منتقى الأصول المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1414 ه-.ق

الصفحات: 450

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء السادس

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 6

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

( الاستصحاب )

اشارة

ص: 5

ص: 6

الاستصحاب

اشارة

وقبل الدخول في بيان أدلته يحسن تقديم أمور.

الأمر الأول : ما أشار إليه المحقق النائيني : من ان البحث عن حجية امر يكون بنحوين :

الأول : ان يكون المبحوث عن حجيته : امرا محققا موجودا. والبحث عن انه حجة أو ليس بحجّة كالبحث عن حجية خبر الواحد. فان البحث عن ثبوت الحجية له وعدمه.

الثاني : ان يكون موضوع الحجية أمرا مفروغا عن حجيته على تقدير وجوده ، فالبحث في الحقيقة يرجع إلى البحث عن ثبوته ، كالبحث عن حجية المفاهيم ، فان المفهوم لو ثبت كان حجة بلا إشكال لكونه من مصاديق الظهور ، فجهة البحث هي ثبوت المفهوم وعدم ثبوته.

إذا اتضح ذلك ، فهل البحث عن حجية الأصل العملي - كالاستصحاب - من قبيل النحو الأول أو الثاني ، أو لا هذا ولا ذاك؟. أفاد قدس سره : انه ليس من القسم الأول كما هو واضح ، إذ الأصل العملي ليس إلا عبارة عن تعبد الشارع بأحد طرفي الشك تعيينا أو تخييرا ، وهو ليس مفروض الوجود كي يبحث عن حجيته ، بل يبحث عن وجوده. كما انه ليس من القسم الثاني وان

ص: 7

كان اقرب إليه ، لأن موضوع الحجية فيه يغاير نفس الحجية مصداقا وان لم ينفك عنها خارجا ، مع إمكان التفكيك بينهما عقلا فالمفهوم غير الحجية. وهذا بخلاف البحث عن حجية الأصول العملية ، فان الحجية عين التعبد الشرعي ولا يمكن التفكيك بينهما عقلا (1).

أقول : لا يخفى ان البحث في هذه الجهة أشبه بالبحث اللفظي. ولا يهمنا تحقيق كيفية إطلاق الحجة على الأصل العملي ، وانه من قبيل أي القسمين هو ، فانا نبحث عن امر واقعي وهو ثبوت التعبد الشرعي في مورد الشك في البقاء ، ولا أهمية لتحقيق ان إطلاق الحجة عليه بأي نحو ، والظاهر اختلاف ذلك باختلاف المباني فيما هو المجعول في باب الاستصحاب وما هو المقرر منجزيته من كونه نفس الحكم بالبقاء ، أو نفس اليقين السابق ، أو الشك اللاحق كما احتمله بعض فلاحظ.

الأمر الثاني : في تعريف الاستصحاب.

وهو لغة - كما قيل - أخذ الشيء مصاحبا.

واما اصطلاحا : فقد عرف بتعاريف متعددة :

التعريف الأول : ذكر الشيخ ( رحمة اللّه ) : ان أخصر التعاريف وأسدها :

« إبقاء ما كان » (2) ، ويراد بالإبقاء هو الحكم بالبقاء لا الإبقاء التكويني ، فانه لا محصل له. وعليه فلا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني فراجع (3).

التعريف الثاني : ما جعله الشيخ أزيف التعاريف وهو تعريفه بأنه : « كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » (4).

ص: 8


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 342 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /318- الطبعة الأولى.
3- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.
4- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /318- الطبعة الأولى.

ووجه زيفه : ان هذا التعريف تعريف للاستصحاب بمورده ومحله لا به نفسه ، ثم انه وجهه بما يخرجه عن البطلان الواضح ، وأورد عليه ، وسنعود إليه إن شاء اللّه تعالى.

التعريف الثالث : ما عرفه به صاحب الكفاية بأنه : « الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه » (1).

وهذا التعريف تفصيل وتوضيح لتعريف الشيخ رحمه اللّه . وقد أشار قدس سره إلى تعريفه : ببناء العقلاء على البقاء ، وتعريفه : بالظن الناشئ من العلم بثبوته ونفاهما بأنه على هذين التعريفين لا تتقابل فيه الأقوال ، ولا يتوارد فيه النفي والإثبات على مورد واحد بل موردين ، ثم هون قدس سره الأمر بان المقصود من هذه التعاريف شرح الاسم لا الحد والرسم ، فلا مورد للإشكال عليها بعدم الطرد أو لعكس.

التعريف الرابع : ما عرفه به المحقق النائيني قدس سره : « بأنه الحكم الشرعي ببقاء الإحراز السابق من حيث الجري العملي » (2) ، وقد بنى هذا التعريف على استفادة الاستصحاب من الاخبار.

التعريف الخامس : ما قد عرف الاستصحاب به أيضا : « بأنه عبارة عن الإبقاء العملي ».

هذه جملة من تعاريف الاستصحاب. وتحقيق الكلام ان يقال : ان التعريف المبحوث عنه هو التعريف الاصطلاحي الّذي وقع في تعبيرات الأصوليين والفقهاء.

ولا يخفى ان هنا جهات ثلاث ترتبط بهذا المصطلح :

إحداها : إطلاق الدليل والحجة عليه ، فيقال : يدل عليه الاستصحاب ، أو

ص: 9


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /384- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.

يحتج بأمور منها الاستصحاب ، ونحو ذلك من التعبيرات الواقعة كثيرا في بحوث الفقهاء في مختلف المسائل الفقهية.

وثانيها : اختلاف مدركه من تعبد الشارع أو بناء العقلاء أو حكم العقل الظني.

وثالثها : تفرع الاشتقاقات منه كالمستصحب والمستصحب واستصحب ويستصحب ، وغيرها.

ومن الواضح انه لا بد في تشخيص ما هو الأنسب في تعريفه من ملاحظة هذه الجهات الثلاث وثبوتها مع الالتزام به.

والّذي نراه ان جميع ما ذكر في تعريفه مما تقدم لا يخلو عن خدشة بملاحظة هذه الجهات.

اما الخامس وهو تعريفه : بالإبقاء العملي ، فهو وان صحح الاشتقاق منه المسند إلى المكلف ، لكن إطلاق الحجة عليه غير سديد بملاحظته ، إذ لا معنى لكون الإبقاء العملي حجة ودليلا ، بل هو يحتاج إلى حجة كما لا يخفى.

كما انه لا ينسجم مع اعتباره من باب حكم العقل ، إذ المراد بالحكم العقلي هو الإدراك الظني ، ولا معنى لإدراكه البقاء العملي.

واما الأول وهو تعريفه : بالإبقاء بمعنى الحكم بالبقاء : فهو مما لا معنى له لأن بقاء الحكم هو عين الحكم الشرعي في مرحلة البقاء ، ومقتضى هذا التعريف ان الاستصحاب هو الحكم بالحكم وهو مما لا محصل له.

نعم ، إطلاق الحجة عليه سديد كما سنشير إليه في التعريف المختار.

كما انه لا ينسجم مع اعتبار الاستصحاب من باب العقل أو بناء العقلاء ، إذ ليس شأن العقل هو الحكم بالبقاء وانما شأنه إدراك نفس البقاء ظنا.

وبعبارة أخرى : ان الحكم بالبقاء ليس متعلق الإدراك العقلي بل نفس البقاء هو متعلقه. كما ان العقلاء ليس شأنهم الحكم ، بل شأنهم البناء العملي على

ص: 10

الشيء. واما صحة الاشتقاق مع اسناده إلى المكلف فسيأتي توجيهه في التعريف المختار.

واما الرابع وهو تعريفه : بأنه الحكم الشرعي ببقاء الإحراز السابق من حيث الجري العملي : فهو مضافا إلى اختصاصه بما إذا اعتبر من باب الاخبار باعترافه قدس سره ، تعريف له بما سيأتي المناقشة فيه وما هو محل النقض والإبرام.

واما الثاني وهو تعريفه : بأنه كون الشيء متيقن الحدوث مشكوك البقاء ، الّذي حكم الشيخ بزيفه ، فقد ارتضاه المحقق النائيني بناء على كون الاستصحاب من الأمارات الظنية ووجهه بما أشار إليه الشيخ : من ان ما يوجب الظن بالبقاء ويكشف عنه بالكشف الظني هو ذلك (1).

ولكن فيه : ان ما يوجب الظن بالبقاء ليس هو اليقين السابق والشك اللاحق ، بل هو غلبة بقاء الحادث ، فانه بملاحظة ان ما يحدث يبقى مستمرا بحسب الغالب يحصل الظن في المورد المشكوك بإلحاقه بالغالب.

ولا يخفى عليك انه لا دخل لليقين بالحدوث في ذلك أصلا ، بل الملازمة الغالبة بين نفس الحدوث والبقاء.

إذن فليس اليقين من موجبات الظن كي يعرف الاستصحاب به. نعم أثر اليقين بالحدوث كأثر اليقين بسائر الأمور ذوات الأثر في كونه كاشفا عن موضوع الأثر ، فهو طريق ومحرز لمصداق من مصاديق الظن الناشئ من قبل الغلبة. فتدبر ولا تغفل.

والّذي نراه في تعريف الاستصحاب ان يقال : انه نفس بقاء المتيقن السابق عند الشك ، ويراد به ثبوت الحكم في مرحلة البقاء ، ولعله إليه يرجع تعريفه بالإبقاء المفسر بالحكم بالبقاء ، ويكون التعبير بالحكم بالبقاء نظير

ص: 11


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.

التعبير بالحكم بالحرمة أو الوجوب ، مع ان الحرمة نفس الحكم.

وكيف كان ، فتعريفه بما ذكرنا ينسجم مع جميع مدارك الاستصحاب فالشارع يحكم بثبوت المتيقن عند الشك في بقائه وهو معنى بقاء المتيقن.

كما ان بناء العقلاء العملي على بقاء المتيقن السابق ، وما يدركه العقل ظنا ، هو البقاء.

واما الاشتقاق المسند إلى المكلف ، كقولك : « استصحبت الحكم الفلاني » ، فهو على هذا التعريف لا يخلو عن مسامحة ، إذ المستصحب هو الحاكم لا المكلف.

لكن هذه المسامحة لا بد منها على جميع التعاريف غير تعريفه بالإبقاء العملي.

فإذا فرض عدم صحة الالتزام بتعريفه بالإبقاء العملي كما تقدم ، فلا محيص عن الالتزام بهذه المسامحة ، فيقال : ان المراد من : « استصحبت » هو التمسك بالاستصحاب والاستناد إليه ونحو ذلك.

واما إطلاق الحجة عليه ، فهو صحيح بناء على ما تقدم في أوائل مباحث الظن ، من ان الحكم الظاهري حكم طريقي - ويصطلح عليه بالحكم الأصولي - يلحظ فيه تنجيز الواقع وإيصال الواقع. فانه على هذا يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلا وهذا هو معنى الحجية.

ومن الواضح ان الحكم الاستصحابي حكم ظاهري طريقي ، ولذا ينطبق الاستصحاب في موارد الأحكام غير الإلزامية كالإباحة والاستحباب ، فيكون النهي عن النقض كناية عن بقاء الحكم السابق كما كان ، لا انه نهي حقيقي وتحريم للنقض العملي حقيقة ، وإلاّ لما انطبق على موارد الترخيص إذ لا يجب الفعل أو الترك فيها ، ولا يقصد من حرمة النقض فيها سوى إيصال الحكم الواقعي والتنجيز أو التعذير. فلاحظ.

ص: 12

ثم انه لا بد من تقييد تعريف الاستصحاب ببعض الخصوصيات من اليقين السابق والشك اللاحق وغير ذلك مما يظهر تقومه به.

هذا تمام الكلام في تعريف الاستصحاب ، وقد طال الكلام فيه مع انه لا يستحق الإطالة لعدم الأثر العملي المترتب عليه كما لا يخفى.

الأمر الثالث : في كون مسألة الاستصحاب أصولية أو لا؟.

الّذي يظهر من الشيخ رحمه اللّه التوقف في كونها أصولية على تقدير استفادتها من الاخبار (1).

والتحقيق : انك عرفت في مبحث ضابط المسألة الأصولية : ان المسألة الأصولية هي المسألة التي تتكفل رفع التردد في مقام العمل ، وبذلك افترقت عن المسألة الفقهية ، وهي ما كان نظرها إلى نفس المحتمل بوضوح.

وعليه ، فيكون الاستصحاب من مباحث الأصول كما مر بيانه فراجع (2).

وقد عرفت هناك انه لا يختلف الحال بين ما يجري في الشبهات الحكمية أو يجري في الشبهات الموضوعية ، وان تخصيص المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية بلا موجب.

ولو فرض عدم كون الأصل الجاري في الشبهات الموضوعية من علم الأصول ، فهو لا ينافي كون الجاري في الشبهات الحكمية منه ، فيكون الاستصحاب بلحاظ جريانه في الشبهات الحكمية مسألة أصولية لاندراجه في ضابطها. وبلحاظ جريانه في الشبهات الموضوعية مسألة فقهية. ولا مانع من كون مسألة واحدة ذات جهتين بلحاظ تعدد موردها بعد عموم دليلها ، نظير مسألة حجية خبر الواحد بناء على شموله للاخبار بالموضوعات وعدم اختصاصه بالاحكام.

ص: 13


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /319- الطبعة الأولى.
2- راجع 1 / 28 من هذا الكتاب.

هذا تحقيق الكلام في هذه الجهة باختصار ولا تحتاج إلى إطالة.

واما ما تمسك به صاحب الكفاية في إثبات عدم كون مسألة الاستصحاب فقهية : بان مجراها قد يكون حكما أصوليا كالحجية (1).

فهو لا يخلو عن غرابة ، إذ الشيخ رحمه اللّه قد تعرض إلى ذلك وبيّن انه قد يكون مجرى المسألة الفقهية مسألة أصولية ، كقاعدة نفي الحرج التي تجري في نفي الفحص عن المعارض للعموم إلى حد القطع بالعدم ، كما انها تجري في نفي الاحتياط في مقدمات دليل الانسداد (2) فتدبر.

الأمر الرابع : في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع. فانها جميعا تشترك في ثبوت اليقين والشك فقد يتخيل ان الدليل المتكفل لعدم نقض اليقين والشك يتكفل اعتبار هذه القواعد الثلاث ، فلا بد من بيان خصوصيات الفرق بينها موضوعا.

ثم يبحث عن شمول دليل الاستصحاب لها أو أنه يختص بالاستصحاب.

فنقول : اما الاستصحاب فموضوعه : ان يتعلق اليقين بشيء ويتعلق الشك في بقائه من دون اعتبار تقدم اليقين زمانا وعدمه.

واما قاعدة اليقين فموضوعها : ان يتعلق اليقين بشيء في زمان معين ثم يشك بعد ذلك في نفس ذلك الشيء بلحاظ ذلك الزمان ، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم زال ذلك اليقين وشك في يوم الاثنين انه عادل يوم الجمعة أو لا ، ويعبر عنه بالشك الساري. فمتعلق اليقين والشك أمر واحد بجميع خصوصياته ، وانما الاختلاف في زمان نفس اليقين والشك. على خلاف الاستصحاب ، فان متعلق اليقين والشك يختلفان زمانا وان اتحدا ذاتا.

ص: 14


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /385- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /320- الطبعة الأولى.

واما قاعدة المقتضي والمانع فموضوعها : ان يتعلق اليقين بوجود المقتضي للأثر ويشك في وجود المانع عنه ، فمتعلق اليقين والشك في هذه القاعدة مختلفان ذاتا ، كما لو فهم من لسان الأدلة ان ملاقاة الماء للنجس مقتضي للانفعال ، وان الكرية مانعة ، فلاقى ماء مشكوك الكرية شيئا نجسا ، فانه بناء على اعتبار قاعدة المقتضي والمانع - كما بنى عليها بعض المحققين - يلتزم في المثال بنجاسة الماء.

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد ذكر أدلة الاستصحاب البحث عن إمكان استفادة هاتين القاعدتين منها كما انه يبحث عن وجود دليل مستقل عليهما. فانتظر.

الأمر الخامس : في تقسيمات الاستصحاب.

وقد نوع الشيخ رحمه اللّه تقسيمات الاستصحاب بلحاظ نفس المستصحب من كونه وجوديا أو عدميا - وفي خصوص استصحاب عدم التكليف من العدميات كلام برأسه تقدمت الإشارة إليه في مسألة البراءة وسيجيء البحث عنه في البحث عن استصحاب الحكم الكلي إن شاء اللّه تعالى - ، أو كونه حكما شرعيا كليا أو جزئيا ، وكونه موضوعا خارجيا وغير ذلك. وبلحاظ الدليل الدال على المستصحب في زمان اليقين من كونه إجماعا أو غيره ، أو كونه دليلا عقليا أو شرعيا ، ونحو ذلك. وبلحاظ الشك في البقاء من كون منشئه الشك في المقتضي أو الشك في الرافع ونحو ذلك (1).

ولا يهمنا التعرض إلى هذه التقسيمات لوضوح بطلان بعضها بعد ملاحظة الأدلة ، انما المهم منها ثلاثة وقعت مورد النقض والإبرام من قبل المحققين.

ص: 15


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /322- الطبعة الأولى.

التقسيم الأول : التفصيل بين الحكم الشرعي المستفاد من العقل وغيره ، فلا يجري في الأول. وقد قربه الشيخ رحمه اللّه (1).

التقسيم الثاني : التفصيل بين الأحكام الكلية الشرعية وبين الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية ، فلا يجري في الأول وقد بنى عليه من المتأخرين السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (2).

التقسيم الثالث : التفصيل بين ما كان الشك ناشئا من الشك في المقتضي وبين ما كان ناشئا من الشك في الرافع ، فلا يجري في الأول. وقد بنى عليه الشيخ (3) وتابعة عليه غيره (4). وقد وقع الكلام في المراد بالمقتضي.

فلا بد من تحقيق الكلام في هذه الأقوال ولنتعرض الآن إلى.

التفصيل الأول

وقد يقرب بوجوه :

الوجه الأول : ان الحكم العقلي مبين مفصل محدد الموضوع ، باعتبار ان الحاكم لا يمكن ان يتردد في حدود حكمه ومقدار سعته. وعلى هذا يكون الحكم الشرعي المستند إليه معلوم الموضوع بحدوده ، وفي مثل ذلك يمتنع الاستصحاب.

اما لأجل انّ الشك في البقاء لا بد وان يكون ناشئا من الشك في بقاء الموضوع ، إذ لو كان الموضوع باقيا بخصوصياته لما حصل الشك ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا يصح إجراء الاستصحاب ، لما سيأتي من اعتبار بقاء الموضوع فيه.

ص: 16


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 36 - الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /328- الطبعة الأولى.
4- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 378 - الطبعة الأولى.

واما لأجل امتناع الشك في البقاء ، لأن الموضوع ان كان موجودا كان الحكم موجودا لا محالة ، وان لم يكن موجودا ارتفع الحكم لا محالة ، لارتفاع الحكم بعدم موضوعه ، فلو فرض ثبوت حكم شرعي والحال هذه فهو حكم جديد حادث لموضوع جديد ، لا بقاء لذلك الحكم.

وهذا التقريب يمكن رده :

اما دعوى ان الشك في بقاء الحكم لا بد وان يكون ناشئا من الشك في بقاء الموضوع بسبب احتمال تغير بعض ما له دخل في الحكم. فتندفع : بان الموضوع الّذي يعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هو الموضوع العرفي وما يراه العرف معروضا للحكم بحسب مناسباته الذهنية دون الموضوع الدقي العقلي وهو كل ما له دخل في الحكم.

ومن الواضح ان الموضوع بنظر العرف قد يكون باقيا حتى مع الجزم بزوال بعض الخصوصيات الملحوظة في حدوث الحكم ، فضلا عن صورة احتمال زوالها ، لأنها بنظره جهة تعليلية لا تقييدية.

واما دعوى امتناع الشك في البقاء بالبيان المتقدم. فتندفع بما أفاده في الكفاية وتبعه غيره من ان زوال حكم العقل بزوال بعض الخصوصيات المقومة للحكم بنظره لا يستلزم زوال حكم الشرع في تلك الحال ، لاحتمال انّ الخصوصية الزائلة غير دخيلة في ملاك الحكم واقعا ، وقد اطلع الشارع على ذلك لإحاطته بالأمور فيكون حكمه باقيا لبقاء ملاكه ، ولم يطلع العقل عليه لقصور إدراكه فلم يحكم عند زوالها. ولا ينافي ذلك الالتزام بالملازمة بين الحكمين ، إذ المقصود بها الملازمة بينهما في مقام الإثبات لا مقام الثبوت ، فلا يمتنع ان يحكم الشارع بشيء من دون ان يحكم به العقل ، فتدبر (1).

ص: 17


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /386- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجه الثاني : ان الخصوصيات المأخوذة في الحكم العقلي كلها خصوصيات تقييدية مأخوذة في الموضوع قيدا ولم تلحظ علة لثبوت الحكم لمعروضه ، فموضوع الحكم العقلي بقبح الصدق في حال الإضرار ، هو الصدق بقيد كونه مضرا ، لا ان موضوعه هو الصدق وعلته الإضرار.

وعليه ، فالشك في بقاء الخصوصية يستلزم الشك في الموضوع قهرا.

وهذا الوجه وان لم يذكر في الكلمات في المقام ، لكن يمكن ان يستفاد من بعض كلمات المحقق الأصفهاني في مبحث مقدمة الواجب (1) ، حيث التزم هناك بان عنوان المقدمية جهة تقييدية لا جهة تعليلية كما يراه صاحب الكفاية (2).

وعلى كل فيمكن التنظر فيه من جهتين :

الأولى : ان الأساس الّذي يبتني عليه ليس من المسلمات ، فان هناك من لا يرى ان جميع الخصوصيات ملحوظة جهات تقييدية في موارد الأحكام العقلية.

الثانية : انه لو سلم ذلك ، فهذا لا ينفع بعد ما عرفت من ان المدار في الموضوع على نظر العرف لا نظر العقل ، فكون الخصوصية تقييدية بنظر العقل لا يجدي إذا لم تكن كذلك بنظر العرف ، بل كانت من طوارئ الموضوع وحالاته بنظره.

نعم ، لو قلنا بان المدار على الموضوع المأخوذ في دليل الحكم لأجدى ما ذكر ، إذ دليل الحكم على الفرض هو العقل ، والمفروض ان الخصوصية بحسبه مقومة.

الوجه الثالث : دعوى ان الخصوصية المتبدلة أو المشكوكة مقومة بنظر العرف ، فلا مجال للاستصحاب حينئذ. وذلك بأحد بيانين :

البيان الأول : ان الكلام فيما نحن فيه في الأحكام العقلية المستتبعة لحكم

ص: 18


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 347 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرع - بناء على الملازمة - ، وهي تختص بأحكامه في باب التحسين والتقبيح.

وعليه فنقول : ان كل خصوصية تكون دخيلة في حكم العقل بالحسن أو القبح ، فهي تكون قيدا لفعل المكلف المحكوم بالحسن أو القبح لا قيدا في الموضوع. وبعبارة أخرى : ان الخصوصيات المأخوذة في حكم العقل العارض على فعل المكلف مأخوذة قيدا لمتعلق الحكم لا لموضوعه ، فلا محالة يتقيد متعلق الحكم الشرعي المستكشف عن الحكم العقلي بتلك الخصوصيات تبعا للحكم العقلي.

فإذا حكم العقل بقبح الصدق الضار ، كان متعلق الحكم الشرعي بالحرمة هو الصدق المضر.

وقد تقرر ان كل خصوصية تؤخذ في المتعلق تكون مقومة بنظر العرف ، وليس الحال فيه كالحال في الموضوع. فمع الشك في تلك الخصوصية يمتنع الاستصحاب ، وسيأتي بيان هذه الجهة في محله.

البيان الثاني : ان الحكم العقلي بالقبح لم يتعلق بالصدق - مثلا - حال إضراره كي يقع الكلام في ان جهة الضرر مقومة عرفا أو ليست مقومة ، بل ليس لدينا إلاّ الحكم العقلي بحسن الإحسان وقبح الظلم. والحكم بقبح الصدق المهلك أو حسن الكذب النافع ، من باب ان الأول مصداق الظلم القبيح عقلا والثاني مصداق الإحسان الحسن عقلا ، لا ان الحكم العقلي بالقبح تعلق بالصدق مباشرة بملاحظة إضراره.

اذن فمتعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية ، وهذه الأفعال مصاديق للخصوصية ويتبعه في ذلك الحكم الشرعي ، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان.

وعليه ، فمع الشك في بقاء الخصوصية يشك في ثبوت متعلق الحكم مباشرة فلا معنى للاستصحاب. فهو نظير استصحاب حرمة ما ثبت حرمته بالدليل

ص: 19

الشرعي عند الشك في انطباق موضوع الحرمة عليه ، كما لو كان كلام كذبا ، ثم شك في أنه كذب أو ليس بكذب ، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته مع الشك المزبور.

وهكذا الحال في الشبهة الحكمية كما لو فرض زوال عنوان الظلم عن الصدق ، ومع هذا احتمل ان يبقى على حرمته ، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته ، إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعا ، والصدق فعلا ليس من افراده جزما ، فيمتنع صدق البقاء. فتدبر.

وهذا الوجه ببيانيه متين لا دافع له ، وهو مما يمكن استفادته من عبارة الشيخ رحمه اللّه خصوصا بالبيان الأول - لقوله : « لأن الجهات المقتضية للحكم العقلي للحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف » - وان كانت لا تخلو عن نوع إجمال (1).

ومنه تعرف بعد ما أفاده صاحب الكفاية وغيره عنه وعدم ارتباطه به.

وبالجملة : التأمل في كلام الشيخ يقتضي ان يستظهر ان مراده ما ذكرناه ، لا ما فهمه الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) واللّه سبحانه العاصم العالم.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية المصداقية.

إلا انه قد يتخيل في موارد الشبهة المصداقية التمسك بالاستصحاب الموضوعي فيحرز به بقاء الخصوصية للفعل ، فيقال : كان الصدق مضرا فالآن كذلك ، وبذلك يثبت له الحكم.

ولكنه تخيل فاسد ، إذ هذا الاستصحاب من الاستصحاب التعليقي ، لأن الخصوصية انما تعرض على الفعل عند وجوده ، فالصدق انما يكون مضرا إذا وجد ، فالذي يقال في مقام الاستصحاب : كان الصدق مضرا لو وجد فالآن

ص: 20


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.

كذلك.

والاستصحاب التعليقي وان كان مثار خلاف ، لكن ذلك في الاستصحاب الحكمي ، اما الموضوعات فلا يلتزم بصحة الاستصحاب التعليقي فيها بالاتفاق ، فمن يقول بالاستصحاب التعليقي في الأحكام لا يقول به في الموضوعات.

وقد أطال المحقق العراقي قدس سره في بيان كلام الشيخ ومناقشته (1). وأنت إذا لاحظت ما ذكرناه تعرف ان ما أفاده قدس سره أجنبي عن كلام الشيخ فراجع تعرف.

الوجه الرابع : ان المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ذهب إلى منع جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من حكم العقل ، لكن ببيان آخر غير ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بالتوجيه الّذي عرفته.

فقد أفاد قدس سره : انه مع الشك في الخصوصية يقطع بزوال الموضوع ، وهو مستلزم للقطع بزوال الحكم ، بيان ذلك : ان الحكم العقلي بالقبح ليس متعلقه هو الفعل مع الخصوصية بوجودها الواقعي ، بل بوجودها العلمي ، فالصدق المضر المعلوم إضراره قبيح ، لا ذات الصدق المضر وان لم يعلم إضراره ، والوجه فيه : ان القبح لا يتعلق إلاّ بالفعل الاختياري الصادر عن التفات وعمد وقصد ، فلا يثبت الا في مورد العلم.

وعليه ، فمع الشك في بقاء خصوصية الإضرار يقطع بعدم موضوع القبح ، وهو العلم بالضرر ، فيعلم بعدم القبح العقلي ويتبعه عدم الحكم شرعا لانتفاء مناطه (2).

ويتوجه عليه قدس سره أمور :

الأمر الأول : ظاهر كلامه اختصاص الكلام في الشبهة الموضوعية ، وقصر

ص: 21


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 19 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية.3/ 9 - 10 - الطبعة الأولى.

الكلام على الشبهة الموضوعية دون الحكمية بلا وجه. والوجه الّذي ذكره لا يتأتى في الشبهة الحكمية ، بل يختص بالشبهة الموضوعية ، إذ ليس منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو الشك في بقاء الخصوصية كي يقال ان العلم بالخصوصية دخيل وهو مفقود مع الشك ، بل يعلم بزوال الخصوصية ، وانما يشك في بقاء الحكم لاحتمال ان الخصوصية تأثر بحدوثها في بقاء الحكم ، فلا بد في نفي الاستصحاب في الشبهة الحكمية من الالتزام بأن الخصوصية علة حدوثا لا بقاء.

وبالجملة : الملاك الّذي ذكره في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لا يتأتى في الشبهة الحكمية. كما لا يخفى ، فلاحظ.

الأمر الثاني : ان ما أفاده من زوال الموضوع جزما عند الشك في الخصوصية غير تام ، إذ إناطة القبح بالفعل الاختياري مسلم لكن الاختيار والقصد لا يتوقف على العلم ، بل يتوقف على مجرد الالتفات المتحقق عند الشك ، فمثلا لو رأى شخص شبحا وتردد انه إنسان أو جدار فوجه إليه بندقته ورماه برصاصة فتبين انه إنسان وقتل بتلك الرمية ، فانه يترتب على فعله آثار الفعل الاختياري العقلية والشرعية مع عدم علمه بأنه قتل وظلم.

وعليه ، فمع الشك في ان الصدق مضر أو لا ، لا يقطع بزوال الموضوع لتحقق الالتفات والقصد معه. فتدبر.

الأمر الثالث : سلمنا أخذ العلم في الموضوع وزواله عند الشك ، لكن لا بد من تحقيق ان هذه الخصوصية الزائلة هل هي مقومة بنظر العرف أو ليست مقومة ، ومجرد دخلها في موضوع الحكم العقلي لا أثر له من هذه الناحية ، ولا يستلزم منع الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم والحالة هذه. فالتفت.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه ذكر : ان لا فرق في عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية بين ان تكون وجودية أو عدمية ، مع استناد العدم إلى القضية العقلية ، كعدم وجوب الصلاة على ناسي

ص: 22

السورة ، فانه لا يجوز استصحابه عند زوال النسيان ، ولا وجه للتمسك به في إثبات الاجزاء (1) كما صدر عن بعض.

نعم لو لم يكن العدم مستندا إلى القضية العقلية ، وان كان في موردها ، فلا بأس باستصحابه كاستصحاب البراءة والنفي.

كما ان المحقق الأصفهاني ( قده ) بعد ان ذكر ما تقدم منه ، واختار التفصيل بين أحكام العقل النظريّ فيجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إليه ، وأحكام العقل العملي فلا يجري الاستصحاب للبيان المتقدم ، قال :

« ثم انه لا فرق فيما ذكرنا منعا وجوازا بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم إذا كانا مستندين إلى القضية العقلية التي مفادها حكم العقل العملي ، كاستصحاب الوجوب والحرمة المستندين إلى حسن الفعل وقبحه. واستصحاب عدم الوجوب والحرمة إذا استند إلى قبح تكليف غير المميز إيجابا وتحريما ... » (2).

أقول : يرد على الشيخ رحمه اللّه ان استصحاب عدم الوجوب المترتب سابقا على النسيان يختلف عما أفاده سابقا ، فانه وان كان مورد النسيان يشترك مع ما تقدم في ثبوت الحكم بالقبح ، إلاّ ان القبح هناك متعلق بفعل المكلف ، وقد عرفت ان الخصوصية الدخيلة في القبح اما من قيود الفعل المتعلق واما هي نفس المتعلق. والقبح هنا متعلق بفعل المولى الشارع ، ولا يخفى ان المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع لا من قبيل المتعلق. اذن فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلقه.

وعليه ، فلا يتأتى الوجهان السابقان في منع الاستصحاب هاهنا ، لأنهما يتفرعان عن كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي ، اما نفس المتعلق أو دخيلة فيه. وليس النسيان كذلك.

ص: 23


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.
2- الأصفهانيّ المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 11 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يظهر انه لا يظهر عدم جريان الاستصحاب في مورد النسيان مما ذكره سابقا ، بل لا بد من تحقيق ان النسيان مقوم للموضوع عرفا أو لا؟.

ومن هنا يتبين الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، فان الحكم بقبح تكليف الناسي وان كان من حكم العقل العملي ، لكن ما تقدم يرتبط بما إذا كان حكم العقل العملي يرتبط بعمل المكلف نفسه. وقد عرفت ان متعلق القبح هاهنا هو فعل المولى ، ولا يتأتى فيه ما تقدم ، إذ أي معنى لأن يقال هاهنا انه مع الشك في الخصوصية يعلم بزوال الموضوع لتقومه بالعلم ومع الشك لا علم؟ ، فانه لا يتصور الشك بالنسبة إلى اللّه سبحانه.

نعم ، نحن نشك فيما هو فعل اللّه سبحانه من التكليف وعدمه عند الشك في الخصوصية.

وما أفاده قدس سره أجنبي عن عدم جريان الاستصحاب في ذلك ، فتدبر ولا تغفل.

ثم انه يمكن الالتزام بجريان استصحاب عدم التكليف في مورد النسيان ولو مع فرض خصوصية النسيان خصوصية مقومة للموضوع أو للمتعلق ، مع قطع النّظر عما تقدم في البراءة من المناقشة في استصحاب عدم التكليف بقول مطلق ولو لم يستند إلى القضية العقلية.

وذلك بوجهين :

الأول : استصحاب عدم الجعل بلحاظ حال ما قبل الشرع بتقريب : انه قبل الشرع لم يكن هناك جعل بالنسبة إلى هذا الموضوع الخاصّ وهو الشخص بعد زوال نسيانه ، وبعد الشرع يشك في ثبوت الجعل بالنسبة إليه فيستصحب عدمه.

وقد تقدمت الإشارة إليه في مبحث الأقل والأكثر (1) وسيجيء تحقيقه في

ص: 24


1- راجع 5 / 230 من هذا الكتاب.

مبحث جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، حيث ادعى : معارضتها باستصحاب عدم الجعل.

الثاني : استصحاب عدم المجعول بالنسبة إلى الموضوع الخاصّ بمفاد ليس التامة بتقريب : ان هذا الموضوع الخاصّ وهو المكلف بعد زوال نسيانه لم يكن الحكم الفعلي في حقه ثابتا قبل تحققه ، فالحكم الفعلي للمتعلق له منتف لانتفاء موضوعه ، وبعد وجوده وتحققه يشك في ثبوت حكم فعلي له ، فلا يمكن ان يقال : هذا الشخص لم يكن التكليف في حقه ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتيّ - ، إذ لا حالة سابقه له ولكن يمكن ان يقال : الوجوب المتعلق بهذا الشخص لم يكن ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس التامة المعبر عنه بالعدم المحمولي - نظير إجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية المتقدم بيانه في مبحث العموم والخصوص (1) ، وان لم يكن منه اصطلاحا. ويترتب على هذا الأصل عدم لزوم الامتثال عقلا. فتدبر.

والمتحصل : ان استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح لا نلتزم بجريانه تبعا للشيخ ، لكن في غير ما كان من قبيل حكم العقل بقبح تكليف الناسي ، بل في غير الحكم العدمي مطلقا ، لإمكان إجراء الاستصحاب في العدمي بالتقريبين المتقدّمين ، ولا إشكال فيه من ناحية استناده إلى الحكم العقلي.

وورود الإشكال فيه من ناحية أخرى لو ثبت ، كلام آخر أجنبي عما نحن فيه.

هذا تمام الكلام في هذا التفصيل.

واما باقي التفصيلات فسيأتي البحث فيها بعد أدلة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 25


1- راجع 3 / 365 من هذا الكتاب.

الأمر السادس : لا يخفى ان المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء. وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى بيان ان المراد : هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات ، فلو لم يكن ملتفتا لم يجر الاستصحاب وان فرض حصول الشك له على تقدير الالتفات.

وفرع على ذلك فرعين :

الفرع الأول : ان المتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق وشك في بقاء الحدث وعدمه جرى الاستصحاب في حقه ، فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة ، ولا تجري في حقه قاعدة الفراغ المصححة للعمل ، لكون مجراها الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

الفرع الثاني : ان المتيقن للحدث لو غفل عن حاله وصلى ثم التفت بعد الصلاة وشك في انه تطهر قبل الصلاة أو لا؟ ، تجري في حقه قاعدة الفراغ ، لأن الشك حادث بعد العمل لا قبله ، كي يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول في الصلاة بدونها.

نعم ، هذا الشك المتأخر يوجب الإعادة بحكم الاستصحاب ، لكنه محكوم لقاعدة الفراغ (1).

وهذا المطلب بعينه ذكره في الكفاية في التنبيه الأول ، ولكنه في الفرض الأول حكم ببطلان الصلاة لكونه محدثا بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي (2).

ولم يتعرض لقاعدة الفراغ فيه بقليل ولا بكثير ، فكان عدم جريانها فيه مفروغ عنه لديه.

أقول : لا بد من التنبيه على أمور ثلاثة يتضح بها ان ما أفاده الشيخ في غير محله.

ص: 26


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /321- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /404- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الأول : ان اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب وعدم الاكتفاء بالتقدير له طريقان :

أحدهما : عرفي ، وهو دعوى ان ظاهر دليل الاستصحاب اعتبار الشك في موضوعه ، وظاهر كل امر مأخوذ في الموضوع إرادة الفرد الفعلي منه ، فإذا قال : « أكرم العالم » ، كان ظاهره عرفا إكرام المتصف بالعلم فعلا لا فرضا وتقديرا. ولذا قيل أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه.

وعليه فالظاهر من دليل الاستصحاب عرفا إرادة الشك الفعلي.

ثانيهما : عقلي ، وهو دعوى ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل حكم ظاهري أصولي يقصد به رفع الحيرة في مقام العمل ، وما كان كذلك ، لا يثبت إلاّ مع الالتفات ، إذ بدون الالتفات لا حيرة في التكليف ولا معنى لتنجيز الواقع عليه أو التعذير عنه.

وعليه ، نقول ان كان نظر الشيخ ، وصاحب الكفاية في اعتبار فعلية الشك إلى الوجه الثاني العقلي. فيرد عليهما : ان الاستصحاب لا يجري مع زوال الالتفات ، بل لا بد في استمرار جريانه من استمرار الالتفات. وعليه فلا فرق بين الفرضين في عدم كون المكلف مجريا لاستصحاب الحدث حال الصلاة ، لأنه غافل عن الحدث حالها. فالتفرقة بينهما في غير محلها.

وان كان نظرهما إلى الوجه الأول العرف - كما هو الظاهر لالتزامهما بجريان الاستصحاب مع الشك ثم الغفلة عنه وقد عرفت ان هذا لا يتم على الوجه الثاني مع ان الجهة الثانية راجعة إلى الشرائط العامة للتكليف ، فان من الشرائط العامة عدم الغفلة ، وهو أجنبي عن خصوص الاستصحاب ، فلا يناسب تخصيص الكلام به - ، فالفرق بين الفرضين وان كان موجودا ببيان انه في الفرض الأول وان عرضت الغفلة بعد الشك ، لكن ذلك لا ينافي استمرار الشك بوجود ارتكازي ، كسائر الصفات النفسيّة من الإرادة والعلم التي يكون لها وجود ارتكازي يجامع الغفلة بعد حدوثها عن التفات ، فيكون الشك موجودا

ص: 27

ارتكازا ، فيكون مجرى الاستصحاب حال الصلاة.

لكن يرد عليهما - على هذا التقدير : - ان هذه الدعوى تتم بناء على الالتزام بموضوعية اليقين والشك بما هما وصفان في باب الاستصحاب ، بحيث يتعلق الجعل بوصف اليقين.

اما بناء على الالتزام بان المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل ، أو الملازمة بين الحدوث والبقاء - كما يظهر من صاحب الكفاية - (1) المعبر عنها في كلام البعض بان الحادث يدوم ، بحيث لا يكون لليقين والشك موضوعية ، بل هما طريقان للمتيقن والمشكوك. فلا يتم هذا الكلام ، لأن اليقين والشك لا موضوعية لهما ، بل يكون الاستصحاب حكما ظاهريا ثابتا في الواقع للحادث عند حدوثه ، مع قطع النّظر عن اليقين والشك. نعم ، اليقين طريق إليه كسائر الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها.

وبالجملة : لا موضوعية للشك حتى يبحث في ان المراد به الشك الفعلي أو التقديري.

الأمر الثاني : انه قد وقع الكلام في انه هل تجري قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة عن المشكوك حال العمل ، أو يختص جريانها بصورة الشك في عروض الغفلة له؟.

فنقول : انه بناء على الثاني وعدم جريانها في صورة العلم بالغفلة لا مجال لقاعدة الفراغ في كلا الفرضين ، إذ المفروض فيهما معا غفلة المكلف حال العمل ، ومعه ، لا تجري قاعدة الفراغ جرى الاستصحاب في حقه أو لم يجر فلا يكون التفريع المزبور متجها على هذا المبنى الّذي لا يخلو من قوة.

الأمر الثالث : انه من المسلم لدى الكل ان قاعدة الفراغ انما تجري في مورد الشك الحادث بعد العمل ، اما إذا حدث قبل العمل فلا تجري فيه قاعدة

ص: 28


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الفراغ لقصور دليلها كما يبين في محله.

وعليه ، نقول : ان قاعدة الفراغ في الفرض الأول لا تجري لأجل حدوث الشك قبل العمل بلا ارتباط بجريان الاستصحاب وعدمه ، فالحكم ببطلان الصلاة استنادا إلى الاستصحاب السابق على العمل وعدم جريان قاعدة الفراغ بسببه غير سديد ، بل الصلاة باطلة بمجرد عدم جريان القاعدة سواء جرى الاستصحاب قبلها أم لا؟. إما لأجل قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب اللاحق.

هذا ولكن التحقيق يقتضي ان الشك الحادث بعد في الفرض الأول شك بعد العمل لا قبله ، وذلك لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشئ من الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الاجزاء والشرائط.

ولأجل هذه الجهة منع البعض من كون قاعدة الفراغ قاعدة برأسها في قبال قاعدة التجاوز ، فانه ما من مورد يشك في صحة العمل فيه الا وكان السبب فيه الشك في إتيان الجزء والشرط في محله ، وهو مجرى قاعدة التجاوز ، فلا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ ، لأن الشك فيها مسبب عما هو موضوع لقاعدة التجاوز (1).

وقد حاول آخرون تصحيح تعدد القاعدة (2) والبحث موكول إلى محله.

والمهم بيان : ان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، لا الشك في وجود الجزء أو الشرط.

وعليه ، نقول : انه إذا التفت إلى انه محدث أو متطهر - قبل العمل - وأجرى الاستصحاب ، ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل ، فهو في أثناء العمل ليس شاكا في صحة العمل ، لغفلته ، وشكه الارتكازي حال الغفلة انما هو في

ص: 29


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 467 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 279 الطبعة الأولى.

حدثه وطهارته ، وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به ، فإذا التفت بعد الفراغ ، فشكه في صحة العمل شك حادث بعد العمل لا في أثنائه ، فيكون مقتضى القواعد مجرى لقاعدة الفراغ ، ولا فرق بين الفرضين على هذا البيان.

فتعليل عدم جريان قاعدة الفراغ بكون الشك حادثا أثناء العمل - كما أفاده الشيخ (1) - في غير محله. فالوجه الصحيح في نفي جريان قاعدة الفراغ والحكم ببطلان العمل في الفرض المزبور هو ان يقال : ان الشك الّذي يكون مجرى لقاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، بمعنى الشك في مطابقة ما أتي به للمأمور به واما مع العلم بعدم مطابقته لما هو الوظيفة الفعلية عليه ولما هو متعلق الأمر ، فلا مجال لقاعدة الفراغ للعلم ببطلان العمل بحسب الوظيفة الفعلية. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ما التفت وأجرى استصحاب الحدث كان مأمورا بالطهارة ، وكان محكوما ببطلان صلاته لو جاء بها بحالته التي هو فيها بلا وضوء. وعليه فإذا التفت بعد العمل إلى ذلك فلا شك لديه في صحة العمل ، بل يعلم بمخالفة عمله لما هو مقتضى الوظيفة الفعلية عليه ، ومثله يكون باطلا.

ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية ، من التزامه ببطلان العمل للحدث الاستصحابي (2).

وأما دعوى : ان الحكم الظاهري مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير ، وذلك غير معقول مع الغفلة. إذن فلا يمكن أن يجري الاستصحاب في حال غفلته عن الحدث (3).

فهي قابلة للدفع ، ببيان : ان المستصحب لو كان من الأحكام التكليفية امتنع أن يجري الاستصحاب حال الغفلة ، لعدم قابليته للدعوة والتحريك

ص: 30


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /321- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /404- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 351 - الطبعة الأولى.

والتنجيز. وليس الحال كذلك في الأحكام الوضعيّة ، فانها يمكن ان تحصل في حال الغفلة. والحدث حكم وضعي ، فكما ان الحدث الواقعي يثبت في حق الغافل عنه ولا يزول بغفلته ، كذلك الحدث الظاهري لا مانع من ثبوته في حق الغافل ، إذ لا تنجيز بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه في حال الغفلة ، ويترتب عليه عملا ثبوت المانع للصلاة المأتي بها بحيث لا تكون مطابقة ، للأمر الواقعي ، أعني ما هو متعلق الإرادة ومورد الغرض وان لم يكن أمر فعلي في حق الناسي الغافل ، كما هو الحال لو كان محدثا واقعا ، ولكنه كان غافلا ، فانه يحكم ببطلان عمله ، لعدم مطابقته للمأمور به ، ولا يراد به الأمر الفعلي لعدم ثبوته في حق الغافل ، بل يراد به الأمر الواقعي الاقتضائي ، أو نفس الإرادة الواقعية.

وهذا المعنى الّذي ذكرناه يكفي مصححا لجريان الاستصحاب ولو كان غافلا عن الحدث ، فانه أثر عملي معتد به. فتدبر جيدا ولا تغفل ، واللّه سبحانه العالم العاصم.

ص: 31

ص: 32

( أدلة الاستصحاب )

اشارة

ويقع الكلام بعد ذلك في أدلة الاستصحاب.

الدليل الأول : دعوى استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، وبضميمة عدم الردع عنه شرعا ، يثبت إمضاء الشارع له بل ادعي قيام سيرة ذوي الشعور من أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.

وناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : ان المطلوب إثبات بناء العقلاء على ذلك تعبدا ، وهو غير ثابت ، بل يمكن ان يكون بناؤهم رجاء واحتياطا في مورد موافقة العمل للاحتياط ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا نوعيا ، أو غفلة عن احتمال الزوال كما هو الحال في الحيوانات وفي الإنسان في بعض الأحيان. اما بناؤهم على ذلك في غير مورد الاطمئنان والظن ومخالفة العمل للاحتياط فلم يثبت.

الوجه الثاني : انه لو سلم ثبوت بناء العقلاء التعبدي على العمل بالحالة السابقة ، فهو ليس بحجة ما لم يثبت الإمضاء شرعا ، وهو غير ثابت ، لكفاية ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم في الردع عن مثل ذلك (1).

ص: 33


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /387- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أقول : تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد الاستدلال بالسيرة على حجية الخبر. ومناقشة دعوى ثبوت الردع عنها بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم : بان رادعية الآيات للسيرة يستلزم الدور ، لأن الأخذ بعموم الآيات يتوقف على عدم تخصيصه بالسيرة ، وعدم تخصيصه بها يتوقف على ثبوت الردع عنها.

وذكر هناك : ان الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة أيضا دوري ، لأنه يتوقف على عدم الردع عنها ، وهو يتوقف على تخصيص السيرة للعموم. لكنه ذكر : بان الدور وان تحقق من كلا الطرفين ، لكنه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع ولا يعتبر ثبوت عدمه (1).

وقد نسب إليه وجه آخر ذكره في الحاشية على قوله : « فتأمل » هناك. ملخصه : انه يمكن الرجوع في إثبات الإمضاء وعدم الردع إلى الاستصحاب ، إذ العمل بخير الواحد قبل نزول الآيات كان موردا للإمضاء ، فكان حجة ، فمع الشك في رادعية الآيات يستصحب حجيته (2).

والخلاصة : ان له هناك وجهين لنفي رادعية الآيات وإثبات حجية السيرة :

أحدهما : عدم ثبوت الردع عنها بعد ثبوت الدور في تخصيص السيرة للعموم ، وفي عموم الآيات للسيرة لتوقف كل منهما على عدم الآخر.

والآخر : الرجوع إلى استصحاب الحجية الثانية قبل نزول الآيات الكريمة.

ولا يخفى ان التزامه بحجية السيرة القائمة على العمل بالخبر استنادا إلى الوجه الثاني لا ينافي عدم التزامه بحجية السيرة في باب الاستصحاب ، إذ لا يمكن الاستناد إلى الاستصحاب مع الشك في رادعية الآيات عن السيرة

ص: 34


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /-303- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- هامش كفاية الأصول 2 / 101.

القائمة عليه ، لأنه هو موضوع الشك في الإمضاء ومحل الكلام فعلا. وهو واضح جدا.

نعم ، قد يرد عليه : انه كما لا يمكن التمسك بالاستصحاب هنا لا يمكن التمسك به هناك ، إذ مستند الاستصحاب لديه ليس إلا الأخبار وهي لا تخرج عن كونها اخبار آحاد ، فيرجع إلى الاستدلال على حجية الخبر بما لم يثبت إلا بخبر الواحد.

واما الوجه الأول : فهو مما يمكن تطبيقه هنا ، إذ إشكال الدور يتأتى بعينه هنا ، ونتيجته عدم ثبوت الردع ، وهو مما يكتفي به في الإمضاء.

هذا ، ولكنك عرفت فيما تقدم تقريب رادعية الآيات عن السيرة وعدم صلاحية السيرة للتخصيص ، وان المخصص ليس هو السيرة بعنوانها ، بل هو القطع بالإمضاء المنتفي مع احتمال الردع بالآيات ، فليس هناك ما يعارض عموم الآيات وما يتوقف الردع بها على عدمه كي يلزم الدور ، لأن المخصص معلوم العدم.

وتقدم نفي جميع ما قيل في نفي صلاحية الآيات للردع من دعوى الانصراف والحكومة فراجع تعرف (1).

وعليه : فبناء العقلاء على العمل بالاستصحاب لو تم صغرويا ، فهو غير حجة. للردع عنه بالآيات الناهية عن العمل بغير علم. فتدبر.

الدليل الثاني : ان الثبوت في السابق يوجب الظن بالثبوت في الزمان اللاحق ، فيجب العمل به.

وقد ناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء ، سواء أريد الظن

ص: 35


1- 4/ 299 من هذا الكتاب.

الشخصي أو النوعيّ. فانه لا وجه لهذه الدعوى سوى دعوى غلبة البقاء فيما يثبت ، وهي غير معلومة.

الوجه الثاني : انه لو سلم اقتضاء الثبوت للظن بالبقاء فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، فلا يكون حجة ، بل الدليل على عدم اعتباره لعموم ما دل على النهي عن العمل واتباع الظن (1).

أقول : الّذي يبدو للنظر ان دعوى حصول الظن بالبقاء بواسطة الغلبة لا ترجع إلى محصل فضلا عن عدم ثبوتها.

وذلك لأن الشك في البقاء اما ان ينشأ من الشك في مقدار اقتضاء المقتضي وقابليته. واما ان ينشأ من الشك في وجود الرافع مع إحراز المقتضي واستعداد ذات الثابت أولا للبقاء.

اما في الأول : فلان غاية ما يمكن ان يقال : ان الثابت في ماله مقتضي البقاء هو بقاؤه بمقدار استعداد مقتضية واقتضائه مع اجتماع سائر اجزاء علته. وأي ربط لهذا في إثبات الظن في بقاء ما لا يعلم كيفية اقتضاء مقتضية وأنه بأي نحو؟. مثلا : إذا ثبت ان المقتضي للدار المبنية بالإسمنت يقتضي بقاءها خمسين سنة ، والمقتضي للدار المبنية بالطين يقتضي بقاءها خمس سنوات ، ولم يعلم مقدار اقتضاء مقتضي الدار المبنية بالجص ، وأنه هل يقتضي بقاءها عشرين سنة أو عشر سنين؟.

فإذا علم ببناء دار من الجص وبعد عشر سنوات شك في بقائها للشك في مقدار استعدادها للبقاء ، فهل هناك محصل لأن يقال : ان ما ثبت يدوم بملاحظة غلبة استمرار ثبوت ما له اقتضاء الاستمرار؟ ، وأي ربط لذلك بعد ملاحظة اختلاف الأمور والموجودات في مقدار استعدادها للبقاء طولا وقصرا؟.

ص: 36


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما في الثاني : فلان دعوى الظن بالبقاء ترجع إلى دعوى الظن بعدم الرافع ، وهي تبتني على دعوى غلبة عدم الرافع في موارد تحقق الموجودات ، وهذه الدعوى لا وجه لها ولا مستند تستند عليه ، فهي دعوى جزافية ، مع انها لا تتأتى في ما إذا كان الشك في رافعية الموجود ، الّذي هو من أقسام الشك في الرافع.

الدليل الثالث : الإجماع فقد حكي عن المبادي انه قال : « الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على انه متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بان الاستصحاب حجة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » (1) ، كما نقل عن غيره.

والإشكال في هذا الوجه واضح كما في الكفاية (2).

إذ الإجماع - ويراد به اصطلاحا الاتفاق المستكشف منه قول المعصوم علیه السلام ، لا مجرد الاتفاق الحاصل بين الفقهاء - اما محصل أو منقول ، وكلاهما لا أساس له هاهنا.

أما المحصل : فتحققه ممنوع في مثل هذه المسألة مما اختلفت فيها المباني والوجوه ، فانه لا يكون تعبديا كاشفا عن قول المعصوم علیه السلام ، مع تحقق الخلاف من كثير ، حيث ذهبوا إلى منع حجيته.

وأما المنقول : فهو مضافا إلى عدم حجيته في نفسه ، غير تام للعلم بثبوت الخلاف كما عرفت.

والمتحصل : ان جميع هذه الوجوه لا تنهض لإثبات حجية الاستصحاب.

والعمدة في الاستدلال عليه هو النصوص المتعددة :

منها : صحيحة زرارة قال : « قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟. فقال علیه السلام : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب

ص: 37


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت : فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟. قال علیه السلام : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وانما - لكن ( التهذيب ) - ينقضه بيقين آخر » (1).

وقد اتفق الأعلام على عدم كون الإضمار مخلا بالاستدلال ، للعلم بان المراد من الضمير هو الإمام علیه السلام ، لأن الراوي هو زرارة ، وهو من الجلالة والقدر بمكان بحيث يعلم انه لا يسأل من غير الإمام علیه السلام .

ولا يخفى ان سؤاله الأول عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء سؤال عن شبهة حكمية ، إما لاشتباه مفهوم النوم لديه وتردده بين الأقل والأقل والأكثر وشموله للخفقة والخفقتين. واما للشك في كون الخفقة أو الخفقتين ناقضا مستقلا.

وعلى أي حال ، فليست هذه الفقرة محل الاستدلال بالرواية ، وانما محل الاستدلال بها هو قوله : « وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ... » الواقع في مقام الجواب عن السؤال عن حكم ما إذا حرك في جنبه شيء ولم يعلم به ، الظاهر في كونه سؤالا عن شبهة موضوعية للشك في تحقق النوم الناقض ، وهو نوم الاذن والقلب.

ولتحقيق الحال في مفاد هذه الفقرة ودلالتها على الاستصحاب لا بد من التعرض لمحتملات مفادها وتشخيص ما هو الأصح منها ، فنقول : المحتملات التي أشار إليها الشيخ رحمه اللّه . وتبعه صاحب الكفاية ثلاثة :

الاحتمال الأول : ما قربه قدس سره من ان الجزاء لقوله : « وإلاّ » محذوف ، وقوله : « فانه على يقين ... » علة للجزاء قامت مقامه لدلالته عليه ، فالتقدير : « وإلاّ فلا يجب عليه الوضوء ، لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض

ص: 38


1- وسائل الشيعة 1 / 174 ، حديث : 1.

اليقين أبدا بالشك ».

وذكر قدس سره : ان قيام العلة مقام الجزاء لا يحصى كثرة في القرآن وغيره مثل قوله تعالى : ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) (1) وقوله : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) (2) وغيرهما.

الاحتمال الثاني : ان يكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » هو الجزاء بان يكون جملة خبرية أريد بها الإنشاء جدا ، ككثير من الجمل الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء.

الاحتمال الثالث : ان يكون الجزاء هو قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » ويكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » توطئة وتمهيدا لذكر الجزاء ، فيكون المراد : « وان لم يستيقن أنه نام ، فحيث أنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك » (3).

وهنا احتمال رابع قربه المحقق الأصفهاني ، وهو ان يكن قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جزاء مع التحفظ على ظهوره في مقام الاخبار جدا ، فيكون خبرا محضا مع كونه جزاء بنفسه (4).

إذا عرفت هذه المحتملات في الرواية فلا بد من معرفة ما هو الصحيح والمتعين منها ، ثم معرفة مقدار ارتباطه بالاستصحاب. فنقول :

اما الأول : فقد عرفت تقريب الشيخ له وبنى عليه صاحب الكفاية رحمه اللّه . وهو في حد نفسه معقول وليس ببعيد عن مقتضى التركيب الكلامي ، إلاّ انه انما يتعين الأخذ به إذا لم يكن في المحتملات الأخرى ما هو أرجح منه

ص: 39


1- سورة طه ، الآية : 7.
2- سورة الزمر ، الآية : 7.
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /329- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 389 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
4- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 18 - الطبعة الأولى.

بلحاظ الموازين في باب الاستعمال. وسيتضح ذلك إن شاء اللّه تعالى بعد قليل.

واما الثاني : فقد حكم الشيخ رحمه اللّه بأنه يحتاج إلى تكلف. وأفاد صاحب الكفاية رحمه اللّه انه إلى الغاية بعيد.

ولعل السر فيه : ما أشار إليه في الكفاية من انه لا يصح إلاّ بأن يراد منه لزوم العمل على طبق يقينه بوضوئه. وهو تكلف واضح وبعيد عن ظهور الكلام.

ولكن المحقق الأصفهاني رحمه اللّه لم يستبعد ذلك ، ونفي التكلف فيه ، بأنه كسائر الموارد التي تستعمل فيها الجملة الخبرية في مقام الإنشاء ، كقوله : « يعيد » أو : « يغتسل » أو نحو ذلك في مقام بيان وجوب الإعادة أو الغسل ، كما يبين ذلك في مباحث الأصول اللفظية (1).

والّذي نراه عدم صحة ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، إذا الثابت في محله جواز استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء إذا كانت فعلية ، وهو المعهود خارجا ، دون ما إذا كانت اسمية ، فلا يصح ان يقول في مقام إيجاب الإعادة : « هو معيد » ، ولم يعهد ذلك في الاستعمالات العرفية أصلا.

ولعل السر فيه : ان الجملة الفعلية تحكي عن النسبة الصدورية ، فيمكن ان يقال بان إبراز النسبة الصدورية وكأنها متحققة في مقام الإنشاء ، يصح ان يجعل كناية عن إرادة الصدور ، ويستعمل في مقام البعث نحو تحقيق الفعل وإيجاده.

وليس كذلك الجملة الاسمية ، فانها تتكفل الحكاية عن اتصاف الذات بالوصف ، وذلك لا يصلح ان يكون كناية عن إرادة الصدور والإيجاد ، ويستعمل في مقام البعث نحو إيجاد الفعل فلاحظ.

وبما ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة اسمية ، فلا تصلح ان

ص: 40


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية /3/ 17 - الطبعة الأولى.

تستعمل في مقام البعث نحو العمل على طبق اليقين وإيجابه.

إذن فهذا الاحتمال بهذا البيان غير سديد.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر ، بان يقال : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، لكن لا يراد بها إنشاء البعث كي يتأتى ما ذكر ، بل يقصد بها التعبد باليقين بقاء وجعل اليقين تعبدا ، فيكون المعنى : « ان لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبدا بالوضوء ». وهذا المعنى لا محذور فيه ، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله : « لا ينقض اليقين بالشك » في كونه تعبدا باليقين.

وعليه ، فان أمكن البناء على قابلية اليقين بعنوانه للتعبد ولو بلحاظ الجري العملي كما عليه المحقق النائيني (1) فهو ، وإلاّ التزام بان المراد التعبد بالمتيقن ، كما يذكر ذلك في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ».

وبالجملة : يكون قوله : « فانه ... » ، هو الجزاء ، ويكون المقصود به هو إنشاء التعبد باليقين فيكون مفاده مفاد : « لا تنقض اليقين بالشك » ، وهو معنى معقول ، وليس فيه مخالفة الموازين المصححة للكلام.

ومن الغريب غفلة الأعلام عن ذلك وصرف نظرهم إلى إرادة إنشاء البعث.

واما الاحتمال الثالث : فهو مما لا يصح الالتزام به ، إذ لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » هو الجزاء ، لما صح تصديره بالواو ، بل اما ان يكون مصدّرا بالفاء أو مجردا عنهما ، كما لا يخفى على من لاحظ نظائره ، مثل ان يقول : « ان جاء زيد من السفر فحيث انه تعبان هيئ له وسائل الراحة أو فهي له ذلك ».

واما الاحتمال الرابع : فهو غير صحيح أيضا. ومحصل الإشكال فيه : ان

ص: 41


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 260 - الطبعة الأولى.

المراد من قوله : « فانه على يقين من وضوئه » اما اليقين بالوضوء حدوثا أو بقاء.

فان أريد اليقين حدوثا ، فهو غير مترتب على عدم اليقين بالنوم ، وظاهر الجملة الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط. وان أريد اليقين بقاء ، فهو مخالف للوجدان ، كيف؟ والمفروض انه شاك في بقاء الوضوء.

وقد أنكر المحقق الأصفهاني دعوى اقتضاء الشرطية ترتب الجزاء على الشرط واستناده إليه ، بل ربما يعكس الأمر ، كقولهم : « ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة ».

ثم قرب هذا الوجه بما يبتني على تجريد متعلق اليقين والشك من خصوصية الزمان (1). ولا يهمنا ذكره فعلا بعد ان عرفت الإشكال في أصل الاحتمال ، ولعلنا نعود إلى بيانه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

واما إنكاره اقتضاء الشرطية سببية الشرط للجزاء ، فقد تقدم البحث في ذلك في مبحث مفهوم الشرط (2).

والتزمنا هناك بان ظهور الجملة الشرطية في ذلك مما لا ينكر.

وما ذكر في المثال تقدم الجواب عنه : بان الجزاء فيه أيضا مترتب على الشرط لكن بوجوده العلمي لا الخارجي ، والملحوظ في الشرطية ذلك. وبعبارة أخرى : الشرطية هاهنا بلحاظ مقام الإثبات ، والترتب فيه ثابت. فراجع.

والّذي يتحصل : ان الصحيح من هذه المحتملات هو الأول والثاني بالمعنى الّذي بيناه.

ولا يخفى ان الرواية على الاحتمال الثاني تكون دالة على حجية الاستصحاب في مطلق الموارد من دون اختصاص بباب الوضوء. فان الجزاء وان

ص: 42


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 18 - الطبعة الأولى.
2- راجع 3 / 214 من هذا الكتاب.

كان يتكفل التعبد باليقين بالوضوء ، إلاّ ان قوله بعد ذلك : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ظاهر في بيان قاعدة كلية يتكفل التعبد باليقين في كل موارد اليقين والشك ، فيكون التعبد باليقين في باب الوضوء من باب أنه صغرى من صغريات هذه الكلية ومصداق من مصاديقها ، فهي جملة مستأنفة تفيد أن الحكم لا يختص بباب الوضوء ، بل يجري في كل يقين وشك ، نظير أن يقول : « ان جاءك زيد فأكرمه وأكرم كل من يجيئك ».

وبالجملة : لا يراد من قوله : « لا ينقض ... » خصوص اليقين بالوضوء ، وإلاّ كان تكرارا لقوله : « فانه على يقين من وضوئه » وهو خلاف الظاهر.

واما على الاحتمال الأول ، فهي بحسب الموازين ظاهرة في اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، لأن قوله علیه السلام : « فانه على يقين ... » فرض انه تعليل للحكم المقدر وهو عدم وجوب الوضوء.

والظاهر ان العلة مركبة من صغرى وهي قوله : « انه على يقين من وضوئه » ، وكبرى وهي : « لا ينقض اليقين بالشك ». ومن الواضح لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى بحسب القيود والخصوصيات ، فإذا تقيد الأوسط بقيد في الصغرى لا بد ان يتقيد به في الكبرى ، ولا معنى لتجرده في الكبرى عن القيد ، إذ المقصود في القياس هو إثبات الأكبر ، للأصغر بواسطة حمل الأوسط على الأصغر ، وحمل الأكبر على الأوسط ، فالأوسط في الكبرى يلحظ طريقا لإثبات الأكبر للأصغر ، فإذا فرض ان الأكبر ثابت له بنفسه بلا خصوصية للقيد فلا معنى ان يكون المحمول على الأصغر هو المقيد ، إذ لا أثر للقيد ولا خصوصية له في إثبات نتيجة القياس.

وعليه ، فتقيد الأوسط في الصغرى يكشف عن تقيده في الكبرى ، وإلاّ كان التقيد لغوا ، وهو خلف. فلا يصح ان يقال : « هذا عالم بالفقه - على أن يكون الفقه قيدا - وكل عالم يجب إكرامه » إذا فرض ان وجوب الإكرام ثابت للعالم

ص: 43

بدون خصوصية الفقاهة.

وعليه ، ففيما نحن فيه إذا فرض ان الأوسط في الصغرى هو اليقين بالوضوء ، كان هو المأخوذ في موضوع الكبرى.

وعليه ، فلا تفيد الكبرى سوى عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك ، فيختص الاستصحاب على هذا التقدير بباب الوضوء.

ولا يخفى ان هذا الوجه لا يتأتى على الاحتمال الثاني ، وذلك لأن المقيد هو متعلق التعبد ، وهو مما لا يتنافى مع ثبوت الحكم في مطلق موارد اليقين ، وذلك لأن المتعبد به ليس هو ذات اليقين أو اليقين بشيء على إجماله ، بل المتعبد به هو اليقين بالشيء بعنوانه الخاصّ من وضوء أو صلاة أو وجوب أو نحو ذلك ، سواء استفدنا عموم عدم نقض اليقين بالشك لمطلق الموارد أو في خصوص مورد الوضوء ، اذن فأخذ خصوصية « من وضوئه » لا تنافي عموم الاستصحاب لغير باب الوضوء ، بل هو لازم أعم.

والسر في ذلك : ان التعبد باليقين ليس هو الوسط المتكرر في القياس ، بل هو المحمول في الكبرى المستفاد من النهي عن نقض اليقين بالشك ، وانما الموضوع هو نفس اليقين والشك فيقال : هذا متيقن وشاك ، وكل متيقن وشاك يحكم عليه بأنه متيقن بما تيقن به ، فهذا متيقن بما يتيقن به.

وعليه : فأخذ الوضوء في المتعبدية ليس كاشفا عن تقيد الموضوع بخصوصية الوضوء ولا ظهور له في ذلك.

وعليه ، فيمكن التمسك بإطلاق لفظ اليقين في قوله : « ولا ينقض » لإثبات عموم الحكم المطلق الموارد ، ولا قرينة على التخصيص الا ما يتوهم من كون مورده خصوص اليقين بالوضوء ، وهو فساد لما تقرر في محله من ان المورد لا يقيد الوارد. فتدبر جيدا.

وكيف كان ، فيقع الكلام في ترجيح أي الاحتمالين إثباتا.

ص: 44

وقد يستفاد استناد الشيخ رحمه اللّه - في ترجيح كون قوله : « فانه على يقين ... » علة لا جزاء - على ما ورد من الجمل المشابهة لها التي قامت العلة مقام الجزاء فيها (1).

ولكن هذا قابل للدفع : باعتبار انه انما يلتزم في الأمثلة التي ذكرها الشيخ ونحوها بقيام العلة مقام الجزاء ، لا من جهة ظهور الكلام فيه ، ولو بواسطة كثرة الاستعمال فيه ، بل لعدم صلاحية مدخول الفاء لكونه جزاء.

وإلاّ كان هو الجزاء - وكثرة الاستعمال في العلية معارضة بكثرة استعمال مثل هذا التركيب في الجزاء أيضا - كما في قوله تعالى : ( فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) (2). وقوله تعالى : ( فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3) وغيرهما.

فإذا كان مدخول الفاء فيما نحن فيه صالحا لكونه جزاء كما بيناه تعين حمله على ذلك ، لأن الالتزام بتقدير الجزاء وقيام العلة مقامه ، التزام بخلاف الظاهر ، فان التقدير على خلاف الأصل في الاستعمالات ، مع ان الفاء ظاهرة في كون مدخولها هو الجزاء ، فيتعين الالتزام بالاحتمال الثاني. وقد عرفت ان مقتضاه دلالة الرواية على الاستصحاب في غير باب الوضوء.

كما انك عرفت ان مقتضى الاحتمال الأول اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، إلاّ ان الشيخ رحمه اللّه تصدى لإثبات العموم ببيان : ان اللام في قوله : « ولا ينقض اليقين ... » للجنس لا للعهد ، فتفيد قاعدة عامة لمطلق افراد اليقين والشك بلا اختصاص باليقين بالوضوء (4).

ولكن يورد عليه بما أفيد من : انه لا أثر لدعوى كون اللام للجنس لا

ص: 45


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /329- الطبعة الأولى.
2- سورة المائدة ، الآية : 22.
3- سورة يونس ، الآية : 106.
4- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /330- الطبعة الأولى.

للعهد ، وذلك لأن اليقين في الصغرى اما ان تلحظ في خصوصية الوضوء بنحو التقييد أولا.

فان لوحظت فيه بنحو التقييد لم ينفع كون اللام للجنس في إثبات عموم الكبرى ، لما عرفت من لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى في الخصوصيات ، فيكون ذلك قرينة على تقييد اليقين المأخوذ في الكبرى.

وان لم تلحظ فيه بنحو التقييد ، بل لوحظ اليقين بما هو يقين لا أكثر ، كانت الكبرى عامة لكل باب وان كانت اللام للعهد ، إذ المعهود هو ذات اليقين لا اليقين الخاصّ.

ومع التردد في أخذ الخصوصية بنحو التقييد أو بنحو الموردية ، كان الكلام مجملا لاحتفافه بما يصلح للقرينية.

فظهر انه لا فائدة في تحقيق ان اللام للجنس لإثبات العموم ، بل المدار على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء.

ولأجل ذلك لا بد من تحقيق ان خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، هل هي ملحوظة في الحكم أو لا؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه وجوها ثلاثة لإثبات إلغاء الخصوصية.

الوجه الأول : ما أفاده من ظهور التعليل في كونه بأمر ارتكازي لا تعبدي ، وهو يقتضي ان يكون موضوع النقض مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء ، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبديا وهو خلاف الظاهر.

الوجه الثاني : ان احتمال اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بباب الوضوء ليس إلاّ من جهة احتمال كون اللام للعهد ، مع ان الظاهر كونها للجنس كما هو الأصل فتفيد العموم.

الوجه الثالث : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » لا ظهور له في تقيد

ص: 46

اليقين بالوضوء ، بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال ان يكون قوله : « من وضوئه » متعلقا بالظرف المقدر لا بلفظ اليقين ، فكأنه قال : « فانه من طرف وضوئه على يقين » ، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء (1).

اما الوجه الأول ، فقد يورد عليه : بان الحكم المذكور في العلة لا يلزم ان يكون معلوما لدى المخاطب وفي ذهنه في مرحلة سابقة على الخطاب ، بل قد يفهم حكم العلة بنفس التعليل ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم » ولم يكن في ذهنه وجوب إكرام العالم ، بل يستفاد وجوب إكرام العالم من نفس هذا الدليل.

وهذا الإيراد قابل للدفع ، ويتضح ذلك ببيان مرادة قدس سره ، فنقول : ان العلة « تارة » : تكون حكما ارتكازيا عقلائيا أو شرعيا ، كما لو قال : « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم » ، فان حرمة الظلم عقلا وشرعا ثابتة في الأذهان. « وأخرى » : تكون حكما تعبديا غير مرتكز ذهنا ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم ».

والتعليل في كلا الموردين ظاهر في ملاحظة العلة ، وهي الحكم العام في مرحلة سابقة على الحكم الخاصّ في هذه القضية ، فيدل التعليل على ثبوت الحكم العام في حد نفسه ، وانه ثابت للمورد الخاصّ من باب التطبيق وكونه أحد أفراده.

ثم انه قد يتعقب التعليل جملة تتكفل ببيان حكم الموضوع العام ، مثل ان يقول : « أكرم زيدا لأنه عالم والعالم يجب إكرامه » و: « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم والظلم حرام أو قبيح » ، فهل مثل هذه الجملة توضيح لما تقدم - لأن حكم العام قد فهم من نفس التعليل كما عرفت. ولذا لو اقتصر عليه ولم يتعقب بهذه الجملة فهم منه حرمة مطلق الظلم ووجوب إكرام مطلق العالم - أو أنه لبيان شيء آخر

ص: 47


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /389- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

متمم للتعليل كما هو مقتضى التركيب اللفظي لأن ظاهر الكلام انه جزء متمم للتعليل؟.

والّذي نستظهره هو الثاني ، فانها ليست بيانا لمجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، كما هو مقتضى الجمود على حاق اللفظ ، كي تكون توضيحا لما تقدم ، بل هي لبيان مناسبة ثبوت الحكم للموضوع العام ، وان الموضوع العام يناسب ان يثبت له هذا الحكم ، فكأنه قال : « والعالم يناسب أو ينبغي ان يثبت له وجوب الإكرام » ، فيكون ذلك تعليلا بأمر ارتكازي ، وهذا هو معنى ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي ، فيحمل الكلام على ذلك ، لأنه أخذ في التعليل ، لا على بيان مجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، فانه ليس أمرا ارتكازيا دائما ، إذ قد يكون مجهولا غير معلوم.

وعليه ، ففيما نحن فيه علل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في الرواية بأنه على يقين من وضوئه ، ثم عقبه بقوله : « ولا ينقص اليقين بالشك » ، وظاهر هذه الجملة الأخيرة بمقتضى ما ذكرناه أنها في مقام بيان المناسبة لعدم نقض اليقين بالشك ، والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة الاستحكام والإبرام فيه ، وجهة التزلزل في الشك فلا يناسب ان ينقض به اليقين.

ولا يخفى انه لا خصوصية لمتعلق اليقين في ذلك بل المدار على نفس اليقين والشك.

وعليه ، فيكون الحكم ثابتا في مطلق موارد اليقين بمقتضى كون التعليل بأمر ارتكازي.

هذا غاية ما يمكن توجيه ما أفاده في الكفاية.

ولكن يمكن ان يناقش فيه : بأنه انما يتم لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » تمام التعليل.

ص: 48

ولكنه ليس كذلك ، بل هو جزء التعليل ، فان التعليل بحسب ظاهر الكلام مركب من جزءين : أحدهما : كونه على يقين من وضوئه ، والآخر : عدم مناسبة نقض اليقين بالشك فلو فرض ظهور الجزء الأول في دخل خصوصية الوضوء فلا معنى لإلغائها ، نظير ما لو صرح بان الملاك في ثبوت الحكم هو كونه على يقين من الوضوء بما هو كذلك ومناسبة عدم نقض اليقين بالشك ، فانه لا منافاة في ذلك لشيء. فلا ملازمة بين أخذ المناسبة في العلة وبين إلغاء خصوصية الوضوء فلاحظ.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت المناقشة فيه حين التعرض لكلام الشيخ ، وبيان ان الملاك في العموم إلغاء خصوصية الوضوء ، سواء كانت اللام للجنس أو للعهد.

واما الوجه الثالث : فهو متين ، فانه إذا فرض عدم أخذ الوضوء في المتعلق ، بل أخذ الأوسط هو اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، كان الدخيل في العلة هو مطلق اليقين لا اليقين الخاصّ. فيكون كما لو قال : « فانه من وضوئه على يقين » ، فانه لا يتوهم تقيد اليقين بالوضوء ، ولا أثر لتأخير قوله : « من وضوئه » أو تقديمه في ذلك.

يبقى بيان سرّ عدم كون قوله : « من وضوئه » متعلقا لليقين ، بل بالظرف المقدر ، وهو ان اليقين انما يتعدى إلى متعلقه ب- : « الباء » لا ب- : « من » فيقال : تيقن بكذا وأنا على يقين بكذا ، ونحو ذلك وهو واضح.

ويضاف إلى هذا الوجه وجه آخر ، وهو ما أشير إليه في بعض الكلمات من ان اليقين لما كان من الصفات التعلقية التي تتقوم بالمتعلق مضافا إلى الموضوع ، كان ذكر المتعلق غير كاشف عن خصوصية فيه ، بل انما هو من باب لا بدية المتعلق فيه (1).

ص: 49


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 18 - الطبعة الأولى.

هذا تمام الكلام في معنى الرواية. وقد عرفت ان الأقرب ما ذكرناه.

ثم انك عرفت فيما تقدم وجود القول بالتفصيل في اعتبار الاستصحاب بين مورد الشك في البقاء لأجل الشك في المقتضي فلا يعتبر فيه الاستصحاب.

ومورد الشك في البقاء لأجل الشك في الرافع فيعتبر فيه الاستصحاب وممن بنى على هذا القول الشيخ رحمه اللّه مستظهرا لاختصاص من نصوص الاستصحاب (1). وخالفه في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وفي كلا الموردين لعموم النصوص (2).

وقد تعرض الشيخ إلى بيان جهة الاختصاص بعد ذكره لجميع النصوص ، ولكن صاحب الكفاية تعرض إليه هاهنا.

ونحن نتعرض فعلا إلى ذلك وبيان ما هو الحق لدينا ، لأن ترتيب أبحاثنا يتبع نهج الكفاية.

فنقول : ان منشأ ما ذهب إليه الشيخ من اختصاص الاستصحاب بمورد كون الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع ، هو لفظ : « النقض » الوارد في النص ، وعليه يدور محور الحديث.

فقد أفاد الشيخ رحمه اللّه : ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل ونقض الغزل ، والمفروض انه لم يستعمل في النص في هذا المعنى ، فيدور أمره بين ان يراد به رفع الأمر الثابت الّذي له اقتضاء الاستمرار ، وان يراد به مطلق رفع اليد عن الشيء بعد الأخذ به ولو كان رفع اليد لأجل عدم المقتضي ، والمتعين هو الأول لأنه اقرب إلى المعنى الحقيقي من الثاني.

وقد ذكر : ان ذلك يكون منشئا لتخصيص المتعلق باليقين المتعلق بما من

ص: 50


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 328 و336- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /390- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

شأنه الاستمرار وان كان في نفسه عاما لكل يقين ، إذ الفعل الخاصّ يكن مخصصا لعموم متعلقه ، نظير قول القائل : « لا تضرب أحدا » المحمول على خصوص الأحياء ، لظهور الضرب في المؤلم ، ولا يكون عموم : « أحد » لغير الأحياء قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه ولو لم يكن مؤلما.

ثم تعرض لتوهم : ان ما اختاره يستلزم التصرف في لفظ اليقين بحمله على إرادة المتيقن منه ، إذ التفصيل المزبور بلحاظ المتيقن. فدفعه : بان التصرف لازم على كل حال ، ولو التزم بالتعميم ، لأن النقض الاختياري المتعلق للنهي لا يتعلق باليقين ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه كالطهارة ، أو المراد أحكام اليقين لا بمعنى أحكام نفس وصف اليقين ، لأنها ترتفع بمجرد الشك ، بل أحكام المتيقن الثابتة له بسبب اليقين ، هذا خلاصة ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1).

واما صاحب الكفاية ، فقد أوقع البحث تارة : في مادة النقض. وأخرى : في هيئة : « لا تنقض » وذكر : ان شيئا منهما لا يستلزم التخصيص بما ذهب إليه الشيخ.

اما من حيث المادة ، فقد أفاد : ان النقض ضد الإبرام ، فيحسن ان يسند إلى نفس اليقين ولو كان متعلقا بما لا اقتضاء فيه للبقاء ، لما يتخيل فيه من الاستحكام فجهة الاستحكام في اليقين هي المصححة لإسناد النقض إليه ولا عبرة بما فيه اقتضاء البقاء إذ ليس المصحح لإسناد النقض وجود المقتضي للبقاء وإلاّ لصح ان يقال : « نقضت الحجر من مكانه » مع انه ركيك. ولما صح ان يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » فيما إذا شك في بقائه لأجل الشك في مقدار استعداده ، مع انه حسن وصحيح. فيكشف ذلك عن ان مناط صحة اسناد النقض هو جهة الاستحكام ، وهي ثابتة في اليقين في كلا الموردين ، فيسند

ص: 51


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.

النقض حقيقة إلى اليقين بملاحظته لا بملاحظة متعلقه ، فلا تصل النوبة إلى التجوز كي يتوخى أقرب المجازات.

وأورد على نفسه : بان اليقين - في باب الاستصحاب - لا ينقض حقيقة. إذ اليقين بالحدوث ثابت ، فلا بد من فرض المتيقن مما له اقتضاء البقاء ، كي يكون اليقين بالحدوث حقيقة يقينا بالبقاء مسامحة ، فيصح اسناد النقض إلى اليقين مسامحة بهذه الملاحظة. بخلاف ما إذا لم يكن للمتعلق اقتضاء البقاء ، فانه لا يقين بلحاظ البقاء ولو مسامحة ، فلا معنى لإسناد النقض إلى اليقين.

وأجاب عن ذلك : بان هنا وجها آخر هو الظاهر لتصحيح اسناد النقض إلى اليقين بلا حاجة إلى هذا الوجه ، وهو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، وهذا يصحح اسناد النقض إليه ، ولا فرق في ذلك بين تعلقه بماله اقتضاء البقاء وما ليس له اقتضاء البقاء.

واما من حيث الهيئة ، فقد أفاد : بان المراد هو النهي عن النقض بحسب البناء والعمل لا حقيقة ، لأن النقض الحقيقي خارج عن الاختيار سواء تعلق باليقين أم بالمتيقن أم بآثار اليقين.

وعليه ، فلا يجوز التصرف بحمل اليقين على إرادة المتيقن لأجل إبقاء الصيغة على حقيقتها ، بل يؤخذ بما هو الظاهر من النهي عن نقض اليقين.

ثم أورد على نفسه : بأنه لا محيص عن التصرف في لفظ اليقين وحمله على إرادة المتيقن ، إذ المنهي عنه وان كان هو النقض العملي ، لكنه غير مراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته لمورد النصوص ، بل المراد هو النهي عن نقض المتيقن بحسب العمل.

وأجاب عنه : بان النهي متعلق بنقض اليقين ، لكن اليقين ليس ملحوظا باللحاظ الاستقلالي ، بل ملحوظا مرآة للمتيقن وبالنظر الآلي ، فيكون كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما أو لحكمه إذا

ص: 52

كان موضوعا. هذه خلاصة ما أفاده صاحب الكفاية (1).

والّذي يبدو ان نقطة الخلاف بين الشيخ وبينه هو : ان نظر الشيخ إلى ان النقض مسند في الواقع إلى المتيقن ، فيعتبر فيه كونه مما فيه اقتضاء البقاء. ونظره قدس سره إلى ان النقض مسند إلى اليقين بنفسه ، وهو ذو جهة تصحح اسناد النقض إليه ، أعم من ان يكون متعلقة ذا اقتضاء للبقاء أو لا يكون ، وهي جهة الاستحكام فيه فلا وجه لحمله على خلاف ظاهره والالتزام بتخصيص الاستصحاب بخصوص مورد الشك في الرافع.

وتحقيق الكلام في المقام على نحو يرتفع به بعض الإبهام : ان لفظ النقض يسند إلى الدار ، فيقال : « نقض الدار » ويفسر في كتب اللغة بهدم الدار ، ويسند إلى الحبل ويفسر بحلّه ، ويسند إلى العظام ، فيقال : « نقض العظم » ويفسر بالكسر ، ويسند إلى الحكم ، فيقال : « نقض الحكم » في قبال إبرامه ، ونصّ في اللغة على أنه مجاز (2). كما يقال : قولان متناقضان ، وغير ذلك ، كما انه قد يفسر الإنقاض بمعنى التصويت كما في مثل قوله تعالى : ( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) (3) فانه فسر بالتصويت (4).

والّذي يمكن الجزم به ان الكسر والهدم والحل والرفع كل ذلك ليس معنى للنقض ، وانما هو تفسير له باللازم أو المحقق لمفهومه ، والمعنى الجامع بين هذه الموارد جميعا هو ما يساوق التشتيت والنكث وفصل الأجزاء بعضها عن الآخر ، فنقض الشيء يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية وتشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء. وبذلك يكون نقض الدار بمعنى هدمها لأنه بالهدم تنعدم الهيئة

ص: 53


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- 392 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- اقرب الموارد مادة نقض.
3- سورة الشرح ، الآية : 3.
4- الفضل بن الحسن العلاّمة الطبرسي. مجمع البيان5/ 508 - الطبعة الأولى.

الاجتماعية لأجزاء الدار من غرفة وسطح وصحن وغير ذلك.

كما ان نقض العظم يكون بكسره ، لأنه يفصل اجزاء العظم بعضها عن الآخر.

ومعنى نقض الحبل نكثه وحله. ومثله نقض الغزل وهكذا.

وبالجملة : النقض هو إعدام الهيئة التركيبية ورفع الاتصال بين الاجزاء ولعله مراد الشيخ رحمه اللّه من انه رفع الهيئة الاتصالية.

وعليه ، فإسناد النقض إلى ما لا أجزاء له كالحكم والبيعة والعهد واليقين ، اسناد مجازي ، والمصحح له أحد وجهين :

الوجه الأول : ان يلحظ استمرار وجود الشيء ، فتكون له وحدة تركيبية بلحاظ الاجزاء التدريجية المتصلة ، فان الموجود التدريجي المتصل وجود واحد ذو اجزاء بلحاظ تعدد آنات الزمان ، ويكون المراد من نقضه قطع الاستمرار وعدم إلحاق الاجزاء المفروضة المقدرة بالاجزاء المتقدمة ، فيصدق النقض بنحو المجاز بهذه الملاحظة ، ولا يكون صدقة حقيقيا ، لعدم تحقق الأجزاء اللاحقة ، بل ليس المجرد الفرض والتقدير.

والوجه الثاني : ان يكون بلحاظ عدم ترتب الأثر على المنقوض ، فيشابه المنقوض حقيقة من هذه الجهة.

ولكن المتعين هو الأول من الوجهين ، إذ الثاني غير مطرد ، إذ نفي الأثر مع عدم إلغاء الهيئة التركيبية للشيء المركب حقيقة لا يطلق بلحاظه النقض ولو بنحو المجاز ، فالمصحح يتعين ان يكون هو الأول.

ثم لا يخفى عليك انه لا يعتبر ان يكون متعلق النقض مما فيه إبرام فعلا ، لصدق النقض بدونه ، كما لو كان صف من اشخاص واقفين بلا استحكام وإبرام فيه ، فتفرقة افراد الصف نقض للصف مع عدم الإبرام. ولعله مما يشهد لما ذكرنا :

ان أهل اللغة يفسرون نقض الحكم برفعه في مقابل إبرامه ، فيجعلون الإبرام في

ص: 54

عرض النقض لا في مرحلة سابقة عليه ، كما لا يعتبر فيه الاستحكام أو الاستمساك ، فان جميع ذلك لزوم ما لا يلزم ، لصدق النقض بدونه جزما كمثال الصف المتقدم.

وبالجملة : لا يعتبر في متعلق النقض شيء مما ذكر من الإبرام أو الاستحكام أو التماسك ، بل المعتبر كونه ذا اجزاء ، فانفصام وحدته التركيبية وانفصال اجزائه بعضها عن بعض وتشتتها يعد نقضا.

وقد عرفت ان صدق النقض فيما لا اجزاء له كالحكم والعهد انما يكون بنحو المجاز بلحاظ الوحدة الاستمرارية.

وبذلك يظهر ان صدق النقض في مورد اليقين يكون مجازيا ، لأنه لا اجزاء له ، فلا بد من ملاحظة وحدته الاستمرارية ، فرفع اليد عن استمراره يكون نقضا له.

ولا يخفى ان رفع اليد عن استمراره وانقطاع الاتصال في عمود الزمان ينشأ.

تارة : من انتهاء أمد الشيء لتحديد ثبوته بأمد خاص ، كالزوجية المنقطعة بعد انتهاء الزمن.

وأخرى : من وجود ما يرفعه بحيث لولاه لاستمر وجوده لعدم تحديده بأمد معين.

ونقض الشيء بلحاظ عدم استمراره انما يصدق في المورد الثاني لا المورد الأول ، فلا يكون ارتفاع الطهارة الموقتة بوقت خاص بعد حصول الوقت نقضا لها ، واما ارتفاعها بالحدث القاطع لاستمرارها فيعد نقضا لها. كما ان انتهاء الصلاة بالسلام والخروج عن الصلاة به لا يكون نقضا للصلاة ، لكن الخروج عن الصلاة بالحدث يكون نقضا لها. والزوجية لا تنتقض بانتهاء المدة ، لكنها تنتقض بالفسخ أو الطلاق ، كما ان ملكية البطون للوقف لا تنتقض بانعدام

ص: 55

البطن ، ولكن الملكية تنتقض بالفسخ والكفر في بعض الموارد. وهذا واضح لا غبار عليه.

وعلى هذا نقول : ان صدق نقض اليقين بلحاظ وحدته الاستمرارية - كما عرفت - وبما ان اليقين يتبع المتيقن ، فاستمراره باستمرار وجود اليقين وارتفاعه بارتفاع المتيقن.

وعليه ، فارتفاع اليقين تارة : يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده وتمامية استعداده للبقاء. وأخرى : لارتفاع المتيقن من جهة تحقق ما يرفعه مع استعداده للبقاء لو لا الرافع. وانتقاض اليقين انما يصدق في الصورة الثانية دون الأولى ، لما عرفت من ان ارتفاع الشيء لعدم مقتضية وانتهاء أمده لا يعد نقضا. وبما ان الظاهر من قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » كون مورد الاستصحاب هو الشك في البقاء أو الانتقاض ودوران الأمر بينهما ، بحيث يكون أحد طرفي الاحتمال هو البقاء والطرف الآخر هو الانتقاض ، كان مقتضى ذلك اختصاص النص بمورد الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع المستلزم للشك في الانتقاض ، إذ مع الشك في البقاء من جهة الشك في قصور المقتضي وانتهاء أمده لا انتقاض قطعا ، بمعنى انه يعلم بعدم الانتقاض ، إما للارتفاع بانتهاء الأمد واما لعدم الارتفاع ، وكلاهما لا يعد انتقاضا ، فلا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وبهذا البيان يتضح اختصاص النص بمورد الشك في الرافع كما ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه . وتبعه عليه المحقق النائيني (1) بعد بيان مراد الشيخ بما يقرب مما انتهينا إليه بواسطة هذا البيان ، وسيتضح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ومن ذلك يشكل جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في الموضوع

ص: 56


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 380 - الطبعة الأولى.

وستعرف هذه الخصوصيات تدريجا إن شاء اللّه تعالى.

ومما بيناه يتضح ان ما أفاده صاحب الكفاية - من صدق النقض مطلقا بملاحظة ما اليقين من الاستحكام ، ولذا يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » إذا انطفأ لانتهاء نفطه - مثلا - ، ولا يلحظ في صدق النقض قابلية الشيء للاستمرار ، ولذا لا يصدق : « نقضت الحجر من مكانه » -. في غير محله ، فانه مضافا إلى التشكيك في تصور الاستحكام بالنسبة إلى اليقين على رفع الحجر المثبت في الأرض بنحو مستحكم جدا ، فلا يقال لرفعه انه نقض ، بل النقض - كما عرفت انما يصدق بلحاظ فتّ الأجزاء المتصلة للمركب اما حقيقة أو مسامحة.

واما دعوى صدق النقض في مثال السراج فقد عرفت ما فيها ، ولم يثبت ركاكة صدق النقض في مثال الحجر إذا كان الملحوظ انتقاض. استمرار كونه في المكان الخاصّ ، لا انتقاض نفس الحجر من مكانه كما هو ظاهر العبارة في المثال.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه عبر عن النقض بأنه رفع اليد ، وخصه برفع اليد عن الأمر الثابت (1).

فأورد عليه : بأنه لا وجه لتقييده برفع اليد عن الأمر الثابت ، بل مقتضى الإطلاق التعميم لغير الأمر الثابت (2).

ويمكن دفع هذا الإيراد عنه ، بأنه ليس المقصود كون حقيقة النقض ومفهومه هو رفع اليد ، بل المقصود ان النقض حيث انه لا يصدق حقيقة لأنه ليس من افعال المكلف الاختيارية ، فلا بد ان يراد به النقض بحسب العمل الراجع إلى عدم ترتيب الآثار ورفع اليد عن المتيقن ، فإذا فرض كون مفهوم

ص: 57


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 78 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

النقض يساوق فصم الوحدة التركيبية ، كان المقصود به هاهنا رفع اليد عن خصوص الأمر الثابت لانسجامه مع مفهوم النقض. فالتفت ولا تغفل.

والمتحصل : ان مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع سواء تعلق النقض باليقين أم بالمتيقن.

هذا وينبغي التكلم في جهات :

الجهة الأولى : ان النقض في باب الاستصحاب هل يعقل ان يتعلق باليقين أو لا؟. والكلام في ذلك بعد الفراغ عن قابلية اليقين في حد نفسه لتعلق النقض به ، كما عرفت ذلك بملاحظة وحدته الاستمرارية.

وتحقيق الكلام ، هو : ان النقض في باب الاستصحاب لا معنى لأن يتعلق باليقين أصلا. وذلك لأن نقض اليقين - على ما عرفت - يرجع إلى عدم وحدته الاستمرارية وتخلل العدم بينها. وعليه نقول : ان لدينا يقينين : أحدهما : اليقين بالوجود الفعلي للشيء ، وهذا لا شبهة في انتقاضه بالشك بقاء أو اليقين بالخلاف ، لأن اليقين بوجود الشيء له وحدة استمرارية ، فإذا زالت بقاء بالشك أو باليقين بخلافه فقد اختلت الوحدة ، ويتحقق الانتقاض ، ولذا لا يجتمع اليقين بالوجود الفعلي مع الشك فيه أو اليقين بعدمه ، لأن أحدهما ناقض للآخر. والآخر : اليقين الفعلي بالوجود السابق وهذا لا ينتقض بالشك في الوجود الفعلي بقاء أو اليقين بعدمه بقاء بل قد يجتمعان في آن واحد كما لا يخفى. بل لا يكون اليقين بوجوده فعلا استمرار لليقين بالوجود السابق ، إذ قد يحصلان في آن واحد ، فلا معنى لأن يكون أحدهما استمرارا للآخر.

وسرّ ذلك : ان وحدة اليقين بلحاظ وحدة متعلقه ، فإذا اختلف المتعلق اختلف اليقين. فاليقين يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة واليقين بعدالته يوم السبت فردان لليقين لاختلاف متعلقهما ، ولأجل ذلك لا يكون اليقين بعدم

ص: 58

العدالة يوم السبت ناقضا لليقين يوم السبت بعدالته يوم الجمعة ، لعدم إخلاله بوحدته الاستمرارية ، كيف؟ وقد يجتمعان معا في آن واحد.

وإذا اتضح ذلك فنقول : ان كان المأخوذ في باب الاستصحاب هو اليقين السابق بالوجود الفعلي ، كان الشك بقاء ناقضا له لإخلاله باستمراره ، فصح ان يسند النقض إلى اليقين.

ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المأخوذ هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، سواء كان يقين سابق بالوجود الفعلي أم لم يكن ، ولذا قد يحصل الشك في البقاء قبل اليقين بالحدوث. ومثل هذا اليقين لا يكون الشك ناقضا له - كما عرفت - ، فلا معنى للنهي عن نقضه به. فلا محيص عن ان يكون المسند إليه النقض هو المتيقن نفسه بلحاظ انقطاع استمراره بوجود الرافع المشكوك. ويكون التعبير باليقين طريقيا على ما يأتي بيانه في الجهة الثالثة.

واما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه - في ذيل كلامه السابق - من عدم اسناد النقض إلى اليقين بل إلى المتيقن فان أراد به عدم قابلية اليقين في حد نفسه لإسناد النقض إليه - كما هو ظاهر عبارته - ، فقد عرفت انه قابل لذلك بلحاظ الاستمرار فيه. وان أراد به ما ذكرناه من ان اليقين في باب الاستصحاب لا معنى لإسناد النقض إليه ، فهو تام كما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في كلامه عن مادة النقض من الإيراد على نفسه والجواب عنه. فهو مما لا ينبغي ان يصدر من مثل صاحب الكفاية. وذلك : فان ما ذكره تحت عنوان : « ان قلت » - من ان النقض الحقيقي لا يتعلق باليقين ، إذ اليقين بالحدوث لا ينتقض ، وانما يبتني صدق النقض على فرض تعلق اليقين بالبقاء مسامحة كي ينتقض بالشك بقاء ، وذلك انما يكون فيما إذا كان متعلق اليقين ذا اقتضاء للبقاء ، بحيث يكون اليقين بحدوثه يقينا ببقائه مسامحة -. يظهر منه انه صحيح في نفسه ، لكن تخلص عنه بان هنا وجها آخر لصدق النقض ،

ص: 59

وهو تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الزمان وملاحظتهما أمرا واحدا بإلغاء اختلافهما زمانا.

والّذي نراه عدم سداد كل من الإيراد وجوابه.

اما الإيراد ، فلما عرفت من ان النقض لا يعقل ان يتعلق باليقين بنحو من الأنحاء ، إذ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، وهو لا ينتقض حقيقة ولا مجازا بالشك ، وليس الموضوع هو اليقين بالوجود الفعلي حتى يتصور اليقين المسامحي بالبقاء عند تعلق اليقين بالحدوث ، فيسند إليه النقض بلحاظ منافاته مع الشك.

هذا ، مع ان هذا اليقين المسامحي لا يزول بالشك ، لأنه مبني على المسامحة والفرض ، وهو لا يتناقض مع وجود الشك حقيقة بالوجود الفعلي. فتدبر.

واما الجواب عنه ، فلم يعرف له معنى محصل ، إذ مع فرض تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الحدوث والبقاء وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، كيف يعقل اجتماع اليقين والشك كي ينهى عن النقض بالشك؟. والمفروض ظهور الدليل في موضوعية كل من اليقين والشك بوجودهما الفعلي بحيث يظهر منه فرض اجتماعهما في آن واحد. هذا إذا فرض تعلق الشك بما تعلق به اليقين.

وان أريد تعلق كل منهما بالطبيعة بنحو الموجبة الجزئية ، فاجتماعهما في آن واحد ممكن ، إذ يمكن ان يكون متعلق الشك الطبيعة بلحاظ حصة ، ومتعلق اليقين نفس الطبيعة بلحاظ حصة أخرى ولكنه راجع إلى اختلاف المتعلقين ، وتعلق الشك بغير ما تعلق به اليقين ، وفي مثله لا يصدق النقض والبقاء كما لا يخفى.

وجملة القول : ان ما أفاده صاحب الكفاية هاهنا غير وجيه. فالمتعين ما ذكرناه من المنع عن تعلق النقض باليقين - في باب الاستصحاب - ، ولا بدية رجوعه إلى المتيقن.

ص: 60

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بين الالتزام باختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع أو عمومه لمورد الشك في المقتضي ، فلاحظ.

الجهة الثانية : لو سلم إمكان تعلق النقض باليقين ، فهل هو كذلك إثباتا أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى : ان المنهي عنه هو نقض اليقين بما هو ، فالمجعول في الاستصحاب هو اليقين لكن بلحاظ الجري العملي لا بلحاظ المنجزية والمعذرية ، فالفرق بين الأمارات والاستصحاب هو ان المجعول في الأمارات الطريقية والوسطية في الإثبات بلحاظ المنجزية والمعذرية. والمجعول في الاستصحاب هو الطريقية بلحاظ الجري العملي وعلى هذا الأساس بني تقديم الأمارة على الاستصحاب وتقديم الاستصحاب على سائر الأصول ، وجعل الاستصحاب برزخا بين الأمارة والأصول العملية ، وعبر عنه بالأصل المحرز (1).

ولكن ما أفاده قدس سره لا يخلو عن بحث أشرنا إليه غير مرة ، ونوضحه فعلا فنقول : ان الالتزام بجعل اليقين بأدلة الاستصحاب مع قطع النّظر عن خصوصية الجري العملي يبتني على مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى : معقولية اسناد النقض إلى اليقين هاهنا وقد عرفت عدم تمامية هذه المقدمة.

المقدمة الثانية : البناء على قابلية اليقين للاعتبار ، مع أنه من الأمور التكوينية ، بمعنى الالتزام بان الأثر الفعلي العملي - وهو التنجيز والتعذير - يترتب على الوجود الاعتباري لليقين ، كما هو مترتب على الوجود الحقيقي. فيكون اليقين من الأمور القابلة للجعل ، كبعض الأمور التكوينية التي يترتب

ص: 61


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 416 و 494 - الطبعة الأولى.

على وجودها الاعتباري بعض الآثار العملية ، كالملكية والطلب ونحو ذلك ، وسيأتي البحث عنه عند التعرض للأحكام الوضعيّة وما هو المجعول منها ، وهذه المقدمة مما يلتزم بها.

المقدمة الثالثة : البناء على ان لفظ اليقين الوارد في النص باق على ظاهره الأولي من موضوعية اليقين ، فيحمل عليه بمقتضى أصالة الظهور. ويمكن المنع عن ذلك ، بدعوى انه ثبت لهذا اللفظ ظهور ثانوي في عدم موضوعية اليقين بما هو ، بل الموضوع هو المتيقن ، ولوحظ اليقين عبرة ومرآة له ، وذلك بملاحظة استعمال ما يشابهه من لفظ الرؤية والتبين والعلم ، مع العلم بان وصف الرؤية وأمثاله لا دخل له في الحكم بما هو ، بل الدخيل هو المتعلق والواقع على واقعه.

وعلى كل ، فإذا تمت جميع هذه المقدمات والتزم بما هو ظاهر الدليل من تعلق الجعل بنفس اليقين ، فيقع الكلام فيما أفاده من تعلقه باليقين بلحاظ الجري العملي ، وهو محل مناقشة ، إذ الجري العملي هو فعل المكلف نفسه ، فالجعل تارة :

يتعلق به نفسه ، فيتعبد بان المكلف قد أتى بالعمل ، فهذا أجنبي عن باب الاستصحاب ، إذ الاستصحاب يستتبع العمل. وأخرى : يتعلق باليقين بلحاظ كونه منشئا للجري العملي واندفاع المكلف ، فالمجعول هو منشئيته للعمل.

ففيه : ان استتباع اليقين للجري العملي بلحاظ ما يترتب عليه من التنجيز ، وإلاّ فلا يندفع المكلف نحو العمل بدونه ، فالجري العملي في طول التنجيز ، فلا يمكن جعل اليقين بلحاظ الجري العملي بلا ملاحظة ترتب التنجيز عليه ، وإذا فرض ملاحظة المنجزية كان المجعول في الاستصحاب هو المجعول في الأمارات.

هذا ، مع انه لو فرض عدم ملاحظة التنجيز في جعل اليقين وأمكن فصل ملاحظة الجري العملي عنه ، لم يترتب التنجيز على الاستصحاب ، فلا تكون مخالفة الحكم الاستصحابي مستلزمة للعقاب. وهذا مما لا يظن الالتزام به من قبله

ص: 62

( قدس سره ).

هذا كله ، مضافا إلى ان جعل اليقين بلحاظ الجري العملي لا يصحح اسناد مؤدى الاستصحاب إلى اللّه والفتوى به ، والالتزام به على انه حكم اللّه تعالى ، لأنه مجهول ولا دليل على إثباته.

وقد أسهبنا الكلام في ذلك في أوائل مبحث الأمارات في بيان ما هو المجعول فيها فلاحظ وتدبر.

ثم انه بعد ظهور عدم تعلق النهي بنقض اليقين حقيقة ، إذ هو خارج عن اختيار المكلف كيف؟ والمفروض انتقاضه بالشك ، فلا بد ان يراد من النقض النقض العملي ، فمرجع النهي إلى النهي عن معاملة اليقين معاملة المنتقض ، بل المطلوب العمل كما لو كان اليقين باقيا ، فيراد الإبقاء العملي.

وهذا النهي اما يكون إرشادا إلى جعل صفة اليقين والطريقية في مرحلة البقاء ، أو جعل المنجزية لليقين بالوجود السابق على الحكم المشكوك بقاء ، أو جعل نفس التيقن بقاء فان الجامع بين جميع هذه الوجوه هو ترتب العمل بقاء ، كما لو كان نفس اليقين باقيا ، فيمكن ان يكون النهي عن النقض العملي إرشادا إلى أحدها ، إلاّ ان المتعين إثباتا هو الثالث ، وذلك بملاحظة مورد الرواية ، فانه علیه السلام نفي وجوب الوضوء عند عدم الاستيقان بالنوم بقاء معللا ذلك بعدم نقض اليقين بالشك ، وظاهر ذلك هو نفي الوجوب شرعا لا عقلا. وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المتيقن نفسه بقاء ، لا جعل اليقين أو المنجزية كما لا يخفى.

والّذي يتحصل : انه يتعين الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين ، سواء التزام بعدم إمكان تعلق النقض باليقين في هذا الباب أو التزم بإمكانه ، فمقام الثبوت ومقام الإثبات يشتركان في أن المجعول هو المتيقن.

فتدبر.

الجهة الثالثة : انك عرفت ان النقض في باب الاستصحاب لا يتعلق

ص: 63

باليقين ، وانما هو متعلق بالمتيقن ، فيقع البحث في كيفية ملاحظة المتيقن في النصوص ، مع ان النقض فيها - استعمالا - متعلق باليقين. فهل هو من استعمال لفظ اليقين في المتيقن مجازا؟. أو من جعل لفظ اليقين عنوانا للمتيقن ومرآة له - كما ذهب إليه صاحب الكفاية -. بتقريب : ان المرآتية تسري من المصداق إلى المفهوم ، فبعد ان كان مصداق اليقين مرآة لمتعلقه كان مفهوم اليقين كذلك مرآة للمتيقن (1)؟. أو من باب الكناية والتلازم بين نقض اليقين ونقض المتيقن؟. أو من باب التلازم بين نفس اليقين والمتيقن ، فالنقض وان كان مسندا إلى لفظ اليقين في الكلام ، لكن يراد به نقض المتيقن الّذي حضرت صورته في الذهن بواسطة اليقين ، فيجعل لفظ اليقين قنطرة وكناية عن المتيقن؟. وجوه :

اما الأول : فهو مردود ، بأنه استعمال غير صحيح ولا يعهد مثله في الاستعمالات.

واما الثاني : فهو مردود أيضا بان مرآتية مفهوم اليقين تتوقف على كون اليقين من عناوين المتيقن ، وليس الأمر كذلك ، ولذا لا يصح حمل اليقين على المتيقن.

واما الثالث : فيمنع بأنه انما يتم لو فرض صحة تعلق النقض باليقين هاهنا ، وقد عرفت انه لا محصل له ، فلا يمكن ان يراد ذلك.

فيتعين الرابع. وعلى أي حال لا إشكال في وقوع استعمال ما يشابه لفظ اليقين من ألفاظ الطرق في مورد يكون الأثر مترتبا على نفس الواقع ، ويلحظ اللفظ الموضوع للطريق عبرة لذي الطريق ، كلفظ التبين والعلم والرؤية ، ولا إشكال في صحة مثل هذا الاستعمال عرفا ، فيلتزم به هاهنا وفي لفظ اليقين فيما نحن فيه وان لم يتحقق وجهه ، مع انك عرفت توجيهه.

ص: 64


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- 392 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الجهة الرابعة : في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية.

فقد نبه عليه صاحب الكفاية رحمه اللّه في هذا المقام في ذيل كلامه ، وبنى على عموم الدليل لكلتا الشبهتين الموضوعية والحكمية (1).

وقبل الشروع في تحقيق أصل المطلب يحسن التنبيه على محل الكلام في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية وأثره العملي. فنقول : ان موضوع الحكم الشرعي ...

تارة : يكون من المجعولات الشرعية ، كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها.

وأخرى : يكون من الأمور الخارجية التكوينية ، كالعدالة والفسق والعلم وغيرها. وهو ..

تارة : يعد عرفا من مقومات الموضوع ، كالعلم في وجوب تقليد زيد العالم ، والفقر في وجوب التصدق على زيد الفقير ، ونحو ذلك.

وأخرى : يعد من حالات الموضوع المتبادلة ، كعدالة زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق عليه. وما يكون كذلك.

تارة يكون : الأثر الشرعي مترتبا عليه حدوثا.

وأخرى : لا يكون مترتبا عليه حدوثا.

اما ما كان من الموضوعات مجعولا شرعا ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع الشك في بقائه ، إذ ما يوهم المنع في الشبهات الموضوعية لا يتأتى فيه كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

واما ما كان من الأمور التكوينية الخارجية ، فان كان مقوما للموضوع ، امتنع جريان الاستصحاب في الحكم السابق مع الشك فيه ، ففي هذا الفرض

ص: 65


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يظهر لجريان الاستصحاب في نفس الموضوع أثر عملي. وان لم يكن مقوما للموضوع وكان الحكم ثابتا حدوثا ، أمكن استصحاب الحكم ولو لم يجر استصحاب الموضوع ، لأن الشك فيه غير مضر في استصحاب الحكم. واما إذا لم يكن الحكم ثابتا في مرحلة الحدوث ، وانما هو يثبت في مرحلة بقاء الموضوع لو كان باقيا ، فلا مجال لإثبات الحكم باستصحابه ، إذ هو غير متيقن الثبوت في السابق ، وانما يثبت الحكم باستصحاب الموضوع ، فيظهر له أثر في هذا الفرض.

فقد تبين ان محل الكلام في الاستصحاب في الشبهات الموضوعية هو استصحاب الأمور الخارجية لا مطلق الشبهات الموضوعية كما تبين ان أثر الالتزام بالاستصحاب في الشبهات الموضوعية يظهر في صورتين :

إحداهما : ما يكون الموضوع المشكوك من مقومات الموضوع عرفا.

والأخرى : ما لا يكون الحكم الشرعي ثابتا في مرحلة حدوث الموضوع ، إذ لا مجال لاستصحاب الحكم في كلتا هاتين الصورتين ، فيحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب الموضوعي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه قد يستشكل في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، سواء قيل ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل اليقين أو قيل انه يتكفل جعل المتيقن.

اما على الأول : فلأن اليقين وان أمكن تعلق الاعتبار به كبعض الأمور التكوينية إلاّ انه انما يصح اعتباره بلحاظ ما يترتب عليه من أثر عملي شرعي أو عقلي.

وجعل اليقين بالموضوع مما لا أثر له ، إذ اليقين الّذي يكون موضوعا للأثر هو اليقين بالحكم الفعلي باعتبار ترتب المنجزية والمعذرية عليه. واليقين بالحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية وان لم يكن فعليا كوجوب الحج على المستطيع ، فان اليقين به يترتب عليه جواز الإسناد والاستناد.

ص: 66

اما اليقين بالموضوع بما هو يقين بالموضوع فلا أثر له أصلا ، وانما الأثر لليقين بحكمه.

فإذا كان هذا حال اليقين الوجداني ، لم يكن اعتبار اليقين بالموضوع ذا أثر ، فان الأثر المترتب عليه هو الأثر المترتب على اليقين الوجداني. والمفروض انه ليس بذي أثر.

واما على الثاني : فلأنه يعتبر في المجعول ان يكون قابلا للجعل. والأمر الخارجي كالعدالة ليس قابلا للجعل ، فلا معنى لأن يتعلق به الجعل من الشارع بما هو شارع. فيلزم من عموم الدليل للموضوع اما التقدير بان يراد جعل أثر الموضوع وحكمه واما التجوز في الإسناد ، فيكون الإسناد إلى غير ما هو له وكلاهما خلاف الظاهر.

وقد يدفع هذا الإشكال بما تقدم بيانه في حديث الرفع من : ان الرفع يمكن ان يتعلق بالموضوع حقيقة ، وذلك بلحاظ عالم التشريع ، فان الموضوع له ثبوت في عالم التشريع بجعل الحكم له ، فيمكن ان يتعلق به الرفع بلحاظ هذا العالم ويكون الرفع حقيقيا لا مسامحة فيه ، لأنه بيد الشارع. فنقول هاهنا : انه يمكن ان يجعل الموضوع ويتعبد بثبوته بلحاظ عالم التشريع ، فيكون وضعا للموضوع حقيقة بلا مسامحة وتجوز وتقدير.

لكن هذا المطلب لو سلم إمكان تطبيقه فيما نحن فيه ، فهو انما يتأتى في مورد يكون للموضوع أثر شرعي في مرحلة الحدوث ، لأن دليل الاستصحاب لا يتكفل مجرد التعبد بالموضوع ، بل يتكفل ببقائه. ومن الواضح انه لا يصدق بقاء الموضوع في عالم التشريع وعدم نقضه إلاّ إذا كان ثابتا في السابق فيه. وإلاّ لم يكن جعله فعلا في عالم التشريع إبقاء له وعدم نقض. وهذا أخص من المدعى كما هو واضح.

هذا أساس الإشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

ص: 67

وقد تصدى المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى تحقيق المطلب إشكالا وجوابا بنحو دقيق مفصل. وخلاصة ما إفادة ( قدس سره ) : - بعد ان التزم ان النهي عن نقض اليقين غير مراد جدا ، بل قضية « لا تنقض » قضية كنائية. وبعد ان ردد بين ان يكون المراد بها النهي عن النقض العملي أو النهي عن النقض حقيقة عنوانا ، مفرعا ذلك على ان اليقين بالحكم مستلزم للفعل تكوينا بلحاظ تنجيزه ، فيكون الأمر بإبقائه ملازما للأمر بنفس الفعل ، فيكون النهي عن نقض اليقين كناية عن الأمر بالفعل كصلاة الجمعة.

وبالجملة : عدم الفعل ملازم لنقض اليقين حقيقة ولنقضه عملا.

وإذا أمكن ان يحمل النهي على أحد المعنيين تعين حمله على النهي عن النقض حقيقة إبقاء له على ظاهره ، ولا محذور فيه بعد ان لم يكن مرادا جدا ، بل كناية عن الأمر بالعمل ، - بعد كل هذا الّذي لخصناه جدا أفاده قدس سره - :

ان أساس المحذور اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين ان نقض اليقين بالحكم اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين بالحكم لباعثيته عقلا نحوه ، واما اسناد نقض اليقين إلى الموضوع ، فهو اسناد إلى غير ما هو له ، إذ الفعل لا يكون إبقاء عملا لليقين بالموضوع ، إذ لا باعثية له بنفسه ، بل بلحاظ منشئيته لليقين بالحكم ، فالنقض لم يسند حقيقة إلى يقين الموضوع.

وبما ان الجمع بين الإسناد في كلام واحد خلاف الظاهر - وان ك- ان ممكنا في نفسه - إذ ظاهر الإسناد الكلامي هو الإسناد إلى ما هو له ، كانت اخبار الاستصحاب قاصرة عن شمول الشبهة الموضوعية.

ودفعه قدس سره : بأنه يبتني على كون مفاد قضية : « لا تنقض » النهي عن النقض عملا ، فان بقاء اليقين بالموضوع عملا غير مستلزم بما هو للعمل ، إذ لا باعثية له كما عرفت.

ص: 68

واما لو كان مفادها النهي عن نقض اليقين حقيقة عنوانا - كما اختاره - لم يتأت هذا المحذور ، فان عدم الفعل لازم لعدم اليقين بالموضوع أو بالحكم ، فيمكن ان يراد من اللفظ النهي عن نقض اليقين مطلقا ، تعلق بالحكم أم بالموضوع ، ويكون كناية عن جعل لازمه من الحكم المماثل له لو كان المتيقن حكما ، أو لحكمه لو كان موضوعا. وبعبارة أخرى : بعد ان كان عدم الفعل لازما لعدم اليقين بالحكم أو بالموضوع ، كان النهي عن نقض اليقين والأمر بإبقائه ملازما للأمر بالفعل في كلا الموردين ، فيعم الشبهة الموضوعية بلا محذور.

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

ولكنه مردود من وجوه :

الوجه الأول : ما بنى عليه أصل كلامه من ان التلازم بين بقاء اليقين بالحكم ، وبين العمل كصلاة الجمعة ، يستلزم التلازم بين الأمر بإبقاء اليقين والأمر بالفعل ، فتكون القضية كناية عن جعل الحكم المماثل.

فانه ممنوع ، بأنه لو سلم التلازم عقلا أو عرفا بين بقاء اليقين بالحكم وبين الفعل ، ولم يناقش بإمكان الانفكاك بينهما ، فهو لا يستلزم التلازم بين الأمر بأحدهما والأمر بالآخر ، فانه ممنوع أشد المنع إذ لم يقل به أحد ، وانما أشير إليه في مبحث الضد من باب انه توهم قد يخطر في البال ، وانما المسلم عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، لا ان الأمر بأحدهما ملازم للأمر بالآخر. فراجع تعرف.

الوجه الثاني : ان ما أفاده لو تم ، فهو انما يتأتى في خصوص مورد اليقين بالحكم الإلزامي ، فان اليقين به يستتبع العمل ، دون اليقين بالحكم غير الإلزامي كالإباحة ، فان اليقين بها لا يستتبع الفعل كي يكون الأمر بإبقائه أمرا بالفعل.

ص: 69


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأي معنى لهذا في مورد الإباحة ، إذ لا يلزم الإتيان بالفعل باستصحابها. ومن الواضح ان الاستصحاب لا يختص بالاحكام الإلزامية ، بل يعمها ويعم غير الإلزامية.

الوجه الثالث : انك عرفت انه قدس سره بنى الملازمة بين بقاء اليقين والفعل على منشئية اليقين للفعل ، ثم فرع عليه ان النقض عملي أو حقيقي عنواني ، فبناء كلا الرأيين على الملازمة بين بقاء اليقين والفعل ، فالتزامه - في مورد النقض العملي - بان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل لعدم منشئية اليقين للفعل ، والتزامه - في مورد النقض الحقيقي - بالملازمة. تفكيك لا وجه له بعد ان كان مبنى التلازم على كلا الرأيين واحدا.

وهو حين نفي الملازمة على القول بالنقض العملي ، بنى نفيه على عدم الملازمة بين اليقين بالموضوع والفعل ، فنفي الملازمة بين الوجودين. وحين أثبتها على القول بالنقض الحقيقي بنى إثباته على الملازمة بين عدم الفعل وعدم اليقين ، فجعل الملازمة بين العدمين.

ومثل هذا الاختلاف في الأسلوب على خلاف الصناعة لعدم توارد النفي والإثبات على مورد واحد.

الوجه الرابع : ان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل أصلا حتى بنحو المسامحة ، فان المراد به اليقين بذات الموضوع ، وهو لا يلازم العلم بحكمه ، بل قد يتخلف عنه.

فما أفاده قدس سره : من كون اسناد النقض إلى يقين الموضوع إسنادا مجازيا بلحاظ استتباعه ليقين الحكم. فيه منع ، لعدم صحة الإسناد بالمرة.

وخلاصة القول : ان ما أفاده قدس سره في المقام مع كمال دقته مما لا يمكن قبوله.

فالتحقيق في دفع الإشكال ان يقال : ان دليل الاستصحاب ان كان

ص: 70

متكفلا للتعبد بالبقاء رأسا - بمعنى ان قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » كانت متكفلة للتعبد ببقاء المتيقن ، كما هو ظاهر تعريف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان - كان إشكال شمول الدليل للشبهة الموضوعية المتقدم ذكره محكّما ، لعدم قابلية الموضوع في حد نفسه للتعبد ، فشمول الدليل لشبهة الموضوع يتوقف على التقدير أو التجوز كما مر. وهكذا الحال إذا كان التعبد والجعل متعلقا بصفة اليقين لا بالمتيقن ، لعدم ترتب الأثر العملي على اليقين بالموضوع ، فيكون التعبد به لغوا كما مر.

ولكن الظاهر ان دليل الاستصحاب بدوا لا يتكفل التعبد بالمتيقن. بيان ذلك : انك عرفت ان النقض حقيقة لا يتعلق باليقين ، لعدم تصوره في باب الاستصحاب ، بل هو متعلق بالمتيقن.

ومن الواضح : ان النهي عن نقض المتيقن بالشك مما لا معنى له ، إذ الشك لا يصلح ناقضا للمشكوك ، لأنه عبارة عن التردد بين الوجود والعدم ، فلا معنى لأن يكون مقتضيا للعدم ، بل حاله حال الطريق ، فانه لا يتصرف في ذي الطريق. فلا بد ان يراد النهي عن النقض العملي ، بمعنى لزوم معاملة المتيقن معاملة الثابت حال الشك وعدم جواز رفع اليد عنه لأجل الشك فيه. فالنهي عن نقض المتيقن لا يراد به التعبد بالمتيقن ، بل يراد به لزوم معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فان هذا هو فعل المكلف الّذي يصح تعلق النهي به.

وهذا النهي إرشادي إلى ثبوت ما يقتضي استمرار معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فهو يدل بالملازمة العرفية أو بدلالة الاقتضاء على التعبد بالمتيقن بقاء إذا كان حكما شرعيا.

ومن الواضح ان هذا المدلول الأولي للكلام - أعني النهي عن نقض المتيقن عملا - يمكن ان يعم الموضوع والحكم بلا أي تجوز ومسامحة ، ومقتضى عمومه هو دلالته - اقتضاء أو عرفا - على جعل الحكم المماثل للمتيقن إذا كان

ص: 71

حكما ، وعلى جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن إذا كان موضوعا ، إذ لزوم المعاملة مع الموضوع معاملة البقاء لا يكون إلا إذا فرض جعل مماثل حكمه بقاء. كما ان لزوم المعاملة مع الحكم معاملة البقاء لا يكون إلاّ إذا فرض جعل مماثله بقاء.

وبهذا البيان يتضح صحة الالتزام بعموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية كما أشار إليه في الكفاية (1).

ولا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعلق النقض هو المتيقن كما اخترناه أو يكون هو اليقين كما هو واضح ، إذ أساسه على استفادة كون النقض المنهي عنه هو النقض العملي لا الحقيقي.

وقد عرفت ان ظهوره العرفي في ذلك ، لأن ما يكون فعل المكلف القابل لتعلق النهي به هو نقض المتيقن أو اليقين عملا لا النقض حقيقة. فتدبر.

هذا تمام الكلام في عموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية.

ويقع الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. فقد توقف فيه جمع ، منهم المحقق النراقي ، وتبعه عليه في الجملة السيد الخوئي (2).

ومنشأ الإشكال الّذي ذكره النراقي ليس قصور الأدلة في أنفسها عن شمول مورد الأحكام الكلية ، وانما هي جهة أخرى ستتضح إن شاء اللّه تعالى.

وتحقيق الكلام : هو ان الشك في بقاء الحكم الشرعي ..

تارة : يرتبط بمقام الجعل والتشريع ، ولو لم يكن المجعول فعليا لعدم موضوعه ، كما لو ثبت جعل وجوب الحج على المستطيع في الشريعة ثم شك في بقاء هذا التشريع والجعل ولو لم يكن مستطيع فعلا. ولا إشكال في جريان استصحاب الجعل ، ويعبر عنه باستصحاب عدم النسخ. ولا كلام في ذلك.

ص: 72


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /392- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 36 - الطبعة الأولى.

وأخرى : يرتبط بمقام المجعول ، كما لو ثبت الحكم الفعلي في زمان فشك في بقائه ، كالشك في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.

ومنشأ الشك في بقاء الحكم الفعلي.

تارة : يكون الشك في الأمور الخارجية مع العلم بحدود الحكم المجعول. من قبل الشارع سعة وضيقا ، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية ، كما لو علم بعدم حرمة الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، ولكن شك في تحقق انقطاع الدم. وجريان الاستصحاب في الحكم أو في الموضوع في مثل ذلك خارج عن محل الكلام.

وأخرى : يكون المنشأ هو الشك في حدود المجعول الشرعي سعة وضيقا ، فيشك في ان المجعول شرعا هل هو حرمة الوطء حين وجود الدم أو إلى حين الغسل؟ ويعبر عنه بالشبهة الحكمية. وهي على صورتين :

الصورة الأولى : ان يكون الزمان مفرّدا للموضوع بنحو يكون كل آن من الزمان موضوعا للحكم على حدة ، فينحل الحكم بتعدد أفراد الزمان الطولية ، وذلك كحرمة وطء الحائض ، فانها تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد افراد الوطء الطولية بحسب الزمان.

الصورة الثانية : ان يكون الحكم واحدا مستمرا باستمرار الزمان ولا يتعدد ويتفرد بتعدد آنات الزمان ، كنجاسة الماء المتغير ، فانها حكم واحد مستمر من حدوثها إلى زوالها وموضوعها واحد عرفا وهو الماء ، فانه وجود واحد مستمر بنظر العرف. وليست النجاسة في كل آن حكما غير النجاسة في الآن الآخر.

اما الصورة الأولى : فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها مع الشك ، لتعدد افراد الحرمة بتعدد افراد الوطء بلحاظ عمود الزمان ، فالفرد المشكوك حرمته من الوطء لم يكن حكمه متيقنا في السابق ، بل هو مشكوك الحدوث رأسا ، لأنه فرد حادث لا سابق.

ص: 73

واما الصورة الثانية : فهي محل الكلام في هذا البحث ، فيقع الكلام في جريان استصحاب الحكم المشكوك بقاؤه ، كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.

وقد عرفت ان الفاضل النراقي منع جريانه. والوجه في المنع هو : ابتلاء استصحاب بقاء الحكم بالمعارض ، وهو استصحاب عدم الجعل.

بيان ذلك : انه إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه ، فلدينا يقينان سابقان وشكان لاحقان ، يقين بثبوت المجعول وهو النجاسة في السابق ، وشك في بقائها بعد زوال التغير ، ومقتضى ذلك استصحاب النجاسة المجعولة. ويقين بعدم جعل وتشريع النجاسة لهذا الموضوع - أعني الماء بعد زوال تغيره - في صدر الإسلام ، وشك في بقاء هذا العدم وزواله بجعل النجاسة له - كما جعلت لغيره كالماء قبل زوال التغير ، فان جعل النجاسة لم يكن ثابتا له أيضا - ، ومقتضى ذلك استصحاب عدم الجعل. فيكون مورد الشك مجرى الاستصحابين : استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل ، وهما متعارضان.

فلا يمكن البناء على استصحاب الحكم الشرعي ، لأجل معارضته باستصحاب عدم الجعل.

وبهذا التقريب لكلام النراقي ، لا يتضح إيراد الشيخ (1) عليه ، فانه قدس سره أورد على النراقي بعد ذكر كلامه : بان الزمان ان لوحظ مفرّدا للموضوع بنحو تكون كل حصة منه فردا منفصلا عن الحصة الأخرى ، فلا مجال لاستصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع وان لوحظ ظرفا للموضوع تعين إجراء استصحاب الوجود ، ولا يجري استصحاب العدم لانقطاعه بالوجود. فلا يجري الاستصحابان معا حتى يتحقق التعارض.

ص: 74


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /377- الطبعة الأولى.

ولا يخفى عليك ان الشيخ رحمه اللّه كأنه فهم من كلام النراقي : ان مجرى الاستصحابين هو المجعول. فأورد عليه بما عرفت ولكن عرفت في تقريب كلامه ان مركز استصحاب العدم هو الجعل ، ومركز استصحاب الوجود هو المجعول. وعليه فيمكن تصور جريان الاستصحابين معا في أنفسهما مع ملاحظة الزمان ظرفا لا مفردا ، ويتحقق التعارض حينئذ.

ومن هنا يظهر لك عدم ورود ما أفاده في الكفاية من : انه نظر تارة إلى تحكيم نظر العرف المسامحي في الموضوع ، فأجري استصحاب الوجود. وأخرى إلى تحكيم نظر العقل الدقي ، فأجري استصحاب العدم. والثابت هو اتباع النّظر العرفي ، فلا مجال لاستصحاب العدم (1).

ووجه عدم وروده : انه يتم لو كان المنظور في كلام النراقي كون مجرى استصحاب العدم واستصحاب الوجود شيئا واحدا وهو المجعول ، فلا يمكن ان يجري فيه الاستصحابان إلاّ بلحاظ اختلاف النظرين.

وقد عرفت ان منظور النراقي ليس ذلك ، بل مركز استصحاب العدم غير مركز استصحاب الوجود ، وهذا لا يتوقف على اختلاف النظرين ، بل يمكن ان يجريا مع كون المحكم هو نظر العرف المسامحي.

وبالجملة : إيراد الشيخ وإيراد الكفاية يبتنيان على أمر واحد قد عرفت عدم صحته ، وأن نظر كلام النراقي إلى غير ما فهما منه فلاحظ.

والتحقيق : ان ما أفاده النراقي وتبعه عليه السيد الخوئي بالتقريب المتقدم يبتني على أمور :

أحدها : ان استصحاب عدم الجعل مما يترتب عليه أثر عملي مباشر ، وإلاّ كان لغوا أو مثبتا.

ص: 75


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /410- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان عدم الجعل مما يمكن ان يكون موردا للتعبد الشرعي وإلاّ لم يصح ان يجري فيه الاستصحاب ، لأنه ليس بمجعول شرعي وليس بموضوع شرعي لأثر شرعي.

الثالث : ان الجعل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا وإلاّ فلو فرض انه بنحو واحد كان المجعول متسعا أو ضيقا لم يجر استصحاب عدم الجعل فيما نحن فيه كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

وجميع هذه الأمور محل بحث وكلام ، ولأجل ذلك لا بد من إيقاع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في أن استصحاب عدم الجعل هل يمكن ان يجري في نفسه لترتب أثر عملي عليه أو لا؟.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى الثاني ، بيان : ان الآثار العملية العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز ونحوها انما يترتب على الحكم المجعول الفعلي بفعلية موضوعه ، واما الجعل بنفسه فلا يترتب عليه أي أثر عملي.

وعليه ، فيكون التعبد بعدم الجعل لغوا ، لعدم أثر عملي مترتب عليه ، فلا يصح جريان الاستصحاب فيه لوضوح ان التعبد الاستصحابي انما هو بلحاظ الأثر العملي.

نعم ، يترتب على الجعل أثر بواسطة ثبوت المجعول به ، لكن ترتب ذلك بالملازمة ، فيكون الاستصحاب بلحاظه مثبتا. اذن فلا يجري استصحاب عدم الجعل ، لأنه إما لغو ، بملاحظة الأثر المترتب عليه مباشرة ، إذ لا أثر له واما مثبت بملاحظة أثر المجعول لترتب المجعول على الجعل بالملازمة العقلية (1).

وقد رد المحقق العراقي هذا البيان بوجهين :

ص: 76


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 406 - الطبعة الأولى.

الوجه الأول : ان الأثر العقلي انما لا يترتب على المستصحب الا على القول بالأصل المثبت لو كان من آثار الوجود الواقعي للمستصحب ، اما إذا كان من آثار ثبوت المستصحب للأعم من الواقعي والظاهري ، فلا مانع من التعبد بالمستصحب بلحاظه لترتبه عليه عقلا ، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت ، وذلك نظير وجوب الإطاعة ، فانه يترتب عقلا على وجود الحكم أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح التعبد بالحكم ، ويكون أثره العملي الإطاعة. وما نحن فيه كذلك ، فان المجعول يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري ، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا. وعليه ، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفى المجعول ، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. اذن فلا يكون استصحاب عدم الجعل من الأصول المثبتة ، بل يترتب الأثر العملي عليه بلا محذور.

وذكر في إثبات ذلك : بأنه لو لا ذلك لما صح استصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، مع ان جريانه وترتب الأثر عليه من المسلمات لدى الكل ولا يتوقف فيه أحد ، وليس ذلك إلاّ لأن المجعول لازم للجعل أعم من الوجود الواقعي والظاهري.

الوجه الثاني : ان الجعل والمجعول متحدان وجودا كالإيجاد والوجود ، وانما هما يختلفان اعتبارا وبالإضافة ، فهما كالتصور والمتصور ، فانه لا وجود حقيقة للتصور في غير وجود المتصور.

وعليه ، فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول بلا ملازمة وترتب ، كما ان استصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول بلا ملازمة (1).

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) على هذا الوجه ، جريا على ما التزم

ص: 77


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 161 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

به في الواجب المشروط من تعلق الاعتبار بالوجوب على تقدير ، بمعنى ان يكون الوجوب ثابتا في ظرف الاعتبار والإنشاء ، لكن الثابت هو الوجوب الخاصّ وهو على تقدير ونتيجة ذلك : ان تكون الآثار العقلية مترتبة عند حصول ذلك التقدير ، لا ان الوجوب ثابت في ظرف التقدير بحيث ينفك الاعتبار عن المعتبر زمانا.

وبالجملة : يلتزم بان وجود الحكم بنفس الاعتبار ، وانما الأثر يتأخر ويترتب عند حصول التقدير. وضم إليه مقدمة أخرى ، وهي : ان الأثر العملي يترتب على امرين فقط : الجعل ووجود الموضوع ، وفعلية الحكم ليست امرا وراء ذلك. اذن فنفي الجعل يستلزم نفي الأثر العملي ، لأنه جزء موضوع الأثر.

والمحصل : ان استصحاب عدم الجعل يستلزم نفي الأثر العملي بلا لزوم محذور الأصل المثبت (1).

والحق ان كلا الوجهين مردودان :

اما الأول ، ففيه : ان الجعل في مرحلة الظاهر وان كان يلازم تحقق المجعول باعتبار ان الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفك عن المنشأ ، فالجعل الظاهري يستتبع مجعولا وحكما ظاهريا لا محالة لتقومه به عقلا. وعليه ، فبثبوت الجعل ظاهرا تترتب آثار المجعول لتحققه به إلاّ ان عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهرا ، كاستتباع عدم الجعل واقعا لعدم المجعول واقعا ، وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل ، ولا يستلزم تأمينا وتعذيرا عنه ، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر ، فلا بد من إثبات عدم المجعول واقعا بالتعبد الظاهري بعدم الجعل واقعا.

ص: 78


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 46 - الطبعة الأولى.

ومن الواضح ان إثباته انما يكون بالملازمة العقلية للتلازم واقعا بين عدم الجعل وعدم المجعول. فيكون الأصل من الأصول المثبتة.

ومن هنا ظهر عدم صحة النقض باستصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، وقد عرفت تقوم الجعل الظاهري بالمجعول الظاهري وثبوت الحكم الظاهري يكفي في صحة ترتيب الآثار. وهذا بخلاف استصحاب عدم الجعل ، فانه وان ترتب عليه عدم المجعول ظاهرا ، لكنه لا ينفع في ترتب الأثر العملي. وما يترتب عليه الأثر العملي وهو عدم المجعول واقعا لا يثبت إلاّ بالملازمة ، فيكون الأصل مثبتا.

وبالجملة : فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.

واما الوجه الثاني ، فهو كما عرفت يبتني على مقدمتين :

المقدمة الأولى : وحدة الجعل والمجعول. وهذه المقدمة ترتبط بما يقرر في حقيقة الإنشاء ، فهل هو عبارة عن التسبيب قولا أو فعلا ، لتحقق الاعتبار العقلائي ، أو من بيده الاعتبار من دون ان يكون للمنشئ أي اعتبار ، بل غاية فعله هو نفس إيجاد الموضوع للاعتبار العقلائي ، وهو الإنشاء؟. أو أنه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا للمنشإ من وجوب أو ملكية أو غيرهما ، ولا يترتب الأثر عليه الا بعد إبرازه بمبرز قولي أو فعلي؟.

فالمقدمة المزبورة تبتني على الوجه الثاني ، إذ ليس للجعل حقيقة سوى الاعتبار الشخصي ، وهو عين المعتبر وجودا وان اختلف معه اعتبارا. واما على الوجه الأول ، فليس الجعل سوى الإنشاء الّذي يكون سببا للاعتبار العقلائي في ظرفه ، والمجعول هو ما يعتبره العقلاء في ظرف الموضوع. ومن الواضح تغايره مع الجعل وجودا وذاتا.

وقد تقدم في محله بطلان الوجه الثاني واختيار الوجه الأول. وعليه فهذه المقدمة غير تامة.

ص: 79

ومع غض النّظر عن ذلك ، يقع الكلام في ..

المقدمة الثانية : وهي ان الأثر العملي يترتب على الجعل بضميمة وجود الموضوع ، فيكون نفي الجعل بالأصل مستلزما لعدم ترتب الأثر. فنقول : لو سلمنا وحدة الجعل والمجعول بالبيان المتقدم ، فلا نسلم ان الأثر العملي مترتب على وجود الجعل وان تحقق المجعول في ظرف الجعل ، بل الأثر العملي انما يترتب على تقدير وجود الموضوع ، بحيث يضاف المجعول إلى فرد المكلف الخاصّ ، فيقال : انه ممن وجب عليه الفعل ، : فان مجرد الجعل قبل تحقق الموضوع لا يضاف به الوجوب إلى المكلف الخاصّ ، فلا يقال للمكلف قبل الزوال انه ممن وجبت الصلاة عليه ، وانما الإضافة تتحقق بعد الموضوع ، كتحقق الزوال بالنسبة إلى الصلاة ، ولعله هو المراد من قوله علیه السلام : « فإذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة » (1).

وبالجملة : مجرد جعل الحكم الكلي لا يترتب عليه الأثر ، وانما الأثر لمرحلة الانطباق وإضافة الوجوب إلى فرد المكلف.

وعليه ، فاستصحاب عدم الجعل مما لا يترتب عليه نفي الأثر العملي إلاّ بتوسط نفي إضافة المجعول إلى المكلف ، وهذا من اللوازم العقلية ، فيكون من الأصول المثبتة ، فهو نظير استصحاب عدم الكر في الحوض في نفي كرية ماء الحوض التي هي مورد الأثر العملي.

والخلاصة : ان الإشكال في استصحاب عدم الجعل بأنه من الأصول المثبتة لا دافع له. فهذا أحد الإيرادات على كلام النراقي المتقدم.

الجهة الثانية : في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل.

والتحقيق : ان الجعل وعدمه ليس مما يمكن تعلق التعبد به والاعتبار.

ص: 80


1- وسائل الشيعة 1 / 261 ، حديث : 1.

فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في عدم صحة التعبد بالجعل. فنقول : ان التعبد والاعتبار انما يطرأ على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والاعتبار ولا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية ، فانها لا تقبل الجعل. ومن الواضح ان الجعل والاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى ومن أفعاله الاختيارية النفسيّة التي لها وجود واقعي وليس من الأمور الاعتبارية. نعم ما يتعلق به الاعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتباريا ، وإذا كان الاعتبار كذلك امتنع ان يكون موردا للتعبد والاعتبار. وعليه فإذا فرض ان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد بوجود المتيقن بقاء ، لم يشمل الجعل ، ولا معنى لجريان الاستصحاب فيه.

وبالجملة : استصحاب الجعل بهذا المعنى مما لا محصل له.

واما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ ، فهو اما ان يرجع إلى التمسك بإطلاق الدليل الدال على الحكم بالنسبة إلى الزمان الممتد ، وتكون تسميته بالاستصحاب مسامحة. واما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي ، الّذي سيأتي البحث عنه في محله.

نعم ، بناء على ما قربنا به شمول دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية - من : ان الدليل لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء وانما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة الباقي الثابت ، ويكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد بحسبه - أمكن دعوى شمول الدليل للجعل ، ويكون لازمه ثبوت التعبد بالمجعول ، لا التعبد بالجعل ، فتكون نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الحكم إلى الموضوع المستصحب ، فكما ان مقتضى شمول عموم : « لا تنقض » للموضوع المتيقن التعبد بحكمه - كما عرفت - ، لأنه هو القابل للتعبد دون الموضوع ، كذلك مقتضى شموله للجعل المتيقن هو التعبد بالمجعول ، فانه لازم للزوم معاملة

ص: 81

الجعل معاملة البقاء بعد عدم إمكان التعبد بالجعل نفسه. فتدبر.

المقام الثاني : في عدم صحة التعبد بعدم الجعل. فنقول : بناء على ما عرفت من عدم قابلية الجعل للتعبد والاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى ، وان دليل الاستصحاب تكفل التعبد رأسا بالمتيقن السابق. يكون امتناع التعبد بعدمه من الواضحات ، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.

واما بناء على تقريب شمول الدليل للجعل على المسلك الّذي سلكناه في تعميم الاستصحاب للشبهة الموضوعية ، فالدليل أيضا لا يشمل عدم الجعل.

وذلك لأن غاية ما يمكن ان يقال في شمول الدليل له : ان المدلول المطابقي لعموم : « لا تنقض » هو حرمة النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي ، وهذا لا مانع من شموله لعدم الجعل ، ويكون إرشادا إلى ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه ، ولا يمكن ان يكون المتعبد به هو عدم الجعل ، لما عرفت انه غير قابل للتعبد ، فلا بد ان يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول ، فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول - يعني : عدم التكليف -.

ولكن التحقيق ان التعبد بعدم التكليف غير صحيح.

وهذا مطلب برأسه يبحث عنه مع قطع النّظر عن استصحاب عدم الجعل ، بل يسري إلى استصحاب عدم المجعول أيضا الّذي يذكر في باب البراءة ، كما تقدم بيانه والمناقشة فيه.

فيقع الكلام في ان عدم التكليف هل يمكن التعبد به وتعلق الجعل به أو لا؟.

وبتحقيق هذه الجهة يظهر الحال فيما نحن فيه : نقول : ان ظاهر الشيخ ( رحمة اللّه ) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنه غير اختياري (1).

ص: 82


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.

ورد : بأنه بعد ان كان التكليف بيد الشارع كان عدمه كذلك لأن نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم على حد سواء. وعليه فعدم التكليف بيد الشارع ، ولا يعتبر في المستصحب إلاّ ان يكون أمرا بيد الشارع (1).

ولكن التحقيق : ان ما يمنع من التعبد بعدم التكليف أمر وراء ذلك ، وما ذكرناه من الإشكال فيه وجوابه لا يرتبطان بحقيقة المانع. بيان ذلك : ان اعتبار عدم التكليف والتعبد تارة يكون واقعيا. وأخرى يكون ظاهريا.

فان كان واقعيا ، بان اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع ، وجعل عدمه واقعا. فلا يخلو الحال اما ان يكون التكليف ثابتا في الواقع. أو لا يكون ثابتا في الواقع. فعلى الثاني : يلغو جعل العدم ، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه ، بلا حاجة إلى اعتبار العدم فانه مئونة زائدة.

وعلى الأول : يكون من الجمع بين الضدين نظير ما يقال في جعل الوجوب والحرمة واقعا لموضوع واحد في آن واحد ، فان جعل عدم التكليف وجعل التكليف يكونان متضادين (2) بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ لكل منهما.

وان كان ظاهريا ..

فتارة : يراد به جعل العدم ظاهرا ، فهو مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير والتأمين عن العقاب ، إذا المدار في ذلك على عدم التكليف واقعا ، فانه لا يحتاج إليه فانه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.

وأخرى : يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر - يعني

ص: 83


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 258 - الطبعة الأولى.
2- لا متناقضين ، لأن جعل العدم وجعل الوجود أمران وجوديان ، نعم التكليف وعدمه متناقضان ، فالتفت.

يجعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي ، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع - ، وهو غير صحيح أيضا ، لأن التكليف الواقعي ان لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر. وان كان له ثبوت فاما ان لا يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك ، بحيث يحكم العقل بالمعذورية والأمان من العقاب ، فلا أثر لجعل العدم ، إذ غاية ما يراد به هو إثبات المعذورية ، والمفروض انها ثابتة عقلا مع قطع النّظر عن جعل العدم. واما ان يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك ، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط - نظير موارد العلم الإجمالي -.

نعم لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا لا تنجيزيا بحيث يرتفع باعتبار الشارع عدم التكليف ، كان جعل العدم ذا أثر عملي ، لكن الأمر ليس كذلك ، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا ، فيتحقق التنافي بين جعل التكليف الواقعي وجعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي العقلي ، فلا يصح الجمع بينهما.

وبهذا البيان تعرف ان ما أجيب به عن إشكال الشيخ من اختيارية العدم وكونه تحت القدرة لا يحل المشكلة في جعل العدم - وان فرض انه بيد الشارع ، - وهي اما اللغوية أو لزوم الجمع بين الضدين.

وكيف كان ، فقد ظهر انه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل وشمول دليل الاستصحاب له ، وبذلك يتحقق إيراد ثان على الفاضل النراقي ومن تبعه في مدعاه. فتدبر.

الجهة الثالثة : في ان الجعل هل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا أو لا ، يختلف الحال فيه ، بل يكون بنحو واحد سواء كان المجعول واسعا أم ضيقا؟. توضيح ذلك : ان الحكم المجعول لا إشكال في اتساع دائرته

ص: 84

وضيقها باتساع دائرة متعلقه وضيقها ، فالوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى الغروب أضيق دائرة من الوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى نصف الليل ، فيقال : ان الجعل هل يتسع بسعة المجعول ويضيق بضيقه ، نظير بعض الاعراض الخارجية العارضة على الجسم كالبياض ، فانها تزيد بسعة الجسم وتضيق بضيقه ، ونظير التصور بالنسبة إلى المتصور ، فانه يزيد بسعة المتصور ويضيق بضيقه؟ أو ان الجعل لا يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه ، بل يكون على كلا التقديرين بحد واحد. وأثر ذلك فيما نحن فيه واضح ، فانه إذا كان كنفس المجعول مما تتسع دائرته وتضيق ، فمع الشك - فيما نحن فيه - في سعة المجعول وامتداده في الزمان المشكوك ، يشك في زيادة الجعل ، فيمكن ان يستصحب عدمه - مع قطع النّظر عما تقدم من الإيرادات -. اما إذا لم يكن مما يختلف سعة وضيقا ، فلا شك فيما نحن فيه في زيادة الجعل ، كما ان وجوده معلوم ، وانما الشك في كيفيته وانه بما ذا تعلق ، وهذا مما لا يمكن ان يجري فيه الأصل ، إذ لا حالة سابقة له ، فلا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الجعل.

اذن فجريان أصالة عدم الجعل يبتني على الالتزام بسعة الجعل وضيقه لسعة المجعول وضيقه ، كي تكون زيادة الجعل مشكوكة الحدوث بسبب الشك في سعة المجعول واستمراره ، فتكون مجرى لأصالة العدم.

وتحقيق الحال في ذلك يبتني على ما يلتزم به في معنى الإنشاء ، وعمدة المسالك فيه ثلاثة :

الأول : انه عبارة عن مجرد التسبيب لتحقق الاعتبار العقلائي في ظرفه. وبعبارة أخرى : انه عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من قبل العقلاء في ظرفه المناسب له ، فلا يصدر من المنشئ سوى الاستعمال بالقصد المزبور. وهذا هو المشهور في معنى الإنشاء.

الثاني : انه عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار

ص: 85

العقلائي أو الشرعي في ظرفه ، فما يصدر من المنشئ هو الاستعمال بقصد تحقق وجود إنشائي للمعنى يترتب عليه الاعتبار العقلائي عند وجود موضوعه وهذا مختار صاحب الكفاية (1).

وقد قربناه بما لا مزيد عليه ، فراجع مبحث الإنشاء - من مباحث القطع والأوامر -.

الثالث : انه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ الشخصي ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا يكون موردا للآثار العقلائية إذا أبرز بمبرز من لفظ أو غيره. وهذا ما ذهب إليه بعض المتأخرين (2).

وقد نفينا صحته في محله فراجع.

ولا يخفى انه بناء على المسلك الأخير ، يكون الجعل مما يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه. وذلك لأن مرجع الجعل إلى الاعتبار الشخصي الصادر من المعتبر. ومن الواضح ان الاعتبار في السعة والضيق يتبع الأمر المعتبر ، فان نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور والموجود ، فمع سعة الأمر الاعتباري يتسع الاعتبار ومع ضيقه يضيق.

وهكذا الحال بناء على المسلك الثاني ، فان مرجع الجعل إلى إيجاد الحكم بوجود إنشائي ، ومن الواضح اتساع دائرة الوجود وضيقها باتساع دائرة الموجود وضيقه.

واما على المسلك الأول المشهور ، فلا يكون الجعل مما يقبل السعة والضيق بسعة المجعول وضيقه ، لأن الجعل هو الاستعمال بقصد تحقق الاعتبار في ظرفه من قبل من بيده الاعتبار. ومن الواضح ان المستعمل فيه لو كان مفهوما

ص: 86


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /66- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- التوحيدي محمد على. مصباح الفقاهة2/ 51 - الطبعة الأولي.

اسميا يقبل السعة والضيق بان ينشئ الوجوب بمفهومه الاسمي ، أمكن ان يتأتى فيه البيان المزبور ، فيقال : ان الاستعمال يرجع إلى جعل اللفظ مرآتا وحاكيا عن المعنى ، والحكاية تتسع وتضيق بسعة المحكي وضيقه ، فمع الشك في زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى لأصالة العدم.

ولكنه غالبا يكون الإنشاء بالصيغة ، وهي لا تتكفل إنشاء الوجوب بمفهومه الاسمي القابل للسعة والضيق ، بل بالمفهوم الحرفي الّذي ليس له إلاّ نحو واحد ، وهو المعبر عنه بالوجود الرابط الّذي لا يقبل السعة والضيق ، فلا يتصف الإنشاء بهذا المعنى بالسعة والضيق ، بل له وجود واحد مردد بين نحوين متباينين ، فلا مجال حينئذ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفية ، وانه تعلق بهذا أو بذلك لا في أصل وجوده.

وليس الإنشاء نفس القصد القلبي المزبور ، كي يقال انه مما يقبل السعة والضيق بملاحظة متعلقه ، بل القصد مأخوذ في الإنشاء قيدا ، بمعنى ان الإنشاء هو الاستعمال الخاصّ ، وهو المقترن بالقصد ، لا انه هو نفس القصد.

وإذا عرفت ذلك ، تعرف ان كلام النراقي لا يتم بناء على المسلك المشهور في معنى بالإنشاء ، فهذا إيراد ثالث عليه لكنه مبنائي ، بل هو وارد على النراقي نفسه ، إذ لم يكن للمسلكين الآخرين عين ولا أثر في زمانه. فتدبر.

ثم انه مما ذكرناه في هذه الجهة يمكن تصحيح إيراد الشيخ ( رحمة اللّه ) على النراقي الّذي تقدم نقله - في صدر البحث - وتقدم الإيراد عليه بأنه غفلة عن محط نظر النراقي في دعوى المعارضة. وذلك بدعوى : ان كلام الشيخ رحمه اللّه يبتني على عدم سعة الجعل بسعة المجعول ، وقد أخذ ذلك في كلامه بنحو المقدمة المطوية.

نعم ، هنا شيء ، وهو : ان الأحكام الواردة على الموضوعات المتعددة المتباينة تستلزم تعدد الجعل ولو كان إنشاؤها واحدا بالصورة ، فحين يقول : « أكرم

ص: 87

كل عالم » ينحل إنشاؤه إلى إنشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجا ، فيتعدد الجعل حقيقة وان كان واحدا صورة.

وعليه ، فيتلخص إيراد الشيخ : في انه ان لوحظ الزمان قيدا ، كان الفعل في كل حصة زمانية موضوعات مستقلا فلا مجال لجريان استصحاب الوجود لتعدد الموضوع ، بل يتعين استصحاب عدم الجعل للشك في حدوثه بالإضافة إلى هذه الحصة المشكوكة. وان لوحظ ظرفا ، كان الحكم الثابت على تقرير استمراره واحدا ، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه ، ولا في زيادته لعدم قابليته للسعة والضيق ، بل الشك في كيفيته ، وهي لا تكون مجرى لأصالة العدم كما عرفت ، بل يتعين استصحاب وجود المجعول.

فليس نظر الشيخ إلى وحدة مجرى الاستصحابين كي يورد عليه - كما تقدم - بان مجراهما مختلف ، بل نظره إلى ان استصحاب عدم الجعل لا مجال له إلاّ إذا لوحظ الزمان قيدا ، ومعه لا مجال لاستصحاب المجعول ، فهو متنبه إلى اختلاف مجرى الاستصحابين.

فالإيراد السابق على الشيخ يمكن ان نقول : أنه ناش عن عدم التأمل في كلامه قدس سره فتدبر جيدا. ومنه يمكن تصحيح إيراد الكفاية ، فإنه مأخوذ من كلام الشيخ فراجع.

والّذي تلخص مما تقدم : ان جريان أصالة عدم الجعل وجعلها طرفا لمعارضة أصالة بقاء المجعول امر لا يمكن الالتزام به ، فانه مبتن على مقدمات كثيرة أكثرها محل منع.

وعليه ، فلا مانع من التمسك في الشبهات الحكمية بأصالة بقاء المجعول - إذا تمت شرائط الاستصحاب في أنفسها - ولا مجال لدعوى معارضته.

ثم انه بناء على الالتزام بجريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب المجعول. فهل يختص ذلك بما كان المجعول المشكوك من الأحكام

ص: 88

الإلزامية ، أو يعم ما إذا كان من الأحكام الترخيصية كالإباحة؟.

التزام السيد الخوئي بالاختصاص (1). خلافا لظاهر النراقي حيث التزم بعموم هذا البيان لمطلق موارد الشك في الحكم الشرعي الكلي.

وتحقيق الكلام في المقام ..

انه اما ان يلتزم بان الإباحة ليست من الأحكام المجعولة شرعا ، بل هي منتزعة عن عدم طلب الفعل والترك. وذلك إذ لا أثر عقليا لجعل ما يسمى بإطلاق العنان وتعلق الاعتبار به ، إذ اللاحرجية في الفعل والترك تترتب على مجرد عدم الإلزام بأحدهما بلا ملزم لاعتبار ذلك.

وبالجملة : الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على مجرد عدم الإلزام بأحد الطرفين وان لم تكن الإباحة مجعولة ، فيكون جعلها لغوا.

واما ان يلتزم بتعلق الجعل بها كالوجوب والحرمة ، كما هو المشهور المتداول على الألسنة من كون الأحكام التكليفية خمسة.

فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الحصة الزمانية المشكوك إباحة الفعل فيها ، إذ الفرض انها غير مجعولة بالمرة. فلا شك في تعلق الجعل بها وعدمه ، بل على هذا لا مجال - في الفرض - لاستصحاب المجعول وهو الإباحة ، لعدم تعلق الجعل بها كي تستصحب ويتعبد ببقائها ، فيخرج المورد عن محل البحث في استصحاب الأحكام الكلية بل اما ان يرجع في الفرض إلى أصالة عدم الحكم الإلزامي المشكوك ان جرت أصالة العدم - كما هو المفروض ، إذ المفروض صحة استصحاب عدم الجعل - ، وإلاّ فالمرجع أصالة البراءة ولا مجال للاستصحاب مع الشك في الحلية بتاتا.

واما على الثاني : فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب بقاء الإباحة ، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة فجعلها حادث لا

ص: 89


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 47 - الطبعة الأولى.

محالة ، سواء كان حدوثه في هذه الشريعة أو من السابق : فإذا شك في تحقق جعل الإباحة - في ظرفه أي زمان كان - بالنسبة - إلى الزمان الخاصّ ، فتجري أصالة عدم الجعل وتعارض استصحاب الإباحة ، كما هو الحال في مورد الأحكام الإلزامية بلا فرق أصلا.

وكما يتأتى هذا الحديث في الأحكام الترخيصية التكليفية ، يتأتى نظيره في الأحكام الوضعيّة اللااقتضائية ، كالطهارة في قبال النجاسة ، فانه ان التزم بعدم جعل الطهارة ، وان حقيقة الطهارة ليست إلاّ عدم النجاسة والقذارة ، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان الخاصّ المشكوك ، بل لا مجال لاستصحاب الطهارة نفسها. وان التزم بجعل الطهارة ، كان استصحاب عدم جعلها معارضا لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.

بل يأتي هذا الحديث في النجاسة إذا احتمل ان لا تكون مجعولة ، وانها عبارة عن عدم الطهارة. فتدبر جيدا.

وبهذا البيان تعرف ما في تقريرات بحث السيد الخوئي من الإشكال والنّظر ، فلاحظ تعرف ولا حاجة إلى الإطالة. هذا تمام الكلام في هذا البحث.

ويقع الكلام بعد ذلك في سائر نصوص الباب.

فمنها : صحيحة أخرى لزرارة - مضمرة أيضا - قال : « قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى ان أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ، ثم اني ذكرت بعد ذلك قال علیه السلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته؟ قال علیه السلام : تغسله وتعيد قلت : فإن ظننت انه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، فصليت فرأيت فيه. قال علیه السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟. قال علیه السلام : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان

ص: 90

تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟. قال علیه السلام : تغسله من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ ان شككت في أنه اصابه شيء أن انظر فيه؟. قال علیه السلام : لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الّذي وقع في نفسك. قلت : ان رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟. قال علیه السلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » (1).

ومحل الاستشهاد بهذه الرواية فقرتان :

الأولى : قوله علیه السلام - بعد سؤال زرارة ب- : « لم ذلك » - : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ».

والثانية : قوله علیه السلام - في آخر النص - : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ».

وتحقيق الكلام في الفقرة الأولى : ان السائل سأل الإمام علیه السلام عن حكم ما إذا ظن بالنجاسة ولم يتيقن بوجودها فنظر فلم ير شيئا ، ثم بعد الصلاة رأى نجاسة. فأجابه علیه السلام بعدم لزوم إعادة الصلاة ، وعلله - بعد مطالبة السائل بالعلة - بقوله : « لأنك كنت ... ».

ولا يخفى ان قول السائل : « فرأيت فيه » يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أنه رأى النجاسة التي ظنها فيها قبل الصلاة بحيث علم بوقوع صلاته مع النجاسة.

والآخر : انه رأى نجاسة لا يعلم انها حادثة بعد العمل أو هي التي ظنها.

ص: 91


1- وسائل الشيعة 2 / 1061 ، حديث : 1 و 2 / 1063 ، حديث : 1.

وقد استظهر جلّ الاعلام الوجه الأول ، فحينئذ يكون المراد باليقين والشك في قوله : « كنت على يقين فشككت » ، هما اليقين قبل ظن الإصابة ، والشك الموجود أثناء العمل الّذي يدل عليه قوله : « فان ظننت انه أصابه ولم أتيقن ذلك. ».

وعلى هذا الوجه يشكل تطبيق الاستصحاب في المورد.

وقد تعرض الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) لبيان الإشكال بما لا يخلو عن قصور ، وقد وقع الخلط في كلمات بعضهم كما ستعرف ، وتوضيح الإشكال. وتقريبه هو : ان الإمام علیه السلام حكم بعدم وجوب الإعادة وعلله بحرمة نقض اليقين بالشك بنحو يظهر منه ثبوت الحرمة الفعلية للنقض.

وعليه يقال : اما ان يكون الملحوظ في قوله : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا » هو حرمة النقض فعلا ، بحيث يراد بيان ثبوت الاستصحاب في حال ما بعد الصلاة ولو كان الموضوع هو اليقين والشك السابقين ، كما هو الظاهر من الرواية. واما ان يكون الملحوظ هو ثبوت الاستصحاب وحرمة النقض في حال الصلاة.

فعلى الأول : يكون ظاهر التعليل ان الإعادة من مصاديق نقض اليقين بالشك ، فتثبت لها الحرمة ، فيكون من التعليل بالكبرى وانطباق العنوان العام الّذي يكون متعلقا للحكم على مورد التعليل ، كما إذا قال : « لا تشرب هذا المائع لحرمة شرب المسكر » ، فانه ظاهر في كون هذا المائع من مصاديق المسكر.

ومن الواضح ان هذا مما لا يمكن الالتزام به ، لأن الإعادة ليست نقضا لليقين بالشك حال الصلاة كي تثبت لها الحرمة ، بل هي نقض لليقين باليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة.

وبالجملة : الإعادة لو ثبتت ، فهي من آثار العلم اللاحق بالنجاسة وعمل به ، لا من آثار الشك السابق وعمل به كي يصدق نقض اليقين بالشك.

فعلى هذا التقدير لا يتبين وجه تطبيق كبرى حرمة نقض اليقين بالشك

ص: 92

على المورد.

واما على الثاني : وهو ان يراد إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة - نظير إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس - ، فلا يكون التعليل بالكبرى ، إذ حرمة النقض الثابتة أثناء العمل لا يعقل ان تتعلق بالإعادة بعد العمل ، إذ لا معنى لتعلق الحرمة السابقة بفعل متأخر بحيث لا تكون هناك حرمة في ظرف العمل. فعدم وجوب الإعادة لا يمكن ان يكون من مصاديق كبرى حرمة النقض بقول مطلق ، فلا يكون التعليل من التعليل بالكبرى ، بل الّذي يظهر من التعليل ان الإعادة منافية لحرمة النقض لا انها نقض فتتعلق بها الحرمة.

ومن هنا قد يبدو الربط بين العلة والمعلول مشكلا. وفي مثله قد يكون التعليل مستهجنا بحسب الموازين العرفية.

وتوضيح ذلك : ان التعليل بغير الكبرى يصح في موردين.

أحدهما : التعليل بالصغرى بنحو يكون المحمول في الصغرى منطبقا على موضوع الحكم المعلل ، نظير ان يقال : « لا تشرب الخمر لأنه مسكر فإنه يصح التعليل ولو لم يكن هناك سبق ذهني لثبوت حرمة مطلق المسكر ، بل قد يستفاد الحكم لمطلق المسكر من نفس التعليل. ووقوع ذلك في الاستعمالات كثير.

والآخر : ان تكون هناك مناسبة واضحة بين التعليل والمعلل يعرفها كل أحد ، فانه يصح التعليل ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه أسدا » ، فان العلة لا تنطبق على المعلل ، لكن المناسبة بينهما واضحة ، وهي جهة التحرز عن خطورة الأسد.

ويلحق به ما إذا لم تكن المناسبة واضحة عرفا ، لكنها كانت معلومة لدى المخاطب خاصة ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه زيدا » ، مع سبق معرفة المخاطب بان زيدا يحاول إيذاءه.

ص: 93

اما لو لم يكن التعليل بالصغرى ولم تكن هناك مناسبة عرفية واضحة ولا مرتكزة في ذهن المخاطب خاصة بين العلة والمعلول ، فالتعليل مستهجن بحسب موازين المحاورات ، كما إذا قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن زيدا مسافر ».

وقد يبدو ما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ ليس هو من التعليل بالصغرى ، ولا من موارد ثبوت المناسبة الواضحة بين العلة والمعلول ، إذ أي مناسبة بين نفى الإعادة والاستصحاب ، ولا ظهور في النص في وجود مناسبة مرتكزة في ذهن السائل خاصة. وإذا كان الأمر كذلك كان التعليل مستهجنا.

ودعوى : ان السائل قد فهم وجود مناسبة ما على الإجمال وان لم يفهم خصوصيتها ، بعد فرض صدور الكلام من متكلم حكيم.

مندفعة : بأنها تتم لو ان الإمام علیه السلام تصدى للتعليل تعبدا ، لا ما إذا كان السائل بصدد التعرف على علة الحكم كما هو ظاهر سؤاله : « لم ذلك » المشوب بالتعجب ، فانه لا يصح في مثله ان يعلل بأمر لا يفهم منه شيئا.

وملخص الإشكال : ان التعليل ان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض بعد الصلاة ، كان ممتنعا لعدم انطباقه على الإعادة. وان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض حال الصلاة ، كان مستهجنا لعدم وضوح ربطه بالحكم المعلل.

ولا يتأتى على هذا التقدير حديث كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك ، لما عرفت من امتناع تعلق الحرمة السابقة بالإعادة ، فلا موضوع لهذا الحديث فلاحظ.

وبهذا البيان للإشكال ، يظهر لك قصور كلام الشيخ (1) في تحرير الإشكال ، فانه نظر قدس سره - في مقام تحرير الإشكال - إلى التقدير الأول خاصة عملا بظاهر الرواية ، ولأجل ذلك استشكل في الرواية بان الإعادة ليست

ص: 94


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى.

نقضا لليقين بالشك ، بل باليقين. نعم يمكن ان يجري الاستصحاب فيما قبل الصلاة ليصح تعليلا لجواز الدخول في الصلاة.

وعلى هذا الأساس نفى قدس سره تصحيح التعليل بان الرواية ناظرة إلى إجزاء الأمر الظاهري. فان ذلك انما يتأتى فيما كان الملحوظ إجراء الاستصحاب بلحاظ حال العمل كي تكون الإعادة منافية لحرمة النقض ، لا ان تكون هي نقضا.

اما إذا كان الملحوظ هو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل وانكشاف الخلاف فلا مجال لهذا الكلام ، إذ ظاهر التعليل حينئذ كون الإعادة - بنفسها نقضا بالشك - كما قربناه - ، والمفروض انها ليست كذلك ، والالتزام بإجزاء الأمر الظاهري لا يجعل الإعادة نقضا ، كي تنحل المشكلة نعم الإعادة منافية لثبوت الحكم الظاهري بناء على الإجزاء ، وهذا غير كونها منفية بالحكم الظاهري ومتعلقة له كما هو ظاهر النص والتعليل ، فتدبر جيدا.

كما يظهر لك ما في الكفاية من خلط إحدى جهتي الإشكال بالأخرى. وذلك في موضعين :

الأول : في صدر الكلام ، فانه قدس سره بعد ما نقل الإشكال المزبور بالنحو المذكور في الرسائل - وهو : « ان الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل باليقين بارتفاعها ، فكيف يصح ان يعلل عدم الإعادة بأنها نقض لليقين بالشك؟ » ، قال : « ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلاّ بان يقال : إن الشرط في الصلاة فعلا حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها ، كما ان إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب

ص: 95

حالها كما لا يخفى » (1).

ولا يخفى انه ان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب فعلا وبلحاظ ما بعد الصلاة ، فأي أثر لكون الشرط هو الإحراز - إذ لا إحراز حال العمل بعد فرض كون الاستصحاب بلحاظ حال الفراغ - ، وأي ربط له بحل إشكال كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك؟. وان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة - كما هو ظاهر كلامه بل صريحه - ، فما ذكره ليس تفصيا عن الإشكال الّذي ذكره من عدم كون الإعادة نقضا بالشك بل باليقين ، إذ لا موقع لهذا الإشكال على هذا التقدير ولا موضوع له كما عرفت ، وانما الإشكال هو الاستهجان العرفي بعد عدم وضوح الربط بين التعليل والمعلل.

وبالجملة فما أفاده في الجواب أجنبي عن الإشكال الّذي ذكره.

الموضع الثاني : في ذيل الكلام ، فانه قدس سره بعد ما انتهى من تحقيق المطلب قال : « ثم انه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء كما قيل - ، ضرورة ان العلة عليه انما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها لا لزوم النقض من الإعادة ... » (2).

وأنت خبير - بحسب ما تقدم - ان التفصي بالالتزام بالإجزاء انما هو في مقام رد الإشكال الوارد على تقدير ملاحظة جريان الاستصحاب في حال العمل ، وقد عرفت انه على هذا التقدير لا يراد من التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا ، بل منافية لحرمة النقض.

وعليه ، فلا معنى للإيراد عليه بأنه مناف لظهور العلة في كون الإعادة بنفسها نقضا ، المبني على إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل.

ص: 96


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /393- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /395- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وجملة القول : ان تحرير الإشكال وجوابه لم يؤد في الكفاية بما يليق وشأنها ووزنها العلمي.

ومن ذلك تعرف ما وقع في كلمات غيره من الخلط بين الجهتين وعدم تمييز إحداهما عن الأخرى ، فراجع.

وكيف كان ، فالمهم هو معرفة ما إذا كان للإشكال الّذي ذكرناه دافع. فنقول : قد عرفت انه ان لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل ، فالإشكال من ناحية امتناع تطبيق العلة على المعلول. وان لوحظ إجراؤه بلحاظ حال العمل ، فالإشكال من ناحية استهجان التعليل به عرفا بعد عدم وضوح الربط بين العلة والمعلول.

والإشكال من الجهة الأولى لا دافع له.

واما الإشكال من الجهة الثانية ، فقد يدفع بوجوه ترجع إلى بيان الربط بين العلة والمعلول :

الوجه الأول : ما أشار إليه الشيخ وصاحب الكفاية من التعليل بثبوت الاستصحاب في حال العمل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء الثابت في حد نفسه ، فالتعليل يرجع إلى بيان صغرى الإجزاء (1).

وقد تمسك البعض بهذا النص لإثبات قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية بقول مطلق.

وهذا الوجه انما يتم لو كانت الملازمة بين الأمر الظاهري والاجزاء واضحة عرفا ، بحيث ينتقل إلى الحكم بمجرد بيان الصغرى ، وليس الأمر كذلك ، فان اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ليس من الأمور الواضحة ، بل هو من

ص: 97


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 395 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

الأمور الخفية ، وقد وقع الكلام فيها بين الاعلام.

ومجرد إمكان كون جهة الربط ذلك لا يجدي في رفع الاستهجان العرفي ما لم يكن من الأمور الواضحة كما عرفت.

ولم يظهر من الرواية معلومية ذلك لدى السائل خاصة ، واحتمال معلوميته لديه لا ينفع بعد فرض كون المقام مقام تفهيم وتفهم ، ولم يشر إلى ذلك في النص بقليل ولا كثير ، مع لزوم الإشارة إليه لو فرض كونه هو المصحح للتعليل ، لعدم تمامية التفهيم بدونه. فتدبر.

الوجه الثاني : ما اختاره صاحب الكفاية من : ان الشرط واقعا هو إحراز الطهارة لا نفسها ، فتكون الصلاة مع إحراز الطهارة واجدة للشرط واقعا ، فتكون صحيحة ولا تجب معها الإعادة ، فيكون تعليل عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب لأجل انه مع الاستصحاب يتحقق الشرط الواقعي للصلاة ، ويكون وجوب الإعادة منافيا الحكم الشارع بالاستصحاب (1).

ويمكن إرجاع ما ذكره هاهنا إلى ما أفاده في مبحث الإجزاء من كون الشرط الواقعي أعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ،. ببيان : ان أصالة الطهارة واستصحابها يكونان حاكمين على دليل الشرطية ، فيوسعان دائرة الشرط (2) وقد قربناه في محله بما لا مزيد عليه.

ويقع الكلام في هذا الوجه من ناحيتين :

الأولى : في صحة هذا الالتزام بنفسه.

والثانية : في معالجته للإشكال المتقدم.

اما الناحية الأولى : أعني صحة الالتزام به في نفسه ، فقد يقال : ان الشرط

ص: 98


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواقعي إذا كان هو إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ، لم تكن الطهارة ذات أثر شرعي. وعليه فلا يصح إجراء الاستصحاب فيها ، لأن مجرى الاستصحاب لا بد ان يكون ذا أثر شرعي فكيف تصحح الصلاة باستصحاب الطهارة؟.

ويندفع هذا القول : بان المستصحب انما يعتبر فيه ان يكون ذا أثر شرعي إذا كان من الأمور الخارجية التكوينية كالعدالة ، لعدم قابليته للتعبد إلاّ بلحاظ أثره. واما إذا كان من الأمور الشرعية ، فلا يعتبر فيه ذلك ، لأنه يقبل التعبد بنفسه كالوجوب والحرمة. نعم يعتبر ان يترتب عليه أثر عملي ولو كان عقليا ، كترتب لزوم الإطاعة على استصحاب الوجوب.

ولا يخفى ان الطهارة من الأمور الشرعية ، فهي بنفسها قابلة للتعبد ولو لم تكن بذات أثر شرعي.

نعم ، يلزم ان يترتب على التعبد بها أثر عملي لكي لا يكون لغوا ، ويكفى فيه هاهنا ترتب الاجزاء وواجديّة العمل للشرط الواقعي.

وبالجملة : فهذا الإيراد غير تام لما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في مقام دفعه فهو غير سديد بكلا وجهيه :

اما الأول : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا فعلا لكنها شرط واقعي اقتضاء ، فهي ليست منعزلة عن الشرطية بالمرة ، فالشرط الفعلي هو إحراز الطهارة ، واما الطهارة فهي شرط اقتضائي.

وفيه : انه على تقدير الالتزام بالحكم الاقتضائي وتصوره ، فهو لا ينفع في إجراء الاستصحاب ، لأن الحكم الاقتضائي ليس مجعولا شرعيا ، فانه عبارة عن وجود مقتضى الحكم ثبوتا ، وذلك لا يرتبط بالشارع بما هو شارع.

واما الثاني : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا ، لكنها من قيود الشرط ، إذ الشرط هو استصحاب الطهارة لا استصحاب أي شيء كان. ومن الواضح انه يكفي في الاستصحاب كون المستصحب قيدا لموضوع الأثر الشرعي ،

ص: 99

كاستصحاب عدالة زيد في ترتيب الأثر المترتب على العالم العادل (1).

وفيه : انه انما يصح ان يجري الاستصحاب في قيد الموضوع إذا كان قيدا لموضوع واقعي يترتب عليه الأثر مع قطع النّظر عن التعبد ، كالعدالة في المثال المزبور ، فيكون التعبد بلحاظ جعل ذلك الأثر.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ موضوع الأثر هو نفس التعبد بالطهارة ، فالطهارة قيد لموضوع الأثر المترتب على نفس التعبد لا في نفسه ، ومع قطع النّظر عن التعبد.

وفي مثله لا يصح التعبد ، إذ لا يصح التعبد بالطهارة بلحاظ جعل الأثر المترتب على نفس التعبد وبعد تحققه في نفسه ، فان مثل هذا الأثر يستحيل ان يكون مصححا كما لا يخفى ، فلاحظ جيدا.

فالعمدة في دفع الإيراد ما ذكرناه.

واما الكلام في الناحية الثانية - أعني معالجة ما أفاده قدس سره للإشكال المتقدم في الرواية - فتحقيقه : ان هذا البيان وان كان موجبا لكون الاستصحاب السابق علة لعدم وجوب الإعادة ، لكنه لا يصحح تعليل عدم الوجوب بالاستصحاب الوارد في الرواية ، لكونه ليس من الأمور الواضحة عرفا التي ينتقل إليها السائل رأسا ، واحتمال معلوميته لدى السائل خاصة مندفع بعدم ظهوره من النص.

فهذا الوجه كسابقه لا يصلح لرفع إشكال الاستهجان العرفي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان التزم بأن الشرط هو الإحراز لا نفس الطهارة أورد على نفسه بما نصه : « لا يقال : سلمنا ذلك ، لكن قضيته ان يكون علة عدم الإعادة حينئذ بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو إحراز

ص: 100


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الطهارة حالها باستصحابها لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب ، مع ان قضية التعليل ان تكون العلة له هي نفسها لا إحرازها ، ضرورة ان نتيجة قوله : لأنك كنت على يقين ... إلخ انه على الطهارة لا انه مستصحبها » (1).

وهذا الإيراد لا نعرف له محصلا ، وذلك لأنه انما يتم إذا كان قوله علیه السلام : « لأنك كنت .. » في مقام التعبد بالطهارة فعلا ، فان مرجع التعبد إلى جعل الطهارة ، فيكون ظاهر التعليل ثبوت الطهارة لا استصحابها ، إذ الاستصحاب ملحوظ بنحو المعنى الحرفي.

ولكن الأمر ليس كذلك ، بل الجملة المزبورة في مقام الاخبار عن ثبوت الاستصحاب ، إذ الفرض كون الاستصحاب بلحاظ حال العمل لا الحال الفعلي.

ومن الواضح ان ظاهر التعليل بثبوت الاستصحاب سابقا ملاحظته مستقلا فيكون هو العلة لا المستصحب.

والّذي يبدو من صاحب الكفاية قبوله لدعوى ظهور الرواية في كون التعليل بنفس الطهارة وان أجاب عن الإيراد بنحو آخر.

وجملة القول : ان ما أفاده صاحب الكفاية في مقام تحقيق هذه الرواية لا يخلو عن ضعف في كثير من مواقعة كما نبّهنا عليه ، واللّه سبحانه العاصم.

الوجه الثالث : ما التزم به المحقق النائيني من ان المأخوذ في الصلاة هو مانعية العلم بالنجاسة.

وعليه ، فيتحقق الربط بين عدم وجوب الإعادة والاستصحاب حال العمل ، لنفي النجاسة تعبدا بواسطة استصحاب الطهارة ، فتكون الصلاة واجدة للشرط الواقعي (2).

ص: 101


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 348 - طبعة مؤسسة نشر الإسلامي.

وهذا الوجه لو تم في نفسه ، فهو لا يدفع إشكال الاستهجان العرفي ، لأنه ليس من الأمور الواضحة عرفا التي تصحح التعليل عرفا ، بل هو من الأمور الخفية التي لا تخلو عن دقة ، ويكون الوصول إليها بعد فحص وبحث. فلاحظ.

ثم انه قد يثار حول التزام المحقق النائيني سؤال ، وهو : انه إذا فرض ان المانع هو العلم بالنجاسة ، فمع الشك يحرز عدم المانع ، لعدم العلم مع الشك ، فأي حاجة حينئذ للاستصحاب أو غيره في إحراز الطهارة؟.

وقد دار - في القديم - حول هذا السؤال كلام مع بعض تلامذة المحقق النائيني فلم نجد عندهم ما يرفع الشبهة.

والّذي ينبغي ان يقال في جوابه : ان المحقق النائيني بملاحظة بعض الأدلة الخاصة والجمع بينها وبين أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة - الظاهرة بدوا في النجاسة الواقعية - التزم بان المانع هو العلم بالنجاسة ، لكن ليس المأخوذ هو العلم بما هو صفة قائمة في النّفس ، ولا بما هو طريق إلى الواقع ، بل بما هو منجز للواقع ومعذر عنه ، وقد ذكر ان هذا القسم من أخذ العلم موضوعا فاتنا التنبيه عليه في مبحث القطع. وهو بهذه الملاحظة مما يصلح ان تقوم مقامه جميع الطرق والأصول المحرزة وغير المحرزة ، لأنها جميعها تتكفل جهة التنجيز والتعذير. فأصالة الاحتياط في مواردها تقوم مقام العلم بهذه الملاحظة وان لم تكن أصلا محرزا.

وبالجملة : ان المانع في الصلاة هو النجاسة المعلومة بما هو منجز بتعبير ، والنجاسة المنجزة بتعبير آخر.

وعليه نقول : ان النجاسة المشكوكة غير المعلومة لا يمكن ان تنفي مانعيتها الا بواسطة قيام دليل أو أصل معذر ولو عقلا بحيث ينفي التنجيز.

ص: 102

وذلك لأنه بدون قيام المؤمّن يكون مجرد الاحتمال منجزا للواقع ، فيقوم مقام العلم في كونه مانعا. وانما ينفي تنجزه بواسطة الأصول العقلية أو الشرعية المؤمنة.

ومن الواضح انه مع وجود استصحاب الطهارة لا مجال لأصالة الطهارة أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ أثر النجاسة التكليفي.

وعليه ، فمجرد عدم العلم بالنجاسة لا يكفي في إحراز عدم المانع ، بل لا بد من إجراء الأصول المؤمنة ، ولا مجال في مورد الرواية لغير الاستصحاب لحكومته على غيره ، فلأجل ذلك علل عدم وجوب الإعادة بجريان الاستصحاب. فالتفت.

ثم انه في هذا المقام التزم بما عرفت ، لكنه في البحث الّذي يتعقبه استقرب خلافه (1). وان صحة الصلاة مع إحراز الطهارة من باب [ القناعة عن الواقع بما وقع امتثالا له وليس في شيء منها ما يكون مأمورا به في عرض الواقع ] وهذا لا يخلو عن منافاة لما ذكره هاهنا ، إذ مقتضى ما ذكره هنا كون العمل متعلقا للأمر الواقعي ، لأنه واجد للشرط الواقعي وفاقد لمانعه. فالتفت.

والّذي تحصل من مجموع ما تقدم : ان الوجوه المذكورة لدفع الإشكال الّذي بيناه غير وافية.

وقد يقال : ان المورد من موارد التعليل بالصغرى وكون المحمول في العلة منطبقا على موضوع الحكم المعلل ، وقد عرفت ان مثل ذلك لا استهجان فيه ، بل يستفاد حكم الكبرى من نفس ورودها مورد التعليل. بيان ذلك : ان المستفاد من مجموع الحديث : انه لا تجب إعادة الصلاة ، لأن الصلاة ذات استصحاب الطهارة ، فيستفاد منها ان كل صلاة ذات استصحاب الطهارة لا تجب إعادتها. ولا يلزم في مثل ذلك سبق مناسبة بين العلة والمعلل ، بل عرفت انه يستفاد من

ص: 103


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 355 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

التعليل ثبوت الحكم لمطلق موارد العلة. وبهذا البيان ينحل الإشكال المتقدم ولكن التحقيق : انه لا يمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى بيان جريان الاستصحاب حال العمل - الّذي يبتني عليه جميع ما تقدم من الكلام -. وذلك لما تقرر في محله ان الحكم الظاهري بما انه حكم لوحظ فيه الطريقية إلى الواقع والتنجيز أو التعذير عنه ورفع حيرة المكلف في مقام أداء وظيفته الشرعية - ولذا لا يكون كل حكم موضوعه الشك حكما ظاهريا ، بل يكون بعض افراده حكما واقعيا كأحكام شكوك الصلاة - ، فهو يتقوم بالوصول وليس له ثبوت واقعي مع قطع النّظر عن العلم والجهل ، إذ لا معنى للتنجيز والتعذير إذا لم يصل الحكم المنجز إلى المكلف.

وعليه ، فمع تمامية العمل وانتهاء ظرف التنجيز والتعذير بلحاظ العمل نفسه - والمفروض عدم علم السائل بالاستصحاب في آن سابق وانما دخل في الصلاة بأصالة الطهارة مثلا ، إذ الفرض ان الاستصحاب استفيد من نفس هذا الحديث - ، لا معنى لبيان ثبوت الاستصحاب في حال العمل ، إذ لا أثر لجعله في ذلك الحال مع عدم علم المكلف به ويكون لغوا.

وعلى هذا الأساس يكون محصل الإيراد على التعليل بالاستصحاب : انه ان لوحظ جريان الاستصحاب بعد العمل ، فلا يصح ان يكون تعليلا لعدم وجوب الإعادة ، لأنها ليست نقضا لليقين بالشك بل باليقين وان لوحظ جريان الاستصحاب حال العمل ، فهو ممتنع لكونه لغوا بعد عدم التفات المكلف إليه في ظرفه. فلا يمكن ان تتكفل الرواية بيان الاستصحاب على كلا التقديرين ، ومثل ذلك يمنع من الاستدلال بالرواية على الاستصحاب.

وهذا ليس من قبيل الجهل بمناسبة تعليل الحكم بالاستصحاب كي يقال انه لا يضر بالاستدلال ، لأن ذلك فرع إمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ حال العمل في نفسه وليس الأمر كذلك على ما بيناه ، إذ عرفت ان الاستصحاب

ص: 104

بلحاظ حال العمل ممتنع ولعل هذا هو السر في إغفال الشيخ رحمه اللّه للاستصحاب بلحاظ حال العمل ، وقصر نظره على الاستصحاب بلحاظ حال ما بعد العمل.

وعلى أي حال ، فلا يمكن التخلص عن هذا الإشكال إلاّ بالالتزام بان المراد من قوله « فرأيت فيه » هو الاحتمال الثاني أعني أنه رأى نجاسة لا يعلم انها هي المظنونة أو حادثة ، لا أنه رأى تلك النجاسة المظنونة بحيث يتبدل شكه السابق إلى يقين وعليه فيكون المراد هو إجراء الاستصحاب فعلا بلحاظ الشك الفعلي في النجاسة حال الصلاة ، ويكون عدم وجوب الإعادة لكون الإعادة نقضا لليقين بالشك ولا يلزم أي محذور في ذلك.

وهذا الاحتمال وان كان خلاف الظاهر ، لكن لا بد من الالتزام به بعد ان كان الالتزام بالظاهر يستلزم ورود المحذور المتقدم.

هذا مع انه ليس مخالفا للظاهر ، بل لعله هو الظاهر لما قيل من ظهور قوله : « فرأيت فيه » من دون ضمير في كون المرئي نجاسة ما لا يعلم أنها سابقة أو لا حقة ، فتكون كالفرض الأخير في الرواية لقوله علیه السلام : « لعله شيء أوقع عليك » ، إذ لو كان مراده انه رأي تلك النجاسة المظنونة لقال : « فرأيته فيه » كما قال في السؤال السابق : « وجدته » ، فنفس اختلاف التعبير في السؤالين يكشف عن اختلاف المضمون.

هذا ولكنه على هذا التوجيه لا يخلو عن إشكال ، وذلك لأنه إذا فرض ان النجاسة المرئية لا يعلم انها كانت حال الصلاة أو لا؟ فمعنى ذلك انه يشك في طهارة ثوبه حال الصلاة ، ومقتضى أصالة الطهارة مع قطع النّظر عن الاستصحاب هو وقوع الصلاة مع الطهارة. ومن الواضح جدا انه لم يكن يتوهم أحد ويحتمل عدم اجزاء صلاته مع الطهارة الظاهرية قبل انكشاف الخلاف ، كيف؟ وهو خلاف السيرة القطعية ، إذ كثيرا ما تؤدى الصلاة مع إحراز الطهارة

ص: 105

بالتعبد الشرعي من دون إحراز لها واقعا.

وعليه ، فلا مجال للسؤال عن سبب حكمه علیه السلام بعدم الإعادة ب- : « لم ذلك » المشوب بالتعجب والاستغراب ، إذ هو أمر لا يتردد فيه أحد ، فلا محالة لا مصحح لسؤاله إلاّ ان تكون النجاسة المرئية هي النجاسة المظنونة حال العمل ، فيكون من موارد انكشاف الخلاف فلاحظ.

ويمكن ان يدفع هذا الإشكال بان السؤال لم يظهر انه عن سبب عدم الإعادة من ناحية الشك في النجاسة كي يتأتى ما ذكر ، بل يمكن ان يكون السؤال عن تعيين ما يكون طريقا لإحراز الطهارة بعد الفراغ عن الاكتفاء بالعمل المأتي به بملاحظة أصالة الطهارة - مثلا - ، وانه هل هو أصالة الطهارة التي هي في ذهنه أو غيرها. وهذا السؤال ليس بعيدا عن مثل زرارة الّذي يحاول ان يتفهم القواعد الشرعية بحدودها. فأجابه علیه السلام : ان السبب هو الاستصحاب ، وليس الجواب عنه من الواضحات لدى زرارة سابقا ، بل القواعد الشرعية تتضح لمثل زرارة بمثل هذه الأسئلة ، وأجوبتها.

وبالجملة : ليس السؤال عن أصل الحكم بالإعادة بحيث كان يجيء في ذهن زرارة احتمال لزوم الإعادة احتمالا معتدا به ، بل السؤال عما هو السبب في الحكم بالإعادة بعد مركوزية هذا الحكم في ذهنه ، وليس في ذهنه احتمال انه ينبغي ان يعيد الصلاة ، فهو يسأل عن ان السبب هل هو إحراز الطهارة بأصالتها أو بغيرها؟ فالتفت ولا تغفل.

وبهذا البيان يتضح ان هذه الفقرة مما يمكن ان يتمسك بها لا ثبات الاستصحاب.

ثم انه لا مجال لدعوى تكفل هذه الفقرة لقاعدة اليقين بتقريب : ان المراد باليقين هو اليقين بالطهارة بعد الفحص والنّظر بعد ظن الإصابة ، لا اليقين قبل ظن الإصابة. فيكون الشك الحادث بعد الصلاة عند رؤية النجاسة من

ص: 106

الشك الساري ، لا من الشك في البقاء.

فان هذه الدعوى فاسدة لعدم ظهور في الكلام في انه قد حصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص ، وليس له في اللفظ عين ولا أثر ، كما انه لا ملازمة عادية بين الفحص وعدم الوجدان وبين اليقين بالعدم كما لا يخفى ، كيف! وقد فرض في سؤاله السابق عدم وجدان النجاسة بعد الفحص مع علمه الإجمالي بوجود النجاسة ولم يتبدل علمه إلى يقين بالعدم جزما ، وإلاّ لم تجب عليه الإعادة قطعا ، مع أنه علیه السلام حكم عليه بالإعادة. مما يكشف عن بقاء علمه ، ولكنه صلّى اما غفلة ونسيانا أو بتخيل الاكتفاء بالفحص أو غير ذلك.

هذا كله مع ان قوله علیه السلام : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » ظاهر في اليقين الفعلي ولا يقين بالفعل في مورد قاعدة اليقين كما لا يخفى. هذا كله في الفقرة الأولى.

واما الفقرة الثانية : فدلالتها على الاستصحاب لا تكاد تنكر ، فانها ظاهرة في مقام بيان حكم عام يكون المورد من مصاديقه ، كسائر موارد ذكر المطلق بعد السؤال عن حكم بعض افراده أو بيان بعضها ، ولا مجال لدعوى كون المراد خصوص اليقين بالطهارة ، فان المورد لا يخصص الوارد.

ومن هنا ظهر ما في تشكيك الشيخ في دلالتها على العموم والجنس ، فلاحظ (1).

وليس في هذه الفقرة شيء من الشبهات التي أثيرت في سابقتها ، فلو توقفنا في الفقرة الأولى كان لنا في هذه الفقرة غنى وكفاية واللّه سبحانه العالم.

ومنها : رواية ثالثة لزرارة عن أحدهما علیهماالسلام قال : « قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟. قال : يركع بركعتين وأربع

ص: 107


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى.

سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » (1).

ومحل الاستشهاد فيها قوله علیه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشك » ، فانه قد يدعى ظهوره في إرادة الاستصحاب كما هو الحال في الروايتين المتقدمتين ، ويكون تطبيقه على المورد بلحاظ اليقين بعدم الركعة الرابعة حدوثا والشك في الإتيان بها بقاء.

ولكن تأمل الشيخ رحمه اللّه في دلالتها. وتوضيح ما أفاده قدس سره : ان الرواية تكفلت بيان حكم المورد أولا بقوله : « قام فأضاف إليها أخرى » ، ثم أعقبته ببيان كبرى كلية وهي : « ولا ينقض اليقين بالشك ».

وعليه : فان كان المراد بقوله علیه السلام : « قام فأضاف إليها أخرى » لزوم الإتيان بركعة متصلة بلا تخلل التشهد والتسليم ، كان ذلك مخالفا لمذهب الخاصة ومنافيا لصدر الرواية الظاهر في إرادة ركعتين منفصلتين بملاحظة الإلزام بفاتحة الكتاب.

وعليه ، فيتعين ان يراد بقوله المزبور إضافة ركعة منفصلة على الكيفية المقررة في صلاة الاحتياط بحسب مذهب الخاصة ، فيكون حكما موافقا للمذهب ، وعلى هذا لا يمكن ان تطبق عليها الكبرى الكلية إذا كان المراد بها الاستصحاب ، إذ الاستصحاب لا يتفق مع إتيان الركعة منفصلة بل مقتضاه إتيان الركعة متصلة.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 5 / 341 ، حديث : 3.

وبعبارة أخرى : الحكم بإتيان الركعة منفصلة لا يمكن ان يكون من باب الاستصحاب ، فلا معنى لأن يراد من قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » كبرى الاستصحاب ، بل لا بد ان يراد به لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالكيفية المعهودة ، كما تدل عليه بعض النصوص الأخرى. هذا ملخص ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1). وسيتضح بأزيد من ذلك فيما بعد.

وقد تصدى الأعلام رحمهم اللّه إلى دفع هذا الإيراد وتصحيح تطبيق الاستصحاب هاهنا وعمدة ما قيل في هذا المقام وجوه أربعة :

الوجه الأول : ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه من : ان لزوم الإتيان بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام ، وانما يتنافى مع إطلاق دليله ، فان لزوم الوصل انما هو مقتضى إطلاق النقض ، فلا مانع من الالتزام بجريان الاستصحاب وتقييد إطلاق دليله بما دل على لزوم فصل الركعة ، وتقييد الأدلة ليس بعزيز (2).

الوجه الثاني : ما أشار إليه الشيخ (3) ، وقربه المحقق النائيني (4) ، والعراقي رحمهم اللّه (5). من : انه يمكن البناء على كون المقصود بقوله علیه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشك » كبرى الاستصحاب ويكون تطبيقها على المورد من باب التقية ، فانه لا ينافي أصالة الجد في أصل الكبرى ، فالتقية في التطبيق لا أكثر ، وقد وقع نظيره في الأدلة ، كما في الرواية الواردة في سؤال الخليفة العباسي الإمام علیه السلام عن العيد ، فأجابه علیه السلام بقوله : « ذلك إلى امام

ص: 109


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- 332 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /396- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /322- الطبعة الأولى.
4- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 361 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
5- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 57 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المسلمين إن صام صمنا وان أفطر أفطرنا » (1) ثم أفطر علیه السلام وعلله بالخوف من القتل. فان قوله علیه السلام : « ذاك إلى امام المسلمين » يستفاد منه حكم كلي واقعي وهو إناطة الحكم بالهلال بإمام المسلمين ، إلا انه علیه السلام طبقه تقية على الخليفة العباسي. ومثله لا يمنع من استفادة الحكم الكلي الواقعي من الكبرى.

ولا يخفى عليك ان هذين الوجهين بعيدان كل البعد عن محط نظر الشيخ رحمه اللّه في الإيراد بالنحو الّذي أوضحناه.

وذلك ، فان موضوع الإيراد ليس هو تطبيق كبرى الاستصحاب على مورد الشك في الركعات ، بحيث يحاول ان يستفاد منه حكم الشك في الركعات ، فيورد ان مقتضاه يتنافى مع المذهب ، فلا يكون الحكم واقعيا. كي يدفع الإيراد تارة بتقييد إطلاق النقض ، وأخرى بان التقية في التطبيق ، ولا وجه لحمل الكبرى على التقية بعد إمكان إجراء أصالة الجد فيها.

بل الملحوظ هو قوله علیه السلام : « قام فأضاف إليها أخرى » ، فانه هو الّذي بيّن الإمام علیه السلام به حكم المورد ، لا بقوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » ، وبما انه لا يمكن حمله على ما يخالف المذهب من إرادة الركعة المتصلة فلا بد ان يحمل على إرادة الركعة المنفصلة ومن الواضح ان ذلك لا يمكن ان يكون صغرى من صغريات الاستصحاب ، فلا يمكن حمل قوله : « ولا ينقض » على إرادة الاستصحاب ، بل لا بد من حمله على إرادة معنى آخر.

وإذا كان هذا هو محط نظر الشيخ في الإيراد ، فأي مجال حينئذ لدعوى تقييد إطلاق النقض ، أو ان التقية في التطبيق لا في بيان أصل الكبرى؟!

ص: 110


1- [1] وسائل الشيعة7/ 95 ، حديث 5. ولفظ الحديث هكذا دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام اليوم فقال ذاك إلى الإمام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين رواية الإفطار ، إذ من المعلوم صدور العمل منه علیه السلام - وهو الإفطار - تقية ، ولا يمكن حمله على انه موافق للواقع لتصريح علیه السلام بخوفه من القتل ، فيكون التطبيق تقية ، ولا موجب للتصرف في الكبرى بعد إمكان إبقائها على ظهورها في مقام بيان الحكم الواقعي. وليس كذلك فيما نحن فيه ، إذ من الممكن حمل قوله علیه السلام : « قام فأضاف ... » على الركعة المنفصلة ، فلا تقية في البين.

وبالجملة : محط نظر الشيخ رحمه اللّه في إيراده جملة : « قام فأضاف .. » وتشخيص المراد منها وتعيينه بنحو لا يقبل تطبيق الاستصحاب عليه. وليس محط نظره عدم تطبيق الاستصحاب على المورد بنحو يستفاد منه حكم المورد ، كي يتأتى الوجهان المتقدمان. فتدبر جيدا.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق العراقي ( رحمة اللّه ) من : ان مقتضى الاستصحاب ليس إلاّ لزوم الإتيان بركعة أخرى ، اما كونها موصولة أو غير موصولة فهو أجنبي عن مفاد الاستصحاب حتى من جهة إطلاقه ، بل المتبع في ذلك الدليل الدليل على الحكم الواقعي ، وهو بدوا يقتضي الوصل ، لكن قام الإجماع والنصوص في خصوص المورد على لزوم الفصل بالتشهد والتسليم ، ومرجعه في الحقيقة إلى تقييد دليل الحكم الواقعي المجعول لا إلى تقييد إطلاق دليل الاستصحاب.

وعليه ، فليس في تطبيق الاستصحاب على المورد محذور الحمل على التقية ، لأنه لا يقتضي سوى صرف الإتيان بالركعة بلا خصوصية الوصل أو الفصل.

نعم ، مقتضى الدليل الأولي هو لزوم الوصل ومانعية الفصل بالتشهد والتسليم ، لكن الدليل الخاصّ في خصوص مورد الشك في الركعات مقيد الدليل الأولي ورافع لمانعية الفصل المزبور.

ص: 111

ثم أورد على نفسه : بان اليقين السابق كان متعلقا بعدم إتيان الركعة الرابعة لنحو الاتصال ، ومقتضى ذلك تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، ولازم تطبيق عدم نقض اليقين بالشك هو الإتيان بالركعة متصلة بنحو تعلق اليقين والشك بها ، فإتيان الركعة مفصولة يرجع إلى تقييد دليل الاستصحاب.

وأجاب عنه : بان هذا صحيح لو فرض بقاء كبرى لزوم الاتصال المنتزع عن مانعية التسليم والتكبير على حالها في حال الشك ، واما مع قيام الدليل على عدم المانعية في هذا الحال ، فلا يلزم ما ذكر ، لأن تطبيق كبرى الاستصحاب لا يقتضي إلاّ الإتيان بذات الركعة العارية عن خصوصية الاتصال أو الانفصال. هذا ما أفاده العراقي رحمه اللّه (1).

ويمكن ان يجعل ما أفاده ناظرا إلى ما أفاده المحقق الأصفهاني هاهنا. فقد أفاد قدس سره : في مقام بيان عدم إمكان تطبيق الاستصحاب هاهنا بلحاظ الركعة المفصولة : ان صلاة الاحتياط اما ان تكون صلاة مستقلة لها امر مستقل ، تكون جابرة لنقص الصلاة على تقديره من حيث المصلحة ، وعلى تقدير التمام تكون نافلة. واما ان تكون جزء من الصلاة المشكوكة العدد.

فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب عدم الإتيان بالرابعة ، لأن مرجعه إلى التعبد بالأمر بها بعين الأمر بالصلاة. والمفروض ان الأمر بصلاة الاحتياط امر مستقل ، وليس هو بقاء للأمر الأول لا واقعا ولا ظاهرا.

وعلى الثاني : لا مجال للاستصحاب أيضا ، إذ كونها جزء يرجع إلى كون الصلاة المأمور بها ذات تسليمتين وتكبيرتين. ومن الواضح انه يعلم بعدم كون الصلاة الواقعية كذلك ، فلا يمكن التعبد الظاهري بها بواسطة الاستصحاب. فليس الإشكال من حيث مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة حتى يقال بتقييد

ص: 112


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 59 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

إطلاق أدلة المانعية وبقاء الأمر بذوات الاجزاء على حالها ، بل الإشكال من حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية التي لا مجال لدخولها في الواجب الا بتبدل الأمر بما عداها إلى الأمر بما يشتمل عليها.

وبعبارة أخرى : ان الأمر المتيقن في السابق غير الثابت فعلا ، فلا يكون هذا الأمر بقاء للسابق كي يصح إجراء الاستصحاب بلحاظه.

هذا خلاصة ما أفاده في مقام بيان عدم إمكان عمل « ولا ينقض ... » على الاستصحاب (1).

والّذي ينظر إليه قدس سره هو : ان مقتضى جزئية صلاة الاحتياط تبدل الأمر الصلاتي السابق إلى أمر بمركب آخر يشتمل على تسليم وتشهد زائدين. وهذا مما لا يحتمل ان يثبت في الواقع كي يتعبد به في مرحلة الظاهر.

والسر فيه هو : ان مثل هذا الحكم على تقديره ثابت لموضوع خاص ، وهو خصوص من كانت صلاته في الواقع ناقصة ، إذ صلاة الاحتياط على تقدير التمام تكون لغوا. ومن الواضح ان العلم بهذا الموضوع مستلزم لارتفاع الحكم لزوال الشك ، ومع الجهل به لا يكون الحكم فعليا لأن فعليته بالعلم بموضوعه. اذن فلا يكون هذا الحكم فعليا في حال من الأحوال ، فهو نظير عنوان الناسي الّذي لا يمكن ان يؤخذ موضوعا للحكم الشرعي ، لأن العلم به ملازم لزواله فالمحذور في ثبوت مثل هذا الحكم واقعا هو المحذور في ثبوت الحكم لعنوان الناسي. ولكن هذا المحذور يتأتى فيما إذا فرض جزئية التشهد والتسليم. اما لو فرض ان مقتضى دليل صلاة الاحتياط هو عدم مانعية التشهد والتسليم. الزائد ، فلا محذور ، وذلك لإمكان تقيد المانعية واقعا في مرحلة البقاء بغير صورة الشك في عدد الركعات ، فلا يكون التشهد والسلام الزائدان مانعين واقعا على تقدير نقصان

ص: 113


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 39 - الطبعة الأولى.

الصلاة.

وإلى هذه الجهة ينظر المحقق العراقي رحمه اللّه في كلامه السابق. فقد ركز كلامه على تقيد أدلة المانعية بغير صورة الشك. ومن هنا يظهر ارتباط كلامه بكلام المحقق الأصفهاني.

وعليه فيقع الكلام مع المحقق العراقي في ناحيتين :

الناحية الأولى : في ان مقتضى دليل صلاة الاحتياط هل هو رفع مانعية السلام في غير محله ، أو هو يتكفل إثبات جزئية هذا السلام؟. وهذه هي نقطة اختلاف المحقق العراقي مع المحقق الأصفهاني. ويمكن ان يرجح منظور المحقق العراقي بأنه لا دليل على ثبوت الأمر الشرعي بالسلام من باب الجزئية ، وذلك لأن المصلي عند الشك يتردد امره بين مانعية التسليم - لو كانت صلاته ناقصة - وجزئيته - لو كانت تامة - فإذا رفع الشارع مانعية التسليم لو كان زائدا ، كان مقتضى الاحتياط اللازم لزوم الإتيان بالسلام لحكم العقل به ، لأنه مقتضى قاعدة الاشتغال لاحتمال انه في الركعة الأخيرة ، فيؤتى به برجاء المطلوبية ، ومعه لا حاجة إلى الأمر الشرعي ، بل يكون الإتيان بصلاة الاحتياط بهذا النحو مما يحكم به العقل بعد رفع مانعية التسليم لو كان زائدا. لكن هذا ان تم فهو بالنسبة إلى التسليم دون التكبير الزائد ، فان الأمر به ظاهر في كونه لأجل الجزئية ، إذ لا يحكم به العقل وان لم يكن مانعا.

الناحية الثانية : في تمامية ما أفاده من صحّة تطبيق الاستصحاب على تقدير رفع الشارع مانعية السلام.

والّذي يبدو لنا انه غير تام وذلك : لأن مقتضى ما أفاده انه لا يمكن تطبيق الاستصحاب إلاّ بملاحظة تقييد دليل المانعية ، وإلاّ فمع المانعية كيف يصح تطبيق الاستصحاب على الركعة المنفصلة بالتسليم؟ ، إذ يكون مقتضاه ان تكون الركعة موصولة. وعليه فيعتبر ان يقوم - في مرحلة سابقة على

ص: 114

الاستصحاب ، - دليل على عدم مانعية التسليم ، ثم يأتي تطبيق دليل الاستصحاب بعد ذلك. وليس الأمر كذلك ، لأن دليل عدم مانعية التسليم هو نفس دليل الإتيان بركعة منفصلة بعنوان عدم نقض اليقين بالشك ، وليس دليل رفع المانعية في مرحلة سابقة عليه ، بل بنفس هذا الدليل ، فيمتنع حمله على الاستصحاب.

والّذي يتلخّص ان الإشكال على المحقق العراقي من ناحيتين. فلاحظ.

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق العراقي أيضا من : ان مجرى الاستصحاب في المقام ليس هو عدم الإتيان بالركعة الرابعة كي يتأتى الحديث السابق ، بل هو الاشتغال بالصلاة المتيقن سابقا المشكوك لا حقا ، فالمراد عدم نقض اليقين بالاشتغال ، بالشك فيه.

وعليه ، فيلزمه البناء على اشتغال ذمته بالصلاة ، ومقتضاه لزوم الامتثال يقينا ، وهو يكون - بمقتضى الأدلة الخاصة وهذا بالخصوص - بالإتيان بصلاة الاحتياط (1).

ويمكن الخدش فيه : بان المراد بالاشتغال المستصحب ان كان هو الاشتغال العقلي ، فهو مما لا مجال لاستصحابه لأنه حكم عقلي. وان كان المراد به وجوب الصلاة شرعا ، فمن الواضح ان وجوب الصلاة ليس إلاّ وجوب الأجزاء بالأسر ، لأن الصلاة هي عين الأجزاء بالأسر ، وليست هي امرا مسببا عن الاجزاء وخارجا عنها.

وعليه ، فمع الإتيان بسائر الركعات لا يشك في بقاء الأمر المتعلّق بها ، وانما الشك في بقاء وجوب الركعة المشكوكة خاصة ، فيرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة الّذي عرفت الكلام فيه.

والّذي يتخلص : انه لا يمكن ان يراد بقوله علیه السلام : « ولا ينقض

ص: 115


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 62 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اليقين بالشك » الاستصحاب ، فلا بد من حمله .. على أحد امرين.

الأول : ما ذكره الشيخ قدس سره من : إرادة النهي عن صرف النّظر عن تحصيل اليقين بالبراءة ولزوم تحصيله بالنحو المعروف من صلاة الاحتياط (1).

والمناقشة فيه : بان التعبير بعدم نقض اليقين في مقام الأمر بتحصيله خلاف الظاهر جدا.

مندفعة : بان المراد من النقض إذا كان عبارة عن رفع اليد - كما عبّر عنه الأعلام - ، فليس التعبير خلاف الظاهر ، إذ كثيرا ما يسند رفع اليد عن الأمر المستقبل الّذي كان بصدد تحصيله ، ولا يختص بالأمر المتلبس به حالا. فيقال : رفع اليد عن العمل الفلاني إذا كان مصمما على الإتيان به ولم يصدر منه. وهكذا الحال لو كان المراد من النقض هو رفع الهيئة الاتصالية ، بان يكون المسند إليه النقض هو البناء على تحصيل اليقين لا نفس اليقين. فلاحظ.

الأمر الثاني : حمله على ما ذكره المحقق الأصفهاني من : ان المراد باليقين هو اليقين بالثلاث المذكور في صدر الصحيحة. بتقريب : ان اليقين المحقق هو اليقين بالثلاث لا بشرط في قبال الثلاث بشرط لا - الّذي هو أحد طرفي الشك - والثلاث بشرط شيء - الّذي هو الطرف الآخر - ، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقض بلا جابر أو الزيادة بلا تدارك ، بخلاف رعاية اليقين بالثلاث لا بشرط ، فانها لا يمكن إلاّ بالوجه الّذي قرره الإمام علیه السلام من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة ، فانها جابرة من حيث الأثر على تقدير النقص وزيادة خارجة غير مضرة على تقدير التمامية. واما إضافة ركعة متصلة فانها من مقتضيات اليقين بشرط لا ، والمفروض انه لا بشرط ، كما ان الاقتصار على الثلاث المحرزة فقط من مقتضيات اليقين بالثلاث بشرط شيء ،

ص: 116


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /332- الطبعة الأولى.

فان المفروض ان الفريضة رباعية ، مع ان الإحراز متعلق بالثلاث لا بشرط ، فرعاية مثل هذا اليقين وعدم رفع اليد عنه لا تكون إلاّ بما قرره الإمام علیه السلام . هذا ما أفاده نقلناه بنصه (1).

ونحن لا يهمنا تحقيق صحة هذا الوجه أو غيره مما قيل في توجيه الرواية بعد ان كان ذلك أجنبيا عن الجهة الأصولية في هذه الرواية. فتدبر واللّه سبحانه العالم.

ومنها : رواية محمد بن مسلم المروية في الخصال عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين » (2). وفي رواية أخرى عنه علیه السلام : « من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع بالشك » (3).

والكلام في هذه الرواية من ناحيتين :

الأولى : ناحية الدلالة. والأخرى : ناحية السند.

اما الدلالة : فقد استشكل الشيخ ( رحمة اللّه ) فيها - بعد بيان امتناع اجتماع وصفي اليقين والشك في شيء واحد في آن واحد وان تعلق الشك واليقين بشيء واحد لا يصح إلاّ باختلاف زمان الوصفين مع وحدة زمان المتعلق. أو باختلاف زمان المتعلق مع وحدة زمانهما - : بان صريح الروايتين اختلاف زمان وصفي اليقين والشك وظاهرهما وحدة المتعلق ، فتنطبق على قاعدة اليقين ولا تفيد الاستصحاب فتكون أجنبية عما نحن فيه. ثم استشكل ( رحمة اللّه ) في ذلك بقوله : « اللّهم إلاّ ان يقال بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين

ص: 117


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 41 - الطبعة الأولى.
2- الخصال / 619 ( حديث الأربعمائة ).
3- مستدرك وسائل الشيعة 1 / 31 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث 4 - الطبعة الأولى.

ان الظاهر تجريد متعلق اليقين عند التقييد بالزمان ، فان ظاهر قول القائل كنت متيقنا أمس بعدالة زيد ظاهر في إرادة أصل العدالة لا المقيدة بالزمان الماضي ، وان كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين لكن لم يلاحظه على وجه التقييد ، فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان بنفس ذلك المتيقن مجردا عن ذلك التقييد ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك ، فينطبق على الاستصحاب فافهم » (1).

ولكن يظهر منه عدم البناء على ذلك لأمره بالفهم ، ولعله ينظر إلى ان ما أفاده لا يلازم كون الشك متعلقا بالعدالة - مثلا - بعد الفراغ عن حدوثه ، بل هو لازم أعم ، فيمكن ان يفرض تعلق الشك بالحدوث.

وعليه ، فلا يصلح ذلك لرفع اليد عن الظهور الأولي للكلام في اختلاف زمان الوصفين ووحدة متعلقهما.

لكنه ذكر في ذيل كلامه ان الرواية ظاهرة في الاستصحاب بملاحظة قوله في الذيل : « فان الشك لا ينقض اليقين » ، فانه ظاهر في نفسه في ثبوت اليقين فعلا ، وان النقض يتعلق باليقين الفعلي كما هو ظاهر كل موضوع للحكم.

وهذا لا يتلاءم الا مع مورد الاستصحاب ، إذ لا يقين فعلا في مورد قاعدة اليقين. مع ورود هذا التعبير فيما تقدم من روايات الاستصحاب ، فيكون قرينة على كون المراد به بيان الاستصحاب. ومع ظهور الذيل فيما عرفت يرفع اليد عن ظهور الصدر في موضوعية اختلاف زمان الوصفين ويحمل على الغالب ، فلا يكون له ظهور في قاعدة اليقين. هذا ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بتلخيص وتوضيح.

وما أفاده أخيرا متين جدا ، وبمقتضى ذلك تكون هذه الرواية دالة على الاستصحاب.

ص: 118


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /333- الطبعة الأولى.

ولا بأس بالتنبيه على امرين :

الأمر الأول : ان المحقق النائيني رحمه اللّه فهم من كلام الشيخ رحمه اللّه انه يلتزم بأخذ الزمان في متعلق اليقين - في قاعدة اليقين - بنحو القيدية.

واستشكل فيه : بأنه لا يعتبر في قاعدة اليقين أزيد من وحدة زمان متعلق اليقين والشك ، سواء كان الزمان مأخوذا قيدا أو ظرفا (1).

وأنت خبير بأنه لا ظهور لكلام الشيخ رحمه اللّه فيما فهمه منه المحقق النائيني ، فان الشيخ رحمه اللّه أفاد بان ظاهر النص - بما انه لم يقيد متعلق اليقين بالزمان الخاصّ - هو تجريد متعلق اليقين بما هو متعلق له عن خصوصية الزمان ، وانما المتعلق هو ذات العدالة - مثلا -. وعليه فيكون الظاهر ان الشك تعلق بالعدالة بعد المفروغية عن أصل الحدوث.

وهذا لا يرتبط بعدم أخذ الزمان قيدا ، وانما أخذ ظرفا في متعلق اليقين فانتبه.

الأمر الثاني : ان المحققين النائيني (2) والعراقي ( رحمهما اللّه ) (3) في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب ذكرا ان قوله. « فليمض على يقينه » ظاهرا في لزوم المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل وهو لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.

وهذا البيان لا يخلو عن خدشة ، لأنه من الظاهر ان المراد من اليقين في قوله علیه السلام المزبور هو اليقين السابق الّذي كان عليه ، فإذا فرض ظهور الموضوع في نفسه في تبدل اليقين إلى الشك - كما هو مقتضى قاعدة اليقين - كان المراد من : « يقينه » يقينه السابق الزائل ، ولا ظهور له في اليقين الفعلي. وهذا

ص: 119


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 365 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 365 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 64 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واضح لا ريب فيه. فالمتعين التمسك لذلك بقوله : « فان الشك لا ينقض اليقين » الوارد بعنوان الكبرى ، فان ظهوره في إرادة اليقين الفعلي الثابت مما لا ينكر ، فيكون ظاهرا في الاستصحاب ، ويكون ظهوره موجبا للتصرف في ظهور الصدر ، لأنه بمنزلة التعليل. فلاحظ.

وبالجملة : فالرواية من ناحية الدلالة تامة.

واما ناحية السند فقد ضعفه الشيخ رحمه اللّه (1) لأجل اشتماله على القاسم بن يحيى ، وهو ممن ضعفه العلامة رحمه اللّه في الخلاصة (2).

وقد ردّ بعضهم تضعيف العلامة رحمه اللّه : بأنه مستند إلى تضعيف ابن الغضائري وهو غير قادح.

ولكن يمكن الخدشة فيه : بأنه لم يثبت استناد العلامة في تضعيفه إلى تضعيف ابن الغضائري. ومجرد عدم تضعيف غير ابن الغضائري ممن سبق العلامة ، لا يلازم استناد العلامة إليه ، بل لعل مستنده أمر خفي علينا. هذا مع ان عدم قدح تضعيف ابن الغضائري محل كلام فتدبر.

ومنها : مكاتبة علي بن محمد القاساني قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟. فكتب علیه السلام : اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (3).

وقد جعلها الشيخ أظهر روايات الباب في الدلالة على حجية الاستصحاب. ببيان : ان تفريع تحديد وجوب الصوم والإفطار على رؤية الهلال

ص: 120


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.
2- رجال العلامة الحلّي / 248 - الطبعة الثانية.
3- وسائل الشيعة 7 / 184 ، حديث : 13.

لا يستقيم إلاّ بان يراد عدم جعل اليقين السابق مزاحما بالشك ، وهو عين الاستصحاب (1).

وقد يناقش في دلالتها بوجوه :

الأول : ان المراد باليقين ليس هو اليقين بعدم دخول شهر رمضان ، بل يراد به اليقين بدخول رمضان ، فيكون المراد ان اليقين بدخول رمضان الّذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك ، بمعنى لا يدخل في حكمه الشك ، ولا يترتب عليه أثر اليقين ، فلا يجوز صوم الشك من رمضان ، والقرينة على ذلك هو تواتر الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، فيكون موجبا لظهور الرواية في ذلك ، وبذلك تكون أجنبية بالمرة عن الاستصحاب. وهذا الوجه يستفاد من الكفاية (2).

ولكن يرد عليه : ان مجرد ثبوت الحكم المزبور - أعني اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم - في الروايات المتواترة لا يصلح قرينة على صرف هذه الرواية عن ظهورها في الاستصحاب ، إذ لا منافاة بين الحكمين. وهي في حد نفسها ظاهرة في ثبوت اليقين والشك فعلا ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب ولا يتناسب مع البيان المزبور ، لعدم اليقين الفعلي بحسب الفرض.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق العراقي من : عدم إمكان تطبيق الاستصحاب فيما نحن فيه ، لأن وجوب الصوم مترتب على ثبوت كون النهار المشكوك من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، ومن الواضح ان استصحاب بقاء شعبان أو بقاء رمضان لا يثبت ان هذا النهار من شعبان أو من رمضان إلاّ بالملازمة.

ص: 121


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /397- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ، لأنه لا يجدي في ترتب الأثر الشرعي (1).

وهذا الوجه تبتني تماميته وعدمها على ما يستفاد من الأدلة الفقهية ، ولا يحضرنا فعلا من الأدلة ما يظهر منه أخذ عنوان نهار رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، بل الشيء المرتكز هو أخذه بنحو الظرفية ومفاد كان التامة ، فإذا ثبت رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم وتحقيق ذلك في محله.

الوجه الثالث : وهو العمدة : انه بناء على أخذ اليقين بدخول رمضان في وجوب الصوم وأخذ اليقين بشوال في وجوب الإفطار لا مجال للاستصحاب أصلا ، إذ مع الشك في دخول رمضان يعلم بعدم الموضوع للحكم الشرعي ، فيعلم بعدم الحكم ، فلا معنى للاستصحاب حينئذ ، لأنه بلحاظ الحكم الشرعي والمفروض العلم بعدمه.

ولا أدري لم غفل الأعلام عن هذا الوجه الواضح مع بنائهم على موضوعية اليقين في وجوب الصوم والإفطار؟. فلاحظ.

هذا مع ان الرواية ضعيفة السند.

هذا تمام الكلام في الروايات العامة التي استدل بها على الاستصحاب.

وقد عرفت ان العمدة فيها هو الصحيحتان الأولتان ، واما غيرهما فاما ليس بتام الدلالة أو ليس بتام السند أو ليس بتامهما.

وقد قال الشيخ ( رحمة اللّه ) بعد ما أنهي الكلام عن مكاتبة القاساني : « هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار المستدل بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد » (2).

ص: 122


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 65 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.

وفيه : منع واضح ، إذ لا معنى لجبر الرواية الضعيفة السند بالرواية التامة السند الضعيفة الدلالة. نعم لو كانت الدلالة تامة في الكل أمكن تحقق الاستفاضة لعدم اعتبار تمامية السند في الاستفاضة.

ثم انه قد استدل على الاستصحاب ببعض الروايات الواردة في موارد خاصة بضميمة عدم القول بالفصل.

كرواية عبد اللّه بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي ، وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال : « فهل عليّ ان أغسله؟. فقال علیه السلام : لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه » (1). ودلالتها واضحة على استصحاب الطهارة ، لأن الحكم بعدم لزوم الغسل وان كان أعم من كونه لأجل قاعدة الطهارة أو لأجل استصحابها ، لكن التعليل المذكور لا يتلاءم الا مع الاستصحاب كما لا يخفى.

ورواية ابن بكير قال علیه السلام : « إذا استيقنت أنك توضأت فإياك ان تحدث وضوء! حتى تستيقن انك أحدثت » (2) ودلالتها على استصحاب الطهارة الحدثية مما لا يخفى.

هذا ولكن لا يمكن استفادة الحكم العام من هذين الروايتين وانما يستفاد منها جريان الاستصحاب في خصوص الطهارة الحدثية والخبثية ، والتمسك في تسرية الحكم إلى غيرها من الموارد بعدم القول بالفصل كما ترى ، إذ بعد هذا الخلاف الكبير في باب الاستصحاب حتى زادت الأقوال فيه على العشرة كيف يستفاد عدم القول بالفصل! هذا مع ان مثل هذا الإجماع المركب لو تم غير حجة بعد احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الظاهرة. فلا يكون إجماعا تعبديا. فالإشكال

ص: 123


1- وسائل الشيعة 2 / 1095 باب 74 من أبواب النجاسات ، حديث 1.
2- وسائل الشيعة 1 / 176 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، حديث 7.

في عدم القول بالفصل صغروي وكبروي فانتبه.

ومن الروايات الخاصة التي استدل بها على الاستصحاب ..

رواية عمار عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث : « كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » (1).

وقد وقع الكلام - أخيرا - فيما هو مفاد هذه الرواية. والوجوه المذكورة في مفادها ستة :

الأول : انها تفيد قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب. وهذا هو المنسوب إلى صاحب الفصول رحمه اللّه .

الثاني : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في كفايته (2).

الثالث : انها تتكفل أمورا ثلاثة : الطهارة الواقعية للأشياء. والطهارة الظاهرية للمشكوك. والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (3).

الرابع : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء مقيدة بعدم العلم بالنجاسة. وهو المنسوب إلى صاحب الحدائق (4).

الخامس : انها تتكفل جعل الاستصحاب خاصة.

السادس : انها تتكفل جعل الطهارة الظاهرية للأشياء خاصة ، وهو المعبر عنه بقاعدة الطهارة. وهذا هو المشهور في مفادها.

ص: 124


1- وسائل 2 / 1054 ، حديث 4.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /398- 399 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /185- 186 - الطبعة الأولى.
4- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناضرة1/ 136 - الطبعة الأولى.

اما الوجه الأول : فقد حكاه الشيخ رحمه اللّه في رسائله عن صاحب الفصول ، فذكر انه قال : « ان الرواية تدل على أصلين :

أحدهما : ان الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب.

الأصل الثاني : ان هذا الحكم مستمرا إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته ».

وأورد عليه الشيخ رحمه اللّه : بان المشار إليه في قوله : « هذا الحكم ».

ان كان هو الحكم الظاهري المستفاد من الرواية. ففيه :

أولا : ان استمرار هذا الحكم ، وهو الحكم بالطهارة عند عدم العلم بالنجاسة. ليس مغيا بالعلم بالنجاسة بل مغيا بنسخ الحكم في الشريعة.

وفيه ثانيا : ان الغاية المذكورة في الرواية يمتنع ان تكون غاية لكلا الحكمين ، لأن الحكم بالاستمرار متأخر عن الحكم بالطهارة لتفرعه عليه ، لأن الحكم بأصل الطهارة موضوع للحكم بالاستمرار ، فإذا جعلت الغاية غاية للحكم بأصل الطهارة امتنع ان تجعل غاية للحكم بالاستمرار ، فانه يستلزم استعمال اللفظ في معنيين طوليين ، وهو واضح الامتناع.

وان كان المشار إليه هو الحكم الواقعي ، كان مفاد الرواية ان الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمر ظاهرا إلى زمان العلم بالنجاسة ، فينحصر مفاد الرواية في الاستصحاب ، ولا تفيد حينئذ قاعدة الطهارة كما ذهب إليه. هذا محصل إيراد الشيخ عليه ببعض توضيح (1).

أقول : ان ما ذهب إليه صاحب الفصول انما هو بعد الفراغ عن أمرين :

أحدهما : عدم الجامع بين قاعدتي الطهارة والاستصحاب ، لما ذكر الشيخ

ص: 125


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /335- الطبعة الأولى.

رحمه اللّه في صدر كلامه من كون المقصود في قاعدة الطهارة مجرد ثبوت الطهارة ظاهرا للأشياء ، والمقصود في الاستصحاب هو بيان استمرار الحكم لا أصل الثبوت ، بل يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والجامع بين هاتين الجهتين مفقود كما لا يخفى.

الأمر الثاني : امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فانه من الأمور المسلمة لديهم.

اذن فدعواه استفادة القاعدتين من الرواية لا يمكن ان يكون مبينا على استعمالها في الجامع لفرض عدمه ، أو على استعمالها في كل منهما لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

بل لا بد ان يكون مبتنيا على تعدد الدال والمدلول ، ولو بدعوى ان مفاد الرواية : « كل شيء طاهر وتستمر هذه الطهارة حتى تعلم .. ».

وعلى هذا فلا مانع من فرض الغاية غاية لكلا الحكمين ، إذ لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى بعد فرض تعدد الدال والمدلول واستفادة الحكمين من دالين فلاحظ.

واما ما ذكره قدس سره في الشق الثاني من الترديد ، وهو ما إذا كان مراد الفصول بالمشار إليه الحكم الواقعي. ففيه :

أولا : انه لا وجه لاحتماله بعد صراحة عبارته المنقولة عنه في إرادة الحكم الظاهري.

وثانيا : انه لا إشكال فيه إذا كانت دعوى الفصول على استفادة استصحاب الطهارة الواقعية بدال آخر غير ما يدل على الطهارة الظاهرية ، ولو كان قرينة حالية فلا يلزم ان لا يكون مجال لاستفادة قاعدة الطهارة الظاهرية ثبوتا.

فالعمدة في الإيراد على صاحب الفصول هو : ما ذكره قدس سره أو لا

ص: 126

مبنيا على ما هو ظاهر كلامه من إرادة استصحاب الطهارة الظاهرية.

وتوضيحه : ان الطهارة الظاهرية مشروطة بالجهل بالنجاسة ، واستمرارها إلى زمان العلم بها انما هو لبقاء موضوعها ، وهو الجهل بالنجاسة. وهذا ليس من الاستصحاب في شيء ، بل هو كسائر الأحكام الواقعية والظاهرية المستمرة باستمرار موضوعها ، وهو الحكم بالطهارة المقيدة بالجهل ، فاستمراره ليس مغيا بالجهل بالنجاسة ، بل هو ثابت حتى مع العلم بالنجاسة ، وانما هو مغيا بالنسخ.

فلا شك حينئذ في بقاء الحكم بالطهارة مع الجهل بالنجاسة ، الا من حيث نسخ هذا الحكم ورفعه وهو الا يرتبط بالمدعى بشيء. فلاحظ.

ثم لا يخفى عليك ان ما دار حول كلام صاحب الفصول مما نقلناه انما يرتبط بمقام الثبوت ، ومع الغض عن مقام الإثبات. وإلاّ فمقام الإثبات قاصر أيضا عن إفادة مدعاه كما لا يخفى.

واما الوجه الثاني : فقد التزم به صاحب الكفاية في كفايته بدعوى : انه يستفاد من قوله علیه السلام : « كل شيء نظيف » الحكم بالطهارة للأشياء بعناوينها الأولية ، كما يستفاد من الغاية الاستمرار الظاهري للطهارة الواقعية ما لم يعلم نجاسته ، لا تحديد الموضوع كي يكون ظاهر النص بيان قاعدة الطهارة.

وقد يورد عليه : بان الرواية مشتملة على غاية ومغيا ، ولا موهم لاستفادة الاستصحاب من المغيا كما هو واضح.

واما الغاية ، فلا يصح استفادة الحكم بالاستمرار الظاهري منها لوجهين :

الأول : ان الغاية من توابع المغيا وملحوظة بلحاظه بنحو المعنى الحرفي ، فلا يعقل استقلالها بالإنشاء في قبال إنشاء المغيىّ

الثاني : ان الاستصحاب عبارة عن إبقاء الطهارة الواقعية عنوانا ، والمجعول في المغيا هو الطهارة الواقعية حقيقة لا عنوانا ، فما هو قابل للامتداد إلى هذه الغاية - وهو الطهارة الواقعية عنوانا - غير مقصود من المغيا وما هو

ص: 127

المقصود من المغيا - وهو الطهارة الواقعية حقيقة - غير قابل لمثل هذه الغاية. ومثل ذلك ينافي تبعية الغاية للمغيّا.

وهذا الإيراد مندفع : بأنه يمكن ان يستفاد الحكم بالاستمرار من المدلول الالتزامي للكلام بمجموعه صدرا وذيلا وهو الاستمرار ، فان الكلام الدال على حدوث شيء في زمان وارتفاعه في زمان متأخر يدل بالملازمة على استمراره إلى الزمان المتأخر ، كما لو قال : « جاء زيد إلى المدرسة صباحا وخرج منها ظهرا » ، فيكون إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

واما ما أفيد من وجهي المنع عن استفادة الاستصحاب من الغاية فكلاهما مردود :

اما الأول : فلأن كون الغاية ملحوظة بنحو المعنى الحرفي لا يمنع من استقلالها بالإنشاء. كيف؟! وسائر الإنشاءات انما هو بالهيئات وهي من الحروف كهيئة الأمر.

واما الثاني : فلأن الاستصحاب يتكفل ثبوت نفس المتيقن حقيقة ، لكن بعنوان البقاء ، فالبقاء عنواني لا نفس الباقي. فالباقي عنوانا هو الواقع حقيقة لا الواقع عنوانا فتدبر.

والمتحصل : انه لا نرى هناك مانعا ثبوتيا يمنع من مختار الكفاية.

نعم هو مما لا يساعد عليه مقام الإثبات ، لأن ظاهر الغاية كونها غاية للطهارة المجعولة في الصدر لا غاية لاستمرارها ، كيف! والاستمرار انما يستفاد بعد ذكر الغاية ، فهو متأخر إثباتا عن نفس الغاية ، فلا يمكن ان تكون الغاية غاية له.

وإذا كانت الغاية غاية للطهارة المذكورة في الصدر لم يساعد مقام الإثبات استفادة كلا الحكمين كما قربه قدس سره .

نعم ، لو قيل : « كل شيء طاهر وتستمر طهارته حتى تعلم انه قذر » اتجه

ص: 128

ما ذكره.

واما الوجه الثالث الّذي ذكره في الحاشية : فهو مجمع الإيرادات على صاحب الفصول والكفاية لأنه يجمع كلا القولين.

ونزيد على ما تقدم ان الجمع : - في الصدر - بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية لا يمكن إلاّ بالإطلاق - بان يراد من الشيء أعم منه بعنوانه الأولي ، ومنه بعنوان انه مشكوك الطهارة كما قربه به - وهو ممتنع ، لأنه يستلزم ملاحظة الشيء بعنوانه الأولي وهو لا بشرط من الشك بنجاسته ، وملاحظته بشرط الشك في نجاسته ، والجمع في أمر واحد بين لحاظه بشرط شيء ولا بشرط ممتنع كما لا يخفى.

واما الوجه الرابع : المنسوب إلى صاحب الحدائق فقد عرفت انه دعوى تكفل الرواية لجعل الطهارة الواقعية وتقيدها بعدم العلم بالنجاسة ، بحيث يكون الشيء المجهول النجاسة طاهر واقعا.

ولا يخفى ان الالتزام به لا يستلزم محذورا فقهيا ، بل آثار النجاسة بلحاظ الجهل تتلاءم مع الطهارة الواقعية ، إلاّ انه لا يمكن الالتزام به لأمرين :

الأول : نفس الغاية في الرواية ، فانها ظاهرة في وجود نجاسة واقعية يتعلق بها الجهل تارة ، والعلم أخرى ، إذ المراد بالقذرة هاهنا هو النجاسة كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ما ورد في بعض الروايات المتقدمة من استصحاب الطهارة ، وهو لا يتلاءم مع الطهارة الواقعية في ظرف الجهل من ناحيتين :

الأولى : فرض الشك واليقين بالطهارة.

الثانية : نفس التعبد بالطهارة وإجراء الاستصحاب ، إذ لو كان عدم العلم موضوع الطهارة الواقعية لما كان هناك حاجة إلى إجراء الاستصحاب ، بل امتنع إجراؤه ، لأن مجرد الشك يستلزم العلم بالطهارة فلا مجال للاستصحاب ، فتدبر.

واما الوجه الخامس : فهو يبتني على ان يكون الملحوظ هو الحكم

ص: 129

باستمرار الطهارة بعد الفراغ عن أصل ثبوتها للشيء ، بان يكون مفاد الرواية : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » أو : « كل شيء طاهر طاهر حتى تعلم انه قذر ». ولكن هذا خلاف الظاهر ، فان ظاهر النص هو الحكم فعلا بثبوت الطهارة المقيدة بعدم العلم للشيء لا الحكم باستمرار الطهارة المفروضة الثبوت.

فيتعين ان يكون مفاد الرواية هو الوجه السادس كما فهمه المشهور. وعلى ذلك تكون أجنبية عن الاستصحاب.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب قال : « بناء على انه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء إلى ان يعلم حدوث قذارته لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت إلى ان يعلم عدمها ، فالغاية وهي العلم بالقذارة على الأول غاية للطهارة ورافعة لاستمرارها ، فكل شيء محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة ، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة. وعلى الثاني غاية الحكم بثبوتها والغاية وهي العلم بعدم القذارة رافعة للحكم ، فكل شيء يستمر الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته لا نفسها. والأصل في ذلك ان القضية المغياة سواء كانت اخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول كما في قولنا : « الثوب طاهر إلى ان يلاقي نجسا » ، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ، قد يقصد المتكلم مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلم به مجرد الاستمرار لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه » (1).

والّذي يظهر من هذه العبارة : ان الغاية بناء على استفادة قاعدة الطهارة من الرواية تكون غاية للحكم بالطهارة لا نفس الطهارة. واما بناء على استفادة

ص: 130


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.

الاستصحاب منها ، فالغاية غاية الطهارة نفسها ، وغاية الحكم غير مقصودة ولا مذكورة. كما يظهر منه انه بنى ذلك على كون مفاد الرواية على الأول مجرد ثبوت المحمول للموضوع. وعلى الثاني الحكم بالاستمرار ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه.

وهذا المطلب قد خفي على البعض تحقيقه وتوضيحه ، ولم تعط العبارة حقها من الشرح في عبارات المحشين.

وتوضيح مراده قدس سره : ان لدينا أمرين واضحين :

أحدهما : ان الحكم بالطهارة والتعبد بها غير نفس الطهارة ، فان الحكم بها عبارة عن الجعل ونفس الطهارة عبارة عن المجعول.

والآخر : ان ظاهر الكلام المتقدم في حد نفسه رجوع القيد - وهو الغاية - إلى النسبة الحكمية التي مفادها التعبد بالمحمول وجعله. نعم قد يرفع اليد عن هذا الظاهر لقرينة.

وعليه ، نقول : ان الرواية إذا كانت في مقام الحكم بثبوت الطهارة الظاهرية ، كان ظاهر الكلام رجوع الغاية إلى الحكم والتعبد به ، لا إلى المتعبد به وهو الطهارة ، وان ارتفع المجعول بارتفاع الجعل. واما إذا كانت في مقام الحكم بالاستمرار مع المفروغية عن أصل ثبوت الحكم ، فيما انه لا نظر إلى جعل الحكم وثبوته ، وانما المنظور بيان استمرار الحكم الثابت بحيث يكون مفاد « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » ، فتدل بالالتزام على الاستمرار ويقصد إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

وعليه ، فالغاية في الكلام ليست غاية الحكم بثبوت الطهارة ، إذ ليس هذا محط النّظر ، بل هو أمر لوحظ مفروغا عنه ، فيتعين ان تكون غاية لنفس الطهارة المذكورة في الكلام ، والمفروغ عن تحقق الحكم بها حدوثا ، وبذلك ظهر معنى قوله : « فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصود ».

ص: 131

وبالجملة : كلمة « طاهر » - على القول بالاستصحاب - ليست إنشاء للطهارة لا حدوثا وهو واضح ، ولا استمرارا - كي يقال ان الغاية غاية الحكم - ، إذ إنشاء الاستمرار بالمدلول الالتزامي لمجموع الكلام ، وانما الملحوظ بها الإشارة إلى الطهارة الثابتة للشيء ، فتكون الغاية غاية للمجعول لا للجعل فتدبر جيدا.

وهذا التوجيه لكلامه قدس سره لم نعهد من سبقنا إليه واللّه سبحانه ولي العصمة.

هذا تمام الكلام في اخبار الاستصحاب العامة والخاصة.

ويبقى أمر مختصر لا بد من التنبيه عليه ، وهو : أنك عرفت فيما تقدم بيان اختصاص الروايات المشتملة على لفظ النقض بمورد الشك في الرافع وعدم عمومها لمورد الشك في المقتضي ، وذلك : بملاحظة لفظ النقض.

ولكن قد يدعى إمكان استفادة عموم دليل الاستصحاب لمورد الشك في المقتضي من الروايات الأخرى ، كقوله علیه السلام في رواية زرارة الثالثة :

« ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » ، فانه ظاهر في النهي عن الأخذ بالشك مع اليقين السابق من دون اعتبار صدق النقض.

وكرواية الخصال المتقدمة ، إذ ورد فيها التعبير بالمضي على اليقين ، وهو يعم صورة الشك في المقتضي. وأوضح من الكل مكاتبة القاساني ، لأن موردها وهو الشك في بقاء شهر رمضان وشوال من الشك في المقتضي جزما كما لا يخفى.

والتحقيق ان شيئا من ذلك لا يعتمد عليه ، اما رواية زرارة الثالثة ، فقد عرفت انها لا ترتبط بمسألة الاستصحاب ، وليس المراد باليقين والشك فيها هو اليقين السابق والشك اللاحق. واما رواية الخصال ، فقد عرفت الكلام فيها سندا ودلالة ، لاحتمال نظرها إلى قاعدة اليقين. واما رواية القاساني ، فهي على ما عرفت محل تشكيك من ناحية السند والدلالة.

ص: 132

وجملة القول : ان عمدة نصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة الأولتان وقد عرفت اختصاص دلالتهما على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع ، بسبب لفظ النقض. فلاحظ وتدبر.

الأحكام الوضعيّة

وبعد جميع هذا يقع الكلام في الأحكام الوضعيّة وانها مجعولة أو غير مجعولة شرعا ، وسيتضح مقدار ربط ذلك بمسألة الاستصحاب.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى بعض الجهات التي يبحث عنها في الأحكام الوضعيّة ، وأهمل تحقيقها بصورة مفصلة لعدم الأثر المهم ، فان الجهة المهمة هي جهة البحث عن ان الأحكام الوضعيّة هل هي مجعولة شرعا كالاحكام التكليفية أو ليست مجعولة شرعا؟.

والّذي أفاده قدس سره في هذا المقام : الوضعيّة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا أصلا لا بالجعل الاستقلالي ولا بالجعل التبعي ، بل يكون مجعولا تكوينا عرضا بجعل موضوعه تكوينا.

النحو الثاني : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال ، وانما يكون مجعولا بتبع التكليف.

النحو الثالث : ما يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال وبتبع التكليف ، وان كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال وكون التكليف من آثاره وأحكامه.

ولا بد من التكلم في كل نحو على حدة.

اما النحو الأول : فقد جعل من مصاديقه السببية والشرطية والمانعية

ص: 133

والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، كسببية الدلوك لوجوب الصلاة ، فانها غير مجعولة للدلوك لا استقلالا ولا تبعا. واستدل على ذلك بوجهين :

الأول : انه لا يعقل ان تكون السببية ونحوها منتزعة عن التكليف لتأخره عنها ، فإذا كانت منتزعة عنه لزم تأخرها عنه وهو خلف.

وهذا الوجه - كما لا يخفى - يتكفل نفي الجعل التبعي.

الوجه الثاني : ان سببية الشيء - كالدلوك - للتكليف لا بد ان تكون ناشئة عن خصوصية في ذات السبب تستدعي ترتب التكليف عليه ضرورة اعتبار ان يكون في العلة باجزائها ربط خاص تكون بسببه مؤثرة في المعلول دون غيره لا يكون غيرها مؤثرا فيه ، ولو لا ذلك لزم ان يؤثر كل شيء في كل شيء ، وهو ضروري البطلان.

ومن الواضح ان تلك الخصوصية المستلزمة لتأثير ذيها في التكليف خصوصية تكوينية لا تناط بجعل السببية ، فانها ان كانت موجودة لم يحتج إلى الإنشاء ولا أثر له ، وان لم تكن موجودة لم توجد بسبب إنشاء السببية ، فالجعل وجودا وعدما لا تأثير له في وجود الخصوصية وعدمها ، وعلى هذا تكون السببية منتزعة عن أمر تكويني لا دخل للجعل فيه أصلا.

وهذا الوجه ينفي الجعل الاستقلالي كما ينفي الجعل التبعي كما لا يخفى (1).

أقول : لا إشكال في ان السببية للتكليف ونحوها لا يتعلق بها الجعل الاستقلالي مع غض النّظر عما أفاده قدس سره - وان كان تاما على ما يأتي تحقيقه - ، وذلك للغوية جعل السببية ، وذلك لأنه حين يجعل السببية للدلوك لا

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /400- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يخرج الوجوب عن كونه اختياريا للجاعل ، بمعنى ان جعله بيده.

وعليه ، نقول : اما ان يجعل الشارع الوجوب عند الدلوك أو لا ، فان جعله عند الدلوك لا حاجة إلى جعل السببية لانتزاعها من التكليف. وان لم يجعله لم ينفع جعل السببية في ترتبه. اذن فيكون جعلها لغوا.

وانما البحث يدور بين الاعلام في انها منتزعة عن التكليف أو انها امر واقعي غير مجعول.

وقد عرفت ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه في هذا المقام.

وقد استشكل في كلا وجهيه.

اما الإشكال في الأول : فبان ما يكون التكليف متأخرا عنه هو ذات السبب لا عنوان السببية ، فلا يلزم من انتزاع عنوان السببية من ترتب التكليف على ذات السبب الخلف ، إذ ما هو المتأخر عن التكليف غير ما هو المتأخر عنه التكليف ، نظير العلية في الأمور التكوينية ، فان المعلول متأخر عن ذات العلة ، ولكن العلية والمعلولية تنتزعان من ترتب المعلول على علته.

واما الإشكال في الثاني : فبان للتكليف مقامين : مقام المصلحة والغرض ، ومقام الجعل والاعتبار.

ومن الواضح ان دخالة السبب في المصلحة تكوينية لا جعلية ، إذ المصلحة من الأمور التكوينية ، الخارجة عن دائرة الجعل.

واما مقام الجعل والاعتبار ، فصيرورة الشيء سببا للتكليف انما هو بيد الشارع ، : فان أخذه في موضوع الحكم انتزع عنه عنوان السببية ، وإلاّ لم يكن سببا للتكليف وان كان سببا للمصلحة.

ومن الواضح ان محل الكلام هو سببية الشيء للتكليف لا للمصلحة ، وهي لا محالة منتزعة عن كيفية الجعل ومقام التشريع.

ومرجع كلتا المناقشتين : ان استدلال المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه في كلا

ص: 135

وجهيه مبني على الخلط. ففي الوجه الأول خلط بين عنوان السببية وذات السبب. وفي الثاني خلط بين مقام المصلحة ومقام الجعل والتشريع (1).

والتحقيق : ان كلتا المناقشتين غير واردتين :

اما مناقشة الوجه الأول ، فيدفعها : ان السببية على نحوين :

أحدهما : السببية الشأنية ، وهي عبارة عن كون الشيء مؤثرا في وجود المسبب لو انضمت إليه الشرائط ، فهي عبارة عن قضية شرطية.

والآخر : السببية الفعلية ، وهي عبارة عن تأثير السبب في وجود المسبب فعلا.

وعليه ، فحين يقال : ان النار سبب للإحراق ، تارة : يراد به بيان قابلية النار للتأثير وانها ذات خصوصية واقعية مستلزمة للحرقة عند اجتماع سائر الشرائط من المماسة ويبوسة المحل ، وهذا العنوان يصح إطلاقه على النار ولو لم يكن للنار ولا للحرقة وجود. وأخرى : يراد به بيان ترتب الإحراق فعلا على النار ، وهذا هو معنى السببية الفعلية.

وقد اتضح بهذا البيان : ان السببية المنتزعة عن وجود المسبب خارجا هي السببية الفعلية. اما السببية الشأنية ، فهي في مرحلة سابقة على وجود المسبب ، وهي تنتزع عن الخصوصية الواقعية الموجودة في السبب التي بها يؤثر في المسبب عند حصول شرائط التأثير ، فانه لو لا تلك الخصوصية لا يقال عنه انه سبب لعدم قابليته للتأثير.

وهذا البيان بنفسه يتأتى في سبب التكليف ، فان السببية المقصودة تارة يراد بها السببية الشأنية. وأخرى السببية الفعلية. وما ينتزع عن التكليف الفعلي هو السببية الفعلية دون السببية الشأنية ، فانها في مرحلة سابقة على التكليف ،

ص: 136


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 395 - 397 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فيطلق على الدلوك انه سبب للوجوب ولو لم يوجد بعد ، ويمتنع ان تكون منتزعة عن نفس التكليف ، كيف؟ وهي ثابتة قبل وجود التكليف كما عرفت.

وإذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : ان محل الكلام فيما نحن فيه ، هو السببية الشأنية دون السببية الفعلية ، وذلك لأن المبحوث عنه هو ما يطلق عليه السبب والشرط مع قطع النّظر عن وجوده في الخارج ، كما يقال : « الدلوك سبب لوجوب الصلاة » و: « الاستطاعة شرط لوجوب الحج » ، فان السببية والشرطية هي الشأنية لا الفعلية كما لا يخفى.

وهي كما عرفت لا يصح ان تنتزع عن التكليف لتأخره عنها ، فلو انتزعت عنه لزم الخلف. بل هي منتزعة اما عن خصوصية واقعية في ذات السبب ، واما عن كيفية الجعل والإنشاء - على ما سيأتي تحقيقه -.

فلا خلط في كلامه قدس سره بين ذات السبب والسببية ، بل نظره قدس سره إلى السببية الشأنية السابقة على التكليف ، لا الفعلية كي يحصل الخلط. اذن فهذا الإيراد غير وجيه.

نعم ، يمكن ان يورد على صاحب الكفاية : بان من يدعي كون السببية الشأنية منتزعة عن التكليف لا يريد انها منتزعة عن نفس التكليف الفعلي ، كي يتأتى إيراده المتقدم ، بل يريد انها منتزعة عن مقام الجعل وكيفية الجعل ، فان جعل المولى التكليف مقيدا بشيء انتزع عنه ان ذلك الشيء شرط - مثلا - ، وان جعله مطلقا من ناحية ذلك الشيء لم ينتزع عنه شرطية ذلك الشيء.

ولا يخفى ان مقام الجعل ليس متأخرا عن السببية الشأنية. اذن فالإيراد من هذه الناحية - أعني : تأخر التكليف عن السببية ولزوم الخلف لو كانت منتزعة عنه - غير تام.

وانما المهم هو تحقيق ان السببية الشأنية هل هي منتزعة عن كيفية الجعل - كما قيل - ، أو انها منتزعة عن خصوصية واقعية بلا دخل لكيفية الجعل ، كما

ص: 137

ذهب إليه صاحب الكفاية في الوجه الثاني؟.

وهذه الجهة ستتضح في مناقشة الإيراد الثاني على صاحب الكفاية.

وتحقيق ذلك يتم ببيان امرين :

الأول : ان مرجع كون الشيء سببا للتكليف أو شرطا له هو كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، بحيث يكون الفعل به ذا مصلحة وبدونه ليس بذي مصلحة ، فنسبته إلى الفعل نسبة المرض إلى استعمال الدواء ، فإن شرب الدواء بدون المرض لا مصلحة فيه ، بل قد يكون مضرا ، وانما يصير ذا مصلحة عند تحقق المرض.

وبعبارة مختصرة : ان موضوع التكليف ما كان دخيلا في تحقق الاحتياج إلى الفعل ، والأمثلة العرفية كثيرة.

الأمر الثاني : ان الحكم التكليفي الفعلي قد اختلف في حقيقته وواقعه ، والوجوه المعروفة فيه أربعة :

الأول : انه عبارة عن نفس الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

الثاني : انه عبارة عن الاعتبار العقلائي للحكم المترتب على الإنشاء الصادر من المولى.

الثالث : انه عبارة عن نفس اعتبار المولى في ظرفه الخاصّ ، بحيث يكون الاعتبار منوطا بتحقق الموضوع.

الرابع : انه عبارة عن اعتبار المولى في ظرف الإنشاء ، لكن يكون الاعتبار على تقدير ، بمعنى ان الاعتبار من الآن على تقدير تحقق الموضوع ، فتحقق الموضوع دخيل في ترتب الأثر العقلائي على الاعتبار ، وهو المعبر عنه بفاعلية الاعتبار ، وليس دخيلا في تحقيق نفس الاعتبار كما هو الحال في الوجه الثالث.

وعليه ، نقول : بعد فرض كون المولى حكيما يتتبع الحكمة في أفعاله ولا

ص: 138

يجازف ، فيتعين عليه ملاحظة موارد المصلحة في تشريعاته ، فلا يشرع حكما على خلاف المصلحة وإلاّ كان منافيا للحكمة ، فإذا فرض ان كون الفعل ذا مصلحة منوط بأمر خاص ، كالدلوك بالنسبة إلى الصلاة ، امتنع تحقق التكليف وجعله من قبل المولى بلا ربط له بالدلوك ، وإلاّ كان خلاف الحكمة. ومن هذه الجهة تنتزع شرطية الدلوك للوجوب ، لأن معنى الشرطية هو امتناع تحقق المشروط بدون الشرط ، وهذا ثابت في الدلوك بعد فرض كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وبعد فرض حكمة المولى وعدم مجازفته.

ومن الواضح ان هذا المعنى ليس جعليا ، بل هو تابع للخصوصية الواقعية الموجودة في الدلوك ، ولا تناط بجعل المولى التكليف منوطا به ، بحيث لولاه لما كان شرطا - بالمعنى الّذي عرفته -. بيان ذلك :

اما بناء على كون التكليف الفعلي هو الإرادة التشريعية ، فلأن تبعية إرادة الحكيم لحصول الشرط الدخيل في المصلحة تكوينية ، لأن الإرادة تابعة للشوق ، وهو لا يحصل إلاّ لما فيه المصلحة ، فبدون الشرط لا يحصل الشوق فلا تحصل الإرادة. فتأثير الشرط في الإرادة تكويني قهري لا تناله يد الجعل بالمرة ولا يكون تابعا لكيفية الجعل أصلا.

وبعبارة أخرى : ان المولى لو كان يتمكن من ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لكان لدعوى تبعية شرطيته لتعليق الإرادة عليه من قبل الشارع مجال ، ولكنه لا يتمكن ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لأنه يستحيل تحقق الإرادة من دون شوق ، وهو لا يحصل بالنسبة إلى الفعل الخالي عن المصلحة ، وشرطية الشرط للإرادة تكوينية ليست منوطة بالشارع.

واما بناء على كون التكليف الفعلي هو الاعتبار العقلائي المترتب على الإنشاء الصادر من المولى ، فلا يخفى ان العقلاء إذا أدركوا ان كون الفعل بدون هذا الشرط خال عن المصلحة لم يعتبروا التكليف بدونه وكان اعتبارهم منوطا

ص: 139

بوجوده سواء ربط المولى حكمه به أو كان إنشائه مطلقا.

وان كان فرض حكمته انه لا بد ان ينشئه مقيدا به ، فترتب الحكم الفعلي على الشرط ليس منوطا بكيفية الجعل ، بل هو تابع لدخالته في المصلحة وهي جهة تكوينية واقعية لا جعلية.

ومنه يتضح الحال على الوجهين الآخرين في حقيقة الحكم التكليفي ، فان المراد بالشرط - كما أشرنا إليه - هو ما يمتنع وجود التكليف بدونه بحيث يلزم من عدمه العدم.

وهذه الجهة تتحقق في الشرط بملاحظة كونه دخيلا في الاحتياج إلى الفعل وكونه ذا مصلحة ، إذ يمتنع حينئذ تحقق التكليف من المولى الحكيم بدونه ويلزم من عدمه عدم التكليف ، وإلاّ كان منافيا للحكمة. اذن فانتزاع الشرطية منوط بأمر واقعي ولا ربط لكيفية الجعل به أصلا ، بل كيفية الجعل من المولى الحكيم تابعة للشرطية الواقعية.

والّذي يتحصل : ان شرطية التكليف الصادر من الحكيم - بناء على تبعية الأحكام للمصالح والأغراض العقلائية ، كما هو الحق الّذي لا يقبل الإنكار ، وإلاّ لما كان وجه للتقييد بشيء دون آخر - منتزعة عن خصوصية واقعية - كما ذهب إليه صاحب الكفاية - ، لا عن مقام الجعل والتشريع. وليس في كلامه خلط بين مقام المصلحة ومقام التشريع ، بل نظره إلى الشرطية في مقام التشريع والحكم كما عرفت.

كما ظهر مما ذكرنا ان ما أورده المحقق النائيني رحمه اللّه على صاحب الكفاية - من : انه خلط بين مقام الجعل والمجعول ، فان شرائط الجعل تكوينية لا تناط بالجعل ، واما شرائط المجعول فشرطيتها منتزعة عن كيفية الجعل ، ولو لا جعل المولى التكليف مقيدا بالشرط لم يعنون بعنوان الشرطية - وقد تبعه عليه

ص: 140

غيره (1) في هذا الإيراد غير تام ، لما عرفت من كون نظر صاحب الكفاية إلى نفس المجعول وشرائطه. وان شرطية شرط المجعول غير مجعولة ، بل هي تابعة لخصوصية واقعية ان كانت موجودة ، كان الشيء شرطا وان لم يتقيد به المجعول في مقام الجعل ، وان لم تكن موجودة لم يكن شرطا وان تقيد به في مقام الجعل ، لعدم امتناع تحقق التكليف الفعلي بأي معنى من معانيه بدونه حينئذ.

ويزيدك وضوحا ملاحظة شرطية القدرة للتكليف ، فانها شرط عقلي يمتنع التكليف بدونه للغويته.

ولم يخطر في ذهن أحد أن شرطية القدرة تابعة للجعل وكيفيته ، إذ هي شرط مع كون الجعل مطلقا من ناحيتها. فكما تكون شرطية القدرة منتزعة عن جهة واقعية ، فكذلك نقول في سائر الشرائط المذكورة في

لسان الشارع ، فإنها شرط واقعي للتكليف بملاحظة تقيد الشارع بمقتضى الحكمة والمصلحة وعدم خروجه عنهما. فتدبر جيدا.

واما النحو الثاني - وهو ما امتنع جعله مستقلا وجعل تبعا - : فقد جعل من مصاديقه الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، كجزئية السورة للصلاة وشرطية الطهارة لها ، ومانعية النجاسة وقاطعة الاستدبار ، فانها مجعولة بالتبع. وبعبارة أخرى : انها منتزعة عن التكليف المتعلق بالعمل.

وقد أوضح ذلك : ان الجزئية ذات مراتب ثلاث :

الأولى : الجزئية بلحاظ الوفاء بالغرض ، وذلك بان يكون غرض واحد مترتبا على مجموع أمور ، فيكون كل واحد منها جزء ما يفي بالغرض ، وتكون جهة الوحدة الجامعة بين الأمور المتباينة هي الوفاء بالغرض.

ص: 141


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 81 - الطبعة الأولى.

الثانية : الجزئية بلحاظ تعلق اللحاظ ، بان يتعلق لحاظ واحد بمجموع أمور ، فان كل واحد منها جزء الملحوظ ومجموعها هو الكل.

الثالثة : الجزئية بلحاظ مقام الأمر والتكليف ، وذلك بان يتعلق امر واحد بعدة أمور ، فيكون كل منها بعض المأمور به وجزئه.

ولا يخفى ان الجزئية لا تنتزع مع قطع النّظر عن الأمر ، إذ هذه الأمور متباينة لا ربط بينها ولا جهة وحدة. اما بعد تعلق الأمر بها فهو جهة وحدة تصحح انتزاع الجزئية لكل واحد منها ، فليست الجزئية للمأمور به امرا واقعيا ثابتا مع قطع النّظر عن الأمر ، بل هي متفرعة عن تعلق الأمر بالأمور المتكثرة بحيث تربط بينها وتوحدها جهة تعلق الأمر بها (1).

وهذا الالتزام من صاحب الكفاية وقع موقع القبول من الاعلام ، إلاّ ان المحقق العراقي خالفه في الشرطية ، فذهب إلى : ان الشرطية تنتزع في مرحلة سابقة عن تعلق الأمر ، وذلك لأن الشرطية الثابتة للشرط انما هي فرع إضافته إلى المشروط وتقيده به ، فيكون شرطا لحصول المقيد به ، ومن الواضح ان جهة التقيد والإضافة سابقة عن تعلق الأمر ، ولا تتوقف على الأمر ، بل هي معروضة للأمر ، إذ الأمر بالمقيد فرع أخذ التقيد في متعلق الأمر ، وهذا يقتضي سبق التقيد على الأمر.

نعم ، كون الشيء شرطا للمأمور به يتوقف على الأمر ، لا ان أصل شرطيته متوقفة على الأمر ، نظير مقدمة الواجب ، فان أصل المقدمية لا يتوقف على التكليف ، ولكن عنوان : « المقدمية للواجب » لا يكون إلاّ بعد ثبوت الوجوب.

ولكن هذا غير ما نحن بصدده ، فان البحث عن توقف أصل الجزئية

ص: 142


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /401- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والشرطية على الأمر. وهذا وان تم في الجزئية ، لأنها تنتزع عن جهة الوحدة ، وهي في المأمور به ليس إلاّ الأمر وكونه متعلقا له ، فبعد تعلقه بذوات الاجزاء ينتزع عنه عنوان الجزئية لها. ولكنه لا يتم في الشرطية ، لأنها تنتزع عن جهة تقيد العمل بالشرط وإضافته له ، وهذا غير منوط بالأمر ، بل عرفت انه سابق على الأمر لأنه مأخوذ في موضوعه. فمثلا الصلاة المشروطة بالطهارة يتعلق بها الأمر ، ولا يخفى ان كون الطهارة شرطا انتزع عن تقيد الصلاة بها ، وهو سابق على الأمر. نعم كونها شرطا للواجب ينتزع عن الأمر كما عرفت لا أصل الشرطية. مثل : « إكرام العالم الواجب الاحترام » ، فان كونه إكراما للعالم لا يرتبط بالأمر ووجوب احترام العالم ، بل هو امر ثابت في حد نفسه ، لكن كونه إكراما لمن يجب احترامه ينتزع عن الأمر باحترام العالم. فتدبر (1).

هذا ما أفاده العراقي قدس سره - ببعض توضيح منا وتلخيص - وهو كلام متين يزداد لدينا وضوحا كلما ازددنا فيه تأملا وتفكرا.

هذا ، ولكن لا يخفى انّه - على متانته - لا أثر له فيما هو المهم فيما نحن فيه. وتوضيح ذلك : ان الكلام فيكون الأحكام الوضعيّة كالجزئية مجعولة وعدم كونها مجعولة ، انما هو بلحاظ صحة جريان الأصل فيها وعدم صحته.

وقد أشير في الكفاية إلى صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما يكون مجعولا بالتبع ، ببيان : انه لا يعتبر في مجرى الأصل سوى كون امره بيد الشارع يتمكن من وضعه ورفعه ولو بتبع امر آخر ، والجزئية للمأمور به كذلك ، فانها مجعولة يتبع جعل الأمر ، فيصح ان تكون مجرى الأصل ، ولا يمنع منه عدم تسمية الجزئية حكما شرعيا ، إذ لا يعتبر ذلك في مجرى الأصل ، بل المعتبر ما عرفت من كونه بيد الشارع وهو كذلك.

ص: 143


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 91 - 92 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما كان دخيلا في التكليف ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لعدم كونه بيد الشارع ولو بالتبع كما عرفت ، ولا يترتب عليه شرعا حكم شرعي ، إذ التكليف وان كان مترتبا عليه إلاّ انه ليس بترتب شرعي. هذا ما أفيد في الكفاية (1).

ولكن الحق انه لا مجال لجريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما كان منتزعا عن التكليف ومجعولا بالتبع ، لأن وصول النوبة إلى إجراء الأصل في الجزئية وجودا أو عدما انما هو فيما إذا لم يكن منشأ انتزاعهما - وهو الأمر النفسيّ المتعلق بالكل - مجرى للأصل ، لقصور في المقتضي أو لوجود المانع ، كما في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر وعدم انحلال العلم الإجمالي فيه ، كما هو مبنى صاحب الكفاية ، إذ أصالة عدم الأمر بالأكثر معارضة بأصالة عدم الأمر بالأقل. واما مع إمكان جريان الأصل فيه ، فلا مجال للأصل في الجزئية.

وعليه ، فنقول : ان الأمر الانتزاعي حيث انه لا وجود له الا في ضمن منشأ انتزاعه ولا مطابق له خارجا سواه ، وإلاّ فهو أشبه بالفرض ، فلا يقبل الجعل وجودا وعدما إلاّ بلحاظ تعلق الجعل وعدمه بمنشإ انتزاعه ، والمفروض انه - أي منشأ الانتزاع - لا يصح ان يكون مجرى للأصل وللتعبد.

وإلاّ استغني بالتعبد به عن التعبد بما ينتزع عنه.

هذا إذا كان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن.

واما إذا كان مفاده هو معاملته البقاء من دون تقيّد للتعبد به ، بل هو إرشاد اما إلى التعبد به كما لو كان حكما ، أو إلى التعبد بأثره كما لو كان موضوعا ، فقد يقال انه يشمل الجزئية ويكون مقتضاه وقوع التعبد بما يلازمها ، وهو منشأ انتزاعها.

ص: 144


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /403- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لكن نقول : ان الأصول العملية لا يصح ان تجري الا فيما ترتب على جريانها أثر عملي بحيث تنفع المكلف في مقام عمله.

ولا يخفى انه لا ثمرة عملية تترتب على جعل الجزئية - بما هي - وجودا وعدما. وانما الأثر العملي العقلي يترتب على الأمر النفسيّ المتعلق بالمجموع ، وهو منشأ انتزاع الجزئية ، فانه يختلف حكم العمل باختلاف سعة دائرة شموله وضيقها.

اما الجزئية - بعنوانها - ، فلا أثر يترتب عليها أصلا ، فلا مجال لجريان الأصل فيها وان فرض كونها مستقلة في الوجود عن منشأ انتزاعها. وبعبارة أخرى : ان الأثر العملي لا يرتبط بها بأي ارتباط كي يكون ترتبه إبقاء لها عملا فلا يشملها الأمر بالإبقاء عملا ، وليس الأمر في الموضوع الشرعي كذلك ، فان ما يترتب على الحكم من أثر يعد إبقاء له عملا كما هو واضح.

وإذا عرفت ذلك ، يظهر انه لا قيمة - بلحاظ ما هو المهم فيما نحن فيه - في إثبات كون الشرطية انتزاعية كالجزئية ومجعولة بالتبع مثلها ، أو واقعية غير مجعولة ، لأنها على كلا التقديرين لا تكون مجرى للأصل.

واما ما هو الدخيل في التكليف كالسببية ، فهو مما لا مجال لجريان الأصل فيه أيضا ، سواء كان مجعولا أو غير مجعول ، وذلك لأن الشك فيه اما حدوثا بان يشك بان هذا سبب يتوقف على حدوثه حدوث التكليف ، بحيث إذا نفينا سببيته ثبت التكليف قبل تحققه لعدم ارتباطه به ، كما لو شك بان وجوب الظهر منوط بالزوال أو لا. واما بقاء بان يشك في إناطة التكليف به بقاء ، بحيث إذا نفينا سببية بقاء يبقى التكليف كما لو شك بعد زوال العلم عن العالم في ان عنوان العالم موضوع للتكليف حدوثا أو حدوثا وبقاء.

اما الأول : فلا مجال لجريان حديث الرفع لمنافاته للامتنان.

واما الاستصحاب ، فهو وان لم يكن فيه محذور من هذه الجهة ، لكنه لا

ص: 145

أثر له عملي ، فالمرجع هو استصحاب عدم التكليف قبل حدوث السبب المشكوك ، أو أصالة البراءة منه.

واما الثاني : فاستصحاب السببية لا أثر له عملا كما عرفت ، إذ الأثر العملي يترتب على نفس التكليف المنوط بالسبب. فالمتعين إجراء الأصل في منشأ انتزاعه لو كان جاريا في حد نفسه.

والّذي يتلخص : انّ البحث عن مجعولية السببية وعدمها ، وهكذا الجزئية مما لا قيمة له من الناحية العملية التي نتوخاها في باب الاستصحاب. نعم هو بحث علمي يترتب عليه فائدة علمية.

واما النحو الثالث - وهو ما جعل استقلالا وان أمكن جعله تبعا - : فقد جعل من مصاديقه الحجية والقضاوة والحرية والملكية والزوجية ، وقد التزم بأنها مجعولة بالاستقلال كالتكليف ، وليست منتزعة عنه - كما يراه. الشيخ (1) رحمه اللّه -.

وقد استدل على ذلك بوجوه عديدة :

الأول : انه من الضروري صحة انتزاع الملكية بمجرد تحقق العقد ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة ترتب التكاليف والآثار ، بل مع الغفلة عن ذلك ، مثل هذا لا يصح لو كانت أمورا انتزاعية عن التكليف.

الوجه الثاني : انه يلزم من كونها انتزاعية ان لا يقع ما قصد ويقع ما لم يقصد ، وهو مناف لتبعية العقود للقصود. بيان ذلك : ان المنشئ للبيع - مثلا - يقصد بإنشائه وقوع التمليك لا أمرا آخر ، فإذا لم تترتب الملكية اعتبارا على قصده ، بل ترتب التكليف الّذي ينتزع عنه الملكية ، كان هذا مستلزما لوقوع ما لم يقصد وقصد ما لم يقع.

ص: 146


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /351- الطبعة الأولى.

الوجه الثالث : انه لا يصح دعوى ان الملكية منتزعة عن جواز التصرف بالمال الثبوت الجواز مع عدم الملكية قطعا ، كما في الولي على المال أو المأذون بالتصرف.

وهذه الوجوه ذكرها في الكفاية (1).

الوجه الرابع : انه ليس في الأحكام الوضعيّة ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه فيه غيره ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى : ان الحكم الوضعي ينتزع عن جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به. كما ترى ، مع ان هذا أيضا لا يمكن في بعض المقامات ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعيّة التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه. وهذا الوجه ذكره المحقق النائيني (2).

الوجه الخامس : ما ذكره المحقق العراقي من ان ظواهر الأدلة لا تساعد على دعوى الانتزاع ، لأنه قد أخذت فيها هذه الأمور الوضعيّة موضوعا للأحكام التكليفية ، مثل ما دل على حرمة التصرف بمال الغير بغير طيب نفسه (3) ، وما دل على سلطنة الناس على أموالهم (4). وهذا يقتضى كون الإضافة في مرتبة سابقة على الحكم فكيف يكون الحكم منشأ لانتزاعها (5).

أقول : البحث في مجعوليّة هذه الأمور ..

تارة : ينظر فيه مقام الإثبات ، بحيث تكون معقولية تعلق الجعل الاستقلالي بها مفروغا عنها ولا كلام فيها وانما الكلام في الدليل عليه.

ص: 147


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /402- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 387 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- وسائل الشيعة 3 / 424 باب 3 من أبواب مكان المصلي حديث 1.
4- عوالي اللئالي 1 / 222 ح 99.
5- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 103 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا ما نهجه الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) ، فان الّذي يظهر منهم المفروغية عن الإمكان الثبوتي ، وركزوا البحث على مقام الإثبات.

وقد عرفت مجموع الوجوه التي ذكرت بهذا الصدد ، وهي بمجموعها توجب حصول الاطمئنان بتعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور ، وان أمكن البحث في كل وجه وجه إذا بنينا على التدقيق.

وأخرى : ينظر فيه مقام الثبوت ، وانه هل يعقل تعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور أو لا؟.

وهذا ما لم يتعرض إليه الأعلام ولم يشيروا إليه بقليل ولا كثير ، بل فرضوا الإمكان مفروغا عنه - كما عرفت -.

لكن يجول في الذهن من القديم إشكال ثبوتي ومحصله : ان تعلق الاعتبار العقلائي أو الشرعي بأمر انما هو لأجل ترتيب الآثار العقلائية أو الشرعية ، وإلاّ فهو بنفسه بلا ملاحظة أثر عملي لغو لا يصدر من العاقل الحكيم.

وعليه ، نقول : انه حين اعتبار الملكية عند تحقق سببها كعقد البيع ، اما ان يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية كجواز التصرف بالمال وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه وغير ذلك ، أو لا يتعلق اعتبار آخر بآثارها.

فعلى الأول : يكون اعتبار الملكية مما لا حاجة إليه ، إذ يمكن تعلق الاعتبار رأسا بالاحكام التكليفية عند حصول العقد بلا حاجة إلى توسيط اعتبار الملكية.

وعلى الثاني : يلزم ان لا يترتب أي أثر تكليفي على اعتبار الملكية ، إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهرا من دون اعتبار.

فيكون جعل الملكية لغوا على كلا التقديرين ، والإشكال هاهنا نظير ما تقدم من الإشكال في تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية.

ومحصله : ان اعتبار الأمر الوضعي لا يغني بنفسه عن اعتبار الحكم

ص: 148

التكليفي المفروض ترتبه عليه ، ومع اعتبار الحكم التكليفي لا حاجة إلى جعل الحكم الوضعي.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال : بان الملكية والزوجية ونحوهما ليست من المجعولات الشرعية التأسيسية ، بل هي من المجعولات الإمضائية ، بمعنى انها مجعولة لدى العقلاء والشارع أمضى اعتبارهم.

ومن الواضح انه ليس لدى العقلاء أحكام تكليفية من وجوب وتحريم ، بل ليس لديهم الا الحكم بالحسن والقبح ، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه ، والظلم لديهم هو التعدي عن الحقوق الثابتة لديهم. وعليه فقبح التصرف بالمال لديهم وحسنة يتفرعان على ان يكون التصرف تعديا عن الحق وعدم كونه كذلك ، هذا يتوقف على اعتبار ملكية المتصرف وعدمها.

وكيف كان ، فليس لديهم اعتباران ومجعولان ، بل لديهم اعتبار واحد يتعلق بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح. واعتبارهم للملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين والتقبيح ، هذا شأن العقلاء.

واما الشارع ، فهو قد أقر العقلاء على اعتبارهم الملكية وليس لديه جعل جديد ، ورتب على ذلك أحكاما تكليفية من وجوب وحرمة وغيرهما نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء ، فالملكية العقلائية التي أقرها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية ودخيلة في تحققها بعد وفي مثل ذلك لا محذور من لغوية أو غيرها.

اذن ، فلا مانع من الالتزام بمجعولية مثل الملكية بعد ان كان مقام الإثبات يساعد عليه.

ثم انه وقع الكلام في بعض الأمور الوضعيّة ، وانها مجعولة أو ليست بمجعولة كالصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، ولا بأس بالتكلم عنها بنحو مختصر ، فنقول :

ص: 149

اما الصحة والفساد فقد تقدم البحث عن تعلق الجعل بهما في مبحث اقتضاء النهي الفساد بنحو مفصل فلا نعيد.

واما الطهارة والنجاسة ، فقد ذهب بعض إلى انهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.

ولكن الصحيح خلافه ، وذلك لأن مرجع هذه الدعوى إلى كون الطهارة والنجاسة هي الاستقذار العرفي وعدمه ، لا انهما موجودان بوجود واقعي مع قطع النّظر عن النّظر العرفي إذ الاستقذار امر عرفي ، ولذا قد تختلف فيه الطبائع.

وعليه ، نقول : ان من النجاسات شرعا ما يقطع بعدم جهة واقعية فيه بحيث يختلف واقعا بلحاظ حالتي طهارته ونجاسته ، كالكافر ، فانه من المقطوع ان إظهار الشهادتين ليس له دخل واقعي في جسم الكافر بحيث يصير طاهرا به بعد ان كان نجسا وأوضح من هذا مثالا ابن الكافر الّذي ينجس ويطهر بتبعية أبيه ، مع انه من المعلوم عدم تأثير إسلام أبيه وكفره في بدنه. كما ان من الأجسام الطاهرة ما هو قذر جزما كلعاب الفم وماء الأنف وغير ذلك. اذن فبين ما هو قذر عرفا وليس بقذر ، وما هو قذر شرعا وليس بقذر ، عموم من وجه ، فلا يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع ، بل هما اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما أحكام شرعية.

ص: 150

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : في جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات.

وهذا التنبيه انفرد به صاحب الكفاية عمن قبله ، ومنشأ الإشكال في إجراء الاستصحاب فيما قامت الأمارة على حدوثه هو : ان ظاهر دليل الاستصحاب هو اعتبار اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، والحكم الواقعي الّذي قامت عليه الأمارة لا يقين به ، فمع الشك في بقائه لا يمكن استصحابه لاختلال أحد ركني الاستصحاب. مثلا لو قامت الأمارة على وجوب احترام زيد وشك في ان وجوب احترامه مستمر إلى ثلاثة أيام أو هو ثابت في يومين. فقط ، ففي اليوم الثالث يشك في بقاء الوجوب ، والأمارة لا تصلح لا ثباته لأنها مجملة من هذه الناحية ، فليس هنا إلاّ الاستصحاب وقد عرفت الإشكال فيه.

ولا يخفى عليك ان مبنى الإشكال على عدم قيام الأمارة - بدليل اعتبارها - مقام القطع الموضوعي. وإلاّ فلا إشكال ، إذ الأثر الشرعي الثابت لليقين بالحدوث ، وهو حرمة النقض ، ثابت للأمارة بحسب الفرض ، فقيام الأمارة على الحدوث يجدي في الاستصحاب لأنها بمنزلة اليقين.

واما بناء الإشكال على عدم تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى وإنشاء أحكام ظاهرية شرعية ، بل تكفله التنجيز والتعذير لا غير - كما يظهر من الكفاية - ، فليس بسديد ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت يقينا بالأمارة ارتفع يقينا بارتفاع سببه ، وهو الأمارة ، فانه منوط بقيامها ، وهي لم تقم على أكثر من زمان اليقين ، والحكم الواقعي مشكوك الحدوث بحسب الفرض. وسيأتي توضيح الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 151

وبالجملة : مبنى الإشكال ما عرفت من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، فنظره إلى بيان بقاء الحادث ، وان الحادث يدوم بلا خصوصية لليقين به ، بل لوحظ طريقا إلى متعلقه. وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، وان كل ما هو حادث باق تعبدا ، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء ، واليقين لوحظ طريقا لإحراز الموضوع ، كاليقين بسائر موضوعات الأحكام ، فالمجعول هو البقاء على تقدير الحدوث واقعا.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي حجة على الحدوث ، نظير سائر الأمارات القائمة على الموضوعات ، فانها تكون حجة على الحكم المترتب عليها ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ان كان المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا ، كان الحدوث الواقعي موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء ، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة على حكمه واثره وهو البقاء الظاهري ، فتكون الأمارة مثبتة لموضوع الحكم الاستصحابي. هذا ما أفاده في الكفاية بتوضيح منا (1).

وقد أورد عليه إيرادات عديدة :

الإيراد الأول : انه لا تصل النوبة إلى هذا الكلام ، لأن دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الطريقية والوصول والمحرزية ، فهو يعتبر الأمارة علما.

وعليها فيترتب عليها جميع آثار العلم العقلية والشرعية ، ومنها التعبد بالبقاء ،

ص: 152


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /405- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فيندفع الإشكال بحذافيره.

وفيه : أولا : ان هذا الإيراد مبنائي لا يمكن ان يلزم به مثل صاحب الكفاية ممن لا يرى جعل الطريقية.

وقد عرفت ان أصل الإشكال في استصحاب مؤدى الأمارة مبني على عدم الالتزام بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، فتدبر.

وفيه ثانيا : انه لو التزم بجعل الطريقية والوسطية في الإثبات فلا ينفع ، وذلك لأن غاية ما يجدي هذا الالتزام هو إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، وترتب جميع الآثار المترتبة على العلم - عقلية أو شرعية - عليها ، واندفاع المحذور الثبوتي في الالتزام بقيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي بناء على جعل المؤدى الّذي تقدم البحث فيه في مباحث القطع.

ولكن مجرد إمكان ذلك ثبوتا لا ينفع ما لم يساعد عليه مقام الإثبات. وهو قاصر عن إفادة تنزيل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره أو اعتبار الأمارة علما بلحاظ مطلق آثار العلم ، إذ ليس لدينا - في باب خبر الواحد مثلا - دليل لفظي بلسان : « ان خبر الواحد علم » ونحوه من التعبيرات حتى يؤخذ بإطلاقه ، ويلتزم بترتب جميع آثار العلم عليه ، بل عمدة الأدلة هو السيرة العملية القائمة على حجية الخبر ، والقدر الثابت منه هو ترتيب آثار العلم العقلية من تنجيز وتعذير على خبر الواحد ، وليس في الأحكام العقلائية ما هو مرتب على اليقين بعنوانه كي يرى ان السيرة قائمة على معاملة خبر الواحد معاملة اليقين بالنسبة إليه أو ليست قائمة على ذلك ، ومثل ذلك النصوص التي استدل بها على حجية الخبر - بناء على دلالتها - ، فان قوله علیه السلام - في العمري وابنه - : « ما أديا عني فعني يؤديان » (1) ظاهر في إثبات التنجيز والتعذير لخبرهما كما لا يخفى. اذن فمن

ص: 153


1- وسائل الشيعة 18 / 99 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 4.

ان نجزم بان الشارع قد اعتبر الأمارة علما بلحاظ جميع آثار العلم كي نلتزم بقيامها مقام القطع الموضوعي؟!.

وبالجملة : ما أفيد في هذا الوجه مضافا إلى كونه مبنائيا لا ينفع القائل بالمبنى المزبور ، فلاحظ.

الإيراد الثاني : ان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يتجه الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وفيه : ان المقصود - كما أوضحناه - ليس جعل الملازمة بعنوانها ، بل هو جعل واقع الملازمة ، أعني البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظا موضوعا للتعبد بالبقاء ، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث ، وينتزع عن ذلك جعل الملازمة ، نظير جعل كل حكم مرتب على موضوعه فانه ينتزع عنه الملازمة بين الموضوع والحكم. فتدبر.

الإيراد الثالث : ان الملازمة المجعولة واقعية ، إذ لو كانت ظاهرية كانت مترتبة على الشك ، وكان الشك مأخوذا في موضوعها ، وهو غير موجود ، لأنه مع الشك في الحدوث يمتنع الشك في البقاء بل هو متفرع على إحراز الحدوث. نعم مع الشك في الحدوث يكون الشك في البقاء تقديريا ومعلقا على الحدوث ، بمعنى انه يشك في البقاء على تقدير الحدوث ، وإذا لم تكن الملازمة ظاهرية ، بل كانت واقعية كان مقتضى ذلك ان يكون الاستصحاب ، من الأمارات كسائر الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية.

وفيه : ان الشك له وجود فعلي ، وانما التعليق في متعلقه ، فالشك فعلا ثابت ومتعلق بالبقاء على تقدير الحدوث ، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا ظاهريا لا واقعيا.

وقد أشار المحقق الأصفهاني إلى وضوح هذا الأمر بنحو لم ير صاحب

ص: 154

الكفاية داعيا إلى بيانه (1).

وهذه الإيرادات الثلاثة على الكفاية ذكرها المحقق النائيني رحمه اللّه (2).

الإيراد الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : ان دليل الاستصحاب إذا كان يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث واقعا ، ففيما لو تيقن بالحدوث وشك بالبقاء وأجرى الاستصحاب ، ثم انكشف لديه ان يقينه كان جهلا مركبا ، لزم ان لا يكون هناك تعبد استصحابي حقيقة بل تخيلا ، وهذا مما لا يلتزم به. بخلاف ما لو كان الموضوع هو اليقين بالحدوث ، فانه حاصل في ظرفه وان تبدل بعد ذلك إلى غيره (3).

أقول : ليس في الالتزام بعدم ثبوت الاستصحاب ، الا تخيلا في الصورة المزبورة أي محذور ، ولم يظهر ان الالتزام بالاستصحاب ، فيها من المسلمات التي لا تقبل الإنكار ، فليس هذا من اللوازم الباطلة التي تقتضي بطلان ملزومها ، فتدبر.

ثم انه قدس سره خص الإشكال بصورة ثبوت المستصحب واقعا في مرحلة البقاء. ولم نعلم وجه دخله في الإشكال ، فسواء كان المستصحب موجودا واقعا أو غير موجود يرد الإشكال المذكور من كون التعبد الاستصحابي تخيلا على مبنى صاحب الكفاية ، فلاحظ.

الإيراد الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا من : ان الاستصحاب بما انه حكم طريقي مجعول بلحاظ تنجيز الواقع ، فهو يتقوم بالوصول ، إذ قوام التنجيز بالوصول ولا يعقل تحققه بدون الوصول. وعليه فمع

ص: 155


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 67 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 407 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 66 - الطبعة الأولى.

الجهل بموضوع الحكم بالبقاء وهو الحكم الاستصحابي لا يكون له ثبوت واقعي كي يقبل ان يقوم عليه المنجز بواسطة قيامه على الموضوع ، فالالتزام بان الأمارة القائمة على الحدوث تتكفل تنجيز الحكم الظاهري بالبقاء كما تتكفل تنجيز الحكم حدوثا ليس بسديد ، فان الحكم الّذي حقيقته التنجيز لا يقبل التنجيز بمنجز آخر (1).

وفيه : ان الملتزم في الأحكام الظاهرية ليس كون حقيقتها هو المنجزية بحيث تكون المنجزية متعلقة للجعل ابتداء ، بل هي أحكام وإنشاءات لوحظ فيها تنجيز الواقع والتحفظ على مصلحة الواقع من دون ان تكون هناك مصلحة في المؤدى ، فالتنجيز ملحوظ غاية لا انه مجعول ابتداء.

وعليه ، فعدم وصول الحكم الظاهري الطريقي وان امتنع معه تحقق التنجيز ، لكن لا يتنافى مع وجوده واقعا ، فان له واقعا محفوظا يكون موردا للعلم والجهل. وعليه فلا مانع من تنجيزه بالأمارة القائمة على موضوعه. فتدبر.

والمتحصل : ان ما وجّه من الإيرادات على صاحب الكفاية قابل للدفع بأجمعه ، وان ما ذكره صاحب الكفاية لا محذور فيه.

نعم ، يبقى سؤال واحد وهو : ان ما أفاده لا يساعده مقام الإثبات وان كان خاليا عن الإشكال في مقام الثبوت ، لأن ظاهر دليل الاستصحاب كون موضوع التعبد هو اليقين ، فكيف يلغى عن الموضوعية ويدعى ان نفس الحدوث هو الموضوع؟.

والجواب عن ذلك واضح على ما التزم به صاحب الكفاية ووافقناه عليه من ان اليقين هاهنا لوحظ مرآة لمتعلقه وان المراد به هو المتيقن ، نظير : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » في عدم كون الرؤية بما هي موضوعا. وقد أوضحناه فيما

ص: 156


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 67 - الطبعة الأولى.

تقدم عند الكلام في صحيحة زرارة الأولى فراجع.

وعليه ، فالوجوه الأول في حل إشكال جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات ، وهو ما أفاده في الكفاية لا إشكال فيه ثبوتا ولا إثباتا.

الوجه الثاني : ان موضوع التعبد بالبقاء ليس هو الحدوث كما هو مبنى الوجه الأول الراجع إلى إلغاء اليقين عن الموضوعية بالمرة ، بل هو اليقين لكن لا بوصف كونه يقينا ، بل بما انه منجز للواقع وحجة عليه ، فيكون موضوع التعبد هو الحجة على الواقع ، وهي حجة جامعة بين اليقين وغيره من الحجج العقلائية والشرعية ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث فقد تحقق موضوع التعبد بالبقاء تكوينا وهو الحجة على الواقع ، فلا مجال للإشكال.

وهذا الوجه ان تم فهو أقرب - إثباتا - من الوجه الأول ، لأن فيه تحفظا على موضوعية اليقين في الجملة - كما عرفت - وتماميته تتوقف على إقامة القرينة على إرادة اليقين بما هو حجة لا بما هو ، وهذا امر ليس ببعيد بناء على إرادة مطلق الحجة من اليقين الناقض كما قربناه في محله ، وسيأتي الكلام فيه في مبحث حكومة الأمارة على الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

الوجه الثالث : انه بناء على تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى ، فبقيام الأمارة يثبت حكم ظاهري ، وبما انه يحتمل كونه مطابقا للواقع. فمع انتهاء حد قيام الأمارة يحتمل بقاء الحكم فيستصحب.

وهذا الوجه غير صحيح ، وذلك لأنه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، إذ الحكم بوجوب الاحترام - مثلا - كان متيقنا في ضمن الفرد الظاهري وهو مؤدى الأمارة وهو قد زال قطعا بزوال الأمارة ، ويحتمل بقاء الكلي لاحتمال وجود الحكم الواقعي مقارنا للحكم الظاهري ، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب كلي الحكم كما قرر في محله.

إلاّ ان يقال : ان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين

ص: 157

الحكم الواقعي وليس فردا في قباله. نعم على تقدير مخالفته له يكون حكما مستقلا.

وعليه ، فمع احتمال المصادفة يتردد امر الحكم المتحقق بين الفرد المقطوع الارتفاع وهو الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء وهو الحكم الواقعي ، فيكون من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، والمحقق جريانه.

ويندفع ذلك بأنه يبتني على مقدمتين :

إحداهما : الالتزام بعدم جعل حكم ظاهري غير الحكم الواقعي على تقدير المصادفة ، بحيث يتكفل دليل الحجية إنشاء الحكم جدا على تقدير دون آخر.

والأخرى : وجود أثر عملي على الجامع بين الحكم الواقعي والظاهري ، كي يصح بلحاظه استصحاب الكلي.

وكلتا المقدمتين ممنوعتان :

اما الأولى ، فلأنه لا محصل لدعوى ان دليل الحجية يتكفل الإنشاء الجدي على تقدير والإنشاء غير الجدي على تقدير آخر.

واما الثانية : فلأنه لا أثر للحكم الظاهري بما هو من لزوم الامتثال وغير ذلك.

وعليه ، فلا يتصور أثر مترتب على الجامع بين الحكمين.

وإلى بعض ما ذكرناه أشار المحقق العراقي قدس سره (1).

والّذي يتحصل : ان المتعين في دفع الإشكال المتقدم أحد الوجهين. الأول والثاني ، واما غيرهما فليس بتام واللّه سبحانه العالم.

ص: 158


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 108 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

التنبيه الثاني : في استصحاب الكلي.

اشارة

لا يخفى انه لا يختلف الحال - بملاحظة دليل الاستصحاب بين كون المستصحب أمرا شخصيا جزئيا وكونه أمرا كليا ، لإطلاق دليله وعدم الموجب للتقييد. وهذا مما لا إشكال فيه كبرويا ، وانما الإشكال والكلام في بعض مصاديق استصحاب الكلي ولأجله عقد هذا التنبيه في مباحث الاستصحاب.

وقد ذكر للاستصحاب الكلي أقسام ثلاثة :

القسم الأول : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يشك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد الّذي تحقق في ضمنه.

القسم الثاني : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر وقصيره ثم يشك في بقاء الكلي بعد مضي مقدار عمر القصير للشك في ان الحادث هو الطويل المقطوع البقاء أو القصير المقطوع الارتفاع.

الثالث : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزوال ذلك الفرد ، ولكنه يشك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.

وقد زاد البعض قسما وقع محلا للكلام أيضا في مباحث المتأخرين وجعل في بعض الكتب قسما رابعا وهو : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزواله وبعد ذلك يرى فردا معنونا بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الّذي علمنا ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر ، فيلزم من ذلك الشك في وجود الكلي ، ومثّل له : بما إذا علمنا بالجنابة ليلية الخميس - مثلا - وارتفعت تلك الجنابة بالغسل ، ثم رأينا المني يوم الجمعة في الثوب ، فيحصل العلم بأننا جنب حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل ان يكون من الجنابة التي اغتسلنا منها ونحتمل ان يكون جنابة جديدة غيرها (1) ..

ص: 159


1- الواعظ الحسيني السيد محمد سرور. مصباح الأصول3/ 104 - الطبعة الأولى.

وقد وقع الكلام في كل قسم على حدة.

استصحاب الفرد المردد

ولكن قبل الدخول في ذلك يحسن بنا التعرض للبحث عن استصحاب الفرد المردد فيما كان الحادث مرددا بين الفرد الطويل والقصير ، فقد تعرض له البعض في هذا المقام وله آثار عملية فقهية لا تخفي على من راجع كتب الفقه.

فنقول وعلى اللّه سبحانه الاتكال : ان الجهة الفارقة بين استصحاب الفرد المردد واستصحاب الكلي في مورده - بعد الاشتراك في عدم تميز المستصحب وتعينه في ضمن أحد الفردين المعين - ، ان المقصود في استصحاب الكلي ترتيب الأثر المترتب على العنوان الجامع بين الفردين ، كالأثر المرتب على عنوان الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، مثل حرمة مس كتابة المصحف ، والمقصود في استصحاب الفرد المردد ترتيب الأثر المترتب على كل من الفردين بخصوصيته ، سواء لم يكن للكلي الجامع أثر أو كان ولكن لم يلحظ في الاستصحاب ولم يقصد ترتيبه.

وكيف كان فقد منع جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء بوجوه - وليعلم ان محل الكلام ما كان يعلم بارتفاعه على تقدير انه الفرد القصير بحيث يكون فعلا مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء. فانه مرتفع قطعا على تقدير كونه الأصغر ، وباق قطعا على تقدير كونه الأكبر - :

الوجه الأول : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من عدم تحقق اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب ، وذلك لأن العلم الإجمالي انما يتعلق بالجامع بين الفردين بلا سراية له إلى الخارج ، فهو علم بالجامع ، وشك في كل فرد ، فلا يمكن

ص: 160

إجراء الاستصحاب لفقدانه ركنه (1).

وهذا الوجه يبتني على ما التزم به من ان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع ولا يسري إلى الخارج. ولكن عرفت فيما تقدم ان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع لكنه يرتبط بالخارج ويسري إليه ، بحيث لو انفتح له باب العلم التفصيليّ لأمكنه انه يقول هذا هو معلومي بالإجمال. وبعبارة أخرى : انه يعلم بالتفصيل بوجود ما هو منطبق العنوان الجامع في الخارج ، وانما يجهل خصوصيته وما يميزه عن الفرد الآخر ، فقد يسمع كلاما من متكلم يتردد امره بين زيد وعمرو ، فهو قد تعلق علمه بشخص جزئي وهو المتكلم - إذ التكلم لا يصدر إلاّ من فرد جزئي - ، لكنه يتردد بين شخصين لدى العالم نفسه لجهله بما يميز زيد عن عمرو أو لجهله بأنه واجد لمميزات زيد أو مميزات عمرو.

وبالجملة : المعلوم بالإجمال له وجود واقعي معين ، وانما التردد لدى العالم نفسه في كونه هذا أو ذاك فلدينا علم تفصيلي بالوجود الشخصي ، لكن بنحو مجمل وهذا ما يجعله علما إجماليا. اذن فالفرد الواقعي على واقعه المردد بين فردين خاصين ، يكون متعلقا للعلم بهذا المقدار لا أكثر ، فيكون مجرى للاستصحاب بهذا المقدار.

وقد عرفت ان هذا العلم بهذا الحد علم تفصيلي لكن المعلوم محدود ، فلا أثر لدعوى ان المراد باليقين في باب الاستصحاب هو خصوص اليقين التفصيليّ فلا يشمل اليقين الإجمالي.

مع ان هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع بعد فرض شمول مفهوم اليقين لكلا فرديه التفصيليّ والإجمالي ، وفرض منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي.

والخلاصة : ان ما أفاده قدس سره لا يمكن قبوله ، وقد مر في بيان

ص: 161


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 71 - الطبعة الأولى.

حقيقة العلم الإجمالي ما له نفع في المقام.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من عدم تحقق الشك في البقاء ، فان الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء ، لأنه على أحد تقديريه متيقن الزوال فكيف يقال انه مشكوك البقاء على واقعه وكلا تقديريه (1)؟.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الوجه بما توضيحه : ان اليقين بالفرد المردد من الحدث مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي ، اما يكون منطبقا للحدث الأصغر - مثلا - أو منطبقا للحدث الأكبر ، ولديه علم بالتلازم بين بقائه وكونه حدثا أكبر ، وحيث يحتمل ان يكون حدثا أكبر ، فهو يحتمل البقاء جزما بعد الوضوء ، فكيف ينفي الشك في البقاء (2)؟.

والصحيح هو ما أفاده النائيني قدس سره ، وتوضيح ذلك : انه لا إشكال في ان الشخص بعد الوضوء يتحقق لديه شك في بقاء حدثه ، وهذا أمر بديهي لا يقبل الإنكار ، إلاّ ان هذا الشك لا يجدي في جريان الأصل وذلك لأنه يلزم ان يكون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين.

وليس الأمر هاهنا كذلك ، وذلك لأن اليقين قد تعلق بالموجود الشخصي الّذي يشار إليه على واقعه سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر ، ولا شك - بعد الوضوء بذلك الموجود الشخصي المبهم بحيث يمكن الإشارة إليه ويقال انه مشكوك ، لأنه على أحد تقديريه قد زال قطعا ، فلا شك فيه على واقعه وعلى ما هو عليه.

وبالجملة : ما كان متعلقا لليقين وهو الموجود المبهم على ما هو عليه ليس متعلقا للشك وليس هو مشكوك بهذه الصفة ، فلا أستطيع ان أشير إليه وأقول أنه مشكوك.

ص: 162


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 126 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 71 - الطبعة الأولى.

واما الشك الفعلي الّذي اعترفنا ببداهة وجوده ، فهو متعلق - بعد التحليل - بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن الأول ، فان الملازمة بين الحدوث والبقاء فيه توجب التلازم بين احتمال حدوثه واحتمال بقائه فعلا وعلى تقدير الحدوث ، لأنه على تقدير الحدوث متيقن البقاء.

ولكن هذا الشك لا ينفع في جريان الاستصحاب ، لأنه فاقد لليقين بالحدوث ، فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه. وما يشك في بقائه لا يقين بحدوثه. فتدبر.

ثم لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في تقريب نفي الشك في البقاء انما يتأتى مع العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء.

واما مع الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير كونه هو الحادث ، كما لو شك في صدور الوضوء منه في مثال الحدث المردد ، فلا يتأتى البيان المزبور إذ الشك يتعلق ببقاء الفرد المردد على واقعه ، فيصح ان يقال انه يشك في بقاء ذلك الحدث المردد على أي تقدير ، فلا بد من التفصيل بين الصورتين من هذه الجهة.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من عدم تعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي لأنه يعتبر في صحة التعبد بشيء تعلق اليقين والشك به بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي ، ولا يكفى تعلق الشك بغيره من العناوين غير ذات الأثر الشرعي ، وبما ان الأثر الشرعي في أمثال المقام انما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيليّ ، كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث ، واما العنوان العرضي الإجمالي كعنوان الفرد المردد ، فهي ليست بذات أثر شرعي لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية.

ورتب قدس سره على ذلك أمرين :

ص: 163

أحدهما : عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد لو كان الشك في البقاء ناشئا عن الشك في ارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، ولا يختص المنع بصورة العلم بارتفاع القصير لو كان هو الحادث ، لاشتراكهما فيهما ذكره في ملاك المنع ، وهو عدم الأثر الشرعي للعنوان الإجمالي.

ثانيهما ، : ان ما ذكره في وجه المنع لا يختص بالاستصحاب بل يعم سائر الأصول.

وعليه ، ففي مثل ما لو صلى عند اشتباه القبلة إلى أربع جهات ، وعلم بعد الفراغ منها بفساد صلاة معينة منها ، فلا يجوز الاكتفاء بالصلوات الباقية في إفراغ الذّمّة ، بل تجب إعادة تلك الصلاة ، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها ، ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها.

واما لو علم بفساد واحدة مرددة منها ، فانه يمكن إجراء قاعدة الشك بعد الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك - في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة - فتجري القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير. ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع ، لاحتمال كون الفاسدة هي المأتي بها إلى غير القبلة فلا علم بالمخالفة العملية (1).

وهذا الوجه قابل للرد والمنع ، فان ما ذكره من لزوم تعلق اليقين والشك بالشيء بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي. مجرد دعوى لا نعرف لها وجها أصلا وهو لم يذكره إلاّ بنحو الدعوى. وذلك لأن مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب وغيره من الأصول هو شموله لمطلق موارد عدم العلم ، إلاّ انه حيث انه يتكفل التعبد بالمشكوك ، والتعبد الشرعي لا يمكن ان يتعلق إلاّ بحكم شرعي أو موضوع ذي حكم قيد بواسطة هذه القرينة الخارجية العقلية بلزوم

ص: 164


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 114 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كون المشكوك حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. ولا دليل على التقيد بما ذكره.

وعليه ، ففي مورد تعلق اليقين والشك بالفرد المردد إذا كان المورد مما يصح التعبد به من قبل الشارع بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى المكلف ، لم يكن مانع من شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد ولا مقيد له من الخارج ، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الإجمالي المشير إليه. كما لو فرض اليقين بالحكم المردد بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة والشك في بقائه ، فانه لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه ، ويترتب عليه أثره العقلي من لزوم تفريغ الذّمّة كما في صورة اليقين الإجمالي به.

وعليه ، ففي مثال الصلاة الّذي ذكره لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواقعية إلى القبلة للشك في انها فاسدة من ناحية ترك الركوع أو لا ، ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ.

هذا مضافا إلى ان المطلوب في باب متعلقات الأحكام هو وجود الطبيعي بما هو بلا ملاحظة خصوصيات الافراد بالمرة ، وليس الحال فيه كالحال في موضوعات الأحكام الملحوظة بنحو الانحلال وترتب الحكم على كل فرد بما هو فرد ، فالأثر في متعلقات الأحكام لا يترتب إلا على وجود الطبيعي المأخوذ في متعلق الحكم ، وهو فيما نحن فيه متعلق اليقين والشك وان لم يعلم بالخصوصية الفردية ، فلا مانع من جريان الأصل فيه مع الشك في صحته ، فلو فرض - تنزلا - تمامية ما أفاده كبرويا فانطباقه على مثال الصلاة ونحوه غير واضح.

والمحصل : ان العمدة في المنع عن استصحاب الفرد المردد هو عدم ثبوت الشك في بقائه. وقد عرفت ان مقتضاه التفصيل بين صورتي الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير حدوثه ، واليقين بارتفاعه على تقدير حدوثه ، فلا يجري الأصل في الصورة الثانية ، ويجري في الصورة الأولى ، ويترتب عليه أثره العقلي

ص: 165

والشرعي.

هذا تمام الكلام في استصحاب الفرد المردد.

ويقع الكلام بعد ذلك في استصحاب الكلي وقد عرفت انه على أقسام أربعة :

اما القسم الأول : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم شك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد ، مثل ما إذا علم بوجود الإنسان في الدار لعلمه بوجود زيد فيها ، ثم شك في بقاء زيد في الدار ، فيلزم منه الشك في بقاء الإنسان الكلي.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الكلي لو كان موردا للأثر العملي ، كما لا إشكال في جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الفرد.

نعم ، هنا بحث أشار إليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (1) وحققه المحقق الأصفهاني (2).

وهو : انه هل يغني استصحاب الفرد في إثبات أثر الكلي ، أو استصحاب الكلي في إثبات أثر الفرد؟. وهذا البحث لا أثر له عملي فيما نحن فيه لإمكان إجراء الاستصحاب في كل من الفرد والكلي فيترتب عليه الأثر المرغوب. نعم لهذا البحث أثر فيما يأتي في القسم الثاني الّذي لا يمكن إجراء استصحاب الفرد فيه ، فيقال : ان استصحاب الكلي يغني في ترتيب أثر الفرد. ولأجل ذلك لا نوقع البحث فيه فعلا ونوكله إلى محله.

واما القسم الثاني : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل البقاء وقصير البقاء ، فيشك في بقاء الكلي بعد مضي زمان الفرد القصير على تقدير حدوثه للشك في ما هو الحادث ، كما لو علم بخروج سائل مردد بين

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /202- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 69 - الطبعة الأولى.

البول والمني ، فقد علم بحصول كلي الحدث لحصول فرده المردد بين الأصغر والأكبر ، فإذا توضأ يتحقق لديه الشك في بقاء كلي الحدث ، لاحتمال كون الحادث هو الأكبر الّذي لا يزول بالوضوء.

وقد التزم جمع من الاعلام - كالشيخ (1) والخراسانيّ (2) وغيرهما (3) - بجريان الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث ، والشك في البقاء ، فيكون مشمولا لإطلاق دليل الاستصحاب ، ويترتب على جريان الأصل في الكلي الآثار المترتبة على وجوده ، كحرمة مسّ المصحف الشريف في مثال الحدث لترتبها على عنوان المحدث.

وقد يورد على إجراء الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك بإيرادات :

الإيراد الأول : ما ذكره في الكفاية من ان الكلي موجود في ضمن فرده المردد ، وهو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع بالوجدان ، وعلى التقدير الآخر مقطوع العدم بالتعبد فلا شك. بيان ذلك انه لو كان الفرد المتحقق في ضمنه الكلي هو الفرد القصير فقد ارتفع قطعا ، ولو كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث والأصل عدم حدوثه فيثبت عدمه بالتعبد. اذن فالشك منتف بضميمة الوجدان إلى الأصل والتعبد.

وهذا الإيراد - بهذا البيان - واضح الدفع - كما في الكفاية - وذلك بداهة ان الشك في بقاء الكلي موجود بلا ريب ، ومنشؤه احتمال كون الحادث هو الفرد الطويل ، ونفي حدوثه تعبدا لا يرفع الشك وجدانا في بقاء الكلي بل ولا تعبدا -

ص: 167


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /371- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الواعظ الحسيني محمّد سرور : مصباح الأصول 3 / 105 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمّد علي. فوائد الأصول 4 / 413 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. البروجردي الشيخ محمّد تقي. نهاية الأفكار 4 / 122 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كما يتضح في رد الإيراد الثاني - فلا اختلال في ركني الاستصحاب (1).

الإيراد الثاني : ما ذكره الشيخ (2) رحمه اللّه وصاحب الكفاية من : ان استصحاب الكلي وان كان في حد نفسه جاريا ، لكنّه مبتلى بالحاكم عليه ، وذلك لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

وقد دفعه في الكفاية بوجوه :

الأول : ان الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ، بل هو مسبب عن الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل ليترتب عليه البقاء أو الفرد القصير ليترتب عليه الارتفاع ، فان الارتفاع في الكلّي من آثار ارتفاع الفرد القصير لا من آثار عدم حدوث الفرد الطّويل. ومن الواضح انه لا أصل يعين كيفية الحادث لعدم الحالة السابقة ، وأصالة عدم حدوثه الفرد الطويل لا تعين ان الحادث هو القصير إلاّ بالملازمة.

الوجه الثاني : ان بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل لا من لوازمه ، لأن وجود الكلي بعين وجود افراده وليس له وجود منحاز عن وجود افراده.

الوجه الثالث : انه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد الطويل ، فلا ينفع في الحكومة المدعاة ، إذ الحكومة تتوقف على ان يكون اللزوم والسببية شرعية ناشئة من جعل الشارع أحد الأمرين أثرا للآخر وحكما له. ومن الواضح ان الملازمة بين بقاء الكلي وحدوث الفرد لو سلمت فهي عقلية لا شرعية ، فلا تصحح دعوى الحكومة (3).

ص: 168


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /371- الطبعة الأولى.

وقد زاد المحقق النائيني وجها رابعا وهو : ان الأصل السببي المفروض في المقام مبتلى بالمعارض. وذلك لمعارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير ، ومع التعارض يكون الأصل المسببي جاريا لعدم نهوض ما يصلح للحكومة عليه (1).

أقول : اما الوجه الأول الّذي أفاده في الكفاية ، ويظهر أيضا من عبارة الشيخ رحمه اللّه فقد يورد عليه : بأنه يبتني على ملاحظة البقاء والارتفاع طرفي شك واحد ، فالشك في البقاء أو الارتفاع - فان الشك ذو طرفين - ، فيقال انه ناش من الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل أو القصير ، ولكن هذا بلا ملزم ، إذ المأخوذ في الاستصحاب هو الشك في البقاء وعدمه ، فيكون الطرف الآخر هو عدم البقاء لا الارتفاع. ومن الواضح ان البقاء وعدمه يترتبان على حدوث الفرد الطويل وعدمه ، فأصالة عدم الفرد الطويل تثبت أحد طرفي. الشك وهو عدم البقاء فيلغى تعبدا.

وبالجملة : لدينا شكان تعلق أحدهما بالبقاء وعدمه ، الآخر بالارتفاع وعدمه ، وموضوع الأصل في الكلي هو الأول ، وهو محكوم لأصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

وهذا الإيراد لا بأس به ، لكن للمنع عنه مجال وذلك ، لأن دليل الاستصحاب لم يتكفل التعبد بالبقاء بعنوانه ، وانما التعبير بذلك ورد في كلمات الأصحاب وامّا دليل الاستصحاب فهو يتكفل التعبد بالبقاء بعنوان عدم النقض ، وهو عدم رفع اليد. ومن الواضح ظهور ذلك في أخذ الشك في الارتفاع في موضوع التعبد ، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك وإثبات الطرف الآخر ، فموضوع الاستصحاب أخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم

ص: 169


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 418 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البقاء فلاحظ وتدبر.

واما الوجه الثاني المذكور في الكفاية ، فقد أورد عليه : بأنه من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب ، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت مانعة عن استصحاب الكلي بناء على السببية ، فهي مانعة بطريق أولى على القول بالعينية ، فالإشكال على هذا القول آكد منه على القول بالسببية.

ولكن الّذي يبدو لنا عدم ورود هذا الإيراد عليه ، وانه ناش عن الغفلة عن خصوصية في كلامه ، وذلك لأنه قدس سره لم يدع وحدة بقاء الكلي مع حدوث الفرد الطويل والعينية بينهما ، بل ذهب إلى وحدة بقاء الكلي وبقاء فرده. ومن الواضح ان بقاء الفرد ليس من آثار الحدوث ومسبباته ، بل كل منهما تؤثر فيه علته ، وليس الحدوث علة للبقاء بلا ريب ، فأصالة عدم الحدوث لا تكون بالنسبة إلى أصالة بقاء الكلي من قبيل الأصل السببي.

واما الوجه الثالث : فهو مما لا شبهة فيه ولم يتردد فيه أحد ، وسيأتي في مباحث الأصل المثبت وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ما له نفع في المقام.

واما الوجه الرابع الّذي أفاده المحقق النائيني قدس سره ، فقد أورد عليه : بان العلم الإجمالي بتحقق الفرد المردد بين القصير والطويل تارة يتحقق وكلا الفردين داخلان في محل الابتلاء. وأخرى يتحقق وأحدهما وهو الفرد القصير خارج عن محل الابتلاء.

ففي الأول يتعارض الأصلان لمنافاتهما للعلم الإجمالي ، إلاّ انه في مثل ذلك لا حاجة لاستصحاب الكلي لتنجّز الآثار الشرعية بواسطة العلم الإجمالي بلا حاجة إلى الاستصحاب.

وفي الثاني لا أثر للعلم الإجمالي لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء ، ويجري الأصل في الفرد الطويل بلا معارض لخروج الطرف الآخر عن محل

ص: 170

الابتلاء ، فيعود حديث السببية والحكومة.

فخلاصة الإشكال : انه في المورد الّذي يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي لا معارضة بين الأصول الموضوعية. وفي المورد التي تتحقق فيه المعارضة لا يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي ، فتدبر.

والمتحصل : ان الإيراد الثاني على استصحاب الكلي غير تام.

الإيراد الثالث : ان وجود الكلي في ضمن افراده ليس وجودا واحدا ، بل وجودات متعددة بتعدد الافراد ، فكل فرد توجد في ضمنه حصة من الكلي غير الحصة الموجودة بالفرد الآخر.

وعلى هذا الأساس أنكر استصحاب الكلي القسم الثالث على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، وملخصه : ان المتيقن من وجود الكلي لا مفهومه وعنوانه ، إذ لا أثر بالنسبة إليه. ومن الواضح ان المتيقن من وجود الكلي مردد بين الطويل والقصير ، فيتأتى ما تقدم من الإشكال في استصحاب الفرد المردد ، من عدم الشك في بقاء ما هو المتيقن ، إذ المتيقن المردد غير متعلق للشك على كل تقدير ، إذ هو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع ، فلا يمكن ان يشار إلى الكلي الموجود سابقا ويقال انه مشكوك فعلا ، على ما تقدم بيانه ، بل الإشكال من ناحية عدم اليقين بالحدوث - لو سلم متأت هاهنا أيضا ، لأن وجود الكلي معلوم إجمالا ، فالعلم يتعلق بالجامع بين الوجودين فلاحظ.

نعم ، لو كان الإشكال في استصحاب الفرد المردد ما أفاده العراقي رحمه اللّه ، فلا مانع عن إجراء الاستصحاب هاهنا لتعلق اليقين والشك بما هو موضوع الأثر وهو الكلي ، فراجع تعرف (1).

ص: 171


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 124 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : الإشكال المختار في الفرد المردد متأت هاهنا حرفا بحرف.

ويتفرع على هذا إشكال آخر وهو : ان التمسك بعموم دليل الاستصحاب في استصحاب الكلي يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه ، وذلك لأنه مع احتمال كون الكلي موجودا في ضمن الفرد القصير المتيقن الارتفاع ، لم يحرز ان نقض اليقين السابق انما هو بالشك ، بل يحتمل انه باليقين.

وقد رده المحقق العراقي : بان اليقين بارتفاع الفرد القصير انما يقتضي اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا الطبيعي المحفوظ في الفردين وهو الجهة المشتركة بينهما ، الّذي كان متعلقا لليقين ، فلا يحتمل انتقاض اليقين المتعلق بالجهة المشتركة باليقين بانعدام أحد الفردين (1).

وهذا الرد لا مجال له بعد ان عرفت تقريب الإشكال وان مبناه على تعلق اليقين بوجود الطبيعي المردد بين الوجودين وقد علم انتقاض أحدهما ، فهو لا يعلم ان رفع اليد عن اليقين السابق المتعلق بأحد الوجودين وإحدى الحصتين نقض له بالشك ، لاحتماله كونه الحصة هي الموجودة في ضمن الفرد القصير المتيقن ارتفاعه. وليس المستصحب مفهوم الكلي وعنوانه الجامع كي يقال انه لا يختل بزوال أحد فرديه ، فتدبر.

والّذي يتحصل : انه لا مجال للالتزام باستصحاب الكلي في هذا القسم ، ولو التزمنا بجريانه لكان اللاّزم القول بجريان استصحاب الفرد المردد ، فان الإشكال فيهما واحد فلاحظ.

ص: 172


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 125 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
استصحاب الكلي في الأحكام

ثم انه لو التزم بجريان استصحاب الكلي ، فقد يقال : بلزوم التفصيل بين الأحكام والموضوعات ، فيجري في الموضوعات دون الأحكام ، وذلك لأن الاستصحاب في الأحكام الشرعية يقتضي تعلق الجعل بها بأنفسها. ومن الواضح ان الكلي لا يمكن ان يتحقق من دون ان يكون متخصصا بالفصل الخاصّ ، فلا يمكن جعل الكلي بما هو كلي ، فيمتنع تعلق الجعل بكلي الحكم بما هو كلي. وجعل الكلي متخصصا بخصوصية خاصة لا يتكفله دليل الاستصحاب.

وعليه ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب عند دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب.

واما في الموضوعات ، فبما انها لا تقبل الجعل الشرعي ، بل المجعول هو الأثر المترتب عليها ، فلا محذور في إجراء الاستصحاب في الموضوع الكلي إذا كان موردا للأثر الشرعي الخاصّ ، ويكون التعبد في الحقيقة بأثره لا بنفسه ، فلا يرد الإشكال الوارد في استصحاب كلي الحكم.

ولا يخفى ان هذا البيان لا يختص بهذا القسم من استصحاب الكلي.

ثم انه يصلح إيراد على صاحب الكفاية ، لأن عنوان كلامه هو استصحاب الكلي في الأحكام ، وعطف عليه في آخر كلامه استصحابه في الموضوعات. وقد أجيب عنه في كلمات بعض المحققين (1) ، وملخصه : ان المنشأ في الوجوب والاستحباب واحد وهو الطلب والبعث بداعي جعل الداعي ، وليست خصوصية الندب أو الوجوب مقومة للمنشإ والمجعول ، وانما هي تنتزع عن مبدإ الحكم المجعول ، فإذا كانت المصلحة لزومية ثبت الوجوب وإذا كانت المصلحة

ص: 173


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 79 - الطبعة الأولى.

غير لزومية ثبت الندب ، فالفرق بينهما في المبدأ.

ولا يخفى ان هذه الجهة المميزة انما هي بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأنها هي التي تنشأ عن المصالح في المتعلقات ، واما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فهو لا ينشأ عن مصلحة واقعية بل عن مصلحة في نفسه.

وعليه ، فلا مانع من إنشاء الطلب ظاهرا بلا ان يثبت له عنوان الوجوب والاستحباب ، فالجامع بين الوجوب والاستحباب قابل للجعل ظاهرا ، لما عرفت من ان خصوصية الوجوب والاستحباب لا ترتبط بالمنشإ بل في مرحلة المبدأ ، والمنشأ فيهما واحد. فتدبر.

هذا تمام الكلام في هذا القسم من استصحاب الكلي.

الشبهة العبائية

ويبقى هنا بحث قد آثاره المرحوم المحقق السيد إسماعيل الصدر رحمه اللّه عرف على الألسنة وفي العبارات ب- : « الشبهة العبائية ».

وملخص هذه الشبهة - بعد الالتزام بعدم انفعال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة للنجاسة - : انه لو فرض انه قد تنجس جانب من عباءة لا يعرف بعينه بل كان مرددا بين الأعلى والأسفل ، ثم طهر الأعلى - مثلا - فلاقى جسم الإنسان الجانب الآخر وهو الأسفل ، فانه لا يحكم بنجاسة الجسم لعدم العلم بنجاسة الجانب الأسفل ، والمفروض ان ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة لا تستلزم الانفعال. واما لو لاقى الجسم تمام العباءة بجانبيها ، فان مقتضى استصحاب بقاء النجاسة في العباءة هو الحكم بنجاسة الجسم ، ومثل هذا الحكم غريب ، إذ بعد عدم الحكم بالنجاسة عند ملاقاته للجانب غير المطهر ، فكيف يحكم بنجاسته إذا انضم إليها ملاقاة الجانب المطهر؟ لوضوح عدم تأثير ملاقاة الطاهر في الانفعال ضرورة. وبعبارة أخرى : يلزم الحكم بنجاسة ملاقي

ص: 174

مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة.

والمحصل : ان استصحاب الكلي هاهنا يستلزم حكما غريبا لا يمكن البناء عليه.

وقد تصدى الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) إلى دفع هذه الشبهة.

وقد ورد في كلمات المحقق النائيني وجهان :

الوجه الأول : ما جاء في أجود التقريرات من عدم جريان استصحاب النجاسة في المثال لإثبات نجاسة الملاقي ، لعدم ترتب أثر شرعي عليها ، وذلك لأن نجاسة الملاقي تترتب على امرين :

أحدهما : إحراز الملاقاة. والآخر : إحراز نجاسة الملاقي - بالفتح - ومن المعلوم ان استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الّذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي (1).

الوجه الثاني : ما جاء في تقريرات الكاظمي من ان محل الكلام في استصحاب الكلي ما إذا كان المتيقن السابق بحقيقته وهويته مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، واما إذا كان الإجمال في محل المتيقن وموضوعه فلا يكون استصحابه من استصحاب الكلي ، بل يكون كاستصحاب الفرد المردد ، كما لو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ، ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان بانهدامه لاحتمال ان يكون في الجانب المنهدم ، وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل ان يكون الضائع هو درهم زيد ، فانه لا يجري الاستصحاب في المثالين ، لأن المتيقن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وانما الترديد في محله وموضوعه ، فهو أشبه

ص: 175


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 395 - الطبعة الأولى.

باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى ، فان التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها ، فتدبر (1).

أقول : تحقيق الكلام في حال هذه الشبهة - لو سلمت انها شبهة مستلزمة لمحذور فقهي ، فان للتأمل في ذلك مجالا واسعا - ان اسناد النجاسة إلى العباءة اسناد مسامحي ، فان تمام العباءة ليس متنجسا وانما أحد طرفيها ، فالفرد المتنجس مردد بين فردين.

وعليه ، فيرد على جريان الاستصحاب في النجاسة في المثال وجهان :

الأول : انه من استصحاب الفرد المردد ، وذلك لأن الأثر الشرعي في باب الانفعال المأخوذ في موضوعه النجس مترتب على النجس بنحو العموم الاستغراقي ، فالموضوع هو كل فرد من افراد النجس ، وليس هو مترتبا على كلي النجس ، فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي للمتنجس المردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس لإثبات الانفعال. وقد عرفت ان استصحاب الفرد المردد لا مجال له.

ولعل ما ذكرناه هو مراد المحقق النائيني رحمه اللّه في وجهه الثاني وان لم يكن صريحا فيه فتدبر.

واما ما ذكره من مثال الدرهم الضائع ، فلم يتضح لنا وجهه ، إذ أي أثر لجريان الاستصحاب في مورد الضياع حتى يبحث فيه ، إذ هو لا يخرج عن الملكية بالضياع كما لا تجوز المطالبة به لعدم القدرة على تسليمه بعد اشتباهه بغيره واحتمال ضياعه. نعم لو مثل له بالتلف كان استصحاب بقائه وعدم تلفه مؤثرا في بقاء الملكية لزوال الملكية بالتلف. فتدبر والأمر سهل.

الوجه الثاني : انه لو سلم جريان الأصل في الفرد المردد في نفسه أو

ص: 176


1- الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 / 422 - طبعة - مؤسسة النشر الإسلامي.

جريانه في كلي النجس الموجود ، فلا ينفع في ترتب الانفعال ، إذ الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ، فموضوع التنجيس هو كون الملاقى نجس ، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس - بنحو الكلي أو الفرد المردد - إلا بالملازمة ، فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لا ثبات كرية الماء الموجود فيه ، فاستصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقى إلا على القول بالأصل المثبت.

وما ذكره المحقق النائيني في الوجه الأول يمكن ان يكون المقصود به ذلك ، ويمكن ان يكون المقصود به ان موضوع الانفعال هو ملاقاة النجس بحيث تتحقق إضافة الملاقاة إلى النجس ، وهذا المعنى لا يثبت باستصحاب بقاء النجس ، وهو الإشكال الوارد في جميع موارد الموضوعات المأخوذة في متعلق فعل المكلف المحكوم بالحكم الشرعي ، كالخمر في حرمة شرب الخمر ، فان استصحاب خمرية شيء لا يثبت ان شربه شرب خمر إلاّ بالأصل المثبت وهكذا. وقد أجيب عنه بجواب جامع محصله دعوى أخذ خصوصية الموضوع بنحو التركيب لا التقييد ، فلا يكون الأصل مثبتا لترتب الأثر على الاستصحاب بضميمته إلى الوجدان.

فما أفاده قدس سره يتجه لو كان المراد به ما ذكرناه من ان الاستصحاب لا ينفع في إثبات موضوع الانفعال ، لا انه لا ينفع في تحقق الإضافة إلى النجس المأخوذة في الانفعال.

كما انه يمكن ان يراد بما جاء في تقريرات العراقي (1) في مقام دفع الشبهة ما ذكرناه ، ولذا صح التفصيل بين استصحاب وجود النجاسة لأجل عدم جواز الدخول في الصلاة فيجري ، وبين استصحابه لأجل نجاسة الملاقي فلا

ص: 177


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 131 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يجري ، لأن عدم جواز الدخول في الصلاة مترتب على وجود النجس بمفاد كان التامة.

ولو كان مراده ما يظهر من صدر عبارته - من ان النجاسة من العوارض الطارئة على الموجودات الخارجية لا على الطبائع الصرفة. فهي لا تقبل العروض إلا على الموجود الخارجي المعين دون القدر الجامع فاستصحاب نجاسة القطعة الشخصية المرددة ، من استصحاب الفرد المردد - لأشكل الأمر في استصحاب وجود النجاسة لأجل المنع عن الدخول في الصلاة ، وذلك لأن المستصحب ان كان هو النجاسة العارضة على الطبيعي فهو مما يمنع منه. وان كان هو النجاسة العارضة على الفرد ، فالمفروض انه فرد مردد ، فيكون استصحابها من استصحاب الفرد المردد فلاحظ.

فالعمدة هو ما بيناه من كون الاستصحاب مثبتا.

هذا ولكن يمكن تقريب الاستصحاب بنحو لا يكون مثبتا ، بان يقال :

إنا نعلم بملاقاة البدن لجميع اجزاء العباءة ، فنحن نعلم بأنه لاقى ذلك الطرف الّذي كان نجسا ، لكن نشك انه نجس حين الملاقاة أو لا ، فنستصحب بقاء نجاسته ، فتثبت - بالاستصحاب - ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ويترتب الانفعال حينئذ.

نعم يبقى الإشكال كونه من استصحاب الفرد المردد ، لتردد المتصف بالنجاسة بين تقديرين يقطع على أحدهما بزوال المستصحب وهو النجاسة ، فلا شك بما هو المتيقن على كل تقدير.

فالمتحصل : ان اندفاع الشبهة العبائية ينحصر بكون استصحاب النجاسة من استصحاب الفرد المردد. وهو لا يجري على ما تقدم بيانه. اذن فما أفاده السيد الصدر رحمه اللّه لا يصلح إشكالا في جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي. فتدبر.

ص: 178

واما القسم الثالث : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم علم بزوال ذلك الفرد وشك في بقاء الكلي لاحتمال حدوث فرد آخر مقارن لزوال ذلك الفرد نظير ما لو علم بوجود الإنسان في الدار لوجود زيد فيها ، ثم علم بخروج زيد من الدار واحتمل دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد.

وهذا لا يمكن ان يكون مجرى الاستصحاب ، لأن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه والمشكوك هو وجود آخر غير الوجود الأول لأن وجود الكلي يتعدد بتعدد افراده فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن ، بل في الحدوث ، ومثله غير مجري للاستصحاب. وهذا مما لا إشكال فيه.

نعم استثنى من ذلك ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه يعد من مراتب الفرد المعلوم الزوال ، كما إذا كان الكلي من المقولات التشكيكية كالألوان القابلة للشدة والضعف ، فمثلا لو علم بثبوت كلي السواد في ثوب. لاتصافه بمرتبة شديدة منه ، ثم علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشك في تبدلها إلى مرتبة ضعيفة منه ، أو زوالها بالمرة وحدوث لون آخر ، أمكن إجراء الاستصحاب في كلي السواد.

والسر في ذلك : ان المرتبة الضعيفة التي يتبدل إليها الفرد المتيقن ليست فردا مغايرا للأول بنظر العرف - بل بالدقة على ما قيل - ، فيكون ثبوتها بقاء للكلي ، فالشك فيها شك في البقاء والارتفاع فيكون من موارد الاستصحاب وهذا الاستثناء مما نبه عليه الشيخ رحمه اللّه (1).

ويظهر من الكفاية موافقته عليه كبرويا ، وان أوقع الكلام فيه صغرويا ، فقد تحدث عن ان الوجوب والاستصحاب كذلك أو لا؟ وذهب إلى الثاني ببيان : ان الاستحباب وان كان مرتبة ضعيفة من الطلب واختلافه مع الوجوب من جهة شدة الطلب وضعفه ، إلا أنه عرفا يعد فردا للحكم مغايرا للوجوب بنظر العرف ،

ص: 179


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول372- الطبعة الأولى.

فمع العلم بزوال الوجوب والشك في تبدله إلى الاستحباب لا يمكن إجراء الاستصحاب في كلي الطلب ، لأن المدار في باب الاستصحاب على النّظر العرفي لا الدّقي (1).

وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما ملخصه : ان التغاير بين الوجوب والاستحباب ليس بالشدة والضعف كما قيل ، فان الوجوب والاستحباب من الأمور الاعتبارية التي توجد بإنشاء مفاهيمها وتتحقق بالاعتبار. ومن الواضح ان الاعتبار لا يقبل الشدة والضعف.

نعم ، يتفاوت الوجوب والاستحباب في الشدة والضعف بلحاظ مبدئهما وهو الإرادة ، فانها قابلة للشدة والضعف ، لكن مجرى الاستصحاب ليس هو الإرادة بل هو الحكم الشرعي وهو كلي الطلب ، وقد عرفت انه لا يقبل الشدة والضعف لأنه من الأمور الاعتبارية ، فالوجوب والاستحباب كما هما متغايران عرفا كذلك هما متغايران دقة وعقلا ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب مع العلم بزوال الوجوب والشك في حدوث الاستحباب أو غيره من الأحكام. فتدبر جيدا (2).

واما القسم الرابع : فهو ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على واحد ، فزال أحدهما قهرا وشك في بقاء الكلي للشك في ان العنوان الآخر نفس العنوان الزائل وجودا أو لا. كما إذا علم بوجود القرشي في الدار وعلم أيضا بوجود العالم ، وشك في ان العالم عين القرشي أو غيره ، ثم علم بزوال العالم ، فانه يشك في بقاء القرشي في الدار لاحتمال انه نفس العالم فيكون قد خرج أو غيره فهو باق بعد.

ويمثل له بما إذا كان متطهرا ثم توضأ وأحدث وشك في أن وضوءه بعد

ص: 180


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /407- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 78 - الطبعة الأولى.

الحدث أو قبله - من باب الوضوء التجديدي - ، فهو فعلا يشك في بقاء الطهارة الموجودة حال الوضوء الآخر.

كما ان من أمثلته ما إذا كان جنبا فاغتسل ثم رأى منيا في ثوبه وشك في انه من الجنابة التي اغتسل منها أو هي جنابة جديدة ، فهو يعلم بالجنابة حال خروج المني ، ويشك في بقائها فعلا.

ففي جميع هذه الأمثلة يشك في بقاء الكلي. وقد وقع الكلام في استصحابه.

فذهب البعض إلى جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء فيستصحب بقاء القرشي في الدار لليقين بحدوثه والشك في بقائه. كما يستصحب بقاء الطهارة الموجود حال الوضوء الآخر لليقين بها والشك في بقائها. وهكذا يستصحب بقاء الجنابة المتيقنة عند خروج المني المرئي في الثوب (1).

وقد ذهب الفقيه الهمداني رحمه اللّه - في كتاب الطهارة - إلى التفصيل بين العلم بوجود فردين وشك في تعاقبهما كمثال الحدث ، وبين ما إذا لم يعلم الا بوجود فرد واحد وشك في فرد آخر الاحتمال انطباق العنوانين على فرد واحد ، كمثال الجنابة وأمثال العالم والقرشي. فالتزم بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني (2).

وردّ : بأنه لا فرق بين الصورتين في جريان الاستصحاب لتمامية أركانه في كلتا الصورتين لليقين السابق بوجود الكلي والشك في بقائه في كلتيهما. وما ذكر في الفرق فليس بفارق. هذا ما جاء في كلمات بعض الاعلام (3) نقلناه باختصار.

ص: 181


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 118 - الطبعة الأولى.
2- الفقيه الهمداني. مصباح الفقيه كتاب الطهارة /205- الطبعة الأولى.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 120 - الطبعة الأولى.

التنبيه الثالث : في استصحاب الأمور التدريجية.

لا يخفى ان الموجودات على نحوين : الموجودات القارة ، وهي التي تتحقق بجميع اجزائها في آن واحد مثل زيد وعمرو ، والموجودات التدريجية ، وهي التي لا يكون لأجزائها تحقق دفعي وفي آن واحد ، بل يكون وجودها تدريجيا بحيث يوجد كل جزء في ظرف انعدام ما قبله كالمشي والكلام ونحوهما.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة لتحقق أركانه. وانما وقع البحث في جريانه في الأمور التدريجية ، لأجل الإشكال في تحقق أركانه ، وذلك لأنه بعد ان كان وجود الأمر التدريجي بنحو التدرج بحيث يوجد كل جزء منه ويتصرم ثم يوجد جزء آخر منه وهكذا لم يتحقق الشك في البقاء بالنسبة إليه ، لأن ما تعلق به اليقين وهو الجزء السابق مما انعدم وتصرم قطعا ، والجزء اللاحق مشكوك الحدوث ، لأن الجزء في كل آن وظرف غير الجزء في ظرف آخر ، ومثل ذلك لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وقد تصدى الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) لدفع هذا الإشكال وإثبات صحة جريان الاستصحاب في التدريجيات ، ولا بد من إيقاع البحث في مقامين :

المقام الأول : في جريان الاستصحاب في الزمان كالليل والنهار والشهر ونحوها.

والمقام الثاني : في جريان في سائر الأمور التدريجية الواقعة في الزمان كالمشي والتكلم ونحوهما.

اما استصحاب الزمان : فالإشكال فيه من أربعة جهات :

الأولى : ما تقدم من الإشكال في الأمور التدريجية بقول مطلق ، فان الزمان منها ، فيتأتى فيه الإشكال.

وقد أجيب عنه بما محصله : ان المدار في باب الاستصحاب على صدق

ص: 182

النقض بالشك عرفا ، وهذا يثبت مع الوحدة العرفية للموجود في مرحلة حدوثه وبقائه ، والأمر التدريجي - كالزمان - وان كانت أجزاؤه متدرجة في الوجود بحيث تنصرم وتنعدم ، إلا ان تخلل هذا العدم بين الاجزاء لا يوجب الإخلال بالوحدة عرفا - بل قيل دقة - ، فالزمان واحد مستمر لا أنه وجودات متعددة ، فالنهار موجود واحد مستمر يتحقق بحصول أول أجزائه وينتهي بانتهائها ويصدق على الآنات الحاصلة بين المبدأ والمنتهى ، فمع الشك في الاستمرار يجري الاستصحاب ، لأن رفع اليد عنه في ظرف الشك يعد نقضا لليقين بالشك.

الجهة الثانية : ان موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء ، كما ان الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان ، والبقاء عبارة عن الوجود في الآن الثاني ، وهذا المعنى لا يتصور في نفس الزمان ، فلا يتصور البقاء في الزمان لأنه لا يوجد في زمان آخر.

ويندفع هذا الإشكال :

أولا : بان الوجود في الآن الثاني لم يؤخذ في مفهوم البقاء وانما هو لازم له في ما يقبل الوجود في الزمان كالزمانيات ، اما مثل الزمان مما لا يوجد في الزمان ، فلا يكون بقاؤه ملازما لذلك ، كيف! ويصدق البقاء على المجردات كالذات المقدسة ، فليس مفهوم البقاء الا مساوقا للاستمرار والدوام في الوجود.

وثانيا : انه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب التعبد بالبقاء ، بل هو وارد في كلمات الفقهاء والأصوليين ، وانما الوارد في الأدلة هو عدم نقض اليقين بالشك ، وليس موضوعه الا الشك في وجوده المتأخر بعد اليقين بوجوده السابق ، وهو موجود. فلاحظ.

الجهة الثالثة : ان الشك في الأمر التدريجي ..

تارة ينشأ من الشك في حصول ما يمنع من استمراره مع إحراز قابليته للاستمرار في نفسه.

ص: 183

وأخرى : ينشأ من الشك في حصول غايته ومنتهاه ، كما لو علم ان الشخص يتكلم ساعتين وشك في بقاء تكلمه للشك في انتهاء الساعتين.

والشك في الزمان من قبيل الثاني ، إذ لا احتمال لوجود ما يقطع النهار قبل حصول غايته ، وانما الشك في بقائه ينشأ من الشك في حصول غايته وانتهاء أمده وعدمه.

وعليه ، فينشأ من هذا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان. وتقريبه : ان متعلق الشك بعد اليقين ان كان هو بقاء النهار - مثلا - ، بمعنى وجوده في الآن اللاحق ، فهذا ما عرفت انه غير متصور بالنسبة إلى الزمان وان كان هو الوجود اللاحق للنهار ، بحيث يؤخذ وصف اللحوق قيدا لمتعلق الشك ، فليس الوجود اللاحق مسبوقا بالحالة السابقة بل هو مشكوك الحدوث. واما ذات وجود النهار فهذا مما لا شك فيه.

وببيان آخر نقول : ان متعلق الشك ليس بقاء النهار والآن الواقع بين الحدين ، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهارا أو ليس بنهار ، وذلك لأنه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجودا واحدا فيستحيل تعلق اليقين والشك فيه ، الا بتغاير الزمانين ، والمفروض انه غير متصور في الزمان ، فالشك الموجود فعلا ليس إلا في كون هذا الآن نهارا أو لا ، وان أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة ان النهار اسم لمجموع الآنات الخاصة وليس له وجود غيرها ، والمشكوك هو نهارية الآن الّذي نحن فيه وعدمه ، وهذا مما لا حالة سابقة له.

وهذا الإشكال لا يتأتى في سائر الأمور التدريجية القابلة للوقوع في الزمان ، لتصور الشك في وجودها الواحد في الزمان اللاحق ، فيقال : كان التكلم موجودا والآن يشك فيه فيستصحب. فهذا الإشكال يختص بالزمان. وهو مما لا دافع له ولم يتعرض له الأعلام. ومع الغض عنه يقع الكلام في الإشكال.

ص: 184

الجهة الرابعة : وهو ما أشار إليه الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) وتصدوا لدفعه.

ومحصله : ان استصحاب النهار - مثلا - لا يتكفل أكثر من إثبات وجود النهار ، كما لو كان متعلق الحكم أخذ فيه الوقوع في النهار مثل الإمساك في باب الصوم ، فانه يعتبر ان يكون في النهار ، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار.

نعم ، لو كان وجود النهار موضوعا للحكم من دون ان يتقيد به متعلقه كان استصحاب النهار مجديا في إثبات الحكم.

وبالجملة : لا ينفع استصحاب الزمان الخاصّ في الموارد التي يؤخذ فيها قيدا لمتعلق الحكم ، كالصوم والصلاة ونحوهما ، فتقل الفائدة فيه لأن أغلب الموارد التي يراد استصحاب الزمان فيها من هذا القبيل.

أقول : بهذا البيان ونحوه بيّن الإشكال ، إلا انه لم يبين جهة الاستشكال وما هو المحذور المترتب على ذلك ، وما هو اللازم الباطل المترتب على عدم إحراز وقوع الإمساك - مثلا - في النهار ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد استصحاب وجود النهار يثبت الحكم بوجوب الصوم ، فيأتي الإنسان بالإمساك رجاء ولو لم يحرز ان الزمان نهار ، فان كان الزمان نهارا فقد امتثل وإلاّ فلا يضره شيء ، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة ، كيف؟ ولولاه لم يثبت الحكم الّذي ترتب عليه العمل ولو احتياطا ، كما انه ليس بلا أثر عملي كما جاء في أجود التقريرات (1) في تقريب الإشكال - إذ يكفي في لزوم الإتيان بالعمل بعنوان الاحتياط وهو أثر عملي واضح. فما جاء في كلمات الاعلام لا يخلو عن قصور.

والحق ان يقال : انه ان التزمنا بان الملحوظ في دليل الاستصحاب هو تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أصلا ، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب

ص: 185


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 400 - الطبعة الأولى.

المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع ، ومثله لا يعتبر فيه إحراز ثبوت الواقع ، بل احتماله يكفي في الاندفاع للعمل.

وعليه ، فيكفي استصحاب وجود النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار ، لأن مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع ، ولا يتكفل إثبات الحكم.

وعليه ، فلا بد من الإتيان بالإمساك فرارا عن العقاب المحتمل ، لاحتمال ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.

واما إذا التزمنا بان المجعول هو المتيقن كجعل المؤدى في باب الأمارات ، فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ولو التزمنا بذلك أشكل الأمر ، وذلك لأن الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار - مثلا - ، وهذا مما لا يمكن ان يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار ، إذ بعد عدم إحراز ان الزمان الّذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز ان الإمساك في النهار - فعلا - مقدور لاحتمال ان هذا الزمان ليل ، واستصحاب بقاء النهار لا يثبت ان هذا الآن نهار - كما هو المفروض - ، فيكون ثبوت وجوب الإمساك في النهار محالا ، لأنه تكليف بأمر لا يعلم انه مقدور أو ليس بمقدور ، فالإشكال على هذا المبني في الاستصحاب دون غيره.

وقد تصدى الأعلام - كما أشرنا إليه - لدفع الإشكال ، والمذكور في الكلمات وجوه :

الأول : ان الزمان لم يؤخذ في متعلق الحكم أصلا وانما هو شرط لأصل ثبوت الحكم ، والحكم متعلق بالطبيعة بلا تقيد وقوعها في الزمان الخاصّ.

وعليه ، فيثبت الحكم باستصحاب موضوعه ولا قيمة لعدم ثبوت أن هذا الآن نهار أو ليس بنهار. وهذا الوجه أشار إليه المحقق العراقي رحمه اللّه (1).

ص: 186


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 150 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولكن للمناقشة فيه مجال واسع ، فانه مخالف لظواهر الأدلة ، كأدلة اشتراط الوقت في الصلاة (1) ، ودليل الصوم الظاهر في لزوم كون الصوم في رمضان ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2).

الوجه الثاني : ما أفاده العراقي رحمه اللّه أيضا واختص به من : انه كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفية بين الأجزاء المتدرجة في الوجود ، كذلك يمكن استصحاب نهارية الموجود ، فان وصف النهارية من الأوصاف التدريجية كذات الموصوف ويكون حادثا بحدوث الآنات وباقيا ببقائها ، فإذا اتصف بعض هذه الآنات بالنهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بها يجري استصحاب بقاء النهارية الثابتة للزمان السابق لغرض وحدة الموصوف ، فيكون الشك شكا بالبقاء (3).

وما أفاده قدس سره لا يمكن البناء عليه لأمرين :

الأول : ان وصف النهارية ونحوها ليس أمرا آخر وراء ذوات الآنات الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، فلفظ النهار لا يعبر إلا عن تلك الذات لا عن عرض قائم بالذات غيرها ، فهو اسم للذات لا وصف لها ، فهو نظير لفظ زيد بالنسبة إلى ذاته ، ولفظ حجر إلى ذات الحجر ، لا نظير عالم بالنسبة إلى زيد.

وعليه ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب في وصف النهارية منضما إلى استصحاب نفس الذات النهارية ، فانه من قبيل استصحاب وجود زيد واستصحاب زيديته لا من قبيل استصحابه واستصحاب عالميته.

هذا مضافا إلى انه لو فرض كون وصف النهار من قبيل العنوان لا من قبيل الاسم ، فمن الواضح ان النهارية تتقوم بكون الزمان بين المبدأ والمنتهى

ص: 187


1- وسائل الشيعة 3 / 78 - أبواب المواقيت.
2- سورة البقرة الآية. 185.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 149 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الخاصّ بحيث يكون ذلك مسببا لتعدد حقيقة أنواع الزمان عرفا من ليل ونهار ، وإلاّ فذات الزمان موجود واحد مستمر إلى الأبد.

وعليه ، فمع الشك في كون الآن بين المبدأ والمنتهى لا يمكن استصحاب وصف نهاريته لتقومها به عرفا ، وليس هو من الحالات.

وهذا الإشكال يسري في كل مورد يشك في تبدل الموجود السابق إلى حقيقة أخرى عرفا ، فانه لا يجري استصحاب الوصف السابق للشك في بقاء الموضوع العرفي للمستصحب ، كما لو شك في تبدل الخمر إلى الخل وغير ذلك. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المشكوك كونه نهارا هو هذا الآن لا مجموع الآنات الملحوظة شيئا واحدا. ومن الواضح ان هذا الآن لا حالة سابقة له والشك بالنسبة إليه شك في الحدوث. ولا معنى لغرض وحدته مع ما تقدم ، إذ فرض الوحدة هو فرض لحاظ الكل شيئا واحدا بحيث لا ينظر إلى كل جزء بخصوصه ، وليس الأمر كذلك فيما نحو فيه ، لأن المفروض النّظر إلى هذا الجزء بخصوصه وملاحظته بمفرده لأنه هو المشكوك دون غيره فانتبه.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : إن المأخوذ في متعلق الحكم إذا كان هو الإمساك في النهار لا الإمساك النهاري ، بان يكون النهار بوجوده المحمولي قيدا دخيلا في المصلحة لا بوجوده الناعتي ، كان جريان الاستصحاب في النهار مجديا ولو لم يحرز أن هذا الآن نهار ، لأن ثبوت القيد تعبدي والتقيّد وجداني ، فيثبت ان هذا إمساك وجداني في النهار التعبدي (1).

وما أفاده قدس سره يتوجه عليه :

أولا : ان استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الإمساك إلى النهار وتقيده به إلاّ بالملازمة ، فهو نظير استصحاب كون هذا المائع خمرا ، فانه لا يثبت كون

ص: 188


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 81 - الطبعة الأولى.

شربه شرب خمر إلا بالملازمة ، والمفروض ان المطلوب إثبات كون الإمساك في النهار.

وثانيا : لو سلمنا ان استصحاب الموضوع يثبت به الحكم المتعلق بما يتقيد به ويضاف إليه ، فيقال ان الخمر أثره حرمة شربه ، فإذا ثبتت خمرية شيء ظاهرا ترتب عليه حرمة شربه ، فهو انما ينفع فيما كان الاستصحاب يتكفل إثبات الموضوع بمفاد كان الناقصة ، إذ التقيد والإضافة وجداني تكويني ، وانما الشك في وصف المضاف إليه وهذا يثبته الأصل. واما إذا كان مجرى الاستصحاب هو الموضوع بمفاد كان التامة ، فالتقيد والإضافة لا تتحقق أصلا ، إذ وجود الموضوع تعبدا ليس إلاّ وجودا اعتباريا فرضيا ولا معنى لوقوع الفعل فيه. فهل يجدي استصحاب بقاء الكر في الحوض في إثبات الغسل بالكر؟.

فاستصحاب بقاء النهار بمفاد كان التامة لا يصحح إضافة الإمساك إلى النهار ووقوعه فيه ، فلاحظ والتفت.

الوجه الرابع : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من إجراء استصحاب الحكم (1).

وقد أورد عليه المحقق النائيني في دورة من دورات بحثه : بأنه لا يجدي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، ولو كان مجديا لكفى استصحاب الموضوع لترتب الحكم عليه (2).

ولكنه في دورة أخرى ردّ هذا الإشكال : بان استصحاب الحكم يكفي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، كاستصحاب وجوب الصوم ، فانه يترتب عليه كون الإمساك في النهار بخلاف استصحاب نفس الزمان ، لأن استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلا أثره الشرعي وهو أصل وجوب الصوم ، واما كون الصوم في النهار فهو أثر عقلي لبقائه لا شرعي. واما استصحاب الوجوب

ص: 189


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /375- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول4/ 438 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فمرجعه إلى التعبد بالحكم بجميع خصوصياته التي كان عليها ، والمفروض ان الحكم كان متعلقا بما لو أتى به كان واقعا في النهار ، فيستصحب ذلك على نحو ما كان (1).

ولكن ما ذكره توجيها لكلام الشيخ رحمه اللّه غير سديد ، لأنه لو سلم ان التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع خصوصياته فانما ذلك في الخصوصيات الشرعية لا التكوينية. ومن الواضح ان كون الفعل واقعا في الزمان الخاصّ أمر تكويني فلا معنى للتعبد به لأنه لا يقبل الجعل والتعبد شرعا.

الوجه الخامس : ما أفاده في الكفاية من : إجراء الاستصحاب في المقيد بما هو مقيد ، فيقال : ان الإمساك كان في النهار فالآن كذلك (2).

وفيه : ان المشار إليه من الإمساك اما ان يكون الجزء الموجود منه أو الجزء الّذي بعد لم يوجد. فان كان هو الجزء الموجود ، فهو لا أثر له لأن الحكم لا يتعلق بما هو الموجود. وان كان هو الجزء الآتي ، فهو مما لا حالة سابقة له ، بل هو مشكوك الحدوث فلا يجري فيه الاستصحاب إلاّ بنحو الاستصحاب التعليقي ، وهو لا يجري في الموضوعات.

الوجه السادس : ما أفاده العراقي وغيره من : أن الزمان لم يؤخذ في المتعلق قيدا للفعل بحيث كان المتعلق هو الفعل الخاصّ بنحو التقييد ، بل أخذ في المتعلق بنحو المعية في الوجود والمقارنة. وبعبارة أخرى : اعتبر هو والفعل بنحو التركيب وبنحو الاجتماع في الوجود. وهذا مما يثبت بالاستصحاب ، فانه يثبت أحد الجزءين وهو الزمان الخاصّ ، والجزء الآخر يثبت بالوجدان وهو الفعل (3).

وهذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة ، فان أخذ الزمان بنحو التركيب بلا

ص: 190


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات3/ 401 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /409- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 150 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ملاحظة تقيّد الفعل به وإضافته إليه ممكن بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق ، إذ المتعلق مما يكون التكليف محركا نحوه وباعثا إليه ، ولا يعقل البحث نحو الزمان لأنه غير اختياري ، فأخذه في المتعلق لا بد وان يرجع إلى ملاحظة تقيّد الفعل به وإيقاعه فيه ، فان هذا المعنى قابل للتحريك والبعث.

وعليه ، فيعود الإشكال ، لأنه لا يحرز باستصحاب الزمان وقوع الفعل فيه. فتدبر.

وجملة القول : ان استصحاب الزمان بملاحظة ورود هذه الإشكالات مما لا يمكن الركون إليه والجزم به.

واما سائر الأمور التدريجية غير الزمان كالتكلم والمشي والسيلان ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها الا من الوجه الأول من وجوه الإشكال في استصحاب الزمان ، وقد عرفت دفعه وعدم تماميته. وعليه فلا مانع من الالتزام فيه فيها.

ثم انه وقع الكلام في جريان الاستصحاب في موارد تعلق الحكم بالفعل المقيد بالزمان. وهو على صورتين :

الأولي : ان يكون الشك في بقاء حكمه للشك في بقاء قيده وهو الزمان. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

الثانية : ان يكون الشك في بقاء حكمه مع القطع بانتهاء قيده من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أخذ الزمان بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، فيشك في بقاء الحكم بعد انتهاء الزمان.

وقد أفاده في الكفاية : بان الزمان إذا كان مأخوذا ظرفا لثبوته كان استصحاب الحكم جاريا. وان كان قيدا مقوما لمتعلقه فلا يجري استصحاب الحكم ، بل يجري استصحاب عدمه. ثم أشار إلى دفع ما أفاده النراقي من

ص: 191

جريان كلا الاستصحابين - أعني : استصحاب الوجود والعدم - وتعارضهما (1).

وقد تقدم الكلام في كلام النراقي وتوجيهه ورده بنحو التفصيل في البحث عن جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فراجع.

وأما ما أفاده من التفصيل في جريان الاستصحاب بين أخذ الزمان ظرفا وأخذه قيدا ، فالظاهر ان مراده هو : التفصيل بين كونه حالة بنظر العرف وبين كونه قيدا مقوما ، وإلاّ فهو قيد على كلا التقديرين.

وعليه ، فلا يرد عليه : ان أخذه ظرفا لا معنى له في قبال أخذه قيدا ، إذ لا معنى لظرفية الزمان الا تقيد الفعل به.

وكيف كان ، فلا بد من تحقيق ان الزمان في متعلق الحكم هل هو من الحالات الطارئة على معروض الحكم بنظر العرف ، أو انه بنظره من مقوماته التي ينتفي بانتفائه؟.

واما مجرى الترديد الكبروي - كما اقتصر عليه في الكفاية - فلا فائدة كبيرة فيه.

وتحقيق ذلك : ان ما يؤخذ قيدا للموضوع قد يعد عرفا من مقوماته بحيث ينتفي معروض الحكم بانتفائه. وقد يعد من حالاته وعوارضه فلا ينتفي عرفا بانتفائه. وهذا يختلف بحسب اختلاف ارتباط الحكم بالقيد.

فالأوّل نظير وجوب تقليد العالم ، فان جهة العلم من مقومات وجوب التقليد عرفا ، لأن التقليد انما هو لجهة علمه.

والثاني نظير وجوب الصلاة خلف العالم ، فان العلم لا يعد عرفا من مقومات الموضوع ، بل يعد من حالاته.

وبعبارة أخرى : تعد جهة العلم عرفا من الجهات التعليلية للحكم بوجوب الصلاة خلفه ولكنها تعد من الجهات التقيدية بالنسبة إلى الحكم بوجوب

ص: 192


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /409- 410 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تقليده.

ولكن هذا إنما يأتي في موضوعات الأحكام لاختلاف نسبة الحكم وكيفية ارتباطه بالقيد.

واما بالنسبة إلى متعلق الحكم ، فكل قيد فيه يكون مقوما بنظر العرف ، إذ متعلق الحكم ما أخذ الحكم داعيا إليه ومحركا نحوه ، فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاصّ كانت الخصوصية مقومة عرفا ، فمع انتفائها يمتنع جريان الاستصحاب.

وبعبارة أخرى ، المراد بالموضوع هو معروض المستصحب ، ومعروض الحكم المستصحب بنظر العرف هو الفعل بخصوصياته لا ذات الفعل.

وعليه ، فالزمان إذا كان قيدا للمتعلق فهو قيد مقوم دائما ، فمع تخلفه وانتفائه يمتنع جريان استصحاب الحكم.

وقد نبهنا على ذلك في مبحث تعذر بعض اجزاء الواجب أو شرائطه من مباحث الأقل والأكثر. فراجع.

ثم أن صاحب الكفاية رحمه اللّه تعرض لما حكي عن النراقي من التمسك عند الشك في ناقضية المذي للطهارة باستصحاب جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، ومعارضة لاستصحاب الطهارة قبل المذي.

فأورد عليه : بان الطهارة الحديثة والخبثية وما يقابلهما تكون مما إذا وجدت بأسبابها لا ترتفع إلاّ برافع ، بحيث يكون منشأ الشك فيها هو الشك في الرافع ولا يشك فيها من جهة الشك في مقدار تأثير السبب ، فانه لا شك فيه لأن تأثيره في الطهارة المستمرة ، وعدمها يكون لأجل الرافع لا لقصور السبب.

وعليه ، فلا مجال لأصالة عدم سببية الوضوء للطهارة بعد المذي (1).

أقول : لا ظهور لكلام النراقي في كون مجرى الاستصحاب هو نفس

ص: 193


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /410- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

السببية ، بل من الممكن ان يكون نظره إلى منشأ انتزاعها وهو ثبوت الطهارة على تقدير الوضوء.

وعليه ، فيكون مقصوده إيقاع المعارضة بين استصحاب الطهارة الثابتة قبل المذي ، واستصحاب عدم جعلها بعد المذي ، الّذي تقدم بيانها في مبحث استصحاب الحكم الكلي عند بيان مرامه ، فمجرى الاستصحاب نفيا وإثباتا هو المسبب لا سببية السبب حتى يورد عليه بأنه لا شك في السببية.

وبهذا الحمل لكلامه رحمه اللّه ظهر انه لا وجه لإطالة الكلام بتحقيق ان الوضوء مقتض للطهارة ، والحدث هل يكون من قبيل الرافع أو يكون عدمه متمما للمقتضي؟. كما تصدى إلى ذلك المحقق الأصفهاني في بيان مسهب مفصل فراجع (1).

التنبيه الرابع : في استصحاب الأمور التعليقية.

لا يخفى ان الأمر المشكوك البقاء ...

تارة : يكون له وجود فعلي تنجيزي في السابق يشك في زواله وبقائه ، كنجاسة الماء المتغير إذا شك فيها بعد زوال تغيره من قبل نفسه.

وأخرى : يكون له وجود تقديري تعليقي لا فعلي كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شك فيها بعد تبدله إلى زبيب.

والاستصحاب في الفرض الأول لا شبهة فيه.

وانما الكلام في الاستصحاب في الفرض الثاني ، وهو ما يعبر عنه بالاستصحاب التعليقي ، والإطلاق مسامحي ، ويراد به استصحاب الأمر التعليقي.

والأمر التعليقي الّذي يتكلم في استصحابه تارة : يكون من الأحكام ،

ص: 194


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 84 - 89 - الطبعة الأولى.

كالمثال المتقدم. وأخرى : من الموضوعات.

والكلام فعلا في استصحاب الأحكام التعليقية : ولا يخفى ان البحث فيه ذو أثر عملي كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة من الأحكام التكليفية والوضعيّة.

وكيف كان فقد نفي جريانه فريق والتزم به فريق آخر.

وممن التزم به صاحب الكفاية ، وذكر في تقريبه : ان قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأمور التعليقية ، لأن غاية ما يقال في نفيه : ان الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه. وهذا قول فاسد ، لأنه لا وجود له فعلا قبل الشرط ، لا أنه لا وجود له أصلا ولو بنحو التعليق ، فان وجوده التعليقي نحو وجود يكون متعلقا لليقين والشك ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية من إيجاب وتحريم. هذه خلاصة ما أفاده في الكفاية (1).

وخالفه المحقق النائيني رحمه اللّه فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ومحصل ما أفاده : ان الحكم له مقامان : مقام الجعل ، وهو جعل الحكم الكلي على الموضوع الكلي. ومقام المجعول وهو الحكم الفعلي الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده.

والشك في بقاء الحكم بلحاظ مقام الجعل لا ينشأ إلاّ من قبل الشك في النسخ وعدمه ، وهو أجنبي عما نحن فيه ، ومع عدم الشك في النسخ يعلم ببقاء الجعل والإنشاء ولا رافع له ، إذ هو ثابت حتى مع عدم تحقق الموضوع بالمرة.

اما بلحاظ مقام المجعول والفعلية فبالنسبة إلى الحكم التعليقي غير متصور ، لأن المفروض عدم الفعلية للحكم لعدم تحقق كلا جزئي الموضوع ، فلا يقين بالحدوث. وليس للحكم التعليقي مقام آخر يتصور جريان الاستصحاب

ص: 195


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /411- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلحاظه.

وبالجملة : ما له ثبوت فعلي وهو الجعل لا شك فيه ، وما هو مورد الشك وهو المجعول لا يقين بحدوثه هذه خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

والتحقيق ان يقال : ان المسالك المعروفة في حقيقة الحكم التكليفي وكيفية جعله ثلاثة :

المسلك الأول : ما هو مسلك المشهور من : أنها عبارة عن أمور اعتبارية يتسبب لها بالإنشاء وتكون فعلية الأحكام منوطة بوجود الموضوع بخصوصياته ، فبدونه لا ثبوت الا للإنشاء بلا أن يتحقق اعتبار الحكم فعلا. وإلى هذا يرجع ما أفاده المحقق النائيني من انفكاك مقام الجعل عن مقام المجعول ، وأنه قد يتأخر المجعول عن الجعل.

المسلك الثاني : ان المجعول لا ينفك زمانا عن الجعل ، ففي ظرف الجعل يتحقق الحكم فعلا ، إلاّ انه يتعلق بأمر على التقدير ، فيكون التقدير دخيلا في ترتب الأثر العقلي على الحكم الثابت سابقا لا دخيلا في أصل تحقق الحكم وفعليته - كما عليه المشهور - ، فالتقدير - على ما قيل - دخيل في فاعلية الحكم لا في فعليته ، بل الحكم فعلي قبل تحقق التقدير.

المسلك الثالث : ان حقيقة الحكم التكليفي هي الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة ، فليس هو أمرا مجعولا كالاحكام الوضعيّة ، بل هو امر واقعي تكويني يترتب عليه الأثر العقلي والعقلائي عند إبرازه. وهذا مما قربه المحقق العراقي رحمه اللّه (2).

ولا يخفى ان المطلوب في المقام هو تحقيق انه في مورد الحكم التعليقي هل هناك امر شرعي قبل وجود المعلق عليه يمكن استصحابه أو لا؟

ص: 196


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد. الأصول4/ 466 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 163 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا بد من تحقيق الكلام بلحاظ كل مسلك من هذه المسالك الثلاثة ، فنقول :

اما على الأول - وهو مسلك المشهور المنصور - : فالمتجه القول بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي لأن الثابت لدينا على هذا المسلك أمران :

أحدهما : ما يرتبط بمقام الإنشاء والجعل ، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلي ، وهو لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج ، لأنه متحقق ولو مع عدم الموضوع. ومن الواضح ان هذا مما لا شك في بقائه ، لأنه معلوم الثبوت والبقاء سواء وجد العنب - مثلا - أو انعدم ، وسواء تحقق الغليان أو لم يتحقق ، لأنه لا يرتبط الا بالموضوع الكلي لا بالخارج.

نعم يمكن ان يحصل الشك في بقائه من جهة الشك في النسخ ، وهذا مما لا يرتبط بما نحن فيه.

وثانيهما : ما يرتبط بمقام الفعلية والمجعول ، وهو الحكم الفعلي الثابت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومن الواضح ان هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل تحقق المعلق عليه ، فلا معنى لاستصحابه.

وليس لدينا أمر شرعي آخر غير هذين ، ففي أي شيء يجري الاستصحاب؟.

ومن هنا يظهر ان استدلال صاحب الكفاية على جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي بان له نحو وجود ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية. غير وجيه ، لأن ما هو مورد للخطابات الشرعية هو الحكم الإنشائي الّذي عرفت الحال فيه.

نعم ، إذا ثبت ان الحكم الفعلي يكون له نحو وجود بتحقق أحد جزئي موضوعه ويكمل بحصول الجزء الآخر. وبعبارة أخرى : نقول - مثلا - ان الحرمة

ص: 197

المرتبة على العنب المغلي ، تكون فعلية من جهة عند تحقق العنب قبل الغليان ، فتثبت للعنب حرمة فعلية قبل غليانه ، أمكن على هذا استصحاب هذه الحرمة الفعلية من جهة لو شك في بقائها عند تبدل العنب إلى زبيب.

لكن هذا المعنى لا يعدو الفرض والخيال ، إذ لا ثبوت للحكم أصلا وبوجه من الوجوه قبل ثبوت موضوعه بكامل أجزائه كما هو مقتضى مفاد الإنشاء والجعل.

ودعوى : ان العنب قبل الغليان - مثلا - يتصف بالحرمة على تقدير غليانه ، وهذا لا ثبوت له في غير العنب كالبرتقال. ومن الواضح ان هذه الحرمة التي يتصف بها ليست بالحرمة الفعلية المتأخرة عن الغليان ولا الإنشائية ، لأنها واردة على الموضوع الكلي فيكشف ذلك عن وجود أمر وسط بين الحرمة الإنشائية والحرمة الفعلية التامة.

مندفعة : بان هذه الحرمة التقديرية التي يتصف بها العنب قبل غليانه لا حقيقة لها سوى الحرمة الفعلية الثابتة على تقدير الغليان التي يتعلق بها إدراك العقل من الآن ، فالعقل فعلا يدرك تلك الحرمة ، فيعبر عنها بالحرمة على تقدير الغليان ، لا أنها ثابتة بثبوت فعلي من جهة كما يحاول ان يدعي ، وقس ما ذكرناه في الأمور التكوينية فانه لو فرض ان العنب على تقدير غليانه يكون مسكرا فقبل غليانه يوصف بأنه مسكر على تقدير الغليان.

وهل يتوهم أحد ان الإسكار ثابت من جهة تحقق أحد جزئي موضوعه؟ ، بل هذا التعبير لا يعبر الا عن إدراك العقل لمرحلة فعلية الإسكار عند الغليان ، فهو إشارة إلى ذلك الوصف الفعلي الثابت عند تحقق كلا جزئي موضوعه ، بل لا مقتضي لأن نقول بأنه معنى انتزاعي عقلي ثابت بالفعل ، فليست الحرمة الفرضية والتقديرية أمرا وراء الحرمة الفعلية الثابتة في ظرفها ، بل هي تعبير عنها وإشارة إليها ، كما هو الحال في الأمور التكوينية التعليقية.

ص: 198

ومن هنا يظهر ان ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من إجراء الاستصحاب في الملازمة ليس بسديد ، إذ ليست الملازمة المفروضة الا تعبيرا آخر عن تحقق الحرمة عند تحقق كلا الجزءين وهو أمر واقعي متعلق لإدراك العقل ، فتدبر.

وجملة القول : ان إجراء استصحاب الحكم التعليقي على هذا المسلك مما لا أساس له.

فان قلت : هذا يتم بناء على مسلك المشهور في الإنشاء من كونه استعمال اللفظ بقصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي في وعائه المناسب ، إذ ليس لدينا سواء الإنشاء الّذي لا شك في بقائه ، والاعتبار العقلائي وهو الّذي لا يقين بحدوثه.

وأما بناء على مسلك صاحب الكفاية الّذي قربناه وقررناه من : انه التسبيب إلى وجود المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي في وعائه ، - فلا يتم منع استصحاب الحكم التعليقي ، وذلك لأن الحكم موجود بالفعل - قبل تحقق شرطه - بوجود إنشائي وان توقفت فعليته على تحقق شرطه. وهذا الحكم ثابت للفرد الخارجي من الموضوع ، لأن المنشأ - مثلا - هو حرمة شرب ماء العنب إذا غلى. ومن الواضح ان الشرب يرتبط بالعنب الخارجي ، فحرمة الشرب ثابتة للموضوع الخارجي. فالعنب عند وجوده تثبت له حرمه إنشائية ، فإذا شك في بقائها وزوالها بعد تبدل وصف العنبية إلى الزبيبية جرى استصحابها وترتب عليه الأثر.

نعم ، هذا يتم لو أخذ معروض الحرمة ذات العنب وكان الغليان ملحوظا شرطا. واما لو كان الغليان قيدا للموضوع بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي امتنع الاستصحاب لعدم ثبوت الحرمة الإنشائية لذات العنب بل العنب المغلي ، والمفروض عدم تحققه. فتدبر.

قلت : الحكم الإنشائي الّذي التزمنا به لا يعرض على كل فرد من افراد

ص: 199

الموضوع المأخوذ في العنوان ، بل معروضه هو نفس الكلي ، لكن بلحاظ وجوده في الخارج.

اما كون معروضه وموضوعه هو الكلي دون الافراد الخارجية ، فلأنه يوجد مع قطع النّظر عن تحقق فرد الموضوع خارجا ، بل هو ثابت حتى مع فرض عدم وجود أي فرد بالفعل لموضوعه ، بل قد يكون الداعي في جعل الحكم هو إعدام الموضوع كالاحكام الثابتة في باب الحدود.

واما لحاظ الوجود في الكلي المأخوذ في موضوعه ، فلأن الفعل المضاف إلى الموضوع - كالشرب بالنسبة إلى العنب - لا يضاف إليه بما هو كلي ، بل بما هو موجود في الخارج.

وإذا ظهر ان الحكم الإنشائي طار على الموضوع الكلي فقد عرفت انه لا يشك في بقائه الا من جهة النسخ ، نعم يشك في شموله للزبيب - مثلا - ، ومثله لا معنى لاستصحابه ، لأنه شك في الحدوث.

نعم ، إذا وجد فرد من الموضوع في الخارج تتحقق هناك إضافة بينه وبين الحكم من باب انه مصداق للموضوع الكلي. والشك في البقاء يطرأ على هذه الإضافة بعد تبدل وصف الفرد الخارجي ، كتبدل العنب إلى الزبيب.

ولكن من المعلوم ان هذه الإضافة ليست شرعية كي يتكفل الاستصحاب بقائها ، فلا يجري فيها الاستصحاب.

وبهذا البيان تعرف : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه - من التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائي بين ما إذا كان الشرط كالغليان قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي فلم يلحظ في الموضوع إلا تقدير واحد ، وهو تقدير العنب المغلي وبين ما إذا كان شرطا للحكم لا قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب. فهنا تقديران : أحدهما تقدير العنب والثانية في تقدير الغليان. ففي الأول لا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت

ص: 200

الحكم لذات العنب قبل الغليان ، لأنه مضاف إلى العنب المغلي ، والعنب ليس محكوما بالحرمة لا الإنشائية ولا الفعلية. وفي التقدير الثاني يجري ، لأن الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه وان أخذ الغليان شرطا له ، لكنه مضاف إلى ذات العنب لا العنب المغلي ، فيقال : يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا ، فقد أضيفت الحرمة إلى ذاته ، فمع وجوده تثبت له الحرمة فتستصحب عند تبدل الوصف إلى الزبيبية (1) ما أفاده قدس سره غير متجه ، لأنه مبني على كون الحكم الإنشائي ثابتا للافراد الخارجية رأسا ، وهو ما عرفت نفيه ، وان الحكم لا يثبت للفرد الخارجي ، بل يضاف إليه من باب انه مصداق للموضوع الكلي ، وهذه الإضافة ليست من الأمور الشرعية كي تستصحب.

والّذي يتحصل : ان الاستصحاب في الحكم التعليقي لا مجال له على هذا المسلك في جعل الأحكام.

وأما على المسلك الثاني : وهو الالتزام بفعلية المجعول من زمان الجعل وعدم إمكان انفكاكهما ، فقد يفصل بين صورة أخذ التقدير المعلق عليه الحكم غير الحاصل بالفعل قيدا لمعروض الحكم ، وصورة أخذه قيدا لنفس الحكم.

توضيح ذلك : ان الغليان المأخوذ في حرمة العنب ..

تارة : يلتزم بأنه دخيل في معروض الحكم بحيث يكون المعتبر بالفعل هو الحرمة المطلقة للعنب المغلي.

وأخرى : يلتزم بأنه دخيل في نفس الحكم ، بمعنى ان المعتبر بالفعل هو الحرمة المقيدة بالغليان والموضوع ذات العنب ، فالمعتبر حصة خاصة من الحرمة هي الحرمة على تقدير الغليان وهي ثابتة بالفعل ومعروضها هو العنب.

ففي الصورة الأولى : لا يجري استصحاب الحرمة. لأنها وان كانت ثابتة بالفعل : ان موضوعها هو العنب المغلي ، فالعنب قبل غليانه لا تثبت له تلك

ص: 201


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 89 - الطبعة الأولى.

الحرمة ، فمع تبدله إلى الزبيب لا يمكن استصحاب الحرمة لعدم ثبوتها له سابقا بل هي ثابتة للعنب الخاصّ.

وفي الصورة الثانية : يجري الاستصحاب ، لأن العنب كان معروضا للحرمة الخاصة ، فتستصحب عند تبدله إلى الزبيب ، ويترتب عليها الأثر عند حصول الغليان.

ولكن يشكل هذا التفصيل ، لأجل الإشكال في مبناه ، وهو اعتبار الحرمة على تقدير متأخر ، فانه قد مر الإشكال فيه ، وانه يستحيل ان تعبر بالفعل الحرمة على تقدير متأخر بحيث يكون لها وجود فعلي قبل حصول التقدير ، فراجع مباحث الواجب المشروط. ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فعلا.

واما على المسلك الثالث - الّذي قرّبه المحقق العراقي - : وهو الالتزام بان حقيقة الحكم التكليفي ليست إلاّ الإرادة والكراهة المبرزتان بالإنشاء ، وليست هي حقيقة جعلية كحقيقة الحكم الوضعي بل هي حقيقة واقعية.

فقد قرب المحقق العراقي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ببيان : ان الإرادة بما انها من الأوصاف الوجدانية التي تعرض على الصور الذهنية لا من الأمور الخارجية ، لم يكن وجودها منوطا بحصول الشرط في الخارج ، بل الشرط هو الوجود الفرضي اللحاظي ، وهو حاصل بالفعل ، فالإرادة متحققة فعلا بلا ان يعلق وجودها على وجود الشرط خارجا ، وانما يكون وجود الشرط دخيلا في فاعلية هذه الإرادة ومحركيتها. وإذا كان الحكم فعليا دائما كان مجرى الاستصحاب عند تبدل حالة الموضوع ، ولم يكن فيه إشكال.

ولكن ما أفاده قدس سره مردود من وجهين :

الأول من جهة أصل المبنى ، وهو الالتزام بان الحكم حقيقته الإرادة وليس هو من الأمور الجعلية فانه غير صحيح ، فان المرجع في تشخيص ذلك هو الأحكام العرفية المنشأة من قبل الموالي. ومن الواضح ان المحسوس ان المولى

ص: 202

يقوم بجعل الحكم لا مجرد إبراز الإرادة ، كيف؟ ولازمه عدم صحة الحكم في مورد تكون المصلحة فيه نفسه لا في متعلقه ، إذ في مثل ذلك لا تكون هناك إرادة متعلقة بالفعل لأنها تتبع المصلحة فيه ، مع ان ثبوت الأحكام في مثل هذا المورد لا يقبل الإنكار.

هذا مع انه يستلزم عدم قابلية الحكم للجعل الظاهري والتعبد به ظاهرا ، لأنه امر واقعي لا يقبل الجعل ، كما انه يستلزم عدم قابليته لرفعه منّة ، إذ ارتفاع الإرادة الارتفاع المصلحة لا منّة فيه. فما أفاده إنكار لما هو المسلم المعروف ولا يمكننا الأخذ به.

الوجه الثاني : من جهة البناء ، فانه لو سلم بان الحكم حقيقته الإرادة ، فالالتزام بفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط لا نسلمه ، بيان ذلك : ان القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين :

أحدهما : ما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وكونه ذا مصلحة ، نظير المرض بالنسبة إلى الدواء ، فان الدواء لا مصلحة فيه إذا لم يحصل المرض.

والآخر : ما كان دخيلا في فعليه المصلحة وترتبها على الفعل ، كجعل الدواء مدة معينة على النار الدخيل في تأثيره في رفع المرض وترتب المصلحة.

ولا يخفى ان القسم الأول من القيود يعبّر عنه بقيود الموضوع ، لأخذها في موضوع الحكم ، بحيث يترتب الحكم على وجودها. بخلاف القسم الثاني ، فانهما قيود المتعلق ، ولذا تؤخذ في المتعلق ويكون للحكم تحريك ودعوة نحوها.

ومن الواضح ان القسم الأول دخيل في تحقق الإرادة بحيث انه لا تتحقق الإرادة قبل وجوده خارجا ، فلا شوق لاستعمال الدواء قبل حصول المرض ، ولا شوق للأكل قبل حصول الجوع وهكذا ، وهذا آمر لا يكاد ينكره الوجدان. وكون متعلق الإرادة هو الوجود الذهني لا ينافي ما قلناه ، لأن هذه القيود ليست مأخوذة في المتعلق ، بل هي دخيلة في تحقق أصل الإرادة لا انها

ص: 203

معروضة للإرادة. اذن فكون الحكم التكليفي هو الإرادة لا يلازم تحققه بالفعل ، وقبل تحقق موضوعه بشرائطه.

ما أفاده لا يبعد ان يكون خلطا بين قيود المتعلق المعروض للإرادة بوجوده الذهني وقيود الموضوع الدخيل في نشوء الإرادة وعروضها على متعلقها.

ودعوى : ان الإرادة موجودة فعلا ، وانما هي متعلقة بالفعل على تقدير الموضوع.

منافية للوجدان الّذي لا يحس بالشوق قبل حصول الموضوع ، بل قد يحس بالفعل بعكس الشوق ، فلاحظ.

وبالجملة : ما أفاده قدس سره ممنوع مبنى وبناء. فتدبر.

والّذي يتضح لدينا من جميع ما ذكرناه : انه لا مجال لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي.

ثم انه لو سلمنا تمامية المقتضي لجريان الاستصحاب فيه. فقد يشكل : بأنه محفوف بالمانع دائما ، وهو المعارض ، وذلك لأن المحكوم بالحرمة التعليقية - مثلا - محكوم بالحلية التنجيزية قبل حصول المعلق عليه بالحرمة ، فبعد حصوله يستصحب الحكم التنجيزي ، فيتحقق التعارض بين الاستصحابين دائما ، ففي مثال الزبيب إذا حكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة الاستصحاب ، يعارض ذلك باستصحاب حليته المنجزة الفعلية المتيقنة قبل الغليان ، فيكون مقتضاه الحلية بعد الغليان ، ومقتضى استصحاب الحرمة التعليقية هو الحرمة بعد الغليان ، فيتعارضان.

وقد تصدى الاعلام (قدس سرهم) لدفع هذا الإشكال. وعمدة ما قيل في دفعه وجهان :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : أن الحلية الثابتة للعنب ليست حلية مطلقة ، بل هي حلية مغياة بالغليان ، فالغليان كما هو شرط للحرمة كذلك

ص: 204

هو غاية للحلية. وعليه فمع تبدل حالة العنب إلى الزبيب ، فكما يستصحب الحرمة التعليقية الثابتة أولا كذلك يستصحب الحلية المغياة ولا تعارض بين هذين الاستصحابين لعدم التنافي بين الحكمين ، كما كانا ثابتين في حالة القطع ، ومقتضى الاستصحاب انتفاء الحلية عند حصول الغليان لحصول الغاية.

وجملة القول : ان الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان حلية خاصة لا تتنافى مع الحرمة المعلقة بوجه من الوجوه وهي الحلية المغياة (1).

وتحقيق الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية : أن الغاية الثابتة للحلية اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية.

وعلى الثاني : اما ان يكون مفاد دليل الغاية نفي الحكم بعدها لا أكثر ، فيرجع الدليل الدال على الحكم المغيا إلى بيان امرين : أحدهما : ثبوت الحكم مستمرا إلى الغاية. والآخر : نفيه بعد حصولها.

واما ان يكون مفاد دليل الغاية بيان خصوصية وجودية لازمها الانتفاء فيما بعد الغاية ، ونظير هذا الترديد ما يقال في أداة الاستثناء. وان انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فراجع.

وعليه ، نقول : انه لا شك في ان استصحاب الحلية المغياة لا يجري بلحاظ ما بعد الغاية للقطع بارتفاع تلك الحلية عند حصول الغاية. وانما الملحوظ في جريان الاستصحاب هو زمان ما قبل حصول الغاية. ومن الواضح ان أصل الحلية قبل حصول الغاية لا يشك فيها للقطع بثبوتها ، وانما المشكوك هو خصوصية كونها مغياة وعدمه بعد ان كانت ثابتة ، فالاستصحاب انما يجري في بقاء هذه الخصوصية للحلية فالمستصحب هو ثبوت كون الحلية مغياة.

وحينئذ يقال :

ان الغاية ان كانت عقلية فلا مجال لاستصحابها ، لأن الاستصحاب

ص: 205


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 412 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يجري في الأمور الشرعية.

وان كانت شرعية ، فان كان مرجعها إلى عدم ثبوت الحكم فيما بعدها لا أكثر بلا ان تكون هناك خصوصية وجودية ، فمرجع الشك فيها إلى الشك في بقاء الحلية بعد حصول الغاية وعدم بقائها ، والمفروض ثبوت الحلية قبل الغاية فلا مجال الا لاستصحاب الحلية بعد الغاية لا عدمها. نعم ان كان مرجعها إلى ثبوت خصوصية وجودية تلازم عدم الحكم فيما بعدها ، فالشك فيها شك في بقاء تلك الخصوصية فتستصحب ، ولازمها انتفاء الحكم عند حصولها.

اذن فاستصحاب المغياة بالنحو الّذي أفاده انما يأتي على التقدير الأخير ، وهو غير ثابت ، وذلك لأن ثبوت أخذ الغليان - مثلا - غاية للحلية شرعا انما هو بدليل العقل ، باعتبار ان الحرمة الثابتة بعد تحققه لا يمكن ان تجتمع مع الحلية للتضاد ، فالدليل الدال على الحرمة بعد الغليان يقتضي بحكم العقل انتفاء الحلية بعده. ومن الواضح ان مفاد هذا ليس إلاّ ارتفاع الحلية عند الغليان ، فيكون مرجع الغاية هاهنا إلى نفس عدم الحلية بعد الغليان لا إلى خصوصية وجودية تلازم ارتفاع الحلية ، فالمشكوك رأسا هو ارتفاع الحلية وعدمه لا بقاء الخصوصية وعدمه.

وبالجملة : دليل الغاية ليس دليلا شرعيا لفظيا كي يستفاد منه خصوصية وجودية تلازم الانتفاء فيما بعد الغاية - لو سلم ذلك في نفسه - ، بل هو دليل عقلي ومرجعه إلى ما عرفت من الحكم بالانتفاء فيما بعد الغاية رأسا. فتدبر.

فالمتحصل : ان ما أفاده قدس سره لا يمكن الموافقة عليه.

ثم انه لو فرض جريان هذا الاستصحاب بالنحو الّذي قربناه من كون مرجع الغاية إلى تقيد الحكم بخصوصية وجودية ، فيستصحب ذلك التقيد ولازمه انتفاء الحكم فيما بعد تحقق الغاية. فلا مجال لما أورد عليه من معارضته باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان بنحو استصحاب الكلي ، للعلم

ص: 206

بثبوت كلي الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان ، ويشك في ارتفاعه بعد الغليان للشك في خصوصية الفرد الحادث فتستصحب الحلية ، ويكون من مصاديق القسم الثاني من استصحاب الكلي.

والوجه في عدم ورود هذا الإيراد : ان استصحاب الحلية المغياة بالنحو الّذي ذكرناه لا يبقي مجالا لاستصحاب كلي الحلية ..

اما على الالتزام بان العلم التفصيليّ بثبوت فرد معين مع احتمال انطباق الكلي المعلوم بالإجمال عليه يستلزم انحلال العلم الإجمالي تكوينا. فهو واضح لو قلنا بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع لا فرد آخر مماثل له. وذلك لأنه باستصحاب الحلية المغياة نعلم بثبوت الحلية المغياة فعلا ، ونحتمل ان تكون هي الحلية الواقعية المتعلقة للعلم الإجمالي ، ونحتمل ان لا تكون هي لاحتمال كون الحلية الواقعية مطلقة.

وعليه ، فينحل العلم الإجمالي تكوينا ، فلا يقين لدينا الا بفرد معين دون الجامع ، فلا مجال للاستصحاب ، لعدم اليقين بحدوث الكلي المردد بين فردين بعد فرض الانحلال حقيقة.

وأما لو لم نقل بالانحلال الحقيقي باحتمال الانطباق على الفرد المعلوم بالتفصيل ، أو لم نقل بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع ، بل فرد مماثل له غيره ، فلا ينحل العلم بكلي الحلية المردد بين انطباقه على الحلية المغياة والحلية المطلقة حقيقة ، لكنه ينحل حكما باستصحاب الحلية المغياة ، ويترتب على الانحلال الحكمي نظر المورد نفسه عدم جريان الاستصحاب فيه كمورد الانحلال الحقيقي. نعم لو لم نقل بتأثير الانحلال الحكمي إلا في رفع منجزية العلم الإجمالي ، فلا تأثير له في استصحاب الكلي بقاء ، لكنه خلاف ما يلتزم به المورد نفسه. فهذا الإيراد لا يصلح صدوره من مثله.

فالتحقيق في الإيراد على صاحب الكفاية ما ذكرناه.

ص: 207

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من : ان استصحاب الحرمة المعلقة حاكم على استصحاب الحلية المطلقة ، وعلل ذلك : بان الشك في الحلية مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيكون الاستصحاب في الحرمة سببيا والاستصحاب في الحلية مسببا ، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي (1).

وقد ذكر هذا الوجه المحقق النائيني رحمه اللّه وقد أورد عليه في بعض الكلمات : بأنه لا سببية ومسببية بين الحرمة المعلقة والحلية المطلقة ، بل هما حكمان متضادان يعلم إجمالا بثبوت أحدهما ، فهما في مرتبة واحدة. هذا مع انه لو سلمت السببية والترتب بينهما فهو ليس بشرعي بل عقلي ، فان ثبوت الحرمة المعلقة لازمها عقلا عدم الحلية على تقدير الغليان ، لا بحكم الشارع (2).

والتحقيق : ان استصحاب الحرمة المعلقة وان لم يكن سببيا بلحاظ استصحاب الحلية لما ذكر ، إلاّ انه مقدم عليه بنفس ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي.

وتوضيح ذلك : ان ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي هو ما أشير إليه في الكفاية (3) وأوضحناه في محله من : ان العمل بالأصل السببي لا يلزم منه محذور ، إلاّ ان الأخذ بالأصل المسببي ورفع اليد عن السببي اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دائر ، لأن الأخذ به مبني على عدم جريان الأصل السببي الرافع لموضوعه ، وهو متوقف على تخصيص دليله بواسطة العلم بالأصل المسببي فيلزم الدور.

وهذا الملاك يجري فيما نحن فيه ، فان استصحاب الحرمة التعليقية الجاري قبل الغليان يلزمه ترتب الحرمة عند الغليان ، وهذه الملازمة وان كانت

ص: 208


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 380 الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 473 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /431- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عقلية ، لكن اللاّزم لازم أعم للحرمة المعلقة الواقعية والظاهرية ، فان المجعول يثبت بثبوت الجعل ظاهرا.

وعليه ، فالاستصحاب المزبور يبين حكم الشك في الحرمة والحلية بعد الغليان ويتكفل إثباته ، فهو ينظر إلى مؤدى استصحاب الحلية الجاري بعد الغليان.

وأما استصحاب الحلية ، فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة المعلقة ولا يترتب عليه نفيها ، فالأخذ به وطرح استصحاب الحرمة المعلقة اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دوري ، يعني يكون متوقفا على الأخذ باستصحاب الحلية المتوقف على سقوط استصحاب الحرمة ، إذ لا يمكن الأخذ بهما معا ، وليس الأمر كذلك لو أخذ باستصحاب الحرمة المعلقة ، فان طرح استصحاب الحلية يكون بواسطة تكفل استصحاب الحرمة المعلقة لحكم الشك فيها ، لأنه كما عرفت يتكفل بيان حكم فردين من الشك ، فلا يكون بلا وجه أو بوجوه دائر. فتدبر جيدا.

وبعبارة أخرى : ان لدينا شكين : أحدهما : الشك في الحرمة المعلقة وثانيهما الشك في الحلية الفعلية بعد الغليان. واستصحاب الحرمة المعلقة يتكفل بيان حكم كلا الشكين ، واما استصحاب الحلية الفعلية ، فهو لا ينظر إلى الشك في الحرمة المعلقة ولا يتكفل بيان حكمها.

وعليه ، فالأخذ به يستلزم طرح استصحاب الحرمة المعلقة بلا وجه. بخلاف الأخذ باستصحاب الحرمة ، فان عدم العمل باستصحاب الحلية يكون بسب تصدي استصحاب الحرمة لبيان حكم الشك ، فلا يكون رفع اليد عن مقتضى استصحاب الحلية بلا وجه.

والمتحصل : ان إشكال المعارضة مندفع. نعم العمدة في الإشكال في استصحاب الحكم التعليقي هو دعوى قصور المقتضي كما مر بيانه وتقريبه.

ص: 209

هذا كله في جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام.

ولا بأس بإلحاقه بالتكلم في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات - على تقدير الالتزام بجريانه في الأحكام - وهو لا يخلو عن فائدة عملية ، كما لو شك في كون اللباس من مأكول اللحم أو لا ، فانه يقال ، كانت الصلاة قبل لبس هذا الثوب المشكوك لو وجدت ليست في ما لا يؤكل لحمه ، والآن هي كذلك ونحو هذا المثال كثير.

وقد مرّ في الكلام في التدريجيات إجراء استصحاب كون الإمساك نهاريا ، والتنبيه على انه من الاستصحاب التعليقي - بلحاظ بعض تقاديره -.

والتحقيق : انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيها أصلا ، إذ ليس هنا امر شرعي يكون مجرى الاستصحاب أو يكون إجراء الاستصحاب بلحاظه. وذلك لأن الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة الخاصة بلحاظ وجودها.

اما الفرد الخارجي الموجود ، فهو مسقط للتكليف وليس متعلقا له ، فما يترتب على الفرد الخارجي هو سقوط التكليف ، وهو من آثار الوجود الفعلي للطبيعة وما هو متعلق الأمر هو نفس الطبيعة على تقدير وجودها.

ولا يخفى ان ما شك في واجديته للشرط الّذي يراد استصحابه أجنبي عن متعلق الأمر ، إذ لا شك في مقام تعلق الأمر ، وانما الشك في مرحلة انطباق الطبيعي وتحققه في الخارج وهذا لا يرتبط بالشارع ولا أثر له شرعا ، لأن الحكم الشرعي مرتب على الطبيعة لا الفرد الخارجي. كما انه أجنبي عن مرحلة سقوط الأمر لأن سقوط الأمر يتحقق بالفرد الموجود فعلا لا تقديرا. اذن فمجرى الاستصحاب لا يرتبط لا بمقام تعلق الأمر ولا بمقام سقوطه ، فأي أثر شرعي يترتب على جريان الاستصحاب فيه. نعم لازم الاستصحاب انّ الفرد المتحقق في الخارج يكون من مصاديق المأمور به ، وهذا ليس بلازم شرعي كما لا يخفى.

وبالجملة : الاستصحاب التعليقي في الأمور الخارجية من متعلقات

ص: 210

الأحكام أو موضوعاتها لا أساس له ولا يمكن الالتزام به فلاحظ.

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة وبالنسبة إلى أحكام هذه الشريعة الثابتة في صدر الإسلام (1).

وقد ذكر لهذا المبحث ثمرات أشار إليها الشيخ رحمه اللّه .

التنبيه السادس : في الأصل المثبت.

وتحقيق الكلام : ان مجرى الاستصحاب تارة يكون حكما شرعيا. وأخرى يكون موضوعا شرعيا لحكم شرعي. وثالثة لا يكون حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، وانما هو ملازم لما هو موضوع للحكم الشرعي بالملازمة غير الشرعية.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم ، فيبحث في ان الاستصحاب هل يجري لإثبات الآثار الشرعية غير المترتبة شرعا على المستصحب وانما تترتب على ما يلازمه أو لا يجري؟.

وبتعبير آخر : الكلام في ثبوت الآثار غير الملازمة شرعا للمستصحب.

والمتجه ان يقال : ان دليل الاستصحاب على اختلاف المباني في المجعول فيه من كونه المتيقن أو الموصول والطريقية أو اليقين بلحاظ الجري العلمي أو لزوم الالتزام ، لا يتكفل سوى التعبد في حدود اليقين السابق ، فما كان على يقين منه هو مجرى الاستصحاب وهو موضوع التعبد ، فلا يتصدى إلى أكثر من ذلك. وعليه فلا يتعبد باللازم العقلي أو العادي للمستصحب ، لأنه ليس مورد اليقين السابق - لفرض كونه ملازما بقاء وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب نفسه - ، كما

ص: 211


1- وبما ان السيد الأستاذ - دام ظله - لم يزد على ما جاء في الكفاية من النقض والإبرام لعدم الضرورة في الإطالة ، أهملنا كتابة ما أفاده اتّكالا على الكفاية نفسها ، فان فيها غنى وكفاية. واللّه سبحانه الموفق العاصم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

لا يتعبد بأثره ، لأنه ليس من أحكام المستصحب ، بل من أحكام لازمه الّذي لم يتحقق التعبد به.

وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل النهي عن نقض اليقين بالشك ، فمفاده ليس إلاّ التعبد في حدود المتيقن والمشكوك لا أزيد من ذلك ، فما ليس متعلقا لليقين والشك لا نظر لدليل الاستصحاب إليه.

وقد يقرب شمول التعبد للآثار المترتبة على لوازم المستصحب بوجهين :

الأول ان دليل الاستصحاب يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن السابق معاملة البقاء بحيث يفرض الشاك نفسه متيقنا بالمشكوك ، ولازم ذلك العمل بكل ما ينشأ من يقينه به أعمّ من ان يكون ترتبه بواسطة عقلية أو عادية أو غير واسطة.

ولعل هذا الوجه هو ما يشير إليه في الكفاية من : انّ التعبد بالشيء تعبد بلوازمه ، لاتحاد جوابه عنه مع جواب الشيخ قدس سره (1).

فقد أجاب عنه الشيخ رحمه اللّه : بان دليل الاستصحاب وان كان يتكفل ذلك ، لكنه يتكفل لزوم العمل بكل عمل ينشأ من تيقنه بالمشكوك خاصة دون العمل الناشئ من اليقين بملازمته. ومن الواضح ان آثار الواسطة تترتب بلحاظ اليقين بالواسطة لا اليقين بذي الواسطة ، والمفروض ان التعبد انما كان باليقين بذي الواسطة خاصة لأنه هو مورد اليقين السابق ولا ينفع في ترتب آثار الواسطة (2).

الوجه الثاني : ان أثر الواسطة أثر لذي الواسطة ، فإذا كان التعبد بالمستصحب بلحاظ اثره - كما هو المفروض - ترتبت الآثار المترتبة بواسطة لأنها من آثاره عرفا.

وهذا الوجه باطل ، وذلك لأنه لم يرد في دليل التعبد لفظ الأثر وعنوانه

ص: 212


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /383- الطبعة الأولى.

كي يقال ان أثر الأثر أثر ، بل التعبد بالموضوع انما هو بلحاظ التعبد بحكمه العارض عليه صونا للتعبد عن اللغوية ، لأن الموضوع لا يقبل التعبد. ومن الواضح ان الحكم الثابت للواسطة لا معنى لأن يقال انه ثابت لذي الواسطة ولا محصل له ، فان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العارض إلى معروضه لا نسبة المعلول إلى علته والأثر إلى مؤثره. ومن الواضح ان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم ولو قيل بان أثر الأثر أثر.

وبالجملة : الوجه المزبور مبنى على الخلط بين الأثر بمعنى المسبب والمعلول ، والأثر بمعنى الحكم العارض على المستصحب. وما يكون التعبد بلحاظه هو الثاني ، ولم يؤخذ عنوان التعبد بالأثر في دليل الاستصحاب وانما لوحظ واقع التعبد به وهو راجع إلى التعبد بحكم المستصحب القابل للتعبد ، وحكم الواسطة ليس حكما لذيها.

هذا مع اختصاص هذا الوجه بما كانت الواسطة مترتبة على المستصحب ولازمة له ، فلا يشمل ما إذا كانت ملزومة له أو كانا لازمين لملزوم واحد ، إذ لا تكون الواسطة في هذين الموردين أثر للمستصحب كي يكون أثرها أثر له.

وجملة القول : ان عمدة إنكار الأصل المثبت هو ما ذكرناه. ونبه عليه الشيخ وتبعه غيره من : ان الّذي يتكفله الاستصحاب هو التعبد في حدود ما كان على يقين منه ، ولا يتعداه لغرض كون المنهي عنه نقض اليقين بالشك ، فالمنظور هو اليقين السابق ، فلا يتكفل التعبد بما ليس متعلقا لليقين السابق من اللوازم ولا بآثارها ، لعدم ثبوت موضوعهما ، والمفروض انها ليست أحكاما للمستصحب.

ولا يخفى ان ما ذكرناه لا يختلف الحال فيه باختلاف المجعول في باب الاستصحاب ، بل يتأتى على جميع المباني ، لأن مرجعه إلى ضيق موضوع التعبد بمقتضى دليله أي شيء كان المتعبد به من اليقين أو المتيقن أو غير ذلك. ومنه

ص: 213

يظهر التسامح الواقع في كتابي الرسائل والكفاية من ظهور بناء مسألة الأصل المثبت على جعل الحكم المماثل لذكر ذلك تمهيدا للبحث الظاهر في ارتباطه به ، إذ لو لا ارتباطه به لما اتجه ذكره كما لم يذكره في سائر التنبيهات.

ثم انه يؤاخذ صاحب الكفاية بأمرين آخرين :

أحدهما : ما ذكره في مقام بيان حجية الأصل المثبت من : ان التعبد بالمستصحب تعبد به بلوازمه العقلية والعادية ، كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات (1).

فان هذا هو عين الدعوى ، وكان ينبغي ان يذكر وجه ذلك ، واما الاكتفاء بمجرد الدعوى فهو بعيد عن الأسلوب العلمي.

هذا مع انه سيأتي منه إنكار ذلك حتى في الأمارات ، وإرجاع التعبد بلوازم المؤدى فيها إلى جهة أخرى.

ثانيهما : ما ذكره من انّ أثر الأثر أثر ، ونفاه بقصور مقام الإثبات لعدم إطلاق دليل الاستصحاب ، والمتيقن منه التعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا آثار لازمه (2).

فانك عرفت انّه لا وقع لهذا الكلام - أعني أثر الأثر أثر في هذا المقام - ، وانه أجنبي عنه بالمرة فلا وجه لتسليمه هاهنا وردّه بقصور الدليل. فانتبه.

وقد تصدى المحقق النائيني رحمه اللّه إلى تحقيق أصل المطلب ، فذهب إلى عدم حجية الاستصحاب المثبت لقصور مقام الثبوت دون مقام الإثبات.

وذكر في وجه ذلك : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد باليقين بلحاظ الجري العملي بلا نظر إلى الواقع ، فلا يثبت به سوى الجري العملي بالمقدار الثابت من التعبد ، وهو مقصور على مورد اليقين والشك لأخذه في موضوعه ، فلا يلزم سوى ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن لعدم اليقين والشك

ص: 214


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- 415 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- 415 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلوازمه وملزوماته.

ثم تعرض لوجه تعميم التعبد إلى آثار الواسطة ببيان : ان أثر الأثر أثر.

ورده : بان الأثر المترتب على الأثر إذا كان من سنخه ، كما إذا كانا تكوينيين وتشريعيين ، فلا ريب ان أثر الأخير أثر لما يترتب عليه الأثر الأول ، اما في التكوينيات فظاهر لأن معلول المعلول معلول للعلة الأولى. واما في التشريعيات ، كما لو ترتب على ملاقاة - النجس - نجاسة اليد ، وترتب على ملاقاتها نجاسة الثوب وهكذا ، فانّ الآثار الطولية مترتبة بأجمعها على الملاقاة الأولى ومن أحكامها ، فإذا جرى الاستصحاب وثبت به نجاسة شيء ترتب عليه نجاسة ملاقيه ولو بألف واسطة.

واما إذا لم يكونا من سنخ واحد ، كما إذا ترتب حكم شرعي على معلول تكويني لشيء ، فلا يصح القول بان أثر الأثر أثر ، لأن الأحكام الشرعية لا تترتب على موضوعاتها ترتب المعلول على العلة ، فلا يكون الحكم الثابت للمعلول حكما ثابتا للعلة. هذا خلاصة ما أفاده في المقام (1).

أقول : اما ما أفاده في إنكار الأصل المثبت الراجع إلى بيان قصور التعبد ثبوتا ، فهو مستقى مما أفاده الشيخ رحمه اللّه الّذي تقدم ذكره.

واما ما أفاده في رد القول بان أثر الأثر أثر ، فيرد عليه ان الملحوظ ان كان عنوان الأثر المساوق للمعلول ، فهذه القاعدة تامة سواء كانت الآثار الطولية من سنخ واحد أو من سنخين ، فان المعلول الشرعي للمعلول التكويني معلول للعلة الأولى لا محالة وان كان الملحوظ هو الحكم العارض على موضوعه ، فهو غير مسلم حتى مع كون الآثار من سنخ واحد ، كما في مسألة الملاقاة ، لما عرفت ان حكم اللازم لا يكون حكما للملزوم.

نعم جميع هذه الأحكام الطولية تترتب لكن بواسطة التعبد بموضوعاتها

ص: 215


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 488 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لا بواسطة التعبد بالملاقاة الأولى فقط ، فتسليمه القاعدة مع وحدة النسخ دون اختلافه مبني على الخلط بين الأثر بمعنى المعلول والأثر بمعنى الحكم.

وقد تقدم منا الكلام في تطبيق هذه القاعدة في المقام وانه لا محصل له أصلا.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه استثنى من عدم حجية الأصل المثبت ما لو كانت الواسطة خفية بنظر العرف ، بحيث يعد العرف الأثر المترتب على الواسطة مترتبا على المستصحب مباشرة ومن أحكامه ، فيكون عدم ترتيبه نقضا لليقين بالشك. ومثّل له باستصحاب الرطوبة في الملاقي - بالفتح - لإثبات نجاسة ملاقيه ، مع ان النجاسة من آثار السراية عرفا لا مجرد رطوبة الملاقي ، والسراية والتأثر برطوبة الملاقي من لوازم رطوبته ، لكنها من اللوازم الخفية (1).

وقد تابعة على ذلك صاحب الكفاية وأضاف عليه صورة جلاء الواسطة ووضوحها بنحو يمتنع التفكيك عرفا بين المستصحب والواسطة تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، ويكون التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، ومثل له بمثالين :

الأول : العلة التامة والمعلول ، فان التعبد بالعلة مستلزم للتعبد بالمعلول.

والثاني : المتضايفان كالأبوة والبنوة ، فان التعبد بالأبوة تعبد بآثار البنوة أيضا ، لوضوح الملازمة بينهما (2).

واستشكل المحقق النائيني قدس سره في ذلك ببيان : ان العرف انما يكون متبعا في تعيين مفاد الدليل ، فقد يفهم العرف من دليل الحكم ثبوته للأعم أو الأخص ، كما يكون متبعا في تشخيص ما هو مقوم للموضوع وما هو من حالاته ومن الجهات التعليلية بحسب مرتكزاته ، وما يراه من مناسبات الحكم والموضوع ، ليتحقق بقاء الموضوع عند زوال تلك الخصوصية على الثاني دون الأول ، ويكون الرجوع إلى العرف في ذلك باعتبار انه الرجوع إليه في تعين مفاد لفظ النقض الوارد في أدلة الاستصحاب.

ص: 216


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /386- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /415- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واما في غير هذين الموردين فلا يكون نظر العرف متبعا ، لأن العرف لا يرجع في مقام التطبيق والتشخيص.

وعليه ، فان كان المراد من خفاء الواسطة ان الحكم - بنظر العرف بحسب فهمه من الدليل أو بحسب مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة لديه - ثابت وعارض على ذي الواسطة ، وتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم ، فهو راجع إلى إنكار الواسطة لكون معروض الحكم هو ذو الواسطة رأسا. وان كان المراد به ان الحكم ثابت للواسطة ، لكن لخفائها يرون ان انه أحكام ذيها من باب التسامح في التطبيق ، فهو لا عبرة به كما عرفت (1).

واما أفاده قدس سره متين بل نقول : ان ما أفيد من ان العرف عند خفاء الواسطة يرى ان الأثر الثابت للواسطة أثر لذيها ليس بسديد ، وذلك لما عرفت ان المراد بالأثر هو الحكم العارض على موضوعه. ومن الواضح ان حكم الواسطة لا يعد حكما لذيها بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفية ، فان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم.

اذن فما أفاده الشيخ قدس سره من استثناء صورة خفاء الواسطة من عدم حجيته الأصل المثبت ممنوع كبرويا.

واما ما ذكره مثالا له من مورد استصحاب الرطوبة لإثبات الانفعال الّذي هو من آثار السراية والتأثر فتحقيق الكلام فيه :

أن أدلة الانفعال بملاقاة النجس أو المتنجس لا تقتضي الانفعال بمجرد الملاقاة ، ولو مع عدم الرطوبة المسرية في كلام المتلاقيين ، وذلك ان الشارع قد اعتمد في كيفية الانفعال على تشخيص العرف بملاحظة كيفية الانفعال بالقذارات الخارجية الحقيقية وبما ان التعذر في تلك الموارد دائما يحصل مع رطوبة الحد المتلاقيين بحيث تكون الملاقاة ملاقاة للرطب المساوق لتأثره وسراية بعض

ص: 217


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 494 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الاجزاء القذرة إليه ، ثبت ذلك في مورد القذارات الشرعية الاعتبارية ، فان السراية حقيقة وان كانت غير متصورة فيها بعد فرض كون النجاسة الشرعية اعتبارية لا واقعية ، إلاّ ان كيفية انفعال الملاقى فيها مثل كيفية انفعاله في القذارات الخارجية. وقد عرفت انه قد يتوقف على رطوبة أحد المتلاقيين بحيث يتحقق التأثر. فالمراد بالسراية الملحوظة هاهنا ليس السراية الحقيقية كي يقال بأنها غير مقصودة فيما نحن فيه ، بل يراد ان موضوع الحكم بالانفعال هو ملاقاة الرطب النجس بحيث تستند الملاقاة إلى الرطب بما هو رطب وهذه جهة مقومة بنظر العرف نظير تقوم التقليد بالعلم والزكاة بالفقر ، فان الحكم بالقذارة عرفا لا يكون إلاّ بملاحظة هذه الجهة وبدونها لا تقذر ولا قذارة. وعليه فموضوع الأثر هو ملاقاة الرطب ، فكما ان الملاقاة والرطوبة دخيلتان في ترتب الأثر كذلك إضافة الملاقاة إلى الرطب وتقيدها ذلك ، بحيث تكون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وعليه ، فباستصحاب الرطوبة لا يمكن إثبات الانفعال لعدم إحراز كون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وبعبارة أخرى : لا يجوز إضافة الملاقاة إلى الرطوبة المفروض انه لخصوصية مقومة للموضوع ، ولا معنى لا ثبات الأثر بمجرد استصحاب الرطوبة ببيان : ان أثر الواسطة الخفية أثر لذيها ، إذ المفروض ان الرطوبة دخيلة في الأثر في حد نفسها ومع قطع النّظر عن الواسطة ، وانما يشك في ترتب الأثر للشك في تحقق جزء الموضوع ، وهذا مما لا يثبت بالاستصحاب. وعليه يتضح ان المثال أجنبي عن مبحث الواسطة الجلية والخفية ، لأن مورده ما إذا لم يكن ذو الواسطة جزء الموضوع ، بحيث يثبت له الأثر من طريق الواسطة فيتأتى حديث الواسطة الخفية والجلية ، دون ما إذا كان ذو الواسطة بنفسه جزء الموضوع ودخيلا في ترتب الأثر كما فيما نحن فيه فالتفت ولا تغفل.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من استثناء صورة وضوح الملازمة ، بنحو يكون التعبد بأحدهما ملازما للتعبد بالآخر ، كما في العلة التامة والمعلول. وكما في

ص: 218

المتضايفين.

فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني قدس سره (1) وتبعه عليه غيره (2) : بان هذا وان سلم كبر ويا لكنه صغرويا لا مورد له واما مورد العلة والمعلول فهو خارج عن محل الكلام ، لأن اليقين بحدوث العلة التامة يستلزم اليقين بالمعلول ، فكما تكون العلة التامة مجرى الاستصحاب كذلك يكون المعلول بنفسه لاجتماع أركانه بالنسبة إليه. وهكذا الحال بالنسبة إلى المتضايفين ، لأنهما متكافئان بالقوة والفعلية خارجا وعلما ، فاليقين بالأبوة مستلزم اليقين بالبنوة ، فمع فرض تحقق اليقين بأحدهما لا بد ان يفرض اليقين بالآخر فيكون كلاهما مجرى الاستصحاب.

أقول : يمكن فرض مورد يتحقق اليقين بالعلة التامة ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول ، كما لو فرض ان فعلا واحدا تدريجيا يكون علة لحصول موجودات متكثرة ومتعددة بحسب استمرار وجوده ، كما لو فرض ان حركة اليد علة للقتل ما دامت مستمرة ، ففي كل آن يحصل فرد للقتل ، فمع الشك في بقاء العلة التامة وهي الحركة يمكن استصحابها ، ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول لتكثره وتعدد افراده ، فهو في هذا الآن مشكوك الحدوث ، وما تعلق به اليقين قد تصرم وانتهى ولا شك في بقائه.

واما في المتضايفين ، فما أفيد من التلازم بين الوجود الفعلي لهما تام بالنسبة إلى مثل الأبوة والبنوة ، واما مثل التقدم والتأخر والسبق واللحوق ، فوجود السابق متقدم زمانا على وجود اللاحق كما هو واضح جدا ، وكون التقدم والتأخر من المتضايفان مما لا يقبل الشك والتردد.

وعليه ، فمع اليقين بتحقق الوجود السابق على وجود آخر ، فإذا شك في

ص: 219


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 99 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 160 - الطبعة الأولى.

زمان في بقاء ذلك الوجود بوصف كونه سابقا يستصحب كونه سابقا على الوجود الآخر ، ولازمه تأخر الوجود الآخر عنه بلحاظ ذلك الزمان. فيمكن ان يدعى ان التعبد بسابقية أحد الوجودين لا ينفك عن التعبد بتأخر الوجود الآخر ، ولذا قد يعبر عن اشتراط البعدية باشتراط القبلية ، كما ورد بالنسبة إلى صلاة الظهر والعصر التعبير بان : « هذه قبل هذه » ، مع ان الشرط هو كون صلاة العصر بعد الظهر لا كون صلاة الظهر قبلها.

وبالجملة : مناقشة المحقق الأصفهاني رحمه اللّه الصغروية غير وجيهة.

وتحقيق الحال في المتضايفين ان يقال : ان العناوين المتضايفة كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحو ذلك عناوين انتزاعية عن خصوصية واقعية ونسبة خاصة متحققة في ذاتي المتضايفين. فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع عنوان الفوق والتحت.

ولا يخفى ان الخصوصية الواقعية التي ينتزع عنها الفوقية والتحتية واحدة ، وانما التعدد في طرفي النسبة والربط وفي العنوان المنتزع ، لا ان خصوصية الفوقية غير خصوصية التحتية ، نظير الملكية التي هي ربط خاص وعلاقة واحدة ذات طرفين ومنشأ لانتزاع العناوين المتعددة.

وعليه ، نقول : ان موضوع الأثر الشرعي الّذي يكون مجرى التعبد ..

ان كان هو منشأ انتزاع العناوين المتضايفة وهي تلك الخصوصية الواقعية والربط الخاصّ - كما هو الصحيح حيث ان الدخيل هو منشأ الانتزاع لا نفس العنوان - ، كان التعبد بأحد المتضايفين غير التعبد بالآخر بلا ان تكون ملازمة في البين ، لأن مرجع التعبد بالأبوة إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون منشأ لانتزاعها - والتعبد بها ، كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثار البنوة ، لأن الموضوع واحد وقد تحقق التعبد به.

واما ان كان موضوع الأثر هو نفس العنوان الانتزاعي وهو مجرى التعبد الشرعي ، فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضايفين والتعبد بالآخر ، إذ لا وجه

ص: 220

لدعوى التلازم بين التعبدين بعد فرض تعدد العنوانين وتباينهما ، فاستصحاب الأبوة لا يقتضي التعبد بالبنوة. فتدبر.

ثم انه قد ذكرت بعض الفروع التي قيل ان الأعلام تمسكوا فيها بالأصل المثبت لا بأس بالتعرض إلى بعضها والتكلم فيها :

فمنها : ما لو شك في دخول الشهر ، فانه يتمسك باستصحاب بقاء الشهر السابق في يوم الشك ويرتب بواسطته آثار أول الشهر على اليوم التالي كآثار يوم العيد في شوال.

ومن الواضح ان الاستصحاب لا يثبت الأولية إلاّ بالملازمة العقلية ، بل يرتب بواسطته آثار غير الأول من أيام الشهر كيوم التاسع والعاشر بالنسبة إلى شهر ذي الحجة بلحاظ أحكام الحج.

ولا يخرج الاستصحاب عن المثبتية إلاّ بدعوى : ان عنوان الأول ليس إلاّ منتزعا عن نفس كون هذا اليوم من هذا الشهر وكون سابقه من الشهر السابق ، فهو مركب من هذين الأمرين ، فيثبت بإحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان.

لكن هذا لا يلتزم به ، فان عنوان الأولية منتزع عن خصوصية وجودية بسيطة ونسبة خاصة في المتصف بها ، وهذه الخصوصية لا تثبت بالأصل إلاّ بالملازمة ، فيكون من الأصول المثبتة. وعليه فيشكل الأمر في الموارد المزبورة.

وقد تفصى المحقق النائيني رحمه اللّه : بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في إثبات الأولية كي يشكل بأنه من الأصول المثبتة ، فانه يكفي في إثبات ذلك ما ورد من النصوص الدالة على كون المدار في الصيام والإفطار هو رؤية الهلال أو مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق (1) ، فمع الشك في وجود الهلال يبني على كون يوم الشك من الشهر السابق - بحكم هذه النصوص - ، ومقتضاها ان أول

ص: 221


1- وسائل الشيعة 7 / 182 باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان.

الشهر اللاحق هو اليوم الآتي (1).

ولكن أورد عليه : بان هذه النصوص تختص بشهري رمضان وشوال ، ولا تعم سائر الشهور كشهر ذي الحجة ، وقد عرفت ترتيب بعض الآثار على العنوان العددي لبعض أيام فيها (2).

ولكن المورد - وهو السيد الخوئي - تفصى عن الإشكال بالالتزام بجريان الاستصحاب في نفس أول الشهر ونظائره من الثاني والثالث. وذلك ببيان : انه عند دخول اليوم الّذي يتلو يوم الشك يحصل اليقين بحصول اليوم الأول للشهر ، اما باليوم السابق ، أو بهذا اليوم ، ويشك في بقائه للتردد المزبور فيستصحب وجوده ، فيثبت بقاء اليوم الأول من الشهر ، وان لم يحرز ان هذا اليوم الّذي هو فيه أول أو ليس بأول لأن الأثر لا يترتب على اتصاف هذا اليوم بالأولية. بمفاد كان الناقصة ، بل يترتب على وجود اليوم الأول بمفاد كان التامة ، كما مر نظيره في استصحاب بقاء النهار والشهر ونحو ذلك مما تقدم في استصحاب الزمان.

وهذا البيان مردود لوجوه :

الأول : ان اليوم الأول لا واقع له خارجي إلا ذات النهار مع خصوصية فيه ، وليس له وجود وراء النهار مع تقيده بالخصوصية التي يتصف بها.

ومن الواضح ان ذات النهار لا يشك فيها ، وانما يشك في اتصافه بالخصوصية التي ينتزع عنه عنوان الأولية ، فلا شك لديه الا في كون هذا النهار هل هو أول أو ليس بأول؟ ، واما الشك في بقاء اليوم الأول فهذا مما لا أساس له ، إذ عرفت ان اليوم الأول لا واقع له الا النهار المتصف بالخصوصية ، فلا وجود له وراء ذلك ، فلا معنى لأن يكون وجود اليوم الأول مشكوك وراء الشك في تحقق

ص: 222


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 499 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 165 - الطبعة الأولى.

الخصوصية واتصاف النهار المعلوم وجوده بها ، إذ لا وجود للمجموع غير واقع اجزائه كي يكون متعلقا لليقين والشك بنفسه.

وبالجملة : موضوع الأثر ليس هو عنوان اليوم الأول ، بل هو واقعه ، وقد عرفت انه لا يعدو الذات مع تقيدها بالخصوصية ، فالشك واليقين اللذان يتعلقان باليوم الأول ، انما يتعلقان بالذات مع التقيد ، فإذا فرض ان الذات كانت معلومة فالمشكوك ليس إلاّ تقيدها بالخصوصية. فلا محصل لدعوى تعلق اليقين بوجود اليوم الأول والشك في بقائه كي يستصحب.

نعم ، اليقين والشك يتعلقان بعنوان : « اليوم الأول » وانطباقه ، لكن العنوان بما هو لا أثر له ولا حكم يترتب عليه ، وانما المدار على المعنون ، وقد عرفت انه ليس إلا الذات مع تقيدها بالوصف وليس هناك وراء ذلك موجود ولو اعتبارا ، فتدبر تعرف.

الوجه الثاني : ان هذا الاستصحاب من باب استصحاب الكلي المردد بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، وقد تقدم منا الإشكال في جريانه بنفس الإشكال في استصحاب الفرد المردد.

الوجه الثالث : انه لو سلم جريان الاستصحاب في الكلي مع تردده بين فردين أحدهما مقطوع البقاء والآخر مقطوع الارتفاع ، فلا مسرح له هاهنا ، بل الاستصحاب هاهنا من استصحاب الفرد المردد ، وذلك لأن المستصحب مردد حدوثا وفي مرحلة اليقين بين ما هو منتف وما هو باق ، ولا جامع بين هذين كي يقال انه متعلق اليقين بحيث يمكن الإشارة إليه على إجماله ، كما هو الحال في استصحاب القسم الثاني من الكلي ، إذ لا جامع بين النسبة المتحققة والنسبة الفعلية كي يكون متعلق العلم ، بل المتيقن مردد حدوثا بين فردين ، فيكون من استصحاب الفرد المردد وقد عرفت الإشكال فيه.

والمتحصّل ان إجراء الاستصحاب في اليوم الأول مما لا محصل له.

والتحقيق : انه ان استطعنا ان نستفيد من النصوص الواردة التعبد

ص: 223

الشرعي بالأولية مع انقضاء ثلاثين يوما عند الشك بالنسبة إلى كل شهر بلا اختصاص بشهري رمضان وشوال فهو ، وإلاّ فإن أمكن الجزم بقيام السيرة على ذلك فلا إشكال أيضا. واما مع التوقف في إلغاء الخصوصية في النصوص ، وعدم حصول الجزم بقيام السيرة لعدم ثبوت حصول الشك لدى الشيعة بالنسبة إلى الأهلة ، بل كان يحصل العلم اما نفيا أو إثباتا للتصدي للاستهلال وسهولة الرؤية في الأراضي المنكشفة مما يستلزم العلم بالهلال وجودا وعدما ، أشكل الأمر في موارد الشك لعدم الفائدة للاستصحاب كما عرفت فلاحظ.

ومنها : ما إذا اختلف مالك العين مع من كانت العين في يده وتلفت ، فادعى المالك ان يده يد ضمان ، وادعى ذو اليد انها ليست يد ضمان كما ادعى انها كانت عارية.

فقد نسب إلى المشهور الحكم بأنها يد ضمان ، وإن القول قول المالك.

وهذا الحكم منهم إذا كانت مستندا إلى استصحاب عدم رضا المالك إذنه فقد يقال انه من الأصول المثبتة ، لأن أصالة عدم تحقق الرضا من المالك لا يثبت كون اليد عارية والاستيلاء بغير رضا المالك إلاّ بالملازمة.

وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى : ان الاستصحاب هاهنا ليس بمثبت ، وذلك لأن الموضوع للضمان هو الاستيلاء على الشيء مع عدم رضا المالك بالمجانية بنحو التركيب ، واحد الجزءين محرز بالوجدان وهو اليد ، والآخر محرز بالأصل وهو عدم رضا المالك ، فيتم الموضوع ويثبت الحكم (1).

وهذا الالتزام منه ليس بسديد ، وذلك لأنه يرى ان العام المخصص بمخصص منفصل يكون معنونا بغير الخاصّ بنحو العدم النعتيّ لا المحمولي.

وعليه ، بنى عدم صحة جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشك في المخصص مصداقا.

ص: 224


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 502 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن عموم : « على اليد » بما إذا رضى المالك بالمجانية. ومقتضاه تقيد موضوع الضمان بعدم رضا المالك بنحو التوصيف والعدم النعتيّ لا التركيب والعدم المحمولي ، فالموضوع للضمان هو الاستيلاء غير المرضي به ، ولا يخفى ان أصالة عدم تحقق رضا المالك لا يثبت اتصاف اليد بعدم الرضا إلاّ بالملازمة. اذن فما أفاده غير تام على مبناه.

نعم ، على المبنى الآخر القائل بان العام يتقيد بعنوان عدمي بنحو التركيب الّذي يبتني عليه جريان استصحاب العدم الأزلي يصح جريان الاستصحاب المزبور هاهنا وينفع في ترتب الحكم بالضمان.

وقد يدعى ان المحقق النائيني قدس سره انما يذهب إلى تقيد العام بالعدم النعتيّ إذا كان عنوان الخاصّ بالنسبة إلى العام من قبيل العرض ومحله ، كالعالم العادل ، لا ما إذا كانا عرضين لمعروضين. وما نحن فيه كذلك ، لأن الاستيلاء عرض قائم بالمستولي ، والرضا عرض قائم بالمالك وليس قائما بالاستيلاء ، فلا يلحظان إلاّ بنحو التركيب ، وقد صرح قدس سره بذلك في مبحث العام والخاصّ فراجع (1).

وفيه : ان الرضا وان كان قائما بالمالك الراضي ، إلاّ أنه ذو محل ، وهو متعلقه لأنه من الصفات التعليقية كالعلم.

وعليه ، فالاستيلاء والتصرف معروض للرضا وعدمه ، ولا يعتبر في القيام ان يكون قيام الفعل بفاعله بل أعم من ذلك ، كما في الضرب القائم بالضارب والمضروب باعتبارين. اذن فيمكن أخذ اليد بوصف عدم الرضا لا مقارنة لعدم الرضا ، فتدبر.

وجملة القول : ان استصحاب عدم الرضا على هذا المبنى من الأصول المثبتة ، فلا وجه لفتوى المشهور. إلاّ ان يكون مستندا إلى التمسك بالعامّ في

ص: 225


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 530 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الشبهة المصداقية وقد حقق عدم تماميته. أو مستندا إلى قاعدة المقتضي والمانع وهي غير تامة أيضا.

وهذه بعض الفروع المرتبطة بالأصل المثبت أشرنا إليها إتماما للفائدة.

وكيف كان ، فقد عرفت انه لا مجال لدعوى ترتيب الآثار غير الشرعية للمستصحب ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها.

والنكتة في ذلك ما عرفت من كلام الشيخ رحمه اللّه من : ان دليل الاستصحاب على أي مسلك في المجعول فيه لا يتصدى إلاّ إلى التعبد بمقدار ما تعلق به اليقين السابق وحدوده ولا يزيد عليه ، فلا تترتب الآثار المترتبة على لوازمه العقلية لعدم كونها أحكاما للمتيقن السابق ، كما ان موضوعها لم يقع موردا للتعبد.

هذا وقد يقال : انه قد تقدم في الكلام في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية : ان دليل الاستصحاب لا يتكفل التعبد ببقاء المتيقن رأسا ، وإلاّ لاختص الاستصحاب بالاحكام الشرعية دون الموضوعات الخارجية ، وانما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة البقاء وعدم نقض المتيقن عملا ، وان هذا الإلزام يكون إرشادا - بمقتضى دلالة الاقتضاء أو الملازمة العرفية - إلى جعل الحكم المماثل للمستصحب لو كان حكما ، وجعل الحكم المماثل لحكمه إذا كان المستصحب موضوعا.

وعلى هذا تكون نسبة دليل الاستصحاب إلى الأحكام المجعولة والموضوعات الخارجية على حد سواء ، فيكون شاملا لهما معا.

وبناء على هذا الاستظهار يمكن دعوى صحة الأصل المثبت ، بان يقال : ان دليل الاستصحاب يتكفل لزوم التعامل مع المتيقن معاملة البقاء ، وهو يشمل موارد الموضوعات التي لا يكون لها أثر شرعي ، بل يكون الأثر مترتبا على لازمها. ومقتضى النهي عن نقض اليقين به عملا والإلزام بمعاملته معاملة البقاء ترتيب تلك الآثار الشرعية الثابتة بواسطة صونا للكلام عن اللغوية.

ص: 226

ولكن هذا القول فاسد ، وذلك لأن مفاد دليل الاستصحاب - كما أشير إليه هو معاملة المتيقن معاملة البقاء ، وهذا يقتضي اختصاصه بما يكون الأثر العملي الثابت بواسطة الاستصحاب أثرا للمستصحب نفسه ، بحيث بعد ترتبه إبقاء عمليا للمستصحب ، وفرضا للمستصحب انه باق.

وبعبارة أخرى : يلزم ان يكون الأثر المترتب من آثار بقاء المستصحب وليس الأمر كذلك في موارد الأصول المثبتة ، إذ الأثر الّذي يراد ترتيبه من آثار ملازم المستصحب ، فلا يعد من آثار بقاء المستصحب ، بل من آثار ما يلازم بقائه.

وعليه ، فترتيبه لا يكون إبقاء عمليات للمتيقن السابق ، ولا يكون معاملة له معاملة الباقي ، لعدم ارتباط الأثر العملي به ، بل بما يلازمه ، والمفروض ان ما يلازمه غير متيقن. اذن فهذا المورد لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب ولا يقاس بمورد الموضوع ذي الأثر الشرعي ، كعدالة زيد المستصحبة ، فان الاقتداء بزيد من آثار عدالته فيكون ترتيبه إبقاء عمليا للعدالة ، فيكون مشمولا لدليل الاستصحاب. فلاحظ وتدبر.

وجملة القول : انه لا مجال للالتزام بالأصل المثبت.

واما الأمارات ، فالمعروف ان المثبت منها حجة ، فيترتب على قيام الأمارة آثار المؤدى الشرعية كما تترتب عليه آثار لوازمه العقلية ، فإذا أخبرت البينة عما يلازم موت زيد يترتب على هذا الاخبار موت زيد وآثار الشرعية.

وقد تصدى الاعلام قدس سره لبيان الوجه في ذلك والكشف عن نقطة الفرق بين الأصول والأمارات.

ونذكر مما قيل وجهين :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من : ان دليل الاعتبار في باب الأمارات يتكفل بجعل الطريقية والمحرزية ، وبما ان العلم بالشيء وجدانا يستلزم العلم بلوازمه وملزوماته مع الالتفات إليها ، وكذلك العلم التعبدي بالشيء ، فانه يستتبع ثبوت العلم تعبدا بلوازمه وملزوماته ، لعدم الفرق بينهما الا

ص: 227

بالوجدانية والتعبدية.

وعليه ، فالتعبد بقيام العلم بالنسبة إلى مؤدى الأمارة يستتبع التعبد بالعلم بلوازمه (1).

وهذا الوجه مردود - مع قطع النّظر عن الإشكال في المبنى وهو جعل الطريقية - ، فان الملازمة بين العلم الوجداني بالشيء والعلم بلوازمه لا يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد ، بل التعبد يدور مدار دليله ، فإذا ثبت التعبد بالعلم بشيء بلحاظ آثاره فلا يلازم التعبد بالعلم بلوازمه مع قصور الدليل عن إثباته ، وبما ان دليل الأمارة يتكفل حجية الأمارة بلحاظ مؤداها ، فهو لا يتكفل سوى اعتبار العلم بالنسبة إلى المؤدى دون لوازمه ، وقد عرفت إمكان التفكيك بينهما ، فتدبر.

الوجه الثاني : ما أفاده صاحب الكفاية من : ان الأمارة كما تقوم على المؤدى تقوم على لوازمه ، فالخبر كما يحكي عن مؤداه كذلك يحكي عن لوازم المؤدى ، فلدينا خبران أحدهما : خبر عن المؤدى. والآخر : خبر عن لوازمه. فيكون كل منهما داخلا تحت دليل الحجية ومشمولا له ، فالاختلاف بين الأمارة والأصل ليس في كيفية التعبد ، بل في الموضوع (2).

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره بان الحكاية عن الأمور القصدية ، فيختص موردها بما إذا كان الحاكي ملتفتا إلى لوازم الملزومات ، كما في موارد اللزوم البين بالمعنى الأخص ، فلا وجه لحجية المثبت منها مطلقا (3).

ويمكن الجواب عنه بما أفاده المحقق العراقي قدس سره : من انه لا يعتبر في الاخبار الّذي يكون حجة القصد التفصيليّ للمخبر به المتوقف على الالتفات إليه ، بل يكفي القصد الإجمالي الارتكازي (4).

ص: 228


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 487/4 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /416- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3. 487 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4. 242 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا حاصل في باب الاخبار ، فان من يخبر عن شيء ويحكي عنه يخبر عن لوازمه بنحو الإجمال ولو لم يلتفت إلى خصوصياتها ، بل لم يلتفت إلى الملازمة ، فيتحقق منه القصد الارتكازي ، وهو كاف في صدق الخبر عنه ومما يشهد لذلك موارد الإقرار بشيء حيث يعد إقرارا بلوازمه ويترتب عليه أثر الإقرار على نفسه ، وان لم يكن ملتفتا إلى الملازمة ، بل ربما يستغفل عن الملازمة لأجل إلزامه بالإقرار. والسيرة العقلائية والفتاوى شاهدة على ما قلناه فراجع.

اذن فما أفاده صاحب الكفاية لا مانع من الالتزام به. واللّه سبحانه العالم.

التنبيه السابع :

التنبيه السابع : تعرض صاحب الكفاية في التنبيه الثامن الّذي ذكره عقيب البحث في الأصل المثبت إلى جهات ثلاث :

الأولي : انه لا فرق بين ترتب الأثر على المستصحب رأسا وبلا واسطة ، وبين ترتبه بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه ويحمل عليه بالحمل الشائع ، سواء كان منتزعا عن مرتبة ذاته كالإنسان وفرده ، أو منتزعا عن بعض عوارضه مما يكون من الخارج المحمول كالأمر الانتزاعي بالنسبة إلى منشأ انتزاعه ، كالفوق والسقف والأب وزيد. دون ما كان منتزعا عن بعض عوارضه المتأصلة « المحمول بالضميمة » كالأسود والأبيض بالنسبة إلى معنونه.

وعلل ذلك : بان الأثر في الصورتين الأوليين يكون للمستصحب حقيقة لعدم ما يكون بحذاء الكلي في الخارج سواه. وعليه فالاستصحاب في الصورتين لا يكون مثبتا.

الثانية : انه لا فرق في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه أو بمنشإ انتزاعه ، كالجزئية والشرطية ، فانها بيد الشارع رفعا ووضعا ولو بلحاظ ووضع منشأ انتزاعها ورفعه. وعليه فاستصحاب الشرط لترتيب الشرطية لا يكون من الأصل المثبت كما توهم.

الثالثة : ان الأثر الشرعي المستصحب أو المترتب على المستصحب لا

ص: 229

يختلف الحال فيه بين أن يكون وجود الحكم أو عدمه ، لأن عدم التكليف بيد الشارع كثبوته ، ولا يعتبر في الاستصحاب أكثر من أن يكون المجعول بيد الشارع رفعا ووضعا ، سواء كان حكما أو لم يكن.

وعليه ، فلا مانع من استصحاب عدم التكليف في إثبات البراءة.

ولا وجه لاستشكال الشيخ رحمه اللّه فيه : بان عدم استحقاق العقاب في الآخرة الّذي يراد ترتيبه عليه ليس من اللوازم المجعولة (1).

والسر في عدم صحة هذا الإشكال : ان عدم استحقاق العقوبة وان لم يكن بمجعول ، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول بعد ان كان المستصحب بنفسه مما أمره بيد الشارع ، فيجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه عدم الاستحقاق ، لأنه من لوازم عدم المنع أعم من الواقعي والظاهري. هذا ما أفاده في الكفاية (2).

ولا يخفى عليك انه كان ينبغي إلحاق هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت ، لأنه من شئونه ومتفرعاته ، لا جعله مبحثا مستقلا برأسه.

وكيف كان فلا بد من التعرض إلى كل جهة من كلامه على حدّه ، فنقول :

اما الجهة الأولى : فهي على ما يبدو لا تخلو عن غموض في المراد ، بحيث يكون له صورة وجيهة. وذلك لأن الصور المتصورة في دخالة العنوان الانتزاعي في ترتب الحكم متعددة ، لأن موضوع الأثر إما وجود العنوان بما هو ، كوجود عنوان الفوق والتحت والأب والابن وغير ذلك. وأما وجود الذات مع الخصوصية التي ينتزع عنها العنوان الخاصّ.

واما الذات التي ينطبق عليها العنوان الخاصّ.

ص: 230


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /417- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فعلى الأول ، يمكن إجراء الاستصحاب في نفس العنوان إذا كانت له حالة سابقة ، فيستصحب وجود عنوان الأب والابن.

وعلى الثاني ، يمكن إجراء الاستصحاب مع الشك في وجود الذات المتصفة بالخصوصية مع الحالة السابقة ، فيستصحب وجودها إذا كان مشكوكا ، أو اتصافها بالخصوصية إذا كان أصل وجودها معلوما والخصوصية مجهولة.

وعلى الثالث ، فإن كان الشك في أصل وجود الذات ، أشكل الاستصحاب لأن استصحاب وجود العنوان أو وجود الذات مع الخصوصية لا يوجد بثبوت الانطباق إلا بالملازمة. نعم مع العلم بوجود الذات والشك في بقاء الانطباق يستصحب كونها منطبقة للعنوان. ولا يخفى وضوح الحكم في هذه الصور ، ولا موهم لأمر آخر فيها.

وعليه ، مراد صاحب الكفاية ان كان هو استصحاب نفس العنوان وترتيب آثاره ، فهو مما لا إشكال فيه ولا موهم بكونه من الأصول المثبتة ، كي يحتاج إلى تنبيه وإلفات نظر. وان كان هو استصحاب الفرد لترتيب آثار العنوان اللازم لبقائه لا لحدوثه ، كاستصحاب وجود زيد لترتيب آثار وجود الأب ، أو استصحاب بقاء الجسم على ما كان لترتيب أثر كونه فوقا ، فهذا من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، وهل يتوهم أحد صحة جريان الأصل المزبور؟. فما أفاده قدس سره غير واضح المراد.

نعم ، بالنسبة إلى الكلي الطبيعي وفرده يصح استصحاب الفرد لترتيب أثر الكلي ، لأجل ان وجود الفرد وجود للكلي ، فاستصحابه استصحاب الكلي الموجود في ضمنه. وليس الأمر كذلك في العنوان الانتزاعي ومعنونه.

ولا ندري ما فهم المحقق الأصفهاني قدس سره (1) من كلام الكفاية

ص: 231


1- الأصفهان ، المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 102 - الطبعة الأولى.

الّذي ردد في مراده بين ان يراد بالعنوان الاشتقاقي بلحاظ قيام مبدئه بالذات ، فذهب إلى أنه فرق بين ما كان مبدؤه قائما بقيام انتزاعي أو بقيام انضمامي. مما يظهر منه انه صحح كلام الكفاية في نفسه ، لكنه أورد عليه بعدم صحة تخصيصه بالعنوان القائم مبدؤه بقيام انتزاعي؟.

فهل فهم أنه يريد جريان الاستصحاب في العنوان نفسه؟ الّذي عرفت أنه لا موهم لكونه من الأصول المثبتة حتى يتعرض صاحب الكفاية لدفعه. أم فهم انه يريد جريان الاستصحاب في المعنون لترتيب آثار العنوان - كما قد يظهر ذلك من قوله : « فتلخص مما ذكرنا ... » وان لم يظهر من صدر كلامه - الّذي عرفت انه من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ وجود الذات يلازم وجود العنوان ، فكيف يثبت باستصحابها أثره؟. فتسليمه قدس سره ذلك لا نعرف له وجها.

وبالجملة : لم يتضح لنا مراد صاحب الكفاية ، كما لم يتضح لنا ما أفاده المحقق الأصفهاني وتبعه غيره (1). واللّه سبحانه هو العاصم.

اما الجهة الثانية : فقد تقدم في مبحث الأحكام الوضعيّة بيان عدم صحة جريان الأصل في الجزئية والشرطية ، لعدم قابليتهما للجعل ولا أثر عملي يترتب عليهما أصلا ، ولازمه عدم صحة جريان الأصل في ذات الجزء والشرط لترتيب الجزئية والشرطية ولا نعيد. فراجع.

وامّا الجهة الثالثة : فقد تقدم غير مرة - في مبحث البراءة ، وتأسيس الأصل في باب الحجية ، وفي مبحث استصحاب الأحكام الكلية - التعرض تفصيلا وإشارة إلى عدم جريان استصحاب عدم التكليف وبيان ما أثير حوله من إشكالات.

وعمدة ما يمكن ان يقال في منعه هو : ان دليل الاستصحاب اما ان يكون

ص: 232


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 171 - الطبعة الأولى.

متكفلا للتعبد ببقاء المشكوك رأسا. أو يكون متكفلا للأمر بمعاملة المتيقن معاملة البقاء ، ويكون هذا إرشادا للتعبد ببقاء المتيقن إن كان حكما ، أو حكمه ان كان موضوعا. وليس الأمر بعدم النقض امرا مولويا إلزاميا ، كيف والاستصحاب يجري في غير الأحكام الإلزامية من إباحة واستحباب وكراهة ، ولا معنى للإلزام بعدم النقض عملا في مواردها.

فإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الأول ، فمن الواضح ان التعبد بعدم شيء لا معنى له إذا كان معدوما حقيقة ، بل اعتبار العدم يعرض على الشيء بلحاظ فرض وجوده ، فيعتبر الموجود معدوما. وهكذا اعتبار الوجود انما يعرض على المعدوم ، وإلاّ فالموجود لا معنى لاعتباره موجودا.

وعليه ، نقول : ان التعبد بعدم الحكم المشكوك في حق الشاك لا يرجع إلى نفي التكليف الواقعي حقيقة وإلغائه رأسا ، فإنه خلاف المفروض في الأحكام الواقعية ، وانما يرجع إلى التعبد بعدمه ظاهرا يعني في حق الشاك بما هو شاك.

ومن الواضح أن الشاك بما هو شاك لم يثبت في حقه حكم كي يصح التعبد بعدمه. إذن فلا معنى للتعبد بعدم الحكم في حق الشاك للعلم بعدم ثبوت الحكم في حقه ، إذ الفرض انه لم يثبت إلزام شرعي ظاهري في مرحلة الشك.

وإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الثاني - كما قربناه فيما تقدم - ، فلا يشمل عدم التكليف ، وذلك لأن استفادة التعبد من الأمر بمعاملة المتيقن معاملة البقاء إنما كان بالملازمة العقلية أو العرفية ، بلحاظ كونه في مقام التشريع والجعل.

وهذا انما يتم لو فرض انه ليس هناك ما يقتضي المعاملة معاملة البقاء ، اما مع وجود ما يقتضي ذلك فلا تتم الملازمة ، وبدونها يكون المدلول المطابقي قاصر الشمول. وما نحن فيه كذلك ، إذ بعد فرض عدم تحقق الإلزام الشرعي الظاهري يكون مقتضى حكم العقل هو البراءة وعدم الكلفة بالنسبة إلى التكليف المشكوك ، ومرجع ذلك إلى معاملة عدم التكليف معاملة البقاء ، فلا مجال

ص: 233

حينئذ لشمول دليل الاستصحاب لعدم تحقق الملازمة المصححة لشمول الدليل لمورده.

وبذلك ظهر : ان دعوى جريان الاستصحاب في عدم التكليف لا ترجع إلى محصل ، وليس الوجه فيه ما قيل من انه تحصيل الحاصل ، أو من أردأ أنحائه. فقد عرفت التفصي عن ذلك ، بل العمدة ما ذكرناه هنا ، فتأمل فيه وتدبر.

ثم ان ارتباط هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت من جهة ملاكه وهو كون مفاد الاستصحاب التعبد بالأمور المجعولة دون غيرها ، حيث يقع الكلام في ان عدم التكليف قابل للجعل أو لا ، والأمر سهل.

التنبيه الثامن :

التنبيه الثامن : أشار صاحب الكفاية رحمه اللّه : إلى أن ما ذكر من عدم ترتب الآثار غير المجعولة على المستصحب ، وأو الآثار المجعولة المترتبة على اللازم غير المجعول المستصحب ، انما هو فيما كانت الملازمة للوجود الواقعي للمستصحب. اما إذا فرض ان اللازم العقلي لازم للأعم من الوجود الواقعي للمستصحب والوجود الظاهري ، كان مترتبا على المستصحب لا محالة ، لتحقق موضوعه واقعا وحقيقة ، وذلك مثل وجوب الإطاعة المترتب عقلا على ثبوت الحكم الشرعي الواقعي والظاهري ، فإذا ثبت الوجوب الشرعي بالاستصحاب ترتب عليه الحكم بوجوب الإطاعة قهرا (1).

وهذا الأمر واضح ، وكان ينبغي ان يجعل من توابع الأصل المثبت ، لا ان يفرد له تنبيه على حدّه. والأمر سهل.

التنبيه التاسع :

التنبيه التاسع : قد يتوهم ان المستصحب لا بد ان يكون حكما أو موضوعا ذا حكم في مرحلة الحدوث.

ولعل الوجه فيه هو ان الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي بضميمة

ص: 234


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /417- 418 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان مرجعه إلى جعل الحكم المماثل ، وهذا لا يصح إلا إذا كان المتيقن حكما شرعيا ، وإلا لم يكن الحكم المجعول في مقام الشك إبقاء شرعيا للمتيقن.

ولكنه توهم فاسد ، إذ لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان - أعني : عنوان الإبقاء - ، بل المأخوذ فيه هو عدم النقض عملا ومعاملة المتيقن السابق معاملة الباقي لاحقا ، وهذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن بقاء حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء ، ويكون المجعول حكما مماثلا للمشكوك على تقدير وجوده واقعا. ولا يعتبر ان يكون كذلك حدوثا ، لعدم تكفل الدليل للإبقاء ، بل للأمر بالعمل في مقام الشك عمل الباقي واقعا ، فانتبه.

ولعل إلى ما ذكرناه من وجه التوهم ودفعه ينظر صاحب الكفاية في تعليله بقوله : « وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل ، كما إذا قطع بارتفاعه يقينا » (1). فلاحظ واللّه سبحانه هو العاصم الموفق الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل (2).

التنبيه العاشر :

اشارة

التنبيه العاشر : (3) الشك تارة يكون في حدوث الحادث وعدمه. وأخرى يكون في تقدمه وتأخره مع العلم بحصوله في زمان خاص.

ص: 235


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /418- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- إلى هنا نقف عن الاستمرار في كتابة الدروس لأنا قد كتبنا التنبيهات الآتية إلى أواخر مباحث التعادل والتراجيح عند حضورنا دروس الدورة السابقة ، وقد رأيت الاكتفاء بالتنبيه على مواضع الاختلاف والزيادات في هذه الدورة على هامش الكتابات السابقة. والحمد لله تعالى شأنه أولا وآخرا ونسأله أن يوفقنا للعلم والعمل الصالح إنه سميع مجيب. وقع الفراغ منه الاثنين المصادف18/ ع 2 / 1393 ه . وأنا الأقل عبد الصاحب الحكيم.
3- ذكر قدس سره عند ما حضر درس المقرر له - دام ظله - في تاريخ 1 / 12 / 81 كان هذا التنبيه الحادي عشر ولكن بحسب ترتيب هذه الدورة فهو العاشر.

فالأوّل : لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه ، وهو محط الكلام سابقا.

والثاني : - وهو مورد الكلام في هذا التنبيه - : يدور الكلام فيه في محورين :

المحور الأول : ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، كالشك في حصول موت زيد يوم الجمعة مع العلم به في يوم السبت ، والعلم بعدمه يوم الخميس.

المحور الثاني : ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، كالشكّ في تقدّم موت المورث على إسلام الوارث أو تأخّره عنه ، مع العلم بتحققهما في يوم السبت وعدم تحققهما في يوم الخميس.

اما المحور الأول - وهو الشك بلحاظ اجزاء الزمان - ، فقد ذكر الشيخ (1) والمحقق الخراسانيّ (2) (قدس سرهما) : انه يجري استصحاب العدم فيه ، فيستصحب في المثال عدم الموت إلى يوم الجمعة ، اما بالنسبة للآثار الشرعية فهي ثلاثة.

الأول : الآثار المترتبة على عدم الموت يوم الجمعة ولا إشكال في ترتبها على الاستصحاب المذكور.

الثاني : الآثار المترتبة على الحدوث في يوم السبت ، والحال فيها يختلف لأن الحدوث اما أن يكون بسيطا أو مركبا فان كان الحدوث أمرا بسيطا ينتزع عن وجود الشيء في زمان وعدمه في زمان آخر فلا تثبت آثاره باستصحاب العدم إلى يوم الجمعة ، لأنه إنما يثبت العدم في يوم الجمعة لا أكثر ، فيكون من الأصول المثبتة بالنسبة إلى الحدوث. نعم مع القول بخفاء الواسطة عرفا في المورد ، وترتيب الآثار مع خفائها ، تترتب الآثار المذكورة على الاستصحاب. وإن كان الحدوث

ص: 236


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /387- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أمرا مركبا من وجود الشيء في زمان وعدمه في الزمان الّذي قبله ، ترتبت آثار الحدوث على الاستصحاب لثبوت الحدوث بإحراز أحد جزئية بالوجدان ، وهو الوجود في يوم السبت ، والآخر بالأصل ، وهو العدم في يوم الجمعة ، فيتم الموضوع ويتحقق فتترتب عليه آثاره.

الثالث : الآثار المترتبة على عنوان التأخر عن يوم الجمعة ، وهي لا تثبت لكون التأخر أمرا وجوديا بسيطا منتزعا ، فالاستصحاب مثبت بالنسبة إليه ، فلا تترتب عليه آثاره لعدم ثبوته بالاستصحاب إلا على القول بخفاء الواسطة عرفا وترتيب الآثار معه.

وامّا المحور الثاني - وهو الشك بلحاظ حادث زماني آخر - فتارة يجهل بتاريخ كلا الحادثين.

وأخرى يعلم بتاريخ أحدهما دون الآخر فالكلام في موردين :

المورد الأول : الجهل بتاريخ كلا الحادثين ، وقد ذكر له صاحب الكفاية رحمه اللّه أقساما أربعة :

القسم الأول : ان يكون الأثر مترتبا على الوجود بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن بمفاد كان التامة ، فقد ذكر رحمه اللّه ان الأثر ان كان مترتبا على الوجود الخاصّ لأحدهما فقد جرى استصحاب عدمه بلا إشكال. وان كان مترتبا على الوجود بكل أنحائه تعارض الاستصحاب ، لأن استصحاب العدم بأحد الأنحاء يعارض استصحاب العدم بالنحوين الآخرين. وكذا لو كان الأثر مترتبا على الوجود الخاصّ لكل من الحادثين ، فان استصحاب العدم في أحدهما يعارض باستصحابه في الآخر (1).

ولا بد من التعرض في هذا المورد إلى امرين :

ص: 237


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الأول : في بيان مراد صاحب الكفاية من ترتب الأثر على الوجود بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن بشكل نتحفظ فيه على جهتين :

إحداهما : كون الوجود المترتب عليه الأثر بمفاد كان التامة. والثانية : ملاحظة الخصوصية مع الوجود. وقد فسرت بوجوه ثلاثة :

الأول : ان الأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة والخصوصية مأخوذة ظرفا للوجود ، فيكون المعنى : ان الأثر مترتب على الوجود في زمان متأخر أو متقدم أو مقارن. فالأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة ولكن ظرفه هو الزمان المتأخر أو المتقدم أو المقارن. فالجهتان محافظ عليهما في هذا التفسير كما لا يخفى.

ولكن هذا التفسير غير مراد صاحب الكفاية قطعا ، لأنه قد حكم بجريان استصحاب العدم فيما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بنحو التأخر ، وانه يعارض استصحاب العدم فيما لو كان للوجود بنحويه الآخرين أثرا أيضا.

مع ان لازم هذا التفسير عدم جريان استصحاب العدم فيما لو ترتب الأثر على الوجود بنحو التأخر ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه ، لأنه في الزمان المتأخر يصدق ان أحد الحادثين موجود في زمان متأخر عن الحادث الآخر.

الوجه الثاني : ان الأثر مترتب على التقدم والتأخر والتقارن بمفاد كان التامة.

وهذا التفسير وان لم يرد عليه ما ورد على التفسير الأول لأن التأخر غير محرز ، ولكنه بعيد عن ظاهر عبارة الكفاية ، لأن ظاهرها كون الأثر مترتبا على الوجود بمفاد كان التامة بالنحو الخاصّ ، لا كونه مترتبا على النحو الخاصّ كما يتضمنه التفسير.

الوجه الثالث - وهو المختار - وبيانه : ان الأمور الانتزاعية تنتزع عن الذات باعتبار تخصصها بخصوصية غير زائدة في الوجود عن أصل الذات ،

ص: 238

فالفوقية تنتزع عن السقف باعتبار تخصصه بخصوصية ، وهذه الخصوصية غير زائدة عن ذاته.

والتقدم وأخواه من الأمور الانتزاعية التي تنتزع عن الوجود باعتبار خصوصية فيه غير زائدة عن ذاته.

فمراد صاحب الكفاية يكون : ان الأثر مترتب على حصة خاصة من الوجود إذا لوحظت انتزع عنها وصف التأخر أو التقدم أو التقارن ، وبهذا التفسير نكون قد حافظنا على كلتا الجهتين ، فالأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة ، والخصوصية من التقدم والتقارن والتأخر ملحوظة.

ولا يرد عليه ما ورد على التفسير الأول ، لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة بالنسبة إلى الحصة الخاصة المنتزع عنها وصف التأخر لإمكان ان يكون الوجود بنحو خاص ينتزع عنه عنوان التقدم في حدوثه ، فيمكن إجراء استصحاب العدم في صورة ترتب الأثر على الوجود بنحو التأخر (1).

الأمر الثاني : حول ما ذكره من المعارضة بين الأصول في صورة ترتب الأثر على الوجود بكل من أنحائه ، أو على وجود كل من الحادثين بنحو خاص.

فنقول : المعارضة في صورة ترتب الأثر على الوجود بكل من أنحائه مسلمة.

واما في صورة ترتيبه على وجود كل من الحادثين بنحو خاص فلا.

فان استصحاب عدم وجود الموت الخاصّ من التقدم مثلا لا يعارض استصحاب عدم وجود الإسلام الخاصّ ، لإمكان ان يكون وجودهما متقارنا.

القسم الثاني : ان يكون الأثر مترتبا على الوجود المتصف بالتقدم أو

ص: 239


1- في جريان هذا الاستصحاب إشكال يظهر مما تقدم في الإشكال في جريان استصحاب أول الشهر في بعض فروع الأصل المثبت. فراجع لكنه يبتني على ان لا تكون الخصوصية الانتزاعية من كيفيات وجود الذات بحيث ليس غير وجود الذات شيء آخر والصحيح هو ذلك.

التقارن أو التأخر بمفاد كان الناقصة. وقد حكم قدس سره بعدم جريان الاستصحاب في هذا المورد لعدم اليقين السابق.

ولكن في إطلاقه تأمل يتضح بتقديم مقدمتين :

الأولى : انه إذا أخذ أمران في موضوع حكم ، فتارة يؤخذان موضوعا للحكم بلا لحاظ أمر زائد عليهما ، بل الملحوظ في تحقق الأثر كونهما معا. وأخرى يؤخذان مع لحاظ امر زائد عليهما وهو تقيد أحدهما بزمان الآخر واتصافه به ، فيكون الموضوع هو الأمر المقيد بشيء وجودي أو عدمي.

ويصطلح على الشكل الأول بالتركيب ، وعلى الثاني بالتقيد.

المقدمة الثانية : قد ذكرنا سابقا ان الصفات المقيد بها موضوعات الأحكام ..

تارة : تكون لاحقة للحادث بمعنى انها عارضة عليه بعد حدوثه ، كالعدالة والعلم والشجاعة وغيرها. وجريان الاستصحاب في مثل هذه الصفات واضح لوجود حالة سابقة للحادث وهو عدمها ، فمع الشك فيها يستصحب عدمها.

وأخرى : تكون مقارنة لحدوثه ، بمعنى انه حين وجوده اما ان يكون متصفا بالصفة أو بغيرها ، بحيث لا تكون هذه الصفة مسبوقة بالعدم بعد حدوث الحادث ثم تعرض عليه ، كالقرشية وغيرها ، والعربية وغيرها.

والشك في هذه الصفات هو مورد استصحاب العدم الأزلي الّذي وقع الكلام فيه فيما إذا ورد عام ثم ورد خاص موضوعه مقيد بإحدى هذه الصفات ، وشك في فرد انه من افراد الخاصّ كي يشمله حكمه أو لا ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم الأمويين » وشك في فرد عالم انه أموي أو لا ، ولما كان العام لا يجوز التمسك به في الشبهة المصداقية ، فهل هناك أصل موضوعي يعين الوظيفة العملية؟. وقع الكلام في ذلك.

وينشأ الخلاف في جريان الاستصحاب العدم الأزلي في المورد ، من

ص: 240

الاختلاف في ان عنوان الخاصّ بعد وروده هل يستوجب تقيد الباقي بشيء أو لا يستوجب سوى أخذ عدم العنوان في موضوع حكم العام بنحو التركيب - المصطلح عليه بالعدم المحمولي في قبال العدم النعتيّ المأخوذ قيدا -؟.

فعلى الأول : لا يجدي استصحاب عدم الوصف في إثبات عدم تقيد الفرد ، واستصحاب عدم تقيد الفرد غير ممكن لعدم اليقين السابق بعدم تقيد هذا الفرد.

وعلى الثاني : يكون استصحاب عدم تحقق الوصف مجديا إذ لا نحتاج في إثبات حكم العام إلا إلى إحراز الجزءين ، فالاستصحاب يثبت أحدهما وهو عدم الأموي ، والجزء الثاني وهو العالم محرز بالوجدان فيتم الموضوع ويثبت الحكم.

وعليه ، فاستصحاب العدم الأزلي المصطلح انما يصح على القول بالثاني.

وقد اختار المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه الثاني كما هو صريح عبارته في مباحث العام والخاصّ (1). ولذلك أجرى استصحاب عدم القرشية في إدخال المرأة المشكوكة تحت حكم العام.

إذا عرفت هذا فتحقيق الحال في القسم الثاني بنحو يتضح به الإشكال على المحقق الخراسانيّ : ان الحكم فيه ..

ان لم يكن له تعلق بذات الموضوع ، بل لا علاقة للموضوع به الا كونه موضوعا له - كما لو قال : « إذا وجد زيد الهاشمي وجب عليك التصدق » - ، فاستصحاب العدم جار سواء قلنا باستصحاب العدم الأزلي أو لا : كما يستصحب عدم وجود زيد الهاشمي في نفي وجوب التصدق مع الشك ، وان لم يحرز ان هذا الفرد غير هاشمي (2).

وان كان له تعلق بذات الموضوع - مثل ما لو قال : « إذا وجد زيد

ص: 241


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- في جريان مثل هذا الاستصحاب إشكال يظهر مما ذكره - دام ظله - في البحث الأصل المثبت عند التعرض لجريان استصحاب أول الشهر فراجع. ( منه عني عنه ).

الهاشمي فأكرمه » - ، فان كان بنحو التخصيص لحكم عام آخر ، فاستصحاب العدم جار عند القائل باستصحاب العدم الأزلي كصاحب الكفاية. وان لم يكن بنحو التخصيص لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز عدم اتصاف هذا الوجود بهذا الوصف مع الحاجة إليه في إثبات الحكم الآخر له ، لأخذ العدم فيه بنحو التقييد لا التركيب. فقد ظهر لك ما في إطلاق صاحب الكفاية لعدم جريان الاستصحاب ، فان عدم جريانه يتم في الصورة الأخيرة فقط دون جميع الصور.

القسم الثالث : ان يكون الأثر مترتبا على أحد الحادثين متصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر بمفاد ليس الناقصة. وقد حكم صاحب الكفاية رحمه اللّه بعدم جريان الاستصحاب فيه لعدم اليقين السابق بحدوثه كذلك في زمان (1).

والكلام فيه عين الكلام الّذي عرفته في القسم الثاني (2).

القسم الرابع : ان يكون الأثر مترتبا على عدم أحدهما أو كل منهما في زمان الآخر بمفاد ليس التامة. وقد صار هذا القسم مجالا للكلام ومحطا للنقض والإبرام

وقد ذكر للمنع في جريان الاستصحاب فيه وجوه :

الوجه الأول : ما اختاره صاحب الكفاية رحمه اللّه من عدم جريان استصحاب العدم ، لعدم إمكان التمسك بعموم دليل التعبد بالاستصحاب في المورد ، لكون الشبهة مصداقية ، وذلك لاعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين في جريان الاستصحاب (3).

ص: 242


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لكن لا يجري فيه الإشكال المبني على استصحاب العدم الأزلي لأن الكلام في استصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان عنوان الخاصّ وجوديا كي يتقدم العام بعدمه لا ما إذا كان عدميا : كما إذا ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم من ليس بعادل » فانه لا يأتي فيه حديث التقيد بعنوان عدمي كما هو واضح. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /420- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمراد من زماني الشك واليقين هنا المعتبر اتصالهما هو المشكوك زمانا والمتيقن ، لا نفس صفة الشك واليقين. وهذا عند من يقول بكون كل من الشك واليقين في الروايات مأخوذا بنحو المرآتية عن المتيقن والمشكوك - كما عليه الشيخ رحمه اللّه (1) - فواضح. واما عند من يقول بان المراد منهما في الروايات صفتا اليقين والشك دون المتيقن والمشكوك ، فلأنه لا إشكال في عدم اعتبار تقدم زمان نفس اليقين على الشك ، فقد يتقدم الشك على اليقين ، وانما يصحح نسبة النقض إلى اليقين بلحاظ انتقاض المتيقن.

والوجه في اعتبار اتصال المشكوك بالمتيقن زمانا ، هو دخله في تحقق صدق النقض ، إذ بدون الاتصال لا يصدق النقض المنهي عنه. بيان ذلك : ان النقض انما يصدق في صورة ما إذا كان متعلق الشك ومتعلق اليقين أمرا واحدا مع إلغاء خصوصية الزمان الموجبة لتعلق الشك في البقاء واليقين بالحدوث ، بمعنى انه إذا غض النّظر عن اختلاف المتعلقين زمانا كانا أمرا واحدا ، وعند ذلك يصدق النقض عند عدم العمل بالمتيقن. ومع انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقن لا يتحقق النقض لعدم كون المتيقن والمشكوك أمرا واحدا حتى مع إلغاء خصوصية الزمان ، فمثلا لو علمنا بعدالة زيد عند الصباح ثم علمنا بفسقه حين الزوال ، ثم شككنا بعدالته بعد الزوال ، فالحكم بعدم عدالته بعد الزوال لا يعد نقضا لليقين بعدالته حين الصباح ولو مسامحة كي يشمله دليل : « لا تنقض » ، لأن المشكوك غير المتيقن. فالنقض لا يصدق بعد انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، بل انما يصدق في صورة اتصالهما.

وعليه ، فلا بد من اعتبار الاتصال كي يصدق النقض في مورده ، فيكون مشمولا للنهي العام. ولأجل ذلك لم تجر أدلة الاستصحاب مع الشك في الاتصال

ص: 243


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.

وعدمه ، للشك في صدق النقض حينئذ كي يشمله النهي ، وعدمه كي لا يشمله ، فتكون الشبهة مصداقية ويمتنع التمسك بالعموم فيها.

وقد حمل السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) كلام الآخوند على إرادة اتصال صفتي اليقين والشك لا المتيقن والمشكوك. ووجّهه : باستظهار ذلك من بعض روايات الاستصحاب الظاهرة في كون الشك متصلا باليقين ، كقوله علیه السلام : « إذا كنت على يقين ... فشككت » فان ظاهر الفاء كون الشك متصلا باليقين ومتأخرا عنه زمانا.

وأورد عليه : بان التعبير المذكور مبني على ما هو المتعارف والغالب في موارد الاستصحاب من تحقق الشك بعد اليقين ، فلا يصح التمسك به في إثبات اعتبار اتصال (1) اليقين والشك.

ولكن لا وجه لما ذكره ( حفظه اللّه ) بعد ما عرفت إرادته المتيقن والمشكوك لا صفتي اليقين والشك ، كي يستشهد له بالرواية ويورد عليه ، كيف؟ وقد جعل ظهور الرواية البدوي قرينة على إرادة قاعدة اليقين منها مما يكشف بوضوح ان خصوصية سبق اليقين غير معتبرة في الاستصحاب بتاتا ، فلا يحتمل في حق صاحب الكفاية انه يرى لزوم سبق اليقين واتصاله بالشك.

إذا عرفت هذا ، فذهاب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى عدم جريان استصحاب العدم المذكور انما كان لأجل عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فلا يحرز صدق النقض ، فلا يمكن التعبد بالاستصحاب لمصداقية الشبهة.

وتوضيحه : ان لدينا آنات ثلاث : الأول ، يحرز فيه عدم كل من الحادثين. والثاني : يحرز فيه حدوث أحدهما. والثالث : يحرز فيه حدوث الآخر. فكل منهما يحتمل حدوثه في الآن الثاني وفي الآن الثالث ، وزمان الشك في أحدهما هو زمان

ص: 244


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 183 - الطبعة الأولى.

وجود الآخر ، وهو مردد بين الآن الثاني والآن الثالث. فان كان الآن الثاني كان زمان الشك متصلا بزمان اليقين. وان كان الآن الثالث كان زمان الشك منفصلا عن زمان اليقين ، فينشأ التردد في حصول الاتصال وعدمه ، ومنه ينشأ التردد في صدق النقض ، ومعه لا يصح إجراء الاستصحاب كما لا يخفى.

وقد أورد عليه المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات - : بأنه لا مجال للتردد في حصول الاتصال وعدمه ، لأن الشك واليقين من الصفات الوجدانية التي لا تقبل التردد ، فلا معنى لحصول الشبهة المصداقية بالنسبة إلى الشك واليقين ، والشك هاهنا حاصل فيحرز الاتصال ويجري الاستصحاب (1).

وهذا الإشكال مبني على إرادة صفتي اليقين والشك من اليقين والشك في موضوع الاتصال ، لا المتيقن والمشكوك ، وتفسير اليقين والشك في المورد بذلك ، فان اليقين والشك من الأمور الوجدانية التي لا تقبل التردد. امّا بناء على تفسيرهما بالمتيقن والمشكوك - كما عرفت - فلا يرد هذا الإشكال ، لكونهما حينئذ من الصفات الواقعية التي تقبل الشك - كما اعترف به المحقق المذكور - فمنشأ الاختلاف هو الاختلاف في مراد صاحب الكفاية باليقين والشك في المقام ، فالمحقق النائيني تخيل بان المراد صفة اليقين وصفة الشك - عطفا على اليقين والشك المأخوذ في الروايات - فأورد عليه بما عرفت. ولكنك عرفت عدم إرادة نفس الصفة ، بل المتيقن والمشكوك ، للجزم بعدم اعتبار صاحب الكفاية تقدم زمان اليقين على زمان الشك. فالتفت.

هذا ، مضافا إلى انه لو فرض انه قدس سره يلحظ نفس وصفي اليقين والشك ، فلا يرد عليه ما ذكر ، وذلك لأن مدعاه الشك في اتصال زماني اليقين والشك لا الشك في نفس اليقين والشك ، فهو قد فرض حصول اليقين في زمان

ص: 245


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 429 - الطبعة الأولى.

وحصول الشك في زمان آخر ، وانما يشك في اتصال الزمانين. واتصال الزمانين ليس من الأمور الوجدانية التي لا تقبل الشك. فانتبه ولاحظ.

وهذا الّذي ذكرناه في بيان عبارة الكفاية هو أحد التفسيرات لعبارته المغلقة حيث فسرت بتفسيرات أخرى تعرفها فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وقد أورد على نفسه إيرادا تحت عنوان : « لا يقال ... » وحاصل الإيراد : ان اتصال زمان الشك بزمان اليقين محرز في المقام ، لأن زمان الشك هو مجموع الزمانين حيث يشك في حدوث كل من الحادثين في أحد الزمانين ، وهو متصل بزمان اليقين - أعني الآن الأول - ، وإذا استصحب العدم في مجموع الزمانين فقد ثبت العدم في زمان الحادث الآخر لعدم خروجه عنهما.

وقد دفع الإيراد المذكور بعبارة لا تخلو عن إغلاق (1).

وقد فسرت : بان مجموع الزمانين انما يكون زمانا للشك إذا لوحظ العدم مضافا إلى عمود الزمان ، اما إذا لوحظ مضافا إلى حادث آخر - كما هو المفروض - فلا يكون مجموعهما زمان الشك ، لأن زمان الحادث الآخر أحد الآنين لا كليهما ، وهو غير محرز فلا يحرز الاتصال.

وأورد عليه : بان كون الملحوظ إضافته إلى حادث آخر لا يضر في اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لأنه على تقدير كون زمان الحادث الآخر واقعا هو الآن الثالث فالآن الثاني أيضا زمان الشك في العدم ، لأن اختلاف اللحاظ لا يوجب عدم كونه زمان الشك ، وعدم كون التعبد في الآن الثاني موضوعا للأثر ، لا يضر لعدم اعتبار ترتب الأثر على الشك حدوثا بل بقاء وفي حال الاستصحاب.

ص: 246


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /420- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذا الإيراد انما يرد بناء على ما هو ظاهر العبارة من إمكان لحاظ العدم ، مضافا إلى أجزاء الزمان ، ومضافا إلى حادث آخر. غاية الأمر ان الإضافة إلى أجزاء الزمان غير ملحوظة ، والتفسير المذكور ناشئ من ذلك.

ولكنه خلاف المراد ، لأنّ مجموع الزمانين لا يكون زمان الشك في كل من الحادثين إذا لوحظ مضافا إلى اجزاء الزمان ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في الآن الثالث.

وعليه ، فلا يمكن لحاظ العدم مضافا إلى اجزاء الزمان ، لأن المفروض ان الأثر انما يترتب فيما إذا أمكن سراية التعبد إلى الزمان الثالث حتى يثبت العدم في زمان الحادث الآخر ، وهو لا يمكن في المورد للعلم بانتقاض الحالة السابقة. فلا بد من تقييد الزمان بخصوصية زائدة حتى يحصل الشك فيه ويسري إلى مجموع الزمانين ، وذلك يكون لفرض لحاظه بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر.

لسراية التعبد إلى الآن الثالث ، لاحتمال كون الحادث الآخر في ذلك الآن وفي الآن الثاني. وإذا فرض ملاحظة العدم بالإضافة إلى الحادث الآخر جاء النفي المدعى ، وهو عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، لتردد زمان الآخر بين الآنين الثاني والثالث ، فلا يكون الآن الثاني زمانا للشك على تقدير كون زمان الحادث الآخر هو الآن الثالث. فيتحقق انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، وحيث يتردد زمان الحادث الآخر بين الآنين لا يتحقق إحراز الاتصال ، فلا يصح إجراء استصحاب العدم إلى زمان الإسلام ، لعدم إحراز زمان الإسلام ، فلا يكون زمانا للشك رابطا بين الآن الأول والآن الثاني.

ومن هنا تعرف ان مراد الكفاية هو ان مجموع الزمانين مسلم الاتصال لو لوحظ العدم بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، ولكنه حيث لم يلحظ كذلك لعدم

ص: 247

إمكانه ولوحظ بالإضافة إلى حادث آخر لم يحرز الاتصال لتردد زمان الحادث الآخر بين الآنين.

ولعل الاشتباه في التفسير نشأ عما يتضمنه الإيراد من كون مجموع الزمانين زمان الشك في حدوث كل من الحادثين الظاهر في كون المجموع زمان الشك ، فقول المحقق الخراسانيّ : « نعم » يظهر في تسليمه ، والغفلة عن انه زمان الشك في الحدوث ، وهو مسلم إلاّ انّه هو غير محل الكلام ، لأن محله هو الشك في الحادثين لا في حدوثهما. فالإيراد لا يخلو عن المغالطة. فالتفت.

والموجود في تقريرات المرحوم الكاظمي قدس سره تفسير آخر لعبارة الآخوند رحمه اللّه ، بيانه : ان موضوع الأثر إذا كان مركبا من جزءين ، فالتعبد بأحد الجزءين انما يكون في صورة إحراز الجزء الآخر اما بالوجدان أو بالأصل ، إذ مع عدم الجزء الآخر لا يترتب الأثر على ذلك الجزء ، فيكون التعبد به لغوا لعدم الأثر فيه.

وفيما نحن فيه الموضوع للأثر مركب من جزءين : أحدهما : عدم الموت والآخر : زمان الإسلام. فمع عدم إحراز الإسلام لا معنى للتعبد بعدم الموت لعدم ترتب أثر عليه ، والإسلام محرز في الآن الثالث. فالتعبد بعدم الموت في زمان الإسلام على تقديره انما يصح في الآن الثالث ، لأنه زمان الشك حيث أحرز فيه الجزء الآخر وهو الإسلام المضاف إليه عدم الموت ، فيكون فيه شك بعدم الموت في زمان الإسلام. ولا يصح التعبد في الآن الثاني لعدم إحراز الإسلام فيه ، فلا يكون زمان الشك بعدم الموت بهذه الإضافة والاستصحاب غير جار في الآن الثالث لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لاحتمال كون الحادث في الآن الثاني هو الموت.

وأورد عليه : بان موضوع الأثر ان كان عدم الموت وزمان الإسلام بنحو التقييد ، فالاستصحاب غير جار ، ولكنه لا لأجل عدم اتصال زمان الشك بزمان

ص: 248

اليقين ، بل لأجل عدم اليقين السابق بالعدم المقيد بزمان الإسلام كي يستصحب. وان أخذ في الموضوع الأثر بنحو التركيب بان كان زمان الإسلام ظرفا لعدم الموت ، فزمان الشك متصل بزمان اليقين ، لأن الآن الثاني يشك فيه بعدم الموت أيضا ، فيكون كل من الآنين الثاني والثالث زمانا للشك. غاية الأمران الآن الثالث يفترق عن الثاني بإضافة الإسلام إليه ، وهو ليس فرقا أساسيا يوجب الاختلاف من ناحية التعبد بعدم الموت (1).

والكلام المذكور لا يخلو عن نظر في تفسيره وإيراده.

اما تفسيره ، فلان لازمه إحراز عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين الناشئ من جعل زمان الشك هو الآن الثالث. وعليه فلا تكون الشبهة مصداقية ، بل يكون المورد معلوم الخروج عن عموم دليل الاستصحاب ، مع ان صريح عبارة الكفاية كون المحذور عدم إحراز الاتصال والانفصال وكون الشبهة مصداقية.

امّا الإيراد ، فلا إشكال في عدم إرادة الشق الأول لكونه خلاف المفروض ، لأن المفروض كون الأثر يترتب على العدم في ظرف الإسلام بنحو التركيب ، فلا وجه لفرضه. والشق الثاني راجع إلى ما ذكر في الكفاية من الإيراد تحت عنوان : « لا يقال » من دعوى كون مجموع الزمانين زمانا للشك ، فلا معنى للإيراد به ، لأنه أجاب عنه بما عرفت ، فإذا كان الإيراد مسلما عنده فليكن الإشكال على الجواب لا إيراد نفس الإيراد.

وقد فسر المحقق الأصفهاني قدس سره عبارة الكفاية بعين ما ذكرناه من التفسير.

وأورد عليه : بان الاتصال المعتبر في إجراء الاستصحاب محرز ، وغير

ص: 249


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 517 - 521 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحرز غير معتبر. بيان ذلك : ان المعتبر انما هو اتصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بزمان المتيقن بما هو متيقن ، وليس المعتبر اتصال زمان ذات المشكوك بزمان ذات المتيقن ، لأن تحقق ركني الاستصحاب لا يتوقف على ثبوت المتيقن والمشكوك واقعا ، بل انما يتوقف على حصول اليقين والشك ، وكون المتيقن حاصلا في أفق اليقين والمشكوك حاصلا في أفق الشك ، ولو لم يكن لهما ثبوت واقعي أصلا. وإذا ثبت ان الأثر انما يترتب على المتيقن والمشكوك بما هو متيقن مشكوك ، كان المعتبر هو اتصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقن بما هو متيقن ، وهو محرز لأن المشكوك هو عدم الموت في زمان الإسلام ، وهذا الشك حاصل في الآن الثاني ، إذ لو التفت الإنسان في الآن الثاني إلى عدم الموت في زمان الإسلام ، فأما ان يحصل له اليقين به أو بخلافه أو يشك فيه. والفرضان الأولان منتفيان فيثبت الثالث وهو الشك ، فالآن الثاني زمان الشك أيضا ، فلا ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، واليقين بزمان الحادث الآخر لم يؤخذ جزء لموضوع الأثر وإلاّ لكان الموضوع معلوم الارتفاع لا مشكوكه - كي تكون الشبهة مصداقية - ، لعدم اليقين بزمان الحادث الآخر ، ومعه لا يتحقق أحد جزئي الموضوع ، فيعلم ارتفاعه (1).

ويورد عليه (2) : ان عدم الموت في زمان الإسلام اما ان يؤخذ بنحو العام

ص: 250


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 109 - الطبعة الأولى.
2- المناقشة فيما أفاده ( قده ) يتم ببيان أمرين : الأول : إنّ ما يكون دخيلا في موضوع الحكم تارة يكون دخيلا فيه بنحو تقييد بأن يكون الموضوع هو الحصة الخاصة المقيّدة به. وأخرى يكون دخيلا فيه بنحو الجزئية بأن يكون الموضوع مركّبا منه ومن الجزء الآخر. ويترتّب على الأول : أنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم سوى إحراز الحصّة الخاصّة فلا يلزم إحراز القيد نفسه. نعم يكون إحرازه قهريّا فيما كان إحراز الحصّة الخاصّة بالوجدان. وأما إذا كان بالتعبّد ، فهو لا يلازم إحراز نفس القيد ، ولا يلزم إحرازه لأنّ الأثر يترتّب على نفس. ثبوت الحصّة الخاصّة تعبّدا. ويترتّب على الثاني : أنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم إحراز كلا جزئي الموضور. ولذا يتعدّد التعبّد مع عدم إحرازهما بالوجدان ، وأما في صورة التقييد فلا يتعدّد التعبّد بل يكون هناك تعبّد واحد بالمقيّد. وجملة القول : قيد الموضوع لا يعتبر إحرازه في ترتّب الحكم ، وإنما يلزم إحراز التقيّد به. وأما جزء الموضوع فهو ممّا يعتبر إحرازه في ترتّب الأثر. الثاني : أن الأثر : تارة : يكون مترتّبا على الوجود الخاصّ للشيء بحيث تكون الخصوصيّة قيدا للوجود ، فاستصحاب عدمه يكون المقصود منه نفي الأثر المترتّب على الوجود. وأخرى : يكون مترتّبا على العدم الخاصّ بحيث تكون الخصوصية قيدا للعدم ، فيكون المقصود في استصحاب العام ترتيب الأثر. فالفرق : أنّ استصحاب العدم في القسم الأول لنفي الموضوع. وفي الثاني لإثباته وموارد ترتّب الأثر على العدم الخاصّ كثيرة في العرفيّات والشرعيات. ولا يخفى أنّه في القسم الأول يمكن إجراء استصحاب العدم مع الشك في الخصوصية ، إذ الوجود الخاصّ مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه. وأما في القسم الثاني مما كانت الخصوصية قيدا للنفي لا للمنفي ، فيشكل جريان استصحاب العدم في مورد الحادثين المجهولي التاريخ ، لأنّ العدم المقيّد بالخصوصية المجهول تاريخهما ليس له حالة سابقة ، إذ لم يكن متحقّقا مع الخصوصية في زمان كي يستصحب ، ولا الخصوصية مسبوقة بالعدم كما لا يخفى. إذا عرفت ذلك فيقع الكلام فيما نحن فيه مما كان الأثر الشرعي مترتّبا على عدم كل من الحادثين في زمان الآخر ، ومثاله الصحيح : هو ما ذا قسّمت تركة المورث وأسلم الوارث وشكّ في المتقدّم منهما. فإن عدم القسمة إلى زمان الإسلام يترتّب على إرث المسلم. وعدم الإسلام إلى زمان القسمة يترتّب عليه محروميّته من الإرث ، فالأثر يترتّب على عدم كلّ منهما في زمن الآخر. وقد عرفت أنّه ( قده ) فرض موضوع الأثر هو عدم الإسلام إلى زمان القسمة وبالعكس وأجرى استصحابه في الآن الثاني لأنّه مشكوك بعد اليقين به سابقا. وظاهر ذلك أنّه لاحظ الموضوع هو العدم المقيّد بزمان القسمة. ويرد عليه. أوّلا : إنّ الأثر لا يترتّب على العدم الخاصّ ، بلا دخل للخصوصية بل هو يترتّب على العدم مع الخصوصية فالموضوع مركّب من جزءين لا مقيّد ، إذ من الواضح أنّ عدم القسمة لا يترتّب عليه الإرث ما لم ينضم إليه الإسلام كما أنّ عدم الإسلام لا يترتّب عليه المحرومية من الإرث ما لم ينضم إليه تحقّق القسمة وعليه فمجرّد استصحاب عدم أحدهما في زمان الآخر في الآن الثاني لا ينفع في ترتّب الأثر ما لم ينضم إليه إحراز الجزء الآخر. وثانيا : لو فرض - جدلا - أنّ الموضوع هو عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو التقييد ، فهو من موارد كون التقييد راجعا إلى العدم نفسه ، فإنّ موضوع الأثر هو العدم الخاصّ لا الوجود الخاصّ. ومن الواضح أنّه لا حالة سابقة له كما عرفت في الأمر الثاني فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه ، ولو كانت له حالة السابقة بأن فرض تحقّق العدم في زمان الآخر كان الأثر مترتبا عليه من السابق فلا حاجة إلى الاستصحاب. فما أفاده فيما نحن فيه من إجراء الاستصحاب في العدم الخاصّ مما لا ينبغي صدوره من مثله ممن هو علم في التحقيق والتدقيق.

ص: 251

المجموعي ، بمعنى ان الإسلام قيد لعدم الموت ، فالأثر يترتب على أمر عدمي متصف بوصف وجودي ، بحيث يكون هناك شك واحد وإحراز واحد. وامّا ان يؤخذ بنحو التركيب وكون كل منهما جزء الموضوع للأثر ، فيكون هناك شكان أحدهما متعلق بعدم الموت والآخر بالإسلام.

فعلى الأول : وان صح ما ذكره من تعلق الشك بعدم الموت في زمان الإسلام في الآن الثاني ، لكنه أو لا خلاف المفروض كما عرفته.

وثانيا : لا يصح استصحابه لكونه غير مسبوق باليقين لعدم يقين سابق بعدم الموت المتصف بكونه في زمان الإسلام.

وعلى الثاني : فعدم الموت في الآن الثاني وان كان مشكوكا ، ولكن أثره انما يترتب مع إحراز زمان الإسلام في الآن الثاني كي يستصحب كما عرفت ، وهو غير محرز فلا يجدي الشك في عدم الموت في صحة إجراء الاستصحاب.

وقد تبين من هذا كله عدم ورود أي إشكال على عبارة الكفاية بناء على ما ذكرناه من التفسير. ومعه يتم المحذور الأول في جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ حاصله : كون زمان الشك عنوانا إجماليا هو زمان الإسلام - وليس هو مطلق الزمان - ، ويمكن انطباقه على كلا الآنين فلا يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فتكون الشبهة مصداقية.

الوجه الثاني : - من وجوه المنع من جريان الاستصحاب في القسم الرابع - :

ان زمان الشك بعدم الموت زمان خاص وهو زمان الإسلام ، وهو محتمل الحدوث

ص: 252

في الآن الثالث ، والموت معلوم الوجود في هذا الآن ، فإذا أردنا استصحاب عدم الموت إلى زمان الإسلام احتمل انطباق المتيقن على المشكوك ، لاحتمال كون زمان الإسلام هو الآن الثالث ، والموت معلوم الوجود فيه ، فيلزم التعبد بالعدم في زمان العلم بالوجود ، وهو غير معقول.

وقد ذكره بعضهم تفسيرا لكلام الكفاية (1). ولكنه أجنبي عنه كما لا يخفى.

وكيف كان ، فهذا المحذور صوري ، لأن المانع من احتمال كون التعبد في زمان اليقين لا يخلو امّا ان يكون لأجل ارتفاع موضوع التعبد وهو الشك. أو لأجل المناقضة بين التعبد المذكور واليقين التفصيليّ الموجود. أو لأجل شمول ذيل الرواية للمورد ، وهو : « ولكن تنقضه بيقين آخر ».

والأول ممنوع لوجود الشك ضرورة ، وذلك لأن الزمان الملحوظ في الاستصحاب هو زمان خاص وهو زمان الإسلام ، والعدم بلحاظه ليس متيقن الارتفاع. نعم بلحاظ أصل الزمان متيقن الارتفاع في الآن الثالث. ومجرد احتمال انطباق زمان الإسلام على الآن الثالث لا يمنع من تحقق الشك في العدم بالإضافة إلى زمان الإسلام.

والثاني انما يتم لو كان لليقين التفصيليّ أثر شرعي يتنافى مع الأثر المترتب على التعبد ، كما لو كان أثر اليقين بالموت وجوب الصدقة وأثر التعبد بعدمه حرمة الصدقة ، فمع التعبد بعدم الموت إلى زمان الإسلام مع احتمال كونه في زمان اليقين بالموت يحتمل اجتماع الضدين من وجوب الصدقة وحرمتها. وليس الأمر كذلك لأن اليقين بالموت في زمان الإسلام لو كان هو الآن الثالث لا أثر له شرعا. هذا مع انه لو فرض ترتب الأثر ، فهو بوجوده الواقعي لا يمنع من الحكم الظاهري على خلافه ، كما هو الحال في جميع موارد الأحكام الظاهرية ،

ص: 253


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لأن الأثر الواقعي على تقديره غير فعلي ، فلاحظ.

والثالث سيأتي الكلام فيه في المحذور الآتي.

وبالجملة : ما نحن فيه نظير ما لو علم بعدم وجوب إكرام زيد الفاسق وكان هناك شخص مشكوك في أنه زيد الفاسق أو لا ، فان التعبد بأنه ليس بزيد الفاسق ويجب إكرامه لا يتنافى مع احتمال انطباقه على من يعلم عدم وجوب إكرامه.

الوجه الثالث : ما ذكر بعنوان التفسير لعبارة الكفاية ، وبيانه : ان أحد الحادثين - وهو الموت مثلا - لما كان ملحوظا بالإضافة إلى الحادث الآخر ، وكان هناك علم إجمالي بحصول الموت اما في الآن الثاني أو في الآن الثالث. وعلم إجمالي آخر بحصول الحادث الآخر في أحد الآنين ، احتمال ان يكون الحادث الآخر - وهو الإسلام مثلا - قد حصل في الآن الثالث ، فيكون الموت قد حصل في الآن الثاني ، وهو مورد العلم الإجمالي.

وعليه ، فيحتمل ان يكون نقض اليقين السابق بعدم الموت ، قد انفصل بزمان اليقين الإجمالي وهو الآن الثاني ، فزمان الشك وهو زمان الإسلام لا يحرز اتصاله بزمان اليقين وهو الآن الأول ، بل يحتمل ان يكون قد انفصل باليقين الإجمالي الناقض ، لاحتمال ان زمان الإسلام هو الآن الثالث ، فيكون الآن الثاني هو زمان اليقين الإجمالي بالارتفاع.

وبالجملة : المورد من موارد احتمال انطباق ذيل الرواية ، فلا يصح الرجوع إلى العموم لكون الشبهة مصداقية لا يصح معها التمسك بعموم دليل الاستصحاب (1).

وهذا الوجه يقطع بعدم إرادته من العبارة من جهتين :

ص: 254


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأولى : انه يبتني على القول بعدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي.

وصاحب الكفاية لا يقول بذلك ، بل يقول بشموله لأطرافه - كما ستعرف الجهة الثانية : انه يقتضي ان يكون المورد من مصاديق ذلك الحكم - أعني : عدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي - ، فلا وجه لجعل المحذور في جريان الاستصحاب في المورد شيئا آخر برأسه - غير ذلك - ، وهو : « عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين » - كما هو صريح العبارة -.

ثم (1) ان المحقق العراقي رحمه اللّه بعد ما ذكر كلام الآخوند بهذا

ص: 255


1- تحقيق الكلام في هذا البيان وما أفاده المحقّق العراقي في ردّه أن يقال : أما أصل المحذور بالبيان المزبور فيدفعه أنّ قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ليس تقييدا لدليل الاستصحاب أو تخصيصا لعمومه ، فهو ليس بمنزلة الاستثناء أو الوصف ، بل هو بيان لحكم آخر مستقل ذكر بعنوان الاستدراك لما يتوهّم من عدم قابلية اليقين الحادث للنقض بتاتا - كما هو ظاهر قوله « لكن » - ومحصّل هذا الحكم هو بيان أنّ ما من شأنه النقض هو اليقين الآخر المخالف لليقين بالحدوث فلا يلزم منه تغيير موضوع دليل الاستصحاب وتقييده بل موضوعه على ما هو عليه بلا تغيّر. فلو فرض عمومه - أي الدليل - لليقين الإجمالي فهو يصطدم مع دليل الاستصحاب ويتنافى معه في مورد إحراز انطباقه ، مع إحراز انطباق دليل الاستصحاب ، فإنّه يتحقّق التهافت بين الدليلين - على ما قيل - نظير الدليلين المتعارضين ، ومقتضى التصادم هو التساقط ، لا أنّه يخرج مورده عن عموم دليل الاستصحاب رأسا - كما هو شأن الدليل المخصّص -. ومن الواضح أنّ التصادم إنّما يحصل مع إحراز انطباقه إمّا مع الشك في انطباقه على مورد الاستصحاب فلا يصادم دليل الاستصحاب ، لأنّه لا يكون حجة مع الشك في الانطباق ، فيكون دليل الاستصحاب حجة بلا مزاحم ، إذن فمجرد الشك في انطباق اليقين الإجمالي لا يضر بجريان الاستصحاب ، إذ لا تكون الشبهة مصداقية بالنسبة إلى عموم دليل الاستصحاب ، بعد أن لم يكون دليله مقيّدا بمفاد الذيل ، فتنبّه. وأما ما أفاده المحقّق العراقي في ردّه : فقد عرفت ما توجّه عليه ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده ( قده ) بأنّ نظره ليس إلى مجرد تعلق العلم الإجمالي بالصورة الذهنية وعدم سرايتها إلى الخارج كي يقال إنّ هذا الكلام متأتّ في العلم التفصيليّ بل الشك وغيره من الصفات النفسيّة التعلقية. بل نظره ( قده ) إلى أنّ تعلّق العلم بالصورة الذهنية يمنع من تحقّق النقض بالعلم الإجمالي. بيان ذلك : إنّ العلم والشك من الصفات المتضادة التي لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، فإذا كان متعلق الشك أو العلم هو الشيء بوجوده الخارجي فيما أنّه لا تعدّد فيه يمتنع أن يكون موردا للشك والعلم في آن واحد ، فإذا فرض تحقّق العلم الإجمالي ، وتعلّقه به لم يكن متعلّقا للشك. وبذلك يتحقّق انتقاض اليقين السابق. امّا إذا فرض تعلّق الشك أو العلم بالشيء بوجوده الذهني فيما أنّ الشيء يمكن أن يكون بلحاظ صورة الذهنية متعدّدا لتعدد العناوين المنطبقة عليه أمكن أن يكون متعلّقا للشك والعلم في آن واحد مع تعدد العنوان ، لاختلاف متعلّق الوصفين حقيقة - بعد أن كان هو العنوان والصورة الذهنية - فيكون متعلّقا للشك بعنوان ومتعلّقا للعلم بعنوان آخر. وعلى هذا الأساس يمكن أن يجتمع العلم الإجمالي مع الشك ولا ينتقض الشك به لأنّ متعلّق العلم هو الشيء بعنوانه الإجمالي ومتعلق الشك هو الشيء بعنوانه التفصيليّ. وإذا لم يكن العلم الإجمالي مناقضا للشك ورافعا له لم يكن ناقضا لليقين السابق لا محالة. ولذلك لم يكن العلم الإجمالي صالحا للنقض ، بخلاف العلم التفصيليّ فإنّه يتعلّق بما يتعلّق الشك فيه فيستلزم نقضه وارتفاعه فيكون ناقضا لليقين السابق. وبالجملة : مرجع ما أفاده ( قده ) إلى عدم صلاحية العلم الإجمالي لنقض اليقين السابق واختصاص اليقين الناقض باليقين التفصيليّ ، فإشكاله في المقام هو الإشكال في كبرى المسألة - بلا خصوصية للمقام - وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد العلم الإجمالي أو جريانه. وسيأتي تحقيقه في محلّه ، فتدبّر.

التفسير وأسهب في توضيحه. أورد عليه : بأنه انما يتم بناء على سراية العلم الإجمالي إلى الخارج ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فان العلم الإجمالي انما يتعلق بالصورة الذهنية للشيء - ويعبر عنها بالمعلوم بالذات -. أمّا الصورة الخارجية فهي معلومة بالعرض ولا يسري العلم إليها ، فهي في نفسها مشكوكة (1).

ولا يظهر لهذا الإيراد وجه وجيه أصلا ، فان الصورة الذهنية التي تعلق بها العلم تطابق الصورة الخارجية - ولأجل ذلك كانت الصورة الخارجية معلومة بالعرض - والمحذور المتأتي بناء على سراية العلم الإجمالي إلى الصورة الخارجية - وهو احتمال كون نقض اليقين باليقين لا بالشك - متأت من جهة المطابقة بين الصورتين ، فالمحذور تام على كلا الوجهين والبناءين.

ص: 256


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 211 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

نعم ، لو قلنا بعدم مطابقة الصورة الذهنية للصورة الخارجية ، وانه لا علاقة له بالصورة الخارجية لم يتأت المحذور. ولكنه لا قائل به ، لاستلزامه ارتفاع منجزية العلم الإجمالي بالمرّة وعدم أثر له خارجي أصلا.

وبعبارة أخرى : ان ما أفاده من عدم السراية متأت حتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ ، مع ان الالتزام بناقضيته ليست محل إشكال.

ويتحصل مما ذكرنا : ان ما ذكر في تفسير عبارة الكفاية غير تام لا في نفسه ولا بعنوان توجيه كلام الكفاية.

إذا عرفت هذا كله. فالحق في المقام عدم جريان الاستصحاب - كما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ قدس سره - لمحاذير ثلاثة :

المحذور الأول (1) : ما ذكره المحقق الخراسانيّ في الكفاية بالتوجيه الّذي ذكرناه.

ص: 257


1- قد يورد : على ما أفاده صاحب الكفاية بالتقريب الّذي بيّناه فإنّ الشك في اتّصال المشكوك بالمتيقّن لأجل تردّد زمان الحادث الآخر بين الآنين الثاني والثالث لا يضرّ بالاستصحاب ، لأنّه يمكن جرّ العدم من زمان اليقين إلى زمان الشك أيّ آن كان الثاني والثالث ، واحتمال ارتفاعه في الأثناء لا يضرّ في التعبّد بالبقاء لأن مرجعه إلى عدم تحقّق الانفصال نظير ما لو تيقّن بعدالة زيد صباحا ، وشك في تحقّقها ليلا لكونها مورد الأثر العملي ، واحتمل ارتفاعها ظهرا ، فإنّه من موارد احتمال الانفصال ، مع أنّه لا يضرّ بالاستصحاب جزما. ففي ما نحن فيه نقول : يمكن استصحاب عدم الإسلام - مثلا - إلى زمان تحقّق القسمة الواقعي واحتمال الانفصال لا يضرّ بعد ما كان مرجع التعبّد الاستصحابي هو التعبّد بالبقاء وعدم الانفصال. والجواب عن هذا الإيراد يتّضح بتقديم مقدمة وهي : أن مصادفة التعبد لما يخالف اليقين لا يضرّ في صحة التعبّد إذا لم يكن التعبّد بالحكم بالعنوان الّذي تعلّق به اليقين بالخلاف ، فمثلا لو علم بحرمة إكرام الفاسق ، وشك في زيد أنّه فاسق أو لا ، فإنّ التعبّد بجواز إكرامه بقول مطلق سواء كان في الواقع فاسقا أو ليس بفاسق لا ينافي العلم بحرمة إكرامه لو كان فاسقا ، وإن احتمل مصادفة مورد التعبّد لمورد العلم ، وذلك لأنّ الحرمة الثابتة المعلومة ثابتة لزيد بما هو فاسق ، والحلية الثابتة ثابتة له بما هو مشكوك مع قطع النّظر عن فسقه وعدم فسقه ، لأنّ مرجع الإطلاق إلى رفض القيود. فالحكم الظاهري لا يحتمل انطباقه على ما هو معلوم الخلاف فلم أنّ يبق سوى محذور اجتماع الحكمين المتضادين ، ولكنه. محذور سار في مطلق موارد الأحكام الظاهرية ، واتّضح اندفاعه في محله. نعم إذا كان التعبّد بالجواز على كلا تقديريه بنحو يكون كلاّ من تقديريه دخيلا في الحكم على تقدير تحقّقه ، بأن كان مباح الإكرام بما هو فاسق. أو بما هو ليس بفاسق كان ذلك ممتنعا لاحتمال كون الحكم الظاهري بالإباحة ثابتا لما يقطع بالحرمة بالنسبة إليه. وكما يمتنع جعل الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف ، كذلك يمتنع جعله مع احتمال انطباقه مع مورد العلم بالخلاف ، لتقدير موضوعه بغير العلم ، فلا يمكن الجزم به والحال هذه ، لأنّه مستلزم لاحتمال اجتماع المتنافيين وهو محال كالقطع به. إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الآن الثالث من الآنات الثلاثة يعلم فيه بتحقّق كلا الحادثين وارتفاع المتيقّن السابق. وعليه فإذا فرض التعبّد بالعدم إلى زمان الحادث الآخر على أيّ تقدير أي : سواء كان هو الآن الثاني أو الآن الثالث ، فمرجع ذلك إلى احتمال جرّ العدم أي الآن الثالث مضافا إلى الآن الثاني - لأنّ عموم الاستصحاب بلحاظ الزمانين شمولي لا بدلي فخصوصيّة الزمانين ملحوظة فيه لا ملغاة - كما في مثل التعبّد بجواز إكرام زيد سواء كان فاسقا أم عادلا - فمرجع الإطلاق هاهنا إلى ملاحظة كلا الزمانين لأنه شمولي. والمفروض أنّ العدم أنّ العدم في الآن الثالث معلوم الارتفاع ، فيلزم سراية التعبّد أي زمان يعلم فيه بعدم بقاء المتيقّن ، فيكون من التعبّد بالشيء مع العلم بخلافه ، وقد عرفت امتناع احتماله كامتناع الجزم به ، لأنّه جمع بين المتنافيين. فكيف يحتمل أن يسري التعبّد بالعدم إلى زمان العلم بارتفاعه الملازم للعلم بعدم التعبّد به؟. هذا إذا أريد جرّ العدم إلى زمان الحادث الآخر على كلا تقديريه بحيث أريد إبقاؤه إلى الآن الثالث. وأما إذا لوحظ العدم بالإضافة إلى زمان الآخر مع قطع النّظر عن كونه في هذا الآن أو ذاك ، بل لوحظ بحياله - كما هو ظاهر الكفاية - فمن الواضح أنّه زمان واحد مردّد بين آنين أحدهما متصل بزمان المتيقّن والآخر منفصل ، فيتأتى إشكال عدم إحراز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. والّذي يتحصّل : أنّه إن كان العدم ملحوظا بالنسبة إلى زمان الآخر بما هو أحد الزمانين الثاني أو الثالث بحيث أريد جرّه إليه أينما كان ، كان الإشكال فيه ما ذكرناه من احتمال مصادفته لمورد العلم بالخلاف - وهو الّذي تقدّم بيانه - وإن لوحظ بالنسبة إلى زمان الآخر الإجمالي مع قطع النّظر عن الزمانين الثاني والثالث ، جاء إشكال عدم إحراز تحقّق اتّصال زمان الشك بزمان اليقين الّذي هو ظاهر الكتاب. فالإشكال وارد على أيّ تقدير. هذا غاية ما يقرّب به كلام صاحب الكفاية ، فتأمّل فيه وفي أطرافه فإنّه لا يخلو عن دقة.

ص: 258

المحذور الثاني (1) : ان الأثر انما يترتب على عدم الحادث في زمان وجود

ص: 259


1- لا يخفى أنّ هذا الوجه مع الوجه الأول الّذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الّذي ذكرناه ليسا في عرض واحد ولا يردان على تقدير واحد ، بل كل منهما وارد على تقدير. وتوضيح ذلك : أنّ الموضوع للأثر المردّد بين أمرين تارة يكون له واقع خارجي مشخّص بأحد المشخّصات لكنه مردّد بين عنوانين يحتمل انطباق كل منهما عليه ، كما لو رأيت شيخا يتكلّم لكنّه كان مردّدا بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. وأخرى لا يكون له واقع مشخّص بل يكون واقعه مردّدا بين وجودين ، كما لو تردّد الجائي بين كونه زيدا أو عمرو. ففي الأول يكون موضوع الأثر وجودا معيّنا لكنّه مردّد بين عنوانين. وهو المرئي أو المسموع صوته ، فإنّ هذا العنوان يشير إلى واقع مشخّص. وفي الثاني يكون موضوع الأثر مردّدا بين وجودين ، كعنوان الجائي فإنّه لا يشير إلى واقع معيّن مشخّص بل يشير إلى واقع مردّد بين وجودين أحدهما زيد والآخر عمرو. والفرق بين الصورتين : أنّه في الصورة الأولى يمكن جعل هذا المردّد موضوع الأثر على كل تقدير وإن كان على أحد تقديريه لا يثبت له الحكم واقعا ، فيمكن الحكم في المثال المتقدّم بإكرام هذا المتكلّم سواء كان ابن زيد أو ابن عمرو. وإن كان حكم ابن زيد هو عدم وجوب الإكرام ، لتحقّق الشك في وجوب إكرام هذا الموجود فيتعبّد بوجوب إكرامه ، ولا يتنافى الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي المخالف له. وأما في الصورة الثانية ، فلا يمكن التعبّد بترتّب الأثر على كل تقدير إذا فرض أنّه غير ثابت له واقعا على أحد تقديريه. وذلك لأنّ المفروض أنّ العنوان يشير إلى وجود مردّد ، والوجود هو موضوع الأثر لا العنوان ، والمفروض أنّ الوجود على أحد تقديريه لا يشك في ثبوت الحكم له ، فلا يمكن التعبّد الظاهري بوجوب إكرام الداخل سواء كان زيدا أو عمرا ، لأنّه - مثلا - لو كان زيدا يعلم بعدم وجوب إكرامه فلا شك في الحكم بالنسبة إليه ، فكيف يتعبّد بوجوب إكرام الداخل - وهو عنوان مشير إلى أحد الوجودين - على كل تقدير بعد أن كان فردا مردّدا؟ والتعبّد فرع الشك. إذا اتّضح ذلك ، فنقول : إنّ موضوع الأثر فيما نحن فيه هو عدم التقسيم في زمان الإسلام - مثلا - ، وزمان الإسلام على الفرض مردّد مجهول الانطباق على أيّ الآنين - الثاني أم الثالث -. وعليه : فإن لوحظ زمان الإسلام مما له واقع مشخّص غاية الأمر أنّه يتردّد عنوانه ، نظير الشيخ المرئي المردّد بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. فالتعبّد بعدم القسمة في زمانه على كل تقدير لا محذور فيه كما عرفت ، لكن يجيء إشكال صاحب الكفاية من تردّد هذا الزمان بين زمانين أحدهما منفصل والآخر متّصل فلا يجوز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وإن لوحظ زمان الإسلام عنوانا مشيرا إلى وجود مردّد بين فردين وهما الآن الثاني والآن الثالث. كما هو الظاهر حيث أنّه لا واقع له سوى أحد هذين الآنين وهو بالنسبة إليهما من قبيل العنوان المشير وليسا هما بالنسبة إليه من قبيل العنوان إلى المعنون - جاء ما ذكرناه من الإيراد - في المتن - وهو أنّ العدم لا يشك فيه على كل تقدير من تقديري زمان الإسلام ، لأنّه على تقدير كونه الآن الثالث فهو منتقض ومتبدّل إلى الوجود قطعا. نعم هو مشكوك في الآن الثاني الّذي يحتمل بكون زمان الإسلام أيضا. فالشك فيه على أحد تقديري زمان الإسلام لا على كلا تقديريه ، فلا يمكن التعبّد به على كلا التقديرين ، والمتعبّد على أحد التقديرين لا أثر له شرعا لعدم إحراز الجزء الآخر ، وهو الإسلام معه وفي ظرفه. فظهر أنّ هذين الإيرادين لا يردان على تقدير واحد. والّذي يتلخّص في مقام نفي الاستصحاب في مجهول التاريخ في نفسه : أنّه إن كان زمان الحادث الآخر ذا وجود مشخّص غاية الأمر أنّه مردّد بين عنوانين ، لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وإن كان مردّدا بين وجودين ، لم يجر الاستصحاب لعدم الشك على كل تقدير. وعلى هذا التقدير يتفرّع الإيراد الثالث الّذي ذكرناه مفصّلا في المتن. وخلاصة المحذور فيه : أنّ عنوان زمان الحادث الآخر لا يصدق إلاّ مع العلم بتحقّقه لأنّ معنى زمان الحادث هو زمان تحقّق الحادث ، ولا يمكن الحكم على زمان بأنّه زمان تحقّق الحادث إلاّ إذا كان معلوم التحقّق فيه ، والآن الثاني لا يعلم أنّه قد تحقّق فيه الإسلام ، فإجراء أصالة عدم القسمة فيه لا يتحقّق به التعبّد بالعدم في زمان الإسلام بل في زمان احتمال الإسلام ، وهو غير موضوع الأثر ، فلا مجال لإحراز أنّه زمان الإسلام إلاّ بنحو يستلزم الدور وكون الأصل مثبتا فتأمّل في ذلك تعرف.

الحادث الآخر ، فموضوع الأثر مركب من عدم الحادث وجود الحادث الآخر.

والتعبد بأحد الجزءين لا يصح إلا في ظرف إحراز الجزء الآخر ، لا بمعنى ان التعبد لا بد وان يكون في ظرف إحراز الآخر ، بل بمعنى ان المتعبد به هو الجزء في ظرف يحرز فيه الآخر. وبعبارة أخرى : ان ظرف المتعبد به لا بد ان يكون زمان إحراز الآخر ، وان كان التعبد قبل الإحراز فالأثر انما يترتب فيما إذا أحرز عدم الحادث في ظرف يحرز فيه الحادث الآخر.

ولما لم يكن الشك في بقاء عدم الحادث بهذه الإضافة - أعني : إلى زمان الآخر على كل تقدير وبقول مطلق - لأنه على تقدير انطباق زمان الحادث الآخر على الآن الثالث لا يشك في بقاء العدم على هذا التقدير للعلم بانتفائه

ص: 260

وانتقاضه. نعم الشك في بقاء عدم الحادث حاصل مع تقدير فرض انطباقه على الآن الثاني ، للشك في العدم في هذا الآن دون الآن الثالث. فالشك في بقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ليس على كل تقدير ، بل على خصوص تقدير كون زمان الإسلام هو الآن الثاني. - امتنع جريان الاستصحاب في المورد ، لأن التعبد بعدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر في الآن الثاني ، لا يجدي في ترتب الأثر لعدم إحراز الحادث الآخر في هذا الظرف - لتردده بين الآنين - ، والتعبد به في جميع الأزمنة التي يحتمل وجود الحادث الآخر فيها بحيث يحرز تصادف العدم مع الحادث الآخر غير ممكن ، لانطباق الاستصحاب على الآن الثالث ، وقد عرفت عدم الشك فيه.

والحاصل : ان التعبد بعدم الحادث في زمان الآخر على تقدير دون تقدير لا يجدي في ترتب الأثر ، لعدم إحراز كلا الجزءين في ظرف واحد وعلى جميع التقادير غير ممكن ، لعدم الشك على بعض التقادير.

المحذور الثالث : وقبل بيانه لا بد من بيان شيء وهو انه هناك فروضا ثلاثة تذكر في الاستصحاب لها علاقة بما نحن فيه :

الفرض الأول : ان يكون موضوع الأثر تحقق بقاء الحادث إلى زمان حادث آخر ، وعلم إجمالا بحصول الحادث الآخر في أحد زمانين ، واحتمل بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر - المعلوم بالإجمال - ، فلا إشكال في استصحاب بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر.

الفرض الثاني : ان يكون موضوع الأثر كذلك ، ولكن كان الحادث الآخر محتمل الحصول في زمان معين كالزوال لا معلوما. فقد يتوهم جريان الاستصحاب في هذه الصورة باعتبار وجود الشك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر. ولكنه توهم فاسد يبتني على المغالطة ، فان صدق زمان الحادث الآخر - كزمان مجيء زيد - متقوم بإحراز الحادث الآخر - وهو المجيء - وثبوته ،

ص: 261

وإلاّ فلا يصدق سوى زمان احتمال مجيء زيد. فلا شك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر لعدم صدق : « زمان الحادث الآخر » ، فلا يجري الاستصحاب في المورد.

الفرض الثالث - وهو وسط بين الفرضين - : ان يكون موضوع الأثر كذلك أيضا ، وكان الحادث الآخر محتمل الحصول في زمان معين أيضا ، ولكن كانت هناك ملازمة واقعية بين بقاء الحادث كجلوس عمرو وحصول الحادث الآخر في ذلك الزمان المعين ، بمعنى ان الحادث لو استمر إلى ذلك الزمان لكان الحادث الآخر قد حصل في ذلك الزمان.

فهو كالفرض الأول من جهة وجود الملازمة التي نتيجتها حصول العلم بالحادث الآخر لو علم باستمرار الحادث ، ولا يبقى مشكوكا.

وكالفرض الثاني : من جهة الشك بحصول الحادث الآخر في ذلك الزمان المعين. واما من جهة صحة جريان الاستصحاب في هذا الفرض وعدم صحته ، فهو كالفرض الثاني ، لأن جريان الاستصحاب فيه يستلزم محذورين ، الدور وكونه مثبتا.

لأن موضوع الاستصحاب هو الحادث إلى زمان الحادث الآخر. وصدق : « الشك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر » يتوقف على إحراز الحادث الآخر ، لتقوم صدق : « زمان الحادث الآخر » بإحرازه - كما عرفت - ، فاستصحاب الحادث إلى زمان الحادث الآخر متوقف على إحراز الحادث الآخر ، مع ان الإحراز انما يكون به - أعني : بالاستصحاب - فيلزم الدور. كما انه يكون مثبتا بالنسبة إلى الحادث الآخر لأن ثبوته بالملازمة.

وبالجملة : فالاستصحاب غير جار لعدم إحراز الحادث الآخر من جهة تقوم صدق الشك بالحادث نفي زمان الحادث الآخر بإحرازه ، لا من جهة توقف ترتب الأثر عليه ، فالتفت.

ص: 262

إذا عرفت هذا ، فما نحن فيه من قبيل الفرض الثالث ، لما عرفت من ان الشك في بقاء عدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر ليس على كل تقدير ، لأنه في فرض انطباق زمان الحادث الآخر على الآن الثالث لا شك في العدم للعلم بانتفائه. نعم هو حاصل على تقدير انطباقه على الآن الثاني ، والحادث الآخر في هذا الآن محتمل الحصول لتردد حصوله بين الآنين.

وهناك ملازمة واقعية بين بقاء عدم الحادث وبين تحقق الحادث الآخر ، بمعنى ان العدم لو استمر إلى ما بعد الآن الثاني كان الحادث موجودا في الآن الثاني.

وعليه ، فلا يصح استصحاب عدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر - فيما نحن فيه - للزوم المحذورين. فالنكتة - فيما نحن فيه - في حصر زمان الشك الّذي يمكن التعبد فيه بزمان الحادث الآخر على تقدير انطباقه على الآن الثاني ، لا مطلقا ولو انطبق على الآن الثالث ، وإلاّ كان كالفرض الأول ، فيجري فيه الاستصحاب.

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في تقريب منع جريان الاستصحاب بنفسه في مجهولي التاريخ - ذكره البروجردي في تقريراته (1) -.

يشترك مع المحذور الثاني في وحدة المدعى من عدم إمكان التعبد بعدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر على جميع التقادير ، وما يمكن التعبد عليه من التقادير لا يجدي في ترتيب الأثر.

ويشترك مع المحذور الثالث بما ذكره - في تقريب المدعي - من ان التعبد بالمستصحب في زمان يحتمل انه زمان الحادث الآخر ، كما يدل عليه قوله : « وبعبارة

ص: 263


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 207 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أخرى : يكون الشك فيه من جهة الشك في كون الزمان الّذي حكم ببقاء المستصحب فيه هو زمان وجود غيره بلحاظ تردد زمانه بين الزمانين ».

ولكنه - في تقريب مدعاه - يختلف مع ما ذكرناه في أمرين :

الأول : ما ذكر من وجود شكين فيما نحن فيه : أحدهما : الشك بعدم الحادث بالإضافة إلى الزمان. والآخر : الشك في مقارنة البقاء التعبدي لزمان وجود الغير.

وظاهر كلامه كون هذين الشكين عرضيين ، بحيث يمكن حصول أحدهما دون الآخر. وعليه فيمكن حصول الشك في مقارنة البقاء لزمان الغير ولو أحرز البقاء بالإضافة إلى الزمان. مع انه قد عرفت - في بيان المحذور الثالث - انه لا يشك بالمقارنة على تقدير البقاء ، بل هناك علم بها للملازمة الواقعية بين بقاء الحادث إلى زمان وتحقق الحادث الآخر في ذلك الزمان.

الأمر الثاني : ما ذكره في بيان عدم إمكان جرّ المستصحب في جميع محتملات أزمنة وجود الغير التي منها الزمان الثالث من : ان الزمان الثالث زمان انتقاض اليقين بكل منهما بيقين آخر. مع ان اللازم هو التعليل بعدم كون الزمان الثالث زمان الشك - كما ذكرناه لانتفاء موضوع الاستصحاب - ، لا انه زمان اليقين بالخلاف ، لما عرفت في دفع أحد المحذورات من انه لا ضير في احتمال انطباق المستصحب على المتيقن.

إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ. ويتضح لدينا عدم إمكان جريان الاستصحاب فيهما أو في أحدهما بنفسه للمحاذير الثلاثة التي عرفتها.

المورد الثاني : ما كان أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهوله. فاستصحاب عدم المجهول إلى زمان المعلوم لا إشكال فيه لعدم تأتي أحد المحذورات الثلاثة فيه أصلا كما لا يخفى.

وانما الإشكال في جريان استصحاب عدم المعلوم إلى زمان المجهول.

ص: 264

وقد حكم الشيخ قدس سره في رسائله بعدم جريانه. بتقريب : ان الوجود بنفسه غير مشكوك في زمان أصلا والوجود في زمان وجود الغير لا يقين بعدمه سابق كي يستصحب (1).

وتقريب مدعاه يبتني على مقدمتين :

الأولى : ان الشك بالمعلوم بذاته غير موجود في زمان ، بل لا بد في تحققه من ضمّ خصوصية للمعلوم.

الثانية : انه مع ضم الخصوصية يكون الشك واقعا متعلقا بها لعدم الشك في الحادث أصلا ، وإضافة الشك إلى الحادث مع الخصوصية من باب المسامحة.

وعليه ، فلما لم يكن للاتصاف بالخصوصية حالة سابقة من وجود وعدم لعدم المتصف ، لم يجر الاستصحاب. ومع عدم ضم المقدمة الثانية لا يتم كلام الشيخ رحمه اللّه ، لأن ضم الخصوصية يوجب كون موضوع الشك هو الخاصّ ، والخاصّ بما هو خاص أمر حادث مسبوق بالعدم ، فيمكن استصحابه. فضم الخصوصية إلى الحادث لا يجدي ما لم يكن الشك في الواقع متعلقا بالخصوصية لا بالمجموع ، وإلاّ فالمجموع بما هو مجموع مسبوق بالعدم فيستصحب بمفاد ليس التامة.

وقد خالف المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية الشيخ ، لأنه حكم بالتفصيل لا بعدم جريان الاستصحاب مطلقا كما عرفت من الشيخ فانه - بعد ما ذكر : ان الأثر في المعلوم والمجهول تارة لوجود أحدهما بنحو خاص بمفاد كان التامة. وأخرى لوجود أحدهما المتصف بذلك النحو بمفاد كان الناقصة. وان الحكم في الأول جريان الاستصحاب مع عدم المعارضة. وفي الثاني عدم جريانه لعدم اليقين السابق بنحو ما عرفته في مجهولي التاريخ.

ص: 265


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /388- الطبعة الأولى.

ذكر صورة ما إذا كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر بمفاد ليس التامة ، فأجري الاستصحاب في طرف المجهول لاتصال زمان شكه بزمان اليقين دون طرف المعلوم. ببيان : ان الشك في المعلوم بذاته غير موجود في زمان ، وانما يحصل الشك فيه بضم خصوصية إليه وهي إضافته إلى زمان الآخر. ومعه ..

تارة : تؤخذ هذه الخصوصية مع الحادث بمفاد كان التامة ، بان يلحظ الوجود الخاصّ المحمولي وهو تحقق أحدهما في زمان الآخر.

وأخرى : تؤخذ بنحو كان الناقصة ، بان يلحظ الوجود المتصف بكونه في زمان الآخر.

فعلى الأول يجري استصحاب العدم ويترتب عليه الأثر. وعلى الثاني لا يجري لعدم الحالة السابقة (1).

وهذا الّذي ذكرناه هو مراده من قوله : « وقد عرفت جريانه ... » ، حيث لا تخلو هذه العبارة من إجمال وغموض في المراد.

وكأنه يحاول ان يبين ان ملاحظة الحادث المعلوم بالإضافة إلى الحادث الآخر موجبة لرجوع هذه الصورة إلى إحدى الصورتين الأولتين اللتين عرفت حكمهما وهما خارجان عما نحن فيه. ومن غير الإضافة لا شك في عمود الزمان فلا يجري الأصل.

ومن هنا يتضح ان المحقق الخراسانيّ قدس سره قد وافق الشيخ قدس سره في تقريب نفي الاستصحاب بأخذ الخصوصية في الحادث ، وان خالفه في النتيجة حيث حكم بالتفصيل لا بالعدم مطلقا.

وللمحقق النائيني - كما في أجود التقريرات - وجه آخر في منع جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، وهو جعل المورد من موارد حكومة استصحاب

ص: 266


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /421- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الجزء على استصحاب عدم الكل.

وتوضيحه : انه لو حصل الشك في الكل باعتبار الشك في الجزء. وأمكن استصحاب الجزء ، فلا مورد لاستصحاب عدم الكل حينئذ ، لأنه أصل مسببي ، واستصحاب الجزء أصل سببي ، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ، لأنه رافع للشك حكما. فلو شك في الصلاة مع الطهارة من جهة الشك في الطهارة ، وأمكن استصحاب الطهارة ، كان استصحابها حاكما على استصحاب عدم الصلاة مع الطهارة.

ولما كان ما نحن فيه من هذا النحو ، لأن الشك في وجود الحادث المعلوم في زمان الآخر ناشئ من الشك في تحقق الآخر المجهول في زمان الحادث المعلوم - وهو الزوال مثلا - ، فاستصحاب عدم تحقق الآخر المجهول عند الزوال حاكم على استصحاب عدم الحادث في زمان الآخر. ومن هنا يعلم ان الالتزام بجريان الاستصحاب في معلوم التاريخ يلزمه الالتزام بجريانه في سائر موارد الشك في الكل ، مع إمكان استصحاب الجزء ، لأنها من نحو واحد وبملاك واحد (1).

وقد عرفت عدم جريانه في جميع الموارد - لأنها مورد اخبار الاستصحاب - بملاك حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي. فإشكال المحقق النائيني قدس سره أشبه بالإشكال النقضي.

وقد يورد على الشيخ قدس سره في حصر الترديد بين شقين ومنع جريان الاستصحاب في كل منهما ، فلا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ أصلا - : بإمكان تصوير شق ثالث يجري فيه الاستصحاب ، وذلك بجعل الخصوصية المحصلة للشك في ظرف الزمان ، بان يضاف الحادث المعلوم إلى زمان خاص ، وهو زمان الحادث الآخر ، لأن هناك زمانا واقعيا قد تحقق فيه الحادث

ص: 267


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 426 - الطبعة الأولى.

الآخر فيلحظ الحادث المعلوم مضافا إلى ذلك الزمان الواقعي ، ويكون هذا الزمان جزءا للموضوع أو ظرفا لجزء الموضوع ، بان يكون الجزء الآخر هو الحادث الآخر ، فيكون الموضوع مركبا من ذاتي الحادثين أو من الحادث المعلوم والزمان الخاصّ ، ولا إشكال في تحقق الشك في الحادث إلى هذا الزمان بشهادة الوجدان ولما كان هذا الزمان مسبوقا بأزمنة متسلسلة قد تحقق فيها العدم يستصحب العدم إلى هذا الزمان للشك فيه في هذا الزمان.

فالخصوصية لم تلحظ في جانب الحادث ، وهو التقيد بزمان الآخر ، كي يقال بعدم الحالة السابقة. كما لم يلحظ الحادث مضافا إلى ذات الزمان ، كي يقال بعدم الشك فيه في زمان ؛ بل لوحظت في ظرف الزمان ، وحصل الشك وأمكن الاستصحاب.

فالمتحصل : ان حصر الترديد بين شقين لا وجه له ، لإمكان فرض شق ثالث يحصل فيه الشك ويكون موردا للاستصحاب.

ومن هنا تعرف الإشكال على المحقق الخراسانيّ قدس سره في تقريبه ، لأنه فيه قد وأفق الشيخ ، حيث حصر الترديد بين شقين أيضا وان خالفه في النتيجة - أعني : إجراء الاستصحاب - لما عرفت من تفصيله.

ومنه يظهر الإشكال (1) في نقض المحقق النائيني قدس سره المذكور ، فانه

ص: 268


1- تحقيق الحال فيما أفاده المحقّق النائيني : أنّ عدم جريان استصحاب عدم الكل في مورد استصحاب الجزء ليس لأجل الحكومة التي ذكرها وإلا أورد عليه بما ذكرناه في ذيل المبحث أنّ السببيّة والمسببيّة ليست شرعية بل عقليّة وهي لا تصحّح الحكومة كما لا يخفى. بل الوجه هو أنّ فرض الموضوع هو المركّب راجع إلى فرض الموضوع ذوات الاجزاء المجتمعة بلا أخذ خصوصية زائدة. وعليه فإن أريد من استصحاب عدم الموضوع بوصف الموضوعية فهو راجع إلى استصحاب عدم الحكم لأنّ موضوعية الموضوع عبارة أخرى عن ثبوت الحكم له ، وإن أريد استصحاب عدم ذات الموضوع ، فالمفروض أنّه عبارة عن الأجزاء بذواتها ، ولا شك فيها إلاّ في الجزء المفروض جريان الاستصحاب لإثباته لا لنفيه ، فليس هناك شك في الكل وراء الشك في الجزء كي يتأتّى حديث المعارضة أو الحكومة. نعم هنا شك في الأمر الانتزاعي وهو وصف مجموع الأجزاء لكنه ليس مورد الأثر نفيا أو إثباتا ، فلا مجال لجريان الأصل في نفيه. هذه خلاصة ما يقال في دفع الإشكال في موارد استصحاب جزء الموضوع لا ما أفاده من حديث الحكومة لما عرفت من عدم تماميّته. ثم أنّ ما نحن فيه ليس من هذا الباب ، وذلك لأنّ متعلق الشك فيما نحن فيه هو ثبوت عدم الحادث المعلوم في زمان الحادث الآخر الإجمالي ، ومن الواضح أنّ تعلّق الشك وتحقّقه لا يقبل الإنكار وليس من قبيل تعلّق الشك بوجود الكل الّذي يرجع في الحقيقة إلى الشك بوجود جزئه ، كما أنّ المشكوك هو مورد الأثر ، وبعبارة أخرى : أنّ المشكوك فيما نحن فيه ليس هو الكل بل هو ثبوت الجزء في زمان الجزء الآخر فالاستصحاب يجري في الجزء لا في الكل ، فلا يتأتّى فيه ما ذكرناه في ردّ استصحاب عدم الكل. ومن هنا يظهر أنّ الإشكال على المحقّق النائيني من ناحيتين : إحداهما : تقريب تقديم استصحاب الجزء على استصحاب عدم الكل ، والآخر : جعله ما نحن فيه من موارد الاستصحاب الجاري في الكل. وكيف كان : فموضوع الاستصحاب فيما نحن فيه هو عدم الحادث المعلوم - ونفرضه الإسلام - في زمان الحادث الآخر - ونفرضه التقسيم - ، وقد عرفت أنّ هذا المعنى متعلّق للشك ، وإن كان عدم الإسلام بلحاظ الأزمنة التفصيلية لا شك فيه أصلا. والّذي نراه أنّه لا مجال لإجراء الاستصحاب في المعلوم لأنّ المتيقّن أنّ فرض هو العدم السابق المتصل بزمان الحدوث كما لو كان زمان حدوث المعلوم أول الزوال فيفرض العدم في الآن السابق على الزوال المتّصل به ، فاستصحابه إلى زمان الحادث الآخر لا يحرز أنّه إبقاء له لاحتمال أن يكون زمان الحادث الآخر سابقا على زمان اليقين فإثبات العدم فيه لا يكون إبقاء للمتيقّن بل هو أشبه بالاستصحاب القهقرى. وإن فرض المتيقّن هو العدم السابق على زماني الحادثين كالعدم أول النهار فإنّه سابق على زمان الحادث الآخر جزما ، فبقصد جرّه إلى زمان الحادث الآخر. ففيه ما تقدّم من أنّ زمان الآخر مردّد بين زمانين ؛ أحدهما : متّصل بزمان اليقين ، والآخر : منفصل ، فلا يجوز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وبالبيان الثاني : لا يكون الشك في البقاء على كل تقدير بل الأمر هاهنا أوضح لأنّه على كلا التقديرين لا شك لديه لفرض العلم بلحاظ الأزمنة التفصيلية كلها على خلاف مورد الجهل بالتاريخ ، فراجع تعرف.

بناء على هذا التصوير يمكن التفريق بين المورد وبين مورد الشك في الكل من جهة الشك في الجزء ، لتحقق الشك فيما نحن فيه بعد فرض زمان واقعي لوحظ الحادث مضافا إليه. بخلاف تلك الموارد ، لعدم فرض زمان واقعي للطهارة لعدم

ص: 269

العلم بتحققها ، فلا شك في الصلاة في زمان الطهارة لعدم إحراز الطهارة ، وفي زمان احتمال الطهارة لا شك فيها لليقين بها فيه فلا ملازمة بين إجراء الاستصحاب في معلوم التاريخ وبين إجرائه هناك لحصول الفرق على هذا التصوير ، فلا وجه للإشكال على جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالنقض.

وقد ينفي إجراء الاستصحاب في هذا الشق بوجهين :

الأول : انه كما تلحظ الخصوصية في طرف الوجود لتحصيل الشك ، كذلك لا بد أن تلحظ في طرف العدم لذلك ، لأنه لا شك في العدم بالنسبة إلى ذات الزمان ، فيكون موضوع الأثر هو العدم في الزمان الخاصّ ، والعدم في الزمان الخاصّ لا حالة سابقة له كي يستصحب.

الوجه الثاني : انه على تقدير وجود الحالة السابقة ، فاستصحاب العدم إلى الزمان الخاصّ لا يجدي في إثبات الخصوصية ، وترتب الأثر يتوقف على إحرازها لأنها جزء الموضوع.

ولكن ينفي الوجه الأول : بان الزمان الخاصّ لم يؤخذ مع العدم بنحو التقييد - كما هو المفروض - ، كي يشكل بأنه لا حالة له سابقة. بل أخذا بنحو التركيب ، فالمستصحب هو العدم بذاته ، وهو متيقن في الأزمنة السابقة على الزمان الواقعي ، فيستصحب إلى زمان الشك وهو زمان الحادث الآخر.

ولو أخذ بنحو التقييد ، فلا مجال للحكم بعدم الاستصحاب مطلقا ، لجريان التفصيل الّذي عرفته في الإشكال على إطلاق المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه في القسم الثاني من مجهولي التاريخ ، فراجع.

وينفي الوجه الثاني : بأن تحقق الجزء الآخر وهو الإسلام أو الزمان الخاصّ معلوم ومحرز ، وانما المشكوك هو ثبوت الجزء الآخر وهو عدم الموت في ظرفه ، فمع استصحابه يتم الموضوع بتحقق كلا جزئيه ، ويترتب الأثر. ولا حاجة

ص: 270

إلى إحراز الخصوصية بالاستصحاب لأنها محرزة بغيره.

فالإيراد على هذا الشق المفروض بهذين الوجهين غير تام.

نعم ، يمكن الإيراد عليه بأنحاء ثلاثة :

النحو الأول : انه لا شك في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى زمان الحادث الآخر المجهول ، لأنّ الشك في هذا الفرض - أعني : عدم الحادث المعلوم التاريخ إلى زمان الحادث الآخر ، لا منشأ له إلاّ احتمال وجود الحادث الآخر قبل زمان الحادث ، - أعني الزوال -. وهذا الاحتمال على تقدير نشوء شك منه فلا ينشأ منه الا الشك في مقارنة عدم الحادث المعلوم لزمان الإسلام في مرحلة بقائه. اما الشك في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى ذلك الزمان فلا وجود له ، لأنه على تقدير تحقق الحادث الآخر قبل زمان الحادث المعلوم ، فلا يقال بان عدم الحادث استمر إلى زمان الحادث الآخر ، بل يقال انه صادف زمان الحادث الآخر في مرحلة بقائه. فتصوير الشك في بقاء عدم المعلوم إلى زمان المجهول لا يخلو عن نوع مغالطة فالتفت.

النحو الثاني : انه قد بيّنا فيما تقدم ان أدلة الاستصحاب تفيد ان الاستصحاب هو جرّ المستصحب ومده في ظرف الشك. وليس في استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان المجهول مدّ له في زمان أصلا ، لأنه معلوم الحدّ والمقدار.

النحو الثالث : ان التعبد بالشيء انما يكون بعد انقضاء اليقين به. ولما كان من الممكن ان يكون زمان الحادث الآخر المجهول قبل زمان الحادث المعلوم. فعلى تقدير كونه كذلك يكون استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان آخر مقتضيا للتعبد به قبل انقضاء اليقين بالمتعبد ، فكيف يصح هذا الاستصحاب؟!.

ومنه يتبين عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.

ص: 271

اما ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في تعليل عدم الاستصحاب في الموردين من حكومة الأصل الجاري في الجزء - لأنه سببي على الأصل الجاري في عدم الكل - لأنه مسببي - ، فهو غير تام. لأن حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي انما تكون في السببية والمسببية الشرعيتين لا غيرهما ، ومسببية الشك في الكل عن الشك في الجزء ليست شرعية بل تكوينية كما لا يخفى.

فالوجه في عدم جريان الاستصحاب في الكل مع نشوء الشك فيه عن الجزء هو : ان المفروض أخذ الجزءين موضوعا للأثر بنحو التركيب ، ومعناه لحاظ ذاتي الجزءين بدون لحاظ أي شيء زائد على ذاتيهما أصلا في مقام ترتيب الأثر.

وعليه ، فمع العلم بأحد الجزءين والشك في أحدهما لا شك في الكل ، بل التعبير بالشك في الكل مسامحي ، والمشكوك انما هو الجزء فقط. نعم لو أخذ بنحو التقييد كان الشك في أحد الجزءين موجبا للشك في تحقق الموضوع المركب. لكن المفروض خلافه.

إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ ومعلومه ومجهوله ويبقى الكلام في :

تعاقب الحادثين المتضادين

وموضوع البحث فيه : ما إذا علم إجمالا بحصول حادثين متضادين وشك في المتقدم والمتأخر منهما - كما لو علم بحصول الطهارة والحدث وشك في المتقدم منهما والمتأخر هل هو الطهارة أم الحدث؟ -. وذلك اما للجهل بتاريخهما أو بتاريخ أحدهما فالكلام في موضعين.

الموضع الأول : في مجهولي التاريخ.

والفرق بين هذه المسألة ومسألة مجهولي التاريخ المتقدمة : ان موضوع الأثر في هذه المسألة بسيط - وهو أحد الحادثين - لا مركب كما في تلك المسألة ،

ص: 272

لتضاد الحادثين ، فلا معنى لأخذ الموضوع مركبا منهما كما هو المفروض في تلك المسألة.

والّذي يظهر من كلام الشيخ رحمه اللّه جريان الاستصحاب في كل منهما وسقوطه بالمعارضة (1).

وقد ذهب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى عدم جريانه في كل منهما لذاته ، لعين المحذور السابق الّذي ذكره في جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ، وهو عدم إحراز اتصال زماني الشك واليقين - والمراد بهما المتيقن والمشكوك -.

إلا ان الفرق : ان عدم إحراز الاتصال المذكور هناك ناشئ من عدم إحراز زمان الشك لتردده بين الآنين مع إحراز زمان اليقين وهو الآن الأول. وهنا ناشئ من عدم إحراز زمان اليقين لتردده بين الآنين مع إحراز زمان الشك وهو الآن الثالث. ولأجل ذلك غيّر تعبيره بعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين إلى التعبير بعدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك (2).

ولم يذكر رحمه اللّه وجه عدم الإحراز. ولعل الوجه فيه : ان زمان الشك في البقاء انما هو الآن الثالث لا الآن الثاني ، لأنه ليس في الآن الثاني إلاّ احتمال الوجود فقط ، إذ لو كان الموجود في الآن الأول هو هذا الحادث فهو في الآن الثاني مرتفع لا محالة لحصول الحادث الآخر فيه. وان كان الموجود في الآن الأول هو الحادث الآخر فهو قد حدث في الآن الثاني. فعلى كلا التقديرين يكون الشك في الآن الثاني في الوجود لا في البقاء والشك في البقاء انما هو الآن الثالث.

وعليه ، فان كان الحادث قد حصل في الآن الثاني ، فقد اتصل زمان اليقين بزمان الشك. وان كان في الآن الأول فقد انفصل.

ص: 273


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /388- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /421- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وحيث لم يحرز حصوله في أحد الآنين المعين ، احتمل انفصال زماني اليقين والشك ولم يحرز اتصالهما ، فلا يصلح التمسك بعموم دليل الاستصحاب ، لعدم إحراز صدق النقض ، فتكون الشبهة مصداقية (1).

وقد حمل المحقق العراقي كلام الكفاية على احتمال تخلل اليقين الناقض - كما تقدم في مجهولي التاريخ -. وأورد عليه بما تقدم. ثم ذكر ما ذكرناه في تفسير كلام الكفاية على انه وجه مستقل ونسبه إليه في درسه (2).

وأنت خبير بان ما ذكرناه هو ظاهر كلام الكفاية ولا وجه لاحتمال غيره من العبارة.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني قدس سره ما ذكره صاحب الكفاية : بان ثبوت الشيء واقعا ليس ملاك الحكم الاستصحابي ، بل ثبوته العنواني المتقوم باليقين هو ملاك جريانه ، والمفروض ثبوت اليقين بالطهارة سابقا والشك في بقائها فعلا لا في حدوثها. وهكذا الكلام في الحدث. انتهى ملخصا (3).

وفيه : ان ما أفاده لا يعلم له معنى محصل ، لأنه وان لم يكن الاستصحاب متقوما بالوجود الواقعي ، إلاّ ان الحكم الاستصحابي حكم بالإبقاء وعدم النقض ، ومع احتمال تخلل اليقين بالعدم لا يحرز أن الحكم بالطهارة في زمان الشك إبقاء للطهارة وعدم نقض لها ، ومجرد تحقق اليقين بالحدوث والشك في البقاء لا ينفع في إحراز ذلك ، فتدبر.

وقد فسر السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) عبارة الكفاية بفاصلية اليقين بالارتفاع. وأورد عليه : بعدم اعتبار اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، بل ليس المعتبر إلا فعلية كل منهما (4).

ص: 274


1- لم يتعرض السيد الأستاذ ( دام ظله ) لهذه الوجوه في الدورة الثانية. ( منه عفي عنه ).
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 214 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 113 - الطبعة الأولى.
4- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 206 - الطبعة الأولى.

وقد عرفت توجيهه بغير ذلك مما هو خال عن الإشكال. كما عرفت اعتبار الاتصال ، والإيراد بعدم اعتباره ينشأ من توهم إرادة اتصال زمان صفة اليقين بزمان صفة الشك. وقد عرفت إرادة اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك ، كما تقدم الإشكال فيه حتى بناء على إرادة صفتي اليقين والشك فراجع.

وللمحقق العراقي وجوه ثلاث في منع جريان الاستصحاب فيما نحن فيه :

الأول : انه لا شك في البقاء أصلا ، بل هنا يقين اما بالارتفاع أو بالبقاء ، لأن الحادث ان حدث في الآن الأول فهو مرتفع قطعا. وان كان قد حدث في الآن الثاني فهو باق قطعا. وعلى تقدير وجود الشك في البقاء ، فهو ناشئ من الشك في كيفية الحدوث ، ودليل الاستصحاب صرفا أو انصرافا لا يتكفل جواز التعبد بالشيء إذا كان الشك فيه ناشئا عن التردد في كيفية حدوثه.

الوجه الثاني : وهو عين الوجه الأول ، إلاّ انه يختلف عنه من جهة وهي : انه فرض في الوجه الأول وجود الشك في البقاء ، ولكنه ناشئ عن الشك في كيفية الحدوث. وفرض في الوجه الثاني عدم الشك أصلا الا في كيفية الحدوث وما يرى من الشك في البقاء فهو حقيقة راجع إلى الشك في كيفية الحدوث وزمانه.

الوجه الثالث : ان منصرف دليل الاستصحاب إلى كون الزمان الّذي يراد جر المستصحب فيه بنحو لو رجعنا إلى الأزمنة السابقة عليه بنحو القهقرى ، لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب. وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ لا نعثر مع الرجوع القهقرى على زمان اليقين تفصيلا بالحدوث ، بل ينتهي المقام بنا إلى زمان عدم كل منهما ، فلا يجري الاستصحاب حينئذ. نعم بالنسبة إلى الأزمنة الإجمالية يمكن الاستصحاب لإحراز الاتصال بهذا النحو ، ولكنه لا

ص: 275

يجدي فيما كان الأثر مترتبا على البقاء التفصيليّ ، كصحة الصلاة بالنسبة إلى الطهارة (1).

ولكن هذه الوجوه غير تامة :

اما الأول : فلان دعوى الانصراف تمنع بدعوى الإطلاق ، فان الدليل يدل بإطلاقه على التعبد بالبقاء كيف ما كان.

واما الصرف ، فيحتاج إلى دليل يدل عليه ، لأن بقاء الصرف قصور الدليل بنفسه عن شموله للمورد ، فلا بد من صرفه إليه من قيام دليل عليه ، ولا دليل على صرفه إلى ما ذكره المحقق المذكور.

اما الثاني : فلأن الوجدان قاض بوجود الشك في بقاء كل من الحادثين.

واما الثالث : فلأن المراد من اليقين في أدلة الاستصحاب أعم من التفصيليّ والإجمالي ، ولا يختص بالتفصيلي. مضافا إلى انه يلتزم بجريان الاستصحاب فيما لو علم إجمالا بحدوث المستصحب في أحد زمانين واحتمل ارتفاعه في الزمان الثاني من حدوثه ، مع ان ما ذكر من عدم العثور على زمان اليقين بالحدوث تفصيلا جار فيه كما لا يخفى.

هذا كله في صورة الجهل بتاريخ كلا الحادثين المتضادين.

الموضع الثاني : في صورة العلم بتاريخ أحدهما ، كما لو علم بحصول الحدث أول الزوال وشك في تقدم الطهارة عليه وتأخرها عنه. فلا إشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ لعدم اختلال أي شرط من شروط الاستصحاب فيه - كما لا يخفى -.

وانما الإشكال في جريانه في المجهول.

والتحقيق عدم جريانه مطلقا ، إلاّ ان ملاك عدم الجريان يختلف باختلاف

ص: 276


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 215 - 216 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الموارد ..

فتارة : يكون الشك لأجل انحلال العلم الإجمالي بحصول الحادث في أحد الزمانين إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلا يقين بالحدوث ، وذلك كما لو علم بالطهارة - مثلا - عند الصباح وعلم استمرارها إلى الزوال ، ثم علم بحصول الحدث عند الزوال وعلم إجمالا بحصول الوضوء اما قبل الزوال أو بعده ، فيدور بين ان يكون تجديديا أو تأسيسيا.

وهذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيليّ بالطهارة عند الصباح ، لأنه علم تفصيلي بالطهارة قبل الصباح ، فلا يكون هناك الا شك بدوي بالطهارة بعد الزوال ، فالعلم الإجمالي المذكور لا يسبب يقينا بالطهارة كي تستصحب ، لأنه على تقدير لا يكون تأسيسيا بل تجديديا.

وأخرى : يكون لأجل عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، وذلك كما لو علم بالحدث عند الزوال ، وعلم إجمالا بحصول الطهارة اما قبل الزوال أو بعده - ولم تكن هناك طهارة سابقة - ، فالزوال والآن الّذي بعده الّذي يحتمل وقوع الطهارة فيه ليس زمان الشك في البقاء ، بل اما زمان العلم بالعدم - وهو الزوال -. أو زمان احتمال الوجود - وهو الآن الّذي بعده -. ولما كان من المحتمل حصول الطهارة قبل الزوال يحتمل انفصال زمان اليقين عن زمان الشك لتخلل زمانين بينهما ليسا زماني الشك في البقاء.

وقد ظهر ان الأمر في المعلوم والمجهول في الموضوعات البسيطة على العكس فيهما في الموضوعات المركبة ، فان الأصل هناك انما يجري في المجهول دون المعلوم وهاهنا بالعكس.

تتمة في بيان شيء

ذكر المحقق النائيني قدس سره في مجهولي التاريخ عند بيان المراد من

ص: 277

اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وانه قد لا يتضح في بعض الموارد ، فروضا ثلاثة حكم بجريان الاستصحاب في أحدها وبعدمه في الآخرين وبنى على ذلك بعض المسائل الفقهية التي وقعت محل الخلاف.

وبيانه بإجمال : - انه لو كان هناك إناءان غربي وشرقي ، وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ، وأصاب المطر أحدهما ، فهاهنا فروض ثلاثة :

الأول : ان يكون ما أصابه المطر مجملا مرددا بينهما على حد سواء ، فيعلم إجمالا بطهارة أحدهما غير المعين.

الثاني : ان يكون ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل ، كالإناء الشرقي مثلا ، فيعلم بطهارة خصوص الإناء الشرقي ، وكان متميزا حين العلم ثم اشتبه بالإناء الغربي.

الثالث : عين الفرض الثاني ، إلا ان الإناء الشرقي لم يكن متميزا حين العلم أصلا ، بل كان مشتبها بالآخر ، فهو وسط بين الفرضين كما لا يخفى.

ولا إشكال في سبق اليقين بالنجاسة بكلا الإناءين والشك في بقائها - على جميع الفروض - ، لعدم معرفة الطاهر منهما ، فكل منهما يشك في بقاء نجاسته المعلومة ، إلاّ انه مع ذلك لا يجري استصحاب النجاسة في كلها ، بل انما يجري في خصوص الفرض الأول ، لاتصال زماني اليقين والشك ، لعدم تخلل أي يقين بالخلاف بينهما ، لأن نسبة العلم بالطهارة إلى كل منهما على حد سواء ، لعدم أخذ أي خصوصية في متعلقه ، فكل منهما كان متيقن النجاسة والآن مشكوكها فتستصحب - مع قطع النّظر عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

امّا الفرض الثاني : فلا يجري فيه الاستصحاب بلا إشكال ، لانفصال زمان اليقين عن زمان الشك في أحدهما المعين ، لتخلل اليقين بالخلاف فيه ، فلا يمكن استصحاب النجاسة في كل منهما لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان يقينه من جهة احتمال ان يكون هو ذلك الإناء.

ص: 278

وامّا الفرض الثالث : فهو كالفرض الثاني في عدم جريان الاستصحاب لعين الملاك لتخلل اليقين بالخلاف في أحدهما المعين وهو الإناء الشرقي ، ولما كان كل منهما من المحتمل ان يكون هو الإناء الشرقي امتنع جريان الاستصحاب في كل منهما ، لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان يقينه.

وبالجملة : فالاستصحاب لا يجري إلاّ في الفرض الأول. خلافا للمرحوم الطباطبائي قدس سره صاحب العروة حيث حكم بجريانه في جميع الفروض كما هو ظاهر عبارته (1).

وبعد ان قرر المحقق النائيني رحمه اللّه ذلك فرع عليه عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه مسفوحا وبين كونه من المتخلف ، بناء على نجاسته مطلقا ولو قبل خروجه من البطن لعدم إحراز اتصال الشك باليقين زمانا ، للعلم بطهارة أحدهما المعين وهو المتخلف عند الذبح ثم اشتبه في الخارج ومثله الدم المردد بين كونه من بدن الإنسان أو مما امتصّه البق ، للعلم بطهارة ما امتصّه البق واشتباهه خارجا. هذا محصل كلامه قدس سره (2).

ولكنه انما يتم بناء على اعتبار وجود يقين سابق وشك لا حق في جريان الاستصحاب ، حيث يقال عليه : ان اليقين السابق قد انتقض باليقين بالخلاف ، فلا اتصال بين زماني الشك واليقين.

أما بناء على ما حقق من عدم اعتبار ذلك ، بل اعتبار خصوص وجود يقين بالحدوث وشك بالبقاء فعليين ولو حصلا في آن واحد ، فلا يتم ما ذكره لتحقق اليقين والشك الفعليين في الفروض الثلاثة جميعا ، ولا معنى لدعوى الاتصال أو الانفصال ، لعدم التعدد الزماني بينهما.

ص: 279


1- العروة الوثقى 1 / 511 مسألة 493 ( فصل في طريق ثبوت التطهير ) طبعة مدينة العلم.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 515 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ومن الغريب (1) ان المحقق المذكور لا يعتبر سوى فعلية اليقين والشك ، ثم يذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في الفرضين المذكورين ، فالتفت ولا تغفل واللّه سبحانه المسدد.

ص: 280


1- ما ذكرناه في الإيراد عليه ( قده ) هو الّذي ذكره غيرنا أيضا ، ولكن حمل كلامه على ظاهره من اعتبار اليقين السابق وعدم انتقاضه بيقين متأخّر عنه لا يمكننا الالتزام به لقرينتين : إحداهما : أنّه قد صرّح مرارا من أول الاستصحاب إلى هذا المبحث بل صرّح في هذا المبحث بالخصوص بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين إلاّ أنّ أحدهما يتعلّق بالحدوث والآخر بالبقاء وجعل هذا هو المائز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، ولا نحتمل في حقّه ( قده ) أنّه يعتبر اليقين السابق في الاستصحاب. والأخرى : ما ذكره من مثال الدم المحتمل كونه دم بق ، فإنّ الظاهر أنّه مثال لما هو المتعارف من وجدان الإنسان دما على ثوبه يحتمل أنّه من جرح بدنه أو أنّه من البق ، ومن الواضح أنّ الشخص في مثل ذلك لم يحصل له يقين بنجاسة فردي الدم ، ثم حصل له يقين بطهارة أحدهما وهو ما امتصّه البق ثم اشتبه الحال بين الفردين بل اليقين والشك فعليان ، حاصلان بالفعل من دون تقدّم زماني بينهما. فالمثال لا ينطبق على ما حمل عليه كلامه. ويمكن أن يوجّه ما أفاده وإن كان على خلاف ظاهر عبارة التقريرات ببيان مقدّمتين : إحداهما : أنّ اليقين الإجمالي الناقض لليقين السابق والرافع له هو اليقين بالنحوين الأخيرين دون الأول ، فلو علم تفصيلا بنجاسة كلا الإناءين ثم علم بطهارة أحدهما من دون مميّز أصلا لم يتحقّق انتقاض اليقين السابق بهذا اليقين ، فلا يمكن الإشارة إلى أحدهما واقعا والحكم عليه بأنّه متيقّن الطهارة. [ ظاهر كلام النائيني في التقريرات هو تحقّق العلم التفصيليّ - في الفرض الثاني - ثم عروض الاشتباه ، ولكن السيد الأستاذ دام ظله حمل كلتا الصورتين على الإجمالي والفرق في كثرة المميّزات وعدم الكثرة ، فانتبه ]. وهذا بخلاف ما إذا تعلّق اليقين الإجمالي بطهارة أحدهما مع مميّز له سواء كان تمييزه بالعناوين المتعدّدة التي يسهل تشخيصه تفصيلا ويكون مشابها للمعلوم بالتفصيل ، كما في الفرض الثاني أم بعنوان واحد كعنوان الإناء الشرقي - مثلا - كما في الفرض الثالث فإنّ مثل هذا اليقين يكون ناقضا لليقين بالنجاسة التفصيليّ ، إذ يمكن الإشارة إلى ذلك الإناء بعنوانه المميّز له والحكم عليه بأنّه قد ارتفع عنه اليقين بالنجاسة وتعلّق اليقين بطهارته. الثانية : أنّ دليل الاستصحاب يتكفّل اعتبار تعلّق اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وظاهره اعتبار فعلية كلا الوصفين ، فلا معنى لكون أحدهما ناقضا للآخر ، كما أنّه تكفّل الحكم بنقض اليقين باليقين الآخر ، وهذا غير متصوّر في باب الاستصحاب لاجتماع اليقينين في آن واحد. إذن فما معنى الحكم بالنقض وعدمه؟ الّذي يراد بالنقض كما عرفت هو النقض العملي ، وإطلاق النقض إنّما هو بملاحظة أنّ اليقين الآخر لو تعقّب اليقين الأول واتّحد متعلّقهما لكان ناقضا له ، فالمراد باليقين الناقض في باب الاستصحاب هو هذا الفرد من اليقين ، الّذي لو فرض تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأول وكان متأخّرا عنه كان ناقضا له ورافعا لوجوده ، وإلا فلا نقض حقيقة في باب الاستصحاب ، وأما غير هذا الفرد من اليقين فلا يكون مشمولا لقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر ». إذا عرفت هذا اتّضح مراده ( قده ) فإنّه اليقين الإجمالي في الفرض الأول حيث لا يصلح لنقض اليقين السابق التفصيليّ ، فلا يكون لوجوده أثر في المنع عن الاستصحاب لأنّه غير مشمول للذيل. بخلافه في الفرضين الآخرين لأنّه صالح لنقض اليقين السابق كما عرفت. فليس مراده اعتبار اليقين السابق كما توهّم ، بل مراده هو اليقين الفعلي المتعلّق بالحدوث ، وإنّ اليقين الإجمالي المقترن معه يصلح لنقضه في بعض الصور فيكون مشمولا للحكم بالنقض في الذيل. فيكون المورد من موارد الشبهة المصداقية للذيل ، فتدبّر جيّدا. هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلامه لكنّه مبنيّ أوّلا : على كون المستفاد من قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » حكما شرعيا مستقلا موضوعه اليقين بالنحو الّذي عرفته ، فيعارض الحكم الاستصحابي أو يقيّده. وأما بناء على كون المستفاد منه تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه وهو الشك كما يستفاد من قوله : « لا حتى يستيقن » فهو بيان لحكم إرشادي عقلي ، فلا يتمّ ما أفاده لأنّه لا يزيد على اعتبار الشك في جريان الاستصحاب ويكون متمّما لذلك. ومن الواضح أنّ الشك فيما نحن فيه موجود بالنسبة إلى كل من الإناءين ، فلا مانع من جريان الاستصحاب وتحقيق ذلك فيما يأتي إن شاء اللّه. وثانيا : على الفرق بين الفرض الأول والفرضين الآخرين ببيان أنّ العلم في الأول لا يرتبط بالخارج بل هو متعلّق بالجامع كما تقدّم في مبحث العلم الإجمالي ، وقد تقدّم منّا بيان ارتباط مثل هذا المعلوم بالإجمال بالخارج وإمكان الإشارة إلى أحدهما واقعا بواسطة منشأ العلم ، كوقوع المطر ونحوه ، فراجع. وثالثا : على تحقيق المراد باليقين الناقض وأنّه هل يختصّ باليقين التفصيليّ أو يعمّ غيره ، وعلى تقدير عمومه لغيره فهل يختلف الحال بين الفروض أو لا؟ وتحقيقه في محلّه إن شاء اللّه. ثم ليعلم أنّ مثال اشتباه الدم بدم البق إنّما يتمّ لو علم بامتصاص البق لدمه واحتمل أن يكون الدم الّذي يراه هو ذلك الدم الممتصّ ، وأما لو لم يعلم ذلك أصلا وإنّما احتمله احتمالا فلا مجال لهذا الكلام لعدم تحقّق اليقين الناقض فلا مجال إلا لاستصحاب النجاسة. هذا تمام الكلام في استصحاب مجهولي التاريخ ، ولا بأس في التعرّض إلى فرع ذكر في هذا المبحث وجعل من فروع المسألة وهو ما إذا علم بكريّة الماء وملاقاته للنجاسة وشك في أنّ الملاقاة سابقة على كريّة الماء فيكون نجسا - بناء على عدم طهارة الماء النجس المتمّم كرّا - أو أنّ الكريّة سابقة على الملاقاة فيكون الماء طاهرا. فقد ذكر أنّ هذا الفرع من مصاديق المسألة وذكر له صور ثلاثة ؛ إحداها : أن يجهل بتاريخ كل من الملاقاة والكريّة. والثانية : أن يعلم بتاريخ الكريّة دون الملاقاة ، والثالثة : أن يعلم بتاريخ الملاقاة دون الكريّة. وإنّ حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدمه هو ما تقدّم في مجهولي التاريخ ومختلفيهما. فمثلا تجري - في صورة الجهل بتاريخهما - أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فيتعارضان ويتساقطان بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في مجهولي التاريخ هو المعارضة ، كما أنّهما لا تجريان في أنفسهما بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في المجهولين في نفسه كما ذهب إليه صاحب الكفاية. أقول : هذه الصورة وإن كانت من موارد المجهولي التاريخ صورة لكنّها ليست منها اصطلاحا ، فإنّ موضوع البحث في مجهولي التاريخ - على ما تقدّم أن يكون موضوع الأثر هو عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو الموضوع المركّب ، والأمر ليس كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ عدم الكريّة والملاقاة موضوع مركّب للحكم بالنجاسة ، فيصحّ إجراء أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات الموضوع المركّب للحكم بالنجاسة ولكن عدم الملاقاة والكريّة ليس موضوعا للحكم بالطهارة إذ مع الكريّة لا أثر للملاقاة وعدمها فلا معنى لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، نعم عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة موضوع للحكم بالطهارة. وعليه نقول : بناء على ما حقّقناه من امتناع جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر في نفسه ، لا يصحّ جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة الّذي يقصد به إثبات عدم الكريّة في زمن الملاقاة. وأما استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فقد عرفت أنّه لا أثر له ولا معنى لجريانه لأنّ الأثر يترتّب على عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة ، لا على عدم الملاقاة في زمن الكريّة. نعم يصحّ إجراء أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة بالمعنى المساوق لإثبات عدم الملاقاة في زمن عدم الكريّة بأن لا يحاول جرّ المستصحب إلى زمان الكريّة بل جرّه وينتهي بزمن الكريّة ، فيكون المقصود من « إلى زمن الكرية » الانتهاء بزمن الكريّة لا السراية إلى زمانه وإثباته فيه ، إذ بذلك يخرج عن استصحاب المجهول الاصطلاحي ولا يتأتّى فيه المحذور المتأتّي في استصحاب مجهول التاريخ. ومنه يظهر الحال فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإنّه ، إن كانت الكريّة معلومة التاريخ دون الملاقاة جرى استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، ولا يجري استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ. وإن كانت الملاقاة معلومة دون الكريّة ، جرت أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة فيثبت بها الموضوع المركّب للنجاسة ، ولا يجري الأصل في عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ. فخلاصة الحكم في صور هذا الفرع هو الحكم بنجاسة الماء في صورة العلم بتاريخ الملاقاة. والحكم بطهارته في صورتي العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخهما. هذا بناء على ما التزمنا به في مجهولي التاريخ ومختلفيهما ، فراجع. وقد ذهب المحقّق النائيني ( قده ) إلى الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث : أما صورة الجهل بتاريخهما ؛ فلجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها النجاسة لإحراز الملاقاة بالوجدان وعدم الكريّة بالأصل. ولا مجال لجريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، لأنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كون الكريّة سابقة على الملاقاة ، والاستصحاب المزبور لا يثبت كون الكريّة سابقة على الملاقاة إلاّ بالملازمة. وأما صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكريّة ، فلعدم جريان أصالة عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ ، مضافا إلى كونه مثبتا. وجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها موضوع الحكم بالنجاسة. وأما صورة العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخ الملاقاة ، فلعدم جريان أصالة عدم الكريّة للعلم بالتاريخ ، ولا جريان أصالة عدم الملاقاة لكونه مثبتا ، فيرجع في المقام إلى عموم الانفعال بالملاقاة ، لا إلى أصالة الطهارة ، لما أسّسه ( قده ) من أنّه إذا ثبت حكم إلزامي للعام واستثنى منه عنوان وجودي ، كان المدار في الحكم بالتخصيص على إحراز ذلك العنوان ، فمع عدم إحرازه يكون المرجع هو العموم ، كما لو قال المولى لعبده لا تدخل عليّ أحدا إلاّ العالم ، فإنّه لا يجوز له إدخال مشكوك العالميّة عملا بأصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لثبوت حكم عام بانفعال ملاقي النجس ، وقد خرج منه عنوان الكرّ ، فمع الشك في كريّة الملاقي يكون المرجع هو العموم على الانفعال بالملاقاة. هذه خلاصة ما أفاده ( قده ) في المقام. أقول : قد يتساءل بأنّ أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة - في صورة الجهل بتاريخهما - وإن لم تكن مثبتة لورود الملاقاة على الكريّة ، لكنّها تنفع في إثبات الطهارة وعدم النجاسة ، إذ لا شك في أنّ عدم الملاقاة في زمان القلّة ينفي موضوع النجاسة وهو ملاقاة القليل ، فيكون الاستصحاب مجديا من هذه الجهة وهي نفي موضوع النجاسة وهي كافية في جريانه. فلما ذا أهملها المحقّق النائيني وحكم بعدم جريان الأصل؟ ويمكن أن يوجّه كلامه بوجوه : التوجيه الأول : أن يقال : أنّ الحكم بطهارة الماء الأوليّة وبحسب ذاته يزول بعروض ملاقاة النجس عليه وحينئذ فإن كانت الملاقاة عارضة على الكرّ حكم بطهارة الماء وإلاّ حكم بنجاسة. فالطهارة الثابتة بعد عروض الملاقاة حكم جديد غير الطهارة الثابتة للماء في حدّ نفسه وقبل عروض مقتضي النجاسة. وعليه ففيما نحن فيه بما أنّه يعلم بالملاقاة ، فطهارة الماء الأولية مرتفعة قطعا ، وإنّما يشك في ثبوت الطهارة التي موضوعها ملاقاة الكرّ. ومن الواضح أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة أو في زمان القلّة لا يثبت موضوع الطهارة فلا ينفع في إثبات الحكم بالطهارة. وهذا التوجيه لا يمكن الأخذ به وتشكل نسبته إلى المحقّق النائيني لوجوه : الأول : أنّه بناء عليه لا فرق بين القول باعتبار ورود الملاقاة على الكرّية وسبق الكريّة للملاقاة في تحقّق الاعتصام والحكم بالطهارة والقول بكفاية بينهما ، إذ استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات ملاقاة الكرّ سواء ان اعتبر تأخّر الملاقاة عن الكريّة أو لم يعتبر. مع أنّ ظاهر كلامه بناء عدم جريان الأصل المزبور على ما التزم به من اعتبار ورود الملاقاة على الكريّة بحيث لو التزم بالقول الآخر كان الأصل مجديا ، فكيف يمكن نسبة هذا الوجه إليه ( قده ). الثاني : أنّه بعد أن كان موضوع النجاسة هو ملاقاة غير الكر ، كان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمن الكرّية مجديا في نفي النجاسة وإن لم يجد في إثبات الطهارة ، فيترتّب عليه نفي الآثار المترتّبة على مانعيّة النجاسة. ولازم ذلك معارضته لاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة المثبت للنجاسة ، فإنّ الاستصحاب النافي والمثبت متعارضان. الثالث : عدم تمامية مبنى التوجيه ، فإنّ كون الطهارة المجعولة للكر الّذي لاقته النجاسة حكما آخر غير الطهارة الأصلية ، وإن كان ممكنا ثبوتا لكن مقام الإثبات لا يساعد عليه ، فإنّ ظاهر مثل قوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » : إنّ الكرّ لا ينفعل بالنجاسة فهو باق على طهارته بلا عروض مزيل عليها فالطهارة السابقة على الملاقاة والمتأخّرة عنها واحدة لا متعدّدة. التوجيه الثاني : أن إذا أخذ في موضوع الطهارة خصوصيّة سبق الكريّة أو لحوق الملاقاة وورودها على الكرّ بحيث كان موضوع الطهارة هو الملاقاة اللاحقة للكريّة أو المسبوقة بالكريّة ، فلا محالة يتقيّد موضوع الحكم العام بالنجاسة بعدم ذلك العنوان ، فيكون موضوع النجاسة هو الملاقاة غير المسبوقة بالكريّة. ومن الواضح أنّ أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لا تجدي في نفي موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة. وهذا الوجه لا يتأتّى بناء على القول بكفاية مقارنة الكريّة للملاقاة في عدم الانفعال ، إذ عليه لا يعتبر في موضوع الطهارة أزيد من ذات الأمرين الملاقاة والكريّة. فلا يكون موضوع النجاسة سوى الملاقاة والقلّة ، فيكون استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة مجديا في نفي النجاسة. ولكنّه كسابقه مما لا يمكن نسبته إلى المحقّق النائيني ( قده ) ، وذلك لأنّ لازمه عدم صحّة جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم كون موضوع النجاسة مركّبا بل مقيّدا كما عرفت. والأصل المزبور لا يثبت موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى. مع أنّه ( قده ) التزم بجريانه وترتّب النجاسة عليه ، مما يصحّ نسبته إليه ( قده ). التوجيه الثالث : أنّ موضوع الطهارة - بنظره ( قده ) - ليس هو الملاقاة المسبوقة بالكريّة ، بل هو ملاقاة ما كان كرّا في زمان سابق على الملاقاة ، فملاقاة الكرّ المتخصّص زمانه بهذه الخصوصيّة هي الموضوع للطهارة ولازمه أن يكون موضوع النجاسة هو ملاقاة ما ليس كرّا في زمان سابق على الملاقاة - أعمّ من كونه كرّا حال الملاقاة أو قليلا -. وعليه فاستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات الطهارة ولا نفي النجاسة إلاّ بالملازمة كما هو واضح. ولا معنى لجريان الأصل في عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة في زمان سابق على الملاقاة ، فإنّه خلف ولا محصّل له كما لا يخفى. وأما استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات النجاسة فلا مانع منه لأنّ مرجعه إلى استصحاب عدم الكريّة في الزمان السابق على الملاقاة ، فيثبت موضوع النجاسة ، وهو الملاقاة الثابتة بالوجدان وعدم الكريّة في زمان سابق عليها الثابت بالأصل. وهذا التوجيه متين ولا يخلو عن دقّة. ولكنّه إنّما ينفع في الحكم بالنجاسة على مسلك المحقّق النائيني الّذي التزم بصحّة الاستصحاب في مجهولي التاريخ في نفسه. وأما على ما حقّقناه من عدم صحّته في نفسه - لا من جهة المعارضة - فلا أثر لهذا البيان ، لأنّ غايته عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة ، إلاّ أنّه كما لا يجري هذا الأصل لا يجري الأصل الآخر المثبت للنجاسة وهو عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة. وإذا لم يجر الاستصحاب في كلا الطرفين فالمرجع قاعدة الطهارة. هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده في صورة الجهل بتاريخهما. وأما صورة الجهل بتاريخ الكريّة والعلم بتاريخ الملاقاة فقد عرفت منّا ومنه أن الحكم هو النجاسة ، فلا كلام. وأما صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والعلم بتاريخ الكريّة ، فقد عرفت أنّه ( قده ) حكم بالنجاسة بعد عدم جريان كلا الأصلين ، لتمسّكه بالعامّ الدال على لزوم الاجتناب على كل ما لاقى نجسا الّذي خرج منه عنوان وجودي وهو الكرّ ، للقاعدة التي أسّسها وبنى عليها كثيرا من الفروع الفقهية ، وهي أنّه إذا ورد عام يتكفّل حكما إلزاميا وخصّص ذلك العام بعنوان وجودي ، فمع عدم إحراز العنوان الوجوديّ للخاص يكون المرجع هو العام. ولأجل ذلك بنى على حرمة النّظر إلى من يشك كونها من المحارم عملا بعموم وجوب الغضّ عن النساء. وذكر أنّ هذه القاعدة عليها بناء العرف والعقلاء. والّذي يمكن أن يقال : هو أنّه لو سلّم تماميّة القاعدة المزبورة فهي لا تنطبق على ما نحن فيه وذلك لأنّ موضوعها كما أشير إليه هو ورود عموم يتضمّن حكما إلزاميا ثم يخصّص بعنوان وجودي. ومن الواضح أنّ الحكم الإلزاميّ فيما نحن فيه هو لزوم الاجتناب عن الماء النجس في الشرب مثلا ، فإنّه يحرم شرب الماء النجس كما يجوز شرب الماء الطاهر. ولا يخفى أنّ نسبة ما دلّ على جواز شرب الطاهر إلى دليل الحرمة ليس نسبة الخاصّ إلى العام إذ ليس لدينا دليل عام دال على حرمة شرب الماء بقول مطلق وخرج منه الطاهر. بل دليل الحرمة موضوعه الماء النجس رأسا ، كما أنّ دليل الجواز موضوعه الماء الطاهر ، فمع الشك في موضوع الحليّة وهو الطهارة لا معنى للتمسّك بدليل الحرمة بعد فرض عمومه لكل فرد من أفراد الماء. وبعبارة أخرى : ليس المورد من موارد الشك في مصداق المخصّص بل الشك في مصداق كلا الدليلين. وليس الملحوظ هو الحكم الوضعي وهو الطهارة والنجاسة كي يقال بأنّ لدينا عام يدل على انفعال كل ماء يلاقي النجس وقد خرج عنه الكرّ ، فمع الشك في الكريّة يرجع إلى عموم الانفعال إذ ليس الحكم الوضعي حكما إلزاميا كما هو واضح ، وقد عرفت اختصاص القاعدة بمورد تكفّل العام الحكم الإلزاميّ. فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه غير صحيح لما عرفت من أنّ دليل الحرمة ليس دليلا عامّا كي يرجع إليه عند الشك. هذا أوّلا. وثانيا : أنّه لو فرض أنّ دليل الحرمة دليل عام خرج عنه الماء الطاهر فإنّه يجوز شربه ، فقاعدة الطهارة تعيّن كون الفرد من أفراد المخصّص فلا مجال للرجوع إلى العام حينئذ. والخلاصة أنّه لا مانع من الرجوع في هذه الصورة إلى قاعدة الطهارة ، فتشترك مع الصورة الأولى في الحكم. وتنفرد الثانية عنهما. هذا تحقيق الكلام فيما أفاده ( قده ). وقد نوقش ( قده ) فيما أفاده في الصورة الأولى من عدم جواز الرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة بأنّ عدم الانفعال أخصّ من الطهارة. فإنّ الأول فرع وجود المقتضي للانفعال ، بخلاف الطهارة فإنّها قد تتحقّق مع عدم المقتضي رأسا كصورة عدم الملاقاة أصلا. وعليه فالأصل المزبور وإن لم يثبت عدم الانفعال ، لعدم إثباته كون الملاقاة واردة على الكريّة ، إلاّ أنّه ينفع في إثبات الطهارة لأنّه يثبت عدم الملاقاة في زمان القلّة ، والماء القليل غير الملاقي للنجاسة طاهر. كما نوقش ما أفاده في الصورة الثالثة من الرجوع إلى القاعدة المزبورة بأنّ القاعدة لا أساس لها إذ لا يمكن أن يفرض كون الإحراز دخيلا في الحكم الواقعي ، ضرورة عدم دوران طهارة الماء مدار إحراز ورود الملاقاة على الكريّة. كما لا يصحّ أن يكون الدليل متكفّلا للحكم الظاهري إذ يشكل أن يكون الدليل الواحد متكفّلا لحكمين مع اختلاف الموضوع والرتبة والطولية بين الحكمين ، مضافا إلى عدم الدليل على ذلك إثباتا. وأما ثبوت الرجوع إلى العموم في مسألة الشك في المحارم فهو بواسطة الرجوع إلى أصالة العدم الأزلي التي يلتئم بها موضوع الحكم للعام وهو حرمة النّظر ، لا من جهة تقيّد العنوان الخاصّ بالإحراز. هذه خلاصة بعض ما نوقش ( قده ) به. ولكن جميع ما ذكر قابل للردّ. أما ما ذكره من جريان أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لإثبات الطهارة ، فهو لا يخلو عن غرابة ، فإنّه بعد فرض كون موضوع الخاصّ هو الملاقاة الواردة على الكرّ - كما أفاده النائيني ( قده ) - فلا محالة يتقيّد موضوع العام بعدم ذلك ، فيكون موضوع النجاسة ، هو ملاقاة ما ليس بكرّ في زمان سابق ، من دون أن يؤخذ فيه عنوان وجودي كعنوان القليل أو نحو ذلك ، فملاقاة القليل بعنوانه ليس موضوعا للنجاسة. وعليه فمع العلم بالملاقاة كما فيما نحن فيه تكون أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة بما لا أثر لها لا في إثبات الطهارة ولا في نفي النجاسة ، كما تقدّم توضيحه. ونفي الملاقاة بقول مطلق مما لا يصحّ للعلم بتحقّقها. وأما مناقشة القاعدة ؛ فيمكن ردّها بالالتزام بأنّ الحكم المعلّق على الإحراز ظاهري ولا يتكفّله نفس الدليل بل الدليل عليه هو أصالة الظهور وبناء العقلاء على حجيّة العام في مثل ذلك ، فيكون التزاما بحجيّة العام في الشبهة المصداقية في خصوص هذه الموارد وهو مما لا محذور فيه. وأما الدليل عليه إثباتا فهو السيرة العقلائية على ذلك ، فانّها لا تكاد تنكر في أنّه إذا علّق الترخيص على عنوان وجودي لم يجز الرجوع إلى أصالة الإباحة عند الشك في المصداق بل يرجع إلى دليل التحريم ، وملاحظة الشواهد العرفية خير دليل على ما نقول ، وإذا ثبتت السيرة كفى في ثبوت القاعدة ، ولو لم يحرز منشؤها ، فإنّه لا أهميّة له. وأما دعوى الرجوع في مثال الشك في المحارم إلى أصالة العدم الأزلي فيردها : أوّلا : أنّ أصالة العدم الأزلي ليست مما يلتفت إليها العرف ويقتنع بها كيف؟ وهي تصوّرا وتصديقا محل الكلام الدّقيق بين الأعلام ، فلا يمكن أن يكون العمل العرفي مستندا إليها ، وإن كانت جارية في نفسها. وثانيا : إنّ المورد ليس من موارد الأصل الأزلي ، فإنّ مورده ما إذا كان هناك عام يخصّص بعنوان وجودي فيكون موضوع الحكم في العام مركّبا من عنوان العام وعدم الخاصّ ، فإذا جرت أصالة عدم الخاصّ يلتئم الموضوع بثبوت جزئية أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل. وليس ما نحن فيه كذلك ، فإنّ آية وجوب الغضّ لا تتكفّل في نفسها حرمة النّظر إلى كل امرأة بحيث يكون خروج المحارم بالتخصيص. ولذا لم يتوقّف أحد من المسلمين عند نزول الآية عن النّظر إلى أمه وأخته حتى يرد المخصّص ، وليس ذلك إلاّ أنّ المنظور بدوا في الآية الكريمة إلى الأجانب رأسا ، فلدينا موضوعان : أحدهما ؛ موضوع حرمة النّظر ، والآخر ؛ موضوع الجواز. ونفي أحدهما بالأصل لا يستلزم إثبات الآخر إلاّ على القول بالأصل المثبت. فالأصل الأزلي لا يجدي في إثبات موضوع الحرمة ، فتدبّر. ثم أنّ هذا القائل وإن التزم هنا بجريان أصالة الملاقاة إلى زمان الكرّيّة أو في زمان القلّة ، لكنّه أنكره في مباحثه الفقهية حين تعرّض لمسألة اختلاف المتبايعين في تأخّر الفسخ عن زمان الخيار وعدم تأخّره ، فإنّ الشيخ (رحمه اللّه) ذكر أنّ في تقديم مدّعى التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أوّل الزمان ، أو مدّعى عدمه لأصالة الصحّة ، وجهين. وقد ذكر القائل : أنّ هذه المسألة سيّالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلّقه مركّبا من جزءين وعلمنا بتحقّق أحدهما ثم بتحقّق الآخر مع ارتفاع الجزء الأول ، ولكن لم يعلم المتقدّم منهما على الآخر. كما لو شك في أنّ الفسخ وقع قبل انقضاء زمن الخيار أو بعده. أو شك في أنّ ملاقاة النجاسة للماء المسبوق بالقلّة هل وقع قبل عروض الكريّة أو بعده ، أو شك المصلّي المسبوق بالطهارة وعلم بصدور حدث منه في أنّ صلاته وقعت قبل الحدث أو بعده. والّذي بني عليه في تحقيق هذه المسألة : أنّه تجري أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ فيتمّ بها موضوع الحكم ، وهو الفسخ الثابت بالوجدان وبقاء الخيار المحرز بالاستصحاب. لأنّ الموضوع مركّب منهما ، واعتبر تقارنهما في الوجود لا أزيد. ولا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم تحقّق الفسخ في زمان الخيار ، لأنّ الفسخ قد تحقّق خارجا في زمان حكم الشارع بكونه زمن الخيار ، فلا شكّ لنا في تحقّقه في ذلك الزمان ليحكم بعدمه ، فأصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ترفع الشك في تحقّق موضوع الحكم فلا مجال لإجراء أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار. وإلاّ لجرى هذا الأصل في صورة الجهل بانقضاء زمن الخيار ، لا في تقدّمه وتأخّره عن الفسخ. فمثلا لو شك في بقاء الخيار وارتفاعه جرى استصحاب بقائه وبعد ذلك لو فسخ ذو الخيار ترتّب الانفساخ ، مع أنّه لو تمّ ما تقدّم من المعارضة لجرى في هذه الصورة استصحاب عدم تحقّق الفسخ في زمن الخيار ، وهو مما لا يلتزم به. والكلام بعينه يجري في سائر الموارد. ففي مورد الشك في تقدّم الكريّة على الملاقاة تجري أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ويترتّب عليها الحكم بالنجاسة ، ولا تعارض بأصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الكريّة. كما أنّه في مورد الشك في تقدّم الحدث على الصلاة تجري أصالة الطهارة إلى زمن الصلاة ويترتّب عليها صحّة الصلاة ، ولا تعارض بأصالة عدم الصلاة في زمن الطهارة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الحدث. هذا ما ذكره « حفظه اللّه تعالى » مما يرتبط بما نحن فيه. والّذي يظهر منه أنّه نفي الاستصحاب الجاري لنفي الموضوع ومعارضته للاستصحاب في إثباته لوجهين : أحدهما : حلّي ، وهو زوال الشك بجريان الأصل في إثبات جزء الموضوع مع إحراز الجزء الآخر بالوجدان. والآخر : نقضي وهو النقض بصورة الشك في أصل بقاء أحد جزئي الموضوع لا في تقدّمه وتأخّره كما هو مورد الكلام ، ولكن كلا الوجهين مردودان. أما الأول : فلأنّ زوال الشك المانع من جريان الاستصحاب إما أن يكون تكوينا ووجدانا وإما أن يكون تعبّدا ، ولا زوال للشك تكوينا ، إذ الشك في تحقّق الموضوع موجود بالوجدان حتى بعد جريان الاستصحاب كما لا زوال له تعبّدا ، إذ زوال الشك تعبّدا إنما يتحقّق فيما كان مجرى الاستصحاب موضوعا شرعيا للمشكوك ، فالاستصحاب نفيا أو إثباتا يتكفّل التعبّد بزوال الشك في الحكم ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، فإنّ الشك في تحقّق الجزء الآخر للموضوع وهو الفسخ في زمن الخيار مثلا ، ليس مسببا شرعا عن الشك في الجزء الآخر وهو الخيار في زمن الفسخ ، فلا يكون الاستصحاب في أحدهما رافعا للشك في الآخر تعبّدا. وإلاّ لأمكن أن نعكس الكلام فنقول إنّ أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار ترفع الشك في تحقّق الموضوع ، فلا تعارض بأصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ. وبالجملة : لا سببيّة ومسبّبية شرعيّة بين الشكّين ( بل لا سببيّة بينهما أصلا ) كما لا يخفى. وأما الثاني : فلأنّ الفرق بين موارد النقوض التي ذكرها وبين ما نحن فيه موجود ، وذلك لأنّه فيما نحن فيه يعلم بتحقّق كلا جزئي الموضوع بذاتهما كالفسخ والخيار ، لكن يشك في تقارنهما أو ارتفاع أحدهما قبل حصول الآخر. فكما يمكن إجراء أصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ فيتمّ الموضوع ، كذلك يمكن أن يجري أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار فينفي الموضوع بنفي أحد جزئية. وبعبارة أخرى : إنّ الشك في ارتفاع الخيار قبل حصول الفسخ يلازم الشك في تحقّق الفسخ في زمن الخيار فلدينا شكّان ولا مانع من جريان الاستصحاب فيهما ، فيتحقّق التعارض. وهذا بخلاف موارد النقض ، فإنّ المشكوك فيها أصل تحقّق الجزء الآخر مع إحراز أحدهما وتاريخه كالشك في الخيار مع إحراز الفسخ وتاريخه ، فمع استصحاب الخيار يثبت كلا الجزءين ويترتّب الأثر ، ولا معنى لاستصحاب عدم الفسخ في زمن الخيار ، لأنّ الفسخ يعلم تحقّقه في زمن الخيار التعبّدي وهو يكفى في ترتّب الأثر. والخيار الواقعي لا يعلم بثبوته كي يستصحب عدم الفسخ في زمانه. فمرجع الاستصحاب المزبور إلى استصحاب عدم المجموع ، وقد تقدم أنّه مع استصحاب الجزء لا مجال لاستصحاب عدم المجموع المركّب ، لأنّ المركّب الموضوع للأثر هو عين الاجزاء وليس شيئا وراءها ، والمفروض أنّه لا شك لدينا سوى الشك في الجزء الّذي يجري الاستصحاب فيه ، فلا مجال لاستصحاب عدم المركّب ، وهكذا الكلام في سائر موارد النقض. فخلاصة الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض ، أنّ الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الّذي يفرض معاضدته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الآخر ، وأما في موارد النقض فهو يجري في نفي المجموع المركّب ، وفرق واضح بينهما من ناحية المعارضة وعدمها ، إذ في ما نحن فيه لدينا شكّان وفي موارد نفي المجموع لدينا شك واحد هو مورد الأثر وهو الشك في وجود الجزء الّذي يجري فيه الأصل المثبت لا النافي ، فتدبّر ولا تغفل.

ص: 281

ص: 282

ص: 283

ص: 284

ص: 285

ص: 286

ص: 287

ص: 288

ص: 289

التنبيه الحادي عشر :

التنبيه الحادي عشر : حول الاستصحاب في الأمور الاعتقادية ، وانه هل يجري أو لا؟.

وقد أفاد المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية : ان الأمور الاعتقادية ..

تارة : يكون المطلوب والمهم فيها شرعا هو الانقياد ؛ وعقد القلب وأمثال ذلك من الأعمال القلبية الاختيارية.

وأخرى : يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.

امّا على الأول ، فلا مانع من جريان الاستصحاب مع تمامية أركانه حكما وموضوعا ، فإذا شك في بقاء وجوب الاعتقاد أمكن استصحابه ، وكذا لو شك في بقاء موضوعه أمكن استصحابه ، لصحة التنزيل وعموم دليل الاستصحاب ، لعدم اختصاصه بالاحكام الفرعية. ولا مانع منه الا ما يتصور من ان الاستصحاب من الأصول العملية. ولكن ذلك لا يصلح للمانعية ، لأن التعبير بالأصل العملي ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح. وانما هو تعبير اصطلاحي عبّر به الأصوليون عما كان وظيفة للشاك تعبدا ، لجعل الفرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع.

ص: 290

وعليه فيعم عمل الجوارح والجوانح معا.

وامّا في الثاني ، فالاستصحاب في الحكم جار - فلو شك في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب يستصحب البقاء ، ولا مانع منه ، ويترتب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به - دون الموضوع ، لأنّ المفروض كون المطلوب تحصيل اليقين به والاستصحاب لا يجدي في ذلك ، لعدم رفعه الشك إلاّ تعبدا ، كما لا يخفى. هذا ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس سره في المقام (1).

وهو ناظر إلى ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية بقول مطلق ، بتقريب : ان الاستصحاب ان اعتبر من باب الاخبار والتعبد ، فمع الشك يزول الاعتقاد ، فلا يصح التكليف به. وان اعتبر من باب الظن ، ففيه :

أو لا : ان الظن في أصول الدين غير معتبر.

وثانيا : ان الظن غير حاصل ، لأن الشك في العقائد الثابتة بالطريق العقلي أو النقلي القطعي انما ينشأ من تغير بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب (2).

والّذي يقصده الشيخ من زوال الاعتقاد مع الشك بالشيء الّذي يتعلق به فلا يصح التكليف به حينئذ : ان الاعتقاد مع الشك يزول قهرا وتكوينا ، فلا يمكن تحصيله ، لا انه يزول فعلا فيمكن الأمر بتحصيله بواسطة الاستصحاب.

وما ذكره رحمه اللّه في عدم إفادة الاستصحاب الظن ناظر إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية - كما لا يخفى ذلك من كلامه - ، لأن حصول الظن انما يكون لأجل غلبة بقاء المتيقن السابق ، فانها توجب الظن ببقائه ، وهذا انما يتأتى

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /422- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /390- الطبعة الأولى.

في الموضوعات الثابتة تكوينا ، لكون الشك فيها في بعض الموارد شكا في الرافع مع العلم بقابلية المقتضي للبقاء فيظن ببقائه نوعا. امّا الأحكام الشرعية فلا غلبة فيها ، لأن الشك دائما في قابلية المقتضي للبقاء ، ومعه لا يظن ببقائه - كما لا يخفى - ، لأن الشك في ارتفاع الحكم انما ينشأ من تغير بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في الموضوعية وعدمه ، لأنّه مع بقاء موضوعه بخصوصياته لا يرتفع جزما للزوم الخلف.

ولا يخفى عليك الفرق بين ما أفاده قدس سره وبين ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس سره حيث انه أطلق الحكم بعدم جريان الاستصحاب حكما وموضوعا. مع ان المحقق الخراسانيّ فصلّ الكلام بما عرفته وحكم بعدم جريانه موضوعا في خصوص ما كان المهم فيه تحصيل اليقين والمعرفة.

إلاّ انه لا يخفى ان مركز الخلاف بينهما قدس سرهما هو متعلق الاعتقاد لا الأعم منه ومن الحكم - أعني : وجوب الاعتقاد -. وذلك لأن كلام الشيخ رحمه اللّه يدور حول جريان الاستصحاب في متعلق الاعتقاد وغرضه نفيه فيه لا غير ، ويشهد لذلك أمران :

الأول : ان جريان الاستصحاب في الحكم لا منشأ للإشكال فيه ولا يتوهم أحد في صحة جريانه ، فهو جار بلا إشكال.

الثاني : ان التنبيه المذكور عقده في الرسائل لنفي التمسك باستصحاب النبوة.

وعليه ، فمراده من قوله : « الشرعية الاعتقادية » متعلقات الأحكام الاعتقادية المعبر عنها بالأمور الاعتقادية لا نفس الأحكام الاعتقادية ، كما فسره بذلك المحقق الخراسانيّ في الحاشية (1).

ص: 292


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /221- طبعة الأولى.

ومن هنا يظهر الوجه في تعرض المحقق الخراسانيّ للاستصحاب في الأحكام الاعتقادية وإثباته ، مع ما عرفت من عدم المنشأ للإشكال في جريانه ، فالتفت.

ولعل الوجه (1) في حكم الشيخ بعدم جريان الاستصحاب في الأول -

ص: 293


1- تحقيق الكلام في المقام بنحو يتّضح فيه الحال في كلمات الاعلام : أنّ الشك في مورد الأمور الاعتقادية تارة يكون في بقاء الحكم كما لو علم بوجوب الاعتقاد بحالة من حالات البرزخ أو القيامة ثم شك في بقائه. وأخرى يكون في بقاء الموضوع المترتّب عليه وجوب الاعتقاد أو اليقين. ففي الأول : لا إشكال في جريان الاستصحاب لإطلاق أدلّته وعدم الموهم لعدم جريانه سوى التعبير عنه بالأصل العملي ، وقد عرفت دفعه بما أفاده في الكفاية ، لكن لا يخفى أنّ ذلك مجرد فرض لا واقع له إذ ليس لدينا من الأمور الاعتقادية ما يشك في بقاء وجوب الاعتقاد به ، ولعلّه إلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : « وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ». وأما الشك في بقاء الموضوع فلا فرض له بحسب الظاهر سوى الشك في حياة الإمام عليه السلام. وإلاّ فسائر الأمور الاعتقادية استقبالية لم تحدث كي يشك في بقائها بالشبهة الموضوعية. ولا يخفى أنّ الشك في حياة الإمام عليه السلام فيها بالنسبة إلينا مجرد فرض لا واقع له. ولكن لا بأس بإيقاع الكلام فيه على سبيل الفرض فنقول : إنّ الأثر الملحوظ في حياة الإمام تارة يكون هو وجوب الاعتقاد. وأخرى يكون وجوب اليقين به. ويقع الكلام في جريان الاستصحاب بلحاظ كلا الأثرين .. أما جريان الاستصحاب بلحاظ ترتيب وجوب الاعتقاد فتحقيقه : أنّ الاستصحاب تارة يجري في حياة زيد مثلا - خاصة ، وأخرى في إمامته ، وثالثة في حياته وإمامته بنحو المجموع المركّب. أما جريان الاستصحاب في إمامته : فهو ممنوع للشك في موضوعها وهو الحياة ، إذ الإمامة متقوّمة بحياة الإمام فمع الشك في الحياة كيف نستصحب الإمامة. وأما جريان الاستصحاب في المجموع المركّب من الحياة والإمامة : فمع قطع النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب في المجموع المركّب بقول مطلق ، يمنع بأن المراد ترتيبه على ذلك هو وجوب الاعتقاد ، وهو لا يترتّب إذ الاعتقاد والإيمان بالشيء وإن كان من الأمور القلبية الاختيارية لكنها لا تحصل مع الشك ، بل هي تتوقف على اليقين ، فمع عدمه لا يمكن تحقّقه. ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يرفع الشك ، فلا يجب الاعتقاد لعدم اليقين الّذي يتقوم به. وذلك لأنّ اليقين إما أن يكون من قبيل شرائط الوجوب وإما أن يكون من قبيل شرائط وجود الاعتقاد الواجب. فعلى الأول : يكون عدم وجوب الاعتقاد مع الشك واضحا لعدم حصول موضوعه فلا ينفع الاستصحاب. وعلى الثاني : فقد يتخيّل أنّ وجوب الاعتقاد يترتّب على الاستصحاب وهو يدعو إلى تحصيل اليقين كسائر مقدمات الواجب. ولكن يندفع بأنّ الاستصحاب لأجل وجوب الاعتقاد يكون لغوا لأنّ ظرف داعوية الوجوب وتأثيره هو ظرف العمل الواجب ، ومن الواضح أنّه بعد تحصيل اليقين لا مجال للاستصحاب. وعليه فالوجوب الثابت بالاستصحاب في ظرف تأثيره وداعويته لا بقاء له وفي ظرف حدوثه لا داعوية له لعدم القدرة على متعلّقه. ومثل ذلك يكون لغوا محضا. وأما جريان الاستصحاب في الحياة خاصة ليترتّب عليها الإمامة وهي أمر شرعي ، فيترتّب وجوب الاعتقاد بها. ففيه : أولا : أنّه يتوقّف على كون الإمامة عبارة عن نفس السلطنة والولاية ويترتّب عليها نفوذ التصرّفات بحيث يمكن الحكم بفعليتها مع الشك الوجداني في الحياة ، وأما لو كانت الإمامة عبارة عن نفس الحكم بنفوذ التصرّفات فمن الواضح أنّ مثل ذلك يتوقّف على إحراز الحياة لكي يحرز صدور التصرّف أو قابليّته لصدور التصرّف منه. وأما مع الشك في حياته فلا معنى للحكم بنفوذ تصرفاته. فما نحن فيه نظير وجوب الإطعام الثابت لزيد ، فإنّه مع الشك في حياته لا ينفع استصحابها في ترتيب وجوب إطعامه لأنّ متعلّق الحكم لا يجوز إلاّ بإحراز الحياة. وليس نظير وجوب التصدّق على الفقراء على تقدير حياة زيد. وثانيا : لو فرض كون الإمامة عبارة عن أمر وضعي يترتّب عليه نفوذ التصرفات ، وغضّ النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب بناء عليه أيضا فإنّ له مجالا آخر ، فلا يجري الاستصحاب أيضا ، للشك المانع من تحقّق الاعتقاد. نعم لو بنى على أنّ الاعتقاد بالواقع يحصل مع الشك به ، يمكن إجراء الاستصحاب ليترتّب وجوب الاعتقاد ، لكنّه لا مجال للالتزام به كما أشرنا إليه. وأما جريان الاستصحاب في الحياة بلحاظ وجوب المعرفة واليقين. فالملحوظ في الاستصحاب تارة حدوث هذا الأثر وأخرى سقوطه. يعني : تارة يراد باستصحاب حياة الإمام ترتيب وجوب معرفته فيلزم على المكلّف تحصيل اليقين به وأخرى يراد به سقوط هذا التكليف من باب قيام الاستصحاب مقام اليقين والاستصحاب لا يجري بكلا اللحاظين ، أما لو كان الملحوظ هو حدوث التكليف بالمعرفة فلأنّ موضوع وجوب معرفة الإمام بعينه يترتّب على أصل العلم بأصل ثبوت الإمام وجعله من قبله تعالى ولا يترتّب على حياة زيد بعنوانه أو عمرو. فإجراء الاستصحاب في حياة زيد ليس إجراء له في موضوع الحكم الشرعي. وببيان آخر نقول : أنّ وجوب معرفة الإمام ثابت مع الشك ومع قطع النّظر عن الاستصحاب ، فلا أثر للاستصحاب في ترتيبه وحدوثه. وأما لو كان الملحوظ هو سقوط التكليف فلأنّ اليقين بالإمام مأخوذ بما هو صفة لا بما هو طريق ولذا يعبّر عنه بالمعرفة ، ومثله لا يقوم الاستصحاب مقامه. والخلاصة ؛ إنّ الاستصحاب الموضوعي في باب الإمامة لا مجال له على جميع تقاديره وفروضه. وبعد ذلك يحسن بنا التنبيه على بعض الجهات الواردة في كلمات الاعلام وهي متعدّدة : الأولى : ما أفاده الشيخ في نفي الاستصحاب لأجل عدم الاعتقاد مع الشك ، وما أفاده قد يبدو غامضا لأنّ مجرد عدم الاعتقاد مع الشك لا يمنع من ترتّب وجوب الاعتقاد المستلزم لوجوب مقدماته ومن جملتها اليقين. ولكن يتّضح كلامه بما ذكرناه في نفي الاستصحاب لترتيب وجوب الاعتقاد سواء كان اليقين من مقدمات الوجوب أو الواجب. الثانية : ما أفاده صاحب الكفاية في نفي الاستصحاب الموضوعي في مورد يطلب فيه اليقين ، وعلّله بوجوب تحصيل اليقين. فهل هو ناظر - في جريان الاستصحاب نفيا أو إثباتا - إلى ترتيب وجوب تحصيل اليقين أو إلى إسقاطه؟ والصحيح أنّه ناظر إلى إسقاط التكليف لا حدوثه كما يدلّ عليه قوله : « بل يجب تحصيل اليقين بموته ... » فإنّه لا معنى له لو كان الملحوظ في جريان الاستصحاب حدوث التكليف بوجوب تحصيل اليقين لأنّه هو الأثر المقصود بالاستصحاب فلا معنى لنفي الأصل وتعليله بلزوم تحصيل اليقين كما لا يخفى. ويدلّ عليه أيضا ما ذكره بعد ذلك من الاكتفاء بالاستصحاب إذا كان المورد من الموارد التي يكتفي فيها بالظن وكان الاستصحاب من باب الظن. وعليه فلا وجه لما ارتكبه المحقّق الأصفهاني من حمل كلامه على نظره إلى ثبوت التكليف ، فتدبّر. نعم قوله : « فلا يستصحب لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه » ظاهر في كون النّظر إلى مرحلة الثبوت لكن بعد صراحة ما بعده فيما ذكرناه لا بدّ من الالتزام بأنّ مراده من هذه العبارة « لأجل ترتيب أثر لزوم المعرفة » فلا تنافي ما بعدها. الثالثة : قد عرفت الإشارة إلى أنّ الشك في الاعتقاديات من حيث الحكم مجرد فرض لا واقع له. ولكن ذكر المحقّق الأصفهاني أنّه يتمّ في طرف الوجود لا في طرف العدم. كما لو شك في حدوث تكليف اعتقادي بشأن من شئون المحشر ، فينفي بالاستصحاب لعدم ثبوته قبل الشريعة أو في أوائلها. وأنت خبير أنّ الاستصحاب الّذي يختلف الحال فيه وجودا وعدما هو استصحاب نفس التكليف لا عدمه ، إذ استصحاب العدم يتّفق مع أصالة البراءة فلو لم يجر الاستصحاب لا يختلف الحال من الناحية العملية لجريان البراءة. فما أفاده لو تمّ علميّا فلا أثر له عمليّا. هذا مع ما عرفت من منع الاستصحاب في عدم التكليف تبعا للشيخ (رحمه اللّه) ، فانتبه. الرابعة : ذكر المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) عند تعرّضه لما أفاده صاحب الكفاية في المورد الّذي يطلب فيه اليقين ، وأنّ الاستصحاب لا ينفع في ذلك ، ذكر أنّ استصحاب الأمور المجعولة شرعا كالإمامة يرجع إلى جعلها بجعل مماثل للواقع واعتبار آخر غير الواقع وليس مجرد الإلزام بترتيب الأثر ، وعليه فمع جريان الاستصحاب يحصل اليقين بالإمامة الظاهرية المجعولة ، فيكون الاستصحاب مجديا إذا فرض أنّ المعتبر لو تعلّق إليه بالإمامة أعمّ من وجودها والواقعي. وأما جريان الاستصحاب لأجل لزوم تحصيل اليقين فهو ممنوع لأنّ اليقين بالإمامة ( بالحياة ) رافع لموضوع الاستصحاب ، فيلزم أن يقتضي الاستصحاب ما يرفع موضوعه ويستلزم عدمه فيكون مما يلزم من وجوده عدمه وهو محال. وما أفاده ( قده ) صدرا وذيلا لا يرد على ناحية واحدة. فإنّ محطّ النّظر في الصدر إلى الجدوى في جريان الأصل من ناحية سقوط التكليف بوجوب تحصيل اليقين إذ مع حصول اليقين قهرا لا معنى للأمر بتحصيله. ومحطّ النّظر في الذيل إلى ناحية حدوث التكليف وبتحصيل اليقين مع أنّ ظاهر كلامه هو أنّ ما نفاه في الذيل عين ما أفاده في الصدر ، فيكون خلطا بين المقامين. ثم أنّ ما أفاده في نفي جريان الاستصحاب لأجل ترتيب لزوم تحصيل اليقين من استلزام وجود الاستصحاب لعدمه غير تام ، إذ يرد عليه أنّه لا إشكال في جواز أمر الشاك بشيء بتحصيل اليقين به ورفع شكّه فيقال : إذا شككت في وجود زيد وجب عليك تحصيل اليقين به. والسرّ فيه : أنّ المترتّب على الاستصحاب ليس هو اليقين بل الأمر به وهو لا ينفي الشك ، نعم امتثاله ينفي الشك ولكنه متأخّر عن الأمر ، وارتفاع الشك بقاء لا يمنع من جريان الاستصحاب حدوثا. نعم لو كان الاستصحاب يقتضي ارتفاع الشك حدوثا جاء المحذور ولكن الأمر ليس كذلك بل المرتفع هو الشك في مرحلة البقاء وهو خال عن المحذور كيف ، وكثير من موارد الاستصحاب كذلك ، كما لو استصحب عدم الإتيان بالواجب فجاء به أو استصحب الحدث فتطهّر ، فإنّ الشك يرتفع بعد امتثال الحكم الظاهري ، فانتبه. الخامسة : أنّ السيد الخوئي نفي الاستصحاب في الأمور الاعتقادية لأجل تقيّد الموضوع بالعلم فلا يلزم الاعتقاد والمعرفة إلاّ بالأمر المعلوم. ولا يخفى أنّ ما أفاده لو فرض تسليمه لا يرتبط بأيّ ارتباط بموضوع الكلام بين الاعلام في المقام نفيا أو إثباتا. نعم هو التزام مستقل يترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب. هذا مع أنّه كان ينبغي أن يتنبّه على عدم قيام الاستصحاب في المقام مقام العلم المأخوذ في الموضوع ، وإلاّ فمجرد كون العلم مأخوذا في الموضوع لا ينفي جريان الاستصحاب إذا كان يقوم مقام العلم ، فتدبّر. وكيف كان فقد عرفت منع جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها الاعتقاد أو المعرفة ، كالإمامة ومنه يظهر الحال في النبوة. وتحقيق ذلك : إنّ المقصود بالنبوة التي يراد استصحابها إما نفس المزيّة الخاصة النفسيّة الثابتة لشخص النبي ، وأما المقام المجعول للنبي وهو مقام تبليغ الأحكام والرسالة ، نظير مقام الإمامة ، وأما مجموع الأحكام التي جاء بها النبي. ولا يخفى أنّ النبوة بالمعنى الأول لا يشك في بقائها لعدم زوالها بعد اتّصاف النبي بها. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت ، إذ لا محصّل لجعل المنصب المزبور شرعا بعد الموت. نعم هي بالمعنى الثالث قابلة للاستصحاب لإمكان تعلّق الشك بها ، لكن نقول أنّ المتيقّن هو الأحكام المحدودة بمجيء نبيّنا صلى اللّه عليه وآله بحيث تكون خصوصية التحديد مأخوذة في متعلّق اليقين ، ومثله لا يشك في بقائه بل يعلم بارتفاعه ، فليس المتيقّن أحكام الشريعة السابقة على الإجمال بل الأحكام الخاصة وهي المحدودة بالحدّ الخاصّ فلا تثبت بعد الحدّ جزما ، فيمتنع التمسّك بالاستصحاب. ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض أفاضل السادة في ردّ الكتابي الّذي تمسّك بالاستصحاب ، فهو لا يريد أن المتيقّن أحكام شريعة موسى وعيسى المحدودة. وتنكر الأحكام غير المحدودة ، فيرجع التحديد إلى الأحكام التي يراد استصحابها ، لا إلى نفس موسى وعيسى كي يقال إنّهما فردان جزئيان لا كليّان فلا يقبلان التقييد الموجب للتفرّد والتخصّص لأنّه شأن المفاهيم الكليّة لا الجزئية. وأما ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق فهو لا يرتبط بالاستصحاب لا سؤالا ولا جوابا ويمكن أن يكون منظوره « سلام اللّه وصلواته عليه » إلى ما قلناه من كون المتيقّن أمرا خاصّا ، فتدبّر. والأمر سهل كما لا يخفى ، واللّه سبحانه العالم.

ص: 294

ص: 295

ص: 296

أعني ما كان المهم فيه هو الاعتقاد الّذي هو محل الخلاف بينهما - هو : ان الاعتقاد بالشيء لا ينفك عن اليقين به ، فمع الشك فيه أو اليقين بعدمه لا يمكن تحقق الاعتقاد. وان انفك اليقين عن الاعتقاد ، فيمكن حصول اليقين ولا يحصل الاعتقاد ، كما تدل عليه الآية الكريمة : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1).

فاليقين منفك عن والاعتقاد غير منفك عن اليقين.

وإذا كان الاعتقاد ملازما لليقين ، فلا يجدي استصحاب متعلقه في صحة الاعتقاد به لعدم رفعه الشك إلا تعبدا.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ في الحاشية وجها لإجراء الاستصحاب في المتعلق - على تقدير القول بعدم انفكاك الاعتقاد عن اليقين - تقريبه : انه يمكن

ص: 297


1- سورة النمل ، الآية : 14.

الاعتقاد بالشيء على تقدير ثبوته واقعا ، فيمكن استصحابه والاعتقاد به على هذا النحو (1).

وفيه ما لا يخفى ، فان التعليق ان كان في جانب المتعلق بان كان الاعتقاد فعليا والمتعلق تقديريا - فانا اعتقد فعلا بشيء على تقدير ثبوته - ، فهو ممنوع ، لأن الاعتقاد الفعلي مساوق لليقين بالمقدر ، والمفروض عدم اليقين به. وان كان في جانب الاعتقاد ، بان كان معلقا على ثبوت الشيء. ففيه : ان التعليق انما يكون في المفاهيم التي يعرض عليها الوجود ، ولا يكون في الوجودات ، لعدم قبولها التعليق ، لأن الوجود اما متحقق أو ليس متحقق. والاعتقاد من الوجودات فلا يقبل التعليق.

وقد وجّه المحقق العراقي قدس سره استصحاب المتعلق مع الشك فيه : بان الانقياد والتسليم هاهنا بالإمامة - مثلا - الظاهرية أو النبوة الظاهرية ، لأنه بعد التعبد بها تثبت ظاهرا فيسلم بها بهذا النحو ، لا على طريق الجزم واليقين ، كي يورد عليه بتنافيه مع الشك في أصل الإمامة أو النبوة (2).

إلاّ ان ما ذكره ممنوع على إطلاقه ، فانه انما يتم لو كانت الإمامة من المناصب المجعولة للشارع ، فيمكن التعبد بها بقاء لكونها من الأحكام الشرعية كالطهارة والملكية وغيرهما. اما لو كانت من الأمور التكوينية غير المجعولة فلا يتم ما ذكره ، لأنّ التعبد بالأمر التكويني لا معنى له إلاّ ثبوت حكمه ، فالتعبد بحياة زيد معناه ثبوت وجوب التصدق - مثلا - ، فالتعبد بالإمامة لا معنى له إلا ثبوت حكمها الشرعي ، وليس هو إلاّ وجوب الاعتقاد ، وهو غير ممكن لعدم اليقين بمتعلقه.

ص: 298


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 220 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما ذكره المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية من عدم جريان الاستصحاب موضوعا لو كان المهم وجوب المعرفة (1) ، فهو يحتمل وجهين :

الأول : ان يكون وجوب المعرفة متوقفا على الاستصحاب ، لتوهم ترتب وجوب المعرفة على وجود الإمام الواقعي ، فالشك في وجوده يوجب الشك في وجوب المعرفة ، فالاستصحاب يجري ليترتب عليه وجوب المعرفة ، كما يجري استصحاب حياة زيد ليترتب عليه وجوب التصدق. وعليه فهل يجري الاستصحاب أم لا؟.

الوجه الثاني : ان يكون وجوب المعرفة ثابتا على كل تقدير ، ولكن الكلام في الاكتفاء عن المعرفة بالاستصحاب وعدمه ، فيقع الكلام في جريانه وعدمه.

ومراده الوجه الثاني ويشهد له أمران :

أحدهما : ان الكلام في نفسه لا بد أن يكون حول ذلك ، لعدم تعليق وجوب المعرفة على حياة الإمام ، بل هي واجبة فعلا علم بحياة الإمام أو لم يعلم.

والآخر : ظهور ذلك واضحا من قوله : « بل يجب تحصيل اليقين بموته وحياته ». ومما ذكره من كفاية الاستصحاب لو اعتبر من باب الظن في بعض الموارد ، فان الظاهر من هذين الموردين كون الكلام حول الاكتفاء بالاستصحاب وعدمه ، فتأمّل.

إذ قد يتوهم كفاية باعتبار ما قرّر في محله من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

وحيث ان المستفاد بمناسبة الحكم والموضوع كون القطع الموضوع هاهنا مأخوذا بنحو الصفتية - أعني : بما انه صفة - لا بنحو الطريقية والحجية لم يقم الاستصحاب مقامه بل لا بد من تحصيله.

ص: 299


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /422- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن الظاهر من العبارة وجه آخر غير هذين الوجهين ، وهو كون وجوب المعرفة مترتبا على اليقين بالحياة لا على الوجود الواقعي ، كما - هو مقتضى الوجه الأول. ولا مطلقا كما هو مقتضى الوجه الثاني وان الكلام في الاكتفاء باستصحاب الحياة عن اليقين بها. وظاهر المحقق الخراسانيّ أخذ اليقين بها بما أنه صفة ، ولذلك أوجب تحصيله وعدم كفاية الاستصحاب عنه إلا في مورد يكتفي فيه بالظن - كما لو أخذت المعرفة بمعنى أعم من القطع والظن - وكان الاستصحاب من باب الظن. فالتفت.

وقد فسر المحقق الأصفهاني قدس سره العبارة بالوجه الأول. وأورد على جريان الاستصحاب : بان استصحاب حياة الإمام إذا كان يترتب عليه لزوم المعرفة ، فمع تحصيلها يرتفع موضوع الاستصحاب ، فيلزم من وجود التعبد عدمه وهو محال (1).

وفيه : ان المعرفة توجب رفع موضوع الاستصحاب بقاء ولا محذور فيه ، وانما المحذور لو استلزمت رفعه ابتداء وحدوثا ، ولكنه غير حاصل.

وقد تبين مما ذكرنا حال الاستصحاب في الإمامة والنبوة.

فان الإمامة ، اما أن تكون من الصفات النفسانيّة التي وهي عبارة عن درجة خاصة من الكمال. واما أن تكون من المناصب المجعولة ، وهي إمارته على الناس ونفوذ حكمه فيهم وما شابه ذلك. والشك في الإمامة ينشأ عن الشك في الموت وعدمه.

والإمامة بالمعنى الأول لا تزول بالموت ولا بغيره ، فلا شك فيها أصلا ، بل يحرز بقائها. ولكنها بالمعنى الثاني تزول بالموت ، لأن أداء الأحكام والأمارة على الناس يتقوم بالحياة ، فمع الشك في بقاء الحياة يشك في بقاء في بقاء الإمامة بهذا

ص: 300


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 113 - الطبعة الأولى.

المعنى ، ولا بد في جريان الاستصحاب فيها من ترتب أثر عملي عليها. وهو اما تحصيل المعرفة واليقين. أو حصول الاعتقاد. فعلى الأول يمتنع الاستصحاب ، لأنه لا يقوم مقام اليقين المأخوذ في المقام على نحو الصفتية. وعلى الثاني يجري الاستصحاب بناء على إمكان تحقق الاعتقاد مع الشك وعدم ملازمته لليقين. كما انه يمكن جريانه فيها للالتزام بها ظاهرا - كما تقدم عن المحقق العراقي -.

وامّا النبوة ، فهي أيضا أما ان تكون من الصفات النفسانيّة أو المناصب المجعولة كأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. ولا شك فيها بالمعنيين أصلا بعد الموت.

لأنها بالمعنى الأول يعلم ببقائها بعده. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت ، فلا شك فيها أصلا ، فلا مورد للاستصحاب. والشك في النبوة بالمعنى الثاني وان كان يحصل من جهة الشك في الموت ، ولكنه خارج عن محل الابتلاء.

ولو تنزلنا وقلنا يتحقق الشك فيها بنحو ما ، فأثرها العملي امّا بوجوب الاعتقاد أو استمرار شريعة النبي.

اما على الأول ، فجريان الاستصحاب يتوقف على القول بمجامعة الاعتقاد للشك.

وامّا على الثاني ، فلا ترتب لأن استمرار الشريعة غير مترتب على بقاء النبوة ببقائه ، إذ من يلتزم بان النبوة بالمعنى الثاني يقول باستمرار الشريعة بعد الموت ولا يقول بارتفاعها به ، فلا يجري الاستصحاب.

ومما ذكرنا تعرف انه لا مجال لتمسك الكتابي باستصحاب نبوة نبيه ، وقد ذكر في جوابه وجوه متعددة :

الوجه الأول : ان تمسكه بالاستصحاب لا يخلو اما ان يكون لأجل إقناع نفسه ، أو لأجل إلزام المسلمين ، أو لأجل دفع كلفة الاستدلال عن نفسه. وان الدليل لا بد أن يكون على مدعى الدين الجديد ، لأن الدّين إذا ثبت فهو مستمر بمقتضى الطبيعة والقاعدة حتى يثبت خلافه وهذا هو معنى الاستصحاب.

ص: 301

فان كان غرضه هو إقناع نفسه ، فجريان الاستصحاب انما يكون بعد الفحص ، فلا بد له من الفحص قبل تمسكه بالاستصحاب ومع الفحص يحصل له اليقين بنبوة محمّد صلی اللّه علیه و آله .

وان كان غرضه إلزام المسلمين ، فهو انما يتم لو التزم المسلمون بتحقق اليقين والشك لديهم ، لأنّ الإلزام انما يكون بالمسلمات لدى الخصم ، والمسلمون انما يعتبرون الاستصحاب مع تحقق اليقين والشك ، والشك ليس بحاصل لديهم بل يعلمون بالارتفاع ، لغرض كونهم مسلمين.

وان كان غرضه دفع كلفة الاستدلال عن نفسه وإلقاء كلفته على المسلمين ، فهو ممنوع ، لأن الدين كما يحتاج إلى دليل في مرحلة حدوثه كذلك يحتاج إليه في مرحلة بقائه ، فلا بد له من إقامة الدليل على بقاء دينه.

والتمسك بالاستصحاب لا يجديه على كل من الفروض الثلاثة.

الوجه الثاني : ان تمسكه بالاستصحاب انما يصح لو ثبت اعتباره في كلا الشريعتين ، إذ لو تعين ثبوته في خصوص شريعته فهو مشكوك البقاء كباقي الأحكام الشرعية الثابتة فيها. ولو اختص ثبوته في الشريعة اللاحقة ، فهي غير ثابتة الصحة والحقيقة كي يتمسك بأحكامها.

الوجه الثالث : ان ثبوت نبوة نبيّه انما علمناها من اخبار نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فلو استصحبنا النبوة السابقة يلزم نفي نبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، ومعه ينتفي اليقين بالنبوة. السابقة ، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه وهو محال.

وأيضا ، فمع معرفة النبوة السابقة من طريق نبينا صلی اللّه علیه و آله - بما انه نبي - يرتفع الشك في البقاء ، بل يعلم بالارتفاع ، كما لا يخفى.

الوجه الرابع : انه لا معنى لاستصحاب النبوة الا وجوب التدين بما جاء به النبي السابق - لأن النبوة صفة نفسانية غير قابلة للارتفاع - ، ومما جاء به النبي السابق التبشير بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فنحن نعلم بثبوت أحكام الشريعة

ص: 302

السابقة مغياة بمجيء نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله .

الوجه الخامس : وهو يرجع - تقريبا - إلى الوجه الرابع ، وهو مضمون ما أجاب به الإمام الرضا علیه السلام الجاثليق (1) ، وحاصله : انا نؤمن بكل عيسى وموسى بشّر بنبوة محمد صلی اللّه علیه و آله ، ولا نؤمن بكل عيسى وموسى لم يخبر عن نبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله .

وبهذا الجواب أجاب السيد القزويني - كما يحكى - حين أشكل عليه الكتابي بالاستصحاب.

وأورد عليه الشيخ رحمه اللّه : بأنه لا وجه له ، لأن عيسى وموسى ليس كليا كي يعترف ببعض افراده وينكر الافراد الأخر ، بل هو جزئي حقيقي وشخص معلوم نعترف بنبوته.

ولكن يمكن توجيهه : بان الإيمان بعيسى وموسى الشخصيين كان بملاك تبشيرهما بنبينا صلی اللّه علیه و آله ، فلا طريق إلى الاعتراف الا هذه الخصوصية ، فالخصوصية مقومة للاعتراف. والترديد من ناحيتها.

وهذه الوجوه الخمسة ذكرها الشيخ قدس سره في رسائله مع اختلاف بسيط جزئي (2) فالتفت.

التنبيه الثاني عشر : في استصحاب حكم المخصص.

وموضوع الكلام فيه : ما إذا ورد عام مطلق من حيث الزمان ، بأن دل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة إلى الأبد ، ثم خصص ببعض افراده في زمان معين ، وشك بعد انقضاء زمان الخاصّ في حكم الفرد الخاصّ في أنه محكوم بحكم الخاصّ أم لا؟ ، فهل يستصحب حكم الخاصّ أو يتمسك بالعموم؟.

وقد حكم الشيخ قدس سره بالتفصيل بين ما إذا لوحظ الزمان في العام أفرادا وحصصا متعددة ، بحيث يكون كل فرد من أفراد العام محكوما بأحكام

ص: 303


1- عيون اخبار الرضا علیه السلام 1 / 154 ح 1.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /393- 493 - الطبعة الأولى.

متعددة بتعدد آنات الزمان وقطعه. وبين ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة لاستمرار الحكم ، ولا عموم إلا بلحاظ الافراد دون الأزمان. فقال بجريان الاستصحاب في نفسه في الثاني وعدم كونه موردا لأصالة العموم. بخلاف الأول ، فانه مورد لأصالة العموم دون الاستصحاب (1).

اما المحقق الخراسانيّ في الكفاية ، فقد وأفق الشيخ في تفصيله للعام وتقسيمه إلى قسمين. ولكنه خالفه في إطلاق الحكم بعدم كون القسم الثاني موردا لأصالة العموم ، والقسم الأول موردا للاستصحاب.

أما القسم الثاني ، فقد وافقه في عدم كونه موردا لأصالة العموم لو كان التخصيص في الأثناء. أما لو كان التخصيص من أول أزمنة العموم - كتخصيص عموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) بخيار المجلس - ، كان المورد من موارد أصالة العموم.

واما في القسم الأول ، فقد جعل الملاك في عدم جريان الاستصحاب في نفسه كون الخاصّ قد أخذ الزمان فيه قيدا ، سواء أخذ الزمان في العام مفرّدا أو ظرفا لاستمراره. ولو أخذ الزمان في الخاصّ ظرفا ، كان المورد من موارد الاستصحاب ، سواء كان الزمان في العام قد أخذ مفردا أو ظرفا أيضا. وليس الملاك في عدم كونه من موارد الاستصحاب أخذ الزمان في العام مفردا - كما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) (3) -.

والمهم في البحث هو ما إذا لوحظ الزمان في العام والخاصّ ظرفا ، لأن صورة ما إذا لوحظ في الخاصّ قيدا قد بين عدم جريان الاستصحاب فيها فيما سبق في الكلام عن جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات. وان أخذ ظرفا

ص: 304


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /395- الطبعة الأولى.
2- سورة المائدة ، الآية : 1.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /424- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

له جرى الاستصحاب فيه ، فلا كلام في ذلك. وعليه فلا بد من بيان الوجه في عدم كون الصورة المذكورة من موارد أصالة العموم ، وبيان الوجه في مخالفة صاحب الكفاية للشيخ. فالكلام في محورين :

المحور الأول : في وجه عدم كون الصورة من موارد أصالة العموم.

وقد علل الشيخ ذلك : بان أصالة العموم انما تجري مع الشك في التخصيص واحتمال عدم إرادة العموم. اما في غير ذلك فلا تجري. ولما كان - المفروض أخذ الزمان ظرفا لاستمرار العام وأن لا عموم للعام الا من ناحية الافراد ، وأن كل فرد له حكم مستمر لا أحكام متعددة بتعدد الزمان ، وخصص العام بأحد الافراد في زمان معين - لم يكن عدم الحكم على الخاصّ بحكم العام فيما بعد ذلك الزمان تخصيصا كي يتمسك لنفيه بأصالة العموم -.

وقد علل المحقق الخراسانيّ ذلك بوجهين : ذكر أحدهما في الكفاية ، وذكر الآخر في حاشيته على الرسائل.

امّا الأول الّذي ذكره في الكفاية فهو : ان العام له دلالتان : الأولى : ثبوت الحكم للفرد. والثانية : استمرار هذا الحكم.

اما ثبوت الحكم للفرد ، فقد تحقق بنحو الموجبة الجزئية إلى ما قبل التخصيص. واما الاستمرار فقد دل على انتفائه التخصيص. فلا معنى لشمول العام لهذا الفرد بعد زمان التخصيص (1).

واما الوجه الثاني الّذي ذكره في الحاشية فهو : ان العام يدل على ثبوت حكم واحد مستمر ، فلو أردنا إثبات حكم العام للفرد بعد زمان التخصيص ، كان هذا الحكم غير الحكم الّذي كان قبل زمان التخصيص ، كما انه منفصل عنه بزمان التخصيص. وعليه فالعام لا يتكفل إثبات الحكم للفرد بعد زمان

ص: 305


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /424- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التخصيص ، لأن العام انما يدل على ثبوت حكم واحد مستمر لا حكمين منفصلين ، كما هو مقتضى ثبوت حكمه للفرد بعد ذلك الزمان (1).

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية هذا الوجه. ثم نفاه ونفي تقريب الشيخ بما ذكره لإثبات ما ذهب إليه من كون المورد من موارد التمسك بالعامّ.

وتلخيص ما ذكره - مع توضيحه - : ان العام له حيثيتان : حيثية عمومه وحيثية إطلاقه الأزماني. ومقتضى عمومه ثبوت الحكم للفرد في الجملة. ومقتضى إطلاقه ثبوت الحكم للفرد في الزمان المستمر. فالتمسك بالعموم عند الشك غير ممكن لخروجه بالتخصيص ، ولا يكون عدم شمول الحكم له في غير زمان الخاصّ تخصيصا زائدا كي ينفي مع الشك بأصالة العموم كما عرفت.

ولكن يمكن التمسك بالإطلاق ، فانك عرفت بان للعام إطلاقا أزمانيا ، فإذا قيد هذا الإطلاق بزمان ، يبقى ثابتا في الأزمنة الباقية. فان الزمان المأخوذ ظرفا قابل لأن يقيد ، لأن وحدته طبيعية لا شخصية. فإذا قيد مطلق الزمان بزمان خاص جعله التقييد حصة والحصة محافظة على وحدتها الطبيعية واستمرارها ، فيكون مفاد الإطلاق والتقييد ثبوت الحكم للفرد في غير هذا الزمان الخاصّ.

وبالجملة : فالإطلاق في العام كغيره من الإطلاقات في انها إذا قيدت بقيت في غير مورد التقييد على إطلاقها.

وقد يتوهم : وجود الفرق بين هذا الإطلاق وبين غيره من جهتين :

الجهة الأولى : ان سائر المطلقات لها جهات عرضية ، كالإيمان والكفر والعلم والجهل والذكورة والأنوثة وغيرها في الرقبة ، فيمكن لحاظ هذه الجهات وإطلاق الحكم بالإضافة إليها بلا منافاة لشيء.

ص: 306


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /225- الطبعة الأولى.

اما ما نحن فيه ، فلما لم يكن الزمان المستمر بنفسه ذا افراد متكثرة بل لا يكون كذلك الا بالتقطيع. ولحاظه بنحو التقطيع والإطلاق بالإضافة إليها خلاف المفروض ، لأن المفروض عدم لحاظه كذلك.

والجواب :

أولا : ان الإيراد المذكور يبتني على كون الإطلاق هو الجمع بين القيود - بمعنى انه تلحظ القيود جميعها ويجعل الحكم بإزاء كل واحد منها - ، كي يرجع فيما نحن فيه إلى جعل الحكم في كل قطعة من قطعات الزمان ، فيلزم الخلف. أما بناء على ما هو الحق من انه عبارة من رفض القيود لا الجمع بينها - بمعنى ان الحكم متعلق بطبيعي متعلقه بلا دخل لأي قيد فيه - فلا يتم هذا الإيراد. لأن النّظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها لا وجودا ولا عدما لا يستلزم الخلف. وانما الّذي يستلزم الخلف هو النّظر إليها وجعلها ظروفا للحكم.

وثانيا : ان الزمان المستمر اما ان يلحظ في مقام الثبوت مهملا. أو مقيدا - يعني متقطعا -. أو مبنيا من ناحية الإطلاق وأنه شامل لجميع الأفراد.

اما الأول ، فهو محال لمحالية الإهمال في مقام الثبوت.

وامّا الثاني : فهو خلف.

فيتعين الثالث ، وهو يتوقف على لحاظ الخصوصيات المقيدة لها ونفيها بأخذه لا بشرط ، لا بشرط شيء ولا بشرط لا.

الجهة الثانية : انه لما كان المطلق فيما نحن فيه له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص لا ظهور آخر يتمسك به في إثبات الحكم. فثبوت الحكم بعد زمان التخصيص انما يكون لو كان للمطلق ظهورات متعددة بتعدد قطع الزمان ، فإذا ارتفع أحدها بقيت الأخرى على حالها. وليس فيما نحن فيه إلا ظهور واحد.

والجواب : ان جميع المطلقات والعمومات لها ظهور واحد في معنى واحد

ص: 307

وليس لها ظهورات متعددة ، والتخصيص والتقييد انما يفيدان رفع حجية الظهور في الفرد لا رفع نفس الظهور ، بل هو باق لا يرتفع. فيمكن التمسك به في إثبات حكم العام والمطلق للفرد مع الشك.

وقد يستشكل : بان عدم التمسك بالعموم أو الإطلاق انما هو لأجل أن ظاهر العام بحيثيته ثبوت حكم واحد مستمر - كما هو المفروض ، لأن المفروض كون الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار - ، وثبوت الحكم للفرد بعد زمان التخصيص انما يقتضي ثبوت حكمين منفصلين لا حكم واحد مستمر.

والجواب : بأن الوحدة المنثلمة انما هي الوحدة الخارجية ، وهي غير معتبرة قطعا ، لقيام البرهان على ذلك لتعدد إطاعة الحكم وعصيانه ، وهو كاشف عن تعدد الحكم في الخارج ، إذ لا يتصور إطاعة وعصيان لحكم واحد. وانما المعتبر هو الوحدة في مقام الجعل والإنشاء. والمراد منها في هذا المقام جعل طبيعي البعث أو حصة منه في قبال جعل بعثين أو حصتين منه - فان البعث في هذا المقام مفهوم صالح لأن يقيد ويحصص ، فان جعل طبيعة أو حصة واحدة منه فقد جعل بعث واحد. وان لوحظ مقيدا محصصا ، فقد تعدد - ، وهي فيما نحن فيه متحققة ، لأن المجعول انما هو بعث واحد لا متعدد.

ومثله الكلام في الاستمرار ، فان المعتبر ليس هو الاستمرار في الخارج لعدم إمكانه لفرض التعدد في هذا المقام. وانما المعتبر هو الاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل وهو متحقق ، فانه قد جعل الزمان المستمر - وهو ما عدا يوم الجمعة مثلا - ظرفا للبعث. إلى هنا ينتهي ما أفاده المحقق الأصفهاني مما له علاقة بتقريب ما ذهب إليه من إمكان التمسك بالإطلاق في الفرض المذكور (1).

ونفي كلامي الشيخ - الّذي يدعي ظهور العموم في وحدة الحكم الثابت

ص: 308


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 116 - الطبعة الأولى.

وصاحب الكفاية قدس سرهما - الّذي يدعى ظهوره في وحدة الحكم واستمراره - ، ولكنه بكلامه الأخير لا يخلو عن نظر (1)

ص: 309


1- تحقيق الكلام في مناقشة المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) وتصحيح ما أفاده الشيخ وصاحب الكفاية : أنّ الإطلاق تارة يراد به الإطلاق الاصطلاحي الراجع إلى ثبوت الحكم على الطبيعة بلا قيد وشرط ، فيستفاد إرادة جميع الحصص بمعونة مقدمات الحكمة. وأخرى يراد به ثبوت الحكم بالنسبة إلى مطلق الحصص لكن لا على أن يكون ذلك مستفادا من مقدمات الحكمة الراجعة إلى إثبات رفض القيود ، بل هو مستفاد من نفس الكلام لوضعه إلى جميع الحصص ، نظير دلالة لفظ « يوم » على جميع أجزاء النهار فإنّها ليست بالإطلاق المصطلح ، نعم يصحّ أن يقال إنّه يراد به مطلق أجزاء النهار بلا تقييد ، ولكن ذلك لا يعني أنّه يراد به التمسّك بمقدمات الحكمة بل من جهة أنّ « اليوم » اسم لجميع هذه الأجزاء من المبدأ إلى المنتهى. ومثل ذلك دلالة لفظ « قوم » على جميع الأفراد فإنّها تختلف عن دلالة لفظ العالم على إرادة جميع أفراد العالم ، فإنّ دلالة لفظ العالم على جميع أفراده بالإطلاق الاصطلاحي ومقدمات الحكمة بخلاف دلالة لفظ « قوم » فإنّه يدلّ على جميع الأفراد لوضعه إلى مجموع الأفراد ولذا يسمّى باسم الجمر. والفرق بين هذين النحوين أنّ الدليل المقيّد في المورد الأول لا يتنافى مع مدلول الكلام وإنّما يستلزم إخراج الفرد عن مقتضى مقدمات الحكمة ، ويبقى الدليل المطلق حجة في سائر الحصص. أما في المورد الثاني فالدليل المقيّد يتنافى مع نفس المدلول رأسا ولذا قلنا - في مبحث العموم والخصوص - إنّه لو ورد ما يدل على إكرام عشرة علماء ثم ورد ما يدل على عدم إكرام واحد منهم كان الدليلان متعارضين لأنّ مدلول عشرة ليس هو الطبيعة بل مجموع الافراد رأسا ، ولأجل ذلك لم تكن من أفراد العموم. فلو ورد ما يدل على مجيء القوم ، ثم ورد ما يدل على عدم مجيء واحد منهم كزيد كان الدليلان متعارضين. نعم حيث أنّ مثل القوم يستعمل في البعض مسامحة يحمل لفظ : « القوم » في مثل « جاء القوم إلاّ زيدا » مما يعلم إرادة البعض مسامحة لأنّه يكون له ظهور ثانوي في ذلك ومثله ما لو كان المخصّص منفصلا وبذلك يختلف عن مثل لفظ : « عشرة » فإنّه ليس له ظهور ثانوي في الأقل ولذا يستقرّ التعارض بين دليل إكرام العشرة ودليل عدم إكرام واحد منهم. وكيف كان فالتمسك بمثل لفظ القوم في غير مورد الاستثناء ليس من جهة الرجوع إلى الإطلاق في غير مورد التقييد بل من جهة الرجوع إلى الظهور الثانوي المحمول عليه الكلام بقرينة ما هو أظهر منه. وإذا اتّضح ما ذكرناه : فاعلم أنّ الدليل الدال على استمرار الحكم في الحصص الزمانية - بعنوان الاستمرار - سواء كان بنحو المعنى الاسمي كأن يقول : « يجب الجلوس مستمرا إلى الغروب » أو بنحو المعنى الحرفي كأن يقول : « يجب الجلوس من الآن إلى الغروب » لا يدل على ثبوت الحكم في جميع أجزاء الزمان المفروض بالإطلاق ومقدمات الحكمة بل بمدلوله الوضعي نظير لفظ « اليوم » الدال على أجزاء الزمان بين المبدأ والمنتهى ، لأنّ الاستمرار اسم لثبوت الحكم في تمام الأزمنة ومجموعها. وعليه فإذا دلّ الدليل على انقطاع الحكم وعدم ثبوته في الأثناء لم يكن ذلك من تقييد المطلق ببعض حصصه كي يرجع إليه في سائر الحصص ، بل هو مناف لأصل الدليل على الاستمرار ومسقط له عن الاعتبار ، ومعه لا دليل على ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص فلفظ الاستمرار نظير لفظ « عشرة » في سقوطه مع معارضته بما هو أقوى منه وعدم الرجوع إليه في غير مورد الدليل المعارض. نعم دلالة الدليل على ثبوت الحكم في الجملة تبقى على حالها لعدم ما يعارضها. ويبقى سؤال أنّه إذا انتفت دلالة الدليل على الاستمرار وبقيت دلالته على الحكم في الجملة فما هو الوجه في الالتزام بثبوت الحكم قبل زمان التخصيص ، إذ يكون ما قبل زمان التخصيص وما بعده بالنسبة إليه على حدّ سواء؟ والجواب عنه هو ما سيأتي - في تحقيق كلام الكفاية - من الالتزام بوجود ظهور آخر للدليل وهو ظهوره في ثبوت الحكم بمجرد تحقّق موضوعه ، ومقتضاه ثبوت الحكم فيما قبل زمان التخصيص. وإذا تحقّق لديك ما بيّناه فنقول : أنّ محطّ كلام الشيخ (رحمه اللّه) وغيره هو ما إذا كان الدليل دالا على استمرار الحكم ولو بنحو المعنى الحرفي ، وعليه فلا يتّجه ما أفاده المحقّق الأصفهاني في مناقشته بالرجوع إلى الإطلاق الأزماني وبيان أنّ الإطلاق رفض القيود ، إذ عرفت أنّ دلالة الدليل المزبور على ثبوت الحكم في تمام الأزمنة ليس بالإطلاق الراجع إلى رفض القيود بل بمقتضى الوضع نظير دلالة لفظ اليوم على جميع الأجزاء بين المبدأ والمنتهى ، فيمكن أن نقول : أنّ ما أفاده ( قده ) لا يخلو عن خلط بين المقامين ، فتدبّر ولا تغفل.

فان الوحدة والاستمرار الذين يدعي ظهورهما من العموم ، يراد منهما الوحدة والاستمرار في مرحلة الخارج ، لا الوحدة والاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل ، وهما غير محققين بعد التخصيص وثبوت الحكم للخاص بعد زمانه ، ولأجل ذلك لا يتمسك بالعموم فيه.

واما ما ساقه من البرهان على عدم اعتبار الوحدة الخارجية من عدم تحققها أصلا لتعدد الإطاعة والمعصية الكاشف عن تعدد الحكم ، فلا ينافي ما ذكرناه ، فان المراد من الوحدة الخارجية المعتبرة انما هو الوحدة بنظر العرف التي يمكن انطباقها على التعدد الدقي ، وهي متحققة في حكم العام بالنسبة إلى افراده ، وتنثلم بالتخصيص. فعدم إمكان الوحدة في مرحلة الخارج بمعنى ، لا يتنافى مع دعوى الوحدة في هذه المرحلة بمعنى آخر.

ص: 310

وكذلك المراد من الاستمرار ، هو الاستمرار بنظر العرف القابل للانطباق على المنقطع بالنظر الدقي. وهو ينثلم بالتخصيص.

فالمراد بالوحدة والاستمرار نظير الوحدة والاستمرار في سائر الأمور التدريجية التي لا تتنافى مع التجدد والتصرم. هذا مع انه لم نعرف معنى محصلا للاستمرار في مقام البعث ، كيف! وهو من شأن الوجودات ، فكيف فرض الحكم المجعول مستمرا بعد فرض انقطاعه في الأثناء؟ واستمراره في مقام البعث. لا نعرف له معنى ظاهرا فتدبر.

وبهذا تعرف عدم تمامية إيراد المحقق الأصفهاني ( رحمة اللّه ) على الشيخ والمحقق الخراسانيّ (قدس سرهما) في عدم تمسكهما بالعموم في هذا الفرض.

وقد استظهر المحقق النائيني رحمه اللّه من كلام الشيخ رحمه اللّه التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي ، بعدم التمسك بالعموم في الأول دون الثاني.

ولما كان هذا مخالفا لما عليه الأصوليون من التمسك بالعامّ المجموعي عند الشك في التخصيص ، التزم بتأويل كلامه وحمله على خلاف ما استظهره مما بنى عليه في المقام من : ان الزمان ..

تارة : يؤخذ ظرفا لمتعلق الحكم كالإكرام والوفاء وغيرهما.

وأخرى : يؤخذ ظرفا لنفس الحكم.

فعلى الأول يمكن ان يكون الدليل متكفلا لاستمرار الحكم دون الثاني لأن نسبة الاستمرار إلى الحكم نسبة العرض إلى معروضه ، والحكم إلى موضوعه ، فثبوت الاستمرار يتوقف على ثبوت الحكم في مرحلة سابقة عليه. فدليل الحكم لا يتكفل ثبوت استمراره ، لأنه انما يثبت بعد فرض تحقق الحكم ، بل لا بد في إثباته من دليل آخر منفصل يكون موضوعه الحكم. ودليل الاستمرار لا يثبت الحكم ، لعدم ثبوته مع عدم ثبوت الحكم ، فكيف يثبت الحكم بدليله؟!. وعليه فمع

ص: 311

الشك في ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص لا يمكن التمسك لا بدليل العام ، لأنه انما يدل على ثبوت الحكم في الجملة. وقد ثبت. ولا بدليل الاستمرار ، لأن ثبوته فرع ثبوت الحكم ، والمفروض الشك فيه.

فعلى هذا ، حمل كلام الشيخ وانه تفصيل بين ما إذا أخذ الزمان ظرفا للمتعلق فيتمسك بالعموم ، وبين ما إذا أخذ ظرفا للحكم فلا يتمسك به. وان كان هذا الحمل خلاف الظاهر للعلم بعدم إرادة الشيخ للظاهر الّذي عرفته (1).

ولكن ما ذكره قدس سره ممنوع. بجهتيه : (2) امّا الأولى : وهي ما استظهره من كلام الشيخ من التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي - والّذي أصر عليه السيد الخوئي وبنى على اشتباه أستاذه في التأويل - ، فان استظهاره لا وجه له ، لأن القسم الثاني الّذي ذكره

ص: 312


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 543 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- تحقيق الإشكال فيما أفاده ( قده ) : أنّ ما أفاده من عدم تكفّل الدليل الدّال على الحكم لاستمراره ، لتفرّع الاستمرار عن نفس الحكم يرد عليه أنّه خلط بين مقام الجعل والمجعول. فإنّ ما أفاده يمكن أن يقرّر في الجعل فإنّ استمرار الجعل متفرّع عن ثبوته ، فلا يمكن أن يتكفّل دليل ثبوت التشريع والجعل استمرار الجعل في نفس الوقت لأنّ مرجع استمرار الجعل إلى إدامة التشريع والثبات عليه وعدم نسخة وهذا لا يمكن أن يفرض إلاّ متأخّرا عن تحقّق الجعل والتشريع. وأما في المجعول وهو الحكم فلا يتمّ ما أفاده فإنّه يمكن أن ينشأ الحكم المستمرّ في آن واحد بلا لزوم لإنشائه أوّلا ثم بيان استمراره ، نظير الملكية المستمرة المنشأ بدليل واحد وإنشاء واحد. وبعبارة أخرى إنّ المجعول يتبع كيفية جعله فقد يجعل في زمان خاص وقد يجعل في جميع الأزمنة بجعل واحد ، ولا يخفى أنّ محطّ الكلام فيما نحن فيه هو الحكم المجعول لا الجعل. هذا مع أنّ ما أفاده غير تام في الجعل والتشريع أيضا وذلك لأنّ الجعل والتشريع ليس مدلولا للكلام والدليل ، بل هو فعل من أفعال الجاهل نظير أخباره ، فإنّ مدلول الكلام هو المخبر به لا الاخبار ، وإنّما الاخبار فعل خارجي يتحقّق بالكلام والاستعمال فنسبة الاخبار والجعل إلى الكلام نسبة المسبّب إلى السبب لا المدلول إلى الدليل. وعليه فلا موضوع لأنّ يقال إنّ استمرار الجعل لا يمكن أن يتكفّله نفس الكلام الّذي يتكفّل ثبوت الجعل.

الشيخ يجتمع مع العموم الاستغراقي والمجموعي معا. ويشهد لذلك انه جعل من هذا القسم ما يمكن ان يكون عاما استغراقيا ، وهو : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ، فان الوفاء بكل عقد واجب ، في كل زمان وآن ، وليس الزمان كله أخذ موضوعا واحدا وبنحو الارتباطية لوجوب الوفاء بالعقد ، بل على تقدير تسليم ظهور كلامه في ذلك ، فلا وجه لتأويله بما ذكر من أن المراد من القسم الثاني ما كان الزمان فيه ملحوظا ظرفا ، لأنه مثل له مثالا يتنافى مع ذلك وهو : ( أكرم العلماء دائما ) ، لظهور تكفل اعتبار الاستمرار بنفس الدليل ، وقد صرح قدس سره بلزوم التكفل بدليل منفصل يكون موضوعه الحكم كما عرفت ، فالتفت.

واما الجهة الثانية : وهي ما ذكره من كون نسبة الاستمرار مع الحكم نسبة العرض مع معروضه ، وانه لا بد في ثبوت الاستمرار من ثبوت الحكم ، لأن الاستمرار أمر انتزاعي ينتزع عن الوجود بعد الوجود بلا فاصل ، وثبوت الحكم في الأزمنة المتعاقبة ، فنسبته إلى الحكم نسبة العنوان إلى المعنون - لأنه ينتزع عن ثبوت خاص للحكم - ، وحينئذ فدليل الاستمرار يتكفل ثبوت الحكم في الأزمنة التالية للزمان الأول ، وثبوت الحكم في الزمان الثاني والثالث معناه الاستمرار.

وعليه ، فيمكن التمسك بدليل الاستمرار في إثبات الحكم فيما بعد زمان التخصيص. ولا يتوقف على إحراز تحقق الحكم ، بل مع إحرازه لا نحتاج إلى دليل الاستمرار.

وبعبارة أخرى : انه ما المقصود من لزوم إحراز تحقق الحكم في ثبوت الاستمرار؟ ، هل إحرازه في الآن الثاني بعد التحقق أو إحرازه في الجملة ولو في الآن السابق؟. فعلى الأول : لا نحتاج إلى إثبات الاستمرار. وعلى الثاني :

ص: 313


1- سورة المائدة ، الآية : 1.

المفروض ثبوت الحكم في الآن السابق ، فتدبر.

ويتم لدينا - من جميع ذلك - : ان ما ذكره الشيخ والخراسانيّ في توجيه دعواهما بعدم التمسك بالعامّ فيما إذا ثبت أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار تام كبرويا ، بمعنى انه إذا ثبت أخذ الحكم بهذا النحو من دليل العام أو من دليل خارجي - كما لو قال : « أكرم العلماء إلى الأبد » فان : « إلى الأبد » تدل على استمرار الحكم - ، امتنع التمسك بالعموم فيما بعد التخصيص لانتفاء الاستمرار وتعدد الحكم.

ولكن الكلام يدور معه صغرويا ، بمعنى ان العمومات الثابتة لا دلالة فيها على أخذ الحكم فيها بنحو الوحدة والاستمرار كعموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الّذي ساقه مثالا لدعواه ، فان : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لا دلالة فيها الا على وجوب الوفاء بالعقد في كل زمان. امّا أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار فلا دلالة له عليه. نعم الوحدة والاستمرار ينتزعان عن مثل هذا الوجوب باعتبار تعاقب ثبوت الوجوب وعدم انفصاله ، فيرى عرفا حكما واحدا مستمرا. ولكنه لا يجدي في عدم التمسك بالعموم فيما بعد التخصيص لعدم استفادة اعتباره بدليل ، وانما منطبق على نحو ثبوت الحكم في الزمان.

المحور الثاني : في مخالفة صاحب الكفاية للشيخ فيما لو كان التخصيص في الابتداء ، فقد عرفت انه ذهب إلى جواز التمسك بالعامّ في هذا الفرض. دون الشيخ ، لإطلاقه المنع.

وحاصل ما ذكره في تقريب ما ذهب إليه : ان المانع من التمسك بالعامّ لو كان التخصيص في الأثناء - وهو لزوم ثبوت حكمين منفصلين مع دلالة العام على ثبوت حكم واحد متصل - غير موجود لو كان التخصيص في الابتداء ، لأن كلا من الوحدة والاستمرار لا ينثلم بثبوت حكم العام بعد زمان التخصيص كما لا يخفى.

ص: 314

والّذي (1) ينبغي ان يقال : ان للعام جهتين : جهة العموم التي تقتضي ثبوت الحكم لأفراد العام. وجهة الإطلاق التي تقتضي ثبوت هذا الحكم للفرد في جميع الأزمنة. فلا بد من ملاحظة دليل العام من جهة عمومه ، فان كان يقتضي ثبوت الحكم للفرد في الجملة كان ما ذكره صاحب الكفاية من صحة التمسك بالعامّ بعد زمان التخصيص في محله ، لأن التخصيص انما يزاحم الإطلاق المقتضي لثبوت الحكم في جميع الأزمنة ، فيقتصر على مورد المزاحمة وهو زمان التخصيص ، ويبقى الفرد في الأزمنة الأخرى مشمولا للإطلاق. وان كان يقتضي ثبوت الحكم للفرد بمجرد ثبوته ، لم يكن ما ذكره صاحب الكفاية تاما لأن التخصيص زاحم دلالة العام ورفعها ، فلا يبقى مجال للتمسك بالعموم ولا بالإطلاق ، لأنه فرع

ص: 315


1- التحقيق : إنّ الدليل الّذي يتكفّل ثبوت الحكم إلى الغاية المعيّنة كوجوب الجلوس إلى الليل إذا جاء زيد من السفر يشتمل على مداليل ثلاثة : أصل ثبوت الحكم وثبوته عند حصول موضوعه وبمجرده واستمراره إلى الليل. ولذا قد يفكّك بين هذه المداليل في الصدق والكذب ، كما لو قال القائل : « إذا قام عمرو يقوم زيد إلى الليل » فإنّه إذا فرض قيام زيد عند قيام عمرو ولكنه لا يستمر إلى الليل فإنّه يقال أنّه كذب في جهة وصدق في جهة ، كما أنّه لو استمر قيامه إلى الليل لكن لم يتحقّق بمجرد قيام عمرو يقال إنّه كذب من جهة وصدق من أخرى. وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أنّ مثل هذا الاخبار ينحل إلى أخبار ثلاثة وعليه نقول : إنّه إذا قام الدليل على التخصيص من الأول ، كان ذلك مصادما لظهور الدليل العام في ثبوت الحكم بمجرد تحقّق الموضوع من دون منافاة للظهورين الآخرين ، فرفع اليد عن هذا الظهور لا ينافي مع الالتزام بالظهورين الآخرين ، ومقتضاه ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص مستمرا إلى الغاية المحدّدة. وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص في الأثناء فإن دليل التخصيص يصادم ظهور الدليل الآخر في الاستمرار وهو مدلول واحد كما عرفت ، فيمتنع أن يثبت الحكم بعد زمان التخصيص. فما أفاده صاحب الكفاية متين وجيه ، وهو مما يمكن أن ينسب إلى الشيخ وإن لم يصرّح به لالتزامه بلوازمه ، ولذا لم يتوقّف في الرجوع إلى عموم الوفاء بالعقود بعد انقضاء المجلس ، فلاحظ. وبهذا البيان تعرف الإشكال فيما بيّناه في الدورة السابقة.

ثبوت العموم ، والمفروض انه غير ثابت لنفي التخصيص له.

إلى هنا ينتهي الكلام في هذا التنبيه ، وقد تبين تمامية ما ذكره الشيخ والمحقق الخراسانيّ قدس سرهما من عدم التمسك بالعامّ فيما لو كان التخصيص في الأثناء كبرويا وعدم تماميته صغرويا. كما تبين ما في إطلاق المحقق الخراسانيّ لصحة التمسك بالعامّ لو كان التخصيص في الابتداء ، وانه لا بد من التفصيل الّذي عرفته. فتدبر جيدا.

التنبيه الثالث عشر : في بيان المراد من الشك في الاخبار.

ذكر المحققون : ان المراد بالشك في اخبار الاستصحاب خلاف اليقين ، فيعم الشك بمعنى تساوي الطرفين والظن والوهم. واستدلوا لذلك بوجوه ..

كتصريح أهل اللغة بعموم معناه وتعارض استعماله في الاخبار في غير هذا الباب.

وقوله علیه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » الدال على تحديد الناقض وانه خصوص اليقين دون غيره.

وغير ذلك - ما جاء في الرسائل (1) والكفاية (2) - (3) وذلك مما لا إشكال فيه. ولا يستدعي زيادة بيان. وبذلك تنتهي تنبيهات المسألة التي ذكرها صاحب الكفاية.

ص: 316


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /398- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /425- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- ومن جملة ما استدلّ به على كون المراد بالشك هو مطلق غير العلم وجهان ذكرهما الشيخ (رحمه اللّه) : أحدهما : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار. والآخر : أنّ الظن غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع وإن كل ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده وإن كان مما شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك. وقد ناقشهما صاحب الكفاية (رحمه اللّه) : فناقش الأول : بأنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتّفاق الأصحاب على الاعتبار لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الاخبار. وناقش الثاني : بأنّ قضية عدم اعتبار الظن لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره ليست إلاّ عدم ثبوت المظنون به تعبّدا لتترتّب عليه آثاره ، لا ترتيب آثار الشك على الظن وتنزيل وصف الظن منزلة عدمه بلحاظ آثار عدم الظن. والمناقشة في الأول لا بأس بها ومرجعها إلى عدم اليقين بكون الإجماع تعبديّا ليكشف عن قول المعصوم عليه السلام. وأما المناقشة في الوجه الثاني فهي غير واردة على كلا شقّي الترديد في كلام الشيخ. وتوضيح ذلك : أنّ الظن غير المعتبر على قسمين : أحدهما : ما قام الدليل على إلغائه وعدم اعتباره كالظن القياسي ، وهذا ما ألحقه الشيخ بالشك ببيان أنّ دليل الإلغاء يتكفّل تنزيله منزلة العدم فيترتّب عليه كل ما يترتّب شرعا على عدمه. والآخر : ما لم يقم دليل على اعتباره فيكون مقتضى الأصل عدم حجيّته كالشهرة. وهذا ما ألحقه الشيخ بالشك ببيان أنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسببه يكون من باب نقض اليقين بالشك. والظاهر إنّ نظره (رحمه اللّه) إلى نظير ما يقال في ردّ شمول الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للظن المعتبر بأنّه خارج تخصّصا ، لأنّه بعد قيام الدليل القطعي على حجيّته لا يكون العمل به عملا بغير العلم بل عملا بالعلم باعتباره ، فيقال فيما نحن فيه إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بالظن المشكوك اعتباره يكون استنادا إلى الشك ونقضا لليقين بالشك باعتبار الظن. ولا يخفى عليك أنّ ما أفاده صاحب الكفاية - وتبعه غيره - في مناقشة الشيخ إنّما يرد على ما أفاده بالنسبة إلى الظن الّذي قام على عدم اعتباره الدليل ، إذ يقال أنّ الدليل على الإلغاء ناظر إلى عدم إثبات المظنون به تعبّدا لا تنزيل الظن منزلة عدمه في آثار عدم الظن الشرعية. ولا يرد على ما أفاده بالنسبة إلى الظن المشكوك اعتباره بالبيان الّذي عرفته ولا يرتبط به بوجه أصلا كما لا يخفى ، فالجمع بين القسمين في مقام المناقشة ليس بسديد. فالمتّجه أن يقال في مناقشة الشيخ : أنّ العمل في مورد الظن المشكوك الاعتبار لا يستند إلى الشك بل إلى الظن ، فإنّه لو سلّم صحّة استناد العمل في مورد العلم بالحجيّة إلى العلم لا إلى نفس الظن المعلوم الحجية فهو لا يسري إلى ما نحن فيه ، إذ العلم في مورد الفرض أقوى من الظن فيصلح أن يكون هو المستند إليه لضعف الظن بالإضافة إليه. وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه بل الأمر بالعكس ، فإنّ الشك أضعف من الظن ، فمع اجتماعهما يكون المستند هو الظن ، فيقال عمل بالظن لا بالشك. وبالجملة : الملاحظ في سيرة العقلاء هو الاستناد إلى أقوى الجهتين مع اجتماعهما بحيث يعلّل العمل به لا بالأضعف ، فتدبّر. وكيف كان في غير هذين الوجهين مما أشرنا إليه تبعا للغير كفاية. ثم أنّ بعض كلمات الكفاية في المقام لا يخلو عن غموض وإشكال الأول وهلة ، وهو قوله : - بعد أن استشهد على العموم بقوله عليه السلام : « لا حتى يستيقن أنّه قد نام » بعد السؤال عمّا إذا حرّك في جنبه وهو لا يعلم وترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة الظن وما إذا لم تفد - : « وقوله عليه السلام : بعده ولا تنقض اليقين بالشك أنّ الحكم في المغيا مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك » فإنّ دلالة قوله : « ولا تنقض اليقين بالشك » على ثبوت حرمة النقض في موارد الشك بقول مطلق ليست محل الكلام وإنّما محل الكلام إرادة مطلق عدم العلم من الشك وهذا لا يثبت بظهور الكلام في حرمة نقض اليقين بالشك مطلقا. ويمكن رفع الغموض عن كلامه بأن يقال أنّ مراده : إنّ ظاهر قوله : « ولا تنقض اليقين بالشك » أنّه تطبيق على ما أفاده في قوله : « لا حتى ... » وهو الحكم المغيا ، فيستكشف أنّ الحكم الثابت في المغيا بقول مطلق مصداق لعدم نقض اليقين بالشك ، وبعد ضميمة عموم الحكم في المعنى لصورة الظن الحاصل من تحريك شيء وهو لا يعلم ، يثبت أنّ المراد بالشك ما يعمّ الظن ، فلاحظ والأمر سهل.

ص: 317

ويبقى في المقام تنبيهان آخران ذكرهما الشيخ في الرسائل ، لا بد من التعرض لهما لهما لما يترتب عليهما من آثار عملية.

اما التنبيه الأول : فالكلام فيه حول استصحاب الصحة (1).

ص: 318


1- لا يخفى أنّ البحث في استصحاب الصحة عند طرو مشكوك المانعية أو القاطعية بحث صغرويّ لا كبرويّ ومرجعه إلى تشخيص أنّ المورد من موارد الاستصحاب بالحدود المقرّرة له أو لا؟ نظير مبحث استصحاب العدم الأزلي على ما تقدّم في محله. وتحقيق الكلام في استصحاب الصحة عند وجود مشكوك المانعية ، كالتبسّم في الصلاة - مثلا - بنحو يستوعب جميع احتمالاته أن يقال : إنّ الصحة كما بيّن في محله بمعنى التمامية ، من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأثر الملحوظ والنتيجة المترقّبة فقد يكون العمل تامّا من جهة وليس تامّا من جهة أخرى. وعليه نقول : إنّ الصّحة المشكوكة عند طرو مشكوك المانعية إما أن يراد بها تماميّته من حيث ترتّب الأثر وإما أن يراد بها التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث سقوط الأمر. أما الصحّة من حيث ترتّب الأثر بمعنى المصلحة المترتّبة على العمل ، فإن أريد بها صحة مجموع العمل فهي مشكوكة الحدوث فلا معنى لاستصحابها ، وإن أريد بها صحة الأجزاء السابقة فتحقيق الحال فيها : إنّ الأثر المترتّب على العمل تارة يكون ترتّبه دفعيا يحصل بالإتيان بجميع الأجزاء فلا يترتّب على كل جزء جزء أي شيء ، وأخرى يكون ترتّبه تدريجيّا بحيث تحصل مرتبة منه عند أول جزء وهكذا يتصاعد بتحقّق الأجزاء إلى أن يتحقّق بكامله عند تحقّق الجزاء الأخير ، نظير الحرارة المتصاعدة تدريجا باستمرار النار. وعلى هذا التقدير فشأن حدوث المانع في الأثناء. إما المنع عن ترتّب مراتب الأثر على الأجزاء اللاحقة. وإما رفع الأثر المترتّب على الجزء السابق ، نظير الماء البارد والملقى على الماء المغلي يرفع الحرارة الثابتة للماء. وإما دفع الأثر المترتّب على الجزء السابق بأن يكون ترتّب الأثر عليه مقيّدا ومنوطا بعدم حصول المانع ، فيصير حاصل الاحتمالات أربعة. أما على الاحتمال الأول : - وهو ما إذا كان ترتّبه دفعيّا عند حصول جميع أجزاء العمل - فلا مجال للاستصحاب لعدم اليقين بحدوث الصحة قبل انتهاء العمل. وأما على الاحتمال الثاني : فعند حصول المشكوك يشك في ترتّب على الأجزاء اللاحقة وهو غير مسبوق باليقين بل هو مشكوك الحدوث رأسا فلا يجري الاستصحاب بلحاظها ، وأما بلحاظ الأجزاء السابقة فلا شك في البقاء لأنّ الأثر المترتّب على الجزء لا يرتفع بالمانع على الفرض فالبقاء متيقّن. وأما على الاحتمال الرابع : فصحّة الأجزاء السابقة مشكوكة الحدوث رأسا عند حصول مشكوك المانعية. نعم على الاحتمال الثالث : يكون لدينا يقين بالحدوث وشك في البقاء لليقين بتحقّق مرتبة من الأثر والشك في زوالها ، ولكن لا يخفى عليك أنّ الصحة بهذا المعنى ليست حكما مجعولا ولا موضوعا لحكم مجعول ، فلا تكون مجرى الاستصحاب. والّذي يتلخّص أنّ الصحة بمعنى ترتّب الأثر لا تكون موردا للاستصحاب بتاتا. ولكن الّذي يبدو لنا بوضوح : أنّ الصحة بلحاظ ترتّب الأثر يراد بها غير ما ذكرناه تبعا لبعض الاعلام ، إذ المبحوث عنه في المسألة هو إثبات عدم مانعية المشكوك بالاستصحاب وتمامية العمل والاكتفاء به في مقام الامتثال بحيث لا تجب عليه الإعادة وهذا أجنبيّ بكل معنى الكلمة عن ترتّب المصلحة على العمل وعدمه فالملحوظ في الأثر هو الاكتفاء به في مقام الامتثال لا ترتّب المصلحة عليه ، ومنه ظهر الإشكال في كلمات المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) فلاحظ. وكيف كان فإذا عرفت أنّ البحث عن الصحة بلحاظ الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، فقد يقال : إنّ جواز الاكتفاء في مقام الامتثال مما تناله يد الجعل الشرعي كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز ، سواء كان مجعولا رأسا أو بتبع غيره فإنّ ذلك لا يهم ، بل المهم إنّه مما يقع موردا للتعبّد الشرعي. وعليه فيمكن أن يكون موردا للاستصحاب فيما نحن فيه فإن العمل قبل حصول مشكوك المانعية كان مما يكتفي به في مقام الامتثال وبعد حصول المشكوك يشك في بقاء صحته بهذا المعنى ، فتستصحب. ولكن يرد عليه : إنّ المقصود إن كان استصحاب صحة مجموع العمل فهو بعد لم يتحقّق ، فلا يقين بالحدوث. وإن كان استصحاب صحة الأجزاء المتحقّقة فقط ، فهي غير مشكوكة البقاء لأنّها وقعت امتثالا فلا تنقلب عما وقعت عليه ، وإنما يشك في تحقّق سائر الأجزاء والشرائط وامتثال الأمر من جهتها. فاستصحاب الصحة لا يجري إما لعدم اليقين بالحدوث أو لعدم الشك في البقاء. وقد يجعل مورد الاستصحاب المزبور هو الأجزاء اللاحقة لكن بنحو الاستصحاب التعليقي ، فيقال : إنّ الأجزاء اللاحقة كانت قبل عروض مشكوك المانعية مما يكتفي بها في مقام الامتثال لو وجدت ، فالآن كذلك. ولكن للتأمّل في هذا الاستصحاب - مع قطع النّظر عن ابتنائه على جريان الاستصحاب التعليقي الّذي لا نقول به في الأحكام والموضوعات كما تقدّم - مجال واسع وذلك لوجهين : الأول : إنّ الاكتفاء بالعمل في مقام الامتثال وإن سلّم أنّه مما يقع موردا للتعبّد الشرعي كموارد قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز والأوامر الظاهرية ، إلاّ أنّه تابع للدليل عليه ، ولذا لا يكون شرعيا مع الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي بل يكون عقليا لعدم تصدّي الشارع للتعبّد به بل هو مما يحكم به العقل. وعليه نقول : إنّ جواز الاكتفاء في مقام الامتثال الثابت للأجزاء ليس مما تعبّد به الشارع بل هو مما يحكم به العقل باعتبار موافقة الأمر الواقعي. فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لأنّه حكم عقلي أولا ، ولتبدّل الموضوع ثانيا ، لأنّ كل ما يكون دخيلا في الحكم العقلي يكون مأخوذا في موضوعه. ومن الواضح أنّ العقل كان يحكم بالاكتفاء بالأجزاء مقيّدا بعدم مشكوك المانعية لأجل إحراز موافقة الأمر ، فمع حصول المشكوك يتبدّل الموضوع ، للشك في موافقة الأمر. الثاني : إنّ المورد ليس من موارد الاستصحاب التعليقي الّذي تقدّم الكلام فيه نفيا وإثباتا ، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب التعليقي هو ما إذا كان الحكم ثابتا لموضوع موجود بالفعل على تقدير شرط لم يتحقّق بعد ، كالحرمة الثابتة للعنب على تقدير الغليان ، فإذا تبدّل إلى الزبيب يقال : هذا كان محرّما على تقدير الغليان فالآن كذلك. فموضوع الحكم موجود بالفعل ويكون للحكم التعليقي - بما هو تعليقي - ثابتا له بالفعل. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ الاكتفاء في مقام الامتثال المترتّب على الأجزاء اللاحقة ليس موضوعه طبيعي الأجزاء وشرطه هو وجودها ، فيقال : إنّ طبيعيّ الأجزاء يكتفي به في مقام الامتثال على تقدير وجوده ، كي يجري الاستصحاب التعليقي عند طرو مشكوك المانعية ، لأنّ الموضوع غير الشرط الّذي لا وجود له فيمكن فرضه بالفعل وقبل وجوده الّذي هو الشرط. وإنّما موضوعه هو وجود الطبيعة فإنّه هو الّذي يكتفي به في مقام الامتثال ، فقبل وجود الأجزاء ليس لدينا ما يقال إنّه كان يكتفي به في مقام الامتثال على تقدير والآن كذلك. وعند وجودها يكون الاكتفاء مشكوك الحدوث رأسا ، فلا مجال للاستصحاب المدّعى. وأما الصحة من حيث موافقة الأمر ، فالكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الصحة بلحاظ مقام الامتثال من عدم الشك في البقاء لو أريد صحة الأجزاء السابقة وعدم اليقين بالحدوث لو أريد بها صحة المجموع المركّب ، وكونه من الاستصحاب التعليقي الّذي عرفت إشكاله لو أريد صحة الأجزاء السابقة. هذا مع أنّ موافقة الأمر ليست من الأمور الشرعية بل هي تنتزع عن مطابقة المأتيّ به للمأمور به وليست مجعولة بل تتحقّق بتحقّق أمرين والعمل الخارجي المطابق. ومن الواضح إنّها تبتني على وجود الأمر في مرحلة سابقة على العمل ، إذ لا يتعلّق الأمر بما هو موجود كي يكون المأتي به قبل الأمر مطابقا للمأمور به بعد الإتيان. ومن هنا اتّضح أنّ الأمر الشرعي وإن كان دخيلا في انتزاع عنوان الموافقة لكنّ ذلك لا ينفع في قابلية الموافقة للجعل والرفع ولو بلحاظ منشأ انتزاعه ، لأنّ الأمر لو كان هو الجزء الأخير من العلّة لأمكن الالتزام بذلك ، لكن عرفت أنّه أسبق من الجزء الآخر وهو العمل الخارجي ، فالجزء الأخير لانتزاع عنوان الموافقة هو عمل المكلّف وهو ليس بشرعي ، فتدبّر. ومن هنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقّق العراقي من جريان استصحاب الصحة بمعنى موافقة الأمر ببيان أنّها شرعية لشرعية منشأ انتزاعه وهو أمر الشارع وتكليفه ، وقد عرفت منع كونها شرعية ، كما أنّ ما أفاده في تقريب جريانه بان الموافقة من الأمور التدريجية بتدرّج الأجزاء ، فمع الشك في مانعية الموجود يجري استصحاب الموافقة على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية ، يرد عليه أن جريان الاستصحاب في الأمر التدريجي إنّما ينفع في إثبات الأمر التدريجي بمفاد كان التامة كبقاء النهار والكلام والجريان ولا ينفع في إثبات اتّصاف الموجود بالوصف التدريجي ، فلا يثبت باستصحاب النهار نهارية الموجود. وعليه فاستصحاب الموافقة التدريجية لا يثبت سوى بقائها وأما اتّصاف المأتيّ به بالموافقة فهو لا يثبت بالاستصحاب. ومحل الأثر هو كون المأتيّ به موافقا له ، فلاحظ. وأما الصحة من حيث بقاء الأمر بالعمل وعدم سقوطه فتحقيق الحال فيها : إنّ الأمر الّذي يتعلّق بالمركّبات التدريجية كالصلاة إما أن يلتزم بأنّه موجود دفعة من حين العمل ، غاية الأمر أنّ داعويّته واقتضاءه تدريجيّ الحصول بتدرّج العمل فعند أوّل جزء يكون داعيا إليه وبعد إتيانه يدعو للجزء الآخر وهكذا. وإما أن يلتزم بأنّه موجود تدريجا بتدرّج العمل ، فيحصل جزء منه عند أوّل جزء ثم يحصل جزء آخر منه عند الجزء الآخر من العمل وهكذا ، ومبنى هذا القول هو الالتزام باستحالة الواجب المعلّق ، فيستحيل الحكم الفعلي من الآن بجميع أجزاء العمل التدريجي لأنّ تعلّقه بغير الجزء الأول يكون من قبيل الواجب المعلّق. فعلى المبنى الأول ، إذا تخلّل مشكوك المانعية يحصل الشك في سقوط اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل الإتيان بمشكوك المانعية ، فقد يقال باستصحاب اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق ويترتّب عليه لزوم إتيانه ، ولكن لا يخفى أن اقتضاء الأمر ليس أمرا شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فلا مجال للاستصحاب. وأما على المبنى الثاني ، فتخلّل مشكوك المانعية يوجب الشك في سقوط الأمر المتعلّق بالجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل إتيان المشكوك. والأمر مما يمكن استصحابه ويترتّب عليه لزوم الإتيان به عقلا ويحصل الامتثال. لكن المبنى نفسه مما لا نلتزم به كما حقّق في محلّه. فتلخّص : أنّ استصحاب الصحة بجميع احتمالاته لا مجال له إلاّ على فرض واحد لا نلتزم بمبناه ، فتدبّر. وبملاحظة هذه الشقوق في استصحاب الصحة تعرف القصور في كلمات الشيخ والمحقّق النائيني لعدم استيعابها لجميع هذه الشقوق ، والأمر سهل. هذا تمام الكلام في استصحاب الصحة عند طروء مشكوك المانعية.

ص: 319

ص: 320

ص: 321

والكلام في مقامين :

المقام الأول : في استصحابها مع الشك في مانعية الموجود أو اعتبار المفقود.

المقام الثاني : في استصحابها مع الشك في طرو القاطع المعبر عنه باستصحاب الهيئة الاتصالية.

امّا الكلام في المقام الأول : فتحقيقه : انه قد يتمسك عند الشك في أحدهما باستصحاب صحة العبادة.

وقد نفي الشيخ في مبحث الاشتغال جريان الاستصحاب المذكور.

بتقريب : ان المستصحب إن كان صحة مجموع العمل ، فهو بعد لم يتحقق ، فلا معنى لاستصحابه. وان كان صحة الاجزاء السابقة ، فالمراد بصحتها لا يخلو امّا

ص: 322

ان يكون موافقتها للأمر الضمني أو الغير المتعلق بها. وامّا ان يكون ترتب الأثر عليها ، وهو حصول المركب بها مع انضمامها إلى باقي الاجزاء والشرائط.

وهي بكلا معنييها مقطوعة البقاء ، لأنها حين الإتيان بها وقعت مطابقة للأمر المتعلق بها فلا تنقلب عما وقعت عليه ، كما انها بنحو لو انضم إليها تمام الاجزاء والشرائط لحصل الكل. فعدم حصول الكل الناشئ من عدم انضمام تمام ما يعتبر فيه إليها لا يوجب الإخلال بصحتها بهذا المعنى. كما هو الحال في المركبات الخارجية مثل : « الإسكنجبين » ، فانه لا يضرّ في صحة « الخل » - بما انه جزء - عدم انضمام باقي الاجزاء إليه.

وعليه ، فلا معنى لاستصحاب الصحة.

وبعد ان ذكر هذا التقريب أورد على نفسه بما محصله : انه بناء على ما ذكر يمتنع عروض البطلان على الاجزاء إلى الأبد ، مع انا نرى وقوع التعبير ببطلانها في النصوص والفتاوى ، وهو ينافي ما ذكر.

وأجاب عنه : بأنه لا ضير في الالتزام بعروض البطلان عليها ، ومعناه عدم الاعتداد بها في حصول الكل (1). ومن هنا كان في كلامه مجال لتوهم جريان الاستصحاب ، لأنه بعد التزامه بإمكان عروض البطلان والصحة على الاجزاء بهذا المعنى ، فمع الشك فيه يمكن إجراء الاستصحاب. وهو لم يتعرض لمنع جريانه. ولكنه أشار إلى منعه بما ذكره من تعليله لعدم الاعتداد بعدم التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها.

وتقريب منعه بوجهين :

الأول : ان المتعبد به شرعا لا بد ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي أو أمرا منتزعا عن حكم شرعي ، ويمثل للأخير - وهو مركز الاستشهاد

ص: 323


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /389- الطبعة الأولى.

بالتعبد بالصحّة ، بمعنى موافقة الأمر ، وبمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال. فان الشك في صحة العمل.

تارة : يكون سابقا على الإتيان - وهو المراد بها بمعنى موافقة الأمر - ، بمعنى انه حين إرادة الامتثال يشك في ان مجموع هذا العمل موافق للأمر أو لا.

وأخرى : يكون بعد الإتيان به - وهو المراد بها بمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال - ، بمعنى انه بعد الإتيان بالعمل يشك في الاكتفاء به في الامتثال وسقوط الأمر وعدمه. وموافقة الأمر ليست حكما شرعيا ، ولا موضوعا لحكم شرعي ، بل هي انما تنتزع عن تعلق الأمر بما يطابق المأتي به وهو أمر شرعي. وكذلك الاكتفاء به في الامتثال ، فانه أمر عقلي يدور مدار سقوط الأمر وعدمه - وان خالف في ذلك بعض الأعاظم ، فجعله بيد الشارع (1) - ، ولكنه ينتزع عن بقاء الأمر وعدم بقائه وهو أمر شرعي ، كما لا يخفى. والصحة بكلا هذين المعنيين وان لم تكن من الأحكام الشرعية ولا من موضوعاتها ، ولكنها منتزعة عن أمر شرعي. فالتعبد بها بلحاظ منشأ انتزاعها. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن الصحة والبطلان بالمعنى المذكور - وهو الاعتداد بها وعدمه - تنتزعان عن التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها وعدم التمكن ، وهو ليس بأمر شرعي. وان كان منتزعا عن أمر شرعي ، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنها تنتزع عن أمر غير شرعي بل انتزاعي.

الوجه الثاني : ان المشكوك على تقدير مانعيته نسبته إلى الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فكما يمنع عن الاعتداد بالأجزاء السابقة كذلك يمنع عن الاعتداد باللاحقة ، فاستصحاب بقاء الاعتداد بالأجزاء السابقة لا يجدي. في إثبات الاعتداد بالاجزاء اللاحقة وصحتها بهذا المعنى ، إلاّ بنحو الأصل

ص: 324


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 241 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المثبت.

وقد اعترض المحقق الهمداني رحمه اللّه على الشيخ رحمه اللّه في جوابه المذكور : بأنه التزام منه باتصاف الاجزاء بالصحّة والبطلان. ثم التزم بجريان الاستصحاب بتقريبين.

الأول : انه يجري استصحاب صحة الاجزاء السابقة لنفي وجوب الإعادة ، ويترتب عليه وجوب المضي في العمل ، وهو حكم شرعي وبذلك دفع الإشكال عليه بكونه مثبتا.

التقريب الثاني : انه يجري استصحاب تنجز وجوب الاجزاء اللاحقة ، لأنه بعد الإتيان بالجزء السابق يتنجز وجوب الجزء اللاحق ، فعند الإتيان بمشكوك المانعية يشك في بقاء تنجز الوجوب وارتفاعه فيستصحب.

ولكن كلا تقريبيه غير تامين :

امّا التقريب الثاني : فلأنه امّا ان نقول : بان وجوب المركب التدريجي فعلي قبل الإتيان به. أو نقول : بان فعلية الأمر وتنجزه تدريجية أيضا بتدريجية الاجزاء. فعند حصول كل جزء والإتيان به يتنجزه الأمر بالجزء الآخر. وهكذا - كما عليه المحقق المذكور على ما هو ظاهر كلامه في المقام -.

وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره.

فعلى القول الأول : فلا مجال للاستصحاب أصلا ، لأن الحكم الشرعي بخصوصياته المرتبطة بالشارع ثابت قبل الإتيان بها وباق ولا شك فيه. وإمكان الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه أمر عقلي ناشئ من حكم العقل بالتمكن من الإتيان به عند الإتيان بما سبقه وعدم التمكن منه عند عدم الإتيان بسابقه.

ص: 325

وعلى القول الثاني (1) : فلأنه وان أمكن تصور الاستصحاب النسبة إلى وجوب الجزء اللاحق الأول حيث كان منجزا فيستصحب ، ولكنه لا ينفع بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى اللاحقة. وقد عرفت ان الشك فيها موجود للشك في طرو المانع.

وتوهم : ان تنجز وجوب الجزء اللاحق بامتثال الجزء السابق ، فمع الإتيان به بعد استصحاب تنجز وجوبه يتنجز وجوب الجزء اللاحق الآخر.

مندفع : بأنه انما يتم لو كان امتثال الجزء السابق موضوعا لتنجز وجوب الجزء اللاحق ، ولكنه ليس كذلك ، لأن المفروض ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال ومترابطة ، ولا امتثال لكل منها مستقلا وعلى حدة ، والموضوعية تقتضي استقلال كل منها بالامتثال. وانما تنجز وجوب الجزء اللاحق ملازم لامتثال الجزء السابق - والملازمة عقلية واقعية - ، فتحققه بامتثال الجزء السابق يتوقف على القول بالأصل المثبت ، لأنه امتثال ظاهري بمقتضى الاستصحاب لا واقعي.

وامّا التقريب الأول : فوضوح الإشكال عليه يتوقف على بيان ان وجوب الإعادة هل هو أمر عقلي أو شرعي؟. وما علاقة وجوب المضي به؟.

وتحقيق ذلك : انه قد اختلف في كيفية تعلق الأمر بالمركب الاعتباري التدريجي إلى مسالك ثلاثة :

الأول : انه متعلق بالاجزاء مع لحاظ عنوان زائد عليها ، وهو سابقية الجزء

ص: 326


1- لم يرتض سيّدنا الأستاذ هذا الإشكال في هذه الدورة ولذا تقدّم التزامه بجريان الاستصحاب بناء على الالتزام بتدريجية الوجوب ، وإنّما منع أصل المبنى ، وعلّله بأنّ الأمر إذا كان تدريجيّا ، أمكن استصحاب بقائه بمجرد حصوله وتعلّقه بالجزء اللاحق الأول ، فعند وصول النوبة إلى الجزء اللاحق الثاني يستصحب بقاء الأمر ، لأنّه واحد تدريجي لا متعدّد. ولكن في النّفس منه شيء ، فإنّ استصحاب بقاء الأمر بالصلاة لا ينفع في إثبات تعلّق الأمر بهذا العمل وهذا الجزء ، كما التزم به في سائر الأمور التدريجية ، فتدبّر.

على الآخر ولا حقية الآخر له. فالامر الضمني المتعلق بالجزء لا يسقط إلاّ مع الإتيان به وحفظ عنوانه من السبق أو اللحوق ، فمع عدم الإتيان بالجزء اللاحق لا يسقط الأمر بالجزء السابق ، بل يبقى على ما كان عليه من اقتضاء الإتيان به بعنوانه ، ومع الشك في الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه ، يشك في كون الإتيان بالجزء السابق بعنوانه المأخوذ فيه وعدمه. فيشك في صحته وموافقته للأمر من أول الأمر. ومعه تجري أصالة عدم الصحة. ولا مجال لاستصحاب الصحة لعدم تحققها ، بل هي مشكوكة التحقق والحدوث.

وعليه ، تجب إعادة هذا الجزء لبقاء أمره على اقتضائه.

المسلك الثاني : انه متعلق بذوات الأجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذواتها ، وانه امر واحد متعلق بالجميع ويسقط بالإتيان بالكل. وغاية الأمر ان فيه اقتضاءات متعددة بتعدد الأجزاء يحكم العقل بها ، فعند الإتيان بكل جزء يسقط اقتضاء الأمر الخاصّ بذلك الجزء وهكذا ، فإذا طرأ المانع في الأثناء تجدد اقتضاء الأمر للإتيان بالاجزاء السابقة بنظر العقل ، فتجب إعادتها حينئذ ووجوب الإعادة بهذا المعنى عقلي.

المسلك الثالث : انه متعلق بذوات الاجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذاتها ، وانه أمر واحد ولكنه يسقط الإتيان بكل جزء بقدره. فإذا طرأ المانع في الأثناء ثبت أمر آخر يتعلق بالمجموع بنفس الملاك الّذي اقتضى الأمر أولا ، لغرض بقاء الملاك مع عدم الإتيان بالمركب ، فتجب إعادة الأجزاء السابقة حينئذ. ووجوب الإعادة بهذا المعنى شرعي.

ولا يخفى ان الصحة على كلا المسلكين الأخيرين معلومة التحقق ، فيمكن تصور الشك في بقائها عند الشك في طرو المانع. بخلاف المسلك الأول فانها عليه مشكوكة التحقق عند الشك في طرو المانع ، لأن مرجع الشك في المانعية إلى أخذ عدمه جزءا ، فيشك في أن الأجزاء السابقة هل انحفظ فيها

ص: 327

عنوان السبق على الجزء الآخر أولا؟ ، فيشك في أصل الصحة.

وإذا تبين ما ذكرنا ، تعرف انه لا مجال للكلام في استصحاب الصحة - على المسلك الأول - ، كي يبحث في صحة ترتب عدم وجوب الإعادة عليه ، لغرض عدم اليقين بها أصلا في صورة الشك في طرو المانع. وقد عرفت ان الأصل عدم الصحة.

نعم ، يتأتى الكلام فيه على المسلكين الأخيرين لتحقق موضوعه.

إلاّ انه حيث كان وجوب الإعادة المدعى المترتب على استصحاب الصحة عقليا - على المسلك الثاني - لا شرعيا ، لأنه يكون - عليه - عبارة عن اقتضاء الأمر الإتيان بهذا الجزء بنظر العقل ، لم يجري الاستصحاب لعدم ترتب عدم وجوب الإعادة عليه كما ادعي.

نعم ، بناء على المسلك الثالث يكون وجوب الإعادة شرعيا ، لأنه عبارة عن ثبوت امر آخر يشمل هذا الجزء ، فيترتب على استصحاب الصحة عدم وجوب الإعادة.

إلاّ ان الغرض من استصحاب الصحة وعدم وجوب الإعادة ليس هو إلاّ إثبات صحة الاجزاء اللاحقة - لما عرفت من ان نسبة الشك إليها نسبته إلى الأجزاء السابقة - ، ولا طريق إليه إلا إثبات ترتب وجوب المضي على عدم وجوب الإعادة ، وهو ممنوع ، لأن وجوب المضي أمر عقلي ينتزعه العقل من أمر شرعي ، وهو الوجوب الشرعي المتعلق بالاجزاء اللاحقة ، وأمر تكويني ، وهو الإتيان بالاجزاء السابقة ، فان الوجوب المتعلق بالاجزاء اللاحقة محفوظ وثابت لا يرتفع بحال اما في ضمن الكل أو بنفسها بعد الإتيان بسابقها ، فوجوب المضي ينتزع عقلا عنه وعن الإتيان بالاجزاء السابقة ، وإلاّ فهو مما لا أثر له في لسان الشارع ، وعليه فلا يترتب على عدم وجوب الإعادة.

نعم ، لو كان وجوب المضي بمعنى وجوب الإتمام وحرمة الابطال ، وسلمنا

ص: 328

بثبوت وجوب تكليفي للإتمام آخر غير الأمر بالعبادة. كان وجوب المضي حكما شرعيا ، لأنه عبارة أخرى عن وجوب الإتمام. لكن لا يجدي ترتبه على الاستصحاب في الاكتفاء بالعمل في مقام امتثال الأمر بالعبادة ، لأن المضي والإتمام انما يكون امتثالا للأمر بالإتمام ، لأنه حكم تكليفي مستقل - كما هو المفروض - ويشك في كونه امتثالا للأمر بالعبادة.

نعم ، لو قلنا : ان وجوب الإتمام ليس حكما تكليفيا آخر غير وجوب نفس العمل ، وانما يرجع إلى تعيين امتثال الأمر الطبيعي في خصوص هذا الفرد. كان الاستصحاب مجديا ، فانه يستصحب صحة الأجزاء السابقة ، فيترتب عليها وجوب الإتمام وهو حكم شرعي معين لامتثال ذلك الأمر بهذا الفرد. فإذا جيء بباقي الأجزاء امتثل الأمر بالطبيعي.

وقد نقل السيد الخوئي - كما في بعض تقاريره - عن الشيخ - بعد ما نقل عنه : ان استصحاب الصحة بمعنى تمامية مجموع الاجزاء والشرائط لا يجري ، لأنها بهذا المعنى مشكوكة الحدوث - : أن صحة الاجزاء السابقة التي هي عبارة عن الصحة التأهلية ، بمعنى كونها قابلة لانضمام الاجزاء إليها ، لا تكون محتملة الارتفاع بل هي باقية يقينا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب الا على نحو التعليق ، بان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر الاجزاء قبل حدوث هذا الشيء لحصل الامتثال فالآن كما كان.

ثم حكم بعد نقل هذا : بمتانة ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب ، وانه لا يمكن جريانه الا على نحو التعليق ، وهو غير حجة لا سيما في الموضوعات ، كما في المقام (1).

ولا يخفى ان ما ذكره حكاية عن الشيخ من عدم جريان الاستصحاب

ص: 329


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 211 - الطبعة الأولى.

الا على نحو التعليق يبتني على أمرين :

الأول : ان يكون الملحوظ في قابلية الاجزاء السابقة الانضمام إلى الاجزاء الأخرى المعينة بنحو القضية الخارجية ، لأنه إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية ، وان الانضمام إلى باقي الاجزاء لا إلى هذه الاجزاء المعينة الباقية ، لا يكون هناك شك أصلا لليقين بحصول الامتثال واستمراره - حتى بعد طرو المانع - مع انضمام الاجزاء السابقة إلى باقي الاجزاء المعتبرة. فالشك انما يتحقق إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بالنحو الأول.

الأمر الثاني : ان يلحظ الأثر المترتب على الكل - وهو حصول الامتثال - ، فانه إذا أضيف إلى بعض الاجزاء اقتضى تعليقها على انضمام البعض الآخر إليها.

وإلاّ فلو لوحظ الأثر المترتب عليها فلا معنى للتعليق - كما لا يخفى -.

ومن الواضح ان هذين الأمرين لا أثر لهما في كلام الشيخ ، لأنه لاحظ الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية لا بنحو القضية الخارجية ، لما عرفت من كلامه من ان الصحة ، بمعنى ترتب الأثر تتصور على نحوين :

أحدهما : ان الاجزاء السابقة لو ضم إليها تمام ما يعتبر في الكل لالتأم الكل ، وهي مقطوعة البقاء حتى مع العلم بطرو المانع.

النحو الثاني : ان الاجزاء السابقة معتد بها في الكل المعبر عنها بعدم لغوية الاجزاء ، وهي التي كانت مجالا للإيراد كما عرفت.

ولا أثر - في كلا النحوين - لهذا الوجه الّذي نقله عن الشيخ من لحاظ الاجزاء السابقة منضمة إلى الاجزاء الأخرى بنحو التعيين.

كما ان الشيخ - بصريح كلامه - لاحظ الأثر المضاف إلى الاجزاء أثرها الخاصّ المترتب عليها.

ص: 330

ثم (1) ما ذكره من متانة حكم الشيخ بعدم الاستصحاب لعدم جريان الاستصحاب التعليقي لا سيما في الموضوعات. لا وجه له ، لأن المستصحب أمر شرعي ، فان حصول الامتثال - على رأيه - بيد الشارع. والشيخ يقول بجريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام وان نفاه في الموضوعات.

والمحقق العراقي قدس سره بعد ما بين - أن سبب الشك في الفساد والصحة يتصور على وجوه. وأجرى الأصل في بعض الموارد في نفس السبب دون المسبب. ومنع جريانه في نفس السبب في بعض الموارد الأخرى ، وانه على تقدير جريان الأصل فيها ، فهو انما يجري في المسبب وهو الصحة وانه قد وقع الخلاف فيه - أفاد : بان الشيخ اختار المنع عنه بتقريب : ان المراد بالصحّة المستصحبة للأجزاء ان كان هو الصحة الشأنية فهي مقطوعة البقاء ، فلا مجال لاستصحابها. وان كان هو الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية فلا مجال لاستصحابها لعدم اليقين بحدوثها ، لأنها انما تكون عند الإتيان بالكل من الاجزاء والشرائط والمفروض الشك في ذلك.

وأورد عليه : بأنه انما يتم لو كان ترتب الأثر عليها دفعيّا عند حصول تمام اجزاء المركب. اما مع فرض تدريجية حصوله بتدريجية الأجزاء ، فكل جزء يؤثر في مرتبة من مراتبه حتى يتم المركب ، فلا وجه لمنع الاستصحاب ، فانه بعد تحقق جزء أو جزءين يعلم بتحقق الصحة التدريجية ، أو بعد طرو المشكوك يشك في بقائها بتلاحق بقية الاجزاء والشرائط فتستصحب.

ص: 331


1- بينا في دفتر الاستدراكات انه لا مجال للاستصحاب التعليقي هاهنا. فراجع. ثم ان ما ذكرناه كان بالنسبة إلى الحكم التعليقي الثابت للاجزاء اللاحقة ، ومحل الكلام هنا هو الحكم التعليقي الثابت للاجزاء السابقة. والفرق بينهما موجود ، لوجود الاجزاء السابقة ، فيرتفع الإشكال الّذي بيناه. ولكن نقول : ان الحكم التعليقي لا يثبت للاجزاء السابقة وحدها ، فلا يصح ، بل هي منضمة إلى سائر الاجزاء ، فلا يصح ان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر ما يفيد لتحقق الامتثال بها ، بل يتحقق الامتثال بها وبغيرها من الاجزاء فانتبه ولا تغفل.

ثم استظهر من ذلك إمكان جريان استصحاب الصحة ، بمعنى موافقة الأمر ، فانها أيضا تدريجية الحصول ، فمع طرو المشكوك يشك في بقاء هذه الموافقة التدريجية فتستصحب. كما يستصحب غيرها من الأمور التدريجية (1).

ولكن يرد على استصحاب الصحة بمعنى المؤثرية التدريجية - مع الإغماض عن مثبتيته التي تتضح فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - :

أولا : ان المؤثرية ليست من الأمور الشرعية ، بل هي من الأمور التكوينية اللازمة للأجزاء.

وثانيا : ان هذه المؤثرية المترتبة على الجزء ليست هي ملاك تعلق الأمر ، وإلاّ للزم الأمر بكل جزء مستقل ، مع ان المفروض ارتباطيتها وتلازمها ، فلا كلام في استصحابها وعدمه أصلا.

واما استصحاب الموافقة التدريجية ، فيدفعه : ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال وسقوط الأمر ، فالإتيان بالجزء لا تحصل به الموافقة الا مع ملحوقية غيره له وسابقيته على غيره ، اما بنحو الشرط المتأخر أو أخذه بوصف الملحوقية ، فمع احتمال طرو المانع يشك في أصل الموافقة ، فلا مجال لاستصحابها لأنها مشكوكة الحدوث والتحقق.

ويتحصل من جميع ما ذكرناه : ان لا مجال لاستصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع بأي معنى من المعاني أخذت. وان ما ذكره الشيخ قدس سره متين وتام ومسلم.

يبقى الكلام في :

المقام الثاني : وهو استصحاب الهيئة الاتصالية.

وقد بين الفرق بين القاطع والمانع ، بان كليهما وان كانا يشتركان في ان

ص: 332


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 239 - 241 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

عدمهما مما لا بد منه في الصلاة ، إلاّ ان عدم المانع مأخوذ متعلقا للأمر بنحو القيدية أو الجزئية. بخلاف عدم القاطع ، فانه غير متعلق للأمر ، وانما هو مانع من تحقق الجزء الصوري المعتبر في الصلاة ، المعبر عنه بالهيئة الاتصالية. فانه قد يستفاد من التعبير بالقاطع وجود جزء صوري للصلاة مضافا إلى الجزء المادي - الّذي هو أجزاؤها التي تأتلف منها.

ومن هنا يعلم انه لا بد من الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في صحة استصحاب الهيئة الاتصالية وعدمها.

والجهة الثانية : في تحقيق انه هل يوجد فرق بين القاطع والمانع ، بحيث يختلفان في الآثار أم انهما شيء واحد ، والاختلاف بينهما اصطلاحي لا أكثر.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فقد أفاد الشيخ رحمه اللّه في مبحث الاشتغال انه يمكن إجراء الاستصحاب على نحوين :

الأول : ان يستصحب الهيئة الاتصالية الحاصلة بوجود بعض اجزاء الصلاة ، لأن الهيئة الاتصالية من الوجودات التدريجية التي تحصل بحصول بعض اجزائها ، وهي وجود واحد عرفا وان كان متعددا عقلا وذاتا ، فيمكن استصحابها عند الشك في بقائها.

الثاني : ان يستصحب قابلية الأجزاء السابقة للاتصال بالاجزاء اللاحقة ، فانه قبل طروء محتمل القاطعية كانت القابلية متحققة فيها ، وبعد طروه يشك في بقائها فتستصحب.

ثم أورد على النحو الأول : بان المراد من الهيئة الاتصالية المستصحبة ، ان كان طبيعي الهيئة الاتصالية ، فهو لا يجدينا نفعا. وإن كان الهيئة الاتصالية الحاصلة بين الأجزاء السابقة ، فهي مقطوعة البقاء. وان كان الهيئة الاتصالية بين الأجزاء السابقة واللاحقة فهي مشكوكة الحدوث.

وأورد على النحو الثاني : بان استصحاب القابلية لا يبعد ان يكون من

ص: 333

الأصول المثبتة.

وأجاب عن الإيراد على الأول : بان الاجزاء السابقة واللاحقة وجود واحد بنظر العرف - كما يظهر من تشبيهه له باستصحاب الكربة - ، فيمكن استصحاب الهيئة الاتصالية فيه عند تحقق بعض إجزاءه (1).

وفيه :

أولا : ان الأجزاء متباينة ذاتا ، ووحدتها بالاعتبار ، بمعنى اعتبار الاتصال بينها الّذي تحققه هاهنا محل الكلام ، فكيف تستصحب الهيئة الاتصالية باعتباره!.

وثانيا : ان المستصحب في الأمور التدريجية انما هو الأمر التدريجي بمفاد كان التامة فلا يتكفل الاستصحاب ثبوت الوجود التدريجي بمفاد كان الناقصة.

وعليه ، فاستصحاب الهيئة الاتصالية انما يجدي لو كان المعتبر وجود طبيعي الهيئة الاتصالية ، مع انه ليس كذلك ، لأن المعتبر انما هو الاتصال بين اجزاء الصلاة المأتي بها ، والاستصحاب لا يثبته وانما يدل على بقاء الهيئة الاتصالية. اما انها متحققة في هذا الفرد الخاصّ فلا يدل عليه إلاّ بالملازمة.

وقد تقدم الكلام مع المحقق العراقي في ذلك في مبحث استصحاب الأمور التدريجية. وبيّنا ان الوصف التدريجي إذا كان معروضه تدريجيا - كالنهارية لذات النهار ، والهيئة الاتصالية لاجزاء الصلاة وغير ذلك - لا يتكفل الاستصحاب سوى إثبات الوصف بمفاد كان التامة ، فلا يجدي فيما إذا كان الأثر مترتبا على مفاد كان الناقصة ، فراجع تعرف. وان كانت جميع الإيرادات في استصحاب النهارية لا تتأتى فيما نحن فيه ، فلاحظ.

وأجاب عن الإيراد على النحو الثاني : بأنه لما كان المقصود الأصلي من ثبوت القابلية عدم وجوب استئنافها ، كان الحكم بثبوتها في قوة الحكم بعدم

ص: 334


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /290- الطبعة الأولى.

وجوب استئنافها.

ولا يخفى ان هذا - على تقدير تماميته - لا يمنع من كون الأصل مثبتا ، لأنه لا ينافي وجود الواسطة العرفية بين المستصحب والحكم الشرعي ، وان كان الحكم الشرعي وهو المقصود الأصلي من المستصحب.

فتبين مما ذكرنا عدم صحة جريان استصحاب الصحة بمعنييه عند الشك في طروء القاطع.

واما الكلام في الجهة الثانية : فهو تارة يكون في مرحلة الثبوت والإمكان. وأخرى في مرحلة الإثبات والوقوع.

واما الكلام في مرحلة الثبوت : فقد نفي المحقق الأصفهاني إمكان اعتبار الهيئة الاتصالية. بتقريب : ان الهيئة الاتصالية بمعنى محال وبمعنى آخر لا يجدي ، إذ لا يكون في البين فرق بين القاطع والمانع.

لأنه ان أريد من الهيئة الاتصالية الهيئة الاتصالية الواقعية التي هي عبارة عن الحركة من محل إلى آخر ، المعبر عنها بالحركة من المبدأ إلى المنتهى ، فهو محال ، لأنها - على تقدير كونها في جميع المقولات - انما تكون في مقولة واحدة لا بين مقولات متعددة ، كالهيئة الاتصالية الحاصلة بين المشي أو الكلام أو أمثالهما.

- والصلاة - كما لا يخفى - مؤلفة من مقولات متعددة ، فلا يمكن تحقق الهيئة الاتصالية الواقعية فيها.

وان أريد منها الهيئة الاتصالية الاعتبارية ، بمعنى اعتبار الشارع الاتصال بين هذه الاجزاء على نحو يؤخذ عدم القاطع موضوعا لهذا الاعتبار : فهو لا يجدي ، لأنه مع تحقق القاطع في الأثناء تنفي الهيئة الاتصالية من أول الأجزاء ، لانتفاء اعتبارها مع تحققه ، لانتفاء موضوعه ، وهو عدم القاطع ، لا انه يكون هناك اتصال بين الأجزاء السابقة وينتفي استمراره. وعليه فمع طرو مشكوك القاطعية لا يجري استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في تحققها

ص: 335

وحدوثها.

فلا يكون هناك فرق بين القاطع والمانع حينئذ ، لأن المانع ما كان وجوده مخلا بالعمل بكامله ورافعا لأثر الكل (1).

ولكن ما ذكره قدس سره من عدم اعتبار الهيئة الاتصالية ثبوتا غير تام ، لإمكان تصوير الهيئة الاتصالية بمعنى ثالث ممكن ومجد. وهو ان يقال : بان المراد من الهيئة الاتصالية هو توالي الاجزاء وتعاقبها بنحو يعد مجموعها واحدا بنظر العرف ، وهو معنى واقعي لا اعتباري ، كي يقال انه مقيد بعدم القاطع ، كما انه ليس بمحال كما لا يخفى. وعليه فمع تحقق القاطع لا ينتفي الاتصال من رأس ، بل انما ينتفي استمراره ودوامه ، فيمكن استصحابه عند طرو مشكوك القاطعية ، ويتحقق الفرق بين القاطع والمانع.

وهذا المعنى مما يمكن استفادة إرادته من حكم الفقهاء ببطلان الصلاة بالفعل الماحي لصورتها كالسكتة الطويلة أو الأكل والشرب ، مما لم يصرح الشارع باعتبار عدمه ، فانه يكشف عن وجود هيئة صورية للصلاة عرفية يعتبرها الشارع ، بحيث يرى العرف انقطاعها عند السكوت الطويل أو الأكل في الأثناء ، ويكون حكم الشارع بقاطعية الحدث وأمثاله مما لا يدرك العرف قاطعيته كالسكتة والأكل ، تنبيها على انه مثلهما في محو صورة الصلاة وقطعه لها باعتبار ذلك منه.

وامّا الكلام في مرحلة الإثبات ؛ فقد نفي المحقق النائيني اعتبار الهيئة الاتصالية بوجهين :

الأول : انه لم يثبت لدينا اعتبار هيئة اتصالية وجزء صوري في الصلاة ، بل ليس الثابت الا اعتبار عدم بعض الأمور فيها.

ص: 336


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 290 - الطبعة الأولى.

- ووافقه المحقق الأصفهاني. فقد أفاد : ان الالتزام بالقاطع بالمعنى المقابل للمانع بلا ملزم ، بل القاطع سنخ من المانع ، وانما يطلق عليه القاطع إذا وقع في الأثناء ، لأنه رافع لما سبق ودافع لما لحقه ، ولذا لو وقع في أول العمل كان دافعا محضا ، كما انه إذا وقع بعد العمل كان رافعا محضا ، فالحدث المقارن للصلاة مانع دفاع والواقع في أثنائها قاطع ، والواقع بعد الوضوء ناقص ورافع لأثره (1) -.

الوجه الثاني : انه على تقدير استفادة اعتبار هيئة اتصالية في الصلاة ، إلا انه يحتمل أيضا أن يكون هذا القاطع مما قد اعتبر عدمه بنفسه ، فيكون مانعا كما يكون قاطعا. وحينئذ فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا يجدي في نفي مانعية الموجود إلاّ بالملازمة ، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول من براءة أو اشتغال على الخلاف في مسألة الأقل والأكثر (2).

ولكن الوجه الأول غير تام ، فان التعبير بالقاطع والنهي عنه بما هو كذلك يستفاد منه اعتبار جزء صوري في الصلاة المعبر عنه بالهيئة الاتصالية ، ومن ذلك حكم الفقهاء بإبطال الفعل الماحي لصورة الصلاة ، ولا أظن ان المحقق النائيني لا يلتزم بذلك.

هذا ولكن الإنصاف ان يقال : ان القطع وان كان يتوقف على ثبوت الاتصال للشيء فعلا أو شأنا ، بان يكون من شأنه أن يتصل بأجزاء لاحقة فلا يتصل ، إلا أنه كما يصدق على مجرد الفصل بين الأجزاء وإزالة الجزء الصوري كذلك يصدق على ما يمنع من لحوق الاجزاء السابقة ، ولذا يقال ان زيدا قطع كلام عمرو إذا منعه من الاستمرار في الكلام. وعليه فاعتبار القاطع في مثل الصلاة كما يمكن ان يكون مضرا بالهيئة الاتصالية المعتبرة - لاعتبار الموالاة في

ص: 337


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 290 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 235 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصلاة - كذلك يمكن أن يكون لأجل امتناع تحقق الأجزاء اللاحقة عند تحققه لاعتبار عدمه في الاجزاء. والمفروض ان مشكوك القاطعية لا يقطع الهيئة الاتصالية تكوينا ، وإلاّ لم يحصل شك فيه. بل كان نظير الحدث. وعليه فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا ينفع في نفي الشك ، فتدبر جيدا.

وقد قرب السيد الخوئي اعتبار عدم القاطع في الصلاة ، بحيث يكون له حيثيتان : حيثية القاطعية وحيثية المانعية. بأنه اما ان لا يعتبر عدمه في العمل أو يعتبر. والأول خلف لأنه مساوق لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية والمفروض اعتبارها. وعلى الثاني يثبت المدعى (1).

ولكنه أولا : منقوض بلوازم الواجب من إعدام ووجودات غير متعلقة للأمر.

وثانيا : ان هذا التقريب ، وهو الترديد بين الإطلاق والتقييد انما يتأتى في صورة ما إذا كان الإتيان بالقيد وعدمه ممكنا ، لا في صورة ما إذا كان تحققه قهريا ، كما في ما نحن فيه ، باعتبار الهيئة الاتصالية وتوقفها على عدمه ، فالالتزام بثبوت حيثية المانعية للقاطع بنحو الجزم بلا وجه. نعم احتمالها - كما أفاده النائيني - لا مدفع له. وعليه فلا يكون الاستصحاب مجديا للاحتياج إلى أصالة البراءة في نفي المانعية ، ومع جريان البراءة لا حاجة إلى الاستصحاب ، فلاحظ.

بقي (2) في المقام شيء وهو : انه كثيرا ما يعبّر في النصوص بالناقض ، فهل هو قسم آخر على حدة غير المانع والقاطع ، أم انه يرجع إلى أحدهما؟.

ص: 338


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 122 - الطبعة الأولى.
2- خلاصة الكلام في الناقض ، إنّ الظاهر من لفظ الناقض كونه رافعا للأثر السابق الموجود. وعليه فالشك في ناقضية الموجود في الأثناء ملازم للشك في ارتفاع الأثر السابق بعد تحقّقه. وعليه فكلّما كان الأثر السابق من الأمور الشرعية أو موضوع الحكم الشرعي كان مجرى الاستصحاب. وإلاّ فلا مجال لاستصحابه ، فتدبّر.

والظاهر من كلام المحقق الهمداني رحمه اللّه ان فيه جهة القطع ، ولكنه يفترق عن القاطع في أنه يرفع مؤثرية الاجزاء السابقة في الأثر المترتب عليها على تقدير انضمام سائر الاجزاء إليها.

ومن ذلك جزم بجريان الاستصحاب عند الشك في طرو الناقض ، وانه مما لا يتأتى عليه الإشكال كما يتأتى على غيره. بتقريب : انه عند الشك في طروه ، كالشك في ناقضية الحدث الأصغر للغسل ، يشك في خروج الأجزاء السابقة عن صفتها التي كانت عليها ، وهي تأثيرها في الأثر لو انضم إليها سائر الأجزاء ، فيستصحب هذا الحكم الشرعي التعليقي. ويترتب عند حصول المعلق عليه ، وهو انضمام الأجزاء السابقة (1).

وما ذكره قدس سره بظاهره غير تام لوجهين :

الأول : انه لا فرق بين الناقض والمانع أصلا ، بل كل منهما اعتبر عدمه في العمل وأخذ متعلقا للأمر ، ولم يلحظ في اعتبار عدم الناقض رافعيته للأثر المترتب على الأجزاء ، بدليل التعبير به في نقض بعض الآثار الاعتبارية كالطهارة ، مما يكشف عن اعتبار عدمه بالخصوص في تحقق الطهارة.

الوجه الثاني : ان المراد من الحكم الشرعي المستصحب تعليقيا ، ان كان نفس الأثر المترتب كالطهارة في المثال ، فهذا الاستصحاب جار في جميع موارد الشك في طرو المانع ، وقد تقدم الإشكال فيه مفصلا. وان كان تأثير هذه الأجزاء في الأثر كما هو الظاهر ، فالتأثير ليس من الأحكام الشرعية ، لم تقرر في محله من ان السببية ليست من المجعولات الشرعية. كما انه ليس بموضوع لحكم شرعي ، لأن الأمر انما تعلق بذوات الأجزاء ولم يتعلق بها بما هي مؤثرة ، كي تكون المؤثرية موضوعا لحكم شرعي فتستصحب.

ص: 339


1- المحقق الهمداني هامش. فرائد الأصول /290- الطبعة الأولى.

وعلى تقدير تعلق الأمر بها بما هي مؤثرة ، فهي حينئذ وان كانت مما يصح استصحابها لكونها موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنه كما أخذت المؤثرية في موضوع الأمر بالأجزاء السابقة كذلك أخذت في الأجزاء اللاحقة. وهي مشكوكة عند طرو مشكوك الناقضية ، لما عرفت من ان نسبة الشك إلى جميع الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فاستصحاب مؤثرية الأجزاء السابقة لا يجدي في ترتب الأثر للشك في مؤثرية الأجزاء اللاحقة ، وهي مشكوكة التحقق.

والمتحصل ، من جميع ما ذكرنا : عدم صحة جريان استصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع أو القاطع أو الناقض.

وامّا التنبيه الثاني (1) - من التنبيهات التي ذكرها الشيخ في الرسائل - فالكلام فيه حول استصحاب الوجوب عند تعذر بعض اجزاء المركب ، وأساس الشك في الوجوب هو تردد أخذ الجزء في المركب بين أن يكون في خصوص حال الاختيار والإمكان. وان يكون بنحو مطلق : فيسقط الوجوب عند تعذر الجزء على الثاني لتعذر المركب دون الأول.

فمع الشك في بقاء الوجوب عند تعذر بعض الأجزاء هل يصح جريان استصحابه أو لا يصح؟. باعتبار كون الوجوب الثابت للاجزاء الباقية قبل التعذر غير الثابت لها بعده - على تقدير ثبوته واقعا - ، فالمتيقن ثبوته سابقا مقطوع الارتفاع ، والّذي يراد إثباته بالاستصحاب مشكوك الحدوث.

وقد ذكر الشيخ قدس سره في رسائله وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب في المورد :

الوجه الأول : ان يستصحب مطلق المطلوبية الثابتة في السابق لهذه الأجزاء ولو في ضمن مطلوبية الكل ، لكون أهل العرف لا يرونها مغايرة في

ص: 340


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /293- 294 - الطبعة الأولى.

الخارج لمطلوبية الاجزاء في نفسها ، فيكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وقد أورد عليه أولا : بأن الأمر بالجزء ليس أمرا غيريا.

وثانيا : ان استصحاب كلي الوجوب لا يجدي نفعا ما لم يثبت به انه الوجوب النفسيّ ، لأن الوجوب الغيري لا تجب موافقته ، والغرض من إثبات الوجوب هو الامتثال والإطاعة.

وثالثا بان الوجوب الغيري فرد مباين للوجوب النفسيّ ، وليس اختلافهما من قبيل الاختلاف في المراتب كي يصح الاستصحاب (1).

ولكن الإيرادين الأوليين انما يردان لو ثبت كون مراده من مطلق المطلوبية القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ والغيري.

إلاّ انه وان كان ظاهرا من كلامه في مبحث الاشتغال ، غير انه غير ظاهر منه في مبحث الاستصحاب ، فيمكن ان يريد القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ الاستقلالي والضمني - كما لعله الظاهر من كلامه - فيتعين الوجه الثالث في الإيراد عليه ، وهو كون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، والوجوبان متغايران عرفا ، فلا يصح الاستصحاب.

الوجه الثاني : ان يستصحب الوجوب النفسيّ المتعلق بالباقي بنحو المسامحة العرفية ، حيث يرى العرف ان موضوع الوجوب النفسيّ باق على حاله ، ووجود الجزء وفقده من قبيل الحالات المتبادلة للمستصحب ، نظير استصحاب بقاء كرية الماء الناقص منه شيء.

والإشكال فيه يتضح إن شاء اللّه تعالى فيما سيأتي من بيان اعتبار بقاء

ص: 341


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 444 - الطبعة الأولى.

الموضوع في صحة الاستصحاب ، وان هذه المسامحة فيما نحن فيه وفي استصحاب الكرية مجدية أو لا فانتظر.

الوجه الثالث : ان يستصحب الوجوب النفسيّ الثابت سابقا ، ليثبت به وجوب هذه الاجزاء الباقية ، نظير استصحابه وجود الكرّ في الإناء لإثبات كرية الموجود فيه (1).

وقد يتوهم : بان هذا من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأن الوجوب النفسيّ سابقا متعلق بمجموع الأجزاء ، فمع فقد أحد الأجزاء يشك في اتصاف الباقي بوجوب نفسي ، وهو فرد آخر غير ذلك الفرد الثابت سابقا ، فاستصحاب كلي الوجوب النفسيّ بلحاظ الشك في بقائه لاحتمال حدوث فرد آخر منه يكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

ولكنه يندفع : بان الشك في كون الواجب بالوجوب النفسيّ هو هذه الأركان مع ما يتمكن من باقي الأجزاء أو مع باقي الأجزاء مطلقا ، فالشك في بقاء كلي الوجوب النفسيّ انما هو لتردد الفرد المحقق له بين ما هو باق قطعا وما هو مرتفع قطعا ، لا من جهة احتمال حدوث فرد آخر له مع العلم بارتفاع الفرد السابق ، فيرجع هذا الوجه من الاستصحاب إلى القسم الثاني من استصحاب الكلي.

ولكن الإشكال فيه واضح ، لأنه من الاستصحابات المثبتة كما لا يخفى.

تذييل : قد يفرق في جريان استصحاب الوجوب - على تقدير جريانه - بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف فيجري الاستصحاب المذكور. بين تعذره قبله فلا يجري لعدم ثبوت الوجوب واليقين به ، بل الشك في أصل حدوثه وتحققه لا في بقائه.

وقد نفي الشيخ رحمه اللّه الفرق بين الحالين ، لأن المستصحب هو

ص: 342


1- هذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.

الوجوب النوعيّ المنجز على تقدير اجتماع الشرائط لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا (1).

والمراد من استصحاب الحكم الكلي ، ما كان إجراءه من وظيفة المجتهد فقط ، وهو لا يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا.

نعم ، لا بد فيه من تحقق الموضوع وتحقق الشرائط واختلال بعضها ليحصل الشك في البقاء ، كاستصحاب المجتهد نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فانه لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، بل يكفي فيه فرض وجود الماء المتغير بهذا النحو فيجري فيه الاستصحاب ، فاستصحاب الوجوب مثله يفرض فيه وجود الموضوع وتحقق الشرائط.

إلاّ انه لا وجه لقياس ما نحن فيه باستصحاب نجاسة الماء المتغير ، لأن المجتهد حين يفرض الموضوع فيه يحصل لديه اليقين والشك فيصح إجراؤه الاستصحاب. بخلاف ما نحن فيه ، فانه مع فرض الموضوع فيه لا يحصل اليقين بحدوث الوجوب لما عرفت من الشك فيه. وقد وجّه المحقق النائيني قدس سره - كما في تقريرات الكاظمي - جريان الاستصحاب فيه قياسا على الاستصحاب في الماء المتغير : بان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار منه ، فان المفروض ان التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع ، وإلاّ لم يجر الاستصحاب رأسا (2) ...

ولكن كلامه لا يخلو عن خلط ، فان الموضوع الّذي يجب فرضه هو الموضوع العقلي الّذي هو عبارة عن كل ما له دخل في الحكم من جزء وشرط.

ص: 343


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /294- الطبعة الأولى. حيث يظهر من إطلاق كلامه نفى الفرق.
2- الكاظمي الشيخ محمد على. فرائد الأصول4/ 515 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والموضوع الّذي يعتبر بقائه في إجراء الاستصحاب هو معروض الحكم ، فتخرج عنه الشرائط والقيود. ولا يخفى ان التمكن من الجزء المتعذر وان لم يكن من مقومات الموضوع بالمعنى الثاني - بنظر العرف - ، إلاّ انه من مقوماته بالمعنى الأول ، وقد عرفت ان الموضوع المفروض وجوده انما هو الموضوع بالمعنى الأول.

وبالجملة : فما ذكر من التفصيل لا إشكال عليه ، فلا بد من الالتزام به.

إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن تنبيهات الاستصحاب.

ص: 344

خاتمة : في شروط الاستصحاب

اشارة

قد ذكرت للعمل بالاستصحاب شروط :

الأول : بقاء الموضوع.

وفسر الشيخ قدس سره الموضوع : بأنه معروض المستصحب ولعله لدفع ما قد يتوهم من : ان الالتزام ببقاء الموضوع في باب الاستصحاب ينافي ما ذكر في بيان الموضوع في غير هذا الباب من انه جميع ما أخذ مفروض الوجود في مقام فعلية الحكم ، بإرجاع كل قيد وشرط أخذ في الخطاب إليه ، فانه إذا اعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا يتحقق الشك أصلا ، لأن الشك انما يكون مع تغير حالة أو صفة من صفات الموضوع ، فمع اعتبار بقائه بخصوصياته وقيوده لا يحصل الشك في بقاء الحكم ، بل يعلم ببقائه قطعا.

ويندفع هذا التوهم : بما ذكره الشيخ من : ان المراد بالموضوع في هذا الباب المعتبر بقاؤه معروض الحكم المستصحب ، بمعنى ما كانت نسبته إلى المستصحب نسبة المعروض إلى العارض ، وهو غير ذلك الموضوع ، فالزوال مثلا

ص: 345

غير دخيل في موضوع الوجوب في هذا الباب ، لأن الوجوب لا يعرض عليه ، كما لا يخفى. بل انما يعرض على الموضوعات الخارجية ، مع انه دخيل فيه في ذلك الباب.

كما فسر بقائه : بتحققه حال الشك على نحو ثبوته ، وتحققه حال اليقين من وجوده الخارجي أو وجوده الذهني التقرري. وبذلك يندفع الإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالنقض بموارد الشك في نفس الوجود ، فانه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع عدم إحراز الوجود ، فانه ناشئ عن توهم إرادة بقاء الموضوع بوجوده الخارجي والغفلة عن إرادة الأعم ، وان المراد تحققه في اللاحق بنحو الّذي كان معروضا للمستصحب في السابق. هذا محصل ما أفاده قدس سره في بيان المراد من بقاء الموضوع (1).

وظاهره يدل على ان المعتبر في استصحاب المحمولات الثانوية تحقق المعروض ووجوده خارجا ، فمع الشك فيه يمتنع جريان الاستصحاب.

وهذا يقتضي عدم جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء صفة كانت متقومة بموضوع يشك في بقائه الآن إذا كان الأثر مترتبا على بقاء الصفة بمفاد كان التامة ، لا بقاء اتصاف الموصوف بمفاد كان الناقصة ، كالشك في بقاء قيام زيد أو عدالته مع الشك في وجود زيد. مع ان الشيخ وغيره لا يلتزمون بعدم جريانه ، بل لا مقتض للالتزام به. فظاهر العبارة يستلزم الإيراد عليه بما عرفت.

والّذي يظهر من الشيخ : انه جعل اعتبار بقاء الموضوع من فروع اعتبار وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

وقد خالفه صاحب الكفاية في البيان ، فذكر : ان المعتبر هو بقاء الموضوع ، بمعنى اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة ، بمعنى ان ما كان متعلق اليقين

ص: 346


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 399 - الطبعة الأولى.

سابقا لا بد أن يكون هو متعلق الشك ، فإذا كان المتيقن قيام زيد فلا بد ان يكون هو المشكوك لا قيام عمرو. واما بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب ، وانما هو معتبر في مقام ترتب الأثر إذا كان الوجود الخارجي دخيلا فيه (1).

ولا يتوجه عليه الإيراد المذكور على الشيخ ، لأن المعتبر من اتحاد المشكوك مع المتيقن متحقق في الموارد المذكورة ، فان المشكوك هو قيام زيد أو عدالته ، وهو عين المتيقن ، فيجري الاستصحاب وان شك في بقاء المعروض.

ولكنه قدس سره في حاشيته على الرسائل ، أرجع عبارة الشيخ إلى ما ذكره في الكفاية ، فجعله تفسيرا لعبارته لا وجها آخر (2).

وحينئذ لا يرد عليه ما عرفت ، ولكنه خلاف الظاهر من العبارة جدا. فانه لا حاجة معه إلى ما ذكره من اعتبار الوجود الخارجي أو التقرري دفعا للإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالانتقاض بموارد الشك في نفس الوجود. فان المعتبر في الاستصحاب - على هذا التفسير - متحقق في هذه الموارد ، لأن المشكوك وهو وجود زيد - مثلا - عين المتيقن في السابق ، فالإشكال على هذا مندفع بنفسه.

وامّا ما ذكره في ذيل كلامه من استصحاب العدالة على تقدير الحياة. فهو لا يؤيد حمل المحقق الخراسانيّ ، لعبارته على ما ذكره في الكفاية ، لما ستعرفه من تفسير العبارة بشكل لا يتنافى مع إحراز الحياة ، بل بتكفل هذه الجهة فانتظر.

وبعد كل هذا اتضح : بان المعتبر هو اتحاد متعلق الشك واليقين موضوعا ومحمولا ، والدليل على اعتبار هذا واضح ، لأنه مما يتوقف عليه صدق النقض والإبقاء المعتبر في الاستصحاب ، فإن رفع اليد عن الحالة السابقة انما. يعد نقضا

ص: 347


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /427- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /229- الطبعة الأولى.

إذا كان متعلق الشك عين متعلق اليقين ، كما ان عدم رفع اليد حينئذ. يعد إبقاء.

امّا مع اختلاف متعلقهما ، فلا يعد رفع اليد نقضا ولا عدمه إبقاء ، كي يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، فإذا كان المتيقن سابقا قيام زيد والمشكوك قيام عمرو ، فالحكم بقيام عمرو لا حقا لا يعد إبقاء للقيام السابق ، كما ان عدم الحكم به لا يعد نقضا له.

وهذا مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه اللّه من : الدليل العقلي على اعتبار بقاء الموضوع الّذي محصله : انه عدم بقاء الموضوع اما ان يبقى العرض بلا موضوع وهو محال كما لا يخفى. واما ان يكون له موضوع آخر وهو أيضا محال ، لاستحالة انتقال العرض من معروضة لتقومه به (1).

ويرد هذا البرهان : بان مفاد الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم السابق بحسب الظاهر ، ولكنه مغاير له واقعا ، إلاّ انه معنون بعنوان كونه إبقاء لذلك الحكم لا أكثر ، وحينئذ فعلى تقدير كون الموضوع المستصحب لاحقا غيره سابقا لا يكون ذلك من نقل العرض من موضوع إلى آخر ، بل من إثبات حكم آخر لموضوع آخر فالتفت.

وقد تصدى المحقق العراقي لدفع الإيراد على الشيخ بتأويل كلامه ، الّذي محصله : استحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول ، وذلك بإرجاعه إلى كون المورد من موارد الشك في استعداد المستصحب للبقاء وقابليته للاستمرار ، فلا يجري الاستصحاب حينئذ لاختصاص مسلك الشيخ بمورد يكون الشك فيه من جهة الشك في الرافع. ومحصل ما ذكره في هذا المقام : ان عدم بقاء العرض بلا معروضه الأول لأجل امتناع بقائه بلا موضوع أو انتقاله من موضوعه إلى

ص: 348


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

موضوع آخر ، مرجعه إلى عدم استعداد العرض القائم به للبقاء وقابليته للاستمرار عند عدم موضوعه. وحينئذ فمع الشك في بقاء الموضوع يشك في استعداد العرض القائم به للبقاء ، فلا يكون المورد مشمولا لأدلة الاستصحاب على رأي الشيخ (1) ، فجعل الدليل العقلي الّذي ساقه الشيخ مقدمة لبيان صيرورة المورد حينئذ من موارد الشك في المقتضى الّذي لا يجري فيه الاستصحاب ، فيرتكز توجيهه على أمرين :

الأول : عدم إمكان بقاء العرض بلا موضوعه الأول المستحصل من استحالة بقائه بلا موضوع أو في موضوع آخر.

الثاني : ان نتيجة هذا هو الشك في قابلية العرض للبقاء وعدم إحراز استعداده للاستمرار عند الشك في بقاء الموضوع.

والأول مسلم لا كلام لنا فيه. وانما الكلام في الأمر الثاني ، فإنه لا نسلم كونه نتيجة ذلك أو مرجعه إلى كون الشك في بقاء الموضوع يلازم الشك في استعداد العرض القائم به للبقاء مطلقا ، بل الأمر يختلف باختلاف منشأ الشك في بقاء الموضوع ؛ فان كان من جهة عدم إحراز استعداده للبقاء ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه غير باق إلى هذا المقدار - الّذي يفسر به عدم إحراز المقتضي في المقام - ، كان الشك في بقاء العرض من جهة الشك في استعداده للبقاء طبعا. وان كان من جهة احتمال وجود الرافع ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه يستمر في وجوده لو لا حدوث حادث زماني ، كان الشك في بقاء العرض من جهة وجود الرافع أيضا لإحراز قابليته للبقاء بإحراز قابلية موضوعه له ، فلا بد من ملاحظة موارد الشك في بقاء الموضوع ، وانه على أي نحو ، فانه يختلف كما عرفت.

ص: 349


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 4 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بالجملة : فاستحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول لازم أعم لعدم استعداده للبقاء ، لأنه قد يكون ناشئا عن وجود الرافع.

وبهذا تبين عدم ارتباط ما ذكره الشيخ هاهنا بما ذكره هناك. ولو سلمنا ارتباطه وتماميته في نفسه ، فلا يمكننا حمل كلام الشيخ عليه ، ضرورة ان مرجعه إلى عدم صدق : « لا تنقض » على المورد ، لعدم صدق النقض ، فالأدلة قاصرة عن شمولها له ، وهذا هو ما ذكره في الشق الثاني من التردد الّذي ظاهره كونه قسيما للشق الأول من حيث المحذورية في قوله : « اما لاستحالة انتقال العرض ، وامّا لأن المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق ».

فالعبارة تأبى حمل الشق الأول على ما ذكره المحقق العراقي ، لأنه حينئذ يشترك مع الشق الثاني في المحذورية ، مع ظهورها في كونه محذورا مستقلا وبرأسه.

وبالجملة : ما ذكره قدس سره في مقام تصحيح ما أفاده الشيخ غير تام.

وعليه (1) ، فيتجه ما أوردناه على الشيخ.

ص: 350


1- يمكن دفع الإشكال المزبور وتصحيح استدلال الشيخ (رحمه اللّه) بتقريب : أن إذا فرض أنّ المأخوذ هو العرض المتقوّم بمعروضه بنحو مفاد كان الناقصة كعدالة زيد - لا ذات العرض بوجوده التام كالعدالة فإنّه لا يفرض لها موضوع خاص كي يجب إحرازه ، بل الاستصحاب يجري في وجودها فهي معروض المستصحب نظير وجود زيد - كان مقتضى ذلك ملاحظة النسبة بين العرض ومعروضه واتّصاف المعروض بالعرض الخاصّ ، ومن الواضح إنّ النسبة من المعاني الحرفية التي تقوم بالطرفين وحقيقتها كيفية من كيفيّات الطرفين - كما تقدم بيانه مفصّلا في محلّه وهي مما لا يكاد يتعلّق بها اللحاظ مستقلاّ بل أخذها مستلزم لملاحظة الطرفين بشكل خاص كما أنّه لا بدّ فيها من فرض تحقّق الطرفين. فأخذ عدالة زيد في الموضوع مرجعه إلى ملاحظة زيد العادل ، فلا يمكن أن تتحقّق عدالة زيد بلا فرض وجود زيد ، وعلى هذا البيان تقوم دعوى أنّ الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحلّه فلا بدّ أن يكون العرض مأخوذا بنحو الاتصاف ومفاد كان الناقصة لا التامّة. وعليه : فعدالة زيد في ظرف الشك - بعد فرض ضرورة فرض الموضوع للعدالة بحيث يشار إليه ويقال إنّه مشكوك العدالة - إما أن تفرض بلا موضوع وهو محال لما عرفت من كونها ملحوظة بمفاد كان الناقصة لا التامّة. وإما أن يفرض لها موضوع آخر وهو من انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، إذ المفروض أنّ المشكوك هو نفس عدالة زيد ففرض كون تلك العدالة لغير زيد هو فرض الانتقال المزبور. هذا من جهة. ومن جهة أخرى : إنّ الشك في عدالة غير زيد ليس شكّا في بقاء عدالة زيد فلا يصدق النقض على رفع اليد عن الحالة السابقة. وبهذا البيان ظهر أنّ محطّ نظر الشيخ هو مقام الشك في الّذي هو موضوع التعبّد الاستصحابي ، لا مقام التعبّد الطارئ على الشك ، كما حمل عليه كلامه وأورد عليه بأن الوجود التعبّدي غير الموجود الواقعي ، فتنبّه.

واعلم ان الشيخ قدس سره بعد ما اعتبر العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. تعرض (1) إلى بيان حكم بعض الصور التي يشك فيها ببقاء الموضوع من جريان الاستصحاب في الحكم أو الموضوع وعدم جريانه.

وقد تعرض لهما الآخرون ممن لم يعتبروا سوى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

وهي فروض ثلاثة :

الفرض الأول : ما إذا كان الشك في العرض غير مسبب عن الشك في

ص: 351


1- تعرّضه كان بعنوان الجواب عن الإشكال الّذي أورده على نفسه بعنوان : « إن قلت ... » ولا يخفى أنّ كيفيّة السؤال والجواب لا تخلو عن إجمال ، لأنّ المراد بالموضوع الّذي يريد المستشكل إجراء الاستصحاب فيه : إن كان هو موضوع الحكم الشرعي فالسؤال يكون غير مرتبط بما قبله لأنّ البحث فيما قبله عن إحراز معروض المستصحب. والمفروض فيه أن لا يكون موضوعا للأثر الّذي يترتّب على عرضه وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب لا عرضه. وكان هو مستصحبا لا معروضه. وإن كان المراد به هو معروض المستصحب فالسؤال يرتبط بما قبله لكن الجواب بتفصيله لا يرتبط به بل كان ينبغي أن يكون الجواب إنّ الاستصحاب في المعروض لا يجدي لعدم كون الاستصحاب في العرض المترتّب عليه من الآثار الشرعية. ولعلّه ( قده ) ذكر الإشكال بهذا العنوان تمهيدا لبيان الأقسام الثلاثة من موارد الشك في المعروض ، والأمر سهل.

موضوعه ، كالشك في عدالة زيد المجتهد مع الشك في حياته.

وقد أفاد الشيخ بأنه لا نحتاج في إجراء استصحاب العدالة إلى إحراز الحياة ، لأن المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، لكون الموضوع هو زيد على تقدير الحياة. هذا مجمل ما ذكره الشيخ (1).

وقد وقع الكلام بين الأعاظم في مقام تفسيره.

ومنشأ ذلك أمران :

الأول : ما يتراءى من مخالفة ما ذكره هنا لما ذكره أولا من اعتبار بقاء الموضوع ، حيث ذكر انه لا يحتاج إلى إحراز الحياة في استصحاب العدالة.

الأمر الثاني : انه إذا كان الأثر مترتبا على إحراز العرض وموضوعه ، كجواز الائتمام - مثلا - ، فاستصحاب العدالة على تقدير الحياة لا يجدي في ترتب الأثر ما لم تحرز الحياة ، وإحرازها بالاستصحاب لا يجدي في ترتب العدالة ، لأن ترتبها عقلي تكويني لا شرعي.

والظاهر من العبارة بدوا : ان المستصحب أمر على تقدير بان يستصحب فعلا العدالة على تقدير الحياة ، نظير استصحاب نجاسة الماء المتغير فعلا على تقدير زوال تغيره.

وقد حمل المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل كلام الشيخ على تقدير زوال تغيره.

إرادة استصحاب عدالة الحي الفعلية ولو لم تحرز الحياة فعلا - بناء على تفسيره بقاء الموضوع باتحاد متعلق الشك واليقين ، وهو متحقق فعلا ، لأن متعلق الشك عدالة زيد الحي وهو عين المتيقن -.

هذا إذا كان الأثر مترتبا على مجرد إحراز العدالة ، فانه يترتب حينئذ بالاستصحاب المذكور.

ص: 352


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

واما إذا كان ترتبه متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فيجري استصحاب الحياة ، وينضم أحدهما إلى الآخر. ويترتب الأثر.

وانما لم يحمله على ما يظهر منه بدوا من إرادة استصحاب أمر على تقدير ، لما يرد عليه فيما إذا توقف ترتب الأثر على إحراز الحياة من : انه باستصحاب الحياة لا يثبت التقدير المذكور إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، لأن ترتب الأمر المقدر على ما علق عليه ترتب عقلي لا شرعي. فلا تحرز العدالة باستصحاب الحياة (1).

ولكن ما ذكره في تفسيره لكلام الشيخ مردود لوجهين :

الأول : ان كلام الشيخ كالصريح في ان المعتبر هو إحراز بقاء الموضوع عند إرادة استصحاب عرضه ومحموله.

الثاني : انه إذا كان ترتب الأثر متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فلا يجدي استصحاب الحياة في ترتبه ، لأن مرجع ذلك إلى كون الأثر يترتب على ثبوت الحي العادل ، فالعدالة والحياة مأخوذتان في موضوع الحكم بنحو التوصيف لا التركيب ، كما هو شأن كل عرض ومحله إذا أخذا في الموضوع للحكم ، فحيث ان الحياة موضوعها الجسم الموجود ، فيمكن استصحاب حياة هذا الجسم الخاصّ. ولكن استصحاب العدالة على ما قرره - أعني : استصحاب عدالة الحي - لا يثبت اتصاف الموجود بالعدالة بضم استصحاب الحياة إلاّ بنحو الأصل المثبت كما عرفت.

واستصحابها بمفاد كان الناقصة - أعني استصحاب عدالة هذا الموجود - غير ممكن ، لعدم إحراز بقاء موضوعه وهو الحياة.

ولعل المحقق النائيني في كلامه ناظر إلى هذه الجهة وتصحيحها. ولا بد في

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /331- الطبعة الأولى.

توضيح كلامه من بيان شيء وهو : انه قد أشكل على الاستصحاب في الموضوعات بان الحكم لا يترتب عليها مباشرة وانما يترتب على عنوان مضاف إلى الموضوع ، فاستصحاب الموضوع لا يثبت تحقق العنوان المذكور ، مضافا إلى موضوعه ، كي يترتب عليه الحكم إلاّ بنحو الأصل المثبت ، مثلا الحرمة مترتبة على شرب الخمر وليست على الخمر نفسه ، فاستصحاب خمرية الخمر لا يثبت ان شرب المستصحب شرب للخمر الا على القول بالأصل المثبت.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة لا تخلو من نظر.

وعمدة الجواب : هو الالتزام بان موضوع الحكم مركب من الوصفين وهما : الشرب والخمرية - مثلا - ، وهما وصفان عرضيان يتواردان على موضوع واحد وهو المائع ، فلم يؤخذ في موضوع الحرمة الشرب المتصف بالخمرية ، بل شرب مائع وخمريته ، فإذا أحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، التأم الموضوع وترتب الحكم.

إذا اتضح هذا ، فمحصل ما ذكره النائيني ان الموضوع فيما نحن فيه قد أخذ مركبا ، فالعدالة والحياة أخذا بنحو التركيب في الموضوع لا بنحو التوصيف.

وشأن كل الموضوعات المركبة ان يكون الحكم مترتبا على أحد الجزءين على تقدير الجزء الآخر ، فإذا أحرز الجزء الآخر تمّ الموضوع وثبت الحكم. وهذا هو معنى استصحاب العدالة على تقدير الحياة (1).

وبهذا التوجيه لكلامه يتوجه ان يكون تفسيرا لكلام الشيخ. إلا انه لا يخلو عن نظر لأمرين :

الأول : ان الملحوظ في كلام الشيخ هو إحراز الموضوع ، وكلامه دائر حول هذا الأمر وما ذكره خارج عن ذلك.

ص: 354


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 570 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأمر الثاني : انه لا يمكن ان يلتزم بما ذكره ، لأنه قد بنى على ان الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحله كانا مأخوذين بنحو التوصيف لا التركيب. وليست العدالة عارضة على الذات كي تكون في عرض الحياة - كما ذكره قده - ، بل العدالة في طول الحياة ، لأن موضوعها الذات الحية لا مطلق الذات ، كما لا يخفى.

وحينئذ فالذي ينبغي ان يقال في توجيه كلام الشيخ : ان بقاء الموضوع انما يعتبر إحرازه فعلا إذا كان ترتب الحكم متوقفا على إحرازه وإثباته ، كما إذا كان دخيلا في موضوع الحكم ، امّا مع عدم توقفه على ذلك فلا يعتبر إحراز الموضوع.

وحينئذ ففي صورة ما إذا كان زيد على تقدير مماته جائز التقليد ، وعلى تقدير حياته يشك في عدالته ، فيمكن استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بان يؤخذ ظرف الحياة ظرفا للمستصحب ، فالاستصحاب فعلا للعدالة في فرض الحياة.

فان كان حيا واقعا فهو. وان كان ميتا جاز تقليده كما هو مقتضى الفرض. فكلام الشيخ ناظر إلى هذه الصورة وهذا الفرض ، وهو ما إذا لم يكن ترتب الأثر متوقفا على إحراز الموضوع ، ويكون هذا من قبيل الاستدراك على كلية اعتبار بقاء الموضوع. ويكون المراد من العبارة ما هو الظاهر منها من كون المستصحب امرا على تقدير.

بل يمكن ان يقال : ان الّذي يعتبر هو بقاء الموضوع في ظرف المستصحب وفعلية التعبد الاستصحابي ، فلو فرضنا ان ظرف المتعبد به غير ظرف التعبد ، كان اللازم بقاء الموضوع في ظرف المتعبد به. وعليه ففيما نحن فيه بما ان الاستصحاب انما هو للعدالة في ظرف الحياة وعلى تقديرها ، ففعلية التعبد الاستصحابي انما تكون على تقدير الحياة ، فلو كان زيد ميتا فلا استصحاب ولا

ص: 355

مستصحب. اذن فالموضوع محرز في ظرف فعلية التعبد ، غاية الأمر لا تحرز بالفعل فعلية التعبد لعدم إحراز الحياة ، ولكن على تقدير الحياة يكون هناك تعبد ومعه يكون هناك موضوع ، فلا يكون هذا الفرض استدراكا كما بيّن لعدم تخلف الشرط فيه. فتدبر.

وهذا التفسير سالم عن الإشكال كما لا يخفى ، إلاّ انه لا يجدي فيما إذا كان الأثر متوقفا على إحراز الموضوع كالحياة في المثال ، لأن استصحاب الحياة لا يجدي في إثبات اتصاف زيد بالعدالة كي يترتب الأثر ، لأن استصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة انما يثبت تحقق الاتصاف في ظرف تحقق الحياة واقعا ، فمفاده من قبيل جعل الملازمة من الاتصاف بالعدالة والحياة الواقعية. فإحراز الحياة ظاهرا بالاستصحاب لا يترتب عليه ثبوت الاتصاف إلا على القول بالأصل المثبت.

وبتقريب أوضح : ان التعبد بالموضوعات مفاده التعبد بحكم مماثل للحكم الواقعي المترتب عليه ، فالتعبد بالعدالة في ظرف الحياة مرجعه إلى التعبد بالحكم المماثل في ظرف الحياة. ولكن ترتبه على الحياة بواسطة العدالة وهي أمر غير شرعي. وحينئذ فباستصحاب الحياة لا يترتب الحكم المماثل المتعبد به ، لأن ترتبه بواسطة غير شرعية ، فيبتني على القول بالأصل المثبت ، فالتفت.

وتحقيق الكلام في هذا الفرض بإجمال : إن الأثر ..

تارة : يكون مترتبا على مجرد وجود الوصف والحكم بمفاد كان التامة من دون لحاظ اتصاف الموضوع به.

وأخرى : يكون مترتبا على وجوده النعتيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة بان يلحظ اتصاف الموضوع به.

وعلى الثاني أما أن يكون ترتب الأثر متوقفا على وجود الموضوع الفعلي بحيث لا يترتب إلاّ إذا كان الموضوع متحققا في الخارج. وامّا أن لا يكون

ص: 356

كذلك ، بل يكفي في ترتبه فرض وجود الموضوع وتقديره ، وذلك كالمثال السابق ..

فان كان الأثر على النحو الأول - أعني : مترتبا على الوصف ، بمفاد كان التامة وبوجوده النفسيّ - فلا إشكال في جريان استصحاب بقاء الوصف كاستصحاب العدالة ويترتب عليه الأثر. وان كان على النحو الثالث ، فلا كلام في جريان استصحاب الوصف - بوجوده النعتيّ - على تقدير الموضوع ، ويترتب عليه الأثر فعلا ، كاستصحاب عدالة زيد على تقدير الحياة. وبعبارة أصح : كاستصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة.

لكنه لا يجري إذا كان على النحو الثاني ، لأن الاستصحاب على تقدير لا يثبت الموضوع ، واستصحاب الموضوع معه لا يستلزم فعلية التقدير لأن الترتب عقلي لا شرعي كما عرفت.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته (1) -. من جريان الاستصحاب في الاتصاف في بعض فروع الفرض : بان يستصحب تحقق العدالة لزيد أو زيد المتصف بالعدالة. ونظّر له بما إذا شك في بقاء الزوجية. بين امرأة وزوجها الغالب لاحتمال موته ، فانه يجري استصحاب بقاء الزوجية. فان الشك في بقاء زيد العادل مرجعه إلى شكوك ثلاثة : تعلق أحدها ببقاء زيد. والآخر ببقاء العدالة. والثالث ببقاء الاتصاف ، واستصحابه غير ممكن لعدم إحراز بقاء موضوعه المتقوم به.

واما ما ذكره من التنظير ، فهو خارج عن محل الكلام ، لأنه فيما إذا كان الشك في الموضوع التكويني المستصحب لا الشرعي ، وترتب الزوجية على حياة الزوج ترتب شرعي لا عقلي. وحينئذ فمع وجود الموضوع والشك فيها تستصحب ، كاستصحابها بالإضافة إلى المرأة ، ومع الشك فيه يستصحب بقاؤه

ص: 357


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 231 - الطبعة الأولى.

وتترتب عليه الزوجية ، كما يستصحب بقاء الزوج وتترتب عليه أحكام زوجيته.

الفرض الثاني : ما إذا كان الشك في الحكم ناشئا ومسببا عن الشك في بقاء الموضوع مع العلم بحدود الموضوع. نظير ما لو علم بان الموضوع للنجاسة هو التغير وشك في بقاء تغير الماء وعدمه. ففي مثل هذه الصورة يجري الاستصحاب في الموضوع ويترتب حينئذ الحكم بلا كلام ، ولا مجال لاستصحاب الحكم مع عدم جريانه في الموضوع بعد الفراغ ، من كون الوصف مقوما.

الفرض الثالث : ما إذا كان الشك في العرض مسببا عن الشك في بقاء الموضوع للشك في مفهوم الموضوع وتردده بين ما هو باق ومرتفع.

وقد مثل له الشيخ بمثالين : أحدهما : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين ان يكون هو الماء المتغير ولو آناً ما أو المتغير فعلا. والمثال الثاني : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين أن يكون هو الكلب بوصف انه كلب ، بأن يكون الموضوع متقوما بالصورة الشرعية ، أو المشترك بين الكلب وما يستحال إليه من الملح أو غيره ، بان يكون الموضوع هو الجامع بين الحالتين (1).

ولكن المثال الأول خارج عن مورد الشبهة المفهومية ، لأن الشك ليس في مفهوم التغير ولا في مفهوم الماء ، بل انما هو في كون الوصف - أعني : التغير - هل هو من قبيل الحالات للموضوع أو من المقومات له؟ ، فيندرج تحت الشبهة الحكمية. بخلاف المثال الثاني فان الشك في مفهوم الكلب وانه ما هو؟.

وعلى كل فقد حكم الشيخ في هذا الفرض بعدم جريان الاستصحاب لا في الموضوع ولا في الحكم.

اما استصحاب ذات الموضوع ، فهو لا يثبت انه هو الموجود الخارجي المشكوك ، نظير استصحاب الكرية في عدم إثبات كرية الموجود.

ص: 358


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

وامّا استصحاب الموضوع بما هو موضوع فهو من قبيل استصحاب الحكم ، لأن وصف الموضوعية انما يصح استصحابه مع إحراز معروضه وهو الذات.

وامّا استصحاب الحكم ، فهو لا يجري ، لعدم إحراز موضوعه فلا يعلم كون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا كي تشمله أدلة الاستصحاب.

وقرب آخرون المنع عن الاستصحاب في الموضوع : بأنه ليس لدينا شك راجع إلى الموجود الخارجي ، ففي مثال الكلب الصورة النوعية مقطوعة الزوال ، والجسم بدونها مقطوع التحقق ولا شك فيه. ومع عدم تعلق الشك بالموجود الخارجي فما هو الّذي يستصحب حينئذ؟ ، وانما الشك في نفس المفهوم ، وهو لا يصحح الاستصحاب (1).

ولكن ما ذكره الشيخ وغيره من عدم جريان الاستصحاب في الموضوع غير تام بهذا التقريب ، فان الّذي يراد استصحابه هو انطباق المفهوم على هذا الموجود الخارجي ، يعني كلبية هذا الجسم ، فانه قبل زوال الصورة النوعية كان المفهوم منطبقا على هذا الجسم ، وبعد زوالها يشك في بقاء انطباقه عليه فيستصحب. وتوضيح ذلك : ان اللفظ لا يوضع بإزاء الوجود الخارجي ولا الوجود الذهني ، وانما يوضح بإزاء المفهوم والماهية المنطبق على الموجود. فلفظ الكلب - مثلا - المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للمفهوم المردد بين ما يكون متقوما بالصورة النوعية وما لا يكون ، بل كان هو الجامع بين الحالتين. وهذا المفهوم المأخوذ في موضوع الحكم كان منطبقا على هذا الجسم وهذا الموجود الخارجي حين اتصافه بالصورة النوعية. وبعد زوال الصورة النوعية يشك في بقاء انطباقه على هذا الموجود فيستصحب ويترتب الحكم عليه ، فيقال : كان هذا كلبا والآن

ص: 359


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 234 - الطبعة الأولى.

كما كان وبهذا التقريب لجريان الاستصحاب لا يبقى مجال لما ذكره الشيخ في مقام المنع من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت ، لأن المستصحب ليس هو ذات الموضوع ، بل انطباق الموضوع - وهو الكلبية - على هذا الموجود.

كما ان ما ذكره غيره من عدم الشك في نفس الموجود ، لا وجه له حينئذ ، لأن الّذي يراد استصحابه هو الانطباق وهو متعلق للشك وليس بمعلوم.

فكلا الوجهين في تقريب المنع لا يرتبط بأصل المدعى.

ولكن هذا التقريب أيضا غير تام ، لأن الخصوصية إذا كانت مأخوذة في مقام التسمية والموضوع له كانت من مقومات الموضوع ، فإذا كانت الصورة النوعية مأخوذة عند وضع اللفظ لمفهوم الكلب ، بمعنى ان المفهوم كان هو المتقوم بالصورة النوعية فعند انتفائها ينتفي موضوع الانطباق ، لأنه يكون حينئذ الوجود بصورته النوعية. فمع الشك في دخل هذه الخصوصية - أعني الصورة النوعية مثلا - في المفهوم المسمى والموضوع له اللفظ ، يشك عند انتفائها في بقاء موضوع الانطباق ومعروضه ، لاحتمال ان يكون هو الوجود المتقوم بالصورة النوعية لا الأعم. فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه ، فلا يعلم انه إبقاء للحالة السابقة ، بل يحتمل ان يكون إسراء للمستصحب من معروض إلى آخر.

وبتقريب آخر يقال : بعد فرض كون الخصوصية إذا كانت دخيلة في المسمى والموضوع تكون مقومة للمسمى بحيث ينتفي انتفائها. كان المفهوم مرددا بين المتباينين واجد الخصوصية والأعم ، لأن التردد بين العام والخاصّ تردد بين المتباينين ، فالواجد مباين للأعم مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، وحينئذ فالمفهوم المردد يرجع إلى الفرد المردد. ويكون المورد من

ص: 360

مصاديق الفرد المردد. وقد حقق في ذلك الباب عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلا يجري في المفهوم المردد الّذي هو محل الكلام.

ولعل هذا مراد ما ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات من : انه لا يجري الاستصحاب لأن الأمر دائر بين ما هو معلوم البقاء وما هو معلوم الارتفاع. وان لم يكن بمكان من وضوح المراد.

وعليه ، يتجه القول بالمنع عن جريان استصحاب الموضوع في الشبهات المفهومية ، إلاّ انه بالنسبة إلى استصحاب الوجود مسلم لا إشكال فيه. وامّا بالنسبة إلى استصحاب العدم فيمكن ان يقال بجريانه في موارده ، كما فيما إذا شك في تحقق المغرب عند سقوط القرص لتردد مفهومه بين ذهاب الحمرة المشرقية وبين سقوط القرض ، فانه يستصحب عدم تحققه بأي مفهوم كان ، لأنه قبل سقوط القرص ، كان معلوم العدم وبعده يشك في تحققه فيستصحب عدمه (1).

ولكن بعد ما عرفت من رجوع المفهوم المردد إلى الفرد المردد وكونه من مصاديقه ، وعرفت سابقا عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد مطلقا وبأي وجه كان ، فلا مجال لهذا القول خصوصا فيما ذكره من المثال ، فان المغرب من أوضح مصاديق الفرد المردد لتردده بين المتباينين.

كما يظهر مما عرفته عدم صحة القول بجريان الاستصحاب في المفهوم المردد إذا كان الأثر مترتبا على وجوده بمفاد كان التامة ، لا وجود في ضمن الموجود الخارجي ، حيث انه كان متيقن الحدوث والآن مشكوك البقاء فيستصحب ويترتب الأثر ، لأن المحذور في عدم جريان الاستصحاب فيه ليس ما ذكره الشيخ من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود الّذي مرجعه جعل المورد من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، كي يقال

ص: 361


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 447 - الطبعة الأولى.

بان هذا لا يمنع إذا كان الأثر مترتبا على الذات بمفاد كان التامة. وانما هو كون المورد من موارد استصحاب الفرد المردد ، وهو ممنوع الجريان مطلقا كما حقق في محله.

وبالجملة : ما يذكر ويحقق في مسألة الفرد المردد من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقا أو في الجملة بعينه جار هنا ، لأن المورد من مصاديق تلك المسألة.

ويتحصل مما ذكرناه : عدم جريان الاستصحاب موضوعا في المفهوم والعدم وجودا وعدما.

وإذا لم يجر الاستصحاب في الموضوع ، فهل يجري في الحكم أولا؟. ظاهر الاعلام المحققين إطلاق الحكم بعدم جريانه.

ولكن مقتضى التحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الخصوصية المنتفية المقومة للمسمى بحيث لا يوجب انتفاؤها انتفاء معروض الحكم وموضوعه بنظر العرف ، وان كانت دخيلة في المسمى والموضوع له ، بان كانت في نظره دخيلة بنحو العلة لثبوت الحكم ، وحصول الشك من جهة التردد في كونها علة حدوثا وبقاء للحكم أو حدوثا فقط. وبين ما إذا كانت بحيث يوجب انتفاؤها انتفاء الموضوع بنظره. فيجري على الأول دون الثاني ، وسيتضح هذا عند بيان المراد من الموضوع العرفي. إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

وبعد كل هذا نقول : ان الشك في الحكم لا يتحقق إلاّ من جهة تبدل بعض الحالات التي كان عليها الموضوع ، حيث يشك في ان أخذ هذه الحالة والصفة في موضوع الخطاب والحكم هل هو من جهة كونه من المقومات له فينتفي الموضوع بانتفائها ، أو ليس إلاّ لكونها من الحالات المتبادلة فلا ينتفي الموضوع بانتفائها؟. فلا بد من وجود ما يعين الموضوع ويكون هو الحكم في هذا المضمار. وهو أحد أمور ثلاثة :

ص: 362

الأول : العقل (1) ، ومقتضاه رجوع جميع القيود المأخوذة أو الواردة في

ص: 363


1- [1] هذا ما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) وتقريبه بوجهين : الأول : ما أشير إليه في المتن المأخوذ من كلام الشيخ (رحمه اللّه) وتوضيحه : من أنّ القضية ذات أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والنسبة ، والقيود لا يمكن أن ترجع إلى النسبة لأنّها معنى حرفي ، وهي غير راجعة إلى الحكم لأنّ خلاف المفروض إذ المفروض أنّ الحكم غير مشروط ، وقد يمتنع رجوع بعضها إليه ، فيتعيّن أن تكون راجعة إلى الموضوع. وفيه : أنّ من القيود ما يكون سببا لعروض العرض على معروضه من دون أن يكون مقوّما للمعروض ، كالعلل الغائية ، فعدمه يوجب تخلّف عدم العروض من دون مساس بنفس المعروض ، وقس على ذلك العوارض والمعروضات الخارجية من الأجسام ونحوها. الثاني : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) من أن جميع القيود والجهات بنظر العقل جهات تقييدية لا تعليلية ، فيتعيّن أن تكون قيودا للموضوع. وفيه : أنّ هذا لو سلّم فإنّما يسلّم في الأحكام العقلية المبتنية على التحسين والتقبيح لا في الأحكام الشرعية الصرفة غير المبتنية على الأحكام العقلية أصلا. مع أنّه غير مسلّم في الأحكام العقلية أيضا كما تقدّم البحث في ذلك في بعض مباحث مقدّمة الواجب ، فراجع. إذن فما أفيد من رجوع جميع القيود إلى الموضوع غير مسلّم. ولو سلّم ذلك فهل يمتنع الاستصحاب في مطلق الأحكام - كما اخترناه في المتن - أو يختصّ بغير مورد الشك في الرافع كما هو ظاهر الشيخ؟ ولذا أورد عليه بأنّ ما ذكره بعنوان اللازم الباطل لتحكيم النّظر العقلي في الموضوع مما التزم به فيما سبق. وبعبارة أخرى أنّه لا ثمرة - على مبناه - في الترديد بين النّظر العقلي وغيره بعد الالتزام باختصاص الاستصحاب حتى بناء على غير النّظر العقلي بمورد الشك في الرافع. وقد حمل المحقّق النائيني (رحمه اللّه) - كما في تقريرات الكاظمي - مراد الشيخ بالرافع هنا على غير مراده بالرافع هناك وإنّ المراد به هنا أخصّ من المراد به هناك ، فراجعه تعرف. وعلى ذلك لا يتوجّه عليه الإيراد المزبور. لكن يرد على المحقّق النائيني .. أولا : أنّه لا قرينة على ما ذكره أصلا وهو لم يذكر وجها يقرّبه ، فهو جمع تبرّعي. وثانيا : إنّ الرافع بالمعنى الّذي ذكره يكون عدمه أيضا مأخوذا في الموضوع ولأيّ سبب لا يكون من قيود الموضوع؟. ولكن الّذي يبدو لنا أنّ مراد الشيخ (رحمه اللّه) من الرافع هاهنا ما كان عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم لا الموضوع مثل الملاقاة التي يكون عدمها مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم بالطهارة ، والطلاق الّذي يكون عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الزوجية وهكذا ، فإنّ بعض الأحكام حين تحصل بأسبابها تستمر حتى يحصل ما يرفعها بلا أن يكون عدم الرافع مقوّما وقيدا للموضوع بل قد يكون الموضوع متصرّم الوجود كالعقد في الزوجية والملكيّة ونحوهما. وفي قبال ذلك القيد الّذي يكون راجعا للموضوع نظير العلم الّذي يكون عدمه قيدا لموضوع الأحكام الظاهرية الثابتة بالأصول العملية. وعليه ففيما إذا كان القيد من قيود استمرار الحكم فمع الشك في ارتفاعه لا شك في بقاء الموضوع ، بل الموضوع لم يتغيّر وإنّما الشك في بقاء الحكم فيستصحب. وقد رأينا ما أفاده المحقّق النائيني في أجود التقريرات يشير إلى ما ذكرناه من عدم تقيّد الموضوع بعدم الرافع وإنما هو قيد الحكم لكن بيانه لا يخلو عن إجمال. ومن الغريب أنّ السيد الخوئي نقل عنه ما جاء في تقريرات الكاظمي وردّ عليه بما مرّ. وكيف كان فما ذكره الشيخ بالتوجيه الّذي عرفته لا إشكال فيه ، فتدبّر.

الخطاب إلى الموضوع بحيث ينتفي بانتفائها ، لأنه ليس في القضية الشرعية سوى المحمول والموضوع ، فترجع القيود إلى الموضوع فمع الشك في دخل قيد أو حال في الحكم ، فحيث يرجع إلى الموضوع لو كان في الواقع دخيلا ، فعند انتفائه يشك في بقاء الموضوع.

ولازم هذا عدم جريان الاستصحاب في مطلق الأحكام ، لأن الشك فيها لا يكون إلاّ من جهة الشك في ان القيد الزائل دخيل في ترتب الحكم أو ليس بدخيل - إذ لو علم بعدم دخله لا يحصل الشك ويعلم ببقاء الحكم ، وكذا إذا علم بدخله فانه يعلم بارتفاعه - ، ومعه يشك في بقاء الموضوع. ويختص جريانه بالموضوعات ، لأن الشك فيها قد يحصل على ما هي عليه من الخصوصيات التي كانت عليها حدوثا.

وإن ألحق الشيخ بها ما إذا كان الشك في الحكم الشرعي من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود ، لأن الشك فيه لا يرجع إلى الشك في بقاء الموضوع ، كما إذا كان الحكم بالطهارة مترتبا على ما غسل بالكر ، وغسل ثوب

ص: 364

به ، ثم شك في ملاقاته للنجس أو في كون ملاقيه نجسا ، فان الموضوع باق على ما كان ، فتستصحب طهارة الثوب (1).

ولكنه غير تام ، لأن مرجع جعل مانعية شيء ، أو شرطيته إلى تقييد الموضوع به وأخذه في موضوع الحكم وجودا أو عدما ، فموضوع الطهارة هو ما غسل بالكر ولم يلاق نجسا ، فمع الشك في الملاقاة يشك في بقاء الموضوع.

الأمر الثاني : الدليل ، بان يكون الميزان ما يفهمه العرف من الدليل وان الموضوع هو هذا ، فيفرق بين ما إذا أخذ الوصف بنحو الشرط ، نحو : « الماء إذا تغير ينجس ». وما إذا أخذ بنحو النعت ، نحو : « الماء المتغير ينجس ». فيكون الموضوع في الأول هو ذات الماء ، فيجري الاستصحاب مع الشك في مدخلية التغير. وفي الثاني هو الماء المتلبس بالتغير فينتفي الحكم بانتفائه.

الأمر الثالث : العرف ، والمراد به ما يفهمه العرف بحسب مرتكزاته من قياسات الأحكام والموضوعات في قبال ما يفهمه بحسب متفاهم الألفاظ وفي مقام المحاورة الّذي هو مفاد تحكيم الدليل ، فقد ، يفهم العرف بحسب لفظ الدليل كون الموضوع للحكم هو الأمر الكذائي ، ولكن بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، يرى عدم تبدل الموضوع عند زوال بعض صفاته المقومة بحسب الدليل ، وان الحكم ثابت للأعم ، فهو يرى بحسب الدليل ان الحنطة هي موضوع الحلية ، ولكنه بحسب مرتكزاته يرى ان عروض الحلية لا يختص بالحنطة بل يعمها ويعم الدّقيق ، كما يرى بحسب مرتكزاته ان موضوع النجاسة هو ذات الماء وان التغير يؤثر فيه بنحو العلية. ويشترط ان لا يكون الفهم العرفي المذكور من القوة بحيث يكون من القرائن المتصلة أو المنفصلة الموجبة لانقلاب ظهور اللفظ من معناه وانعقاده في المفهوم العرفي ، أو المانعة عن

ص: 365


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /360- 361 - الطبعة الأولى.

حجيته في ما هو ظاهر فيه ، وإلاّ رجع إلى الأمر الثاني - أعني : لسان الدليل - وبما ذكرنا (1) يندفع ما قد يقال : من انه ما المراد من جعل النّظر العرفي

ص: 366


1- تحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال : إنّ الحكم الشرعي بناء على ما هو الصحيح من كونه غير الإرادة والكراهة ، بل هو أمر اعتباري يتحقّق بالإنشاء القولي أو الفعلي لا واقع له سوى مقام الإنشاء والدليل بمعنى أنّ الإنشاء والدليل في مقام الإثبات ليس كاشفا عن الحكم بوجوده الواقعي بل هو محقّق للحكم وسبب لتحقّق الاعتبار ، فنسبة الإنشاء إلى الحكم ليست نسبة الدالّ إلى المدلول بل نسبة السبب إلى المسبّب ، وليس له وجود واقعي منفصل عن الإنشاء ويكون الإنشاء طريقا إليه كما يظهر من بعض التعبيرات ، كالتعبير بمقام اللب والواقع ومقام الإنشاء والإثبات فإنّ ذلك ليس بسديد. وإذا كان الأمر كذلك فلا محصّل لدعوى تشخيص موضوع الحكم بطريق العقل أو العرف قبالا للدليل ، بل الحكم يدور مدار الإنشاء وما قصده المنشئ بإنشائه لا يتعدّاه بتاتا وأيّ دخل للعقل في ذلك؟ وكيف يتصوّر حكم العقل بان موضوع الحكم كذا إذا فرض أنّ الإنشاء على خلافه؟ بل حكم العقل يناط بكيفيّة الإنشاء الّذي هو سبب الحكم. فإنّه يدرك المسبّبات من طريق أسبابها. ولا سبيل له لإدراك مناطات الأحكام كي يستطيع للحكم بدخالة قيد وعدم دخالة آخر ومثل ذلك يقال في نظر العرف ، فإنه لا أساس له ، إذ ليس الحكم من أحكام العرف كي يكون له نظر فيه ، فلا معنى لأن يكون له نظر في الحكم الشرعي يخالف الدليل. نعم قد يكون له نظر خاص في باب الألفاظ أو من ناحية ارتكازاته بنحو يكون موجبا لتغيير ظهور الدليل البدوي إذا كان بمنزلة القرينة المتّصلة ، أو موجبا لعدم حجيّته إذا كان بمنزلة القرينة المنفصلة المانعة عن الحجية أو الكاشفة عن عدم الظهور كما في المقيّد المنفصل على التحقيق ، لكنّه نظر يرجع إلى تشخيص المراد والمقصود بالدليل لا أنّه في قبال الدليل وما يراد به. ومثله يقال في بعض أحكام العقل التي يقيّد بها الدليل كتقييد الأحكام بالقدرة أو الشعور والتمييز ، فإنّه يرجع إلى تشخيص أنّ المراد بالدليل رأسا هو المقيّد. وبالجملة : كل ما يقصده المنشئ هو المتّبع والكاشف عنه الدليل الإنشائي ولو بضميمة حكم العقل أو العرف وقرينتهما المتّصلة أو المنفصلة. وأما غير ذلك فلا محصّل له ، بل عرفت أنّ العقل والعرف لا معنى لأن يكون له نظر في قبال ما يحكيه الدليل عن قصد المنشئ ، فالمقابلة غير سديدة. وإذا عرفت ما بيّنا فنقول : ليس المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه بكل ما يكون دخيلا في تحقّق الحكم ، بل ما كان معروضا للحكم فإنّ بقاؤه هو المحقّق لوحدة القضيّتين وصدق البقاء والنقض. ولا نريد بالمعروض هو المعنى المصطلح له ، وذلك لأنّ معروض الحكم - بالمعنى المصطلح - هو خصوص متعلّقه كالإكرام في مثل « أكرم زيدا » أما متعلّق المتعلّق كزيد في المثال فليس معروضا للحكم الّذي يراد استصحابه ، فلو أريد من المعروض هو المعنى المصطلح لزم أن لا يعتبر بقاء زيد في استصحاب وجوب الإكرام وهو واضح البطلان. إذن فالمراد بالمعروض كل ما كان الحكم مرتبطا به وله إضافة إليه وتعلّق به ولو لم يكن مجعولا عليه. فمثل زيد يكون كذلك فإنّ الحكم يضاف إليه بتوسّط إضافة متعلّقه ، وعلى هذا الأساس يعتبر بقاؤه ويكون انتفاؤه مخلا بصدق البقاء والنقض. وتشخيص ارتباط الحكم وإضافته. تارة : يكون بواسطة ظهور اللفظ نظير المثال المزبور. وأخرى : قد يكون بواسطة العرف القطعي وإن لم يظهر من الدليل كما لو قال : « أطعم زيد الفقير » فإنّ العرف بمرتكزاته يفهم أنّ المراد رفع حاجة الفقير ، فيكون المطلوب رفع حاجته ، فإذا زال الفقر عن زيد انتفى الموضوع فينتفي الحكم لأنّ الحكم مرتبط بالحاجة والفقر ومضاف إليها لأنّها متعلّق المتعلّق على الفرض ، وإن كان الظهور البدوي ليس كذلك. وليس الأمر كذلك لو قال : « أطعم زيدا العالم » فإنّ العلم ليس كالفقر بنظر العرف فإذا زال أمكن استصحاب الحكم مع الشك لبقاء موضوعه وهو ذات زيد ، والعلم يعدّ من الحالات الطارئة عليه لا من مقوّماته المأخوذة في مقام ارتباط الحكم. نعم في مثل ما إذا قال : « قلّد زيدا العام » يكون زوال العلم موجبا لزوال الحكم ، لأنّ العلم مما يضاف إليه الحكم ، إذ التقليد هو أخذ الرّأي واتّباع العلم فإذا زال العلم فقد زال المعروض. وثالثة : قيد يكون بواسطة حكم العقل القطعي ، لتقوم التكليف بالتمييز والشعور ، لأنّه التحريك والبعث وهو يرتبط بالمميّز والشعور ، وليس كذلك الحال في عدم البلوغ. ولذا يصحّ استصحاب عدم التكليف الثابت في ظرف عدم البلوغ ، بخلاف العدم الثابت في ظرف عدم التمييز كالجنون. ولا يخفى أنّ اتّباع العرف أو العقل في تشخيص ما يرتبط به الحكم إنّما هو فيما كان نظره قطعيّا أو يوجب الوثوق والاطمئنان بحيث يوجب التصرّف في ظهور الدليل ، وفيما عدا ذلك لا عبرة به إذا كان للدليل ظهور في شيء معيّن ، بل يتّبع ما هو ظاهر الدليل. ومع إجماله يشكل جريان الاستصحاب لأنّه يستلزم الشك في بقاء الموضوع. هذا تحقيق القول في هذه المسألة ، فلاحظ.

في مقابل النّظر بحسب لسان الدليل؟ - هذا السؤال الّذي يقرب صورته المحقق النائيني كما في أجود التقريرات : بأنه -.

ان أريد من الظهور بحسب الدليل ما يفهمه العرف من لفظ الدليل ، ولو كان الظهور التصديقي الحاصل من ضم اجزاء الكلام بعضها إلى بعض وملاحظة ما يكتنف به من القرائن المقالية أو الحالية ، بحيث يكون المراد من النّظر العرفي حينئذ هو المسامحات العرفية في مقام التطبيق ، فلا مجال لتوهم

ص: 367

اعتبار النّظر العرفي في قبال النّظر بحسب لسان الدليل ، لعدم الاعتبار بالعرف في مقام التطبيق ، بل العرف معتبر في مقام تعيين المفهوم.

وان أريد من النّظر بحسب الدليل هو خصوص الظهور التصوري الحاصل بمجرد سماع اللفظ ، ومن النّظر العرفي الظهور التصديقي ، فلا مجال لتوهم اعتبار النّظر الدليلي بهذا المعنى ، لما قرر من ان الظهور التصوري لا يمكن نسبته إلى المتكلم والقول بان المتكلم اراده (1).

والّذي يقرب صورته المحقق العراقي - كما في نهاية الأفكار - : بأنه ..

ان أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعين مفهوم اللفظ ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل وليس قسما آخر.

وان أريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه ، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل انه المحكم والمرجع في تعين الموضوع (2).

فانه بعد ان عرفت ان للعرف نظرين :

أحدهما : بما هو من أهل المحاورة وفي مقام التفاهم.

والآخر : بحسب ما يرتكز لديه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها.

وانه قد يختلفان في تعيين الموضوع وقد يتفقان ، وان المراد من تحكيم الدليل هو تحكيم العرف بنظره الأول ، ومن تحكيم العرف تحكيمه بالنظر الثاني ، يتضح الجواب عن السؤال المذكور ولا يبقى له مجال.

ثم انه قد يرد إشكال آخر على المقابلة المذكورة ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ومحصله : ان موضوع الحكم له مرحلتان : مرحلة الواقع

ص: 368


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 449 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 10 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واللب. ومرحلة الإنشاء والدلالة. وهو باعتبار الأولى عقلي دقي ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي. ولا يكون الطلب متعلقا بشيء في غير هاتين المرحلتين. ونظر العرف في الموضوع انما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع - لعدم كون الموضوعية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالاعتبار ، كي يصح للعرف اعتبارها حقيقية - ، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له الا في مرحلة اللب واللفظ ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعا للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل ، ولا يصح أخذه مقابلا ، لأن المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم - بمقتضى التضايف - ، فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعا كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه (1).

ويمكن تقرير هذا الإشكال بشكل أوضح ، بيانه : ان الحكم المجعول لا واقع له الا مقام الإنشاء واللفظ.

وعليه ، فلا بد من لحاظ الموضوع في هذه المرحلة - وهذا المقام - ، لأنه مرحلة موضوعيته وترتب الحكم عليه ، فالمحكم هو لسان الدليل ، وما يراه العرف يرجع إلى التسامح في التعيين ، وهي غير معتبرة قطعا في مقابل الدليل ، فلا مجال للمقابلة.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الحكم - سواء قلنا : انه عبارة عن امر واقعي حقيقته الإرادة والكراهة. أو قلنا : بأنه أمر اعتباري يتقوم باعتبار كل معتبر بنفسه. أو انه أمر اعتباري عقلائي ، والإنشاء تسبيب للاعتبار العقلائي - له واقع اما الإرادة أو الكراهة واما الاعتبار ، والإنشاء كاشف عن ذلك الواقع فللموضوع في مقام ترتب الحكم واقع متحقق. وحينئذ يقع الكلام في ان تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العقل ، أو بنظر العرف بحسب ما يفهمه من

ص: 369


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 124 - الطبعة الأولى.

الدليل ، أو بنظره بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، فتصح المقابلة المذكورة.

إذا عرفت هذا ، فلا بد من بيان المختار من الطرق في مقام التعيين.

وقد أفاده المحقق الأصفهاني : ان موضوع الكلام في التقابل ليس هو نفس النقض ، وان المعتبر هو النقض الحقيقي أو النقض المسامحي العرفي ، إذ لا شك في عدم اعتبار النقض المسامحي إذا دار الأمر بينه وبين إرادة النقض الحقيقي ، كما انه ليس الموضوع هو الاتحاد وعدمه الّذي به قوام صدق النقض ، لأنه لا إشكال في اعتبار الاتحاد الحقيقي ، لأنه مع الوحدة المسامحية لا يصدق النقض حقيقة ، بل يكون مسامحيا فلا يشمله النهي. وانما الموضوع هو موضوع الحكم المستصحب ، بمعنى ان الموضوع الّذي رتب عليه الحكم ، هل المرجع في تعيينه العقل أو النقل أو العرف؟.

مع إرادة الاتحاد الحقيقي والنقض الحقيقي ، إلاّ ان صدق النقض حقيقة يختلف باختلاف الأنظار المعينة للموضوع.

والمشهور بين المحققين هو الرجوع إلى العرف في تعيين الموضوع.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في مقام إثبات ذلك ما بيانه : انه كما ان حجية الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم ، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق حقيقية ، وكان بعضها مصداقا له بنظر العرف ، فانه باعتبار كون مخاطبته للعرف كأحدهم يستفاد ان هذه المصاديق الحقيقية بنظر العرف متعلقة لإرادته الجدية - كما لو كان ملقي الكلام أحد أهل العرف - ، ما لم ينصف قرينة على تعيين مراده الجدي من المصاديق ، لأنه إذا لم يكن له اصطلاح خاص به ، فلا بد ان يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقي ، مع عدم نصب قرينة على العدم.

وعليه ، ففيما نحن فيه يكون مراد الشارع الجدي - حيث لم ينصب قرينة

ص: 370

على تعيينه - من مصاديق النقض مصاديقه العرفية الحقيقية ، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفا إلى تعيينه الموضوع ، فانه بعد ما يرى ان الموضوع هو كذا يرى ان رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة ، فإذا اعتبر نظره في صدق النقض يكشف عن اعتبار نظره في التعيين (1).

ويشكل ما ذكره : بان نظر العرف في تعيين موضوع الحكم ان بلغ بحد يقطع بأنه المراد للشارع ، فهو يوجب التصرف في حجية لسان الدليل ، لأن الظاهر انما يكون حجة فيما إذا لم يحصل القطع بخلافه ، أو كان بمنزلة القرينة الحالية ، فهو يوجب التصرف في ظهور الدليل.

وكلا الفرضين خارجان عن محل الكلام ، لأن محل الكلام في الأخذ بالنظر العرفي مع بقاء لسان الدليل على ظهوره وحجيته كما عرفت. وان لم يبلغ حد القطع بل كان ظنيا ، فلا دليل على اعتبار هذا الظن لا شرعا ولا عقلائيا ، فلا يصح التمسك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض ، إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفي في المصداق المبتني على الظن في تعين الموضوع.

وقد أفاد المحقق العراقي في المقام ما محصله : انه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، لأن الإرجاع الحقيقي يستلزم تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب. ثم ان استفادة البقاء والاتحاد تارة : يكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وكون متعلق الشك هو اليقين بالشيء ، فانه يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين كي ينتزع عنوان البقاء عنه. وأخرى : يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقة على مجرد اتحادهما بأحد الأنظار.

ص: 371


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 124 - الطبعة الأولى.

فعلى الأول : يكون الخلاف في ان المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصية الزمان مع التحفظ على باقي الخصوصيات بالدقة. أو انها ملحوظة من سائر الجهات.

فعلى الوجه الأول : لا بد من جعل مركز البحث في اختلاف الأنظار هو موضوع الحكم الّذي به قوام البقاء والاتحاد ، لأن الكبرى المذكورة - أعني : كبرى : « لا تنقض اليقين » المستفاد منها اعتبار الاتحاد والبقاء - من المفاهيم المحرزة ولا خلاف فيها ، ولا بد من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقة العقلية لا بالمسامحة العرفية ، والتطبيق الحقيقي يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم. فلا بد من تعيين النّظر المحكم لإحراز تحقق الاتحاد والبقاء.

وعلى الوجه الثاني - أعني : ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات - : يكون محل الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبدي لا في كبرى المستصحب.

وقد اختار الثاني ، وان المسامحة ملحوظة في الجهات الأخرى غير خصوصية الزمان.

وعلى الثاني - أعني : إذا كانت استفادة البقاء من حرمة النقض - : فان قيل : بان النقض حقيقة يصدق بمجرد وحدة القضيتين بأحد الأنظار ، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار. وامّا ان قيل : بان النقض الحقيقي لا يصدق إلاّ مع وحدة القضيتين دقة ، فلا يشمل النقض الادعائي المسامحي ، بل شموله يحتاج إلى دليل خاص ، لعدم الجامع بين النقض الحقيقي والادعائي. إلا أن يتمسك بالإطلاق المقامي الّذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضا بنظر العرف ، لأن القضية مسوقة على طبق الأنظار العرفية ، ويكون مقدما على الإطلاق اللفظي الدال على اعتبار النقض الحقيقي. هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي - مع

ص: 372

تصرف منا (1) -.

ولسنا بصدد تحقيق ما أفاده قدس سره ، فانه لا أثر له مهم بعد ما عرفت من تحقيق الحال ، الا إنا نود ان ننبهه على ما يظهر لنا بالنظر البدوي من التهافت في كلامه. فانه بعد ان فرض في صدر كلامه لزوم المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، وبنى على المسامحة في إلغاء خصوصية الزمان ، كيف يذهب بناء على اختصاص المسامحة بإلغاء خصوصية الزمان إلى لزوم تطبيق عنوان البقاء والاتحاد بالدقة العقلية لا بالمسامحة!. فانه لا يخلو من منافاة لصدر كلامه. هذا ما بدا لنا عاجلا ولعل التأمل في كلامه يرفع ذلك فلاحظ.

والّذي ينبغي ان يقال في المقام : انه بعد ما عرفت سابقا من تعذر حمل النقض على معناه الحقيقي لاستلزامه كون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين بجميع خصوصياته ، وهو غير ممكن للاختلاف بين الشك واليقين ، لأن أحدهما متعلق بالحدوث والآخر بالبقاء ، فلا بد من ان يحمل على المعنى المسامحي للنقض ، ولا بد حينئذ من حمله مطلقا على المعنى المسامحي لعدم إمكان حمله على المعنى الحقيقي ، فيتمسك بدليل الاستصحاب في كل مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحة ، بل النقض الحقيقي متعذر كما لا يخفى.

وتوهم : ان المسامحة في بعض الخصوصيات لا تقتضي المسامحة بالنسبة إلى جميع الخصوصيات ، والحمل على المعنى المسامحي فيما نحن فيه انما كان بالإضافة إلى خصوصية الزمان ، فلا يقتضي ذلك المسامحة في غيرها من الخصوصيات المعتبرة في صدق النقض الحقيقي.

ص: 373


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 11 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

مندفع : بان هذا انما يتم لو كان اعتبار بقاء الخصوصيات وعدم إلغائها مستفادا من إطلاق في المقام ، فانه إذا تعذر الالتزام ببعضها يتسامح بمقدارها ويبقى الإطلاق محكما في الأخرى.

امّا إذا استفيد ذلك من ظهور الكلام في المعنى الحقيقي ، وتوقف تحققه على الالتزام والمحافظة على جميع الخصوصيات ، فإذا تعذر الحمل عليه انتفت إرادة المعنى الحقيقي بتاتا لعدم تعدد المراتب في الحقيقة ، فيتعذر تحققه وحينئذ ، فيحمل اللفظ على معناه المسامحي مطلقا.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة لما تكلفه المحقق العراقي من الالتزام بالإطلاق المقامي.

كما انه يعلم حينئذ بأنه لا فائدة في الكلام عن ان الميزان في تعين الموضوع أي الأنظار ، لأنه انما يبحث عنه بعد التسليم بان المراد من النقض معناه الحقيقي.

امّا مع الالتزام بإرادة المسامحي منه ، فلا تصل النوبة إلى ذلك.

وبذلك يتبين عدم الوجه فيما ذكره المحقق الأصفهاني في تعيين محل النزاع من : انه لا وجه للكلام عن ان المراد بالنقض معناه الحقيقي والمسامحي. لأنه لا إشكال في تقديم المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. إذ قد عرفت إمكان تحقق الكلام فيه ، فتدبر جيدا.

وامّا ما ذكره السيد الخوئي - كما عرفت في بعض تقريراته - ناهجا به على ما ذكره شيخه النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في دفع الإشكال المذكور على المقابلة بين الأنظار الّذي قرره بما محصله : ان المراد من نظر العرف ان كان ما يفهمه من الدليل الشرعي بمعونة القرائن ، فهو المراد من لسان الدليل. وان كان المراد ما يتسامح به في تطبيق الكلي على مطابقة الخارجي ، فلا ريب في عدم الاعتماد عليه من ..

ص: 374


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 449 - الطبعة الأولى.

ان هذا الإشكال في نفسه صحيح ، ولكنه خارج عن محل الكلام ، إذ ليس الكلام في تعيين موضوع الحكم الشرعي ، بل الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب التي مفادها حرمة النقض من حيث توقف جريان الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عن الحالة السابقة ، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع ووحدته في القضية المتيقنة والمشكوكة. فيقع الكلام في ان المرجع في البقاء هل هو الدليل الأول الدال على ثبوت الحكم للموضوع ، فبقاء الموضوع المأخوذ في لسان الدليل هو الشرط في جريان الاستصحاب. أو يكون المرجع هو الدليل الثاني الدال على الإبقاء عند الشك ، فيتبع جريان الاستصحاب صدق موضوعه في نظر العرف - وهو النقض والمضي - بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأول؟. فالمراد من أخذ الموضوع من العرف كون جريان الاستصحاب تابعا لصدق النقض عرفا باعتبار ما يفهمه من النقض. والمراد من أخذه من الدليل هو الرجوع إلى الدليل الأول في جريان الاستصحاب.

ثم بعد توضيح ذلك وبيان إمكان الاختلاف بين النّظر العرفي والدليلي بالمعنى الّذي ذكره ، اختبار كون الموضوع مأخوذا من العرف ، بمعنى ان جريانه تابع لصدق النقض عرفا ، أخذا بالدليل الثاني المتكفل للحكم في مرحلة البقاء ، لأن الكلام فيها دون الدليل الأول المتكفل لمرحلة الحدوث (1). ففيه (2) :

ص: 375


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول1. 238 - الطبعة الأولى.
2- والعمدة في الإشكال هو : أنه لا إشكال في كون البقاء والاتحاد والنقض من المفاهيم المعلومة المحدودة التي لا نزاع فيها ولا يشك في المراد بها. كما لا نزاع في لزوم اتحاد القضيتين ، وان الاتحاد يتقوم بوحدة الموضوز. وانه يلزم ان يكون الموضوع بقاء عين الموضوع حدوثا ، فانه مفروغ عنه في كلماتهم. فينحصر الكلام في تشخيص الموضوع حدوثا ، كي يعتبر بقاءه في مرحلة الشك ، فلا بد من البحث عن الموضوع وتحديده ، فالدوران بين الأنظار انما هو في مقام تشخيص الموضوع ، ولا محصل للدوران بين الدليل الأوّل والدليل الدال على الاستصحاب. ومن الغريب انه بعد هذا البيان ، وفي مقام بيان صدق البقاء عرفا يمثل لما تكون الخصوصية غير مقومة عرفا بما يرجع إلى تشخيص الموضوع للحكم حدوثا ويرتبط بالدليل الأول ، فلاحظ كلامه وتدبر. وقد عرفت تحقيق الحال في أصل المسألة.

أولا : ان التسليم بصحة الإشكال في نفسه في غير محله ، بعد ما عرفت من وجود نظر للعرف في الموضوع بحسب مرتكزاته في مقابل نظره بحسب كونه من أهل المحاورة ، وقد التزم به السيد الخوئي في غير المقام وثانيا : ان دليل حرمة النقض دليل آخر غير الدليل المتكفل لثبوت الحكم حدوثا ، ويتبع فيه نظر العرف في مقام تشخيص موضوعه كالدليل الأول ، وحينئذ فترجع المقابلة إلى انه هل المرجع هو لسان الدليل أو لسان الدليل؟. ولا تخفي ركاكة هذا التعبير واستهجانه ، كما انه يرجع إلى المقابلة بين الدليلين لا بين الدليل والعرف.

وثالثا : ان الدليل الأول متكفل لبيان حكم مرحلة الحدوث ، والدليل الثاني متكفل لحكم مرحلة البقاء. فلا دوران بينهما لعدم المنافاة بينهما بنفسهما ، فيمكن الأخذ بكليهما. نعم التنافي بينهما باعتبار كون صدق النقض يبتني على فهم العرف كون الخصوصية ليست مقومة للموضوع ، وان كانت بحسب ظاهر الدليل الأول مقومة ودخيلة فيه ، فالدوران بينهما انما يكون بهذا الاعتبار.

وعليه ، يقال : ما هو السر في اعتبار الفهم العرفي المذكور في قبال لسان الدليل الظاهر في خلافه؟. فالكلام يرجع بالآخرة إلى بيان الوجه في جعل الفهم العرفي مقابلا لظاهر الدليل ، والأخذ به وطرح ظاهر الدليل.

وقد عرفت إشكال ذلك ، كما انه لم يلتزم به. فما ذكره من تقديم الدليل الثاني في غير محله بعد تصريحه في كون صدق النقض عرفا يبتني على كون الخصوصية غير مقومة. نعم لو كان صدق النقض عرفا يستلزم ذلك لا انه يبتني عليه ، لكان لما ذكره وجه ولكنه خلاف ما صرح به.

يبقى في المقام شيء : وهو ما نقله الشيخ عن بعض المتأخرين من التفريق بين استحالة نجس العين والمتنجس ، بالحكم بطهارة الأول ، لأن

ص: 376

الموضوع للنجاسة فيه متقوم بالصورة النوعية والحكم محمول على النوع ، وبالاستحالة يزول الموضوع ، فمع الشك في طهارة المستحال إليه ونجاسته تحكّم قاعدة الطهارة فيه. دون الثاني ، لأن موضوع النجاسة فيه ليس متقوما بالصورة النوعية ، كالخشبية أو الثوبية - مثلا - ، وانما الموضوع هو الجسم ، وهو لم يزل بالاستحالة ، فمع الشك في بقاء النجاسة في المستحال إليه تستصحب.

وقد خالفه الشيخ رحمه اللّه ، وحكم : بان دقيق النّظر يقتضي خلافه ، وأفاد في تحقيق ذلك : انه لم يعلم بان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية وهي الجسم.

وامّا ما اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات من ان كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس. فهو لا يدل على ما ذكره المفصل ، لأن التعبير بالجسم ليس من جهة تقوم الحكم بالجسمية وإناطته بها ، بل من جهة أداء عموم الحكم لجميع افراده وشموله لمصاديقه كلها ، لكونه مشيرا إليها وكاشفا عنها ، فلا ينافي ان يكون ثبوت الحكم لكل فرد من حيث خصوصيته المتقوم بها.

واستشهد لذلك بما إذا قال القائل : « كل جسم له خاصية وتأثير » ، فان التأثير والخاصية من عوارض الأنواع لا الأجسام. فما نحن فيه نظير هذا القول في كون التعبير بالجسم من جهة تعميم الحكم لجميع الافراد من دون كون الحكم منوطا بالجسمية.

ثم ذكر قدس سره : انه لو أبيت الا عن ظهور معقد الإجماع في تقوم النجاسة بالجسم ، فالإجماع لا اعتبار به ، لأن مستنده الأدلة الخاصة الواردة في الأنواع الخاصة ، كالثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاما ان نقول ان استنباط القضية الكلية المذكورة من هذه الأدلة انما كان للإشارة إلى ما تحدث فيه النجاسة وبيان ظرفها لا إلى ما تتقوم به النجاسة وتناط به وإلاّ فلا بد من طرح الإجماع والعمل بمقتضى الأدلة الواردة في مواردها من إناطة النجاسة بالعنوان

ص: 377

المذكور في الدليل (1).

ولكن ما ذكره لا يمكن ان يلتزم به قدس سره لوجوه (2) :

الأول : ان ظاهر معقد الإجماع كون الحكم - وهو النجاسة - منوطا بالجسم من دون وجود ما يصرف هذا الظهور عن ظاهره وحجيته ، فلا مسوغ لترك العمل به.

وما ذكره من التنظير بقولهم : « كل جسم له خاصية وتأثير » يفترق عما نحن فيه ، لوجود الدليل القطعي على كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع ، وهو استحالة تأثير الواحد في المتعدد ، فانه يدل على ان مصدر التأثير هو كل جسم بنفسه ونوعه ، لا الجهة الجامعة بين الأنواع - وهي الجسمية - ، وإلاّ لزم تأثير الواحد في المتعدد ، فالدليل القطعي المذكور يوجب التصرف في الظهور ، لأنه يكون بمنزلة القرينة الحالية.

الوجه الثاني : انه يلتزم كغيره من الفقهاء بان الحكم إذا رتب على أمور متخالفة في موارد متعددة ، تلغى حينئذ الخصوصيات ، وان الحكم ثابت للجهة الجامعة بين هذه الأمور.

وعليه ، فإذا ورد في النصوص ترتب النجاسة على الثوب والبدن والماء وغيرها ، يستكشف من ذلك إلغاء الخصوصيات المفرقة وكون الحكم منوطا بالجهة الجامعة بين هذه الأمور وهو الجسم ، فلا وجه لما ذكره أخيرا من الالتزام بمقتضى الأدلة الواردة في الموارد الخاصة.

الوجه الثالث : انه قد بنى على استفادة الموضوع من فهم العرف ونظره المقابل لظاهر الدليل ، والعرف يرى ان موضوع النجاسة هو الجسم لا الصورة

ص: 378


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول -1. الطبعة الأولى.
2- يضاف إلى هذه الوجوه انه قد ورد الحكم في بعض النصوص على العنوان الجامع بين الأنواع كقوله علیه السلام في رواية عمار الساباطي : « واغسل كل ما أصابه به ذلك الماء » ، فانه ظاهر في كون موضوع النجاسة هو الجسم بلا دخل لخصوصيته وقد اقتصر السيد الأستاذ في الإشكال على الشيخ في هذه الدورة على هذا الوجه والوجه الثاني ...

النوعية ، لأنه يرى ان النجاسة من العوارض الخارجية التي يكون معروضها الجسم لا الصورة النوعية له.

ومن هنا تعرف ان ما ذكره المفصل من قيام الحكم بالجسم في المتنجس دون النجس ثابت لا مجال للمناقشة فيه. ولكنه مع هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب في المستحال إليه - وان كان الظاهر من الشيخ تسليم جريانه لو ثبت بان المعروض الجسم - ، لأن عروض النجاسة ليس على كلي الجسم ، بل انما هو على الافراد وعلى الموجود الخارجي بما هي جسم - فلا ينافي ان يكون معروض النجاسة هو الجسم - ، وحيث ان الافراد متباينة ومتغايرة عرفا ، فالعرف بعد استحالة الفرد وتبدله إلى فرد آخر للجسم لا يرى عدم ترتب الحكم - هو النجاسة - عليه نقضا للحالة السابقة ، لمغايرة هذا الفرد للفرد الّذي كانت النجاسة ثابتة له ، فلا يستطيع الحكم بان هذا الفرد كان نجسا ، فلا يصدق النقض بما له من المفهوم العرفي كي يشمله النهي.

وبالجملة : كما يعتبر بقاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حدوثا ، كذلك يعتبر بقاء وجود الموضوع ، ولذا لا يسري الحكم من جسم إلى آخر ، لأن الحكم انحلالي متعدد الافراد ، فكل فرد بما هو فرد له حكم مستقل ، لكنه لم يثبت له بخصوصيته ، بل بما هو جسم. ومن الواضح انه مع تبدل الفرد لا يتحد الموضوع في القضيتين وان اتحدا عنوانا ، فلا يصدق النقض والابقاء.

فمنع الاستصحاب يرتكز على أمرين :

الأول : كون النجاسة عارضة على افراد الجسم لا كليّة.

الثاني : ان صدق النقض بلحاظ ما هو المفهوم منه عرفا ونظر العرف فيه ولو مسامحة.

وهذا الوجه في منع جريان الاستصحاب أفاده الفقيه الهمداني رحمه اللّه

ص: 379

في حاشيته على الرسائل (1).

الثاني من شروط الاستصحاب : كون الشك متعلقا بالبقاء وبقاء اليقين بالحدوث.

لأن تعلق الشك بالحدوث انما هو ملاك قاعدة اليقين. ولا إشكال في أخذ هذا الشرط ولا خلاف فيه. وانما تعرض لذكره الأعلام لبيان انه هل يمكن استفادة القاعدة من اخبار الاستصحاب مضافا إلى الاستصحاب أو لا؟. وقد (2) ، أفيد في منع استفادة - كلتا القاعدتين من اخبار الباب وجوه :

ص: 380


1- الفقيه الهمداني. هامش فرائد الأصول -1. الطبعة الأولى.
2- مما أفيد في منع شمول الاخبار لكلتا القاعدتين ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) : من أنّ المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما مناط واحد ، فإنّ مناط الاستصحاب اتّحاد متعلّق الشك واليقين مع قطع النّظر عن الزمان لتعلّق الشك في بقاء ما تيقّنه سابقا ، ولازم ذلك كون القضية المتيقّنة - كعدالة زيد يوم الجمعة - متيقّنة حال الشك أيضا من غير جهة الزمان. ومناط قاعدة اليقين اتّحاد المتعلّقين من جهة الزمان ، ومعناه أنّه شاك في نفس ما تيقّنه سابقا بوصف وجوده السابق. وعلى هذا فإلقاء الشك في الاستصحاب يرجع إلى التعبّد ببقاء المتيقّن في السابق من غير تعرّض لحال حدوثه. وإلغاؤه في القاعدة يرجع إلى التعبّد بحدوث ما تيقّنه سابقا من غير تعرّض لبقائه واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد بأن يقول : « وإذا حصل شك بعد يقين فلا عبرة به سواء تعلّق بحدوثه أم ببقائه والحكم بالبقاء في الثاني وبالحدوث في الأول » لكنّه مانع من إرادتها من مثل قوله : « فليمض على يقينه » فإنّ المضي على اليقين في الاستصحاب يغاير المضي عليه في القاعدة فإنّه فيه يرجع إلى الحكم بعدالته بقاء ، وفيها يرجع إلى الحكم بعدالته حدوثا من دون تعرّض لما بعده ، وإرادة كلا المعنيين من اللفظ الواحد ممتنع ثم إنّه (رحمه اللّه) أورد على نفسه بأنّ المضي على اليقين معناه عدم التوقّف لأجل الشك وفرض الشك كعدمه ، وهذا يختلف تطبيقا باختلاف متعلّق الشك ، فإن تعلّق الشك بالحدوث ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالحدوث ، وإن تعلّق بالبقاء ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالبقاء ، فلا تعدّد في معنى المضي وإنّما التعدّد في المصداق. وأجاب عنه بجواب لا تخلو عبارته من إجمال والّذي نستظهره منها هو : إنّ ظاهر النصوص اتّحاد متعلّق اليقين والشك ، وإنّ الشك لا بدّ وأن يكون متعلّقا بما تعلّق به اليقين. وعليه ففي مقام الحكم إما أن يلاحظ الحاكم الشك المتعلّق بما تعلّق به اليقين مجردا عن الزمان فالمضي عليه عبارة عن الحكم باستمرار المتيقّن ، وأما أن يلاحظه مقيّدا بزمان اليقين فالمضي عليه عبارة عن الحكم بحدوث المتيقّن ، ولا يمكنه أن يلحظه مقيّدا ومجردا ، فليس مراده من عدم تعدّد فرد اليقين والشك عدم تعدّده في الخارج ، فإنّه مما يكذّبه الوجدان خصوصا إن لوحظ ذلك بالنسبة إلى شخصين فكان الشك في الحدوث حاصلا عند غير من حصل عنده الشك في البقاء ، بل مراده عدم التعدّد في مقام الحكم والتعبّد وإن الحاكم إما أن يلحظ الشك مجردا أو مقيّدا ، فقوله ( قده ) : « والشك ليس له هنا فردان » يقصد به ليس له في مقام الحكم ، لا في الواقع كما حملت عليه عبارته ووجّهت ببعض التوجيهات المردودة ، فراجع تقريرات الكاظمي. وما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) بهذا التقريب قابل للمناقشة ، وذلك لما تقدّم من أنّ وحدة متعلّق اليقين والشك تتحقّق بتقيّد متعلّق الشك بكل ما هو مقوّم لمتعلّق اليقين وهو ما كان له إضافة إليه وارتباط به فيصدق عند ذلك حقيقة الشك في نفس ما تعلّق به اليقين. ومن الواضح أنّ الزمان ليس من مقومات متعلّق اليقين إذ لا إضافة له بالنسبة إليه بل هو ظرف لتحقّقه ، فاليقين يتعلّق بذات العدالة ، فوحدة متعلّق الشك مع متعلّق اليقين لا. تقتضي أكثر من تعلّق الشك بذات العدالة مع قطع النّظر عن الزمان السابق أو اللاحق. فلا مقتضى للحاظه مجردا أو مقيّدا بالزمان حتى يتأتّى المحذور السابق ، فإذا تعلّق الشك بالعدالة حدوثا أو بقاء ، يصدق حقيقة قول القائل : « إذا تيقّنت بشيء وشككت فيه ». وعليه فإطلاق الدليل يمكن أن يكون شاملا لكلا الموردين. وتحقيق الحال في أصل المسألة أن يقال : إنّ الملحوظ في قاعدة اليقين - بحسب اصطلاح الاعلام - وإن كان هو الحدوث لكن من المعلوم أنّ ذلك بلحاظ ترتيب الأثر بقاء وفي حال الشك ولذا لو لم يكن للأمر المتيقّن الحدوث أثر شرعي بقاء فلا جدوى في التعبّد بالحدوث بل يكون لغوا. وإذا فرض أنّ محل البحث هو مورد ترتّب الأثر بقاء ، كما لو تحقّق الطلاق في حضور من يقطع بعدالته ثم بعدم مدة شك في عدالته حال الطلاق ، فإنّ ثبوت العدالة في حال الطلاق له أثر بقاء وفي حال الشك وهو زوال الزوجية فعلا بخلاف ما لو لم يكن عادلا فإنّ أثره بقاء الزوجية بالفعل ، وهكذا لو تيقّن بأداء الصلاة الصحيحة وترتّب عليه جواز الاكتفاء بها ، ثم شك بعد ذلك في صحة صلاته ، فإنّ لصحة الصلاة في ظرفها أثرا بالفعل وهو جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال - أمكن أن يقال : بأنّ الأثر الشرعي يشك في بقائه فعلا بعد اليقين بحدوثه وشكّه في البقاء وإن كان مصحوبا بالشك في الحدوث لكون المفروض سراية الشك إلى الحدوث - إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من صدق الشك في البقاء. نعم موضوع الأثر قد لا يكون له بقاء كمثال الصلاة أو يكون له ولكن أثره الشرعي بالمشكوك أثر الحدوث لا أثر البقاء كمثال الطلاق. إلاّ أنّ هذا ليس بمهم بعد أن كان الأثر مشكوك البقاء في جميع الفروض. وإذا كان الأمر بالنسبة إلى الأثر كذلك أمكن أن يقال بتطبيق الأخبار المتضمنة للتعبّد بالبقاء على الأثر نفسه ، فهو متيقّن الحدوث سابقا ، ويشك في بقائه فعلا ، فيكون مشمولا للتعبّد بالبقاء مع غضّ النّظر عن حدوثه. وبعبارة أخرى : إنّ الاخبار تتضمّن التعبّد بالمشكوك في ظرف الشك إذا كان مسبوقا باليقين ، وهي بذلك كما تنطبق على موارد الاستصحاب تنطبق على موارد قاعدة اليقين بالبيان الّذي عرفته فإنّ الأثر متعلّق للشك بالفعل بعد أن كان متعلّقا لليقين فتتكفّل الأخبار التعبّد به. نعم لا تشمل الموارد التي لا يكون الأثر مقارنا لحدوث الموضوع بل يكون متأخّرا عنه وجودا كما لو فرض أنّ عدالة زيد يوم الجمعة موضوع لوجوب التصدّق يوم الأربعاء ، فإنّه إذا شك يوم الأربعاء في عدالة زيد يوم الجمعة بعد أن كان متيقّنا بها ، فليس لديه شك في بقاء وجوب التصدّق بل في حدوثه ولا يكون التعبّد به تعبّدا بالبقاء. ولكن مثل هذا المورد نادر الوقوع فلا يضرّ الالتزام بخروجه. هذا مع أنّه بناء على جريان الاستصحاب في الحكم التطبيقي ، يمكن أن يلتزم بنظيره هنا فإنّه باليقين سابقا بالعدالة يوم الجمعة حصل لديه يقين بالوجوب التعليقي للتصدّق ، فيشك يوم الأربعاء في العدالة ، يحصل لديه الشك في بقاء الوجوب التعليقي فيصحّ التعبّد به ، كما يتعبّد به في موارد الاستصحاب ، ويصل إلى مرحلة الفعلية عند حصول المعلّق عليه. وجملة القول : إنّه لا إشكال في شمول الأخبار لموارد قاعدة اليقين مع الاستصحاب لا من ناحية الموضوع وهو الشك ولا من ناحية الحكم وهو التعبّد فيها يمكن أن يكون بالبقاء من دون تعرّض لحال الحدوث فلا يلزم اجتماع لحاظين ونحو ذلك. هذا ، ولا يخفى عليك أنّ المعتبر في موارد قاعدة اليقين وهو اليقين السابق والشك اللاحق بحيث لا يجتمع الوصفان في زمان واحد. وعلى هذا فقد يشكل شمول الأخبار لتلك الموارد بان ظاهر الأخبار ثبوت اليقين الفعلي كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام فإنّ دليلها ظاهر في موضوعية الوجود الفعلي للحكم ، فقوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشك » ظاهر في أخذ فعليّة اليقين كالشك في حرمة النقض وهذا يختص بموارد الاستصحاب لوجود اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء. والجواب عن هذا الإشكال : إنّ ظاهر الاخبار أنّ المعتبر هو اليقين السابق بالشيء والشك اللاحق به سواء كان الشك متعلّقا بالبقاء خاصّة أو ساريا إلى الحدوث ، فيعتبر أن يسبق اليقين الشك زمانا فلا عبرة باليقين المتأخّر عن الشك أو المقارن له حتى في موارد الاستصحاب ، ومقتضى ذلك اختصاص الاستصحاب بموارد يكون اليقين بالحدوث فيها سابقا على الشك في البقاء ، فتكون الأخبار دالة على قاعدة عامة وهي إلغاء الشك المتأخّر عن اليقين وهذه القاعدة ليست بقاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه الرابع إلى التعبّد بالحدوث لما عرفت من كون التعبّد بالبقاء. وليست بالاستصحاب بالمعنى المتداول لدى الأصحاب ، بل هي شاملة لبعض موارد قاعدة اليقين والاستصحاب بمعناهما الاصطلاحي وموارد الأخبار لا تأبى من الحمل على هذا المعنى لتحقّق اليقين السابق والشك اللاحق فيها. والقرينة على ما ادّعيناه من الظهور أمران : أحدهما : التعبير في بعض نصوص الباب بقوله : « لأنك كنت على يقين » أو : « من كان على يقين فشك » فإنّ هذا التعبير صريح في كون الموضوع هو اليقين السابق لا اليقين الفعلي. والآخر : إسناد النقض إلى الشك ، فإنّه ظاهر في فرض كون الشك مما يحتمل فيه أن يكون ناقضا لليقين حتى يصحّ النهي عنه. ومن الواضح أنّ هذا إنّما يتأتّى في الشك اللاحق لليقين لأنّه رافع لاستمرار اليقين وقاصم لوحدته الاستمرارية. وأما الشك المقارن لليقين فلا موهم. لكونه ناقضا كيف؟ والمفروض اجتماعهما في آن واحد ، وبعبارة أخرى : إنّ اجتماع اليقين والشك لا يمكن تعقله إلاّ بتقيّد متعلّق اليقين بالزمان السابق فيتيقّن بالعدالة السابقة بما هي كذلك ويشك في العدالة الفعلية ، ولا يخفى أنّ الشك المزبور لا يتوهّم كونه ناقضا لليقين المزبور لاختلاف المتعلّقين ، وبواسطة ذلك ترفع اليد عن ظهور لفظ « اليقين » أو قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » في كون المدار على اليقين الفعلي قياسا على سائر الموضوعات. والخلاصة : إنّ الأخبار ظاهرة في تقوّم التعبّد بسبق اليقين ولحوق الشك ولا صارف لظهورها في ذلك. ونتخلص بذلك عن اللجوء إلى دعوى إرادة المتيقّن من لفظ اليقين التي يشكل تصويرها وإثباتها لأنّها متفرّعة على اعتبار اليقين الفعلي الّذي لا يصحّ إسناد النقض عليه - فراجع ما تقدّم في صحيحة زرارة الأولى تعرف -. ومن هنا يظهر اندفاع إشكال المعارضة بين القاعدة والاستصحاب الّذي بنى عليه الشيخ ، فإنّه متفرّع عن اعتبار اليقين الفعلي في باب الاستصحاب فيتحقّق موضوعه بالفعل لليقين بالفعل بعدم عدالته في الزمان السابق على اليقين به مع تحقّق موضوع القاعدة كما هو المفروض فيتعارضان. أما على ما اخترناه من اعتبار اليقين السابق في الاستصحاب والشك الّذي يتوهّم نقضه به فلا موضوع له لأنّ انتقاض اليقين السابق بالشك يتقوّم باتّصال زمان اليقين بزمان الشك ، والمفروض عدمه لتخلّل اليقين بالعدالة بينهما ، فيكون ناقضا لليقين السابق بعدم العدالة ، فلا يكون الشك الفعلي ناقضا لليقين الأسبق بعدم العدالة بل يكون ناقضا لليقين بالعدالة فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين فقط. نعم الشك الفعلي مجتمع مع اليقين الفعلي بعدم عدالة زيد سابقا ، ولكن عرفت أنّه ليس موضوع الاستصحاب. ويتّضح من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا إشكال على ما قرّرناه من دلالة الأخبار على القاعدتين بالشكل الّذي عرفته لا من ناحية الثبوت ولا من ناحية الإثبات. وهذا الوجه لم يعهد من أحد الالتزام به بل التنبه إليه ، فتدبّره فإنّه بالتدبّر حقيق. ثم إنّه قد يشكل ما قرّرناه بأنّه يقتضي سدّ باب الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الحكمية بالنسبة إلى المجتهد ، بيان ذلك : إنّ سيرة المجتهدين قائمة على إجراء الاستصحاب عند الشك في سعة الحكم الكلّي الإلهي وضيقه سواء تعلّق الحكم به أم بمقلّديه كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتعيّن إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو شك في استمرار خيار الغبن أو فوريّته ، ونحو ذلك ، من غير فرق بين أن يكون موضوع الحكم فعليّا كما لو كان لديه ماء متغيّر أو لم يكن فعليّا بل فرضيا ، فإنّه يجري الاستصحاب ويفتي على طبقه بالفعل ، ويعمل به مقلدوه ، ولو لم يحصل لديهم يقين وشك في ظرفه. وقد وجّه ذلك بأن يقينه وشكّه بمنزلة يقينهم وشكّهم وهذا التنزيل تقتضيه أدلّة الإفتاء. وقد تعرّضنا لبيان الإشكال وحلّه - بصورة مفصّلة - في أوّل مبحث القطع. ولا يخفى أنّ هذا يبتني على فرض موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي فإنّ المجتهد يحصل لديه يقين بالفعل بنجاسة الماء عند تغيّره وشك في بقائها على تقدير زوال التغيّر ، فهو يجري الاستصحاب بلحاظ حالة التغيّر وزوالها. وأما بناء على اعتبار اليقين السابق والشك اللاحق ، فيشكل الأمر في مثل هذه الاستصحابات ، لعدم الترتّب الزماني بين اليقين والشك بالنسبة إلى المجتهد ، بل اليقين والشك يحصلان دفعة بل قد يتقدّم الشك على اليقين ، وأما المقلّد فالمفروض أنّه غافل عن هذه الخصوصيات. فكيف يفتي المجتهد له بل لنفسه بنجاسة الماء المتغيّر إذا زال عنه التغيّر استنادا إلى الاستصحاب؟ مع عدم تحقّق موضوعه لا عنده ولا عند مقلّده. وهذا الإشكال لا محيص عنه ولكنه لا يختص بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعمّ المبنى الآخر ، فلا يصح إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الكلّي إذا لم يتحقّق موضوعه. بالفعل حتى على الالتزام بأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك في البقاء لوجوه : الأول : إنّ اليقين بالحكم على تقدير حصول موضوعه كاليقين بالخيار على تقدير تحقّق البيع الغبني ، مرجعه في الحقيقة إلى اليقين الفعلي بالملازمة بين الموضوع والحكم ، وأما الحكم فليس بمتيقّن بالفعل لا بوجوده المطلق ولا بوجوده الخاصّ المقيّد بالموضوع ، إذ قد لا يحصل الموضوع بل قد يكون ممتنعا - كما في مثل : لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا - فكيف يكون الحكم متيقّنا؟ والملازمة ليست مجرى الاستصحاب لأنّهما غير مشكوكة البقاء وإنّما الشك في سعة اللازم - وهو الحكم - وضيقه ، مع أنّها ليست بأمر شرعي. الثاني : إنّ الحكم الاستصحابي كسائر الأحكام له مقام جعل ومقام فعلية. والأول : متحقّق بإنشائه ، والثاني : يتحقّق بفعلية موضوعه وهو اليقين والشك ، ومقتضى ذلك أنّه لو حصل اليقين والشك لزم أن يكون الحكم الاستصحابي فعليا ، وبعبارة أخرى : إنّ الاستصحاب في مقام تطبيقه يلزم أن يكون فعليا. وعليه نقول : إنّ مؤدّى الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت ، ومن الواضح أنّ فعلية الاستمرار فرع فعلية الحدوث ، ففي ظرف تطبيق المجتهد الاستصحاب لتحقّق موضوعه لديه لا يكون الحكم فعليا إذ لا معنى للحكم الفعلي بالاستمرار فلا معنى لفعلية الاستصحاب ، وفي الظرف القابل للاستمرار قد يكون المجتهد غافلا بل قد يكون ميتا فلا يقين ولا شك حينئذ. فلا يصحّ جريان الاستصحاب. الثالث : إنّ الاستصحاب يعتبر في تطبيقه الاستمراري استمرار موضوعه أعني : اليقين والشك - فلا يكفي حدوثهما في إجراء الاستصحاب إلى الأبد ، وعليه يقال : إنّ اليقين والشك الحاصلين للمجتهد عند تصدّيه للاستنباط إما أن لا يستمر إلى ظرف فعلية الحكم أو يكونا مستمرين. وعلى كلا التقديرين لا جدوى في الاستصحاب الفعلي. أما على الأول : فواضح لأنّ انتقاض اليقين والشك في ظرف العمل يستلزم انتفاء الحكم الاستصحابي حينئذ ويكون الحكم الاستصحابي السابق لغوا محضا سواء كان دليل الاستصحاب يتصدّى لجعل المنجزية والمعذورية أو يتصدّى لجعل الحكم المماثل ، إذ لا معنى للتنجيز السابق للحكم الّذي يرتفع في ظرف العمل ومثله الحكم المماثل السابق لأنّه بلحاظ الطريقية إلى الواقع. فيكون المورد من قبيل جعل الحكم الفعلي قبل ظرف العمل ثم رفعه في ظرف العمل. فإنّ ذلك لغو محض. وأما على الثاني : فلا مقتضى لإجراء الاستصحاب من حين حدوث اليقين والشك بل يجري في ظرف العمل ، لعدم الفائدة في إجرائه السابق. وبعبارة مختصرة : إنّه لا أثر عملي للتنجيز السابق على ظرف العمل ، بل المدار على ظرفه فأما أن يكون موضوع الحكم الظاهري متحقّقا فهو أو غير متحقّق فيتعبّد به على الأول دون الثاني. وبهذه الوجوه : تعرف أنّ إشكال امتناع المجتهد عن إجراء الاستصحاب في موارد عدم فعلية الموضوع لا يختصّ بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعم المبنى المشهور المعروف ، فالتفت. وعلى هذا فلا نرى وجها صالحا لرفع اليد عن ظهور النصوص فيما عرفت وهو سبحانه وليّ التسديد في القول والعمل.

ص: 381

ص: 382

ص: 383

ص: 384

الوجه الأول : ما أفاده المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - من :

ان في الاستصحاب والقاعدة جهات أربعة : جهة اليقين. وجهة المتيقن. وجهة النقض. وجهة الحكم. ولا يمكن الجمع بين القاعدتين في اللحاظ من جميع

ص: 385

الجهات.

امّا من جهة اليقين ، فلأن اليقين في باب الاستصحاب ملحوظ بما هو طريق وكاشف عن المتيقن ، وفي القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدله بالشك.

واما من جهة المتيقن ، فلان المتيقن في الاستصحاب لا بد وان يكون معرى عن الزمان غير مقيد به ، وفي القاعدة لا بد وان يكون مقيدا به.

وامّا من جهة النقض ، فلأن نقض اليقين في الاستصحاب باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة باعتبار نفس اليقين.

وامّا من جهة الحكم ، فلأن الحكم المجعول في القاعدة انما هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من الجهات الأربعة ، فلا يمكن ان تعمهما أخبار الباب (1).

ولكن ما ذكره قدس سره غير تام بشقوقه الأربعة :

امّا الشق الأول : فلأن لحاظ اليقين في القاعدة بما هو صفة لا بما هو طريق بخلافه في الاستصحاب ، إذا كان لأجل عدم اليقين الفعلي في القاعدة حال التعبد ، فلا كاشفية له ووجود اليقين الفعلي في الاستصحاب فيرد عليه :

أو لا : ان الملحوظ في القاعدة هو اليقين الّذي كان سابقا ، وهو كما كان يشتمل على جهة الصفتية كذلك كان مشتملا على جهة الطريقية والكاشفية ، فيمكن حينئذ لحاظه بهذه الجهة - أعني : جهة الطريقية - ، كما ادعى لحاظه بجهة

ص: 386


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 589 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصفتية.

وثانيا : ان مقام الجعل والإنشاء لا يرتبط بمقام فعلية المجعول ، فالجاعل في مقام الجعل انما يلاحظ مفهوم اليقين لا واقعه ووجوده - إذ قد لا يكون هناك يقين أصلا حال الجعل - ، وهو - أعني : مفهوم اليقين - يشتمل على الخصوصيّتين خصوصية الصفتية وخصوصية الطريقية ، فيمكن لحاظه حينئذ بخصوصية الطريقية.

وفي مقام الخارج والمجعول ، وان كانت الطريقة غير ثابتة لعدم اليقين الفعلي ، إلاّ انه أجنبي عن مقام الجعل ولحاظ الجاعل ، وإلاّ فلا يمكن أخذه بما هو صفة أيضا لعدم ثبوت الصفتية لأجل عدم اليقين. فما ذكره قدس سره خلط بين مقام الجعل ومقام المجعول.

وامّا الشق الثاني : فلان أخذ الزمان في المتيقن في القاعدة وعدم أخذه وإلغائه في الاستصحاب.

ان كان لأجل تقوم الشك في البقاء الّذي هو ملاك الاستصحاب بإلغاء الزمان ، والشك في الحدوث الّذي هو ملاك القاعدة بملاحظته. فذلك يمكن استفادته من إطلاق الشك ، فيراد الأعم من الشك في البقاء والشك في الحدوث ، بلا احتياج للحاظ الزمان وعدمه ، فلا حاجة إلى أخذ هذا القيد.

وان كان لأجل توقف صدق النقض في الاستصحاب على إلغاء خصوصية الزمان ، لأنه مع لحاظها يكون المشكوك مباينا للمتيقن ، فلا يصدق النقض ، لأنه مبني على تحقق الاتحاد بينهما. فهو ممنوع كما ستعرفه قريبا - عند بيان ما أفاده المحقق الخراسانيّ - ، من عدم تأثير اعتبار الزمان في صدق النقض ، وانه لا يحتاج فيه إلى إلغاء الزمان. فانتظر.

وامّا الشق الثالث : فلأنه ..

ان كان المراد من كون النقض في باب الاستصحاب مستندا إلى اليقين

ص: 387

بلحاظ الجري العملي على طبق المتيقن ، ان النقض حقيقة مستند إلى المتيقن ، واليقين قد لوحظ مرآة له.

فهذا خلاف ما التزم به قدس سره من كون النقض في هذا الباب مسندا إلى نفس اليقين دون المتيقن.

وان كان المراد من اسناد النقض إلى اليقين في باب الاستصحاب لا محصل له ولا معنى إلاّ بلحاظ الأثر العملي والجري العملي على طبقه ، من جهة انه لا معنى لجعل الشارع لليقين تكوينيا ، وانما هو جعل تعبدي ، والجعل التعبدي انما يكون بلحاظ الجري العملي على طبق المجعول ، كما هو شأن جميع المجعولات والاعتبارات الشرعية ، فلو لم يكن للجعل أثر عملي فلا معنى له ولا محصل.

فهذا الأمر مما تشترك فيه القاعدة والاستصحاب ، لأن الملاك في اعتبار الجري العملي في جعل اليقين في باب الاستصحاب ، متحقق بالنسبة إلى جعل اليقين في القاعدة ، وهو ما تسالم عليه الكل من ان كل جعل واعتبار شرعي لا بد وان يكون بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار العملية ، وإلاّ فلا معنى له ، فلا معنى لجعل الشارع ملكية زيد للقمر أو النجوم - مثلا -.

وان كان المراد من اعتبار الجري العملي في الاستصحاب هو كون السر في توقف صدق النقض على ذلك ، باعتبار انه مع لحاظ كل من الشك واليقين مستقلا لا يكون لأحدهما ارتباط مع الآخر ، لأن الشك متعلق بالبقاء واليقين بالحدوث ، فيتوقف صدق النقض على ملاحظة ما يقتضيه السابق من الجري العملي في الآن اللاحق ، فمع الشك وعدم العمل على طبق الحالة السابقة في حاله يكون ذلك نقضا لليقين السابق ، لاقتضائه الجري العملي لا حقا ، فعدم النقض حينئذ يكون بلحاظ الجري العملي. وهذا بخلاف القاعدة ، لأن الشك تعلق بما تعلق به اليقين حدوثا ، فلا يحتاج في صدق النقض إلى اعتبار الجري

ص: 388

العملي الّذي هو مقتضى اليقين السابق.

فيرد عليه : انه قد حققنا في محله ان صدق النقض لا يحتاج إلى أكثر من نحو ارتباط بين متعلق الشك واليقين ، وإلاّ فاليقين السابق لا يقتضي الجري العملي الا في حال تحققه وهو حال الحدوث. امّا في حال الشك ، فهو لا يقتضي الجري العملي على طبق المتيقن السابق كما لا يخفى.

وامّا الشق الرابع : فلأنه من الممكن استفادة الحكم بالبقاء والحكم بالحدوث من إطلاق النهي عن النقض وإلغاء الشك ، فانه يشمل الشك في الحدوث والشك في البقاء ، ويختلف بحسب الشك ، فان كان الشك في الحدوث فالإلغاء عبارة عن الحكم بالحدوث. وان كان في البقاء فهو عبارة عن الحكم به.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل ومحصله : انه بعد لحاظ اتحاد متعلقي الشك واليقين - لتوقف صدق النقض والإبقاء على ذلك - لا بد من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب ، وحينئذ ففي الاستصحاب يلحظ المتيقن بدون الزمان ، وفي القاعدة يلحظ المتيقن مع الزمان فاللحاظان في القاعدتين مختلفان ، وبذلك يختلف المؤدى في إحداهما عن المؤدى في الأخرى. وحينئذ ..

فان أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمهما ، بحيث يكشف عن اللحاظين المذكورين - كما إذا قيل : « لا تنقض اليقين بالشك الّذي له تعلق بما تعلق به اليقين » -. فهو. وإلاّ فلا يمكن أداء هذين المؤديين بمعنى حرفي لا يكاد يراد منه إلا أحدهما ، لعدم إمكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.

ولا يخفى ان أخبار الباب كذلك ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين بلحاظهما المتنافيين ، فلا يستفاد منها إلا الاستصحاب (1).

ص: 389


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /233- الطبعة الأولى.

ويرد عليه :

أولا : انه لا وجه للحاظ المتيقن بدون الزمان في الاستصحاب ، بل لا يعتبر سوى تعلق الشك بفعلية الشيء على حد تعلق اليقين به الملازم لصدق الشك في البقاء - كما ستعرفه - لا ان يؤخذ الزمان في متعلق أحدهما لا أنه يلحظ عدم الزمان.

وثانيا : انه على تقدير اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين ، فالحاكم حين إنشائه الحكم وجعله إياه امّا ان يجتمع في نفسه هذان اللحاظان أو لا يجتمعا وبعبارة أخرى : اما ان يلحظ المتيقن باللحاظين أو لا والثاني خلف ، لأن المفروض اعتبارهما والأول لا يحتاج في الدلالة عليه في مقام الإثبات إلى وجود مفهوم اسمي ، بل يكتفي فيه بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام ، كإسناد النقض وشبهه.

وبعد كل هذا نقول : الحق هو امتناع استفادة كلتا القاعدتين من الأخبار لوجوه :

الأول : ان القطع واليقين حين يتعلق بشيء ، فهل يتعلق به بذاته الملازم للزمان ، أو انه يتعلق به بما هو مقيد بالزمان ، بمعنى انه يتعلق بالحصة الخاصة منه ، وهي المقيدة بالزمان الخاصّ؟. لا ينبغي الإشكال في انه يتعلق بذات الشيء. مع عدم ملاحظة الزمان - وان لازم الزمان - ، بل كثيرا ما يكون الزمان مغفولا عنه. وهذا أمر عرفي وجداني لا يحتاج في إثباته إلى إقامة برهان.

ثم إذا تعلق اليقين في زمان ما كيوم الجمعة بفعلية شيء كعدالة زيد ..

فقد يحصل الشك في يوم السبت في فعلية ذلك الشيء - أعني : بذات العدالة بلا تقيد بالزمان - ، فيلزمه كونه شكا في البقاء.

وقد يتعلق الشك بذلك الشيء حدوثا ، بمعنى انه يتعلق بالعدالة التي

ص: 390

تعلق بها اليقين ، فلا بد حينئذ من لحاظ الزمان في متعلقه ، لأن المفروض أخذ الزمان السابق - وهو زمان اليقين - في متعلق الشك ، فانه متعلق بفعلية العدالة في يوم الجمعة. وبهذا الاعتبار يكون الشك في الحدوث.

فالشك تارة يتعلق بما تعلق به اليقين سابقا بلا لحاظ الزمان فيه ، بل انما يتعلق بفعلية الشيء كما تعلق بها اليقين. وأخرى يتعلق به بلحاظه.

والأول : مورد للاستصحاب. والثاني مورد القاعدة.

ولا يخفى ان سنخ ارتباط الأول مع اليقين يختلف عن سنخ ارتباط الثاني ، نظير ارتباط الأوصاف بالذوات ، فالضرب - مثلا - الصادر من زيد يختلف ارتباطه بزيد سنخا عن ارتباط الضرب الواقع عليه به ، فان الأول يرتبط به بنحو الصدور ، والثاني بنحو الوقوع عليه.

فارتباط الشك مع اليقين السابق المتعلق بذات الشيء إذا كان متعلقا بفعلية الشيء بلا لحاظ الزمان ، يختلف سنخا عن ارتباط الشك معه إذا كان متعلقا بفعليته بلحاظ الزمان السابق فيه. وهذا مما لا إشكال فيه أيضا.

وعليه ، فإذا كان في الدليل المتكفل لإلغاء الشك مفهوم اسمي يعبّر به عن ارتباط الشك باليقين - كما إذا قيل : لا تنقض اليقين بالشك المرتبط به - ، كان ذلك الدليل متكفلا لأداء القاعدتين بلا إشكال ، لأن المفهوم الاسمي بإطلاقه يعم نحوي الارتباط وسنخيه.

واما إذا لم يكن فيه مفهوم اسمي ، بل دلل على ارتباط الشك باليقين بواقع الارتباط الّذي هو معنى حرفي ، وهو النسبة - مثلا - ، كان الدليل متكفلا لإحدى القاعدتين ، لأنه لا يمكن لحاظ بالشك حينئذ بكلا الارتباطين حينئذ ، بل لا بد من لحاظه بأحدهما اما بالأول أو بالثاني ، فيكون متكفلا لأحد القاعدتين بحسب الارتباط الملحوظ في الشك ، لأن واقع الارتباط سنخ وجود فلا يصلح للانطباق على أنحائه ، بل يختص بنحو واحد يوجد به - كما قرر ذلك في بيان

ص: 391

المعنى الحرفي - ، فالتعبير عن الضرب المرتبط بزيد ارتباط الصدور والضرب المرتبط به ارتباط الوقوع عليه انما يصح معا إذا عبّر عن الارتباط بمفهومه الاسمي ، كما إذا قيل : « الضرب المرتبط بزيد ». امّا إذا دلل عليه بواقعه ، وهو النسبة ، كما إذا قيل : « ضرب زيد » ، فلا يشمل كلا الضربين ، بل يشمل أحدهما بحسب ما هو الملحوظ من الارتباط الصدوري أو الوقوعي.

والّذي ينبغي ان يعلم : ان الأمر الّذي يرتكز عليه ما ذكر هو عدم لحاظ الزمان في متعلق اليقين في قاعدة اليقين ، وانه متعلق بذات الشيء بلا لحاظ الزمان أصلا ، وإلاّ فمع لحاظ الزمان كان ارتباط الشكين به بسنخ واحد ، لأن كلا منهما تعلق بما تعلق به اليقين ، فارتباطهما باليقين بسنخ واحد كارتباط الشك باليقين بعدالة زيد واليقين بعدالة عمرو ، فيمكن أداء هذا الارتباط بواقعه. ولكنك عرفت ان متعلق اليقين هو الذات بلا لحاظ الزمان. فاليقين في كلتا القاعدتين سنخ واحد لا سنخان.

وبالجملة : فوحدة سنخية اليقين تستلزم تعدد سنخية الارتباط ، وتعدد سنخيته تستلزم وحدة سنخية الارتباط. وقد عرفت ان التحقيق وحدة سنخية اليقين.

وإذا تقرر انه لا بد من لحاظ الدليل المتكفل للحكم. فان كان التعبير فيه عن الارتباط بمفهوم اسمي ، كان متكفلا لأداء القاعدتين. وان كان بواقعه الّذي هو معنى حرفي تكفل أداء إحداهما ، فلا بد من ملاحظة اخبار الباب ، وان التعبير فيها عن ارتباط الشك باليقين هل هو بمفهومه الاسمي أو بمعناه الحرفي؟ ، فنقول : ان اخبار الباب من قبيل الثاني ، فان ارتباط الشك باليقين فيها انما هو بواقعه ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يكشف عنه ، فتمتنع استفادة كلتا القاعدتين منها ، بل المستفاد هو خصوص الاستصحاب ، لأنها واردة في موارده - أعني : الشك في البقاء -.

ص: 392

ودعوى : انه ليس في اخبار الباب في مقام الإثبات ما يدل على لحاظ ارتباط الشك باليقين بمفهومه الاسمي أو الحرفي ، لأنه مطلق ، واستفادة اشتراط الارتباط انما كانت من اسناد النقض وتعلقه به ، فيمكن ان يريد مطلق الارتباط ، فيتمسك بإطلاق الشك في إثبات ذلك.

مندفعة : بان ما ذكر من عدم الدلالة في مقام الإثبات على أخذ الارتباط بأحد النحوين ، وان كان تاما في نفسه ، إلاّ انه لا يجدي في التمسك بإطلاق الشك ، لأن التقييد دائر بين المتباينين. توضيح ذلك : انه إذا لوحظ عند الجعل مطلق الارتباط بين الشك واليقين ، فلا بد من لحاظه بمفهومه الاسمي ، فحينئذ يحتاج إلى وجود ارتباط يربطه مع اليقين والشك ، كما هو شأن المفاهيم بعضها مع بعض ، فانه لا ارتباط بينها الا بواقع الربط المعبر عنه بالوجود الرابط ، وهو لحاظ هذا المفهوم مرتبطا بذلك الّذي ليس له ما بإزاء في الخارج ، وهو المعبر عنه بالمعنى الحرفي. أما إذا لوحظ سنخ واحد من الارتباط ، فلا يحتاج إلى لحاظ مفهوم الارتباط الاسمي ، بل يقيد اليقين والشك بواقع الارتباط.

فعلى الأول : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك والارتباط.

وعلى الثاني : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك فقط فيكون الربط جزئيا واقعا اما على نحو الربط في الاستصحاب أو في القاعدة.

فيدور الأمر حينئذ بين المتباينين ، فيكون الكلام مجملا بالنسبة إلى مورد الشك ، وهو غير الارتباط المعتبر في الاستصحاب ، فالتفت وتدبر جيدا.

الثاني : وهو الّذي أشار إليه الشيخ في آخر كلامه - : قصور المقتضي للشمول ، فانه بعد تسليم إمكان إرادة كلتا القاعدتين من الاخبار ثبوتا ، يقال : بان الاخبار ظاهرة في الاستصحاب دون القاعدة ومنصرفة إليه دون الأعم ، وذلك لأن ظاهر القضايا في الأحكام إرادة الموضوع الفعلي منه ، فإذا قيل - مثلا - : « أكرم العالم » فظاهره وجوب إكرام العالم الفعلي لا من كان عالما أو يكون.

ص: 393

وعليه ، فظاهر اليقين في الاخبار هو اليقين الفعلي كظهور الشك فيه ، وذلك انما ينطبق على مورد الاستصحاب ، لأن اليقين بالعدالة سابقا موجود حال الشك. بخلاف مورد القاعدة ، فان اليقين ارتفع ، وليس بموجود فعلا ، لسراية الشك إلى متعلقه بخصوصية الزمان ، فتخصص الاخبار ظهورا بالاستصحاب.

ومحصل الوجه : دعوى ظهور وانصراف الاخبار إلى خصوص الاستصحاب.

الثالث - وهو الّذي أفاده الشيخ - : لزوم التعارض في مدلول الرواية ، لأنه كما يكون لدينا يقين بوجود الحادث - كالعدالة - ، كذلك يكون لدينا يقين بعدمه لأنه حادث والحادث مسبوق بالعدم ، فالشك فيما تيقن به من وجود الحادث ينتسب إلى فردين من اليقين ويعارضهما اليقين السابق بالعدالة واليقين الأسبق بعدم العدالة ، ومقتضى الاستصحاب عدم نقض اليقين بعدمها بهذا الشك والحكم بعدمها في زمان اليقين بها. ومقتضى القاعدة عدم نقض اليقين بالعدالة به والحكم بها في زمان اليقين بها. فيحصل التعارض بين القاعدتين ، ولا يمكن ان يتكفل دليل واحد لأداء قاعدتين متعارضتين ، لأن جعل الحجية للمتعارضين بجعل واحد ممتنع.

هذا تمام الكلام في بيان إمكان أداء القاعدتين بدليل واحد ثبوتا وإثباتا - الّذي سبق تحت عنوان الشرط الثاني - ، وقد عرفت الامتناع إثباتا والتفصيل ثبوتا بين الدليل المتكفل للمفهوم الاسمي الدال على مطلق الارتباط والمتكفل للمعنى الحرفي الّذي هو واقع الارتباط.

الثالث من شروط الاستصحاب ان يكون البقاء مشكوكا.

اشارة

اما مع العلم به أو بعدمه ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب ، سواء كان إحراز البقاء أو الارتفاع وجدانيا أو تعبديا ، كما إذا قام الدليل الاجتهادي على وفق الحالة السابقة أو خلافها ، وان كان قيامه غير رافع للشك الوجداني ،

ص: 394

ولكنه لا كلام في تقديمه على الاستصحاب.

وانما الكلام في انه - أعني : التقدم - بأي نحو من الأنحاء ، هل هو من باب التخصيص. أو التخصص. أو الحكومة. أو الورود؟. ولا بد في بيان ذلك من بيان المراد بكل من هذه الأمور ، وبيان الوجه في تقدم الدليل المتضمن لأحدها على الدليل المقابل له ، كتقدم الحاكم على المحكوم ونحوه.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في بيان المراد من هذه الأمور :

فأمّا التخصص ، فهو خروج الفرد عن الموضوع العام حقيقة تكوينا وذاتا ، كخروج الجاهل عن دليل : « أكرم العالم ».

وامّا التخصيص ، فهو كون الدليل متضمنا لعدم ترتب الحكم على بعض افراد العام الّذي ثبت له الحكم بدليل آخر ، كنسبة « لا تكرم زيدا العالم » إلى : « أكرم العلماء ».

وامّا الورود ، فهو كون الدليل متضمنا لخروج هذا الفرد عن الموضوع العام حقيقة ، ولكن لا تكوينيا بل بواسطة التعبد الشرعي ، فهو يشترك مع التخصص في الجهة الأولى - أعني : الخروج الحقيقي - ، ولكنه يختلف عنه في الجهة الثانية - أعني : كونه ببركة التعبد لا ذاتيا - ، وذلك كنسبة الدليل الاجتهادي إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية ، فانه بقيام الدليل في المورد يرتفع موضوع القاعدة وهو « لا بيان » فيه حقيقة لأنه بيان جزما ، ولكن كونه بيانا كان بجعل الشارع ، إذ لو لا اعتباره له لما كان بيانا حقيقة.

وكون هذه الأمور بالمعنى الّذي ذكرناه مما لا إشكال فيه ولا خلاف ، وان كان قد يظهر من المحقق الخراسانيّ في الكفاية إرادة معنى آخر من الورود (1)

ص: 395


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /329- 330 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما سيتضح في بيان ما ذكره من الوجه في تقديم الدليل الوارد على المورد.

وامّا الحكومة ، فقد وقع الكلام في بيان ضابطها وتعريفها.

والّذي ذكره الشيخ في هذا المقام : ان معنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعادل والترجيح - ان يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم. أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم. وحاصله : تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة الموضوع في ترتيب أحكامه عليه ، أو داخل في موضوع منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه (1).

وامّا ما ذكره في مبحث التعادل والترجيح فهو : ان ضابط الحكومة ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض افراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله مفرعا عليه - يعني : إنه لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغوا (2) -.

ولا بد في بيان المراد من هذه العبارة من بيان ما تحتمله العبارة ، وهو وجهان :

الأول : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى الدليل الآخر في مقام دلالته على المراد ، فيكون تارة مضيقا لدائرة دلالته. وأخرى موسعا لها. كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أعني : بالعلماء الفقهاء ». فان الدليل الثاني ناظر إلى مقام دلالة الدليل الأول ومضيق لها.

الثاني : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى نفس الحكم مع قطع النّظر عن دلالة الدليل عليه ومقدارها ، فيكون النّظر إلى المدلول بذاته لا بما انه مدلول للدليل.

ص: 396


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /432- الطبعة الأولى.

فهل يراد من العبارة الوجه الأول - أعني كون الدليل ناظرا إلى الدليل في مقام دلالته بتعبير ، أو المدلول بما هو مدلول بتعبير آخر - أو الوجه الثاني ، وهو كونه ناظرا إلى المدلول بذاته من دون نظر إلى دلالة الدليل عليه؟.

الظاهر من صدر العبارة - وهو ما ذكرناه - هو الأول. فان التعبير بالنظر إلى الدليل وبيان حاله ورفع الحكم الثابت بالدليل ظاهر في كون النّظر إلى مقام الدلالة والإثبات والمدلول بما هو مدلول لا نفس المدلول وذاته ، وان المنظور إليه هو الدليل ، كما لا يخفى.

ولكن هناك امرين قد يدعى صلاحيتهما للقرينة على كون المراد بالعبارة المذكورة هو الوجه الثاني :

الأمر الأول : ما ذكره بعد هذا مثالا للحكومة من حكومة الدليل الدال على أنه لا شك لكثير الشك على الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الشك ، بتعليل ذلك - أعني : الحكومة - بأنه لو فرض انه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لم يكن مورد للدليل النافي لحكم الشك. فان التعليل بورود حكم المشكوك يظهر منه ان الدليل النافي ناظر إلى نفس الأحكام الثابتة للشك ونفيها لا إلى الدليل الدال عليها وتعيين مقدار دلالته ، وإلاّ لكان الأولى التعليل بورود الأدلة على حكم الشك وكون النّظر إليها.

الأمر الثاني : جعله الدليل الدال على التنزيل الموجب لتوسعة الموضوع من موارد الحكومة - كما هو صريح عبارته الأولى - ، مع انه ناظر إلى ثبوت الحكم للمنزّل لا إلى دلالة الدليل الآخر - كما سيتضح -.

إلا ان الأمر الأول لا يصلح للقرينة لعدم تماميته ، وذلك لأن التنزيلات المتكفلة لتضييق دائرة الموضوع ، سواء في الموضوعات التكوينية أو الموضوعات الشرعية انما تصح فيما إذا كان للموضوع التكويني أو الشرعي أثر ما. فتنزيل : « زيد » منزلة الإنسان انما يصح لو كان هناك أثر يترتب على الإنسان وإلاّ لكان

ص: 397

لغوا. ومثله في الموضوعات الشرعية ، فحين يقول - مثلا - : « الفقاع ليس بخمر » انما يصح لو كان للخمر أثر شرعي يترتب عليه ، ومع عدمه يمتنع التنزيل للغويته.

وترتب الأثر الّذي يكون التنزيل بلحاظه ليس هو ترتبه الواقعي - أعني : وجود الأثر وتحققه - ، فان نفيه بالتنزيل ممتنع. وبعبارة أخرى : ان التنزيل لا يكون بلحاظ الأثر الثابت الموجود حقيقة ، وانما هو الترتب الاعتقادي باعتبار وجود المقتضي ظاهرا لذلك - أعني : لشمول الفرد - ، فينشأ منه تخيل واعتقاد شمول الأثر لهذا الفرد لأنه من الموضوع ، فيكون دليل التنزيل مانعا من تأثير المقتضي ومحددا لشموله ومضيقا لدائرته ، ومفيدا لكون هذا المقتضي الّذي يتخيل انه مقتض لشمول الحكم لهذا الفرد قاصرا عن ذلك ، وان الشمول غير مراد جدا.

وهذا المقتضي في التكوينيات عبارة عن العوارض الخارجية والصفات العارضة على الكائن الموجبة لترتب الحكم عليه.

وامّا في الشرعيات ، فهو عبارة عن العمومات والمطلقات ، فإنها هي التي تقتضي الشمول والاستغراق ، فإذا كان دليل التنزيل ناظرا إلى الأثر الاعتقادي الناشئ من اقتضاء الدليل العام أو المطلق لشمول الفرد ، فمفاده عرفا هو النّظر إلى نفس دلالة العام أو المطلق بتضيق دائرة دلالته.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الدليل النافي للشك انما يتكفل تنزيل شك كثير الشك بمنزلة عدمه ، فهو ينظر لدلالة العام الموضوع للحكم على شمول هذا الفرد ، لأنه هو المقتضي للشمول ، فيضيق مدلوله والمراد الجدي منه.

فإثبات نظر الدليل المتكفل لإلغاء الشك عرفا إلى أدلة أحكام الشك ، وبيان الجهة التي بها يرى العرف نظر هذا الدليل بمدلوله اللفظي إلى تلك الأدلة في مقام دلالتها ، يبتني على شيئين :

ص: 398

أحدهما : كون التنزيل بلحاظ ترتب الأثر.

والآخر : كون الملحوظ في الأثر هو الأثر الاعتقادي التصوري الناشئ من وجود المقتضيات.

وهذا انما يتم في الدليل المتكفل للتضييق. اما المتكفل للتوسعة فلا يتم ، لأنه يمكن ان يكون بلحاظ ترتيب الأثر الواقعي عليه ، بان يكون بلحاظ ثبوت الحكم لهذا الفرد واقعا ، بلا لحاظ التنزيل فلا يكون ناظرا إلى دلالة الدليل المنزل عليه ، بل إلى ثبوت الحكم لهذا الفرد.

وعلى كل فالأمر الأول لا يصلح للقرينة التي قد تدعى.

واما الأمر الثاني : فقد تقرب تماميته في نفسه : بان الدليل الثابت به توسعة موضوع الحكم لا يخلو في مقام اللّب والواقع من أحد أحوال أربعة :

الحال الأول : ان يكون متكفلا لبيان فردية أمر حقيقة لعنوان ما مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي ، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمرا مجهولا لدى العرف ، فيتكفل هذا الدليل كشفها.

ولعل قوله علیه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » (1). من هذا النحو ، فانه بلسان بيان ان الفقاع فرد حقيقي للخمر وان لم يعدّه الناس من افراده لاستصغاره.

الحال الثاني (2) : ان يكون بلسان فردية شيء ادعاء لا حقيقة ، بان يدعى دخول هذا الشيء في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه حقيقة ، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون الاستعمال حقيقيا ، لأن التصرف في أمر عقلي وهو التطبيق لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.

الحال الثالث : ان يكون متكفلا لبيان اعتبار شيء بأنه ذلك العنوان التي

ص: 399


1- وسائل الشيعة 17 / 292 باب 28 من أبواب الأشربة المحرمة حديث 1.
2- استشكل السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية في مجرد الفرد الادعائي ولم يبين وجهه ( منه عفي عنه ).

ترتب عليه الحكم أو منه ، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتبا على الفرد الاعتباري اما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي ، ومع عدم العلم بذلك يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل الاعتبار.

الحال الرابع : ان يكون متكفلا لتنزيل شيء منزلة آخر في ثبوت الحكم الثابت لذاك بلا بيان انه فرد حقيقي أو ادعائي أو اعتباري.

وليعلم ان هذه الأحوال تتأتى في دليل التضييق أيضا.

ولا يخفى ان الدليل على كل حال من الأحوال الثلاثة الأول ناظر إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته وإثباته وللمدلول بما هو مدلول ، لأنه يتكفل التوسعة في مدلوله ، فانه بعد ان يكشف عن ان هذا الشيء فرد حقيقي للموضوع ، أو انه قد ادعى فرديته أو اعتبره منه ، يكون العنوان المأخوذ موضوعا في الدليل المحكوم أوسع دلالة ، لأنه حينئذ يعم الفرد الحقيقي المغفول عنه أو الادعائي أو الاعتباري ، فلا محالة يكون الدليل الوارد على أحد هذه الأنحاء الثلاثة ناظرا إلى دلالة الدليل الآخر موسعا لها ، لأن مفاده ان المراد من العنوان العام الأعم.

اما دليل التنزيل ، فليس هو ناظرا إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته ، بل إلى المدلول بذاته ، لأنه لا يتكفل سوى تنزيل هذا منزلة ذاك. والتنزيل انما يكون في ثبوت الحكم له وبلحاظه ، وهذا لا يوجب التوسعة في مدلول ذلك العنوان ، فلا نظر إلى مدلوله بما هو مدلول ، فلا يكون مفاد دليله تعميم دلالة ذلك العنوان لهذا الفرد.

وبهذا تعرف خروج دليل التنزيل المتكفل لتوسعة موضوع الحكم عن مورد الحكومة بتفسير الشيخ ، بناء على حمله على ما ذكر ، مع ان صريح كلامه قدس سره عدّه من مواردها.

ولكنه لا يخفى ان دليل التنزيل ناظر عرفا بمدلوله اللفظي إلى الدليل

ص: 400

الآخر في مقام دلالته ، وذلك وان لم يكن ظاهرا في بعض الموارد ظهورا تاما ، كما في : « الطواف في البيت صلاة » (1) - بناء على انه يتكفل التنزيل لا الاعتبار - ، فانه ناظر بدوا إلى ثبوت الحكم ، وهو شرطية الطهارة للطواف مع قطع النّظر عن دلالة دليل عليه ، وهو لا يوجب التوسعة في مدلول : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) لأنه لا يتكفل ثبوت نفس ذلك الحكم المنشأ بالدليل المحكوم للطواف بل إثبات حكم آخر مماثل له ، فهو غير ناظر إلى دلالة الدليل المذكور على الحكم.

إلاّ انه يظهر تماما في موارد أخر كموارد قاعدة الفراغ - على ما سيجيء - ، فان القاعدة تتكفل تنزيل هذا الفرد المشكوك منزلة المأمور به ، ويترتب عليه نفس الحكم المنشأ والمترتب على المأمور به لا حكم مماثل ، لما ستعرفه في محله ، فيكون ناظرا إلى المدلول بما هو مدلول للدليل.

فنكتة الفرق بين المقامين : ان أحدهما يكون التنزيل فيه بلحاظ ثبوت نفس الأثر المنشأ الثابت للعنوان الموضوع للحكم وذلك بجعل موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والفرد المنزل عليه ، فيكون ناظرا إلى الدليل ، مثل المتكفل للتضييق بلحاظ نفي الأثر الّذي يتخيل ثبوته بالدليل. وان الآخر يكون التنزيل بلحاظ ثبوت أثر مماثل لذلك ، فيكون ناظرا إلى المدلول بذاته بدوا.

وبالجملة : لا فرق بين دليل التنزيل المتكفل للتضييق والمتكفل للتوسعة في كون كل منهما ناظرا إلى الدليل والمدلول بما هو مدلول.

ولكن تعليل هذا الظهور العرفي في الدليل المتكفل للتضييق واضح كما عرفت. وقد لا يتضح تعليله فيما تكفل التوسعة من الأدلة.

وعلى تقدير انه لم يكن ناظرا إلى الدليل ، فهو غير مهم في المقام ومحط

ص: 401


1- عوالي اللئالي 2 / 163 حديث 3.
2- وسائل الشيعة 1 / 256 باب 1 من أبواب الوضوء حديث 1.

الكلام من بيان ضابط الحكومة وتحديد معناها ، لأنه لا إشكال في الأخذ به مع الدليل الآخر لعدم التنافي ظاهرا بينهما ، فسواء كان من موارد الحكومة أو لم يكن فهو مأخوذ به. وانما المهم هو الدليل المتكفل للتضييق ، لمنافاته ظاهرا مع الدليل الآخر ، ولأجل ذلك كان ضبط الحكومة وخصوصياتها بلحاظه والنّظر إليه.

فيتحصل لدينا : انه لا مانع من استظهار كون الحكومة على رأي الشيخ هي النّظر إلى الدليل الآخر ببيان حاله ومقدار دلالته ، لا إلى ذات المدلول ، ولا قرينة تصرف هذا الظاهر عن ظهوره.

ثم المراد بالنظر بالمدلول اللفظي - في تعبير الشيخ - ، هو كون اللفظ بدلالته ناظرا إلى ذاك الدليل اما بالدلالة المطابقية ، كما في الدليل المتضمن لكلمة التفسير وأداة الشرح مثل : « أعني ، وأي » وغيرهما. أو بالدلالة الالتزامية العرفية ، كما في مورد تكفل الدليل الاعتبار ، فانه ناظر إلى الدليل الآخر التزاما بحسب فهم العرف - كما عرفت -.

والسر في أخذ هذا القيد - أعني : كون النّظر بالمدلول اللفظي - في ضابط الحكومة هو إخراج التخصيص عن تعريفها ، لأن الحكومة والتخصيص وان كانا يشتركان في كونهما دالين لبا على تضييق المراد الجدي من العام ، لكن التخصيص انما يدل عليه بالعقل لا بالدلالة اللفظية كما في الحكومة ، فانه لفظا لا يتكفل سوى نفي الحكم عن بعض افراد العام ، ولكن العقل - بواسطة بعض المقدمات العقلية البرهانية - يحكم بعدم إرادة الكل من العام جدا. بخلاف الحكومة ، فان الدليل الحاكم ناظر إلى هذه الجهة من الدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وامّا المراد بالتفرع في قوله : « متفرعا عليه » ، فهو ان الدليل الحاكم يكون لغوا لو لا الدليل المحكوم ، لأنه بعد ان كان ناظرا إليه ومبينا لحاله كانت نسبته إليه نسبته القرينة إلى ذي القرينة والشارح إلى المشروح ، فيتفرع عليه تفرع القرينة على ذيها والشارح على المشروح.

ص: 402

ولكن المحقق الخراسانيّ لم يرتض اعتبار هذا القيد ، وأفاد : بأنه لا يعتبر تفرع الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والمهم في إثبات ما ذكره هو ما ذهب إليه من انتقاض اعتبار هذا القيد بحكومة الأمارات على الأصول - الثابتة عند الشيخ - ، لأن الأمارة لا تتفرع على وجود الأصول ، بل لو لم يكن في البين أصل ما ، لكانت الأمارة ثابتة الاعتبار ومستقلة الثبوت.

وأو عزّ ذلك إلى ان الأمارة تتكفل جهتين :

الأولى : جهة تضمنها حكما مستقلا - كالمنجزية والمعذرية - ، وهي جهة تامة في نفسها.

الثانية : صلاحية النّظر إلى دليل آخر. فلو لم يكن هناك دليل تصلح هي للنظر إليه ، فلا تكون لغوا ، بل تثبت بلحاظ الجهة الأولى.

ولأجل ذلك التزم بتفسير الحكومة : بأنها كون الدليل بحيث يصلح للنظر إلى دليل آخر ، فالمأخوذ فيه صلاحية النّظر لا النّظر الفعلي ، بمعنى انه ان كان هناك دليل يصلح لأن ينظر إليه هذا الدليل فهو ناظر إليه فعلا ، وإلاّ فلا يحتاج في حكومته كونه ناظرا فعلا ، وبذلك عمم ورود الدليل الحاكم لما إذا كان قبل دليل المحكوم وبعده (1).

وكأنّه استفاد من كلام الشيخ في اشتراط النّظر الفعلي لزوم كون الدليل الحاكم واردا بعد ورود المحكوم.

إلاّ ان هذه الاستفادة ممنوعة إذ ليس في كلام الشيخ ما يشير إليها. والتفرع لا يقتضي التأخر في الورود كما لا يخفى.

ولكن ما ذكره قدس سره محل نظر ، فان من يدعي حكومة الأمارة على الأصول التعبدية انما يدعيها بملاك ان دليل اعتبارها متكفل لتنزيل الأمارة

ص: 403


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية الفرائد الأصول /256- الطبعة الأولى.

منزلة العلم ، وان من قامت عنده الأمارة يكون عالما ، أو متكفل لإلغاء الشك مع قيامها ، وان من قامت عنده الأمارة ليس بجاهل وغير عالم.

وصلاحية النّظر التي تتضمنها الأمارة إنما هي بهذا الاعتبار واللحاظ.

وعليه ، فنقول : انه في مقام جعل الأمارة وجعل هذه الجهة فيها - أعني :

جهة الصلاحية - ، أما ان يكون الجاهل ناظرا إلى الأدلة المتكفلة لأحكام الشك وعدم العلم من الأصول التعبدية - يعني انه في مقام جعل الأمارة لاحظ تلك الأدلة - ، أو لا يكون ناظرا. فان كان ناظرا فلا ريب في تفرعها عليها. وان لم يكن ناظرا فلا صلاحية لدليل اعتبار الأمارة للنظر أصلا. فاعتبار صلاحية النّظر في الدليل الحاكم يستلزم التفرع أيضا.

وبهذا كله يتبين ان ما ذكره الشيخ من تفسير الحكومة لا يعرف فيه إشكال ، فيتعين الالتزام به.

واما ما ذكره المحقق النائيني في تفسير الحكومة من : انها عبارة عن تصرف الدليل في عقد وضع الدليل الآخر أو عقد حمله (1).

فهو لا يصلح للضابطية ، لأنه ليس تفسيرا لها ، بل بيانا لموردها ومحققها وواقعها ، فانها كون الدليل ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، والتصرف من موجباته ، كما سيتضح عند بيان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم.

ومما ينبغي التنبيه عليه : ان الثمرة من تفسير الحكومة بهذا التفسير وجعل الفارق بينها وبين التخصيص مع اشتراكهما لبّا في الدلالة ، هو عدم ملاحظة النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم من انها العموم والخصوص المطلق أو العموم والخصوص من وجه ، لأن الدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم مطلقا.

بخلاف التخصيص كما لا يخفى. واما السر فيه فسيتضح في بيان الوجه في تقديم

ص: 404


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 710 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الدليل الحاكم. فانتظر.

الجهة الثانية : في وجه تقديم الدليل الحاكم والوارد والمخصص على الدليل المحكوم والمورد والعام.

امّا الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم. فقد قربه المحقق الأصفهاني قدس سره وتبعه السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته (1) -. بأنه لا منافاة بين الدليلين الحاكم والمحكوم ، لأن أدلة الأحكام إذا كانت بنحو القضية الحقيقية متكفلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع نفيا وإثباتا.

وبما (2) ان الدليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع. ببيان : ان هذا منه

ص: 405


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 349 - الطبعة الأولى.
2- قد عرفت الحكومة بكون أحد الدليلين متصرفا في موضوع الدليل الآخر ، اما بتضييقه أو بتوسعته. هو لا بأس يتحقق هذه الجهة مع غض النّظر عما ذكر في المتن من إشكال ، فنقول : أما دليل التوسعة : فما يتكفل منه بيان فرد حقيقي كقوله عليه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » - على احتمال قريب - فهو لا يستلزم توسعة في المدلول ودلالة الدليل ، إذ الحكم وارد على الموضوع المقدر الوجود. والدليل المزبور يكشف عن انطباقه في المورد الخاصّ ، وهذا لا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم. وما يتكفل منه اعتبار فرد للموضوع ، كما يقال في مثل : « الطواف في البيت صلاة » ، فان كان ظاهر الدليل الأولي كون موضوعه أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري ، فلا يكون دليل الاعتبار موجبا لتوسعة الدلالة ، بل هو يتكفل إيجاد فرد للموضوع وتحقيقه نظير اشتغال الشخص بالتحصيل وصيرورته عالما. ويكون دليل الاعتبار واردا على الدليل الأولي لا حاكما. وإن لم يكن ظاهر الدليل ذلك ، فنفس دليل الاعتبار يدل على التوسعة في الموضوع وانه الأعم من الفرد الحقيقي أو الاعتباري بواسطة دلالة الاقتضاء - كما أوضحناه في المتن -. ويكون المورد برزخا بين الحكومة والورود ، لدخول الفرد حقيقة في الموضوع ، ولكون دليل الاعتبار ناظرا إلى الدليل الأولي. وأما ما يتكفل منه التنزيل : فلا يخفى ان مفاد التنزيل ليس إلا ترتيب مثل أثر المنزل عليه على المنزل ، وان شئون المنزل عليه ثابتة للمنزل لا ترتيب نفس أثر المنزل على المنزل. فمرجع التنزيل على هذا إلى إنشاء الأثر - بدليل التنزيل - للمنزل ، ومثله لا يتكفل التوسعة في موضوع الدليل الآخر ، كما هو واضح. وأما دليل التضييق : فما يتكفل البيان الحقيقي : تارة : يرجع إلى بيان عدم مصداقية ، فرد متوهم المصداقية فهو لا يستلزم تضييق الموضوع واقعا لأنه ضيق الصدق في نفسه ، غاية الأمر انه مجهول. وأخرى يرجع إلى التصرف في المفهوم ، فهو مما لا معنى له ، إذ بعد فرض ان المفهوم العرفي معلوم فلا معنى لنفيه حقيقة ، لأنه يصادم القطع به. فلو ورد ما ظاهره ذلك فلا بد ان يرجع إلى الاعتبار وهو خارج عن الفرض. واما ما يتكفل النفي اعتبارا ، فالكلام فيه هو الكلام في دليل التوسعة. وأما ما يتكفل النفي تنزيلا ، فمرجعه إلى نفي الأثر الثابت لهذا الفرد بالدليل الآخر فيستلزم التضييق في الدليل الآخر. وبهذا البيان يظهر اختصاص الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع بما يتكفل النفي التنزيلي ويمكن إلحاق دليل الاعتبار الدال على التوسعة والتضييق بدلالة الاقتضاء. وبما ان الملحوظ هو نفي الأثر بلحاظ قيام الدليل على ثبوته وتوهم ثبوته ، كان الدليل الحاكم موجبا للتصرف في مرحلة الدلالة لا ذات المدلول. وقد أوضح هذا المعنى في المتن فراجع -. ثم ان هاهنا تحقيقا في الدليل الحاكم ثبوتا وإثباتا يأتي فيما بعد.

أو ليس منه فلا ينافي الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على عدم خمرية هذا المائع (1).

وهذا الوجه مع عدم تماميته في نفسه غير شامل لجميع موارد الحكومة ، لأن الدليل الحاكم ..

تارة : يكون متكفلا لتفسير وشرح الدليل الآخر ، وهو المشتمل على كلمة : « أعني. وأي » وغيرهما.

وأخرى : يكون متصرفا في عقد وضع الدليل الآخر.

ص: 406


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 144 - الطبعة الأولى.

وثالثة : يكون متصرفا في عقد حمله ، كما يمثل له بدليل نفي الضرر بناء على تكفله نفي الحكم الضرري. وما ذكره من عدم التنافي لا يتنافى في ما تكفل التصرف في عقد الحمل ، إذ التنافي بين أدلة نفي الضرر وأدلة الأحكام مما لا يخفى ، لتكفل أحدهما نفي الحكم والآخر إثباته ، لأن المفروض أن التصرف في نفس الحكم برفعه في بعض الموارد.

فما ذكر من الوجه لا يصلح لأن يكون وجها لتقديم الدليل الحاكم على المحكوم لعدم اطراده في جميع موارد الحكومة.

مع انه غير تام في نفسه وفي مورده - أعني : التصرف في عقد الوضع -. وتحقيق ذلك : انك قد عرفت ان الدليل المتصرف في الموضوع - تضييقا - قد يقال : بأنه متكفل لاعتبار هذا الفرد خارجا عن الموضوع. وقد يقال : بأنه متكفل لبيان عدم الفردية بنحو الادعاء. وقد يقال : بأنه مسوق لبيان عدم الفردية حقيقة. وقد يقال : بأنه مسوق لتنزيل هذا الفرد منزلة الخارج. وعلى جميع هذه التقادير الأربعة لا يتم الوجه المذكور ، لأن التقادير الثلاثة الأول غير معترف بها لعدم تماميتها فلا يصح القول بها.

امّا التقدير الأول - وهو القول بان الدليل الحاكم متكفل الاعتبار - ، فلما يقرر في محله من عدم كون الأحكام الوضعيّة كالملكية وغيرها من المجعولات الشرعية الاعتبارية ، بل هي منتزعة عن الأحكام التكليفية ، لعدم ترتب أي فائدة على اعتبارها فتكون لغوا ، لأن الغرض من اعتبارها ليس إلا ثبوت الآثار الشرعية عند تحقق منشأ اعتبارها ، وهذا يمكن تحقيقه بلا اعتبار للملكية مثلا ، بان يرتب الحكم على تحقق منشأ اعتبارها بلا توسط اعتبارها ، فيكون اعتبارها مستقلا لغوا ، فلا وجود للأمور الاعتبارية الوضعيّة.

ولو سلم وجودها وان لها جعلا مستقلا ، فلا يسلم بإمكان الاعتبار الشخصي الفردي ، ومنه الاعتبار الشرعي ، بل يمنع ذلك ويختص الاعتبار

ص: 407

بالاعتبارات العقلائية العرفية ، إذ لا يترتب عليه أي أثر فيكون لغوا.

ومع تسليم إمكان الاعتبار الشرعي والفردي ، فهو انما يسلم في صورة ما إذا كان للعقلاء اعتبار لسنخ هذا المعتبر ، بان اعتبر الشارع فردا لما اعتبره العقلاء ، كما لو اعتبر ملكية الشيء الكذائي ، وإلاّ فلا يصح الاعتبار. وأدلة التصرف ليست بهذا النحو.

ولو أغمضنا النّظر عن جميع ذلك ، أو قلنا بوجود دليل حاكم بالنحو الأخير ، فنقول : ان الدليل المتكفل لثبوت الحكم لموضوع اما ان يلاحظ فيه الموضوع ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من الموضوع الحقيقي ، بحيث يكون مختص الشمول بما لم يعتبر خروجه أو يلاحظ ذلك فيعم بإطلاقه ما اعتبر خروجه.

فعلى الأول : فالدليل الحاكم المتكفل لعدم فرديته اعتبارا وان قدم على الدليل المحكوم ، لكن تقديمه عليه لا بنحو الحكومة ، بل بنحو الورود لخروجه - أعني الفرد - عن موضوع الحكم حقيقة ، إلاّ انه ببركة الاعتبار الشرعي.

وعلى الثاني : فالتنافي بين الدليلين حاصل ، لأن الدليل الحاكم باعتباره عدم فردية هذا الفرد وخروجه عن الموضوع يتكفل نفي الحكم عنه التزاما ، والمفروض ان المحكوم يتكفل ثبوت الحكم له بالإطلاق ، فيحصل التنافي.

وامّا التقدير الثاني - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لعدم الفردية بنحو الادعاء - ، فلأن استعمال اللفظ في الموضوع للطبيعة على نحوين :

الأول : ان يستعمل في الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخاصة منه.

النحو الثاني : ان يستعمل في الطبيعة ، ولكن يراد منه فردها بنحو الإطلاق ، بمعنى ان المستعمل فيه هو الطبيعة ، ولكن يراد منه افرادها بنحو إطلاق الطبيعة على فردها ، نظير : « أكلت الرغيف ، وادخل السوق » ، فالمراد فرد من طبيعة الرغيف والسوق ، لامتناع تعلق الأكل والدخول بطبيعة المأكول

ص: 408

والمدخول ، بل هما يتعلقان بالفرد.

والادعاء انما يتصور تحققه في ما إذا كان الاستعمال بنحو الثاني ، لأن المراد الفرد ، فيمكن ادعاء فردية شيء وعدم فرديته ليكون مشمولا للإطلاق أو لا يكون.

امّا إذا كان بالنحو الأول ، فلا يتصور فيه الادعاء ، لأن المستعمل فيه هو الطبيعة بلا لحاظ انطباقها على فرد منها أصلا.

ولا يخفى ان ترتب الأحكام في الأدلة انما هو على الطبيعة بما هي بلا لحاظ فرد بخصوصه منها. فلا وجه لدعوى التصرف في الموضوع بنحو الادعاء.

وتوهم : ان الحكم في جميع القضايا الشرعية ليس مرتبا على الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخارجية ، كي يمتنع كون الدليل الحاكم متصرفا في الموضوع بنحو الادعاء ، بل منها ما رتب الحكم فيه على الافراد دون الطبيعة ، - كما في العمومات الاستغراقية - ، وحينئذ فيمكن كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية ادعاء ، لإمكان ذلك في مثل هذه القضايا ، لأن الملحوظ في الحكم هو الافراد دون الطبيعة.

فاسد : لأن المقصود بالحكم في جميع القضايا الشرعية ، سواء كان الحكم مرتبا في لسان الدليل على الطبيعة كالعمومات البدلية أو على الافراد كالعمومات الاستغراقية ، انما هو الفرد غاية الأمر انه تارة يقصد الفرد على البدل كما في العمومات البدلية ، لأن المطلوب فيها صرف الوجود. وأخرى جميع الافراد كما في العمومات الاستغراقية ، لأن المطلوب فيها مطلق الوجود. ولكنه في كلا الحالتين لا يرتبط بالحقيقة الادعائية أصلا ، لأن الحقيقة الادعائية - كما عرفت - هي استعمال اللفظ في الطبيعة وإرادة فرد منها أو افراد بنحو الإطلاق

ص: 409

مع ادعاء فردية أحدها أو جميعها للطبيعة ، مع انها لم تكن من افراد الطبيعة حقيقة فإطلاق الطبيعة على فردها أو افرادها بالاستعمال ، فلا بد من لحاظ هذه الافراد حين الاستعمال ، ويكون الفرد أو أحد هذه الافراد فردا ادعائيا ، ويكون الادعاء بعد هذا اخبارا لا إنشاء ، نظير ما لو قيل : « رأيت أسود عشرة » وكان أحد العشرة رجلا شجاعا. امّا استعمال اللفظ في الطبيعة أو في مفهوم عام لجميع الافراد يكون عنوانها إجمالا بلا لحاظ أي فرد بخصوصه - كما فيما نحن فيه من قضايا الأحكام فان الافراد ملحوظة بعنوانها الإجمالي وهو العام ، فالاستعمال في المفهوم العام بلا لحاظ تطبيقه على فرد خاص حال الاستعمال - ، فلا يرتبط بالادعاء أصلا. فان التطبيق فيه بعد الاستعمال ، والإنشاء وهو لا يرتبط بالادعاء ، لأن الادعاء يكون بالتطبيق حال الاستعمال ، فيلحظ الفرد بخصوصه ويستعمل اللفظ في طبيعته ويطبق عليه حين الاستعمال.

ودعوى : إمكان ان يكون الحاكم قد لاحظ إجمالا بالمفهوم العام جميع الافراد أعم من الحقيقية والادعائية ورتب الحكم عليه ، فعند ادعاء فردية شيء يكون مشمولا للعام ومرتبا عليه الحكم.

مندفعة : بان هذا ليس من الادعاء في شيء ، بل هو راجع إلى الاعتبار وترتب الحكم على الأعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، لأن الادعاء أنم يرتبط بمقام الاستعمال لا غير.

فتحصل : ان دعوى كون الدليل الحاكم مطلقا أو في الجملة متكفلا لنفي الحقيقة ادعاء واضحة البطلان.

وامّا التقدير الثالث - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية حقيقة وواقعا - ، فلان هناك موارد يعلم فيها بان هذا فرد حقيقي وواقعي للطبيعة ،

ص: 410

فيمتنع ان ينزل الدليل الوارد فيها الدال على نفي فردية هذا الفرد للطبيعة على نفي الفردية حقيقة. فان نفي الفردية حقيقة انما يكون باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق العنوان الكلي على افراده ، فيطلق اللفظ على بعض الافراد والتي يعلم خروجها عن الطبيعة حقيقة بالمسامحة. امّا مع العلم بفرديته للطبيعة بلا مسامحة في تطبيق الكلي عليه ، فلا يمكن حمل الدليل على نفي الفردية حقيقة.

فنفي الحقيقة انما يجدي مع المسامحة العرفية في التطبيق ، كما لعله يستفاد من قوله علیه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس ».

ولو سلم إمكان تكفل الدليل لنفي الفردية حقيقة ، فهو خارج عن الحكومة وليس منها في شيء ، لأنه لا يوجب تضييقا في مدلول الدليل والمراد الجدي منه ، لأن الحكم رتب على افراد الموضوع الواقعية التي يكون الشارع والعرف طريقا إليها ، فمع كشف الشارع عن عدم فرديه شيء لا يوجب ذلك تضييقا في المراد الجدي وموضوع الحكم ، بل هو بيان للافراد التي لم يترتب عليها الحكم في القضية الإنشائية ، ولا يرى العرف ان الشارع قد ضيق موضوع الحكم ومدلول الدليل ، لأنك عرفت ان نفي الفردية انما هو باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على افراده ، لا باعتبار سعة المفهوم كي يكون نفي الفردية موجبا للتضييق.

ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الدليل المتكفل لنفي الفردية موجبا للعلم أولا لأن النّظر في غير العلمي انما يكون لنفس مدلول الدليل ، وهو خارج عن الحكومة لو كان في الواقع ثابتا.

نعم ، لو كان النّظر إلى دليل اعتباره ، فحيث انه غير موجب للعلم بعدم الفردية ويؤخذ به تعبدا لاعتباره شرعا كان من باب الحكومة. إلاّ ان ذلك خارج عن محل الكلام ، لأنه يكون من الحكومة الظاهرية ، وهي غير مورد الكلام ، وانما الكلام في الحكومة الواقعية التي تكون بلحاظ نفس الدليل مع غض النّظر عن

ص: 411

دليل اعتباره ، كما في التقادير الأخرى - وسيجيء في مبحث التعادل والترجيح بيان الحكومة الظاهرية إن شاء اللّه تعالى -.

وإذا تبين انه لا يمكن الالتزام بكون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية اعتبارا ولا ادعاء ولا حقيقة ، فيتعين الالتزام بأنه يتكفل تنزيل شيء منزلة الآخر في ترتيب الحكم عليه أو عدمه لعدم ترتيب الحكم عليه.

ولا يخفى ان المنافاة الظاهرية بين الدليل المتكفل للتنزيل والدليل الآخر موجودة ، لأن الملحوظ في دليل التنزيل ليس المراد الجدي المدلول عليه بالمطابقة بل خصوص ما يدل عليه التزاما من نفي الحكم عن هذا الفرد الدال على ثبوته له الدليل الآخر ، لأنه يتكفل إثبات الحكم له بالدلالة المطابقية ، فيحصل التنافي ظاهرا وبدوا بينهما فالملحوظ في دليل التنزيل ما يدل عليه بالدلالة الالتزامية - نظير الاستعمالات الكنائية مع عدم لحاظ المدلول المطابقي فيه أصلا ، لذا يكون الدليل النافي موجبا للتضييق ، فانه يكشف عن التنافي.

وبذلك يظهر ثبوت التنافي بين الحاكم والمحكوم ، فلا وجه لجعل الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم هو عدم التنافي بين الدليلين.

الوجه المختار في التقديم

والتحقيق : ان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو الوجه في تقديم القرينة على ذي القرينة والشارح على المشروح ، لأنك عرفت ان الدليل الحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم بمنزلة القرينة ولذلك كان متفرعا عليه. وان كان الدليل الحاكم من قبيل القرينة المنفصلة ، إذ لا فرق بين المتصلة والمنفصلة في تقديمها على ذيها عرفا.

وتوضيح ذلك : ان القرينة على المراد الجدي من الكلام تارة تكون متصلة وأخرى تكون منفصلة. وتشتركان في انهما تبيّنان ما هو مراد المتكلم الجدي ، وان

ص: 412

كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة في انها قد توجب تصرفا في الظهور الاستعمالي - كما توجب تصرفا في المراد الجدي بحسب الظاهر - فيما لم يكن الجمع بين الظهور الأولى البدوي للكلام وظهور القرينة في مؤداها ، فتقلب ظهور الكلام حينئذ إلى الظهور الثانوي له ، كما في المجاز على المشهور ، نحو : « رأيت أسدا يرمي » ، فان : « يرمي » أوجبت التصرف في ظهور : « أسد » في معناه الحقيقي وظهوره الأولى الّذي هو السبع المخصوص ، وقلب ظهوره إلى الظهور الثانوية وهو الظهور في الرّجل الشجاع ، لمكان المنافاة بين الرمي والسبع المخصوص.

امّا مع إمكان الجمع ، فلا تتكفل الا بيان المراد الجدي ، كما في المثال المذكور على رأي السكاكي (1). فانه ذكر ان : « أسدا » مستعمل في معناه الحقيقي. وامّا الجمع فهو يجعل التصرف في أمر عقلي وهو تطبيق السبع المخصوص على الرّجل الشجاع وجعل الشجاع من افراده. فالقرينة - أعني يرمي - على قرينتها. والظهور الاستعمالي للكلام على ظهوره.

فالقرينة المتصلة والمنفصلة تشتركان في كونهما يتكفلان بيان مراد المتكلم الجدي من كلامه ، فإذا كانت إفادة المراد الجدي وبيانه بالمدلول اللفظي - سواء كان المطابقي أو الالتزامي العرفي - كانت القرينة مقدمة على ذي القرينة عرفا ، بحيث لا يلاحظ العرف بينهما مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة من العموم والخصوص وغير ذلك ، بل لا يتوقف أصلا في تقديم الدليل والمتكفل بمدلوله اللفظي لبيان المراد الجدي من دليل آخر عليه ، بل بملاحظة هذه الجهة لا يرى ان هناك منافاة بين الدليلين كي يتحير في طريقة الجمع بينهما ، ويكون ملاك تقديمه عليه كما لو صرح الجاعل بان مرادي الجدي من هذا الكلام يعرف بدليل آخر ، فبملاك القرينية يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم - لأنه متعرض

ص: 413


1- على ما نقل من مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث في الاستعارة.

لحال الدليل الآخر بمدلوله اللفظي فيكون قرينة عليه - ، وان كان منفصلا عنه ، لعدم الفرق بين كلتا القرينتين في ملاك التقديم ، وهو التعرض لبيان المراد الجدي بالمدلول اللفظي.

وبذلك يفترق المقام عن التخصيص ، لأن تعرض الدليل المخصص إلى البيان المراد الجدي من العام ليس بمدلوله اللفظي ، بل بمقتضى حكم العقل ، لأنه بعد ان يرى التنافي بين شمول الحكم لهذا الفرد وشمول آخر له للتضاد بين الأحكام - ، يرى ان أحد الدليلين مناف للآخر. فلا بد من العمل بأحدهما لا كليهما ، فلا بد من تقديم أحدهما على الآخر. فيلاحظ حينئذ مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة وغيرهما ، إذ لا وجه لتقديم المخصص مطلقا على العام ، فإذا قدم المخصص وخصص العام حكم العقل حينئذ بان المراد الجدي من العام هو الباقي لا الجميع ، فقرينية التخصيص ليست لفظية بل عقلية ، ولذلك لا يكون ملاك تقديم أحد الدليلين على الآخر تخصيصا هو القرينية بل مرجحات التقديم.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى : أن تقديم الخاصّ على العام بملاك القرينية (1).

ولكنه غير مسلم وستعرف ما فيه في بيان الوجه في تقديم الخاصّ على العام في باب التعادل والترجيح إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

واما الوجه في تقديم الوارد على المورود ، فهو واضح جدا ، لأن أحد الدليلين ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر ، وبعد ورود الدليل الوارد والأخذ به يرتفع موضوع الدليل المورود حقيقة ، فلا يبقى لوروده حينئذ مجال لارتفاع موضوعه.

ص: 414


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 720- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وعليه ، فلا منافاة بينهما عرفا كي يقع الكلام في تقديم أيهما ، فمع ورود الأمارة يتحقق البيان حقيقة ، فينتفى : « لا بيان » الّذي هو موضوع القاعدة العقلية التي تبتني عليها البراءة فلا تبقى القاعدة حينئذ لارتفاع موضوعها.

وبتقريب صناعي : ان الأخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع.

اما وجود المقتضي ، فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه. واما عدم المانع ، فلأن المانع المتخيل هو الدليل المورود ، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد أصلا ، وموضوعه غير موضوعه. فكل منها في مقام غير مقام الآخر ، بل لا يصلح ان يكون مانعا إلا على وجه محال ، كما يأتي من صاحب الكفاية ، وان كنا لسنا بحاجة إليه كما يأتي.

واما الدليل المورود ، فلا مقتضى فيه كي يؤخذ به ، لأن ثبوته متوقف على عدم ورود الدليل الوارد ، لأنه رافع لموضوعه.

فالأساس الّذي يرتكز عليه ما ذكرناه هو عدم وجود أي منافاة بين الدليلين ، لأن كلا منهما ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر.

وبعد هذا ، لا مجال للإشكال : بان الورود انما يكون مع الأخذ بالدليل الوارد ، وإلاّ فمع الأخذ بالدليل المورود لا يتحقق المورود ، فلم يؤخذ بالدليل الوارد ولا يؤخذ بالدليل المورود؟ - كما تعرض إليه المحقق الخراسانيّ في الكفاية (1) -.

لأنه لا تنافي ولا تصادم بين الدليلين ، كي يقال بأنه لم يؤخذ بهذا الدليل دون ذاك؟.

وهل يفيد التعرض إلى هذا الإشكال بأنه فسر الورود بتفسير آخر غير ما فسره القوم ، أو يمكن حمله على ما لا يخالف ما ذكرناه؟.

ص: 415


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والظاهر انه يمكن توجيهه بما لا يتنافى مع ما عرفته ، بان يقال : ان غرضه هو السؤال عن الوجه في الأخذ بالدليل الوارد ، لأن الأخذ به ليس من الضروريات التي لا تحتاج إلى السؤال فيمكن التساؤل عنه. وليس الغرض هو الإشكال على الأخذ به ، والجواب عنه ما عرفت من وجود المقتضي للأخذ به وعدم المانع.

واما ما ذكره قدس سره في الجواب من : انه مع الأخذ بالدليل المورود يلزم تخصيص الدليل الوارد بلا وجه أو على وجه دائر ، لأن الدليل لما كان رافعا لموضوع المورود ، فالأخذ بالمورود يتوقف على عدم شمول الدليل الوارد لهذا المورد ، وتخصيصه بما عداه. فاما ان يكون تخصيصه بلا وجه ، أو يكون بالدليل المورد. إذ ما يتحمل ان يكون مخصصا هو الدليل المورد ، وتخصيصه بالدليل المورود يتوقف على اعتبار المورود في الورود ، واعتباره في المورد يتوقف على تخصيص الدليل الوارد به فيلزم الدور.

فغير وجيه ، لأن التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة بينهما ، أما مع عدم المنافاة بينهما أصلا لاختلاف مورديهما - كما عرفت في الدليل الوارد والمورد - ، فلا وجه لدعوى التخصيص ، فانه لا منافاة بين ما يستلزم انتفاء عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب إكرام العالم.

فإذا كان مفاد دليل الاستصحاب - بناء على الورود كما عليه قدس سره - : « استصحب مع عدم الحجة » ، وكان مفاد دليل الأمارة اعتبار الأمارة في هذا المورد المستلزم لقيام الحجة ، فلا منافاة بينهما أصلا ، ولا نظر لأحدهما إلى مفاد الآخر بتاتا ، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم الدور ، بل الدور لو لم يكن بمحذور لما كان دليل الاستصحاب مخصصا ، مع ان مقتضى ما ذكره ذلك فالتفت.

واما الوجه في تقديم الخاصّ على العام ، فبيانه في باب التعادل والترجيح

ص: 416

فانتظر.

الجهة الثالثة : في ان تقديم الأمارة على الاستصحاب هل هو للورود أو للحكومة أو للتخصيص؟. فقد اختلف الاعلام المحققون في ذلك.

فمنهم من ذهب ان نسبة الأمارة إلى الاستصحاب نسبة الوارد على المورود.

ومنهم من ذهب إلى ان نسبتها إليها نسبة الحاكم إلى المحكوم.

ومنه من ذهب إلى كون نسبتها إليه نسبة المخصص.

أما (1) دعوى الورود - وهي دعوى المحقق الخراسانيّ - ، فهي تبتني على

ص: 417


1- المذكور في كلمات المحقق الخراسانيّ لتوجيه دعوى الورود وجهان : الأول : ما أشير إليه في الكفاية من ان رفع اليد عن اليقين السابق بواسطة الأمارة ليس نقضا لليقين بالشك بل باليقين باعتبار الأمارة وحجيتها. وقد يورد عليه : ان النهي عنه في نصوص الاستصحاب ليس استناد نقض اليقين إلى الشك ، وإلا لجاز نقضه بمثل إجابة التماس مؤمن ونحوه ، بل المراد نقضه في مورد الشك بضميمة ان المراد من الشك مطلق عدم العلم والاحتمال غير الجازم ، وقيام الأمارة لا ينفي الجهل وعدم العلم. ويمكن الجواب عنه : بأنه يتم لو فرض كون نظر صاحب الكفاية ما هو ظاهر العبارة بدوا من تعليل الورود بعدم صدق نقض اليقين بالشك. ولكن من الممكن ان يكون نظره إلى دعوى انصراف دليل حرمة النقض بالشك عما إذا كان هناك مستند ودليل علمي النقض نظير دعوى انصراف دليل النهي عن العمل بغير العلم عن الأمارة المعتبرة ، فلا يشملها الدليل للانصراف لا لدعوى انتهاء العمل بها إلى العمل بالعلم. وعليه ، فيكون مدار صحة ما ذكره قدس سره على التسليم بدعوى الانصراف. فتدبر. الثاني : ما ذكره في حاشيته على الرسائل - كما حكي عنه - من ان مقتضى قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » صحة النقض باليقين بحكم مخالف للمتيقن السابق ولو بعنوان آخر ولذا يصح النقض لو علم بحلية ما كان حراما سابقا لأجل عنوان طارئ غير العنوان الموضوع للحرمة. وعليه ، فعند قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة فيتحقق العلم بالحكم الظاهري المخالف للحالة السابقة فيكون النقض باليقين لا بالشك. وقد يورد عليه : بان اليقين بالحكم الظاهري لا ينافي الشك في الواقع بل يجتمع معه كيف؟ وهو مفروض في موضوعه أو مورده. فيكون رفع اليد عن المتيقن السابق بالشك. فالمتجه ان يورد على ما ذكره صاحب الكفاية بان ما أفاده خلاف ظاهر الدليل ، فان الظاهر منه تعلق اليقين اللاحق بعين ما تعلق به اليقين السابق ، وما ذكر شاهدا لا يخلو من مغالطة ، فان اليقين وان تعلق بعنوان آخر كالاضطرار ، إلا انه ملازم لانتفاء الحكم السابق قطعا لأن الرفع واقعي. مع ان لازم ما ذكره فرض موضوع الاستصحاب كموضوع القرعة هو التخير المطلق بحيث يرد عليه كل ما يزيل التحير من جميع الأدلة والأصول وهو مما لا يلتزم به. فالعمدة في إثبات ورود الأمارة على الاستصحاب ما ذكرناه في المتن من الوجوه الثلاثة. فراجع. ثم ان صاحب الكفاية ذهب في مبحث التعادل والترجيح إلى ان تقدم الأمارة على الاستصحاب بالجمع العرفي بالتصرف بالدليلين الّذي جعله قسما للورود وهو بظاهره لا يخلو عن منافاة لما ذكر هاهنا. فلاحظ.

عدم إرادة الصفة الوجدانية من الشك واليقين المغيا به الاستصحاب بل إرادة الحجة وعدم الحجة أو ما شابه ذلك (1).

ولما كان هذا مستلزما للتصرف في ظهور الشك واليقين ، فلا بد من إقامة الدليل عليه ليصبح حقيقة ثابتة لا مجرد دعوى ليس لها أي علاقة بمقام الإثبات - كما أورد على المحقق الخراسانيّ بذلك - (2).

فنقول : ما يمكن به توجيه هذه الدعوى وجوه أربعة.

الأول : انه قد ذكر ان التعليل المذكور لإجراء الاستصحاب تعليل ارتكازي عقلائي ، لا تعليل تعبدي مفاده تشريع كبرى كلية ، كتعليل حرمة الخمر بأنه مسكر ، فان العرف بحسب ارتكازياته لا يرى ان هناك مناسبة بين الحرمة والإسكار بحيث يكون الإسكار علة للتحريم ، فيرجع العليل المذكور إلى جعل كبرى كلية وهي حرمة المسكر وتطبيقها على المورد. اما التعليل

ص: 418


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 248 - الطبعة الأولى.

الارتكازي ، فهو ما كان واردا على حسب مرتكزات العرف بحيث يرى مناسبة بين التعليل والمعلل. وقد عرفت ان من موارده التعليل المذكور في بعض اخبار الاستصحاب من : « ان اليقين لا ينقض بالشك » ، فان العرف بحسب ارتكازاته يرى مناسبة بين التعليل والحكم المعلل به ، بلحاظ ان اليقين امر مبرم محكم فلا ينقض بما ليس كذلك كالشك.

وبعد ان كان التعليل ارتكازيا عرفيا فالعرف انما يرى عدم جواز نقض اليقين بالشك لا لأجل خصوصية الشك وصفتيته. بل لأنه ليس بحجة معتبرة وطريق مبنى عليه. وذكره بالخصوص لأجل انه أظهر مصاديق عدم الحجة ، فاليقين لا ينقض عرفا مع عدم الحجة وهو ما ليس بمستحكم لا مع خصوص الشك.

الوجه الثاني : ان في قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » ظهورين : أحدهما : ظهور الباء في السببية ، يعني : استناد النقض إلى الشك. والآخر : ظهور الشك في الصفة الوجدانية.

ولا يمكن الالتزام بكلا الظهورين ، لعدم الاطراد في بعض الموارد ، كما لو استند النقض في مورد الشك إلى غير الشك مما لا يكون صالحا للاستناد إليه شرعا كالتماس مؤمن مثلا ، فانه مع الالتزام بكلا الظهورين يلزم ان لا يكون هذا المورد من موارد النهي ولا يكون العمل على خلاف الحالة السابقة استنادا إلى غير الشك محرما ، ولا يلتزم به أحد أصلا ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

اما في ظهور الباء يحملها لا على السببية ، بل على ان المراد عدم جواز نقض اليقين في مورد الشك وان لم يكن مستندا إليه.

واما في ظهور الشك بحمله على مطلق غير الحجة والطريق المعتبر ، فالمنهي عنه هو النقض المستند إلى غير الحجة.

ص: 419

إذ على كلا التقديرين يكون المورد المذكور وما شابهه مشمولا للنهي.

وبملاحظة ما تقدم من كون المراد بالشك ليس خصوص تساوي الطرفين احتمالا ، بل الأعم منه ومن الظن والوهم. يتعين التصرف في الظهور الثاني دون الأول ، لأن ذكر الشك بالخصوص مع إرادة الأعم منه ومن عدم العلم لا وجه له. إلاّ أن يراد به كونه أظهر مصاديق عدم الحجة ، لأنه الجهة المميزة له. وإلاّ فلا وجه لتخصصه بالذكر فان الحكم إذا كان موضوعه العام لا معنى لبيانه بالحكم على فرد خاص منه إلاّ إذا كانت لذلك الفرد خصوصية تدعو لتخصيصه بالذكر ، ولا خصوصية للشك من بين سائر الافراد الا كونه أظهر افراد التردد وعدم الحجة. فلا وجه للتصرف في الظهور الأول ، بل يكتفي في التصرف في الظهور الثاني. مضافا إلى ان حمل الباء على الظرفية وكونها بمعنى : « في » في المقام يستلزم تقدير محذوف تتعلق به الباء ، إذ لا معنى لتعلق الظرفية بالشك ، فلا بد من تقدير مضاف كما لا يخفى.

الوجه الثالث : ان السائل كزرارة رحمه اللّه لو فهم من الإمام علیه السلام إرادة الصفة الوجدانية من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وان الناقض خصوص اليقين الوجداني ، لفهم بدوا منافاة هذا الحكم لجعل الأمارة والطريق واعتبارها في الموضوعات - الّذي هو مما لا إشكال فيه - ، لأن جميعها متيقنة العدم ، لأنها حادثة والحادث مسبوق بالعدم ، ولا يقين لنا بارتفاعه ، وانه ناسخ لدليل اعتبارها ، مع انا نجزم بعدم فهمه ذلك أصلا - وإلا لسأل الإمام علیه السلام عنه حينئذ - مما يكشف عن انه فهم كون النقض انما يكون بالحجة المعتبرة والطريق المجعول لا بخصوص اليقين. وان المراد من اليقين مطلق الحجة لا اليقين الوجداني.

الوجه الرابع : ان حجية اليقين مما لا شبهة فيها ولا إشكال ، كيف؟ وهي من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا.

ص: 420

فلو كان المراد من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » اليقين الوجداني ، لكان الكلام لغوا ، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه ، لأنه مسلم لا ارتياب فيه.

ودعوى : ان قوله المذكور ليس مفاده الاستدراك وبيان ناقضية اليقين كي يشكل بلزوم اللغوية ، بل المراد منه حصر الناقض في اليقين (1).

مندفعة : بان : « لكن » ظاهرة في الاستدراك ، و « اليقين » ظاهر في اليقين الوجداني ، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية - كما عرفت - ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

إما في ظهور : « لكن » ، فيحمل الكلام على الحصر ، حيث ان المنفي هو خصوص النقض بالشك دون غيره من الأمور غير اليقينية ، فالمراد بيان انحصار الناقض باليقين ، ولذلك استفيد منه ان الشك أعم من تساوي الطرفين والظن والوهم.

واما في ظهور : « اليقين » بحمله على مطلق الحجة ، فيصح الاستدراك حينئذ كما لا يخفى.

وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعين التصرف في ظهور اليقين ، ويبقى ظهور : « لكن » على حاله.

ولو أبيت الا عن الالتزام بتصادم الظهورين ، فالكلام يكون مجملا في مورد قيام حجة غير القطع على خلاف اليقين السابق ، إذ لا يعلم إرادة الصفة الوجدانية من اليقين ، فلا يجري الاستصحاب في ذلك المورد ، لعدم العلم بتحقق موضوعه ، فتبقى الأمارة بلا معارض.

وهذا وان لم يكن من الورود إلا انه نتيجة الورود.

ص: 421


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 248 - الطبعة الأولى.

اللّهم إلاّ ان يقال : ان « لكن » ظاهرة في الحصر ، لأنها عاطفة ، وهي من موجبات الحصر لا من أدوات الاستدراك. فدعوى إرادة الحصر لا توجب تصرفا في الظهور كي يقع الكلام في المرجح لأحد التصرفين على الآخر ، بل هي على وفق الظهور ومقتضاه.

وبذلك يخرج الكلام عن اللغوية.

هذا ، مضافا إلى إمكان دعوى استفادة الحصر من سياق الكلام لا من التصرف في « لكن » ، ويشهد له انه قد ذكر من جملة الوجوه على كون المراد من الشك في الاخبار هو مطلق عدم اليقين لا خصوص تساوي الطرفين : حصر الناقض في اليقين. وحينئذ يبقى اليقين على ظهوره ولا وجه للتصرف فيه. وعلى هذا لا يتم الوجه المذكور ، فلا يصلح لا ثبات الورود.

ولكن في الوجوه الثلاثة الأخر كفاية ، فانها توجب الاطمئنان ، بل القطع في كون موضوع الاستصحاب عدم الحجة على الخلاف.

وبذلك يتعين القول : بان تقدم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود.

وعليه فلا مجال لدعوى الحكومة أو التخصيص. مع انه لو أغمضنا النّظر عن تمامية دعوى الورود فدعوى الحكومة غير تامة ، إذ غاية ما ترتكز عليه هو كون دليل اعتبار الأمارة يتكفل إلغاء احتمال خلاف الأمارة تنزيلا ، فمع قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة يتكفل دليل الأمارة إلغاء احتمال خلافها تنزيلا. ومقتضاه إلغاء احتمال بقاء الحالة السابقة الّذي هو موضوع الاستصحاب ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تنزيلا ، لأن موضوعه الاحتمال والشك ، ومفاد دليل الأمارة رفع هذا الاحتمال وإلغائه. فيكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب لأنه يكون ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل الأصل وموجبا لتضييق دائرته.

ص: 422

وقد بنى عليه المحقق العراقي (1) أيضا إلاّ ان تعبيره اختلف عن تعبير المحقق النائيني فقد التزم ( قده ) ان قيام الأمارة - بمقتضى دليل الاعتبار - يحقق غاية الاستصحاب وهو اليقين ولم ير بأنه يرفع موضوعه وهو الشك. ولعله لأجل ان موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعا لموضوعه بل عبارة عن امر وجودي وهو الاحتمال الّذي يصل إلى حد العلم. ومن الواضح ان اعتبار أحد الضدين لا يلازم اعتبار عدم الضد الآخر فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين. وعليه فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ فلا يكون اعتباره رافعا لموضوع الاستصحاب.

ولكن لا يخفى عليك قوله علیه السلام : « ولكن تنقضه ... » ليس إنشاء لحكم جديد أو تحديدا للاستصحاب وانما هو عبارة أخرى عن ارتفاع موضوعه فهو بصدد بيان ارتفاع الاستصحاب عند ارتفاع موضوعه بلحاظ ملازمة اليقين لعدم موضوع الاستصحاب فليس له عنوانان أحدهما أخذ في الموضوع وأخر أخذ في الغاية. بل ليس إلاّ فرد واحد وهو المأخوذ في الموضوع فإذا فرض انه وجودي أشكل القول بالحكومة على هذا الرّأي من هذه الجهة. فانتبه.

وأما ما أفاده المحقق النائيني في الاستدلال على كون التقدم من باب الحكومة من : أن التحقيق كون المجعول في الأمارة هو الطريقية وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف وما أشبه ذلك - لا المنجزية ، لاستلزامه تخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو غير قابل للتخصيص ولا جعل المؤدى ، لمحذور اجتماع الحكم الواقعي والظاهري - وحينئذ يرتفع موضوع الاستصحاب تعبدا عند قيام الأمارة ، وهو معنى الحكومة ، لأنه أوجب التصرف في عقد الوضع (2).

ص: 423


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 18 - 19 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 595 - 596 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فلا يستلزم الحكومة ، لأنك عرفت ان الدليل المتكفل للاعتبار - نفيا - ..

تارة : يكون واردا على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لوحظ الموضوع فيه ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من افراد الموضوع المرتب عليه الحكم إنشاء ، لأن الدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا يكون حينئذ رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر حقيقة فيكون واردا عليه.

وأخرى : يكون حاكما على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لم يكن قد لوحظ في الموضوع ما لم تنف فرديته اعتبارا ، بل أخذ مطلقا ، فحينئذ يحصل التنافي بين الدليلين بمدلولهما اللفظي ، فيكون أحدهما المعين ناظرا إلى الآخر وحاكما عليه.

وتقريب حصول النّظر الموجب للحكومة : بان الاعتبار إنما يكون بلحاظ ترتب أثر عليه أو نفي أثر عنه وإلا لكان لغوا ، فعند وجود دليل يتكفل ثبوت حكم لموضوع ما ، إذا ورد دليل يتكفل اعتبار أمر ليس بفرد من افراد ذلك الموضوع ، فإذا لم يكن لهذا الاعتبار أي أثر ظاهر يحكم بدلالة الاقتضاء - التي هي بملاك صون كلام الحكيم عن اللغوية - بأنه ناظر إلى نفي ترتب الأثر عليه ، فيحصل التنافي حينئذ ، لأن دليل الاعتبار ينفي ترتب الأثر على هذا الفرد بدلالته الالتزامية ، والدليل الآخر يتكفل بدلالته المطابقية ترتب الأثر عليه. ويقدم حينئذ دليل الاعتبار لكونه ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، فيكون بمنزلة القرينة عليه. ويحكم حينئذ بان موضوع الحكم في ذلك الدليل انما هو خصوص ما لم يقم على عدم فرديته اعتبار.

وبالجملة : فالدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا إنما يكون حاكما على الدليل الآخر فيما إذا انحصر الأثر عليه في نفي الحكم الثابت للفرد بمقتضى الدليل الآخر ، لتتم دلالة الاقتضاء حينئذ فيحصل النّظر وإلا فمع وجود أثر

ص: 424

آخر في نفي الفردية ، فلا يكون متكفلا لنفي الأثر الثابت بمقتضى الدليل الآخر ، لأنه انما يكون متكفلا لذلك بدلالة الاقتضاء ، وهي غير تامة مع وجود أثر للاعتبار.

وعلى هذا ، فدليل الأمارة وإن كان يتكفل اعتبار الطريقية وما ليس بعلم علما - باعتبار انحصار المجعول بذلك فتكون أمرا اعتباريا - ، إلا ان ذلك لا يوجب حكومته على دليل الاستصحاب ، لأن آثار اعتبار العلم لا تنحصر في نفى الأثر المترتب على عدم العلم - أعني : الاستصحاب - بل له آثار أخر كالمنجزية والمعذرية ، ومع وجود آثار له فلا تتم الحكومة لعدم تمامية دلالة الاقتضاء الموجبة للنظر والحكومة.

ودعوى : التمسك بإطلاق دليل الاعتبار في ترتيب جميع آثار العلم على الأمارة باعتبارها علما.

مدفوعة : بان التمسك بالإطلاق هاهنا يقتضي التصرف بجميع الأدلة الظاهرة في ترتيب الأحكام على الموضوعات الحقيقية الواقعية ، بحملها على ترتب الحكم على الموضوع الأعم من الواقعي والاعتباري ، لما عرفت من ان دلالة الاقتضاء تقتضي التصرف بدلالة الدليل الآخر ، فانه يستكشف بها كون الموضوع للأثر أعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، وهو خلاف ظاهر الدليل. فالإطلاق يحتاج إلى مئونة فلا يصح التمسك به.

نعم ، لو كانت المنجزية من الآثار المختصة بالعلم الوجداني ، بحيث يكون ثبوتها للأمارة بدلالة الاقتضاء الموجبة للتصرف بدليلها ، كان التمسك بالإطلاق بالنسبة إلى جميع الآثار في محله ، لأن نسبة دلالة الاقتضاء إلى جميع الآثار متساوية ، ولا يكون في الإطلاق زيادة مئونة لتجشمها على كل حال. ولكنه ليس

ص: 425

كذلك ، بل المنجزية من آثار الأعم من العلم الواقعي والاعتباري ، وهو البيان ، فثبوتها للأمارة بعد اعتبارها لم يكن بدلالة الاقتضاء ، فلا يوجب ثبوتها التصرف في أي دليل ، وثبوتها كان في رفع اللغوية. بل لو كانت من الآثار المختصة بالعلم الواقعي لما كان لترتبها على الأمارة - باعتبار الشارع علميتها - وجه ، لأنها من الأحكام العقلية لا الشرعية فلا تثبت باعتبار الشارع للمعتبر.

فما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يخلو عن منع. ولا تتوجه به دعوى الحكومة ، بل ما ذكرناه هو الوجه الوجيه للدعوى. وبه تمسك الشيخ ( رحمة اللّه ) في إثبات الحكومة في باب الاستصحاب وباب التعادل والترجيح (1).

وقد نفي المحقق الخراسانيّ الحكومة. ولم يبين في باب الاستصحاب نفى الوجه الّذي تبتني عليه الحكومة ، وانما بيّن ان دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللفظي إلى دليل الاستصحاب أصلا. وبدون ذلك لا تتحقق الحكومة (2).

واما التنافي الحاصل بينهما في مقام العمل ، حيث ان كلا منهما وارد في مورد الآخر ، فهذا لا يوجب الحكومة ، لأنه لو كان يحقق النّظر لكان كلا منهما حاكما ومحكوما ، لأنه جهة مشتركة بينهما ولا تختص به الأمارة. مضافا إلى ان ملاك النّظر الموجب للحكومة لو كان هو التنافي بين المدلولين ، لما كانت الأمارة حاكمة على الاستصحاب في صورة الموافقة ، لانتفاء الملاك - أعني : التنافي -. وما بيّنه هاهنا أجنبي عن المهم في دعوى الحكومة أعني كون مفاد دليل الاعتبار نفى احتمال الخلاف.

نعم أشار إلى ذلك في مبحث التعادل والترجيح بقوله : « وكيف كان ليس

ص: 426


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 407 و432- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا » (1).

وعلى كل حال فيتلخص الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية في أن الشيخ يذهب إلى كون دليل اعتبار الأمارة مفاده نفي احتمال الخلاف. وصاحب الكفاية يدعي عدم كونه كذلك. بل هو متكفل لجعل المنجزية والمعذرية أو جعل المؤدى. فالخلاف بينهما صغروي.

والّذي (2) يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني قدس سره في المقام انه على القول بان دليل اعتبار الأمارة يتكفل تنزيل الأمارة منزلة العلم وعلى القول بأنه يتكفل تنزيل مؤداها منزلة الواقع. يكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب.

وبيان ذلك : ان الأمارة والأصل يشتركان في كون مفادهما معا حكما ظاهريا ، ولكن الأمارة تفترق عن الأصل انها تتكفل أداء الحكم الظاهري بعنوان انه الواقع ، ولذا تترتب عليه آثار الواقع. بخلاف الأصل ، فان ما يتكفل بيانه ليس بعنوان انه الواقع ، بل هو في مرحلة متأخرة عن الجهل بالواقع. وعلى هذا ، فتتضح حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب لو كان متكفلا لتنزيلها منزلة العلم ، لأنه يتكفل رفع موضوع الاستصحاب - وهو الجهل بالواقع - تعبدا ، ويوجب التصرف في موضوع دليله فيكون ناظرا إليه وحاكما عليه.

أما إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل المؤدي منزلة الواقع ، فقد لا تتضح الحكومة حينئذ ، لأنه لم يؤخذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم الواقع ، بل أخذ الشك وعدم العلم لا غير. فلا يوجب دليل الأمارة التصرف في موضوعه ، بل مفاده أجنبي عنه (3).

ص: 427


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /338- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لم يتعرض السيد الأستاذ - دام ظله - له في هذه الدورة. ( منه عفي عنه ).
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 129 - الطبعة الأولى.

ولذلك ذهب المحقق العراقي إلى عدم الحكومة على هذا القول (1).

ولكنه مع هذا يمكن تقريب الحكومة على هذا القول ببيان ان الموضوع إذا كان مركبا أو مقيدا ، فتنزيل أحد الجزءين أو تنزيل القيد مع إحراز الجزء الآخر أو ذات المقيد يوجب التئام الموضوع ويترتب عليه الحكم ، فتنزيل القيد على هذا تنزيل للمقيد بما هو مقيد لأنه يوجب تحققه تنزيلا ، فيكون التنزيل حينئذ موجبا للحكومة ، لأنه ناظر إلى موضوع الحكم فيضيقه أو يوسعه.

وموضوع الاستصحاب هو العلم المتعلق بالواقع ، فالواقع قيد للعلم. ولا إشكال في انه عند قيام الأمارة يعلم وجدانا بمؤداها ومفادها ، فإذا كان المؤدى بمنزلة الواقع ، خرج المورد حينئذ عن موضوع دليل الاستصحاب للعلم بالواقع حينئذ.

فبهذا التقريب تمكن دعوى حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بناء على القول بان مفاد دليل الاعتبار تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، لأنه أيضا يوجب خروج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب.

ولكنه وان أمكن تحققه ثبوتا ، غير انه ليس بثابت في مقام الإثبات ، فلا يتحقق ما هو أساس الحكومة من نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم.

وبيان ذلك : ان دليل التنزيل ظاهر عرفا في كون التنزيل بلحاظ ترتيب آثار نفس آثار المنزل عليه على المنزل ، لا الآثار الأخرى المرتبطة به بنحو ارتباط ، فتنزيل زيد منزلة عمر وانما يكون بلحاظ ترتيب نفس آثار عمر وعلى زيد ، لا آثار أبي عمرو أو أخيه على أبي زيد أو أخيه. ولما كانت الغاية في باب الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية هي العلم بالواقع ، فدليل الأمارة إذا كان يتكفل تنزيل المؤدى منزلة الواقع فهو انما يتكفل التنزيل المذكور بلحاظ

ص: 428


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 19 - القسم الثاني - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ترتيب آثار نفس الواقع على المؤدى. أما ترتيب آثار ما يضاف إليه ويتعلق به ، فلا يتكفله دليل التنزيل.

وعليه ، فلا يتكفل ترتيب آثار العلم بالواقع على العلم بالمؤدى.

نعم ، فيما إذا لم يكن للقيد أثر مستقل أصلا ، إلا بلحاظ إضافة ذات المقيد إليه ، كان تنزيل شيء منزلته بلحاظ ترتيب آثار المقيد بما هو مقيد ، ويكون تنزيل القيد تنزيلا للمقيد بما هو كذلك التزاما.

وبما ذكرنا ، يندفع ما قد يستشكل به من انه : كما انه إذا كان دليل الأمارة متكفلا لتنزيل الأمارة منزلة العلم يتمسك بإطلاق دليل التنزيل ، فيترتب عليها جميع آثار العلم ، ولذلك يقال بحكومتها على أصالة البراءة وغيرها دون خصوص الاستصحاب. فكذلك إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل مؤداها منزلة الواقع ، فليتمسك بإطلاق دليل التنزيل ويرتب على المؤدى جميع آثار الواقع ولو كانت مرتبطة به بنحو ارتباط.

فان ما ذكرناه لا ينافي التمسك بالإطلاق ، لأن ظاهر دليل التنزيل ترتيب آثار نفس المنزل عليه على المنزل ، فإذا كان له إطلاق يتمسك به في ترتيب جميع هذه الآثار عليه. فهاهنا يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس الواقع على المؤدى ، كما يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس العلم فيما إذا كان دليل التنزيل متكفلا لتنزيلها منزلة العلم.

وبالجملة : فما ذكر في تقريب الحكومة على هذا القول وان كان معقولا وممكنا ثبوتا ، إلا انه غير تام إثباتا ، لعدم وفاء دليل التنزيل فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فينحصر الوجه الصالح لتقريب الحكومة فيما ذكره الشيخ وتصدى لنفيه صاحب الكفاية من : ان دليل الاعتبار يتكفل إلغاء احتمال الخلاف

ص: 429

بتعبير ، وتنزيل الأمارة منزلة العلم بتعبير آخر. وهذا الوجه هو أساس الحكومة ، وهو كبرويا مسلم لأن الأمارة بورودها تحقق الغاية للاستصحاب ولكل أصل أو ترفع موضوعه ، فان الأصول الشرعية مغياة بالعلم أو مقيدة بعدم العلم ، والمفروض ان الأمارة علم تنزيلا ، فتتحقق الغاية بها أو يرتفع الموضوع. وبذلك تكون أدلتها حاكمة على أدلة الأصول لنفيها لموضوعها.

لكنه صغرويا محل إشكال بل منع ، فانه ثبوتا ممكن لكنه إثباتا صعب الإثبات ، فلا يمكن استفادة ذلك من أدلة الاعتبار.

وبيان ذلك : ان التنزيل عبارة عن أمر واقعي حقيقته ترتيب أثر شيء على شيء آخر ، وقد يكشف عنه اللفظ ، كما إذا صرح به وقيل : « أنزلت هذا منزلة ذاك ». وقد ينتزع عن إثبات الحكم المختص بشيء إلى شيء آخر ولو لم يكن تصريح في البين ، فانه ينتزع من هذا الإثبات تنزيل الشيء الآخر منزلة ذاك الشيء في أثره ، ونظير ذلك في التكوينيات انه لو كان هناك أثر مختص عرفا بشيء ثم ترتب ذلك الأثر على شيء آخر ، فانه ينتزع عن ذلك كون هذا الشيء بمنزلة ذلك الشيء - لكن الفرق ان التنزيل لا يتصور في التكوينيات ، لأن ترتب الأثر التكويني واقعي لا جعلي وانما يتصور في المجعولات -.

وبهذا تعرف انه لا يلزم ان يكون دليل التنزيل لفظيا ، بل يمكن ان يكون لبيا.

ثم لا يخفى ان تنزيل شيء منزلة آخر لا يجدي في ترتيب جميع آثار المنزل عليه على المنزل ، إلا إذا كان الملحوظ في دليل التنزيل جميع الآثار. فالمترتب من الآثار هو الملحوظ في مقام التنزيل ، فقد يلحظ جميع الآثار وقد يلحظ بعضها ، فلا بد من ملاحظة دليل التنزيل وما هو ظاهر فيه. فحكومة الأمارة على الاستصحاب من جهة تنزيلها منزلة العلم تتوقف أولا على ثبوت التنزيل ، وثانيا على كونه بلحاظ الاستصحاب المترتب على الشك. ولا يخفى عدم وفاء دليل

ص: 430

الأمارة بكلتا الناحيتين ، إذ غاية ما يستدل به على التنزيل المذكور أمور :

الأول : قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) ، فان الظاهر منها ان السؤال في مقام يجب تحصيل العلم بالحكم ، وظاهره الاكتفاء بسؤال الواحد وإجابته في حصول العلم ، فكأنه قال : « اسألوهم ان كنتم لا تعلمون لكي تعلموا ». ولا يخفى ان إجابة الواحد لا توجب العلم الوجداني ، فلا بد ان يكون ذلك تنزيلا لخبر الواحد منزلة العلم.

الأمر الثاني : تعبير الإمام علیه السلام ب- : « عرف أحكامنا » في الرواية المقبولة : « انظروا ... » (2) ، فان المشار إليه هو المجتهد. ولا يخفى ان معرفة الأحكام للمجتهد انما تكون بالطرق الظنية غير الموجبة للعلم ، فالتعبير عنه ب- : « عرف أحكامنا » لا بد ان يكون من باب تنزيل الطرق المؤدية إليها منزلة العلم.

الأمر الثالث : العقل ، فانه يحكم بامتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، فإذا قامت الأمارة على حكم كان فعليا بمقتضى دليل اعتبارها. وحينئذ يمتنع ان يكون هناك حكم فعلي آخر بمقتضى حكم العقل المذكور. فاحتمال الخلاف لما قامت عليه الأمارة منفي بدليل اعتبارها بمقتضى حكم العقل.

الأمر الرابع : بناء العقلاء على العمل بالأمارة وترتيب آثار العلم عليها من المنجزية والمعذرية ، فانه ينتزع عن ذلك تنزيلهم للأمارة منزلة العلم. وقد عرفت إمكان ذلك لعدم اشتراط كون دليل التنزيل لفظيا.

وهذه الأمور لا تفي بإثبات المدعى ..

أما الأمر الأول : فالخدشة في الاستدلال به من وجوه :

ص: 431


1- سورة النمل ، الآية : 42
2- وسائل الشيعة 18 / 98 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 1.

الوجه الأول : ان موردها - كما بين في محله - ليس الأحكام الفرعية ، بل انما هو الأمور الاعتقادية التي لا يكتفي فيها بغير العلم قطعا.

الوجه الثاني : ان المراد من : « أهل الذّكر » ليس الرّواة أو المجتهدين ، بل المراد إما الأئمة الأطهار علیهم السلام - كما هو مقتضى بعض الروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة (1) - وإما علماء اليهود ، لكون المسئول عنه ما يتعلق بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله عندهم.

ولا يخفى ان ما يقوله كل منهما موجب للعلم. اما الأئمة المعصومون علیهم السلام فواضح. واما علماء اليهود فلأن ما يقولون في شأن النبوة الحقة مما يؤكد معتقداتنا - كما هو مقتضى الإرجاع إليهم بإيجاب السؤال منهم - ، لا يحتمل فيه الكذب عادة ، لأنهم أعداء النبوة ومنكروها ، فبقولهم يحصل العلم العادي - المعبر عنه بالاطمئنان - ، ان لم نقل بحصول العلم القطعي الوجداني.

الوجه الثالث : ان ظهور الآية في المدعى أساسه كون المطلوب في مقام السؤال هو العلم. لظهورها - على هذا - في كون السؤال لتحصيل العلم ، فيكون من باب تنزيل ما يقوله أهل الذّكر منزلة العلم. وهو غير ثابت ، إذ يمكن ان يكون المطلوب هو كون العمل مستندا إلى مستند شرعي أو عقلي ، فإذا كان هناك علم فهو المتعين ، وإلا فالمرجع هو قول أهل الذّكر ، فتكون الآية بصدد جعل الحجية لقول أهل الذّكر. فيكون مستندا شرعيا يصح الاستناد إليه في مقام العمل مع عدم العلم ،

هذا ، مع انه لو سلم ظهور الآية الكريمة في أصل تنزيل الخبر منزلة العلم ، وأغمضنا النّظر عن هذه المناقشات وأمثالها مما تقدم في مبحث حجية الخبر ، فذلك وحدة لا ينفع في الحكومة ، إذ من الواضح ان تنزيل الخبر منزلة العلم

ص: 432


1- الكافي 1 / 210 باب ان أهل الذّكر هم الأئمة علیهم السلام .

في الآية انما هو بلحاظ مقام العمل والامتثال والتنجيز والتعذير ، دون مطلق آثار العلم العقلية والشرعية ، فلا نظر لها إلى التعبد الاستصحابي الثابت في مورد عدم العلم.

وبالجملة : لا إطلاق في الآية بلحاظ جميع آثار العلم فلاحظ.

واما الأمر الثاني : فالخدشة في الاستدلال به من جهتين :

الأولى : ان حصول العلم الحقيقي والمعرفة الحقيقية بواسطة الطرق العلمية للمجتهد في الصدر الأول غير بعيد ، لقرب العهد بزمان الأئمة المعصومين علیهم السلام - فان شأنهم شأن المقلدين في زماننا في معرفة فتاوى مقلديهم بالمعرفة الحقيقية أو العادية لتوفر الطرق العلمية لذلك - ، فيكون إطلاق المعرفة من باب الفرد الغالب في زمان الحكم. وان لم تتحقق فيما بعد زمانه بمدة ، كما في زماننا هذا.

مع ، انه يمكن تحقق ذلك في زماننا بالنسبة إلى المجتهد ، لأنه يعرف كثيرا من الأحكام الواقعية كالضروريات ، وما استفيد من السنة المستفيضة والمتواترة. وهذا المقدار كاف في صحة إطلاق « عرف أحكامنا » عليه.

الجهة الثانية : ان الأحكام أعم من الأحكام الواقعية والظاهرية. ولا يخفى ان المجتهد عارف بالاحكام الظاهرية حقيقة ، لأن الأدلة الظنية علمية بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، وان كانت ظنية بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ولو أبيت إلا عن ظهور الأحكام في الأحكام الواقعية وانصرافها إليها ، فالأمر حينئذ يدور بين إبقاء لفظ المعرفة على معناه الحقيقي وظاهره الاستعمالي ، والتصرف في لفظ الأحكام بحملها على الأعم من الواقعية والظاهرية. وإبقاء لفظ الأحكام على معناه الاستعمالي الظاهر ، والتصرف في لفظ المعرفة بحملها على الأعم من المعرفة الحقيقية والمعرفة التنزيلية. ولا مرجح لأحد الظهورين على الآخر ، فلا يتم الاستدلال بالرواية.

ص: 433

هذا ، مع مناقشته بما مرّ في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة من عدم الإطلاق بلحاظ جمع الآثار ، إذ الرواية ليست بصدد بيان التنزيل ، كي يتمسك بإطلاقها ، بل بصدد بيان حكم آخر مرتب على المجتهد الّذي أطلق عليه العارف بالاحكام فانه يكشف عن ثبوت التنزيل في الجملة من دون كشف عن سعته وضيقه ، والمتيقن منه تنزيله بلحاظ الحجية والمنجزية والمعذرية. فتدبر.

وأما الأمر الثالث : فالاستدلال به فاسد لوجوه :

الأول : انه على تقدير تماميته ، فنتيجته الورود لا الحكومة ، لأنه - أي دليل الأمارة - ينفي احتمال الخلاف حقيقة لا تعبدا ، لامتناع تحقق الخلاف عقلا.

الوجه الثاني : انه جهة مشتركة بين دليل الأمارة ودليل الاستصحاب ، فان مقتضى اعتبار الاستصحاب ثبوت الحكم المستصحب في المورد ، وبمقتضى حكم العقل بامتناع اجتماع حكمين ينتفي احتمال خلاف المستصحب ، فدليل اعتبار الاستصحاب يتكفل أيضا نفي احتمال الخلاف بالتقريب المذكور.

الوجه الثالث : ان الحكم المأخوذ في موضوع الأصل لا يمتنع اجتماعه عقلا مع الحكم الفعلي المتحقق بالأمارة ، لأن موضوعه هو احتمال الواقع ، والحكم المتحقق بها حكم ظاهري. وإلا للزم ارتفاع احتمال هذا الحكم بنفس إجراء الأصل ، لأنه يحقق حكما ظاهريا ، فيلزم من إجرائه انتفاء موضوعه ، وهو الاحتمال ، وينتفي هو بانتفائه ، فيمتنع إجراؤه حينئذ ، لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال. وإذا ثبت عدم المنافاة بين الحكمين ، فلا يكون نفي احتمال الخلاف في الأمارة موجبا لارتفاع موضوع الأصل ، لأنه ينفي احتمال خلاف هذا الحكم من الأحكام الظاهرية ، وهو لا يتنافى مع احتمال الحكم الواقعي المخالف لمؤدى الأمارة ، فلا تتحقق الحكومة.

وأما الأمر الرابع : فتمامية الاستدلال به تبتني على ان تكون المنجزية والمعذرية وغيرهما من آثار العلم المختصة به عرفا ، بحيث يكون ثبوتها لغيره

ص: 434

محمولا على التنزل ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ يمكن ان تكون في نظر العقلاء أثرا أعم للعلم لا مساو. وقد عرفت ان انتزاع التنزيل انما يكون من ترتيب الآثار المختصة بشيء على آخر ، فترتيب وجوب الإكرام على زيد مع ترتيبه أولا على بكر لا يعد تنزيلا لزيد منزلة بكر كما لا يخفى.

إلاّ ان يقرّب هذا الوجه : بان العقلاء في مقام عملهم لا يعتنون باحتمال الخلاف الموجود عند قيام الأمارة وينزلونه منزلة العدم ، والمفروض ان الشارع أمضى السيرة العقلائية.

وفيه : انه لو تم ، فهو لا يتكفل إلاّ تنزيل الأمارة منزلة العلم في مقام المنجزية والمعذرية ، إذ المنظور في عمل العقلاء ذلك دون التعبد الاستصحابي ونحوه ..

وإذا لم يصلح أي دليل على إثبات تكفل دليل الأمارة نفي احتمال الخلاف ، فلا سند حينئذ لدعوى الحكومة.

ثم انه لو لم تثبت دعوى الورود والحكومة فلا مناص عن القول بتخصيص دليلها لدليله ، لأن أغلب مواردها لو لم تكن كلها من موارد الاستصحاب ، فيلزم من العمل بدليل الاستصحاب وطرح دليل الأمارة عدم العمل بها أصلا أو إلا نادرا ، وهو لا يصحح الاعتبار بل يستلزم لغويته.

تذييل (1) : لا يخفى أنه مع الالتزام بالورود بالتقريب الّذي ذكرناه ، فانما يلتزم به في صورة قيام الأمارة على الخلاف ، اما مع قيامها على طبق الحالة السابقة فلا يتحقق الورود ، لأنا قد قربنا الورود بان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، وقيدناه بان يكون على الخلاف - بقرينة النهي عن النقض به الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق

ص: 435


1- لم يتعرض له السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية. ( منه عفي عنه ).

معه النقض - ، فاليقين لا ينقض بغير الحجة على الخلاف.

والورود على هذا انما يتحقق فيما إذا كانت الأمارة قائمة على خلاف اليقين السابق ، لتحقق الحجة والطريق على الخلاف ، فينتفي موضوع الاستصحاب حقيقة. أما إذا كانت الأمارة قائمة على وفق اليقين السابق ، فالمتحقق انما هو الطريق والحجة على الوفاق ، فلا يرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف وهو الشك ، وإذا تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الطريق والحجة على الخلاف ، كان المورد مشمولا لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض ، فيجري الاستصحاب في عرض الأمارة.

نعم ، لو أخذ في موضوع الاستصحاب عدم الحجة مطلقا ولو لم يكن على الخلاف ، كانت الأمارة الموافقة واردة ، لأنها تنفي موضوعه ، وهو عدم الحجة ، لأنها تحقق الحجة. ولكنه ليس كذلك ، بل المأخوذ في موضوعه هو عدم الحجة على الخلاف - كما حققناه -.

وقد أشار إلى الإشكال صاحب الكفاية بقوله : « وعدم رفع اليد عنه ... ». فانه قد يرد أيضا بناء على تقريبه للورود. فانه قرّبه : بان النقض بالأمارة ليس نقضا بالشك كي يكون منهيا عنه ، بل هو نقض باليقين أو بالدليل. وفي صورة قيام الأمارة الموافقة لا يتصور النقض بالأمارة ، كي يقال انه ليس نقضا بالشك بل بالدليل ، ولا إشكال في وجود الشك في المورد ، فيكون المورد مشمولا لدليل الاستصحاب ، لأن رفع اليد عن اليقين السابق نقض لليقين بالشك (1).

والظاهر من عبارة الكفاية في مقام الجواب عن الإشكال : ان البقاء على اليقين السابق ليس من جهة ملازمة الرفع لنقض اليقين بالشك ، كي يكون منهيا

ص: 436


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عنه ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة ووجوب السير على طبق الطريق المعتبر.

وهذا بظاهره لا يرفع الإشكال ولا يحقق الورود ، لأن شمول دليل الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه - وهو كون النقض بالشك - ، فما المانع من التمسك به في عرض الأمارة؟!.

ولكن يمكن توجيه ما ذكره بما يحقق الورود ويرفع الإشكال. وبيانه : ان موضوع النهي في الاستصحاب هو : « النقض بالشك » ، فالموضوع هو المقيد ، والمقيد بما هو مقيد الّذي هو الموضوع كما يرتفع بارتفاع القيد كذلك يرتفع بارتفاع ذات المقيد. ففي المقام حيث ان رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان مخالفة الحجة ، فرفع اليد عنه إذا كان بهذا العنوان - أعني : بعنوان مخالفة الحجة - لا يشمله النهي الاستصحابي ، لأنه ليس بعنوان نقض اليقين بالشك ، فلا ينطبق عليه موضوع النهي الاستصحابي وهو النقض. وان كان يشمله نهي آخر ، وهو النهي عن مخالفة الحجة ، فالنهي عن رفع اليد موجود ولكن بعنوان انه مخالفة الحجة لا بعنوان انه نقض لليقين بالشك كي يكون من باب الاستصحاب. فموضوع النهي الاستصحابي مرتفع ، وهو النقض بالشك بارتفاع النقض - وهو ذات المقيد -. كما انه في صورة قيام الأمارة على الخلاف يرتفع الموضوع بارتفاع قيده ، لصدق النقض بالدليل لا بالشك.

وبالجملة : فتقريب الورود - على ما ذهب إليه صاحب الكفاية - في صورة الموافقة ممكن بنحو تقريبه في صورة المخالفة.

ثمرة التذييل

ثم أن ثمرة ذلك تظهر في صورة العلم الإجمالي وقيام الأمارة على أحد الطرفين وقيام أخرى على الطرف الآخر ، وكان أحدهما موردا للاستصحاب ، فانه مع تمامية الورود في صورة الموافقة وان الاستصحاب يكون في طول الأمارة

ص: 437

الموافقة ، يكون التعارض بين الأمارتين فقط فيتساقطان ، فيجري الاستصحاب حينئذ في طرفه ، لعدم المعارض ، وعدم الوارد لعدم العمل بالأمارتين. وأما مع عدم تمامية الورود - كما قربناه - وكون الاستصحاب في عرض الأمارة الموافقة ، كان التعارض بين كل من الأمارة والاستصحاب في هذا الطرف والأمارة في الطرف الآخر ، فيسقط الجميع عن العمل للتعارض.

ومما ينبغي أن يعلم : أن هذه الثمرة انما تتم لو بني - في صورة كون أحد الطرفين في العلم الإجمالي مجرى لأصل ، والطرف الآخر مجري لأصول طولية بعضها في طول بعض - على كون المعارضة في الأصول المذكورة بين الأصل في أحد الطرفين والأصل الأول الأسبق رتبة في الطرف الآخر. أما لو بني على كون المعارضة بين هذا الأصول وجميع الأصول الطولية - كما عليه المحقق النائيني قدس سره (1) - ، فلا تتم الثمرة ولو قيل بالورود ، لأن المعارضة على القول به بين الأمارة في أحد الطرفين والأمارة والاستصحاب في الطرف الآخر أيضا.

وكلام المحقق النائيني وان كان ناظرا إلى التعارض الحاصل بين الأصول ، ولكن ما ذكره من الدليل على مدعاه يشمل الأمارات أيضا لا خصوص الأصول ، فالتفت.

والّذي تبين من جميع ما ذكرناه في المقام : أن الوجه في تقديم الأمارة على الأصل الاستصحابي هو ورودها عليه ، وانه لو تنزلنا عن دعوى الورود ، فلا بد من الالتزام بالتخصيص ولو كان بين دليلهما عموم من وجه ، لعدم تمامية دعوى الحكومة (2).

ص: 438


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 48 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- قد يشكل الالتزام بحكومة الأمارة على الاستصحاب - باعتبار ان دليلها يتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع فيكون ورود الأمارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا - بان الأمارة قد أخذ في موضوعها الشك أيضا وذلك لأن لا إشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من أنحاء الاعتبار. فيدور الأمر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى مجال العلم والجهل أو يكون مهملا. لا مجال للثالث لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارهما في صورة اليقين والعلم. فيتعين الثالث. وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين ، فهو يثبت اليقين تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الأمارة وحصول اليقين بالواقع تعبدا ، فلا حكومة للأمارة على الاستصحاب بل بينهما تحاكم بالتقريب المذكور. وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين : الأول : أن الشك المأخوذ في موضوع الأصل مفهوم عالم يصلح للانطباق على الفرد الحقيقي للشك والاعتباري. بخلاف المأخوذ في موضوع الأمارة ، فانه حيث كان بحكم العقل كان ظاهرا في الصفة الوجدانية. وعليه ، فحيث ان دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما ، كان ورودها رافعا لموضوع الأصل ، بخلاف الأصل فانه لا يتكفل رفع الشك حقيقة بل تنزيلا وهو لا يجدي لأن الشك المأخوذ في موضوع الأمارة واقع الشك الظاهر في الصفة الوجدانية. وبعبارة أخرى : ان حيث أخذ الشك في موضوع الأصل إثباتا ولفظا كان ظاهرا في أن الموضوع كل ما يصدق عليه الشك ولو بواسطة الاعتبار. وهذا بخلاف الشك المأخوذ في موضوع الأمارة. فانه مأخوذ ثبوتا والمراد به واقع الشك لا عنوانه إذ لا ربط بالصدق ونحوه في مرحلة الثبوت. وبهذا تكون الأمارة حاكمة على الأصل دون العكس ، مع الالتزام بأخذ الشك في موضوع الأمارة. وفي هذا الجواب ما لا يخفى : أما أولا : فلما عرفت من أن دليل الأمارة لا يتكفل الاعتبار ، إذ مشروعية الاعتبار تختص بموارد خاصة. وأما ثانيا : فلأنه مع التسليم بكونه متكفلة للاعتبار ، انما تكون واردة لا حاكمة لنفيها الموضوع تكوينا - كما عرفت - ، مضافا لاختصاص ورودها بما إذا لم يكن للأمارة من أثر غير نفي الحكم الثابت بالدليل الآخر. وليس الأمر كذلك إذ للأمارة آثار خاصة ولو لم يكن هناك استصحاب ونحوه. وأما ثالثا : فلأن مبنى الإشكال على تكفل الأمارة التنزيل لا الاعتبار وبه يحصل التحاكم ، لأن مفاد الاستصحاب هو تنزيل الشك منزلة اليقين. والتفريق انما يكون بلحاظ نفي الأثر المترتب على الموضوع ، وهو يتحقق ولو كان الموضوع هو واقع الشك إذ لا نظر له جدا إلى الموضوع ، بل نظره إلى الحكم بلسان نفي الموضوع. فلاحظ. الجواب الثاني : ما هو المشهور من ان الشك أخذ في الأمارة موردا وفي الأصل موضوعا ، فلا حكومة للأصل على الأمارة لعدم نظره إليها. وتوضيح هذا الجواب بنحو يندفع به الإشكال والبرهان على أخذ الشك في الموضوع نقول : أن ما يوجب تحديد الحكم بحمد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو لا موضوع كالأمور الاختيارية - وان كان التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع -. وأخرى : يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم ومقارنا له في المرتبة ، بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرف تحقق القيد ، فتكون فعلية الحكم وثبوت القيد متنازلين. نظير ثبوت الضد ، فانه مقيد بعدم الضد الآخر ، كثبوت الوجوب فانه لا إشكال مقيد بعدم الحرمة إذ لا يثبت الوجوب في ظرف الحرية. ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة ، ولكن تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في مرحلة سابقة عليه وفي مرحلة أصل ثبوته ، بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة. بل بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا الظرف دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم وإلاّ لكان الدليل الموجب لإثبات الحل مثبتا للوجوب ، لأنه حقق موضوع الوجوب ولا إشكال في انه لا يلتزم به أحد. نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما نحن فيه. وعليه ، فالدليل المثبت لعدم الضد أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الآخر أو نفيه بحال. والأمر في الأمارات كذلك ، فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الآخر. بل هي من انه بعينه ، وذلك لأن الدليل على عدم ثبوت الأمارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو الواقعي. وذلك فان التضاد فيها بملاك التضاد بين الأحكام لا في ذاتها ، فان الأحكام غير متضادة بنفسها بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال ، لأن المكلف لا يمكنه امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد بين جعل الأمارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لأن جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل على طبقه وبلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الّذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال. فأخذ عدم العلم في مورد الأمارة من باب أخذ عدم الضد واقعا أو علما. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الّذي كون التصرف فيه موجبا للتصرف في نفس الحكم ، بل بالمعنى الآخر ، وهو معنى الموردية ، فاتضح بذلك الفرق بين المورد والموضوع المذكور في جواب الاعلام. ومن هنا يتضح كون الجواب عن البرهان المزبور ، بالالتزام بالإهمال في الموضوع في مرحلة الثبوت ولا محذور فيه ، لأن امتناع الإهمال في مقام الثبوت باعتبار إيجابه للتردد في الحكم وانه يشمل المقيد وغيره أو لا؟ إذ لا مجال لتردد الحاكم في حكمه نفسه وعدم علمه بمقدار شموله. وأما إذا كان الإهمال غير مركب للتردد في الحكم بل كان مقدار الحكم معلوما فلا مانع فيه لأن المجعول الّذي لا يمكن التردد فيه لا تردد فيه واقعا والتردد في غيره لا مانع منه. والمقام من هذا القبيل لأن الحكم معلوم المقدار والحد ولو مع إهمال الموضوع. ولو أبيت إلا عن امتناع الإهمال في الموضوع أيضا باعتبار أن الحاكم مع التفاته إلى ضيق دائرة حكمه يلحظ الموضوع ضيقا قهرا عليه ، فيكون الموضوع ضيقا أيضا كالحكم. فلا مانع من الالتزام به بالنحو الّذي التزمنا به في ظرف الحكم بان يلحظ عدم العلم ظرفا للموضوع لا قيدا وموردا لا جزاء. فلا يكون التصرف فيه تصرفا في الموضوع أصلا. فالتفت. استدراك : أن الوجه في تقديم الأمارة على الأصل بالحكومة إن كان لأجل تعرض نفس الأمارة لمفاد الأصل باعتبار انها تثبت ما نفاه الأصل أو العكس ، فذلك غير موجب للحكومة وإلا يحصل التحاكم ، فان الأصل أيضا متعرض ، لمفاد الأمارة لأنه ينفي ما تثبته الأمارة أو العكس ، فملاك حكومة نفي الأمارة ، موجود. وان كان بلحاظ دليل اعتبار الأمارة لا نفس الأمارة ، فهو ليس ناظرا إلى دليل الأصل بمفاده فانما مفاده على المشهور ثبوت حكم ظاهري على طبق مؤدي الأمارة وعلى المختار ثبوت المنجزية والمعذرية بقيام الأمارة ، وعلى كلا الوجهين لا تعرض له بوجه لدليل الأصل كي يكون حاكما عليه. ثم انه قد يقرر وجه حكومة الأمارة على الأصل : بان كلا من دليل اعتبار الأمارة والأصل وان كان يتكفل إلغاء احتمال الخلاف ، فدليل اعتبار الأمارة يتكفل إلغاء احتمال خلافها. ودليل اعتبار الأصل يتكفل إلغاء احتمال خلافه ، إلا أنه لما لم يكن دليل اعتبار الأصل ناظرا إلى إلغاء حكم الأمارة ، لأن حكم الأصل مترتب على الشك في الواقع الّذي هو مؤدي الأمارة ، فلا يمكن أن يكون الواقع مأخوذا فيه عدم حكم الأصل لأن حكم الأصل في طول الواقع ، وكان دليل اعتبار الأمارة متكفلا لنفي احتمال خلافه ، ومنه حكم الأصل. كانت الأمارة رافعة لموضوع الأصل وهو احتمال الخلاف ونافية لحكمه ، بخلاف الأصل فانه غير رافع لموضوع الأمارة ، إذ لا تعرض له لحكمها ، فانه يتكفل إلغاء احتمال خلاف حكمه مما هو في مرتبته ولا يتعدى إلى الواقع كي يكون ناظرا إلى الأمارة أيضا. ونفي هذا الوجه صاحب الكفاية بأن لم يثبت بان دليل الاعتبار في الأمارة والأصل يتكفل إلغاء احتمال الخلاف كي يقرر ما ذكر. هذا محصل توضيح عبارة الكفاية. ولا بد من التعرض لشيء استطرادي أيضا وهو انه قد يشكل على القول بحكومة الأمارة على الاستصحاب. بتقريب : ان دليل الأمارة يتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع ، فيكون ورود الأمارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا بان الأمارة أيضا قد أخذ في موضوعها الشك وذلك لأنه لا إشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من أنحاء الاعتبار ، فيدور الأمر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى حكم العلم والجهل أو يكون مهملا لا مجال للثالث لامتناع الإهمال في مرحلة الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارها في صورة اليقين والعلم ، فيتعين الثالث ، وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين ، فهو يثبت اليقين تنزيلا فيكون رافعا لموضوع الأمارة لحصول اليقين بالواقع تعبدا ، وبالجملة : يلزم من تقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب ذكر التحاكم من الطرفين. ولا وجه للتفصي عن هذا الإشكال بعدم أخذ الجهل في الأمارة موضوعا بل موردا لما عرفت من إقامة البرهان على أخذه في موضوعها. وبالجملة : لا يتضح الفرق بين الموضوع والمورد الا لفظا. ويمكن الإجابة عنه : ان الفرق بين الموضوع والمورد هو : ان القيود التي تحدد الحكم بنحو خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره ولا يتحقق في ظرف آخر على نحوين : الأول : مما يرجع إلى المرتبة السابقة على الحكم ، وهي التي يعبر عنها بقيود الموضوع ، كأخذ العادل في موضوع وجوب الإكرام في قول الأمر : « أكرم العالم العادل ». الثاني : ما يكون متحدا في المرتبة مع الحكم ، بان يؤخذ في نفس الحكم دون الموضوع ، وهو المعبر عنه بقيود الحكم. وذلك نظير التعبد بأحد جزئي الموضوع ، فانه مقيد بالتعبد بالجزء الآخر - في صورة عدم إحرازه بالوجدان - بحيث يكون التعبد بالجزء الآخر في عرضه التعبد به ، فهو مأخوذ في نفس الحكم وهو التعبد ، بحيث لولاه لما صح التعبد به ، وليس مأخوذا في مرحلة سابقة عليه للزوم المدعى - كما لا يخفى -. فالقسمان يشتركان في كونهما محددان للحكم بحد خاص ، بحيث لا يثبت مع عدم ثبوتهما ، إلا انهما يختلفان في ان أحدهما يؤخذ في المرحلة السابقة على الحكم ، والثاني : يؤخذ في مرحلة الحكم نفسه ، ويكون قيدا لنفس الحكم. فيمكن أن يكون المراد بقيد الموضوع هو القيد المأخوذ في مرحلة سابقة عن الحكم ، وبقيد المورد هو المأخوذ في نفس الحكم. وحيث ان الشك أخذ في الاستصحاب في المرحلة السابقة مع التعبد وفي الأمارات ليس كذلك ، بل الحكم مقيد بهذا القيد يعني بصورة الجهل دون العلم بالدليل العقلي ، كان الشك مأخوذا في موضوع الاستصحاب دون الأمارة ، بل فيها أخذ في نفس الحكم ، وهو المراد من كونه مأخوذا في موردها. وعلى هذا فلا يكون الاستصحاب حاكما على الأمارة لأنه لا يتصرف في موضوعها. وتوهم : ان الدليل الحاكم أعم مما كان متصرفا في قيود الموضوع أو قيود الحكم ، فانه لو قال أكرم زيدا وقيد الوجوب ليوم الجمعة ، ثم قام دليل على هذا اليوم المتوهم كونه يوم جمعة ، ليس بيوم الجمعة كان هذا حاكما على الدليل الآخر ورافعا لحكمه ، فإذا كان الشك في الأمارة مأخوذا قيدا للحكم كان الاستصحاب رافعا له وهو واضح. مندفع : بأن الشك لم يؤخذ شرطا وقيدا للحكم كي يلزم ما ذكر ، بل أخذه في الحكم بنحو يكون الحكم هو الحصة الملازمة للشك ، والتي تكون مع الشك بحيث لا يثبت الحكم في غير هذا الظرف ، فلا يكون الدليل الرافع الشك متعرضا للحكم بحال ، إذ لا علاقة للشك بالحكم لا قيدا ولا موضوعا ، بل بنحو الملازمة. فغاية ما يكون ان الدليل الرافع للشك يكون معارضا ومنافيا للأمارة بمدلولها - وهو العلم التنزيلي - وهو لا يرفع حكومتها على الاستصحاب لما عرفت أن أحد الدليلين إذا كان رافعا لموضوع الآخر كان حاكما عليه ولو كان الآخر منافيا له في الدلالة. ومن هنا تتضح الإجابة عما أقيم من البرهان على أخذ الشك في موضوع الأمارة وذلك بالالتزام بالإهمال في جانب الموضوع ، وأما المحذور المذكور على الإهمال في مقام الثبوت وهو لزوم تردد نفس الحاكم في حكمه لعدم علمه بشموله للمورد المشكوك وعدمه ، فهو لا يتأتى ، لأن هذا انما يتم لو كان الإهمال في الموضوع موجبا للإهمال في نفس الحكم ، أما العلم بالحكم وحده وانه مقيد بغير المورد - كما عرفت - فالإهمال في الموضوع غير ضائر أصلا ، لأن المجعول الّذي لا معنى للتردد فيه لا تردد فيه ، وغيره التردد فيه غير ضائر. فالتفت. استدراك : يتبع مبحث أخذ الجهل في موضوع الأصول والأمارة. والجواب عن هذا الإشكال : ان الإهمال في الموضوع في مرحلة الثبوت إنما يمتنع إذا كان موجبا للتردد في نفس الحكم وانه يشمل المقيد وغيره أولا ، إذ لا مجال لتردد الحاكم في نفس حكمه وعدم علمه بمقدار شموله وانه في هذا المورد ثابت أو لا. إما إذا كان الإهمال ليس موجبا للتردد في الحكم بل كان مقدار الحكم معلوما فلا مانع من ذلك ، لأن المجعول الّذي لا يمكن التردد فيه لا تردد فيه والتردد في غيره لا دليل على امتناعه. وما نحن فيه كذلك. وتوضيح ذلك : أن ما يوجب تحديد الحكم بحد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة : يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو الموضوع كالأمور الاختيارية وان كان التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع. وأخرى : يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم في المرتبة بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرفه تحقق القيد ، فتلحظ فعلية الحكم المقيد بنحو الملازمة ، نظير ثبوت الصد ، فانه مقيد بعدم الضد الآخر كثبوت الوجوب ، فانه لا إشكال انه مقيد بثبوت عدم الحرمة ، إذ لا يثبت الوجوب في ظرف الحرمة. ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة. فيكون تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في مرحلة سابقة عليه بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة. بل هو بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا المورد دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم. وإلا لكان الدليل الموجب لإثبات الحل مثبتا للوجوب لأنه حقق موضوع الوجوب ولا إشكال في انه لا يلتزم به أحد نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما قرره. وعليه ، فالدليل المثبت لعدم الضد وما هو كرافع أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الآخر أو نفيه بحال. والأمر في الأمارات كذلك فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الآخر ، بل من بابه بعينه ، وذلك لأن الدليل على عدم ثبوت الأمارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو الواقعي. فاعتبار عدم العام في التعبد بالأمارة من باب اعتبار عدم الضد في ثبوت الضد الآخر. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الّذي يكون التصرف فيه موجبا للتصرف في نفس الحكم ، بل بالمعنى الآخر ، وهو معنى الموردية في كلام. فاتضح بذلك والفرق بين المورد والموضوع المذكور في جواب الاعلام. وان ما ذكر عن الترديد العقلي غير ناهض على أخذ الشك في موضوع الأمارات. تقريب التضاد : أن التضاد فيها بملاك التضاد بين الأحكام لا في ذاتها ، وذلك لأن الأحكام غير متضادة بنفسها ، بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال. فان المكلف لا يمكن امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد بين جعل الأمارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لأن جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل على طبقه بلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الّذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال ، فأخذ عدم العلم في مورد الأمارة من باب أخذ عدم الضد ، لأن الضد واقعا هو نفس العلم بهذا اللحاظ بلحاظ إيجابه للمحركية بكشفه عن الواقع. فالتفت.

ثم أن هناك قواعد ثلاث تردد أمرها بين الأمارية والأصلية ، ووقع الخلاف في ذلك بين الأعلام. وهي : قاعدة اليد. وقاعدة الفراغ والتجاوز. وأصالة الصحة في عمل الغير.

ولا بأس في تنقيح الكلام فيها مفصلا لما يترتب عليها من آثار فقهية جمة جليلة.

ص: 439

ص: 440

ص: 441

ص: 442

ص: 443

ص: 444

الفهرس

الاستصحاب

تعريف الاستصحاب... 8

مناقشة التعاريف... 10

التعريف المختار... 11

الاستصحاب مسألة أصولية أو لا؟... 13

الفرق بين الاستصحاب وقاعدتي اليقين ، والمقتضي والمانع... 14

تقسيمات الاستصحاب... 15

نفي جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من العقل... 16

تصحيح الوجه الثالث وتعميمه للشبهة الموضوعية المصداقية... 20

تعميم النفي للأحكام الوجودية والعدمية... 22

الايراد على الشيخ والأصفهاني... 23

تقريب جريان استصحاب العدم في مورد النسيان... 24

اعتبار فعلية الشك والمناقشة فيه... 26

أدلة الاستصحاب ... 33

ص: 445

الاستدلال بالأخبار... 37

صحيحة زرارة الأولى... 37

محتملات مفاد الصحيحة... 38

في الاحتمال الأرجح... 45

التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع... 50

معنى النقض... 50

المختار في معنى النقض... 53

مناقشتنا للكفاية في معنى النقض... 57

امتناع تعلق النقض باليقين... 58

امتناع تعلق النقض باليقين اثباتا... 61

المجعول هو المتيقن لا اليقين... 64

الاستصحاب في الشبهة الموضوعية... 65

المختار في دفع الاشكال في جريان الاستصحاب المذكور... 71

الاستصحاب في الأحكام الكلية... 74

عدم الأثر لاستصحاب عدم الجعل... 76

مناقشة كلام العراقي... 78

عدم قابلية الجعل وعدمه للتعبد بهما... 81

امتناع التعبد بعدم التكليف... 83

هل الجعل يتبع المجعول سعة وضيقا... 84

الاستصحاب في الأحكام الترخيصية والوضعية... 90

صحيحة زرارة الثانية... 90

الاستدلال بالفقرة الأولى... 91

جعل الفقرة من التعليل بالصغرى... 103

ص: 446

منع إفادة الفقرة لقاعدة اليقين... 106

الاستدلال بالفقرة الثانية... 107

صحيحة زرارة الثالثة... 107

رواية الخصال... 117

مكاتبة القاساني... 120

رواية عمار... 124

الأحكام الوضعية... 133

الكلام في سبب التكليف وشرطه ونحوهما... 134

منع جعل السببية استقلالا... 134

الايراد على وجهي الكفاية... 135

السببية منتزعة عن خصوصية واقعية... 138

الكلام في جزء المأمور به وشرطه ونحوهما... 141

استشكال العراقي الشرطية... 142

في جريان الأصل في الجزئية وعدمه... 143

الكلام في الحجية والملكية ونحوهما... 146

الاشكال ثبوتا في جعل الملكية استقلالا... 148

البحث عن مجعولية الصحة والطهارة ونحوهما... 149

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : في جريان الاستصحاب في مودي الأمارات... 151

التبيه الثاني : في استصحاب الكلي... 159

استصحاب الفرد المردد... 160

القسم الأول من استصحاب الكلي... 166

ص: 447

القسم الثاني من استصحاب الكلي... 166

استصحاب الكلي في الأحكام... 171

الشبهة العبائية... 174

تحقيق الحق في الشبهة... 176

القسم الثالث من استصحاب الكلي... 179

القسم الرابع من استصحاب الكلي... 180

التنبيه الثالث : في استصحاب الأمور التدريجية... 182

استصحاب الزمان وجهات الاشكال فيه... 182

استصحاب الحكم في الفعل المقيد بالزمان... 191

التنبيه الرابع : في استصحاب الأمور التعليقية... 194

معارضة الاستصحاب التنجيزي للتعليقي... 204

المختار في دفع اشكال المعارضة... 208

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات... 210

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ... 211

التنبيه السادس : في الأصل المثبت... 211

الأصل المثبت مع خفاء الواسطة... 216

المناقشة في استثناء صورة وضوح الملازمة... 218

الشك في أول الشهر وجريان الأصل فيه... 221

الحكم بتضمين اليد المشكوك ضمانيتها... 224

الامارات المثبتة... 226

التنبيه السابع : جهات تتعلق بالأصل المثبت... 229

الأثر المترتب على الأمر الانتزاعي... 230

المنع في استصحاب عدم التكليف... 232

ص: 448

التنبيه الثامن : حكم ما إذا كان اللازم لازما للأعم من الوجود الواقعي والظاهري 234

التبيه التاسع : اعتبار كون المستصحب مجعولا في مرحلة البقاء فقط لا الحدوث... 235

التبيه العاشر : أصالة تأخر الحادث - مجهولي التاريخ... 236

في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين... 243

المحاذير المختارة لعدم جريان الاستصحاب... 257

جهالة تاريخ أحد الحادثين... 265

تعاقب الحادثين المتضادين... 272

جهالة تاريخ أحد الحادثين المتضادين... 276

كلام للمحقق النائيني في المقام... 277

التنبيه الحادي عشر : استصحاب الأمور الاعتقادية... 290

استصحاب النبوة والإمامة... 300

الايراد على تشبث الكتابي باستصحاب نبوة نبيه... 301

التنبيه الثاني عشر : في استصحاب حكم المخصص... 303

حول صورة لحاظ الزمان ظرفا... 304

تلخيص كلام المحقق الأصفهاني... 306

مناقشة مع المحقق الأصفهاني... 309

التبيه الثالث عشر : في بيان المراد من الشك في الأخبار... 316

استصحاب الصحة... 318

استصحاب الهيئة الاتصالية... 332

القاطع والمانع هل يختلفان أثرا؟... 335

هل الناقض قسم آخر غير المانع والقاطع... 338

ص: 449

استصحاب الوجوب مع تعذر بعض أجزاء المركب... 340

التفصيل بين تعذر الجزء قبل تنجيز التكليف وبعده... 341

خاتمة : في شروط الاستصحاب

اعتبار بقاء الموضوع وتفسير مفرداته... 345

المختار في تفسير كلام الشيخ قدس سره... 355

المختار في حكم الفرض المذكور... 356

عدم جريان الاستصحاب في الموضوع... 359

التفصيل في جريان الاستصحاب في الحكم... 362

ما اختير من الطرق في تعيين الموضوع... 370

هل يفرق في الاستحالة بين نجس العين وبين المتنجس... 376

هل تستفاد قاعدة اليقين من أخبار الاستصحاب... 380

الوجوه المختارة في امتناع استفادة القاعدة... 390

الثالث من شروط الاستصحاب : أن يكون البقاء مشكوكا... 394

الحكومة ضابطها وتعريفها... 396

المراد من النظر ومن التفرع... 402

وجه تقديم الحاكم على المحكوم وكذا أخواته... 405

الوجه المختار في التقديم... 412

تقديم الامارة على الاستصحاب بملاك الورود... 417

دعوى التقديم بملاك الحكومة... 422

تذييل : الالتزام بالورود انما يلتزم به في صورة قيام الامارة على الخلاف... 435

ثمرة التذييل... 437

ص: 450

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.