السخط على الآخرين فإن ذلك لا يحرّكه و لا يدفعه للخروج عن طريق الحق، فلا يقول كلاما غير لائق و لا يحيف في قضائه على الآخرين و لا يحكم عليهم بخلاف الواقع.

3 - إذا كان قادرا و ذا سلطة فإنه لا يتعدى و لا يتجاوز عن الحد و لا يظلم الآخرين، و لا يطلب ما ليس له، و ما يكون لغيره و لا يعتبره لنفسه.(3)

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل.

و إذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق.

ص: 38


1- كلمات مضيئة: 59.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 66.
3- كلمات مضيئة: 60.

و إذا قدر لم يتعاط ما ليس له»(1).

ليس معنى الرواية أنّ الإيمان منحصر بهذه الخصال الثلاث، بل المقصود أن كل شخص كانت لديه هذه الخصال كشف ذلك عن أنه استجمع كل خصال الإيمان، و ذلك لأن تحقق كل خصلة من هذه الخصال متوقف على تحقق مجموعة من الصفات الحميدة و كاشف عنها.

فالإنسان الذي يرضى عن شخص أو يحب شخصا لا ينبغي أن يؤدي به ذلك إلى الدخول في الباطل كأن يدافع عنه من غير حق مثلا.

و الإنسان الذي يغضب على شخص لا ينبغي له القيام بأعمال خاطئة و خارجة عن الحق.

و كذلك الإنسان حينما يصبح قادرا و بيده القدرة على الشيء لا ينبغي له أن يرتكب ما ليس له بحق.(2)

دعائم الإيمان

جاء في الحكمة الثلاثين من نهج البلاغة سؤال عليه السّلام عن الإيمان، فقال عليه السّلام:

الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، و اليقين، و العدل، و الجهاد:

الصبر منها على أربع شعب على الشوق، و الشفق، و الزهد، و الترقب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، و من اشفق من النار اجتنب المحرمات، و من زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، و من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات.

و اليقين منها على أربع شعب: على تبصره الفطنه، و تأول الحكمة، و موعظة العبرة، و سنه الأولين فمن تبصر في الفطنه تبينت له الحكمة، و من تبينت له الحكمة عرف

ص: 39


1- تحف العقول، صفحة: 43.
2- كلمات مضيئة: 63.

العبرة، و من عرف العبرة فكانما كان في الأولين.

و العدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، و غور العلم و زهره الحكم، و رساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، و من حلم لم يفرط في أمره و عاش في الناس حميدا.

و الجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الصدق في المواطن، و شنا الفاسقين...(1)

قوله عليه السّلام: (الإيمان على أربع دعائم...)، أي أن هذه الدعائم إذا كانت متينة و محكمة كان الإيمان مستقرا و ثابتا، و بخلافه لو كانت متداعية أو متزلزلة، و إنّ هذه الدعائم الأربع هي: (الصبر و اليقين و العدل و الجهاد...).

فالدعامة الأولى هي الصبر و الاستقامة في كافة المجالات، فلو كان لديكم برنامج محدد، امضوا عليه و اصبروا عليه حتى النهاية، فلو طرأت عليكم مصيبة في الأثناء، فلا ينبغي لتلك المصيبة أن تفتّ من عزائمكم، و لو واجهتم معصية فعليكم أن تقاوموا و لا تستسلموا لها، فالصمود يختلف باختلاف المواقف و الحالات، إلاّ أن معناه واحد فيها جميعا، إذ يعني قدرة الإنسان على التحمّل، كالصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية أو الصيبة(2).

كمال المسلم

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ثلاثة بهن يكمل المسلم: التفقه في الدين، و التقدير في المعيشة، و الصبر على النوائب».(3)

ص: 40


1- نهج البلاغة: 7/4 ح 31.
2- من كلمة ألقاها في: 1383/8/20.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 120.

هناك ثلاثة عناصر لها دور مهم في تكميل شخصية الإنسان المؤمن.

و هذه الشخصية المتكاملة الجوانب و الأطراف يمكنها أن تؤثر أثرها في هذه الدنيا المملوءة بالأغراض و البواعث و الجهود المختلفة سواء كانت في المجتمعات الإسلامية أم المجتمعات غير الإسلامية. و هذه العناصر هي:

1 - التفقه في الدين، و التفقه يجب أخذه بمعناه الواسع و ليس فقط المعنى المصطلح في الحقوق الإسلامية، فإن التفقه يشمل معرفة اللّه تعالى التي هي الفقه الأكبر، و يشمل سائر المعارف الإسلامية التي يتعطش الناس و الدنيا كلها في العصر الحاضر لفهم هذه الحقائق.

و رسالتنا في هذه الدنيا ما هي؟ و ما هي التكاليف الملقاة على عاتقنا؟ و ما هي الآثار و العواقب المترتبة على فعل أو ترك هذه التكاليف؟ و كذلك ما هي أسباب سعادة الإنسان؟ و ما هي العوامل المساعدة على هذا الأمر و التي توصل الإنسان الى أهدافه النهائية؟ فكل هذه الأمور و المسائل بيانها و توضيحها لا يمكن أن يتأتى من المذاهب اللادينية، لأن تلك المذاهب مأخوذة من التجارب و العقول البشرية و هي و إن كانت مصيبة في بعض الموارد إلاّ أنها مخطئة في أكثر الموارد الأخرى، و لذلك عاش الناس في مختلف العصور السالفة حالة الضياع و الحيرة و التيه في دنيا مليئة بالظلم و العدوان و الشهوات النفسانية.

و لم تتوفر إلاّ للقليل منهم فرصة إرضاء و إشباع هذه الشهوات. و أما الآخرون فإنهم أفنوا عمرهم في سبيل إشباع شهواتهم و لكنهم لم يصلوا الى ذلك.

هذه المصائب كلها تأتي من عدم التفقه في الدين.

طبعا المسلمون يمتلكون هذا الإمتياز (أي الفقه في الدين) حيث إنهم يؤمنون بالمبدأ الإلهي إلاّ أنهم إذا لم يستفيدوا من هذا الإمتياز كانوا بحكم الناس الجاهلين تماما، نظير أتباع الأديان الحقة في العصور السالفة، فإنهم بسبب عدم إدراكهم و فهمهم و عدم عملهم و إلتزامهم بالمعارف الدينيّة أخفقوا و حرموا من الاستفادة من

ص: 41

هذا الإمتياز.

و عليه فلا ننخدع لمجرد أننا مسلمون، بل يجب أن نسعى و نجدّ في طريق فهم المعارف الإسلامية و حقيقتها و الإحاطة بها. و نحن للأسف مبتلون بهذا النقص في الوقت الحاضر و لكن هناك جهود كثيرة قد أنجزت - و للّه الحمد - سواء في الحوزات العلمية أم غيرها إلاّ أنّ ما تحتاجه الدنيا أكثر من ذلك.

و يجب علينا أن نعرف ما يحتاجه الناس اليوم سواء في المسائل الإعتقادية أم في المسائل الحقوقية من أجل إدارة المجتمع.

و أؤكد مجددا أنه يجب على الحوزات الدينية و المفكرين أن ينظروا الى المسائل الدينية من هاتين الزاويتين. هذا هو معنى التفقه في الدين في يومنا الحاضر.

2 - التقدير في المعيشة، و هذه المسألة مهمة في الحياة الفردية و لكنها تصدق و تنطبق بشكل واسع على المجتمع الإسلامي أيضا، فالتقدير يعني المحاسبة و الموازنة، فيجب أن يحاسب و يوازن بين ما يدخل من موارد و ما يصرف و ينفق منها.

3 - الصبر على النوائب، و هذا العنصر هو المحافظ و المحامي لكل هذه الأمور.

فالصبر يعني عدم التراجع و بذل الأرواح و خوض الصعاب لأجل الوصول الى الهدف.

و لذلك كان شعار القادة العسكريين في ميادين القتال و سوح الجهاد هو «أيها الكرام اصبروا».

فالصبر فيه هدف و غرض و غاية يجب الإلتفات إليها - كما تقدم تفصيله -، و لا نتراجع عن الطريق الصحيح بسبب الصعاب و المتاعب و الموانع الموجودة في الطريق.(1)

ص: 42


1- كلمات مضيئة: 61.

حقيقة الشيعي الموالي

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، بلّغ معاشر شيعتنا و قل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب، فو اللّه لا تنال ولايتنا إلاّ بالورع و الإجتهاد في الدنيا، و مواساة الإخوان في اللّه، و ليس من شيعتنا من يظلم النّاس»(1).

يوصي الإمام عليه السّلام ابن جندب أن يبلّغ عنه شيعته أن الوصول إلى ولايتهم لا يكون من خلال التوهّمات و الأوهام الزائفة و ذلك لأنّ حقيقة الحصول على الولاية مرتبطة بالأمور التالية:

1 - الورع، و هو أن يجتنب الدخول إلى منطقة الذنب و المعصية الممنوعة بشكل كامل و مطلق.

2 - الإجتهاد في الدنيا، أي السعي و الجدّ و الإجتهاد للوصول إلى قمّة الكمال الإنساني و الأهداف المعنوية العالية.

3 - مواساة الإخوان في اللّه، أي المشاركة في أحزان و أفراح إخوانه في الدين تقرّبا للّه تعالى، و الإجتناب عن الظلم و التعدّي على حقوق الآخرين.

و الوصول إلى ولاية الأئمّة عليه السّلام إمّا معناها حفظ الإرتباط بين الشخص و الإمام المعصوم عليه السّلام، و إمّا معناها إقامة و استقرار ولايتهم و حكومتهم في المجتمع. و ذلك لأن التقدير الإلهي و مشيئة اللّه تعالى ليست في أن ينعزل و ينزوي الأئمّة عليه السّلام جانبا بل في أن تعمّ أنوارهم المقدّسة تمام ظلمات البشر و تسود و تحكم المجتمع الحكّام و القادة الحقيقيّون.

ص: 43


1- تحف العقول، صفحة: 302.

و اليوم فإنّ حفظ الولاية كإستقرارها منوط و متوقف على مراعاة هذه التوصيات(1).

و قال الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه السّلام: «و قال للشيعة: أوصيكم بتقوى اللّه و الورع في دينكم و الإجتهاد للّه و صدق الحديث و أداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، و طول السجود و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلّى اللّه عليه و آله.

صلّوا في عشائرهم و اشهدوا جنائزهم و عودوا مرضاهم و أدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة و حسّن خلقه مع الناس قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك...»(2)

عصر الإمام الحسن العسكري عليه السّلام كان مهمّا جدا، فإنّ الشيعة آنذاك كانوا كثيري العدد و منتشرين في جميع الأقطار الإسلامية. و لذلك أوصاهم عليه السّلام مضافا إلى مراعاة الموازين الدينية بالمحافظة على الخصوصيّات الشيعية و هي كما قال:

التقوى و الورع و الإجتهاد و الجدّ في سبيل اللّه و أداء الأمانة (سواء كانت مالا أم أسرارا أم حرمات و نواميس). من دون فرق بين أصناف الناس سواء كانوا أبرارا أم فجّارا.

و طول السجود (لأنّه من مظاهر التواضع و الخضوع للّه تعالى) و حسن المعاملة مع الجيران.

فإنّ هذه التوصيات كلها جاء بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و كذلك يوصيهم بحضور جماعة أهل السنّة و عيادة مرضاهم و تشييع أمواتهم و أداء حقوقهم إليهم.

و على هذا فإن قام أحدكم بذلك بأن ورع في دينه و صدق في حديثه و أدّى الأمانة لأهلها و كان خلقه حسنا مع الناس، فإنّ الناس سوف تقول عنه هذا هو الشيعي في

ص: 44


1- كلمات مضيئة: 58.
2- تحف العقول، صفحة: 487.

مقام المدح و الإطراء عليه و هذا الأمر يدخل السرور على قلب الإمام عليه السّلام(1).

صفات الشيعة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: و قال عليه السّلام للمفضل: أوصيك بست خصال تبلغهنّ شيعتي.

قلت: و ما هنّ يا سيدي؟

قال عليه السّلام: أداء الآمانة إلى من ائتمنك، و أن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، و اعلم أنّ للأمور أواخر فاحذر العواقب.

و أنّ للأمور بغتات فكن على حذر، و إياك و مرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر و عرا، و لا تعدنّ أخاك و عدا ليس في يدك و فاؤه»(2).

المفضل بن عمر كان كبير الشيعة في الكوفة، و كانت له بينهم منزلة و مقام، و لذلك أوصاه الإمام الصادق عليه السّلام بأن يبلغ الشيعة عنده بهذه الخصال الست، و هي:

1 - إذا ائتمنك شخص على شيء فيجب عليك ردّ الأمانة إليه.

2 - كل ما ترضاه و تحبه لنفسك فارضه و أحبه بحق أخيك.

3 - كل عمل تريد القيام به فالتفت إلى عواقبه و نتائجه و فكّر بها قبل ذلك.

و لا ينبغي أن تقوم بعمل لمجرد أنه عمل حسن و صحيح إذ لعلّ نهايته و نتيجته تكون سيئة.

4 - عند قيامك بالعمل من المحتمل أن تقع حوادث و أمور غير متوقعة و لذلك يجب أن تكون قد مهّدت الأمر بتهيئة المقدّمات اللازمة لها لئلا تقع في المشكلات و المتاعب.

ص: 45


1- كلمات مضيئة: 6.
2- تحف العقول، صفحة: 367.

5 - إجتنب أن تضع قدمك في طريق سهل فيما إذا كان الرجوع منه فيه مشقّة و تعب.

6 - لا تعد أخاك شيئا لا تقدر على الوفاء به بحيث يكون خارجا عن قدرتك و استطاعتك(1).

واجب الشيعي الموالي

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و الواجب على من وهب اللّه له الهدى و أكرمه بالإيمان و ألهمه رشده و ركّب فيه عقلا يتعرّف به نعمه و آتاه علما و حكما يدبّر به أمر دينه و دنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه و لا يكفره، و أن يذكر اللّه و لا ينساه، و أن يطيع اللّه و لا يعصيه»(2).

الإنسان الذي يكون موردا لنظر اللّه و لطفه و عنايته في الأمور التالية:

1 - أنعم عليه بالهداية هبة و هدية منه تعالى و أكرمه بالإيمان و الإعتقاد الرّاسخين.

2 - ألهمه الرشد في القيام بالعمل الصحيح و الصالح.

3 - أعطاه العقل و الحكمة ليتعرف بهما على النعم الإلهية و ليدبّر بهما أمور دينه و دنياه.

فهذا الإنسان يجب عليه أن يقوم بأمور ثلاثة في المقابل:

1 - شكر هذه النعم الإلهية فلا يجحدها و يكفر بها.

2 - تذكّر اللّه تعالى دائما و عدم نسيانه أبدا.

3 - إطاعة اللّه في أوامره و اجتنابه عن معصيته فيما نهى.

و من البديهي و الواضح أن وجوب هذه الأمور ليس وجوبا شرعيّا بل هو وجوب

ص: 46


1- كلمات مضيئة: 21.
2- تحف العقول، صفحة: 306.

عقلي، و لذلك يحكم بها عقل الإنسان حتى و إن لم ترد في الشرع أصلا.

بمعنى أن عقل الإنسان و وجدانه يدعوانه إلى الشكر و الذكر و الإطاعة للّه تعالى على تلك النعم(1).

أكرم الناس و أبغض الناس

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «و قيل له: من أكرم الخلق على اللّه؟

فقال عليه السّلام: أكثرهم ذكرا للّه، و أعملهم بطاعة اللّه.

قلت: فمن أبغض الخلق إلى اللّه؟

قال عليه السّلام: من يتهم اللّه.

قلت: أحد يتهم اللّه؟

قال عليه السّلام: نعم، من استخار اللّه فجاءته الخيرة بما يكره فيسخط فذلك يتهم اللّه.

قلت: و من؟

قال عليه السّلام: يشكو اللّه.

قلت: و أحد يشكوه؟

قال عليه السّلام: نعم، من إذا ابتلى شكى بأكثر ممّا أصابه.

قلت: و من؟

قال عليه السّلام: إذا أعطي لم يشكر و إذا ابتلي لم يصبر.

قلت: فمن أكرم الخلق على اللّه؟

قال عليه السّلام: من إذا أعطي شكر و إذا ابتلي صبر»(2).

أكرم الخلق عند اللّه تعالى أكثرهم ذكرا للّه تعالى و أكثرهم عملا بطاعة اللّه.

ص: 47


1- كلمات مضيئة: 58.
2- تحف العقول صفحة: 364.

و إذا أعطي النعم شكرها و إذا ابتلي بالمصيبة صبر عليها و تحمّلها.

و أبغض الخلق إلى اللّه تعالى الذي يطلب من اللّه أن يقدّر له الخير في الوقائع و الحوادث التي تعرض له في حياته فإذا جاءت الأمور و الحوادث على خلاف ميله و رغبته سخط على اللّه تعالى الذي يعلم بما يصلحه و بما يفسده، و اتهمه - و العياذ باللّه - بأنه لم يعطه الخير.

و مثله الشخص الذي يشكو اللّه تعالى، أي أنه عند المصائب و المشاكل التي تعرض عليه يعطيها أكثر من واقعها و يضخّمها كثيرا.

و كذلك الشخص الذي لا يشكر النعم الإلهية و في الصعوبات و المشقات لا يصبر و لا يتحمّل بل يجزع و يفزع(1).

ص: 48


1- كلمات مضيئة: 19-20.

الأجر و الثواب

الهدف من الثواب على العمل

إنّ نشر العلم و توفير فرص العمل عبادة، كما أنّ الصلاة و قراءة القرآن عبادة، و هذا ليس بالأمر الهيّن أبدا. و نتساءل هنا لماذا جعل اللّه للعمل و التعليم الأجر و الثواب؟ و هل يعقل أنّ اللّه سبحانه و تعالى يقوم بفعل ما عبثا و من دون هدف أو غاية؟

و للإجابة على السؤال نقول: إنّ الهدف من وراء جعل الثواب على التعليم و العمل هو أنّ اللّه تعالى جعل كمال البشرية في العلم و العمل، و المجتمع العاطل عن العمل أو الذي يتكاسل في العمل، و كذلك المجتمع الجاهل لا يستطيعان ارتقاء مدارج الكمال البشري. و هذا يعني أن لا فائدة من وراء حياتهم و سوف لا يجنون منها شيئا، و هذا ثابت في علم اللّه الأزلي الشامل، و كلما كان العمل أكثر نفعا كان الثواب أكثر.

و ليس المقصود بالعلم هنا علوم الدين، و أنّ تعليم القرآن فقط هو الذي يستتبع الأجر و الثواب، و أمّا إذا علمّتم الآخرين الجبر و المثلثات و الفيزياء و الهندسة، فلا ثواب لكم، كلا فالمقصود هذا المعنى، فما دمتم تصنعون من أولاد الناس علماء يفيدون المجتمع بعلمهم، فإن تدريسكم هذا فيه ثواب و أجر.

هذا هو منطق الإسلام، إذن النقطة الاولى أو المكسب الأول هو تحصيل الثواب الإلهي.

و من الثمرات الاخرى التي تترتب على العمل و التعليم هي مساهمتكم في بناء

ص: 49

صرح مستقبل مجتمعكم، و هذه مسألة مهمة للغاية(1).

شروط الأجر و الثواب

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته الى يوم القيامة صدقة موقوفة لا توّرث.

أو سنّة هدى سنّها فكان يعمل بها و عمل بها من بعده غيره.

أو ولد صالح يستغفر له»(2)

إنّ ملف و سجل أعمال الإنسان يغلق و يطوى بعد موته، فلا يستفيد و لا يكسب بعد ذلك أي أجر أو ثواب إلاّ من طرق ثلاث:

1 - إذا أسس مؤسّسة خيرية يستفيد منها الناس أو أوقف عينا تصرف منافعها على الفقراء و المستحقّين.

2 - إذا سنّ سنّة أو طريقة حسنة كان يعمل بها في حياته و بعد مماته فكل من عمل بها من الناس كان شريكا لهم في ثوابها و أجرها.

و عليه فإنتاج الأفكار الصحيحة و بناء الشخصية الثقافيّة و تصنيف الكتب المفيدة كلها مصاديق السنّة الحسنة.

و كل الذين ساهموا في إيجاد و إقامة حكومة القرآن و الإسلام في المجتمع فإنهم يشاركون في الثواب و الأجر كل الذين جاءوا من بعدهم و عملوا الخير و الإحسان من خلال هذا الطريق.

3 - الولد الصالح فإنه يستغفر لأبويه بعد موتهما، و في الحقيقة إنّ هكذا ولد يعتبر

ص: 50


1- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1415 ه
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 184.

رأسمال لوالديه لا ينتهي، إذ ما أكثر الأبناء الذين يستغفرون لآبائهم و أجدادهم السالفين فإنّهم يستفيدون منهم على كل حال.(1)

ثواب فقد الأبناء

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من ثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على اللّه عزّ و جلّ وجبت له الجنة».(2)

الشخص الذي يفقد ثلاثة أبناء من صلبه و يثكل بهم بالغم و الحزن من أجلهم و لكنه يحتسب هذا المصاب عند اللّه عزّ و جلّ و يرضى بالقضاء الإلهي و يسلم به، و لا يصدر منه شيء يدل على السخط و عدم الرضا لا قولا و لا فعلا فلا يتكلم بكلام الكفر أو بما لا يليق التكلم به، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى يعطيه مقابل ذلك الجنة و يوجبها له.

طبعا هذه الرواية ليس مفادها أنّ هذا الشخص الذي وجبت له الجنة بما ذكر يمكنه أن يفعل ما يشاء فيرتكب المعاصي و يترك الفرائض الإلهية عامدا إتكالا على هذا الوعد الإلهي، و إنما مفادها أنّ الشخص الذي فقد هؤلاء الأعزاء الذين هم فلذات كبده هناك مقتض لدخوله الجنة، و لكن بشرط أن لا يزول هذا المقتضي بإيجاد الموانع من تأثيره.

و هذه الرواية تعتبر عزاء و بعثا للأمل في نفوس الذين فجعوا و ابتلوا بالحوادث و الكوارث الرهيبة كالزلازل و الفيضانات و السيول و التي ذهبت بأولادهم و أقاربهم.

نسأل اللّه تعالى المغفرة للأموات و الصبر و الأجر للأحياء.(3)

ص: 51


1- كلمات مضيئة: 186.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 245.
3- كلمات مضيئة: 187.

ثواب الترحم على الناس

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(1)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة. و هي:

1 - من آوى اليتيم أي تكفله و كان ملجأ له.

2 - من رحم الضعيف أي يتعامل معه برحمة و لطف و محبة. و ذلك لأنه عادة عند ما يتعامل الناس و يتصرفون مع الأشخاص الأقوياء و القادرين سواء من الناحية المادية أم من ناحية السلطة و المقام و المنصب، فإنهم يراعون الدقة و الضوابط، أما إذا تعاملوا مع الناس الضعاف فلا يتقيدون بشيء من الحدود الإجتماعية.

3 - من أشفق على والديه، أي كان لطيفا و دودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما مع اللطف و المحبة.

4 - الرفق بالمملوك، أي أن يتعامل معه بلطف و يسر. و اليوم و لله الحمد لا وجود لمسألة العبيد، و لكن هناك الأجراء و المستخدمون الذين يعملون في البيوت و الإدارات و الوظائف فهؤلاء يجب التعامل معهم بلطف و يسر أيضا.

و المستفاد من هذه الرواية التي تدعو الجميع للتحلي بالمسائل الأخلاقية أن الإسلام و هو ذاك الدين المقدّس أهتم كثيرا جدا بالمحبة و المودة بين الناس بحيث من يراعي هذه المسائل الأخلاقية تجب له الجنة(2).

ص: 52


1- الخصال/باب الأربعة/ح 53.
2- كلمات مضيئة: 187.

العفو

معنى العفو

العفو من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في معاشرته مع الناس فإن أساء إليكم شخص من الممكن أن تسيئوا إليه كما كما أساء إليكم لكن اعفوا عنه و اصفحوا، فالعفو من أحسن الصفات و أسماها في الأوقات التي يتعرض فيها المرء لإساءة أو سوء أدب من قبل أخيه المؤمن، و في لحظات الغضب و الانفعال التي تدعو صاحبها الى رد السوء بالسوء.

في تلك الحالات يكون الإنسان حيوانا حقيقيا أسير غضبه و نفسه التي تستهدف فقط منافعها الشخصية، و عند العجز عن ردّ الإساءة بالمثل يقبل البعض بالذلة و الضعف، و متى سنحت الفرصة للرد يكون وحشيا شديدا.

إن هذه مسألة طبيعية لدى الإنسان و لكن علينا ضبطها و تقييدها هذه الحالة الحيوانية التي تظهر حين غضبنا و حين الرد على من أساء إلينا يجب أن نسيطر عليها.

العفو الإلهي

قال اللّه الحكيم في كتابه العزيز: وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً

ص: 53

حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ... (1) .

العفو الإلهي معناه: إصلاح ما ارتكبناه من أخطاء، و جبران الآلام التي سببناها لأنفسنا و للآخرين.

فلو أنّ الإنسان صمم على إصلاح الأخطاء و المفاسد فإنّ طريق اللّه سيكون ممهّدا أمامه، و عاقبته ستكون عاقبة حسنة.

إنّ الإشكال في عمل الإنسان هو الغفلة عن الذنوب، و عن وجوب الإصلاح و القيام بإصلاح النفس، إلاّ أنه لو زالت هذه الغفلة و تحققت الإرادة و التصميم فسوف تنصلح جميع أمور الإنسان.

علينا في أول الأمر أن نصلح أنفسنا - و هي المرحلة الأولى التي تعتبر من أكبر الوظائف - و هذا هو الأساس؛ أي أن جميع الأعمال لا بد أن تكون مقدمة لإصلاح النفس، و كسب رضى الله عنا، قال تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ (2)؛ لا بد أن تكون أعمالنا و جميع مساعينا من أجل نيل رضى اللّه تعالى و الوصول الى الكمال الذي هو الهدف الأساسي من وجودنا. هذا من جهة(3).

ص: 54


1- سورة هود: 3.
2- سورة المائدة: 105.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.

الزهد

معنى الزهد

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «كونوا على قبول العمل أشدّ عناية منكم على العمل.

و قال عليه السّلام: الزهد في الدنيا قصر الأمل»(1).

يجب على الإنسان أن يسعى و يجتهد لتكون أعماله التي يقوم بها مقبولة عند اللّه تعالى و ليس المهمّ كثرة العمل و حجمه و إنّما الشيء المهم الذي يجب على الإنسان أن يصرف جهده و سعيه فيه هو كيفيّة و باطن و حقيقة العمل.

حقيقة الزهد في الدنيا أن لا يكون للإنسان آمال و أمانيّ بعيدة و طويلة لأن الآمال و الأماني البعيدة و التعلّق بها تكون سببا موجبا لأن يقوم الإنسان بأي عمل و من طريق الحرام أو الباطل من أجل الحصول عليها.

و نتيجة ذلك أن يعمى القلب و ينحرف الإنسان عن جادة الحق(2).

و قال عليه السّلام: «الزاهد في الدنيا من لم يغلب الحرام صبره، و لم يشغل الحلال شكره»(3).

ص: 55


1- الخصال، باب الواحد، ح: 50.
2- كلمات مضيئة: 116.
3- تحف العقول، صفحة: 200.

الزهد بنظر الإسلام و الذي أوصى به الأئمة المعصومون عليهم السّلام أيضا حقيقته طبقا لهذه الرواية عبارة عن أمرين:

الأول: أن يكون الإنسان صابرا و مستقيما في مقابل الوساوس الشيطانية و الميول الحيوانية و نزاعاتها التي تحرّك الإنسان و تدفعه لارتكاب المحرّمات فيكون غالبا لها لا مغلوبا، و قادرا على الوقوف بوجهها بصبر و استقامة.

الثاني: أن لا تشغله النعم الإلهية و لا تجعله غافلا عن شكر اللّه تعالى. فالإنسان يجب أن لا يغفل عن شكر هذه النعم و أنها من أين أتت؟ و من أعطاه إياها؟ لأن النتائج السيئة لهذه الغفلة تجرّ الإنسان للوقوف في المهالك الخطيرة(1).

الزهد في الدنيا

روى علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام:

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين و ركون من اتّخذها أبا و امّا. يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها. يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه، فإن الخير كإسمه.

و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى كل مفتون بها و موكل إلى نفسه، و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا، و لا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق. و لا تغبطنّ أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه، و لا تغبطنّ مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتّباعهم إيّاه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه»(2).

ص: 56


1- كلمات مضيئة: 116.
2- الكافي: 136/2 ح 21.

و السبب في اختياري لهذه الرواية بالذات هي أنّ مجتمعنا اليوم يمرّ في ظروف أرى من الضروري فيها أن نقرأ عليه روايات عن الزهد - و في نهج البلاغة هناك الكثير من الروايات و الخطب في خصوص الزهد - و لكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ الزهد هو أسمى التكاليف و الواجبات و لا أحسنها، ففي بعض الأحيان يكون الزهد أفضل و أسمى و في بعض الأحيان يكون الجهاد أو العبادة أو طلب العلم هو الأفضل و الأسمى.

الظروف و الأوضاع هي التي تحدد لنا متى يكون الزهد أفضل و أعلى درجة من غيره من الواجبات. و يبدو أنّه يجب علينا في الوقت الراهن أن ندعو الناس و المجتمع إلى الزهد؛ و ذلك لأنّ المجتمع يتجه بإتجاه المال و لأنّ الثروة في ازدياد مضطرد؛ بحيث إنّه لو كان هناك اناس من أهل الدنيا فإن بمقدورهم أن يجمعوا الثروة بطرق متعددة و على غير حقه. و حتى لو أنّهم أنهمكوا في جمع المال و الثروة عن طريق الحلال فسيفتنون بالدنيا و تسوء عاقبتهم بسوء الافتنان؛ خاصة في الحوزات العلمية و المجالات التي يشغلها المعمّمون و علماء الدين و طلبة العلوم الدينية(1).

الزهد من سيرة النبي و علي عليهما السّلام

روي أن فراش و وسادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان جلدا محشوّا بألياف النخيل. و كان أغلب طعامه خبز الشعير أو التمر. و لقد روي أنه صلّى اللّه عليه و آله لم يشبع بطنه أبدا من خبز القمح - الأطعمة المنوّعة على مختلف ألوانها - و تقول عائشة أم المؤمنين: «إن كان يمرّ على آل محمد الشهر و لم يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نار»(2).

و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يركب الدابة بلا سرج و لا ركاب، و في زمن كان القوم يتفاخرون

ص: 57


1- من كلمة ألقاها في: 9 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
2- سبل الهدى و الرشاد: 92/7.

بالخيل المطهمة ذات الأثمان الغالية كان يمتطي الفرس العادي، و كان متواضعا، حيث كان يصلح نعله بيده و يرقعه بنفسه. و هذا ما كان يفعله تلميذه البارز أمير المؤمنين عليه السّلام كما نقل عنه كثيرا في الروايات(1).

يجب علينا - اقتداء بالنبي و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السّلام - الترفع عن امور كثيرة لا عن المحرمات فحسب، بل عن المحللات أيضا. أنا لا أدعي أن نكون مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله أو أمير المؤمنين عليه السّلام الذي كان تلميذه، فإنّ الإنسان يرتعد فرقا حين يطالع سيرتهم، فهذا أمير المؤمنين عليه السّلام قد أصبح زهده مضربا للأمثال لدى المسلمين و غيرهم و عند ما يصف النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول: «قد حقر الدنيا و صغرها و أهونها و هوّن بها»(2).

و قد جاءوا الى النبي صلّى اللّه عليه و آله ذات مرة بطعامين أحدهما عسل و الآخر شيء خليط بماء (بلبن)، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إني لا أحرمهما لكني لا آكلهما جميعا إما العسل و إما الماء»(3)؟

لكنهم لم يريدوا منا هذا. و لو طلبوه منها لهلكنا فهل نطيق العيش هكذا؟ إذ من الواضح أنّ تلك النفس القدسية الملكوتية أمر آخر، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ما مضمونه:

إنّ اللّه سبحانه و تعالى أعلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أن سيأخذ منه الدنيا ليبدله بما هو أحلى.

فذلك الأحلى يراه الأولياء لا أنا و أنتم، لكن يجب علينا مواصلة السير في هذا الطريق و التقليل من نفقاتنا و تجنب التبذير و الترفع و عدم الاهتمام بكثير من امورنا الخاصة.

فأنا و أنتم لا زلنا أولئك الطلبة الذين كنا قبل الثورة فالبعض منكم كان معلما أو

ص: 58


1- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.
2- نهج البلاغة: 214/1 خ 107.
3- بتفاوت في كنز العمال: 416/12 ح 35454.

طالبا جامعيا أو من أهل المنبر أو من طلبة العلوم الدينية، هكذا كنا، فما بالنا تجري عندنا الحفلات و الأعراس كما تجري عند الأعيان؟ و ما بال بيوتنا قد صارت كبيوت المترفين و لماذا حين نمشي في الشارع نمشي كمشية المترفين؟ حسنا فمن هم المترفون؟

أو يكفي فارقا بيننا و بينهم أننا أطلقنا لحانا و هم حلقوها؟ لا يا سادة فنحن قد نكون مترفين، و عندئذ نخشى من الآية الكريمة القائلة: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً (1) فالمترف يأتي معه الموت بالفسق أيضا(2).

لا تتيسر معرفة أمير المؤمنين عليه السّلام بهذه الطريقة، لا يمكن ذلك. نعم للإنسان أن يستشعر شيئا عنه عليه السّلام عن طريق هذه المقارنات؛ فالإمام السجاد (عليه الصلاة و السّلام) أجاب أحد أصحابه حينما سأله، يا ابن رسول اللّه لماذا تحمل نفسك على هذه المشقّة و تكثر من الزهد و العبادة؟ فما الذي يجعلك تحرص على كل هذا الزهد و العبادة؟ فلو رحمت نفسك و جسدك! فبكى الإمام السجاد عليه السّلام و قال ما معناه: قارن بيني و بين أمير المؤمنين عليه السّلام، و انظر أين أنا و أين أمير المؤمنين. انظروا؛ فهذا كلام زين العابدين عليه السّلام.

شخصية الإمام السجاد عليه السّلام من الشخصيات النادرة، لا أنها نادرة في العمل فحسب، و إنما هي نادرة في الفكر أيضا؛ إنّه من الشموس المنيرة التي لا نستطيع أن ننظر شعاعها إلاّ عن بعد؛ و هو حينما ينظر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ينظر إليه بعين التعظيم و الإجلال التي ينظر بها طفل صغير إلى بطل عملاق. هكذا هو أمير المؤمنين عليه السّلام، و بهذه العظمة و هذا هو زهده.

ص: 59


1- سورة الإسراء: 16.
2- من كلمة ألقاها في 3 صفر 1412 ه

لا نقول نكون كأمير المؤمنين عليه السّلام؛ فالإمام السجاد عليه السّلام قد قال إنّه غير قادر على العمل كأمير المؤمنين عليه السّلام، و أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه قال: «ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك»(1).

و لمن قال أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الكلام؟ قاله لعثمان بن حنيف مع كل ما له من عظمة، إنّك لا تقدر على مثل ما أعمل. و هذا من الواضح. و لكن سيروا على الأقل في ذلك الإتجاه، و على ذلك الطريق، و في ذلك المسار. و هذا واجب.

فإذا ما أردتم أن تكونوا في خندق أمير المؤمنين عليه السّلام فإن أبرز ما تميّز به في عهد حكومته - و الذي يرتبط بحاضري و حاضركم - هو خصلتان: إحداهما العدل الإجتماعي، و الاخرى الزهد في الدنيا.

يا أعزائي: هذان الأمران يجب أن نرفعهما في مجتمعنا كالعلم. العدالة الإجتماعية هي أن تكون نظرة الحكومة إلى جميع أبناء الشعب متساوية، و أن يكونوا سواسية أمام القانون، و في الامتيازات، و في التعامل(2).

القضية الثانية هي زهد أمير المؤمنين عليه السّلام. فمن أبرز المعالم في نهج البلاغة هو الزهد. و الزهد الذي طرحه أمير المؤمنين آنذاك، إنما طرحه كعلاج لمرض أساسي في المجتمع الإسلامي.

و حينما كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «لا تغركم الدنيا كما غرت من كان قبلكم»(3).

كان الكثير من الناس لا يحصلون على تلك الملذات؛ بل لعل أكثر الناس كانوا على هذه الشاكلة، فخطاب أمير المؤمنين عليه السّلام مع اولئك الذين اغنتهم الفتوحات و أصبحوا خلال سنوات التوسع و تنامي قوة الإسلام الدولية، على درجة من الثراء و الامتيازات. و كلام حضرته تحذير لهؤلاء.

ص: 60


1- نهج البلاغة: 70/3 ح 45.
2- و قد فصّلناه في كتاب حاكمية الإسلام.
3- نهج البلاغة: 224/2 خ 230.

و نحن اليوم إن أشرنا إلى الزهد و ألفتنا النظر إليه، نرى البعض يقول: يا سيدي إنّ أكثر الناس لا يملكون هذه الأشياء التي تتحدثون عنها. و الجواب هو، إنّنا لا نقول هذا، لهم، بل خطابنا مع المقتدرين، مع من فتحت لهم ملذات الدنيا أحضانها، مع من يستطيع بلوغ الملذات الدنيوية بطرق الحرام. ثم بعد ذلك مع من يستطيع بلوغها عن طريق الحلال.

إنّ الورع و النقاء و اجتناب الحرام و التقوى، هي أرفع و أوجب أنواع الزهد البتة، إلاّ أنّ الزهد عن اللذات المحللّة له مرتبة رفيعة أيضا؛ نعم، مخاطبوه أقل أفرادا.

و اليوم هو ذلك اليوم - مع التفاوت في ظروف الزمان و الخصائص التاريخية لكل عصر -، و على من تصل أيديهم إلى الرغد و النعيم و الملذات و الرفاه المتزايد للحياة، أن يضعوا كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام في الزهد نصب أعينهم. و لا شكّ في أنّ هذا الخطاب أشد و أبلغ مع أصحاب المسؤوليات، و هو يعم من لا منصب و لا مسؤولية حكومية له - أيضا - و لكن بشكل أضعف؛ فاولئك أولى به.

و لو أنّ مجتمعنا الإسلامي الذي تحدق به كل هذه المخاطر، و كل هؤلاء الأعداء، وضع هذه التوصيات نصب عينيه و أولاها الاهتمام اللازم و اعطاها صيغة ثقافية، و أدرك كل هذا و تحدث فيه و طالب به، فلن يؤدي تطبيق مثل هذه العدالة و مثل هذا الزهد إلى إيجاد أية مخاطر على النظام الإسلامي أبدا، بل إنها تجعله أكثر قوّة، و صلابة.

الناس الذين لا تغريهم اللذات و المطامع و شهوات الحياة، يمكنهم الوقوف بوجه الأعداء و الخصومات، و إنقاذ مجتمعهم و نظامهم في الظروف العصيبة.

لقد أوقد أمير المؤمنين عليه السّلام هذين المشعلين ليضيء كل التاريخ. و الذين يتمردون سيلقون الضرر بأنفسهم، و يبقى اسم علي، و ذكر علي، و زهد علي على

ص: 61

مدى التاريخ لا يطاوله النسيان، و سيبقى على الدوام(1).

إذا فأمير المؤمنين عليه السّلام كان مثلا في زهده و اعراضه عن الدنيا، و لعل أبرز أو أحد أبرز مواضيع نهج البلاغة هو الزهد. و هو في نفس الحال كان طوال فترة الخمس و عشرين سنة - بين وفاة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و تسلّمه الخلافة - كان ينفق من ماله الخاص في أعمال العمران، فكان يزرع البساتين و المزارع، و يحفر الآبار، و يشق الأنهار، و المدهش أنه كان يتصدق بكل ذلك في سبيل اللّه(2).

الزهد أهم عامل للقدرة

إنّ شأن عباد اللّه الصالحين الذين يغيّرون الدنيا رغم زهدهم بزخارفها، إذ يمثل هذا الزهد أهمّ عامل في قوّتهم.

فهم ينظرون إلى كل شيء و كل شخص من خلال نظرهم إلى اللّه تعالى.

إن عباد اللّه الصالحين وهبوا التاريخ نفحات روحية، و إن التاريخ المعنوي الإنساني الحقيقي هو الذي خطّه عباد اللّه الصالحون.

و كما ترون فإنّ المفاهيم الّتي قدّمها أنبياء اللّه: إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام ( هدية للإنسانية، لا تزال رغم مضي آلاف السنين عليها تعتبر من أسمى المفاهيم الإنسانية السائدة(3).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الرغبة في الدنيا تكثر الهمّ و الحزن، و الزهد في الدنيا يريح القلب و البدن».(4)

ص: 62


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1417 ه.
2- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
4- الحضال/باب الإثنين/ح 114 /

الإنسان لديه حبّ الدنيا الخادع أي المال و المقام و المنصب، و يحرص أيضا للحصول على المظاهر الدنيوية، و لذلك يجد نفسه في حالة القلق و التشويش و اضطراب البال و الذهن خوفا من عدم الوصول إلى تلك الأمور. على أنّه إذا حصل عليها و وصل إلى متطلباته و رغباته الدنيوية كان محزونا و مهموما أيضا خوفا من ذهابها من يده.

إنّ طبيعة الإنسان تقتضي أنّه لن يحصل على كل مطامعه و أهدافه. و لذلك يقع في الهمّ و الحزن على ما حرم من الوصول إليه.

و في مقابل هذه الرغبة يقف الزهد و عدم الرغبة و الحب لهذه الدنيا و هو موجب للسكون و الهدوء و الطمأنينة و راحة البال و سلامة النفس، بل هو موجب لراحة البدن أيضا لأنّه لن يجدّ و يتعب و يسعى و يجهد نفسه من دون فائدة و لا ثمرة في سبيل الحصول و اكتساب الخيالات و الأوهام و السراب.(1)

ص: 63


1- كلمات مضيئة: 118.

أثر الزهد

من مواعظ الإمام محمّد الجواد عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى بعض الأنبياء، أمّا زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، و أما انقطاعك إليّ فيعززك بي، و لكن هل عاديت لي عدوّا و واليت لي وليّا»(1)

الأشخاص الذين لم تأسرهم الماديّات و لم يخضعوا لتجاذبات الكماليّات و الزوائد المعيشية، فهؤلاء يعيشون براحة و اطمئنان، و هذا هو الربح المعجّل للزاهد.

و أما الإنقطاع و التحرر عمّا سوى اللّه تعالى و الإرتباط باللّه سبحانه فهو وسيلة العزة في المجتمع، و هذا أيضا ربح معجّل.

إذن فهاتان الصفتان في الواقع من الأمور المريحة. و لكن هل قمت بعمل صعب و شاق في سبيل اللّه تعالى؟ فهل عاديت عدو اللّه و واليت وليّ اللّه؟

و في بيان آخر لهذا الحديث:

الزهد في الدنيا يوجب الراحة و الإنقطاع إلى اللّه تعالى يجعلك من عبادنا المطيعين العاملين بتكاليفهم فيوجب لك العزة الحقيقية.

(و هذا كناية عن كون هذه الأمور يعود نفعها إلى الإنسان)

و أما الأمر المهم فهو الموالاة في اللّه و المعاداة في اللّه فهل اتخذت عدو اللّه عدوّا لك و هل اتخذّت وليّ اللّه وليا لك؟ بمعنى أنك هل قمت بالعمل الذي فيه مشقّة و صعوبة و ابتلاء أم لا؟(2)

ص: 64


1- تحف العقول، صفحة: 456.
2- كلمات مضيئة: 116.

و قال رجل للنبي صلّى اللّه عليه و آله: «يا رسول اللّه علّمني شيئا إذا أنا فعلته أحبّني اللّه من السماء و أحبّني الناس من الأرض.

فقال له صلّى اللّه عليه و آله: إرغب فيما عند اللّه عزّ و جلّ يحبّك اللّه، و ازهد فيما عند الناس يحبّك الناس».(1)

سأل رجل النّبي صلّى اللّه عليه و آله أن يعلمه عملا أو شيئا ما يجعله محبوبا لدى اللّه تعالى و في نفس الوقت محبوبا و مرضيا عنه لدى الناس.

فأجابه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى ذلك و قال له:

لتكن راغبا فيما عند اللّه من الثّواب و الأجر، فعندئذ تكون محبوبا للّه تعالى، و معنى الرغبة بالثواب الالهي هو أن يقوم بالواجبات و التّكاليف، و يترك المحرّمات و المعاصي.

و لتكن زاهدا فيما عند النّاس من النّعم سواء كانت أموالا أم مقاما أم منصبا أم جاها و غير ذلك، بمعنى أنه لا تمدّ عينيك إلى ما في أيدي الناس و لا تطمع بها و لا تسعى نحوها، فعندئذ يحبّك النّاس(2)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(3).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ

ص: 65


1- الخصال/باب الاثنين/ح 84.
2- كلمات مضيئة: 117.
3- الخصال/باب الإثنين/ح 128.

آمَنَ بِاللّٰهِ... (1) .

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(2).

ص: 66


1- سورة البقرة: 285.
2- كلمات مضيئة: 118-119.

الزهد عند المسؤولين

اشارة

إن الحياة البسيطة جيدة جدا و نحن لا نرى ما يخالفها لدى الناس، و لكنني لا أصر على القول للذين يعملون معنا (الذين تعبرون عنهم بالمنصوبين من قبلنا) يجب أن يعيشوا حياة الزهد، كلا بل الحياة العادية. و لكن إذا عاشوا حياة مرفهة فإنني أنبههم.

الفرق بين الزهد و الحياة المرفهة:

إنّ بين حياة الزهد و الحياة المرفهة فارقا، و ثمة حدّ وسط بينهما هو أن يعيشوا حياة عادية لا هي حياة الأبهة و الرفاهية و لا حياة الزهد، فمن عاش هكذا فلا مؤاربة عليه من قبلنا، فكل من لا زال منصوبا من قبلنا فعليه أن يعيشوا حياة الزهد. و من كان على علم بأن الذين نصبتهم يعيشون حياة مرفهة فلا بأس بأن يخبرنا كي نطلع و نتخذ الإجراء اللازم إن كانت ضرورة(1).

أثر زهد المسؤولين

إن شعار البساطة و الزهد شعار مهم جدا، لا ينبغي التقليل من شأنه، فأحيانا فيما بيننا و بين ربنا تكون لنا حياتنا المترفة و المفعمة بالرخاء، فإن كانت حراما فهي حرام، و إن كانت مكروهة فهي مكروهة، و إن كانت مباحة فهي مباحة.

و لكن أحيانا نقوم بإظهار هذا الترف على مرأى من أعين الناس، و هذا لا يمكن

ص: 67


1- من كلمة ألقاها في: 10 /ربيع الأول/ 1424 - طهران.

تصنيفه ضمن المباح و المكروه، بل هو الحرام بعينه، لأن فيه تثقيفا و إشاعة للترف و البذخ بين من هم دوننا هذا أولا.

و ثانيا: فيه تشجيع لعامة الناس على الترف، و لا يصح لنا تشجيع الناس على الترف.

فقد يكون في المجتمع أثرياء يقومون على تبذير أموالهم - و هو عمل يخصهم و إن كان سيئا - إلاّ أن تبذيرنا كمسؤولين ليس تبذيرا لمالنا الخاص، و إنما هو تبذير لبيت مال المسلمين، و هذا أولا.

و ثانيا: إن تبذيرنا يعد عاملا مشجعا للآخرين على التبذير، فإن الناس على دين ملوكهم.

قرأت في أحد التواريخ أنه عند ما استخلف الوليد بن عبد الملك و كان مولعا بجمع المجوهرات و التحف، أخذ الناس يتحدثون فيما بينهم حول شراء و بيع الثياب و الأقمشة و الأحجار الكريمة و غير ذلك من الأشياء الثمينة، و حينما استخلف بعده سليمان بن عبد الملك كان اهتمامه منصبا على العمارة و بناء القصور، فذكر المؤرخ أن الناس أخذوا يتحدثون حول البناء و العمارة و اقتناء الأراضي و توسيع الدور حتى و هم في المساجد.

و بعدها جاء عمر بن عبد العزيز و كان عابدا، فأخذ الناس يتحدثون فيما بينهم عن فضيلة دعاء رجب أو صلاة ركعتين بخصوصهما، و عليه فإن سلوكياتنا تترك آثارا تلقائية على الناس.

إن الزهد شيء جميل للغاية و له أثر على المجتمع(1).

ص: 68


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.

العفة

العفة بمعناها الأوسع

يجب أن تتصف أيضا بيئتنا الرياضية بالعفة. و العفة كلمة ذات مفهوم واسع، و تعني عموما سلامة نفس الإنسان حيثما يكون، و هكذا يجب أن تسود العفّة في أجوائنا الرياضية بعيدا عن الاستهتار و التحلل و كل ما هو مناف للعفة، و يجب علينا خلق مثل هذا المناخ في بيئتنا الرياضية. و إذا تحقق ذلك ستتألق ألعابنا الرياضية في العالم كله.

تلاحظون أن أكثر ما ينال إعجاب هيئة التحكيم و المتفرجين، من أفلامنا التي تشارك في المهرجانات العالمية هو ما تتسم به من عفّة.

بعض المخرجين و المنتجين لديهم إتجاه تلقائي نحو هذا النمط من الأفلام، بينما يفرض على البعض الآخر منهم إنتهاج أسلوب عفيف و تصوير العلاقات بين الرجل و المرأة بالصيغة التي تحبّذها الأجواء السائدة في الجمهورية الإسلامية. و هذه الصفة هي التي تجعلها على هذه الدرجة من الإبداع و الروعة.

فالعالم، و خلافا لما يتصور البعض، سئم التحلل و الاستهتار و الخلاعة.

أما حالة العفة و الشرف و النجابة و الحياء فهي صفات محبّذة و يتصف بها المؤمنون بشكل طبيعي، و هي أيضا مما أوصى به الإسلام.

هذه هي القيم الواجب علينا نشرها في الأجواء الرياضية و غيرها و أن يسود الجو

ص: 69

المعنوي على الرياضية، فيتحقق حينئذ ما أشرنا إليه سابقا في مقابل الهجوم الثقافي(1)، التمسك بثقافتنا الأصيلة(2).

أهمية العفة

من مواعظ عليّ بن الحسين عليه السّلام: «ما من شيء أحبّ إلى اللّه بعد معرفته من عفّة بطن و فرج، و ما من شيء أحبّ إلى اللّه من أن يسأل»(3).

السبب الذي من أجله ذكر الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السّلام أنّ أحبّ الأمور عند اللّه عزّ و جلّ بعد معرفته هو عفّة البطن و الفرج، و لم يذكر شيئا آخر من سائر الواجبات و العبادات كالصلاة مثلا، هو أنّ العفّة مانعة من وجود السبب المزاحم، و السبب المزاحم أشدّ تأثيرا من السبب المعدّ دائما.

فمثلا الإنسان الذي يتناول الطعام المقوّي و المفيد و لكنه في نفس الوقت يدخل السمّ أو الميكروب إلى بدنه بنحو منتظم، فمن البديهي أن لا يكون للغذاء أي أثر.

و في الأمور المعنوية كذلك، فإنّ الإنسان الذي يأتي بالعبادات كثيرا و لكنّه في نفس الوقت يدخل على قلبه و روحه ميكروب الذنب و المعصية فهنا لن يكون لعباداته أي أثر، بخلاف ما إذا لم يكدّر مرآة القلب شيء من أقذار الذنوب فإنّ فطرته الإلهية سوف تهديه إلى الرشد و الكمال.

إذن فترك الذنب أهم من فعل العبادة، و لذلك فإنّ الشيطان أكثر عمله هو الوسوسة للإنسان بارتكاب الذنب لا ترك العبادة، لأن الذنب حينما يسيطر على الإنسان لا تكون عباداته حينئذ موجبة لتقرّبه للّه تعالى.

ص: 70


1- في كتاب «حاكمية الإسلام».
2- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 282.

و عليه فأحبّ الأعمال و الأمور و الأشياء للّه تعالى هي ترك هذين الذنبين:

أحدهما: عفة البطن و ما يرتبط من طلب الدنيا و جمع المال و الأطماع.

و الآخر الشهوات الجنسية(1).

ص: 71


1- كلمات مضيئة: 218.

أهمية عفّة المرأة

اشارة

الاهتمام بشأن العفاف عند المرأة. و كل حركة تنبري للدفاع عن المرأة يجب أن تجعل ركنها الأساسي التمسك بعفاف المرأة. و كما سبق لي القول بأنّ الغرب و بسبب إهماله لهذا الجانب، آلت الأمور فيه إلى ما آلت إليه من التفسخ و التحلل خاصة لدى النساء.

جانب العفاف عند المرأة - و هو أهم عنصر في شخصيتها - يجب أن لا يكون عرضة للإهمال، عفّة المرأة وسيلة لتكريمها و رفع منزلتها في نظر الآخرين، و حتى في نظر الرجال المتحلّلين و أتباع الشهوات، و هي في الحقيقة جوهر احترامها و تقديرها، و ليست مسائل الحجاب و الأجنبي و غير الأجنبي، و إباحة النظر أو تحريمه إلاّ لأجل صيانة العفاف.

الإسلام يعنى كثيرا بعفاف المرأة، كما أنّ عفاف الرجل - بطبيعة الحال - مهم أيضا.

لأن العفاف لا يختص بالمرأة، فالرجل أيضا يجب أن يكون عفيفا و لكن بما أنّ الرجل يتمتع بقوّة بدنية تفوقها، فهو قادر على الإساءة إليها و معاملتها بما لا ترضاه، و لهذا كان التأكيد على عفّة المرأة أكثر.

و لو أنكم نظرتم اليوم إلى العالم لوجدتم أنّ من جملة المشاكل التي تكابدها المرأة في العالم الغربي و خاصة في الولايات المتحدة هي ركون الرجل إلى قوّته في التجاوز على عفّة المرأة.

و قد اطلعت على الاحصائيات الصادرة من جهات رسمية في نفس أمريكا، كانت إحداها صادرة عن العدلية، و الثانية عن جهة اخرى، كانت الأرقام رهيبة حقّا، ففي كل ست ثوان تقع في أمريكا حادثة تجاوز قسري!

ص: 72

لاحظوا مدى أهمية العفّة، و ما تؤول إليه الأمور إذا قوبلت بالإهمال!

حادثة اعتداء بالعنف كل ستّ ثوان، رغم إرادة المرأة يقوم بها الرجل الظالم المتسلط المتهتك؛ فيعتدي على حريم عفّة المرأة.

الإسلام يلاحظ كل هذه الجوانب، و هذا هو سبب تأكيد الإسلام بشدة على مسألة الحجاب.

إذن الاهتمام بموضوع العفّة و التمسك بالحجاب من الأمور الاخرى التي يؤكد عليها الإسلام.

التصدي لمن يبيح عفة المرأة

الموضوع الآخر هو وجوب التصدي الشديد قانونيا و اخلاقيا لمن يبيح لنفسه التجاوز على المرأة.

و القانون أيضا يجب أن يتضمن عقوبات صارمة لمثل هذه المخالفات.

و أشير ثانية إلى أنّ الدول الغربية و رغم جميع الشعارات التي تنادي بها إلاّ أنّها لم تستطع حتى الآن ضمان عدم وقوع هذه التجاوزات. أي أنّ هناك نساء يتعرضن للضرب من أزواجهن، و فتيات يضربن و قد يصل حد الجرح على يد آبائهن. و هناك إحصايئات رهيبة و مثيرة في هذا الخصوص، ناهيك عن شيوع ظاهرة اخرى هناك و هي القتل؛ إذ أنّ الدماء هناك تراق بكل بساطة، و استقباح القتل في الأجواء الإسلامية، ليس موجودا - و للأسف - في تلك الأجواء التي لا تعرف شيئا عن المعارف الإلهية.

و ظاهرة قتل النساء التي هي من البلايا المستهجنة و القبيحة جدا، أمر شائع في البلدان الغربية - خاصة أمريكا - و من حسن الحظ أنها ليست كذلك في بلادنا و لا تقع إلاّ في حالات نادرة جدا.

و لكن على كل الأحوال لا بدّ من التصدي بشدّة لأي اعتداء بدني على المرأة لكي

ص: 73

يتسنى لمجتمعنا بلوغ المستوى الذي يصبو إليه الإسلام في هذا المجال.

يجب - على العوائل الإسلامية - السماح للفتيات بالتعلم و الدراسة و المطالعة لمعرفة أحكام الدين الأمر الذي يقوي فكر المرأة و ذهنها.

إذا استطاع مجتمعنا تعليم المرأة المعارف التي يريدها الإسلام، فلا شكّ في أنّ البلد سينال نصيبا مضاعفا من الرقيّ و التقدم. و كل ميدان تدخله المرأة و هي شاعرة بالمسؤولية تتصاعد و تيرة التقدّم فيه.

و تتميّز مشاركة النساء في أي ميدان من الميادين أنها إذا دخلته، يدخل معها زوجها و أولادها أيضا. بينما هذا لا يحصل في دخول الرجل إلى أي ميدان.

المرأة حينما تدخل أي ميدان - في حالة كونها متزوجة و لديها أسرة - كل تلك الأسرة تدخل ذلك الميدان، و هذا ما يعطي أهمية بالغة لمشاركة النساء في مختلف القطاعات(1).

ص: 74


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1418 ه ق/استاد الحرية الرياضي بطهران.

الورع

معنى الورع

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل العبادة الفقه، و أفضل الدين الورع»(1)

ليس المراد من الفقه خصوص العلم بالأحكام الفقهية الفرعية.

و إنّما المراد من الفقه علم الدين سواء كان علم المعارف الإلهية و الفضائل الحقّة أو العلم بالأخلاق و الفقه بالمعنى المصطلح، أي الأحكام الشرعية الفرعية.

و السبب في كون الفقه أفضل العبادة هو أن علم الدين إذا استقرّ في قلب و روح الإنسان فغالبا ما يوجب أن يتحرّك الإنسان و يسعى مصحوبا بهذه العقيدة و يأتي بأعماله في الطريق المستقيم الحقيقي و الواقعي على النحو الصحيح.

و أمّا إذا لم تكن هذه المعرفة موجودة في الإنسان فيحتمل أن يأتي بالأعمال الحميدة الصحيحة أيضا إلاّ أنه مثل هكذا عمل لا يثبت و لا يستقر و لا يمكن الإعتماد و الوثوق به، لأنه قد عمل و تحرّك و هو في معرض الضلال و الإنحراف.

و الورع هو أعلى رتبة و مرحلة في الدين، و الورع معناه الإجتناب عن الذنوب، فالإنسان إذا لم يجتنب الذنوب فعبادته إما أن لا يكون لها أثر أصلا، بمعنى أن روحه و قلبه ليسا نورانيّين، و إما أن يكون لها أثر قليل و ضعيف.

ص: 75


1- الخصال، باب الواحد، ح: 104.

و أما إذا اجتنب عن الذنوب و كان ورعا فسوف يكون لعبادته و أعماله الحميدة الحسنة تأثيرات أكبر في نفسه(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي.

و لا جهل أضرّ من العجب»(2).

الورع بمعنى الإجتناب ورد كثير في رواياتنا. و يحتمل فيه و جهان:

أحدهما: الإجتناب عن المحرمات الإلهية.

و الآخر: الورع عن الأمور المحلّلة (الزهد). و هذا النوع و إن كان مطلوبا إلاّ أن الورع الأهم هو الأوّل.

و الحياة و العيش في ظل الخلق الحسن ألذّ و أهنأ من كل شيء، و ذلك لأن الحسد و الضغينة و الكره و التشاؤم و البخل و الإمساك تجعل الحياة مريرة، حتى و إن كان الإنسان لديه من النعم و الهبات المادية الشيء الكثير(3).

أهمية الورع

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

ص: 76


1- كلمات مضيئة: 133.
2- تحف العقول، صفحة: 359.
3- كلمات مضيئة: 122.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(1)

ثلاثة أمور لا بدّ من تحققها في الإنسان حتى يقوم عمله.

و المراد من قوله «لم يقم له عمل» أنه لن يتمكّن من القيام بأي عمل من الأعمال على وجهه الصحيح سواء كانت من أعمال الدنيا أم الآخرة. و من هذه الأمور:

1 - ورع يحجزه عن معاصي اللّه: فإنه إذا لم يكن للإنسان حالة الورع التي تبعده و تجنّبه من ارتكاب الذنوب و المعاصي و كان الإنسان تجاهها لا يبالي ولايتهم بها، فحينئذ سوف توجد الذنوب و المعاصي في بناء شخصيّته المعنويّة خللا و تصدعات الضعف و الوهن. نظير بركة الماء التي يملؤها الإنسان بالماء بمشقّة و صعوبة و لكن بسبب وجود التصدّع و الثقوب فيها تفرغ من الماء.

فإذن إذا لم يكن للإنسان حالة الورع هذه فإن الدين و التقوى و بناء روحه معنويّا لن يوصله إلى شيء(2).

الورع عن المحارم

من فوائد الصوم الورع عن المحارم؛ أي أن يحفظ الإنسان اذنه و عينه و لسانه و قلبه و حتّى جلده و شعره - كما جاء في بعض الروايات - عن اقتراف المآثم.

فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام و الشراب»(3).

و هذه مرتبة أخرى من مراتب الصوم أكثر رفعة من الأولى. إذا، فرصة شهر رمضان ثمينة يجب اغتنامها للتمرين على ترك المآثم... كثيرا ما يطلب مني بعض الشباب

ص: 77


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 117.
3- مستدرك الوسائل: 367/7 ح 8433.

أثناء مراجعتهم لي أن أدعو لهم لكي يستطيعوا جبّ أنفسهم عن المعاصي، و لا شك في أن الدعاء أمر جيّد و لازم، بيد أن التورّع عن اقتراف الذنوب يستلزم وجود إرادة لدى الإنسان، حيث يجب عليه أن يعزم على ترك الذنب، و حينما يعزم المرء يصبح هذا العمل سهلا جدا؛ فاجتناب المعاصي يبدو أمام نظر الإنسان و كأنّه جبل، و لكنه يبدو بعد العزم و كأنه أرض منبسطة، و شهر رمضان أفضل فرصة للتمرّن على هذا العمل.

و قد وردت في هذا المجال رواية أخرى منقولة عن فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها)، و هي أنها قالت عليها السّلام: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه و سمعه و بصره و جوارحه؟!».(1)

و يروى أن امرأة أهانت خادمتها؛ و يبدو أنهما كانتا تجاوران الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أو كانتا معه في سفر، و كان بيد الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) طعام، فقدّمه لها و قال لها: كلي. قالت: أنا صائمة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله لها: كيف تكونين صائمة و قد سببت جاريتك؟!(2)

إن الصوم ليس من الطعام و الشراب، و إنّما جعل اللّه ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش من الفعل و القول، أي أن اللّه تعالى أراد من الإنسان اجتناب الذنوب و المعاصي و الآثام..

و من جملة الآثام هي التي يقترفها اللسان و إهانة الآخرين و الإساءة إليهم.

و منها أيضا الآثام القلبية، أي شحن القلب بالحقد و الكراهية للآخرين؛ فبعض الآثام يصدق عليها معنى الإصطلاح الشرعي، و البعض الآخر منها أخلاقي، و لها مراتب شتّى.

ص: 78


1- مستدرك الوسائل: 366/7 ح 8431.
2- ميزان الحكمة: 1688/2-2359 باب أدب الصوم.

الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام

الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام و المعاصي من الأمور التي تقرب الإنسان من اللّه تعالى، و إني أوصي الشباب خاصة باغتنام فرصة الشباب و الحيوية، فالشاب لديه القدرة من جهة، و يتصف بصفاء القلب و نورانيّته من جهة أخرى. اغتنموا هذه الفرصة طوال مدّة شبابكم، و مرّنوا أنفسكم على اجتناب الذنوب.

ينبغي اجتناب كل ما يجعل فكر و وجدان الإنسان غافلا عن ذكر اللّه. و هذه هي تلك المرتبة السامية التي وردت في حديث المعراج عن الصوم؛ حيث يروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لربّه جلّت عظمته: «يا رب، و ما ميراث الصوم؟

قال: «الصوم يورث الحكمة، و الحكمة تورث المعرفة، و المعرفة تورث اليقين؛ فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر»(1).

و اليقين هو ما طلبه النبي إبراهيم عليه السّلام من ربّه، و ورد ذكره في مواضع متكررة و عديدة من أدعية هذا الشهر.

و عند ما يكون للإنسان يقين، تهون عليه كل مصاعب الحياة، و يكون في وضع لا تغلبه فيه حوادث الدهر.

لاحظوا مدى أهمية هذا الأمر؛ فالإنسان الذي يروم طيّ سبيل التعالي و التكامل في سنوات حياته، و ليصبح على درجة من الصلابة بحيث لا تقهره عوادي الزمن، يمكنه اكتساب هذا كله من اليقين، و هذا كله ناجم عن الصوم كعبادة تقرب من اللّه تعالى.

فإذا أحيا الصوم ذكر اللّه في قلب المرء و أضاء فيه نور معرفة اللّه، تأتي هذه الأمور كلّها تبعا له؛ و كل ما يؤدي به إلى الغفلة عن ذكر اللّه يضمحل على أثر الصوم. فهنيئا لمن يستطيعون بلوغ هذه المرتبة. و ما علينا إلاّ أن ندعو اللّه و نسأله، و نصمم على

ص: 79


1- مستدرك الوسائل: 500/7 ح 8743.

إيصال أنفسنا إلى هذه المرتبة(1).

الورع و الحكومة

الورع يعني اجتناب كل ما يحتمل فيه الكراهية. و لكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنى للإنسان أن يكون ورعا إلى هذا الحد و هو في الحكم. فنحن الآن في الحكم نشعر بأهمية وجود مثل هذه الخصلة - لأنّ الإنسان و هو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة و ينفّذ قوانين، و لكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما. و الشخص المكلف بتنفيذ القانون بشر أيضا و قد يسيئ تطبيق القانون.

فكيف يتأتى للمرء إلتزام الورع في كل هذه التفاصيل الجزئية التي تستعصي على الاحاطة بها؟

لهذا يبدو في الظاهر أنّ الحكومة و الورع لا يجتمعان. إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السّلام جمع غاية الورع مع أقوى حكومة. و هذا مما يثير العجب(2).

ص: 80


1- من كلمة ألقاها في: 8 رمضان 1420 ه - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

الإخلاص

معنى الإخلاص

ما معنى الإخلاص؟ إنّ السلاح الذي يعجز عن مواجهته أي عدو مادي، هو سلاح الإيمان الخالص و العمل المخلص.

الإخلاص معناه - باختصار - أن يؤدي المرء العمل للّه و حبّا بأداء الواجب، و أن لا يعمل من أجل أهوائه النفسية و لكسب المال و المنال و الثروة و الجاه و حكم التاريخ، و ما شابه ذلك من الحوافز النفسية المنبعثة من الرغبة في إشباع صفات ذميمة كالحسد و الحرص و الطمع، بل أن يكون دافع العمل للّه تعالى و لأداء الواجب، هذا هو معنى الإخلاص(1).

قال علي بن الحسين عليه السّلام و قد قال له رجل: إني لأحبك في اللّه حبا شديدا، فنكس عليه السّلام ثمّ قال: اللّهم إنّي أعوذ بك أن أحبّ فيك و أنت لي مبغض. ثمّ قال له:

أحبك للذي تحبّني فيه»(2).

توجد في هذا الحديث مسألة مهمّة جدا و تعتبر درسا كبيرا لنا و تتطلّب تنبّها فوريّا لهذا للخطر الذي يهدد الإنسان في مقابل هذه الظاهرة، أي كونه محبوبا للناس لأجل

ص: 81


1- من كلمة ألقاها في: 25 رجب 1418 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 282.

اللّه تعالى.

و لذلك عند ما قال ذاك الرجل للإمام عليه السّلام بأني أحبك للّه تعالى لم يجبه الإمام عليه السّلام بقوله: أشكرك أو أشكر اللّه تعالى على هذه المحبوبيّة، بل أجابه بقوله: أعوذ باللّه تعالى من حبّ الناس لنا فيك و لأجلك إذا كنت لي مبغضا.

و هذا خطر كبير لنا، فلا نجعل الناس تعتقد أننا نعمل مخلصين للّه تعالى و نمشي في طريق الحق تعالى بينما حقيقتنا خلاف ذلك و ظاهرنا على عكس باطننا، أو تكون أعمالنا موجبة للغضب الإلهي علينا.

و لذلك نستعيذ باللّه تعالى من أن يحبّنا الناس لأجل اللّه بينما نكون نحن أعداء و مبغوضين للّه عزّ و جلّ (1).

السعي نحو الإخلاص

يجب البحث عن الإخلاص، و نؤدي أعمالنا للّه و لأجل الواجب و لأجل التكليف، لا لأجل الأهواء و النزوات، أو لنيل الثناء من هذا و ذاك. و إذا تحقق هذا الطموح لن تخلو الساحات الإسلامية حينذاك من الرجال العظام و الأعمدة المتينة القادرة على حفظ هذه الخيمة. فكما كانت القضية في ساحة الحرب - و الحق يقال - هي قضية الإخلاص بالنسبة لأبطالنا المتفانين الحاملين أرواحهم على الأكف، و هكذا كان الحال في أول الثورة، و قبل الحرب و بعدها، علينا أن نتمرّس و نروّض أنفسنا على الإخلاص(2).

ص: 82


1- كلمات مضيئة: 128.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1417 ه

الاخلاص و أثره في بناء الشخصية

إنّ الإخلاص يا أعزائي على درجة من الأهمية، لا تغفلوا عن عنصر الإخلاص، و ليكن كل عمل تؤدونه مقرونا بالإخلاص.

الإخلاص يعني أن لا يكون في القلب دافع سوى اللّه و مرضاته و أداء التكليف و المسؤولية الإلهية، هذا يسمى بالإخلاص. و الإخلاص له بركة عجيبة و له آثاره الطبيعية، و من جملة آثاره أنه يجعل الأرواح النقية قادرة فجأة على طي الأرض و السماء، و يؤهل الشاب الذي يبلغ من العمر ثماني عشرة أو عشرين سنة للسير و التحدث بكلام عند ما يتأمله المرء يدرك أنه ليس كلام إنسان عادي؛ فلا يمكن لمن لا يرى الشيء أن يتحدث عنه بهذا الوضوح.

طوال هذه السنوات الثمانية أو أكثر تدفقت ينابيع المعرفة و البصيرة و النورانية في قلوب هؤلاء الشبان، فأبصروا، و أدركوا، و طووا المراتب و حلّقوا في الآفاق، و بلغوا منزلة لو قيل لأي سالك من أهل العلم و المعرفة إنك إذا عبدت ربّك مخلصا و جاهدت نفسك و بذلت ما بذلت من الجهد و المشقّة عشرين سنة، ستبلغ تلك المنزلة، لخفّ إليها بكل شوق و حماس. و هذا كله يعود فضله إلى إخلاص البذل في أيام الشباب. اعرفوا قدر أيام الشباب بما تحمله من أمثال هذه الجواهر الثمينة.

إعلموا أنّ النقاء و النورانية و المعرفة و السلوك و العروج و الذوبان في اللّه أسهل في مرحلة الشباب من أية مرحلة أخرى، شأنه في ذلك شأن الأعمال الدنيوية التي يمكن إنجازها في مرحلة الشباب أيسر منه في فترة الكهولة، و هكذا الحال أيضا بالنسبة للمقامات المعنوية، فاعرفوا قدر مرحلة الشباب و وظفوه بصدق و إخلاص في هذا

ص: 83

الطريق السليم الذي أنتم عليه(1).

إخلاص الحسين عليه السّلام و أثره

و هناك خطّ و نهج آخر و مثاله ثورة الإمام الحسين عليه السّلام، و التي لا وجود لل «أنا» و لل «ذات» و المصالح الشخصية و القومية و الحزبية فيها أبدا، إذا هذه أول خصّيصة من خصائص ثورة الحسين بن علي عليه السّلام.

فكلّما ازداد الإخلاص في أعمالنا كلّما ازدادت قيمتها، و كلّما ابتعدنا عن الإخلاص كلّما اقتربنا من الغرور و الرياء و العمل للمصالح الشخصية و القومية، و كلّما ازدادت الشوائب في الشيء كلّما أسرع في الفساد، فلو كان نقيّا و خالصا لما فسد أبدا.

و إن أردنا إعطاء مثال بالامور المحسوسة، نقول: إذا كان الذهب خالصا و نقيا فلا يقبل الفساد و الصدأ أبدا، و إن كان مخلوطا بالنحاس و الحديد و بقية المواد الرخيصة الثمن، احتمل الفساد أكثر، فهذا في المادّيات.

أمّا في المعنويات فإن هذه المعادلة أكثر دقّة، انّما نحن لا نفهمها بسبب نظرتنا المادية، لكن يدركها أهل الفن و البصيرة، و إنّ اللّه تعالى هو الناقد في هذه الواقعة، «فإنّ الناقد بصير»(2) فوجود شائبة بمقدار رأس إبرة في العمل يقلّل من قيمة العمل بالمقدار نفسه، و حركة الإمام الحسين عليه السّلام من الأعمال التي ليست فيها شائبة و لو بمقدار رأس إبرة، لذا هو باق إلى الآن و سيبقى خالدا الى الأبد. فمن توقّع خلود إسم و ذكر أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و أنصاره في التاريخ؟ أولئك الذين قتلوا غرباء في تلك الصحراء و حيث دفنوا فيها رغم كلّ الإعلام المعادي في ذلك الوقت، و كيف أنّهم أحرقوا المدينة بعد استشهاد هذا العظيم بسنة في واقعة الحرّة، أي أنّهم نتفوا

ص: 84


1- من كلمة ألقاها في: 14 جمادى الأولى 1418 ه
2- أنظر بحار الأنوار: 432/13 ح 23.

الورود بعد أن خرّبوا الروضة، فمن توقّع أن يفوح عطرها؟ و بأيّة قاعدة مادّية يتصور بقاء وردة في هذه الروضة؟ لكن تلاحظون أنّه كلما مرّ الزمان عليها كلّما أصبحت تلك الروضة أكثر عطرا و سبب ذلك هو الإخلاص.

فهناك اناس لا يعتقدون بالنبي صلّى اللّه عليه و آله الذي هو جدّ الحسين عليه السّلام و الحسين سائر على نهجه، و لا يعتقدون بأبيه علي عليه السّلام و لا يؤمنون بحرب الحسين عليه السّلام، لكنهم يقبلون الحسين عليه السّلام و يعظّمونه، فهذا هو الخلوص.

نموذج آخر لأثر الإخلاص

و في ثورتنا العظيمة كان الإخلاص سببا لبقائها، ذلك الجوهر الخالص الذي كان الإمام الخميني مظهره. ارجعوا الى تلك الذكريات و تلك التضحيات في سوح الحرب، ذلك الحر المهلك في الصحاري و البراري، ذلك الشتاء القارس في الجبال، ذلك الرعب و الخوف و الخطر المستمر في سوح القتال، تلك المحاصرة، قلة القوات التي كنّا نتحمّس كثيرا لإعداد عدد قليل منها، عدم امتلاك الأسلحة حيث كنا نركض وراء مسدس أو قذيفة.

تذكّروا كلّ هذا و استشعروا تلك الأيام، لتدركوا لماذا كانت كلّ هذه المؤامرات ضدّ الثورة؟ و لماذا تستمر إلى الآن؟ لكن بقيت هذه الشجرة راسخة.

إنّ هذا الجوهر (الإخلاص) هو الذي حفظها، إنّ إخلاص الإمام (ره) و الشعب خاصة إخلاص اولئك المقاتلين في سوح القتال، هو الذي حفظ الثورة و دعم استمرارها، إذا هذه نكتة يجب الاهتمام بها دائما، و أنا أحوج من غيري الى هذا الاهتمام(1).

ص: 85


1- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1414 ه

الإخلاص في العمل

اشارة

أوصيكم بتحسين كيفية العمل. أصبحت مقولة (الإخلاص في العمل) متداولة على الألسن، تعتبر أمرا مهما. و لا أدري إلى أي حد يعي الأشخاص الذين يرددون هذه الكلمة أهمية هذا المضمون و ما ينطوي عليه من تأثير. هذا التعبير يماثل في مضمونه الإخلاص السياسي و الإخلاص العلمي.

و معناه أنّ من يمارس عملا ما يجب أن يستشعر نوعا من الإخلاص تجاه عمله و يعتبر ذاته مسؤولا أزاءه. و هذه المسؤولية تختلف عن المسؤولية أمام رب العمل؛ لأن هذه بالإضافة إلى ما تحمله من صفة شرعية و إنسانية تجعل الإنسان يشعر ذاتيا بوجوب إتقان العمل و أدائه على أتم و أقوى و أفضل ما يمكن في حال وجود الرقابة أو إنعدامها على حد سواء. هذا هو معنى الإخلاص في العمل.

الشرع الإسلامي الذي يعتبر العمل عبادة و فضيلة، يلزم من يتعهد بإنجاز عمل ما أن يؤديه على خير وجه. و هذا الكلام ينطبق على قاعة الدرس، و على الحقل و على المصنع، و على ماكنة الخياطة و العمل المنزلي.

أثر الإخلاص في العمل
اشارة

و إذا كان العامل - بأية صورة من صور العمل الذي يعد التعليم و التربية من أنواعه القيّمة أيضا - مخلصا في عمله فمن الطبيعي أن ينجز ذلك العمل على أفضل وجه.

و هذا بمثابة مفتاح المشاكل التي يعانيها أي بلد.

فلو أن أحدكم ابتاع جهازا و أخذه إلى داره و بعد فترة وجيزة عطب الجهاز و كان

ص: 86

السبب يعزى إلى عدم إتقان صنعه، فسيؤدي هذا إلى فقدان الثقة بالعمل، و لكن لو كان هناك إخلاص في العمل لانقشع مثل هذا الشعور، و من يرسل ولده إلى المدرسة و هو يخشى عليه من نمط التربية التي يتلقاها و ما سيؤول إليه أمره، لن يتولد لديه مثل هذا الشعور فيما لو كان هناك إخلاص في العمل.

حينما يؤدي جميع العاملين أعمالهم بإخلاص، و يشعرون و هم يؤدون مهامّهم - حتى و إن لم يكن رب العمل موجودا - أنّ اللّه ناظر إليهم، و الكرام الكاتبين - الموكلين بتسجيل أعمال الإنسان - و الملائكة المقربين شاهدون على أعمالهم، و أنّ أي جهد يبذل في سبيل إتقان العمل موضع ثناء الكرام الكاتبين، و تدوّن لكم في سجل عملكم. إلاّ أن أمثال هذه القيم لا تدخل في حساباتنا البشرية، و كثيرا ما نغفل عنها و لا نلتفت إليها، أمّا في المعايير الإلهية فالأمر يختلف عن ذلك.

فلو أنكم استثمرتم حتى آخر دقيقة من الدرس و لم تدعوها تذهب هدرا، و أنفقتم وقتكم و جهدكم حقّا في تعليم الأطفال، أو في المصنع، أو في المزرعة أو في العمل الذي تزاولونه في الدار، أو في أي موضع آخر، و الدقّة التي تمارسونها حتى أثناء غرس الإبرة في القماش تدوّن كلها في سجل أعمالكم، و هذا السجل لا تنحصر فائدته في يوم القيامة فقط بل إنّ له أثره حتى في دار الدنيا. أي أنّ الدقّة و إتقان العمل تبني مجتمعا عزيزا شامخا، و متطورا لا يعرف الخنوع أمام العدو و لا يحتاج إلى لئام خلق اللّه و أعداء الإنسانية، و يجلب لبلده و لمجتمعه الفخر و حسن الصيت على الصعيد العالمي.

و هذا كله يتعلق بالحياة الدنيا، أما في الآخرة فهناك البرزخ و القيامة و ثواب اللّه الذي يؤتيه جزاء لهذه الأعمال.(1)

ص: 87


1- . من كلمة ألقاها في: 22 ذي الحجة 1417 ه
ثواب الإرهاق في التكليف/الأجر على قدر المشقة

يجب أن يعرف المسلم قيمة عمل العامل، و عليكم أن تعلموا طبعا أن اللّه و رسوله و الكرام الكاتبين يعرفون قيمة العمل فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ (1)؛ اعلموا أنه أمام اللّه و في السجل الإلهي، و اعلموا يا أعزائي أن كل لحظة من لحظات كدكم و عنائكم لا تضيع عند اللّه، و الدقائق الأخيرة التي تواصلون فيها العمل بدافع التكليف القانوني و الديني و أنتم مرهقون، هذه الدقائق لا يعلمها ربّ العمل، و لا المدير؛ لا صاحب المعمل و لا إدارة المدرسة، إلاّ أنّ اللّه تعالى يعلمها و يحفظها لكم.

و هذه في الحقيقة قيم فاضلة، و لا تظنوا أن هذا إرجاء على المستقبل، و لكنها في الحقيقة حتى و إن كانت إرجاء على المستقبل فإن لها يوم القيامة أهمية كبرى، و لها بأول ليلة في القبر أهمية بالغة، بيد أن دورها لا ينحصر في هذا الإطار فحسب، و إنما بها يتم إعمار البلد و انتظام الحكم و بناء الأجيال الشابة(2).

ص: 88


1- سورة التوبة: 105.
2- من كلمة ألقاها في: 18 محرم 1420 ه - طهران.

الإيثار يوصل الى الإخلاص

الإخلاص يعد نوعا من الإيثار، و كلّما استطاع الإنسان تجاوز أغراضه الذاتية و بلوغ درجات سامية و رفيعة يكون أقرب للإخلاص. الإخلاص، معناه الصفاء و النقاء، و الإخلاص في العمل يأتي في أعقاب صفاء النوايا.

أما الصفة المضادة للإخلاص، فهي أن يكون المرء ذا نزعة مادية، و يعمل لأغراض و دوافع ذاتية و مادية، أو يعمل لأغراض معنوية تافهة.

فبعض الدوافع ليست مادية - بالمعنى المصطلح للمادة - صرفة و لا ملموسة، إلاّ أنها تافهة، من قبيل حب الجاه بين الناس، فمثل هذا الدافع ليس دافعا ماديا بالمعنى المعروف للمادة، لكن قيمته تافهة، حيث يقوم البعض و إنطلاقا من هذا الدافع بعمل لا يتطابق مع الدوافع الإلهية، و لا مع الصراط القويم.

و على هذا الأساس، كلّما نأى الإنسان بذاته عن نوازع الأنانية و حب الذات، أصبح مظهرا للإخلاص.

و لكن كيف يمكن الوصول إلى هذه الحالة؟ و الجواب هو أنّ هذه الحالة يمكن بلوغها بشيء من التضحية، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأعمال الاخرى التي تشترط فيها المجاهدة.

و معنى هذا أنّ الإنسان يجب أن يبذل شيئا من التضحية، فهو يرى في بعض المواقف أنه إذا طرح رأيا معينا، يجلب له الوجاهة أمام الناس و لكنه في سريرته لا يعتقد بذلك الرأي.

فإذا لم يكن الإنسان مخلصا لا يتورع عن طرح ذلك الرأي، أما إذا كان مخلصا؛ أي أنه يرغب في أن تكون أعماله خالصة للقيم السامية التي يؤمن بها - و تكون في ختام

ص: 89

المطاف لوجه اللّه تعالى - فإنه يحجم عن طرح ذلك الرأي، و هذا يعد في واقع الحال نوعا من الإيثار(1).

ص: 90


1- من كلمة ألقاها في: 19 جمادى الثانية 1419 ه - طهران.

ذكر اللّه تعالى

أهمية ذكر اللّه تعالى

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا على: سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك.

و مواساة الأخ في اللّه عز و جل.

و ذكر اللّه تعالى على كل حال»(1).

علينا ذكر اللّه تعالى في كل الأحوال. لأنّ روح كل أعمال الإنسان هي أن يكون الإنسان في كل أحواله ذاكرا لله تعالى، و يستمد من اللّه تعالى الألطاف و النّعم و الرحمة، و يضع نصب عينيه القوّة و العظمة الإلهيّة اللامتناهية(2).

ذكر اللّه علاج للآفات

ما هو علاج الآفات؟ لقد قدم علماء الأخلاق دروسا نافعة في هذا المجال، و حقيق بالإنسان السالك العناية بالأمر، فوضعنا أنا و أنتم في غاية الأهمية، و نحن هنا لسنا بصدد إلقاء درس في الأخلاق، فأنا كواحد منكم و مسؤول مثلكم أشعر

ص: 91


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 17.

بمسؤوليتي، و أنا بالذات المخاطب الأول بهذه الكلمات، و لعل هذا القول يترك بصماته في قلبي المظلم، و أنتم أيها الإخوة و الأخوات مخاطبون أيضا بها في المرتبة اللاحقة، فمسؤوليتنا في الوقت الحاضر جسيمة للغاية، و علينا التصدي لكل ما من شأنه الحيلولة دون بلوغنا هذه المسؤولية الكبرى، و في المقدمة ما تنطوي عليه سرائرنا من الآفات التي مضت الإشارة إلى جانب منها.

ما الذي علينا فعله؟ ما نشاهده في القرآن الكريم هو ما يعاكس تلك الآفات بالضبط، إنه "الذكر"، و هو لا ينحصر في الأوراد و ما شابهها، فهي إحدى وسائل الذكر الذي يعني ذكر اللّه و ذكر التكليف و النعمة الإلهية وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً (1).

و لو أنكم تمعنتم جيدا في القرآن الكريم(2) لوجدتم أن الإشارة وردت في مواطن

ص: 92


1- سورة آل عمران: 103.
2- قال تعالى في محكم كتابه العزيز: بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مٰا كٰانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ سورة الزمر: 8. يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ سورة فاطر: 3. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنٰا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبٰاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّٰهِ يَكْفُرُونَ سورة العنكبوت: 67. فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَ لاٰ تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ لاٰ يُفْلِحُونَ * سورة النحل: 116. وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ * ثُمَّ إِذٰا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * سورة النحل: 54. -

متعددة إلى "ذكر نعمة اللّه"، و نعمة اللّه ليست بأجمعها تعني المأكل و المشرب و ما إلى ذلك - و إن بدت في أعيننا صغيرة، و هي ليست كذلك بل هي عظيمة للغاية - بل لله نعم عظمى على بني الإنسان و منهم نحن، علينا تذكرها؛ و منها ذكر التكليف، ذكر النعمة، ذكر العهد و الميثاق، فكلنا ملزم بعهد و ميثاق مع اللّه و مع النفس و مع من يعيش.

فلنتذكر عهدنا و ميثاقنا، و إيانا و نكث العهد؛ و لنتذكر يوم الحساب و القيام إلى اللّه، فالحياة عابرة و مسؤوليتها أقصر منها، و سنقف جميعا بين يدي رب العالمين، و حينها يتعين علينا تقديم ما بجعبتنا من جواب! فلنتذكر ذلك أيضا(1).

ص: 93


1- من كلمة ألقاها في: 26 رمضان 1422 ه - طهران.

أثر ذكر اللّه

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاث خصال من أشدّ ما عمل به العبد: إنصاف المؤمن من نفسه، و مواساة المرء لأخيه، و ذكر اللّه على كلّ حال.

قيل له: فما معنى ذكر اللّه على كلّ حال؟

قال عليه السّلام: يذكر اللّه عند كل معصية يهمّ بها فيحول بينه و بين المعصية»(1).

ثلاث خصال و صفات هي من أشدّ الأعمال، و المراد من أشدّ الأعمال إمّا كونها أشقّ و أصعب الأعمال أو كونها أوثق و أمتن و أحكم الأعمال. و هي:

1 - أن يكون الإنسان منصفا دائما و يقف إلى جانب الحقّ في كل القضايا التي تعرض له سواء في المنازعات أو المباحثات العلمية أو المسائل السياسية التي تدور بينه و بين الآخرين.

2 - أن يواسي و يشارك إخوانه في الدين في أحزانهم و همومهم.

3 - أن يكون ذاكرا للّه تعالى في كلّ الأحوال و الحالات بمعنى أنه إذا همّ و أقدم على ارتكاب المعصية تذكرّ و توجّه إلى اللّه تعالى و عظمته و جلالة الذات الإلهية المقدّسة لأن هذا الأمر سوف يحول بينه و بين المعصية قال تعالى: اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (2).(3).

ص: 94


1- تحف العقول، صفحة: 379.
2- سورة الأنفال: 2.
3- كلمات مضيئة: 12.

خشية اللّه و الخشوع

معنى الخشوع

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

يا عبيد السؤ، اتخذوا مساجد ربّكم سجونا لأجسادكم و جباهكم، و اجعلوا قلوبكم بيوتا للتقوى و لا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات»(1).

إنّ الأسباب و العلل و المحرّكات النفسانيّة تجعل الإنسان دائما يتهرّب من القيام بواجباته العبادية و المستحبّات، لذلك فالإنسان يريد أن ينهي صلاته بسرعة فيسجد سجدة قصيرة و هكذا، و تجعله أيضا متعلّقا بالأمور الدنيوية.

و من هنا يوصي النبي عيسى عليه السّلام أصحابه الخواص المعروفين بالحواريّين هذه التوصية:

لتكن صلواتكم و سجودكم طويلة نظير الشخص الأسير في السجن فاجعلوا أبدانكم و جباهكم أسرى مسجونين في سجن الصلاة و السجود.

و ذلك لأنّ أقرب حالة للإنسان من ربّه هي حالة القرب الروحي و المعنوي للسجود.

ثمّ إنّ القلوب يجب أن تكون وعاء و محلاّ للتقوى و ليست مأوى للشهوات. فإنّ

ص: 95


1- تحف العقول، صفحة: 393.

كل أفعال و أقوال الإنسان بعينيه أو لسانه أو يديه و سائر أعضاء بدنه كلها مظاهر لما هو موجود في قلب الإنسان(1).

فإذا كان الحديث عن الحرية و الكرامة الإنسانية، و إذا كانت حقوق الإنسان في المجتمعات مطروحة، و إذا كان العدل و رفع الحيف لا يزال شعارا خلاّبا في الدنيا، و إذا كانت مكافحة الفساد و المفسدين و الظلم و الظالمين، و إذا كان الإيثار و التضحية في سبيل الحق موضع اهتمام الإنسان، فإنّما يعود الفضل في ذلك إلى الأنبياء عليهم السّلام و عباد اللّه الصالحين الذين قدّموا هذه المفاهيم للتاريخ و وضعوها في متناول البشرية.

و عليه فإنّ عباد اللّه الصالحين يغيّرون وجه التاريخ، و يحوّلون المستحيل إلى ممكن، من خلال توكّلهم على اللّه و خشيته.

إذ لا يمكن تغيير الإنسان و الإنسانية عن طريق الرجاء المادّي و الخوف البهيمي.

إنّ خشية عباد اللّه و رجاءهم ليست كخشية عبيد الدنيا و رجائهم، إذ أنّهم يتمسكون بالله و يتوكّلون عليه، و تتلخص خشيتهم من معصيته، و يرون جميع القوانين الطبيعية - الّتي تمسك يد القدرة الإلهية بأطرافها - في خدمة أهدافهم، و يتحرّكون بالتوكّل على اللّه، و لذلك يستطيعون تغيير العالم.

و قد كان إمامنا العظيم في زمرة هؤلاء العظام.

إنّ عباد اللّه الصالحين يهيمنون على القلوب و ذلك عن طريق اتصالهم بالله تعالى.

إنّ ولاية عباد اللّه الصالحين ولاية معنوية و باطنية، و إنّ ولايتهم الظاهرية إذا تحقّقت فهي استمرار طبيعي لولايتهم المعنوية و الباطنية(2).

ص: 96


1- كلمات مضيئة: 41.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.

خشية اللّه تعالى

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه»(1).

الإنسان الذي ليس عنده أية معرفة و علم باللّه تعالى لا يخاف اللّه.

و كلما كانت معرفة الإنسان بربّه أكثر كانت خشية اللّه و الخوف منه في نفسه و قلبه أكثر.

إنّ الهيبة و العظمة تدفعان بشكل طبيعي نحو الخضوع و الخشوع لمن كان مطّلعا و عارفا بتلك العظمة و الهيبة.

و إنّ عدم التعقل في الأمور الإلهية يسلب عن القلب الشعور و الإحساس بنور البصيرة و نور المعرفة، لأن بصيرة القلب و نورانيّته لا تحصل بالقراءة و الإستماع للعلوم بل تأتي من خلال الجد و الإجتهاد في العبادة و مجاهدة النّفس و تزكيتها.

و هذه البصيرة إذا كانت ثابتة و أحسّ الإنسان بحضورها في قلبه فسوف تنحل و تعالج كل أنواع الجهل و الضلال و الإنحراف(2).

و روى أبو عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: بكى أبو ذر رحمه اللّه من خشية اللّه عزّ و جلّ حتى اشتكى بصره، فقيل له: يا أبا ذر لو دعوت اللّه أن يشفي بصرك.

فقال: إنّي عنه لمشغول، و ما هو من أكبر همّي.

ص: 97


1- تحف العقول، صفحة: 388.
2- كلمات مضيئة: 195.

قالوا: و ما يشغلك عنه؟

فقال: العظيمتان، الجنّة و النّار»(1).

لقد بكى أبو ذر عليه الرّحمة، بكاء طويلا من خشية اللّه تعالى حتّى تضرّرت عيناه من ذلك.

فقيل له في ذلك: أنّه لماذا لا تدعو اللّه تعالى ليشفي لك عينيك؟.

فأجابهم بأن هذه المسألة ليست من المسائل المهمّة في حياتي، و أنا مشغول عنها بما هو أكبر منها، و همّي في شيء غيرها، و لذلك فليس لديّ الوقت الكافي لهذه المسألة.

فسألوه عن تلك المسائل الأهمّ عنده ما هي؟.

فأجابهم بأنّ شغله عن الدّعاء لنفسه شيئان كبيران عظيمان، هما الجنّة و النّار.

و من هذا يعلم أنّ أبا ذر عليه الرّحمة يعتبر أنّ مسألة كمسألة البصر من مسائل الدّرجة الثّانية بالأهميّة، و أنّ المسألة الأساسيّة عنده و الأهم فهي مصيره و النهاية الّتي ينتهي إليها الإنسان و يختم بها حياته.

و نحن و إن كنّا لا نقدر أن نكون مثله بحيث نغض النّظر عن المسائل الشّخصيّة إلاّ أنّ هذا الأمر منه رحمه اللّه تعالى، يعتبر درسا كبيرا يرسم لنا الطّريق و الأسلوب الصحيحين في حياتنا هذه(2).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاث:

عين بكت من خشية اللّه.

و عين غضّت عن محارم اللّه.

ص: 98


1- الخصال/باب الاثنين/ح 25.
2- كلمات مضيئة: 195.

و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه».(1)

كلّ العيون تبكي يوم القيامة بسبب الخوف و الفزع الموجود على أرض المحشر يوم القيامة أو بسبب الحسرة و الندامة على ما فرّطت و قصّرت في جنب اللّه تعالى، إلاّ ثلاثة عيون فإنها لا تبكي، و عدم بكائها هذا يكشف عن الإطمئنان و السكون القلبي و النفسي لأصحابها و هم:

1 - العين التي بكت في الدنيا من خشية اللّه.

2 - العين التي غضّت بصرها عن النظر الى المحارم الإلهيّة.

3 - العين التي سهرت في سبيل اللّه، كالذين يرابطون في جبهات القتال.

إنّ الدنيا و الآخرة ككفتي الميزان إذا ثقلت إحداهما خفّت الأخرى، و عليه فكلّ ألم و حزن و هم و تعب يتحمّله الإنسان في الدنيا سوف يجد مقابله من الراحة و الهدوء و السكون في الآخرة.

فنسأل اللّه تعالى أن لا تكون أعيننا من الأعين الباكية يوم القيامة(2).

ص: 99


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 46.
2- كلمات مضيئة: 196.

الخشوع في الصلاة

ينبغي على الإنسان أثناء الصلاة الإلتفات الى معاني و مفاهيم كلماتها و جملها مع الخشوع و حضور القلب، و هذه هي روح الصلاة التي تصبح بدونها جسدا بلا روح و التي و إن كانت مجزية في أداء أقل الواجب إلاّ أنّها لا تحقق أهداف و غايات التشريع.

و بالطبع فإن هذه الحالة بحاجة الى التعليم و كذا التمرين اللذين لو تحققا - بعون اللّه - فسوف يحقّقان معهما عمق الروح الدينية و البركات الكثيرة للإيمان و العمل.

و من الأمور التي تعتبر من معالم أداء حق الصلاة هو إعمار المساجد و ازدياد صلوات الجماعة، الأمر الذي يعني بروز بركات الصلاة و معطياتها على مستوى التعاون و التكاتف الإجتماعي.

و لا شك أن هذه الفريضة بالرغم من اعتمادها الكامل على العمل الباطني أي التوجه و الذكر و الحضور القلبي، إلاّ أنها كباقي الواجبات الدينية الاخرى لها إشراف كامل على جميع نواحي حياة الإنسان و ليس جانبا منها، أي أنها لا تختص بالجانب الفردي و الشخصي من حياة الإنسان.

فحينما تطرح مسألة النشاط الجماعي فإن الصلاة باعتبارها أكثر العبادات الجماعية حرارة و هيجانا ستأخذ على عاتقها دورا كبيرا في تلك المسألة، و مظهر هذه الخصوصية هي صلوات الجماعة الخمسة و صلاة الجمعة و صلوات العيد(1).

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إيّاكم و تخشّع النفاق، و هو أن يرى الجسد خاشعا و القلب

ص: 100


1- من كلمة ألقاها في 25 ربيع الأول 1415 ه

ليس بخاشع»(1).

المقصود من الخشوع في هذا الحديث هو الخشوع للّه تعالى.

فالإنسان في حال الصلاة أو الدعاء أو الذكر إذا كان يحسّ و يشعر بالخشوع عند ما ينظر إليه و يتوهّم ذلك أنّ قلبه خاشع و خاضع أيضا و لكنه في الباطن لا أثر لذلك الشيء أبدا، فهذا الخشوع هو خشوع النفاق.

و قد نقل في بعض أدعية الصحيفة السجّادية هذا المضمون بقوله عليه السّلام: «اللّهم ارزقني عقلا كاملا، و عزما ثاقبا، و لبّا راجحا، و قلبا زكيّا، و علما كثيرا، و أدبا بارعا و اجعل ذلك كله لي، و لا تجعله عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين»(2).

فإنّ اللبّ الراجح يستفاد منه أن الإنسان لديه قشر أيضا، و القشر هو الظاهر و اللبّ هو الباطن، فإذا كان القشر راجحا و خاشعا و ذاكرا بينما اللّب غافلا و غارقا في المادّيات فهذا الأمر مذموم جدا.

نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من ذوي اللبّ الراجح(3).

ص: 101


1- تحف العقول، صفحة: 60.
2- الصحيفة السجادية: 177.
3- كلمات مضيئة: 197.

ص: 102

الصبر

ما هو الصبر؟

الصبر قد يتخذ تارة طابعا ذاتيا محضا؛ و يشار إليه بصفته خلقا إسلاميا و حكما أخلاقيا و روحيا فرديا صرفا؛ أي أنّ الصبر عند المصائب فضيلة.

و قد يدور الحديث تارة اخرى عن الصبر على مستوى مجتمع يواجه مختلف الضغوط و المصاعب و العراقيل، و حينها ينبغي على الأفراد التمسك بالصبر عند هذه الموانع و الشدائد، و هنا يتخذ الحديث عن الصبر طابعا آخر، إنّ حقيقة الصبر هي واحدة، إلاّ أنّ كيفية طرح الموضوع هي المهمة.

و أساس الفارق هو أنّه في عهد حاكمية الإسلام يمثل الدين مجموعة نظم الحياة، و من بينها السياسة و إدارة الحكومة و العلاقات الخارجية و مواقف المسلمين أزاء التيارات السائدة في العالم، و القضايا الإقتصادية، و علاقات الأفراد في ما بينهم، و التمسك بالأخلاق في مختلف جوانب الحياة(1).

تعريف الصبر

يعرف الصبر عادة أنه تحمل الآلام و المرارات و هذا التعريف و الفهم يمتزج

ص: 103


1- من كلمة ألقاها في: 25 ذي الحجة 1417 ه.

بالإبهام و الغموض الى حدّ كبير بحيث يسمح لكل من يريد أن يوجهه الى معان مختلفة، بل متضادة فإذا طرح الصبر في مفهوم الظلم و القهر و الفساد و الإنحلال يتحول الى عامل يستخدمه الظالمون و المفسدون للاستمرار في السيطرة و القمع، و يصبح عاملا مساعدا للركون و التخلف و بقاء الفساد.

و عند ما يطلب من شعب يعاني الفقر و الحرمان أن عليك الصبر و هو غائض في مستنقع الضياع أو غارق في المظالم التي تسبب بها زمرة الظالمين فإنّ أول ما يفهم من هذه الموعظة تحمل المرارات و الآلام و الظروف القاسية المهلكة التي تمارس و تفرض عليهم. و النتيجة الركون و عدم التحرك نحو الثورة ضد الأوضاع السيئة بل سيتوهم بأنه مأجور و مثاب عند اللّه تعالى على هذا الصبر.

لكن المدقق في الروايات و الآيات و المعارف و التعاليم الإسلامية يدرك أن للصبر معنى آخر:

الصبر هو مقاومة الإنسان المتكامل (السالك طريق الكمال) للدوافع الشريرة المفسدة و المنحطة.

و يشبّه لذلك بشخص يريد تسلق جبل فأثناء تسلقه للوصول الى القمم العالية تعترضه موانع و صعاب تحدّ من حركته.

و هذه الصعاب منها ما يرجع لنفسه كطلب الراحة و الخوف أو اليأس من الوصول الى الهدف، و منها ما يرجع الى عوامل خارجية كالصخور الضخمة و الذئاب و الأشواك و أمثالها.

فهل يتراجع لهذه العوامل أم يقاوم للوصول الى القمم بالاعتماد على عوامل المثابرة و التحمل؟.

فالإنسان في حقيقة حياته في هذا العالم جعل في طريق ليسلكه نحو الوصول الى أعلى منزلة من المنازل الإنسانية، و لأجل تحقق هذا الهدف خلق لأجله كل ما يعينه عليه، و كل هذه الوظائف الملقاة على عاتقه و التكاليف التي كلف بها تعد وسائل

ص: 104

القرب و مراحل السير نحو الهدف المنشود. و لم يكن المجتمع الإسلامي الذي هو أول هدف للدين الإلهي و الأنبياء العظام عليهم السّلام إلاّ لأجل بناء ذلك الإنسان الواصل و صناعته فهم صلوات اللّه عليهم كانوا يريدون إيجاد المناخ المناسب لتمكين الإنسان من سلوك هذا الطريق بيسر للوصول الى تلك الغاية.

و بالطبع يوجد في هذا الطريق الذي هو صعب مليء بالمتاعب موانع و حواجز كثيرة، على الإنسان أن يقطعها و يجتازها، و إن كل مانع منها يكفي لوحده لإيقاف هذا المتسلق نحو قمة الكمال و الرقي و منعه من متابعة سيره.

فمن جانب باطن الإنسان يوجد كل تلك الصفات و الخصال السيئة و الرذيلة، و يوجد الكسل و روحية القيام بما هو سهل فقط و حب النفس و الغرور و الحرص و غير ذلك من الموانع.

فالصبر هنا يعني مواجهة و مقاومة كل هذه الموانع بإرادة صلبة و عزم راسخ يضع كل هذه العقبات جانبا.

بالإضافة للعوامل الخارجية التي تجلب المتاعب و الآلام و تعتبر مجموعة من الاشواك و العقبات في هذا الطريق، كأجواء البيئة و الأنظمة الاجتماعية الحاكمة المانعة من أداء الإنسان للتكاليف الإلهية البناءة الفردية منها كالعبادة أم الإجتماعية كالسعي لإعلاء كلمة الحق تعالى.

و إن ما يبطل تأثير العوامل السلبية و يضمن القيام بكل التكاليف الإلهية و استمرار السير على الطريق الصحيح هو المقاومة الإنسانية أو مواجهة الإنسان للموانع المذكورة هذه المقاومة أو المواجهة هي التي تعني الصبر.

و لك أن تقول: الصبر هو المقاومة و الثبات في مواجهة العوامل الصعبة و الشاقة التي تعترض المجاهد في ساحة الحرب أو القتال لتثنيه عن الاستمرار، قال تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 105

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ (1) .

و قال رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ اُنْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ (2).(3).

الصبر على الحرام

من وصيّة الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره»(4).

الإنسان العاقل هو الذي إذا اكتسب نعمة من طريق حلال لا تشغله هذه النعمة عن شكر اللّه تعالى، و لا الأمر الحرام يغلب صبره و تحمّله.

و من أقسام الصبر و فروعه الصبر على المعصية، بمعنى أنّ الإنسان العاقل عند ما يواجه و يقف أمام المال الحرام لا يغلبه هوى نفسه الأمّارة فلا يمدّ يده إلى هذا المال(5).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إصبر على أعداء النعم، فإنّك لم تكافىء من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه فيه»(6)

بعض الناس ليس لديهم المقدرة على تحمّل رؤية النعم الإلهية عند الآخرين بل يحسدونهم عليها، و بتعبير الرواية يكونون أعداء النعم التي يهبها اللّه للآخرين.

و هذا النوع من الناس غالبا ما يقومون بتحطيم و إتهام و غيبة و إهانة أصحاب النعم.

و الرواية هنا مفادها الأمر بالصبر في مقابل أذى و إضرار هؤلاء الناس (أعداء النعم)

ص: 106


1- سورة الأنفال: 65.
2- سورة البقرة: 250.
3- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
4- تحف العقول، صفحة: 386.
5- كلمات مضيئة: 89.
6- الخصال، باب الواحد، ح: 71.

و الأمر بإطاعة اللّه عزّ و جلّ فيما يرتبط بهم.

أي أنه يجب على الأنسان أن لا يتعامل معهم بالمثل فلا يهينهم و لا يعاديهم و لا يقول فيهم سوءا، فإنّ هذا الشيء أفضل عقوبة و مجازاة لهم على صنيعهم.

و السرّ في كون ذلك أفضل العقوبة و المجازاة لهم هو أنّ كلا هذين الصنفين من الناس سوف يقفون في محضر اللّه تعالى يوم القيامة، فإذا لم تكن قد أسأت إليهم فأنت لك حق عليهم و اللّه سبحانه و تعالى سوف يأخذ لك حقّك منهم.

و هناك وجه آخر لهذه المسألة و هو أنّ - و طبقا لما يستفاد من التجارب في هذا المضمار مضافا إلى كلمات الأعاظم أيضا - اللّه سبحانه و تعالى سوف يجازي أهل الحسد في هذه الدنيا بينما المحسودون الذين صبروا و تحمّلوا سوف يثيبهم و يعطيهم الأجر و الثواب اللائق بهم(1).

صبر الإمام الحسين قلّ نظيره

إنّ الحياة الكريمة لا بدّ و أن يكتنفها الكثير من المصائب. و ساحة الطف الحسيني بذاتها كانت مسرحا لمصائب شتى. و إنه لمن العجيب حقا كيف أنّ اللّه عزّ و جلّ جعل أرض عاشوراء الحسين مسرحا لمجموعة من المصائب الكبرى و منح اناسا عظاما و في مقدمتهم أبو عبد اللّه الحسين عليه الصلاة و السّلام القدرة على تحمل هذه المصائب الكبرى بإباء و شموخ و صبر و شكر.

و إن ما جرى يوم عاشوراء فريد في تأريخ الإنسانية في كلا بعديه؛ فلم تشهد الإنسانية على مدى حياتها واقعة تجسدت فيها كل هذه المصائب مجتمعة و بهذا القدر من الشدّة و التنوع خلال برهة زمنية امتدت من الصباح حتى العصر، و كذا في البعد الثاني، فالصبر الذي جوبهت به تلك المصائب كان فريدا من نوعه أيضا.

ص: 107


1- كلمات مضيئة: 90.

لقد تجلّت في تلك الواقعة ألوان من الظلم و التقتيل و مشاعر الغربة و العطش، و كذا الآلام التي يكابدها الإنسان في سبيل عائلته، و القلق الذي يتنابه خوفا من المجهول، و ما تلاه من فقدان أعز الأنفس في عالم الوجود - أي الحسين بن علي و أهل بيته و أبنائه و أصحابه عليهم السّلام - و ما جرى عليهم من السبي على يد اناس أراذل بعيدين عن قيم الشرف؛ و يا ليت سبيهم كان على يد اناس أشراف؛ فالسبي على يد اناس أشراف يهوّن من وقع المصيبة، و لكنهم سبوا على يد اناس عديمي الشرف و هم أقرب إلى صفة الوحوش الكاسرة منهم إلى صفة الإنسانية.

و بعد ذلك العذاب المتواصل من الصباح حتى المساء، ناء أهل بيت الإمام الحسين عليه السّلام بمصيبة السبي التي وقعت أعباؤها على عاتق الإمام السجاد عليه السّلام - إمام زمانه - و على العقيلة زينب عليها السّلام - التي تأتي مكانتها بعد مقام الإمامة - ثم على النساء و الأطفال الذين لا يتصفون على الظاهر بمقامات معنوية عالية من قبيل الولاية و الإمامة، إلاّ أنهم تحملوا مرارته. و هذه هي العظمة التي خلّدت واقعة عاشوراء.

لا ريب أن أية فئة تقاسي المصائب في سبيل أهداف و غايات نبيلة و سامية و مقدسة - لا أن تكون مجرد غايات تافهة و عقيمة - و تتحملها بصبر و صلابة، يكون لها نصيب من تلك الفضائل.

و هذا هو السبب الذي يجعلنا ننظر بإجلال و إكبار لعوائل الشهداء و الأسرى و المفقودين و المعوّقين و لذات المعوقين و الأسرى، فالشعب و التاريخ لا يسجل منقبة لفئة من الناس دونما سبب، فلو لا الصبر لما تحققت هذه الفضائل(1).

ص: 108


1- من كلمة ألقاها في: 14 محرم 1418 ه

الصبر عند أمير المؤمنين عليه السّلام و أثره

غالبا ما تحمل الشخصيات التاريخية العظمى بعض الخصائص منذ شبابها، بل منذ صباها أو أنها تخلق تلك الخصائص في ذاتها. إنّ بروز الناس الكبار و المرموقين تقوم عادة على جهود طويلة المدى، و هذا ما نراه في حياة أمير المؤمنين عليه السّلام. فأنا ألاحظ من خلال استشراف المسار العام لحياته المليئة بالمنعطفات أنه كان يتحلى منذ مطلع شبابه و حتى شهادته بصفتين هما البصيرة و الصبر، فهو لم يقع و لا حتى لحظة واحدة فريسة للغفلة و سوء الفهم و الإنحراف الفكري أو الخطأ في فهم الحقائق. فمنذ أن خفقت راية الإسلام بيد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إنطلاقا من غار حراء في جبل النور و جرت على لسانه كلمة «لا إله إلاّ اللّه»، و صدح مبشرا بالنبوّة و الرسالة، استطاع علي بن أبي طالب عليه السّلام تشخيص هذه الحقيقة الوضّاءة و ثبت على موقفه ذاك و ألف كل ما نجم عن ذلك الموقف من مشاكل و صعوبات. فإن تطلّب جهدا، بذل له جهده، و أن تطلّب حربا حارب من أجله، و إن استلزم تضحية، وضع روحه على طبق الإخلاص و نزل إلى الميدان، و إذا استدعى عملا سياسيا و نشاطا إداريا و حكوميا، أدّاه خير أداء. و لم يكن في معزل عن الوحي و البصيرة حتى لحظة واحدة.

لقد تمسك و ثبت على هذا الصراط المستقيم. و لا شك في أن الصبر و الثبات و الجهد الذي لا يعرف الكلل و عدم مطاوعة الأهواء النفسية التي تميل بالمرء إلى التكاسل و ترك العمل، تعد صفات بالغة الأهمية.

ص: 109

إستلهام الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام

أجل، إن عصمة أمير المؤمنين عليه السّلام غير قابلة للتقليد، و شخصيته لا يمكن أن تقارن بها شخصية أخرى. و كل شخصية عرفناها في بيئتنا أو في تاريخنا إذا أريد مقارنتها بشخصية أمير المؤمنين عليه السّلام تكون كمقارنة ذرّة بالشمس - إذ لا وجه للمقارنة بينهما - بيد أنّ هاتين الصفتين - الصبر و البصيرة - اللتين كانتا في أمير المؤمنين عليه السّلام يمكن تقليدهما و الاحتذاء بهما، فلا يمكن لقائل أن يقول إن أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحمل صفتي الصبر و البصيرة إنطلاقا من كونه أمير المؤمنين. فعلى الجميع السعي لاكتساب هاتين الصفتين و التقرب بهما - كل حسب همّته و كفاءته - من أمير المؤمنين عليه السّلام.

اعلموا يا أعزائي أن كل مشكلة يقع فيها الأفراد أو الجماعات ناجمة عن واحدة من هاتين الصفتين؛ إما إنعدام البصيرة و إمّا إنعدام الصبر. فإمّا أنهم يغفلون و يعجزون عن تشخيص الحقائق و فهمها، و إما أنهم مع فهمهم لها يعجزون عن الصمود بوجهها.

و لهذا السبب نجد تاريخ البشرية حافلا بالمحن الكبرى للشعوب، و طافحا بغلبة الأقوياء على الشعوب الغافلة و العاجزة عن الصمود و ذلك نتيجة لوجود واحدة من هاتين الصفتين أو كليهما معا.

فقد تمر على بعض الشعوب عشرات أو حتى مئات السنين تبقى خلالها رازحة تحت سيطرة قوّة كبرى، و لكن لماذا توجد هذه الحالة؟ ألم يكن لشعوبها شعور إنساني؟ بلى، كان لهم و لكنهم إما كانوا يفتقدون البصيرة، أو أنهم إذا كانت لهم بصيرة، لم تكن لهم قدرة على الصبر. أي أنهم كانوا يفتقدون إما للوعي أو للقدرة على الثبات و الصمود.

ص: 110

إستفادة إيران من صبر أمير المؤمنين عليه السّلام

و كلما أوغلنا في العهود التي سبقت الثورة ندرك مدى فداحة المحنة و الذل و التعاسة و شتى ألوان الضغوط التي كانت تمارسها الطبقات الحاكمة و السلطات المستبدة، و مدى الغطرسة و الاستخفاف الذي كانت تمارسه القوى الأجنبية في بلدنا.

لقد مرّت على هذا البلد عهود من السيطرة البريطانية تارة، و الروسية تارة أخرى، ثم كلاهما معا تارة ثالثة، ثم أخيرا السيطرة الأمريكية و كان كل ما تقرره تلك القوى يجري على هذا الشعب.

في وقت كان شعبنا هو هذا الشعب نفسه و يتصف بنفس هذه الطاقات و الكفاءات التي ازدهرت اليوم و أشرقت لدى شبابنا كاشراقة الشمس و الكواكب. إلاّ أنّه كان حينذاك على قدر ضئيل من البصيرة و الصبر بسبب وجود الحكومات غير الكفوءة و ما كانت تشيعه من تربية مغلوطة. و حينما ظهرت بين أبنائه شخصيات واعية فاهمة حكيمة، و ظهر شخص كالإمام الخميني نفخوا في هذا الشعب روح البصيرة و حفّزوه على الصبر و أشاعوا بينه مفاهيم ثُمَّ كٰانَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (1).

فنجم عن ذلك انبثاق هذا البحر الهادر و وضعت نهاية لحقبة تاريخية مليئة بالذلة و المحن، و قطع دابر التسلط الأجنبي على هذا البلد.

و يعود سبب ذلك إلى أن أبناء هذا الشعب و شبابه و مسؤوليه و قادته استلهموا درس البصيرة و الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام.

ص: 111


1- سورة البلد: 15.

أهمية الصبر في المجتمع

إذن فهاتان الخاصيّتان على هذا القدر من الأهمية. كما أنّ الذين يمسكون بزمام القوى السياسية السلطوية و يترأسون الشركات الإقتصادية و يديرون الأجهزة الدعائية السرطانية و الشبكات الإعلامية النفعية الهائلة، إنما يسيطرون على الشعوب الاخرى بواسطة واحدة من هاتين الخاصيّتين، أو يحاولون سلبها بصيرتها و إبقائها في حالة سبات و غفلة. و إذا لم يتأت لهم سلبها بصيرتها كليا، يحاولون على الأقل سلبها تلك البصيرة في مورد معيّن و في قضية خاصة تحظى لديهم بالأهمية، أو يحاولون أن يجعلوها عاجزة عن الصبر و التحمّل.

و قد تصاب الشعوب و الجماعات أحيانا بفقدان الصبر أثناء سيرها على النهج الصائب، و هي حالة مبعثها التلقين؛ أي أنّ هذه من الأشياء التي يمكن تلقينها للشعوب. و يجب أن تعلموا أن الشبكات الدعائية تنفق اليوم المليارات من أجل تلقين الشعوب هذه المفاهيم و جعلها إما عاجزة عن التشخيص السليم أو مسلوبة القدرة على الصبر و الصمود. و السبب الكامن وراء عداء الإستكبار العالمي و على رأسه أمريكا، للإسلام و حاكميته هو أنها طرحت و مهدت الأجواء لوعي عالمي شامل(1).

ص: 112


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1419 ه - طهران.

نماذج من صبر الأولياء و أثره

إن صبر الإمام الخميني "رضوان اللّه عليه" شبيه بصبر الإمام الحسين "عليه الصلاة و السّلام" في الاستقامة و الثبات على مواصلة الدرب و ديمومة المهمة و عدم التراجع.

إن صبر الإمام الحسين عليه السّلام هو الذي صان الإسلام على مر التاريخ حتى يومنا هذا؛ و في الحقيقة لو أن الإمام الحسين عليه السّلام لم يصبر ذلك الصبر التاريخي في كربلاء و قبيلها و أثناء ما سبق واقعة عاشوراء فلا شك في عدم بقاء اسم للإسلام بمرور قرن واحد من الزمان، بيد أن الإمام الحسين عليه السّلام أحيا الدين ببركة صبره الذي لم يكن صبرا هينا.

فالصبر ليس أن يتعرض الإنسان للتعذيب أو يعذبوا أبناءه أو يقتلوهم أمام عينيه و يصمد الإنسان - و هذه بالطبع مرحلة مهمة من الصبر - غير أن الأهم من ذلك الوساوس و التصريحات التي تبدو بظاهرها في نظر البعض منطقية فتصد المرء عن مواصلة الطريق، و ذاك ما فعلوه مع الإمام الحسين عليه السّلام، فقالوا له: إلى أين أنت ذاهب؟ إنك تعرّض نفسك للخطر؛ و تعرض أهلك للخطر، و تدفع العدو لأن يتجرأ و تتطاول أيديهم على دمائك.

و كل من يأتي عند الإمام الحسين عليه السّلام يضع إرادة الإمام في مواجهة هذا المحظور الأخلاقي و هو أنك بخطوتك هذه إنما تخاطر بأرواح فئة من الناس و تجعل العدو أكثر تسلطا و تدفعهم لأن يلطخوا أيديهم بدمائك. و هذه قضية على قدر كبير من الأهمية و يثير التردد.

إنها حرب غير واضحة المعالم أن يقول المرء إنني ذاهب كي أقتل، فثمة محاذير من ورائها، و ربما كانت معلومة بالنسبة للإمام الحسين عليه السّلام أو أثير عنده أن إذا قتلت سيبادرون لإبادة شيعتكم في الكوفة، فيجب أن تبقى حيا لتكون ملاذا لهم، فأنت

ص: 113

سبط النبي صلّى اللّه عليه و آله، و بالمحافظة على حياتك تحافظ على حياة مجموعة من الناس، و قد تكرر هذا بعينه مع الإمام الخميني رضوان اللّه عليه.

لست أنسى اعتقال الإمام بعد واقعة الخامس عشر من خرداد و وقوع ذلك الحدث الدامي، فقال لي أحد مشاهير الأعلام و من الشخصيات البارزة: هل إن هذا عمل صحيح، إذ أن كل هؤلاء الشباب الذين تعج بهم البلاد و هم في غالبيتهم فاسدون و الأفضل بينهم هم المتدينون، و خيرة المتدينين هم الذين نزلوا إلى الشوارع، و إن فلانا بحركته هذه قد وضع الخيرة أمام حراب العدو فأريقت دماؤهم! أ منطق هذا؟

من يتغلب على هذا المنطق و يلتزم الصبر أزاء هذا المنطق الرهيب يكون قد صبر صبرا عظيما، و إنه لصبر الإمام الحسين عليه السّلام الذي تحلّى به الإمام الخميني (ر ض).

و تكرر هذا الصبر و صمد الإمام أثناء الحرب و مختلف الأحداث التي مرّت بها البلاد، و الصبر هو الذي خلق هذه العظمة و أقام هذه الخيمة، إن صبر الإمام "رضوان اللّه عليه" و صبر الشعب و طليعته الذين و اكبوا الإمام هو الذي حقق لنا الظفر.

العدو يحاول تحطيم هذا الصبر، و يطرح القيم أو المصالح الخيالية الموهومة التي عاقبتها التقاعس أمام أمريكا، أي أن نستسلم لأمريكا، و هذا خطر كبير، و لا بد من توخي الحذر لئلا يتسلل الشك إلى إرادة المسؤولين و صفوة البلاد و طليعتها طمعا في المصالح الموهومة. و يقال إن العدو عنجهي و قوي و لديه الأموال و الصواريخ و الذرة و الإعلام، فما الضير في أن نتراجع خطوة واحدة إلى الوراء لعله يسكت عنا؟!

إنه لن يترككم و شأنكم أبدا بتراجعكم خطوة إلى خلف، فهو يعارض أصل وجودكم «وجودك ذنب لا يقاس به ذنب»(1). فأصل الإسلام و حاكميته مما يرفضه العدو، فكيف تتصالحون مع مثل هذا العدو الذي يرفض أصل وجودكم؟!(2)

ص: 114


1- أنظر تفسير الألوسي: 213/17.
2- من كلمة ألقاها في: 29 ذي الحجة 1422 ه/طهران.

آثار الصبر

اشارة

للصبر عدة آثار و نتائج نذكر منها:

1 - الثبات و النصر

يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى كلماته الملهمة للحكمة: «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمن»(1).

و في حديث آخر يبيّن لنا عليه السّلام هذا المعنى بعبارة أخرى قائلا: «من ركب مركب الصبر اهتدى الى ميدان النصر»(2).

و في حرب صفين قال عليه السّلام في خطبة يحث و يعبىء الجند: «و استعينوا بالصدق و الصبر فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر»(3).

فهل حقا أن النصر و الثبات موجب للوصول الى الهدف؟ و إذا كانت هذه قاعدة عامة و قانونا ثابتا لا يقبل التخلف لماذا نشاهد طوال التاريخ أفرادا أو جماعات لم يصلوا الى أهدافهم مع أنهم كانوا في ميادين العزة يبذلون ما ينفع الثبات و المقاومة، و لم يحققوا النصر أو يذوقوا حلاوته؟.

ص: 115


1- نهج البلاغة: 40/4 ح 153.
2- بحار الأنوار: 96/68 ح 61.
3- الكامل في التاريخ: 297/3.

في صدر الإسلام يوجد حوادث ليست بالقليلة شاهد على هذا الأمر مثل ثورة الإمام الحسين عليه السّلام في عاشوراء، و مثل شهادة زيد بن علي عليه السّلام، و ثورة التوابين و غيرهم...

و لكي يتضح الجواب عن هذا السؤال الذي يطرحه بعض الناس نحتاج الى شيء من الدقة، فلعل هؤلاء الناس الذين يطرحون مثل هذا التساؤل و يعتبرون هذه الأحداث التاريخية التي لم تثمر أو تصل الى غايتها بحسب الظاهر هي أمور تنقض هذا القانون العام (قانون الصبر و الظفر).

إنّ هؤلاء لم يدركوا بشكل صحيح هدف و غاية كل واحد من هذه الحوادث و الوقائع، و التي يكون تحقيقها لهذا الهدف أو تلك الغاية هو الإنتصار و الفوز.

لهذا لا بدّ من الإجابة - بإختصار - أولا عن هدف هذه الحوادث التاريخية ليتضح أن أصحابها لم يهزموا أصلا.

و كمقدمة ينبغي أن نلتفت الى أن الأهداف تختلف من حيث قربها و بعدها عن التحقق، فبعضها تكون نتيجتها سريعة و قريبة، و الآخر يحتاج الى أزمنة طويلة كغرس نبتة و تأمين كل ما تحتاجه حتى تنمو و تثمر.

فإذا توفرت هذه المقدمات و لم يحصل أي تقصير في إعدادها من خلال مواجهة العوامل السلبية المفسدة فإنها ستثمر حتما.

و لكن بعض الأشجار مثلا تحتاج الى أكثر من عشر سنوات لتعطي الثمار المطلوبة.

نعم المزارع يعتني بهذه الشجرة سنة بعد سنة و يراها تقترب من بلوغ هدفها الى إثمارها لكن المراقب عن بعد و بعد مرور سنتين مثلا يخطّىء المزارع انطلاقا من اليأس، لأن الشجرة لم تثمر بعد سنتين، و يقول أين الظفر بعد الصبر؟.

و هكذا بالنسبة لثورة عاشوراء و كل الوقائع التي كانت إمتدادا لها، فقد حققت كل أهدافها.

ص: 116

فهذه الوقائع كانت كل واحدة خطوة ناجحة باتجاه القضاء على السلطات الغاصبة و إقامة المجتمع الاسلامي المنشود، و لا شك أنه بعد هذه الخطوات الأولى لو استمر اللاحقون بالمسيرة لتحققت الغاية المطلوبة من وراء مجموع هذه المساعي و التحركات، أما أن نتوقع تحقق مثل هذا الهدف من شخص واحد أو عدة أفراد في مرحلة ما فإنه في غير محلّه.

و في المثال المتقدم يمكن أن نقول لذلك المشاهد القليل الصبر و الخبرة: إن أولئك الذين أدركوا متاعب المزارع و أشرفوا على هذه الأعمال يعلمون جيدا أن كل يوم يمضي و كل ساعة ستكون مفيدة و منتجة، و هم يدركون نتائج الصبر في كل لحظة قبل أن تأتي أختها.

فمرور سنتين من العمل يعني اقتراب الغرسة من النضج، و لو لم يكن هذا السعي في هذه السنتين مثلا لتأخرت الثمار سنة أو أكثر و لعله يضيع الهدف النهائي و لا يصل الى المطلوب، فهل الواقع غير ما ذكرنا؟.

و الى جانب هذه الحقيقة يوجد حقيقة أخرى و هي أنه بعد بروز مانع يمنع المزارع الحريص الصبور من الإستمرار في عمله إذا لم يتابع مزارع آخر عمله و لم يكمل أعمال السنة الثالثة و الرابعة مثلا فإن هذا الغرسة أو الشجرة لن تنضج أبدا.

و لا شك أن نتيجة الصبر في السنة الأولى قد حصل، كما أنّ قلع أو قطع شجرة متجذرة أو إزالة صخرة كبيرة بدون التجهيزات اللازمة و اليد القوية ليس ممكنا، و لن تعطي أية نتيجة بدون وجود الصبر.

و لو أنجزت أول يدّ قوية و صبورة المقدمات الأولى اللازمة و بسبب مانع ما توقفت ثم أكملت الأيدي الأخرى العمل فإنها ستقترب نحو النتيجة المطلوبة.

و قد قام زيد بن علي عليه السّلام بسبب ظهور علامات نصر و لكنه لم ينتصر و إنما حقق ما كان متوقعا من مثل نهضته - بزمانها و مكانها و ظروفها - فإن قيامه و استشهاده كان ضربة على الصخرة الصلبة لحكم بني أمية، هذه الصخرة التي يتطلب تحطيمها عدة

ص: 117

ضربات متتالية، و عند ما توالت الضربات على أثر تلك الضربة انهارت هذه الصخرة السوداء التي كانت تجثم على صدر الأمة الإسلامية.

و لا شك بأنه لو لم تكن الضربة الأولى لما حققت الضربات اللاحقة مطلوبها أو أنها ما كانت لتحدث تلك الضربات.

و كأن الحديث يشير الى ما نتحدث عنه بأن شهادة الحسين بن علي عليه السّلام كانت سببا لسقوط التيار السفياني و شهادة زيد بن علي عليه السّلام سببا لسقوط الحكم المرواني(1).

و من هنا يتضح أن النصر و الثبات أحد آثار الصبر كما أشارت الروايات المتقدمة عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

ما أشعر به هو أن الوعد الإلهي لنا ما زال صادقا و عمليا على امتداد تجربتنا الشخصية و القصيرة المدى قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ (2).

فحيثما تمسكنا بالتقوى و الصبر و الثبات فإن اللّه تعالى لم يضيّع أجرنا، لكننا متى ما أبدينا انهزاما تلقينا صفعة و وقع التزلزل، و هكذا الحال الآن.

و قد خاطب اللّه سبحانه و تعالى نبيه قائلا: فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ (3) و الإستقامة تعني الثبات على الصراط المستقيم و الإصرار و عدم الانعطاف، و على هذا المنوال يأتي علاج المشكلات التي نعاني منها، و علينا أنا و أنتم أن نضع هذا الأمر في الحسبان(4).

ص: 118


1- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
2- سورة يوسف: 90.
3- سورة هود: 112.
4- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.
2 - الأثار النفسية للصبر

و ما نقصده من الآثار النفسية هو تلك الآثار التي تتجلى في نفس الشخص الصابر، و تعود عليه بنتائج داخلية قبل تحقق النتائج الخارجية.

و أول تأثير إيجابي و بنّاء للصبر هو أن الصابر يزداد قوة و عزما و يشتد رفضه للهزيمة و الإنكسار مثل حال التمارين الصعبة، و هذه الحالة شاملة لكل الأمور و القضايا في الحياة سواء دنيوية أو أخروية...

إننا نجد الناس عند حدوث المصائب في حياتهم كالخسائر المادية و الأمراض و الآلام و الموت... لا يصبرون بل يستسلمون و يجزعون، و هكذا عند ما تواجههم العوائق و الموانع العديدة فإنهم ينسحبون.. و في المقابل من يصبر منهم و يستفيد في كل حادثة من سلاح الصبر القاطع يكتسب قوة إضافية و قدرة أعلى عند مواجهة مشاكل الحياة.

و نستطيع أن نشبه الإنسان العديم الصبر بالجندي الذي ينزل الى ساحة المعركة بدون درع واق، فمثل هذا الجندي سيسقط عند أول ضربة يوجهها له العدو.

بينما الإنسان الصبور يشبه الجندي الذي يحمل درعا يقي كل جسمه و هو يمتلك العدة اللازمة.

و الذي لا ينهزم في معترك الحياة هو الذي استعد لها مسبقا و لبس لها درع الصبر الواقي الذي لا يقبل الهزيمة.

و مثله لن يضعف أو يقبل المهانة، و لن ينزعج من مواجهة المصاعب و الآلام التي ينبغي توقعها أثناء سيره نحو الكمال و السعادة، و قلبه لن يسقط و أقدامه لن تتزلزل، و بهذا البيان الواضح يمكن لنا سبر أغوار هذا الإلهام الاسلامي العميق الصادر عن

ص: 119

الإمام الصادق عليه السّلام حيث يقول: «قد عجز من لم يعد لكل بلاء صبرا»(1).

و هذا ما يمكن أن نشاهده في صلابة الرجال العظام الذين صنعوا التاريخ و على رأسهم الأنبياء و أهل البيت عليهم السّلام الذين تحملوا في البداية كل أنواع العذاب و صنوف الأذى من الطغاة و مع ذلك انتشرت دعوتهم في كل الأرجاء و كان لها أثر كبير و لم يكن ذلك إلاّ بالصبر الذى أعدّوه لمواجهة تلك الموانع و العقبات فأوجدوا في أنفسهم روحا لا تهزم.

و كان أعداؤهم في الكثير من الموارد يتمتعون بالإمكانات الكبرى و لكنهم تعبوا و عجزوا، فقد كان المتوكل العباسي هذا الأمبراطور المتجبر يقول: «لقد أتعبني ابن الرضا».

فكيف استطاع الإمام علي بن محمد الهادي عليه السّلام الذي قضى معظم أيام حياته تحت الضغوط التي مارسها عليه المتوكل أن يتعب هذا الحاكم المتسلط.

حينما يكون أحد المتحاربين ضعيفا بلحاظ الإمكانيات المادية و يقضي معظم أيامه في السجن - كما حصل مع بعض الأئمة عليهم السّلام - و البعد عن الأمن و الراحة لكنه لا يتململ و لا يتعب أمام كل الضغوطات و الشدائد و يستمر رغم كل العوائق و الموانع الموجودة على طريقه الذي يتطلب سعيا طويلا، فمن الطبيعي أن يجعل خصمه تعبا و محبطا حتى و إن كان هذا الخصم يتمتع بكل الامكانات المادية و القدرات كالمتوكل، و ذلك لأنه لا يمتلك روحية الإيمان بالسعي و الهدف.

هذه هي الخاصيّة العجيبة للصبر التي تجعل الإنسان لا يقبل بالهزيمة.(2)

ص: 120


1- مستدرك الوسائل: 423/2 ح 2351.
2- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
3 - بروز و إظهار القوى الكامنة

الإنسان غالبا لا يستطيع أن يقيّم نفسه قبل الامتحان و الاختبار، و هو بذلك لا يعرف الكثير عن القوى الكامنة فيه، و على سبيل المثال إذا كان هناك رجل قوي بطبيعته و لكنه لا يؤدي التمارين و لا يقوم بأي نشاط كأن يرفع حملا ثقيلا يختبر به قوته، فمن الطبيعي أن يجهل هذا الإنسان قواه و مميزاته الجسمانية.

إنه يقدر على اكتشاف قوته حينما يطلب منه القيام بعمل يحتاج الى قوة، و هنا ندرك أثر الصبر لأنه يجعل الإنسان الصابر المقاوم في مختلف مجالات الحياة مطلعا على موازين قوته و القدرات الايجابية الكامنة فيه، التي لا تظهر في الحياة العادية الهادئة.

هذا الأمر يدركه جيدا كل الذين ذاقوا طعم الشدائد و تعرضوا للضغوطات و المحن أثناء سيرهم نحو أهدافهم على أساس معتقداتهم الشريفة، أمثال هؤلاء يشاهدون تلك الفتوحات و الانجازات في ذواتهم أثناء مواجهة المخاطر و الصعاب التي يظن الفرد العادي أنها لا تقاوم. و ينالون من جراء ذلك القوى العظيمة و المدهشة فهم قد اكتشفوا في أنفسهم ذلك الشيء الذين كانوا يجهلونه.

فالصبر إذن يؤدي الى أن يتعرف الإنسان على نفسه أكثر و يكتشف تلك الأمور الإيجابية التي أودعت في داخله(1).

ص: 121


1- بتصرف عن بحث الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم.
4 - التوجه و التوكل على اللّه أكثر

هناك خاصيّة بنّاءة للصبر و هي أن الإنسان عند ما يكون في أية مرحلة من المراحل وحيدا يصبح أقرب الى اللّه تعالى و يتوكل عليه أكثر.

البعض يتصور أن الإتكال على اللّه يتعارض و يتنافى مع الإعتماد على النفس، و أنّ الذي يريد أن يعتمد على اللّه لا ينبغي أن يعتمد على نفسه أو يثق بها، و حينما يقال:

اتكلوا على اللّه تعالى، يقولون لماذا تسلبون من الناس روحية الثقة و الاعتماد على النفس، و كأن الذي يدعو الى التوكل على اللّه تعالى يقول لا تعتمدوا على أنفسكم.

أما بالنسبة للمؤمن باللّه فإنه يرى أن هناك تلازما بين التوكل على اللّه تعالى و الاعتماد على النفس، بل و يعتبر أنّ الإعتماد على النفس من أبعاد الصبر، و وسيلة تؤدي الى التوكل و الاعتماد على اللّه عز و جلّ.

أما عديم الصبر فإنه سيتزلزل و يتفاجأ أثناء مواجهة المصائب الإختيارية بسبب عدم ثقته بنفسه و سينسى اللّه و يبتعد عنه أيضا.

فالإنسان عند ما يواجه شدائد و مصائب الدهر و تحيط به الأزمات و تطبق عليه الصعاب فلا يجزع أو ينتحب، فسوف تنفتح عليه نوافذ الارتباط العميق باللّه عزّ و جلّ و يسهل عليه الإتصال بقلبه و روحه بنور حضور اللّه تعالى، أما إظهار العجز و الضعف فإنه سوف يبعده و يقطعه عن اللّه تعالى و عن نفسه.

ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبّت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين(1).

ص: 122


1- بتصرف عن بحث حول الصبر، نشر مركز بقية اللّه الأعظم/الدار الاسلامية.
5 - أهليّة الهداية

يقول عزّ من قائل وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ (1) حيث تشير هذه الآية المباركة إلى أن اللّه تعالى قد أوكل أمر هداية الطوائف الإنسانية لاولئك الذين يتمتعون بخصوصيتين أساسيتين هما: الصبر، و اليقين

فكافة الأنبياء عليهم السّلام و الهداة و جميع الذين استطاعوا أن يخلّفوا وراءهم أثرا خالدا و مؤثرا على مسيرة التأريخ البشري كان عليهم أن يتمتعوا بهاتين الخصوصيتين، و كان إمامنا الراحل الخميني الذي بعث روح الإسلام من جديد في حياة شعبنا و أمتنا الإسلامية يتصف بهاتين الخصوصيتين. و اليوم - و بعد مرور أربعين عاما على حادثة الخامس عشر من شهر خرداد (الخامس من يونيو - حزيران) - فإنكم تجدون أن نهضة الإمام المظلومة قد عمّت كافة بقاع العالم الإسلامي.

ففي مدينتي طهران و قم، و ذات يوم كغيره من سائر أيام اللّه المجيدة، كان هناك من المظلومين من ضحّوا بأنفسهم و التحقوا بقافلة الشهداء دون جريرة سوى أنهم ساروا على خطى الإمام العظيم و نادوا باسم الإسلام و عارضوا بسط الأجانب لنفوذهم على هذا البلد و استثمار موارده و مقدراته.

إن كل من عاينوا هذا المشهد في ذلك اليوم ربما يكونون قد توهموا بأن كل شيء قد انتهى و أن تلك الصيحة قد أخمدت. فلقد اعتقلوا الإمام بعنف و وحشية، و اختطفوه من منزله، و قمعوا الجماهير بكل بطش و شدة، و لكن هذا الفكر مضى إلى

ص: 123


1- سورة السجدة: 24.

الأمام مستلهما روحه من تلك القاعدة الإلهية العظيمة، أي الصبر الممزوج باليقين.

لقد جاهد الإمام طوال خمسة عشر عاما و استطاع أن يقود الشعب الإيراني المسلم بأكمله إلى ساحة المواجهة ضد الاستبداد الداخلي و الإستكبار العالمي بفضل ما كان يتمتع به من إيمان عميق، فكان النصر أكيدا في كل معركة خاضها الشعب(1).

ص: 124


1- من كلمة ألقاها في 2 ربيع الثاني 1424 ه - طهران.

البلاء

الأجر و الثواب على البلاء

لو أنّ المصاب بالبلاء كالمعاق راعى حدود اللّه و حافظ على تقواه و طهارته في فترة بلائه أو عوقه، فسيحصل على أجر عظيم، كما وصف اللّه تعالى ذلك بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (1).

فعند ما يصف اللّه تعالى الأجر ب (العظيم) فهذا دليل على أهميته و علوّه.

إنّ لكل معاناة تلاقيكم بعد الإعاقة حسنة، فإنّ المعاق يؤجر على المعاناة و المشقة و الحرمان و مشاكل الإعاقة التي يواجهها في حياته.

إننا نجزع أحيانا بسبب المشاكل؛ لأننا نجهل المصالح التي تترتب على هذه المشاكل في المستقبل، و بالمقابل فإننا نحصل على مقدار الأجر و الثواب الإلهي من تلك الصعوبات و المشاكل التي نتعرض لها في حياتنا، كما جاء في إحدى الروايات:

«أنّه إذا كان يوم القيامة، يود أهل البلاء و المرضى أن لحومهم قد قرّضت بالمقاريض، لما يرون من جزيل ثواب العليل»(2).

و ما ذلك إلاّ من أجل أن نفهم و نلمس بأيدينا، أنّ لكل معاناة نعانيها مقابلا من

ص: 125


1- سورة آل عمران: 172.
2- مستدرك الوسائل: 65/2 ح 1425.

الأجر عند اللّه تعالى؛ و لهذا عليكم أن تعرفوا قيمة هذا الأمر، و تشكروا اللّه عليه.

إنّ جلب رضى اللّه - كباقي النعم الأخرى - يأتي من خلال السعي و الجد و الإجتهاد، فلا يمكن لأحد أن يصل لهدفه من خلال الراحة و الكسل، و هذا ما يؤمن به جميع أصحاب المقولات المادية و المعنوية.

فلو أنّك أردت الحصول على ثروة أو جاه أو علم، فلا يكون ذلك من خلال طلب الراحة و الترف، بل لا بد من تحمّل الأعباء و المشاق حتى تحصل عليه.

إنّ الأمم لا تنتصر و لا تكون عزيزة إلاّ من خلال تحمّل المعاناة و الصعاب، و كذلك لا يمكن الحصول على نعيم الآخرة، و لا على ثواب اللّه و رضاه و القرب منه إلاّ بتحمّل المعاناة و الصعاب.

إذا فلا بد للإنسان من السعي و الإجتهاد، و إنّ أحد مصاديق هذا السعي و الإجتهاد هو تحمّل زوجات المرضى و المعاقين معاناة أزواجهنّ و آلامهم.

و هكذا الأمر بالنسبة لأبناء المرضى و المعاقين.

فليفتخر أبناء المعاقين بأنّهم أبناء أشخاص ضحّوا بسلامتهم من أجل الأهداف الإلهية السامية، و إنّ هذا مدعاة للفخر.

إنّ بعض الأفراد المترفين الذين يصفهم القرآن الكريم: فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ (1) عند ما يحل البلاء، تراهم مثل الفئران يختبئون في الحفر من شدّة الخوف، و عند ما يذهب الخوف عنهم يعرضون صدورهم كالأسود، و يظهرون بمظهر المدافع عن الحقوق التي تخلّوا عنها في ساعة العسر.

إلا أنّ المعاقين و عوائل الشهداء و المضحّين، على العكس من ذلك، فتراهم يواجهون الصعوبات بصدورهم، و لا يبالون لما يتعرضون له من الآلام و المعاناة(2).

ص: 126


1- سورة الأحزاب: 19.
2- من كلمة ألقاها في بتاريخ 1384/8/4 م الموافق 22 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 2005/10/26 م.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عظيم البلاء يكافيء به عظيم الجزاء، و إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند اللّه عزّ و جلّ، و من سخط البلاء فله السخط»(1)

إذا تحمّل الإنسان في هذه الدنيا البلاءات و المشقّات - سواء كانت قهرية كالمرض أو فقدان الأعزّاء و غير ذلك أم كانت إرادية و اختياريّة كالزهد و القناعة و كفّ النفس عن الشهوات بل عن المباحات أيضا - فبمقدار حجمها و نسبتها يجازى عليها بالأجر و الثواب في الآخرة التي هي في الحقيقة الحياة الواقعية للإنسان.

و على هذا فإذا شاهدنا شخصا متنعما و آخر مبتلى فلا نتوهّم أنّ نظام العدالة في الخلق غير مراعى و مختلّ، و ذلك لأنّ تحمّل المشكلات و الآلام في هذه الدنيا سوف يجبر في عالم الآخرة. تماما كما أنّ الراحة و النعم في هذه الدنيا، سواء كانت من طريق الحلال أم الحرام، موجبة لتنزل و نقصان الأجر و الثواب في عالم الآخرة، على أنه إذا كانت من طريق الحرام فسوف يلحقه الجزاء و العقوبة القاسية عليها، و أما إذا كانت من طريق الحلال فهي توجب نقصان و قلّة الثواب و تنزّل الدرجات و المراتب الأخروية.

و عليه فاللّه تعالى إذا أحبّ عبدا من عباده ابتلاه بالمصائب و البلاءات و المشقّات الأكثر ليكون أجره و ثوابه في الآخرة أعظم و أكبر، فإذا رضي العبد بما قدّره اللّه تعالى منها كان مرضّيا عند اللّه تعالى.

و أما إذا لم يرض بالقضاء و القدر بل سخط من هذا البلاء و لم يكن شاكرا للّه حبط أجره في الآخرة، و لا يبقى له إلاّ الألم و الغضب و السخط ما دام لم يشكر اللّه على هذا البلاء(2).

ص: 127


1- الخصال، باب الواحد، ح: 64.
2- كلمات مضيئة: 184.

أثر الدنيا في الصبر على البلاء

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين:

إنّ أجزعكم عند البلاء لأشدّكم حبّا للدنيا، و إنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في عظته و نصيحته لخواصّ أصحابه المعروفين بالحواريّين: إنّ الناس في مقابل الإبتلاءات على صنفين:

1 - بعض الناس ليس لديهم القدرة على المقاومة و المواجهة و الصمود أمام الإبتلاءات فيقف عاجزا مضطربا.

2 - و البعض الآخر من الناس يقف صابرا متحمّلا مستقيما في مواجهتها بوعي و يقظة.

و السرّ في وجود هذين الصنفين هو مقدار التعلّق و الإرتباط بالدنيا.

فكل إنسان يكون قلبه متعلّقا باللذات الدنيوية و مظاهرها أكثر يكون مضطربا و متزلزلا حين حلول الإبتلاءات به أكثر.

بينما الإنسان الزاهد في الدنيا و الراغب عنها تكون مقاومته و صموده أمام الإبتلاءات أكثر، و بالتالي يكون الضغط النفسي عليه أقلّ (2).

و قال عليه السّلام: «ينبغي لمن عقل عن اللّه أن لا يستبطئه في رزقه، و لا يتّهمه في

ص: 128


1- تحف العقول، صفحة: 393.
2- كلمات مضيئة: 85.

قضائه»(1).

فالإنسان العارف باللّه معرفة كاملة إذا أصابه ضيق في معيشته و حياته و ابتلي بالنقص في النفس و الأموال و نحوهما لا يعترض على اللّه تعالى و لا يسأله لماذا أبطأ عليه بالإجابة و الغوث. لأنه يعلم أنّ كثيرا من موارد سعة الرزق و العيش ليست في صلاحه.

نظير الطبيب الذي يمنع المريض من تناول بعض المأكولات المحبّبة إليه لأنّها مضرّة به.

فالإنسان العارف باللّه واقعا و حقيقة يبقى ثابتا و صامدا في وجه الأحداث و المشاكل التي تواجهه و لا يشتكي من القضاء الإلهي الحتميّ و القطعي بل يسلّم و يتعبّد به و يطيعه.

طبعا إنّ التقديرات الإلهية قابلة للتغيير و لكنّها إذا قضيت و صارت حكما ثابتا فلا يجوز له أن يعترض عليها أو يتّهم اللّه تعالى في حكمته(2).

في البلاءات نعم إلهية

من مواعظ الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «ما من بليّة إلاّ فيها نعمة تحيط بها»(3)

توجد في باطن الأحداث المؤلمة و المصائب التي يبتلى بها المؤمن، نعمة مخفيّة مغطّاة بداخلها.

إنّ أكثر الناس لديهم قصور نظر فيما يرتبط بهذا الأمر، فهم ينظرون إلى المصائب

ص: 129


1- تحف العقول، صفحة: 408.
2- كلمات مضيئة: 85.
3- تحف العقول، صفحة: 489.

و الإبتلاءات من دون أن يدركوا النعم الموجودة فيها.

و لكن إذا توجّه الإنسان و التفت إلى ما في البلاءات من نعم في باطنها و أدرك هذا المعنى فسوف تهون و تسهل عليه كل المصائب(1).

أثر الصبر على البلاء

قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام لابن جندب: «... و قد عجز من لم يعدّ لكلّ بلاء صبرا، و لكلّ نعمة شكرا، و لكلّ عسر يسرا»(2).

إنّ ساحة الحياة و مدّة العمر الذي نمضي فيها مرتبطة بساحة التعارض بين الحق المطلق و الباطل.

و الباطل هو الأهواء النفسانية و الميول الشيطانية.

و الحقّ هو الصراط الإلهي المستقيم.

و نحن يجب علينا العبور بين هذين التجاذبين و الخطين المتعارضين.

فإذا استطعنا تجاوز هذا الطريق بمقدرة فكم هي من نعمة.

و أما إذا ابتلينا بالعجز عن ذلك فتلك خسارة حقيقية، و إن كان في الظاهر قد يكون لنا مقدرة و قوة و سطوة.

و عليه فكيف يمكننا تحصيل هذه القدرة؟

و الجواب أننا إذا صبرنا على البلاء و شكرنا كل نعمة و تصرّفنا بحكمة و تدبير مقابل الصعوبات و المشقات فحينئذ نحصل على هذه القدرة، و إلاّ فالعجز هو ما نحصل عليه.(3)

ص: 130


1- كلمات مضيئة: 86.
2- تحف العقول، صفحة: 304.
3- كلمات مضيئة: 86.

قضية الأسرى قضية كبرى و بلاء عظيم، ما من شعب استطاع أن يصنع من عامة طبقات الشعب مجموعة من الشبّان المقاتلين الذين حافظوا في أقسى ظروف الأسر على شخصيتهم الثورية و الإيمانية و ما يتصفون به من روح قتالية مثلما فعل أحرارنا في فترة الاسر.

في حين أنّ ما يعرفه الشعب الإيراني المسلم عن الأحداث التي عاشها هؤلاء الأعزّة في مرحلة أسرهم لا يكاد يمثّل إلاّ جزءا صغيرا من مجموعة هائلة من الأحداث.

و هل من الممكن تبيان هذه الحادثة؟ و هل تستوعب الكلمات وصف الآلام المريرة التي تمر في كل لحظة من لحظات الأسر؟ أو هل لغة الفن و الأدب قادرة على الافصاح عن ذلك؟ إذ أنّ السماع ليس كالرؤيا و المعايشة. و هم قد صمدوا و ثبتوا.

و لعل بعض أحرارنا الأعزاء حينما كانوا يجابهون جنود العدو الغلاظ الشداد في المعسكرات، كانوا يائسين من الافراج عنهم، و ربما كان بعضهم قد سئم و أخذ يقول:

إلى متى؟ إلاّ أنّ السنّة الإلهية هي فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً (1).

إذا تحملتم الصعاب، يفتح لكم اللّه ابواب الفرج. و إذا وطّنتم أنفسكم للمجاهدة في سبيل اللّه فإنّه تعالى سيريكم أنوار الفرج و يمهّد لكم سبل الخلاص وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (2). فهو سبحانه و تعالى يفتح أبواب الفرج و يمهد السبل بفضل المجاهدة و بشرط الصبر و رباطة الجأش، خارج دائرة الحسابات العادية للعقول البشرية.

ساحة الحرب تكتنفها آلاف المصاعب التي لا يلمسها إلاّ من يعيش تلك الظروف - من قبيل الشهادة و الإعاقة و المرض و البعد عن الديار و الأهل و الألاد و الأحبة و عن

ص: 131


1- سورة الشرح: 5-6.
2- سورة الطلاق: 3.

الراحة و الرفاه - و تحمّل هذه المصاعب و البلاءات يعد عملا عظيما.

و كذلك الصمود في ميادين الحرب ضد العدو، و في ظروف الأسر، و في فترة التعويق، يعدّ عملا مجيدا. و ليعلم المعوّقون الأعزاء أنّ جهادهم متواصل، و إنهم في حالة مجاهدة على امتداد فترة التعويق، و هذه الفضيلة تختص بهم و بذويهم و بزوجاتهم و أسرهم ريثما يستعيدون بإذن اللّه عافيتهم و سلامتهم.

هذه التضحيات و المآثر هي التي أوصلت بلدنا إلى هذه المرحلة. هل كان أحد يتصور أن يهب أبناء هذا الشعب صغارا و كبارا و بدون أية مساعدة عالمية أو مساندة من قوة دولية، و يتسنّى لهم الثبات في ميدان الجهاد المقدس و الدفاع عن الذات و عن البناء و الاستقلال و مجابهة شتّى ألوان الضغوط من قبل الأعداء، و إثارة دهشتهم يوما بعد آخر؟ و هل كان بإمكاننا بلوغ هذه المرحلة لو لا هذا التفاني و الإيثار و التضحيات و الصبر؟

فكل واحد منكم أنتم؛ سواء الأحرار الأعزاء، أم الذين لا زالوا في الأسر، أم عوائلكم و أبناؤكم و آباؤكم و امهاتكم و زوجاتكم، أم عوائل الشهداء و المعوقون، أم أبناء الشهداء، و كل الذين ذاقوا الآلام بنحو أو آخر جسميا و نفسيا، و قدّموا التضحيات و قاموا بدور الإسناد، قد شارك في صنع هذا الكنز العظيم الذي لا مثيل له و لا ينضب معينه.

و لو لا أنّ كل واحد منكم قد ضحى بما ضحّى و صبر، بما صبر لما تحققت هذه المآثر التي يفتخر بها الشعب الإيراني اليوم، و لما أحرز هذا النجاح. و هذا درس مستخلص من القرآن.

إنّ عمر الشعوب لا يشكّل في تاريخ العالم سوى ساعة، و هو قد يبدو لنا طويل الأمد بيد أننا حين النظر إلى مسار التاريخ نجد هذه الأمم تأتي و تذهب في ساعة، لكن إطالة أمد هذه الساعة و جعلها بشكل حسن يبعث على الفخر إنما هو رهين إرادة أبناء تلك الامة. هذا الدرس علّمنا إياه القرآن.

ص: 132

إلاّ أنّ تطبيق هذا الدرس عسير. و لهذا السبب لا تخوض الشعوب غالبا في تجربته، فتتحمل نتيجة لبعدها عن هذا المسار الآلام و المصائب. في حين أنّ شعبنا قد جرّب هذا الدرس، فاعرفوا قيمة هذه التجربة لأنها على قدر كبير من الأهمية.

هكذا يمكن معالجة المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم، و بهذا النحو لا غير تعالج مشكلة الشعب الفلسطيني. و الذين يتصورون إمكانية استنقاذ شعب كالشعب الفلسطيني عبر المحادثات و بلسان الرجاء و التكدّي إنما هم في وهم كبير؛ بالمقاومة و الصمود و الصبر فقط يمكن لأي شعب الوقوف على قدميه و نيل حقوقه، و تحقيق حياته الكريمة في الدنيا و في الآخرة(1).

و قال عليه السّلام: «إنّ اللّه أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروه، فصارت عليهم و بالا.

و ابتلى قوما بالمصائب فصبروا فكانت عليهم نعمة»(2).

إذا وهب اللّه تعالى شخصا أو أمّة نعما فلم يؤدوا شكرها و لم يقدّروها فسوف تكون عليهم و بالا و عذابا.

و المثال الأبرز لهذه المسألة قوم بني إسرائيل، فإنّ اللّه تعالى أعطاهم نعمة الحكومة الصالحة و نعمة إرسال و بعث الأنبياء عليهم السّلام لهم كسليمان و داود على نبيّنا و آله و عليهما السّلام، و كذلك نعمة الغلبة و الإنتصار على فرعون، و لكنهم مع ذلك لم يشكروا هذه النعم بل وقعوا في الغرور و الطغيان و التمرّد فكانت النتيجة كما قال اللّه تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ (3).

و لذلك نحن نسأل اللّه دائما في سورة الحمد المباركة أن يمنّ علينا بالهداية إلى الطريق المستقيم و هو طريق الذين أنعم عليهم و لكن ليس طريق الذين أنعم عليهم

ص: 133


1- من كلمة ألقاها في: 16 ربيع الثاني 1418 ه
2- تحف العقول، صفحة: 359.
3- سورة البقرة: 61.

فصاروا من الضالين أو من المغضوب عليهم.

و على عكس هذه المسألة ما إذا ابتلى اللّه شخصا أو أمّة بالمصائب و البلاءات و لكنهم صبروا عليها و ظلّوا مستقيمين، فإنّها سوف تتبدّل من المصائب إلى النعم(1).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من ثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على اللّه عزّ و جلّ وجبت له الجنة».(2)

الشخص الذي يفقد ثلاثة أبناء من صلبه و يثكل بهم بالغم و الحزن من أجلهم و لكنه يحتسب هذا المصاب عند اللّه عزّ و جلّ و يرضى بالقضاء الإلهي و يسلم به، و لا يصدر منه شيء يدل على السخط و عدم الرضا لا قولا و لا فعلا فلا يتكلم بكلام الكفر أو بما لا يليق التكلم به، فإنّ اللّه سبحانه و تعالى يعطيه مقابل ذلك الجنة و يوجبها له.

طبعا هذه الرواية ليس مفادها أنّ هذا الشخص الذي وجبت له الجنة بما ذكر يمكنه أن يفعل ما يشاء فيرتكب المعاصي و يترك الفرائض الإلهية عامدا إتكالا على هذا الوعد الإلهي، و إنما مفادها أنّ الشخص الذي فقد هؤلاء الأعزاء الذين هم فلذات كبده هناك مقتض لدخوله الجنة، و لكن بشرط أن لا يزول هذا المقتضي بإيجاد الموانع من تأثيره.

و هذه الرواية تعتبر عزاء و بعثا للأمل في نفوس الذين فجعوا و ابتلوا بالحوادث و الكوارث الرهيبة كالزلازل و الفيضانات و السيول و التي ذهبت بأولادهم و أقاربهم.

نسأل اللّه تعالى المغفرة للأموات و الصبر و الأجر للأحياء.(3)

ص: 134


1- كلمات مضيئة: 87.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 245.
3- كلمات مضيئة: 187.

شروط الإبتلاء

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاثة يحرمها. قيل: و ما هنّ؟

قال عليه السّلام: المواساة في ذات يده بالله، و الإنصاف من نفسه، و ذكر اللّه كثيرا.

أما إني لا أقول لكم «سبحان و الحمد و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر» و لكن ذكر اللّه عند ما أحل له و ذكر اللّه على ما حرم عليه»(1)

المستفاد من هذه الرواية أن الإبتلاء العظيم بحسب قانون و نظام القيم هو أن لا يكون في الإنسان المؤمن واحدة من هذه الصفات الثلاثة، و هي:

1 - المواساة في ذات يده بالله، فالمواساة تعني أنّ ما هو مملوك له ليس منحصرا به بل يرى لغيره نصيبا أيضا بخلاف الشخص الذي يرى أنّ ما يملكه متعلق به فقط و لا حقّ لأحد عنده أبدا.

2 - الإنصاف من نفسه أي أن يتعامل مع الآخرين على أساس العدل و الإنصاف حتى لو كان على نفسه، و أما إذا كانت علاقته مع الآخرين مبنيّة على محورية نفسه و كان ملاك حكمه على الآخرين هو نفسه و منافعها فقط فهذا لا يملك من الإنصاف شيئا.

3 - ذكر اللّه كثيرا، كما قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً (2).

و لكن الذكر ليس المقصود به الذكر باللسان فقط بل المراد منه تذكّر اللّه تعالى عند

ص: 135


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 130
2- سورة الأحزاب: 41.

الحلال و الحرام و عدم التجاوز و التعدي على الحدود الإلهيّة. فذكر اللّه في الحلال هو الصبر و أحيانا يكون هو الشكر و أما ذكر اللّه عند الحرام فهو الإجتناب و التورّع عنه(1).

كل بلاء من اللّه العلي فهو خير

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «عجبا للمؤمن لا يقضي اللّه عليه قضاء إلاّ كان خيرا له، سرّه أو ساءه، إن ابتلاه كان كفّارة لذنبه، و إن أعطاه و أكرمه كان قد حباه»(2).

كل ما قدره اللّه للمؤمن فهو خير له، سواء كانت أمورا تسيئه كالمرض أم أمورا تسعده و تسرّه.

و السرّ في ذلك هو أن الحوادث و الأمور المحزنة و غير المريحة تعتبر كفارة لذنوب المؤمن، بينما الحوادث و الأمور المفرحة و السعيدة تعتبر عطايا إلهية من اللّه تعالى للمؤمن.

و هذا المضمون ذكره حافظ الشاعر في أشعاره فقال ما مضمونه:

«إنّ أهل الطريقة يرون أنّ كل ما يعرض للسالك من أمور فهي خير له».

و لكن حافظ الشاعر خصّ هذا المعنى بالسالك فقط بينما الرواية المذكورة تذكر هذا المعنى بحق المؤمن مطلقا سواء السالك و غيره(3).

ص: 136


1- كلمات مضيئة: 88.
2- تحف العقول، صفحة: 48.
3- كلمات مضيئة: 88.

البلاء نعمة نؤجر عليها

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تعدنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر و استوجبت عليها من اللّه ثوابا بمصيبة، إنّما المصيبة أن يحرم صاحبها أجرها و ثوابها إذا لم يصبر عند نزولها»(1).

المصيبة الحقيقية هي أنّ الإنسان عند ما تعرض عليه الحوادث الصعبة و المكروهة يفقد القدرة على التحمّل فلا يصبر و يظهر منه الغمّ و عدم الشكر، و في النتيجة يحرم من أجر و ثواب تلك المصيبة.

و أمّا المصيبة التي يصبر الإنسان عليها بتوفيق اللّه تعالى عند نزولها به و يتحمّلها و لا يغتمّ بها، فهو على أثر هذه المجاهدة يستحق الثواب الإلهي. و في الحقيقة هذه المصيبة ليست مصيبة بل نعمة(2).

أعظم البلاء و الفتن

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الفتن ثلاثة: حبّ النساء و هو سيف الشيطان، و شرب الخمر و هو فخّ الشيطان، و حبّ الدينار و الدرهم و هو سهم الشيطان.

فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، و من أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، و من أحب الدينار و الدرهم فهو عبد الدنيا.

و قال عليه السّلام: قال عيسى ابن مريم عليه السّلام: الدينار داء الدين، و العالم طبيب الدين، فإذا

ص: 137


1- تحف العقول، صفحة: 375.
2- كلمات مضيئة: 89.

رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا أنه غير ناصح لغيره».(1)

ثلاثة أمور تعتبر فتنة للإنسان. و المراد من الفتنة هنا الإختبار و الإبتلاء، و الأصل اللغوي للكلمة هو تلوث الهواء لأن الإنسان في هذه الحالة لا يمكنه تحديد الطريق و تشخيصه، و لذلك يقع في الحيرة و التيه. و هذه الأمور هي:

1 - حب النساء و هو سيف الشيطان. و لكن هذا لا يعني أن لا يحب الإنسان زوجته فإن حب الزوجة أمر مستحب. بل معناه الإنحلال الجنسي و الإنفلات من القيود و الضوابط المقررة بهذا الصدد فيكون همّه هو النساء.

فإن نتيجة هذا الأمر هو أن الشخص المذكور لن يكتفي بالإستفادة في هذا المورد من الشيء الحلال الطبيعي ضمن دائرة عائلته بل يسعى للأكثر مما يؤدي الى تهدم الأسرة و تفككها.

2 - شرب الخمر الذي هو فخ و مصيدة الشيطان فيقع فيها الإنسان، فإذا وقع في هذا الأمر فإن الجنة محرمة عليه.

3 - حب الدينار و الدرهم، و المراد بهما الثروة و المال، و المراد من الحب هنا هو السعي لتحصيل المال من طريق الغش و التزوير و الخداع و المكر و الإحتيال، و هذا ما يسمّى بعبادة المال، و الإنسان الذي يعبد المال يصبح عبدا للدنيا.

ثم يذكر كلاما للنبي عيسى عليه السّلام و مفاده:

إن المال داء و آفة للدين، و العالم كالطبيب يسعى لإصلاح دين الناس و لكن إذا كان هذه الطبيب (أي العالم) عبدا للمال فحينئذ لن يمكن الإعتماد عليه و الوثوق به بل هو متهم إذ كيف يكون ناصحا لغيره و لا ينصح نفسه؟!.(2)

ص: 138


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 91.
2- كلمات مضيئة: 151.

الأمانة

أهمية الأمانة

من مواعظ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال:

سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام.

فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ.

و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس.

و أمّا السنّة من وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(1).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة، و هذه الأصول و السنن الثلاثة هي من أصول و سنن التربية الإسلامية و هي:

1 - سنّة و قانون من اللّه تعالى.

2 - سنّة و قانون من النبي صلّى اللّه عليه و آله.

3 - سنّة و قانون من الإمام عليه السّلام.

فالمؤمن هو الذي يحفظ السرّ و يكتمه كما عن اللّه تعالى، و يداري الناس كما عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و يصبر و يستقيم مقابل الإبتلاءات و المشكلات متّبعا في ذلك وليّه

ص: 139


1- تحف العقول، صفحة: 442.

و إمامه عليه السّلام.

و هذه الصفات الحميدة يجب على المؤمن إقامتها و العمل بها في كلّ تصرّفاته في هذه الحياة.

- فأمّا كتمان السرّ و حفظه فهو نوع من الأمانة، فيجب على المؤمن أن يحافظ و يواظب على شأن و حرمة و شرف و عرض المؤمنين سواء كان سرّ نفسه أم سرّ غيره، و سواء كان من أسرار الدولة أم من أسرار المؤسّسات و الإدارات المختلفة. و بالتدقيق في هذا الأمر نجد أنّ كثيرا من المشكلات و الإبتلاءات مبدأوها و منشاؤها هذا الحجاب (أي عدم كتمان السرّ) الرائج و الشائع و المدمّر و المفرّق بين الناس(1).

ص: 140


1- كلمات مضيئة: 54.

الوفاء و أداء الأمانة

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ثلاثة لا عذر لأحد فيها:

أداء الأمانة الى البرّ و الفاجر.

و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر.

و برّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين».(1)

يجب على الإنسان أن يراعي ثلاثة أمور في جميع الحالات و الظروف. و لا عذر له في عدم العمل بها، هي:

1 - أداء الأمانة، فإنه لا عذر لأحد أن يخون الأمانة، سواء كان صاحب الأمانة شخصا فاجرا و فاسقا أم كان شخصا مؤمنا و صالحا.

و الأمانة لا تختص في حفظ ما يودع لدى الشخص من أشياء بل لها مفهوم واسع فتشمل المناصب و المراكز الحكومية و الإجتماعية و غيرهما أيضا. و عليه فإذا كان الشخص متصدّيا للقضاء بين الناس أو كان مسؤولا عن إدارة ما أو كان إماما للجماعة، فكل هذه الأمور و المسؤوليات أمانة إلهية في أعناقهم.

و لذلك ورد في باب المناصب الحكومية «إن عملك ليس لك بطعمة و لكنّه هو في عنقك أمانة»(2).

2 - الوفاء بالعهد. فإن الإنسان يجب عليه مراعاة عهوده و و عوده للآخرين و الوفاء بها، سواء كانوا مؤمنين صالحين أم كانوا فجّارا فاسقين.

ص: 141


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 118.
2- شرج نهج البلاغة: 33/14.

و العهد أيضا له معنى واسع و عام فإنه مضافا الى العهد و الميثاق الذي يبرمه مع الآخرين يشمل أيضا العهود و المواثيق الدولية و يشمل العهود التي يعقدها مع اللّه تعالى.

3 - برّ الوالدين، فإن الإنسان يجب عليه الإحسان الى والديه و البرّ بهما سواء كانا صالحين مؤمنين أم كانا فاجرين فاسقين(1).

الأمانة و حسن الظن

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ليس لك أن تأتمن الخائن و قد جرّبته، و ليس لك أن تتّهم من ائتمنت»(2).

إذا فحصت و اختبرت حالات الشخص و بعد الإمتحان و الأختبار و الفحص وجدته خائنا فهكذا شخص لا ينبغي الأعتماد و الوثوق به و لا إئتمانه على شيء.

بينما الشخص الذي تثق و تطمئن به فما دام لم تثبت عندك خيانته فلا ينبغي لك أن تسيء الظن به و تتهمه على أمورك(3).

ص: 142


1- كلمات مضيئة: 15.
2- تحف العقول، صفحة: 364.
3- كلمات مضيئة: 26.

أمانة النبي صلّى اللّه عليه و آله درس لنا

لقد كان النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله شديد الأمانة حتى لقّبه الناس في الجاهلية بلقب «الأمين» فكانوا يودّعون لديه أماناتهم المهمة و هم على ثقة بردّها إليهم دون إصابتها بسوء، لدرجة أنهم كانوا يحفظون أماناتهم عنده حتى بعد بداية الدعوة الإسلامية و تأجج نار العداء و البغضاء مع قريش، و هم أعداؤه! و لهذا فإنكم سمعتم بأن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله ترك أمير المؤمنين عليه السّلام في مكة عند هجرته إلى المدينة لكي يؤدّي للناس أماناتهم، و من المعروف أن بعض الكفار و الذين ناصبوه العداء كانوا قد استأمنوه على أموالهم حينذاك مع أنهم لم يسلموا..!

و في الجاهلية كان النبي صلّى اللّه عليه و آله شريكا في حلف يدعى «حلف الفضول»(1) و هو

ص: 143


1- قال ابن هشام: و أما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد اللّه البكائى عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد اللّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، لشرفه و سنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، و بنو المطلب، و أسد ابن عبد العزى، و زهرة بن كلاب، و تيم بن مرة، فتعاقدوا و تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه، و كانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد ابن المهاجرين قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزهري يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم و لو أدعى به في الإسلام لاجبت (سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله لابن هشام الحميري: 87/1). و روي أنهم تحالفوا على أن لا يسالموا الكعبة ما أقام حراء و ثبير و ما بل بحر صوفه، و أن ينصر المظلوم، و صنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه فسموا المطيبون، سمي هذا الحلف -

غير ما كان بين أهل مكة من تحالفات أخرى كثيرة؛ إذ جاء رجل غريب و باع تجارته في مكة لرجل من أهلها يسمّى «عاص بن وائل» الذي كان من أشراف مكة المتغطرسين دون أن يعطيه ثمن ما اشتراه.

و كلّما قصد الرجل واحدا من أهل مكة عجز عن مساعدته في أخذ حقّه. فوقف على جبل «أبي قبيس» و صاح قائلا: يا أبناء فهر، لقد ظلمت!.

فلمّا سمع الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هو و عمّه الزبير بن عبد المطلب استغاثة المظلوم إنضمّا إلى الجمع الذي قرر نصرته و الدفاع عنه كي يستعيد حقّه، فذهبوا إلى عاص بن وائل و طالبوه بمال الرجل، فخشي بطشهم و أعطى للرجل ماله.

و ظلّ هذا الحلف قائما، إذ قرر أعضاؤه نصرة كل غريب يعتدي عليه أهل مكة - الذين كانوا غالبا ما يظلمون الغرباء من غير أهل مكة - و الدفاع عنه حتى أخذ حقّه.

و حتى بعد مجيء الإسلام بسنوات طويلة كان الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يقول إنني ما زلت أعتبر نفسي ملتزما بذلك الحلف.(1)

ص: 144


1- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

الخوف و الرجاء

معنى الخوف من اللّه

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ (1). أي لا تخافوا من أي عدو خارجي، بل يجب أن تخافوني أنا (وَ اِخْشَوْنِ) .

و لكن ما معنى الخوف من اللّه؟ معناه أن يحترس الناس الآن من ذواتهم و من قلوبهم و من نفوسهم و عملهم، و أن يواظبوا على التقوى و الثبات و الاستقامة التي يرتجى توفّرها لدى كل إنسان يسير على هذا الطريق(2).

قال الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع الى أربع:

عجبت لمن خاف كيف لا يفزع الى قوله تعالى حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ (3)، فإني سمعت اللّه جلّ جلاله يقول بعقبها فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.

و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع الى قوله عزّ و جلّ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي

ص: 145


1- سورة المائدة: 3.
2- من كلمة ألقاها في 18 ذي الحجة 1419 ه - طهران.
3- سورة آل عمران: 173.

كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ، فإني سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول بعقبها فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (1).

و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع الى قوله عزّ و جلّ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ (2)، فإني سمعت اللّه جلّ و تقدّس يقول بعقبها فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا (3).

و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع الى قوله تبارك و تعالى مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ فإني سمعت اللّه عزّ اسمه يقول بعقبها إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مٰالاً وَ وَلَداً فَعَسىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ «و عسى موجبة(4)».(5)

يتعجب الإمام علي عليه السّلام من أربعة أشخاص يفزعون من أربعة أشياء كيف لا يلتجئون الى أربعة حصون يلوذون بها منها. و هي:

1 - العجب من الشخص الذي يخاف كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى: حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ.

و الوجه في ذلك هو أنه في معركة أحد عند ما وصل الخبر الى النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله بأنّ العدو قد كمنوا في أطراف المدينة المنورة و أنهم بصدد توجيه ضربتهم النهائية للمسلمين، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بملاحقة العدو، و في هذه الحال ارتدى جرحى الحرب لباسهم العسكري و ذهبوا لمواجهة العدو و هم يقولون «حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ» فأجابهم اللّه تعالى فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.

ص: 146


1- سورة الأنبياء: 88.
2- سورة غافر: 44.
3- سورة غافر: 45.
4- سورة الكهف: 39-40.
5- الخصال/باب الأربعة/ح 43.

2 - و العجب من الشخص الذي يصاب بالغمّ كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ. لأن اللّه تعالى يقول بعدها فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ.

إذن فالمسألة ليست مختصّة بالنبي يونس على نبينا و آله و عليه السّلام، بل تشمل كل شخص يصاب الغمّ و يلتجىء الى هذا الذكر.

و المقصود طبعا ليس التلفظ اللساني بهذه الكلمات بل يجب أن تكون صادرة من القلب و الروح و تجري على اللسان بعد ذلك، بمعنى أن القلب و الروح يعترفان بالوحدانية للّه تعالى و يسبّحانه و ينزّهانه عن الشرك ثم يعترف بظلم نفسه و بعد ذلك يجري الذكر على لسانه.

3 - و العجب من الشخص الذي مكر به كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ. لأن اللّه تعالى يقول عقب ذلك فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا.

4 - و العجب من الشخص الذي يريد زينة الدنيا كالمال و الولد، طبعا لا يريد المال و الولد لأجل الدنيا المذمومة أي التعلق و الحب، كيف لا يلتجىء الى قوله تعالى مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ. لأن اللّه تعالى يقول بعدها إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مٰالاً وَ وَلَداً فَعَسىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ (1). و كلمة عسى هنا للدلالة على الايجاب لا مجرد الرجاء و التوقع بل إجابة هذا الرجاء و التوقع.(2)

ص: 147


1- سورة الكهف: 39.
2- كلمات مضيئة: 91.

أثر الخوف و الرجاء

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، لا يكون الرجل مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا. و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو»(1).

أحد شروط الإيمان في الإنسان أن يمتزج داخله بالخوف و الرجاء.

و يجب على الإنسان أن يلاحظ أسباب و علل الخوف يعني القصور و التقصير و الضعف في نفسه دائما، و لا يغفل عنها ليبقى الخوف الإلهي موجودا لديه دائما.

طبعا لا يجوز أن يؤدّي الخوف إلى اليأس من رحمة اللّه لأنّ اليأس يمنع من تحرّك الإنسان نحو الإصلاح.

و كذلك يجب على الإنسان أن يحي بداخله أسباب و علل الرجاء، من قبيل اللّطف و المغفرة الإلهية، و الإستعدادات و سلامة و صفاء النفس و القوى و القدرات التي أعطاها اللّه تعالى له ليسير بها تجاه الكمال.

و الأهم من ذلك التوبة و الندم على الأخطاء و الذنوب السالفة و العمل لأجل تلافيها و جبرانها.

فإذا تحقق هذان الأمران أي الخوف و الرجاء صار إيمانه كاملا.

نعم مجرّد وجود هذين الأمرين وحده لا يكفي بل يجب أن يكون لدى الإنسان البواعث و المحركات ليبحث عمّا يوجب الخوف و يقبل نحو موجبات الرجاء(2).

ص: 148


1- تحف العقول، صفحة: 395.
2- كلمات مضيئة: 91.

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «كفى بخشية اللّه علما، و كفى بالإغترار جهلا»(1).

الخوف و الخشية من اللّه تعالى ناشئان من العلم و المعرفة.

لأن الإنسان يعلم إجمالا بأنّ اللّه تعالى قد أعطاه من النعم الشيء الكثير، و أنّ للّه عليه حقا عظيما، و يدرك جانبا من العظمة الإلهية اللامتناهية، و يعلم أن اللّه عادل بين مخلوقاته.

فحينئذ إذا التفت إلى تقصيره و إهماله و إلى انحرافه و جرائمه و ظلمه و طغيانه فطبعا سوف يستقر الخوف الإلهي في قلبه و يخشاه.

و الشيء المقابل للخشية و الخوف هو الإغترار و الإفتتان و الإنخداع، فالإنسان الذي يطمئن باله بأنه قد أدّى الوظائف و التكاليف الملقاة على عاتقه و أنّ اللّه تعالى لن يحاسبه و يعافيه، فهذا إنسان مغرور و مخدوع، و منشاؤهما الجهل و عدم المعرفة.

يقول الإمام السجاد عليه السّلام في هذا المورد: «فأما أنت يا إلهي فأهل أن لا يغترّ بك الصدّيقون»(2).(3).

و قال عليه السّلام: «المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع اللّه فيه، و عمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك.

فهو لا يصبح إلاّ خائفا و لا يمسي إلاّ خائفا، و لا يصلحه إلاّ الخوف»(4).

مخافتان و رهبتان تحيطان بالمؤمن دائما:

إحداهما: مخافة الذنوب التي ارتكبها و لا يعلم ما ذا سيفعل اللّه بها، فإنّ الإنسان ينسى كثيرا من ذنوبه التي فعلها و لكنّها محفوظة في الديوان و السجلّ الإلهي.

و الأخرى: مخافة المستقبل فإنه قلق و لا يعلم ما ذا سيحدث له فيما بقي من عمره،

ص: 149


1- تحف العقول، صفحة: 346.
2- الصحيفة السجادية: 190-194.
3- كلمات مضيئة: 95.
4- تحف العقول، صفحة: 377.

فهل سيبقى لديه العزم الراسخ و الإرادة القوية لطيّ طريق الصراط المستقيم أو أنّ زلاّت الحياة سوف تزلزله؟

إنّ إحياء هذه الحالة أي حالة القلق و الخوف و الدغدغة من الماضي و المستقبل تسوق المؤمن باتجاه المراقبة و التقوى(1).

خوف أمير المؤمنين عليه السلام درس لنا

قال الإمام زين العابدين عليه السّلام في وصف علاقة أمير المؤمنين عليه السّلام باللّه و ارتباطه تعالى: «و ما أطاق أحد عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأمّة غيره، و إن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النار».(2) أي على الرغم من كل هذه الأعمال الإيمانية الكبرى كان سلوكه سلوك إنسان يعيش بين الخوف و الرجاء؛ فهو كان يخشى اللّه و كأنه متأرجح بين الجنّة و النار.

ثم قال: «يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه».

و خلاصة هذا الكلام هي أنه على الرغم من كثرة جهاده و بذله و عبادته إلاّ أنه لم يغتر بشيء من ذلك. في حين إذا صلّى أحدنا ركعتي نافلة و قرأ بضعة جمل من الأدعية، و أراق دمعتين، يغتر بعمله الضئيل هذا و يتفاخر و يتصور نفسه و كأنه أصبح (طاووس العلّيين). أما أمير المؤمنين عليه السّلام فلم يغتر بكثرة عمله الصالح.

أما لماذا يخاف أشخاص كالرسول و كأمير المؤمنين و السجّاد عليهما السّلام - و هم الذين خلق اللّه الجنّة من أجلهم - نار جهنم و يستعيذون بالله منها، فهو بحث آخر. نحن أناس صغار و ضعفاء و قصير و النظر و لا ندرك عظمة اللّه، و مثلنا في ذلك كمثل طفل صغير يلعب أمام شخصية علمية كبرى و يجيء و يذهب غير آبه لوجود

ص: 150


1- كلمات مضيئة: 96.
2- وسائل الشيعة: 91/1 ح 215.

هذه الشخصية؛ و ذلك لأنه لا يعرف حقيقة هذه الشخصية. في حين تجد أن والد ذلك الطفل الذي يفوق عقله عقل طفله مائة مرّة يتواضع لتلك الشخصية.

و هكذا حالنا أمام اللّه تعالى؛ فنحن لا ندرك عظمته و كأننا أطفال أو كأننا أشخاص غافلون و أناس و ضيعون. أمّا الذين وصلوا من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان، و من مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود، و من مرحلة الشهود إلى مرحلة الفناء في اللّه، اولئك تتجلى عظمة اللّه أمام أبصارهم بشكل تتضاءل أمامه قيمة كل عمل صالح يعملونه، و يشعرون على الدوام و كأنهم لم يعملوا عملا صالحا، و إنهم مدينون لله تعالى خائفون منه(1).

ص: 151


1- من كلمة ألقاها في: 22 رمضان 1420 ه - طهران.

المؤمن بين الخوف و الرجاء

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله و لا ينجو المجترىء على الذنوب الواثق برحمة اللّه.

قلت: فمن ينجو؟

قال: الذين هم بين الرجاء و الخوف، كأنّ قلوبهم في مخلب طائر شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب»(1).

هناك طائفتان من الناس ليسوا من أهل النجاة و الخلاص:

الأولى: الذين يتجرأون على ارتكاب الذنوب إتّكالا على الأمل الكاذب الواهي في الرحمة و الفضل الإلهي.

الثانية: الذين يتكلون على الأعمال التي قاموا بها فيطمئنوا بالهم و يرتاح خاطرهم.

و السرّ في هلاك هاتين الطائفتين هو أن الإنسان بكل وجوده و حالاته و شؤونه هو من اللّه تعالى، و حتى عباداته يأتي بها بحول اللّه و قوته.

و كما قال الإمام الحسين عليه السّلام في دعاء عرفة ما مضمونه: «إنّه إذا كان لديك مقدار عمر نوح فلا يمكنك أداء شكر نعمة واحدة من النّعم الإلهية»(2).

و كلّ الثواب و الأجر الذي يعطيه إيّاه اللّه إنّما هو بتفضّل و لطف اللّه المنّان فكيف

ص: 152


1- تحف العقول، صفحة: 302.
2- قال داود: إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل و النهار و الدهر كله ما قضيت حق نعمة واحدة من نعمك عليّ» تفسير الدر المنثور: 229/5.

يمكن أن نتّكل على أعمالنا التي لا تعتبر شيئا و لا قيمة لها في مقابل العظمة الإلهية؟

إذن فالمؤمنون الصادقون هم الذين يعيشون حالة ما بين الخوف و الرجاء، - نظير العصفور الأسير بين مخالب الصقر الضاري - بحيث يكون قلبه يرتجف خوفا و هلعا من العذاب الإلهي من جهة بينما ينظر إلى الرحمة الإلهية اللامتناهية من جهة أخرى.

اللّهم إنّا نقسم عليك و نستحلفك بحقيقة الأئمة الأطهار عليهم السّلام و نور كلماتهم أن تجعلنا من المؤمنين الصادقين(1).

و قال عليه السّلام أيضا لابن جندب: «و ارج اللّه رجاء لا يجرّيك على معصيته، و خفه خوفا لا يؤيسك من رحمته، و لا تغترّ بقول الجاهل و لا بمدحه، فتكبر و تجبر و تعجب بعملك، فإنّ أفضل العمل العبادة و التواضع»(2)

المؤمن يجب أن يكون لديه رجاء بالرحمة الإلهية و خوف من عقاب اللّه تعالى و لكل واحد من هذين الأمرين حدّ و فاصل.

فحدّ الرجاء هو أن لا يتجرأ الإنسان على ارتكاب المعاصي، و لا يظن أنه مشمول للرحمة الإلهية و لا يضرّبه ارتكاب الذنب و المعصية.

و حدّ الخوف هو أن لا ييأس من اللطف الإلهي، لأن اليأس من الرحمة واد خطير جدا في نفسه، و اليأس من رحمة اللّه من المعاصي الكبيرة المساوقة للكفر كما في قوله تعالى لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ (3).

فالإنسان لا ينبغي أن ينخدع بمدح الجاهل له لأن الإنسان لحسن ظنّه بنفسه قد يعتقد أن مدح هؤلاء الأشخاص له واقع و حقيقة فيدعوه ذلك للتكبر و الغرور و العجب و يقع في ذلك.

ص: 153


1- كلمات مضيئة: 94.
2- تحف العقول، صفحة: 304.
3- سورة يوسف: 87.

و من هنا كان أفضل الأعمال هو العبادة المقترنة بالتواضع(1).

و قال عليه السّلام: «و (قد) قيل له: قوم يعملون بالمعاصي و يقولون: نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت.

فقال عليه السّلام: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني، كذبوا ليس يرجون، إنّ من رجا شيئا طلبه، و من خاف من شيء هرب منه»(2).

في جوابه على مقالة بعض الناس الذين يرتكبون المعاصي و يقولون بأنّهم يرجون و يأملون رحمة اللّه تعالى، يقول عليه السّلام: إنّ هؤلاء غارقون في التوهّمات و التخيّلات، و هم كاذبون في إدعائهم هذا ليس عندهم أمل و رجاء واقعا و حقيقة.

و ذلك لأن الشخص إذا كان واقعا يرجو شيئا فإنه يسعى نحوه و يطلبه و إذا كان واقعا يخاف أمرا فإنه يتجنّبه و يهرب منه.

إنّ غفران الذنوب من مظاهر الرحمة الإلهية الرحيميّة، و هذه الرحمة لا تأتي إلى الإنسان بل الإنسان هو الذي يطلبها و يسعى نحوها. و هذا الأمر كان يفعله الأنبياء و الأئمة عليهم الصلاة و السّلام و الأولياء الربّانيون أيضا، فإنّهم لأجل خوفهم من الذنوب و المعاصي كانوا يدعون اللّه و يناجونه و يتوسّلون به و يبكون بكاء شديدا من ذلك.

فنسأل اللّه أن يجعلنا من الموالين و التابعين الصادقين لهم(3).

ص: 154


1- كلمات مضيئة: 94.
2- تحف العقول، صفحة: 362.
3- كلمات مضيئة: 95.

التودد و المحبة

أهمية التحبب

عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رأس العقل بعد الأيمان باللّه عزّ و جلّ التحبّب إلى الناس»(1)

إنّ أشرف و أفضل عضو من أعضاء بدن الإنسان هو الرأس.

و في هذا الحديث يشبّه العقل بجسد الإنسان، و لمّا كان أشرف عضو في الجسد هو الرأس فهذا يعني أنّ أفضل العقل هو رأسه.

و رأس العقل كما في الحديث هو التحبّب إلى الناس بأفعاله و أقوله(2).

أهمية التواصل و عدم التباغض

من وصية أمير المؤمنين عليه السّلام لولديه الحسنين عليهما السّلام: «و صلاح ذات بينكم» يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، و لتكن كلمتكم واحدة و لا تتفرّقوا و تختلفوا، و لتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية و حسنة.

ثمّ يأتي عليه السّلام بحديث للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) دعما لوصيّته، و هذا يكشف عن

ص: 155


1- الخصال، باب الواحد، ح: 55.
2- كلمات مضيئة: 127.

اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر؛ بل لأنّ مسألة «إصلاح ذات البين» معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يشفع ذلك بحديث لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) تأكيدا على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام»(1).

عند ما يريد البعض أن يقوم بأداء صلاة أو صيام، فهو أمر مطلوب و مهم، و لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة و هذا الصيام، و هو السعي لإصلاح ذات البين.

فعند ما ترى تشتّتا و اختلافا بين أبناء الامة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة و الاختلاف، فإن عملك هذا أفضل من عامة الصلاة و الصيام(2).

و يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث أخر: «و عليكم بالتواصل و التباذل و إيّاكم و التدابر و التقاطع، و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم»(3) إذا اعتادت الامة أن لا تقول للشرير إنّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار و المنحرفين لتولّي زمام أمورها، و عندها لا يستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين(4).

المحبة تورث و لا تعلّم

عند ما تصبح المحبة متجذرة فإنها تورّث، كالخصال الإنسانية و تنتقل من جيل الى جيل آخر كما هي محبة الحسين بن علي عليه الصلاة و السّلام أو محبة أهل البيت عليهم السّلام.

فهذه امور لا تكون لدى جيل من الأجيال، فيأتي جيل آخر و يحاول تعلمها، كلا،

ص: 156


1- نهج البلاغة: 76/3.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
3- المصدر السابق.
4- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.

فهي لا تأتي عن طريق التعليم، بل يورّثها جيل الى جيل آخر، فهي تنتقل عن طريق تربية الآباء، تربية الامهات، و دلال المربين، و في مناغاة المرضعات للأطفال، و بهذا المعنى تتجذر مسألة ما، و قد كان و لا زال الإعتقاد بالعلماء في مجتمعنا متجذرا(1).

ص: 157


1- من كلمة ألقاها في 22 شعبان 1413 ه - طهران.

أثر الرفق و التودد

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، عليك بالرفق فإنّ الرفق يمن و الخرق شؤم.

إن الرفق و البرّ و حسن الخلق يعمر الديار و يزيد في الرزق»(1)

يجب على المؤمن في كل المظاهر و العلاقات الإجتماعية مع الآخرين - سواء في القول أم في العمل - أن يتعامل معهم برفق و مداراة و سلوك حسن، و يجتنب عن الخشونة و القسوة معهم.

و الأثر المترتب على الرفق و المداراة ليس محصورا بالثواب الأخروي فقط و لا محدودا في العلاقات الفردية، بل أثره يشمل وضعيّة المجتمع كلّه فيعطي الرونق و الزهو للحياة الإجتماعية في كل البقاع المعمورة.

و ذلك لأنّ اللّطف و اللّيونة توجب الإلفة و التعاون بين الناس، ممّا يؤدّي في النتيجة النهائية إلى تقدّم و تطوّر أمور المجتمع.

و في الوقت الذي يكثر و يزدهر العمران في المجتمع سوف يزداد رزق و معاش الناس أيضا.(2)

و قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «قال الرضا عليه السّلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه و سنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سنّة من وليّه عليه السّلام. فأمّا السنّة من ربّه فكتمان السرّ. و أمّا السنّة من نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فمداراة الناس. و أمّا السنّة من

ص: 158


1- تحف العقول، صفحة: 395.
2- كلمات مضيئة: 127.

وليّه عليه السّلام فالصبر في البأساء و الضرّاء»(1).

كمال إيمان المؤمن مرتبط بأمور ثلاثة و عدّ منها المداراة...: و أمّا المداراة مع الناس فلأنّه يوجد في المجتمع أشخاص منافقون و ضعيفو الإيمان و الواجب علينا أن نتعامل معهم بمداراة، و هذا لا يعني أن نعتمد عليهم و نثق بهم و نسند الأعمال و المهام إليهم.

و لكن يجب علينا إعطاؤهم حقوقهم و احترامها و نتعايش معهم(2).

ثواب التودد

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أربع من كنّ فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، و رحم الضعيف، و أشفق على والديه، و رفق بمملوكه»(3)

من كانت فيه هذه الخصال الأربعة بنى اللّه تعالى له بيتا في الجنة. و هي:

1 - من آوى اليتيم أي تكفله و كان ملجأ له.

2 - من رحم الضعيف أي يتعامل معه برحمة و لطف و محبة. و ذلك لأنه عادة عند ما يتعامل الناس و يتصرفون مع الأشخاص الأقوياء و القادرين سواء من الناحية المادية أم من ناحية السلطة و المقام و المنصب، فإنهم يراعون الدقة و الضوابط، أما إذا تعاملوا مع الناس الضعاف فلا يتقيدون بشيء من الحدود الإجتماعية.

3 - من أشفق على والديه، أي كان لطيفا و دودا و شفيقا في تصرفاته معهما.

و الشفقة أعلى مرتبة من الطاعة للوالدين، لأنه من الممكن أن يطيعهما فيما يريدانه و لكنه قد يكون كارها لذلك فيفعله عن كره منه، و أما الشفقة فهي الطاعة لهما

ص: 159


1- تحف العقول، صفحة: 442.
2- كلمات مضيئة: 54.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 53.

مع اللطف و المحبة.

4 - الرفق بالمملوك، أي أن يتعامل معه بلطف و يسر. و اليوم و لله الحمد لا وجود لمسألة العبيد، و لكن هناك الأجراء و المستخدمون الذين يعملون في البيوت و الإدارات و الوظائف فهؤلاء يجب التعامل معهم بلطف و يسر أيضا.

و المستفاد من هذه الرواية التي تدعو الجميع للتحلي بالمسائل الأخلاقية أن الإسلام و هو ذاك الدين المقدّس أهتم كثيرا جدا بالمحبة و المودة بين الناس بحيث من يراعي هذه المسائل الأخلاقية تجب له الجنة(1).

ص: 160


1- كلمات مضيئة: 187.

أهميّة المداراة و اللين

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(1)

و من هذه الأمور: خلق يداري به الناس، فإنه إذا لم يكن لديه صفة المداراة مع الناس فإنه لن يصل إلى شيء في هذه الدنيا لأنّ الناس مختلفون في الفكر و المصالح، و الحياة ساحة مليئة بالتزاحم و التصادم و التضاد بين مصالح الناس. فإذا لم يتعامل معهم بمداراة و كان يتصادم و يتعارك مع كل شخص لا يتّفق معه بالأفكار و المصالح فإنّ حياته و الآخرين أيضا سوف تتحوّل الى جهنّم.

و من هذه الأمور: حلم يردّ به جهل الجاهل: و المراد من الجاهل هنا ما يقابل العاقل فإن الإنسان حينما يتعامل مع الأشخاص السّفهاء في المعاملات و المبادلات التجاريّة يجب عليه أن يتحلى بالحلم، فإذا تكلم معه شخص كلاما سفهيّا أو تصرّف معه تصرّفا سفهيّا كذلك يجب عليه أن يعفو و يتسامح معهم بحلمه، لأنّه إذا أراد أن يبادلهم بالمثل فإنّه سيواجه المشاكل و المتاعب في حياته(2).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من زين الإيمان الفقه، و من زين الفقه الحلم، و من زين

ص: 161


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 17.

الحلم الرفق، و من زين الرفق اللين، و من زين اللين السهولة»(1).

المراد من الفقه هنا العلم و المعرفة.

فالعلم و المعرفة زينة الإيمان.

و الحلم و التحمّل و الصبر زينة العلم.

و الحلم معناه أن يكون الإنسان لديه السعة كالبحر العميق الواسع الذي لا يضطرب و لا يثور لأقلّ الأمور، بل يكون عند وقوع الحوادث هادئا غير مضطرب.

و زينة الحلم الرفق و المداراة و المؤالفة مع الناس.

و زينة الرفق و المداراة اللين و التعامل الحسن مع الناس لا الشدّة و الخشونة.

و زينة اللين السهولة، بمعنى تهيئة الأجواء لأجل راحة الناس و إزالة الموانع عن ذلك(2).

و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أ لا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدا؟

قيل: بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال: الهّين اللّين القريب السهل».(3)

يقول النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله إن هناك صفات أربعة إذا وجدت في المؤمن فإن اللّه تعالى يحرّم عليه النار. و هي:

1 - الهيّن، أي الشخص الهادىء الذي لا يصرخ و لا يثور بالباطل، و الهيّن إذا كانت صفة للفعل فتأتي بمعنى السهل، قال اللّه تعالى قٰالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (4) أي سهل.

ص: 162


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 19.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 83.
4- سورة مريم: 9.

2 - الليّن، أي الشخص اللطيف الناعم الذي لا يكون صعبا و قاسيا في علاقته الإجتماعية.

3 - القريب، أي الشخص الذي يمكن الإتصال و الإرتباط به و الوصول إليه. و ليس المراد من القرب هنا القرب المكاني بل القرب من الناحية الروحية و العملية. فإن بعض الناس يكونون قساة و سيئي الأخلاق الى حد لا يمكن التكلم معهم و لا إقامة العلاقات معهم.

4 - السهل و الأصل فيه الأرض المنبسطة في مقابل الأرض الوعرة غير الصالحة للزراعة.

طبعا ليس المراد أنه يجب التحلي بهذه الصفات في كل الحالات و الموارد و الظروف، لأنه في مثل الجهاد تجب الشدة و القسوة على الكفار، و بالنسبة للقيم و الأصول العقائدية لا يجوز التسامح و التساهل فيها بل يصدق في موردها قوله تعالى:

لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ (1) .

و إنما المقصود أنّه في العلاقات الإجتماعية و المعاملات و التصرفات مع الناس و خاصة بالنسبة للمؤمنين الذين يتواجدون في المناصب و المراكز، يجب أن يكونوا مع الناس رحماء و يعاملوهم برفق و بلطف و لين.

فإنهم إذا كانوا في تعاملهم مع الناس واجدين لهذه الصفات كان اللّه راضيا عنهم و حرّم عليهم النار يوم القيامة.(2)

ص: 163


1- سورة الكافرون: 2.
2- كلمات مضيئة: 24.

التعامل بالمودة و اللطف

قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «و ألزم نفسك التودد، و صبّر على مؤونات الناس نفسك، و ابذل لصديقك نفسك و مالك، و لمعرفتك رفدك و محضرك، و للعامة بشرك و محبتك، و لعدوك عدلك و إنصافك، و اضنن بدينك و عرضك عن كل أحد فإنه أسلم لدينك و دنياك».(1)

هذه التوصية جزء من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه محمد بن الحنفية، و فيها يقول له: ألزم نفسك التعامل بالمودّة و المحبة و اللطف مع الناس، و اصبر على تحمل النفقات و التكاليف و المصاريف التي تأتيك من قبل مشاكل الناس و متاعبهم، فإنه على الأنسان أن يصبر و يتحمل أمام المرارات و عدم المبالاة و الجفاء الذي يأتيه من قبل الناس.

ثم يبين له أنّ هنالك ثلاثة أصناف من الناس الذين يعاشرهم و لكل قسم منهم تكليف محدّد و عليه الإتيان بوظيفته المشخّصة معهم، و هم:

1 - الأصدقاء الأوفياء الأحباء الصادقون، و كما في تعبير بعض الروايات هم إخوان الصفا.

فهؤلاء يستحقون على الإنسان أن يبذل نفسه و ماله من أجلهم، كما إذا تعرضوا لخطر و كان إنقاذهم منه يستلزم الإقدام على الخطر و الوقوع فيه.

2 - المعارف من الناس الذين يجلس معهم و يحادثهم و يخالطهم و لكن لا بذلك المستوى الموجود في الصنف الأول. و هؤلاء ورد التعبير عنهم في بعض الروايات

ص: 164


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

بإخوان المكاشرة(1).

و حق هؤلاء أنه إذا جلس معهم و حادثهم و كانوا في مجلسه فعليه أن يقوم بضيافتهم و لا يقصّر معهم في شيء من العطاء لهم.

3 - عامة الناس و هؤلاء يجب أن يتعامل معهم بخلق حسن و مودة فلا يقطب وجهه أمامهم و لا يكون حادّ المزاج معهم.

و أما الأعداء فيجب أن يتعامل معهم بالعدل و الإنصاف حتى و إن كانوا أعداء، يقول اللّه تعالى وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا (2).

و أما دينه و عرضه و شرفه و مكانته فهذا يجب التمسك به و لا يعرضه لأحد من الناس أبدا، و لكن هذا لا يعني أنه و من أجل الحفاظ على شرفه و كرامته و عرضه يباح له أن لا يراعي و لا يحفظ كرامة و شرف الناس، بل المقصود هو أن لا يقوم بعمل يوجب إراقة ماء وجهه و كرامته(3).

ص: 165


1- عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين ع فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان فقال الإخوان صنفان إخوان الثّقة و إخوان المكاشرة فأمّا إخوان الثّقة فهم الكفّ و الجناح و الأهل و المال فإذا كنت من أخيك على حدّ الثّقة فابذل له مالك و بدنك و صاف من صافاه و عاد من عاداه و اكتم سرّه و عيبه و أظهر منه الحسن و اعلم أيّها السّائل أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر و أمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب لذّتك منهم فلا تقطعنّ ذلك منهم و لا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم و ابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه و حلاوة اللّسان. الكافي: 249/2 ح 3.
2- سورة المائدة: 8.
3- كلمات مضيئة: 128.

طلاقة الوجه و حسن اللقاء

من مواعظ عليّ عليه السّلام: «إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودّائهم، و ينفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم حسن البشر عند لقائهم و التفقّد في غيبتهم و البشاشة بهم عند حضورهم»(1)

إنّ حسن الوجه و بشاشتة و حسن التعامل سبب لكسب محبة الناس و تأليف قلوبهم، و قد ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم السّلام «التودد نصف العقل»(2) و هذا الحديث يجب أن ينتبه إليه كثيرا جميع المسؤولين في النظام الإسلامي و خاصة العلماء المتصدّين لبعض المسؤوليات في الإدارات و المؤسسات، لأنه كثيرا ما يراجعهم أشخاص ليسوا على مستوى من الإيمان و التديّن فإذا تعاملوا معهم ببرودة و بلا اهتمام و اعتناء بهم كان ذلك سببا لتضعيف اعتقادهم بالدين و تزلزل إيمانهم.

بينما على العكس من ذلك فيما لو كان التعامل معهم بأخلاق حسنة فإنّه يوجب أن تكون نظرتهم إلى الدين و الإسلام نظرة تفاؤلية فينجذبوا إليه(3).

(و في الحديث الشريف: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فألقوهم بطلاقة الوجه و حسن البشر)(4).

ص: 166


1- تحف العقول، صفحة: 218.
2- انظر البحار: 168/71 ح 35.
3- كلمات مضيئة: 130.
4- أصول الكافي: 103/2 ح 1.

الإحسان

أهمية الإحسان

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب صل من قطعك و اعط من حرمك و أحسن إلى من أساء إليك و سلّم على من سبّك و انصف من خاصمك و اعف عمّن ظلمك»(1).

هذه هي الأخلاق الإسلامية، فإن الإنتقام من الأخوة و الأصدقاء و الحقد و الضغينة لهم مرفوض مطلقا.

و لو أن شخصا أساء لأحد فقابله بالرد عليه ثم عاد الشخص الأول الإساءة و الآخر يجيبه بمثلها فحينئذ لن يكون للصلح و السلم و الصفاء أي أثر في المجتمع.

و لذلك يؤكد الإمام عليه السّلام في هذه الرواية على أمور:

إن الشخص الذي يقطع العلاقة و الإرتباط و الصلة معك لا تبادله بذلك بل صله و واصل الإرتباط معه.

و الشخص الذي يحرمك شيئا حينما يكون قادرا و مستطيعا عليه لا تقابله بالحرمان عند ما تستطيع و تقدر.

و الشخص الذي يسبّك ليكن ردّك عليه بالسلام.

ص: 167


1- تحف العقول، صفحة: 305.

و الشخص الذي يعاديك و يخاصمك و ينازعك تعامل معه بالعدل و الإنصاف.

و الشخص الذي يسيء إليك عامله بالإحسان.

و الشخص الذي يظلمك اعف عنه.

و بعبارة عامة و شاملة كل من تعامل معك بالسوء ليكن تعاملك معه بالإحسان.

و كل هذه الموارد هي في الحقيقة مصاديق لكلمة «يزكّيهم» في قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ (1).

و اليوم فإنّ عمدة إبتلاءات الناس ناشئة من عدم تعلّمهم لهذه المفاهيم الأخلاقية العالية، و جهلهم بأن الإنسان ليس فقط عليه أن لا يعتدي على الآخرين فضلا عن مقابلة إساءته بالإحسان إليه(2).

ص: 168


1- سورة الجمعة: 2.
2- كلمات مضيئة: 25.

العشرة

حسن المعاشرة

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: صلاح حال التعايش و التعاشر ملؤ مكيال، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل»(1).

في نظرة الإسلام للمجتمع أن الواجب على أفراد المجتمع أن يعيشوا معا في سلم و صلح و صفاء و محبّة و هدوء و طمأنينة.

و لأجل الوصول إلى هذا الهدف من المناسب و اللائق للناس في معاشرتهم معا، و كذلك بالنسبة لربّ العائلة مع أفراد عائلته و مدير المؤسسة أو الدائرة مع سائر الموظفين لديه أن يراعي هذين الأمرين:

1 - أن يكون فطنا ذكيّا و ملتفتا إلى أعمالهم التي يقومون بها و يراقبها بدقة بحيث لا يخفى عليه شيء منها.

2 - و في نفس الوقت الذي يكون فيه فطنا و واعيا، أن يكون في الموارد التي يشتبهون فيها و يتعثّرون متغافلا عن زلاّتهم هذه و يغض النظر عنها. و ذلك لأنه إذا أراد أن يحاسبهم على كل تعثّر و اشتباه منهم فإنّ هذا سيؤدي إلى مرارة العيش و عدم التحمّل في التعايش معا.

ص: 169


1- . تحف العقول، صفحة: 359.

طبعا هذا كله في المعاشرة بين الناس العاديّين، و أمّا الذين يتحمّلون المسؤوليات الكبيرة و الثقيلة و في عهدتهم التصدّي و القيام بها فهؤلاء لا يجوز لهم التغافل و غضّ النظر أصلا(1).

و قال الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الجواد عليه السّلام: «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإنّ اللّه يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحش، السائل الملحف، و يحبّ الحيىّ العفيف المتعفّف»(2).

إنّ القسم الأساسي من حياتنا هو المعاشرة و الإختلاط مع الناس.

فإذا كانت علاقتنا مع الآخرين منظّمة و مبنيّة على أساس المحبّة و الإحترام فسوف تزول كثير من الخشونات و الصعوبات.

إذن يجب أن نتعامل مع الآخرين بأفضل طريقة ننتظرها في معاملتهم معنا.

و عليه فهناك عدّة طوائف من الناس مبغوضة للّه تعالى و هم:

1 - الذين يلعنون الآخرين أو يسبّونهم أو يهينونهم و يطعنون عليهم.

2 - الذين يتعاملون مع الآخرين بحدّة و أذيّة و انتقام و يذيعون عيوب الآخرين أمام الناس.

3 - الذين يلحّون و يصرّون في سؤالهم و طلبهم من الآخرين (الطلب الشخصي).

و هناك طوائف أخرى يحبّهم اللّه تعالى و هم:

1 - الذين يستحون و يخجلون من القيام بالأفعال القبيحة بل من مشاهدة المناظر القبيحة أيضا.

2 - الذين يحلمون عن الآخرين و يسعونهم بكظم غيظهم تماما كالبحر المحيط البعيد الغور، فيتحمّلون إهانة الآخرين و يكفّون أنفسهم عن ردّة الفعل تجاهها، كما

ص: 170


1- كلمات مضيئة: 26.
2- تحف العقول، صفحة: 300.

أنّهم لا يتأثرون بمدح الآخرين لهم.

3 - الذين يتصفون بالعفّة، و يتصرّفون بنجابة و أصالة و عفّة و طهارة مع الآخرين(1).

ص: 171


1- كلمات مضيئة: 28.

كيفية العشرة

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و لا تكن فظّا غليظا يكره الناس قربك، و لا تكن واهنا يحقّرك من عرفك»(1).

يجب على الإنسان أن يأخذ طريق الإعتدال في مسيرة حياته، و يجتنب عن الإفراط و التفريط في الأمور.

فلا يكون خشنا فظّا و شرس الطبع بحيث يتجنّب الناس عن معاشرته و يكرهون التعامل معه و الإقتراب منه.

و لا يكون عاجزا ضعيفا لا حول له و لا قوّة بحيث يحتقره من يعرفه من الناس.

و في المجتمع يوجد أشخاص من النحو الذي ذكرناه، فبعض الناس لأجل أن لا يظهروا بمظهر الخفة و الحقارة يقع في التكبّر.

و بعضهم على العكس فلأجل أن لا يعرفوا بالخشونة و قسوة القلب يتظاهرون بالخفّة و الضعف و عدم القدرة. و كلا هذين الطريقين مذموم(2).

ص: 172


1- تحف العقول، صفحة: 304.
2- كلمات مضيئة: 28-29.

السكينة

أثر السكينة في النفس

السكينة معناها الطمأنينة و الاستقرار بعيدا عن الاضطراب، و يتجسد أثرها لدى الشخص المسؤول في إتخاذ القرار الصائب بكل هدوء و رويّة عند حدوث أية مشكلة، و عدم الوقوع في ارتباك و اضطراب و ضياع في حالة حصول أي أمر طارئ «وقور عند الهزائز»، و الوقوف أمام الأحداث الصعبة و العسيرة كالصخرة بل كالجبل، و إذا لاقى من الدنيا رخاء و رغدا لا يلفّه الضياع.

و هذا خطر آخر يقع فيه الإنسان و ذلك أنه بمجرد أن تنبسط يده و يرى أمامه المجال مفتوحا و استشعرت نفسه الراحة و السعة يلفّه الضياع و يسارع إلى إتخاذ قرارات عاجلة و لا يتورع عن الاستهانة بالآخرين، و تتسع نوازعه الأنانية فيرخي لها الزمام.

أما إذا اتصف بالسكينة - بما تعنيه من وقار و طمأنينة ربّانية - فهي كفيلة بلجم تلك النوازع، و منع الإنسان من الإتيان بأعمال تنمّ عن ضآلته و تفاهة قدره، أو تظهره و كأنه ريشة في مهب الريح تميل حيث ما مالت.

أمّا ذو السكينة فهو - في هذا التشبيه - كبحر بعيد الغور لا يمكن لأية نسائم أو أية ريح أن تثير أمواجه.

و السكينة تنفع الإنسان عند الفقر و في الغنى، و في حالة الوحدة أو عند الكثرة، فإذا

ص: 173

لم يكن المرء يتحلّى بالسكينة و الطمأنينة و الاتكال على اللّه و الثقة بالمستقبل و الاعتماد على ما لديه من مبادئ الحق فلا يتمالك نفسه في مقابل مثل هذه الحوادث، خاصة إذا توفّرت لديه قرائن دالة على وجود مخطط مرسوم من الأعداء لتلك الحوادث.

السكينة في القرآن

تحدث القرآن في مواضع عن السكينة(1) فقال في كتابه الكريم: إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ وَ كٰانُوا أَحَقَّ بِهٰا وَ أَهْلَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (2).

في هذه الآية نوع من المقارنة بين جبهة الكفر و جبهة الإيمان؛ فجبهة الكفر تستشعر الحمية و التعصب الجاهلي.

و هذه الأمور تتعلق بصلح الحديبية و ما تلاه من اختبارات مهمة و ذات مغزى

ص: 174


1- قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ التوبة: 26. و قال: إِلاّٰ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّٰهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثٰانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمٰا فِي اَلْغٰارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰاحِبِهِ لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلىٰ وَ كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ التوبة: 40. و قال: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً الفتح: 4. و قال: لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً الفتح: 18. و قال: وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة: 248.
2- سورة الفتح: 26.

عميق حصلت في عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؛ فبعد أن سار الرسول الأعظم إلى الحديبية قاصدا مكّة، و عند توقّفه في الحديبية حاول المشركون فرض الحرب عليه، غير أن التدبير الإلهي للنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله حال دون ذلك، و عاد المسلمون دون أن يدخلوا في الحرب، و تمكن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من عقد معاهدة مع المشركين، كانت على درجة من الأهمية بحيث أشارت إحدى الروايات إلى أن سورة الفتح نزلت بشأن هذه المعاهدة و عبّرت عنها بالفتح، و ذلك قوله تعالى: إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1).

و قد استطاع النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أن يشرح الأوضاع للمسلمين من خلال الآيات الشريفة و يعيّن لهم مواقع الجبهات(2).

إن القرآن و الإسلام يمنحان الإنسان العلم و الرفاه و العزة، و السكينة: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ (3)، فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ (4).

فبالإضافة إلى ما فيه من لذّة دنيوية و رفاه مادّي و قدرة علمية، فهو يضفي السكينة و الاطمئنان و الاستقرار، و هذا ما تمّت تجربته على مرّ التاريخ، و هو قابل للتجربة في عصرنا الراهن؛ ففي إيران الإسلام تقدمنا خطوة صغيرة فلمسنا آثارها و شاهدنا بركاتها، و هي تزداد كلما تقدمنا إلى أمام.

هذا هو سبيل الفلاح اليوم للأمة الإسلامية، و القرآن هو المقدمة و بمثابة الصراط المستقيم لها(5).

ص: 175


1- سورة الفتح: 1.
2- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.
3- سورة الفتح: 4.
4- سورة الفتح: 26.
5- من كلمة ألقاها في 2 شعبان 1421 ه - طهران.

و معنى قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ؛ أي عند ما نتخذ التقوى كلمة ثابتة و كلمة حق و تكليفا دائما.

يجب أن نضع التقوى نصب أعيننا في القول و الفعل؛ في عملنا مع زملائنا، و عند إتخاذ القرارات، و مع العاملين تحت إمرتنا، لأن إلتزامنا التقوى درس لهم، و سلوكهم درس لأبناء الشعب(1).

ص: 176


1- من كلمة ألقاها في: 16 رمضان 1420 ه - طهران.

الحب و البغض في اللّه

معنى الحب و البغض في اللّه

قال الصادق عليه السّلام: «من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في اللّه و تبغض في اللّه، و تعطي في اللّه و تمنع في اللّه»(1).

واحدة من أقوى و أوثق وسائل و أسباب الإيمان هي الحب في سبيل اللّه و البغض في سبيله.

و الحبّ و البغض مفهومان مرتبطان معا و لا انفكاك بينهما.

فالشخص الذي يفتتن بشخصية و الخلق الحسن للآخر و يعقد قلبه على حبّه و عشقه فهو يتنفّر من أعدائه و مخالفيه.

و يستفاد من هذه الرواية دور و أثر العواطف و الأحاسيس في مسألة الإيمان.

و يعلم أيضا أن الإيمان ليس فقط هو الفهم و الإدراك، و ذلك لأنّ الشخص الذي يعتقد بأمر ما من خلال البرهان و الدليل و لا يكون قلبه متعلقا بهذه العقيدة فإنّه لن يفعل شيئا اتّجاهها.

و واحدة أخرى من الحبال القوية و المحكمة للإيمان هي العطاء و المنع في سبيل اللّه.

ص: 177


1- تحف العقول، صفحة: 362.

و العطاء هو كلّ شيء محبوب من المال و المقام و النفس.

نسأل اللّه أن يوفّقنا للتمسّك بمقابض الإيمان(1).

و قال عليه السّلام: «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتّى يحبّ أبعد الخلق منه في اللّه، و يبغض أقرب الخلق منه في اللّه»(2).

لن يحصل الإنسان على حقيقة الإيمان حتى يكون أبعد الناس إليه - أي الأشخاص الذين ليسوا من أقاربه و لا من أحبّائه و أصدقائه - حبيبا له في اللّه أي لأجل دينه و تقواه و عمله الصالح.

بينما يكون أقرب الناس إليه - أي أقاربه و أصدقاءه و أودّاءه - أبغض الناس إليه في اللّه أي بسبب كفرهم و فسقهم و بعدهم عن اللّه.

و يستفاد بعد البحث و التحقيق في الروايات أنّ الإيمان ليس هو العلم و الإعتقاد فقط، بل إنّ العنصر العاطفي (الحبّ و البغض) معجون به أيضا. و لذا جاء في بعض الروايات: «هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض»(3).

و دور الحبّ و البغض و أثرهما في الإيمان كبير جدا إلى حدّ أنّهما إذا انفصلا عن الإيمان صار كالجسد بلا روح(4).

ص: 178


1- كلمات مضيئة: 147.
2- تحف العقول، صفحة: 369.
3- تفسير نور الثقلين: 83/5 ح 16.
4- كلمات مضيئة: 147.

أهمية الحب و البغض في اللّه

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي يباعد الشيطان منّا»، أي ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟ بالطبع أنتم تعرفون أنّ الشيطان هو أعم من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر و الفساد و الإنحراف و التي تقوم بحرف الإنسان بصور و قوالب مختلفة، فتارة تظهر بصورة إنسان و تارة بصورة غير إنسان و أحيانا تتمثل في الأهواء النفسية و مرة يكون إبليسا.

و الأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم كما في قصة آدم، و هؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين و لكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن، و هناك شياطين الإنس الذين يكونون أكثر خطرا في بعض الأحيان.

إذن ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:(1) «الصوم لله يسوّد وجهه(2).

لأن الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضّللة و يمنعها من الطغيان.

«و الصدقة تكسر ظهره» لأن الصدقة هي إيثار من الإنسان فيما يملك «و الحب في اللّه تعالى و المواظبة على العمل الصالح يقطع دابره».

و هاتان الخصلتان هما أهم من تلك التي سبقتهما و إحدى هاتين الخصلتين هي الحب في اللّه و التي تعني توجيه العواطف و لا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.

ص: 179


1- و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: أ لا أخبركم بشيء إن فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال:...، و ذكر الحديث سواء إلا أن فيه: «المؤازرة» بدل «المواظبة»، انظر الكافي: 62/4 ح 2.
2- مستدرك الوسائل: 154/7 ح 7894، و البحار: 264/60.

فإذا كنتم تحبون أحدا فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا.

و الرويات الواردة في مسألة «الحب و البغض في اللّه» هي روايات كثيرة و مفصلة، و في كتاب الكافي يوجد باب(1) في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب

ص: 180


1- باب الحبّ في اللّه و البغض في اللّه: 1 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن عيسى و أحمد بن محمّد بن خالد و عليّ بن إبراهيم عن أبيه و سهل بن زياد جميعا عن ابن محبوب عن عليّ بن رئاب عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال من أحبّ للّه و أبغض للّه و أعطى للّه فهو ممّن كمل إيمانه. 2 - ابن محبوب عن مالك بن عطيّة عن سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في اللّه و تبغض في اللّه و تعطي في اللّه و تمنع في اللّه. 3 - ابن محبوب عن أبي جعفر محمّد بن النّعمان الأحول صاحب الطّاق عن سلاّم بن المستنير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه من أعظم شعب الإيمان ألا و من أحبّ في اللّه و أبغض في اللّه و أعطى في اللّه و منع في اللّه فهو من أصفياء اللّه. 4 - الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول إنّ المتحابّين في اللّه يوم القيامة على منابر من نور قد أضاء نور وجوههم و نور أجسادهم و نور منابرهم كلّ شيء حتّى يعرفوا به فيقال هؤلاء المتحابّون في اللّه. 5 - عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن فضيل بن يسار قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحبّ و البغض أ من الإيمان هو فقال و هل الإيمان إلاّ الحبّ و البغض ثمّ تلا هذه ال آية حبّب إليكم الإيمان و زيّنه في قلوبكم و كرّه إليكم الكفر و الفسوق و العصيان أولئك هم الرّاشدون. 6 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد اللّه عن محمّد بن عيسى عن أبي الحسن عليّ بن يحيى فيما أعلم عن عمرو بن مدرك الطّائيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه أيّ عرى الإيمان أوثق فقالوا اللّه و رسوله أعلم و قال بعضهم الصّلاة و قال بعضهم الزّكاة و قال بعضهم الصّيام و قال بعضهم الحجّ و العمرة و قال بعضهم الجهاد فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكلّ ما قلتم فضل و ليس به و لكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّه و البغض في اللّه و توالي أولياء اللّه و التّبرّي من أعداء اللّه. 7 - عنه عن محمّد بن عليّ عن عمر بن جبلة الأحمسيّ عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتحابّون في اللّه يوم القيامة على أرض زبر جدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه و كلتا يديه يمين وجوههم أشدّ بياضا و أضوأ من الشّمس الطّالعة يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرّب و كلّ نبيّ مرسل يقول النّاس من هؤلاء فيقال هؤلاء المتحابّون في اللّه 8 - عنه عن أبيه عن النّضر بن سويد عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثّماليّ عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال إذا جمع اللّه عزّ و جلّ الأوّلين و ال آخرين قام مناد فنادى يسمع النّاس فيقول أين المتحابّون في اللّه قال فيقوم عنق من النّاس فيقال لهم اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب قال فتلقّاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنّة بغير حساب قال فيقولون فأيّ ضرب أنتم من النّاس فيقولون نحن المتحابّون في اللّه قال فيقولون و أيّ شيء كانت أعمالكم قالوا كنّا نحبّ في اللّه و نبغض في اللّه قال فيقولون نعم أجر العاملين. 9 - عنه عن عليّ بن حسّان عمّن ذكره عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ثلاث من علامات المؤمن علمه باللّه و من يحبّ و من يبغض. 10 - عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم و حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ الرّجل ليحبّكم و ما يعرف ما أنتم عليه فيدخله اللّه الجنّة بحبّكم و إنّ الرّجل ليبغضكم و ما يعرف ما أنتم عليه فيدخله اللّه ببغضكم النّار. 11 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن العرزميّ عن أبيه عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة اللّه و يبغض أهل معصيته ففيك خير و اللّه يحبّك و إن كان يبغض أهل طاعة اللّه و يحبّ أهل معصيته فليس فيك خير و اللّه يبغضك و المرء مع من أحبّ. 12 - عنه عن أبي عليّ الواسطيّ عن الحسين بن أبان عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال لو أنّ رجلا أحبّ رجلا للّه لأثابه اللّه على حبّه إيّاه و إن كان المحبوب في علم اللّه من أهل النّار و لو أنّ رجلا أبغض رجلا للّه لأثابه اللّه على بغضه إيّاه و إن كان المبغض في علم اللّه من أهل الجنّة. 13 - محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن النّضر بن سويد عن يحيى الحلبيّ عن بشير الكناسيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قد يكون حبّ في اللّه و رسوله و حبّ في الدنيا فما كان في اللّه و رسوله فثوابه على اللّه و ما كان في الدّنيا فليس بشيء. 14 - عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن عثمان بن عيسى عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشدّهما حبّا لصاحبه. 15 - عنه عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر و ابن فضّال عن صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ما التقى مؤمنان قطّ إلاّ كان أفضلهما أشدّهما حبّا لأخيه. 16 - الحسين بن محمّد عن محمّد بن عمران السّبيعيّ عن عبد اللّه بن جبلة عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال كلّ من لم يحبّ على الدّين و لم يبغض على الدّين فلا دين له. الكافي: 128/2 ح 1 الى 16.

ص: 181

الحديث الاخرى(1).

و قال الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «حبّ الأبرار للأبرار ثواب للأبرار، و حبّ الفجّار للأبرار فضيلة للأبرار، و بغض الفجّار للأبرار زين للأبرار، و بغض الأبرار للفجّار خزي على الفجّار»(2).

تبيّن هذه الرواية قيمة المحبّة و البغض بين الناس على النحو التالي:

1 - إنّ محبّة الأبرار بعضهم بعضا موجبة للثواب و الأجر لهم.

2 - إنّ محبّة الفجّار للأبرار تعتبر فضيلة و مكرمة للأبرار.

3 - إنّ بغض و عداوة الفجّار للأبرار تعتبر زينا للأبرار.

طبعا بغض الفجّار للأبرار هنا لأجل صفاتهم الحميدة.

4 - إن بغض و عداوة الأبرار للفجّار توجب الخزي و المذلّة للفجّار(3).

و قال الإمام محمّد الجواد عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى بعض الأنبياء، أمّا زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، و أما انقطاعك إليّ فيعززك بي، و لكن هل عاديت لي عدوّا و واليت لي وليّا»(4)

الأشخاص الذين لم تأسرهم الماديّات و لم يخضعوا لتجاذبات الكماليّات و الزوائد المعيشية، فهؤلاء يعيشون براحة و اطمئنان، و هذا هو الربح المعجّل للزاهد.

ص: 182


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- تحف العقول، صفحة: 487.
3- كلمات مضيئة: 145.
4- تحف العقول، صفحة: 456.

و أما الإنقطاع و التحرر عمّا سوى اللّه تعالى و الإرتباط باللّه تعالى فهو وسيلة العزة في المجتمع، و هذا أيضا ربح معجّل.

إذن فهاتان الصفتان في الواقع من الأمور المريحة. و لكن هل قمت بعمل صعب و شاق في سبيل اللّه تعالى؟ فهل عاديت عدو اللّه و واليت وليّ اللّه؟

و في بيان آخر لهذا الحديث:

الزهد في الدنيا يوجب الراحة و الإنقطاع إلى اللّه تعالى يجعلك من عبادنا المطيعين العاملين بتكاليفهم فيوجب لك العزة الحقيقية.

(و هذا كناية عن كون هذه الأمور يعود نفعها إلى الإنسان)

و أما الأمر المهم فهو الموالاة في اللّه و المعاداة في اللّه فهل اتخذت عدو اللّه عدوّا لك و هل اتخذّت وليّ اللّه وليا لك؟ بمعنى أنك هل قمت بالعمل الذي فيه مشقّة و صعوبة و ابتلاء أم لا؟(1)

ص: 183


1- كلمات مضيئة: 116.

حب اللّه أصل الدين

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «هل الدين إلاّ الحبّ؟ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1).(2).

إنّ أصل و أساس الدين هو الحبّ للّه تعالى و رسله.

و إنّ إتّباع الأنبياء العظام و الرسل الكرام عليهم السّلام و كذلك أهل بيت النبوة و الطاهرة صلوات اللّه عليهم متفرّع عن هذا الحبّ، و الواقع هو هكذا، فإنه إذا لم يكن هناك محبّة في هذا الأمر فإنّ أكثر الأعمال الدينية شاقة و ثقيلة و الإنسان بطبيعته يتهرّب من عبء و مشقّة التكليف.

و لذلك تجد أنّ الإنسان الذي يؤدي صلاته و صيامه و سائر التكاليف الدينية عن كره و بلا رغبة، مشكلته تكمن في أنه قليل المحبّة للّه تعالى، و إلاّ فإنّ الإنسان الذي يضع قدمه في وادي المحبة الإلهية فإنه يسعى وراء التكاليف و يؤدّيها بشوق و شغف.

طبعا إنّ السبب في تكوّن و وجود هذه المحبّة هو المعرفة أو الأعمال العبادية.

فإذا قام الإنسان بالإتيان بالعبادات متوجّها بها نحو اللّه تعالى فلا شك في أنّ الحب الإلهي سوف يأخذ مكانه في قلبه، و إذا حلّت المحبة الإلهية في قلبه فهذا سوف يكون سببا باعثا للقيام بالأعمال و التكاليف بشوق و شغف.

إذن فهناك تأثير متبادل من كلا هذين الأمرين (المحبة - و الأعمال العبادية).

ص: 184


1- سورة آل عمران: 31.
2- الخصال، باب الواحد، ح: 74.

و من لوازم اتباع اللّه سبحانه و تعالى هو حبّ اللّه تعالى لعبده و هذا نفسه جنّة المقرّبين الإلهيين.

فنسأل اللّه تعالى أن يجعل نور محبّته مشعّا في قلوبنا(1).

ص: 185


1- كلمات مضيئة: 145.

بين حب اللّه تعالى و الخوف منه

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الحبّ أفضل من الخوف، و اللّه ما أحبّ اللّه من أحبّ الدنيا و والى غيرنا، و من عرف حقّنا و أحبّنا فقد أحبّ اللّه»(1)

هناك سببان و علّتان لقيام الإنسان بالأعمال و النشاطات و العبادات هما: المحبّة و الخوف.

إنّ الخوف من اللّه تعالى و إن كان سببا مهمّا جدّا، و قد جاء في القرآن و الروايات ما يحثّ و يشجع عليه، إلاّ أنه في مقام التقييم تعتبر المحبّة أفضل من الخوف.

فإذا كان الإنسان يأتي بعباداته بداعي المحبّة و العشق الإلهي فعباداته أفضل مما إذا أتى بها بداعي الخوف من اللّه.

و عنوان المحبة لا ينبغي أن يخدع الإنسان لأن المحبّة إذا كانت موجودة في القلب فالإنسان يتخطي و لن يتجاوز قيد أنملة عن أوامر محبوبه. و كما قال اللّه تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي (2).

إذن فالمحبّة لا نحصل عليها بالإدّعاء بل تتحقق من خلال سلوك طريق التعبّد و القرب إلى اللّه تعالى، و تكون المحبّة مسيطرة على تمام وجود الإنسان(3).

ص: 186


1- تحف العقول، صفحة: 357..
2- سورة:.
3- كلمات مضيئة: 146.

شكر النعم

عظمة الشكر و أهميته

قال الإمام أبو الحسن الثالث عليه السّلام: «الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر، لأنّ النعم متاع، و الشكر نعم و عقبى»(1).

الإنسان الذي يشكر اللّه تعالى لأجل النعم التي وهبها له تكون سعادته بشكره هذا أكثر و أشدّ من سعادته بالنعمة التي وهبت له.

و السرّ في ذلك هو أنّ النعم التي تعطى له ليست إلاّ منفعة و متاعا دنيويّا و هو قابل للزوال و الذهاب.

بينما الشكر على هذه النعم يوجب بقاء و دوام هذه النعم و عدم زوالها مضافا إلى الثواب و الأجر الأخروي المترتّب على الشكر.(2)

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «و الواجب على من وهب اللّه له الهدى و أكرمه بالإيمان و ألهمه رشده و ركّب فيه عقلا يتعرّف به نعمه و آتاه علما و حكما يدبّر به أمر دينه و دنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه و لا يكفره، و أن يذكر اللّه و لا ينساه، و أن

ص: 187


1- تحف العقول، صفحة: 483.
2- كلمات مضيئة: 169.

يطيع اللّه و لا يعصيه»(1).

الإنسان الذي يكون موردا لنظر اللّه و لطفه و عنايته في الأمور التالية:

1 - أنعم عليه بالهداية هبة و هدية منه تعالى و أكرمه بالإيمان و الإعتقاد الرّاسخين.

2 - ألهمه الرشد في القيام بالعمل الصحيح و الصالح.

3 - أعطاه العقل و الحكمة ليتعرف بهما على النعم الإلهية و ليدبّر بهما أمور دينه و دنياه.

فهذا الإنسان يجب عليه أن يقوم بأمور ثلاثة في المقابل:

1 - شكر هذه النعم الإلهية فلا يجحدها و يكفر بها.

2 - تذكّر اللّه تعالى دائما و عدم نسيانه أبدا.

3 - إطاعة اللّه في أوامره و اجتنابه عن معصيته فيما نهى.

و من البديهي و الواضح أن وجوب هذه الأمور ليس وجوبا شرعيّا بل هو وجوب عقلي، و لذلك يحكم بها عقل الإنسان حتى و إن لم ترد في الشرع أصلا.

بمعنى أن عقل الإنسان و وجدانه يدعوانه إلى الشكر و الذكر و الإطاعة للّه تعالى على تلك النعم(2).

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، و لا يغلب الحرام صبره»(3).

الإنسان العاقل هو الذي إذا اكتسب نعمة من طريق حلال لا تشغله هذه النعمة عن شكر اللّه تعالى، و لا الأمر الحرام يغلب صبره و تحمّله.

و من أقسام الصبر و فروعه الصبر على المعصية، بمعنى أنّ الإنسان العاقل عند ما

ص: 188


1- تحف العقول، صفحة: 306.
2- كلمات مضيئة: 58.
3- تحف العقول، صفحة: 386.

يواجه و يقف أمام المال الحرام لا يغلبه هوى نفسه الأمّارة فلا يمدّ يده إلى هذا المال(1).

المحافظة على النعم

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: «قال سليمان بن داود عليه السّلام: أوتينا ما أوتي الناس و ما لم يؤتوا، و علّمنا ما علّم الناس و ما لم يعلّموا، فلم نجد شيئا أفضل من خشية اللّه في الغيب و المشهد، و القصد في الغنى و الفقر، و كلمة الحق في الرضا و الغضب، و التضرع الى اللّه عزّ و جلّ في كل حال»(2).

يقول النبي سليمان على نبينا و آله و عليه السّلام: إنّ اللّه تبارك و تعالى أعطانا كل النعم التي أعطاها للناس و خصّنا بنعم لم يعطها لهم، و أعطانا كل العلوم التي عند الناس و خصّنا بعلوم لم يعطها لهم، فلم نجد من بينها كلها شيئا أفضل من أربعة أمور:

1 - الخوف و الخشية من اللّه تعالى في السر و العلن و الغيب و المشهد.

2 - القصد و الإعتدال في الغنا و الفقر و الضيق.

3 - قول الحق في حال الرضا و الراحة و الهدوء و في حال الغضب و السخط.

فإن إحدى المخاطر التي تهدد الناس هي هذه المسألة، حيث إنهم في حالتهم العادية حيث الراحة و الطمأنينة يقولون الحق، و لكنّهم في حال الغضب يفلت زمام الأمور من أيديهم و ينطلق لسانهم بالقول الباطل و القبيح.

4 - التضرّع و الإستغاثة و الطلب من اللّه تعالى في كل الحالات سواء كان يواجه المخاطر و الأحداث أم لا.

فإن التضرع و الطلب من اللّه تعالى عمل مرضي و محبوب لله و قد رغّب و حثّ

ص: 189


1- كلمات مضيئة: 89.
2- الخصال/باب الأربعة/ح 246.

عليه اللّه في القرآن الكريم فقال فَلَوْ لاٰ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا تَضَرَّعُوا (1).

و لكن يجب الإلتفات الى أنّ التوفيق الى هذه الأمور لا يحصل للإنسان دائما، و ما أكثر الأسباب المانعة من حصول هذه النعمة. و لذلك قال اللّه تعالى وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ (2)، و ذلك لأن الإنشغال بالمظاهر الدنيوية يوجب قسوة القلب، و قسوة القلب تمنع من حصول التضرّع، و إذا لم يتضرّع الإنسان فإنّ باب الفرج يغلق أمامه(3).

ص: 190


1- سورة الأنعام: 43.
2- سورة الأنعام: 43.
3- كلمات مضيئة: 11.

شروط شكر النعم

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أنعم اللّه عليه نعمة فعرفها بقلبه و علم أنّ المنعم عليه اللّه فقد أدّى شكرها و إن لم يحرّك لسانه، و من علم أنّ المعاقب على الذنوب اللّه فقد استغفر و إن لم يحرّك به لسانه، و قرأ: إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ (1).(2).

يبتنى الشكر على قاعدتين أساسيّتين:

إحداهما: أن يعلم الإنسان أن كل ما عنده من مال و مقام و استعداد و غيرها من النعم هي من اللّه تعالى. و لا يتوهّم أنه حصل عليها من خلال سعيه و جهده و عمله.

و الأخرى: أن يعرف هذه النعم الإلهية، فإنّ الإنسان لغفلته كثيرا ما يغفل عن التوجّه و الإلتفات إلى النعم الإلهية التي يواجهها يوميّا في حياته.

فمثلا الطعام الذي يأكله يحتاج إلى مقدار كثير من الأسباب و المعدّات من قبيل الأسنان و اللّسان و القدرة على الإبتلاع و قوّة الجذب و الدفع بحيث إذا فقد أحدها اختلت التغذية لديه.

و حينئذ فإذا اعتقد الإنسان بقلبه بهاتين القاعدتين كان في الحقيقة و الواقع شاكرا للّه تعالى و إن لم يحرّك لسانه بذلك، و كذلك الإنسان الذي يعتقد بأنّ اللّه تعالى سوف يعاقب الإنسان على ذنوبه و معاصيه كان في الحقيقة مستغفرا حتى و إن لم يحرك لسانه بذلك.

ص: 191


1- سورة البقرة: 284.
2- تحف العقول، صفحة: 369.

نعم الشكر و الإستغفار باللسان مطلوبان أيضا لأجل رفع الغفلة عمّا ذكرناه، لأن أسباب الغفلة محيطة بنا من جميع الجوانب(1).

وجوب شكر النعم الإلهية

من الطبيعي أن إحصاء النعم الإلهية لا يتاح لأي كان، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا (2).

و حتى في دعاء عرفة - الذي آمل أنكم قد وفّقتم لقراءته، و سيحالفكم الحظ في كل سنة إن شاء اللّه في أيام عرفة لقراءته و التدبّر في معانيه - تلاحظون أن الإمام الحسين بن علي عليه السّلام يقول في أوائله: «أنا أشهدك يا إلهي بحقيقة إيماني و عقد عزمات يقيني و خالص صريح توحيدي و باطن مكنون ضميري... أن لو حاولت و اجتهدت.. أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلاّ بمنّك...»(3).

فالحسين بن علي عليه السّلام - هذا الجندي المضحّي الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام و القيم المعنوية - يذكر مجموعة من النعم الإلهية مفصّلا جزئياتها في ما يقارب صفحة واحدة، ليقول إنّني غير قادر و بكل ما أوتيت من قوّة على أن أشكر نعمة واحدة من نعمك، و إذا وفقت لشكر نعمة، فهذا التوفيق على الشكر يعد بحد ذاته نعمة من اللّه.

فما كل أحد يكتب له التوفيق و لا كل أحد يرى جمال الحقيقة و المعنوية ليثني عليه، و لا كل أحد يدرك عظمة الفضل الإلهي، و وجود النعمة الإلهية، فالغفلة و الأنانية و الغرور لا تتيح لنا أن ننتبه إلى أننا في محضر زاخر بالألطاف الإلهية، أو أن نلتفت إلى

ص: 192


1- كلمات مضيئة: 170.
2- سورة إبراهيم: 34.
3- بحار الأنوار: 217/95.

ماهية هذه الألطاف و النعم. فإذا ما كتب التوفيق لأحد لكي يتغلب في دوافعه و نواياه الذاتية و المادية على الغرور و الهوى و قصور النظر، و تمكّن من مشاهدة الجمال المعنوي، و وقف أمامه موقف إجلال و تعظيم و خشع له قلبه، فهذا بحد ذاته نعمة إلهية كبرى تستلزم الشكر، و الإنسان غير قادر مطلقا على شكر النعم الإلهية حق قدرها.

من أكبر المفاخر التي يحرزها المرء في مجال عمله هو أن يكون ذلك العمل في خدمة بلده و شعبه و أهدافه، و أن تكون فيه خدمة معنوية لكل الإنسانية. كم من الناس اليوم يكدحون صباح مساء و بكل طاقاتهم و جهودهم إلاّ أنّ جهدهم مكرّس لخدمة الظلم و التمييز و الشر، و ينتج بمجموعه قتل الناس و تقوية عروش الطواغيت، فعملهم لا ينتفع به أحد، و لا تعمر به الدنيا، و لا الإنسانية منه في راحة، و لا الظلم به يزول، فليس في عمل هؤلاء مفخرة لهم.

ينصبّ الاهتمام في العالم المادّي الذي اعتاد على حمل السلاح، و تعارف على التسلّح و اكتساب المهارة الحربية، على وضع تلك المهارة و التجربة تحت إرادة أشخاص استحوذت عليهم الأنانية! لاحظوا بإمرة من تأتمر الجيوش الكبرى في العالم اليوم. الأشخاص الذين تأتمر بإمرتهم و تخضع لقراراتهم ينفقون مليارات الدولارات و يأتون بالجيوش و المعدات من أقصى نقاط العالم إلى بقعة حساسة و غنية بالنفط مثلا لحماية شخص و للهجوم على شيء أو لنهب ثروة! و لكن من هم هؤلاء؟ من هذه الحفنة من أراذل الناس المتمكنة من القدرات المادية و المتسلطة على الجيوش؟

في تلك الجيوش يتحرك مئات الآلاف من الناس، و يأتمرون بالأوامر، و يرسلون هنا و هناك و يقتلون و يجرحون و يتعرضون للمآسي و الحرمان من أطفالهم و نسائهم، و تعيش أسرهم لوعة فراقهم و تتحمل الآلام و العناء، و لكن بأمر من يجري كل هذا؛ و لأي شيء؟ و ما هي الغاية؟ و ما هي النوايا الكامنة وراء هذه التحركات في العالم

ص: 193

كلّه؟

أنتم ترون تلك النوايا الخبيثة و المآرب الفاسدة و النفوس الحقيرة.

هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم و إنّما هذا هو وضع الجيوش في عرف العالم على امتداد التاريخ، ففي الماضي كانوا يسوقون ملايين الناس في السفن أو على ظهور الخيل من قارة إلى قارة لاحتلال مضيق أو بحيرة أو نهر أو بلدة، و كان كثيرا ما يحصل أنهم يعودون خائبين مهزومين بعد سنوات من العناء! فمن هم اولئك الذين كانوا يجيّشون تلك الجيوش؟ و بإرادة من كانوا يسيرون؟ فهل كانت هناك ذرّة من معاني القيم الإلهية و الإنسانية و المعنوية حاكمة على تلك الجهود؟

و مع كل هذا، إذا شعر إنسان أنه يعيش في مؤسسة عسكرية بناؤها على أن لا تطلق رصاصة واحدة إلاّ من أجل إقامة حق أو دحض باطل، و في سبيل إزاحة ظلم و إقرار عدل، و من أجل أن يتمكن شعب مؤمن باللّه من صيانة استقلاله و شخصيته و هويّته من عدوان المعتدين، أ فليست هذه مفخرة لذلك الإنسان؟ لا شكّ في أنها تستلزم شكرا كثيرا.

يجب على من يعملون اليوم في جيش الجمهورية الإسلامية لهذه الأهداف النبيلة أن يشعروا أنّ عملهم هذا طاعة للّه و عبودية له.

الإمام السجاد عليه السّلام يسأل اللّه تعالى في الدعاء المبارك المسمى بدعاء مكارم الأخلاق - و هو من أدعية الصحيفة السجادية و أوصيكم بقراءته - كل ما هو لازم لكمال الإنسان قائلا: «اللّهم صلّ على محمّد و آله و اكفني ما يشغلني الاهتمام به و استعملني بما تسألني غدا عنه و استفرغ أيامي في ما خلقتني له»(1) أي أن تكون عامة الحياة لذلك الهدف و في ذلك الطريق الذي من أجله خلق الإنسان(2).

ص: 194


1- الصحيفة السجادية الكاملة: 99 ح 20.
2- من كلمة ألقاها في: 20 ذي الحجة 1418 ه ق - طهران.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «نعمتان مفتون بهما كثير من الناس الفراغ و الصحّة».(1)

هناك نعمتان من النعم الإلهية هما محل ابتلاء و افتتان أكثر الناس، و هما الصحة و الفراغ.

فأحد وجوه الإبتلاء و الإختبار بهاتين النعمتين هو أنّ أكثر الناس يمتلكون هاتين النعمتين و لكنهم لا يعرفون قيمتهما ليشكروا اللّه تعالى عليهما. و الذي يعرف للنعمة قدرها و قيمتها هو الذي كانت بيده ثم فقدها.

فالأشخاص الذين لديهم انشغالات مختلفة و متنوعة يعرفون قيمة و قدر نعمة الفراغ و يدركونها.

فإنّ الإنسان في ذاك الحين يفكّر كثيرا في نفسه و فيما ينفعها و في سعادته و بالأعمال التي يريد إنجازها.

و نعمة الصحة و السلامة من هذا القبيل أيضا، فإنّ الإنسان ما لم يبتل بالمرض لا يعرف قيمة و قدر السلامة و الصحة.

ففي بدن الإنسان أعضاء مختلفة و أجهزة متنوعة، و إذا تعرض أحدها لحادثة ما صارت حياة الإنسان و سعادته صعبة و شاقة.

و وجه آخر للإبتلاء و الإختبار بهاتين النعمتين هو أنّ بعض الناس يسيئون الإستفادة منهما، و بدلا من أن يستفيدوا منهما في طريق الكمال ينتفعون بهما في طريق الفساد. و كما قال الشاعر:

إنّ الشباب و الفراغ و الجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

إذن فعلى الإنسان أن يكون شاكرا للّه تعالى على هذه النعم بلسانه و فعله(2).

ص: 195


1- الخصال، باب الإثنين، ح: 7.
2- كلمات مضيئة: 170.

ترك الشكر يؤدي لزوال النعمة

قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام: «يا علي، أحسنوا جوار النعم فإنها وحشيّة، ما نأت عن قوم فعادت إليهم»(1)

على الإنسان أن يتعامل مع النعم معاملة حسنة و لائقة بها و هو أن يكون شاكرا لها و يعمل على طبق ما تقتضيه.

فإذا لم يقم بأداء شكرها بالنحو المطلوب و اللائق فسوف يسلبها اللّه عنه، يقول للّه تعالى: وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (2).

و إذا سلبت النعم الإلهية من المجتمع الإنساني كان عودها و رجوعها إليه صعبا جدا و كما يقول الإمام علي عليه السّلام: «قلّ ما أدبر شيء فأقبل»(3).

و من النعم الإلهية الكبرى في عصرنا الحاضر هو إقدام الناس و إقبالهم و توجههم على الدين فيجب تقدير ذلك و الإهتمام به، لأنّه إذا لم نهتم بهذا الأمر و لم نشكر هذه النعم فسوف تسلب عنّا و بعد ذلك لن يكون من السهل رجوعها إلينا(4).

ص: 196


1- تحف العقول، صفحة: 448.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- الكافي: 38/4 ح 3.
4- كلمات مضيئة: 169.

الحلم و الصمت

تعريف الحلم و أهميته

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم»(1).

اجتماع الحلم و العلم في الإنسان أفضل و أكثر قيمة من كلّ الأمور و الأشياء.

و الحلم هو التحمّل وسعة الصدر عند ظهور الحوادث المختلفة.

و الإنسان الحليم هو الذي لا يفلت من يده عنان اختياره عند غضبه، و لا يقدم على الأعمال غير اللاّئقة المنافية لشأنه و لا الأعمال القبيحة السيئة.

و كذلك إذا أتته نعمة فإنه لا يخرجه شوقه و فرحه بها عن جادة الإعتدال و لا يخسر نفسه.

و إذا نال منصبا أو مقاما أو سمة فلا يفتتن به و لا يبتلى بالتكبّر و العجب.

بل حتّى إذا حصل على مقام عال في العلم و المعرفة، و إن كان العلم في نفسه ذا قيمة كبيرة، فإنه لا يصاب بالغرور و العجب بالنفس(2).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن، و قودوها إلى المكارم،

ص: 197


1- الخصال: باب الواحد، صفحة: 1.
2- كلمات مضيئة: 172.

و عوّدوا أنفسكم الحلم»(1).

فالحلم ليس معناه عدم الغضب فقط، بل يكون بمعنى السعة و التّحمّل أيضا فالإنسان في مقابل ما يعرض عليه من أسباب الغضب أو أسباب الغرور و العجب أو الفرح و السرور المزيّنين الخاليين من أيّة فائدة، يجب أن يكون كالبحر الذي تهدأ بالوصول إليه الأنهار الصاخبة المتلاطمة لأنّه يضمّها و يبتلعها في نفسه كلها جميعا(2).

و كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام: يا علي ثلاثة من لم تكن فيه لم يقم له عمل: «ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّ و جلّ.

و خلق يداري به الناس.

و حلم يردّ به جهل الجاهل.»(3)

و من هذه الأمور: خلق يداري به الناس، فإنه إذا لم يكن لديه صفة المداراة مع الناس فإنه لن يصل إلى شيء في هذه الدنيا لأنّ الناس مختلفون في الفكر و المصالح، و الحياة ساحة مليئة بالتزاحم و التصادم و التضاد بين مصالح الناس. فإذا لم يتعامل معهم بمداراة و كان يتصادم و يتعارك مع كل شخص لا يتّفق معه بالأفكار و المصالح فإنّ حياته و الآخرين أيضا سوف تتحوّل الى جهنّم.

و من هذه الأمور: حلم يردّ به جهل الجاهل: و المراد من الجاهل هنا ما يقابل العاقل فإن الإنسان حينما يتعامل مع الأشخاص السّفهاء في المعاملات و المبادلات التجاريّة يجب عليه أن يتحلى بالحلم، فإذا تكلم معه شخص كلاما سفهيّا أو تصرّف معه تصرّفا سفهيّا كذلك يجب عليه أن يعفو و يتسامح معهم بحلمه، لأنّه إذا أراد أن يبادلهم بالمثل فإنّه سيواجه المشاكل و المتاعب في حياته(4).

ص: 198


1- تحف العقول، صفحة: 224.
2- كلمات مضيئة: 46.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
4- كلمات مضيئة: 17.

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «من زين الإيمان الفقه، و من زين الفقه الحلم، و من زين الحلم الرفق، و من زين الرفق اللين، و من زين اللين السهولة»(1).

المراد من الفقه هنا العلم و المعرفة.

فالعلم و المعرفة زينة الإيمان.

و الحلم و التحمّل و الصبر زينة العلم.

و الحلم معناه أن يكون الإنسان لديه السعة كالبحر العميق الواسع الذي لا يضطرب و لا يثور لأقلّ الأمور، بل يكون عند وقوع الحوادث هادئا غير مضطرب.

و زينة الحلم الرفق و المداراة و المؤالفة مع الناس.

و زينة الرفق و المداراة اللين و التعامل الحسن مع الناس لا الشدّة و الخشونة.

و زينة اللين السهولة، بمعنى تهيئة الأجواء لأجل راحة الناس و إزالة الموانع عن ذلك(2).

حلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أسوة

و كم كان يعامل أعداءه المقهورين بسلوك لم يكونوا قادرين على فهمه و إدراكه؛ ففي السنة الثامنة للهجرة، و عند ما دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله مكة فاتحا بكل عظمة و اقتدار فإنه قال: «اليوم يوم المرحمة»(3) و لم يثأر من أهلها. و هذه هي شهامته و حلمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.(4)

لقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله شديد التحمل لدرجة أن الآخرين كانوا يغضبون عند سماع ذلك، و هو الذي لا تنال منه الشدائد و لا تستفزّ غضبه. و كان الأعداء يؤذونه في مكة

ص: 199


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 19.
3- شرح نهج البلاغة: 272/17.
4- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

لدرجة أن أبا طالب استشاط غضبا منهم و جرّد سيفه ذات مرة و توجّه إليهم مع أحد مواليه و فعل بهم ما فعلوه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تهدّد كلّ من يعترض سبيله بضرب عنقه(1)، بينما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد تحمل كل ذلك بحلم و أناة.

و ذات يوم آخر وجّه إليه أبو جهل إهانة شديدة إثر نقاش حادّ بينهما، فقابلها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بالحلم و السكوت، و عند ما أخبر أحدهم حمزة قائلا بأن أبا جهل أساء إلى ابن أخيك فإنه تميّز غيظا و قصد أبا جهل فضربه بالقوس على رأسه حتى شجّ رأسه، ثم أسلم حمزة بعد ذلك جرّاء هذا الحادث.

و أمّا بعد الإسلام فقد كان بعض المسلمين يوجّه إلى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أحيانا كلمات تؤذيه غفلة أو جهلا فيما يخص بعض الأمور، لدرجة أن إحدى أزواجه - و هي زينب بنت جحش التي كانت من أمّهات المؤمنين - خاطبته بالقول: إنك لا تعدل و أنت نبي!

فابتسم النبي صلّى اللّه عليه و آله دون أن يعقّب(2)..

فقد كانت تنتظر منه أمرا في الحياة الزوجية دون أن يجيبها إليه.

كما كان البعض يأتون أحيانا إلى المسجد فيمدّون أرجلهم قائلين للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: قلّم لنا أظفارنا! - حيث جاء الحث على تقليم الأظافر - و لكن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله كان يتحمل كل هذا التجاسر و سوء الأدب بحلم تام(3).

ص: 200


1- في بعض الروايات: بينا النبي صلّى اللّه عليه و آله في المسجد الحرام و عليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملأوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء اللّه فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عمّ كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: و ما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة و أخذ السيف و قال لحمزة: خذ السلى، ثمّ توجّه إلى القوم و النبيّ معه فأتى قريشا و هم حول الكعبة، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه، ثمّ قال لحمزة: أمرّ السلى على سبالهم ففعل ذلك حتّى أتى على آخرهم، ثمّ التفت أبو طالب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا - الكافي: 449/1 ح 30.
2- انظر الكافي: 139/6 ح 5، و مناقب أمير المؤمنين للكوفي: 324/2.
3- من كلمة ألقاها في: 7 صفر 1241 ه - طهران.

فضل الصمت

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، قلّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت فإنّه دعة حسنة و قلّة وزر و خفّة من الذنوب، فحصّنوا باب الحلم فإنّ بابه الصبر.

يا هشام، إنّ قلّة الكلام فعل الحكيم فعليك بلزوم الصمت».(1)

(المراد من الصمت هنا السكوت عند ما لا يكون التكلّم لازما)

بعض الناس دائمو الكلام و يدخلون في كلام كلّ متكلّم. و هذا الأمر من الرذائل الأخلاقية. حتى أنه في بعض الأحيان - لأنّ الإنسان حينما يتكلم يكون لديه هدف و غرض - يريد الإنسان من كلامه أن يظهر فضله و لكن مع ذلك فالمستحسن أن يمتنع عن الكلام في هذا المورد أيضا.

و بما أنّ كل ما يتفوه به الإنسان من كلام يسجّل و يضبط في صحيفة أعماله إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ. مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (2).

و حيث إنّ كثرة الكلام توقع الإنسان بالتناقض و الأقوال المتعارضة و المتخالفة، فلذلك تكون قلة الكلام موجبة لتقليل الأوزار و الوبال عنه و تخفيف الذنوب و المعاصي.

ص: 201


1- تحف العقول، صفحة: 394.
2- سورة ق: 17-18.

أثر الحلم على الصمت

و الصمت بنفسه يسقى من نبع الحلم، و الحلم هنا في مقابل الخفّة. فإنّ بعض الناس حينما يعرض لهم الفرح و السرور أو الحوادث المكروهة يخسرون أنفسهم.

و لكن الإنسان الحليم يمسك عنان نفسه سواء في الفرح و السرور أم في الحزن و المكروه.

و أساس الحلم و جذره من الصبر، و الصبر هنا بمعنى المقاومة و اليقظة سواء في مقابل ضغوطات و صعوبات الحياة المعيشية أم في مقابل التكاليف الإلهية.

و يستفاد من هذه الرواية فائدة ظريفة و هي أن الأخلاقيّات الإسلامية دائرة متّصلة معا نظير الدوائر المتداخلة بعضها يكمل البعض و مجموعها يشكّل منظومة جميلة في الإنسان(1).

ص: 202


1- كلمات مضيئة: 4.

التواضع

أهميّة التواضع

لا بد أن يمتلك الإنسان سعة من القدرة سواء صغرت أم كبرت، فلا نسعى وراء العلو و التسلط و حب الإستعلاء على الناس، و هذا هو مضمون الآية الكريمة: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً (1).

و هذا أمر صعب لكنه ممكن و ضروري، فحب التسلط آفة طالما هددت ذوي القدرة في العالم و أزلت الكثيرين، و نحن لسنا بأقوى منهم فعلينا الحذر و التحسب لئلا ننزلق، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام قوله: «نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من الناس»(2).

فهذه الآية بالأساس لأصحاب القدرة و الولاة و المسؤولين بدءا من كبار المسؤولين و مرورا بالدوائر الوسطى و انتهاءا بأي نقطة فيها مدى من السلطة، فآفة عملنا هي أنّ نستغل دائرة قدرتنا للتسلط و الغطرسة و الأطماع، و في ذلك خطر جسيم، و تقول الآية في النهاية: وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، و قد قال البعض إنّ هذه "العاقبة" هي الآخرة، فيما احتمل آخرون أنها تشمل الدنيا أيضا، و نحن نراها كذلك،

ص: 203


1- سورة القصص: 83.
2- ميزان الحكمة: 36/1 باب صفة أهل الآخرة.

فالعاقبة هي من نصيب المتقين، إذ أنّ العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة هي من نصيب أهل التقوى و الورع(1).

أثر التواضع

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ الزرع ينبت في السهل و لا ينبت في الصّفا. فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع و لا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ اللّه جعل التواضع آلة العقل و جعل التكبّر من آلة الجهل»(2).

كما أنّ البذرة تنبت و تنمو في الأرض السهلة بينما لا تنمو و لا تنبت في الأرض الصخرية و الحجرية، فكذلك هي الحكمة.

فإنّ الحكمة تعمر و تثمر في القلوب المتواضعة ذات الإستعداد و القابلية، بينما لا تنمو و لا تعمر في القلوب المتكبّرة الجبّارة.

و عليه فإنّ التواضع و الخضوع وسيلة من وسائل العقل و الحكمة بينما التكبّر و التجبّر دليلان على الجهل و عدم العقل و الحكمة(3).

و من مواعظ الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «من رضي بدون الشرف من المجلس لم يزل اللّه و ملائكته يصلّون عليه حتى يقوم»(4).

التكبّر و الخيلاء من الصفات الإنسانية القبيحة و الرذيلة. و أكثر المفاسد و الشرور الدنيوية اليوم نتيجة الغرور و الإحساس بالتكبّر و العجب بالنفس.

فكلّ شخص أو دولة يسعى للوصول إلى المقام الأعلى و المكان الأرفع، سواء من

ص: 204


1- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 396.
3- كلمات مضيئة: 182.
4- تحف العقول، صفحة: 486.

الناحية الإجتماعية أو الإقتصادية و المال و الثروة حتى و إن كانت من خلال الربا، و لو كان ثمن ذلك هو ظلم الآخرين و إراقة دمائهم.

و إحدى مصاديق هذه الصفة القبيحة ما إذا دخل شخص إلى المجلس فدعاه الشعور و الإحساس بالإستعلاء و الخيلاء للجلوس في صدر المجلس و المكان اللائق به.

و لذلك يبيّن الإمام عليه السّلام في هذا الحديث أنّ الإنسان الذي يقنع و يرضى دون الشرف و الشأن من المجلس و يجلس في المكان الأدون من مكانته و شأنيّته، فهذا الشخص لا يزال اللّه تبارك و تعالى و ملائكته يصلّون و يسلّمون عليه إلى أن يقوم من مجلسه ذاك.(1)

و قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «... و جاءه رجل بلبن و عسل ليشربه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: شرابان يكتفى بأحدهما عن صاحبه، لا أشربه و لا أحرّمه، و لكنّي أتواضع للّه، فإنه من تواضع للّه رفعه اللّه و من تكبّر وضعه اللّه و من اقتصد في معيشته رزقه اللّه و من بذّر حرمه اللّه و من أكثر ذكر اللّه آجره اللّه»(2).

قد يتصوّر البعض أن عدم استفادة المعصوم عليه السّلام من بعض النعم معناه تحريمها، و لكنه تصوّر باطل و لذلك قال النبي صلّى اللّه عليه و آله بأنه شخصيا لا يشرب كلا الشرابين المذكورين و لكنه في نفس الوقت لا يحرّم ذلك.

و الوجه في عدم فعله ذلك هو أنه لا يريد أن يستفيد من جميع النعم الإلهية من باب التواضع للّه تعالى لأن من يتواضع للّه يرفعه اللّه.

و المراد من الرفعة هنا الرفعة المعنوية، و إن كان يمكن الشمول للرفعة الظاهرية أيضا إلاّ أنّ القدر المتيقن و المسلّم هو الرفعة الروحية و المعنوية.

ص: 205


1- كلمات مضيئة: 182.
2- تحف العقول، صفحة: 46.

فكل إنسان يتواضع للّه تعالى فاللّه سبحانه يرفعه روحيا و خلقيا و تشمله الكرامات الإلهية. و القدر المتيقن من الوضع هو التنزّل المعنوي و إن كان يمكن شموله للتنزل الإجتماعي و المناصب أيضا(1).

التواضع أرفع نسب و حسب

روي عن علي بن الحسين عليه السّلام: «قال: لا حسب لقرشي و لا عربي إلاّ بتواضع.

و لا كرم إلاّ بتقوى، و لا عمل إلاّ بنيّة.

ألا و إنّ أبغض الناس إلى اللّه عزّ و جلّ من يقتدي بسنّة إمام و لا يقتدي بأعماله»(2).

الحسب معناه الأصل الرفيع و الذات العالية لشخصية عائلة الإنسان.

و النسب معناه النسل و العرق.

في العصر الجاهلي كانت قيمة الإنسان مرتبطة بعرقه و قبيلته و عائلته، ككونه مثلا عربيّا أو قرشيّا. و كانوا يتفاخرون فيما بينهم على هذا الأساس، و في الواقع و الحقيقة كانت القيم عندهم على خلاف القيم الواقعية.

فجاء الإسلام و بيّن القيم الواقعية للإنسانية، و الرواية المذكورة توضّح هذا الأمر بما يلي: إنّ أعلى و أرفع نسب و عرق و أعلى و أرفع حسب و أصل لشخصية الإنسان هو التواضع و التذلّل للآخرين، فمن تواضع و تذلل للآخرين حصل على الحسب الأعلى و الرفيع لشخصيته.

و الكرم أي القيمة الوجوديّة للإنسان تكون بالتقوى و الطهارة. و الإنسان من دون تقوى ليس بذي قيمة حتى و إن كان عالما أو متخصصا أو ثريّا. و قيمة العمل بالنيّة(3).

ص: 206


1- كلمات مضيئة: 183.
2- الخصال، باب الواحد، ح: 62.
3- كلمات مضيئة: 7.

الرضا و السخط

أهمية الرضا و السخط

قال الإمام محمد بن علي الجواد عليه السّلام: «من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده»(1).

ليس الملاك و المناط في إدراك الثواب و الفضيلة هو العمل وحده، بل للنيّة و الرضا مدخليّة أيضا في هذا الباب.

و لذلك فلو أنّ شخصا كان حاضرا في واقعة ما سواء كانت خيرا أم شرّا، و لكنه لم يكن راضيا عنها قلبيا بل كان كارها لها فهذا لا يعتبر حاضرا و شاهدا بل هو نظير الشخص الذي لم يشهد هذه الواقعة أصلا.

و على العكس من ذلك ما إذا كان غائبا عن الواقعة و لكنه راض بها فإنه كالشخص الحاضر و الشاهد للواقعة يعتبر شريكا معهم فيها و في الحديث: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم و لكل داخل في باطل إثمان: إثم الرضا به و إثم العمل به»(2).

فمثلا إذا جاهدوا و كان راضيا بفعلهم كان شريكا معهم في ثواب الجهاد و إذا ارتكبوا جريمة ما فرضي بفعلهم كان شريكا معهم في الوزر و المعصية.

ص: 207


1- تحف العقول، صفحة: 456.
2- مستدرك الوسائل: 214/18 ح 22538.

و هذا هو مضمون قول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى خطبه حيث قال «و إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا»(1).

فليس المراد مجرد العمل بل الرضا و السخط بعمل مجموعة من الناس يجعل الإنسان شريكا معهم في عملهم أيضا(2).

ص: 208


1- ميزان الحكمة: 1947/3 رقم 2195.
2- كلمات مضيئة: 184.

أثر الرضا و السخط

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ عظيم البلاء يكافيء به عظيم الجزاء، و إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند اللّه عزّ و جلّ، و من سخط البلاء فله السخط»(1)

إذا تحمّل الإنسان في هذه الدنيا البلاءات و المشقّات - سواء كانت قهرية كالمرض أو فقدان الأعزّاء و غير ذلك أم كانت إرادية و اختياريّة كالزهد و القناعة و كفّ النفس عن الشهوات بل عن المباحات أيضا - فبمقدار حجمها و نسبتها يجازى عليها بالأجر و الثواب في الآخرة التي هي في الحقيقة الحياة الواقعية للإنسان.

و على هذا فإذا شاهدنا شخصا متنعما و آخر مبتلى فلا نتوهّم أنّ نظام العدالة في الخلق غير مراعى و مختلّ، و ذلك لأنّ تحمّل المشكلات و الآلام في هذه الدنيا سوف يجبر في عالم الآخرة. تماما كما أنّ الراحة و النعم في هذه الدنيا، سواء كانت من طريق الحلال أم الحرام، موجبة لتنزل و نقصان الأجر و الثواب في عالم الآخرة، على أنه إذا كانت من طريق الحرام فسوف يلحقه الجزاء و العقوبة القاسية عليها، و أما إذا كانت من طريق الحلال فهي توجب نقصان و قلّة الثواب و تنزّل الدرجات و المراتب الأخروية.

و عليه فاللّه تعالى إذا أحبّ عبدا من عباده ابتلاه بالمصائب و البلاءات و المشقّات الأكثر ليكون أجره و ثوابه في الآخرة أعظم و أكبر، فإذا رضي العبد بما قدّره اللّه تعالى منها كان مرضّيا عند اللّه تعالى.

ص: 209


1- الخصال، باب الواحد، ح: 64.

و أما إذا لم يرض بالقضاء و القدر بل سخط من هذا البلاء و لم يكن شاكرا للّه حبط أجره في الآخرة، و لا يبقى له إلاّ الألم و الغضب و السخط ما دام لم يشكر اللّه على هذا البلاء(1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «من طلب رضى الناس بسخط اللّه جعل اللّه حامده من الناس ذاما»(2).

يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشخص الذي يسعى لإجل إرضاء الناس عنه من خلال ارتكابه للذنوب و المعاصي و الأعمال القبيحة الموجبة لسخط اللّه تعالى عليه، لن يحصل على ذلك، لأنه بالتدريج و شيئا فشيئا سوف يتبدّل مدح الناس له و تمجيدهم به إلى القدح و الذمّ فيه(3).

ص: 210


1- كلمات مضيئة: 184.
2- الخصال: باب الواحد، ح: 6.
3- كلمات مضيئة: 185.

الحياء

وجوه الحياء

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الحياء على وجهين: فمنه ضعف، و منه قوة و إسلام و إيمان»(1).

الحياء على نوعين: حياء ضعف و حياء قوة.

فأما حياء الضعف: فالإنسان أحيانا يخجل و يستحي و يكون منشأ حياته هو ضعف شخصيّته بمعنى أنّ الإنسان بسبب عدم ثقته بنفسه، أو لأسباب أخرى يخجل و يستحي و هذا النّوع من الحياء غير مطلوب.

و أمّا حياء القوة: فهو أن يكون الحياء كاشفا عن الإسلام بمعنى التسليم للّه تعالى و الإيمان به، من قبيل الحياء الذي يعتري الإنسان عند ما يواجه المحرمات الشرعيّة، و لكنّه لا يرتكب عملا يخالف الشرع و الدين، فإنّ حياءه في هذه الموارد و إن كان الحياء في نفسه حالة انفعاليّة يعتبر دليلا كاشفا عن قوّة النفس الإنسانيّة، و هو أمر مطلوب و مرضي عند اللّه تعالى(2).

و قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «الحياء حياءان: حياء عقل و حياء حمق.

ص: 211


1- الخصال/باب الاثنين/ح 76.
2- كلمات مضيئة: 211.

و حياء العقل العلم، و حياء الحمق الجهل»(1).

حياء العقل معناه أن يشعر الإنسان بالحياء الناشيء من العقل، من قبيل الحياء عند ارتكاب المعصية أو الحياء مقابل شخص يجب احترامه. و هذا الحياء علم بمعنى أنه يتصرف تصرّف الشخص العالم.

و أما حياء الحمق فهو الجهل، كما إذا استحى من السؤال أو التعلّم أو القيام بالعبادات و نحو ذلك، فإنّ بعض الأشخاص يستحي من القيام بالصلاة في بعض الأمكنة أو الظروف، فإن هكذا حياء يعتبر تصرفا عن جهل(2).

ص: 212


1- تحف العقول، صفحة: 45.
2- كلمات مضيئة: 211.

اليقين

تعريف اليقين

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا، وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ (1).

اليقين هو ذلك الإيمان الواعي و البصير الذي يحول دون تسرب الوساوس إلى قلب الإنسان و إصابته بالخور و الضعف، و أما الصبر فهو تلك الخصوصية التي تجعل قلب الإنسان العظيم قادرا على تحمل المشاكل و مواجهتها و عدم الضياع و فقدان الذات و العزم، و السير قدما بصلابة و ثبات في سبيل الأهداف الطموحة التي اختارها بوعي و كان على بصيرة من أمره(2).

ص: 213


1- سورة السجدة: 24.
2- من كلمة ألقاها في: 3 ربيع الثاني 1424 ه - طهران.

أهمية اليقين

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين»(1).

العمل المطلوب للشارع المقدّس يجب أن يتضمن خصوصيتين:

1 - أن يكون دائميا، و ذلك لأن العبادة الدائمة حتى و إن كانت قليلة فهي أفضل من العمل الكثير إلاّ أنّه منقطع و جزئي و لا دوام له.

2 - أن يكون عن يقين، فالعبادة المطلوبة للشارع المقدّس إذا كانت مقرونة باليقين فهي بنّاءة و مفيدة، و هذا في نفسه يوجب التوجّه نحو اللّه تعالى حين العبادة، لأن العبادة من دون توجّه كالبدن من دون روح، فالتوجّه كالروح التي تنفخ في البدن، و لذلك ورد في الروايات أن المقدار من الصلاة الذي يكون مصحوبا بحضور القلب و الخضوع و الخشوع هو المقبول عند اللّه تعالى.

و سرّ المسألة هو أن فلسفة و حكمة خلق الإنسان هو التكامل، و التكامل مرتبط و مرهون بالمعرفة و العبادة للّه تعالى، و العبادة النابعة و المتحرّكة من القلب و الروح تساعد الإنسان في وصوله إلى هدفه النهائي.

نعم يجب الإلتفات إلى أنّ الإنسان إذا وضع قدمه في الطريق و كان عمله قليلا و لكنه كان دائميا و مصحوبا باليقين فسوف يوفّق تدريجيّا للعمل الكثير الدائمي أيضا(2).

ص: 214


1- تحف العقول، صفحة: 359.
2- كلمات مضيئة: 190.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(1).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ.. (2).

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(3).

ص: 215


1- الحضال/باب الإثنين/ح 128.
2- سورة البقرة: 285.
3- كلمات مضيئة: 118-119.

ينبغي اجتناب كل ما يجعل فكر و وجدان الإنسان غافلا عن ذكر اللّه، و هذه هي تلك المرتبة السامية التي وردت في حديث المعراج عن الصوم؛ حيث يروى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لربّه جلّت عظمته: «يا رب، و ما ميراث الصوم؟

قال صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم يورث الحكمة، و الحكمة تورث المعرفة، و المعرفة تورث اليقين؛ فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر»(1).

و اليقين هو ما طلبه النبي إبراهيم عليه السّلام من ربّه، و ورد ذكره في مواضع متكررة و عديدة من أدعية هذا الشهر.

و عند ما يكون للإنسان يقين، تهون عليه كل مصاعب الحياة، و يكون في وضع لا تغلبه فيه حوادث الدهر.

لاحظوا مدى أهمية هذا الأمر؛ فالإنسان الذي يروم طيّ سبيل التعالي و التكامل في سنوات حياته، و ليصبح على درجة من الصلابة بحيث لا تقهره عوادي الزمن، يمكنه اكتساب هذا كله من اليقين، و هذا كله ناجم عن الصوم كعبادة تقرب من اللّه تعالى.

فإذا أحيا الصوم ذكر اللّه في قلب المرء و أضاء فيه نور معرفة اللّه، تأتي هذه الأمور كلّها تبعا له؛ و كل ما يؤدي به إلى الغفلة عن ذكر اللّه يضمحل على أثر الصوم.

فهنيئا لمن يستطيعون بلوغ هذه المرتبة. و ما علينا إلاّ أن ندعو اللّه و نسأله، و نصمم على إيصال أنفسنا إلى هذه المرتبة(2).

ص: 216


1- مستدرك الوسائل: 500/7 ح 8743، و البحار: 27/74 ح 6.
2- من كلمة ألقاها في: 8 رمضان 1420 ه - طهران.

طرق تحصيل اليقين

من خطبة علي عليه السّلام المعروفة بالديباج: «عباد اللّه، سلوا اللّه اليقين فإن اليقين رأس الدين، و ارغبوا إليه في العافية فإن أعظم النعمة العافية، فاغتنموها للدنيا و الآخرة»(1).

لليقين مراتب و لكل مرتبة منه مرتبة أعلى منها، و لذلك كان الأئمة الأطهار عليهم السّلام - مع أنهم واصلون لمراتب اليقين العالية - يطلبون من اللّه تعالى اليقين أيضا.

في هذا الحديث شبّه اليقين بالرأس، و هو كذلك لأن الرأس منشأ هداية الحركات و السكنات للإنسان و اليقين له نفس الدور بالنسبة لدين الإنسان.

ثمّ إنّ تحصيل اليقين له طريقتان:

إحداهما: التأمّل و التفكّر في دلائل و مبادىء الدين و حقّانية الشرع الإسلامي المقدّس.

و الأخرى: التّوجّه نحو الذات الإلهية المقدّسة و التضرع و الخضوع أمام العظمة الربّانية.

و العافية الواردة في هذا الحديث ليست هي ما يعبّر عنه في عرفنا من طلب العافية و الراحة و عدم دخول الإنسان سوح الجهاد و الصعاب و المشقّات و تكاليف الحياة المعيشية و صعوباتها و مواجهتها، بل المراد من العافية هنا العافية في الإعتقاد و العمل و أن يكون محفوظا من الوساوس الشيطانية و النفسانية.

على أنّ الإنسان يجب أن يطلب أيضا العافية في ميادين الجهاد و نحوها و يسأل اللّه تعالى ذلك بمعنى أن يسأله الثبات و الإستقامة و عدم الوقوع في الشك و الخوف

ص: 217


1- تحف العقول، صفحة: 150.

و التزلزل.

و الإمام السجّاد عليه السّلام في الدعاء الثالث و العشرين من الصحيفة السجّادية(1) يشير إلى الأبعاد المتعددة للعافية و يطلبها من اللّه تعالى(2).

ص: 218


1- قال عليه السّلام: اللهم صلي على محمد و آل محمد و ألبسني عافيتك و جللني عافيتك و حصني بعافيتك و أكرمني بعافيتك و أغنني بعافيتك و تصدق عليّ بعافيتك....
2- كلمات مضيئة: 189.

باب رذائل الأخلاق

اشارة

ص: 219

ص: 220

مساوىء الأخلاق

التحذير من مساوىء الأخلاق

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الفحش، فإنّ اللّه عزّ و جلّ لا يحب الفاحش المتفحش.

و إياكم و الظلم، فإن الظلم عند اللّه هو الظلمات يوم القيامة.

و إياكم و الشّح، فإنه دعا الذين من قبلكم حتى سفكوا دماءهم، و دعاهم حتى قطعوا أرحامهم، و دعاهم حتى انتهكوا و استحلوا محارمهم».(1)

يطلق الفحش على الأعمال القبيحة المبتذلة أيضا و إن كان الغالب استعماله في الكلام القبيح البذيء و السباب و الشتم.

و في هذه الرواية يحذّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أمور ثلاثة هي:

1 - الفحش، فيجب على الإنسان الاجتناب عن الكلام البذيء و السباب و الشتم، لأن اللّه تعالى لا يحب الذين يتعمدون التكلم بالكلام الركيك و القبيح و البذيء.

2 - الظلم، فيجب الحذر من الظلم و العدوان و التجاوز على الآخرين، لأن الظلم موجب للظلمات و الظلام في يوم القيامة على الظالمين.

3 - الشح، فيجب الاجتناب عن الحرص و البخل لأن هذه الصفة المركبة منهما هي

ص: 221


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 235.

التي أدّت بالناس في الأمم السابقة لسفك دمائهم و التقاتل و الحروب.

و اليوم فإن الأمر كذلك لأنه أحيانا تعمد بعض الدول العظمى المستعمرة و أصحاب الشركات الكبرى للحروب و سفك الدماء و الأعمال الوحشية من أجل الحصول على ثروات الدول الضعيفة، و إن أدّت هذه الحروب الى إزهاق أرواح النساء و الأطفال و العجزة و الأبرياء و إتلاف أموالهم و تدمير ممتلكاتهم، و لكنهم لا يتورّعون و لا يتهيبون و لا يهتمون بذلك أبدا.(1)

و قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام: «من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق بأن لا ينزل به مكروه أبدا.

قيل: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟

قال: العجلة و اللجاجة و العجب و التواني»(2)

كل شخص يجنّب نفسه هذه الأمور الأربعة سوف لن تنزل به أيّة حادثة سيئة و لا واقعة مكروهة، من دون فرق بين أن يكون شخصا واحدا أو أشخاصا متعدّدين أو عاملين أو مسؤولين في المجتمع و الدولة أو غيرهم.

و هذه الأمور الأربعة هي:

1 - العجلة: و هي اتخاذ القرار من دون تأنّ و تدبر و تدقيق أو القيام بعمل كذلك، و العجلة تختلف عن السرعة في إنجاز العمل.

2 - اللجاجة: فإن إحدى المسائل الخطيرة و الإبتلاءات القاصمة هي الإصرار و الإلحاح بغير حق. فمثلا إذا قال شخص كلاما أو اتخذ موقفا ما ثمّ تبيّن له بطلانه أو انكشف خلافه فإنه ليس مستعدا للتراجع عنه بل يصرّ عليه.

2 - العجب: أي الإغترار بالنفس و الإعجاب بها بحيث لا يدري أي نقص أو عيب

ص: 222


1- كلمات مضيئة: 44.
2- تحف العقول، صفحة: 222.

في نفسه بل أحيانا يقوم بتعظيم و تحسين أوصافه.

3 - التواني: أي التواكل و الفتور في إنجاز العمل و تأجيل عمل اليوم و تأخيره.

و أنا شخصيا - و على إثر التجارب في السنوات المتمادية - وصلت إلى النتيجة التالية و هي:

إنّ كلام الإمام علي عليه السّلام في واقعها حكم تامة و كاملة. فإن كل الأضرار و المساوىء الواردة على المجتمع ناتجة من هذه الأمور الأربعة.

و لذلك أسأل اللّه تعالى أن يجنّبنا هذه الصفات بتوفيقه و بسعينا لمجاهدة أنفسنا(1).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يعدّ سعيدا.

و لا لمن لم يكن ودودا أن يعد حميدا.

و لا لمن لا يتّقي ملامة العلماء و ذمّهم أن يرجى له خير الدنيا و الآخرة.

و ينبغي للعاقل أن يكون صدوقا ليؤمن على حديثه، و شكورا ليستوجب الزيادة»(2).

في نظر الإسلام إنّ قيمة العلم و الفكر عالية و عظيمة إلى الحدّ الذي لا يمكن أن يقال عن الشخص الذي لم يتزيّن بزينة العلم و الفكر أنه سعيد و محظوظ.

طبعا كل العلوم فيها منازل عالية و لكن من البديهي أنه إذا كان ملاك السعادة هو العلم فهذا معناه أن كل العلوم ليست بمرتبة واحدة بل إن كل علم كان موجبا و سببا للسعادة للإنسان و المجتمع أكثر من غيره، فقيمته أزيد و أكثر.

و الشخص الذي لا يمتلك طبيعة المحبّة و المودّة للآخرين بل كان على عداء و منازعة مع كل أحد دوما فهذا ليس حميدا و مرضيّا عنه.

ص: 223


1- كلمات مضيئة: 46.
2- تحف العقول، صفحة: 364.

و الشخص الذي ليس لديه صبر و تحمّل لا ينبغي أن يعدّ إنسانا كاملا ذلك لأن الصبر أول منزل من منازل الكمال، فمن لم يكن لديه الصبر فسوف يسقط في مواجهة مع المصاعب و المشاكل. و في النتيجة النهائية لن يتمكن من الوصول إلى باب منزل الكمال في أي ميدان من ميادين الحياة.

و الشخص الذي يلتفت و يتخوّف عند ملامة و مذمّة أهل العلم و الفكر له فلا يرجى له الخير و السعادة في الدنيا و الآخرة(1).

ص: 224


1- كلمات مضيئة: 49.

خطر سوء الخلق

قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «إياك و العجب و سؤ الخلق و قلة الصبر، فإنه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، و لا يزال لك عليها من الناس مجانب»(1).

هذه الرواية قسم من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام الأبوية لابنه العزيز محمد ابن الحنفية، و بما أن الامام علي عليه السّلام أب لكل الأمة فلذلك تكون هذه الوصايا عامة للجميع.

فيقول عليه السّلام، عليك الحذر من ثلاثة خصال فإنه إذا وجدت فيك هذه الخصال الثلاث لن يبق لك صاحب و لا رفيق و سوف يتجنبك الناس و يبتعدون عنك، و هي:

1 - العجب و الفخر و الغرور، و هذه الصفة ليست مخصوصة بالعبادات فقط بل تشمل غيرها أيضا، إذ لعل الإنسان يدخله العجب من خلال علمه أو مقامه و منصبه أو محبوبيته بين الناس، و هذه الصفة من الصفات الخبيثة و السيئة التي تعرض على روح و نفسية الإنسان، و يترتّب عليها آثار و نتائج سيئة أيضا، و ذلك لأن الشخص المعجب بنفسه حيث إنّ الآخرين لا يدركون خصوصياته فسوف يشتكي منهم و يعتب عليهم و بالتالي سوف ينظر إليهم بعين البغض و الضغينة.

و من جهة اخرى حيث إنه يرى أن الآخرين ليسوا في مستواه فسوف ينظر إليهم نظرة احتقار و حيث إنه يرى نفسه أفضل من الناس فهو يعتقد أنه صاحب حق عليهم

ص: 225


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

و لذلك يطلب منهم ما ليس له.

2 - سوء الخلق، و المراد به هنا المعنى الأخص من هذا المفهوم، أي سوء الأخلاق و حدّة المزاج في التعامل مع الآخرين.

3 - قلة الصبر و عدم التحمل، فإنه إذا اعترض عليه شخص أو تكلم بكلام على خلاف رغبته و ميله فإنه لا يتحمل منه ذلك و يفقد طاقته تجاهه(1).

ص: 226


1- كلمات مضيئة: 200.

أكبر الرذائل الأخلاقية

تعرّضنا منذ بداية ثورة الإمام و حتّى يومنا هذا لأكثر أنواع المواجهة و الخصومة و العناد من قبل أرباب الدنيا و المستكبرين، الذين بنوا حياتهم و أقاموا حكوماتهم و صبّوا جهودهم، و وظّفوا أموالهم على فصل الدين و الأخلاق و المعنويات عن المجتمع.

إلا أن للدنيا مفهوما آخر.

فقد جاء في النصوص الإسلامية تفسير الدنيا بالأنانية و حبّ الذات و عبادة الهوى و الشهوات و جرّ الآخرين إلى الوقوع في أسر الهوى.

و قد امتلأ القرآن و السنّة و أقوال علماء الدين، بذمّ هذا النوع من الدنيا و نبذها، و هي الدنيا الّتي يجسّدها فرعون و نمرود و قارون و الشاه و بوش و صدام، و جميع المستكبرين و الظلمة عبر التاريخ و الى يومنا هذا.

و طبعا، إنّ هذه النماذج الّتي ذكرناها تمثل أكبر الرذائل الأخلاقية المذمومة في هذه الدنيا.

و بإمكان الإنسان البسيط أن يربّي فرعونا في نفسه، و يمارس الدور الإمبراطوري الفرعوني و القاروني و القيصري في حدود إمكاناته.

و لو توسّعت إمكاناته أضحى نسخة طبق الأصل لفرعون و قارون و سائر طغاة العالم و مستكبريه، و هذه هي الدنيا الّتي لا يمكن ربط الدين بها، و الّتي جاء في الروايات تسميتها ب (ضرّة الدين) فلا يمكن إعمار الدين بمثل هذه الدنيا، و أنّ استخدام مثل هذه الدنيا خيانة للدين.

و قد كان الإمام الخميني تبعا لمدرسة أهل البيت عليهم السّلام يحذّرنا من الوقوع في

ص: 227

حبائل هذه الدنيا رغم نظرته في جعل الدين عين السياسة و الاقتصاد و الدنيا.

فعلينا أن نفرق بين هذين النوعين من الدنيا، كما أن الإمام نفسه قد زوى الدنيا بمعناها الثاني جانبا فلم يكن من ذوي الهوى و الأنا و حب الذات.

و أما الدنيا بالمعنى الأول و الّتي تمثل رقعة الحياة الواسعة، و التي تعلّمناها من النصوص الإسلامية فقد كان الإمام يراها منسجمة مع الدين و مساوقة له، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الدنيا متجر أولياء اللّه»(1).

إذ يمكنهم من خلالها بلوغ التسامي و الرقي المعنوي.

فلا بدّ من إعمار العلم و المعرفة و الاقتصاد و السياسة و الحياة الفردية و العلاقات الاجتماعية و المناهج الاجتماعية العامة مما يعد من القطاعات المتنوعة في الدنيا، و دفعها إلى الأمام، و لا يتحقّق شيء من ذلك إلاّ من خلال الدين.

لقد علّمنا الإمام ذلك، و كان هذا هو السبب وراء عداوة القوى العظمى و خصومتهم العمياء ضد نظام الجمهورية الإسلامية، و لا تزال هذه العداوة قائمة، حيث نواجه على مستوى الإعلام العالمي هجمة شاملة حول هذه المسألة و يقولون:

لماذا تجعلون من الدين منهجا للحياة.

و ذلك لأنهم يشعرون بالخطر على دنياهم الّتي بنوها على أساس من الظلم و الجور و غياب الأخلاق.

هذا هو النظام الذي يريده الاستكبار العالمي للإنسانية قديما و حاضرا.

و قد عمد نظام الجمهورية الإسلامية على دفع هذا النظام الباطل و الدور الخاطئ و جاء بنموذج يبرهن على أنّ بإمكان الدين أن يؤدي دورا عمليا في حياة الناس(2).

ص: 228


1- نسبه لبعض الحكماء في شرح النهج: 202/9.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.

خطر حبّ الذات

أبرز غرائز الإنحراف حب الإنسان نفسه، و هذه الغريزة - بطبيعة الحال - ملازمة لوجود الإنسان، فحب الذات هو الذي يدفع الإنسان نحو الحركة التكاملية لتسلق قمم العروج الإنساني، و لكن إن لم يتم ترشيد حب النفس سيخلّف إنحرافات كبرى؛ فاكتناز الثروة و حب السلطة و الشهوات و طمع الإنسان و طغيانه و الإنحرافات الكبرى التي يشهدها التأريخ البشري و ما وقع و يقع من ظلم فظيع إنما تعود بأجمعها إلى غريزة حب النفس التي أطلق البعض عنانها و بسببها ارتكبوا الأخطاء و الممارسات الخيانية و الكوارث المريعة.

إن حب النفس من الغرائز التي إن لم تخضع للرقابة و المحاسبة فإن حالات الطغيان التي تفرزها ستأتي على القيم الإنسانية و السماوية الراقية و تسحقها و تطيح بكافة الحقوق ليسحقها الإنسان الطائش المنحرف بظلمه و طغيانه و تمرده؛ و هنالك عوامل متعددة من شأنها أن تكفل هذه الهداية في أعماقنا بيد أن أهمها جميعا تقوانا، فعلينا أن نراقب أنفسنا و نحوطها و لا نغفل عن عيوبنا، فحب النفس يجعل الإنسان يرى في نفسه الكثير من العيوب التي يراها في غيره و يغضب لها، لكنه يغض الطرف عنها، إذ أن الكثير من الأخطاء التي نستهجنها من الآخرين و نجاهر بالتحامل عليها أحيانا؛ إذا ما حصلت فينا فإننا ننظر إليها بعين التغافل و هذا نتيجة فقدان الرقابة، أي إننا نمر مرورا سطحيا على خطايانا و العيوب و الإشكالات الكامنة فينا، و هذه المعايب إنما تطرأ متى ما فقدت العين الثاقبة للرقيب الذي يتحرّى العيوب و يدفع الإنسان

ص: 229

لمراقبة نفسه مراقبة دائمية، بناء على هذا فإن التقوى على هذا القدر من الأهمية(1).

أثر سوء الأخلاق على الشباب

من دواعي السرور أنّ شعبنا أحرز في السنوات الأخيرة تقدما باهرا على الصعيد المعنوي؛ فشاع الإقبال على المعنويات، و على الدين و العبادة، و الإتجاه إلى الذكر و التبتّل، و الخشوع، و الصلاة و الصوم، و طاعة اللّه و التقرب إليه، و خاصة بين شريحة الشباب، إلاّ أنّ التحول الأخلاقي لا يقتصر على هذا الجانب. و ربما يمكن القول إنّ التحول الأخلاقي أكثر صعوبة، و لهذا يبقى المخاطب الأول و المسؤول الأول في باب التحول الأخلاقي هم الشباب؛ حيث تكون جميع الأعمال أيسر و أسهل بالنسبة لهم.

إنّ الشبّان قلوبهم نيّرة و فطرتهم سليمة لم تتلوث، و تعلقهم بزخارف الدنيا و مغرياتها و تكتفهم بحبال حب المال و الجاه و التسلط التي يرزح تحت قيودها سائر الناس، تكون أضعف و أقل بالنسبة للشباب، و لهذا يكون التحول الأخلاقي بين الشبان أيسر. و طبعا لا ينبغي لمتوسطي الأعمار و الكهول اليأس من إمكانية التغيير الأخلاقي في نفوسهم.

التحول الأخلاقي معناه إزاحة كل رذيلة أخلاقية، و كل خلق قبيح، و كل سلوك مستهجن قد يكون سببا في إيذاء الآخرين، أو يكون عاملا في تخلف الشخص ذاته، و التحلي بدلا منها بالفضائل و محاسن الأخلاق.

في المجتمع الخالي من الحسد و البغض و الحقد، و الذي لا يستخدم فيه الأذكياء ذكاءهم في الكيد للآخرين و خداعهم، و لا يكرّس فيه أصحاب المعرفة و المعلومات معرفتهم و معلوماتهم في الإساءة لأبناء جلدتهم و مساعدة أعداء شعبهم، بل يضمر

ص: 230


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1423 ه - طهران.

جميع أبناء المجتمع الخير لبعضهم الآخر بعيدا عن الحسد و الحقد، و لا يبغون رغد العيش على حساب الحط من الآخرين و فنائهم، و لا يطمعون في نيل كل ما تشتهي أنفسهم، يعتبر هذا تحولا أخلاقيا، إلاّ أنّه الحد الأدنى من القضية.

إذا لم يقترن في مجتمع العمل و النشاط الإقتصادي بتخزين الذهب و الثروة، أو الرغبة في مكاثرة الآخرين، و الإساءة للمحرومين و إهمال شأنهم، و إذا سادت في مجتمع محاسن الأخلاق التي عدّها الإسلام فضيلة - و عبّرت عنها الأحاديث بأنها جنود العقل -(1) و تمسّك الناس بالصبر و الاستقامة، و التوكل، و التواضع و الحلم، من غير سوء ظن أزاء بعضهم الآخر أو عدم المبالاة لأحوال الآخرين، مع الشعور بالمسؤولية حيال مصير المجتمع، و إذا سادت القناعة بين أبنائه بلا إسراف أو تبذير و ما شابه ذلك، بعيدا عن الحرص و الطمع، تحولت حياة ذلك المجتمع إلى جنّة و عيش رغيد.

الرذائل المذكورة هذه هي أسباب البلاء في مجتمعات العالم المعاصر حتى في البلدان الغنية و المتقدمة، و إنّ ما يقلق الإنسانية اليوم هو هذا الخواء الأخلاقي.

لقد ابتعد شعبنا و الحمد للّه ببركة الإسلام و لما يحمله من فضائل أخلاقية و سنن عريقة، ابتعد شيئا عن هذا القلق و تلك المخاوف، و إنّ أغلب الشعوب الإسلامية تتحلى ببركة الإسلام ببعض المزايا الخلقية.

و هذا لا يعني طبعا أننا بلغنا مرحلة الكمال الأخلاقي، بل لدينا نواقص كثيرة يتعيّن علينا رفعها، كالكسل و اليأس، و ضيق الصدر، و التذرع في التعامل مع الآخرين، إضافة إلى الخصال المقيتة التي أشرت إليها آنفا، يجب علينا التخلص منها، و هذا بحد ذاته جهاد.

إنّ الشباب يميل بشكل طبيعي إلى التنافس. حسنا؛ إنّ التنافس الذي نطمح إليه

ص: 231


1- انظر محاسن البرقي: 196/1، و الكافي: 21/1 ح 14.

و نأمل أن يتمرس عليه الشباب هو أن يكون مع النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى الانحطاط و الرذيلة و المانعة عن السمو و التكامل، و كبح جماح تلك النفس.

و الشباب مدعوون لمقاومة نوازع الشهوة و النزوات و جميع الحوافز التي تدفعهم إلى مثل هذه الرذائل.

الشباب لهم الصدارة في هذا الميدان، و غير الشباب مطالبون أيضا. و هذا فرض على الجميع، حتى على أمثالي أيضا، بل نحن أولى به من غيرنا، و أعني المسؤولين و المتصدين للمهام الكبرى و من لا يعكس سلوكهم و قرارهم و تحركهم طبيعة شخصه فقط، بل يمثل سلوك شريحة كاملة و مجتمع برمّته، بل و ربما يمثل في أعين البعض أحيانا سلوك بلد كامل. هؤلاء يجب عليهم توخّي أقصى درجات اليقظة، و هم معنيون بالخطاب الإلهي أكثر من غيرهم و مطالبون بتحقيق الدعاء الشريف «حوّل حالنا إلى أحسن الحال»(1) في ذاتهم.

صحيح أنّ التحول في حقيقته بيد اللّه تعالى، و نحن في هذا الدعاء نطلب منه عزّ شأنه أن يحوّل حالنا إلى أحسن الحال - كما هو الحال في سائر الأدعية - إلاّ أنّ السعي و التحرك إنما يكون من الإنسان، و على الجميع أن يشحذوا هممهم في مجال العمل نحو إصلاح الذات(2).

يجب علينا العمل للوصول إلى طريق يقودنا نحو التقدم العلمي السريع. و السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى هذه الغاية هو بذل الجهود الشاقّة من قبل طلبة العلم و البحث و الدراسة.

إنّ أي عمل يطمح الإنسان إلى أدائه يمكنه أداؤه و هو في دور الشباب. بمعنى أنّ كل واحد من المجالات الثلاثة: اكتساب العلم، و تهذيب النفس، و الرياضة، يجب بذل

ص: 232


1- انظر إعانة الطالبين: 393/4.
2- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1417 ه.

الجهود فيه في سن الشباب. و الكل على معرفة بأن الرياضة في مرحلة الشيخوخة ليس لها نفس تأثير الرياضة في مرحلة الشباب، و لكن غالبا ما يجهل الناس هذا المعنى بالنسبة لتهذيب النفس، و يتصورون أنّ الإنسان يجب أن يمكث إلى أن يدخل في سن الشيخوخة ثم ينهمك عند ذاك في العبادة و تهذيب النفس. في حين يصبح تهذيب النفس في غاية الصعوبة، بل و قد يستحيل أحيانا.

تهذيب النفس في طور الشيخوخة مهمة عسيرة، بينما هي في غاية السهولة لمن هم في سنّكم، أي سن الشباب. و على كل الأحوال ينبغي على الشباب حمل هذه الجوانب الثلاثة على محمل الجد(1).

ص: 233


1- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.

التغيير بيد الإنسان

لا بدّ من الالتفات طبعا إلى أنّ تغيير أية ظاهرة في العالم رهن بيد الإنسان، و كل تحول إنما يجري بإرادة الإنسان. فلو أراد الإنسان إيجاد أي تغيير في حياته و في وضع مجتمعه و بلده، لا بدّ له أن يبدأ التغيير في ذاته، فالتغيير الأخلاقي و الباطني و التوجه نحو الصفاء و الإنسانية و العبودية للّه و التسليم لإرادة إله الكون و خالق الوجود يتضمن تلقائيا سعادة بني الإنسان، و كل ألم و عناء و مشقة يواجهها الإنسان إنّما يعود سببها إلى الابتعاد عن سبيل اللّه، و على أثر عصيان أحكامه.

نحمد اللّه أنّ شعبنا بدأ بخطوة كبرى على هذا السبيل و قطع شوطا بعيدا فيه، و كلّي أمل في أن تسير الشعوب الإسلامية بمرور الزمن قدما نحو مزيد من التمسك بالأخلاق على مستوى الفرد و الجماعة، و الخصال و السجايا الإنسانية النبيلة، و يتعامل مع الأصدقاء بمزيد من الإخلاص و المحبة و المروءة، و مع الأجنبي بمزيد من اليقظة و الوعي و الحزم، إلى أن يتمكن بإذن اللّه من إيصال سفينة النجاة إلى بر الأمان الإلهي(1).

ص: 234


1- من كلمة ألقاها في: 29 ذي القعدة 1418 ه ق.

نماذج للفساد الإجتماعي الأخلاقي

إن الكفاح ينبغي أن ينصب على: الفقر، و الفساد! فإننا لو كافحنا الفقر و الفساد، لتحققت الإصلاحات الإجتماعية و الأخلاقية بمعناها الصحيح.

إن كل مشاكلنا مردّها إلى هذه العناصر المشؤومة و المخربة الثلاثة. كما أن عدم الاستقرار الأمني مردّه أيضا إليها، إذ إن الكثير من عوامل عدم الاستقرار يعود إلى الفقر، و الكثير منها يعود إلى الفساد.

لا بدّ من مكافحة الفقر، بما في ذلك الفقر الفردي و قلة الدخل و كل ما يحول بين الناس و بين الحصول على مستلزماتهم الضرورية في الحياة، ذلك الفقر الذي قال عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «كاد الفقر أن يكون كفرا»(1).

فالفقر يجرّ الإنسان نحو الفساد و الخيانة و الكثير من الطرق الموبوءة. و بالطبع فإن الإنسان المؤمن عادة ما يقاوم، فلا ينبغي أن يكون الفقر - على خطورته - ذريعة للإنحراف عن المسير الصحيح.

كما أن الفقر العام قد يجعل من مدينة ما تعاني من قلة المراكز الثقافية، و المكتبات، و الأندية الرياضية، و الصالات الثقافية، فيتعرض الشباب جراء ذلك للفقر العام.

إن منشأ كل ذلك هو الفقر. و إن مكافحة الفقر تعني استخراج كل ما يمكن من الثروات و الحصول عليها من المصادر الوطنية بشكل مناسب ثم التصرف فيها أيضا و توزيعها بصورة مناسبة و بلا إسراف.

ص: 235


1- الكافي: 307/2 ح 4.

كما أن الفساد هو الفساد الأخلاقي، و الفساد العملي و الوظيفي، و فقدان الضمير في تقديم الخدمات العامة، و عدم الشعور بالمسؤولية في مواجهة الرأي و الذهن الشعبي العام، فهذه كلها ألوان و أنواع من الفساد.

و إن على أولي الحكمة و الضمائر المتيقظة و كل من يحتك بالرأي العام ألاّ يتركوا فرصة للأيادي الملوثة حتى تندس و تبثّ أوبئة الخلاف في البيئة الفكرية!(1).

مكافحة الفساد الأخلاقي

من أنواع الفساد المفاسد الأخلاقية و تفشي المنكرات، فلا بد من التصدي لها و مكافحتها أيضا؛ و إننا نعلم جيدا أن من تعاليم الإسلام تعريف الناس بفضائل الأخلاق و صيانتهم عن المنكرات باللسان و البيان، و هذا صحيح في محلّه، و لكن لا بد من التصدي لحالة تفشي المنكرات و التظاهر بها، فالإسلام يقدم النصيحة و الإرشاد لمرتكب المنكر، لكنه يضع له الحد أيضا.

إن العمل لا ينجز بالتوجيهات اللفظية، بل لا بد من أن تقف سلطة النظام بوجه تيار الفحشاء و الفساد؛ فلا تسمحوا لأهواء حفنة معدودة و مجموعة صغيرة و قليلة في داخل المجتمع أن تكون سببا في إغواء عقول الشباب من الفتية و الفتيات، و المؤمنين من الرجال و النساء الذين لا دافع لهم يحدوهم نحو الفساد.. قفوا بوجه مثل هؤلاء.

و المسؤولية ملقاة على عاتق جميع المسؤولين في هذا المجال، فلا تسمحوا لحفنة من المتشدقين باسم الحرية - و في الحقيقة جدير بنا البكاء على الحرية لما يجري من سوء استغلال لاسمها - بإشاعة المنكرات و الفحشاء و التحلل في المجتمع، إذ إن عاقبة ذلك زرع روح التشاؤم لدى البعض أزاء النظام كما هو الحال في بداية الحركة الدستورية.

ص: 236


1- من كلمة ألقاها في: 22 ربيع الثاني 1421 ه - مدينة أردبيل.

من العوامل التي أدّت إلى فشل الحركة الدستورية في إيران كان شعور المتدينين بعد حين بأن الأمور تتجه نحو اللادينية، فكان الدافع وراء الضجيج الإعلامي المتصاعد وقت ذاك الهجوم على المقدسات الدينية - و لم يكن عدد المناهضين أثناء الحركة الدستورية لأصل الدين و مظاهره و العقائد الدينية و العلماء و يقومون بالمساس بمثل هذه الأمور بين المحافل بالقلم أو الشعار بالعدد الذي يعتدّ به، لكن ضجيجهم كان عاليا - مما أدّى إلى أن يتسرب الفتور تدريجيا للمتدينين و العلماء الذين كانوا يتقدمون الصفوف الأمامية للجهاد في الحركة الدستورية و من ثم تنحّوا جانبا، و لما آل الأمر إلى ذلك اندحرت النهضة و أخفقت الحركة الدستورية، و بعد خمسة عشر أو ستة عشر عاما من عمرها جاء الدكتاتور رضا خان، و إن في ذلك لعبرة، فأين رضا خان العسكري المتجبر من شعار الحركة الدستورية؟! و أيّ هوة تفصل بينهما! فكيف أصبح الأمر كذلك؟! لأن ثقة المؤمنين و قناعتهم قد سلبت فتنحّوا جانبا و تركوا الساحة. فعلى المسؤولين أن لا يسمحوا ببروز مثل هذه الحالة بين المؤمنين(1).

قصة في أثر الفساد

إنني لا أدري إن كنتم قد قرأتم ذلك الكتاب للسيدة «إيزابيل آلنده» أم لا، فهو كتاب جيد و رائع جدا، و إنها من أفراد عائلة «سلفادور آلنده» الذي نعرفه. إنها تذكر في هذا الكتاب أن أحد المسؤولين الكبار في إحدى دول أمريكا اللاتينية قد التقى بابنه في أحد الأماكن المرذولة أخلاقيا، و التي لا يمكن الآن تفصيل الحديث هنا بشأنها. و كان هذا المسؤول قد توجه إلى ذلك المكان من أجل الإطلاع على الممارسات اللأخلاقية للشباب، فوقع بصره على ابنه هناك من طريق الصدفة! فكان وقع الصدمة

ص: 237


1- من كلمة ألقاها في: 12 جمادى الأولى 1422 ه - طهران.

عليه بحيث أدى به إلى صدمة قلبية و حالة عصبية.

إنه لا يوجد في الإسلام فرق بين أبنائك و أبناء الآخرين، فإذا ما وجدت في ابنك صفة مرذولة و ممجوجة و لا يمكن تحملها، فإن عليك أن تشعر بنفس هذه المسؤولية و هذا الشعور تجاه أبناء الآخرين.

و إذا ما حدث و لم تحس بنفس ذلك الشعور فإن ذلك لا يسقط عنك مسؤولية التصرف على نفس الوتيرة.

و لا شك أن ثمة تفاوتا بين مشاعر الإنسان تجاه أبنائه و مشاعره تجاه الآخرين، إلاّ أن المسؤولية واحدة بلا أدنى فرق؛ فلو رأى أبناء الآخرين على شفا السقوط في هاوية الإنحراف أو الابتذال، فعليه أن يحول دون ذلك كما يفعل مع أبنائه تماما(1).

ص: 238


1- من كلمة ألقاها في: 21 رمضان 1241 ه - طهران.

الحجب و قسوة القلوب

أنواع الحجب

إن بعض الحجب حجب ظلمانية، فالحجب التي نتكبل بها نحن و نقع في أسرها و تتشبث بها - حجاب الشهرة، حجاب البطن، حجاب الحسد، و حجاب التمنيات - إنما هي حجب ظلمانية و حيوانية، بيد أن ثمة حجب أخرى تعترض الذين يتخلصون من هذه الحجب و هي الحجب النورانية، فانظرواكم هو سام وراق العبور من هذه الحجب بالنسبة للإنسان، فأيما شعب انس هذه المفاهيم و أورد فؤاده هذا الرحاب و ساوق مسيرته وفق هذا الميزان سيمضي قدما و تتصاغر أمام عينيه الجبال، و خلال برهة تاريخية تبلورت لدى شعبنا مثل هذه الحالة فولدت الثورة الإسلامية، فلا تتصوروا أن هذه الثورة كانت متوقعة، كلا فهي لم تكن كذلك، و كانت على قدر من العظمة، فلم يكن متصورا أن يستطيع شعب و بأيد عزلاء القضاء على نظام فاسد لكنه مدعوم بشكل كامل من قبل القوى الدولية الكبرى الظالمة و يمارس الحكم بأقصى الأساليب الاستبدادية و ليس بمقدور أحد أن ينبس ببنت شفة، و يبدله بما يعتقد و يؤمن به - أي الإسلام - فلم يكن ليخطر ببال أكثر الناس تفاؤلا إمكانية مثل هذا الأمر، بيد أن شعبنا ببركة الإسلام و المعنويات أنجز هذه المهمة، فلقد شحنت المبادئ المعنوية و الأخلاقية و القيم الكبرى هذا الشعب بقوة لم يستطع معها أي ضغط أو إملاء أو تهديد أو حادث مدبر أن يثنيه وسط طريقه و يوقفه، لذلك فقد سار

ص: 239

حتى النهاية.

و كان النموذج الثاني أيام الحرب المفروضة. فلعل أكثركم أدرك الحرب المفروضة لكنني لا أعلم كم من ذكريات الأيام الأولى للحرب ما زالت حية في أذهانكم، لقد تعرض شعب لغزو و لم يكن في الواقع يمتلك المعدات المتداولة، إذ كنا نبحث عن الدبابات فإما لا نجدها أو أنها قليلة أو معيبة، و كذا الاسلحة و الطائرات، و طالما كان القائمون على بعض الأعمال المهمة يرتلون آيات اليأس، غير أن بارقة الأمل الإلهي و الدافع الأخلاقي و المعنوي و الديني و الإيمان بالله حفز قلوب الشباب - من أبناء الحرس الثوري و القوى الشعبية و التعبويين من كافة الطبقات و العناصر المؤمنة المخلصة في الجيش - بحيث استطاعت الأرواح التعويض عن ضعف الأبدان "لبسوا القلوب على الدروع"، و ذاك ما قيل بحق الأنصار يوم كربلاء، فقد لبسوا قلوبهم فوق دروعهم، و الدروع هي التي تحمي الأجسام، لكن القلوب تحمي الأجسام و الدروع معا.

لقد توثبت القلوب المؤمنة النيرة و تحركت الهمم العالية فاقتحمت الجبهة العظيمة الشاسعة التي كان أحد خيوطها بين دوائر المخابرات و وزارة الدفاع الأمريكية، و آخر بيد الناتو، و خيط في الاتحاد السوفياتي السابق، و خيط في خزائن الحكومات النفطية بالمنطقة، و مدلل الجميع النظام البعثي الذي كانوا يمدونه بدعمهم من كل صوب، فكانت أن تحركت هذه الأيادي العزلاء و القلوب النيرة الصلبة المفعمة بالأمل و اقتحمت هذه الجبهة الهائلة و دحرتها، أو مزاح هذا؟! إنها المعنويات فإذا ما تبلورت المبادئ و مصدر الزخم المعنوي لدى بلد أو شعب تتحقق مثل هذه المعجزات.

و هناك نموذج ثالث حصل في لبنان، فاستطاعت ثلة من المؤمنين من أبناء حزب اللّه بعون اللّه تعالى و هممهم الصلبة أن يهزموا الكيان الإسرائيلي الغاصب و يكبحوا جموحه و أطماعه و يطردوه من أرضهم العزيزة و قد كانت الحادثة الأولى هي

ص: 240

الانسحاب و الهروب من جنوب لبنان عام 2001 م(1).

ثم كسروا هيبة هذا الجيش الذي قيل عنه إنه لا يهزم كل ذلك بفضل اللّه المنان و لطف عنايته في الحادثة الثانية عام 2006 م(2).

فانظروا كيف تمكن عدد قليل من الشباب الذين لم يكن لهم من سلاح سوى الايمان من القيام في لبنان بعمل عجزت عنه جميع الجيوش العربية برغم ما تمتلكه من السلاح المتطور، حيث تغلب هؤلاء الشباب على جيش اسرائيل المدجج بالسلاح و أنواع الجهزة المعقدة، و وصم جبينه بالخزي و العار، و هذا هو السرّ في انتصار المؤمنين عبر التاريخ الاسلامي.

فالايمان وحده ليس كافيا اذا لم يكن مدعوما بالعمل الصالح...(3).

لطالما أوصيت - و أوصي الآن - المسؤولين ذوي العلاقة في كافة الحقول - سواء الحقل الإقتصادي أو حقل الشؤون العلمية - أنهم قادرون على إزاحة المشاكل عن طريقهم إذا ما تحولت هذه الهمم و المعنويات و أزيلت الحجب، و هذه الأفئدة الصلبة المتماسكة إلى محور للعمل و الجد في كل ميادين الإعمار و التقنيات المعقدة و في المجالات العسكرية معتمدين على إيمانهم هذا. و أغلبكم يعرف ما أقول، فهذا الزخم المعنوي بمقدوره أن يصنع المعجزات في كافة المجالات.

ينظر بعض السذج إلى بعض البلدان الغنية في العالم و يقولون: إن هؤلاء أثرياء دون دين و لا أخلاق، فلنقتف أثرهم متصورين أن ثراءهم إنما جاء لافتقادهم الدين و الأخلاق! و هذا خطأ، فأيما بلد إذا ما أصبح غنيا و مقتدرا فإنما ذلك لأسباب خاصة من شأنها خلق القدرة و الثروة، فحيثما توفر التدبير و العمل و الجد سيعطي ثماره، و هذه سنّة إلهية.

ص: 241


1- من كلمة ألقاها في: 1384/5/28 ه ش - 1426/7/13 ه ق - 2005/8/19 م.
2- من كلمة ألقاها مباشرة بعد العدوان الأخير على لبنان.
3- من كلمة ألقاها في 27 شعبان 1425 ه. ق 1383/7/22 ه. ش - طهران.

فحتّى الذين يسعون وراء الماديات المحضة بعيدا عن المعنويات سينالونها إن توفرت لديهم الإدارة و التدبير الصحيح و تحلّوا بالجد و الإجتهاد كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ مِنْ عَطٰاءِ رَبِّكَ وَ مٰا كٰانَ عَطٰاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (1)، و هذا هو صريح القرآن و لا كلام فيه، و إنما الكلام فيما إذا كان السعي و العمل وراء الماديات، إذ ذاك ستحصل الثروة و القدرة و لكن بلا سعادة. و نحن نصبوا لتحقيق مجتمع يتمتع بالثروة و الإقتدار و السعادة الشاملة المقترنة بالعدالة و المعنويات، و هذه هي الغاية التي تتطلع إليها الشعوب، و إلاّ فالبلدان الغنية و القوية تعج بالإجحاف و الظلم و الفقر و الحرمان و المرارة، مما لسنا كمسلمين ساعين إليه.

إن المجتمع الذي يمكن تصويره طموحا لشعب حي واع و مستيقظ هو ذاك الذي يذخر بالمعنويات و العدالة و العز و الإقتدار و الثروة و الرفاهية، و إذا ما أردنا لمجموعة من المفاهيم هذه أن تأتلف مع بعضها فذلك مما يتعذر دون المعنويات و المبادئ المعنوية و الأخلاقية و التوجه نحو اللّه تعالى و إزالة كافة الحجب عن القلوب، و دون الجهاد في سبيل اللّه و هذا الذي فيه عزة الأمة الإسلامية(2).

قسوة القلوب و أثرها

من مواعظ أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ للّه عقوبات في القلوب و الأبدان، ضنك في المعيشة و وهن في العبادة، و ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»(3).

أحيانا يعاقب اللّه تعالى عباده في الدنيا، و هذه العقوبة تارة تكون في الحياة المعيشية المادية للإنسان من قبيل ضيق و ضنك العيش، و لكن يجب أن يعلم أن

ص: 242


1- سورة الإسراء: 20.
2- من كلمة ألقاها في: 3 شعبان 1423 ه - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 296.

ضيق العيش ليس دائما يكون عذابا بل أحيانا يكون اختبارا أو ابتلاء إلهيّا و أحيانا تكون نتيجة لعدم الشكر و الأعمال القبيحة من الإنسان.

و تارة أخرى تكون العقوبات في الجانب الروحي من قبيل الضعف و الوهن و عدم التحمّل في العبادات، أكثر الناس لا يلتفتون أصلا لمثل هذه العقوبات.

فالإنسان أحيانا لا يكون لديه رغبة في الدعاء، أو لا يحصل عنده توجه و إقبال و حضور قلب في الصلاة، أو لا يوفق للقيام بالنوافل و التعبّد و المناجاة مع اللّه تعالى، و كل ذلك عقوبة و جزاء على الذنوب التي ارتكبها. و كما ورد في الدعاء: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»(1).

فإنّ أحد الإحتمالات في معنى حبس الدعاء هو أن الإنسان نتيجة لقساوة قلبه لا يكون لديه الرغبة و الميل نحو الدعاء و هذه أعظم عقوبة إلهية(2).

و عن جعفر بن محمد عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، و كثرة مناقشة النساء - يعني محادثتهنّ - و مماراة الأحمق تقول و يقول و لا يرجع الى خير أبدا، و مجالسة الموتى.

فقيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما الموتى؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: كلّ غنيّ مترف».(3)

هناك أربعة أمور تميت القلب أي يصبح الإنسان باردا و فاترا عن التوجة نحو اللّه تعالى و عن ذكره و عن اللذة الحاصلة منهما. و هي:

1 - الذنب على الذنب، فإن الإنسان ليس معصوما عن الذنب و لكنه يتوب الى اللّه تعالى عند ارتكابه الذنب و يستغفر اللّه و يندم و يعزم على عدم العودة الى الذنب مجددا، فإذا ارتكب الذنب مجددا يكون ذنبه بعد التوبة.

ص: 243


1- فقرة من دعاء كميل.
2- كلمات مضيئة: 174.
3- الخصال/باب الأربعة/ح 65، و روضة الواعظين: 414.

أما إذا لم يتب الى اللّه تعالى من ذنبه و غفل عن ذلك و ارتكب ذنبا آخر فيكون قد أذنب على الذنب. و هذا الأمر يميت القلب بسبب تراكم الظلمات عليه.

2 - كثرة المحادثة و المناقشة مع النساء. طبعا ليس المراد من النساء هنا زوجته و بناته و أخواته و أمثالهنّ بل المراد المرأة الأجنبية عليه، فإن محادثتها لا تخلو من الزلات و الشهوات.

3 - المجادلة و المباحثة مع الأحمق. فإن بعض الأشخاص الجاهلين لا يحكم على أعمالهم و أقوالهم العقل و المنطق، فليس هناك فائدة من الكلام و المباحثة معهم لأنه لا يترتب عليه أي نتيجة صحيحة.

4 - مجالسة الموتى. و فسّر النبي صلّى اللّه عليه و آله الموتى بالأغنياء الغارقين في الماديات و المفاسد الناشئة منها(1).

ص: 244


1- كلمات مضيئة: 175.

زيغ القلوب

إن ما يقض مضجعي أحيانا هو "الزيغ"، فقد ورد في سورة آل عمران قوله تعالى رَبَّنٰا لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ (1)، أي لا تترك قلوبنا تزيغ و تنحرف عن صراط الحق إلى الباطل. و القرآن هنا ينقل دعاء عباد اللّه، و يقول تعالى في سورة الصف بخصوص بني إسرائيل: وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ (2)، و كأن في هذه القضية فعلا و إنفعالا و إقداما مزدوجا أحد طرفيه بيد الإنسان نفسه، أما نتائجه و عواقبه فهي بيد اللّه سبحانه؛ فَلَمّٰا زٰاغُوا، أي إنهم خطوا خطوة منحرفة أوقعتهم في منحدر الزيغ، حينها أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ أي أضلهم اللّه و أزاحهم عن جادة الصواب، و ما أدراك ما تعنيه هذه الإزاحة الإلهية! إنها تعني سلب التوفيق الإلهي.

هذا ما ورد بحق بني إسرائيل و هو لا يختص بهم؛ فبنو إسرائيل بالرغم من أنهم عاصروا فرعون و شهدوا حقانية موسى و رأوا بأم أعينهم كيف أن اللّه سبحانه أجرى هذه الحركة العملاقة على يدي عبده موسى بن عمران "ع"، بنو إسرائيل الذين شاهدوا بأعينهم البحر و عساكر فرعون و تلك الأحداث المذهلة المدهشة، فإنهم وقعوا أسرى الأهواء النفسية و الغفلة فانزلقوا "زاغوا" في هذا المنحدر، ففي هذه الآية يخاطبهم موسى لِمَ تُؤْذُونَنِي؟! و في سورة الأحزاب يقول تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ

ص: 245


1- سورة آل عمران: 8.
2- سورة الصف: 5.

آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً (1) ، و هذا الخطاب موجه لي و لكم أيضا، فالزيغ من قبلهم عبارة عن الاستسلام للأهواء و الشهوات و النزوع نحو المادية و الثروة و النزوات الجنسية و سائر الأمور التي هي مصدر ويلاتنا، و يقابله من اللّه تعالى سلب رحمته و تسديداته التي كان يغدق بها علينا.

إن أي تحرك خاطئ يصدر منّا و أية خطوة بعيدة عن الصواب و العدالة نقدم عليها و أي فعل نمارسه ناجما عن النوازع و الأهواء النفسية إنما يسير بنا خطوة نحو لهوات الفساد و الابتعاد عن اللّه سبحانه أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ، و هذا الإنزلاق إنما يأتي على دفعات، و هنا تكمن خطورته؛ فعاقبة الانزلاق تضاؤل عمل الإنسان بادئ الأمر ثم تأخذ أخلاقه و سجاياه بالاهتزاز و التأثير و يتحول من كان صادقا وفيّا ذا شعور بالمسؤولية إلى إنسان متذبذب عديم الوفاء و غير مسؤول تدريجيا، و يطال التبدل أخلاقه أيضا.

و في المرحلة اللاحقة يبدأ التبدّل في عقائد الإنسان، و هذا الفساد الذي كنا ننظر إليه يوما بعين الاحتقار يأخذ بتغيير هويتنا و تدمير أخلاقنا شيئا فشيئا. يقول تعالى في إحدى آيات القرآن الكريم: فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2)، و هذه هي المعادلة التي يعتمدها الباري تعالى في تعامله مع الإنسان، أي أنها - في واقع الأمر - منوطة بأعمالنا، فنحن خلال أعمالنا نحول دون أن تشملنا الرحمة الإلهية، و لئن حرمنا الرحمة الإلهية فإننا ندنو أكثر فأكثر نحو الفساد و الضلال.

إننا نقرأ في الدعاء "اللهم إني أسألك موجبات رحمتك"،(3) فالإنسان يسأل اللّه موجبات رحمته، و من الطبيعي أن لا تنزل علينا الرحمة الإلهية إن فقدت هذه

ص: 246


1- سورة الأحزاب: 69.
2- سورة التوبة: 77.
3- بحار الأنوار: 63/83.

الموجبات من أعمالنا، و هذا هو الزيغ(1).

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ اللّه جلّ و عزّ حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا:

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب، حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها»(2).

حكى اللّه تعالى في كتابه الكريم عن قوم صالحين مؤمنين أمضوا عمرهم و حياتهم في طريق الإيمان أنّهم قالوا هذه العبارات، و ذلك لأنّهم علموا أنّ القلوب تزيغ و لا تثبت دائما بل من الممكن أن تعود إلى الضلال و العمى.

فسألوا اللّه تعالى أن لا يرجع قلوبهم إلى الضلال و العمى و الهلكة و أن لا يسلب عنهم نور الهداية، و أن يعطيهم و يهبهم اللّطف و الرحمة.

و إذا كان هذا حال الصالحين حيث هذا الخطر محيط بهم و يترقّبهم فكيف بغيرهم؟!

إذن فالتعلق بالشهوات و حبّ المنصب و المقام و المحبة المفرطة للأبناء و الأقارب و ضعف الأخلاق هي أيضا نقاط أخرى لهذا الخطر، و إذا غفل الإنسان عنها لحظة فمن الممكن أن يعود القلب و يزيغ و يتزلزل.

إنّ مضمون هذا الدعاء يجب أن نطلبه دائما من اللّه تعالى و نسأله أن يوفّقنا لذلك(3).

ص: 247


1- من كلمة ألقاها في: 26 رمضان 1422 ه - طهران.
2- تحف العقول، صفحة: 388.
3- كلمات مضيئة: 174.

تطهير القلوب

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ المسيح عليه السّلام قال للحواريّين: بحقّ أقول لكم، لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا و باطنه فاسدا، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم و قد فسدت قلوبكم، و ما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم و قلوبكم دنسة.

لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب و يمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم و يبقى الغلّ في صدوركم»(1).

يقول النبي عيسى عليه السّلام في وعظه و نصيحته لخواص أصحابه المعروفين بالحواريّين:

إنه من غير اللائق بالإنسان أن يكون بدنه سليما معافى بينما تكون روحه و قلبه فاسدا و منحرفا، نظير الشخص الذي يكون ظاهره نظيفا مرتّبا بينما ما يكون تحت هذا الظاهر المزيّن المرتّب هو القذارة و الوسخ.

فالإنسان لا ينبغي له أن يتكلّم بالحكمة و بالعلم ليستفيد منه الآخرون و يجدوا طريق سعادتهم به و الحال أنه هو لا يعمل بذلك و لا يستفيد شيئا. فهو نظير السراج الذي يضيء للآخرين الطريق و أما هو فيحترق و يعدم، أو نظير الغربال الذي تعبر منه المواد القيّمة و النفيسة و أمّا النخالة و المواد التي لا فائدة منها تبقى فيه(2).

ص: 248


1- تحف العقول، صفحة: 393.
2- كلمات مضيئة: 41.

ظاهر الإنسان يعكس باطنه

جاء في أحد أدعية الصحيفة السجادية - الدعاء الثالث - عن الإمام السجّاد عليه السّلام:

««اللّهم ارزقني عقلا كاملا، و عزما ثاقبا، و لبّا راجحا، و قلبا زكيّا، و علما كثيرا، و أدبا بارعا و اجعل ذلك كله لي، و لا تجعله عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين»(1).

و هنا اريد التأكيد على الفقرة الثالثة من الدعاء و هي: و لبّا راجحا.

فهناك صنفان من الناس: صنف ليس له إلاّ الظاهر؛ فظاهره جذّاب و ملفت للنظر و مثير للخضوع في بعض الأحيان، بينما باطنه فارغ و متهرئ و هذه من أرذل صفات الإنسان الذي يسعى لأن يكون منشأ لخدمات عظيمة في المجتمع، نعوذ باللّه من ذلك.

و الصنف الثاني: باطنه أنصع من ظاهره كيفما كان ذلك الظاهر.

و الإمام السجّاد عليه السّلام يعلّمنا أن نطلب من اللّه سبحانه أن يجعلنا من الصنف الثاني.

و نحن نعلم أنّ الدعاء ليس مجرّد لقلقة لسان و لكنّه دروس تعلّمنا كيف يجب أن تكون أخلاق الإنسان و سلوكه. فالنفاق من صفات الصنف الأوّل، و الزهد الفارغ من صفات الصنف الأوّل؛ و هو صنف ليس له أيّ دور إيجابي في المجتمع الإسلامي لا في الحرب و لا في السلم، لا في الشدّة و لا في الرخاء، و لا يمكنه تحمّل المسؤوليات و المهام الكبيرة؛ لأنّه لا يمتلك إلاّ الظاهر الذي ينهار بسرعة أمام المشاكل و الصعاب التي يتعرّض لها الإنسان في حياته.

بينما التربية الإسلامية تقوم على اسس و مبان مغايرة لذلك تماما؛ فهي تربّي

ص: 249


1- الصحيفة السجادية: 177.

الإنسان بأن يحافظ على ظاهره الإسلامي و لكنّها تعطي في الوقت نفسه الأهميّة القصوى للباطن. إذ يجب أن يكون باطن الإنسان أنزه و أفضل من ظاهره.

و التصوّر بأنّ ظاهر الإنسان ليس له أهمّية لأنّ الأصل هو الباطن فكرة بيّنة البطلان.

صحيح أنّ المهم في الإنسان هو باطنه، و لكن يجب أن يكون ظاهره مرآة تعكس ما في سريرته (الظاهر عنوان الباطن).

فلا بدّ للإنسان من إصلاح ظاهره و لا يجوز له التظاهر بالأعمال القبيحة. و يجب أن تظهر علامات العبودية للّه سبحانه و تعالى على وجه كلّ واحد منّا. و على أيّة حال يجب أن يكون باطن الإنسان المسلم أنصع و أنزه من ظاهره.

اللّهم إنّا نقسم عليك بمحبوب عالم الوجود و قطب رحى جميع الفضائل و الكمالات الإنسانية الإمام الحجّة (عجّل اللّه تعالى فرجه) أن تجعل بواطننا خيرا من ظواهرنا(1)..

ص: 250


1- من كلمة ألقاها في 1414 ه - مصلى طهران.

الدنيا

عدم اتّباع الدنيا

يوصينا أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «و أن لا تبغيا الدنيا و إن بغتكما» بمستلزمات التقوى و كلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوى، و من جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره عليه السّلام، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا و بالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا.

فما ذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض و إحياء الثروات الطبيعية؟ و هل هذه هي الدنيا التي ذمّها أمير المؤمنين عليه السّلام و حذّر منها؟ لا، ليس الأمر كذلك. فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات و السعي وراء الشهوات.

أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية و صلاحها، فهو الآخرة بعينها و هو أمر يجب السعي إليه.

الدنيا المذمومة

أمّا الدنيا المذمومة و التي نهي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير و الصلاح و تسلب منه إرادته و تستهلك قواه و سعيه و همّته

ص: 251

و هي تعني الأنانية و حبّ الذات و السعي وراء جمع الأموال و السعي وراء اللّذات.

و هذه الدنيا على قسمين فمنها المباح و منها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حراما بل إنّ فيه المباح أيضا.

و لكن أهل البيت عليهم السّلام أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عند ما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات و الشهوات فقط. فأجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية و المعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها.

إنّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفا مقدّسا، فحتّى التجارة «مثلا» يمكن أن تجعل في سبيل اللّه عند ما يكون الهدف منها تحسين الوضع الإقتصادي للمجتمع و ليس ادخار الأموال الطائلة فقط.

و قد كان أمير المؤمنين عليه السّلام هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا و قد جسّدها بشكل كامل في حياته و سلوكه. فإذا ألقينا نظرة على حياته عليه السّلام فسنجدها تجسيدا حيّا لكلّ ما أوصى به عليه السّلام.

و مما قال عليه الصلاة و السّلام: «و لا تأسفا على شيء منها زوي عنكما»(1) أي لا تأسفا على ثروة أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة و الرخاء و لا تأسفوا على أي شيء فاتكم من هذه الدنيا الدنية أبدا(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(3).

إنّ أصل و أساس كلّ الخطايا هو حبّ الدنيا.

و لكن لا ينبغي هنا الإشتباه و الخلط بين حبّ الدنيا بمعنى السعي و الجد من أجل إعمار و بناء العالم و السعي و الجد من أجل تهيئة و تأمين وسائل العيش و الحياة، و بين

ص: 252


1- نهج البلاغة: 76/3 ح 47.
2- من كلمة ألقاها في: 12 رمضان 1414 ه - طهران.
3- الخصال، باب الواحد، ح: 87.

حبّ الدنيا المذموم و هو المطامع الشخصية للإنسان أي ما يريده الإنسان في هذه الحياة من أجل نفسه فقط سواء أ كان مالا أم مقاما أو ثروة أو سلطة أم سائر الشهوات النفسانية.

إذن فالجد و السعي في مختلف ميادين الحياة كالزراعة و التجارة و تحصيل العلم ليس مذموما، و إنما المذموم هو حبّ الدنيا بأن يفعل الإنسان أي شيء من أجل تلبية شهواته النفسانية و يضع سائر القيم الأخرى تحت قدميه، فينسى و يترك كل القيم و المفاهيم الإنسانية من قبيل الإنصاف و التحمّل و الرحمة وصلة الرحم و يسعى دائما نحو المال أو السلطة أو الرغبات النفسانية و يسلك الطرق المحرّمة اللاّمشروعة من أجل تأمينها و بسط يده عليها.

أو يسلك الطرق المحللة شرعا و لكن مع الإسراف و التبذير و الإفراط فيها.

إنّ هكذا دنيا هي الأساس و الأصل لكل الخطايا.

إنّ كل الحروب و النزاعات و الإنحرافات الكبيرة مبدأوها و منشأوها حبّ الدنيا.

و أما إذا أخرج العبد المؤمن حبّ الدنيا من قلبه أو استطاع السيطرة عليها و ترويضها و السير بها ضمن دائرة المقررات و الوظائف الشرعيّة و الإنسانية، فهذا لا يكون مسخّرا لحبّ الدنيا.

إذن يجب على الإنسان أن يراقب نفسه دائما لئلاّ يقع في الزلل و السقوط و هذه المراقبة هي المقصودة من التقوى(1).

و عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «مطلوبات الناس في الدنيا الفانية أربعة: الغنى و الدعة و قلة الإهتمام و العز. فأما الغنى فموجود في القناعة فمن يجده في كثرة المال لم يجده، و أما الدعة فموجودة في خفّة المحمل فمن طلبها في ثقله لم يجدها.

ص: 253


1- كلمات مضيئة: 35.

و أما قلّة الإهتمام فموجودة في قلّة الشغل، فمن طلبها مع كثرته لم يجدها.

و أما العزّ فموجود في خدمة الخالق فمن طلبه في خدمة المخلوق لم يجده»(1).

متطلبات الناس في الدنيا الفانية عبارة عن أربعة أمور:

1 - الغنى و عدم الحاجة.

2 - الأطمئنان و الراحة.

3 - قلة الاهتمام و الانشغال.

4 - العزّ.

أما الغنى فقد جعله اللّه في القناعة، فإذا اقتنع الإنسان في حياته و رضي بالمقدار القليل منها فإنّه سوف يشعر بعدم احتياجه للآخرين، و أما إذا أراد أن يتحصن بالمال لرفع حاجته فلن يصل الى ذلك، لأن طبيعة مال الدنيا أنّ الإنسان كلما أكثر منه كلما ازداد عطشا للأزيد.

و أما الراحة و الدعة فقد جعلها اللّه تعالى في خفة المحمل أي يكون خفيف الحمل في الدنيا فكلما كان متاعه من الدنيا قليلا و خفيفا كلما ازداد راحة و طمأنينة. و لذلك فإن أصحاب الأملاك الكثيرة و الرساميل الزائدة من الضياع و السلع و العقارات لا يرتاح بالهم و لا يكونون مطمئنين.

و أما قلّة الاهتمام فهي موجودة في قلة الإنشغالات، فإن الإنسان إذا كان بصدد تحصيل المشاغل و المناصب المختلفة سيزداد اضطرابه و تشويش ذهنه و انشغال قلبه و اضطرابه.

و أما العز فقد جعل في خدمة الإنسان للّه تعالى و إن أدّى ذلك الى عدم رضا الناس عنه.

و أما لو كان العزّ في كسب و تحصيل رضا الناس و السعي و العمل لأجل تحصيل

ص: 254


1- الخصال/باب الأربعة/ح 7.

رضا الأحزاب و الأجنحة المختلفة فسوف لن يحصل عليه أبدا.(1)

حقيقة الدنيا و أقسامها

عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام:

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين و ركون من اتّخذها أبا و امّا. يا موسى لو و كلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها. يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه، فإن الخير كإسمه. و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى كل مفتون بها و موكل إلى نفسه، و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا، و لا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق. و لا تغبطنّ أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه، و لا تغبطنّ مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتّباعهم إيّاه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه»(2).

الحديث مرسل، لكن ليس معلوما ظاهرا أن يقدح الإرسال بمفاد الأحاديث الأخلاقية التي تعرض حكمة أو تبيّن حقيقة من الحقائق؛ لأنّ مثل هذه الأحاديث لا تنطوي على حكم فقهي حتى يناقش الإنسان في حجيّته و يقول لا يمكن التعبّد بالخبر المرسل، بل إنّ مؤدّى هذه الأحاديث حقائق ما أن ينظر إليها المرء حتى يسلّم بصحتها و اعتبارها و إتقانها.

و واضح أنّها إمّا نصّ كلمات المعصوم عليه السّلام أو هي مقتبسة من كلامه و حديثه عليه السّلام.

إذن كون الحديث مرسلا يجب أن لا يثير أي شبهة أو ريب أو تردد في خصوص

ص: 255


1- كلمات مضيئة: 35-36.
2- الكافي: 135/2 ح 21.

الأخذ بمضمون هذا الحديث.

و إذا ما تجاوزنا مسألة الإرسال في هذا الحديث، فإن رجال السند هم من الثقات الأجلاء. فعلي بن إبراهيم و إبراهيم بن هاشم غنيان عن التعريف. و ابن محبوب (حسن ابن محبوب سراد) من الثقات و من العظماء، و على قول: إنّه من أصحاب الإجماع.

أمّا «ابن أبي يعفور» فهو رجل جليل القدر ينقل عن لسانه هذا القول «و اللّه لو فلقت رمانة نصفين و قلت هذا حرام و هذا حلال لشهدت أنّ الذي قلت حلال حلال و أنّ الذي قلت حرام حرام»(1).

و نفسه الذي أجابه الإمام عليه السّلام مرتين بقوله: «رحمك اللّه» و بعد وفاته كتب الإمام الصادق عليه السّلام كتابا إلى المفضّل في الكوفة يطلب منه إعطاءه الوكالة التي كانت عند «عبد اللّه بن أبي يعفور» و قد كرر الإمام عبارة «صلوات اللّه عليه» بعد كل مرة يذكر فيها اسم «عبد اللّه بن أبي يعفور»(2).

... قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: في ما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى عليه السّلام، يتضح من هنا أنّ الباري عز شأنّه بصدد بيان أسمى الحقائق و الحكم لنبيّه العظيم؛ و لذلك عبّر في الحديث بلفظ (ناجى) و لم يقل (أوحى). فلعل في التعبير بلفظة (ناجى) قرينة على ما قلناه من أنّ اللّه تعالى شاء أن يبيّن مواضيع هامة جدا لموسى عليه السّلام عن طريق النجوى.

«يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين»(3) و يراد بالركون الميل القلبي و التعلّق الروحي: أيّ أنّه لو لم يكن التعلّق بالدنيا لما ظلم الإنسان عباد اللّه و لما عذبهم و آذاهم، فالظلم هو ذروة التعلّق بالدنيا و الركون إليها.

ص: 256


1- انظر اختيار معرفة الرجال: 518/2 ح 462.
2- انظر معجم رجال الحديث: 105/11.
3- الكافي: 135/2 ح 21.

«ركون من اتخذها أبا و امّا» أي كالذي جعل الدنيا همّه الوحيد و شغله الشاغل بحيث أنّه لا يفكر في شيء سواها كالطفل يلجأ إلى أبيه و امه يتعلق بهما و لا يفكر بأحد غيرهما.

«يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذن لغلب عليك حب الدنيا و زهرتها» و قوله (لتنظر لها) غير (لتنظر إليها) فالنظر إلى الدنيا ليس مذموما، و إنّما المذموم هو (النظر للدنيا) أي التفكير بالدنيا.

ما المراد بالدنيا؟

إنّ المراد بالدنيا في هذا الحديث و الأحاديث المشابهة له ليس الأرض و ما يتعلق بها و لا العمران أو الانشغال بامور الناس أو ما شاكل ذلك، بل المراد من الدنيا هو مظاهرها: كالمال و الجاه و المنصب و التي يجهد الناس أنفسهم للحصول عليها.

إذن كل ما على الأرض من نعم و طيبات و جمال تصبو إليها النفس الإنسانية يعبّر عنه في لسان الروايات و الأحاديث ب (الدنيا) و بالطبع فهي دنيا مذمومة.

و من الواضح أنّ الإنسان كلما ازداد تفكيره بالدنيا و انشغل بها أكثر ازداد رغبة و تعلقا بها، و ازداد شوقه إليها، و إذا أعرض عن الدنيا فسيقل حبه لها بالتدريج.

و ليس المقصود من هذه الرواية و أمثالها أنّ يقعد الإنسان عن العمل و الجد و يقبع في زاوية بيته، كما تصور البعض هذا المعنى المغلوط و لسنوات - و منهم لقرون - متمادية فنهج نهجا خاطئا و اختار العزلة و الإنزواء بعيدا عن صخب الحياة و ميادين العمل و الجد و الإجتهاد، ناسبا هذا اللون الخاطئ من الفهم للإسلام، إذن المراد بالدنيا ليس هذا المعنى المغلوط.

«يا موسى نافس في الخير أهله و استبقهم إليه فإن الخير كإسمه».

أي أنّ معاني الخير و مصاديقه هي كإسمه جميلة و مرضية، و يبدو أنّ المقصود من

ص: 257

الخير الأعمال الصالحة ذات الطابع العام من قبيل الإحسان إلى المؤمنين و مساعدة الاخوان و الاتحاد و عبادة اللّه تعالى و الزهد في الدنيا و غير ذلك من الصفات الحميدة.

و يأتي لفظ الخير بمعنى أفعل التفضيل و يدلّ على الأفضلية؛ و بذلك يكون معنى الحديث: أنّ أفعال الخير كإسمه أفضل من أي شيء آخر. فإذا قام أحدكم بعيادة مريض أو أسدى إحسانا إلى مؤمن، أو تعاون مع الآخرين لإنجاز أمر من الامور، أو طلب علما، أو أعرض عن الدنيا و زخارفها أو جاهد في سبيل اللّه أو عبده عزّ و جلّ، كل هذه الأعمال هي أعمال خير، و هي أفضل من أي شيء آخر يمكن أن يخطر على بال الإنسان، من قبيل المال و الولد و الجاه و المنصب و ما شاكل ذلك من امور مادية و دنيوية.

المرحوم المجلسي في شرحه لهذا الحديث يورد عدة إحتمالات أحدهما المعنى الذي قلناه، و هناك إحتمالات اخرى و لكن الظاهر أنّ هذا الإحتمال هو المتيقن.

«و اترك من الدنيا ما بك الغنى عنه و لا تنظر عينك إلى مفتون بها». إمّا أنّ نعتبر «عين» فاعل أي أمنع عينك من أن تنظر و ترى، أو بمعنى لا تري عينك و لا تعرض عليها، أو أن تكون كلمة «عينك» منصوبة بنزع الخافض ل «لا تنظر بعينك».

«و اعلم أنّ كل فتنة بدؤها حب الدنيا» أي أنّ منشأ الفتن هو حب الدنيا. و هذه الحقيقة تؤيّدها و تسندها الشواهد التأريخية، فأينما تجد فتنة أو ضلالا أو خلطا بين الحق و الباطل فستجد أنّ أساس و منشأ ذلك كله هو حب الدنيا و حب الجاه.

«و لا تغبط أحدا بكثرة المال» و هذه من موارد الابتلاء الموجودة في مجتمعنا عند ذوي النفوس الضعيفة.

«فإنّ مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق» أي عند ما تكثر أموال المرء تكثر الحقوق التي عليه مما يؤدي إلى كثرة الذنوب؛ فيتضح من ذلك أنّ الحقوق و الواجبات إذ كثرت فإن الإنسان سيعجز عن تأديتها، و لو لم يكن ليعجز عن تأديتها

ص: 258

لما ترتّب عليه ذنب من الذنوب.

هذا إذا كان المال قد اكتسب من الحلال و لو كان عن طريق الحرام فإن الموضع سيسوء أكثر فأكثر. و يحتمل أن الحديث يشير إلى خصوص كثرة المال عن حرام: أي أنّ الإنسان عند ما يحصل على المال عن طريق الحرام فإنّه لا بدّ و أن يكون قد ضيّع حقوقا كثيرة فإن «في حلالها حساب و في حرامها عقاب»(1).

«و لا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أنّ اللّه راض عنه». فإذا رأيت الناس قد اجتمعوا حول شخص ما و أخذوا يهتفون له و يتوددون إليه فلا تغبطه ما دمت لا تدري هل اللّه راض عنه أو لا، فما يدريك لعل في باطنه - لا سمح اللّه - ما يوجب غضب الباري عزّ و جلّ عليه، و حينئذ لا ينفعه رضا الناس، حتى و لو كان رضى الناس حقيقيا.

«و لا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له و اتباعهم إياه على غير الحق هلاك له و لمن اتبعه».

أرجو العلي القدير و أسأله بحرمة المعصومين عليهم السّلام أن لا يجعلنا من التابعين و لا من المتبوعين على غير الحق.

و حتى لو لم يكن لهذه الرواية سند أصلا، فإن مما لا شك فيه أنّها تتضمن حكما متعالية تنير لنا الطريق و تهدينا سبل الرشاد، إذن لا بدّ لنا من التمسك بما في هذه الرواية من تعاليم و نصائح إسلامية(2).

ص: 259


1- انظر بحار الانوار: 23/75 ح 98.
2- من كلمة ألقاها في: 9 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.

هذه الدنيا زائلة

هذه الحياة الدنيا - طالت أو قصرت - فهي إلى زوال، و ما هي إلاّ ساعة كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة»(1).

غير أنّ الإنسان لا يدرك هذه الحقيقة و هو في سن الشباب، و لكن حينما يتقدم به العمر و يفهم الحياة يدرك أنها ساعة واحدة لا أكثر. و هذا ما يوجب استغلال هذه الفرصة بأقصى ما يمكن؛ لأن حقيقة الذات الإنسانية هي الباقية بعد هذه النشأة و هي التي تعيش الحياة الحقيقية إِنَّ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ (2)، و هي التي يمكنها لقاء اللّه، و نيل تلك الحقيقة التي عيّنها لها اللّه تعالى، لكي لا تنحرف و لا يعتورها النقصان و الخلل، و لا تقع في العذاب. و هذا الخيار بأيديكم. و لا بدّ أن تنصبّ جهودكم طوال أعماركم في هذا الإتجاه، و كل ما سوى هذا خطأ و إنحراف.

كل من يجعل الدنيا و لذاتها و شؤونها اليومية أكبر همّه فهو مخطئ، و لا بدّ أن يأتي اليوم الذي يعي فيه خطأه و لكن بعد ما يكون الوقت قد فات و لا يمكن عندها فعل شيء. و لكن إذا أردتم السير على هذا الطريق فعليكم السير فيه باندفاع و إخلاص و شوق، و عليكم باستثمار فترة شبابكم من أجل التقرّب إلى اللّه(3).

ص: 260


1- بحار الأنوار: 164/74 ح 2.
2- سورة العنكبوت: 64.
3- من كلمة ألقاها في: 4 رجب 1418 ه ق/حسينية الإمام الخميني (قده) - طهران.

علاقة الدين بالدنيا

إن المحور الأساسي في مذهب إمامنا العظيم، يكمن في علاقة الدين بالدنيا، و هو ما يعبّر عنه أيضا بالدين و السياسة، و الدين و الحياة.

لقد إتّخذ الإمام الخميني الراحل قدس سره رأي الإسلام منطلقا له في بيان علاقة الدين بالدنيا.

يرى الإسلام أنّ الدنيا قنطرة الإنسان لبلوغ الكمال، و أنّها مزرعة الآخرة.

و من هذه الزاوية و هذه الرؤية تكون الدنيا عبارة عن الإنسان و العالم.

و أنّ حياة الإنسانية و جهودها و علمها و حقوقها و واجباتها و تكاليفها و مواطنها السياسية، و أنّ اقتصاد المجتمعات و المشاهد التربوية، و مشاهد العدالة، تشكل بأجمعها ميادين الحياة.

و عليه تكون الدنيا المضمار الأساسي للتكليف و المسؤولية و الرسالة الدينية.

لقد جاء الدين كي ينظّم الجهود الإنسانية و يعمل على هدايتها في هذه الرقعة الواسعة و المساحة المتنوّعة.

و على هذا التفسير لا يمكن الفصل بين الدين و الدنيا، فالدين لا يمكنه العثور على غير الدنيا كمضمار لأداء رسالته.

كما أنّ الدنيا بمعزل عن الهندسة الدينية و برنامجها، حياة خالية من الروح و الحقيقة و المحبّة.

إنّ الدنيا و الوسط الإنساني لو افرغ من الدين فإنّه سيتحوّل إلى غابة و ما يسود الغابة من القوانين و النظم.

إنّ من حق الإنسان في هذا الميدان العظيم أن يستشعر الأمن و الطمأنينة و يمضي

ص: 261

قدما نحو التكامل المعنوي و السمو الروحي، و لا ينبغي في ميدان الحياة أن تجعل القدرة المادية مقياسا للحق.

و لا يمكن لغير الدين حمل أعباء الحاكمية الصحيحة في هذا المضمار(1).

الفصل بين الدين و الدنيا

إن الفصل بين الدين و الدنيا يعني تفريغ الحياة و السياسة و الاقتصاد من المعنوية و العدالة و تسديد ضربة قاضية لهما.

إنّ الدنيا بما تعنيه من إعداد فرص الحياة للإنسان، و النعم المنتشرة في بقاع العالم و ما تحتويه من الجمال و الحلاوة و المصائب و المرارة، وسيلة للنمو الإنساني و تكامله.

و إنّ الدين ينظر إلى هذه الأمور بوصفها وسائل تمكّن الإنسان من مواصلة طريقه نحو التعالي و التكامل و تفجّر الطاقات الّتي أودعها اللّه في وجوده.

إنّ الدنيا التي تحمل هذا المعنى لا يمكن انفكاكها عن الدين، و إنّ السياسة و الاقتصاد و الدولة و الحقوق و الأخلاق و العلاقات الفردية و الاجتماعية الّتي تنطوي على هذا المفهوم لا يمكن فصلها عن الدين.

و من هنا كان الدين و الدنيا في منطق إمامنا العظيم مترابطين و ممتزجين مع بعضهما ارتباطا و امتزاجا وثيقا لا يمكن معه الفصل بينهما(2).

ص: 262


1- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/3/14 ه ش. - الموافق 26 /ربيع الثاني/ 1426 ه - الموافق 2005/6/4 م. - طهران.

الدنيا مزرعة الآخرة

يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في إحدى خطبه في نهج البلاغة: «ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق»(1)، فهذه الدنيا دار الاستعداد، فاعملوا على إعداد أنفسكم و أنتم في ميدان الاستعداد و في هذا المعسكر الكبير للوفود من أجل لقاء اللّه يوم القيامة، و أعدوا أنفسكم لمواجهة الحساب الإلهي و المساءلة الإلهية، فاليوم يوم الاستعداد و يوم بناء النفس، و غدا - يوم القيامة - يوم السباق و المنافسة نحو مصير نقرره لنا و نحسم أمره هنا بأنفسنا، «و السبقة الجنة و الغاية النار» فما يعطى للفائزين يوم القيامة هي الجنة، و ما يعطى للخاسرين يوم القيامة هي جهنم و النيران. «أ فلا تائب من خطيئته قبل منيته» فهو عليه السّلام يدعو الناس لإصلاح ما قد بدر عنهم من خطأ و ليبحثوا عن طريق الهداية و ليسلكوا طريق الصلاح و السداد «أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه».

إن ميدان حياتنا هو ميدان الاستزادة، ميدان كسبنا و تحصيلنا، ميدان نشاطنا العلمي و السياسي، و إنّ دارنا و كافة مرافق حياتنا هي ميدان عملنا في سبيل اللّه، ميدان الجد و الاجتهاد لغد(2).

إنّ الإسلام يرى أنّ الدنيا جزء من الآخرة، فحياتكم و تجارتكم و تحصيلكم للعلم و عملكم الإداري و السياسي هي حياة دنيوية لكنها جزء من الآخرة.

فإن تؤدوها بنيّة صالحة فهي حسنة توصلكم الى القرب الإلهي و الى المقامات

ص: 263


1- بحار الأنوار: 43/88.
2- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1423 ه - طهران.

المعنوية في الآخرة، إن تؤدوها - لا سمح اللّه - بنية سيئة، بنيّة العجب و التكبّر فنتيجتها السقوط في المهالك و الدرك الأسفل، إذ لا انفصام بين الدنيا و الآخرة.

لكن السيئ أن يسعى الإنسان للحياة المادية في هذه النشأة بنيّة سيّئة، و هذه هي الدنيا المذمومة، لكن لا فصل بين هذه النشأة و تلك، بل هذه الدنيا مزرعة الآخرة.

فما معنى المزرعة؟ و هل يمكن قطف الثمار من غير المزرعة؟ إذا في هذه دلالة على نهاية الوحدة بين الدنيا و الآخرة، فبالرغم من اهتمام الإسلام بالامور الدنيوية؛ إلاّ أنّ الإسلام في الوقت نفسه دين المعنويات، في الإسلام يجب أن تتجه القلوب نحو اللّه، يجب أن تكون النيّات خالصة للّه، فهذه من خصائص الإسلام و من وسائل نشر الإسلام.

إنّ ما نشعر به اليوم في الدنيا من نقص - نعتقد أنه من ناحية المعلومات - هو نقص في المعنويات، و الفراغ المعنوي الذي يعيشه العالم الغربي خصوصا -

لقد غرقوا في الماديات و الشهوات و ابتعدوا عن المعنويات، و من خاصية الشهوة أنها شهوة فقط في البداية لكنها جهنم عند الاستمرار عليها، فلا يمكن مشاهدة أحد يعيش في الشهوات و في نفس الوقت يلتذّ و يتمتع بحياته، هذا هو الجحيم الذي يعيشه المتنعمون في العالم الغربي اليوم، و أما غيرهم فيعيش الفقر و البؤس، و الجميع يعيش في الفساد.

طبعا هناك أفراد مستثنون، إنني أقصد الطبقات، و في كل طبقة أفراد مستثنون و جيدّون(1).

و من وصايا الإمام موسى الكاظم عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض و مغاربها بحرها و برّها و سهلها و جبلها عند وليّ من أولياء اللّه و أهل المعرفة بحق اللّه، كفيء الظلال.

ص: 264


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه

ثم قال: أ و لا حرّ يدع (هذه) اللماظة لأهلها - يعني الدنيا -، فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من اللّه بالدنيا فقد رضي بالخسيس»(1).

كلّ ما على الأرض في مشارقها و مغاربها و بحرها و برّها و سهلها و جبلها و العالم كله على عظمته لا تعدل عند من يعرف اللّه حق المعرفة و يكون من أهل ولاية اللّه إلاّ كفيء الظلال.

و الفيء حاله الزوال و لا أصالة له.

و الإنسان أحيانا يلتجىء إلى الفيء فرارا من حرارة الشمس، و لكنه لا يقوم بإعداد برنامج طويل الأمد له على أساس هذا الفيء، و إنّما ينظر إليه على أساس أنه أمر سريع الزوال، و أما بناء الحياة فيكون على أساس الرضا الإلهي و في طريق اللّه الذي شأنه أنه لا يزال و لا يزول.

ثمّ يتابع بقوله: أ لا يوجد إنسان حرّ فيترك هذه الدنيا الموصوفة باللماظة!؟ و اللماظة هي استرجاع ما بقي في الفم من الطعام أمام الشخص الذي يرغبه(2).

ص: 265


1- تحف العقول، صفحة: 391، و نهج البلاغة: 105/4 ح 456.
2- كلمات مضيئة: 31.

عدم اقتصار الرؤية على الحياة الدّنيا

من خصائص المجتمع الجاهلي أنّه كان يرى أنّ الحياة تقتصر على الدّنيا، فإن استطاع الحصول على شيء في الحياة الدّنيا - أي في المأكل و المشرب و ما يرتبط بشخص الإنسان - اعتبر ذلك إنتصارا، و إن نوى السعي لعمل لا تظهر ثمرته في هذه الدّنيا، اعتبر نفسه مغبونا و خاسرا و متضرّرا. فلا أثر للعمل الخالص لله و للروح و ليوم الجزاء.

أمّا الإسلام فقد جعل إحدى الخصائص هي عدم اقتصار هدف و حياة الإنسان بهذه الحياة الدّنيا.

و اليوم فإن الجمهوريّة الإسلاميّة ترفع راية الإسلام، أي راية هذه القيم الكامنة في بعثة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله. ليس الإسلام المظهري فحسب، بل يجب الترويج للتوحيد بمعناه الحقيقي، و التسليم لله، و نشر العدالة في المجتمع و بناء نظام أخلاقي للمجتمع يعتمد على الإنسانيّة و العاطفة و الفضائل، و عدم التسليم و العبوديّة لغير اللّه، و عدم التبعية و الانهزام خصوصا أمام أعدى أعداء الإنسان أي «نفسك الّتي بين جنبيك»، و الدعوة لمقارعة الأصنام و منها أقوى و أعتى الأصنام أي صنم النفس.

و ليس المقصود أن يتبدّل النّاس فجأة إلى ملائكة، بل أن يتبدّلوا فجأة إلى اناس يجهدون و يجاهدون في هذا الطريق، و نفس هذه المجاهدة هي التقوى، فأي إنسان و أيّ مجتمع يجهد في هذا الطريق فهو إنسان و مجتمع متّق، و هذا بعد للقضيّة.

و المجتمع الجاهلي هو المجتمع الّذي لا يملك هذه الخصائص.

ما ذا يجب فعله مع هذا المجتمع الجاهلي؟ إنّ من الخطأ التصوّر بأن يكون تعاملنا مع المجتمع الجاهلي تعامل عداء و خصومة، كلاّ، بل يجب أن يكون مبنيّا على

ص: 266

التراحم، و يجب عرض هذه القيم على هذا العالم المحتاج إلى قيمنا الإسلاميّة، و هذه هي الخطوة الاولى.

ثمّ إن كنّا نمتلك هذه القيم، ننقلها إليهم، فعداوة و خصومة الإسلام هي للّذين يعارضون هذا التبادل و هذا الانتقال و هذا التبديل و التحوّل إلى النظام الإسلامي، و موقف الإسلام من هؤلاء هو موقف معارضة، لكن العالم اليوم بحاجة إلى الرسالة الإسلامية.

إنّ رسالة البعثة رسالة بنّاءة، هي درس و ليست اتفاقية إجتماعية، بل هي تحرّك، فيجب على العلماء و المثقفين أن يتحلّوا و يتسابقوا للسير على هذا المنهج أكثر من غيرهم، و إن كان الجميع مسؤولين، لكن امتيازنا هو أنّنا مسؤولون عن جمع كثير من الناس، و هذا حمل ثقيل.

و لا يكفي إن كان المجتمع بالأمس مجتمعا طاغوتيا و اليوم نبني على أنّه مجتمع إسلامي، بل يجب السعي للوصول إلى المجتمع الإسلامي كما كان يفعل إمامنا العظيم (ره) الّذي كان مولعا بالإسلام، و عاش الإسلام بكل وجوده و نهل من معين القرآن و عمل بما أملى عليه القرآن و المعارف القرآنيّة، و كانت ثمرته هذا الجمع الهائل من الشباب المؤمن من المتقين و المجاهدين في سبيل اللّه رجالا و نساءا. و بحمد اللّه فهم ليسوا قلّة في مجتمعنا، بل هم أكثر من أيّ مكان آخر، و علينا الاستمرار على هذا الخط بنفس تلك القوّة و العزم(1).

ص: 267


1- من كلمة ألقاها في 27 رجب 1415 ه

الحذر من الدنيا

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.

يا بنيّ، إنّ الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه و حشوها الإيمان و شراعها التوكّل و قيّمها العقل و دليلها العلم و سكّانها الصبر»(1).

يقول لقمان الحكيم في مقام وعظه و نصيحته لابنه:

إنّ أعقل الناس من يتواضع أمام الحقّ و يقبله و لا يواجهه بالعناد و الطغيان.

و يتابع بقوله: يا بنيّ إنّ الدنيا بحر عميق بعيد الغور قد غرق فيه خلق كثير فهلكوا و خسروا، و كلّ من يريد العبور بسلام و أمان من هذا البحر المهلك فعليه أن يركب سفينة التقوى.

و هذه السفينة حمولتها و بضاعتها الإيمان و شراعها التوكّل و الإعتماد على اللّه تعالى، و ربّان السفينة هو العقل و الفكر، و دليلها و مرشدها هو العلم و المعرفة، و مرساتها الصبر و الإستقامة.(2)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الدينار و الدرهم أهلكا من كان قبلكم و هما مهلكاكم»(3).

يبيّن الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله أمرا مهما حول الدنيا و هو:

إنّ الدّينار و الدّرهم (أي المال و الثّروة) قد أهلكا من كان قبلكم من البشر و الأمم،

ص: 268


1- تحف العقول، صفحة: 386.
2- كلمات مضيئة: 30.
3- الخصال/باب الاثنين/ح 37.

أي أنّهما سلبا منهم العزّة و السّلطة و بدّلا نصرهم الى هزيمة.

و هذان الأمران - أي المال و الثّروة - سوف يؤديان بكم أيها المسلمون الى الهلاك أيضا.

و ليس المقصود هنا أنّ المال و الثّروة بنفسيهما يهلكان المجتمع و الأمة، بل المراد أن حبّ الثّروة و المال و تقديمهما على الأهداف الكبيرة، يوجبان إنحراف النّاس عن جادّة الحق و الصّراط المستقيم، فإذا انحرف النّاس انحرف المجتمع و الأمة أيضا.

و يجب أن نعلم أنّ كلّ شخص يكون له تأثير و نفوذ في المجتمع و الأمة أكثر من غيره - من قبيل مسؤولي الدولة أو الشّخص البارز في المجتمع - إذا كان محبا للثّروة و المال كان تأثير ذلك على المجتمع أكثر من غيره، لأنّ هذا الشّخص يعتبر مثلا يقتدي به النّاس، و هم يتّخذونه أنموذجا يحتذى به، و حينئذ سوف تنمو هذه الخصلة فيهم.

مضافا الى أنه حينما يقع في الفساد من أجل حبّه للمال سوف يكون تأثيره أكثر على المجتمع.

و في عصرنا الحالي كذلك فإنّ ما يوجب تزلزل بعض الاشخاص المتديّنين الصّالحين هو المال، فإنّ حلاوة المال سبب لإنحراف الإنسان و مخالفته للشرع و القانون، و تدريجيا يعتاد على هذا الأمر، و تتلوّث يداه بالتّعدي و التّجاوز على الأموال العامة.(1)

مثل الدنيا

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، إنّ مثل الدنيا مثل الحيّة مسّها ليّن و في جوفها السمّ القاتل، يحذرها الرجال ذووا العقول و يهوي إليها الصبيان

ص: 269


1- كلمات مضيئة: 30-31.

بأيديهم»(1).

إنّ مثل المظاهر الدنيوية كالثروة و المنصب التي يحصل عليها الإنسان بالطرق المحرّمة شرعا من أجل إرضاء غريزة الشعور و الإحساس بحسّ التسلط و القدرة، مثل الحيّة الناعمة الملمس و الجميلة المظهر الخارجي الذي يخدع الناظر إليه الذي لا يشعر بالخطر منها فينجذب نحوها، فإذا السمّ القاتل المهلك الموجود في باطنها ينتظره ليقتله و يرديه.

و أما الإنسان العاقل العالم فإنّه لا ينخدع بمظاهر الدنيا و زخارفها كما لا ينخدع بلين ملمس الحية و جمال نقش جلدها، و لذلك فهو يتجنّبها و يبتعد عنها.

نعم إذا كان الحصول على مظاهر الدنيا إحساسا منه بالمسؤولية الشرعية و كان بالطرق المحلّلة شرعا فلهذا الأمر بحث آخر(2).

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله»(3).

الإنسان بشكل طبيعي و غريزي يميل نحو المظاهر الدنيوية الخادعة و لذّاتها من قبيل الثروة و المقام... و لذلك ورد التحذير عن ذلك في الروايات الدينية بألسنة و خطابات مختلفة.

و في هذه الرواية جاء تشبيه الدنيا بالماء المالح حيث إنّ العطشان كلّما شرب منه ليس فقط لا يرتوي بل يزداد عطشا إلى أن يتلف و يموت.

إنّ الإهتمام بالشهوات الدنيوية و مظاهرها يجعل الإنسان أحرص و أشوق للإكثار منها إلى أن ينتهي به الأمر بسبب الإسراف فيها إلى الهلاك (لأنّ أغناهم فيها أحوجهم

ص: 270


1- تحف العقول، صفحة: 396.
2- كلمات مضيئة: 32.
3- تحف العقول، صفحة: 396.

إليها).

و لذلك فإنّ أكبر رأس مال للإنسان هو القناعة الموجبة للعزّة و غنى النفس. بينما الإنسان الذي يزداد تعلّقه و طلبه بالأمور الدنيوية يكون خاسرا.

على أنّ الأمور الدنيوية المذمومة هي التي يسعى الإنسان من خلالها لأجل اللّذة الشخصية فقط. و أما إذا كان الهدف من الإستفادة من المواهب الطبيعية خدمة الناس و القيام بالتكليف و الوظائف الملقاة على عاتقه فهذا ليس من الدنيا المذمومة(1).

و من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «الدنيا دول، فما كان لك أتاك على ضعفك، و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك، و من انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه، و من رضي بما قسمه اللّه قرّت عينه»(2).

الدول جمع دولة، و المراد منها الشيء الذي ينتقل من يد إلى يد أخرى (أي التداول).

إنّ طبيعة المظاهر الدنيوية كونها في حال التغيّر و التحوّل دائما.

و لا يتوهم أحد أن ما بيده من مال و جاه و إمكانات و قدرات و صحة و عافية سوف تبقى إلى نهاية عمره، فإنها ليست كذلك إذ ما أكثر الأشياء التي تؤخذ منّا و تزول عنّا.

و المراد من الدنيا التي من قطع رجاءه منها استراح بدنه و نفسه هي الدنيا المذمومة. و هي ما يطلبه الإنسان من أجل نفسه و هواه، لا ما يطلبه من معالي الأمور و الخيرات الأخروية، و لا ما يطلبه من الأمور لأجل قيامه بتكليفه و وظيفته و لا ما يطلبه لأجل إعمار و بناء العالم فإن هذه كلها ليست مقصودة من الدنيا(3).

ص: 271


1- كلمات مضيئة: 32.
2- تحف العقول: صفحة: 40.
3- كلمات مضيئة: 39.

الدنيا و الآخرة متضادتان

من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، من أحبّ الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه، و ما أوتي عبد علما فازداد للدنيا حبّا إلاّ ازداد من اللّه بعدا و ازداد اللّه عليه غضبا»(1).

إذا دخل حبّ الدنيا إلى قلب الإنسان و استقرّ فيه و تجذّر شيئا فشيئا سوف يزول منه خوف الآخرة و يذهب من قلبه بالتدريج.

و كلّما أوتي العبد علما - سواء كان علما من العلوم الدنيوية أم كان من العلوم الدينية - فازداد معه حبه للدنيا أكثر كان هذا العلم موجبا لبعده عن اللّه تعالى أكثر.

و إحدى أكبر و أعظم رسالات الأنبياء للناس هي إحياء خوف الآخرة في قلوبهم لأنّ الخوف من العذاب الإلهي يضمن استقامة الإنسان على الصراط القويم. لأنه يدرك أنّ حركته هذه لها تأثير في مصيره و نهايته قطعا، و لذلك يراقبها و يعتني بها(2).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الدنيا سجن المؤمن، و القبر حصنه، و الجنة مأواه.

و الدنيا جنة الكافر، و القبر سجنه، و النار مأواه».(3)

أما كون الدنيا سجن المؤمن فلأن المؤمن الذي هو من أهل المعرفة يشتاق للعمل و السير و السلوك نحو العوالم المعنوية و الروحانية، و لكن ارتباطه بالدنيا و مشاكلها و بالدرجة الأولى ارتباطه بجسده الذي من عالم المادة يمنعه من السير نحو الملأ

ص: 272


1- تحف العقول، صفحة: 399.
2- كلمات مضيئة: 33.
3- الخصال/باب الثلاثة/ح 74.

الأعلى، فلذلك يكون أسيرا له و مسجونا فيه.

أما كون القبر حصنا و قلعة و ملجأ له فلأن القبر يريحه من المشكلات و المصائب التي كانت تعترضه في الدنيا سواء المشكلات النفسية التي منشأوها الرغبات و الميول الشهوانية أم غيرها.

أما كون الجنة مأواه و منزله فلأنها هي المأوى النهائي للمؤمن.

أما الكافر فإن الدنيا جنته.

فالكافر سواء كان متنعما في الدنيا أم لا فإن الدنيا بالقياس الى ما سوف يلاقيه و يواجهه في الآخرة من المشقات و العذاب الذي ينتظره أهون عليه و أسهل كثيرا و لذلك فهي جنة بالنسبة للصعوبات و عذاب الآخرة.

و أما كون القبر سجنا للكافر فلأنه يسأل و يحاسب في القبر و يتعرض للصعوبات و المشقات الكبيرة فيه.

و أما النار فهي مأواه لأنها هي المصير الذي سينتهي إليه في الآخرة.(1)

ص: 273


1- كلمات مضيئة: 38.

التوازن بين الدنيا و الآخرة

من مواعظ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «اجعلو لأنفسكم حظّا من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال، و ما لا يثلم المروّة، و ما لا سرف فيه، و استعينوا بذلك على أمور الدين فإنه روي «ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه»(1).

يوجّه الإمام عليه السّلام خطابه للذين حرّروا أنفسهم من اللذّات الدنيوية في سبيل الوصول لساحة القرب الإلهي و عبادة اللّه تعالى. فيقول لهم:

عليكم بالإستفادة من اللذّات الدنيوية أيضا و لكن بالشروط التالية:

1 - أن تكون من الحلال.

2 - أن لا تصل إلى حدّ الإسراف و التبذير.

3 - أن لا تخدش المروءة و الفتوّة في الإنسان بمعنى أن لا تكون من طريق الإذلال و الضغط بقوّة على الآخرين.

إذن فإعطاء شهوات النفس حقّها من طريق الحلال و من دون إسراف مع مراعة المروّة مقدمة لتقدم و نمو أموركم الدينية.

و على كل حال فمنطق الإسلام هو أن لا تترك الدين لأجل الدنيا و لا تترك الدنيا لأجل الدين.

لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه».(2)

و من مواعظ الإمام أبي الحسن الثالث (الهادي) عليه السّلام: «إنّ اللّه جعل الدنيا دار بلوى

ص: 274


1- تحف العقول، صفحة: 410.
2- كلمات مضيئة: 33.

و الآخرة دار عقبى، و جعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا و ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا»(1).

الدنيا دار امتحان و اختبار، و كل إنسان تعرض عليه في حياته حوادث صعبة و مرّة، و نتيجة هذا الإمتحان و الإختبار هي ظهور و بروز ذات الإنسان و خصوصياته الروحية و الأخلاقية، مضافا إلى تقوية و تقدّم و سمو روحيّته.

إنّ أعمال و تصرّفات كل شخص، في هذه الدنيا تعطي شخصية و هوية الإنسان شكلا ما في عالم الآخرة. نظير الجنين و هو في مراحل نموّه و رشده في رحم أمّه، فإنّ الطعام و أعمال و تصرّفات الأم بل حتى أفكارها يعطي لشخصيته و ماهيّته شكلا ما.

و لذلك يقول الإمام علي عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى جعل الآخرة دار عقبى للحياة الدنيا، و المراد من العقبى ما يكون تابعا كالذنب بالنسبة للحيوان.

نسأل اللّه تعالى أن يعطينا الثواب و الأجر في الآخرة على ما نواجهه من صعوبات هذه الدنيا و مشكلاتها.(2)

و من خصائص الإسلام أنه معنوي و إلهي، أي أنه خلافا لما ينسب الى المسيحية من غلبة الجانب المعنوي على الجانب الدنيوي، لكن الإسلام ليس كذلك. إنّ الإسلام يرى أنّ الدنيا جزء من الآخرة، فحياتكم و تجارتكم و تحصيلكم للعلم و عملكم الإداري و السياسي هي حياة دنيوية لكنها جزء من الآخرة.

فإن تؤدوها بنيّة صالحة فهي حسنة توصلكم الى القرب الإلهي و الى المقامات المعنوية في الآخرة، أو تؤدونها - لا سمح اللّه - بنية سيئة، بنيّة العجب و التكبّر فنتيجتها السقوط في المهالك و الدرك الأسفل، إذ لا انفصام بين الدنيا و الآخرة.

لكن السيئ أن يسعى الإنسان للحياة المادية في هذه النشأة بنيّة سيّئة، و هذه هي الدنيا

ص: 275


1- تحف العقول، صفحة: 483.
2- كلمات مضيئة: 34.

المذمومة، لكن لا فصل بين هذه النشأة و تلك، بل هذه الدنيا مزرعة الآخرة كما تقدم.

في الإسلام يجب أن تتجه القلوب نحو اللّه، يجب أن تكون النيّات خالصة للّه، فهذه من خصائص الإسلام و من وسائل نشر الإسلام(1).

ص: 276


1- من كلمة ألقاها في: 27 رجب 1414 ه

فرص الدنيا

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: ليس من أحد - و إن ساعدته الأمور - بمستخلص غضارة عيش إلاّ من خلال مكروه. و من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الإستقصاء سلبته الأيّام فرصته، لأن من شأن الأيّام السلب، و سبيل الزمن الفوت»(1).

الحياة الخالية من المشاكل و المتاعب لا تتهيّأ لأحد أبدا في هذه الدنيا.

قد يتوهّم الإنسان حينما ينظر إلى بعض الأشخاص من بعد أنهم يعيشون في رفاه تام و كامل، و لكنه حينما يقترب من حياتهم و ينظر إليهم يجد أنّ لديهم من المرارات و القلق و الإضطراب الشيء الكثير.

و من هنا فالإمام الصادق عليه السّلام يقول:

إنّ الإنسان الذي يعيش حياة هنيئة سعيدة لا يمكن أن يحصل له ذلك إلاّ بعد أن يعبر من خلال المكاره.

و كل إنسان تهيّأت له الفرصة فلم يغتنمها و أجّل أمره و أمل بانتظار حلول الفرص الأكثر فهذا لن يوفّق للإتيان و القيام بتلك الأعمال، لأن الزمن سريع الذهاب و من طبيعته سلب تلك التوفيقات(2).

ص: 277


1- تحف العقول، صفحة: 381.
2- كلمات مضيئة: 37-38.

أثر حب الدنيا

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من تعلّق قلبه بحبّ الدنيا تعلّق من ضررها بثلاث خصال: همّ لا يفنى، و أمل لا يدرك، و رجاء لا ينال»(1).

الدنيا المذمومة بنظر الإسلام هي أن يتعلق قلب الإنسان بتحصيل و طلب الزخارف الدنيوية و أن يتوجه نحو جمع المال و كنزه، و أن يكون تمام همّه و غمّه و هدفه من الحياة هو الدنيا، و إلاّ فإنّ عمارة الأرض و إحياءها و بناءها و استخراج المعادن و صرفها في سبيل العيش الرغيد لعباد اللّه و إنقاذ الناس من الفقر و الإستفادة الصحيحة من المال و الثروة ليست فقط غير مذمومة بنظر الإسلام بل هي ممّا اهتمّ الشارع المقدس به.

و عليه فالإنسان الذي يعشق الدنيا و يتعلق همّه بها لن ينجو من ضرر ثلاث خصال:

1 - الهمّ و تشويش الذهن الذي لن يزول عنه أبدا، لأنّ كل شيء يحصل عليه لا يقنع به بل يفكر و يسعى لطلب الحصول على الأزيد منه.

2 - الأمل الذي لن يصل إليه أبدا.

3 - الرجاء الذي لن يحصل عليه.

و أمّا الطريق للخلاص و النجاة من هذه المشاكل و المتاعب فهو أن يجنّب الإنسان نفسه عن ساحة المنافسة و التسابق في حبّ الدنيا هذه، و يبتعد عنها.

فنسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا جميعا للمسابقة في طريق المغفرة و الخير كما قال اللّه

ص: 278


1- تحف العقول، صفحة: 367.

تعالى: سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (1)، فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ (2).

لأنّ هذا الطريق هو طريق الراحة و الطمأنينة و سكينة القلوب(3).

ص: 279


1- سورة الحديد: 21.
2- سورة البقرة: 148.
3- كلمات مضيئة: 40.

علاج حب الدنيا

من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «ما لي أرى حبّ الدنيا قد غلب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، و كأنّ الحق في هذه الدنيا على غيرهم وجب، و حتى كأنّ ما يسمعون من خبر الأموات قبلهم عندهم كسبيل قوم سفر عمّا قليل إليهم راجعون»(1)

إنّ علاج حبّ الدنيا هو ذكر الموت أي أن يعتقد الإنسان أنّه سيموت.

ففي كلّ لحظة يجب أن ينتظر الموت لأن المعيار و الملاك للموت و عدمه ليس الشيخوخة و الشباب و لا المرض و السلامة.

و لحظة الموت حالة عجيبة، و قد أحسست بهذه الحالة في سنة 1360 ه ش، على أثر الإنفجار الذي وضع لي حيث وقعت على الأرض و أغمي عليّ للحظات أحسست فيها كأنّي معلّق بين السّماء و الأرض، و لقد رأيت الموت معاينة و فجأة تراءى إليّ كل الماضي، و يشعر الإنسان حينئذ بأنّه غير قادر على شيء و يده مغلولة.

و في مثل هذه الحالة يجب على الإنسان حينما ينظر إلى ماضيه أن يشعر بالرضا عن ذلك الماضي، و مع ذلك يجب أن يرجو و يأمل بالمغفرة الإلهية، و لكن لا يكون مغرورا بذلك(2).

ص: 280


1- تحف العقول، صفحة: 29.
2- كلمات مضيئة: 39.

الآخرة/يوم القيامة

معنى الحياة الآخرة

من النقاط الأصلية و الأساسية في الرؤية الإسلامية هي مسألة استمرار الحياة و ديمومتها بعد الموت؛ أي إن الحياة لا تنتهي بالموت.

و هذا المعنى يعتبر من الاصول الفكرية في الإسلام - بل و في كافة الأديان الإلهية - و له تأثير كبير.

فإن كافة هذه الاصول الفكرية ذات أثر في تنظيم العلاقات الإجتماعية و ترسيخ قواعد الحكومة الإسلامية و في إدارة المجتمع و الحياة و العالم.

إننا سوف ندخل مرحلة جديدة بعد الموت لا أن الإنسان يفنى و يتعرض للإبادة التامة، ثم ينتقل من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، حيث تقوم القيامة و يأتي يوم الدين و الحساب و ما إلى ذلك من مشاهد البعث و النشور(1).

ص: 281


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1421 ه - طهران.

الخوف من يوم القيامة

علينا أن لا نغفل عن يوم القيامة، فإنه يوم عظيم يتعين علينا أن نخافه و نخشاه، حيث قال تعالى عنه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهٰا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ (1) فقد كان مشركو قريش يقولون للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: أين هي القيامة التي تخوّفنا منها؟! في حين أنّ الذين يؤمنون بها مشفقون منها، و هذه هي الحقيقة.

فلا بد من الوجل من ذلك اليوم و جعله نصب أعيننا، لأن يوم القيامة هو اليوم الذي نعرض فيه على اللّه تعالى: وَ عُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا (2)، حيث يمثل الإنسان على حقيقته و سريرته و ملكاته النفسية الراسخة أمام اللّه تعالى؛ و إن اللّه و إن كان مطلعا على سريرتنا في هذه الدنيا، إلاّ أنّ القيامة موضع انعدام جميع الحجب كي نطلع نحن على حقيقتنا و نقوم بإدانة أنفسنا بأنفسنا، حيث لا مجال لاختلاق المعاذير و الأكاذيب، حيث يغدو اللسان المهذار و اللبق في هذه الحياة أبكم أخرس يوم القيامة: هٰذٰا يَوْمُ لاٰ يَنْطِقُونَ وَ لاٰ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (3).

و عندها يأتي دور الباطن و الملكات و سائر الأعضاء و الجوارح فتأخذ بالتكلم و الإقرار بما اقترفه الإنسان و أضمره في أنواع الحقد و الحسد و سوء الظن: اَلْيَوْمَ

ص: 282


1- سورة الشورى: 18.
2- سورة الكهف: 48.
3- سورة المرسلات: 35-36.

نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (1) .

إنّ الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة تحدث هزّة عنيفة في كيان الإنسان، و إني أقترح أن يقوم كل واحد منا بدراسة هذه الآيات، لأننا في أمس الحاجة إليها، فمنها ما فيه البشارة و منها ما فيه وعيد و نذير، و كلا النوعين يؤدّي مفعوله في إحداث تلك الهزة، حيث تقوم آيات البشارة بحثّ الإنسان الى السعي و الجد في العمل، و تقوم آيات الوعيد بتأثيرها في بثّ القشعريرة في النفوس و إذابة الجلود: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (2) و لكن هيهات أن تكون له النجاة بعد إعراضه في هذه الدنيا.

و قال تعالى: كَلاّٰ إِنَّهٰا لَظىٰ نَزّٰاعَةً لِلشَّوىٰ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّٰى وَ جَمَعَ فَأَوْعىٰ (3).

يقول الإمام زين العابدين عليه السّلام في دعاء أبي حمزة الثمالي في التخويف من يوم القيامة: «أبكي لخروجي عن قبري عريانا ذليلا حاملا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، و أخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني، لكل امرء منهم يؤمئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة»(4).

إنّ أصحاب الوجوه الضاحكة المستبشرة هم الذين تمكنوا من اجتياز الصراط الذي هو عبارة عن قنطرة العبودية و التقوى وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ (5)فإننا لو تمكنّا من اجتياز هذه القنطرة في هذه الحياة الدنيا، سيكون اجتيازنا للصراط الواقع فوق جهنم أيسر بكثير، حيث يجتازه المؤمنون بسرعة البرق إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ

ص: 283


1- سورة يس: 65.
2- سورة المعارج: 11-14.
3- سورة المعارج: 15-18.
4- بحار الأنوار: 89/95.
5- سورة يس: 61.

لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ لاٰ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهٰا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ لاٰ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ (1) .

إنّ هذا الصراط لشديد الحساسية بالنسبة لي و لكم، لكوننا مسؤولين، و لأننا نختلف عن عامة الناس، فإننا لو أخطأنا أو انحرفنا لم يقتصر الضرر في ذلك علينا، و إنما يعمّ البلاد بأسرها، و إننا لو اتبعنا الهوى في اتخاذ القرارات و اتخذنا سبيل مجاملة الأصدقاء و مداهنة الأصحاب على حساب القيم الحقيقية، سنعرض البلاد بأجمعها للخطر، و من هنا كانت مهمتنا كمسؤولين في غاية الصعوبة و الخطورة.

فعلينا أن نفكر في جهنم و اجتياز هذا الصراط الشاقّ أكثر من غيرنا، و إنّ مدة مسؤوليتنا مهما طالت لا تخرج عن كونها محدودة و لا تعدو أن تكون متاعا قليلا، و لو أنكم اتخذتم سبيل الصبر في هذه المدة و لم تتعجلوا طلب المال من غير حلّه، و لم تتعرضوا لبيت مال المسلمين و الإمكانات التي بأيديكم - و ليس هذا بالأمر الشاق - فعندها تكونون مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ (2) و قوله تعالى: هٰذٰا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (3).

فعلينا أن نراقب أنفسنا و أن تخشى جهنم أكثر من غيرنا، فإن نار جهنم تهدّد الذين يتحملون مسؤولية أكبر، بشكل أكثر من تهديدها سائر الناس الذين يعيشون في دوائرهم المحدودة و الصغيرة.

الشيء الآخر الذي أودّ إضافته هنا هي مسألة الأبناء، فعليكم أن تهتموا بأهليكم، و أن تسعوا الى حفظ إيمانهم، و حذار أن تنهجوا سياسة و أسلوبا يؤدي الى زعزعة الأسس الاعتقادية لدى ذويكم، فأحيانا يعمل الإنسان على إبعاد ابنه عن الدين

ص: 284


1- سورة الأنبياء: 101-103.
2- سورة الأنبياء: 101.
3- سورة الأنبياء: 103.

و الأسس الدينية بفعل ذرب لسانه و خطل أعماله، فيجعل منه شخصا منحرفا، و لذلك فإني أخالف الشدة في توجيه الشباب، و في الوقت نفسه هناك من يعمل من خلال إهمال الولد و تركه و شأنه و فتح الباب له على مصراعيه، و غض الطرف عن أخطائه على إعداد الأرضية لفساده و انحرافه...

و لذا لا بد من اتخاذ سبيل المنطق و الأسلوب الصحيح و العطوف في التعامل مع الأبناء كما قال سبحانه و تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ (1)، إذن الحفاظ على ذويكم و أهليكم من جملة وظائفكم و مسؤولياتكم.

و لقد طالما استوقفني قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (2)، و قد جاء في الحديث: عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عز و جل: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: فقال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم(3).

فإن تمكنت أيها المؤمن من إنشاء طفلك نشأة صالحة، فإن اللّه سبحانه سيقرّ عينك به يوم القيامة و يجبر نواقصه و يلحقه بك(4).

ص: 285


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة الطور: 21.
3- الكافي: 249/3 ح 5.
4- من كلمة ألقاها في: 121383/8/6 /رمضان/ 1425 طهران.

الآخرة لمن لا يريد علوا

هناك ميزة أخرى يختص بها المؤمنون و هي أننا و نظرا لما نتمتع به من مسؤوليات فإننا نمتلك سعة من القدرة سواء صغرت أم كبرت فلا نسعى وراء العلو و التسلط و حب الإستعلاء على الناس، و هذا هو مضمون الآية الكريمة: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً (1)، و هذا أمر صعب لكنه ممكن و ضروري، فحب التسلط آفة طالما هددت ذوي القدرة في العالم و أزلت الكثيرين و نحن لسنا بأقوى منهم فعلينا الحذر و التحسب لئلا ننزلق، و قد ورد عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام قوله: «نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من الناس»(2).

فهذه الآية بالأساس لأصحاب القدرة و الولاة و المسؤولين بدءا من كبار المسؤولين و مرورا بالدوائر الوسطى و انتهاءا بأي نقطة فيها مدى من السلطة، فآفة عملنا هي أن نستغل دائرة قدرتنا للتسلط و الغطرسة و الأطماع، و في ذلك خطر جسيم، و تقول الآية في النهاية: وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، و قد قال البعض إنّ هذه «العاقبة» هي الآخرة، فيما احتمل آخرون أنها تشمل الدنيا أيضا، و نحن نراها كذلك، فالعاقبة هي من نصيب المتقين، إذ أنّ العاقبة الحسنة في الدنيا و الآخرة هي من نصيب أهل التقوى و الورع.

ص: 286


1- سورة القصص: 83.
2- ميزان الحكمة: 35/1 باب صفة أهل الإخرة.

للآخرة تأثير على حياتنا

ما أفهمه إجمالا بالنسبة لعملنا - حيث ابتلينا بالمسؤولية - هو أن نجعل للآخرة تأثيرا في كافة ما نتخذه من قرارات و خطوات و نجعل لها دورا؛ فالبعض يجعل دورا لما يقوله الناس و لرقابتهم لكنه لا يرى دورا للرقابة الإلهية و ما سينطوي عليه مستقبلنا.

إننا على شفا الوجود و العدم في أيّ سنّ كنّا، و إن ازداد احتمال ذلك بالنسبة لمن هو طاعن بالسن مثلنا، لكن الشباب على هذا المنوال أيضا، فعلى الطرف الآخر من الموت ثمة محاسبة و مؤاخذة إلهية و حسابات دقيقة فعلينا الحذر، إذ أنّ الحياة و الخلود و المصير الحقيقي هناك، فلنجعل له دورا، و نحن إذ حللنا أياما معدودات علينا أن نعمر ذلك المستقر بأن نجعل للآخرة و رضا اللّه و الحساب الأخروي دورا و تأثيرا في ما ننطق به و ما نمضيه و المشورة التي نبديها و ما نتخذ من قرار، و ما نقوم به من عزل و تنصيب، و هذا مهم في اعتقادي، و إذا ما تحقق ذلك ستكون السلطة خيرا إذ أنّ البعض يتصور أنّ السلطة بذاتها شرّ، في حين أن الأمر ليس كذلك، فالسلطة و الثروة كسائر مواهب الحياة تعتبر زينة الحياة كما جاء في تعبير القرآن الكريم بقوله تعالى: زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا (1).

فكيف يجب أن نستخدم هذه السلطة، إذا أحسنا استخدامها فهي خير، و إذا وضعناها لخدمة الناس فهي خير، و إذا ما وظّفناها لإشاعة الأخلاق و المعنويات و صلاح الناس و فلاحهم فهي خير، و لكن إذا ما كرسناها لخدمة الأطماع الشخصية

ص: 287


1- سورة الكهف: 28.

و الأهواء النفسية و استخدمناها ضدّ هذا و ذاك كما تستخدمها الحيوانات المفترسة فإنها تتحول شرا و يشتد شرها كلما ازدادت تفاقما، و هو ما نحاسب عليه يوم القيامة(1).

ص: 288


1- من كلمة ألقاها في: 1424/6/7 ه - طهران.

الزينة

رأي الإسلام في الزينة

إنّ غريزة النزوع نحو الجمال و حب الجمال و الزينة يعتبر أمرا فطريا، إلاّ أنه قد يتفاوت إلى حد ما مع مفهوم نزعة التجديد الذي يتّسم بطابع من الشمولية.

يجب أن لا يكون الجمال و الزينة مدعاة لتفشي الفساد و الرذيلة في المجتمع، و لا يقود إلى إشاعة التحلل الخلقي. و لكن كيف يشيع التحلل الخلقي؟ لا شكّ في أنّ أساليب شيوعه واضحة؛ فإذا كانت علاقات الرجل و المرأة لا تخضع لحدود أو قيود، فهي تؤدي تلقائيا إلى نشر الفساد.

و كذلك الغلو في الاندفاع نحو التجديد (الموضة) في الثياب و الملابس ينتهي بإشاعة الفساد. إذا أصبح الاهتمام بالزينة و الظاهر الجميل و أمثال ذلك هو الهاجس الأساسي و الهم الرئيسي في الحياة فهو عين الانحطاط و الإنحراف، كما كان حال النساء من طبقة الأشراف ممن كنّ يجلسن خلف طاولة التجميل في عهد النظام البائد، هل تتصورون كم ساعة كنّ يجلسن على تلك الهيئة؟ كنّ يجلسن ست ساعات.

و هذه حقيقة كانت لدينا معلومات دقيقة عنها حيث كانت بعض النساء تستهلك مثل هذا الوقت من أجل تجميل وجهها و تصفيف شعرها و إعداد نفسها للذهاب إلى حفلة زواج مثلا.

ص: 289

فإذا بلغت الأمور هذا الحد فهي عين الإنحراف و الانحطاط.

و لكن لا إشكال في ترتيب المظهر و الملبس بالشكل المناسب بعيدا عن مظاهر التبرج و المباهاة.

حرمة التبرّج

لقد حرّم الإسلام التبرّج بما يعنيه من إظهار النساء زينتهن أمام الرجال؛ إنّه من أنواع إثارة الفتنة و عليه مؤاخذات كثيرة لا تقتصر إفرازاتها على وقوع الشاب و الشابة في الإثم - فالإثم أولها - و إنما تسري مخلفاتها إلى كيان الأسرة أيضا. لأن مثل هذه العلاقات المتحللة من كل القيود ذات أثر مدمر على كيان الأسرة؛ فبناء الاسرة قائم أساسا على الحب، و إذا توفّر هذا الحب - حب الجمال و حب الجنس الآخر - في موضع آخر لا تبقى ثمة دعامة قوية يرتكز عليها بناء الأسرة، مما ينتهي إلى ضعضعة كيانها و تصبح على غرار ما هي عليه في البلدان الغربية، و خاصة في دول أوروبا الشمالية و أمريكا.

أخذ الأمريكيون في الآونة الأخيرة يعانون الأمرّين من هذه المشكلة؛ فالعوائل أخذت تتلاشى حتى أصبحت هذه الظاهرة معضلة مستعصية لديهم، و تنعكس أضرارها بالدرجة الأولى على النساء إضافة إلى ما يعانيه الرجال بسببها من متاعب، إلاّ أنّ ضررها يصيب النساء أكثر ثم يصيب الجيل الوليد.

أ لا تلاحظون هذا الجيل الضائع الفاسد الموجود في العالم عامة و في أمريكا خاصّة؟ فهذا كله نابع أساسا من ذاك. أي أن تلك هي المقدمة و المنفذ الذي يأتي من خلاله بقية الشرور.

ص: 290

رأي الإسلام في الجمال

لقد أعار الإسلام قضية الجمال أهميتها و تناهى إلى أسماعنا كثيرا (إن اللّه جميل و يحب الجمال)(1). و لدينا روايات كثيرة في كتبنا الحديثية حول تحسين الظاهر و الهندام.

و في باب النكاح بحث مفصل يؤكد على وجوب اهتمام كل من الرجل و المرأة بوضعهما الظاهري.

و قد يتبادر إلى أذهان البعض أنّ الرجل يجب أن يقصّر شعر الرأس. و لكن ليس كذلك إذ يستحب للشباب إطلاق شعر الرأس، و جاء في حديث شريف: «الشعر الحسن من كسوة (كرامة) اللّه فأكرموه»(2).

و نقل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان ينظر في إناء فيه ماء - حيث لم تتوفر المرايا آنذاك كما هي عليه الآن، إضافة على فقر مجتمع المدينة آنذاك - و يرتّب ظاهره، عند خروجه من منزله. و لهذا كان ينظر في إناء فيه ماء بدلا عن المرآة، ليرى وجهه و يرتب هندامه. و يستشف من هذا أنّ الإعتناء بالوضع الظاهري و الثياب الحسنة و الميل إلى الجمال محبّذ شرعا، إلاّ أنّ القبيح و المضر فيه هو أن يتحول إلى أداة لإشاعة التبرّج و الفتنة و الفساد، حتى إن أضرارها تنسحب - كما سبقت الإشارة - على الأسرة و الأجيال اللاحقة.

طالعت في إحدى المجلات الأمريكية مؤخّرا خبرا نقلته عنها صحفنا أيضا، جاء

ص: 291


1- ميزان الحكمة: 414/1 ح 534.
2- من لا يحضره الفقيه: 129/1 ح 327.

فيه أن تلميذين في العاشرة و الثانية عشرة من عمريهما أطلقا النار على التلاميذ و المعلمين في مدرستهما، و قتلا عددا منهم.. و كانا أطلقا صفارة الإنذار ليحتشد التلاميذ في مكان واحد ثم أطلقا النار.

و الحقيقة أنّ مثل هذا الوضع مؤلم و مدمّر للمجتمع. فمثل هذه الجريمة التي ترتكب بهذا البرود و اللامبالات جاءت كنتيجة لسوء التربية النابعة من ذلك التحلل(1).

ص: 292


1- من كلمة ألقاها في: 11 محرم 1419 ه ق - طهران.

الطاعة و المعصية

معنى الطاعة و العصيان

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «أوصي امتي بخمس: بالسمع و الطاعة و الهجرة و الجهاد و الجماعة و من دعا بدعاء الجاهلية فله جثوة من جثى جهنم»(1).

فعادة يأتيان ب (السمع و الطاعة) معا في الموارد الاخرى، و لكنهما جاءا هنا منفصلين عن بعضهما. فمن الواضح أنّ (السمع و الطاعة) لم يستعملا هنا بمعنى واحد، ف (السمع) هنا ليس بمعنى (الطاعة).

السمع هنا يعني الاستماع و المبالاة، و أول شيء يمتلكه الوسط العلمي الشيعي هو المبالاة (الاهتمام) بما يدور حوله من قضايا و أحداث، و لعل السمع الوارد في هذا الحديث يشير الى هذا المعنى، فلا يمكن و لا يصح ترك الأمور على حالها و لا يصح أن يقال نحن لا نستطيع عمل شيء أو ليس لنا علاقة بهذه الأمور، فهذا الأساس المبارك أي (الثورة و النظام الإسلامي) قام و تأسس لأن ذلك الرجل الالهي (الإمام الراحل) كان يختلف عن الآخرين اختلافا أساسيا، فهو لم يقل أبدا لا علاقة لي بهذه الأمور في حين أن كثيرا من الناس يرى ما يقع من أحداث في المجتمع - طبعا كان البعض لا يرى حتى تلك الأحداث و لا يفهمها و لا تلفت نظره - و لكنه يقول لا علاقة

ص: 293


1- مستدرك الوسائل: 9/11 ح 12285.

لي بها و إنني مشغول بأعمالي.

إلاّ أن ذلك الرجل العظيم (الإمام الخميني) لم يقل يوما لا علاقة لي بما يحدث و لهذا صارا إماما للناس و للأمة، و الإمامة كانت حقّه المسلّم.

فأول شيء هو (السمع) و بعد ذلك (الطاعة) و لكن هذه الطاعة لمن يجب أن تكون؟ الطاعة ل (من له الطاعة) (و من حقّه الطاعة)، و لا يقبل التمرد و عدم الطاعة من أي شخص و في أي موقع كان، و إنّ الامة الإسلامية لا تكون قد عملت بوصية النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أن تلتزم بالطاعة عند ما تصبح الطاعة واجبا شرعيا ملقى على عاتقها.

و في مقابل الطاعة هناك العصيان، و قد جاء العصيان في آية محذّرة في القرآن الكريم و هي قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّٰى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لاٰ يَكْتُمُونَ اَللّٰهَ حَدِيثاً (1)، فكان هذا العصيان أحد الأسباب التي أدّت الى هزيمة المسلمين في معركة احد، فالمسلمون لم يطيعوا أمرا واحدا من أوامر النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فوقعت تلك الفاجعة(2).

ص: 294


1- سورة النساء: 42.
2- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.

أهمية الطاعة و ترك المعصية

من مواعظ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «قال لبعض ولده: يا بنيّ إيّاك أن يراك اللّه في معصية نهاك عنها.

و إيّاك أن يفقدك اللّه عند طاعة أمرك بها.

و عليك بالجدّ و لا تخرجنّ نفسك عن التقصير في عبادة اللّه و طاعته فإنّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته»(1)

يجب أن يكون الإنسان مراقبا دائما فيما يرتبط بالأوامر و النواهي الإلهية، فيكون حاضرا في الموضع الذي أمر اللّه تعالى به و غائبا عن الموضع الذي نهى عنه.

و أن يكون جديّا فيما يرتبط بأمور و مسائل الحياة سواء كانت أمورا دنيوية أم أخروية، و أن يرى نفسه مقصّرا فيما يرتبط بعباداته و طاعته مقابل الساحة المقدّسة و المعظّمة الإلهية.

و لا يقع في العجب و الغرور لأدنى طاعة و عبادة للّه تعالى، لأنّ الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤدّي الحق الإلهي العظيم في العبادة و الطاعة.

و من هنا كان أولياء اللّه تعالى الذين حلّقوا في فضاء القرب الإلهي اللامتناهي يجري لسانهم بعبارات التقصير في العبادة للّه تعالى «ما عبدناك حقّ عبادتك».

و يستغفرون اللّه تعالى من هذا التقصير في عبادته(2).

ص: 295


1- تحف العقول، صفحة: 409.
2- كلمات مضيئة: 42.

تعريف المعصية و منشؤها

لقد كان هدف جميع الأديان الإلهية، و جهود جميع الأنبياء عليهم السّلام، و شهادة كبار رجال الحقّ كلّها لأجل إيصال البشر الى القيام بعمل يجعل البشرية على الصراط المستقيم و لتتحرّك نحو العروج المعنوي و الكمال الإنساني و معرفة اللّه و تأمين مستقبلها الذي هو الهدف الرئيسي للحياة، أي مرحلة ما بعد الموت، ف «الدنيا مزرعة الآخرة».

إننا هنا نعدّ مقدّمات الحياة الأبدية، و كل ما نقوم به من دراسة و تدريس و جهاد و رياضة و بناء و عمران للدنيا و مقارعة للأعداء و سائر الأعمال التي يقوم بها الإنسان - و التي هي ضرورة - يجب أن تتصف بروحيّة السير على الصراط المستقيم، و كل ما يصدّكم عن هذا الطريق فهو معصية.

و المعصية - في الإصطلاح الديني و في أقوال الأنبياء - هي العوائق و الموانع في طريق الكمال الإنساني. و ليس معناه أنّ اللّه - و العياذ بالله - أراد حرمان عباده من السعادة و من اللذائذ، كلاّ، بل اللذّة التي تمنع الإنسان من السير نحو اللّه كالطعام اللذيذ الضارّ الذي يتناوله الإنسان، فيقرّبه من الموت، فالعاقل لا يتناول هذا الطعام و ينبذ هذه اللذّة، لهذا فقد تمّ التأكيد على الاستغفار في القرآن وَ اَلَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (1).

عليكم أن تكونوا امثولة للنزاهة، فشباب العالم اليوم يعاني من مختلف ضروب المآسي و يتلقّى نتائج معاصيه، و ما ترون من استمرار الخنفسية (الشذوذ) في

ص: 296


1- سورة آل عمران: 135.

المجتمعات الغربية منذ (30-40) سنة و إلى يومنا هذا، و معاناة الاسر و الآباء و الامهات من ضروب المآسي و أشكال التعاسة؛ فذلك لابتعادهم عن رحاب اللّه و غفلتهم عن الاستغفار و لعدم ارتداعهم عن ارتكاب المعاصي. و لهذه الظاهرة - طبعا - عوامل، منها أنّهم لا يستطيعون إرواء الشباب معنويا، فالشباب يبحث عن الإرتواء من منبع صاف، فإن لم يجدوا ذلك، انحرفوا و ارتكبوا المعاصي(1).

و روح الإستغفار عن المعصية و طلب العفو من اللّه سبحانه و تعالى لما ارتكبه الإنسان من معاصي و أخطاء هي شيء مهم جدا، لأنها تعني عدم غفلة الإنسان عن أخطائه و زلاّته، فمن يبرّئ نفسه من الخطأ و المعصية و يتصور أنه لم يرتكب عملا سيّئا، فسوف لا يفكّر في الاستغفار، فنفس الاهتمام بأمر الاستغفار يعني اعترافنا بالخطأ و النقص و المعصية و القصور و التقصير، إذن فالاستغفار هو أمر ضروري لكل إنسان، لأن من الطبيعي أنه لا يوجد إنسان لم يرتكب ظلما أو ذنبا أو صدر منه تقصير وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِظُلْمِهِمْ مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ (2).

إنّ اللّه سبحانه و تعالى يتجاوز عن ذنوب العباد، لأن اللّه لو كان يؤاخذ العباد بظلمهم و ذنوبهم لما بقي منهم أحد على وجه الأرض، ففي قوله تعالى: مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ المراد بالدابّة قهرا هي الدابّة الإنسانية لأن البحث في الآية الكريمة يدور حول الإنسان.

و على هذا فإن أخطاء تصدر منّا بصورة مستمرة مردّها الى الأهواء النفسية كما أن بعضها ناشئ من الجهل و قصر النظر.

إذن فالهدف من الاستغفار هو الالتفات الى الذنوب المرتكبة و لازمه تصحيح العمل، فيجب على كل إنسان تصحيح عمله بصورة مستمرة، و إذا ما تواجد ذلك

ص: 297


1- من كلمة ألقاها في: 15 ربيع الثاني 1416 ه - مشهد المقدسة.
2- سورة النحل: 61.

فسوف يتمّ التكامل.

و على هذا فإن الشرط الأساسي لكمال الإنسان هو وجود حالة التصحيح هذه و التي يعد الاستغفار أحد عواملها المهمة. و لهذا اوليت أهمية كبيرة جدا للإستغفار، كما تقدم تفصيله(1).

ص: 298


1- من موعظة ألقاها في بحث الخارج و ذلك بتاريخ 1415/4/4 ه.

أثر الطاعة

من مواعظ الإمام أبي الحسن الثالث عليه السّلام: «من اتّقى اللّه يتّقى، و من أطاع اللّه يطاع، و من أطاع الخالق لم يبال سخط المخلوقين، و من أسخط الخالق فلييقن أن يحلّ به سخط المخلوقين»(1).

كل إنسان يتّصف بالتقوى و يعتقد أنّ اللّه تعالى حاضر و ناظر دائما على أعماله و نواياه فهو عند الناس محترم الرأي و النظر.

و كل إنسان يطيع اللّه تعالى يطيعه الناس و يتّبعونه برغبة و ميل أيضا.

و في الموارد التي يتعارض فيها غضب و سخط اللّه مع غضب و سخط الناس، يقدّم الشخص المطيع للّه تعالى غضب اللّه و سخطه على غضب الناس و سخطهم فيهتم بأن لا يغضب اللّه عليه حتى و إن غضب منه الناس فإنه لا يبالي بغضبهم.

و على عكسه الشخص الذي يسعى وراء تحصيل و كسب رضا الناس فإنه يقدّم مرضاة الناس على مرضاة اللّه تعالى فيفعل ما يرضيهم و يغضب اللّه تعالى غافلا عن أنّ غضب الناس و عدم رضاهم سوف يتبعه أيضا، لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يرضي كل الناس: «إنّ رضى الناس لا يملك»(2).(3).

ص: 299


1- تحف العقول، صفحة: 482.
2- روي عن الإمام الصادق عليه السّلام انظر وسائل الشيعة: 396/27 ح 34045، و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «رضى الناس غاية لا تدرك» انظر نهج السعادة: 38/8.
3- كلمات مضيئة: 22.

أثر المعصية

توجد هناك عدّة آيات في القرآن الكريم تتطرق الى هذا الأمر، و من هذه الآيات، و التي تهتز لها مشاعر الإنسان هي الآية التي تناولت الحديث عن معركة أحد بشأن من عصى أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (1).

و سبب هذا الانكسار و التقهقر هو (ببعض ما كسبوا) أي بسبب بعض المعاصي التي فعلوها في الماضي؛ فإنّ التعلّق بالشهوات و الأهواء النفسية تبرز آثارها في مثل هذه المواطن؛ أو في آية شريفة أخرى عند ما يقال لهم أنفقوا، فيتخلفون عن الإنفاق تكون نتيجتهم فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2).

فعند ما يقطع الإنسان على نفسه عهدا بينه و بين اللّه تعالى، ثم يتخلّف عن ما وعد اللّه فيه؛ سوف يستحوذ النفاق على قلبه(3).

أي أنّ عملهم هذا كان ناشئا عن أخطاء سابقة صدرت عنهم، فكل زلّة تتبعها زلاّت أخر، أي أنها تضعف دعامة الإيمان، و إذا ضعف الإيمان أثّر سلبيا على العمل دون علم الإنسان بذلك، كسائر التغييرات التي تطرأ على الإنسان طوال حياته دون أن يشعر بها.

رحم اللّه السيد الخاتمي والد رئيس الجمهورية المحترم، فذات يوم حينما

ص: 300


1- سورة آل عمران: 155.
2- سورة التوبة: 77.
3- من كلمة ألقاها في 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.

رجعت من المنفى عام 1357 ه ش، ذهبت إليه في (أردكان) و كان له من العمر آنذاك خمس و سبعون سنة، إلاّ أنه قال لي حينها: أقول بلساني أصبحت هرما إلاّ أنني لا أستشعر ذلك و أتصور أنني لا زلت في الثلاثين من عمري، و هذا ما نستشعره نحن حاليا أيضا، إذ لا ندرك هذا التغير الذي يطرأ علينا برغم وضوحه، و هكذا الامر بالنسبة الى الإيمان؛ أي أنّ الإنسان لا يشعر بالنقص الحاصل في إيمانه.

إن التأثير السلبي للإيمان على العمل و بالعكس يؤدي الى ما حصل في احد من الانتكاس و غيره من الانتكاسات من قتل الإمام الحسين عليه السّلام بعد خمسين سنة من ذلك، و قد ذكرت ذلك و قلنا إنه عبر تاريخية، و إنها أبلغ تأثيرا من الدروس(1).

و بناء على ذلك، فإننا إذا لم نلتفت إلى أنفسنا و اتبعنا الشهوات و هوى النفس، نكون بذلك قد غلّبنا هوى نفوسنا على إيماننا و عقلنا، و سوف نقع في الانحراف الذي كنّا نخشى الوقوع فيه؛ و بناء على ذلك لا بد للإنسان أن يكون دائم التصور لإمكانية السقوط في الانحراف، فلا يعتقدنّ أحد أنّه بعيد عن خطر الوقوع في الانحراف؛ هذه المسألة الأولى، و أحد الأمثلة عليها هي قصة (بلعم بن باعورا) المعروفة حيث وصل الى درجة إتيان الآيات كما قال تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا (2).(3)

ص: 301


1- في كتاب ثورة عاشوراء شمس الشهادة.
2- سورة الأعراف: 175.
3- من كلمة ألقاها في 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.

عمومية المعصية

قد يكون الذنب صادرا عن مجموعة خاصة من الناس، و قد يكون ذنبا شعبيا عاما و شاملا كما قال تعالى: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (1).

في بعض الأحيان تكون العقوبة جماعية - رغم أنّ مرتكبي المعصية هم فئة خاصة، و لم يكن الجميع قد شاركوا بارتكاب المعصية بصورة مباشرة، لكون الفعل هو فعل جماعي، و على أثره أصبحت العقوبة عامة و شاملة(2).

و إن التقليد الأعمي، و خصوصا للغرب، هو أيضا إحدى الآفات. و لأن الحضارة الغربية على قدر من التقدم التقني المبهر، فإنهم يقلدونها في كل ما تصدره من فلسفة و أخلاق و نظريات مختلفة.

كما أن التعيّش هو الآخر إحدى الآفات الخطيرة؛ فالتطلع نحو المنصب و المسؤولية و المنزلة الإجتماعية، و حتى نحو العلم بصفته وسيلة للتكسّب و التعيش، هو أيضا إحدى الآفات.

كما أن الانتهازية و حب الراحة و الطباع السيئة و الشريرة هي كلها من الآفات. فهذه المجالات من نفسية و أخلاقية و سلوكية تمثل مظاهر المعارضة و مجالات التحدي أمام النظام الإسلامي؛ و هي نابعة من داخلنا نحن(3).

ص: 302


1- سورة الأنفال: 25.
2- من كلمة ألقاها في 1384/8/8 ه. ق الموافق: 26 /رمضان المبارك/ 1426 ه الموافق: 10/30 / 2005 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 7 رجب 1421 ه - المدرسة الفيضية/قم المقدسة.

الشهوات

النظرة أوّل الشهوات

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام لابن جندب: «إيّاكم و النظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، و كفى بها لصاحبها فتنة»(1)

المراد من النظرة هنا هو نظرة الهوس و الرغبة، سواء كانت إلى الطرف المخالف التي تحرّك الشهوة الجنسية أم كانت أشمل و أعم من ذلك نظير ما هو رائج في الثقافة الغربية و ما يقومون به من أعمال - و قد انتقل ذلك إلى الدول الأخرى أيضا - كالتسوّق و يقصد به التجوّل في المحلاّت للتفرّج فقط من دون هدف آخر، و هذا يؤدّي بالإنسان إلى الوقوع في الفتنة أي العبث و التحيّر و اللغو و التيه الناشئين من الهوس و الرغبة.

و الفتنة لا تعني الإمتحان و الإختبار دائما في كل الموارد بل في بعض الموارد تأتي بمعنى التيه و الحيرة.

فمثلا الفتنة الإجتماعية معناها تلوّث محيط المجتمع مما يوقع الإنسان في التحيّر و الإضطراب و التيه و الضياع(2).

ص: 303


1- تحف العقول، صفحة: 305.
2- كلمات مضيئة: 168.

آثار حب الشهوات

1 - حب الشهوات يمنع التسديد الإلهي:

قال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من أكل ما يشتهي و لبس ما يشتهي و ركب ما يشتهي لم ينظر اللّه إليه حتى ينزع أو يترك»(1).

يحتمل أن يكون المراد من قوله «و ركب ما يشتهي» هو المعنى الحقيقي من كلمة «ركب» أي وسيلة الركوب (كالسيارة و الطائرة و نحوها) التي يحبها.

و لكن هناك احتمال آخر و هو أن يكون معناها ركب الأمر، أي أنّه يقوم بكل عمل يريده و يحبه.

و على أي حال فإنّ الإنسان بارتكابه الأمور المذكورة سوف يسلب منه النظر و العناية الإلهية التي هي رأس كل الخيرات و أساس كل الكمالات الإنسانية.

و العلاج هو ترك هذه الأمور من خلال ترويض الإنسان نفسه اختيارا على عدم القيام بالأعمال التي منشاؤها الهوس و الشهوة مع قدرته على فعلها.

إنّ الإنسان الذي لا يقدر على فعل كل ما يشتهيه يجب عليه أن يقدّر هذه النعمة، فإنها لنعمة كبيرة أن لا يكون للإنسان مجال واسع لأهوائه و شهواته، و إن كان هناك ثواب أكبر فيما لو كان قادرا على مجاهدتها(2).

ص: 304


1- تحف العقول، صفحة: 38.
2- كلمات مضيئة: 167.
2 - حب الشهوات يحجب عن اللّه تعالى:

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام:

يا داود حذّر و أنذر أصحابك عن حبّ الشهوات، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني»(1).

إنّ اللّه تعالى قد أودع في الإنسان بعض الشهوات بحسب مقتضى الغرائز الإنسانية من قبيل شهوة الطعام و الكلام و الجنس، و لكنه و من أجل إرضائها و تنفيسها جعل لها طرقا محلّلة شرعا.

و عليه فإذا أراد الإنسان أن يسعى وراء الشهوات بنحو مطلق و من دون قيود و شروط فهذا خطر كبير عليه، لأنّ الشهوات مرضها و عيبها هو التجاوز عن دائرة الحدود المشروعة، و لذلك ذكر اللّه تعالى أنّ الذين تعلّقت قلوبهم بشهوات الدنيا صارت قلوبهم محجوبة و مغطاة عنه عزّ و جلّ.

لأنّ هكذا أشخاصا لم يستفيدوا من الأنوار الإلهية و تجلّيات الألطاف الربّانية.

فنسأل اللّه تعالى أن يحي قلوبنا بإشعاعات ألطافه و رحمته(2).

3 - الشهوات تذلّ الإنسان:

قال الإمام أبي محمد الحسن بن علي عليه السّلام: «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه»(3).

أشدّ شيء سوءا و قبحا على المؤمن أن تكون لديه ميول و رغبات تؤدّي به إلى

ص: 305


1- تحف العقول، صفحة: 394.
2- كلمات مضيئة: 166.
3- تحف العقول، صفحة: 489.

الذلّة و المهانة.

فإنّ أكثر الأمور الموجبة للذلّة و المهانة تنشأ و ترتبط برغبات و ميول و متطلّبات الإنسان.

و إحدى الأمور التي لم يرخّص فيها الشارع المقدّس للمؤمن هو أن يذلّ نفسه و يهينها. سواء كانت الذلّة و المهانة لأجل المقام و المنصب أم لأجل المال و الثروة أم لأجل الشهوات النفسانية.

و لذلك يقول الإمام عليه السّلام: كم هي سيئة و قبيحة أن تكون متطلبات و رغبات المؤمن سببا لمذلّته و مهانته.

و كما قال الشاعر:

و كم دقّت و رقّت و استرقّت *** فضول العيش أعناق الرجال.

أي أن كثيرا من المتطلّبات و الرغبات و الميول التي تكون زائدة عن الحاجة المعيشية للإنسان تؤدّي به للذلة و المهانة و الضعف و الدمار(1).

ص: 306


1- كلمات مضيئة: 166.
4 - إتباع الشهوات أساس الضلالة و الانحراف:

قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (1).

هناك عاملان هما أساس للضلالة و الإنحراف العام، أحدهما الإبتعاد عن ذكر اللّه و الذي يتجلى في الصلاة و العبادة، و الذي يعني الغفلة عن اللّه و المعنويات و فصل الحياة عن المعايير المعنوية، و إهمال التوجه الى اللّه تعالى و الذكر و الدعاء و التوسل و طلب التوفيق منه، و التوكل عليه و فصل الحسابات الإلهية عن الحياة.

و العامل الآخر هو إتباع الشهوات و الملذات و بعبارة واحدة السعي وراء الدنيا و الإشتغال بجمع الثروة و المال و الوقوع فريسة للشهوات الدنيوية و إعتبارها أساسا و مبدأ و نسيان الأهداف الحقيقية.

هذا مرض رئيسي و خطير و يمكن أن نبتلى نحن به أيضا. فلو أن الحالة المبدئية تزول أو تضعف عندنا و كل منا يفكر بأن ينتزع حصته من الغنيمة حتى لا نتخلف في دنيانا عن الآخرين، و يقول في نفسه أن الآخرين قد جمعوا لأنفسهم و يجب أن نذهب نحن أيضا لنجمع لأنفسنا و نضع مصالحنا فوق مصالح المجتمع. فمن المعلوم حينئذ أن يصل بنا الحال الى ذلك الوضع.

فسرّ وجود النظام الإسلامي و بقائه و تطوره هو الإيمان و الهمم العالية و الإهتمام بالمبادئ و إحياؤها.

و معلوم أنّ توهين الأهداف و اللامبالاة في اصول الإسلام و الثورة و فهم كل الامور

ص: 307


1- سورة مريم: 59.

و التعامل معها بذهنية مادية سوف يصل بالمجتمع الى تلك الوضعية.

و لهذا السبب إبتلي بها أولئك الناس ففي وقت، كان المسلمون يهتمون بتطوير الإسلام و رضا اللّه و تعليم الدين و المعارف الإسلامية و الإطلاع على القرآن و الانس بمعارفه، و كان الجهاز الحكومي و الإداري للبلاد جهازا زاهدا في الدنيا، نقيا، لا يعير أهمية لزخارف الدنيا و الشهوات الشخصية، فكانت النتيجة حينذاك تلك الحركة العظيمة التي توجه الناس فيها الى ربهم. في تلك الوضعية يبرز مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام خليفة للمسلمين و مثل الحسين بن علي عليه السّلام شخصية مرموقة.

و السبب هو أن تلك المعايير تتجسد فيهم أكثر من غيرهم، عند ما يكون المعيار هو اللّه و التقوى و الإعراض عن الدنيا و الجهاد في سبيل اللّه، فإن الذي يتواجد في الساحة حينئذ هم الأفراد الواجدون لهذه المعايير، هؤلاء هم الذين يأخذون مقاليد الامور بأيديهم و يصبح المجتمع مجتمعا إسلاميا.

و لكن عند ما تتبدل المعايير الإلهية فسوف يستلم الامور كل من هو أحرص على الدنيا و أشد في إتباع الشهوة و تحصيل المنافع الشخصية و أبعد عن الصدق و الحقيقة، حينذاك تكون النتيجة صيرورة أمثال عمر بن سعد و الشمر و عبيد اللّه بن زياد امراء، و ذهاب أمثال الحسين بن علي عليه السّلام الى المذبح و إستشهاده في كربلاء و هذه قضية منطقية ف (2 + 2 4).

لا ينبغي أن يسمح الأشخاص الحريصون بتبدل المعايير في المجتمع(1).

لذا يجب علينا الحذر، إنّ الأعداء ينتظرون اليوم تنامي الفساد داخل البلاد الإسلامية و خلق الشكوك في أذهان الشباب و تغلّب اللهو الفاسد و المانع للخير على الأهداف السامية، و إثارة النوازع الدنيويّة و حبّ الجاه و الدعة، و ظهور معالم البهرجة و الترف بين العناصر الثوريّة، و كلّها وليدة تأثير جرثومة الردّة و الارتداد.

ص: 308


1- من كلمة ألقاها في 28 محرم 1413 ه ق.

ليس المقصود أن يحرم النّاس أو الثوريون من زينة الدّنيا، فالنعم و البركات الإلهيّة للجميع، لكن الرغبة في الدّنيا و الشهوات و حبّ المال و اكتنازه و حبّ النفس أكثر من اللّه و الدّين و الهدف و المجتمع و الابتداء بالمفاسد الأخلاقيّة أعمّ من المالية و الجنسيّة و الإدارية، و الصراع الداخلي و هذا من المفاسد الخطيرة للغاية، ثمّ الطموح في الجاه و المقام غير المشروع كالرائج في الغرب، كلّها من شأنها تدمير مباني الإسلام و الثورة و الحقيقة.

طبعا و سوف تقام بدلا منها مباني جديدة لكنّها طاغوتيّة غير إلهيّة و مخالفة للإسلام و للقيم الّتي اريقت دماء شهدائنا من أجلها، و هذه من معالم الارتداد و الردّة.

إنّ كلّ إنسان معرّض للفساد إلاّ المتّقين، فلا يمكن إفساد المتّقين، نعم يمكن إفساد الناس، و يمكن عرض زينة الدّنيا من طريق غير مشروعة عليهم لجعل أفئدتهم بصورة بحيث يرغبون عن جميع القيم و يضحّون بها في سبيل المظاهر المادّية.

كلّ هذه الامور يمكنها أن تتّفق مع غياب التقوى، فللتقوى تأثير في الدّنيا و في الآخرة، و كما أنّ للتقوى تأثيرا في السياسة، كذا لها تأثير في حفظ النظام الإسلامي و في الحرب، و قد أدركنا و لامسنا بأنفسنا هذه الحقيقة(1).

ص: 309


1- من كلمة ألقاها في بتاريخ 3 شعبان 1415 ه

ص: 310

الحسد

خطورة الحسد

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الحسد: فإن هذه الخصلة موجبة لاختلال الروابط العاطفيّة للإنسان مع أقربائه أو أصدقائه أو لكل شخص يحسده، و النتيجة من ذلك هي زوال المحبة و الصداقة و الإلفة و التعاون بين الناس. فالحاسد دائما ينظر إلى المحسود نطرة سيئة و يحاول أن يفسد عليه عمله و يخربه، و لذلك تتهدّم الروابط و العلاقات الإجتماعيّة المطلوبة في المجتمع السليم.

2 - الحرص، 3 - الكذب، و سيأتي الكلام عنهما.(2).

ص: 311


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إصبر على أعداء النعم، فإنّك لم تكافىء من عصى اللّه فيك بأفضل من أن تطيع اللّه فيه»(1)

بعض الناس ليس لديهم المقدرة على تحمّل رؤية النعم الإلهية عند الآخرين بل يحسدونهم عليها، و بتعبير الرواية يكونون أعداء النعم التي يهبها اللّه للآخرين.

و هذا النوع من الناس غالبا ما يقومون بتحطيم و إتهام و غيبة و إهانة أصحاب النعم.

و الرواية هنا مفادها الأمر بالصبر في مقابل أذى و إضرار هؤلاء الناس (أعداء النعم) و الأمر بإطاعة اللّه عزّ و جلّ فيما يرتبط بهم.

أي أنه يجب على الأنسان أن لا يتعامل معهم بالمثل فلا يهينهم و لا يعاديهم و لا يقول فيهم سوءا، فإنّ هذا الشيء أفضل عقوبة و مجازاة لهم على صنيعهم.

و السرّ في كون ذلك أفضل العقوبة و المجازاة لهم هو أنّ كلا هذين الصنفين من الناس سوف يقفون في محضر اللّه تعالى يوم القيامة، فإذا لم تكن قد أسأت إليهم فأنت لك حق عليهم و اللّه سبحانه و تعالى سوف يأخذ لك حقّك منهم.

و هناك وجه آخر لهذه المسألة و هو أنّ - و طبقا لما يستفاد من التجارب في هذا المضمار مضافا إلى كلمات الأعاظم أيضا - اللّه سبحانه و تعالى سوف يجازي أهل الحسد في هذه الدنيا بينما المحسودون الذين صبروا و تحمّلوا سوف يثيبهم و يعطيهم الأجر و الثواب اللائق بهم(2).

ص: 312


1- الخصال، باب الواحد، ح: 71.
2- كلمات مضيئة: 90.

الحسرة و الندامة

عذاب الحسرة و الندامة

من مواعط أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة عبد وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره»(1)

إحدى خصوصيات يوم القيامة هي الحسرة، و عذاب الحسرة أعظم من العذاب الجسماني. و قد ورد في القرآن الكريم التنبيه على ذلك بقوله وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ (2).

و الحسرة مسألة عامة و كل الناس يبتلى بها، فالأشخاص الفاسقون يتحسّرون بسبب ذنوبهم و انحرافاتهم التي عملوها في الدنيا.

و الأشخاص الصالحون يتحسّرون بسبب تفويتهم الفرص على أنفسهم و عدم الإستفادة الكافية منها. و ذلك لأن التكامل الإنساني له درجات مختلفة، و كل مرتبة و درجة يصل إليها الإنسان يوجد فوقها درجة أعلى.

فالإنسان الذي يضيّع عمره بالبطالة و لا يستفيد من حياته بالشكل المطلوب و لا يصل إلى المراحل العليا من الكمال، أو الإنسان الذي سعى و كافح و قام بأعمال الخير و البرّ و لكنه أحرقها كلها بصاعقة الذنوب و الأعمال السيئة التي ارتكبها، فهكذا إنسان

ص: 313


1- تحف العقول، صفحة: 298.
2- سورة مريم: 39.

سوف يتعذّب بنار الحسرة يوم القيامة.

و أعلى و أشد مراتب الحسرة هي الحسرة الذي يبتلى بها الشخص الذي أرشد الناس إلى الصلاح و الخير و لكنه لم يعمل بها بل عمل على خلافها(1).

و قال علي بن الحسين السجاد عليه السّلام: «من لم يتعزّ بعزاء اللّه تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، و اللّه ما الدنيا و الآخرة إلاّ ككفّتي الميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر».(2)

لكل إنسان آمال و أماني في هذه الدنيا، و لكنه قطعا لن يتمكن من تحقيقها جميعا و لن يستطيع تحصيلها كلّها كذلك.

و هذا الحرمان من الحصول على رغباته و أمانيه، يعود سببه الى الأمرين التاليين:

1 - إما لأن المطالب و الرغبات و الأماني محرّمة شرعا و الإنسان لا يقدر على ارتكابها، بل يصبر و يتحمل حرمانه منها قربة للّه تعالى.

2 - و إمّا لأن القضاء و القدر الإلهيين متعلّقان في كون مصلحة الإنسان بأن لا يصل الى هذه الأهداف، مهما جدّ و سعى و كافح باجتهاد و نشاط في سبيل الوصول إليها.

و على كل حال فالشيء الذي يوجب سكون الإنسان و طمأنينته و راحة باله تجاه هذا الحرمان ليس هو إلاّ الإعتقاد التّام و الإيمان القاطع بأنّ اللّه سبحانه و تعالى سوف يعوّضه عن ذلك و يعطيه الأجر و الثواب في عالم الآخرة.

و إلاّ ففي غير هذه الصورة سوف يبتلي بالحسرة و النّدامة و الهمّ و الحزن التي لا تنتهي أبدا فتذهب نفسه عليها حسرات.

إنّ الدنيا و الآخرة نظير كفّتي الميزان إذا رجحت إحداهما نزلت الأخرى. فكلّما تنعّم الإنسان في هذه الدنيا و كان مرتاحا كان له في عالم الآخرة بنفس هذا المقدار من الحسرة و الخسارة و النقصان(3).

ص: 314


1- كلمات مضيئة: 191.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 95.
3- كلمات مضيئة: 191.

حرمات اللّه تعالى

بعض حرمات اللّه تعالى

عن ابن عباس قال: «إن للّه عزّ و جلّ حرمات ثلاث ليس مثلهنّ شيء: كتابه و هو نوره و حكمته.

و بيته الذي جعله للناس قبلة، لا يقبل اللّه من أحد وجها إلى غيره.

و عترة نبيّكم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»(1)

لقد جعل اللّه تعالى حدودا ثلاثة محترمة جدا و لم يسمح لأحد بتجاوز هذه الخطوط الحمراء و ليس هناك شيء يشبهها و يضاهيها في الأهمية، و هي

1 - القرآن الكريم الذي هو نور إلهي و معدن الحكمة الإلهية.

2 - الكعبة الشريفة التي تعتبر من الأسرار و الرموز و الشعائر العظيمة في الإسلام.

و الناس تتجه نحوها و تجتمع في ذلك المكان لأداء مراسم الحج و العمرة كنسيج واحد و تتوجه إلى اللّه تعالى و تتضرّع إليه و تتحرك و تتوجه قلوبها نحوها، و كل الناس في موسم الحج تختفي في محورية البيت الإلهي، و اللّه تعالى جعلها قبلة للصلاة و بعض الأعمال العبادية الأخرى و للدعاء و المناجاة و لا يقبل من أحد أن يتوجه الى غيرها.

ص: 315


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 174.

3 - عترة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هم أهل البيت عليهم السّلام.

و هذا التركيب الكلامي من ابن عباس «رحمه اللّه» حيث جعل العترة إلى جانب القرآن و الكعبة يحمل رسالة مهمة جدا(1).

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السراق ثلاثة: مانع الزكاة، و مستحل مهور النساء، و كذلك من استدان دينا و لم ينو قضاءه».(2)

السارق مفهوم واضح و جليّ، و لكن هذه الرواية تذكر ثلاثة مصاديق خفية غير واضحة من مصاديق السارق، و هي بذلك تريد أن تبين أن السارق ليس مختصا بالشخص الذي يسرق اموال الناس فقط. و هم:

1 - الشخص الذي يمنع الزكاة. أي لا يدفع زكاة أمواله، فهو في الحقيقة سارق لأموال الفقراء و المستحقين لأخذ الزكاة لأنها ملكهم في الواقع.

2 - الشخص الذي يستحل مهور النساء أي يمتنع عن دفع المهر للزوجة، فإنّ دفع المهر و إن لم يكن فوريا إلاّ أن هذا الشخص يقصد أن لا يدفع المهر مطلقا، فهذا سارق في الحقيقة لمال زوجته لأن المهر ملك لها.

3 - الشخص الذي يقترض من الآخرين و لا ينوي تسديد القرض، فإنه سارق لأموال الآخرين في هذه الحالة لأنهم يستحقون عليه أن يردّ لهم أموالهم بعد انقضاء مدة القرض(3).

ص: 316


1- كلمات مضيئة: 207.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 190.
3- كلمات مضيئة: 207.

الشحّ و الأمل و الهوى

الشح و الأمل

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ صلاح أول هذه الأمّة بالزهد و اليقين، و هلاك آخرها بالشحّ و الأمل»(1).

1 - إنّ عظمة و اقتدار الأمة الإسلامية في أول أمرها كان مرهونا بزهد و يقين الأمّة.

فإنّ أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا لا يبالون و لا يهتمون بزخارف الدنيا، ليس بمعنى أنهم لم يسعوا و لم يجدّوا في ساحة الحياة بل في نفس الوقت الذي كانوا يسعون و يجدّون كان قصدهم الوصول الى الأهداف العالية، قال اللّه تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ.. (2).

2 - و أمّا هلاك آخر الأمة الاسلامية فسببه الشّح (الحالة المركبة من البخل و الحرص) و الأمل (أي الإنشغال بالآمال و الأماني الحقيرة التي لا شأن و لا قيمة لها).

طبعا هذا لا يعني أنّ الأمّة سوف تهلك حتما أو أنّ الهلاك مقدّر لها في زمان ما، بل الحديث في مقام بيان سنّة إلهية و هي أنّ الأمّة الإسلامية سواء المسؤولون و العسكريون و طبقات الشعب المختلفة إذا لم يكن هدفهم الخدمة بل كانوا يفكرون

ص: 317


1- الخصال/باب الإثنين/ح 128.
2- سورة البقرة: 285.

في تجميع و تحصيل المال و ازدياد و بسط الثروة أي أنّهم ابتلوا بالشح، و كذلك بدلا من أن يسعوا لأجل الوصول الى أهدافهم العليا توجّهوا نحو المظاهر الدنيوية من قبيل الجاه و المقام و المنصب و نحوها، فابتلوا بالهلاك.

و يجب أن يعلم أنّ هذه السنة الإلهيّة جارية في المجتمع الحالي أيضا. فاليوم يوجد أشخاص من بين المدراء و الرؤساء و سائر طبقات المجتمع يتصفون بالزهد و اليقين، إلاّ أنّه يجب علينا الحذر من أن تتبدّل هاتان الصفتان الحسنتان الى الشّح و الأمل كما حصل بالفعل لبعض الناس، لأنّه في هذه الحالة سوف يقع المجتمع في الهلكة(1).

الهوى و طول الأمل

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أخوف ما أتخوّف على أمتي الهوى و طول الامل، أما الهوى فيصدّ عن الحق، و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(چ).

من وجهة نظر النّبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله هناك مسألتان تأتيان في الدّرجة الأولى من بين سائر المسائل و الآفّات الإجتماعيّة و النّفسيّة الّتي تهدّد الأمة الإسلامية، و هما:

1 - عبادة الهوى.

2 - طول الأمل و الأماني البعيدة الّتي لا أساس لها حيث يقوم الإنسان برسم المستقبل من خلال ترتيبها و تنظيمها من قبيل ما إذا قام بتجارة فربح منها مالا فاشترى به بيتا ثمّ باعه و اشترى بيتا آخر أكبر و أوسع منه و هكذا...

أمّا خطر عبادة الهوى فهو أنّ الإنسان يتراجع عن طريق الحق، فمع أن طريق الحق واضح و جليّ أمامه، إلاّ أنّه لا يسلكه و لا يتّبعه. و أحيانا يكون إنجذابه نحو الهوى سببا

ص: 318


1- كلمات مضيئة: 118-119. (چ) الخصال/باب الاثنين/ح 63.

لعدم إدراكه الحقيقة بتاتا.

و أمّا خطر الآمال الطويلة فهو أن الإنسان حينما يغرق فيها ينسى الهدف الأساسي و الأهم من حياته و ينشغل عنه، مع أنّ الواجب عليه هو أن يستعد و يهيء نفسه للحياة الحقيقيّة الأصليّة.

من قبيل ما إذا أتى شخص جامعي لتحصيل العلم في الجامعة ليؤمن مستقبله من خلالها، فإنّه إذا انشغل بالتفرّج و مشاهدة الأشجار و الأزهار و الأبنية الموجودة في الجامعة، و نسي تحصيل العلم يكون قد خسر هدفه الأساسي الذي جاء من أجله الى الجامعة.

و الإنسان في هذه الدنيا هكذا شأنه، فإنّه إذا انشغل فكره في تهيئة المسكن و المركب و العمل و غيرها يكون قد غفل عن الهدف الأصلي من حياته.(1)

ما يؤدي إلى الهوى

و من وصايا الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، من سلّط ثلاثا على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله:

من أظلم نور فكره بطول أمله.

و محا طرائف حكمته بفضول كلامه.

و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه.

فكأنّما أعان هواه على هدم عقله، و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه»(2).

ثلاثة أمور إذا عملها الإنسان أفسد على نفسه عقله و حكمته، و نتيجة ذلك أنه يخسر دينه و دنياه. و هي:

ص: 319


1- كلمات مضيئة: 36-37.
2- تحف العقول، صفحة: 386.

1 - أن يتوجّه و يعتني بالآمال و الآماني البعيدة و الطويلة و الموهومة.

طبعا مجرد الأمل و التمنّي في نفسه ليس مذموما، لأنّ كل إنسان لديه في هذه الحياة آمال و أمنيات، و لكن الغرق في التخيّلات و التوهّمات الناشيء من الآمال و الأمانيّ خطر كبير يؤدي بالعقل أن يبتعد عن الواقع و الحقيقة.

2 - أن يذهب و يمحو نور حكمته بفضول الكلام أي الكلام الكثير الذي غالبا لا يكون متناسبا و منسجما.

3 - الذي يطفىء نور العبرة و الإتعاظ من نفسه بسبب تغلّب شهواته و أهوائه النفسانية عليه بحيث لا يهتم و لا يعتني بتلك العبر و المواعظ.(1)

ص: 320


1- كلمات مضيئة: 103.

مخالفة الهوى

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام: «يا هشام، و إذا مرّ بك أمران لا تدري أيّها خير و أصوب، فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإنّ كثير الصواب في مخالفة هواك»(1)

أحيانا يقف الإنسان على مفترق طريقين، بمعنى أنه يعرض له أمران و فعلان و لا يدري أيّهما صحيح و أصوب أو أيّهما أفضل و أصحّ من الآخر ليختاره و يرجّحه؟

و في هذا الحديث يعطي الإمام عليه السّلام ضابطة عامة و كليّة لاختيار و انتخاب الطريق الأصوب و الأفضل فيقول:

على الإنسان أن يختار و ينتخب الطريق الذي يخالف هوى نفسه و ميوله الشهوانية و يسلكه و يسير فيه.

و السرّ في ذلك هو أنّ أكثر الصواب و الخير في مخالفة الإنسان لهواه، فأصحّ الأعمال و أفضلها هو ما لا يكون موافقا لهوى النفس.(2)

ص: 321


1- تحف العقول، صفحة: 398.
2- كلمات مضيئة: 103.

تعريف الشحّ

عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

الشح معناه الحرص على المال مع البخل به، و الشحيح هو الشخص الذي يجمع المال بحرص و ولع و يمتنع عن إنفاقه و إعطائه للآخرين، و هذا أسوأ أنواع حب المال(2).

ص: 322


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- كلمات مضيئة: 104.

أثر الشحّ

عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام عن أبيه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما محق الإيمان محق الشحّ شيء، ثم قال: إنّ لهذا الشحّ دبيبا كدبيب النمل، و شعبا كشعب الشرك»(1).

إنّ للإيمان عيوبا و آفات، فهناك أمور تمحق الإيمان، و أشدّ تلك الآفات تأثيرا في محق الإيمان هو الشحّ.

و الشحّ مركبّ من البخل و الحرص، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بجمع و ادخار الأموال و الزخارف الدنيوية لنفسه و لا ينفق شيئا منها في سبيل اللّه، كما يحدّث عنه قوله تعالى:

فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ (2) .

فالشحّ و البخل سببان لوجود النفاق في قلوب الذين يبخلون و يشحّون.

و في سورة الحشر ورد أنّ الفلاح مترتب على اجتناب الشحّ و البخل و تطهير النفس منهما.

قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (3).

و يجب أن يعلم أن هذه الصفة المذمومة تمشي في نفس الإنسان و تتحرّك و تتجذّر بنحو تدريجي و كما في تعبير الرواية تمشي كما يمشي النمل، و هي نظير

ص: 323


1- الخصال، باب الواحد، ح: 93.
2- سورة التوبة: 77.
3- سورة الحشر: 9.

الشرك من حيث المراتب و الدرجات(1).

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(2)

و هنا يحذّر النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله من الشح و يحثّ على الاجتناب و الابتعاد عنه.

و ذلك لأن الشح قد أهلك الأمم السابقة فإنهم لمّا صاروا أشحاء اتبعوا الشح في كل ما أمرهم به.

فلمّا أمرهم بالكذب كذبوا لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل.

و لمّا أمرهم بالقطيعة قطعوا، و القطيعة و إن كان الغالب استعمالها في قطع الرحم إلاّ أن الظاهر هنا أن معناها أعم من ذلك فتشمل قطيعة الرحم و قطيعة ما يلزم مراعاته و المواظبة و المحافظة عليه، كالعلاقة مع اللّه تعالى و الائمة عليهم السّلام و الصالحين من عباده يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (3).(4)

ص: 324


1- كلمات مضيئة: 104.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
3- سورة البقرة: 27.
4- كلمات مضيئة: 105.

أثر إطاعة هوى النفس

من وصيّة أبي عبد اللّه عليه السّلام لابن جندب: «يا ابن جندب، من حرم نفسه كسبه فإنّما يجمع لغيره، و من أطاع هواه فقد أطاع عدوّه، و من يثق باللّه يكفه ما أهمّه من أمر دنياه و آخرته، و يحفظ له ما غاب عنه»(1).

كل من يسعى و يجدّ و يحصل على الأموال و لكنه لا يستفيد منها، فإنّها سوف تكون في الحقيقة للآخرين فإمّا أن تنتقل إلى ورثته فيستفيدوا منها، و إما أن تتلف بالسرقة و غيرها.

و كل من يطيع هوى نفسه سواء كانت شهوات الشخص النّفسانية أم شهوات الجماعة و الفرقة التي ينتمي إليها، فيكون قد أطاع عدوّه.

و من المعلوم ما هو مقدار الخسارة و الأضرار التي يحصل عليها من ذلك.

و يجب الإلتفات إلى أنه أحيانا قد يختفي هوى النفس الشخصي ضمن الأشكال و القوالب الموجّهة، و هذه المرحلة خطيرة جدا لأن الإنسان في الظاهر يقوم بالعمل بعنوان أنه تكليف و وظيفة أخلاقية أو سياسية بينما هو في الباطن تابع لهوى نفسه.

و كل من يعتقد باللّه و يتوكّل على اللّه فسوف يصلح اللّه له دنياه و آخرته.

و الوثوق و الإعتماد على اللّه ليس بمعنى عدم السعي لتحصيل العلم أو عدم السعي لتحصيل المعيشة و عدم الجدّ و الإجتهاد في ميادين الحياة المختلفة، بل معناه أن يكون حاضرا حيث يريد اللّه تعالى في جميع الأمور و الموارد التي جعلها اللّه تعالى

ص: 325


1- تحف العقول، صفحة: 304.

على عهدته و كلّفه بها(1).

هوى النفس الخطر الأساس

إنّ الخطر الأساس ما في رواية أهل البيت عليهم السّلام ألا و هو هوى النفس، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى و طول الأمل»(2).

فلا تعجبوا من ذلك حيث إن هوى النفس لمن أشد الآفات خطرا علينا «إن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»(3).

و هاهنا يقول أمير المؤمنين (ع): «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى و طول الأمل؛ فأمّا اتباع الهوى فيضلّكم عن سبيل اللّه».

فأشد و أكثر أنواع الضلال مردّها إلى هوى النفس. و بالطبع فإننا عادة ما نجد لأنفسنا آلاف التبريرات حتى ننحرف عن الصراط الإلهي و يجيء قولنا و فعلنا على خلاف ما أوصى به الدين و الشرع.

إن خطورة هوى النفس هو أنه يضلكم عن سبيل اللّه تعالى.

ثم قال عليه السّلام: «و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة».

و طول الأمل يعني الآمال البعيدة و الشخصية؛ كأن تفكّر في تشييد منزل لنفسك على أحدث طراز، أو أن تتسنّم أعلى المناصب، أو أن تمدّنّ عينيك إلى ما متع به اللّه بعضا من الناس، فتخلق لنفسك المصاعب و المشقات لكي تحصل على المبالغ المالية الطائلة أو تمارس ذلك النوع من النشاطات الإقتصادية. فطول الأمل هذا؛ أي تلك الآمال التي لا تقف عند حد، تأخذ بالسيطرة على فكر الإنسان، و تختلق له أهدافا

ص: 326


1- كلمات مضيئة: 106.
2- الخصال/باب الاثنين/ح 63.
3- بحار الأنوار: 36/67.

مزيفة، و تجعل من الآمال التافهة آمالا عظيمة في نظره.

و تكون نتيجة ذلك أنه «ينسي الآخرة»؛ حيث يظل دائما في شغل شاغل من هذه الأهداف التافهة، فيموت قلبه، و لا يبقى عنده وقت أو رغبة في الدعاء أو الإنابة أو التضرع(1).

إن العدو الأساسي هو عبارة عن العدو الكامن في باطن كل مسلم و مؤمن و هو الأخطر من بين جميع الأعداء، و هذا العدو معشعش فينا أيضا، إنه الأهواء النفسية و الأنانية و الجنوح نحو الإنحراف و الضلال و الانزلاق الذي يصطنعه الإنسان نفسه، و قد خاض النبي صلّى اللّه عليه و آله مع هذا العدو صراعا مريرا، غاية الأمر أن آلة الصراع مع هذا العدو لا تتمثل بالسيف، بل التربية و التزكية و التعليم و التحذير، فلما عاد المسلمون من الحرب قال لهم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر. فتعجب المسلمون من قوله و سألوه: ما الجهاد الأكبر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟! لقد خضنا غمار هذا الجهاد المرير، فهل من جهاد أكبر منه؟! قال: نعم، إنه جهاد النفس.

فإذا ما صرح القرآن الكريم: اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (2) فذلك لا يعني أنهم منافقون، بل بعض المنافقين في عداد الذين في قلوبهم مرض، و لكن ليس كل اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين، فربما يكون المرء مؤمنا لكنه في قلبه مرض، فما ذا يعني هذا المرض؟ إنه يعني ضعف الأخلاق و الشخصية، و الشهوانية و الجنوح نحو مختلف الأهواء التي إن لم تبادر للحد منها و مقارعتها فإنها ستأتي على الإيمان من الداخل و ستؤدي بالتالي إلى خوائك داخليا، و إذا ما استلب الإيمان منك و خلا باطنك و ظل الإيمان ملاصقا لظاهرك إذ ذاك ستدخل ضمن الذين يطلق عليهم

ص: 327


1- من كلمة ألقاها في: 5 رمضان 1421 ه - طهران.
2- سورة المائدة: 52.

اسم "المنافق".

فلو خلت قلوبنا أنا و أنتم من الإيمان و بقي ظاهرنا متلبسا بالإيمان، و قطعنا أواصر الإيمان و علائقه، بيد أن ألسنتنا ظلت تلهج بالتعابير الإيمانية، فهذا هو النفاق و هو من الخطورة بمكان؛ و القرآن الكريم يصرح بقوله: ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ (1)، و ذاك هو السوء المبين، ألا و هو التكذيب بآيات اللّه. و يقول في موضع آخر: فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (2).

و هذا هو مكمن الخطر الذي يتهدد المجتمع الإسلامي، و حيثما شاهدتم في التاريخ إنحرافا في المجتمع الإسلامي فإنه يمثل منطلق هذا الإنحراف.

ربما يشنّ العدو الخارجي هجومه و يدمر و يخرب لكنه لا قدرة له على الإفناء، و ذلك لبقاء الإيمان الذي قد ينهض و تخضر أغصانه من جديد، غير أن جيوش العدو الداخلي إن هجمت على الإنسان و أفرغت باطنه إذ ذاك سيطال الإنحراف سبيله، و حينما وجد الإنحراف فإن منشأه هو «هوى النفس»، و لقد تصدى النبي صلّى اللّه عليه و آله لهذا العدو أيضا(3).

ص: 328


1- سورة الروم: 10.
2- سورة التوبة: 77.
3- من كلمة ألقاها في:: 24 صفر 1422 ه - طهران.

الشحّ المطاع و الهوى المتبع

من مواعظ النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أخاف على أمّتي ثلاثا: شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إماما ضلالا»(1)

الشحّ هو حالة مركّبة من الحرص و البخل، لأنّ مجرد الحرص على زخارف الدنيا حالة موجودة في الإنسان و إذا لم يقم بأي عمل أو تحرك طبقا لها فهي ليست بذات أهمية، و إنما خطرها فيما إذا صار الشحّ مطاعا أي صار الإنسان يسعى و يكافح لأجل تحصيل الأعراض الدنيوية.

و الهوى المتّبع هو الشهوة النفسانية التي يأتمر بأوامرها و ينقاد لها.

و النسبة بين الشحّ المطاع و الهوى المتّبع هي نسبة العموم و الخصوص من وجه.

و إمام الضلال هو الذي يحرّك المجتمع على خلاف الحق و يسير به نحو الإنحراف و الضلال، و هذا الضلال أصله و جذره من الشحّ و هوى النّفس، و بمراجعة التاريخ يعلم بوضوح أن إنحراف خلفاء بني أميّة و بني العبّاس ابتدأ حينما تحرّكوا و ساروا وراء إرضاء و إشباع غرائزهم الشهوانيّة و أهوائهم النفسانيّة.

و لأجل ذلك كان تمام سعي و كفاح الأنبياء و الأولياء «صلوات اللّه عليهم» منصبّا على مجاهدة و محاربة هذين العنصرين أي الهوى و الشحّ (2).

ص: 329


1- تحف العقول، صفحة: 58.
2- كلمات مضيئة: 105.

الأهواء النفسية سبب كل المآسي

كل مآسي الإنسان تعزى إلى انقياده لأهوائه النفسية؛ و كل ألوان الظلم و التعسف و الغدر و الجور، و كل الحروب الظالمة و الحكومات الفاسدة و خضوع الشعوب للظلم يعود سببها إلى اتباع نوازع النفس و أمانيها. أما إذا اكتسب المرء مقدرة التفوّق على تلك النوازع فإنّه يكون قد أحرز لنفسه الفلاح. و شهر رمضان شهر العبادة يغرس هذه المقدرة في النفوس. و قد جعل اللّه للمسلمين عيدا من أجل أن يحسب الإنسان ما له و ما عليه، و لكي يحتفظ لنفسه بما وهب له اللّه في أوقات ضيافته، و لأجل أن يقوّي صلته بالله.

احتفظوا بحالة التضرع و التوجّه إلى اللّه و الارتباط به على مدار السنة بقلوبكم النيّرة؛ فإنما ينال الإنسان الدنيا و الآخرة بواسطة هذا الصفاء الروحي، و الدنيا التي تسعد الإنسان لا تنال إلاّ عن هذا الطريق(1).

ص: 330


1- من كلمة ألقاها في: 1 /شوال/ 1420 ه - طهران.

الأهواء الشيطانية

هذه المعاناة التي يقاسيها عالمنا المعاصر إنما هي ناجمة عن الإجحاف و التمييز الناجمين بدورهما عن استحواذ الأهواء الشيطانية على ذوي الثروة و القوة من البشر، و كذلك عن الإبتعاد عن اللّه سبحانه؛ فالنوازع الشيطانية إنما تتمكن من إتخاذ البشر ألعوبة لها حينما يبتعدون عن اللّه.

و اليوم فإن بلسم الآلام المزمنة التي يقاسيها العالم و الجراح التي تئنّ منها البشرية إنما يكمن في الأوبة إلى اللّه قال اللّه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اَللّٰهِ (1)؛ فعلى البشرية العودة إلى اللّه و أن تعيش حالة وفاق معه و مع الإيمان و المعنويات، فهذه عاقبة ما اقترفه الذين عمدوا لإبعاد البشر عن المعنويات و الإيمان و عن التوجه إلى اللّه؛ و البشرية إذ تتعرض لأحداث يوم هنا و يوم هناك، فما عليها إلاّ الرجوع إلى اللّه و المعنويات.

فعلاج الآلام التي تئنّ منها هو التوجه إلى اللّه و العودة إلى الإيمان، و هذا فراغ تتحسسه الضمائر الطاهرة على امتداد المعمورة.

و الغرباء عن النظام العالمي المادي هم وحدهم الذين تتكالب عليهم الضغوط، و البشرية في كافة بقاع الدنيا تشعر بحاجتها إلى التوجه إلى اللّه سبحانه، و أينما خفق بيرق التوجه إلى اللّه فإنه سيستقطب الأفئدة نحوه، و على من يؤمنون بالله و يعرفون قدر إيمانهم به أن يضاعفوا اهتمامهم بهذا الأمر يوما بعد يوم(2).

ص: 331


1- سورة الذاريات: 50.
2- من كلمة ألقاها في: 28 جمادى الثانية 1422 ه - طهران.

خطر الأهواء النفسية

إن الأهواء النفسية هي الطريق التي تؤدي بالإنسان الى ارتكاب المعاصي، و لا يذهبنّ بكم التصوّر الى أنّ ما تشتهية الانفس و الذنوب متلازمان و لا يمكن انفكاكهما عن بعضهما، إذ يدخل بعض ما تشتهيه النفس في الحلال، إلاّ أنّ إلقاء حبل النفس على الغارب و تركها أسيرة لمشتهياتها هو الذي عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله في نهج البلاغة: (حمل عليها أهلها)(1)، فكما يحمل الإنسان على الصعبة التي تقتحم به في المهاوي، فإن أهواء النفس تقود الإنسان نحو الذنوب.

و هذا المعنى هو الذي ترمي اليه الآية الشريفة التي تقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (2). فإن اللذة الظاهرية التي تبدو في هذه الحياة الدنيا من أكل مال اليتيم، تتجسد على حقيقتها عذابا في الحياة الحقيقية حيث ترتفع الحجب على الإنسان و تمتثل الحقائق أمامه: هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ (3).(4).

ص: 332


1- نهج البلاغة: 48/1.
2- سورة النساء: 10.
3- سورة يونس: 30.
4- من كلمة ألقاها في: 121383/8/6 /رمضان/ 1425 طهران.

التخلي عن الأهواء باللجوء الى اللّه

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «السابقون الى ظل العرش طوبى لهم»(1) و ذلك لأن العرش الإلهي هو أمر معنوي و يمثل الحد الأعلى من عظمة الذات الربوبية المقدسة، و معنى السبق الى العرش هو لجوء العبد الى مولاه في أعلى درجة ممكنة، و إنّ أرقى شيء يمكن إفتراضه للعبد هو لجوئه الى ظل عرش اللّه سبحانه و تعالى.

ثم يسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، و من هم؟ فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «الذين يقبلون الحق إذا سمعوه» أي أنّ السابقين الى العرش يتصفون بعدة صفات: الأول: هو قبولهم للحق.

و الثاني: «و يبذلونه إذا سئلوه» أي أنهم إذا سئلوا عن الحق فإنهم يقومون بتبيانه من دون خوف أو تحفظ، و يكفي لو تطبق هاتان الجملتان في عالم اليوم الذي يغرق في الفساد - و الذي توجد فيه من دون شك أذهان و قلوب و ضمائر و عقول حية و واعية - و هؤلاء يستطيعون فهم الحق و الحقيقة و يعرفون ما هو الحق.

الحق هو الشيء الذي يقوم عليه أساس الخلق مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ (2) الحق هو ذلك الشيء الذي يجب أن يكون، و هو ذلك الشيء الذي كان جهاد كل المجاهدين العظماء في التاريخ من أجل الوصول إليه. و الحق هو الشيء الذي لو عرف و اتبع و تحقق لما بقي أي إنحراف و لا أي إعوجاج في العالم، إذن فالحق أمر في غاية الأهمية، فبمقدار ما يتحقق الحق تزول الإنحرافات، فهل هذا شيء قليل؟

ص: 333


1- مستدرك الوسائل: 308/11 ح 13118.
2- سورة الدخان: 39.

و لو أنّ أصحاب الفهم الذين يعيشون في عالم اليوم - الغارق في الفساد - يعرفون و يتقبلون الحق بأكمله أو شطرا منه أو حتى كلمة واحدة منه و يبيّنونها للذين هم بحاجة إليها، فسترون أية واقعة ستقع و أي تغيير عظيم سيحدث في العالم و في حياة البشرية.

إن مشاكلنا اليوم ناشئة من أن الأهواء النفسية و القيود البشرية و الأغلال التي في أعناق البشر، هي التي أثقلت كواهلهم وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ (1) و لا تسمح لهم بمعرفة الحق و تقبّله - في حال معرفة الحق - و تبيانه للذين هم بحاجة إليه، و هذا هو موضع الخل. فإذا تحقق هذا الأمر (تقبّل الحق و تبيانه) فسترون أي تغيير سيحدث.

إذن فمن المناسب حقا القول (السابقون الى ظل العرش طوبى لهم). و هذا عمل شاق جدا، طبعا إن للحق في المقياس العالمي عددا ممّن يعرفوه، و ممّن ينشرون، و ممّن يمنعون و ممّن يبخلون به، و ممّن يرفضونه، و ممّن يكفرون به، و ممّن يخفونه(2).

ص: 334


1- سورة الأعراف: 157.
2- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.

الغضب و السخط

تعريف الغضب

من جملة الأمور المهمة التي ينبغي طرحها على خاصة على جيل الشباب، هي حثّهم على التفكير و التعقل و التحلّي بالخلق القويم و الحلم و الابتعاد عن الغضب و التسرع في الأمور، و اجتناب الفظاظة و العنف، فانّما يتيسّر في الأجواء الإسلامية غرس الحقائق في النفوس حينما يتوفر اللسان اللين و التفكير العقلاني و الحلم و التأني، بين الناس.

الحلم يعني بالتعبير العام سعة الصدر، و عدم الوقوع في حالة الهيجان و الإنفعال في مختلف المواقف، و عدم الانسياق وراء الغضب إلاّ في المواقف التي تقتضي ذلك فيغضب كل إنسان عاقل في أوقات الحرب و حين مجابهة العدو. أما في الحياة اليومية، فإن الأساس في طبيعة الحياة الإجتماعية يستلزم التأمل و التدبّر و التفكير و الحلم و سعة الصدر، و تمحيص كل أوجه الأمور، و مجابهة القضايا بانصاف و تعقل، و عدم التسرّع في إصدار الأحكام.

علّموا الشباب هذه الأمور و حثّوهم عليها و أنشئوهم نشأة إسلامية. و هذه الأمور كلها واجبة(1).

ص: 335


1- من كلمة ألقاها في: 24 ذي الحجة 1418 ه ق - طهران.

قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: «و قال له رجل أوصني، فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا تغضب، ثم أعاد عليه، فقال:

لا تغضب، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: ليس الشديد بالصّرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(1).

ليس المراد بالغضب الحالة العصبية القهرية الخارجة عن اختيار الإنسان، و إنما المراد منه الحالة العصبية الإرادية بمعنى أن لا يعمل عصبيّته و لا يفسح المجال لغضبه.

ثم يبيّن المراد من الشخص الشديد و أنّه ليس ذلك الإنسان القوي الذي يقهر الآخرين و يطرحهم أرضا في مقام القتال و النزال معهم، بل المراد من الشديد هو الذي يملك نفسه و يكفّ غضبه عن الآخرين.

كما أنه ليس المراد من الغضب و الحالة العصبيّة خصوص الغضب الذي يزول بسرعة، بل يشمل أيضا ما إذا كان غاضبا من شخص و يقوم بملاحقته في مختلف أنحاء و ميادين حياته لينتقم منه حينما تسنح له الفرصة بذلك.

و الخلاصة أنّ الغضب و الشدة يتركان أثرا كبيرا في مختلف أنحاء الحياة.(2)

بين الغضب و السخط

جاء في وصية الرسول الأعظم لأمير المؤمنين (عليهما السّلام) أنّه قال: «يا علي، إنّ من اليقين أن لا ترضي أحدا بسخط اللّه و لا تحمد أحدا بما آتاك اللّه، و لا تذم أحدا على ما لم يؤتك اللّه، فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص، و لا تصرفه كراهة كاره.

إنّ اللّه بحكمه و فضله جعل الروح و الفرح في اليقين و الرضاء، و جعل الهمّ و الحزن

ص: 336


1- تحف العقول، صفحة: 47.
2- كلمات مضيئة: 172.

في الشك و السخط»(1).

السخط هنا بمعنى الغضب من جميع الحوادث، فإذا أعطاه اللّه غضب لأن اللّه لم يعطه أكثر من ذلك، و إذا أصابه أذى غضب و سخط للذي أصابه، فإذا أراد المرء بلوغ الروح و الفرح عليه أن يبحث عن الرضا و اليقين، فإذا كان في هذه الدنيا خير و منفعة فهو من نصيب الزاهد القانع(2).

أثر الغضب

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الغضب ممحقة لقلب الحكيم، و من لم يملك غضبه لم يملك عقله»(3).

الإنسان الحكيم الذي يأتي بأعماله عن حكمة و فكر و تأمّل، إذا غضب انهدم عنه بناء الحكمة.

و كل إنسان لا يكون زمام غضبه بيده فإنّ زمام سفينة عقله لا يكون تحت إرادته و اختياره.

و النتيجة هي أن الغضب بلاء صعب و شاق للإنسان، لأنّه حين اشتعال غضبه تتهدّم و تعدم كل القيم الإنسانية الموجودة فيه كالحكمة و العقل(4).

ص: 337


1- بحار الأنوار: 61/74 ح 4.
2- من كلمة ألقاها في: 8 جمادي الثانية 0241 ه - طهران.
3- تحف العقول، صفحة: 371.
4- كلمات مضيئة: 173.

الغضب الممدوح

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرّات فلم يقل فيك مكروها فأعدّه لنفسك»(1).

الإنسان بحسب طبيعته لديه نقاط ضعف، و إحدى نقاط الضعف عنده هي الغضب، و نقطة أخرى أيضا هي السرور و الفرح، و كذلك التعلّق بالمقام و المنصب و المال و الثروة و... إلخ.

و الإنسان أمام نقاط الضعف هذه يقع في الزلاّت و الأخطاء.

إلاّ أن المناط و الملاك لشخصية الإنسان الحقيقية و الواقعية هي أن لا يخسر نفسه عند مواجهته و احتكاكه بهذه المسائل.

ففي الأمور العادية الطبيعية يكون باطن الإنسان مغطى و مستورا، و لكن عند ما يغضب أو يصل إلى المقام و المنصب أو يحصل على المال و الثروة فعندئذ ينكشف باطنه علانية.

و عليه فإذا حدث في بعض الموارد أنّك أغضبت أحد إخوانك المؤمنين مرّات عديدة - على الأقل ثلاث مرّات - و مع ذلك لم يقل بحقك كلاما سيئا أو خشنا، فعليك أن تعرف قدره و تحتفظ به لنفسك(2).

ص: 338


1- تحف العقول، صفحة: 368.
2- كلمات مضيئة: 173.

الشيطان

ماهيّة الشيطان

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما الذي يباعد الشيطان منّا»، أي ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

بالطبع أنتم تعرفون أنّ الشيطان هو أعم من إبليس، الشيطان هو القوى التي تخلق الشر و الفساد و الإنحراف و التي تقوم بحرف الإنسان بصور و قوالب مختلفة، فتارة تظهر بصورة إنسان، و تارة بصورة غير إنسان و أحيانا تتمثل في الأهواء النفسية و مرة يكون إبليسا.

و الأبالسة هم طائفة من الشياطين الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم كما في قصة آدم، و هؤلاء طائفة كبيرة من الشياطين و لكنهم ليسوا وحدهم، هؤلاء شياطين الجن، و هناك شياطين الإنس الذين يكونون أكثر خطرا في بعض الأحيان(1).

إنّ الشيطان - في القرآن - يعبّر عن قوى الشر و الفساد و الانحطاط و هو الذي يقف في الصف المعادي للأنبياء. وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيٰاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ (2).

و في القرآن برمته فإن اسم و صفات الشيطان متكررة و طوال فترة نزول الوحي قد

ص: 339


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- سورة الأنعام: 112.

تمت الإشارة إليه، و هذا يعني أنّ التطرق للعدو و مواصفاته يجب ألاّ تتغافل عنه المجتمعات الإسلامية إطلاقا.

إنّ اجتناب الشيطان و الطاغوت يستلزم تطهير القلب، فالقرآن الكريم ينقل صورة لنقاش الشيطان و أتباعه، فيقول تعالى حكاية عنه: وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1).

و قد ورد في الصحيفة السجّاديّة: «فتل عنّي عذار غدره و تلقّاني بكلمة كفره»(2).(3).

و هناك أمر عام في باب (القيم و اللاّقيم)، فهناك محرّم ديني و محرّم وطني و محرّم إنساني و بشري. و في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة و الثقافة القرآنيّة، فإن مظهر جميع الشرور و القبائح و حسب تعبير القرآن هو الشيطان، فكلّ ما نسب إلى الشيطان في القرآن فهو قبيح و سيّى، فالفساد للشيطان و كذا الكبر و الكسل و الفتنة و الظلم و محاربة العمل الصالح و الصالحين، فالشيطان في منطق الأديان و بالخصوص الدين الإسلامي عنوان عام يشمل جميع الشرور و القبائح و اللاّقيم(4).

ص: 340


1- سورة إبراهيم: 22.
2- المصباح: 56.
3- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1418 ه
4- من كلمة ألقاها في 21 شوّال 1415 ه

ما يبعد عن الشيطان

إذن ما هي الأمور التي تبعد الشيطان عنّا؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الصوم لله يسوّد وجهه(1).

لأن الصوم يقمع الغرائز الجسدية المضّللة و يمنعها من الطغيان.

«و الصدقة تكسر ظهره» لأن الصدقة هي إيثار من الإنسان فيما يملك «و الحب في اللّه تعالى و المواظبة على العمل الصالح يقطع دابره».

و هاتان الخصلتان هما أهم من تلك التي سبقتهما و إحدى هاتين الخصلتين هي الحب في اللّه تعالى و التي تعني توجيه العواطف و لا سيما عاطفة الحب وجهة إلهية.

فإذا كنتم تحبون أحدا فليكن ذلك الحب لله لا للدنيا.

و الرويات الواردة في مسألة «الحب و البغض في اللّه» هي روايات كثيرة و مفصلة، و في كتاب الكافي يوجد باب في هذا الموضوع كما توجد روايات كثيرة في كتب الحديث الاخرى(2).

الخصلة الثانية هي «المواظبة على العمل الصالح» فليس المهم أن تقوموا بالعمل الصالح مرة واحدة لأن الجميع يفعل ذلك، بل المهم أن يواظب الإنسان على العمل الصالح أي يواصل و يستمر على القيام بذلك العمل، و كما نقرأ في دعاء كميل (و الدوام في الاتصال بخدمتك)، فعلى الإنسان أن يكون متصلا بخدمة الباري على الدوام، و هذا الاستمرار و التداوم هو شيء له أهمية كبيرة جدا.

ص: 341


1- مستدرك الوسائل: 497/7 ح 8736.
2- انظر الكافي: 126/2 باب الحب في اللّه تعالى.

و إذا قام الإنسان بهذين الأمرين - الذين يمثل أحدهما الجانب العاطفي و يمثل الآخر الجانب العملي - فسوف يقطع دابر الشيطان، أي أنه سيتم القضاء على الأهواء النفسية من الجذور.

«و الاستغفار يقطع و تينه». فمن جملة الأمور التي تقضي على الشيطان هو الاستغفار و طلب المغفرة من الباري عزّ و جلّ و الذي تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم.

و للاستغفار ثمرة و نتيجة أينما كان، و قد ذكرت في الآيات و الروايات آثار الاستغفار أيضا.(1).

تجسد الشيطان

إن أكبر مساعي الشيطان اليوم تتجسد في جبهة الإستكبار السياسية، و تصب هذه المساعي لاحباط عزائم المسلمين و زرع اليأس في نفوسهم حول المستقبل، و العمل كي يتجاهلوا تراثهم و ثقافتهم الأصيلة الغنية.

إن أي ظاهرة تعيد الأمل في نفوس المسلمين في العالم و تجعلهم يفكرون ببناء المستقبل على اسس إسلامية هي منبوذة و مكروهة بشدة في أعين الإستكبار(2).

كيفية غواية الشيطان

قال أبو عبد اللّه الحسين (عليه الصلاة و السّلام): «اللهم إنك تعلم أنّ الذي كان منّا لم يكن منافسة في سلطان و لا التماس شيء من الحطام، و لكن لنري المعالم من

ص: 342


1- من كلمة ألقاها في 1415/4/4 ه.
2- من كلمة ألقاها في: 3 ذي الحجة 1418 ه

دينك»(1).

إنّ للمعالم أهميتها، إذ أنّ الشيطان كثيرا ما يستخدم أساليب التحريف و الدلالة على السبيل الأعوج لإضلال الجماعة المتديّنة، فإذا استطاع هذا الشيطان أن يأمر الناس بالتخلّي عن دينهم، فعل و سلبهم الإيمان عبر أساليب الاغواء و الإعلام المسموم، و إذا لم يتيّسر له ذلك نصب لهم معالم و دلالات مضللة؛ مثلما يسير الإنسان في الطريق و يستدل بالعلامات و الإشارات الموجودة على جانبيه للاهتداء إلى السبيل السالك القويم، و لكن تأتي يد خائنة و تحرف تلك الإشارات و المعالم إلى غير سواء السبيل(2).

إن اجتناب الشيطان و الطاغوت مستلزم لتطهير القلب من الشهوات و الأهواء المذلّة و الاستعانة بقوّة الصبر و الإرادة و الاستمداد ممّا في الامّة الإسلاميّة من قوّة عظيمة، و يتحصّل ذلك من الحركة الجماعيّة، و من انسجام الخطى و القلوب و الألسن في الطواف و السعي و الوقوف في عرفات و المشعر و المبيت في منى، و استهداف الشيطان بالجمرات بشكل جماعي برميه من كل حدب و صوب و إعلان البراءة العامة منه.. و يؤدي في النهاية إلى تشابك أيدي المسلمين و قلوبهم و عزمهم من كل أجزاء الامّة الإسلامية و إلى الاحساس بالقدرة و الأمن.(3)

فإنكم تعرفون ما الذي حصل في معركة أحد، فلقد تحقق النصر، و من ثم تحول هذا النصر الى هزيمة و خسارة، لأن مجموعة لم يستطيعوا ضبط أنفسهم. قال تعالى في كتابه المجيد: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا (4).(5).

ص: 343


1- نهج البلاغة: 13/2 ح 131.
2- من كلمة ألقاها في: 25 ذي الحجة 1419 ه - طهران.
3- من كلمة ألقاها في: 6 ذي القعدة 1415 ه
4- سورة آل عمران: 155.
5- من كلمة ألقاها في 1424/6/7 ه - طهران.

و سبب هذا الانكسار و التقهقر هو (بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا) أي بسبب بعض المعاصي التي فعلوها في الماضي؛ فإنّ التعلّق بالشهوات و الأهواء النفسية تبرز آثارها في مثل هذه المواطن؛ أو في آية شريفة أخرى عند ما يقال لهم أنفقوا، فيتخلفون عن الإنفاق تكون نتيجتهم فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ (1).

فعند ما يقطع الإنسان على نفسه عهدا بينه و بين اللّه تعالى، ثم يتخلّف عن ما وعد اللّه فيه؛ سوف يستحوذ النفاق على قلبه(2).

فالذين لم يستطيعوا السيطرة على أنفسهم و زلّت أقدامهم في معركة أحد، إنما ورطهم الشيطان بهذا الإبتلاء بسبب الأعمال التي ارتكبوها - أو كما يقال - بسبب ما ملأوا مائدتهم من خبز، فبأنفسهم خلقوا المشاكل لهم، و هذه هي نتيجة عدم السيطرة على النفس، فعلينا بضبط أنفسنا، و نحن في المسؤوليات التي نتبوأها يتعين علينا أن لا نتعلق باللذائذ و الشهوات و جمع الثروة، فمرحلتنا مرحلة عظيمة و إحدى المقاطع الحساسة جدا و البارزة في التاريخ، و اعلموا أننا جميعا سنتعرض لمجهر حكم الأمة على مدى مئات السنين المقبلة، فإنهم سيحكمون على أعمالنا و أفعالنا، فإذا ما أخطأنا و أنزلقنا و تعلقنا باللذة و الدعة و الشهوة الدنيوية - و هذا سينتهي بضريبة باهظة بالنسبة للثورة - سيسجل ذلك في سجلنا على امتداد التاريخ، و معلوم كما قلناكم هو صعب أمام اللّه سبحانه و تعالى(3).

و بناء على ذلك، فإننا إذا لم نلتفت إلى أنفسنا و اتبعنا الشهوات و هوى النفس، نكون بذلك قد غلّبنا هوى نفوسنا على إيماننا و عقلنا، و سوف نقع في الانحراف

ص: 344


1- سورة التوبة: 77.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
3- من كلمة ألقاها في 1424/6/7 ه - طهران.

الذي كنّا نخشى الوقوع فيه؛ و بناء على ذلك لا بد للإنسان أن يكون دائم التصور لإمكانية السقوط في الانحراف، فلا يعتقدنّ أحد أنّه بعيد عن خطر الوقوع في الانحراف؛ هذه المسألة الأولى، و أحد الأمثلة عليها هي قصة (بلعم بن باعورا) المعروفة حيث وصل الى درجة إتيان الآيات قال عزّ من قائل: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا (1).(2).

حب الإطراء أفضل فرص الشيطان

لا بدّ للإنسان المؤمن أن يبتعد عن حب الإطراء و يحذر من التعلق بما يمدحك به الآخرون ففي الحديث الشريف: «فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(3) أي أن حب الإنسان للإطراء، هو من أفضل فرص الشيطان التي يستفاد منها؛ حيث يسلب الأعمال الحسنة و الجميلة و الفضائل الروحية و المعنوية من حياة الإنسان(4).

تطهير القلب من الشيطان

القلب الغافل هو الذي يقع عرضة لغارات الشيطان، و إنما يعم الشرّ و الفساد الدنيا متى ما استحوذ الشيطان على قلب الإنسان و روحه؛ و الارتباط بالله و تحصين الفؤاد و الروح من تسلّل الشيطان و غلبته هو سبيل العلاج الناجع و الحقيقي لردع كل فساد

ص: 345


1- سورة الأعراف: 175.
2- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.
3- نهج البلاغة: 108/3 ح 53.
4- من كلمة ألقاها في: 1384/7/17 ه ش الموافق 14 رمضان المبارك 1426 ه الموافق 005/10/9 م طهران.

و شرّ في العالم، و لو لم يتسلط الشيطان على قلوب من لهم عظيم التأثير على المجتمعات البشرية لتنعمت الدنيا بالطمأنينة و رفلت البشرية بالأمن و السلامة؛ فكل مصائب البشرية إنما هي ناجمة عن الابتعاد عن اللّه.

لذا فقد حدد الإسلام فرصا يتسنى من خلالها إقامة ارتباط متميز بالله سبحانه و تعالى؛ و من هذه الفرص شهر رجب، فاعرفوا قدره، إذ أن ما ورد فيه من أدعية تمثل بمجملها درسا، و هي ليست مجرد ألفاظ ترددها الألسن، فلتجر على ألسنتكم و قلوبكم مع حضور قلب و وعي لمغزاها العميق.

و لو وثّق المرء المسلم - شابا أو شيخا، رجلا أم امرأة - علاقته بالله تعالى في شهر رجب و من ثم في شهر شعبان، فإنه سيكون - في النهاية - مهيّأ للضيافة الإلهية في شهر رمضان؛ فعلى الإنسان أن يستعدّ ثم يحلّ ضيفا.

على الإنسان أن يقوم بعملية تطهير خلال شهري رجب و شعبان كي يسعه الجلوس على المائدة الإلهية في شهر رمضان و التنعم بها و الاستزادة منها، و إذا ما انتهلنا من شهر رمضان إذ ذاك ستغدو أعمالنا و أخلاقنا و نظرتنا و أفكارنا دليلا على أننا قد حققنا تقدما ملحوظا؛ و نكون نحن بأنفسنا محكّا لها و نميز التقدم الذي حققناه؛ لكننا نتقاعس عن القيام بعمليات الإمتحان هذه فنلمس ما ينجم عنها من شقاء و بلاء في داخلنا و في أجواء المجتمع(1).

ص: 346


1- من كلمة ألقاها في: 8 رجب 1422 ه - طهران.

التكبر و الخيلاء

أثر التكبر

إن من بين الخصال المذمومة التي تعرض سلامة النفوس و راحة الحياة إلى الخطر هو التكبر الذي يعتبر من أذمّها.

فالخيلاء و الطغيان النابعان من هذه الخصلة يدفعان الإنسان إلى الإغماض عن الكثير من الحقائق و التخلي عن مدارج الفضيلة، و تقودان إلى زرع الأحقاد و العداوات الباطلة و إفراز الأمراض و الأعمال القبيحة في المجتمع.

نعم، التكبر حجاب أمام الحقيقة و عقبة أمام مدارج الفضيلة و عدو الصفاء و الصدق و الدافع إلى العداوات و الشرور.

و قد عانت المجتمعات البشرية طيلة مسيرتها الكثير من الأضرار الناجمة عن التكبر و الخيلاء و الطغيان و إفرازاتها(1).

خطر التكبر

من الممكن القول إن جوهر روح الدين هو تجاوز و تخلص الإنسان من نفسه و أهوائه و أغراضه، و المقصود من ذلك هو أن لا يجعل لها أي شأن مطلقا أمام إرادة

ص: 347


1- من كلمة ألقاها في: 31 جمادى الثانية 1421 ه - مدينة همدان.

اللّه و عظمته و أمره و نهيه، و الذي يصل لهذه الدرجة هو المتدين الحقيقي.

إن صلاة المرء و صدقاته و سائر عباداته لا قيمة لها إن كان يرى لنفسه شأنا و مقاما أمام اللّه تعالى، و إن كان في الظاهر يعد عابدا و زاهدا ذلك لأن المتقي حقا لا يتصف بذلك.

إن المتكبر لو قرأ القرآن و الأدعية فإن ذلك لن يؤثر فيه تأثيرا كاملا و لن تقربه من اللّه تعالى.

لا تغروا أنفسكم بأن لكم منصبا أو إمكانات أو مستوى علميا أو ميزة أو أفضلية معينة...

عند محاسبة النفس يجب أن لا يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين، و إذا صلينا أو بكينا أو تصدقنا و عملنا في طريق الإسلام فإن ذلك لا يعطينا الأفضلية على هذه المجموعة أو تلك.

إنّ حسن الأفضلية مضر للغاية نعم هو لا يمنع من رؤية المرء نفسه أعلى من أعدائه أعداء اللّه تعالى.

إذا كان الدافع من العمل و العبادة هو اللّه و ولايته فيجب أن يتواضع الإنسان أمام أولياء اللّه و أمام المؤمنين و إلاّ فالتكبر سيؤدي به نحو الهاوية، و القصص كثيرة حول المتكبرين في العالم...

أين نحن من عظمة الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و ما هي قيمتنا مقابل الصالحين و كبار رجال التاريخ.

هؤلاء العظماء قد تنازلوا عن النفس في سبيل اللّه و ذابوا في الأنوار و المحبة الإلهية.

ما هي قيمتنا نحن الذين غرقنا في الدنيا و ملذاتها و إنيتنا و أوهامنا، أئمتنا يستغفرون ربهم و يتألمون من الذنوب فأين نحن؟ و ذنوبهم ليست من قبيل الغيبة و الكذب، فهم معصومون إن أقل غفلة هي ذنب عندهم، عليه يبكون و الى اللّه

ص: 348

يلتجئون و ينيبون.

فما هي قيمتنا أمام هؤلاء يجب أن لا نرى أنفسنا أكثر من تراب تحت أقدامهم.(1)

علاج التكبر

إن العبادات الإسلامية و على رأسها الصلاة تعد العلاج الناجع لقلع هذه الآفة من روح الإنسان.

و الصلاة التي تقام بحضور قلبي و بآدابها ترشد روح الإنسان إلى حاجاته الذاتية و تطهره عن الكبر و التفاخر و الخيلاء الموهوم.

و الخشوع في مقابل البارئ عزّ و جلّ يشعّ على القلوب نور البصيرة و يطهّرها من دنس الكبر و الخيلاء و في الحديث الشريف: «فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر»(2).

و ما أحلى أن نصغي إلى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام، و نسمع منه مدحه و ثناءه للصلاة، فقد ورد عنه عليه السّلام في نهج البلاغة: «و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصلوات و الزكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكينا لأطرافهم و تخشيعا لأبصارهم و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم و إذهابا للخيلاء عنهم»(3).

في بلدنا الإسلامي نحتاج نحن جميعا لا سيما الوجهاء على الصعيد العلمي و الإجتماعي و المالي إلى هذه الخصوصيات.

إن الطغيان و الاعتداء و الغطرسة و الجشع و تحقير الآخرين و تجاهل الحقوق تعد

ص: 349


1- بتصرف عن كتيّب «المواعظ الحسنة» نشر مركز بقية اللّه الأعظم.
2- نهج البلاغة: 55/4 ح 252.
3- نهج البلاغة: 149/2.

اليوم من أكبر آفات المجتمعات البشرية و المجتمع الدولي، و إن علاج ذلك جميعا يكمن في هذا البيان العلوي السامي.

إن الاهتمام بهذه الحقائق يكشف لأهل البصيرة و الانصاف الدور البارز للصلاة و الدعاء، و يحمّل الواعين في المجتمع مسؤولية الاهتمام بنشر و تعريف هذه الفريضة المليئة بالرموز و الأسرار.

إنني أدعو الشريحة الشابة الطاهرة - في البلاد الإسلامية - إلى اغتنام فريضة الصلاة التي هي فرصة لتطهير الروح و تفجير المعنويات، و أذكّر المسؤولين الثقافيين و الإعلاميين و جميع مبلّغي الدين بأهمية نشر هذه الفريضة و دورها الفريد في تكريس الفضيلة و إزالة المفاسد.

و أعرب عن شكري الخالص لجميع العاملين في هذا الطريق و الحريصين على شأن الصلاة و الذين يسخّرون أقلامهم و ألسنتهم و حضورهم و يبذلون أموالهم و شرفهم لدعم إقامة الصلاة(1).

ص: 350


1- من كلمة ألقاها في: 31 جمادى الثانية 1421 ه - مدينة همدان.

الفرق بين التكبر و الإستكبار

إنّ لكلمة الإستكبار معنى واسعا.

في القرآن الكريم جاءت مشتقات كلمة الإستكبار، كما و استعمل القرآن نفس كلمة الإستكبار في عدة مواضع، و يبدو أنّ الإستكبار هو غير التكبّر، و ربّما أمكن القول: التكبر أكثر ما يشير إلى صفة قلبية و نفسية، أي أن يعتبر الإنسان نفسه أفضل من الآخرين.

أمّا كلمة الإستكبار فهي أكثر ما تعنى بالجانب العملي للتكبّر، أي أنّ من يتكبّر و يرى نفسه أفضل من الآخرين، ينظّم سلوكه مع الآخرين بشكل يجعل هذا التكبر واضحا و جليا في العمل؛ فيحتقر الآخرين و يهينهم، و يتدخّل في عملهم، و يبرز نفسه أمام الآخرين و كأنّه هو الذي يتّخذ القرارات.

و هذا هو معنى الإستكبار الذي جاء في الآية الشريفة التي تتحدث عن المستكبرين في قوله تعالى: فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * اِسْتِكْبٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ (1) أي أنّهم استكبروا أمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و كلام الحق، لم يقولوا نحن أفضل، بل أظهروا هذه الأرجحية و الأحقية - التي اعتقدوها أو اعتبروها لأنفسهم - في إطار العمل و في هذا الصراع الطويل و غير المتناهي لجبهة الكفر و العناد و الطغيان ضد رسالة الحق و المعنوية و النور و الهداية. هذا هو معنى الإستكبار.

قد يتخذ الإستكبار في كل زمن و لدى كل شعب معنى خاصا؛ فمعناه عندنا في أحداث الثورة و ما قبلها و بعدها و حتّى هذه الساعة، هو القوى السلطوية في العالم

ص: 351


1- سورة فاطر: 42-43.

التي كان لها دور جائر و متجبّر في قضايا هذا البلد و في مصير و شؤون هذا الشعب، كان هذا هو معنى الإستكبار بالنسبة لنا.

لو أردنا العثور على المستكبر من بين دول العالم، لما واجهنا أية صعوبة؛ إذ أنّ أمريكا - التي أطلق عليها الإمام (ره) اسم الشيطان الأكبر - أبدت تكبّرها أمام النداء الحق للشعب المسلم، فالإستكبار الذي تبلور في زماننا هو الإستكبار الأمريكي(1).

ص: 352


1- من كلمة ألقاها في: 17 جمادى الثانية 1417 ه

الحرص

معنى الحرص

كان فيما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الحرص: و هذه الصفة أيضا موجبة لأن تكون الماديّات هي هدف الإنسان في حياته: فيسعى بلا هوادة و لا تقصير في ارتكاب المخالفات من أجل الوصول إليها، و تكون النتيجة هي إراقة ماء الوجه و الكرامة و ذهاب الفضائل و الميل عن جادّة الحق و الصواب. نظير الطفل الذي إذا انجذب لشيء فإنه يتحرك نحوه و لا يلاحظ و لا يلتفت لما في طريقه من أشياء فيدفع كوب الماء و يريقه و يرمي طبق الطعام و يقلبه(2).

ص: 353


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

2 - الحسد، 3 - الكذب، و قد تقدم الكلام عنهما.

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

و هنا يحذّر النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله من الشح و يحثّ على الاجتناب و الابتعاد عنه.

و ذلك لأن الشح قد أهلك الأمم السابقة فإنهم لمّا صاروا أشحاء اتبعوا الشح في كل ما أمرهم به.

فلمّا أمرهم بالكذب كذبوا لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل.

و لمّا أمرهم بالقطيعة قطعوا، و القطيعة و إن كان الغالب استعمالها في قطع الرحم إلاّ أن الظاهر هنا أن معناها أعم من ذلك فتشمل قطيعة الرحم و قطيعة ما يلزم مراعاته و المواظبة و المحافظة عليه، كالعلاقة مع اللّه تعالى و الائمة عليهم السّلام و الصالحين من عباده يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (2).(3)

ص: 354


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- سورة البقرة: 27.
3- كلمات مضيئة: 105.

العجب

معنى العجب

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين: «و اعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه و الكفّ عن أذى المؤمنين و اغتيابهم. و لا عيش أهنأ من حسن الخلق. و لا مال أنفع من القناعة باليسير المجزي. و لا جهل أضرّ من العجب»(1).

العجب: هو أن يرضى الإنسان عن نفسه أزيد من المقدار اللاّزم.

إنه أكثر ضررا من كل أنواع الجهل، لأن الإنسان يمكنه أن يدفع بعض أنواع الجهل من خلال الطرق و الوسائل المتعارفة و لكن العجب يمنع من رؤية الإنسان لعيوبه، و الذي لا يرى عيوبه و بالتالي لا يصلحها سوف يكون مصيره الوقوع في الهلاك(2).

أهمية العجب

على كلّ فئة أن تراجع نفسها في أوقات معيّنة و تنظر إليها، شريطة أن تكون النظرة إلى النفس من الخارج لا أن تكون من الداخل و هو ما يسمّى بالعجب، لأنّ النظرة من الخارج تكون باحثة عن مواطن الضعف نظرة ناقدة و ثاقبة.

ص: 355


1- تحف العقول، صفحة: 359.
2- كلمات مضيئة: 122.

لا بدّ من مراجعة النفس باستمرار. و هكذا على الفرد في بعض الأوقات أن يتحرّر من ذاته و يتخلّص من حصار النفس و العجب و الغرور، و أن يلقي نظرة على نفسه - و هذا أصعب من التحرّر من نطاق المجموعة - و كلّنا بحاجة إلى هذا التحرّر، فإن البشر مجبول على النقص.

علاج العجب

فمتى يمكننا التخلّص من النواقص؟ يمكننا ذلك فيما إذا رأيناها و تعرّفنا عليها و أقررنا بوجودها فينا، فإنّنا إذا اعتقدنا العصمة في أنفسنا و استولى علينا الغرور و تصوّرنا عدم النقص فينا، فمتى سنفكّر في علاج أنفسنا؟

و من هنا تشاهدون أنّ معلّمي الإنسانية الروحيين - أي الأنبياء و أئمة الهدى عليهم الصلاة و السّلام - كانوا دوما يمسكون المطرقة لينهالوا بها على رأس هذا الغول الذي ندعوه بالنفس، فالنفس هي ذلك البعد من انحطاط وجودنا الذي يملي علينا الشهوات و يغرينا بها و يسوقنا نحوها، و ينشأ عنه ضعفنا و نواقصنا، فينبغي أن نراقب أنفسنا حتّى نشاهد نقاط الضعف فيها.

تدبّروا كيف يواجه الإمام السجّاد عليه السّلام - و هو قطب النور و معدن المعنويات و الكمال و زين جميع العباد - نفسه في أدعية الصحيفة السجّادية، و كيف يضع نفسه أمام إله العالم و يستغيث، فيقول ذلك الإمام الهمام في حلكة الليل بعد صلاة الليل - و هي ليست صلاة ليل إنسان اعتيادي، و إنّما هي صلاة سيّد الساجدين - مخاطبا اللّه تعالى: «و هذا مقام من استحيى لنفسه منك، و سخط عليها و رضى عنك، فالتقاك بنفس خاشعة و رقبة خاضعة»(1) هذه هي مراقبة النفس.

و هذا ما يجعل الإنسان يجتاز سماء الكمال مرحلة بعد مرحلة، فيتكامل و عندها

ص: 356


1- الصحيفة السجادية: 170.

تبرز الشخصيات الكبيرة إلى الوجود و تتجلّى المعنوية و الجمال، و كلّ ذلك على أثر مراجعة النفس و مشاهدة النواقص و العيوب فيها.

و بعكس ذلك إذا تعاطى الإنسان و تجاهل كلّ هذه النواقص و أصابه الغرور و العجب فاغترّ بنفسه و اغترّ بربّه، و اكتفى ببصيص من النور الكامن على كلّ حال في وجود كلّ شخص، فإن البعض يكتفي بأدنى حيّز من الحيزات في وجوده، و بذلك سوف لا يمكنه بلوغ الكمال(1).

ص: 357


1- من كلمة ألقاها في: 27 ذي القعدة 1416 ه

عبر من موقف أمير المؤمنين عليه السّلام

إنّ واحدة من المحامد التي يتعرض لها بعض الناس تكفي لايقاع الإنسان في العجب و الغرور و فقد الإتزان و الخطأ في اختيار التكليف.

إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام طوى كل الثناء و التمجيد الذي صدر عن مركز الوحي في حقه، و تناسى المؤهلات و كل ما كان يراه لنفسه، و ما سمعه و ما يعرفه آلاف الأشخاص، طواه في ملف النسيان المؤقت و وضعه جانبا و صبر و خرج من ساحة الخلافة بعد وفاة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

و بطبيعة الحال إنّ ذلك لم يكن ينس، و لا ينسى، و هو باق إلى أبد الدهر، إلاّ أنّه عليه السّلام أعرض عنه، أي أنّه و مع كل ما ورد في حقه و مع كل ما في شخصه من المميزات لأمر الخلافة و رئاسة العالم الإسلامي و المسؤولية الكبرى، تنحى - عند شعوره بالخطر - جانبا و قال: ما مضمونه: فلما رأيت خطورة الوضع، و المجازفة بدين النبي صلّى اللّه عليه و آله كتّفت يدي و اعتزلت.

و ليس هناك كبح لجماح النفس أسمى و أفضل و أبلغ و أعجب من هذا بالنسبة للإنسان السياسي المخلص، و للإنسان العظيم الذي لا يبغي الاستجابة لأهوائه النفسية.

و تصوروا هذا الإنسان نفسه في موقع رئاسة العالم الإسلامي، حينما أصبح زعيما للمسلمين، فانهال الناس عليه و انتخبوه، شاء أم أبى. فكان الكل - الصديق و العدو و المنافس و غيرهم - بين مبايع و بين من أعلن عدم معارضته، و هؤلاء الذين امتنعوا عن البيعة كان عددهم ضئيلا جدا، أربعة إلى ستة أشخاص، لكنهم قالوا إننا لا نعارض، و تنحّوا جانبا، و البقية بايعوا بأجمعهم، و أصبح زعيما لكل العالم الإسلامي.

ص: 358

أ تعلمون ما ذا يعني العالم الإسلامي يومذاك؟ إنّه من حدود الهند إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، هذا هو العالم الإسلامي آنذاك حيث كان يضم العراق و مصر و الشام و فلسطين و إيران و غيرها، أي لعله كان رئيسا لنصف العالم المعمور آنذاك، و بقدرة تامّة.

و كانت معيشة أمير المؤمنين عليه السّلام و زهده الذي سمعتم به، يتعلق بهذه الفترة، فالحياة الجميلة و لذاتها و رغدها و جمالها و غيرها من الأمور - التي يكفي واحد منها لاستمالة شخصيات كبرى و اضطرابها في بوتقة ذلك الاختبار و انزلاقها و خروجها عن الصراط - لم تستطع بأجمعها أن توقع أمير المؤمنين عليه السّلام في العجب أو الغرور أو في مهاوي الشك و الاضطراب حتى لحظة واحدة؛ ناهيك أن تميله عن الصراط.

لقد أثبت هذا الإنسان الكبير إنه أقوى عزما و شكيمة من كل عوامل الإغواء، و هذه هي معاني العظمة، و هذه هي العناصر التي خضعت لها الأجيال و التاريخ و بنو الإنسان و المجتمعات، و لو رام أحد الانصاف لما أمكنه العصيان و التمرد على مثل هذه الشخصية؛ بل إنّ القلوب تخضع له طواعية.

إنّ من تعالته رشحة من سجايا أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السّلام)، بإمكانه أن يتفوّق على الكثير من أنماط الزيغ و النوازع الداخلية و الخارجية، فهذا الإمام الكبير الخميني الذي رأيتموه، كانت أكبر الشخصيات في عالمنا المعاصر تشعر أمامه بالضعة.

و حتى مندوبوه، فبما أنهم كانوا يحملون معهم اسم الإمام،، فإنّهم أينما حلّوا كانوا يرغمون الطغاة و الأكابر و أصحاب القوة في العالم على الخضوع و التواضع(1).

ص: 359


1- من كلمة ألقاها في: 13 رجب 1417 ه.

درجات و مراتب العجب

من مواعظ الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام و قد و سأله أحمد بن نجم عن العجب الذي يفسد العمل؟

فقال عليه السّلام: «العجب درجات: منها: أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه و يحسب أنه يحسن صنعا.

و منها: أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على اللّه، و للّه المنّة عليه فيه»(1)

العجب و الزهو بالنفس له مراتب و درجات:

منها: أن يرى عمله السيّ ء القبيح حسنا.

و منها: أن يؤمن باللّه تعالى و لكن يمنّ على اللّه تعالى أنه آمن به، و الحال أنّ المنّة للّه عزّ و جلّ في أن وفّقه للإيمان يقول اللّه تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ (2).

و هذه الرواية تبيّن مرحلتين من مراحل العجب و هناك مراحل أخرى أيضا من قبيل:

أن يقوم الإنسان بعمل حسن و خيّر سواء في العبادات أم في خدمة الناس، و لكنه يمنّ على اللّه تعالى بذلك، و الحال أنّ الأعمال كلها لا تكون إلاّ بتوفيق من اللّه تعالى.

و من قبيل: أن لا يقوم البعض بأعمال البرّ و الخير لئلاّ يقع في الرياء و العجب و هذا غفلة منهم أيضا، لأنّ هذا الأمر منشاؤه الوساوس الشيطانية و تسويلاته.

ص: 360


1- تحف العقول، صفحة: 444.
2- سورة الحجرات: 17.

إذن الواجب على الإنسان أن يأتي بالأعمال الحسنة و المستحبّات و يشكر اللّه تعالى على أن وفّقه لذلك.(1)

ص: 361


1- كلمات مضيئة: 200.

أثر العجب

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: «إياك و العجب و سؤ الخلق و قلة الصبر، فإنه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، و لا يزال لك عليها من الناس مجانب»(1).

هذه الرواية قسم من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام الأبوية لابنه العزيز محمد بن الحنفية، و بما أن الامام علي عليه السّلام أب لكل الأمة فلذلك تكون هذه الوصايا عامة للجميع.

فيقول عليه السّلام، عليك الحذر من ثلاثة خصال فإنه إذا وجدت فيك هذه الخصال الثلاث لن يبقى لك صاحب و لا رفيق و سوف يتجنبك الناس و يبتعدون عنك، و هي:

1 - العجب و الفخر و الغرور، و هذه الصفة ليست مخصوصة بالعبادات فقط بل تشمل غيرها أيضا، إذ لعل الإنسان يدخله العجب من خلال علمه أو مقامه و منصبه أو محبوبيته بين الناس، و هذه الصفة من الصفات الخبيثة و السيئة التي تعرض على روح و نفسية الإنسان، و يترتّب عليها آثار و نتائج سيئة أيضا، و ذلك لأن الشخص المعجب بنفسه حيث إنّ الآخرين لا يدركون خصوصياته فسوف يشتكي منهم و يعتب عليهم و بالتالي سوف ينظر إليهم بعين البغض و الضغينة.

و من جهة اخرى حيث إنه يرى أن الآخرين ليسوا في مستواه فسوف ينظر إليهم نظرة احتقار و حيث إنه يرى نفسه أفضل من الناس فهو يعتقد أنه صاحب حق عليهم

ص: 362


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 178.

و لذلك يطلب منهم ما ليس له.

2 - سوء الخلق، و المراد به هنا المعنى الأخص من هذا المفهوم، أي سوء الأخلاق و حدّة المزاج في التعامل مع الآخرين.

3 - قلة الصبر و عدم التحمل، فإنه إذا اعترض عليه شخص أو تكلم بكلام على خلاف رغبته و ميله فإنه لا يتحمل منه ذلك و يفقد طاقته تجاهه(1).

و من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تكن ضجرا و لا غلقا، و ذلّل نفسك باحتمال من خالفك ممّن هو فوقك و من له الفضل عليك، فإنّما أقررت له بفضله لئلاّ تخالفه.

و من لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه»(2).

يجب على الإنسان أن يتحمّل سماع كلام من هو فوقه و أفضل منه و لا يضجر و يملّ من نصائحه له، و ذلك لأن مخالفة كلام الشخص الذي يقرّ و يعترف له بالفضل عليه خطأ و غير صحيح.

و الإنسان الذي لا يعترف و لا يقرّ لأحد بالفضل عليه يفتن و يغرّ برأيه و لا يستمع لآراء الآخرين و لا يقبلها منهم.

و ليس المراد من الفضل هنا الأفضليّة الماديّة، لأنّ كل إنسان يرى عيوبه و نواقصه التي لا يطّلع عليها الآخرون، إذن فالآخرون بالنسبة له أفضل منه(3).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قال إبليس لعنه اللّه لجنوده: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله و نسي ذنبه و دخله العجب».(4)

يقول إبليس لعنه اللّه لجنوده:

ص: 363


1- كلمات مضيئة: 200.
2- تحف العقول، صفحة: 366.
3- كلمات مضيئة: 27.
4- الخصال/باب الثلاثة/ح 86.

إذا تسلطت على ابن آدم في ثلاثة مسائل و استمكنت منها فيه فحينئذ يرتاح بالي من ناحيته لأنه مهما عمل من أعمال الخير و الشر بعدها لن يقبل منه شيء منها، و ذلك لأن هذه الأمور الثلاثة تمنع من قبول الحسنات. و هي:

1 - إذا اعتقد أن أعماله الحسنة التي عملها كثيرة أي أنه حدث نفسه بأنه إنسان صالح و محسن و فاعل للخير فرضي عن نفسه و عن أعماله الصالحة من قبيل الفرائض و النوافل و الإنفاقات و الصدقات و الخدمات و نحوها.

فإن هذا الأمر هو الضربة الأولى التي يتلقاها الإنسان و أول ساتر ترابي ينهدم أمام الشيطان ليدخل منه نحو غيره.

2 - إذا نسي ذنوبه، فإنه قد ارتكب في حياته الذنوب الكثيرة و المخالفات الشرعية و لكنه يغفل عنها. و من هنا ندرك السر في اشتمال الأدعية على ذكر الذنوب من قبيل ما ورد في دعاء كميل «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم.... تمنع الدعاة» فإن الوجه في ذلك هو أن لا تصبح الذنوب في طي النسيان.

3 - العجب بالنفس، أي العجب بالخصوصيات و الصفات الروحية كالعلم و الحلم، الصبر و التقوى، فإنه يراها كبيرة و عظيمة في نفسه فيعجب بها.(1)

ص: 364


1- كلمات مضيئة: 5.

الغرور و الإفتتان

معنى الغرور

إنّ أدعية أهل البيت عليهم السّلام تبيّن لنا مواطن الضعف في الإنسان و الّتي قد تؤدّي به إلى السقوط في الهاوية.

و هذا ما نجده مثلا في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إياه الإمام السجاد عليه السّلام:

«اللهمّ خصّني منك بخاصّة ذكرك و لا تجعل شيئا ممّا أتقرّب إليك في آناء اللّيل و أطراف النهار رياء و لا سمعة و لا أشرا و لا بطرا»، إذا يجب أن لا يكون العمل مصحوبا بالغرور و الرياء و الّتي تشكل مواطن الضعف.

فقد يقوم الإنسان بعمل صالح و رائع لكن بمجرّد أن يخالطه شيء من الغرور و السمعة، يصبح ذلك العمل هباءا منثورا(1).

الإنسان قد يغتر لأدنى عمل يؤدّيه، إيّاكم أن تغترّوا و تقولوا إنّنا لم نذنب. كلا، بل إننا غرقى في القصور و في التقصير «و ما قدر أعمالنا في جنب نعمك»(2). و ما هو قدر عمل الخير الذي نتصوّر أننا قد فعلناه، و ما هي أهميّته و ما نسبته إلى جانب نعم اللّه و في مقابل حق الشكر للّه، فنحن غير قادرين على أداء حق شكره، «لا الذي أحسن

ص: 365


1- من كلمة ألقاها بتاريخ 17 رمضان 1415 ه.
2- البحار: 85/95.

استغنى عن عونك»(1).

و هل بإمكان الإنسان الاستغناء عن فضل اللّه و لطفه في آن من آنائه؟ نحن على الدوام بحاجة للطف اللّه، و لطفه تعالى يأتينا على الدوام «خيرك إلينا نازل»(2) و نحن عاجزون عن شكره، و هذا قصور أو تقصير يستدعي في كل الأحوال طلب المغفرة(3).

وردت في الأدعية و الروايات كلمة «الاغترار باللّه». جاءت في الدعاء السادس و الأربعين من الصحيفة السجادية - الذي يقرأ في أيام الجمعة - عبارة مثيرة و هي:

«و الشقاء الأشقى لمن اغتر بك، ما أكثر تصرفه في عذابك و ما أطول تردده في عقابك و ما أبعد غايته من الفرج و ما أقنطه من سهولة المخرج»(4). فالمغرور كما تصفه هذه الرواية هو من يغتر باللّه تعالى.

فهو يغتر لأدنى عمل يؤديه. فإذا صلّى ركعتين مثلا، أو قدّم خدمة للناس، أو تصدّق بمبلغ من المال، أو قام بعمل في سبيل اللّه، يصاب من فوره بالغرور و يحسب أنه أصلح ذاته بين يدي اللّه تعالى، و حسن حاله عنده و لا حاجة له في شيء آخر! إنه لا يتلفّظ بهذا الكلام، لكنه يفكر هكذا في نفسه(5).

خطر الغرور و الفتنة

قال علي بن الحسين عليه السّلام: «كم من مفتون بحسن القول فيه.

و كم من مغرور بحسن الستر عليه.

ص: 366


1- البحار: 39/95.
2- البحار: 85/95.
3- من كلمة ألقاها في: 17 رمضان 1418 ه - جامعة طهران.
4- الصحيفة السجادية: 241.
5- من كلمة ألقاها في: 7 رمضان 1417 ه - جامعة طهران.

و كم من مستدرج بالإحسان إليه»(1).

ما أكثر الأشخاص الذين ينخدعون بمدح و إطراء الآخرين عليهم، فالإنسان لا ينبغي أن يصبح مخدوعا لأحكام الناس بحقه و لا يقع في الغفلة عن نفسه نتيجة التسويلات النفسانية لأحكامهم الصحيحة بحقه أيضا، و الإلتفات إلى هذه المسألة بالخصوص مهمّ جدا للمسؤولين.

و كذلك الإنسان لا ينبغي له أن يقع في الغرور بسبب ستر اللّه على عيوبه، و يتصوّر أن مساوءه ستبقى مستورة دائما.

إذ كثيرا ما يفضحه اللّه في هذه الدنيا و إذا ستر عليه في هذه الدنيا بلطفه و إحسانه و لم يفضحه فيها إلاّ أنه في يوم القيامة (حيث يصبح باطن الناس ظاهرا) سوف تنكشف و تظهر.

و لذلك كان الأئمة عليهم السّلام يطلبون من اللّه تعالى، كما نقل عنهم في الأدعية الشعبانية:

«إلهي قد سترت علي ذنوبا في الدنيا و أنا أحوج الى سترها علي منك في الأخرى، إلهي قد أحسنت إلي إذا لم تظهرها لأحد من عبادك الصالحين فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد»(2).

و ما أكثر الناس الذين يستدرجون على أثر النعم الإلهية كما قال اللّه تعالى:

سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ (3) .

فلذلك لا ينبغي لنا أن نغفل عن أنفسنا على أثر المدح و الإطراء من الناس أو بسبب الستر الإلهي لعيوبنا أو بإعطائنا النعم أو نتيجة أحكام الناس الصحيحة

ص: 367


1- تحف العقول، صفحة: 281.
2- إقبال الأعمال: 296/3 مناجاة أمير المؤمنين عليه السّلام التي كان أهل البيت عليهم السّلام يدعون بها في شهر شعبان.
3- سورة الأعراف: 182.

بحقنا(1).

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كم من مغرور بما أنعم اللّه عليه، و كم من مستدرج بستر اللّه عليه، و كم من مفتون بثناء اللّه عليه»(2).

توجد في حياة الإنسان زلاّت و عثرات خطيرة يجب عليه الحذر منها.

منها: الغرور بالنعم التي وهبها اللّه له، و الظن بأنّ هذه النعم هي دليل على لطف اللّه و محبّته له. مع أنه في كثير من الأحوال تكون هذه النعم وسيلة للإختبار و الإبتلاء.

و لذلك لا ينبغي للإنسان أن ينخدع بها و أن لا يغفل عن التوبة و الندم و إصلاح أعماله.

و منها: الإستدراج، و ذلك لأن الإنسان أحيانا قد يتوهم من خلال ستر اللّه عليه و عدم افتضاحه في الدنيا بذنوبه و معاصيه التي ارتكبها، أنّ اللّه لن يرفع عنه هذا الستر و الغطاء و لذلك ينجرف أكثر فأكثر نحو المعاصي و الإنحرافات مع أن هذا الستر الإلهي ليس دائما عليه.

و منها: الإفتتان بمدح و ثناء الآخرين له فيغفل بذلك عن نقاط ضعفه.

نسأل اللّه تعالى أن يمنّ علينا بالمعرفة و اليقظة لئلا نبتلي بالزلاّت الخطيرة، و لا نقع في شرك الشيطان المهلكة(3).

و قال عليه السّلام: «إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ناسيا لذنبه فاعلموا أنه قد مكر به»(4).

إذا كان الشخص يتتبّع دائما كشف عيوب الناس و يبحث و يفتّش عن ذنوبهم و معاصيهم، و لكنه في نفس الوقت ينسى ذنوبه و أخطاءه، فمثل هكذا شخص قد

ص: 368


1- كلمات مضيئة: 149.
2- تحف العقول، صفحة: 357.
3- كلمات مضيئة: 150.
4- تحف العقول، صفحة: 364.

ابتلي بالفتنة و المكر و وقع في واد خطير.

و ذلك لأن أعظم خطر على الإنسان هو أن يغفل عن ذنوبه و معاصيه لأن هذا الأمر موجب لعدم إلتفاته و توجهه لإصلاح نفسه. فمثل هكذا شخص مفتون و مخدوع(1).

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «الفتن ثلاثة: حبّ النساء و هو سيف الشيطان، و شرب الخمر و هو فخّ الشيطان، و حبّ الدينار و الدرهم و هو سهم الشيطان.

فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، و من أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، و من أحب الدينار و الدرهم فهو عبد الدنيا.

و قال عليه السّلام: قال عيسى ابن مريم عليه السّلام: الدينار داء الدين، و العالم طبيب الدين، فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا أنه غير ناصح لغيره».(2)

ثلاثة أمور تعتبر فتنة للإنسان. و المراد من الفتنة هنا الإختبار و الإبتلاء، و الأصل اللغوي للكلمة هو تلوث الهواء لأن الإنسان في هذه الحالة لا يمكنه تحديد الطريق و تشخيصه، و لذلك يقع في الحيرة و التيه. و هذه الأمور هي:

1 - حب النساء و هو سيف الشيطان. و لكن هذا لا يعني أن لا يحب الإنسان زوجته فإن حب الزوجة أمر مستحب. بل معناه الإنحلال الجنسي و الإنفلات من القيود و الضوابط المقررة بهذا الصدد فيكون همّه هو النساء.

فإن نتيجة هذا الأمر هو أن الشخص المذكور لن يكتفي بالإستفادة في هذا المورد من الشيء الحلال الطبيعي ضمن دائرة عائلته بل يسعى للأكثر مما يؤدي الى تهدم الأسرة و تفككها.

2 - شرب الخمر الذي هو فخ و مصيدة الشيطان فيقع فيها الإنسان، فإذا وقع في هذا الأمر فإن الجنة محرمة عليه.

ص: 369


1- كلمات مضيئة: 150.
2- الخصال/باب الثلاثة/ح 91.

3 - حب الدينار و الدرهم، و المراد بهما الثروة و المال، و المراد من الحب هنا هو السعي لتحصيل المال من طريق الغش و التزوير و الخداع و المكر و الإحتيال، و هذا ما يسمّى بعبادة المال، و الإنسان الذي يعبد المال يصبح عبدا للدنيا.

ثم يذكر كلاما للنبي عيسى عليه السّلام و مفاده:

إن المال داء و آفة للدين، و العالم كالطبيب يسعى لإصلاح دين الناس و لكن إذا كان هذه الطبيب (أي العالم) عبدا للمال فحينئذ لن يمكن الإعتماد عليه و الوثوق به بل هو متهم إذ كيف يكون ناصحا لغيره و لا ينصح نفسه؟!.(1)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أشدّ ما يتخوّف على أمّتي ثلاثة:

زلّة عالم أو جدال منافق بالقرآن أو دنيا تقطع رقابكم فاتّهموها على أنفسكم»(2).

يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هناك ثلاثة أمور أتخوّف منها على أمّتي أكثر من غيرها و هي:

1 - زلّة العالم، و يحتمل أن يكون المراد من العالم عالم الدين كما يحتمل أن يكون الأعمّ منه و من غيره من العلماء و الخبراء في سائر العلوم و الفنون الأخرى.

و على أيّ حال فزلّة أرباب العلم و أصحاب الفنون خطيرة على المجتمع.

و ليس المراد من الزلة هنا الزلّة العلمية بل المراد الزلّة العملية، التي يمكن أن تنشأ من ضعف العقيدة أو ضعف البصيرة أو من الأهواء النفسانية.

2 - جدال المنافق بالقرآن، و المراد منه الشخص الذي لم يدخل الإيمان إلى قلبه و لكنه ظاهرا يدّعي الإيمان و يتمسّك بالقرآن في احتجاجاته ليحرف أفكار الناس عن الطريق الصحيح.

3 - حبّ الدنيا و الميل نحو المظاهر الدنيوية.

ص: 370


1- كلمات مضيئة: 151.
2- الخصال/ج 1 /صفحة: 163.

و مقصود النبي صلّى اللّه عليه و آله من الخوف من هذا الأمور الثلاثة ليس فقط الإخبار عن ذلك أو إظهار وجهة نظره فيها. و إنّما مقصوده من التخوّف هو التحذير و الإنذار منها و العلم بها.

و لذلك فعلينا أولا أن نراقب أنفسنا لئلاّ نقع في الإنحراف و الضلال و التزلزل و الإفتتان بالدنيا.

و علينا ثانيا أن لا نكون سببا لانحراف الآخرين و إضلالهم(1).

ص: 371


1- كلمات مضيئة: 152.

الغرور ينافي الإيمان

من حكم أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

وقور عند الهزاهز - صبور عند البلاء - شكور عند الرخاء - قانع بما رزقه اللّه - لا يظلم الأعداء - و لا يتحمّل الأصدقاء - بدنه منه في تعب - و الناس منه في راحة»(1).

من المناسب للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال:

1 - أن يكون مقابل الحوادث الإجتماعية و العائلية الصعبة كالصخرة صامدا محكما ثابتا، و لا يكون كالريشة التي تعلو و تسقط مع أدنى نسمة الهواء.

2 - أن يكون في مقابل عاصفة البلاء صابرا متحمّلا.

3 - أن يكون في مقابل نعمة الصحة و العافية و الهدوء و الطمأنينة و الأمن و الأمان غير مبتلى بالغرور و العجب، بل عليه أن يعلم أن كل هذه النعم من اللّه تعالى و عليه أن يشكرها.

4 - أن يكون قانعا بما يحصل عليه بعد جهده و تعبه و سعيه الملزم به.

5 - أن لا يظلم أعداءه سواء كانوا فسّاقا أم كفّارا، و لا يتجاوز و لا يتعدّى الحدود الإلهية بحقّهم.

6 - أن لا يفرض على أصدقائه شيئا لا يطيقونه و لا يحملنّهم ذلك.

7 و 8 - أن يكون - خلافا لما يعتقده بعض الغفلة - الإنسان في حالات الراحة و الهدوء بدنه منه في تعب، بينما يكون الآخرون منه في راحة(2).

ص: 372


1- تحف العقول، صفحة: 362.
2- كلمات مضيئة: 59.

الإسراف و التبذير

معنى الإسراف و التبذير

على الجميع أن يسعى إلى نبذ الإسراف جانبا في كل أوقاته، فمما يؤسف له أن ظاهرة التبذير متفشية في حياتنا.

التبذير يعني إهدار النعمة الإلهية و يعني جهل قدرها، و لا ريب في أنّ أكثر المقصودين من هذا الكلام هم الأثرياء، إنّ الفقراء و متوسطي الحال أقل تبذيرا، و إن كان فيهم بعض المبذرين أيضا.

و اجتناب التبذير يجب التمسك به حتى في الأشياء التي تبدو و كأنها ليست ذات قيمة كالتبذير في استعمال الماء؛ حيث إنّ قلة هطول الأمطار في بعض البلاد توجب المزيد من الإقتصاد في استعمال الماء.

نحن ملزمون بتنظيم امورنا طبقا لما يفرضه علينا الدين و يقتضيه العقل السليم.

فالإسراف في استعمال الماء، و الخبز، و الطعام، و مستلزمات الحياة، و التبذير في الشراء و الانفاق، و نبذ الأشياء المفيدة، كله تضييع لنعمة اللّه تعالى.

نقرأ في بعض الإحصائيات أنّ قسما عظيما من هذه الحنطة التي نحصل عليها بكد و مرارة الفلاح، ثم يبذل بإزائها المال ثم تحول إلى دقيق يصنع منه الخبز، الكثير منها - و للأسف - يهدر بعد ذلك.

ذكرت هذا المورد على سبيل المثال فقط، و لكن ينبغي علينا التعود على الإقتصاد

ص: 373

في جميع الامور.

الإقتصاد معناه الانتفاع من كل ما هو نافع، و أن لا نتصرف بالإمكانات المتيسّرة عبثا، فليس من الصحيح تجديد السلع الدائمية باستمرار، و التخلص من الأشياء غير التالفة.

من الضروري على مسؤولي بلادنا الإسلامية أن يرشدوا أبناء الشعب و يعلمّوهم سبل الإقتصاد و مكافحة التبذير. و على مسؤولي الحكومة أنفسهم تجنب الإسراف أيضا، لأنّ إسراف مسؤولي الحكومة أكثر ضررا من إسراف عامة الناس لكون إسرافهم يقع في بيت المال. و هذا يعني وجوب إعداد المسؤولين جداول عن أساليب الإقتصاد و اجتناب الإسراف و عرضها للشعب من أجل تعليمه كيفية الإقتصاد في النفقات(1).

ص: 374


1- من كلمة ألقاها في: 11 ذي القعدة 1417 ه.

ذم الإسراف

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ القصد أمر يحبّه اللّه عزّ و جلّ، و إنّ السرف يبغضه حتى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، و حتّى صبّك فضل شرابك»(1).

القصد و الإعتدال أمر محبوب للّه تعالى.

و الإعتدال يقابله الإفراط و التفريط.

و الإفراط هو الحدّة في الشيء و التجاوز عن الحدّ فيه.

و التفريط هو التقصير و التهاون و الإهمال في العمل و عدم القيام بالعمل على وجهه الصحيح، بينما الإعتدال على خلافهما.

و أما السرف فهو أمر مبغوض للّه تعالى. حتى و إن كان بمقدار رمي نواة الثمرة فيما إذا كان يمكن الإستفادة منها في مورد ما، و حتى و إن كان بمقدار إهدار و إراقة شربة ماء.

و الإسراف غالبا ما يستعمل في الأمور المالية إلاّ أنه قد استعمل في غيرها أيضا كما في قوله تعالى: فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ (2).

و يجب الإلتفات إلى أنّ الإسراف في أموال الدولة فيه مبغوضية أشدّ و أكثر من غيره، و ذلك لأنه إذا كان من بيت المال فإنّه مضافا إلى كونه إسرافا يعتبر غصبا أيضا(3).

ص: 375


1- الخصال، باب الواحد، ح: 36.
2- سورة الإسراء: 33.
3- كلمات مضيئة: 228.

قد يكون في المجتمع أثرياء يقومون على تبذير أموالهم - و هو عمل يخصهم و إن كان سيئا - إلاّ أن تبذيرنا كمسؤولين ليس تبذيرا لمالنا الخاص، و إنما هو تبذير لبيت مال المسلمين، و هذا أولا.

و ثانيا: إن تبذيرنا يعد عاملا مشجعا للآخرين على التبذير، فإن الناس على دين ملوكهم(1).

ص: 376


1- من كلمة ألقاها في: 1384/6/8 ه ش الموافق 24 /رجب/ 1426 ه الموافق 2005/8/30 م - طهران.

كيف نعالج الفقر؟

إنّ حصيلة الصيام في شهر رمضان المبارك رصيد من التقوى تعمر به قلوبنا و أرواحنا ينبغي أن يرفدنا على امتداد دروب الحياة الحافلة بالمنعطفات و المنحنيات و يكفل لنا الصراط المستقيم.

لقد تصرّم شهر رمضان بما عليه من عظمة و كرامة و أجواء مفعمة بالرحمة، و خلال هذا الشهر و ببركة صيام أيامه و التوسل و الدعاء و الذكر و تلاوة القرآن، عمل المسلمون في كافة أرجاء العالم على أن تزداد قلوبهم و أرواحهم نورانية و قربا من اللّه سبحانه و تعالى؛ و ببركة شهر رمضان تسنح أمام المسلمين فرصة يتعين عليهم اغتنامها لتعزيز حياتهم المعنوية و نشاطهم المادي، فمن الدروس الكبرى لشهر رمضان التي ينبغي علينا تعلمها و استثمارها لدى الدعاء و الصيام و تلاوة القرآن خلال هذا الشهر، هو أن نتذكر - بتجرعنا الجوع و العطش - الجياع و المحرومين و الفقراء إذ أننا نقرأ في الدعاء خلال أيام شهر رمضان: «اللهم اغن كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكس كلّ عريان»(1).

إن هذا الدعاء ليس للقراءة فقط، بل لير الجميع أنفسهم مكلفين بمكافحة الفقر و الجهاد في سبيل إزاحة غبار الحرمان عن وجوه المحرومين و المستضعفين، فهذا الكفاح واجب عام، و نحن نقرأ في القرآن أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذٰلِكَ اَلَّذِي يَدُعُّ اَلْيَتِيمَ وَ لاٰ يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ اَلْمِسْكِينِ (2) و من علائم تكذيب الدين أن يتخذ الإنسان

ص: 377


1- مستدرك الوسائل: 477/7 ح 14.
2- سورة الماعون: 1-3.

جانب اللامبالاة و عدم الشعور بالمسؤولية أزاء فقر الفقراء و المحرومين، و خلال شهر رمضان و ببركة الصيام تذوّقنا و أدركنا طعم الجوع و العطش و عدم نيل ما تشتهيه نفس الإنسان و هذا ما يجب أن يقرّبنا من الشعور بالمسؤولية التي أرادها الإسلام لكافة المسلمين و وضعها تكليفا على عواتقهم أزاء قضية الفقر و الفقراء الحسّاسة.

إن معالجة الفقر إنما تتمّ بشكل أصولي في كل مجتمع عن طريق إقرار العدالة الإجتماعية و النظام العادل وسط المجتمع كي لا يعمد المتلصصون على حقوق الآخرين إلى مصادرة الثروة - التي هي حق الجميع - لصالحهم، و هذه مسؤولية الدولة و الحكومة غير أن الشعب بدوره يتحمل مسؤولية ثقيلة أيضا، فتطبيق الخطط الإجتماعية ممكن على المدى البعيد أو المتوسط و بشكل تدريجي، و لكن لا يصح الانتظار و التفرج على حرمان المحرومين و فقر الجياع إلى أن تعطي الخطط الإجتماعية في الدول ثمارها، فهذه مسؤولية الشعب بالذات و كافة من لهم القدرة على العمل في هذا السبيل.

على الجميع اعتبار أنفسهم مكلفين بالمواساة التي تعني عدم ترك أية عائلة مسلمة مواطنة و محرومة تصارع آلامها و حرمانها و مشكلاتها لوحدها، و المبادرة إليها و مدّ يعد العون نحوها، و إن هذا يمثل اليوم مسؤولية عالمية بالنسبة لذوي الوجدان و الأخلاق و العواطف الإنسانية.

أما بالنسبة للمسلمين فهي مسؤولية دينية بالإضافة إلى أنّها مسؤولية أخلاقية و عاطفية.

اهتموا بالجيران و الفقراء، و إنّ من الأمور التي تحول دون أن تمتدّ يد القادرين على المساعدة لتقديم العون للفقراء، تفشّي روح الاستهلاك و البهرجة في المجتمع، فوبال على المجتمع أن يتفاقم فيه الجنوح نحو الاستهلاك يوما بعد يوم بحيث يرغّب الجميع بالإفراط في الاستهلاك و الإكثار و التنويع بالأكل و الشرب و اللباس و السعي وراء الصرعات (الموضات) و كل ما استجد من مستلزمات الحياة و كمالياتها، فكم

ص: 378

هي الثروات و الأموال التي تهدر بهذا الإتجاه و تعطّل عن أن تنفق في المواطن التي تفضي إلى رضى اللّه و علاج مشاكل فئات من الناس.

إن الجنوح نحو الاستهلاك و بال عظيم بالنسبة للمجتمع، فالإسراف يضاعف و يعمّق الفوارق الطبقية بين الفقير و الغني يوما بعد يوم، و إنّ من الأمور التي يتعين على أبناء الشعب اعتباره واجبا بالنسبة لهم هو تجنب الإسراف، و على الأجهزة المسؤولة في مختلف مرافق الدولة لا سيما الأجهزة الإعلامية و الثقافية - و على وجه الخصوص الإذاعة و التلفزيون - أن ترى من واجبها ليس عدم جرّ الجماهير بإتجاه الإسراف و الاستهلاك و البهرجة فحسب، و إنما سوقهم بالإتجاه المعاكس و دعوة الناس و سوقهم نحو القناعة و الاكتفاء و الإنفاق حسب الحاجة و تجنب الإفراط و الإسراف، فروح الاستهلاك تدمّر المجتمع.

إن المجتمع الذي يتفوق استهلاكه على إنتاجه ستحيق به الهزيمة، و علينا أن نتعود على موازنة استهلاكنا و الحدّ منه و التخلّي عن الإسراف، و ليبادر الشباب إلى إقامة التجمعات العائلية و جمع معونات أبناء الأسرة و إنفاقها على الفقراء و المعوزين من أبناء تلك العوائل بالدرجة الأولى، أو إنفاقها على سائر الفقراء إن لم تكن ثمة حاجة.

هنالك فقر في مجتمعاتنا الآن، إنّ واجبنا كنظام إسلامي هو اقتلاع جذور الفقر من المجتمع فيجب أن يمحى الحرمان و هذه هي مسؤوليتنا نحن كدولة و كنظام إسلامي و جماهير شعب «كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته»(1).

إنّه واجب الجميع أن يبادر كلّ منّا إلى تقليص حالة البهرجة و الإسراف و الإفراط بأي نحو كان، و هذا ما يستدعي همة و تضحية و بصيرة و وعيا فلنطلب العون من اللّه سبحانه و تعالى.

هنالك الكثير من العوائل التي ليست هي متكاسلة بطبيعتها أو تأبى ممارسة العمل

ص: 379


1- عوالي اللآلي: 129/1 ح 3.

و إنما هي محرومة و فقيرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فعليكم أن تشخصوها و تبحثوا عنها - و ليس ذلك مستعصيا - و تساعدوها.(1)

ص: 380


1- من كلمة ألقاها في: 1 شوال 1423 ه - طهران.

الكذب

معنى الكذب

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا علي: أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب».(1)

هذا الكلام من جملة الوصايا التي أوصاها النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: و هو التحذير و النهي عن هذه الخصال الثلاثة السلبيّة و بالتدقيق يعلم أنّ جزءا مهمّا من التصادمات و التناقضات بين الناس منشؤه هذه الخصال الثلاثة، و هي:

1 - الكذب: و الكذب يكون في القول و الفعل، يقابله الصدق فيهما و الذي ورد في القرآن الكريم التأكيد عليه. فالكذب سبب لأن يتراجع و ينقلب الإنسان عن الحقائق التي يجب أن يسير الإنسان أو المجتمع على طبقها(2).

2 - الحسد، 3 - الحرص، و قد تقدم الكلام عنهما.

و قال النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «إياكم و الشح، فإنما هلك من كان قبلكم

ص: 381


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 121.
2- كلمات مضيئة: 51.

بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، و أمرهم بالظلم فظلموا، و أمرهم بالقطيعة فقطعوا».(1)

قوله عليه السّلام: (و أمرهم بالكذب فكذبوا) لأن الحرص على المال يوجب أحيانا الكذب فيتلوث المحيط الاجتماعي فضلا عن نفسه في مخالفة الواقع و الحقيقة و يذهب و يزول من بينهم الصدق و الصفاء و المودة.

و لمّا أمرهم بالظلم ظلموا، لأنه أحيانا يستدعي الظلم و التعدي و التجاوز على حقوق الآخرين من أجل الحرص و البخل...(2).

ص: 382


1- الخصال/باب الثلاثة/ح 234.
2- كلمات مضيئة: 105.

فهرس الموضوعات

تتمة باب مكارم الأخلاق

القناعة

أهمية القناعة 5

الإنصاف و المواساة

أهمية الإنصاف و المواساة 9

البصيرة و التعقل و التثبت

أهمية البصيرة 12

أهمية التثبت و عدم التهاون 12

الإسلام مطابق للعقل و المنطق 13

الحكمة و التعقل 14

علينا تشخيص الحق من الباطل لخلاص الإنسان 15

ص: 383

الإستقامة و الثبات

أهمية الإستقامة 17

إستقامة النبي 9 18

الإستقامة و الإرتقاء الروحي 20

برّ الوالدين

أهمية برّ الوالدين 23

ثواب الشفقة على الوالدين 23

الإيثار

أهمية الإيثار 25

أثر التضحية و الإيثار 26

الإخلاص نوع من الإيثار 28

الإيمان و خصائصه

أثر الإخلاص في الإيمان 29

علامة الإيمان الحقيقي 30

شروط الإيمان الحقيقي و الكامل 32

سبب رسوخ الإيمان 36

خصال الإيمان 37

دعائم الإيمان 39

كمال المسلم 40

ص: 384

حقيقة الشيعي الموالي 43

صفات الشيعة 45

واجب الشيعي الموالي 46

أكرم الناس و أبغض الناس 47

الأجر و الثواب

الهدف من الثواب على العمل 49

شروط الأجر و الثواب 50

ثواب فقد الأبناء 51

ثواب الترحم على الناس 52

العفو

معنى العفو 53

العفو الإلهي 53

الزهد

معنى الزهد 55

الزهد في الدنيا 56

الزهد من سيرة النبي و علي عليهما السّلام 57

الزهد أهم عامل للقدرة 62

أثر الزهد 64

الزهد عند المسؤولين 67

ص: 385

أثر زهد المسؤولين 67

العفة

العفة بمعناها الأوسع 69

أهمية العفة 70

أهمية عفّة المرأة 72

التصدي لمن يبيح عفة المرأة 73

الورع

معنى الورع 75

أهمية الورع 76

الورع عن المحارم 77

الورع عن اقتراف الذنوب و الآثام 79

الورع و الحكومة 80

الإخلاص

معنى الإخلاص 81

السعي نحو الإخلاص 82

الاخلاص و أثره في بناء الشخصية 83

إخلاص الحسين عليه السّلام و أثره 84

نموذج آخر لأثر الإخلاص 85

الإخلاص في العمل 86

ص: 386

أثر الإخلاص في العمل 86

ثواب الإرهاق في التكليف/الأجر على قدر المشقة 88

الإيثار يوصل الى الإخلاص 89

ذكر اللّه تعالى

أهمية ذكر اللّه تعالى 91

ذكر اللّه علاج للآفات 91

أثر ذكر اللّه 94

خشية اللّه و الخشوع

معنى الخشوع 95

خشية اللّه تعالى 97

الخشوع في الصلاة 100

الصبر

ما هو الصبر؟ 103

تعريف الصبر 103

الصبر على الحرام 106

الصبر الإمام الحسين قلّ نظيره 107

الصبر عند أمير المؤمنين عليه السّلام و أثره 109

إستلهام الصبر من أمير المؤمنين عليه السّلام 110

إستفادة إيران من صبر أمير المؤمنين عليه السّلام 111

ص: 387

أهمية الصبر في المجتمع 112

نماذج من صبر الأولياء و أثره 113

آثار الصبر

1 - الثبات و النصر 115

2 - الأثار النفسية للصبر 119

3 - بروز و إظهار القوى الكامنة 121

4 - التوجه و التوكل على اللّه أكثر 122

5 - أهليّة الهداية 123

البلاء

الأجر و الثواب على البلاء 125

أثر الدنيا في الصبر على البلاء 128

في البلاءات نعم إلهية 129

أثر الصبر على البلاء 130

شروط الإبتلاء 135

كل بلاء من اللّه العلي فهو خير 136

البلاء نعمة نؤجر عليها 137

أعظم البلاء و الفتن 137

الأمانة

أهمية الأمانة 139

ص: 388

الوفاء و أداء الأمانة 141

الأمانة و حسن الظن 142

أمانة النبي صلّى اللّه عليه و آله درس لنا 143

الخوف و الرجاء

معنى الخوف من اللّه 145

أثر الخوف و الرجاء 148

خوف أمير المؤمنين عليه السّلام درس لنا 150

المؤمن بين الخوف و الرجاء 152

التودد و المحبة

أهمية التحبب 155

أهمية التواصل و عدم التباغض 155

المحبة تورث و لا تعلّم 156

أثر الرفق و التودد 158

ثواب التودد 159

أهميّة المداراة و اللين 161

التعامل بالمودة و اللطف 164

طلاقة الوجه و حسن اللقاء 166

الإحسان

أهمية الإحسان 167

ص: 389

العشرة

حسن المعاشرة 169

كيفية العشرة 172

السكينة

أثر السكينة في النفس 173

السكينة في القرآن 174

الحب و البغض في اللّه

معنى الحب و البغض في اللّه 177

أهمية الحب و البغض في اللّه 179

حب اللّه أصل الدين 184

بين حب اللّه تعالى و الخوف منه 186

شكر النعم

عظمة الشكر و أهميته 187

المحافظة على النعم 189

شروط شكر النعم 191

وجوب شكر النعم الإلهية 192

ترك الشكر يؤدي لزوال النعمة 196

الحلم و الصمت 197

ص: 390

تعريف الحلم و أهميته 197

حلم النبي صلّى اللّه عليه و آله أسوة 199

فضل الصمت 201

أثر الحلم على الصمت 202

التواضع

أهميّة التواضع 203

أثر التواضع 204

التواضع أرفع نسب و حسب 206

الرضا و السخط

أهمية الرضا و السخط 207

أثر الرضا و السخط 209

الحياء

وجوه الحياء 211

اليقين

تعريف اليقين 213

أهمية اليقين 214

طرق تحصيل اليقين 217

ص: 391

باب رذائل الأخلاق

مساوىء الأخلاق

التحذير من مساوىء الأخلاق 221

خطر سوء الخلق 225

أكبر الرذائل الأخلاقية 227

خطر حبّ الذات 229

أثر سوء الأخلاق على الشباب 230

التغيير بيد الإنسان 234

نماذج للفساد الإجتماعي الأخلاقي 235

مكافحة الفساد الأخلاقي 236

قصة في أثر الفساد 237

الحجب و قسوة القلوب

أنواع الحجب 239

قسوة القلوب و أثرها 242

زيغ القلوب 245

تطهير القلوب 248

ظاهر الإنسان يعكس باطنه 249

ص: 392

الدنيا

عدم اتّباع الدنيا 251

الدنيا المذمومة 251

حقيقة الدنيا و أقسامها 255

ما المراد بالدنيا؟ 257

هذه الدنيا زائلة 260

علاقة الدين بالدنيا 261

الفصل بين الدين و الدنيا 262

الدنيا مزرعة الآخرة 263

عدم اقتصار الرؤية على الحياة الدّنيا 266

الحذر من الدنيا 268

مثل الدنيا 269

الدنيا و الآخرة متضادتان 272

التوازن بين الدنيا و الآخرة 274

فرص الدنيا 277

أثر حب الدنيا 278

علاج حب الدنيا 280

الآخرة/يوم القيامة

معنى الحياة الآخرة 281

الخوف من يوم القيامة 282

ص: 393

الآخرة لمن لا يريد علوا 286

للآخرة تأثير على حياتنا 287

الزينة

رأي الإسلام في الزينة 289

حرمة التبرّج 290

رأي الإسلام في الجمال 291

الطاعة و المعصية

معنى الطاعة و العصيان 293

أهمية الطاعة و ترك المعصية 295

تعريف المعصية و منشؤها 296

أثر الطاعة 299

أثر المعصية 300

عمومية المعصية 302

الشهوات

النظرة أوّل الشهوات 303

آثار حب الشهوات

1 - حب الشهوات يمنع التسديد الإلهي: 304

2 - حب الشهوات يحجب عن اللّه تعالى 305

ص: 394

3 - الشهوات تذلّ الإنسان: 305

4 - إتباع الشهوات أساس الضلالة و الانحراف: 307

الحسد

خطورة الحسد 311

الحسرة و الندامة

عذاب الحسرة و الندامة 313

حرمات اللّه تعالى

بعض حرمات اللّه تعالى 315

الشحّ و الأمل و الهوى

الشح و الأمل 317

الهوى و طول الأمل 318

ما يؤدي إلى الهوى 319

مخالفة الهوى 321

تعريف الشحّ 322

أثر الشحّ 323

أثر إطاعة هوى النفس 325

هوى النفس الخطر الأساس 326

الشحّ المطاع و الهوى المتبع 329

ص: 395

الأهواء النفسية سبب كل المآسي 330

الأهواء الشيطانية 331

خطر الأهواء النفسية 332

التخلي عن الأهواء باللجوء الى اللّه 333

الغضب و السخط

تعريف الغضب 335

بين الغضب و السخط 336

أثر الغضب 337

الغضب الممدوح 338

الشيطان

ماهيّة الشيطان 339

ما يبعد عن الشيطان 341

تجسد الشيطان 342

كيفية غواية الشيطان 342

حب الإطراء أفضل فرص الشيطان 345

تطهير القلب من الشيطان 345

التكبر و الخيلاء

أثر التكبر 347

خطر التكبر 347

ص: 396

علاج التكبر 349

الفرق بين التكبر و الإستكبار 351

الحرص

معنى الحرص 353

العجب

معنى العجب 355

أهمية العجب 355

علاج العجب 356

عبر من موقف أمير المؤمنين عليه السّلام 358

درجات و مراتب العجب 360

أثر العجب 362

الغرور و الإفتتان

معنى الغرور 365

خطر الغرور و الفتنة 366

الغرور ينافي الإيمان 372

الإسراف و التبذير

معنى الإسراف و التبذير 373

ذم الإسراف 375

ص: 397

كيف نعالج الفقر؟ 377

الكذب

معنى الكذب 381

فهرس الموضوعات 383

ص: 398

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.